فقه النوازل للأقليات المسلمة

محمد يسري إبراهيم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أصل هَذَا الْكتاب رِسَالَة علمية حصل بهَا الباحث على دَرَجَة الدكتوراه فِي الْفِقْه الإسلامي من كُلية الشَّرِيعَة والقانون جَامِعَة الْأَزْهَر الشريف وَقد أجيزت الرسَالَة بِتَقْدِير مرتبَة الشّرف الأولى والتوصية بالطبع والتداول بَين الجامعات

فِقهُ النَّوازِل لِلأَقَلِيَّاتِ المُسلِمةِ تَأصِيلًا وَتَطبِيقًا [1]

حُقُوقُ الطَّبع مَحْفُوظة للِمُؤَلف الطبعة الأولى طبعة خَاصَّة لوزارة الْأَوْقَاف والشؤون الإسلامية 1434 هـ - 2013 م إصَدارَات وَزَارَة الأَوْقَافِ وَالشُّؤُوْن الإِسلاميِّةِ إدَارَةُ الشّؤُونِ الإِسلَامِيَّةِ - دَوْلةِ قَطَر دارُ اليُسر 20 ش عبد الْعَزِيز عِيسَى، المنطقة التَّاسِعَة، الْحَيّ الثَّامِن: مَدِينَة نصر، الْقَاهِرَة. تليفون: 0020224709269 فاكس: 0020224714801 مَحْمُول: 00201062276208 خدمَة العملاء: 02201118006060 Email: [email protected] www.dar-alyousr.com رقم الْإِيدَاع بدار الْكتب المصرية 20713/ 2011 ISBN: 978 - 977 - 5102 - 09 - 6

المقدمة

المقَدّمَة إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألَّا إله إلا الله، وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. أما بعد: فإن الأمة المسلمة كتب ربُّها خيريتها بقوله -تبارك وتعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وبهذه الخيرية انطلقت الأمة تدعو إلى الله بعقيدتها وشريعتها وأخلاقها تبعث النور، وتنشر الهدى في كل مكان، وما هي إلَّا عقودٌ قليلة ومدَّةٌ وجيزةٌ بعد وفاة نبيها - صلى الله عليه وسلم - حتى ظهر الدين في الآفاق وبلغ المشارقَ والمغاربَ، وتَحَقَّقَ وعدُ الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - فبلغ هذا الدينُ ما بلغ الليلُ والنهارُ، ولم يبقَ بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا ودخله الإسلامُ بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليلٍ (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه: الإمام أحمد بن حنبل الشيباني في "مسنده"، مؤسسة قرطبة، القاهرة، مصر، مصورة عن الطبعة الميمنية، (4/ 103)، من حديث تميم الداري -رضي الله عنه-. وقال نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي: "رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح". مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الفكر، بيروت، 1412 هـ، (6/ 8).

وقامت دولة الإسلام مرهوبة الجانبِ، متسعة الجوانب، وقيل للسحابة أمطري حيث شئتِ فسوف يأتيني خراجُكِ! ويومَهَا اعتقد المسلمون -وبحقٍّ- أنَّ هذا الدين قد ظهر على الدين كلِّهِ، وقد انتهى وعدُ الله إلى غايته، وبلغ منتهى مقصوده، إلَّا أنَّ ذلك العطاءَ الربانيَّ لهذه الأمة غيرُ مجذوذٍ ولا مقطوعٍ ولا ممنوعٍ؛ بل هو ممتد ما امتدَّ بالخلق زمانٌ، وما حواهم على الأرض مكانٌ، ويكفي في بلوغِ حُجَّةِ الله الآفاقَ أن يُرفع الأذان بالتكبير والتهليل والتوحيد لتسمعه اليوم كُلُّ الآذان. وتلك فرحة كبرى ومنة عظمى على أهل الإسلام، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]. لقد امتدَّ عطاء الأمة الخيرة ليصلَ إلى قارات الدنيا بِأَسْرِهَا، وليوجد ثلث المسلمين موزعين في بلاد لا يَدينُ أكثر أهلها بالإسلام. وغدا المدُّ الإسلامي متناميًا يفتح القلوب ويبشر بالدين الحق، وكما فتح التجار المسلمون بالأمس جنوب شرق آسيا بالدعوة السِّلْمية، يفتح المسلمون اليوم بلادًا ويشرقون على القلوب في المشارق والمغارب بعقيدتِهِمُ السمحةِ، وشريعتِهِمُ الغرَّاءِ، وخُلُقِهِمُ الرفيعِ. وكلَّمَا وقعت أزمة، أو حدثت مشكلة انجفَلَ الناسُ في تلك الديار نحو المنهج الإسلامي في حل تلك المعضلة، ومواجهة تلك النازلة، ولو كانوا على خلاف الملَّة! وعلى سبيل المثال فإنَّ الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرةَ والتي عمَّتْ أوروبا وأمريكا وطالتْ جهاتٍ عديدةً في العالم وضعت أوروبا -تحديدًا- أمام خيارين إمَّا "البابا" وإمَّا "القرآن"؛ فقد جاء في افتتاحية مجلة (تشالينجيز) وعلى لسان رئيس تحريرها (بوفيس فانسون) ولأول مرة يطالب خبراءُ غربيون بقراءة القرآن، بدلًا من "الإنجيل" لاكتشاف دور المسيحية الكاثوليكية في تبرير انتهازية الليبرالية المتوحشة. ولأول مرةٍ تتساءل الصحفُ الغربية عمَّا إذا كانت (وول ستريت) قد تأهلت لاعتناق

الشريعة الإسلامية على نحو ما جاء على لسان (رولان لاسكين) رئيس تحرير صحيفة (لو جورنال دي فينانس) بالتَّزَامُنِ مع دعوة مجلس الشيوخ الفرنسي إلى ضمِّ النظام المصرفي الإسلامي للنظام المصرفي في فرنسا، وهي ذات الدعوى التي تبنتها أكبرُ مؤسسة مسيحية في العالم وهي الفاتيكان (¬1). ومما لا جدالَ فيه أن المسلمين الذين يعيشون كمجموعاتٍ قليلةِ الأفرادِ في دولٍ ليست مسلمةً قد غدوا أكثرَ جمعًا، وأقوى شوكةً، وأقدرَ على المطالبة بكثير من حقوقهِمُ السليبة. ومع أنهم يُعَامَلُونَ كأقليات عددية إلا أنهم يُمَثِّلُونَ أعدادًا غفيرة، ففي أوروبا يوجد نحو سبعين مليون مسلم، بما يمثل 7 % من تعداد السكان، والمتوقع بحسب تقرير نشرته صحيفة (الصنداي تلغراف) البريطانية في أغسطس عام 2009 م أن يُمَثِّلَ المسلمون في عام 2050 م نحو 20 % من تعداد السكان. والمسلمون في الهند وحدها يقتربون من 200 مليون نسمة، وهم أقلية هناك! وكذلك الحال في الصين وروسيا وغيرها من البلاد. ولا شكَّ أن مؤشراتٍ عدديةً كهذه تُثِيرُ مخاوفَ وأحقادًا ضدَّ الإسلام وأهله، حتى عرف في السنوات الأخيرة ما يُسَمَّى بظاهرة الإسلاموفوبيا أو (الخوف من الإسلام) أو (الرُّهاب الإسلامي)؛ وهي ظاهرة صنعتها وسائلُ الإعلام المعادية، والدوائر الصهيونية والصليبية على حدٍّ سواءٍ، وتجلَّت في حرب إعلامية، وتشويه متعمد، وحرب على المآذن والمساجد والحجاب الإسلامي في أوروبا وأمريكا. وهذه الظاهرة حَدَتْ بمجلس الفقه الإسلامي الدولي المنبثقِ عن منظمة المؤتمر الإسلامي، المنعقد في دورته الثامنة عشرة بماليزيا عام 1428 هـ - 2007 م أن يُنَاقِشَ ¬

_ (¬1) الأزمة المالية، محمد صالح المنجد، زاد للنشر، الخبر، السعودية، 1430 هـ 2009 م، (ص 44 - 45)، مقال: أوروبا: الإسلام من المغالبة إلى المشاركة، محمود سلطان، بموقع "الإسلام اليوم" الإلكتروني www. islamtoday.com

ويُحِدِّدَ أسبابَ تلك الظاهرةِ، وسبلَ علاجِهَا وتلافيها، وقرر في قراره رقم 166 (4/ 18) ما يلي: "أولًا: ضرورة التصدي لهذه الظاهرة في إطار استراتيجية تخطِّطُ لها الدولُ والمنظمات الدولية الإسلامية، والمنظمات الممثِّلَةُ للوجود الإسلامي خارج الديار الإسلامية تتضمن آلياتٍ وتدابيرَ قويَّةً تشمل النواحيَ الإعلامية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتكوين رسالة إعلامية واضحة؛ للتعريف بالدين الإسلامي، وبيان الحقائق والمبادئ والقيم السامية التي يقوم عليها، مع نشرها بمختلف وسائل الإعلام والشبكة الدولية للمعلومات، وتُشَارِكُ فيها أجهزةُ الإعلامِ ذاتُ التأثير الدولي. ثانيًا: ضرورة التشاور والتنسيق بين مختلف الدول والمنظمات الدولية الإسلامية؛ لاتخاذ القرارات، والقيام بالأعمال التي تراها مناسبةً للرَّدِّ على حملات التشكيك والإهانات التي تُوَجَّهُ إلى الأمة الإسلامية ورموزِهَا. ثالثًا: دعوة المجتمع الدولي إلى التعاون والتآزُرِ مع الدول والمنظمات والشعوب الإسلامية في مقاومة هذه الهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين، وإلى إشاعة ثقافة المحبة والتعاون بين الشعوب، ونَبْذِ الكراهية والعنف، والتعاون على ما يُحَقِّقُ خيرَ الإنسانية. رابعًا: دعوة التجمعات الإسلامية الموجودة خارج الديار الإسلامية إلى أن تَكُونَ رسلًا للسلام والأمن، وحَمْلِ رسالةِ الإسلام النقية في مختلف الأقطار والشعوب، والابتعاد عن الممارسات والتصرفات المسيئة إلى الإسلام في تلك البلاد، مع التمسك بقيم ومبادئ الإسلام. ويهيب المجمع بالدول الإسلامية أن تَمُدَّ هذه التجمعات بكل ما يُعِينها على فهم وتعلم أصول دينها، وبالمعلومات التي تجعلها على علم بما يجري في العالم الإسلامي، مع إنشاء هيئات تعمل على تقوية علاقاتها مع الأمة الإسلامية.

خامسًا: حَصْرُ الكتابات والمؤلفات التي تناولت هذه الظاهرة، وحَثُّ المفكرين المسلمين الذين يجيدون اللغات الأخرى للاتصال بالآخر، والحوار معهم، والعمل على تصحيح صورة الإسلام والمسلمين في الداخل والخارج. سادسًا: تأهيلُ الدعاة الذين يفدون إلى البلاد غير الإسلامية لإتقان لغات تلك البلاد، وتشجيع المؤسسات القائمة التي تُعْنَى بتأهيل الدعاة أو تكوينها إن لم تُوجَدْ؛ ليكونوا قدوة في عرضهم الإسلام سلوكًا وعلمًا ومعاملةً. سابعًا: بناء العلاقة مع الآخر على أساس الاحترام المتبادل، وتبليغ رسالة الإسلام النقية، من أجل تفاهُمٍ متبادَلٍ، والتوعية لذلك في المناهج التعليمية" (¬1). وإذا كان العالم المعاصر اليوم بدأ يتعرَّفُ على حقوق الأقليات، ويعترِفُ بهذا النوع من الحقوق ويُقَنِّنُ من التشريعات ما يضمنها ويحميها -فلا بُدَّ أن نذكِّر هنا بسبق الإسلام بتشريعاته الربانية العالمَ بأسره في حفظ تلك الحقوق ورعاية تلك الحريات، وعلى سبيل المثال: فإن الأقليَّةَ المسيحية عاشت في مصر أربعةَ عشرَ قرنًا متفيئة ظلال شريعة الإسلام السمحة، كما أن الأقلية اليهودية بالمغرب قد تَمَتَّعَتْ بالحياة الكريمة في ظل الحضارة الإسلامية فما ثارتْ مشكلاتٌ، ولا قامتْ ثوراتٌ، ولا اندلعت نزاعاتٌ. وكما لم تعرف الأمة الإسلامية عَبْرَ تاريخها الطويل مشكلةَ حقوقِ الأقليات، لم تعرِفْ أيضًا الإقليمياتِ ولا الحدودَ المصطنعةَ بين الجنسيات! وعلى سبيل المثال فقد هاجر الشيخ محمد الخضر حسين (¬2) من تونس إلى دمشق واستقرَّ بها قبل الحرب العالمية الأولى، وبعد احتلال فرنسا لسوريا هاجر إلى مصر، ورَأَسَ تحريرَ مجلة ¬

_ (¬1) قرارات الدورة الثامنة عشرة "بوتراجايا - بماليزيا"، (ص 14 - 16). (¬2) محمد الخضر بن الحسين بن علي بن عمر الحسني التونسي، عالم إسلامي أديب باحث، ممن تولوا مشيخة الأزهر، وكان ذلك عام 1371 هـ، من مصنفاته: الدعوة إلى الإصلاح نقض كتاب في الأدب الجاهلي، ونقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، ولد سنة 1293 هـ وتوفي سنة 1377 هـ. الأعلام، لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، ط 15، 2002، (6/ 113)، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، مكتبة المثنى ودار إحياء التراث العربي، بيروت، (9/ 280).

لواء الإسلام، ثم أصبح شيخًا للأزهر، ولم يخطر ببال أحد من المصريين كيف يكون تونسيٌّ شيخًا للأزهر، والشيخ رشيد رضا (¬1) في طرابلس الشام هاجر إلى مصر، وأنشأ مجلة المنار، وربما ظن كثيرون أنه مصري لتوطنه مصر، كما كان الشيخ عبد الحميد بن باديس من أسرة بربرية عريقة، وقد التفَّت الجزائر كلُّها حول الشيخ ورَأَسَ جمعيةَ العلماء، وكان من أشدِّ المنافحين عن العربية والإسلام. أما الأقليات الإسلامية عبر القرون فقد ذاقت صنوفًا من العذاب، وألوانًا من النكبات والويلات، حتى إذا انتهينا إلى العصر الحديث وجدنا التاريخ يسجل بمدادٍ أحمرَ ما جرى للمسلمين من تصفيات جسديَّةٍ، ومجازرَ دمويَّةٍ في البوسنة والهرسك، وكوسوفا وغيرها من دول أوروبا الشرقية، وهي في قلب أوروبا، كما دوَّن مآسيَ المسلمين في الهند وكشمير والفلبين وتايلاند، وقبل ذلك كله فلسطين! وهي دول تقع في قلب آسيا، كما سجل ما جرى لمسلمي تنزانيا والصومال وأوغندا، وأوجادين وغيرها من دول إفريقيا. فإذا تجاوزنا عقودًا من المعاناة فيكفي أن ندلل بأحداث جَرَتْ خلال سنوات إعداد هذه الرسالة فحسب؛ فلقد كشفت السنواتُ الخمسُ الماضيةُ عن توجُّهات شديدة العدوان على الأقليات والأكثريات المسلمة على حَدٍّ سواء. فقد وقعت كل من العراق وأفغانستان في احتلال عسكري سافِرٍ بعد عدوان جماعي غاشم، وأقيمت المجازرُ والمذابحُ لمسلمي فلسطين واحدةً تلو الأخرى، ومن آخرها مذبحة غزة 2008 م. وفي العام الميلادي الحالي 2010 م صدرت قوانين تمنع نقاب المسلمة بدول أوروبية وتُعَاقِبُ عليه؛ بل وقتلت مصرية مسلمة بألمانيا لارتدائها غطاء الرأس الإسلامي! وأُصْدِرَتِ القوانينُ التي تمنع بناء المآذن بعدد من دول الحرية والديموقراطية بأوروبا!! ¬

_ (¬1) محمد رشيد بن علي رضا بن محمد البغدادي الأصل الحسيني النسب صاحب مجلة المنار، وأحد رجال الاصلاح الإسلامي، وهو من الكُتَّاب، والعلماء بالحديث والأدب والتاريخ والتفسير، من مصنفاته: تفسير القرآن الكريم، والخلافة، ويسر الإسلام وأصول التشريع العام، ولد سنة 1282 هـ وتوفي سنة 1354 هـ. الأعلام، للزركلي، (6/ 126)، معجم المؤلفين، لعمر كحالة، (9/ 310 - 311).

وفي ظل تلك المحن يتنادى المسلمون أفرادًا وجماعاتٍ، وشعوبًا وحكوماتٍ، ومؤسساتٍ وهيئاتٍ لمدِّ يد المعونة لتلك الأقليات، والمسارعة إلى بذل كلِّ نفعٍ ماديٍّ ومعنويٍّ باليد واللسان وبالدعاء. ثم إن الله تعالى اختصَّ ورثةَ الأنبياء وجهابذة العلماء الفقهاء بتنوير طريق تلك الأقليات، فتصدى كثير من العلماء لمشاكل ومسائل تلك الأقليات، بالفتيا تارةً، وبالنصح أخرى، وبالجهود الفردية والجماعية والمجمعية تارة أخرى، فتأسست مجامعُ فقهيةٌ في الغرب لمعالجة مشكلات الأقليات، واعتنت المجامع العلمية في ربوع العالم الإسلامي بالإجابة عن الأسئلة، وبحث المستجدات. ومع أن ذلك كله عمل علمي دعوي سلمي فقد ضاق الغرب ذرعًا بهذه المجالس والمجامع، حتى قال رئيس المجلس الأوروبي للبحوث العلمية والإفتاء فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي في كلمته الافتتاحية لدورة المجلس التاسعة عشرة المنعقدة باستنابول في الفترة من 30/ 6/ 2009 إلى 5/ 7/ 2009 م: "الأوربيون لم يعودوا يتحملوننا، مع العلم أننا نعمل لصالحهم، وندعو المسلمين إلى أن يندمجوا في مجتمعاتهم، دون أن يتخلوا عن عقيدتهم". وفي تفسيره لأهمية وجود هنا المجلس قال: "وجودُ أقليات مسلمة في الغرب استدعى وجودَ مؤسسةٍ ترعى الجانب الشرعي لتلك الأقلية. . . ولهذا تم إنشاء المجلس الأوروبي للإفتاء" (¬1). وقد أقرَّ بهذه المواقف العدائية كثيرٌ من الباحثين الموضوعيين بالغرب؛ فهذا البروفيسور (ماثياس روه) عميد كلية الحقوق في جامعة نوربيرج بألمانيا، ورئيس رابطة القانون الإسلامي والعربي، وأستاذ القانون الخبير بالأقليات المسلمة في أوروبا يضع كتابًا بعنوان "الأقليات المسلمة والقانون في أوروبا، فرص وتحديات" (¬2). حيث تناول في كتابه وجود المسلمين في أوروبا منذ أوائل القرون الوسطى وحتى ¬

_ (¬1) حرب إحصاءات لتهميش مسلمي الغرب، لمصطفى عاشور، موقع الشيخ القرضاوي الإلكتروني www.qaradawi.net. (¬2) نشر بترجمة علاء البشبيشي، دار جلوبال ميديا، 2007 م.

الوقت الراهن، مشيرًا إلى تحديات قانونية لا يمكن تجاهلها في الحرية الدينية والمساواة أمام القانون، دون أي تفرقة على أساس ديني أو عرقي. ويُعَقِّبُ فيقول: "إن على الدول الأوروبية أن تُوجِدَ سبلًا لإعطاء المسلمين الذين يعيشون داخل أراضيها كاملَ حقوقهم، وذلك عن طريق مراجعة القواعد القانونية الحالية". وكما يتوجب على الغربيين أن يفعلوا ذلك يتوجب على تلك الأقليات أن تضع محدداتها الحضارية والشرعية المقاصدية لِتُحْسِنَ التعبير عن نفسها، ولتواجه تحديات متعددةً، فإن النظام العالمي الجديد ليس من صنع المسلمين؛ بل إنه مختلف اجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا عن معهود المسلمين في خلافتهم الضائعة، ودولهم القطرية، إنما هي دول علمانية في أغلب توجهاتها، وإن أشارت في وثائق دساتيرها إلى الإسلام والشريعة (¬1). كما أن العالم المعاصر لم يَعُدْ كتلًا منفصلة كما كان في السابق، فلقد تلاحمت الأجزاء وتداخلت الثقافات، وتواصلت الشعوب، واتسم العصر بالتواصل الفعال في كل مجال. وهذه الإشكالات تثير عددًا من التساؤلات على مستوى السياسة الشرعية، والتأصيل العلمي الفقهي لقضايا تلك الأقليات، ولا يخفى أن ثمة محددات حضارية ومقاصد شرعية في حياة الأقليات المسلمة تحكم علاقتها بمجتمعات غير المسلمين التي تعيش فيها؛ فإن هذه المجتمعات جزء من أمة الدعوة، سواء أكانوا من اليهود، أم النصارى، أم الوثنيين؛ فلا بد من قيام علاقة الدعوة، وقد قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} وثَنَّى بعلاقة أخرى هي الحكمة، فقال سبحانه: {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} وثَلَّثَ بعلاقة الحوار، فقال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. والأقليات المسلمة تُفَرِّقُ بين من يعاديها في تلك المجتمعات، ومن يناصرها ويدافع عن حقوقها من غير أهل ملتها، فترفع الأقليةُ المسلمة في علاقتها بغير المسلمين ¬

_ (¬1) الأقليات في المنظور الإسلامي: رؤية مقاصدية، د. كمال السعيد حبيب: بحث مقدم إلى ندوة فقه الأقليات المسلمة في ضوء مقاصد الشريعة، اندماج وتميز، بماليزيا (ص 3).

شعار: {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران: 113]، فمن أعانها ولم يُعِنْ عليها فإن العلاقة معه تقوم على البر والقسط، وعلى أساس من قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. ولا يمتنع أن تقوم عندئذٍ علاقاتُ التعاونِ على البِرِّ والتقوى؛ لعموم قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بِيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات اللهِ إلا أعطيتهم إِياها" (¬1). وعن هذا المبدأ نشأ تعاونٌ تجاريٌّ واشتراكٌ مصلحيٌّ، وغير ذلك من العلاقات الاجتماعية البشرية الصحيحة، ولا يعني ما سبق استبعادَ وجودِ علاقةِ التَّدَافُعِ الثابتة بقوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]. وكذا فإن هذه العلاقة يستتبعها من مخططات التذويب والانصهار ما يُلْزِمُ أهلَ الإسلامِ بحفظِ ثوابتهم وإقامةِ عقائِدِهم، وتحريرِ ولائِهم لله ورسوله وللمؤمنين، والحرصِ على هويتهم المسلمة أن تذوى أو تتميع، بل وتنبغي مشاركة هذه الأقليات -كل بحسبه- في نصرة قضايا المسلمين عامَّةً من خلال وجودهم في أقطارهم، وقد تَبَدَّى هذا مؤخرًا في موقف مسلمي العالم من قضية كسر الحصار عن غزة الأبية وسفن الإغاثة الإنسانية وأسطول الحرية! ومن هنا تتأكَّدُ مشاركةُ هذه الأقليات المسلمة في قضايا أُمَّتِهَا بعد أن تُنَظِّمَ صفوفَهَا وتُوَحِّدَ مسيرتَها، وتَجْمَعَ كلمتها. وهنا تتعين الإشارة إلى أن أقلية يهودية لا يزيد تعدادها في العالم بأسره عن ثلاثين مليونًا، تلعب دورًا خطيرًا في الإعلام العالمي، وتعبث بمقدراتٍ اقتصاديةٍ لدولٍ كبرى، وتتحكم في مجريات السياسة العالمية، في حين أن الأقلية المسلمة تزيد عن عشرة أضعافها عدديًّا، ومع هذا فلا تأثيرَ يُذْكَرُ، أو جهودَ تُؤْثَرُ. ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الشروط، باب: الشروط في الجهاد، (2731، 2732)، من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم -رضي الله عنهما-.

وَيُقْضَى الْأَمْرُ حِيْنَ تَغِيْبُ تَيْمٌ ... وَلَا يُسْتَأْمَرُونَ وَهُمْ شُهُودُ ولا شكَّ أن أفرادًا من الأقليات المسلمة كان لها تأثيرها البارز؛ كالدكتور علي عزت بيجوفيتش (¬1) الذي كان يومًا من الأقلية، ثم أصبح زعيمًا وقائدًا سياسيًّا، وكذلك ليبولد فايس (محمد أسد) (¬2) مؤلف كتاب: "الإسلام على مفترق الطرق"، ومراد هوفمان (¬3) مؤلف كتاب: "الإسلام كبديل"، وغيرهم كثير من الشخصيات المؤثرة على مستوى العالم. وحتى تؤدي هذه الأقلياتُ واجبَهَا نحو نفسِهَا، ونحو دينِهَا وأُمَّتِهَا فلا مناصَ من تَوَحُّدِهَا، وتنظيمِهَا، وجمعِ كلمتِهَا، وإيجادِ ما يسمى: بـ "فقه الأقليات المسلمة". ¬

_ (¬1) ناشط سياسي بوسني وهو كاتب إسلامي، ولد عام 1925 م، عمل مستشارًا قانونيًّا خلال 25 سنة ثم اعتزل وتفرغ للبحث والكتابة، وهو أول رئيس جمهورية للبوسنة والهرسك، بعد انتهاء الحرب في البوسنة، وظل في هذا المنصب منذ سنة 1990 م إلى 1996 م. كما كان أول عضو في مجلس الرئاسة البوسني منذ سنة 1996 م إلى 2000 م، من مؤلفاته: "الإسلام بين الشرق والغرب"، و"البيان الإسلامي" أو "الإعلان الإسلامي"، وكتاب "هروبي للحرية"، وتوفي -رحمه الله- سنة 2003 م، عن 78 عامًا. (¬2) ولد سنة 1900 م لأبوين يهوديين، وبدأ تعليمه منذ صغره ليصبح حاخامًا مثل جده، وهو نمساوي الأصل، اتجه للصحافة فبرع فيها، وعمل مراسلًا صحفيًّا في الشرق العربي والإسلامي، فأقام مدة في القدس ثم زار القاهرة فالتقى بالإمام مصطفى المراغي، فحاوره حول الأديان، ثم بدأ بتعلم اللغة العربية في أروقة الأزهر، وهو لم يزل بعدُ يهوديَّا، ثم أسلم -رحمه الله- وقام بالمشاركة في الجهاد مع عمر المختار، ثم سافر إلى باكستان حيث عمل رئيسًا لمعهد الدراسات الإسلامية في لاهور، وهناك قام بتأليف الكتب التي رفعته إلى مصاف ألمع المفكرين الإسلاميين في العصر الحديث، ومن أشهر ما كتب "الإسلام على مفترق الطرق" وله كتاب "الطريق إلى مكة"، كما قام بترجمة معاني القرآن الكريم وصحيح البخاري إلى اللغة الإنجليزية. توفي -رحمه الله- سنة 1992 م، ودفن في مقابر المسلمين بالأندلس. (¬3) دبلوماسي ومؤلف ألماني بارز، ولد سنة 1931 م، اعتنق الإسلام عام 1980 م، عمل منذ الخمسينيات في سفارة ألمانيا الاتحادية في الجزائر، وعمل كخبير في مجال الدِّفاع النَّووي في وزارة الخارجية الألمانية، كما عمل كمدير لقسم المعلومات في حلف الناتو في بروكسل من عام 1983 م حتى 1987 م ثم سفيرًا لألمانيا في الجزائر من 1987 م حتى 1990 م ثم سفيرًا في المغرب من 1990 م حتى 1994 م، وكان إسلامه موضع جدل بسبب منصبه الرَّفيع في الحكومة الألمانية، وله عدة مؤلفات منها: "الإسلام كبديل"، و"رحلة إلى مكة"، و"الإسلام في الألفية الثالثة"، وغير ذلك.

وهو فقه يراد منه حفظ دين هؤلاء الأفراد والطوائف والجماعات، والتأكيد على هويتها وقيمها وأخلاقها الإسلامية. كما يراد منه ضبط صلتها بالمجتمع الذي تعيش فيه، فلا انعزال ولا ذوبان، وإنما تفاعلٌ واعٍ، وتأثيرٌ نافعٌ، وانتفاعٌ مشترَكٌ. ثم يأتي التطلع إلى نشر الإسلام بطريقة سلمية بين صفوف الأكثرية، والتمكين للإسلام وأهله على تلك الأرض. ثم إن لهذه الأقليات عملَهَا الذي يمكن أن يُسْتَثْمَرَ في مصلحة قضايا الأمة على جميع الأصعدة والمجالات السياسية والاقتصادية والإعلامية. وغني عن البيان أن مصطلح: "فقه الأقليات المسلمة" يتضمن ما هو أبعدُ من الإجابة عن سؤالات في أمور عملية تتعلق بالمكلفين هنالك، فهو أكبر وأعمق من ذلك، وإن كانت المسائل ذات الطبيعة الفقهية تفرضُ نفسَهَا بإلحاح لإيجاد الجواب عنها، وهو أمر تنامى الاهتمام به مؤخَّرًا فرديًّا وجماعيًّا، حتى كثرت في ذلك الفتاوي وتعددت؛ بل واضطربت -أحيانًا- وتخالفت! ثم إن الشأن أنه إذا كثرت الفروع وتعددت أن تُرَدَّ إلى أصول جامعة تضبط وحدتها، وتقيم منهجها على سَنَنٍ واضحةٍ، ومعالِمَ لائحةٍ. ولا شكَّ أن الحياة المعاصرة بطبيعتها المتطورة، وإيقاعها المتلاحق -ولا سيما في بلاد الأقليات المسلمة- يدفع للوجود بمسائلَ متشابكةٍ، ونوازلَ مُعَقَّدَةٍ. ونوازل تلك الأقليات المسلمة في الدرجة القصوى من وعورة المسالك، ودقة المآخذ؛ لغياب الإسلام عن حكم تلك الأقليات، وتعدد الديانات والولاءات، واستضعاف المسلمين هناك، مع قلة العلم الشرعي أو انعدامه أحيانًا، والتباس منهج الاستنباط والحكم أحيانًا أخرى. وهو أمر يدعو إلى بذلِ أقصى وسعٍ، واستفراغِ كل جهدٍ في تأصيل أحكام تلك النوازل، وضبط منهج الاستدلال لها، والوصول إلى الحكم الشرعي فيها.

ولمَّا كان تأصيل أحكام تلك النوازل المستجدة من الأهمية بمكان، فإنه لم تَسْبِقْ بعدُ محاولاتٌ تأصيليةٌ، ومداخلاتٌ شرعية قوية في إحكام بنيان التأصيل الفقهيِّ الأصوليِّ المقاصديِّ لفقه نوازل الأقليات المسلمة. ولمَّا كانت تلك النوازل الخاصة بالأقليات لا تتناهى فلا يكفي عندئذٍ مجرد ذكر الحكم عاريًا عن دليله وتأصيله. لأجل ذلك كله كان اختيار هذا الموضوع المهم والبحث في هذا المجال المعاصر؛ ليكون أطروحتي للحصول على درجة العالمية (الدكتوراه) في الفقه الإسلامي بكلية الشريعة من جامعة الأزهر الشريف بعنوان: "فقه النوازل للأقليات المسلمة تأصيلًا وتطبيقًا". وذلك أولًا بجمع ما تفرَّق من تلك القواعد الأصولية والمقاصدية والفقهية، بما يقيم منظومة فقهية أصولية تُبْنَى عليها مسائلُ هذه الفئة المغتربة عن ديار الإسلام. كما عُنِيَتْ هذه الدراسة باستفادة أحكام بعض النوازل من خلال التطبيق على القواعد الضابطة، والأصول الحاكمة، حيث طرحت بعض نوازل الأقليات في فقه العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية، والسياسة الشرعية. وعليه، فقد جاء البحث متضمنًا لجوانب ثلاثة رئيسة هي: تحرير المنهجية الصحيحة في استنباط أحكام النوازل عامة، وبناء تأصيليٌّ لفقه نوازل الأقليات، وأخيرًا تطبيق لاستنباط أحكام بعض هذه النوازل في عدة مجالات. وفيما يلي خطة البحث: قسمتُ مادةَ هذا البحثِ إلى مقدمة، وثلاثةِ أبوابٍ، وخاتمة. أما المقدمة فقد عرضتُ فيها أهميةَ موضوعِ البحث، وأسبابَ اختيارِهِ، إضافةً إلى منهج البحث وخطته. وأما الأبواب الثلاثة فكانت على النحو التالي:

الباب الأول: مفهوم نوازل الأقليات المسلمة، ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: فقه النوازل للأقليات المسلمة وأهميته، ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف فقه النوازل. المبحث الثاني: ثمرة دراسة فقه النوازل وأهميته. المبحث الثالث: مفهوم نوازل الأقليات. الفصل الثاني: واقع الأقليات المسلمة، ويشتمل على أربعة مباحث: المبحث الأول: نشأة الأقليات المسلمة وتاريخها. المبحث الثاني: الواقع الإحصائي للأقليات المسلمة. المبحث الثالث: خصائص الأقليات المسلمة. المبحث الرابع: مشكلات الأقليات المسلمة. الباب الثاني: التأصيل لفقه النوازل للأقليات المسلمة، ويشتمل على أربعة فصول: الفصل الأول: الأحكام الشرعية بين الثبات والتغير، ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: خصائص الشريعة الإسلامية. المبحث الثاني: الثبات والتغير في الأحكام الشرعية. المبحث الثالث: أسباب تغير الفُتيا والأحكام الفقهية الاجتهادية. الفصل الثاني: أهمية التأصيل لفقه النوازل للأقليات وخصائصه ومقاصده ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: أهمية التأصيل لفقه نوازل الأقليات وحكمه. المبحث الثاني: أسباب وخصائص نوازل الأقليات المسلمة. المبحث الثالث: المقاصد الشرعية لفقه نوازل الأقليات المسلمة.

الفصل الثالث: الأصول والقواعد الحاكمة لفقه نوازل الأقليات، ويشتمل على تسعة مباحث: المبحث الأول: القواعد الأصولية والمقاصدية والفقهية والفرق بينها. المبحث الثاني: القواعد المتعلقة بالاجتهاد. المبحث الثالث: القواعد المتعلقة بالرخص والمشقات. المبحث الرابع: القواعد المتعلقة بالضرورات والحاجات. المبحث الخامس: القواعد المتعلقة بالمقاصد. المبحث السادس: القواعد المتعلقة بالتعارض والترجيح بين المصالح والمفاسد. المبحث السابع: القواعد المتعلقة بالمآلات. المبحث الثامن: القواعد المتعلقة بالعرف. المبحث التاسع: القواعد المتعلقة بالولاية والسياسة الشرعية. الفصل الرابع: مناهج وطرق استنباط الأحكام الفقهية للنوازل وضوابطها، ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: مناهج الحكم على النوازل. المبحث الثاني: طرق استنباط أحكام النوازل وضوابطها. الباب الثالث: من أحكام نوازل الأقليات، ويشتمل على خمسة فصول: الفصل الأول: من نوازل العبادات، ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: من نوازل الطهارة: أثر الاستحالة في التطهير. المبحث الثاني: من نوازل الصلاة: أوقات الصلوات لأهل القطبين والمناطق الشمالية. المبحث الثالث: من نوازل الزكاة: حكم دفع الزكاة لغير المسلمين ببلاد الأقليات. الفصل الثاني: من نوازل المعاملات، ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: حكم التمويل البنكي لشراء المساكن في المجتمعات الغربية. المبحث الثاني: أحكام عقود التأمين خارج ديار الإسلام.

الفصل الثالث: من نوازل النكاح، ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: حكم الزواج من غير المسلمات في غير دار الإسلام. المبحث الثاني: حكم الزواج الصوري بقصد الحصول على الإقامة أو الجنسية في غير دار الإسلام. المبحث الثالث: حكم بقاء من أسلمت تحت زوجها الكافر. الفصل الرابع: من نوازل الطلاق، ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: حكم الطلاق الذي يُوقِعُه القاضي غيرُ المسلم في بلاد الأقليات. المبحث الثاني: ولاية المراكز الإسلامية في التطليق والتفريق. الفصل الخامس: من نوازل السياسة الشرعية، ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: حكم التجنس بجنسية دولة غير مسلمة. المبحث الثاني: المشاركة السياسية في الدول غير المسلمة. الخاتمة. المراجع. الفهارس. منهج البحث: لقد اعتمدت في منهج الكتابة والبحث فيما تناولته من مباحثَ ومسائلَ على الأسس التالية: 1 - تتبع مصادر كل مسألة، والاطلاع على مراجعها القديمة والحديثة بحسب الإمكان، وقد حصل لي من المراجع الحديثة -خاصة- قدر ليس بالقليل، والحمد لله. 2 - الاعتناء بالتمهيد للمسائل بما يوضحها بحسب المقام مع ما يتضمنه من بيان التعريف اللغوي والاصطلاحي للمصطلحات الواردة. 3 - تحرير محل الخلاف في المسائل الخلافية، سواء أكانت من المسائل القديمة التي اشتهر الخلاف فيها بين أهل العلم، أو كانت من النوازل التي جدَّتْ واختلف المعاصرون في حكمها.

4 - ذِكْرُ الأقوال في تلك المسائل بأدلتها، وبيان وجه دلالتها، وما يرد عليها من مناقشات غالبًا، وربما اختصرتُ في ذكر المناقشات؛ لكون المسألة ليست من صلب مسائل البحث، ثم ترجيح ما يظهر رجحانه. 5 - عزو الآيات القرآنية إلى السور، وتخريج الأحاديث النبوية من مصادرها، ونقل حكم أهل العلم على الأحاديث من حيث الصحة والضعف ما أمكن. 6 - توثيق نصوص العلماء بالرجوع إلى كتبهم مباشرة، واعتماد الكتب الموثقة في مذاهبهم، والعناية بالنقل الحرفي لإثبات صحة النسبة، إلا ما دعت الحاجة إلى اختصاره أو الإشارة إليه في مظانِّهِ. 7 - ترجمة الفقهاء المذكورين في صلب الرسالة. 8 - وضع خاتمةٍ وفهارسَ تفصيليةٍ للموضوعات والمصادر والمراجع التي ورد ذكرها في الرسالة. وفي ختام هذه المقدمة أحمد الله تعالى على انتهائي من هذا العمل وأشكره، وأتوجه بخالص الشكر والتقدير والامتنان إلى السادة العلماء أساتذتي الفضلاء الذين تعاقبوا على الإشراف على هذه الرسالة، وهم: أ. د/ محمد عبد الستار الجبالي، أستاذ ورئيس قسم الفقه بكلية الشريعة بالقاهرة، ثم أ. د/ علي علي منصور، أستاذ ورئيس قسم الفقه بكلية الشريعة سابقًا، وأخيرًا فقد أذن الله -عز وجل- بإتمام هذا العمل على يدي فضيلة أ. د/ محمد راشد أبي زيد، أستاذ ورئيس قسم الفقه بكلية الشريعة سابقًا، والذي لم يأل جهدًا في دفع مسيرة هذا العمل العلمي وتسديده، والله تعالى أسأل أن يتقبل منه الصالحات، وأن يعلي درجته في الجنات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الباب الأول مفهوم نوازل الأقليات المسلمة

البَابُ الأَوّلُ مفهوم نوازل الأقليات المسلمة الفصل الأول: فقه النوازل للأقليات المسلمة وأهميته. الفصل الثاني: واقع الأقليات المسلمة.

الفصل الأول فقه النوازل للأقليات المسلمة وأهميته

الفْصَلُ الْأَوَّلُ فقه النوازل للأقليات المسلمة وأهميته المبحث الأول: تعريف فقه النوازل. المبحث الثاني: ثمرة دراسة فقه النوازل وأهميته. المبحث الثالث: مفهوم نوازل الأقليات

المبحث الأول تعريف فقه النوازل

المبحث الأول تعريف فقه النوازل المطلب الأول: تعريف مفرداته ولقبه العلمي والألفاظ ذات الصلة: الفرع الأول: تعريف الفقه لغة واصطلاحًا: الفقه لغةً: هو مصدر فَقِهَ أو فَقَهَ أو فَقُهَ، ومادته أصل واحد صحيح يدل على إدراك الشيء والعلم به، وكل علم بشيء فهو فقه، وقد جاء لفظ الفقه بمعنى العلم في قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، أي: ليكونوا علماء به (¬1). والفقه: الفهم، فيقال: فَقِه بكسر القاف إذا فهم، وبفتحها إذا سبق غيره للفهم، وبضمها إذا صار الفقه له سجيَّة (¬2). وقد ذهب طائفة من الأصوليين (¬3) مع عامة اللغويين إلى أن الفقه: الفهم مطلقًا؛ لأن ¬

_ (¬1) لسان العرب، لمحمد بن مكرم بن منظور، تحقيق: أمين عبد الوهاب، ومحمد العبيدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 3، 1419 هـ - 1999 م، (10/ 305). (¬2) معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط 1399 هـ - 1979 م، (4/ 442)، لسان العرب، لابن منظور (10/ 305 - 306)، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، لأحمد محمد الفيومي، المكتبة العلمية، بيروت، (2/ 479). (¬3) الإحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين علي بن محمد الآمدي، تحقيق: د. سيد الجميلي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1404 هـ (1/ 22)، روضة الناظر وجنة المناظر، لعبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، تحقيق: =

العلم إنما يكون عن الفهم، وقد جاء "الفقه" بمعنى الفهم كما جاء بمعنى العلم في كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. فمما ورد الفقه فيه بمعنى الفهم قوله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]، أي: يفهمونه، وقال تعالى: {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف: 93]، وقال تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 27 - 28]، كما سبق مجيء "الفقه" بمعنى العلم في قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. وفي الحديث: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" (¬1). قال ابن حجر -رحمه الله- (¬2): يفقهه، أي: يفهمه (¬3). ¬

_ = د. عبد العزيز عبد الرحمن، نشر جامعة الملك عبد العزيز، الرياض، ط 4، 1408 هـ - 1987 م، (ص 7)، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، لمحمد بن علي الشوكاني، تحقيق: أبي حفص سامي ابن العربي، دار الفضيلة، الرياض، ط 1، 1421 هـ - 2000 م، (1/ 58). (¬1) أخرجه أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في كتابه "الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسننه وأيامه"، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة - مصر، ط 1، 1400 هـ كتاب العلم، باب: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، (71)، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري في كتابه "الجامع الصحيح"، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، كتاب الزكاة، باب: النهي عن المسألة، (1037)، من حديث معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-. (¬2) أبو الفضل، شهاب الدين، أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني الشافعي، أمير المؤمنين في علم الحديث، حافظ عصره، وفريد دهره، رئيس الجرح والتعديل في زمانه، صاحب المصنفات الكثيرة النافعة ومنها: تهذيب التهذيب، والتقريب، وتغليق التعليق، وإتحاف المهرة بأطراف العشرة، وفتح الباري، ولد سنة 773 هـ، وتوفي سنة 852 هـ. حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار إحياء التراث العربي، عيسى الحلبي، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، ط 1، 1387 هـ، (1/ 363)، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، لشمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، دار الجيل، ط 1، 1412 هـ، (2/ 36). (¬3) فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت، 1379 هـ، (1/ 164).

وذهب طائفة من الأصوليين منهم: الفخر الرازي (¬1)، وأبو الحسين البصري (¬2)، إلى أن الفقه هو فهم غرض المتكلم من كلامه (¬3). وذهبت طائفة أخرى منهم: أبو إسحاق الشيرازي (¬4) إلى أنه: فهم الأشياء الدقيقة، سواء أكانت غرض المتكلم أم لا (¬5). والراجح أنه الفهم مطلقًا؛ لأن قوله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]، يدل على أن فهمهم أي حديث ولو كان واضحًا يسمى فقهًا، وقول شعيب -عليه السلام- كان واضحًا، ومع هذا قالوا: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91]، وأما قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، فهي ظاهرة في ¬

_ (¬1) فخر الدين، محمد بن عمر بن الحسين القرشي، الأصولي المفسر، ولد سنة 544 هـ، اشتغل على أبيه الإمام ضياء الدين خطيب الري، وانتشرت تواليفه في البلاد شرقًا وغربًا، منها: مفاتيح الغيب، ومعالم أصول الدين، مات سنة 606 هـ. سير أعلام النبلاء، لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، (1402 هـ - 1982 م)، (21/ 500)، طبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين ابن علي بن عبد الكافي السبكي، دار هجر، ط 2، 1413 هـ، تحقيق: د. محمود محمد الطناحي، د. عبد الفتاح محمد الحلو، (8/ 80). (¬2) أبو الحسين البصري، محمد بن علي بن الطيب، شيخ المعتزلة وصاحب التصانيف الكلامية، ولد في البصرة وسكن بغداد وتوفي بها سنة 436 هـ وقد شاخ، له تصانيف كثيرة منها: المعتمد في أصول الفقه، وغرر الأدلة، وشرح الأصول الخمسة. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (17/ 587)، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لشهاب الدين عبد الحي بن أحمد بن العماد، العكري، دار ابن كثير، ط 1، 1406 هـ، (3/ 258). (¬3) المحصول في علم الأصول، لأبي عبد الله محمد بن عمر، فخر الدين الرازي، تحقيق: د. طه جابر فياض العلواني، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ط 1، 1400 هـ، (1/ 92)، المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري، تحقيق: مجموعة من الباحثين، المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، 1384 هـ - 1964، (1/ 8). (¬4) أبو إسحاق، جمال الإسلام، إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، من كبار الأصوليين، ولد بفيروز آباد سنة 393 هـ وقيل غير ذلك، من تصانيفه التنبيه، واللمع وشرحها، والتبصرة، والمهذب، توفي سنة 476 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (18/ 453)، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (4/ 215). (¬5) شرح اللمع، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، تحقيق: عبد المجيد التركي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1408 هـ - 1988 م، (1/ 157).

تسمية فهم ما ليس غرضًا للمتكلم فقهًا، فالفقه في الآيات الثلاث معناه: مطلق الفهم، بقرينة مقام الذم في الآية الأولى. والفهم: إدراك معنى الكلام لجودة الذهن من جهة تهيئه لاقتباس ما يرد عليه من المطالب (¬1). الفقه اصطلاحًا: كان الفقه في الصدر الأول من الصحابة والتابعين يطلق ويراد به ما هو أعم من الأحكام العملية أو الاعتقادية، دون تفريق بينهما؛ ولذا عرَّفه الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- (¬2) بأنه: "معرفة النفس ما لها وما عليها" (¬3)، ثم تميز الفقه بمعنى اصطلاحي جديد بعد الصدر الأول، حيث اختص علم الفقه باستنباط الأحكام العملية من الأدلة التفصيلية، وعرَّف الإمام الشافعي -رحمه الله- (¬4) وأصحابه الفقه بتعريف اشتهر وذاع، وهو: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية (¬5)، وموضوع علم الفقه هو أفعال المكلفين من حيث الحكم عليها، سواء أكانت الأحكام قطعية أم ظنية (¬6). ¬

_ (¬1) شرح الكوكب المنير، لمحمد بن النجار الفتوحي الحنبلي، تحقيق: د. محمد الزحيلي، ود. نزيه حماد، مكتبة العبيكان، الرياض، ط 2، 1418 هـ -1997 م، (1/ 40). (¬2) الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى التيمي، أحد أئمة الإسلام، والسادة الأعلام، وأحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبوعة، ولد في حياة صغار الصحابة سنة 80 هـ، ورأى أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة، وإليه كان المنتهى في الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه. توفي سنة 150 هـ -رحمه الله-. طبقات الفقهاء، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، دار الرائد العربي، بيروت، لبنان، ط 1، 1990 م، (ص 86)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (11/ 474). (¬3) المنثور في القواعد الفقهية، لبدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، تحقيق: د. تيسير فائق أحمد محمود، طبعة وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت، ط 2، 1405 هـ، (1/ 68). (¬4) أبو عبد الله، الشافعي، محمد بن إدريس بن شافع، القرشي المطلبي المكي، صاحب المذهب الفقهي المتبع، الإمام العلم حبر الأمة، من مصنفاته: كتاب الأم، والرسالة، ولد سنة 150 هـ، وتوفي أول شعبان سنة 204 هـ بمصر. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 71)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (10/ 5). (¬5) نهاية السول شرح منهاج الأصول، لجمال الدين عبد الرحيم الإسنوي، مصورة عالم الكتب عن جمعية نشر الكتب العربية، القاهرة، 1343 هـ (1/ 22)، شرح جمع الجوامع، لجلال الدين محمد بن أحمد المحلي، ومعه حاشية العطار، دار الكتب العلمية، بيروت، (1/ 57 - 59). (¬6) مفهوم الفقه الإسلامي، لنظام الدين عبد الحميد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1404 هـ -1984 م، (ص 13 - 15).

وللأصوليين تعريفات كثيرة متقاربة في معناها، ومن ذلك: ما ذكره الزركشي (¬1) في قواعده بقوله هو: "معرفة أحكام الحوادث نصًّا واستنباطًا" (¬2). وقد يطلق الفقه اصطلاحًا على ثلاثة معانٍ مرتبطة ببعضها: المعنى الأول: الفقه بمعنى: أهلية الاجتهاد والنظر في النصوص الشرعية، والقدرة على استخراج الأحكام منها، وهذا ما يعرف باسم الملكة الفقهية (¬3). المعنى الثاني: معرفة الأحكام الشرعية العملية مع أدلتها (¬4). المعنى الثالث: مجموعة الأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين، بغض النظر عن سبيل إدراكها اجتهادًا كان أو تقليدًا (¬5). والفقه بهذا الاعتبار يطلق عليه اسم الفروع، إما في مقابلة علم العقائد وأصول الدين؛ لأن التصديق بالأحكام الشرعية العملية تابع للتصديق بالأحكام الاعتقادية، وإما في مقابلة علم أصول الفقه لتفرع أحكامه عن أحكام هذا العلم وبناء مسائله عليه (¬6). والفقيه هو من عرف جملة غالبة من الأحكام الشرعية، أو من له أهلية تامة يعرف الحكم بها إذا شاء، مع معرفته جملًا كثيرة من الأحكام الفرعية، وحضورها عنده بأدلتها الخاصة والعامة (¬7). ¬

_ (¬1) أبو عبد الله، محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي الشافعي، الإمام العلامة الفقيه الأصولي، التركي الأصل، المصري مولدًا ووفاة، له تصانيف كثيرة منها: لقطة العجلان، والبحر المحيط، والمنثور، والديباج على المنهاج، ولد سنة 745 هـ، وتوفي سنة 794 هـ طبقات الشافعية، لأبي بكر بن محمد بن أحمد بن عمر ابن قاضي شهبة، طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، ط 1، 1399، (3/ 227)، شذرات الذهب، لابن العماد، (6/ 334). (¬2) المنثور في القواعد الفقهية، للزركشي، (1/ 69). (¬3) حاشية العطار على جمع الجوامع، (2/ 420). (¬4) المدخل الفقهي العام، للشيخ مصطفى أحمد الزرقا، دار القلم، دمشق، ط 1، 1418 هـ - 1998 م، (1/ 65). (¬5) نفس المصدر (1/ 66). (¬6) الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، طبعت تباعًا في مطابع عدة، على سنوات متفرقة، (1/ 12). (¬7) شرح الكوكب المنير، لابن النجار الحنبلي (1/ 42)، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لأحمد بن حمدان الحنبلي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط 3، 1397 هـ (ص 14).

الفرع الثانى: تعريف النوازل لغة واصطلاحا

الفرع الثانى: تعريف النوازل لغةً واصطلاحًا: النوازل لغةً: جمع نازلة، ويقال في الجمع: نوازل ونازلات، وجذرها (ن ز ل) يدل على هبوط الشيء ووقوعه (¬1)، والنازلة: اسم فاعل من نزل ينزل إذا حل. والنازلة: المصيبة والشدة من شدائد الدهر تنزل بالناس (¬2). قال الشاعر: وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يَضِيْقُ بِهَا الْفَتَى ... ذَرْعًا وَعِنْدَ اللهِ مِنْهَا الْمَخْرَجُ (¬3) وما ينزل بالناس من الحوداث والملمَّات ينقسم باعتبار شدَّتها إلى خمسة أقسام، فيقال: 1 - نزلت بهم نازلة، ونائبة، وحادثة. 2 - ثم آبدة، وداهية، وباقعة. 3 - ثم بائقة، وحاطمة، وفاقرة. 4 - ثم غاشية، وواقعة، وقارعة. 5 - ثم حاقة، وطامة، وصاخة (¬4). النوازل اصطلاحًا: استعمل بعض الفقهاء مصطلح النازلة على معناها اللغوي المتقدم في مواضع من كتب ¬

_ (¬1) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (5/ 417). (¬2) المصباح المنير، للفيومي، (2/ 601)، تهذيب اللغة، لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري، تحقيق: عبد السلام هارون، الدار المصرية للتأليف والترجمة (13/ 211)، لسان العرب، لابن منظور (14/ 113) الكليات، لأيوب بن موسى الكفوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1419 هـ - 1998 م، (ص 910). (¬3) القائل هو إبراهيم بن العباس الصولي، المتوفى سنة 243 هـ، الطرائف الأدبية، لعبد العزيز الميمني، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1937 م، (ص 123). (¬4) فقه اللغة وأسرار العربية، لأبي منصور الثعالبي، ضبط ياسين الأيوبي، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ط 2، 1420 هـ - 2000 م، (ص 343).

الفقه كقولهم: "يجوز القنوت في النوازل" أي: المصائب العامة، والشدائد المدلهمة؛ وعلى هذا تحمل ترجمة النووي -رحمه الله- (¬1) في شرحه على صحيح مسلم: "باب استحباب القنوت في جميع الصلوات إذا نزلت بالمسلمين نازلة والعياذ بالله"، ثم ذكر أنواعًا من المصائب: "كعدو وقحط ووباء وعطش، وضرر ظاهر بالمسلمين، ونحو ذلك" (¬2). وكذا قول ابن تيمية -رحمه الله- (¬3): "فيكون القنوت مسنونًا عند النوازل" (¬4). ونحو هذا قولهم: "فإن نزل بالمسلمين نازلة فللإمام أن يقنت" (¬5). وأما على الاصطلاح الفقهي فقد عرفها ابن عابدين -رحمه الله- (¬6) بأنها: المسائل التي ¬

_ (¬1) أبو زكريا، محيي الدين، يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن محمد النووي الشافعي، الفقيه الحافظ الزاهد أحد الأعلام، وشيخ الإسلام، له التصانيف الذائعة، والشهرة الواسعة، والقدم الراسخة في العلم والأمر والنهي، من مصنفاته المنهاج، وروضة الطالبين، وتهذيب الأسماء واللغات، ورياض الصالحين. ولد سنة 631 هـ، وتوفي سنة 676 هـ، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (8/ 395)، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة، (2/ 194). (¬2) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1392 هـ، (5/ 176). (¬3) أبو العباس، تقي الدين، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله، ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، شيخ الإسلام، الفقيه الأصولي المفسر المجتهد المطلق، من مؤلفاته: درء تعارض العقل والنقل، ومنهاج السنة النبوية، والصارم المسلول على شاتم الرسول، ولد سنة 661 هـ، وتوفي 728 هـ. البداية والنهاية، لأبي الفداء، إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، دار هجر، ط 1، 1417 هـ - 1997 م، (18/ 295 - 302)، شذرات الذهب، لعبد الحي ابن أحمد بن محمد العكبري المشهور بابن العماد، تحقيق: محمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق، ط 1، 1406 هـ - 1986 م، (8/ 142 - 150). (¬4) الفتاوي الكبرى، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، تحقيق: محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1408 هـ - 1987 م، (2/ 248). (¬5) المغني، لعبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد الله التركي، ود. عبد الفتاح محمد الحلو، دار عالم الكتب، الرياض، 1417 هـ - 1997 م، (2/ 586). (¬6) محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن عابدين الدمشقي، فقيه الديار الشامية وإمام الحنفية في عصره، الأصولي المفسر، الأديب، كثير المصنفات من أشهرها: رد المحتار على الدر المختار، ورفع الأنظار عما أورده الحلبي على الدر المختار، والعقود الدرية في تنقيح الفتاوي الحامدية، ونسمات الأسحار على شرح المنار، توفي سنة 1252 هـ. حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، لعبد الرازق البيطار، دار صادر، بيروت، ط 2، 1413 هـ، (3/ 1230)، الأعلام، للزركلي، (6/ 42).

"سئل عنها المشايخ المجتهدون في المذهب ولم يجدوا فيها نصًّا، فأفتوا فيها تخريجًا" (¬1). والنص المذكور في تعريف ابن عابدين المقصود به فتاوي أبي حنيفة وتلامذته الكبار كمحمد بن الحسن وأبي يوسف ونحوهما. وقوله: "لم يجدوا فيها نصًّا"، لا يعني عدم وجوده، فقد تسمى النازلة في حق شخص لجهله بحكمها، ألا ترى أنهم يقولون مثلًا: "إذا نزلت بالعامي نازلة وهو في مكان لا يجد من يسأله عن حكمها، أنه يجب عليه أن يتقي الله ما استطاع، ويتحرى الحق بجهده ومعرفة مثله" (¬2)، وهذا ما سمي عاميًّا إلا لجهله بالنصوص الشرعية، ومسالك أهل العلم في استنباط الأحكام منها. وتعريف ابن عابدين أشار إلى فحواه ومعناه من المتقدمين الإمام الشافعي -رحمه الله- حيث قال: "فليست تنزل بالمسلمين نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها" (¬3)، وكذلك الإمام ابن عبد البر -رحمه الله- (¬4) حين ترجم بابًا في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" فقال: "باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة" (¬5). ¬

_ (¬1) رد المحتار على الدر المختار لشرح تنوير الأبصار، لمحمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن عابدين الدمشقي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد عوض، دار عالم الكتب، الرياض، 1423 هـ - 2003 م، (1/ 142). (¬2) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، محمد بن أبي بكر الزرعي، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973 م، (4/ 219). (¬3) الرسالة، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق: أحمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت، (ص 20). (¬4) أبو عمر، ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله بن محمد، الأندلسي، القرطبي، المالكي، الإمام الكبير، وحافظ المغرب، صاحب التصانيف الفائقة، منها: التمهيد، والاستذكار، والكافي، ولد سنة 368 هـ، وتوفي سنة 463 هـ. ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض بن موسى بن عياض السبتي، تحقيق: مجموعة من الباحثين، وزارة الأوقاف المغربية، ط 2، 1403 هـ، (8/ 127)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (18/ 153). (¬5) جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر، تحقيق: حسن أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1414 هـ - 1994 م، (2/ 844).

ويبدو أن الفقهاء أطلقوا هذه التسمية على هذه المسائل لشدة ما يعانون في سبيل التعرف على أحكامها، ومما يشعر بذلك قول النووي -رحمه الله-: "وفيه اجتهاد الأئمة في النوازل وردها إلى الأصول" (¬1)، وقول ابن القيم -رحمه الله- (¬2)؛ "فصل: وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهدون في النوازل" (¬3). وتعريف ابن عابدين السابق يعتبر ملائمًا لحقيقة النازلة، وابن عابدين من متأخري الحنفية، ت: (1252 هـ) ويبدو أن من جاء بعده استفاد من تعريفه للنوازل بوجهٍ ما. فالنازلة على وجه العموم هي: "الحادثة التي تحتاج لحكم شرعي" (¬4). والدكتور حسن الفيلالي يعرفها بأنها: "الواقعة والحادثة التي تنزل بالشخص سواء في مجال العبادات أو المعاملات أو السلوك والأخلاق، حيث يلجأ هذا الشخص إلى من يفتيه بحكم الشرع في نازلته" (¬5). وقال الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله-: "يراد بالنوازل: الوقائع والمسائل المستجدة والحادثة، المشهورة بلسان العصر باسم: النظريات والظواهر" (¬6). ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، (1/ 213). (¬2) أبو عبد الله، شمس الدين، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي، ابن قيم الجوزية الحنبلي، لازَمَ ابنَ تيمية وأخذ عنه الكثير، وله مؤلفات قيمة، منها: إعلام الموقعين، وزاد المعاد، وإغاثة اللهفان، ولد سنة 691 هـ، وتوفي سنة 751 هـ. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لأبي الفضل شهاب الدين، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الجيل، بيروت (3/ 400)، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، للقاضي علي بن محمد بن علي الشوكاني، مطبعة دار السعادة، ط 1، 1348 هـ، (2/ 143). (¬3) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 203). (¬4) معجم لغة الفقهاء، د. محمد رواس قلعه جي، د. حامد صادق قنيبي، دار النفائس، الأردن، ط 1، 1405 هـ - 1985 م، (ص 471). (¬5) فقه النوازل وقيمته التشريعية والفكرية، د. حسن الفيلالي، بحث مقدم لشعبة الدراسات الإسلامية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامع سيدي محمد بن عبد الله، فاس، 1404 هـ، وبحثه في ملتقى القيروان مركز علمي مالكي بين المشرق والمغرب حتى نهاية القرن الخامس للهجرة، عام 1414 هـ، (ص 230)، المدخل إلى فقه النوازل، د. عبد الناصر أبو البصل، مجلة أبحاث اليرموك، المجلد 1، سنة (1997 م). (¬6) فقه النوازل، د. بكر بن عبد الله أبو زيد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1423 هـ، (1/ 9).

ويقول الدكتور وهبة الزحيلي: "والنوازل أو الواقعات أو العمليات هي المسائل أو المستجدات الطارئة على المجتمع؛ بسبب توسُّع الأعمال، وتَعَقُّد المعاملات، والتي لا يوجد نص تشريعي مباشر أو اجتهاد فقهي سابق سيطبق عليها" (¬1). وقد ذهب الدكتور مسفر القحطاني إلى أن الأقدمين لم يحرروا مصطلح النوازل بشكل دقيق، وردَّ السبب في هذا إلى أمور، منها: أن هذا المصطلح لم ينتشر ويتداول إلا في القرون المتأخرة، وليس عند جميع الفقهاء، وأن مرادفات هذا المصطلح لا تقل عنه في التداول والشيوع، علاوة على أن الكاتبين في النوازل كان جل اهتمامهم مصروفًا إلى الجوانب العملية التطبيقية التي تعالج الوقائع النازلة بالناس، ولم يهتموا بالجوانب النظرية التي تعنى ببيان التعريفات والحدود. ثم ساق تعريفًا للنوازل فقال: "الوقائع الجديدة التي لم يَسبق فيها نص أو اجتهاد" (¬2). والذي يظهر لي أن ما اختاره ابن عابدين تعريفًا للنوازل فوق أنه أسبق فهو أدق وأضبط. وقد لاحظ د. محمد الجيزاني في النوازل أمورًا ثلاثة، هي: وقوعها وعدم افتراضها، وجِدَّتها وعدم تكررها، وشدة إلحاحها في طلب حكم شرعي لها. وبناء على ذلك فقد عرفها بقوله: "ما استدعى حكمًا شرعيًّا من الوقائع المستجدة" (¬3). وسواء اخترنا تعريف ابن عابدين أو غيره من التعريفات المعاصرة، فإن النوازل المستجدة مسائل تتعلق بأفعال المكلفين، ولا يوجد في ذخيرتنا الفقهية نصٌّ في بيان حكمها، فهي مفتقرة إلى استفراغ الوسع وبذل غاية الجهد في استنباط حكمها وإدراك مأخذها. ¬

_ (¬1) سبل الاستفادة من النوازل والفتاوي والعمل الفقهي، د. وهبة الزحيلي، دار المكتبي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط 1، 1421 هـ - 2001 م، (ص 9). (¬2) منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة، د. مسفر بن علي القحطاني، دار الأندلس الخضراء، جدة، ط 1، 1424 هـ - 2003 م، (ص 89 - 90). (¬3) فقه النوازل، د. محمد بن حسين الجيزاني، دار ابن الجوزي، ط 1، 1426 هـ - 2005 م، (1/ 24).

الفرع الثالث: الألفاظ القريبة وذات الصلة بلفظ النوازل

الفرع الثالث: الألفاظ القريبة وذات الصلة بلفظ النوازل: إن الفقهاء المتقدمين وإن لم يكثر دوران لفظ النوازل بينهم إلا أنهم -كما سيتبين- عُنوا بالإفتاء في كل ما يجدُّ ويحدث من مسائل، وبذلوا جهدهم في الاستنباط، وتجشموا عناء الجواب، فلربما عالجوا تلك المسائل وسموها بأسماء أخرى، ثم إن المعاصرين من الفقهاء مع استعمالهم لمصطلح النوازل، إلا أنهم قد استعملوا مصطلحات جديدة، وهذا ما يتبين فيما يلي: 1 - الحوادث: ومفردها حادث أو حادثة، ويقال لها -أيضًا-: الأحداث، وأصل (ح د ث) هو كون الشيء لم يكن، يقال: حدث الشيء بعد أن لم يكن، وهو شبه النازلة، والحديث: الجديد من الأشياء، وأظهر التعريفات للحدوث هو: أنه حصول الشيء بعد ما لم يكن (¬1). وقال الأزهري (¬2): "الحدث من أحداث الدهر، شبه النازلة" (¬3). والظاهر أنهم إنما أطلقوا لفظ الحوادث على النوازل، إما لكونها لم تذكر في النصوص الشرعية رأسًا، أو أن دلالة النصوص عليها غير ظاهرة، أو أن المبتلى بها يجهل النصوص الدالة عليها، أو يجهل وجه دلالتها عليها، فكأنها كانت بعد أن لم تكن في حقه. وعليه فإن الحوادث تطلق غالبًا على الوقائع التي تجدُّ ولم يسبق فيها حكم (¬4). ¬

_ (¬1) الكليات، للكفوي، (ص 400). (¬2) أبو منصور، محمد بن أحمد بن الأزهر بن طلحة بن نوح الهروي، الشافعي، أحد الأئمة في اللغة والأدب، غلب عليه التبحر في العربية، فرحل في طلبها وقصد القبائل، وتوسع في أخبارهم، من مصنفاته: تهذيب اللغة، والزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، وتفسير القرآن، توفي 370 هـ. بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، دار الفكر، ط 2، 1399 هـ - 1979 م، (1/ 19)، الأعلام، للزركلي، (5/ 311). (¬3) تهذيب اللغة، للأزهري، (4/ 405). (¬4) شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 526)، الفصول في الأصول، لأحمد بن علي الرازي الجصاص، تحقيق: د. عجيل جاسم النشمي، مطبوعات وزارة الأوقاف الكويتية، ط 1، 1405 هـ (2/ 317)، المسودة في أصول الفقه لآل تيمية، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني، القاهرة، (ص 520 - 521).

2 - الواقعات أو الوقائع

2 - الواقعات أو الوقائع: لغةً: جمع واقعة، والجذر منها (وق ع)، وهو أصل واحد يرجع إلى فروعه، يدل على سقوط شيء، يقال: وقع الشيء وقوعًا فهو واقع (¬1)، والواقعة النازلة الشديدة من صروف الدهر، ووقع الشيء يقع وقوعًا أي: هَوِيًّا (¬2)، وأكثر ما جاء في القرآن من لفظ (وقع) جاء في العذاب والشدائد (¬3)، والوقائع كالحوادث في شيوع استعمالها في معنى النوازل (¬4). والفقهاء يطلقون الواقعات على النوازل، إلا أن الظاهر أنهم لا يكادون يستعملون لفظ الواقعات في العبادات، وإنما هي في المعاملات (¬5). وإطلاقهم لفظ الواقعات على المسائل المستجدة فيه تعبير عمَّا يعانونه من الشدة والصعوبة في البحث عن أحكامها أيضًا، والواقعات عند المعاصرين هي: الفتاوي المستنبطة لأحكام الحوادث المستجدة (¬6). وعند الحنفية خاصة ربما أطلق مصطلح النوازل أو الوقائع على كل مسألة لم يتكلم فيها علماء الطبقة الأولى منهم، بخلاف بقية المذاهب فإنها تطلق على كل مسألة لم يجدوا فيها كلامًا لمن سبقهم من أهل العلم مطلقًا، ومن كتبهم في ذلك ¬

_ (¬1) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (6/ 133 - 134)، كتاب العين، للخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: د. مهدي المخزومي، ود. إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، (2/ 176). (¬2) لسان العرب، لابن منظور، (15/ 370)، مختار الصحاح، لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، تحقيق: مصطفى ديب البغا، اليمامة، ط 1، 1405 هـ - 1985 م، (ص 461). (¬3) المفردات في غريب القرآن، للحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، (ص 530). (¬4) نهاية السول، للإسنوي، (4/ 559 - 560)، شرح تنقيح الفصول، لشهاب الدين القرافي، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، ط 2، (1414 هـ)، (ص 443). (¬5) فقه المستجدات في العبادات، طاهر يوسف صديق الصديقي، دار النفائس، عمان، ط 1، 1425 هـ - 2005 م، (ص 35). (¬6) معجم لغة الفقهاء، لقلعه جي، (ص 497).

3 - الأقضية والأحكام

"واقعات المفتين" لعبد القادر أفندي (¬1) (ت: 1085 هـ)، وكتاب "الواقعات" للصدر الشهيد (ت: 536 هـ) (¬2). 3 - الأقضية والأحكام: يأتي القضاء في اللغة لمعانٍ متعددة، أقربها إلى المعنى الشرعي: الحكم والإلزام (¬3). وأما الأحكام، فمفردها حُكْم بتسكين الكاف، وهو العلم والفقه، والفصل في الأمر، والقضاء، ودقق بعضهم فقال: القضاء بالعدل (¬4)، وأصل الحكم: المنع، يقال: حكمت عليه بكذا إذا منعته من خلافه فلم يقدر على الخروج من ذلك، وحكمت بين القوم: فصلت بينهم، فأنا حاكِمٌ وحَكَمٌ بفتحتين، والجمع حكَّام ويجوز بالواو والنون (¬5)، ووجه التسوية بين الأقضية والأحكام في المعنى هو في كون كلا اللفظين إلزامًا ومنعًا عن غيرهما. هذا وقد عُرِّف كلٌّ من القضاء والحكم باعتبارات مختلفة، وأقرب تعريف للقضاء ¬

_ (¬1) عبد القادر بن يوسف بن سنان ابن الشيخ محمد الحلبي، المعروف بنقيب زاده، ولد سنة 1014 هـ، وتوفي سنة 1085 هـ، صنف الفتاوي ويسمى أيضًا واقعات المفتين، الأعلام، للزركلي، (4/ 48)، معجم المؤلفين، لعمر كحالة، (5/ 308). (¬2) أبو محمد، حسام الدين، عمر بن عبد العزيز بن عمر بن مازه، الحنفي، المعروف بالصدر الشهيد، فقيه أصولي من أكابر الحنفية، تفقه على والده برهان الدين الكبير عبد العزيز، وناظر العلماء ودرس للفقهاء، وكان الملوك يصدرون عن رأيه، من تصانيفه: الفتاوي الكبرى، والفتاوي الصغرى، وعمدة المفتي والمستفتي، وشرح أدب القاضي، وشرح الجامع الصغير، والواقعات الحسامية، توفي شهيدًا سنة 536 هـ. الجواهر المضية في طبقات الحنفية، لمحيي الدين أبي محمد عبد القادر بن محمد، القرشي، دار هجر، ط 2، 1413 هـ، تحقيق: د. عبد الفتاح محمد الحلو، (2/ 649)، الأعلام، للزركلي، (5/ 51). (¬3) لسان العرب، لابن منظور، (11/ 209). (¬4) انظر: لسان العرب، لابن منظور، (3/ 270)، نظرية الحكم القضائي في الشريعة والقانون، د. عبد الناصر موسى أبو البصل، دار النفائس، الأردن، ط 1، 1420 هـ، (ص 20) وما بعدها. (¬5) المصباح المنير، للفيومي، (1/ 145)، وانظر أيضًا: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لعمر بن علي بن أحمد بن الملقن، تحقيق: عبد العزيز بن أحمد بن محمد المشيقح، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1417 هـ - 1997 م، (10/ 7).

4 - الفتاوي

إلى بحثنا هذا تعريفه باعتباره فعلًا للقاضي، كما عرفه العز ابن عبد السلام (¬1) بأنه: "إظهار حكم الشرع في الواقعة فيمن يجب عليه إمضاؤه فيه" (¬2). على أن المقصود بالحكم هنا ليس "خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع" (¬3)، وإنما هو فعل القاضي أو الحاكم؛ وعليه فإن الحكم اصطلاحًا هو: "إنشاء إطلاقٍ (¬4) أو إلزامٍ في مسائل الاجتهاد المتقارب فيما يقع فيه النزاع لمصالح الدنيا" (¬5). والعلاقة بين الأقضية والأحكام بهذا الاعتبار، هي علاقة المؤثر بالأثر، ووجه إطلاقهم هذين اللفظين على المسائل المستجدة هو كون القاضي بفعله يقطع الخصومة فيها، ويبين ما يظهر له من الشرع باجتهاده فيها. ويلاحظ هنا أن الأقضية والأحكام لا تكون في العبادات. 4 - الفتاوي: لغةً: من الإفتاء، وهو: تبيين المبهم (¬6)، أو هو: تبيين المشكل من الأحكام والجواب عنها (¬7). ¬

_ (¬1) عز الدين الملقب بسلطان العلماء وبائع الأمراء، عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي الشافعي، كان عَلمًا من الأعلام، شجاعًا في الحق، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، جمع إلى الفقه والأصول العلم بالحديث والأدب والخطابة والوعظ، من مصنفاته: الفوائد، الغاية، القواعد الكبرى والقواعد الصغرى، وغير ذلك، توفي سنة 660 هـ. طبقات الشافعية، لابن قاضي شهبة، (2/ 137)، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (8/ 209). (¬2) مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، لمحمد بن محمد الشربيني، دار الفكر، بيروت، (4/ 372). (¬3) شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه، لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني، تحقيق: زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1416 هـ - 1996 م، (1/ 22)، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لزين الدين ابن إبراهيم بن نجيم، دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1422 هـ - 2002 م، (1/ 15). (¬4) قوله: "إنشاء إطلاق، احتراز من قول من يقول: إن الحكم إلزام؛ كما إذا رفعت للحاكم أرض زال الإحياء عنها، فإنها تبقى مباحة لكل أحد. . . "، الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، لأحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: د. عبد الفتاح أبي غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط 2، 1416 هـ، (ص 33). (¬5) الإحكام، للقرافي، (ص 33). (¬6) الكليات، للكفوي، (ص 155). (¬7) المفردات في غريب القرآن، للأصفهاني، (ص 373)، لسان العرب، لابن منظور، (10/ 183)، المصباح المنير، للفيومي، (2/ 462).

وأما الفتاوي اصطلاحًا، فقد سبقت الإشارة إلى أن علماء الحنفية يطلقون الفتاوي على الأحكام التي استنبطها علماؤهم بعد الطبقة الأولى تخريجًا على أصول المذهب، خلافًا لعلماء بقية المذاهب. وجملة أقوال الفقهاء تدل على أن الفتيا: "هي الإخبار بحكم شرعي عن دليلٍ لمن سأل عنه من غير إلزام" (¬1)، ويكون الإفتاء هو: "الإخبار بحكم الله تعالى باجتهاد عن دليل شرعي، لمن سئل عنه في أمر نازل" (¬2)، وهو أقرب إلى موضوعنا. يلاحظ هنا أن بعضهم شرط في كون البيان فُتْيا، أن يكون جوابًا لسؤالٍ كما سبق، وأن المسألة التي تكون عنها الفتوى لا يشترط أن تكون نازلة، بمعنى أنه لم ينص عليها الشارع. وعلى هذا، فوجه إطلاقهم لفظ الفتاوي على نوازل عصرهم وتسميتهم لكتبهم بذلك إنما هو من باب التغليب؛ بل كونه من باب أن المسألة مستجدة أو نازلة في حق السائل أظهر لكل من نظر في الكتب التي عنون لها صاحبها بالنوازل أو الفتاوي. ومن الكتب التي عنون لها بـ "الفتاوي": - خلاصة الفتاوي، للبخاري الحنفي -رحمه الله- (¬3)، (ت: 542 هـ). - فتاوي العزِّ ابن عبد السلام -رحمه الله-، المعروف بسلطان العلماء، (ت: 660 هـ). - الفتاوي المصرية، لشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية -رحمه الله-، (ت: 728 هـ). ومما تجدر ملاحظته أن إطلاق الفتاوي على النوازل والحوادث المستجدة إنما هو ¬

_ (¬1) الفتوى أهميتها وضوابطها وآثارها، محمد يسري، طبع جائزة نايف بن عبد العزيز آل سعود، المدينة المنورة، ط 1، 1428 هـ - 2007 م، (ص 30). (¬2) الموسوعة الفقهية الكويتية، (32/ 20)، الفتيا ومناهج الإفتاء، د. محمد سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط 3، 1413 هـ - 1993 م، (ص 13). (¬3) طاهر بن أحمد بن عبد الرشيد بن الحسين، افتخار الدين البخاري، فقيه من كبار الحنفية، من أهل بخارى، له خلاصة الفتاوي، والواقعات، توفي سنة 542 هـ. الجواهر المضية في طبقات الحنفية، لمحيي الدين القرشي، (2/ 276)، الأعلام، للزركلي (3/ 220).

5 - الأسئلة والسؤالات والمسائل

اصطلاح قديم، وربما لا تطلق الفتاوي على المسائل المستجدة في الاصطلاح المعاصر، ولكلٍّ مأخذ، فإن الفتاوي تجتمع مع النوازل في أن كليهما تعبير عن الفقه التطبيقي، كما أن المصطلحين يجتمعان في دلالتهما على دور الفقيه أو المفتي في إخبار السائل والمستفتي عن الحكم الشرعي فيما يسأل عنه. ولعل الاصطلاح المعاصر اليوم يمايز بين الفتاوي والنوازل؛ فالفتاوي قد تتعلق بما لا يسمى نازلة كسائر الأحكام الأساسية للعبادات والمعاملات مثلًا، وأما النوازل فإنها لا تكون إلا مستحدثة، والإفتاء إخبار بالحكم الشرعي، وقد يكون هذا اتباعًا لبعض العلماء، وقد يكون تقليدًا، كما أنه قد يكون عن اجتهاد. وأما الإفتاء في النوازل فلا يكون إلا عن اجتهاد، فمفتي النوازل يُطْلَبُ فيه أن يتملك أدوات الاجتهاد، وأن يأخذ بأسباب الاستنباط وأزمَّته. بل إن المدونات في النوازل المستجدة تختلف عن كتب الفقه التقليدية، حيث عرفت هذه المدونات بارتباطها بالأحداث الجارية، والاستجابة لحاجات الناس في مختلف الظروف والبيئات، وبذلك لم تعرف كتب النوازل الرتابة التي عرفتها كتب الفقه المعاصرة (¬1). وعليه فإن الإفتاء في النوازل أخص من الإفتاء في غيرها، ويشترط في فقهاء النوازل ما لا يشترط في فقهاء الفتوى (¬2). 5 - الأسئلة والسؤالات والمسائل: الأسئلة والسؤالات والمسائل، مفردها: سؤال وسؤل ومسألة، وأصلها (سأل)، يقال: سأل يسأل سؤالًا ومسألة، ورجل سُؤَلَة: كثير السؤال (¬3)؛ والعرب قاطبة تحذف ¬

_ (¬1) أثر الفتاوي والنوازل في إثراء الفقه الإسلامي، لمحمد فاروق نبهان، مجلة الفيصل، عدد 276، جمادى الآخرة 1420 هـ، (ص 24). (¬2) نظرات في النوازل الفقهية، د. محمد حجي، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والنشر والترجمة، ط 1، 1420 هـ - 1999 م، (ص 77). (¬3) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (3/ 124).

6 - المستجدات (المستحدثات)

همزة سَلْ، فإذا سُبقت بفاء أو واو هُمِزَت، كقولك: فاسأل واسأل، وجمع المسألة مسائل، فإذا حذفوا الهمزة قالوا: مَسَلة والفقير يسمى سائلًا (¬1). والسؤال: استدعاء معرفة؛ أو ما يؤدي إلى المعرفة، واستدعاء مالٍ، أو ما يؤدي إلى المال، فاستدعاء المعرفة جوابه على اللسان، واليد خليفة له بالكتابة أو الإشارة، واستدعاء المال جوابه على اليد، واللسان خليفة لها إما بوعدٍ أو بردٍّ (¬2). والمسألة في الاصطلاح: هي القضية التي يبرهن عليها، أو هي المطلوب الخبري الذي يبرهن عنه في العلم الذي تنتمي إليه، والنوازل يُسأل عنها، والجواب لا بد له من برهان، فهذا وجه تسميتهم النوازل بالمسائل والسؤالات أو الأسئلة (¬3)، وسيأتي ذكر نماذج من تلك الكتب. 6 - المستجدات (المستحدثات): لغةً: تطلق المستجدات على الأمور الجديدة، وهي بكسر الجيم وفتحها، مفردها مستجد، وجذرها (ج د د) فيه ثلاثة أصول في العظمة والحظ والقطع، والقطع هو ما يتعلق بموضوع البحث، فيقال: جَدَدْتُ الشيء جَدًّا، فهو مجدود، أي: مقطوع، والثوب الجديد كأن ناسجه قطعه الآن، ثم سمي كل شيءٍ لم تأت عليه الأيام جديدًا (¬4). والمصدر منه الجِدَّة، يقال: فلان أجدَّ ثوبًا واستجدَّه، أي: صيره جديدًا. وأما المستحدثات فهي في اشتقاقها قريبة من الحوادث وفي معناها قريبة من المستجدات. واصطلاحًا: فإن استعمال هذا اللفظ وما يقاربه في النوازل إنما هو عند الفقهاء المعاصرين فحسب، وهو يطلق عندهم على ما يلي: ¬

_ (¬1) كتاب العين، للخليل، (7/ 301). (¬2) المفردات في غريب القرآن، للأصفهاني، (ص 250). (¬3) الكليات للكفوي، (ص 857)، المصباح المنير، للفيومي، (1/ 297)، لسان العرب، لابن منظور، (6/ 134). (¬4) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (1/ 406 - 409).

1 - المسائل الفقهية التي حدثت، أو أُحدثت في هذا الزمان، وليس لها حكمٌ ظاهرٌ مفصل في المراجع الفقهية القديمة (¬1). 2 - أو المسائل التي لم يتقدم فيها قولٌ لمتبوع (¬2). 3 - كما أنهم يطلقونها -أيضًا- على المسائل التي تغيَّرت موجبات الحكم عليها (¬3) بعامل الزمان أو المكان أو طبيعة حياة الإنسان. وقد تُطلق ألفاظ أخرى في وقت الناس هذا للتعبير عن النوازل، منها: القضايا المعاصرة (¬4)، والفتاوي المعاصرة (¬5)، والنظريات والظواهر (¬6). التعريف اللقبي: بناءً على ما سبق؛ فإن "فقه النوازل" هو العلم الذي يبحث في الأحكام الشرعية للوقائع المستجدة والمسائل الحادثة، مما لم يرد بخصوصها نص ولم يسبق فيها اجتهاد. على أن المقصود بتلك المسائل الحادثة والوقائع المستجدة ما يشمل أمورًا ثلاثة، هي: 1 - ما وقع للمرة الأولى، مثل: زراعة الأعضاء، والاستنساخ، مما لم يرد بخصوصه نص أو يسبق فيه اجتهاد. 2 - ما وقع قبل ذلك؛ لكن تغير حكمه لتغير ما ابتني عليه الحكم، مثل: اختلاف صور ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية الكويتية، (1/ 61). (¬2) المرجع السابق، (33/ 332). (¬3) منهج معالجة القضايا المعاصرة في ضوء الفقه الإسلامي، بحث د. محمد رواس قلعه جي، مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية، دبي، العدد الخامس، 1413 هـ - 1992 م، (ص 60). (¬4) المرجع السابق، (ص 60) كما قررت كلية الشريعة بجامعة الأزهر بمصر تدريس مادة "قضايا فقهية معاصرة" في سنوات الكلية الأربع للعناية بفقه النوازل، كما جمعت فتاوي شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق -رحمه الله- في عدة مجلدات بعنوان: بحوث وفتاوي إسلامية في قضايا معاصرة. (¬5) أصدر الدكتور يوسف القرضاوي ثلاث مجلدات من الفتاوي بعنوان: فتاوي معاصرة. (¬6) فقه النوازل، د. بكر أبو زيد، (1/ 9).

المطلب الثاني: نشأته والدراسات السابقة

قبض المبيع باختلاف الأعراف وتغيرها. 3 - ما وقع قبل ذلك؛ إلا أنه اجتمع لدى وقوعه فيما بعد تداخل أكثر من صورة، مثل: عقود المقاولات والاستصناع. ومن هنا تتبين العلاقة بين علم الفقه، وعلم فقه النوازل باعتباره لقبًا على فن معين، وهي العموم والخصوص، فالفقه أعم من جهة مسائله، وعلم النوازل أخص. المطلب الثاني: نشأته والدراسات السابقة: لا يخفى أن المسلمين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تَجدُّ بينهم وقائع، وتنزل بهم نوازل، فيلجئون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يلتمسون حكمها، ويطلبون هدايةً فيها، وكثيرًا ما كان يوجه السؤال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يلبث الوحي أن ينزل بجوابٍ يشفي الصدور، كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، وغير ذلك من الأسئلة. وربما جاء التعبير عن هذه المسائل بالاستفتاء، كما قال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء: 127]، وقال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]. وربما تدخل الوحي القرآني مباشرة في واقعة مستجدة أو نازلة حادثة، كما في مسألة الظهار التي سطرها الوحي في صدر سورة المجادلة، وهي قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} الآيات [المجادلة: 1]. وربما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفتى بسنته الشريفة في مسائل ونوازل لم ينزل فيها قرآن يتلى، وهذا في السنَّة كثير مشتهر (¬1)، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ¬

_ (¬1) فإذا كان القضاء صوابا وأقرَّه الوحي صار وحيًا بالإقرار عليه؛ لأنه لو كان غير ذلك لنزل الوحي بتصويبه؛ ولهذا =

ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع. . . " (¬1). قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] " (¬2). وبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - كان الصحابة يرجعون إلى علمائهم، وعلى رأسهم الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، المأمور بلزوم سنتهم، واقتفاء أثرهم، وكانوا -رضي الله عنهم- يلتمسون الأحكام في كتاب ربهم وسنة نبيهم، لا يجاوزون ذلك، فإذا أعياهم البحث عن النص القاطع للنزاع اجتهدوا في استنباط حكم تلك الواقعة المستجدة الذي يوافق الكتاب والسنة، ولا يصادم مقاصد الشريعة الغراء، ولا ينافي قواعدها الكلية. يقول عنهم أبو شامة -رحمه الله- (¬3): "فكانوا إذا نزلت بهم نازلة بحثوا عن حكم الله فيها من كتاب الله وسنة نبيه، وكانوا يتدافعون الفتوى، ويود أحدهم لو كفاه إياها غيره" (¬4). ¬

_ = كان المذهب المختار: جواز الخطأ في اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعليه فإذا وقعَ فلا بد من التنبيه عليه فورًا بالاتِّفاق. فإذا أُقِرَّ على اجتهاده، ولم يُنَبَّه على خطأ فيه، دلَّ ذلك على أَنَّ حكمه حقٌّ؛ فيكون حجةً يجب العمل بها، بمثابة الحكم الصادر عن اجتهاده -على القول بعصمته من الخطأ- وبمثابة الحكم الموحى به؛ إِذْ تقريره تعالى وحيٌ، وعليه فالسنة كلها وحي. حجية السنة، للشيخ عبد الغني عبد الخالق، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، الولايات المتحدة الأمريكية، ط 1، 1415 هـ - 1995 م، (ص 222). (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الأحكام، باب: موعظة الإمام للخصوم، (7169)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، (1713)، من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-. (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 11). (¬3) أبو شامة المقدسي، عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي، محدث، حافظ، فقيه، مفسر، من مصنفاته: كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، والرد إلى الأمر الأول، ولد سنة 599 هـ، وتوفي بدمشق في رمضان 665 هـ. طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (8/ 163) شذرات الذهب، لابن العماد، (7/ 553). (¬4) مختصر كتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول، لعبد الرحمن ابن أبي شامة، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، (2/ 23).

ومع هذا التحفظ فقد وقع منهم الاجتهاد كثيرًا، ولقد أحمى ابن حزم -رحمه الله- (¬1) في كتابه "جوامع السير" فقهاء الصحابة فبلغ عددهم اثنين وستين ومائة ما بين رجل وامرأة، المكثرون منهم سبعة هم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأم المؤمنين عائشة بنت الصديق، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم-. يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهدون في النوازل، ويقيسون بعض الأحكام على بعض ويعتبرون النظير بنظيره" (¬2). ولعل من أخطر النوازل التي واجهها الصحابة في أول خلافة الصديق -رضي الله عنه-، ردة عدد من القبائل عن الإسلام، وامتناع عدد آخر عن أداء الزكاة وإن بقوا على الإسلام، ووقع الخلاف بين الصحابة؛ حيث ذهب كثير منهم إلى ترك قتالهم، ثم ما لبثوا أن شرح الله صدورهم لاجتهاد الصديق ومن معه في هذه النازلة. عن ميمون بن مهران -رحمه الله- (¬3) قال: كان أبو بكر -رضي الله عنه- إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الأمر سنة قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في ذلك بقضاء فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه قضاء فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا - صلى الله عليه وسلم - فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله ¬

_ (¬1) أبو محمد الظاهري، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح، الأندلسي، الإمام البحر، ذو الفنون والمعارف، من تصانيفه: المحلى، والإحكام في أصول الأحكام، ولد بقرطبة سنة 384 هـ، وتوفي سنة 456 هـ، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (35/ 166)، شذرات الذهب، لابن العماد، (5/ 239). (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 203). (¬3) أبو أيوب، ميمون بن مهران الجزري، ثقة عابد كبير القدر، من طبقة تلي الوسطى من التابعين، ولي الجزيرة لعمر بن عبد العزيز، توفي سنة 117 هـ، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 71). تقريب التهذيب، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: محمد عوامة، دار الرشيد، حلب، ط 3، 1411 هـ - 1991 م، (ص 556).

- صلى الله عليه وسلم - جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به (¬1). وفي بداية عهد الفاروق -رضي الله عنه- وما تبعه من عهود الراشدين كثرت النوازل والأقضيات التي تزامنت مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية، ودخول بلاد ذات ثقافات وحضارات مختلقة في دين الله -عز وجل-، وكان عمر -رضي الله عنه- يقفو أثر الصديق في ذلك، فعن المسيب بن رافع (¬2) قال: "كانوا إذا نزلت بهم قضية ليس فيها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر، اجتمعوا لها وأجمعوا، فالحق فيما رأوا، فالحق فيما رأوا" (¬3). وفي القرن الهجري الأول كانت العناية بالفقه وأحكامه الأساسية تعليمًا وتعلمًا، وبما يجدُّ وينزل سؤالًا واستفتاءً، ولم يكن ثمة ما يدعو للفصل بين الفقه والنوازل؛ بل كانا متلازمين، وإن كانا لم يدوَّنا آنذاك. ولقد بدأ التدوين الفقهي في القرنين الثاني والثالث، وفيهما نشأت المذاهب الفقهية الأربعة وازدهر الفقه ازدهارًا عظيمًا، حيث كان الفقهاء المجتهدون يعدون بالمئات؛ ولذا عرف في هذه الفترة ثلاثة عشر مذهبًا فقهيًّا، أولها لأبي حنيفة النعمان (ت: 150 هـ)، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل الدارمي في "سننه"، تحقيق: حسين سليم أسد، دار المغني، الرياض، ط 1، 1421 هـ، باب: الفتيا وما فيه من الشدة، (163)، وأبو بكر أحمد بن الحسين ابن علي البيهقي في "سننه الكبرى"، طبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، الهند -حيدر آباد، ط 1، 1344 هـ، كتاب آداب القاضي، باب: ما يقضي به القاضي ويفتي به المفتي. . .، (10/ 114). (¬2) أبو العلاء، المسيب بن رافع الأسدي الكاهلي، الكوفي، ثقة من طبقة تلي الوسطى من التابعين، كان صوامًّا قوامًا، روى له الجماعة، توفي سنة 105 هـ. الكاشف، للذهبي، (2/ 265)، تقريب التهذيب، لابن حجر، (ص 532). (¬3) أخرجه: الدارمي، باب: التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، (116)، وبنحوه: أبو عمر يوسف بن عبد الله النمري القرطبي المعروف بابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي -المملكة العربية السعودية، ط 1، 1414 هـ - 1994 م، (2071)، من حديث العوام بن حوشب عن المسيب بن رافع.

وآخرها لمحمد بن جرير الطبري (¬1) (ت: 310 هـ)، وإن كان لم يبق مكتوبًا ومدونًا محفوظًا إلا المذاهب الأربعة المشتهرة، بالإضافة إلى ما لدى الشيعة الإمامية والزيدية. وفي هذه الفترة ألفت أمهات كتب هذه المذاهب غالبًا، وأما ما يتعلق بتدوين النوازل وفقه هذه المسائل المستجدة فلم تقم عناية من حيث التدوين، وإن كان الاشتغال بالفتيا في تلك النوازل ظاهرًا، بل وعرف أيضًا الفقه التقديري الفرضي الذي يعدُّ الجواب لمسائل لم تقع، سواء أكانت قريبة أم بعيدة الوقوع، بل وأحيانًا لن تقع أبدًا. ومع بداية القرن الرابع الهجري بدأت مرحلة جديدة تميزت بالاستقرار الفقهي حيث عني كثير من الفقهاء بمذاهب الأئمة المتبوعين تنظيمًا وتوسيعًا، ومع بلوغ عدد من هؤلاء الفقهاء رتب الاجتهاد المطلق، إلا أنهم فضلوا العناية بهذه المذاهب المتبوعة درسًا وشرحًا وتصنيفًا، فاكتمل بفضل جهودهم بنيان المذاهب الأربعة، وقامت على سوقها، وخرجت الموسوعات الفقهية المذهبية الكبرى، كما قامت إلى جانبها الموسوعات الفقهية المقارنة هي الأخرى، وتراكمت المسائل المجموعة سواء الواقع منها أو المتوقع جنبًا إلى جنب مع فرضيات ومسائل مستبعدة الوقوع، وخلال تلك الفترة كانت الحاجة ماسة لتدوين كتب النوازل مصطبغة بالفقه المذهبي الذي يتمذهب به هذا المفتي أو ذاك، وإن وجدت مساحة للاجتهاد داخل فقه المذهب مراعاة لظروف النازلة والملابسات المحيطة بها، واستجابة لمتغيرات الأعراف والعادات. وعرفت تلك المصنفات بأسماء منها: كتب النوازل، والفتاوي، والحوادث، والقضايا وهي أشيع تلك الأسماء لدى الفقهاء، كما دعيت باسم الأجوبة، والجوابات، والمسائل، ¬

_ (¬1) أبو جعفر، الطبري، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير، الإمام العلم الحافظ المجتهد، من أهل آمل طبرستان، وجمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل زمانه، كان ثقة صادقًا حافظًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماع والاختلاف، علامة في التاريخ وأيام الناس، عارفًا بالقراءات وباللغة وغير ذلك. ولد سنة 224 هـ، وتوفي سنة 310 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 93)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (14/ 267).

والأسئلة، كما عرفت في بلاد ما وراء النهر وبلاد العجم باسم الواقعات، ويشيع عند المالكية مصطلح النوازل، وعند بقية المذاهب الفتاوي، والأجوبة، والمسائل (¬1). وكادت كلمة نازلة في المغرب الأقصى أن تتلازم مع الفتوى في المشرق، والمسائل في إفريقية (تونس) (¬2). الدراسات السابقة: احتلت كتب الفتاوي والنوازل والمسائل مكانة بارزة لدى الحكام والقضاة والمفتين والفقهاء عامة؛ وذلك لما احتوته من فقهٍ حيٍّ يواكب الحياة، فيلبي احتياجات الخلق إلى الاجتهاد الحق؛ ولذا فإن الحاجة إلى الفتيا في النوازل بمنزلة الضرورة الحتمية المتجددة بتجدد الحوادث والوقائع على مر العصور وكر الدهور. كما أن تلك الكتب تعطي تصورًا عن قيمة النازلة وعلاقتها بغيرها من النوازل التي تستجد؛ ولذا قال صاحب مفتاح السعادة (¬3) عن علم الفتاوي: "علم تروى فيه الأحكام الصادرة عن الفقهاء في الوقائع الجزئية؛ ليسهل الأمر على القاصدين من بعدهم" (¬4)؛ وهذا يفسر كثرة استشهاد المتأخرين من الفقهاء في كتبهم وفتاويهم بما في كتب النوازل والفتاوي للأئمة المتقدمين. ¬

_ (¬1) نظرات في النوازل الفقهية، د. محمد حجي، (ص 30)، المدخل إلى فقه النوازل، د. عبد الناصر أبو البصل، بحث في مجلة أبحاث اليرموك، سلسلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 13 أ، العدد (1)، 1997 م، (ص 123 - 151)، المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل، د. بكر أبو زيد، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1417 هـ (2/ 919). (¬2) نوازل التاريخ والمستقبل، د. عبد الكريم غرايبة، مكتبة الرأي، المؤسسة الصحفية الأردنية، (ص 7). (¬3) أبو الخير، عصام الدين، أحمد بن مصطفى بن خليل، طاش كبرى زاده، مؤرخ تركي الأصل، تأدب وتفقه بأنقرة، ودرس الفقه والحديث، وتولى القضاء سنة 958 هـ، وتوفي سنة 968 هـ. طبقات المفسرين، لأحمد بن محمد الأدنروي، تحقيق: سليمان بن صالح الخزي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط 1، 1417 هـ - 1997 م، (ص 387)، والبدر الطالع، للشوكاني، (1/ 83). (¬4) مفتاح السعادة ومصباح السيادة، لطاش كبرى زاده، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 هـ - 1985 م، (2/ 557 - 558).

أولا: كتب النوازل باعتبار المذاهب الفقهية

وغني عن البيان أن كتب النوازل عبر التاريخ الفقهي قد تنوعت مناهجها، وتباينت مشاربها ومآخذها؛ وذلك لاختلاف دواعي تأليفها وظروف تصنيفها وجمعها. ويمكن تقسيمها باعتبارين: أولًا: باعتبار المذاهب الفقهية. ئانيًا: باعتبار منهج الجمع والتصنيف. أولًا: كتب النوازل باعتبار المذاهب الفقهية: وهذه الكتب قسمان أساسيان، الأول ما يتعلق بالمذاهب الأربعة المتبوعة، والثاني ما يتعلق بالفتاوي الجماعية الصادرة عن المجامع الفقهية، والمؤتمرات العلمية الدولية المعاصرة. المذهب الحنفي: 1 - نوازل السمرقندي: لأبي الليث نصر بن محمد (¬1) (ت: 373 هـ). 2 - الفتاوي الكبرى أو "تجنيس الواقعات": للإمام الصدر حسام الدين عمر بن عبد العزيز (ت: 536 هـ). 3 - فتاوي قاضي خان: لفخر الدين حسن بن منصور الأوزجندي (¬2) (ت: 592 هـ). 4 - الفتاوي الظهيرية: لظهير الدين محمد بن أحمد البخاري (¬3) (ت: 619 هـ)، وهو مخطوط. ¬

_ (¬1) أبو الليث، الملقب بإمام الهدى، نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي، علامة من أئمة الحنفية، ومن الزهاد والمتصوفين، من مصنفاته: النوازل في الفتاوي، وعيون المسائل، وتنبيه الغافلين، وشرح الجامع الصغير، توفي سنة 373 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (16/ 322)، الجواهر المضية في طبقات الحنفية، لمحيي الدين القرشي، (3/ 544). (¬2) فخر الدين، حسن بن منصور بن محمود بن عبد العزيز قاضي خان، الأوزجندي، إمام حنفي من كبار الحنفية، من طبقة المجتهدين في المسائل، من مصنفاته: الفتاوي، وشرح الجامع الصغير، توفي سنة 592 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي (21/ 231)، الجواهر المضية في طبقات الحنفية، لمحيي الدين القرشي، (2/ 93). (¬3) ظهير الدين، البخاري، محمد بن أحمد بن عمر، فقيه، أصولي، قاضٍ، من مصنفاته: الفتاوي الظهيرية، والفوائد الظهيرية في الفقه، توفي سنة 619 هـ. الفوائد البهية في تراجم الحنفية، لأبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي، دار المعرفة، بيروت، (ص 156)، والأعلام، للزركلي، (5/ 320).

المذهب المالكي

5 - فتاوي الوَلْوَالجي: لظهير الدين الولوالجي (¬1) (ت: بعد 540 هـ)، وهو مخطوط. 6 - الفتاوي البزازية: لمحمد بن محمد البزازي (¬2) (ت: 827 هـ). 7 - الفتاوي السراجية: علي بن عثمان الأوشي الفرغاني (¬3) (ت: بعد سنة 569). 8 - فتاوي التمرتاشي: لمحمد بن عبد الله التمرتاشي (¬4) (ت: 1004 هـ). 9 - الفتاوي الزينية: لزين الدين إبراهيم بن نجيم (¬5) (ت: 970 هـ). المذهب المالكي: 1 - أجوبة ابن سحنون: لعبد السلام بن سعيد التنوخي (¬6)، المعروف بسحنون (ت: 240 هـ)، وابنه محمد (ت: 256 هـ)، وهو مخطوط، وإن كان في صحة نسبته شك (¬7). ¬

_ (¬1) أبو الفتح، ظهير الدين، عبد الرشيد بن أبي حنيفة بن عبد الرازق، فقيه حنفي، إمام فاضل، حسن السيرة، جميل الأمر، ولد ومات في وَلْوَالِج ببدخشان، وتفقه ببلخ، من مصنفاته: الفتاوي الولوالجية، توفي بعد سنة 540 هـ. الفوائد البهية، للكنوي، (ص 94)، الأعلام، للزركلي، (3/ 353). (¬2) حافظ الدين، محمد بن محمد بن شهاب بن يوسف الكردري الخوارزمي، الشهير بالبزازي، الفقيه الحنفي، الأصولي، من مصنفاته: المناقب الكردية في سيرة أبي حنيفة، والفتاوي البزازية، والجامع الوجيز، توفي سنة 827 هـ. الفوائد البهية، للكنوي، (ص 187)، الأعلام، للزركلي، (7/ 45). (¬3) أبو محمد، سراج الدين، علي بن عثمان بن محمد بن سليمان، التيمي الأوشي الفرغاني، الفقيه الحنفي، له نصاب الأخبار لتذكرة الأخيار، والفتاوي السراجية، توفي بعد سنة 569 هـ. الأعلام، للزركلي، (4/ 310)، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (7/ 148). (¬4) شمس الدين، محمد بن عبد الله بن أحمد، الخطيب العمري التمرتاشي الغزي الحنفي شيخ الحنفية في عصره، من مصنفاته: تنوير الأبصار، ومنح الغفار، ومسعفة الحكام، توفي سنة 1004 هـ. الأعلام، للزركلي، (6/ 239)، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (10/ 196). (¬5) زين الدين ابن إبراهيم بن محمد الشهير بابن نجيم الحنفي، ولد بالقاهرة، وأخذ عن علمائها، له المصنفات العديدة، من أشهرها: الأشباه والنظائر، والفوائد الزينية، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق، توفي سنة 970 هـ. شذرات الذهب، لابن العماد، (10/ 523)، الأعلام، للزركلي، (3/ 64). (¬6) أبو سعيد، سحنون، عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي، شيخ المالكية، انتهت إليه الرئاسة في العلم بالمغرب، روى المدونة عن ابن القاسم وعلى روايته لها يعتمد أهل القيروان، له مصنف كبير في فنون من العلم، وله كتاب السير، وكتاب التاريخ، ومصنف في الرد على الشافعي والعراقيين، توفي سنة 240 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 156)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (13/ 60). (¬7) نظرات في فقه النوازل، د. محمد حجي، (ص 27).

2 - فتاوي أصبغ: لأصبغ بن خليل (¬1) (ت: 273 هـ). 3 - نوازل أبي عمران الفاسي: لموسى بن عيسى (¬2) (ت: 430 هـ). 4 - فتاوي ابن رشد، أو نوازل ابن رشد، أو أجوبة ابن رشد: لأبي الوليد محمد بن أحمد القرطبي (¬3) (ت: 520 هـ)، جمعها تلميذاه أَبو الحسن ابن الوزان، وأبو مروان ابن مسرة، وقد نشرت محققة (¬4). والكتب السابقة جميعًا تشتمل على فتاوي فقهاء المالكية الأندلسيين والمغارية، وأما الكتب التالية فتشتمل على الفتاوي وما يسمى بـ"نوازل الأحكام"، وهي خاصة بكبار شيوخ الفقه المالكي والمفتين المشاوَرين -بفتح الواو- ولقد بلغ عدد هؤلاء الفقهاء المشاوَرين في قرطبة في أواخر الخلافة خمسة عشر فقيهًا، وفيما يلي طائفة من هذه الكتب عند المالكية: 1 - فصول الأحكام فيما جرى به عمل المفتين والحكام: للباجي (¬5) (ت: 474 هـ). ¬

_ (¬1) أبو القاسم، أصبغ بن خليل، القرطبي، الأندلسي، المالكي، دارت عليه الفتيا بالأندلس خمسين عامًا، أخذ عن سحنون ويحيى بن يحيى وكان لا يدري الأثر، وقد اتهم في النقل، توفي سنة 273 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (13/ 202)، الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، لبرهان الدين إبراهيم بن علي المعروف بابن فرحون المالكي، تحقيق: محمد الأحمدي أبي النور، دار التراث، القاهرة، (1/ 299). (¬2) أبو عمران، الفاسي، موسى بن عيسى بن أبي حاج، المالكي، المقرئ بالسبع، كان من أعلم الناس، جمع حفظ المذهب المالكي إلى أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع المعرفة بالرجال والجرح والتعديل، توفي سنة 430 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (17/ 545)، الديباج المذهب، لابن فرحون، (2/ 337). (¬3) أبو الوليد، محمد بن أحمد بن رشد، القرطبي، المالكي، الجد، قاضي قرطبة ومفتيها، كان من أوعية العلم، نافذ في علم الفرائض والأصول، من أهل الرياسة في العلم، والبراعة في في الفهم، له المصنفات الشهيرة منها: البيان والتحصيل، والمقدمات الممهدات، وغيرهما، توفي سنة 520 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (19/ 501)، شذرات الذهب، لابن العماد، (6/ 102). (¬4) نشرت في بيروت بتحقيق د. المختار التليلي التونسي سنة (1987 م) في ثلاثة أجزاء. (¬5) أبو الوليد، الباجي، سليمان بن خلف بن سعد، كان فقيهًا نظارًا محققًا راوية محدثًا متكلما أصوليًّا فصيحًا حسن التأليف وله تصانيف كثيرة تنبئ عن علم جم غزير، منها: المنتقى في شرح الموطأ، والسراج في علم الحجاج، وكتاب المهذب في اختصار المدونة، توفى سنة 474 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (18/ 536)، الديباج المذهب، لابن فرحون، (1/ 377).

2 - مذاهب الحكام في نوازل الأحكام: للقاضي عياض (¬1) (ت: 544 هـ)، جمعها ولده محمد (¬2)، وطبعت محققة (¬3). 3 - معين الحكام في نوازل القضايا والأحكام: لابن عبد الرفيع التونسي (¬4) (ت: 734 هـ)، وقد طبع محققًا (¬5). 4 - فتاوي الشاطبي: لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي الشاطبي (¬6) (ت: 790 هـ)، وقد طبعت محققة (¬7). 5 - نوازل البرزلي، ويسمى جامع مسائل الأحكام مما نزل بالمفتين والحكام: ¬

_ (¬1) أبو الفضل، القاضي عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض اليحصبي الأندلسي، ثم السبتي المالكي، الإمام العلامة الحافظ شيخ الإسلام، استبحر من العلوم، وجمع وألف، وسارت بتصانيفه الركبان، واشتهر اسمه في الآفاق، أكثرَ من التواليف، ومنها: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، وترتيب المدارك وتقريب المسالك في ذكر فقهاء مذهب مالك، توفي في سنة 544 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي (20/ 213)، الديباج المذهب، لابن فرحون، (2/ 46). (¬2) محمد بن عياض بن موسى بن عياض، يكنى بأبي عبد الله، كان فقيهًا جليلًا، أديبًا، روى عن أبيه، وابن العربي، وابن بشكوال، ولي قضاء غرناطة، له التعريف بالقاضي عياض، توفي 575 هـ. الديباج المذهب، لابن فرحون، (2/ 266)، الأعلام، للزركلي، (6/ 321). (¬3) بتحقيق: د. محمد بن شريفة، ونشرت في بيروت سنة (1990 م). (¬4) أبو إسحاق، إبراهيم بن حسن بن عبد الرفيع التونسي المالكي، كان علامة وقته ونادرة زمانه، من تواليفه: معين الحكام في نوازل القضايا والأحكام، والرد على ابن حزم، توفي سنة 734 هـ. الديباج المذهب، لابن فرحون، (1/ 270)، معجم المؤلفين، لعمر كحالة، (1/ 20). (¬5) طبع محققًا في جزأين ببيروت، بتحقيق: د. محمد بن قاسم بن عياد، مشتملًا على 1795 مسألة، عام (1989 م). (¬6) أبو إسحق، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، أصولي حافظ وإمام من أئمة المالكية، من أشهر مؤلفاته: الموافقات في أصول الفقه، والاعتصام، والمقاصد الشافية في شرح خلاصة الكافية، توفي سنة 790 هـ. شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، لمحمد بن محمد مخلوف، المطبعة السلفية، القاهرة، 1349 هـ، (1/ 231)، الأعلام، للزركلي، (1/ 75). (¬7) طبعت بتحقيق: الأستاذ. محمد أبي الأجفان، في تونس سنة (1989 م).

لأبي القاسم ابن أحمد القيرواني البرزلي (¬1) (ت: 844 هـ)، اختصرها الونشريسي صاحب المعيار واعتمدها كمصدر لكتابه، وطبعت محققة (¬2). 6 - المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي علماء أفريقية والأندلس والمغرب: لأحمد بن يحيى الونشريسي (¬3) (ت: 914 هـ)، وقد طبع محققًا، وكتابه يعد أهم موسوعة في النوازل الفقهية بالمغرب الإسلامي. وتعد فتاوي ابن رشد، ونوازل البرزلي، ومعيار الونشريسي أهم مصادر نقل الفتاوي والنوازل عند المالكية. 7 - المعيار الجديد أو النوازل الجديدة الكبرى: لأبي عيسى محمد المهدي بن محمد الوزاني (¬4) (ت: 1342 هـ). وقد ألف أولًا النوازل الصغرى أو المنح السامية في النوازل الفقهية، رتبها على أبواب الفقه، جمع فيها فتاويه التي اجتمعت لديه حتى العقد الأول من القرن الرابع عشر الهجري، وأضاف إليها فتاوي غيره من معاصريه وشيوخه، وطبعت عام 1412 هـ، بالمغرب في أربعة أجزاء. ثم ألف النوازل الجديدة في أجوبة أهل فاس وغيرهم من البدو والقرى أو المعيار ¬

_ (¬1) أبو القاسم ابن أحمد بن محمد البلوي القيرواني، أحد أئمة المالكية في المغرب، سكن تونس، وانتهت إليه الفتوى، له عدة مؤلفات في القضايا والفتاوي والأحكام، توفي سنة 844 هـ. الأعلام، للزركلي، (5/ 172)، معجم المؤلفين، لعمر كحالة (8/ 94). (¬2) طبعت بتحقيق: الأستاذ. محمد الحبيب الهيلة، في بيروت، سنة (1999 م). (¬3) أبو العباس، أحمد بن يحيى بن محمد الونشريسي التلمساني، فقيه مالكي كبير، أخذ من علماء تلمسان، ثم خرج إلى فاس، وأقام بها إلى أن توفي سنة 914 هـ، من كتبه: إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، والمعيار المعرب. الأعلام، للزركلي، (1/ 269)، شجرة النور، لمحمد بن محمد مخلوف، (1/ 274). (¬4) أبو عيسى، محمد المهدي ابن محمد الوزاني العمراني الحسيني الفاسي، مفتي فاس وفقيهها في عصره، من مؤلفاته: الكواكب النيارة، المعيار الجديد، المنح السامية من النوازل الفقهية، توفي سنة 1342 هـ. الأعلام، للزركلي، (7/ 114)، شجرة النور، لمحمد بن محمد مخلوف، (1/ 435).

المذهب الشافعي

الجديد الجامع المعرب، وذلك بعد مضي عقدين على تأليفه النوازل الصغرى. وقد أضاف إلى ما استجد من فتاويه فتاوي المتقدمين من الأندلسيين والقيروانيين وغيرهم، وذلك من غير تكرار بينه وبين النوازل الصغرى. المذهب الشافعي: 1 - فتاوي ابن الصباغ: لأبي نصر البغدادي (¬1) (ت: 477 هـ). 2 - فتاوي ابن الصلاح: لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري (¬2) (ت: 643 هـ). 3 - فتاوي العز ابن عبد السلام: لعز الدين ابن عبد السلام الشامي ثم المصري (ت: 660 هـ). 4 - فتاوي النووي: لمحيي الدين يحيى بن شرف الحوراني (ت: 676 هـ). 5 - فتاوي السبكي: لتقي الدين علي بن عبد الكافي (¬3) (ت: 756 هـ). 6 - فتاوي ابن حجر العسقلاني: لأحمد بن علي بن حجر (ت: 852 هـ). 7 - فتاوي زكريا الأنصاري: لزكريا بن محمد الأنصاري (¬4) (ت: 926 هـ). ¬

_ (¬1) أبو نصر، عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد ابن الصباغ البغدادي فقيه العراق، كان ورعًا نزيهًا صالحًا زاهدًا فقيهًا أصوليًّا، كملت له شرائط الاجتهاد، من مصنفاته: كتاب الكامل، والشامل، وكفاية السائل، ولد سنة 400 هـ، وتوفي سنة 477 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (18/ 464)، وطبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (5/ 122). (¬2) أبو عمرو، عثمان بن عبد الرحمن بن موسى الكردي الحافظ ابن الصلاح الشهرزوري الشافعي، أحد أئمة المسلمين علمًا، ودينًا، برع في الحديث وعلومه، والفقه وأصوله، من أهم تصانيفه: معرفة أنواع علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح، وأدب الفتوى، توفي بالشام سنة 643 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (23/ 140)، طبفات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (8/ 326). (¬3) تقي الدين، علي بن عبد الكافي بن علي السبكي الشافعي، الإمام الفقيه المحدث الحافظ المفسر الأصولي المتكلم النحوي شيخ الإسلام وقاضي القضاة بالشام، من مصنفاته: الدر النظيم في التفسير، ومختصر طبقات الفقهاء، وغير ذلك، توفي سنة 756 هـ. طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (10/ 139)، الدرر الكامنة، لابن حجر، (3/ 63). (¬4) زكريا بن محمد بن أحمد الأنصاري المصري الشافعي، شيخ الإسلام قاضي القضاة، الفقيه الأصولي الفرضي المقرئ المحدث النحوي المشارك في شتى العلوم، من مصنفاته: شرح المنهج، أسنى المطالب، بلوغ الأرب شرح شذور الذهب، لب الأصول وشرحه غاية الوصول، الدقائق المحكمات، وغير ذلك، توفي سنة 926 هـ. الضوء اللامع، للسخاوي، (3/ 234)، شذرات الذهب، لابن العماد، (10/ 186).

المذهب الحنبلي

8 - الفتاوي الفقهية الكبرى: لابن حجر المكي الهيتمي (¬1) (ت: 972 هـ). المذهب الحنبلي: من أشهر كتب المسائل في المذهب الحنبلي ما يعرف بمسائل أحمد (¬2)، وهي كثيرة جدًّا، وقد طبع منها عدد لا بأس به، وهي لتلامذة الإمام، وتلامذة تلامذته، ومن أشهر كتب الفتاوي والنوازل لدى الحنابلة ما يلي: 1 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، جمع ابن هانئ (¬3) (ت: 275 هـ) مطبوع. 2 - مسائل الإمام أحمد: لأبي داود (¬4) (ت: 275 هـ) مطبوع. 3 - جوابات مسائل ابن شاقلا (¬5): لابن بطة (¬6)، (ت: 387 هـ). مخطوط. ¬

_ (¬1) أبو العباس، شهاب الدين، أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي، السعدي الأنصاري الشافعي، الفقيه، الأصولي، ذو التصانيف الكثيرة، ومنها: تحفة المحتاج، الصواعق المحرقة، كف الرعاع، الزواجر عن اقتراف الكبائر، وغير ذلك، توفي بمكة 974 هـ. شذرات الذهب (10/ 541)، الأعلام، للزركلي، (1/ 234). (¬2) أبو عبد الله، أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني، المروزي ثم البغدادي، أحد الأئمة الأعلام، صاحب المذهب المشهور، إمام أهل السنة والجماعة بلا مدافع، له مصنفات كثيرة، منها: المسند، والأشربة، والزهد، والجرح والتعديل، وغير ذلك، ولد سنة 164 هـ، وتوفي سنة 241 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 91)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (11/ 177). (¬3) أبو يعقوب، إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري، كان أخا دين، ورعًا، خدم الإمام أحمد وهو ابن تسع سنين وكان له به اختصاص، وروى عنه مسائل كثيرة، توفي سنة 275 هـ. طبقات الحنابلة، للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى الفراء، تحقيق: عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، دارة الملك عبد العزيز، الرياض، 1419 هـ - 1999 م (1/ 284)، المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، لبرهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح، تحقيق: عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة الرشد، 1410 هـ - 1990 م، (1/ 241). (¬4) أبو داود السجستاني، سليمان بن الأشعت بن إسحاق، صاحب السنن، وأحد الحفاظ الأثبات، إمام زمانه وهو ممن رحل وطوَّف وصحح وصنَّف، وكان ذا نظر بصير بالاختلاف، حافظًا للمذاهب، ميالًا للدليل، أخذ عن أحمد، وأخذ عنه الترمذي، والنسائي، توفي 275 هـ. طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، (1/ 427)، المقصد الأرشد، لابن مفلح، (1/ 406). (¬5) أبو إسحاق البزار، إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقلا البغدادي، شيخ الحنابلة، كان كثير الرواية، رأسًا في الأصول والفروع، توفي سنة 369 هـ. طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، (3/ 227)، المقصد الأرشد، لابن مفلح، (1/ 216). (¬6) أبو عبد الله، عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي الإمام القدوة، العابد الفقيه المحدث، شيخ =

4 - جوابات ومسائل وردت من الحرم: للقاضي أبي يعلى (¬1)، (ت: 458 هـ)، مخطوط. 5 - الفتاوي: للموفق ابن قدامة (¬2)، (ت: 620 هـ)، مخطوط. 6 - مجموع الفتاوي: لشيخ الإسلام ابن تيمية الحراني، (ت: 728 هـ)، جمع عبد الرحمن ابن قاسم (¬3)، مطبوع. 7 - الفتاوي الأحمدية: ليوسف بن عبد الهادي (¬4)، (ت: 909 هـ)، مخطوط. 8 - الأجوبة النجدية عن الأسئلة النَّجْدية: للسفاريني (¬5)، (ت: 1188 هـ)، مخطوط. ¬

_ = العراق، أخذ عن الخرقي، والآجري، والبغوي، وعنه ابن حامد وأبو بكر القطيعي، له مصنفات كثيرة، منها: الإبانة الكبرى، والإبانة الصغرى، وإبطال الحيل، توفي -رحمه الله- سنة 387 هـ. طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، (3/ 256)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (16/ 529). (¬1) أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء البغدادي الفقيه الأصولي المقرئ، جمع الإمامة والصدق والفقه، شيخ الحنابلة وممهد مذهبهم في الفروع، له مصنفات كثيرة، منها: إبطال التأويلات لأخبار والصفات، وكتاب الروايتين والوجهين، والعدة في أصول الفقه، وغير ذلك كثير، وتوفي سنة 458 هـ. طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، (3/ 361)، والمقصد الأرشد، لابن مفلح، (2/ 395). (¬2) أبو محمد، موفق الدين، عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، فقيه الحنابلة في عصره، الثقة الحجة غزير العلم والفضل، فيه قال ابن الصلاح: ما رأيت مثل الموفق. وله مصنفات كثيرة تشهد بسعة علمه وفضله، منها: المغني، والمقنع، والكافي، ولمعة الاعتقاد، توفي سنة 620 هـ. سير أعلام النبلاء (22/ 166)، وذيل طبقات الحنابلة (4/ 133). (¬3) أبو عبد الله، عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي، الفقيه الحنبلي، من أعيان الحنابلة في نجد، صنف كتاب أصول الأحكام، وحاشية الروض المربع، وجمع فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية، وجمع فتاوي علماء نجد، ولد سنة 1319 هـ، وتوفي سنة 1392 هـ. الأعلام، للزركلي، (3/ 336)، طبقات النسابين، د. بكر بن عبد الله أبو زيد، دار الرشد، الرياض، ط 1، 1407 هـ - 1987 م، (ص 198). (¬4) جمال الدين، يوسف بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي الصالحي الحنبلي، المحدث، الفقيه، النحوي، الصرفي، المشارك في عدة علوم، درس وأفتى وأخذ عنه جمع من الأئمة، له مصنفات كثيرة، منها: الدر النقي في شرح ألفاظ مختصر الخرقي، والتمهيد في الكلام على التوحيد، وزبدة العلوم وغيرها، ولد سنة 840 هـ، وتوفي سنة 909 هـ شذرات الذهب، لابن العماد، (10/ 62)، السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، لمحمد بن عبد الله ابن حميد النجدي، تحقيق: د. بكر أبي زيد ود. عبد الرحمن العثيمين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1416 هـ - 1996 م، (3/ 1165). (¬5) أبو العون، شمس الدين، محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني الحنبلي، فقيه أصولي مفسر زاهد، له مصنفات عديدة وتآليف كثيرة، منها: شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد، وكشف اللثام شرح عمدة الأحكام، ولوامع الأنوار البهية، وغيرها كثير، ولد سنة 1114 هـ، وتوفي سنة 1188 هـ. السحب الوابلة، لابن حميد، (2/ 839)، الأعلام، للزركلي، (6/ 14).

الفتاوي الجماعية

9 - الأجوبة الجلية في الأحكام الحنبلية: للقدومي موسى بن عيسى النابلسي (¬1)، (ت: 1336 هـ)، مطبوع. 10 - الدرر السنية في الفتاوي النجدية: جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم، (ت: 1392 هـ) مطبوع. 11 - فتاوي ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (¬2)، (ت: 1389 هـ)، جمع محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، مطبوع (¬3). 12 - فتاوي الشيخ محمد بن صالح العثيمين، (ت: 1421 هـ)، مطبوع. الفتاوي الجماعية: وهذا اللون من الكتب تمثلها في العصر الحديث، كتب المجامع الفقهية الرسمية، سواء مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، أو التابع لرابطة العالم الإسلامي، أو مجمع البحوث الإسلامية بمصر، أو المجامع غير الرسمية كالمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، أو مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، أو مجلدات فتاوي دور الإفتاء في الدول العربية والإسلامية، وهيئات كبار العلماء، إضافة إلى الفتاوي التخصُّصية في أبواب من النوازل، كفتاوي هيئات الرقابة الشرعية على البنوك الإسلامية في مجال المعاملات والجوانب ¬

_ (¬1) موسى بن عيسى بن عبد الله القدومي النابلسي، فقيه حنبلي، مشارك في الحديث والتفسير، وأصول والعربية، ولد سنة 1265 هـ، ورحل إلى دمشق في طلب العلم وأخذ عن شيوخها، ثم عاد إلى نابلس ولازم التدريس فترة طويلة حتى توفي سنة 1336 هـ. معجم المؤلفين (13/ 44)، والأعلام، للزركلي، (4/ 111). (¬2) محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب الحنبلي، كان إمامًا في العلم والفتيا والقضاء، كما كان المفتي الأول للمملكة العربية السعودية، ولد سنة 1311 هـ، تولى رئاسة القضاء والكثير من المناصب، له مؤلفات علمية ورسائل فقهية، توفي سنة 1389 هـ. الأعلام، للزركلي، (5/ 306)، طبقات النسابين، د. بكر أبو زيد، (ص 197). (¬3) انظر: دراسات في الفقه الإسلامي، د. عبد الوهاب أبو سليمان، د. محمد إبراهيم علي، (ص 78 - 80 - 99 - 100)، المدخل المفصل، لبكر أبي زيد (2/ 919 - 923)، مناهج كتب النوازل الأندلسية والمغربية، د. محمد الحبيب الهيلة، (ص 219 - 223).

ثانيا: كتب النوازل باعتبار منهج الجمع والتصنيف

الاقتصادية المعاصرة، وغير ذلك من الهيئات العلمية والفقهية (¬1). ثانيًا: كتب النوازل باعتبار منهج الجمع والتصنيف: يمكن تقسيم كتب النوازل من حيث منهج جمعها وإعدادها إلى ثلاثة أقسام رئيسة: كتب الفتاوي العامة: وهذه الكتب تتسم بشمولية موضوعاتها، وتنوع مسائلها، وتعدد المفتين فيها، وتنوع مذاهبهم الفقهية، فهي تمثل دواوين كبيرة للنوازل، ومن أمثلتها: ما يصدر عن دور الإفتاء من المجلدات الكبيرة التي تغطي أبواب الفقه جميعًا، ويشترك في تحرير الفتاوي والإجابة عن النوازل والأسئلة عدد كبير من المفتين في سنوات متعاقبة، مثل: ما يصدر عن دار الإفتاء في مصر والسعودية وغيرها، وكذلك ما يجمعه بعض الباحثين من فتاوي العلماء حسب الموضوعات الفقهية من غير تقيد بفقهاء بلد بعينها، سواء أكان الإفتاء جماعيًّا كما هو الحال في المجامع الفقهية المعاصرة (¬2)، أم كانت الفتاوي فردية تصدر باسم أصحابها. وسواء كان مصنفو تلك الكتب الجامعة من أهل الفتوى والاجتهاد الذين كانوا يجمعون إلى فتاويهم فتاوي مَن عاصرهم وسبقهم كما فعل بعض المالكية كالبرزلي والونشريسي، وبعض الحنفية كالكمال ابن الهمام (¬3)، وبعض الشافعية كالسبكي، ¬

_ (¬1) منهج استنباط أحكام النوازل المعاصرة، د. مسفر بن علي القحطاني، (ص 108 - 110)، فقه النوازل، د. محمد الجيزاني، (1/ 92 - 96). (¬2) من تلك المجامع: مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة، وتأسس عام (1381 هـ - 1961 م)، والمجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وتأسس عام (1397 هـ - 1977 م)، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، وتأسس عام (1401 هـ - 1981 م). (¬3) محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود الكمال ابن الهمام السيواسي السكندري الحنفي، كان إمامًا في الأصول والتفسير والفقه والفرائض والحساب والتصوف والنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والمنطق والجدل، فضَّله كثير من شيوخه على أنفسهم، ولد سنة 790 هـ، وكانت وفاته سنة 861 هـ. الضوء اللامع، للسخاوي، (8/ 127)، والبدر الطالع للشوكاني، (2/ 201).

كتب الفتاوي الخاصة

وبعض الحنابلة كعبد الرحمن بن قاسم وغيرهم، أم كانوا من طلبة العلم الذين يقفون عند حدود الجمع والترتيب والفهرسة لفتاوي العلماء، وهذا كثير في العصر الحاضر. كتب الفتاوي الخاصة: وهذه الكتب يلتزم جامعوها بجهة واحدة عند الجمع، كأن يجمع فتاوي المعاملات أو فتاوي المناسك فحسب، وهذه جهة موضوعية، وقد يجمع فتاوي أهل بلد بعينه، كفتاوي الأندلسيين، أو الحجازيين، أو النجديين، وهذه جهة جغرافية، أو فتاوي المالكية أو الحنفية فحسب، فهذه جهة مذهبية، وفي جميع ما سبق وجدت كتب كثيرة في القديم والحديث على حد سواء. كتب الفتاوي الشخصية: وهذه كتب وضعها أصحابها أو جمعها التلامذة أو طلبة العلم لفقيه بعينه أو مفتٍ بخصوصه، وربما شملت هذه الكتب أبواب الفقه بأسرها، وربما اقتصرت على بعض الأبواب، وربما كانت لعلاج نازلة واحدة ودراسة مسألة مفردة، وربما كانت جوابًا لسؤال ورد من شخص بعينه، وهي أكثر من أن تحصى وأوسع من أن تستقصى، وفيها المطبوع والمخطوط. وفي العصر الحديث بدأ لونٌ، جديد من الكتابة في فقه النوازل من جهة تأصيلية نظرية، تُعنى ببيان حقيقته وأهميته، وأصوله، وشرائط الفقيه النوازلي، ومناهج الاستنباط وطرائق التعرف على أحكام النوازل، ونحو ذلك. ومن تلك الدراسات والبحوث المعاصرة ما يلي: 1 - بحث "فقه النوازل، قيمته التشريعية والفكرية"، تأليف: د. الحسن الفيلالي، من منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، بفاس بالمغرب، (1404 هـ). 2 - بحث "منهج معالجة القضايا المعاصرة في ضوء الفقه الإسلامي"، منشور ضمن مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية بالإمارات، العدد الرابع، سنة (1412 هـ)، ص 59 - 69،

وقد عني البحث بذكر شروط المجتهد في النوازل، وأحوال الحكم فيها من حيث وجود نص في الحادثة، أو وجود نظير لها عُلِمَ حكمه، أو عدم وجود شيء من ذلك. 3 - قام الدكتور محمد الروكي بتنسيق جهود مجموعة من الأساتذة الباحثين في ندوة بعنوان: "الاجتهاد الفقهي، أي دور وأي جديد"، ونشرته بالعنوان نفسه كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس - الرباط، (1416 هـ - 1996 م). وتناولت البحوث الاجتهاد الفقهي الحديث، منطلقاته، واتجاهاته، ومناهجه، وأساليبه، ووسائله، مع نماذج تطبيقية في الأحوال الشخصية والمعاملات المالية، ونحو ذلك. 4 - بحث "المدخل إلى فقه النوازل"، تأليف: د. عبد الناصر أبو البصل، منشور ضمن مجلة أبحاث اليرموك، العدد 1 لسنة (1997 م)، من ص 123 إلى ص 151، وقد اشتمل -على وجازته- على تسعة مطالب، تعرِّف بفقه النوازل، وتعدد أنواعها، وتبين حكم التصدي لها، وشروط مفتي النوازل، وأصول بحث النازلة، ونحو ذلك. 5 - بحث "سبل الاستفادة من النوازل والفتاوي والعمل الفقهي"، د. وهبة الزحيلي، نشر دار المكتبي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، (1421 هـ)، وهو بحث قدم للدورة الحادية عشرة لمجمع الفقه الإسلامي المنعقدة بالبحرين في رجب (1419 هـ - 1998 م)، وقد عني بوضع الضوابط التي ينبغي مراعاتها عند النظر في النوازل المعاصرة. 6 - "نظرات في النوازل الفقهية"، د. محمد حجي، وهو من منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، المغرب، (1420 هـ - 1999 م)، ويعرض التطور التاريخي لفقه النوازل ونشأته وعرض عددًا من كتبه، وبيَّن خصائص النوازل الفقهية. 7 - "منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة، دراسة تأصيلية تطبيقية"، وهو رسالة دكتوراه للباحث مسفر بن علي القحطاني، من منشورات دار الأندلس الخضراء، جدة، (1424 هـ - 2003 م)، وقد تناول الباحث في هذا المؤلَّف القيم في بابه تأصيل منهج

استنباط أحكام النوازل المعاصرة، وفصَّل في ضوابط النظر في النوازل، ومناهج العلماء في ذلك، وعقد فصلًا للتطبيقات الفقهية لاستخراج أحكام النوازل المعاصرة. 8 - "فقه المستجدات في باب العبادات"، لطاهر يوسف الصديقي، وهو رسالة ماجستير من منشورات دار النفائس، بعمَّان، الأردن، (1425 هـ - 2005 م)، وقد اعتنى بدراسة مناهج الفقهاء المتقدمين في الاجتهاد في الحوادث والنوازل بشكل عام، وأبواب العبادات بشكل خاص، والعوامل المؤثرة على الاجتهاد الفقهي في هذا العصر، ثم عقب بدراسة مسائل تطبيقية معاصرة في مستجدات العبادات. 9 - فقه النوازل دراسة تأصيلية تطبيقية: للدكتور محمد بن حسين الجيزاني، في أربع مجلدات، تضمن المجلد الأول دراسة تأصيلية في نحو 70 صفحة، ثم احتوى قرارات المجامع الفقهية في النوازل المعاصرة، طبع عام (1426 هـ - 2005 م) من منشورات دار ابن الجوزي بالسعودية. 10 - الضوابط الشرعية لاستنباط الأحكام الفقهية للنوازل المعاصرة: رسالة دكتوراه مقدمة في كلية دار العلوم للباحث: كمال طه مسلم، وقد نوقشت في (1427 هـ - 2006 م)، وقد احتوت جانبًا تأصيليًّا وآخر تطبيقيًّا، اعتمد فيها الباحث على رسالة د. مسفر القحطاني بشكل واضح وإن لم يشر إلى ذلك، وهي رسالة غير مطبوعة. 11 - "المنهج في استنباط أحكام النوازل": رسالة علمية للباحث وائل بن عبد الله الهويريني، مطبوعة بدار الرشد بالمملكة العربية السعودية، عام (1430 هـ - 2009 م)، واقتصرت على الجانب التأصيلي، وبالاعتماد على ما سبق من رسائل. 12 - "الفتيا المعاصرة، دراسة تأصيلية تطبيقية في ضوء السياسة الشرعية"، د. خالد بن عبد الله المزيني، وهي رسالة دكتوراه نوقشت عام (1428 هـ)، وطبعت بدار ابن الجوزي، بالسعودية عام (1430 هـ)، وقد عنيت ببيان أصول الفتيا المعاصرة وأسسها العامة ومناهجها.

المبحث الثاني ثمرة دراسة فقه النوازل وأهميته

المبحث الثاني ثمرة دراسة فقه النوازل وأهميته إن كل فائدة ترجى وكل ثمرة تجنى من دراسة الشريعة والفقه الإسلامي هي ثابتة كذلك لدى دراسة فقه النوازل، وتتبدى تلك الغايات الجليلة من جهات عديدة، وحيثيات متنوعة؛ إلا أنها تعود وترجع إلى جوانب ثلاثة، هي: أولًا: ثمرته بالنسبة للشريعة والفقه الإسلامي. ثانيًا: ثمرته بالنسبة للمجتمع الإسلامي. ثالثًا: ثمرته بالنسبة للفقيه والمجتهد. وفيما يلي تفصيل لهذه الجهات وبيان لتلك الثمرات: المطلب الأول: ثمرته بالنسبة للشريعة والفقه الإسلامي: تجديد الأدلة وتنويعها على إعجاز الشريعة: مع تناهي الأدلة وتعاقب النوازل، وتجدد الحوادث؛ فإن الشريعة التي تفرض الاجتهاد، لا ينضب معين الأحكام فيها على مر العصور، وكر الدهور، وما ذاك إلا لأنها وحي يوحى، قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]، وفي الحديث: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: كيف نزول الوحي وأول ما نزل، (4981)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نيينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته، (152)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

إن الشريعة التي قطب رحاها يدور على جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها -في كل زمان ومكان- هي شريعة معجزة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وإذا كان بعض الفقهاء قد قال: إن الشريعة ما وضعت إلا لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل ودرء المفاسد عنهم (¬1)، فإن منهم من قال بحق: إن الشريعة كلها مصالح، إما درء مفاسد أو جلب مصالح (¬2). إن طرفًا من إعجاز هذه الشريعة ينبع من صلاحيتها لكل زمان ومكان وإنسان، ولا تكون كذلك حتى تكون مبنية على اليسر ورفع الحرج، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. وطرف آخر من إعجازها ينشأ من شمولها لجميع مناحي الحياة، فلا تترك شاذة ولا فاذة من أعمال المكلفين إلا وضبطتها بما يحقق منفعتهم، ويلائم فطرتهم، ويناسب واقعهم، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. ذلك أنها شريعة الله للإنسان، قال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، ثم إن هذه الشريعة على شموليتها وسعة جوانبها وتعدد عطائها في كل ميدان، لا تتعارض أجزاؤها، ولا تتضارب أحكامها، ولا تتنافر مبادؤها؛ فهي التناسق والتكامل والتوازن، والإحكام في الأحكام، وكما أن الكون على اتساعه وتنوع ممالكه ودوران أفلاكه ينتظم ولا يضطرب، فكذا هذه الشريعة في تناسق أحكامها واستقرار بنائها. ¬

_ (¬1) الموافقات، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، ومعه تعليقات الشيخ عبد الله دراز، عناية: محمد عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، (2/ 6). (¬2) قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، لأبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، تحقيق: د. نزيه حماد، د. عثمان ضميرية، دار القلم، دمشق، ط 1، 1421 هـ - 2000 م، (1/ 14).

ودرس النوازل المستجدة وتقرير أحكامها في كل زمان ومكان، بما يحقق مصلحة الإنسان، هو برهان ساطع متجدد على إعجاز التشريع. يقول الرافعي: "وما أشبه القرآن الكريم في تركيب إعجازه وإعجاز تركيبه بصورة كلامية من نظام هذا الكون الذي اكتنفه العلماء من كل جهة وتعاوروه من كل ناحية، وأخلقوا جوانبه بحثًا وتفتيشًا، ثم هو بعدُ لا يزال عندهم على ذلك خلقًا جديدًا ومرامًا بعيدًا وصعبًا شديدًا" (¬1). ومن أوضح صور الإعجاز التشريعي أنه لا تنزل نازلة ولا تجدُّ حادثة إلا ولها حكم يُلتمس في نصوص هذه الشريعة مباشرة، أو تُلحق الحادثة بنظيرتها إلحاقًا، أو تندرج تحت قاعدة فقهية كلية، أو يدرك حكمها بالنظر إلى قانون المصالح وقواعد الاستصلاح، وغير ذلك من موارد الأدلة في الشريعة الإسلامية، ولا يوفق لإقامة هذا البرهان، وإظهار هذا البيان؛ إلا متضلِّعٌ من علوم الشريعة ريَّان. وهذا ما أشار إليه الإمام الجويني (¬2) بقوله: "فلو قال قائلٌ: ما يتوقع وقوعه من الوقائع لا نهاية له، ومآخذ الأحكام متناهية، فكيف يشتمل ما يتناهى على ما لا يتناهى، وهذا إعضال لا يبوء بحمله إلا موفق ريَّانٌ من علوم الشريعة" (¬3). وهذا الإعجاز التشريعي إنما يظهر ويثبت عن طريق الفقه الإسلامي، الذي حقيقته عمل الفقهاء المجتهدين في نصوص الوحيين، إدراكًا للعلل والحكم، واستنباطًا للأحكام، وتخريجًا عليها، ومراعاة للمصالح والأعراف والعادات. ¬

_ (¬1) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، لمصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1425 هـ - 2005 م، (ص 98). (¬2) أبو المعالي، ضياء الدين، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، الجويني الشافعي، إمام الحرمين الأصولي المتكلم، الفقيه أحد الأئمة الأعلام، من تصانيفه: نهاية المطلب، والبرهان في الأصول، ولد سنة 419 هـ، وتوفي سنة 478 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (18/ 468)، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (5/ 165). (¬3) غياث الأمم في التياث الظلم، للإمام أبي المعالي الجويني، تحقيق: د. مصطفى حلمي ود. فؤاد عبد المنعم، دار الدعوة، الإسكندرية، (ص 312).

وإن التصدي اليوم للنوازل الفقهية في مجالات الحياة كافة، وتكييفها تكييفًا فقهيًّا صحيحًا، واستنباط أحكامها لمما يجدد الأدلة على حيوية الفقه الإسلامي الأصيل، ويؤكد على صلاحيته لمواكبة التطورات، والتصدي للمستجدات، ويبرهن مجددًا على أن الشريعة الإسلامية هي شريعة الخلود (¬1). ومن ناحية أخرى فإنه يسهم بشكل ظاهر في كشف عدم موضوعية ما يسمى بالصراع بين الأصالة والمعاصرة في الفقه الإسلامي! فيثبت وجوب اتباع النهج الفقهي الأصيل، ورفض الجمود والتقليد، والتعامل مع المستجدات الفقهية على هذا الأساس. على أن من أرباب المذاهب الفقهية من المعاصرين من تمهر بفقه إمامه، واطلع على أصوله، ووقف على كلام أصحابه، فإذا أفتى في تلك النوازل تخريجًا على نصوص إمامه أو كلام أصحابه فإن في هذا فائدة جديدة لهذه المذاهب التليدة. قطع طريق الاعتماد على القوانين الوضعية: إن النازلة الأخطر والبلاء الأكبر، هو ما حل بديار المسلمين من استبدال الشرع المطهر، وتنحية ما نزل به الروح الأمين على قلب نبينا - صلى الله عليه وسلم - ليكون من المنذرين. يقول محدِّث ديار مصر القاضي الشرعي الشيخ أحمد شاكر (¬2) -رحمه الله-: "إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام -كائنًا من كان- في العمل بها أو الخضوع لها أو ¬

_ (¬1) الاجتهاد الفقهي الحديث، بحث د. وهبة الزحيلي، منشور ضمن كتاب الاجتهاد الفقهي أي دور وأي جديد، تنسيق محمد الروكي، نشر كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 53، ط 1، 1996 م، (ص 25)، فقه المستجدات في العبادات، طاهر الصديقي، (ص 14). (¬2) أبو الأشبال، أحمد بن محمد بن شاكر بن أحمد بن عبد القادر، محدث الديار المصرية، والقاضي الشرعي بها، الفقيه المفسر الأديب، من آل أبي علباء، يرفع نسبه إلى الحسين بن علي -رضي الله عنه-، من آثاره: نظام الطلاق في الإسلام، الشرع واللغة، الباعث الحثيث، توفي سنة 1377 هـ. الأعلام، للزركلي، (1/ 253)، ومعجم المؤلفين، لعمر كحالة، (13/ 368).

المطلب الثاني: ثمرته بالنسبة للمجتمع الإسلامي

إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه" (¬1). ويقول الشيخ محمد الخضر حسين، شيخ الجامع الأزهر -رحمه الله-: "فصل الدولة عن الدين هدم لمعظم الدين، ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين" (¬2). وإن ما ينعق به خصوم الشريعة دعواهم جمودها، وعدم قدرتها على الوفاء بمتطلبات العصر، وضعف استجابتها لمتغيراته، ولقد علم المسلمون أن وفاء الشريعة بمصالح العباد ضرورة عقدية، وبدهية إيمانية، ومسألة واقعية، والقول بغير هذا طعن فيمن شرعها سبحانه وتعالى، واجتراء على من بلَّغها - صلى الله عليه وسلم - وكفى بذلك إثمًا مبينًا. ومعلوم أنه لا يتأتى لأي تشريع كان إلهيًّا أو وضعيًّا أن يبقى معمولًا به نافذ القول؛ إلا بالاجتهاد الذي تمليه ضرورات الواقع وتطورات الحياة. وعلى هذا فإن درس النوازل وبحثها، واستنباط أحكامها يقطع ذريعة دهاقنة القوانين الوضعية، ويغلق باب الاجتراء على مقام الشريعة، ويقيم البرهان بصورة عملية على حيوية الفقه الإسلامي وتجدد عطائه في جميع العصور، ولا شك أن في هذا العمل إلزامًا للحجة، وقطعًا للدعاوي، وتفويتًا للفرصة التي ينتهزها العلمانيون للنيل من الشريعة الإسلامية الغراء. المطلب الثاني: ثمرته بالنسبة للمجتمع الإسلامي: تقوية الأمة وتعميق الإيمان: تعاني مجتمعاتنا الإسلامية اليوم من حالة من الهزيمة النفسية، ويتعرض كثير من أبناء الأمة لحملات تشكيك منظمة، تهز كيانهم الفكري والثقافي، عِلاوة على انبهار بحضارة مادية زائفة، وتبعية شبه مطلقة، حتى بات الكثير من أبناء الأمة يتحرج ويجد غضاضة في نفسه من تطبيق تعاليم دينه أو إظهار شعائر عبادته وعبوديته لله تعالى. ¬

_ (¬1) عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير، للشيخ أحمد محمد شاكر، دار الوفاء، المنصورة، ط 2، 1426 هـ - 2005 م، (1/ 697). (¬2) تحكيم الشريعة ودعاوى الخصوم، د. صلاح الصاوي، دار الإعلام، ط 1، 1414 هـ - 1994 م، (ص 13).

ولا شك أن العناية بمتغيرات العصر، وملاحقة تطوراته، وإبداء الرأي الشرعي في حديث مخترعاته، وجديد تقنياته -لمما يسهم في إعادة الثقة إلى نفوس متذبذبة، وتقوية الإيمان في قلوب ضعيفة، وزيادة للإيمان في قلوب واثقة. إن الجامعات الإسلامية، ومراكز البحوث، والمجامع الفقهية، ودور الإفتاء في العالم الإسلامي رصيد هائل، وطاقة ضخمة، وهي تملك من البحوث والدراسات العلمية الجادة في مختلف المجالات، والكفاءات النادرة المتخصصة في الجوانب الشرعية والواقعية كافة، فجميع هذه المؤسسات مدعوة إلى العناية بقضايا النوازل، وإصدار بحوثها حولها؛ ومن ثم الإسهام بشكل مباشر في تقوية المجتمع المسلم من خلال العناية بنوازله المعاصرة، وهذه معاصَرة مطلوبة في كل ميدان، فلا يخلو باب من أبواب الفقه غالبًا إلا ومنه مسائل تحتاج إلى اجتهاد أو تجديد لا يكاد المتأمل يستثني من تلك الأبواب بابًا، كالطهارة (¬1) مثلًا أو الصلاة (¬2)، أو الإرث (¬3) وغير ذلك. وعليه فلا يستغني مجتمع قوي، ولا أمة مرهوبة، تنبع إرادتها من ذاتها عن التجديد والاجتهاد في كل ميدان، ويلاحظ بشكل جلي أن الفترة الذهبية للأمة الإسلامية، والازدهار الحضاري المتنامي في سالف عهدها كان متواكبًا معه ذلك الإنتاج الفقهي الثري، والذي قدمه الأئمة المجتهدون، تأصيلًا وتطبيقًا. ويمكن القول بأن فقه النوازل لا يزدهر إلا في المجتمعات المتحضرة، حيث تزداد قيمة العمل، ولا يخشى أحد من إبداء الرأي، ومن جهة أخرى فإن تلك المجتمعات تشهد غالبًا تحولات اجتماعية كبيرة من شأنها أن توجِد نوازل جديدة في مجالات الحياة ¬

_ (¬1) من النوازل فيها: تطهير الثياب المتنجسة بالغسيل الجاف، أو ما يسمى بـ Dry Clean. (¬2) من النوازل فيها: أوقات الصلاة في القطبين، وفي المركبات الفضائية. (¬3) من النوازل فيها: بم يحكم في إرث الحمل، إذا أفادت الأشعة التلفزيونية بعدده أو جنسه.

كالتجارة والصناعة وفي الأعراف الاجتماعية والتقاليد. ولعل الاجتهاد في العصر الحاضر ألزم من عصور مضت؛ وذلك لكثرة النوازل، وتعقُّد المسائل، وتطور الحياة بشكل سريع، وللبعد عن أجواء الانضباط بالشريعة، وقيام تحدي الأنظمة الوضعية. سد حاجة المسلمين لمعرفة حكم الله في النوازل: إن عناية الفقيه المجتهد مصروفة بلا شك إلى إدراك الحكم الشرعي لأفعال المكلفين، سواء تعلقت هذه الأفعال بعبادات محضة كالصلاة والحج، أم تعلقت بالعقود والمعاوضات أو النكاح والطلاق، أو ما له تعلُّق بالسياسة الشرعية والقضاء. فمن الطبيعي إذن أن يلجأ المسلمون إلى علمائهم المفتين لاستجلاء أحكام الدين في كل ما يتعلق بالحياة وأفعال الأحياء، وهذه الأحكام قد تختلف باختلاف القيم الاجتماعية السائدة والأعراف، وفقيه النوازل يحتاج إلى إدراك هذه المتغيرات جميعًا، حتى يكون لسان صدق يعبر عن قدرة الفقه الإسلامي على مواكبة هذه المتغيرات في الحياة الاجتماعية، فمجتمعات الحضارة المتقدمة، تختلف -ولا بد- عن مجتمعات البداوة، وهو مطالب بأن يراعي ظروف الزمان والمكان في كل حال. وأما تلك النوازل من كل وجه، والمستجدة مطلقًا، فليس للمسلمين بد من أن يفيئوا إلى فقهاء النوازل المجتهدين ليصدروا عن قولهم ويأخذوا بحكمهم؛ استجابة لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. وكثير من أبناء المسلمين تشتد حاجتهم اليوم -وهم يدرسون في تخصصات علمية متعددة، كالطب والهندسة والاقتصاد والسياسة والزراعة وغير ذلك- إلى بيان أحكام ما نزل واستجد مما له تعلق بدراستهم من جهة، وواقع الحياة من جهة أخرى؛ وفي هذا عصمة لهم من التناقض أو الانفصام بين العلم الشرعي والتجريبي.

المطلب الثالث: ثمرته بالنسبة للفقيه المجتهد

علاوة على أن عدم العناية بهذه القضايا، وإطلاق أحكام من غير بحث وتروٍّ ربما أوقع الناس في حيرة واضطراب، ولا سيما ما يتعلق بالمسائل الطبية المستجدة، والقضايا الاقتصادية المعاصرة، والنوازل السياسية المعقدة، والعناية بهذا الفقه يضبط الأحكام ويجلِّيها، ويقرِّب وجهات النظر، ويضيِّق هوَّة الخلاف، وفي هذا سد لباب الطعن والافتراء من ناحية، وباب اللجوء إلى غير الشريعة من ناحية أخرى. المطلب الثالث: ثمرته بالنسبة للفقيه المجتهد: 1 - إذا كان مقصود المسلم من الطاعات وأعمال البر هو مرضاة الله وتحصيل الثواب، فلا شك أن الاشتغال بالشرعيات في الجملة ميدان رحيب لكسب الحسنات وتحصيل الخيرات، والمشتغل بالنوازل الفقهية درسًا وبحثًا من أعلى العلماء رتبة، وأجلِّهم قدرًا، وأكثرهم أجرًا. ففي الحديث: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" (¬1)، فإن عني هذا الفقيه المجتهد -بعد بحث النازلة ودرسها والإفتاء فيها- بالتعليم فله أجر نشر العلم، وهذه درجات من الثواب، بعضها فوق بعض. 2 - إن الاشتغال ببحث النوازل ودراسة المسائل المستجدة يدور حكمه بين فرض العين وفرض الكفاية، والقيام بهذا الفرض العيني أو الكفائي أداء للأمانة التي حمَّلها الله تعالى أهل العلم فقد أخذ تعالى الميثاق على العلماء ليبينوا الأحكام الشرعية، ولا يكتموها، والتكليف بهذه الأمانة منحصر فيهم، لقيام أهليتهم، واكتمال آلتهم الشرعية لاستنباط أحكام النوازل الفقهية، فكان لزامًا أن يتصدى ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الاعتصام بالسنة، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، (7352)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، (1716)، من حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه-.

المتأهلون من الفقهاء، والمجتهدون من العلماء لهذا الواجب، إبراءً للذمة، وطلبًا للمعذرة عند الله، وقيامًا بحق قوله تعالى: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122]. 3 - ومن ثمرات الاشتغال بفقه النوازل بالنسبة للفقيه المجتهد تحصيل الدُّربة على تخريج الأحكام؛ وذلك لأن تلك المستجدات المعاصرة غير منصوص على حكمها، فلا سبيل لاستنباط الحكم إلا بالتخريج على ما يشابهها من وقائع، وكما لا يكفي العلم بالقوانين الرياضية دون التدريب عليها لحلِّ مسائلها، وفك غوامضها، فكذلك لا يكفي العلم بالقواعد الأصولية والفقهية دون التدرب على تطبيقها، واستعمالها في إدراك الأحكام الشرعية، وشحذ الذهن، وتقوية الملكة الفقهية، وقد عني أبو حنفية -رحمه الله- بتدريب خواص تلاميذه على هذا المنهج بطرح المسائل عليهم، ومناقشة الأحكام معهم، وتصحيح الصحيح، وتزييف الزائف، كما عرف ذلك عن المالكية في القضاة المشاوَرين، وهم العلماء الذين يحضرون مع القاضي في مجلسه ليستشيرهم القاضي شفاهة أو كتابة في المسائل التي ينظرها بين الخصوم، حتى بلغت عدَّة المشاوَرين في قرطبة خمسة عشر فقيهًا (¬1). ¬

_ (¬1) منهج معالجة القضايا المعاصرة في ضوء الفقه الإسلامي، بحث في مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية، دولة الإمارات، د. محمد رواس قلعه جي، العدد الخامس 1413 هـ، (ص 62)، نظرات في النوازل الفقهية، د. محمد حجي، (ص 33، 34).

المبحث الثالث مفهوم نوازل الأقليات

المبحث الثالث مفهوم نوازل الأقليات المطلب الأول: تعريف الأقليات المسلمة: الأقليات لغةً: جمع أَقَلِّيَّة، بفتح القاف، وتشديد اللام المكسورة، والياء المشددة المفتوحة، من القِلَّةَ، وهي ضد الكثرة، وأقَلَّ أي: أتى بالقليل، أو جعله قليلًا (¬1)، والأقلية خلاف الأكثرية (¬2). وقال عمرو بن كلثوم يفاخر بكثرة قومه: مَلأَنْا الْبَرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّا ... وماء الْبَحْرِ نَمْلَؤُهُ سَفِيْنَا (¬3) وقال السَّمَوْءَلُ يعتذر عن قلَّة قومه: تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَلِيْلٌ عَدِيْدُنَاْ ... فَقُلْتُ لَهَا: إِنَّ الْكِرَامَ قَلِيْلُ (¬4) الأقليات شرعًا: لقد ورد لفظ القلة في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، واستعمل كثيرًا بمعناه اللغوي الذي يدور حول القلَّة العددية في مقابل الكثرة العددية أيضًا، ولكن دون أبعاد معنوية أخرى، فأحيانًا يحدثنا القرآن عن الكثرة في سياق التذكير بالنعمة، وإظهار الفضل والمنة، كما قال ¬

_ (¬1) لسان العرب، لابن منظور، (11/ 287)، ترتيب القاموس المحيط، الطاهر أحمد الزاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1399 هـ - 1979 م، (3/ 681). (¬2) المعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية، دار الدعوة، القاهرة، (2/ 756). (¬3) شرح المعلقات السبع، لأبي عبد الله الحسين بن أحمد الزوزني، الدار العالية، 1993 م، (ص 127). (¬4) شرح ديوان الحماسة، لأبي زكريا يحيى بن علي التبريزي الشهير بالخطيب، عالم الكتب، بيروت، (1/ 56).

الأقليات اصطلاحا

تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]، وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} [الأنفال: 26]. وغالبًا ما ترتبط الكثرة في القرآن الكريم بقلَّة الإيمان والعلم، كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187]، وقال سبحانه: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243]، وقال جل وعلا: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49]، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 11]، وقال سبحانه: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 78]. والقلَّة كثيرًا ما ترتبط بالصفات الإيجابية، كما قال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]، وقال سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، وقال سبحانه: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]. فالأكثرية والأقلية مصطلحان يستخدمان بمعنى الكثرة العددية والقلة العددية، فقط لا غير، دونما أية ظلال مفهومية لصيقة بالكثرة أو القلة، وإنما العبرة بالمعايير التي تجتمع عليها وتؤمن بها وتنتمي إليها الأكثريات والأقليات، فالمدح والذم، والإيجاب والسلب، والقبول والرفض؛ إنما هو للمعايير والمكونات والهويات والمواقف ولا أثر في ذلك للكثرة أو القلة في الأعداد (¬1). الأقليات اصطلاحًا: بعد البحث فإننا لا نجد لمصطلح الأقليات بهذا النص وجودًا في كتب الفقهاء المذهبية ¬

_ (¬1) الإسلام والأقليات الماضي والحاضر والمستقبل، د. محمد عمارة، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط 1، 1423 هـ - 2003 م، (ص 8 - 9).

وقد وردت عدة تعريفات لهذا المصطلح، منها

أو المقارنة، أو شروح آيات وأحاديث الأحكام؛ مما يمكن معه التأكيد على أن هذا المصطلح من المصطلحات الوافدة إلى واقعنا الثقافي والاجتماعي والسياسي، فهو منقول إلينا من ثقافة غير ثقافتنا، وعن حضارة غير حضارتنا؛ ولذا فإنه يتعين على من يريد أن يتعامل به أن يقف على معناه لديهم، وعلى الظلال الثقافية والاجتماعية الناشئة في بيئتهم، بل والسياسية أيضًا! وقد يعرَّف مصطلح الأقليات (Minorities) في المفهوم الغربي الوافد مرتبطًا بالهوية الثقافية، حيث تعتبر الأقلية ذات هوية ثقافية مغايرة لهوية المجتمع الثقافية الذي تعيش فيه، ومن ذلك: استعمالهم لمصطلح الأقليات في التعبير عن الأفراد الذين يعتبرون أنفسهم أو يعتبرهم الآخرون مشتركين في بعض السمات والخصائص التي تميزهم عن التجمعات الأخرى، في مجتمع يستطيعون في إطاره تطوير سلوكهم الثقافي الخاص. وربما حمل هذا المصطلح أبعادًا سياسية بما يوحي بأنه مصطلح سياسي، وإن ظهرت معه بعض الأبعاد الدينية أو الاجتماعية (¬1). وقد وردت عدة تعريفات لهذا المصطلح، منها: 1 - الأقلية: مجموعة من سكان قطر أو إقليم أو دولة ما تخالف الأغلبية في الانتماء العرقي أو اللغوي أو الديني، دون أن يعني ذلك بالضرورة موقفًا سياسيًّا وطبقيًّا متميزًا (¬2). 2 - وهي في العرف الدولي مئات من رعايا دولة من الدول تنتمي من حيث الجنس أو اللغة أو الدين إلى غير ما تنتمي إليه أغلبية رعاياها (¬3). 3 - وعرفها بعض المؤلفين بأنها جماعة من السكان من شعب معين، عددهم أقل من ¬

_ (¬1) الأحكام السياسية للأقليات المسلمة في الفقه الإسلامي، سليمان محمد توبولياك، دار النفائس، دار البيارق، عمَّان، الأردن، ط 1، 1418 هـ -1997 م، (ص 27). (¬2) موسوعة السياسة، د. عبد الوهاب الكيالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1، (1/ 244). (¬3) القاموس السياسي، لأحمد عطية الله، دار النهضة العربية، القاهرة، ط 2، 1968 م، (ص 96).

الخلفية التاريخية لهذا المصطلح

بقية السكان، لهم ثقافتهم ولغتهم ودينهم، ويطالبون بالمحافظة على شخصيتهم وثقافتهم على أساس نظام معين (¬1). 4 - مجموعة قومية أو إثنية أو دينية أو لغوية تختلف عن المجموعات الأخرى الموجودة داخل دولة ذات سيادة (¬2). من هذه التعريفات نلاحظ أن الأقلية هي مجموعة من سكان دولة أو إقليم أو قطر ما يختلفون عن غالبية سكان تلك الدولة بخاصية من الخصائص السابقة، إما في العرق، أو في الثقافة، أو في الدين، ويحاولون بكل الإمكانات أن يحافظوا على هذه الخصائص لكي لا تذوب في خصائص الأغلبية. الخلفية التاريخية لهذا المصطلح: كان للحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت أثر في ظهور بنود في المعاهدات الدولية، تنص على حماية حقوق كل طائفة لا تمثل الأغلبية في الدولة التي تقيم فيها. وفي المؤتمر الذي انعقد بباريس (1856 م) في أعقاب حرب القرم، تضمنت المعاهدات التراتيب الواجب اتخاذها لحماية المسيحين في تركيا. ثم إنه في أعقاب الحرب العالمية الأولى فرضت معاهدة فرساي تقسيمًا وتحديدًا جديدًا لخارطة كثير من الدول، مما تولد عنه وجود أقليات داخل الحدود المفروضة بقوة تلكم المعاهدة. لقد حاولت (عصبة الأمم) أن تضع نظامًا أساسيًّا يهدف لحماية الأقليات، ويحفظ هويتهم الخاصة دون أن يؤثِّر ذلك على انتمائهم للدولة التي يقيمون داخل حدودها. ولكن هذا النظام لم تكن له الفاعلية المرجوة منه، واغتيل أثره تبعًا لعجز عصبة الأمم عن تنفيذ قراراتها. ¬

_ (¬1) معجم العلوم السياسية الميسر، لأحمد سويلم العمري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985 م، (ص 28). (¬2) نحو فقه جديد للأقليات، د. جمال الدين عطية، دار السلام، القاهرة، ط 2، 1428 هـ - 2007 م، (ص 7 - 8).

ثم إنه بعد الحرب العالمية الثانية، عاودت حقوق الأقليات للظهور ولفت الأنظار إليها في منظمة الأمم المتحدة، باعتبار أنها تابعة لحقوق الإنسان بصفة عامة. فاعتمدت حقوق الأقليات على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة (1948 م)، كما اعتمدت على القرارات الصادرة من اللجنة الفرعية لمقاومة الإجراءات التمييزية والقيام على حماية الأقليات، هذه اللجنة التي تأسست (1947 م) داخل هياكل لجنة حقوق الإنسان. لقد كان لقراراتها أثر محمود على النطاق العالمي، فاستلهمتها بعض الدول فيما يخص تعاملها مع الأقليات، وأمكن بفضل اعتمادها حل بعض المشاكل التي ظهرت داخل حدودها. ولكن تلكم القرارت تبدو غير كافية؛ لأنها لم تُتْبع بآلية تفرض احترامها وتنفيذها. كما أنه عند التطبيق يلاحظ أن الإدانات التي تدين بها الأمم المتحدة دولة من الدول لعدم احترامها لحقوق الأقليات تكون مرتبطة في كثير من الأحوال بخلفية سياسية ومصالح، وهذا ما أضعف تأثيرها لدى الرأي العام. ثم إن الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان سار خطوة إلى الأمام؛ وذلك لتضمنه تمكين الأفراد المنتسبين للأقليات داخل أوطانهم الأوروبية إذا انتهكت حقوقهم، بعد القيام بالإجراءات القانونية في أوطانهم، من رفع قضاياهم إلى المجلس الأوروبي لينصفهم، ويحمي هويتهم حماية ينقذها من مخالب التذويب. ولكن هذه التنظيمات داخل المجلس الأوروبي متوقفة على إجراءات معقدة ومكلفة مما يحد من فاعليتها. هذه صورة مختصرة عن تطور مبدأ حقوق الأقليات في القرنين الأخيرين. ويتجلى من تتبع هذا الواقع أنه يتجاذبه طرفان: أولهما: قيام رجال مؤمنين بالكرامة الإنسانية يبرزون مقتضياتها ويدافعون عنها ويشرحون تفصيلاتها، ويقدمون للمجتمع الدولي في مؤسساته الصورة المثلى التي ينبغي أن تكون عليها العلاقات البشرية، ومعاملة الإنسان كإنسان من السلطة التي تحكم المتساكنين في الوطن الواحد.

وثانيهما: قوى متسلطة لا يهمها إلا بسط سيطرتها على تلكم الأقليات، أو استخدام تلكم المبادئ لأغراض سياسية تمكِّن لهيمنتها المتغطرسة على بعض الدول لابتزازها، وبالتالي التدخل في شئونها الداخلية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الأقليات الشاذة المخرِّبة للقيم وللمبادئ العليا للإنسانية تحاول اليوم أن تعتمد هذه المبادئ الرفيعة لحقوق الأقليات لتبرر انحرافها. فقد أخذت مثلًا جمعيات الشاذِّين جنسيًّا من حقوق الأقليات غطاءً لفسادها، وتحصنت بها كقوة تظهر به في العلن مطالبة بأن يكون لها كيانها المعترف به اجتماعيًّا وقانونيًّا. وهكذا تتدمر البشرية كلما حلت الرابطة التي تشدها إلى الحق (الإيمان) ويتعرض الخير إلى انتكاسة ومسخ فينقلب شرًّا. ومع الواقع المتسلط تقوم أجهزة الإعلام بضجة كبرى منوِّهة بحقوق الأقليات، وتبالغ في تشويه سمعة من ينتهكها من الدول الضعيفة في ميزان القوى الدولية، فتعد الرأي العام العالمي للانحياز إلى ما ترغب القوى العظمى في تحقيقه من غايات تسلطية بناء على تلكم الانتهاكات المقيتة فعلًا، ولكنها تخرس عن كشف الانتهاكات التي تقوم بها الدول القوية على الأقليات داخل حدودها. وإن ما تقوم به إسرائيل اليوم من تمييز بين سكان فلسطين من اليهود من جهة، ومن السكان الأصليين: المسيحيين والمسلمين من جهة أخرى، واضطهاد غير اليهودي، والاعتداءات المتكررة على حقوقهم، واعتبارهم مواطنين من الدرجة المنحطة المنبوذة في مرتبة دون اليهود الشرقيين والفلاشا؛ لأنهم أقلية داخل المجتمع الذي هوَّدته بالألاعيب السياسية، ليكشف عن وجه بشع يتولد عنه -حتمًا- الكراهية والحقد، وما يتبعها من اضطراب الأمن والقضاء على السلام العالمي (¬1). ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي، الدورة السادسة عشرة، العدد السادس عشر، الجزء الرابع، 1426 هـ - 2005 م، ط 1، 1428 هـ - 2007 م، (ص 384 - 387).

ويعلل بعض الباحثين ظهور هذا المصطلح في الشرق في هذا القرن ببعض الأسباب، منها: 1 - وجود التقسيمات الجغرافية التي فُرضت على بني البشر؛ إذ تعيش كل طائفة منهم في بقعة جغرافية محددة حيث لا يستطيع أي فرد أن ينتقل من البقعة التي يعيش فيها إلى بقعة أخرى إلا إذا سمحت له الدولة الثانية بذلك كأن تمنحه الجنسية ليصبح أحد مواطنيها، تجري عليه الحقوق والواجبات التي تجري على سكان البلد الأصليين. 2 - فقدان كيان العدالة الممثل في الدولة الإسلامية، حيث يجب عليها أن تقيمه وتحافظ عليه داخل حدودها وخارجها وتمنع الظلم بأشكاله. ولما ضعفت الدولة الإسلامية، وفقدت نفوذها بدأ هذا المصطلح في الظهور؛ مما يؤكد القول بأن مصطلح الأقلية ليس مصطلحًا إسلاميًّا؛ وإنما هو مصطلح سياسي جديد بدأ ظهوره واستعماله بشكل كبير في بداية العهد الاستعماري الحديث (¬1). وأيًّا ما كان الأمر فقد استقرت دلالة هذا المصطلح في العصر الحديث على مجموع أمرين معًا، هما: القلة العددية لمجموعة ما تعيش في مجتمع أوسع، والتميز دون سائر ذلك المجتمع بخصوصيات أصيلة، وبغضِّ النظر عن اعتبارات أخرى. ولقد وجد من الباحثين من يحاول أن يضيف إلى معنى هذا المصطلح ومغزاه أمورًا أخرى، كأن يشترط في هذه الأقلية أن تكون منظمة بشكل ما، أو أنها تعامل معاملة خاصة، أو أنها تتعرض للتذويب الثقافي، ونحو ذلك. ومن أمثلة هذا المنحى في تعريف الأقلية: هي مجموعة بشرية تعيش بين مجموعة بشرية أكثر عددًا، وتختلف عنها في خاصية من الخاصيات تصبح نتيجتها أن تعامل معاملة مختلفة عن معاملة الأكثرية (¬2). ¬

_ (¬1) الأحكام السياسية للأقليات المسلمة، لسليمان توبولياك، (ص 27 - 28). (¬2) الأقليات الإسلامية في العالم اليوم، د. علي الكتاني، مكتبة المنار، مكة المكرمة، ط 1، 1988 م، (ص 6).

وإذا كنا بصدد وضع تعريف اصطلاحي للأقليات عند فقهاء المسلمين في العصر الحديث، فإننا يتعين علينا أن ننطلق من الإسلام ذاته، وموقفه من الآخر، وهذا الموقف لا يقوم على نفي الآخر أو ظلمه أو قهره. فالبشرية كلها قد خلقها الله تعالى من نفس واحدة، ثم شاء لها التنوع والاختلاف، إلى ذكران وإناث، وشعوب وقبائل، وألسنة ولغات وقوميات، وألوان وأجناس، ومناهج وثقافات وحضارات، وأعراف وتقاليد وعادات، في إطار جامعٍ هو الإنسانية الواحدة، ونفس المنهاج، قد حكم الرؤية الإسلامية في النظر إلى الأمة ورعية الدولة، فجامع الأمة هو الرابط الذي يظلل التنوع والاختلاف في الشعوب والقبائل، وفي الألسنة واللغات والقوميات، وفي الطبقات الاجتماعية، وفي الأقاليم والأوطان، وفي العادات والتقاليد والأعراف -أي: الثقافات الفرعية- كل هذا التنوع الذي هو سنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل؛ يعيش الناس جميعًا في ظلال جوامع الأمة الواحدة، والحضارة الواحدة، وفي إطار دار الإسلام، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]، {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: 48] أي: ملة واحدة {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48]، {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]. فكل هذه الأنواع من التمايزات هي القاعدة المضطردة، والإعمال لسنة الله تعالى في كل عوالم الخلق، ومن ثم فلا شبهة لوجود أية ظلال سلبية تنشأ بسبب أي تنوع أو اختلاف من هذه التمايزات، وبصرف النظر عن الأعداد التي ترتبط بأي لون من ألوان هذا الاختلاف، فهذه التمايزات إما أنها مؤسسة على صفات لصيقة، هي من صنع الله،

أو على خيارات إنسانية؛ التعددية فيها سنة من سنن الله (¬1). فلا مجال في الإسلام إذن لوجود أقلية مضطهدة أو مسلوبة الحق في الحياة الكريمة في ظل وجود الأكثرية المسلمة أو الأمة المسلمة أو الدولة المسلمة؛ بل جاء الإسلام -حين جاء- ليقضي على مفاهيم التسلط والسيطرة التي سادت بين المجتمعات القديمة، فالرومان يحتكرون الشرف والسيادة للجنس الروماني، فلا يحق لرعاياهم أن يحكموا بالقانون الروماني، ولا يحق لهم أن يدينوا إلا بدين السادة الرومان، سواء كان الدين وثنيًّا أم كان نصرانيًّا، ولم تكن اليهودية التلمودية عن هذا المسلك ببعيد، حيث صبت جام الغضب على المسيح عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم -، وعلى حوارييه والذين آمنوا به من بعد واتبعوه. أما الإسلام فقد جاء ليرفع شعار {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وليرعى القلَّة غير المسلمة من أهل الذمة في البلاد المفتوحة، ويحفظ لهم حقوقهم، ويصون لهم حرياتهم. وعلى هذا فلا ينبغي أن يحمَّل مصطلح الأقلية في الفكر والاصطلاح الإسلامي أي معنى من معاني العنصرية أو القهر والاضطهاد للأقلية في المجتمع أو الدولة الإسلامية. أما مصطلح الأقليات المسلمة، فإنه يعني: كل مجموعة مسلمة تعيش بين مجموعة أخرى لا تدين بالإسلام، ولما كان شأن غير السلمين إذا كثروا وسادوا أن يتسلطوا على المسلمين كما وقع ويقع، وكان شأن الأقليات أن تتضام وتتلاحم فيما بينها؛ فقد ذهب بعض الباحثين إلى تعريف الأقليات المسلمة بأنها: كل مجموعة بشرية تعيش بين مجموعة أكبر منها، وتختلف عنها في كونها تنتمي إلى الإسلام، وتحاول بكل جهدها الحفاظ عليه (¬2). وقد ذهب بعض الباحثين إلى اعتبار ضابط المعيار العددي فحسب لتحديد ما يطلق عليه أقلية إسلامية؛ إذ تعتبر الدول التي يزيد عدد المسلمين فيها عن 50 % من ¬

_ (¬1) الإسلام والأقليات الماضي والحاضر والمستقبل، د. محمد عمارة، (ص 9، 10). (¬2) الأقليات الإسلامية في العالم اليوم، د. علي الكتاني، (ص 6).

السكان دولة إسلامية، فإن قلت النسبة عن ذلك كان المسلمون أقلية. إلا أن هذا المعيار قابل للمناقشة، حيث تعتبر أوغندا والجابون من الدول الإسلامية، وهما عضوان بمنظمة المؤتمر الإسلامي، على أن نسبة المسلمين لا تبلغ 50 %، وربما بلغت في بعض البلاد هذه النسبة إلى 50 % أو زيادة، ومع هذا ينظر إلى المسلمين في تلك البلاد على أنهم أقلية حيث لا وصول لهم إلى الحكم أو المناصب القيادية (¬1). وبالجملة: فإن المعيار العددي هو معيار أغلبي وإن لم يكن معيارًا كليًّا، ويبعد أن يكون المسلمون أقلية عددية في دولة معاصرةٍ اليوم، ثم يحكمون غيرهم، فضلًا عن أن يحكموا -والحال هذه- بالإسلام وبشريعة القرآن. وأخيرًا فإن مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي قد أصدر قرارًا بشأن رعاية الأقليات المسلمة جاء فيه "ينبغي استبعاد تسمية الوجود خارج العالم الإسلامي بـ (الأقليات) أو (الجاليات)؛ لأن تلك التسميات مصطلحات قانونية لا تعبِّر عن حقيقة الوجود الإسلامي الذي يتصف بالشمولية والأصالة والاستقرار والتعايش مع المجتمعات الأخرى، فإن التسميات المناسبة هي مثل: المسلمون في الغرب، أو المسلمون خارج العالم الإسلامي" (¬2). وما صدر عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي موافق لما صدر عن الدورة العاشرة لمؤتمر القمة الإسلامي، والذي انعقد بماليزيا في شعبان 1424 هـ - أكتوبر 2003 م. حيث جاء في القرار رقم 5/ 10 بشأن تعبير "الأقليات المسلمة" دعم هذه الأقليات ¬

_ (¬1) الأقليات الإسلامية، المشكلات الثقافية والاجتماعية، د. جمال الدين محمد محمود، مطبوع ضمن بحوث: الأقليات المسلمة في العالم، ظروفها المعاصرة، آلامها، وآمالها، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر، 1420 هـ - 1999 م، (1/ 45). (¬2) مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي، الدورة السادسة عشرة، العدد السادس عشر، الجزء الرابع، 1426 هـ - 2005 م، (ص 711).

المطلب الثاني: مفهوم نوازل الأقليات المسلمة

وتبني قضاياها، ثم ورد ضمن بنوده ما يلي: "2 - يقرر استخدام تعبير المجتمع الإسلامي، أو التجمع الإسلامي، في جميع وثائق منظمة المؤتمر الإسلامي المحررة باللغة العربية. 3 - يقرر أيضًا مواصلة تعبير "أقليات مسلمة" في جميع وثائق منظمة المؤتمر الإسلامي المحررة باللغتين الإنجليزية والفرنسية. 4 - يؤكد مع التشديد أن مثل هذا الاستخدام لن يترتب عليه، أي تغيير أو إضرار أو إقلال لحق أو حقوق أو أوضاع أو هوية قد كفلها للأقليات القانون الدولي أو الصكوك والمواثيق الدولية، أو أية صكوك أخرى فضلًا عن أية اتفاقيات إقليمية أو ثنائية أو متعددة الأطراف قد تنطلق على حق أو حقوق الأقليات والمجتمعات والجاليات وسائر الجماعات المسلمة في الدول غير الأعضاء بمنظمة المؤتمر الإسلامي". وقد أكد المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في بيانه الختامي لدورته العادية السادسة عشرة على أن المسلمين الذين يعيشون في البلاد الأوروبية هم إما مواطنون قد ضمنت لهم القوانين جميع حقوق المواطنة، ومنها: حرية التدين، والمحافظة عليه، والتمكين من التعريف به. . . وإما مقيمون وعليهم جميعًا التقيد بأحكام الشرع وآدابه وأخلاق أهل الإسلام (¬1). المطلب الثاني: مفهوم نوازل الأقليات المسلمة: سبق أن تبين مفهوم فقه النوازل، وأنه ذلك العلم الذي يبحث في الأحكام الشرعية للوقائع المستجدة والمسائل الحادثة، مما لم يرد بخصوصها نص، ولم يسبق فيها ¬

_ (¬1) المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث عدد (10 - 11) الجزء الثاني، 1428 هـ - 2007 م، (ص 302 - 305).

اجتهاد، كما تبين أيضًا مفهوم الأقليات المسلمة وأنها كل مجموعة مسلمة تعيش بين مجموعة أكبر منها لا تدين بالإسلام. وعليه؛ فإن فقه نوازل الأقليات المسلمة: هو ذلك الفرع العلمي الذي يبحث في المسائل والوقائع المستجدة للأقليات المسلمة خارج ديار الإسلام. وإذا كان مصطلح الأقليات إنما ولد في الغرب هذا القرن، وإذا كان مصطلح فقه الأقليات المسلمة لا يتجاوز عمره ثلاثة عقود؛ فإن مصطلح نوازل الأقليات المسلمة أو فقه النوازل للأقليات المسلمة هو وليد السنوات القليلة الماضية، حيث تلاحقت أحداث جسام وتقدمت الحياة التقنية بشكل مذهل من جهة، وعملت الأقليات المسلمة على خوض غمار التفاعل الإيجابي في تلك البلاد من جهة أخرى، ودارت الآلة العسكرية الغربية ضد المسلمين حول العالم من جهة ثالثة، وهكذا تحاول تلك الأقليات أن تشق طريق البقاء، وترفع شعار توطين الدعوة والدعاة في تلك البلاد، وتبحث مشاكلها الشرعية والاجتماعية والسياسية، وتوجد لها الحلول العملية والواقعية المستندة إلى الشريعة الإسلامية الغراء، التي تفي بحاجات أهل كل عصر في كل مكان، وتحت كل الظروف. وفقه نوازل الأقليات ما هو إلا فرع من الفقه، أو فرع من فقه النوازل يستمد من نفس المصادر، ويرجع إلى عين القواعد الأصولية والفقهية التي يرجع إليها الفقه والفقهاء في كل عصر ومصر؛ إلا أنه يتجه إلى شيء من التخصص، مع التركيز على جملة من الثوابت والضوابط. وهو فقه اصطلاحي تاصيلي لا تسويغي تبريري، يحفظ الحياة الدينية للأقليات المسلمة ويراعي خصوصيتها، وجوانب الضرورة في حياتها، ويتعامل مع قواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد. وسيأتي في أثناء هذا البحث -بمشيئة الله- ما يؤكد على هذه المعاني، وينبه إلى هذه القواعد المهمة بالتفصيل.

والكتابة في نوازل الأقليات المسلمة كتابة جديدة والعهد بها قريب، ولا يمنع هذا من وجود عدد من الإصدارات العلمية والرسائل الجامعية والتي عنيت بقضايا تأصيلية وأخرى تطبيقية. ومن تلك الدراسات والبحوث المعاصرة ما يلي: 1 - "الأحكام السياسية للأقليات المسلمة في الفقه الإسلامي"، لسليمان محمد توبولياك، من منشورات دار النفائس، ودار البيارق، عمَّان، (1418 هـ - 1997 م)، وهو في الأصل رسالة علمية نال بها صاحبها درجة الماجستير من كلية الشريعة بالجامعة الأردنية، وهو من أوائل البحوث في هذا الصدد. 2 - "فقه الأقليات المسلمة"، لخالد عبد القادر، نشر دار الإيمان، طرابلس (1419 هـ - 1998 م). وهو رسالة علمية قيمة نوقشت في كلية الأوزاعي بلبنان، تناول صاحبها كثيرًا من مسائل فقه الأقليات. 3 - "الأقليات الإسلامية وما يتعلق بها من أحكام في العبادة والإمارة والجهاد"، لمحمد درويش سلامة، وهي رسالة ماجستير مخطوطة ضمن رسائل كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة أم القرى، (1420 هـ). 4 - "في فقه الأقليات المسلمة"، د. طه جابر العلواني، نشر دار نهضة مصر (2000 م)، وهي رسالة صغيرة، وقد نحى فيها منحى يخرج فيه بفقه الأقليات عن أن يكون مشدود العرى بالفقه والأصول بشكل تقليدي، وقد انتقد هذا المسلك ونعي عليه! 5 - الأحكام الفقهية لما يعرض للمسلم المقيم في دار الكفر، ليوسف بن عبد اللطيف الجبر، وهي رسالة مخطوطة نال بها صاحبها درجة الدكتوراه من المعهد العالي للقضاء بالسعودية عام 1421 هـ. 6 - "في فقه الأقليات المسلمة"، لفضيلة الدكتور يوسف القرضاوي، نشر دار الشروق،

القاهرة، (1422 هـ - 2001 م)، وهو كتاب مختصر، عدد فيه الشيخ أهم القواعد التي يرد إليها فقه الأقليات، مع التعرض لعدد من النوازل بالإفتاء. 7 - "فقه الجاليات الإسلامية في المعاملات المالية والمعاملات الاجتماعية"، وهي رسالة دكتوراة في الجامعة الأمريكية المفتوحة، لشريفة سالم السعيد، (2001 م). 8 - "أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في الغرب"، د. سالم بن عبد الغني الرافعي، وهي رسالة دكتوراه من منشورات دار ابن حزم، بيروت، (1423 هـ - 2002 م) 9 - "المسائل العقدية المتعلقة بالأقليات الإسلامية"، لعبد المنعم عبد الغفور حيدر، وهي رسالة دكتوراه مخطوطة بكلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى، مكة المكرمة (1426 هـ). 10 - "فقه السياسة الشرعية للأقليات المسلمة"، لفلة زردومي، وهي رسالة ماجستير مخطوطة بقسم الشريعة، كلية العلوم الاجتماعية والعلوم الإسلامية، جامعة العقيد الحاج لخضر، باتنة، الجزائر، (1427 هـ - 2006 م). 11 - "صناعة الفتوى وفقه الأقليات"، لفضيلة الدكتور عبد الله بن بيَّه، نشر دار المنهاج، جدة (1428 هـ - 2007 م)، وهو كتاب قيم تناول فيه الشيخ الأصول التي يرجع إليها في فقه الأقليات، وعرض لفتاوي المجلس الأوروبي للإفتاء وعلق عليها. 12 - بحث "نحو فقه جديد للأقليات"، د. جمال الدين عطية، نشر دار السلام، القاهرة، (1428 هـ - 2007 م)، وهي رسالة صغيرة تناولت مسألة الأقليات وإشكالاتها بشكل عام. 13 - "فقه الأسرة المسلمة ونوازلها في الغرب"، لعبد الرحمن البرزنجي، وهي رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية الدراسات الإسلامية في الجامعة الأمريكية المفتوحة، ثم

نشرتها دار المحدثين، بالقاهرة (2008 م). 14 - "قضايا الجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية"، أ. د. محمد الشحات الجندي، من منشورات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، (1429 هـ - 2008 م). وهي رسالة تناول فيها مؤلفها موقفه من عدد من قضايا الأقليات باختصار. 15 - بحوث ندوة "فقه الأقليات في ضوء مقاصد الشريعة: تميز واندماج" المنعقدة في كوالامبور خلال الفترة من (9/ 11/ 2009 م) إلى (11/ 11/ 2009 م)، وقد تضمنت بحوثًا جادة ومتميزة في مجال فقه الأقليات ونوازلها وأصولها وضوابطها. هذا بالإضافة إلى رسائل مفردة في أبواب محددة، وبحوث ضمن مجلات علمية محكمة، وندوات بحثية، ولقاءات علمية متنوعة.

الفصل الثاني واقع الأقليات المسلمة

الفْصَلُ الثَانِي واقع الأقليات المسلمة المبحث الأول: نشأة الأقليات المسلمة وتاريخها. المبحث الثاني: الواقع الإحصائي للأقليات المسلمة. المبحث الثالث: خصائص الأقليات المسلمة. المبحث الرابع: مشكلات الأقليات المسلمة.

المبحث الأول نشأة الأقليات المسلمة وتاريخها

المبحث الأول نشأة الأقليات المسلمة وتاريخها البحث في نشوء الأقليات المسلمة في العالم يشير إلى وجود أسباب عملت منفردة وأحيانًا مجتمعة لتكوين نواة الأقليات المسلمة، وهذه الأسباب بطبيعة الحال يتفاوت تأثيرها من مكان لآخر، وفيما يلي عرض لأهم هذه الأسباب: 1 - اعتناق الإسلام: فإنه من الممكن أن تشكل الأقلية المسلمة في أي بقعة من بقاع الأرض إذا اعتنق بعض أهلها الإسلام، كحال الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين الذين أسلموا في بداية الدعوة الإسلامية وسط مجتمع مكة المشرك، ومن هؤلاء: الأقلية المسلمة في الهند، وفي أوروبا الشرقية. 2 - هجرة بعض المسلمين إلى أرض غير مسلمة، وهذه الهجرة قد تكون لأسباب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، كما هو حال الأقليات المسلمة في أوروبا وأمريكا وغيرها. 3 - احتلال أرض المسلمين، فقد يحدث أن تحتل أرض إسلامية من قِبَل دولة غير إسلامية، فتحاول الدولة المحتلة بطرق مختلفة طرد سكان الأرض الأصليين كما يحصل في فلسطين، أو أن يندمج هؤلاء المسلمون مع سكان البلد المحتل، كما حدث في شرق أوروبا والهند. 4 - ويمكن أحيانًا أن تتكون الأقلية الإسلامية من أكثر من طريق في وقت واحد، كأن تتكون عن طريق الهجرة واعتناق الإسلام (¬1). ¬

_ (¬1) الأحكام السياسية للأقليات المسلمة، لسليمان محمد توبولياك، (ص 30)، في فقه الأقليات المسلمة، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط 1، 1422 هـ - 2001 م، (ص 17).

على أنه تجدر ملاحظة أن مفهوم الأقليات ارتبط غالبًا بالاستضعاف، وإن كان هذا لا يمنع من أن تتحول الأقلية المسلمة في بلد ما إلى أكثرية عددية قوية، ببركة الدعوة إلى الإسلام، وتتحول البلاد التي تقوم فيها الأقلية بالدعوة إلى بلاد إسلامية، وقد وقع هذا في ماليزيا، وإندونيسيا بحمد الله. كما أنه لا يخفى أن بعض البلاد يوجد فيها المسلمون بعدد أكبر من غيرهم، فهم في الواقع العددي والإحصائي أكثرية، إلا أن مقاليد الأمور بيد غيرهم، وذلك واقع اليوم في مثل كوسوفا وألبانيا وتنزانيا ولبنان وأثيوبيا (¬1)، كما تجدر ملاحظة أخرى، وهي أن الأقليات المسلمة الممكَّنة لا ينبغي أن ينظر إليها على أنها أقلية إذا كانت مسيطرة سياسيًّا واجتماعيًّا، بل وتباشر الحكم أيضًا، كما هو الحال حين كانت شبه القارة الهندية تحت حكم الأقليات المسلمة لقرابة سبعمائة عام، وذلك قبل الاحتلال البريطاني للهند، واليوم ينظر للمسلمين في الهند على أنهم أقلية مستضعفة، وإن كان عددهم اليوم يصل إلى 150 مليون مسلم. ولا تفوت الإشارة إلى أن الأقليات المسلمة في كل بلد لها خصوصيتها التاريخية والاجتماعية والسياسية، وأحيانًا كان للاستعمار دور خطير في إضعافها، ولها هي أيضًا دور كبير في إنهائه، كما أن لكل أقلية خصوصيتها في تحولها إلى الإسلام سواء أكان ذلك عن طريق الفتح الإسلامي، أم عن طريق الدعوة إلى الله عبر التجار المسلمين. وأخيرًا -وقبل مغادرة هذه النقطة- يتعين إيضاحٌ بشأن أحد أسباب نشوء الأقليات، وهو هجرة المسلمين إلى بلاد غير المسلمين؛ إذ الأصل ألا يهاجر المسلم إلى غير بلاد الإسلام ليعيش فيها، ويقيم بشكل دائم ومستمر، كما سيأتي حكمه تفصيلًا، ¬

_ (¬1) مسئولية المسلمين المواطنين في دول غير إسلامية، راشد دورياو، ضمن بحوث مؤتمر الأقليات المسلمة في العالم ظروفها المعاصرة، آلامها، وآمالها، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر، 1420 هـ - 1999 م، (1/ 217).

إلا أن أسبابًا اجتمعت لتؤدي إلى ما نحن بصدد بحثه من أحكام الأقليات المسلمة في بلاد غير المسلمين، ويمكن إجمال هذه الأسباب فيما يلي: 1 - ضعف الخلافة العثمانية أولًا، وضمور الدور الدعوي والحضاري الرائد للمسلمين؛ مما أدى إلى تفشي الجهل والضعف العام والتخلف، مما أظهر عجزًا فاضحًا في الموازين التجارية، فارتبكت الحياة العامة، واندفع عدد من الناس إلى الهجرة إلى بعض الدول الأوروبية أو الأمريكية. 2 - انهيار الخلافة العثمانية أخيرًا، وتمزق العالم الإسلامي خاصة بعد الحرب العالية الأولى، حيث زادت فرص الهجرة، ومن ثم الاستيطان ونشوء الجاليات. 3 - تنحية الشريعة عن الحكم بها بين المسلمين، وقيام القوانين الوضعية مقامها، وهي من أكبر النوازل التي حلت بديار المسلمين. 4 - الاحتلال العسكري الأوروبي الغربي لأكثر أجزاء العالم الإسلامي؛ واحتلال فلسطين من قِبَل الصهيونية العالمية وما ترتب على ذلك من هجرة العديد من أبناء البلاد وتنقلهم بين قارات الدنيا، وصراع الحدود بين الدول العربية والإسلامية المختلفة، وهذا بدوره أفرز ما يعرف باسم اللاجئين المسلمين الذين بلغت نسبتهم عام (1983 م) 87 % من مجموع اللاجئين في العالم. 5 - التحكم والاستبداد في أنظمة العديد من دول العالم الإسلامي حيث يُفرض على المعارضين والمخالفين السجن، أو يلجئون إلى الفرار إن تمكنوا من ذلك. 6 - الرغبة بتحسين الوضع المعيمشي والاقتصادي عبر الهجرة إلى بلدان أكثر استقرارًا وازدهارًا، مع ما يستتبع ذلك من وجود ضمانات الحياة المختلفة الصحية والاجتماعية والتعليمية، وهي حاجات لا تزال بوجه عام دون المستوى المطلوب

1 - الأقليات المسلمة المستضعفة

أو المعقول في بعض بلدان العالم الإسلامي (¬1). تقسيم الأقليات: ويمكن تقسيم الأقليات المسلمة على أساس نوعي إلى أقسام ثلاثة، هي: أقليات مستضعفة، وأقليات مكافحة، وأقليات ممكَّنة، وفيما يلي لمحة عن كل قسم: 1 - الأقليات المسلمة المستضعفة: وهي أقليات تخضع لسياسات وأيديولوجيات معادية للإسلام، ومعوقة لنمو هذه الأقليات بشكل طبيعي، وربما تنالها يد التصفية الجسدية، والتشويه الفكري، وإلى وقت قريب كان يدخل في هذه الفئة المستضعفة الجمهوريات الإسلامية المحتلة من قبل ما يسمى بالاتحاد السوفيتي، والذين كان عددهم يربو على 50 مليون مسلم (¬2)، وهذا واقع الحال بالنسبة للمسلمين الذين يعيشون في أوروبا الشرقية، وتركستان الشرقية، وكمبوديا والشيشان والصين. ومع أن عدد المسلمين في الصين يتجاوز خمسين مليونًا من نحو سبعين سنة، فإن إحصاءات الصين الرسمية تقدرهم بـ 12 مليون مسلم فقط! (¬3) ومعظم الذين اهتموا بتعداد الأقليات الإسلامية في العالم يقدرون أن مسلمي الصين يقاربون مائة مليون (¬4). وهذه الأقليات المسلمة في الجملة تعاني اضطهادًا يبلغ إلى درجة السحق والإبادة، وقد وقعت مجازر ونصبت محارق لهذه الأقليات، وطمست كل هوية إسلامية لهذه ¬

_ (¬1) الأقليات الإسلامية في العالم، د. محمد علي ضناوي، مؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، ط 1، 1413 هـ، (ص 15 - 18). (¬2) الوضع الراهن للمسلمين السوفيت، د. نادر دولت، ضمن بحوث مؤتمر الأقليات المسلمة في العالم ظروفها المعاصرة، آلامها وآمالها، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر، 1420 هـ - 1999 م، (1/ 473). (¬3) مسئولية المسلمين المواطنين في دول غير إسلامية، راشد دورياو (1/ 218). (¬4) معاملة غير المسلمين، ومعاملة الأقليات المسلمة، للشيخ محمد مختار السلامي، بحث مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السادس الجزء الرابع ط 1، 1426 هـ - 2005 م، (ص 404).

2 - الأقليات المكافحة

الأقليات بدءًا من منع ممارسة شعائر التعبد والنسك، وانتهاءًا بتغيير الأسماء والقضاء على اللغة العربية التي هي لغة القرآن. 2 - الأقليات المكافحة: وهذه الأقليات يعود سبب بقائها إلى كفاحها الشديد في ظل ظروف غير مواتية، وفي ظل تضييق حكومي ظاهر؛ إلا أنها -لسبب أو لآخر- تقاوم وتحاول، فالأقلية المسلمة الهندية التي تبلغ في تعدادها نحو (150) مليون مسلم بسبب من عددها الكبير تستعصي على الإبادة أو القمع والتنكيل، وإن كانت تواجه أنواع التمييز الديني والطائفي بكل ألوانه وأشكاله، ولقد نجحوا في فرض هويتهم وإظهار ديانتهم وشعائرهم، وما يزالون في كفاح رهيب في كشمير لتحريرها من يد الهندوس. وفي أمريكا الشمالية وكندا نحو ثمانية ملايين مسلم يحاولون تحسين أوضاعهم وأوضاع أبنائهم، إظهارًا لدينهم، ومطالبة بحقوقهم، فكان أول مسجد بني هناك في مدينة هايلاند بارك من ولاية ميتشيغان سنة (1919 م)، ثم تتابعت المساجد من بعده، وتسابقت الجاليات المسلمة في كل مدينة إلى ذلك، وأقيمت المدارس التابعة لتلك المساجد، ومدارس نهاية الأسبوع، ومعاهد الدراسات الإسلامية، بل وافتتحت الجامعات الإسلامية (¬1)، التي تعلم المسلمين الجدد وأبناء المسلمين المهاجرين أمور دينهم، وتحفظهم من ثقافة المجتمع المنحرفة في جوانب الأخلاق والسلوك. ويتفاوت الأمر بالنسبة لمسلمي بورما البالغ تعدادهم أكثر من مليون مسلم ويمثلون 19 % من تعداد السكان، وكذا مسلمي سيريلانكا البالغ تعدادهم مليون مسلم أيضًا ويمثلون 8 % من تعداد السكان، حيث تشتد معاناتهم لاسيما مع ضيق ذات اليد، وقلَّة الموارد. ¬

_ (¬1) أضواء على التربية والتعليم لدى الأقلية المسلمة في الولايات المتحدة الأمريكية، د. كمال كامل عبد الحميد، ضمن بحوث مؤتمر الأقليات المسلمة في العالم ظروفها المعاصرة، آلامها وآمالها، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر، 1420 هـ - 1999 م، (1/ 87 - 92).

3 - الأقليات الممكنة

3 - الأقليات الممكَّنة: الأقليات المسلمة في دول غير إسلامية متعددة الثقافات والأجناس والأديان، أحيانًا ما تستطيع أن تفرض سيطرة وهيمنة سواء بتكاثرها وتكاثفها النسبي في أعدادها أو في سيطرتها ونفوذها السياسي والاقتصادي، مما يجعلها تتمتع بحرية دينية وضمانات متعددة تتيح لها الدعوة إلى الإسلام فضلًا عن ممارسة شعائر دينها بحرية. وعليه فإذا لم يَسُدِ احترام الإسلام فإنه يرجع في الغالب إلى تقصير هذه الأقلية في الدعوة إلى دينها والتعريف به. ومن الأمثلة الناجحة والمتميزة في هذا الصدد: المسلمون في ماليزيا والبالغ تعدادهم ما يربو على ستة ملايين يمثلون نحوًا من 49 % من تعداد السكان. ويتمتع المسلمون بكامل الحرية في ممارسة دينهم والدعوة إليه، وإقامة المؤسسات والجامعات الإسلامية، وعمل الأحزاب والتنظيمات الداعمة للأقلية، والمشاركة في العمل السياسي، بالإضافة إلى التحاكم في الأحوال الشخصية للشريعة الإسلامية. وتحذو الأقلية المسلمة في سنغافورة وموريشيوس حذو الأقلية المسلمة في ماليزيا (¬1). ¬

_ (¬1) مسئولية المسلمين المواطنين في دول غير إسلامية، راشد دورياو (1/ 220).

المبحث الثاني الواقع الإحصائي للأقليات المسلمة

المبحث الثاني الواقع الإحصائي للأقليات المسلمة ما تزال الدراسات الإحصائية عن الأقليات المسلمة في العالم بحاجة إلى مزيد من تضافر الجهود؛ حتى نصل إلى تقديرات أقرب إلى الواقع نسترشد بها في تتبع أحوال هذه الأقليات، فإنه من أفضل الوسائل التي يمكن أن يعتمد عليها توثيق الصلات بالأقليات المسلمة والاستعانة بالمراكز الإسلامية والجمعيات والاتحادات الإسلامية المختلفة. كما أن معرفة عدد الأقليات المسلمة في أقطار العالم المختلفة هو أمر بالغ الأهمية؛ لأنه مؤشر ذو دلالة في مجال تطور أعداد المسلمين وزيادتهم سواء أكانت هذه الزيادة وليدة النمو السكاني، أم نتيجة للهجرة من الكفر إلى الإسلام، والهجرة من الكفر إلى الإسلام مصدر مهم ينبغي تتبعه ودراسة كافة الوسائل التي يمكن أن تسهم في تنميته. ولا شك أن هذا الموضوع ليس سهلًا وإنما تحول دونه صعوبات عديدة سوف نعرض لنماذج منها، وذلك على النحو التالي: المطلب الأول: الاختلاف في تقدير أعداد الأقليات: يختلف تقدير أعداد الأقليات المسلمة في العالم بين الباحثين، فمنهم من يقدر أعداد هذه الأقليات بأقل من 220 مليونًا، ومنهم من يقدر أعداد الأقليات المسلمة بما يقترب من نصف مليار مسلم (¬1)، بل إن هذا الاختلاف يشمل كذلك عدد الدول الإسلامية، فبعض الباحثين يقدر عدد الدول الإسلامية بسبع وخمسين دولة ¬

_ (¬1) معاملة غير المسلمين، للشيخ السلامي، (ص 404)، الأقليات الإسلامية في الغرب، د. محمد بشاري، بحث بمجلة المجمع الفقهي الإسلامي، العدد السادس، الجزء الرابع، ط 1، 1246 هـ - 2005 م، (ص 546).

إسلامية (¬1)، وبعضهم الآخر يقدر عدد الدول الإسلامية بخمسين دولة، اثنتين وعشرين دولة آسيوية، وسبع وعشرين دولة إفريقية، ودولة واحدة أوروبية (¬2). وفي دراسة أجراها فريق من الباحثين بمجلة (Time) قدر عدد الدول الإسلامية بسبع وثلاثين دولة على النحو التالي: عشرون دولة إسلامية في آسيا، وست عشرة دولة في أفريقيا، ودولة واحدة في أوروبا وهي ألبانيا (¬3). وإذا كان هذا هو الاختلاف في تقدير عدد الأقطار الإسلامية، فليس من المستغرب أن يكون هناك اختلاف كبير في تقدير أعداد الأقليات المسلمة، في العالم. إن اختلاف الباحثين في اعتبارهم الدولة إسلامية أو غير إسلامية ينعكس أثره ويتردد صداه في تقدير عدد الأقليات المسلمة؛ لأنه في حالة تقدير الباحث أن دولة ما إسلامية يجعله ملزمًا بأن يستبعد أعداد المسلمين فيها من الأقليات الإسلامية، أما إذا اعتبر أن الدولة غير إسلامية فإنه سيضيف سكانها المسلمين إلى أعداد الأقليات المسلمة. وهناك مجموعة أخرى من العوامل التي لا يمكن تغافلها تحول دون تقديرات صحيحة للأقليات المسلمة في العالم، منها: 1 - اختلافهم حول تحديد مفهوم الدولة الإسلامية، هل الدولة الإسلامية هي الدولة التي تزيد فيها نسبة المسلمين على نصف سكانها؟ أم أن الدولة تعد إسلامية إذا كانت نسبة المسلمين فيها تزيد على أي نسب من أتباع الديانات الأخرى وإن لم تتجاوز هذه النسبة 50 % من جملة السكان، إن كل العوامل السابقة تجسد -بما لا يدع مجالًا، للشك- مشكلة تقدير أعداد الأقليات المسلمة بها العالم، وتوضح سبب التباين في تلك التقديرات بين الباحثين. ¬

_ (¬1) البلدان الإسلامية والأقليات الإسلامية في العالم المعاصر، غلاب محمد السيد، حسن عبد القادر، محمود شاكر، من مطبوعات المؤتمر الجغرافي الإسلامي الأول، صفر سنة 1399 هـ - يناير سنة 1979 م. (¬2) خريطة العالم الإسلامي، محمد محمود، دراسات مجلة كلية التربية، جامعة الملك سعود، 1982 م، (4/ 210). (¬3) The World Of Islam, The Weekly News magazine Time, April 16, 1979, pp. 6 - 16.

المطلب الثاني: تقديرات عن أعداد الأقليات المسلمة في العالم

2 - عدم اهتمام كثير من الدول بإحصاء الأقليات الدينية بحجة أن مثل هذه التعدادات تؤدي إلى مشكلات طائفية، والحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن بعض هذه الدول تخشى أن يدرك المسلمون أحجام أعدادهم الحقيقية والأثر الذي يمكن أن يؤدي إليه ذلك. 3 - يلجأ كثير من المسلمين في الدول الشيوعية إلى إخفاء عقائدهم وشعائرهم الدينية، والتظاهر باعتناق المعتقدات التي تساير الاتجاه العام للدولة؛ حتى يكونوا بمنأى عن الاضطهادات ولا يحرموا الوظائف الكبرى أو الحساسة. 4 - يعيش معظم المسلمين في أقطار نامية لا تُجرِي إحصاءات حيوية ولا دورية خاصة بعدد المواليد والوفيات والزواج والطلاق وعدد أفراد الأقليات الدينية المختلفة. 5 - تتباين التعدادات التي تجريها الأقطار التي تضم المسلمين من حيث مواعيدها، ودقتها وشمولية معلوماتها، وكل هذه أمور لا تساعد على التقديرات الصحيحة لأعداد المسلمين، كما أن هناك أقطارًا أفريقية لم تعرف التعدادات، وكل ما هنالك من أرقام عن المسلمين ليس إلا تقديرات أجرتها الحملات التنصيرية وفق ما يخدم أغراضها. المطلب الثاني: تقديرات عن أعداد الأقليات المسلمة في العالم: على ضوء بعض الأسس المتاحة التي اقترحها أحد الباحثين، فهو يقدر عدد السكان المسلمين والأقليات المسلمة سنة (1985 م) في الجدول التالي، علمًا بأن التقديرات العددية بالمليون (¬1): القارة ... عدد السكان المسلمين ... الأقليات ... المجموع آسيا ... 470 ... 282 ... 752 أفريقيا ... 223 ... 70 ... 293 ¬

_ (¬1) دراسة إحصائية عن الأقليات الإسلامية في العالم، د. محمد محمود محمدين، ضمن بحوث مؤتمر الأقليات المسلمة في العالم ظروفها المعاصرة، آلامها، وآمالها، دار الندوة العالمية، 1420 هـ - 1999 م، (1/ 406).

القارة ... عدد السكان المسلمين ... الأقليات ... المجموع أوروبا ... 2 ... 15 ... 17 الأمريكتان ... - ... 4 ... 4 أستراليا ... - ... 0.3 ... 0,3 المجموع ... 695 ... 371.3 ... 1066.3 النسبة ... 65 % ... 35 % ... 100 % وتتزايد أعداد المسلمين في العالم ما بين 21 إلى 25 مليونًا في السنة الواحدة. وعليه، فإن هذا البحث يصل بعدد الأقليات إلى أكثر من 371 مليون، أي 35 % من مجموع المسلمين في العالم، وذلك من إجمالي عدد المسلمين البالغ أكثر من 1066 مليون عام 1985 م. وفيما يلي بعض المعلومات عن توزيع الأقليات الإسلامية، وأماكن تواجدها، وبعض الإحصائيات الحديثة: 1 - الأقليات المسلمة في آسيا: أورد الأستاذ محمود شاكر ثلاث إحصائيات تحدد عدد الأقليات الإسلامية في العالم؛ الأولى عام (1979 م)، وحُدد فيها عدد الأقليات المسلمة في آسيا بحوالي: 176.538.500 ستة وسبعون ومائة مليون وثمانية وثلاثون وخمسمائة ألف وخمسمائة مسلم، والإحصائية الثانية عام (1980 م)، في مقال نشر في مجلة الفيصل، وحُدد عدد الأقليات الإسلامية في العالم بحوالي 162 مليون مسلم، والثالثة عام (1980 م) أيضًا، وصدرت في الطبعة الأولى من كتاب العالم الإسلامي، الصادر عن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وحُدد عدد الأقليات الإسلامية في آسيا بحوالي 176,000,000 مليون مسلم، وفي العالم كله حوالي 211 مليون مسلم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: الأقليات الإسلامية في جنوب الباسفيكي، أحمد السيد تقي الدين، مطبعة الأزهر، (1990 م)، (5/ 558)، البلدان الإسلامية والأقليات المسلمة في العالم المعاصر، محمود شاكر وآخرون، (ص 702).

وفي تقدير لاحق سنة (1995 م)، كانت جملة الأقليات المسلمة بآسيا 263 من مجموع 372 مليون نسمة هم تعداد الأقليات المسلمة في العالم (¬1). المسلمون في الهند: المسلمون في الهند ثاني أكبر تجمع إسلامي على وجه الأرض بعد إندونيسيا، وقد دخل الإسلام مبكرًا إلى الهند مع محمد بن القاسم الثقفي في عهد عبد الملك بن مروان، ونسبتهم إلى مجموع السكان وفقًا لتقرير CIA % 13.4 (¬2) حيث يصل تعدادهم إلى 150 مليون مسلم، يعانون ألوانًا من العنت، ولم يزد تمثيلهم في البرلمان عن ثلاثين مقعدًا عام (1998 م)، أي: لم يزد عن ثلث ما ينبغي أن يكونوا عليه بالنظر إلى نسبتهم إلى سكان البلاد (¬3)، ويتركز المسلمون في ست ولايات هي: أوتاربراديش، بيهار، ماهارشترا، غرب البنجال، إندرابراديش، كيرالا، ويكوِّنون الأغلبية في جامو وكشمير المحتلة من قبل الهند منذ عام (1947 م)، ولا يزال أهلها في جهاد لنيل حريتهم واسترداد أراضيهم. المسلمون في الصين: دخل الإسلام الصين عام (96 هـ)، ويبلغ عدد المسلمين فيها ما يزيد على مائة مليون مسلم اليوم، وإن كانت التقارير الرسمية غير موجودة والتقديرات متضاربة، إلا أنه في تقرير الـ CIA لعام 2002 م كانت نسبتهم من 1 إلى 2 %، وكان بالصين عدد كبير من المساجد والمراكز الإسلامية زال أكثرها بسبب الحكم الشيوعي الآثم، وكانت ¬

_ (¬1) الوجيز في جغرافية العالم الإسلامي، د. محمد محمود الرياني، دار عالم الكتب، الرياض، (ص 46). (¬2) CIA World fact book على الموقع الرسمي للـ CIA، WWW.cia.gov. (¬3) المشاركة الإسلامية في التحول الاقتصادي الهندي، طاهر بيج، منشور ضمن بحوث مؤتمر الأقليات المسلمة في العالم ظروفها المعاصرة، آلامها، وآمالها، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، 1420 هـ - 1999 م، (2/ 714).

هناك الجمعيات الإسلامية العاملة على وحدة المسلمين وترابطهم، مثل: جمعية "تقدم مسلمي الصين" وكانت تضم 300 فرع، وأسست في عام (1330 هـ - 1909 م)، وكذلك جمعية "الأدب الإسلامي ودار المعلمين" في بكين، فلما تولى الشيوعيون ألغوا وأغلقوا تلك المعاهد والمراكز الإسلامية وطمسوا كثيرًا من أنوار الأعمال الإسلامية، وقمعوا المسلمين هناك، ومن بين أبرز الأماكن التي تضررت جراء الأعمال الإجرامية تركستان الشرقية؛ حيث ضُمَّت إلى الصين بعد حروب وثورات وجهاد طويل. وفي بكين العاصمة أربعون مسجدًا أطلق على واحد منه اسم المسجد الأعظم، وقد أرسل السلطان العثماني عبد الحميد عام (1890 م) بعثة علمية إلى هنالك حيث أقامت مدرسة ولاقت من المسلمين إقبالًا شديدًا (¬1). المسلمون في الفلبين: تشمل مناطق المسلمين عددًا من الجزر تمثل مساحتها 116.895 كم 2 أكثر من ثلث المساحة الكلية والتي تشمل 7000 جزيرة، ومجموع سكان المناطق الإسلامية 21 مليونًا، يبلغ عدد المسلمين منهم 7 ملايين وفقًا للإحصاءات الرسمية، و 18 مليونًا وفقًا للتقديرات غير الحكومية، أي: 85 %، أما باقي سكان هذه المناطق فخليط من النصارى واللادينيين من سكان الغابات. أما نسبة المسلمين إلى مجموع سكان الدولة فـ 5 % وفقًا لتقرير CIA لعام 2000 م، أما الكاثوليك فـ 80.9 %، والباقون ينتمون إلى مذاهب مسيحية أخرى بالإضافة إلى البوذيين واللادينيين (¬2). والمسلمون هناك يخوضون حربًا لنيل الحكم الذاتي في 13 مقاطعة، إلا أن ذلك لم يتحقق بعد. ¬

_ (¬1) الأقليات المسلمة في العالم، د. محمد علي ضناوي، (ص 152 - 156). (¬2) CIA World Fact Book

المسلمون في ماليزيا: يشكل المسلمون نسبة تقترب من 50 % من السكان وفقًا للمصادر المختلفة، وغالبيتهم من الملاويين، والباقون من الباكستانيين والهنود المسلمين والإيرانيين والصينيين المسلمين والكادازان واللاجئين البوسنيين. أما غير المسلمين فمن معتنقي البوذية 15 %، والطاوية الصينية 15 %، والهندوسية 7 %، والسيخ 1 %، والمسيحية 7 %، وديانات بدائية 1 %، وترجع أصولهم إلى الهندية 9 % والصينية 32 % وغيرها. أما اللغات، فإلى جانب الملاوية -وهي اللغة الرسمية- هناك الصينية والتاميلية والإنجليزية (¬1). المسلمون في اليابان: الإسلام في اليابان لا يزيد عمره عن مائة سنة فقط، وليس هناك إحصاء رسمي يضبط عدد المسلمين؛ إلا أن بعض التقديرات عدت المسلمين بنحو 160 ألف مسلم، وذلك قبل عشر سنوات، ومن الطريف أن عشرة آلاف أسلموا دفعة واحدة على يد طبيب مسلم، فنظموا جمعية تعاونية طبية ملكت المستشفى الذي يديره ذلك الطبيب، وتنتشر الآن المساجد باليابان ويوجد بطوكيو مركز إسلامي كبير (¬2). المسلمون في تايلاند: تقع تايلاند جنوب شرق آسيا، شمال ماليزيا، وجنوب كمبوديا، ويقدر عدد سكانها بـ 55 مليون نسمة، أكثرهم يدينون بالبوذية، وعدد المسلمين بها أكثر من خمسة ملايين نسمة، ويتجمعون في منطقتين رئيستين، هما: فطاني، وحول بانكوك، ففي فطاني عددهم ¬

_ (¬1) العالم الإسلامي اليوم، د. عادل طه يونس، مكتبة ابن سينا، القاهرة، (1990 م)، (ص 74). (¬2) الأقليات الإسلامية في العالم، د. محمد علي ضناوي، (ص 194، 195).

2.8 مليون، ويضاف إليهم مليونان حول بانكوك، وأكثر من ثلاثة أرباع المليون في المناطق الباقية من شبه جزيرة الملايو (¬1). وأما الإحصائيات الحكومية فتقدرهم بنحو من 2 مليون فقط، وعدد المساجد بالمملكة التايلاندية يزيد على ألفي مسجد، وقد دخل الإسلام تايلاند عن طريق التجار الدعاة (¬2). المسلمون في لبنان: ويمثل لبنان نموذجًا فريدًا آخر حيث يشكل المسلمون 58 % من السكان، موزعين بين السنَّة 650.000، والشيعة 000، 800، والدروز 225.000، ويشكل المسيحيون 42 % من السكان موزعين بين عدة طوائف: الموارنة 650.000، والروم الأرثوذكس 350.000، والروم الملكيون الكاثوليك 250.000، والكلدان الكاثوليك 10.000، والأرمن الكاثوليك 210.000 (¬3). ووفقًا لتقدير آخر يمثل المسلمون بطوائفهم 59،7 % من السكان، والمسيحيون 39 %، وتبلغ طوائف المسيحيين 12 طائفة، والبهائية والبوذية والهندوسية تمارس بحرية رغم عدم الاعتراف بها (¬4). أما اللغات، فالعربية هي اللغة الرسمية، ولكن يستعمل بجوارها الفرنسية والأرمينية. وأما من الناحية العرقية، فيمثل العرب 93 % من السكان، بينما الأرمن 6 %، والأكراد 1 %. وطبقًا للميثاق الوطني 1943 م، يستحوذ المسيحيون على عدد كبير من المناصب ¬

_ (¬1) تاريخ العالم الإسلامي، محمود شاكر (22/ 56، 57). (¬2) المسلمون في تايلاند، رسالة ماجستير، حسن عبد القادر، قسم الثقافة الإسلامية، كلية التربية جامعة الملك سعود، الرياض، (ص 36). (¬3) الملل والنحل والأعراف، فادي سلامة، مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، التقرير السنوي الخامس (1998 م)، دار الأمين للنشر والتوزيع، القاهرة، (1998 م)، (ص 203، 205 - 206، 208 - 210، 212، 214). (¬4) CIA World Fact Book

المهمة كرئاسة الجمهورية، وعدد مهم من الوزارات إلى جانب رئاسة الجيش، وعدد كبير من المناصب المهمة في الحكومة، أما الشيعة فلا بد أن يكون منهم رئيس مجلس النواب، والسنة يتولى أحد أبنائها رئاسة الوزراء (¬1). ولم تضع وثيقة الوفاق الوطني المعروف باتفاق الطائف سنة 1989 م، حدًّا للنظام الطائفي، ولكنها نصت على خطوات مرحلية لإلغائه، وجاء دستور عام 1990 م، متبنيًا المبدأ، ولكن لم يبدأ تنفيذ هذه الخطوات (¬2). وقوانين الأحوال الشخصية في لبنان متعددة بتعدد الطوائف، وقد صدر سنة 1998 م قانون الزواج المدني، ولكن رفضه المسلمون والمسيحيون على السواء (¬3). المسلمون في فلسطين: وفقًا لبعض التقديرات (¬4)، يبلغ عدد الفلسطينيين في العالم 4.250 مليون، منهم 650 ألف داخل الكيان الصهيوني، ومليون في الضفة الغربية، وأكثر من 500 ألف في قطاع غزة، وأكثر من 2 مليون في دول الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا. ووفقًا لإحصائية موقع CIA على الإنترنت لعام 2009 (¬5) يبلغ مجموع من يحملون جنسية الكيان الصهيوني 7.233.701، منهم 76.4 % يهود، و 16 % مسلمون، و 2.1 % مسيحيون، و 1.6 % دروز، و 3.9 % ديانات أخرى. ويشمل حاملو جنسية الكيان الصهيوني 187.000 مستوطنين في الضفة الغربية، و 20.000 في الجولان المحتلة، وأقل من ¬

_ (¬1) العالم الإسلامي اليوم، عادل طه يونس، (ص 73، 86). (¬2) (1982) Barrett: World Christian Encyclopedia (¬3) (1998) CIA World Fact Book (¬4) العالم الإسلامي اليوم، د. عادل طه يونس، (ص 47). (¬5) CIA World Fact Book.

177.000 في القدس الشرقية. وعليه فقد تحول المسلمون في فلسطين إلى أقلية بحسب التعداد داخل الكيان الصهيوني، وقد مر وقت كان عدد اليهود بفلسطين لا يزيد عن 174,806 يهودي من مجموع السكان البالغ يومئذ 1,330,314 وذلك في عام 1931 م، ثم بدأت الهجرة تتابع وتتزايد إلى أن وصل تعدادهم في عام 1946 م إلى 608.225 من مجموع السكان البالغ 912,110 (¬1). ولقد تفجرت الانتفاضة المباركة في الأرض المباركة لتؤذن بزوال شراذم اليهود، وتمهد السبيل لاستئصال شأفتهم بإذن الله، وتحرير الأقصى الأسير. 2 - الأقليات المسلمة في أفريقيا: يقدر عدد المسلمين في أفريقيا بأكثر من 293 مليون، منهم 223 مليون مسلم يعيشون في الأقطار الإسلامية، أي: بنسبة 76 % تقريبًا، ويعيش أكثر من 70 مليونًا -24 % من مجموع المسلمين في أفريقيا- في أقطار غير إسلامية، ويعد تقدير أعداد الأقليات الإسلامية في أقطار أفريقيا من أهم المشكلات التي تختلف فيها وجهات النظر بين الباحثين، وقد ظهر هذا الأمر جليًّا في البحوث التي قدمها الجغرافيون للمؤتمر الجغرافي الإسلامي الأول الذي عقد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في يناير سنة 1979 م، فبينما ذكر بعض الباحثين دولًا مثل: ساحل العاج والكاميرون وسيراليون وتوغو وبنين (داهومي) والحبشة كدول إسلامية، عدَّها بعض الباحثين دولَ أقلياتٍ إسلامية كبيرة، ويختلف تقدير نسبة المسلمين في أثيوبيا بين الباحثين؛ إذ إن بعضهم يقدرهم بنحو 65 % من مجموع ¬

_ (¬1) الأقليات الإسلامية في العالم، د. محمد علي ضناوي، (ص 196).

السكان (¬1)، وبعضهم يقدرهم بنسبة 48 % من مجموع السكان. ويقدر عدد المسلمين في بعض الدول الأفريقية غير الإسلامية على النحو التالي: الدولة ... عدد المسلمين بالمليون ... الدولة ... عدد المسلمين بالمليون إثيوبيا ... 17 ... موزمبيق ... 2 تنزانيا ... 12 ... زامبيا ... 1.2 أوغندا ... 5 ... ليبيريا ... 1.1 كينيا ... 4 ... مدغشقر ... 2 غانا ... 3.9 ... بوروندي ... 1 ملاوي ... 2.8 ... زائير ... 2 أنجولا ... 1.5 ومما تجدر ملاحظته أن نسبة المسلمين تزيد بصفة خاصة في شرقي أفريقيا؛ لقربها من شبه الجزيرة العربية، ولقدم الهجرات الإسلامية إليها (¬2). 3 - الأقليات المسلمة في أوروبا: يتراوح عدد المسلمين في دول الاتحاد الأوروبي حاليًا بين 10 - 16 مليون مسلم وفقًا للمصادر المختلفة (¬3)، منهم 2.2 مليون تركي، وتعتبر دولة ألبانيا دولة مسلمة وكذلك دولة البوسنة وتقعان جنوب شرقي أوروبا، يصل عدد المسلمين فيها إلى مليوني نسمة من 3.2 مليون نسمة، وكان العدد الإجمالي لسكان هذه الدول الأوروبية يبلغ في عام 1995 م حوالي 370 مليون نسمة. ¬

_ (¬1) العالم الإسلامي، محمود شاكر، المكتب الإسلامي - بيروت، ط 2، 1403 هـ، (ص 42). (¬2) دراسة إحصائية عن الأقليات المسلمة في العالم، د. محمد محمود محمدين (1/ 408)، الأقليات الإسلامية في العالم، د. محمد علي ضناوي، (ص 172 - 178). (¬3) جريدة الشرق الأوسط، لندن، بتاريخ (9/ 5/ 1999 م)، (ص 10).

المسلمون في بلغاريا: ويتعرض المسلمون الأتراك في بلغاريا لضغوط تعسفية من الحكم الشيوعي، وصلت إلى حد إجبار المسلمين بالقوة على تغيير أسمائهم، أو إضافة لاحقة بلغارية إلى أسمائهم، فيصبح اسم محمد (محمدوف)، وأحمد (أحمدوف)، وتحرم السلطة البلغارية إطلاق الأسماء الإسلامية أو غير البلغارية على المواليد الجدد، وتحرم كذلك أداء الفرائض الدينية الجماعية كصلاة الجمعة والعيد. وجدير بالذكر أن عدد المسلمين في بلغاريا يصل إلى أكثر من 2.5 مليون مسلم، ويغلب على المسلمين هناك الفقر والتخلف والحرمان. وهناك منظمة عالمية للتنصير مقرها أوروبا جندت الأموال الطائلة والكفاءات العالية لتنصير المسلمين، ويقدر عدد الذين يعملون في مجال التنصير بنحو 17 مليونًا، وقد قال روي جورج رئيس المنظمة: ينبغي محاربة الإسلام في نفوس المسلمين المقيمين في أوروبا، وقال: إن الملايين العشرة من المسلمين المقيمين في أوروبا هدية بعثها الله لنا (¬1). وفي السنوات الأخيرة بدأت بلغاريا تتنفس هواء الحرية شيئًا فشيئًا، ووقع اتفاق بين الحكومة والمعارضة وممثلين عن المسلمين الأتراك البلغار جرى فيه إقرار الحريات الدينية والثقافية للمسلمين، وحرية اختيار الأسماء الإسلامية التي تعبر عن هويتهم، إلا أن صعوبات كثيرة ما تزال تواجه مسلمي بلغاريا. المسلمون في يوغوسلافيا الفيدرالية سابقًا: 1 - صربيا: 8 ملايين، عاصمتها بلغراد، منهم 2 مليون مسلم - 1,5 في إقليم كوسوفا التابع لصربيا، 0,5 مليون في باقي صربيا. ¬

_ (¬1) جريدة المسلمون الدولية، 30 رجب 1405 هـ، (ص 10).

2 - كرواتيا: 5 ملايين، عاصمتها زغرب. 3 - سلوفينيا: 2 مليون، عاصمتها للوبليانا. 4 - مقدونيا: 2 مليون، عاصمتها سكوبيا، منهم مليون مسلم. 5 - الجبل الأسود (مونتنجرو): مليون، عاصمته تيتوجراد منهم ربع مليون مسلم. 6 - البوسنة والهرسك: 5 ملايين، عاصمتها سراييفو، منهم 4 مليون مسلم. ويزيد عدد المسلمين في يوغوسلافيا عن 6 ملايين من أصل 25 مليونًا (¬1). ويتكون مسلمو يوغوسلافيا من ثلاثة أجناس: السلافيون: ويقيمون في البوسنة والهرسك، وفي السنجق، وعاصمته بني بازار. والألبان: ويقيمون في المناطق المجاورة لدولة ألبانيا وهي مقدونيا وكوسوفو. والأتراك: ويقيمون في أقصى الجنوب المتاخم لليونان. وقد أعلن برلمان سراييفو في (15/ 10/ 1991 م) استقلال جمهورية البوسنة والهرسك، وفي (9/ 3/ 1992 م) تفجر الموقف، وبدأ الاعتداء الصربي على جمهورية البوسنة. كان دستور (1946 م) في عهد تيتو ينص على المساواة الكاملة بين جميع القوميات والأعراق والأديان، وتعترف لهم المادة 1 من الدستور بحق تقرير المصير بما فيه حقها في الانفصال. وجاء دستور (1974 م)، فنص على كوسوفا كمنطقة حكم ذاتي لها الحق في دستور خاص، وبرلمان وحكومة ورئاسة مستقلة، وحدود معترف بها لا يمكن تعديلها إلا بموافقتها. إلا أن برلمان صربيا أصدر قرارًا عام (1989 م) بإلغاء وضع كوسوفا وفقًا لدستور (1974 م)، ونص سنة (1990 م) على أنها مقاطعة تابعة لصربيا، وكان رد الفعل ¬

_ (¬1) ملحمة البوسنة والهرسك الجريمة الكبرى، د. عدنان علي رضا النحوي، دار النحوي للنشر والتوزيع - الرياض، ط 1 (1413 هـ - 1993 م)، (ص 31، 32)، صفحات من تاريخ جمهورية البوسنة والهرسك، عبد الله مبشر الطرازي، كلية الآداب، جدة، (1413 هـ - 1992 م)، (ص 20، 21، 32).

الألباني إعلان استقلال كوسوفا في (2/ 7/ 1990 م)، وتكوين جمهورية كوسوفا في (7/ 9/ 1990 م)، عقب استفتاء شارك فيه 90 % من السكان (¬1). وكان رد الفعل الصربي على ذلك هو العدوان الوحشي الذي تعرضت له كوسوفا وتدخلت قوات الأطلنطي على النحو المعروف. المسلمون في بلجيكا: يعيش في بلجيكا حوالي 350.000 مسلم يمثلون 3.5 % (¬2) من مجموع السكان البالغ عددهم 9.9 مليون نسمة. وقد اعترفت الحكومة البلجيكية بالإسلام باعتباره الدين الذي يعتنقه قسم من السكان يلي في العدد المسيحيين؛ مما أعطى المسلمين حق تعليم الدين الإسلامي بالمدارس البلجيكية وإنشاء المدارس الإسلامية الخاصة للمسلمين (¬3). وأكثر من ذلك قامت الحكومة البلجيكية بتنظيم انتخابات بين الجالية الإسلامية في بلجيكا في (13/ 12/ 1998 م) لاختيار المجلس الذي يهتم بشئونهم ويمثلهم أمام الحكومة. المسلمون في فرنسا: يعيش في فرنسا نحو من 4 ملايين مسلم يمثلون من 5 إلى 10 % من مجموع السكان، ويعتبر الإسلام أكبر ثاني ديانة بعد الكاثوليكية، ثم تأتي البروتستانتية بـ 2 % ثم اليهودية 1 % والبوذية 1 %، ولم يتم بعد تنظيم المسلمين كما حدث في بلجيكا بسبب الانقسامات الداخلية بينهم (¬4). ¬

_ (¬1) أزمة كوسوفا بين الذاكرة والأزمة الراهنة، د. نادية مصطفى، ضمن بحوث تقرير أمتي في العالم، عام (1999 م)، (ص 567). (¬2) وفقًا للتقرير الأمريكي عن بلجيكا لسنة (2000 م). (¬3) هموم الأقليات المسلمة في العالم - رصد تاريخي وتوثيقي لأوضاع الأقليات المسلمة وجهود المملكة في خدمتها، د. عبد المحسن بن سعد الداود، الهيئة العامة للكتاب، الرياض، (1413 هـ - 1992 م)، (ص 141). (¬4) جريدة الحياة - لندن (22/ 4/ 1999 م)، جريدة لوموند تقديرات (1998 م)، CIA World Fact Book عام 2009.

وأكثر المسلمين هناك من بلدان شمالي أفريقيا، والمستعمرات الفرنسية سابقًا، وفي باريس مسجد كبير شيد عام (1926 م)، واتحاد للطلبة المسلمين، والمعهد الإسلامي الأوروبي. المسلمون في بريطانيا: يعيش أكثر من مليون مسلم في بريطانيا، ويمثلون 2.7 % من سكان البلاد حسب تقرير الـ CIA لعام 2001 (¬1)، ويتمتع أبناء دول الكومنولث البريطاني بحقوق ومميزات عديدة دون بقية المهاجرين المسلمين من مناطق أخرى، وفي لندن مسجد كبير، واتحاد للطلبة المسلمين، والجمعية الطبية الإسلامية، والمركز الإسلامي، وفيها مقر للمجلس الإسلامي المؤسس عام (1973 م) للتنسيق بين جهود المنظمات الإسلامية في أوروبا الغربية، والتي تزيد على سبعين منظمة. وبانحياز إنجلترا إلى معسكر أمريكا في مواجهة الإسلام في أفغانستان والعراق، وقعت حوادث عنف متفرقة أدت إلى تضييق حكومي على المسلمين هناك؛ مما جعل بعض المسلمين المهاجرين يؤثرون مغادرة بريطانيا (¬2). 4 - الأقليات المسلمة في الأمريكتين: في عام (1960 م) كان عدد المسلمين في أمريكا الشمالية يقدر بـ 000, 100، وقد قفز هذا العدد خلال خمس وعشرين سنة ليصل إلى أربعة ملايين مسلم، وفي عام (2000 م)، بلغ التعداد ما بين ستة إلى ثمانية ملايين مسلم، وتبلغ نسبة المسلمين المهاجرين 14 % من إجمالي المهاجرين إلى أمريكا، هذا فضلًا عن أن الداخلين في الإسلام من الأمريكيين أكثر ممن يدخلون في أي دين آخر (¬3). ¬

_ (¬1) CIA World Fact Book. (¬2) الأقليات في العالم الإسلامي، د. محمد علي ضناوي، (ص 179، 180). (¬3) جريدة الشرق الأوسط - لندن في (23/ 7/ 1997 م)، نقلًا عن تصريح للدكتور جهودا ربنهاردز، رئيس جامعة برانديز الأمريكية إلى جريدة جيروزاليم بوست الإسرائيلية، جريدة الشرق الأوسط - لندن في (25/ 7/ 2000 م) في حوار مع د. أحمد الشريف، رئيس المجلس الأمريكي الإسلامي.

ووفقًا لأحد التقديرات، فإن الإسلام أصبح لكثير من الأمريكيين السود هو الدين المختار، ويبلغ عدد المسلمين منهم سنة (1997 م)، مليونًا معظمهم من الرجال (¬1). ويقدر مسئول إسلامي في أمريكا أن عدد المسلمين يجاوز الآن عشرة ملايين منهم 15.000 في الجيش الأمريكي بكل مستوياته، وأن عدد المساجد 2000 مسجد، وعدد المدارس النظامية 200 مدرسة فضلًا عن مئات المدارس التي تعمل في الإجازات في تعليم اللغة العربية (¬2). ويتركز المسلمون في أربع مناطق: نيويورك، ونيوجرسي، والشرق عمومًا -32.2 %- يليها الجنوب: فلوريدا وتكساس-25.3 %- ثم منطقة البحيرات العظمى: ميتشجان وألينوي -24.3 %- وأخيرًا الغرب: كاليفورنيا -18.2 %-. ويعاني العرب في الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (2001 م) من قانون مكافحة الإرهاب الذي يسمح باعتقال أي شخص تنطبق عليه مواصفات عامة توحي بأنه من أصل عربي، ومن قانون آخر يخول اعتقال وسجن أي شخص دون إيضاح الأسباب مع منعه من الاتصال بمحاميه -قانون الأدلة السرية-. ولعل أكبر المشكلات التي تواجه الأقليات المسلمة في الولايات المتحدة، مشكلة التحزب أو التشرذم بسبب الخلافات الإقليمية التي حملوها معهم من أوطانهم، بالإضافة إلى التبعثر وعدم التركز في مناطق محددة لاتساع الولايات المتحدة، والنقص الحاد في العلماء والدعاة (¬3). 5 - الأقليات المسلمة في أستراليا: يزيد عدد المسلمين في أستراليا على 500 ألف مسلم، وقد عرف الإسلام طريقه ¬

_ (¬1) ABC NeWS، أذيع من محطة BIC NeWS في (13/ 12/ 1997 م)، وروجع في (26/ 2/ 1999 م). (¬2) جريدة العربي، القاهرة في (14/ 12/ 1998 م)، في حوار مع د. أحمد محمود الخطاب، الأمين العام المساعد للاتحاد الإسلامي في أمريكا. (¬3) الدعوة بين المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية، د. خالد القريشي، (ص 127) وما بعدها.

لأستراليا في فترة استكشافها حينما استخدم الإنجليز الإبل وسيلة للتنقل في مناطق أستراليا الصحراوية، واستعانوا ببعض المسلمين من أفغانستان وباكستان لقيادة تلك الإبل، وقد أنشأ هؤلاء المسلمون المساجد؛ لذا فليس غريبًا أن يقول أحد المكتشفين الإنجليز بأن صوت الأذان دوَّى في أرجاء القارة الأسترالية قبل أن تدق أجراس الكنائس. وتعتبر الجالية اللبنانية اليوم هي أكبر الجاليات الإسلامية هناك، ويوجد في أستراليا خمس وخمسون جمعية إسلامية، وأكثر من 35 مسجدًا ومركزًا إسلاميًّا، وأستراليا من القارات التي يمكن أن تستوعب أعدادًا كبيرة من المسلمين (¬1). وقد أسلم الآف الأستراليين، ويحاول المسلمون أن ينشئوا عددًا من المدارس والمراكز التي تعنى بتعليم الأمور الدينية واللغة العربية هناك. وفي الطرف الشمالي لأستراليا تقع غينيا الجديدة، حيث يبلغ عدد سكانها 1.832.000 مليون نسمة، ونسبة المسلمين فيها 95 %، وأما إقليم بابوا وهو القسم الثاني منها فيبلغ عدد سكانه 650 ألف نسمة، 90 % منهم مسلمون (¬2). ¬

_ (¬1) تقرير بعثة الأزهر إلى أستراليا، جريدة الشرق الأوسط العدد 1866 في (4/ 4/ 1404 هـ). (¬2) الأقليات في العالم الإسلامي، د. محمد علي ضناوي، (ص 184).

المبحث الثالث خصائص الأقليات المسلمة

المبحث الثالث خصائص الأقليات المسلمة إن الأقليات المسلمة هم جزء من الأمة الإسلامية، والتي تشمل كل مسلم في أنحاء العالم أيًّا كان جنسه أو لونه أو لسانه أو وطنه أو طبقته، وهم -من ناحية أخرى- جزء من مجتمعهم الذي يعيشون فيه، وينتمون إليه، فلا بد من مراعاة هذين الجانبين، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، ولا نضخم أحدهما على حساب الآخر. ويمكن أن نستخلص الخصائص التالية للأقليات الأسلامية خارج ديارها: 1 - نشأت الأقليات المسلمة نتيجة عدة عوامل، منها: الهجرة الاختيارية بهدف العمل أو الإقامة، أو بناء على ظروف شخصية، ومن تلك العوامل: الهجرة الإجبارية، وهي تلك التي تنشأ عن أعمال عسكرية وسياسية عدوانية، وهذه تعرف اليوم باسم ظاهرة اللاجئين. فأما الهجرة الاختيارية، فهي في كثير من الأحوال تكون طارئة في حياة المهاجر مع رغبة أكيدة في العودة إلى الوطن، غير أن تمادي أحد أسباب الهجرة، بالنسبة إلى وضعه الخاص، يحول الهجرة مع الزمن إلى استيطان دائم، خاصة إذا نشأت ظروف محلية جديدة في بلد الهجرة كالنجاح في العمل التجاري، أو طمأنينته إلى غده وتخوفه من التحول في بلده الأصلي إلى مكافح من جديد في طلب العيش أو إلى ارتباطه في المهجر بنشأة أبنائه وتقلبهم في مراحل الدراسة، مما يلزمه في كثير من الأحوال إلى تمديد حال الهجرة إلى حين تخرجهم، ثم قد تنشأ روابط الزواج من أهل تلك البلاد فتغدو العودة أكثر صعوية، فيتحول المهاجر إلى مستوطن، خاصة إذا ما اكتسب جنسية الدولة المقيم فيها، وأصبح حائزًا على حقوق المواطن الأصلي.

وعلاوة على ذلك، فإن المهاجر المسلم يشعر أن تبعات كثيرة تغدو ملقاة عليه، منها: العمل على المحافظة على وجوده الإسلامي ووجود أبنائه، فيعمل جاهدًا لبناء المؤسسات الإسلامية كالمساجد والمدارس والمعاهد والمراكز، وتصبح هذه بذاتها أسبابًا إضافية للاستيطان ليحافظ عليها من جهة، ولأنها هي نفسها تضمن -في نظره- حدودًا مقبولة في وجود إسلامي معقول. وأما الثانية وهي الهجرة القسرية، والتي تسمى اليوم باللاجئين، فهي من أقسى ما مر ويمر على بعض البلدان الإسلامية، بل إن اللاجئين المسلمين الفارين من اضطهاد أو عدوان أو ظلم جماعي يفوق 87 % من مجموع اللاجئين في العالم عام (1983 م)، وهي نسبة كبيرة جدًّا تكشف مدى المخاطر التي تحيط بالمسلمين والمؤامرات الضخمة التي لا تزال تستهدفهم كأمة وشعوب. فقد بلغ عدد اللاجئين المسلمين عام (1983 م) 9.329.000 لاجئ من أصل 10.666.200 لاجئ في العالم، وقد أكدت إحصاءات لجنة الولايات المتحدة للاجئين: أن معظم هؤلاء قد فروا من الاضطهاد الذي يتعلق أحيانًا بعوامل عرقية، ولكنها دينية في الأصل. علمًا أن الرقم المبين آنفًا لا يشمل اللاجئين المسلمين في أفريقيا واللاجئين من الحرب بين العراق وإيران، ولا أولئك الذين هُجِّروا من ديارهم ونقلوا إلى نواحٍ مختلفة في الاتحاد السوفيتي أو الصين. ويلاحظ من هذا التقرير أن نسبة إسهام الدول الإسلامية في حصيلة التبرعات لعام (1983 م) لم تتجاوز 2.3 % وهو أمر ملفت للنظر حقًّا، غير أنه لا بد من القول بأن بعض البلدان الإسلامية تقوم بالإغاثة أو الدعم بصورة مباشرة خاصة لأولئك الذين يقيمون على أراضيها، فباكستان مثلًا تدفع 50 % من جملة نفقات اللاجئين عندها (¬1). ¬

_ (¬1) من بحث للسيد فضل الله ديلموت، مقدم إلى مؤتمر الأقليات في الرياض، عام 1986 م، (ص 395).

2 - بصورة عامة فإن المهاجرين كجاليات، أو المستوطنين المسلمين كأقليات لا ترابط بينهم من جهة، ولا علاقة منظمة بينهم وبين دولهم الأم أو دول العالم الإسلامي أو منظماته الدولية؛ مما جعلهم معزولين إلى حد ما عن العالم الإسلامي ورقمًا مهملًا في حساب العالم الإسلامي وسياسته الخارجية. وقد يكون من أبرز أسباب عدم الترابط فيما بينهم -خاصة في المراحل الأولى للهجرة والاستيطان- الرغبة في تحقيق المكاسب المادية، فيحملهم هذا على الاندماج في المجتمع الجديد والتفاني في العمل التجاري أو المهني، كما أن من الأسباب: صراع دول العالم الإسلامي فيما بينها، وانعدام أي سياسة توجيهية، غير أن الغربة مع ما تفرضه من تحديات تجعل التجمع واجبًا، بيد أن هذا التجمع كثيرًا ما أخذ المنحى القومي والإقليمي، حتى في بعض المناطق أخذ أسلوب تجمُّع المهاجرين من مدينة واحدة أو قرية واحدة أو حي واحد، ثم تختفي الصلات بين هذه التجمعات لتترابط من جديد تحت الضرورة وضمن قواسم إسلامية مشتركة في اتحاد واحد أو في جمعيات مشتركة. وقد يكون المسلمون في دولة من الدول موزعين على جنسيات عديدة ويشعرون بضرورة إقامة مركز إسلامي، فيه المسجد والمدرسة ومكان التجمع، فيتعاونون فيما بينهم لإقامة هذا الصرح؛ وهنا تنشأ بالضرورة علاقة مع العالم الإسلامي، فتتشكل الوفود لزيارة دولة من دول العالم الإسلامي وبالذات الخليجية، طلبًا للمساعدة في إنشاء مثل هذه المراكز، وبسبب زيارات يقوم بها مسئولون في منظمات إسلامية شعبية أو رسمية للجاليات الإسلامية في العالم، وبسبب تكشف أحوال الجاليات والأقليات الإسلامية، وبسبب تنامي الصحوة الإسلامية؛ بدأت علاقات المسلمين المهاجرين تزداد شيئًا فشيئًا مع العالم الإسلامي، خاصة بعد أن تحسست بعض الدول الإسلامية والمنظمات العالمية الإسلامية أهمية الوجود الإسلامي في دول العالم الأخرى (¬1). ¬

_ (¬1) الأقليات الإسلامية في العالم، د. محمد علي ضناوي، (ص 19، 20).

وفي الربع الأخير من القرن العشرين ظهرت ملامح عديدة لتنظيم هذه العلاقات وتقوية ذلك الوجود وتنميته، ومده بالقدرات والطاقات في محاولات جادة ومتميزة، ومن بواكيرها الأولى: المؤتمر العالمي الذي عقد في الرياض عام (1986 م)، بدعوة من الندوة العالمية للشباب الإسلامي، والذي خُصص لبحث مشاكل الأقليات المسلمة في العالم، وما تزال مختلف الدول والهيئات والجهات الخيرية تُعنَى بهذا الشأن، علاوة على ما توليه الجهات العلمية والأكاديمية من دراسة لتلك المشاكل ومحاولة لوضع الحلول العلمية السليمة، ووضع البدائل المناسبة في مختلف المجالات. 3 - الأقليات الإسلامية سواء أكانت قوية قادرة أم ضعيفة مقهورة، تتأثر بشكل أو بآخر بما يجري في العالم الإسلامي من أحداث، وتتفاعل بصورة مباشرة أو غير مباشرة مع قضاياه، وسواء أكانت تلك الأحداث سلبية أم إيجابية، وكثيرًا ما تتأثر هذه الأقليات بالخلافات التي تنشأ في دول العالم الإسلامي، سواء أكانت الخلافات سياسية أم مذهبية. 4 - إن استقراء واقع الأقليات المسلمة الذين يتجاوزون في عددهم أربعمائة مليون مسلم يؤكد على أن هذه الأقليات أقليات محتاجة للدعم التربوي والعلمي والاجتماعي والديني والسياسي، بل وحتى الدعم اللغوي الذي يُمَكِّن من التواصل مع لغة القرآن الكريم. ومع الإقرار بالحاجة على كل مستوياتها إلا أنها تتفاوت وتتباين باختلاف المجتمعات التي تعيش فيها الأقليات المسلمة؛ وعليه فإن من المفيد إدراك هذه الحاجات تبعًا لاختلاف ظروف تلك الأقليات في مجتمعاتها.

المبحث الرابع مشكلات الأقليات المسلمة

المبحث الرابع مشكلات الأقليات المسلمة إن تصفح أحوال الأقليات والجاليات الإسلامية يُشعر بعظم المسئولية إزاء هذه الأمم من المسلمين في المشارق والمغارب، لا سيما وهم يعانون الصعوبات والمشكلات، والتي تبدأ من التضييق والتذويب، وتنتهي بالقتل والتدمير. وقبل أن نستعرض طرفًا من مشكلات الأقليات يجدر أن ننوه ببعض مشكلات الأغلبية المسلمة المستضعفة. فإن مأساة مسلمي الحبشة وألبانيا وفلسطين، لا ينبغي أن تغيب ونحن نبحث مشاكل الأقليات، ولعل طرح هذه المأساة يفيد في إيقاظ ضمير المسلمين تجاه إخوة لهم في الدين، وفيما يلي بيان مختصر حول هذه المشكلات: مأساة الحبشة: يشكل المسلمون بالحبشة نسبة 75 % من مجموع السكان، بينما النصارى الحاكمون يمثلون 20 % من السكان (¬1). لقد واجه الإسلام والمسلمون الحروب في الحبشة على مدى خمسة قرون، منذ عصور الاستعمار الصليبي المتمثل في البرتغال، ثم فرنسا، ثم إيطاليا، ثم إنجلترا، مرورًا بعهد القيصر هيلاسلاسي (1930 م - 1974 م) المسيحي اليهودي. فكان أن مكن لليهود للسيطرة على شئون البلاد العسكرية والاقتصادية ¬

_ (¬1) قضايا إسلامية معاصرة، د. عبد الشافي غنيم، د. رأفت غنيمي، عالم الكتب، بيروت، 1980 م، (ص 64).

والتعليمية، فضلًا عن معاونته للصهيونية، كما فعل على أثر العدوان الثلاثي إنجلترا وفرنسا وإسرائيل على مصر عام (1956 م)، حيث أرسل معونات مادية. وعندما زار هيلاسلاسي أمريكا عام (1960 م)؛ لحضور جلسات هيئة الأمم المتحدة، سأله الصحفيون عن وضع المسلمين في أثيوبيا، فرد قائلًا: "إن المسلمين في أثيوبيا قلة دخلت الإسلام عن طريق التجار العرب، وقريبًا سيعودون إلى دين آبائهم وأجدادهم، ونحن لن نسمح بأن يكون في أثيوبيا دينان" (¬1). وكانت خطته لإبادة المسلمين والقضاء على وجود الإسلام هناك تتركز على (¬2): حرمان المسلمين من التعليم وتلقي الثقافة الإسلامية، ومصادرة أملاكهم بهدف إفقارهم، وتنصير أبناء المسلمين بالقوة، والفتك بالمسلمين وقتلهم بحجة العصيان ضد الدولة، وابتلاع معاقل الإسلام المحيطة بالحبشة لسد الطريق أمام أية عملية لإنقاذ مسلمي الحبشة، وحرمان المسلمين من الاتصال الخارجي، وحرمانهم من وظائف الدولة، وفرض الضرائب الباهظة عليهم، والتي يطلق عليها ضريبة الكنائس. ثم تولى الحكم منجستو هيلا مريام عام (1974 م)، ولم يختلف كثيرًا عن سابقه في المبدأ والهدف من سياسته إزاء المواطنين المسلمين، والفرق هو: أن هيلاسلاسي كان يعمل من منطلق العقيدة الصليبية مع ميوله اليهودية، أما منجستو فيعمل من منطلق المصالح الحيوية، وهي الاستقرار من ناحية، والمفهوم أن وجود الإسلام يهدد الاستقرار، ومن ناحية أخرى إرضاء روسيا وأمريكا معًا، علمًا بأن منجستو ذو ميول شيوعية. ولقد أفرخت محنة الأكثرية في الحبشة مأساتين مؤلمتين هما: مأساة أرتريا -أرض ¬

_ (¬1) محنة الأقليات المسلمة في العالم، الأستاذ محمد عبد الله السمان، الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر الشريف، (ص 47). (¬2) المصدر السابق، (ص 45، 46)، نقلًا عن: الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام، الأستاذ. عبد الله التل.

الهجرة الأولى-، ومأساة أوجادين الصومالية الإسلامية، ولم يكتف حكام الحبشة بهاتين المأساتين، بل مضوا في إحداث المشاكل مع الدولة المسلمة المجاورة عن طريق المتمردين كما حدث للسودان الجنوبية. مأساة ألبانيا: يمثل المسلمون في ألبانيا أكثر من 70 % من مجموع السكان، في حين أن الأقلية الحاكمة لا تزيد عن 20 % من السكان. انتهى نفوذ الخلافة العثمانية في ألبانيا سنة (1327 هـ - 1917 م)، وانتخب أحمد زوغو رئيسًا لها وقد أعلن عن نفسه ملكًا لألبانيا عام (1347 هـ)، وكان ملكًا سيئًا حاول مسايرة الدول الأوروبية وطمس التقاليد الإسلامية، وفي الحرب العالمية الثانية سقط هذا الملك واحتلت إيطاليا ألبانيا، وبعد انتهاء الحرب أجريت الانتخابات المزيفة لاختيار حاكم البلاد، وفيها فاز الشيوعيون الذين تمكنوا من السيطرة على مقاليد البلاد منذ عام (1944 م) (¬1). في البداية -كما هو المعتاد- لم يظهر الشيوعيون نواياهم الخبيثة ضد المواطنين من أتباع الأديان، وهم المسلمون والمسيحيون، ولكن سرعان ما بدءوا التخطيط المنظم والضغط التدريجي، فأغلقوا المدارس الإسلامية بالتدريج، وحوَّلوا المساجد إلى مناطق سياحية ومنعوا المسلمين من دخولها لإقامة الشعائر بها، كذلك الأمر بالنسبة للكنائس. وحاصرت الحكومة علماء الدين، وراح المدرسون الحكوميون يهاجمون فكرة الدين وينفثون في نفوس الأطفال روح الإلحاد والشيوعية، ويضطهدون أي طالب يصلي أو يصوم، كما جرت تصفيات واسعة النطاق للمسلمين في الوظائف العامة والجيش. وبعد إصدار الحكومة الشيوعية قرارها عام (1967 م) باعتبار ألبانيا دولة لا دينية ¬

_ (¬1) المسلمون تحت سيطرة الشيوعية، الأستاذ. محمود شاكر، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1402 هـ (ص 119).

تَغَير كل شيء، أصبحت الدعوة إلى الله جريمة يعاقب عليها القانون، وحاربت الحكومة حتى مظاهر الدين الشكلية، كالعمامة واللحية وما إليها، وصدر قانون لتغيير الأسماء يقضي بمنع اتخاذ أي اسم فيه رائحة عربية أو إسلامية، وتحولت البلاد إلى سجن كبير، واستشهد مئات العلماء وآلاف الأبرياء في المذابح الجماعية المتتالية. يقول طالب مسلم ألباني فرَّ بدينه إلى عدة دول في العالم حتى وصل إلى مصر: "وشاهدت بعيني وسمعت بأذني عن المذابح التي راح ضحيتها الكثير من الأبرياء إرواءً لظمأ الشيوعيين المتعطشين للدماء، وعشنا في جوٍّ يشبه عصر محاكم التفتيش التي أقامتها الصليبية الحاقدة للمسلمين بعد سقوط الأندلس" (¬1). وإلى يوم الناس هذا ما يزال الألبان يعانون من تغييب الإسلام عن حياتهم، وإن كانت قد تحسنت بعض الشيء. مأساة فلسطين: في عام 1922 م كان عدد سكان فلسطين 752.048 نسمة، وكان عدد اليهود منهم 83,790، ولم يأت عام (1936 م) حتى وصل عددهم إلى 370,483 يهودي من مجموع سكان فلسطين البالغ عددهم 1.336.518 نسمة. وكانت بولندا والاتحاد السوفيتي وألمانيا ورومانيا وليتوانيا على رأس القائمة بالنسبة للبلاد التي خرج منها هؤلاء اليهود؛ ذلك لأن ثلثي يهود العالم كانوا يقيمون في أوروبا الشرقية. ومع أنه يعيش على أرض فلسطين مسيحيون، بل وشيوعيون أيضًا، إلا أن المحن كانت منصبة على المسلمين وحدهم باعتبارهم أصحابَ القضية الحقيقيين، لقد مارس اليهود كل أنواع العنف بشاعةً، من ضرب وشج وكسر الأطراف أو قطعها، وإجهاض ¬

_ (¬1) حوار جريدة اللواء الإسلامي القاهرية مع الطالب برهان الدين قبلي، في العدد (15)، في جمادى الأولى 1407 هـ.

الحوامل، وتقتيل الأبرياء دون أن يفرقوا بين شيخ أو طفل، ولا بين رجل أو امرأة، كما انتهكوا حرمات الأماكن المقدسة، وعلى رأسها الأقصى الشريف. وتساقط المسلمون في كل ساعة -بل ربما في كل دقيقة- بين قتلى وجرحى، ولقي عشرات الآلاف مصرعهم على يد اليهود منذ بدء الاحتلال، ولا يعلم عدد الضحايا -على وجه التحديد- إلا الله. لم تقتصر حوادث العنف والاضطهاد الصهيوني على فلسطين المحتلة، بل يلاحق اليهود كل تواجد إسلامي فلسطيني لسحقه من الوجود، فكانت مذابح صبرا وشاتيلا المؤلمة التي راح ضحيتها أكثر من عشرة آلاف من المسلمين حتى سجِّلت كيوم من أيام الجهاد الفلسطيني، وتتجدد المذابح في المخيمات من وقت لآخر، وفي عام 2009 م وقعت أحداث غزة الأبية، والتي قضى فيها بضعة آلاف من المسلمين، ما بين قتيل وجريح. كل ما سبق لمحة عن محنة الأغلبية المسلمة المستضعفة من الأقلية المُمَكَّنة في مناطق متنوعة من العالم اليوم. وقبل الخوض في مشكلات الأقليات المسلمة، فإنه يجدر الإشارة إلى أن التحديات المرفوعة في وجه الأقليات المسلمة تختلف من مجتمع لآخر تبعًا لظروف كل دولة. فقد تكون الأقليات والجاليات في البلدان الأكثر ديموقراطية تتمتع بنصيب من الحرية وتتاح لهم فرص لتحسين أوضاعهم، فبإمكان هؤلاء فيما لو انتظمت أحوالهم وتجمعاتهم ووجدوا من الدعم والتأييد ووفرت لهم طاقات علمية وتنظيمية واقتصادية ودعوية أن يتجاوزوا معظم التحديات ويطوعوها لمصالح الأقلية الإسلامية، ثم ينطلقوا منها إلى درجات أعلى في اختراق الأكثرية بالدعوة إلى الله، ودفع المجتمع إلى احترام التوجهات الإسلامية.

المطلب الأول: المشكلات الدينية

أما الجاليات والأقليات في بلدان الحكم الاستبدادي، كبعض البلدان الأفريقية، أو بلدان أوروبا الشرقية، والصين ونحوها، فهؤلاء تتميز أحوالهم عن أقليات ما يسمى بالعالم الحر أو الديموقراطي. غير أن قواسم مشتركة تجمع بين الفريقين، فالتحديات قائمة، وهي تلك التي تهدد ما يُسمَّى بالأمن الاغترابي للأقليات والجاليات، وهو ما يرتبط أو يتعلق بالعوامل التي تحفظ على المسلم شخصيته، وعلى الوجود الإسلامي تميزه وقدرته على النماء. وإذا أردنا أن نذكر مشكلات الجاليات والأقليات التي تشكل القاسم المشترك بين من يعيش في ظل العالم الحر، أو من يعيش في منطقة الحكم الاستبدادي والفكري الموجه والضاغط؛ يمكن أن نستقرئ المشكلات التالية: - المشكلات الدينية. - المشكلات الاجتماعية ومسائل الأحوال الشخصية. - المشكلات التربوية والأخلاقية. - المشكلات اللغوية والتعليمية. - المشكلات السياسية. - المشكلات الاقتصادية والمالية. وفيما يأتي من المطالب تفصيل وبيان: المطلب الأول: المشكلات الدينية: إذا كانت الأغلبية المسلمة -المغلوبة على أمرها تحت حكم الكفار- من أي طائفة كانوا، لم يجدوا مجالًا للحديث عن مجرد حق الحياة، فالأمر بالنسبة للأقليات المسلمة

الفرع الأول: الأقليات المسلمة تحت حكم صليبي

أشد وأنكى، وبخصوص الأقليات المسلمة فقد كان نصيبهم في غالب الأحيان هو البطش والاضطهاد، وفي بعض الأحوال إجبارهم على الرحيل. وفيما يلي بعض نماذج من معاناة الأقليات المسلمة تحت حكم الأكثرية غير المسلمة، سواء الأكثرية المسيحية أو الوثنية أو الشيوعية. الفرع الأول: الأقليات المسلمة تحت حكم صليبي: من الدول التي تحكمها الأغلبية المسيحية في آسيا: الفلبين، وفي أوروبا: قبرص، وفي أفريقيا: أوغندا، وكينيا، وموزمبيق، وملاوي، والكونغو، وبورندي، ورواندا، وغانا، وليبيريا، وزامبيا، وروديسيا، واتحاد جنوب أفريقيا، وبتسوانا، وأنجولا، وزائير، ومعظم دول القارات لثلاث الأخرى، تتفاوت درجة المأساة التي أصابت الأقليات المسلمة تحت حكم صليبي بتفاوت مدى الحقد الدفين في قلوب الحكام المسيحيين والمصلحة التي يمكن أن يكتسبوها من وراء ذلك. ولا شك أن الاستعمار الأوروبي لأفريقيا مهد للإرساليات التبشيرية لكل الطوائف المسيحية من جانب، كما مهد للاستيلاء على المواد الخام التي تزخر بها القارة من جانب آخر، ومما تجدر ملاحظته أيضًا أن انتشار الإسلام في إفريقيا ودخول قرى ومدن بأسرها في الإسلام؛ كان سببًا مباشرًا في تزايد الحملات التنصيرية على القارة السمراء، وتبع ذلك محاربة الحكم النصراني في تلك البلاد للمدارس الإسلامية وإغلاقها بالقوة، وقصر التعليم والوظائف على الطوائف المسيحية (¬1). وتزامن مع هذا: التوسع في بناء الكنائس وتدعيمها بالمال، فالكنيسة اللوثرية في تنزانيا -على سبيل المثال-: بلغت ميزانيتها السنوية، قبل عام (2001 م) 11 مليون دولار توظف غالبيتها في أعمال التنصير، مع تراجع واضح في عدد المساجد والمراكز الإسلامية (¬2). ¬

_ (¬1) التاريخ الأسود للكنيسة، القس دي روزا، (ص 133). (¬2) أوضاع الأقليات والجاليات الإسلامية في. العالم، د. مجدي الداغر، دار الوفاء، المنصورة، مصر، ط 1، 1426 هـ - 2006 م، (ص 111).

وأما في دولة سبق أن حظيت بحكم المسلمين حقبة من الزمان، مثل: الأندلس أو أسبانيا حاليًا، كان نصيب المسلمين بعد انهزام قواتهم هو التقتيل والإبادة، ولم يَنْجُ من الموت إلا من تمكن من الفرار إلى بلاد أخرى (¬1). وكانت محاكم التفتيش التي أقامها المسيحيون بعد سقوط الأندلس المسلمة في أيديهم أبشع الاضطهادات التي مارسها المسيحيون لأتباع الأديان الأخرى في التاريخ كله، كان الموت ومصادرة الممتلكات هو الحكم الذي أصدره الإمبراطور شارل الخامس في أسبانيا سنة (1521 م) ضد جميع الهراطقة -المسلمون واليهود في مقدمتهم-، وكانت قرارات حرق الناس وشنقهم وتمزيق جثثهم، ولَوْي ألسنتهم هي العقوبات الشائعة لمن يرفض قبول الاعتراف بصحة العشاء الرباني على الطريقة التي يقول بها شارل، فما بال عدم الاعتراف بالمسيحية جملة (¬2). أما حربهم على الإسلام بتشويه صورته وصورة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فلم تنخفض شراستها إلا في أوائل هذا القرن، عندما بدءوا منذ السبعينات ينظرون إلى ضرورة إيجاد نوع من الصلة والتفاهم بين المسيحيين والمسلمين عن طريق الحوار. واعترف بهذا باحث مسيحي وهو الدكتور إيبالسا قائلًا: "إن شخصية النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - مقدمة إلى العالم المسيحي بصورة مشوهة إلى حد كبير، حولها نسجت العديد من الافتراءات والأكاذيب والخرافات التي نشأت كلها من الفكر المتعصب الذي ساد الغرب منذ بدأ الإسلام يدخل أوروبا، مثل هذه الافتراءات إحدى وسائل تعبئة ¬

_ (¬1) المسلمون تحت السيطرة الرأسمالية، الأستاذ. محمود شاكر، (ص 175)، وما بعدها، العالم الإسلامي اليوم، لنفس المؤلف، دار الصحوة - القاهرة، ط 1، 1405 هـ - 1985 م، (ص 93) وما بعدها. (¬2) مواطنون لا ذميون، الأستاذ فهمي هويدي، دار الشروق، القاهرة، ط 3، 1420 هـ - 1999 م، (ص 64)، نقلًا عن روح الإسلام، سيد أمير علي، ترجمة عمر الديراوي، (ص 53).

الجماهير ضد المد الإسلامي" (¬1). وفي دولة سبق أن تعاون فيها الصليبيون المستعمرون مع الصليبيين الوطنيين، مثل: الفلبين، حيث تسلم المسيحيون المواطنون الحكم بعد رحيل المستعمرين، تسلموا كذلك المهام للقضاء على الإسلام وتحجيم وجود المسلمين، علمًا بأن دور المسلمين في الحرب التحريرية من قبضة الاستعمار الأسباني والأمريكي والياباني كان دورًا رائدًا (¬2). ومن أساليب القمع والتصفية التي مارسها المسيحيون ضد المواطنين المسلمين كما جاء في عريضة منظمة تحرير شعب المورو المرفوعة إلى لجنة حقوق الإنسان بمنظمة المؤتمر الإسلامي، بدأ التحدي الصليبي بشن هجمات إبادة جماعية على المسلمين الفلبينيين، بقتل وجرح ما لا يقل عن مائة ألف مسلم وتشريد نصف مليون، واغتصاب مليون هكتار من أرض المسلمين، وإحراق البيوت والمساجد والمدارس (¬3). وجاء في الكتاب الأبيض الذي قدمه المسلمون إلى حكومة الفلبين في سنة (1375 هـ) أن عدد المذابح والحوادث الدامية التي ارتكبت ضد المسلمين في جنوب الفلبين بلغ 417 حادثة في ثلاث سنوات فقط (¬4). فالمواطنون المسلمون محاربون في مسقط رأسهم من قِبَل بني جنسهم؛ الأمر الذي جعلهم في موقف الدفاع دائمًا عن الأرواح والعقيدة (¬5). ¬

_ (¬1) تقرير المؤتمر المسيحي الإسلامي الثالث بقرطبة سنة (1977 م)، مجلة العربي، العدد 223، (يونيو 1977 م)، (ص 42). (¬2) المسلمون تحت السيطرة الرأسمالية، محمود شاكر، (ص 131، 132). (¬3) الأقليات المسلمة في آسيا وأستراليا، سيد عبد المجيد بكر، العدد 23، مجلة دعوة الحق، صادرة عن رابطة العالم الإسلامي، (نوفمبر 1983 م)، (ص 147)، المسلمون تحت السيطرة الرأسمالية، محمود شاكر، (ص 133). (¬4) الأقليات المسلمة في آسيا وأستراليا، سيد عبد المجيد بكر، (ص 147)، نقلًا عن نشرة معهد شئون الأقليات المسلمة، محرم 1398 هـ، (ص 5). (¬5) يراجع: مشكلات الدعوة إلى الإسلام في مجتمع الأقليات المسلمة في أوروبا وعلاجها، د. توفيق السديري، رسالة دكتوراه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

إذا كان تصرف المستعمرين المسيحيين -كإنجلترا وأمريكا- في البلاد المستعمرة شديد الحيف على المسلمين، بالتعاون مع المواطنين غير المسلمين قديمًا، وبدعم حركات التنصير العالمية حديثًا، فإن سياستهم داخل بلادهم تميل إلى نوع من إعطاء حرية المعتقدات والعبادات للمواطنين، حرصًا على لافتتها الديموقراطية، ولكن التفرقة بين المواطنين ما زالت موجودة في كثير من الأمور. إن غلبة الإحساس بالتفوق والتمييز لدى الإنجليز، إذا ما نظروا إلى الشعوب التي كانوا يحكمونها، يجعل التعامل معهم بعقلية الغالب والمغلوب، فقانون الجنسية هناك مثلًا يقوم على أساس النفعية البحتة، فعلى حسب إفادة الناس ونفعهم للدولة يكون وضعهم فيها؛ ولذلك تقرر التمييز في المواطنة بين: رعية Subject، مواطن Citizen، وطني Nationalist، تضم الأولى الذين درجتهم أدنى في الجنسية وبالتالي في الوضع والحقوق، تليهم الثانية، ثم الثالثة أعلاهم درجة (¬1). وإن كانت الدولة تترك المسلمين يمارسون شعائرهم الدينية بالحرية، إلا أن بعض المواطنين المسيحيين قد يتخذون موقفًا معاديًا، ففي بريطانيا طردت مديرة إحدى المدارس طالبين مسلمين بعد أن ضبطا وهما يصليان في موقف سيارات المدرسة، وقالت المديرة: "إن الإسلام دين الشيطان، وأنها لا تعتبر نفسها مسيحية إذا لم تؤمن بذلك" (¬2)، ولم يذكر أن فعلت الحكومة شيئًا لإنصاف المعتدى عليهما. وهذا التصرف انعكاس من الصورة الحقيقية لشعور المسيحيين بالغرب عمومًا إزاء الإسلام، جاء على لسان المنصر الإنجليزي Canon David Maclnnes قوله: "من ¬

_ (¬1) فقه الجنسيات دراسة مقارنة في الشريعة الإسلامية والقانون، المطبعة الجامعية طنطا، 1407 هـ، د. أحمد محمد أحمد، (ص 211). (¬2) مجلة لواء الإسلام، العدد الثالث، السنة الثالثة والأربعون، غرة ذي القعدة، 1408 هـ، (ص 45).

أضخم التحديات التي تواجهنا في بريطانيا -في اعتقادنا- هو وجود مليون مسلم في هذه البلاد؛ ولذا يجب على المسيحيين مواجهة تواجدهم بكل جد" (¬1). ولا يختلف الأمر في الولايات المتحدة، فالتفرقة التي يعاني منها المواطنون السود مرجعها إلى جانب اللون الدين كذلك، حيث يُمَثَّل الإسلام في المسلمين السود، حيث اتخذت التفرقة سبيلها في العرف والقانون معًا، فللسود مدارس خاصة ومستشفيات خاصة، ومن صور التفرقة بسبب الدين أيضًا تمتع المواطنين اليهود بوضع جيد مؤثر في سياسة الدولة دون غيرهم من الأقليات. ولا تزال المراكز الإسلامية في دول العالم المتحضر كأمريكا تعاني معاناة كبيرة تارة من الأفراد بالتخريب والسرقة والبلاغات الكاذبة، وتارة من وسائل الإعلام التي تشن حملاتها الإعلامية المضللة، والتي يُتَّهم فيها المسلمون بالإرهاب والتدمير واتخاذ المساجد معاقل للتدريب وتخزين الأسلحة، ومن الحكومات بمنع وتعويق صدور تراخيص البناء للمساجد والمراكز في بعض المناطق (¬2). وأخيرًا: فلا شك أن المجتمعات الأمريكية والأوروبية تمتعت فيها الأقليات المسلمة بهامش لا بأس به من الحرية، إذا ما قورن ذلك بمجتمعات ودول أخرى، إلا أنه لا بد أن يذكر أن هذا الهامش قد تقلص في السنوات الأخيرة بشكل بالغ -ولا سيما بعد سبتمبر 2001 م- حيث فرضت القوانين الخاصة التي يراد منها في الحقيقة مواجهة الإسلام وأهله في تلك البلاد، ولا تخفى هذه الحرب الصليبية التي تشنها أمريكا وحلفاؤها من ¬

_ (¬1) أساليب التبشير النصراني بين الأقليات المسلمة في بريطانيا، عطاء الله صديقي، ضمن بحوث مؤتمر الأقليات الإسلامية في العالم ظروفها المعاصرة، آلامها وآمالها، دار الندوة العالمية، 1420 هـ - 1999 م، (1/ 289 - 293). (¬2) الدعوة بين المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية، د. خالد عبد الرحمن القريشي، (ص 158 - 162).

الفرع الثاني: الأقليات المسلمة تحت حكم الوثنيين

البريطانيين وغيرهم على الإسلام وأهله في أفغانستان والعراق وما يترتب عليها من آثار داخل المجتمع الغربي نفسه، وما ينجم عن هذا من سلبيات تجاه مجتمع الأقليات. الفرع الثاني: الأقليات المسلمة تحت حكم الوثنيين: الدول التي بها أقليات مسلمة يحكمها الوثنيون منها: الهند، وسيلان، وبورما، وتايلاند، ونيبال، وبوتان، وسنغافورة، واليابان، وكمبوديا، وكوريا الجنوبية، ولاوس. هناك فارق ملحوظ بين دولة مستقلة متحضرة، وأخرى لم تكن متقدمة وسبق لها أن تعاونت مع الاستعمار الصليبي على المسلمين، فاليابان رغم أن دينها الرسمي وثني فبموقفها الاستقلالي وتقدمها في المدنية تعطي للمواطنين الحرية الكافية لاختيار معتقد أو دين معين، دونما تدخل من جانب الدولة بموجب الدستور، فالبوذيون لهم نشاط ذو شأن هناك، وكذلك المسلمون. ولقد انتشر الإسلام في اليابان بسرعة فائقة، فعلى سبيل المثال كان عدد المسلمين قبل سنة (1394 هـ) حوالي 14 ألف مسلم، ووصل عددهم بعد سنتين إلى 28 ألفًا (¬1). ومما كان يساعد هذا الانتشار تأثر اليابانيين بالإسلام من خلال اتصالهم بالدول المسلمة، خصوصًا بعد سياسة امتناع الدول العربية المصدرة للنفط من بيع نفطها في السوق العالمية انتصارًا لحرب (1973 م) ضد إسرائيل، حيث اشتدت حاجات اليابان إلى البترول، كذلك من خلال اتصالهم بالمسلمين الأجانب داخل اليابان، وقبل ذلك بدخول عدد من اليابانيين الإسلام عند عودتهم من المستعمرات بآسيا. امتلك المسلمون باليابان 15 مؤسسة إسلامية نشطة وفي تزايد مستمر- كما يوجد الدعاة اليابانيون المثقفون والمتفانون، مثل: الطبيب سوقي فتاقي، الذي أسس مستشفى إسلاميًّا شاملًا كمركز للدعوة إلى الله، وقد أسلم بجهوده بحمد الله عشرات ¬

_ (¬1) التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم داخل دولة واحدة، سورحمن هدايات، (ص 399).

الآلاف من اليابانيين (¬1). أما الدول الأخرى التي تدين بالوثنية، مثل: الهند التي تدين بالهندوسية، أو التي تدين بالبوذية، مثل: تايلاند وبورما، نتيجة لوضعها غير المتقدم مدنيًّا، وسبق تعاونها مع المستعمر الغربي على المسلمين، فإن الأقليات المسلمة فيها تعاني من سياسة التفرقة والإضعاف المتمثلة في أساليب متنوعة مثل: التصفية الجسدية التي وصلت كثيرًا إلى درجة الإبادة، ففي عام (1399 هـ) أباد الهندوس المسلمين في ثلاثة أيام متتالية، قتل فيها أكثر من ألف شخص وجرح أكثر من 1500 مسلم، مما دفع رابطة العالم الإسلامي إلى تقديم احتجاج (¬2). كذلك حادث آسام عام (1981 م) لقي فيه أكثر من 500 مسلم مصرعهم، وفي بورما تعاون البوذيون مع الشيوعيين في بعض الأحيان لارتكاب المذابح ضد المسلمين (¬3). ولا تزال أحداث قتل المسلمين في المساجد في السنوات الأخيرة بالهند وحرقهم ماثلة أمام العيان، ومن المعلوم أن الحكومة الهندية تشجع المنظمات المتطرفة بغض الطرف عن أعمالها ضد المسلمين ومن المعلوم أنه ما تزال أحداث المسجد البابري، وهدمه عام (1992 م) شاخصة في ذاكرة التاريخ، حيث أقاموا تمثالًا لبوذا داخل المسجد، وأغلق المسجد من يومها وبداخله التمثال (¬4). وفي فبراير (2002 م) وقعت "أحداث جوجارات" التي مثلت قمة الانتهاكات ضد الأقلية المسلمة؛ حيث قُتل فيها أكثر من ألفي مسلم، وشُرِّد عشرات الآلاف من منازلهم ودفن العشرات أحياء في قبور جماعية وهم موثقو الأيدي، وأدانت منظمات ¬

_ (¬1) الأقليات المسلمة في آسيا وأستراليا، سيد عبد المجيد بكر، (ص 59 - 62). (¬2) المرجع السابق، (ص 227). (¬3) المرجع السابق، (ص 189). (¬4) الإسلام في الهند، مقال بمجلة منار الإسلام، العدد السابع، (1994 م)، (ص 55).

الفرع الثالث: الأقليات المسلمة تحت الحكم الشيوعي

حقوق الإنسان ما جرى لأهل الإسلام في تلك البلاد (¬1). وما تزال دعاوى الهندوس ومنظماتهم الدينية تطالب بتحويل 170 مليون مسلم إلى الديانة الهندوسية (¬2). وفي تايلاند كثيرًا ما تتهم الحكومة المسلمين بأنهم شيوعيون؛ لتبرير القبض عليهم أو قتلهم، كما تفرض الدولة على المسلمين هناك الثقافة البوذية، ولقد قام البوذيون هناك بتزييف طبعات محرفة للقرآن الكريم، ومن العجب أن تسمح تلك الدولة بالإرساليات النصرانية في بلادها في أوساط المسلمين (¬3). الفرع الثالث: الأقليات المسلمة تحت الحكم الشيوعي: لا يتوقع من حكومة بَنَتْ إيديولوجيتها على الإلحاد ومحاربة الدين أن تعامل أهل الأديان السماوية عامة، وأهل الإسلام على وجه أخص؛ إلا بالظلم والحيف! والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى؛ فقد فرض الشيوعيون على جميع المواطنين الولاء للمذهب الماركسي اللينيني؛ ففي الاتحاد السوفيتي السابق نصَّت المادة 130 من الدستور: "على كل مواطن في الاتحاد السوفيتي أن يأخذ بيد جميع المواطنين طوعًا أو كرهًا ليبلغوا درجة الإيمان بالمذهب الماركسي اللينيني!! وكل مواطن في الاتحاد السوفيتي يلتزم بأن يراعي الدستور، ويطبق أحكامه، ويحافظ على نظام العمل، ويؤدي أمانة واجبه الاجتماعي، ويحترم الأسس التي يقوم عليها المجتمع الاشتراكي". ويقسم المواطنون حسب ولائهم للمذهب إلى ثلاثة أصناف (¬4): ¬

_ (¬1) أوضاع الأقليات والجاليات الإسلامية في العالم، د. مجدي الداغر، (ص 176 - 179). (¬2) الجغرافيا السياسية المعاصرة، عبد الغني سعودي، (ص 172). (¬3) أوضاع الأقليات والجاليات الإسلامية في العالم، د. مجدي الداغر، (ص 288 - 289). (¬4) فقه الجنسيات، د. أحمد محمد، (ص 241).

1 - من يؤمن بالمذهب الماركسي والنظام اللينيني، وهم الطبقة الأولى التي تحمل جنسية الاتحاد السوفيتي، بصرف النظر عن مكان ولادتهم وأصل نسلهم. 2 - من يؤمنون بالمذهب الماركسي دون النظام اللينيني، وهذا الصنف ينظر إليهم نظرة أدنى، وبالتالي يكون مركزهم في الجنسية أضعف. 3 - من لا يؤمنون بهذا ولا ذاك، وهذا الصنف لا يستحق على الإطلاق أن يحمل الجنسية السوفيتية، بل لا يستحق أن يبقى على قيد الحياة. والأقليات المسلمة في مثل هذه الدول من الصعب أن تجد انفراجًا لمجرد المحافظة على دينهما وممارسة شعائرهما إلا في الخفاء والحدود الضيقة، ففي كل من الاتحاد السوفيتي السابق والصين الشعبية اتخذت الحكومة الشيوعية عدة أساليب للتعامل مع المواطنين المسلمين منها (¬1): إغلاق المدارس الإسلامية، والمساجد وهدمها وتحويلها إلى أماكن سياحية، بل وإلى مزابل، ومصادرة الكتب الإسلامية وإحراقها، ومنع الصلاة والصوم والحج وذبح الأضاحي بحجة الإضرار باقتصاد البلاد، وأمام هذا التضييق اضطر بعض علماء السلطان في روسيا إلى إصدار الفتوى التي أباحت جمع الصلاة مرة واحدة في اليوم، وأداء الصوم يومًا واحدًا في شهر رمضان انسجامًا مع أهداف السوفيت، ومورست سياسة التهجير الإجباري لتفريق تجمع المسلمين واستيطان غير المسلمين في مناطق المسلمين. وفي سبيل محاربة الدين الإسلامي عمدت الحكومة إلى تعبئة وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والتعاليم المدرسية لتشويه صورة الدين والمتدينين والسخرية منهم، وذلك إلى جانب أسلوب القبض على زعماء المسلمين وقتل الكثير منهم بحجة عدم الولاء ¬

_ (¬1) محنة الأقليات المسلمة في العالم، الأستاذ محمد عبد الله السَّمان، (ص 138 - 144).

للنظام، وإبادة المسنين من المسلمين في المزارع الجماعية لاستغناء الدولة عنهم. ولا شك أنه بعد سقوط الدب الروسي وتفكك إمبراطورية الإلحاد العالمية، وتحرر كثير من الجمهوريات الإسلامية، قد تغيرت أحوال المسلمين إلى الأفضل، وإن بقيت مشكلات بشكل أو بآخر في الجانب الديني. فأحيانًا تكمن المشكلة أو لعلها تبدأ بعدم وجود مسجد أو مصلى، وفي حال وجوده تظهر مشكلة توافر العالِمِ أو الموجه، وفي حال توفر الشيخ قد لا يكون على المستوى المطلوب. وسواء وجد المسجد أو المصلى أو العالِم أو الشيخ أو فُقِدَ هؤلاء؛ فإن طبيعة الأنظمة العامة في دوام العمل الوظيفي أو المهني قد تَحُول دون تمكين المسلمين من تأدية الصلوات في وقتها أو قد تضطرهم إلى التغيب عن الجمعة والجماعة. وبقدر إحساس الأقليات أو الجاليات بأهمية المسجد وتأثيره على حياتهم ومسارها الإسلامي يرفعون عن أنفسهم الإثم فيعملون لإنشاء المسجد الذي غدا في أكثر الدول مركزًا إسلاميًّا تلحق به قاعة للمحاضرات وبيت للإمام ومكتبة. ولا ريب أن مثل هذه المراكز مكلفة أرضًا وبناءً، خاصة إذا ما كان المكان في وسطٍ سكانيٍّ، ويعجز عن تلك التكلفة -بوجه عام- مسلمو تلك البلدان؛ وهنا تنشأ المشكلة، فتتراوح بين الإصرار على الإنشاء والاتصال بالعالم الإسلامي لتغطية معظم التكاليف، وبين الإبقاء على وضع متردٍ لا يليق بجالية أو أقلية (¬1). ولا تفوت الإشارة إلى مأساة تركستان الشرقية الخاضعة لحكم الصين الشيوعية منذ عام (1949 م)، وتركستان الغربية الخاضعة لحكم روسيا الشيوعية منذ عام (1923 م)، ¬

_ (¬1) الأقليات الإسلامية في العالم، د. محمد علي ضناوي، (ص 42، 43).

حيث أباد قطبا الشيوعية أكثر من خمسة ملايين مسلم، في حين اضطر نحو أربعة ملايين آخرين إلى الهجرة والنزول إلى البلاد الإسلامية والأوروبية إبقاءً على مُهَجِهم. وقد ألغى الصينيون الملكية الفردية واعتبروا الإسلام خروجًا عن القانون، وأنه دين أجنبي لا صلة له بأصول وجذور الصين، فألغوا المؤسسات الدينية، وأغلقوا المساجد الرئيسة وحولوها إلى محلات ونوادٍ ومقاهٍ للخمور والفجور، وحين حاول المسلمون تأدية صلاة عيد الأضحى في تلك المساجد وقعت مصادمات عنيفة أسفرت عن مقتل وإصابة حوالي خمسة وسبعين ألفًا من أهالي تركستان وحدها، وذلك عام (1966 م) (¬1). كما أوقفت بعثات الحج الرسمية بعد عام (1964 م)، وتم إغلاق المعهد الديني الوحيد في البلاد، ليحاول المسلمون المحافظة على عقيدتهم بالتدريس في البيوت، ولم يطرأ تحسن على هذه الأوضاع إلا بعد هلاك "ماوتسي" (1976 م)، إلا أن الأمر لم يدم طويلًا حيث ألقت القوات الصينية القبض على زعماء الحزب الإسلامي في رمضان من عام (1990 م) وأعدمتهم جميعًا، ومنعت من إقامة المساجد ومدارس تعليم القرآن الكريم، وتجدد الأمر في عام (1996 م)، حيث اصطدمت الأقلية المسلمة بجحافل الإلحاد؛ الأمر الذي ترتب عليه مأساة إعدام 1000 طفل تركستاني شرقي مسلم، واعتقال 18.000 مسلم، وإعدام 43 شخصية دينية، وتسريح 5 آلاف موظف حكومي من عمله (¬2). وبعد هذا كله يصرح وزير خارجية الصين فيقول: "إننا نأمل أن تكون معركتنا ضد قوات تركستان الشرقية جزءًا من الحملة العالمية لمكافحة الإرهاب في العالم"!! (¬3) ¬

_ (¬1) المسلمون في الصين، د. محمد حرب، (ص 12). (¬2) المسلمون ومؤامرات الإبادة، ممدوح الشيخ، (ص 74). (¬3) تداعيات أحداث (11 سبتمبر) على النظام العالمي جميل مطر، معهد البحوث والدراسات العربية، جامعة الدول العربية، عدد (أكتوبر 2002)، (ص 99 - 101).

المطلب الثاني: المشكلات الاجتماعية ومسائل الأحوال الشخصية

وفي عام 2009 م تجددت محنة مسلمي تركستان الشرقية، حيث تصدت لهم القوات الصينية بوحشية بالغة، فَأَرْدَتْ منهم قرابة ألف شخص بين قتيل وجريح في بضعة أيام (¬1). المطلب الثاني: المشكلات الاجتماعية ومسائل الأحوال الشخصية: يقصد بتعبير المشكلات الاجتماعية مجموعة المشكلات المعيشية التي تواجه المسلم حين يعيش في مجتمع غير مسلم، بخلاف المشكلات الدينية أو العقدية؛ حيث لا يعاني بالضرورة في جانب إظهار شعائر دينه وممارسة أنشطته الإسلامية. الفرع الأول: المشكلات الاجتماعية: 1 - حجاب المرأة: حجاب المرأة هو عنوان عفتها وطهارتها، فهو جزء من دينها وحيائها، فرضه الله -عز وجل- على نساء الأمة بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]، وعليه: فليست المرأة المسلمة مخيرة في لبس الحجاب الشرعي أو عدم لبسه، والله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]. ومن أغرب المشكلات التي ظهرت في بلاد الحرية المزعومة كفرنسا: منع الطالبات المسلمات من ارتداء غطاء الرأس في مقاعد الدراسة؛ حيث قامت إحدى المدارس بطرد ثلاث طالبات من المدرسة؛ لأن هذا الزي مخالف لمبدأ "العلمانية" المعمول به في فرنسا (¬2)!!. وقد تكرر هذا الأمر من قبل عدد من الجامعات في فرنسا؛ الأمر الذي حمل ¬

_ (¬1) جريدة الرياض 14 رجب 1430 هـ - 7 يوليو 2009 م. تركستان الشرقية تحت الاحتلال الصيني، لبولات تورفاني، ترجمة: د. إسلام صالح عبد الفتاح، دار اليسر، القاهرة، ط 1، 1431 هـ - 2010 م، (ص 76 - 78). (¬2) جريدة اللواء اللبنانية في (15/ 11/ 1989 م).

المسلمين إلى اللجوء إلى القضاء، حيث أصدرت أعلى هيئة قضائية في فرنسا بأن من حق الفتاة أن ترتدي الحجاب في أي مكان تشاء، فهو أمر متعلق بصاحبه، وهو أمر يدخل في إطار الطاعة الدينية، ولا يتعارض مع علمانية المجتمع (¬1). وليس هذا التضييق خاصًّا بمسلمي فرنسا فحسب، بل في بريطانيا قامت مديرة إحدى المدارس الثانوية بالقرب من مانشستر بطرد طالبتين مسلمتين لارتدائهما الحجاب (¬2). وأخيرًا فقد امتدت يد الإجرام في يوليو 2009 م وفي ألمانيا النازية! لتخلع حجاب امرأة من على رأسها، فلما قدم المجرم الأثيم إلى المحكمة تقدم إلى الضحية المسلمة ليقتلها بمرآى الجميع وفي ساحة القضاء (¬3)! وكانت قاصمة الظهر أن تسارع فرنسا وتتبعها دول أخرى مؤخرًا إلى استصدار قانون يجرم نقاب المرأة المسلمة ويعاقبها بالغرامة المالية في لبسه في الطريق العام!! (¬4). هذه النماذج من دول الديموقراطية المتحضرة! فكيف ستكون النماذج الأخرى للبلاد الإسلامية التي رزحت تحت نير الاستعمار الروسي الملحد! الذي سعى لطمس الهوية الإسلامية بكل معالمها وفي جميع صورها. كانت تلك الضغوط ضغوطًا حكومية رسمية، ثم تبقى الضغوط المجتمعية الهائلة عبر وسائل الإعلام، وبرامج التعليم، وعجلة الحياة الجامحة عن منهج الله تعالى. ولم يكن البوذيون في تايلاند أحسن موقفًا من غيرهم، حيث قام البوذيون في كلية ¬

_ (¬1) جريدة الشرق القطرية، في (18/ 11/ 1992 م)، (ص 13). (¬2) جريدة الحياة ومجلة العالم اللبنانيتان، (شباط 1990 م). (¬3) جريدة الرياض، 14 رجب 1430 هـ - 7 يوليو 2009 م. (¬4) صدر القانون في شهر يوليو 2010 م بفرض غرامة تقدر بـ 185 دولارًا على من تغطي وجهها في الأماكن العامة، صحيفة الاتحاد الإماراتية في 24/ 5/ 2010 م، وموقع الألوكة الإلكتروني في 18/ 7/ 2010 م www.alukah.net.

للبنات بتايلاند بطرد اثنتي عشرة طالبة لارتدائهن الحجاب (¬1). وأخيرًا: فإن العجب لا ينقضي من تمسك هؤلاء المسلمات المغتربات عن أوطانهن أو المغتربات في أوطانهن بدينهن وأخلاقهن، ثم تبقى طائفة من المسلمات في ديار الإسلام ينزعن حجابهن طواعيةً واختيارًا، بل ويدعين غيرهن إلى هذه الشناعات بدعوى اللحاق بركب الدول المتقدمة، ولو كانت غير مسلمة!! 2 - الاختلاط: إن كل اختلاط بين الرجال والنساء لغير ضرورة أو حاجة، وبدون أخذ التدابير الاحترازية في اللباس والهيئة، أو الكلام والأسلوب، أو المجالس والتخاطب أمر يمنعه الشرع المطهر؛ ذلك لأنها وسائل تفضي إلى الحرام، وللوسائل أحكام المقاصد كما تقرر في الشريعة الغراء. وهذا الموقف الشرعي قد تأصل في المجتمع المسلم حتى صار عنوانًا له وسمة مميزة له عن غيره من المجتمعات، وكان هذا السياج الإسلامي المحافظ يحيط بالمجتمع المسلم فيحمي رجاله ونساءه من الشرور والآثام. ولا شك أن الأقليات المسلمة التي تعيش في مجتمعات متسيبة أخلاقيًّا وسلوكيًّا تعاني مشكلات ضخمة في التعليم بدرجاته المتعددة، وفي العمل بمختلف الوظائف والمهن. وهذا أدى في كثير من الأحيان إلى تذويب الهوية المسلمة شيئًا فشيئًا من كثرة المخالطة والاعتياد، ولا يستطيع القلم أن يصف مظاهر الفساد التي تنشأ من جراء الاختلاط بين الرجال والنساء في مجتمع أخلاط من كفرة أهل الكتاب وملاحدتهم، وأقلية فقيرة مسلمة مستضعفة فيها الفتيان والفتيات، والجميع يعيش في بوتقة ملتهبة من جحيم الحياة المادية وسعار الشهوات، وبمنأى عن ديار الإسلام وقيمها الطاهرة. ¬

_ (¬1) الأقليات الإسلامية في العالم، د. محمد علي ضناوي، (ص 106، 107).

ولذا فإن الحديث عن الزنا وممارسة الشذوذ، وزواج الكافر من المسلمة، وغير ذلك يبدو حديثًا عاديًّا في تلك البلاد، وبين أجيال أبناء المسلمين الذين هاجروا إلى تلك البلاد، فطحنتهم طاحونة الأكثرية غير المسلمة، وغلبتهم على تعاليم دينهم، وأصول أخلاقهم. ولا شك أن الأكثرية غير المسلمة، قد وجَّهت كيدًا منظمًا بطرائق متعددة؛ مما يؤثر على الحياة الاجتماعية لمجتمع الأقلية المسلمة، ففي جمهورية البوسنة والهرسك مثلًا وقبل انفصالها عن الاتحاد اليوغسلافي سُنَّت القوانين المبيحة لزواج المسلمة من غير المسلم؛ الأمر الذي أخرج أطفالًا ممسوخي الهوية، وعديمي الثقافة الإسلامية (¬1). 3 - طمس الهوية الإسلامية: إن محاربة المسلمين والمسلمات في شأن الحجاب ما هو إلا مظهر من مظاهر طمس الهوية الإسلامية لمجتمع الأقلية المسلمة، وهنا عدة مظاهر يحسن التعريج عليها، ومنها ما يلي: أ- تغيير الأسماء الإسلامية: وذلك قطعًا للصلة بين الإسلام وبنيه، كان هذا بالترهيب والتعذيب والحرمان من الحقوق الأساسية للمواطن الذي يحتفظ باسمه الإسلامي ويسمي أبناءه بأسماء إسلامية، كما حصل هذا لمسلمي الجمهوريات الإسلامية إِبَّان ما يسمى بالاتحاد السوفيتي، وكذا الدول الشيوعية ذات الأقلية المسلمة كبلغاريا، حيث أرغمت السلطات على ذلك عام (1961 م)، ولا تقبل مراسلة باسم مسلم أصلًا (¬2)، وفي الهند ¬

_ (¬1) وهناك تقرير بعدد الجزائريات المسلمات المتزوجات من غير مسلمين في فرنسا وحدها، يقدر عددهن بما يجاوز الخمسة آلاف مسلمة، يراجع: الأقليات المسلمة في العالم، محمد علي ضناوي، (ص 102)، الأحكام السياسية للأقليات في الففه الإسلامي، سليمان توبولياك، (ص 34)، واقع الجالية العربية الإسلامية في أوروبا والأخطار التي تهدد شخصيتها، عبد الكريم غريب، مجلة الأصالة، العدد (62 - 63)، (ص 159). (¬2) تأثير الثقافة السوفيتية على الأقلية المسلمة بالاتحاد السوفيتي، د. عبد الرحمن النقيب، ضمن بحوث مؤتمر الأقليات الإسلامية في العالم ظروفها المعاصرة، آلامها وآمالها، دار الندوة العالمية، 1420 هـ - 1999 م، (1/ 66 - 68)، مسئولية المسلمين المواطنين في دول غير إسلامية، م راشد دورياو، (1/ 233).

الهندوسية يفرضون تغيير أسماء الأطفال إلى أسماء هندية غير إسلامية ويعتبرون ذلك شرطًا لتسجيلهم في الدوائر الرسمية (¬1). كما وقع هذا التغيير بالترغيب والإيحاء في الدول الغربية حتى لا يظهر المسلمون بصورة متخلفة أو رجعية، أو متميزة عن المجتمع بشكل منفر، حتى صار من المسلمين في أوروبا من يفضل الاندماج في المجتمع الغربي، والقبول بحسناته وسيئاته (¬2)! وكانت مثل هذه الدعوة تلقى آذانًا مصغية لا سيما من المهاجرين المنهزمين حضاريًّا (¬3)، كما يقول ابن خلدون: "المغلوب مولع دائمًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه، ونحلته، وسائر أحواله وعوائده" (¬4). ب- الزي واللباس: لا تأمر الشريعة الإسلامية بلباس بع ي نه، وإنما تضع شروطًا للباس الشرعي، ثم تدع كل إنسان لبيئته وثقافته، إلا أن الزي واللباس أصبح بفعل تباين الثقافات وتعدد المجتمعات والحضارات أحد المظاهر الحضارية لكل شعب من الشعوب، ومن ثم تمايزت الألبسة بتمايز الشعوب وتنوع الثقافات. ولما دخل الإسلام إلى البلاد المفتوحة لم يفرض زيًّا ولم يطلب لبسة بعينها؛ بل أعان الناس على الدخول إلى الإسلام؛ لأنه لا يفرض على أحد هيئةً وهندامًا معينًا، في حين أن الاستعمار الأوروبي حين دخل بلاد المسلمين فرض لباسه وحمل عليه، وألزم به، وحاول فرض القبعة الأوروبية كما وقع في عدد من البلاد، فباءت محاولاتهم بالفشل. ¬

_ (¬1) الأقليات المسلمة في العالم، د. محمد علي ضناوي، (ص 201، 202). (¬2) الوسطية بين واجب المواطنة في أوروبا وحفظ الهوية الإسلامية، د. صهيب حسن، بحث في المؤتمر الدولي للوسطية، ط 1، 1427 هـ - 2006 م، (ص 328). (¬3) الأحكام السياسية للأقليات، سليمان توبولياك، (ص 35). (¬4) المقدمة، لعبد الرحمن بن خلدون، دار القلم، لبنان، ط 5، 1984 م، (ص 147).

وفي بعض البلاد كالصين الشيوعية مُنع المسلمون من ارتداء ثيابهم القومية، فلبسوها ثم جعلوا فوقها شيئًا مما ألزموا به (¬1). وأما ما يتعلق بلباس المرأة المسلمة فقد تقدم الحديث عنه عند الكلام على الحجاب، وكثير من النساء المسلمات في الغرب يحافظن على ما هو أقرب إلى الإسلام من الثياب، ومما تجدر الإشارة إليه أن الغربيات اللائي يسلمن يرتدين الحجاب ويلتزمن به (¬2). جـ - التهجير الإجباري للسكان والتطهير العرقي: لا ينسى المسلمون في الجمهوريات الإسلامية خطاب القادة البلاشفة الموجه إليهم في (7/ 12/ 1917 م)، والذي كان من بين من وقعه "لينين" و"ستالين"، والذي جاء فيه: "أيها المسلمون في روسيا، أيها التتر على شواطئ الفولجا وفي القرم، أيها الكرغيز، والسارتيون في سيبريا والتركستان، أيها التتر والأتراك في القوقاز، أيها الشيشيين، أيها الجبليون في أنحاء القوقاز. . . أنتم يا من انتهكت حرمات مساجدكم وقبوركم، واعتدي على عقائدكم وعاداتكم، وداس القياصرة والطغاة الروس على مقدساتكم؛ ستكون حرية عقائدكم مكفولة، ومنظماتكم الثقافية مكفولة لكم منذ اليوم، لا يطغى عليها طاغٍ، ولا يعتدي عليها معتدٍ. . . هُبُّوا إذن فابنوا حياتكم القومية كيف شئتم فأنتم أحرار، لا يحول بينكم وبين ما تشتهون حائل، إن ذلك من حقكم إن كنتم فاعلين، واعلموا أن حقوقكم شأنها شأن حقوق سائر أفراد الشعب الروسي؛ تحميها الثورة بكل ما أُوتِيَتْ من عزم وقوة، وبكل ما يتوفر لها من وسائل؛ جنود أشداء، ومجالس للعمال، ومندوبين عن الفلاحين، وإذن فشدوا أزر هذه الثورة وخذوا بساعد حكومتها الشرعية" (¬3). ¬

_ (¬1) الإسلام في الصين، فهمي هويدي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، (ص 148). (¬2) مجلة النور، الكويت، عدد 71، (1989 م). (¬3) أثر الثقافة السوفيتية على الأقلية المسلمة بالاتحاد السوفيتي، د. عبد الرحمن النقيب، (1/ 65)، نقلًا عن: المسلمون في الاتحاد السوفيتي، شانتال لمربيه كلجكي، ألسكندر بينفسن، ترجمة: إحسان حقي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1977 م.

ولما كان المسلمون في ظل عهد القياصرة ذاقوا ألوانًا من الظلم والاستعباد، فقد تاقت نفوسهم وانعقدت آمالهم على إقامة دولة إسلامية ذات استقلال ذاتي في ظل الحكم الجديد، ودغدغ البلاشفة عواطفهم ليصلوا إلى مآربهم، وما أن استقرت الثورة وهدأت الأمور حتى أصدر لينين في إبريل (1918 م) أمره بالزحف على البلاد الإسلامية دون سابق إنذار، وجعلت الطائرات تقصف، والدبابات تحصد البلاد وتبيد العباد، ولم يكن بيد المسلمين من الأسلحة المتقدمة ما يعين على التصدي أمام الغزو الروسي الملحد، وكان أول ما بدءوا به قتل القيادات الإسلامية وتصفيتها، وإبادة الزعامات الوطنية بوصفهم جميعًا أعداء الثورة وجواسيس لليابان أو لألمانيا الهتلرية (¬1). وكانت الخطوة التالية بفرض الهجرة الإجبارية على المسلمين إلى مجاهل سيبيريا، ونقل الروس إلى أراضيهم حتى يقللوا نسبة المسلمين في مناطقهم، ولا سيما إذا كانت مناطقهم غنية، ذات أهمية سياسية أو استراتيجية (¬2). وفي بلغاريا قامت عمليات التهجير الإجباري جنبًا إلى جنب مع التطهير العرقي والتصفية الجسدية؛ الأمر الذي ذكَّر بإجرام الأسبان في حق المسلمين، والأثيوبيين في أريتريا، وأوجادين وشعب بورما في أراكان، وفعل مجرمي الحرب في البوسنة وبلاد البلقان، وما يفعله الصهاينة المعتدون على أرض فلسطين (¬3). وإذا نسينا فلا ننسى هذه الهجرة الإجبارية التي فرضت على مسلمي فلسطين، والتي نسج خيوطها "تيودور هيرتزل" حين كتب: "سيكون علينا أن ندفع السكان المفلسين عبر الحدود؛ بتوفير العمالة لهم في البلاد المجاورة مع حرمانهم من أي عمل في ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص 65 - 66). (¬2) المسملون تحت السيطرة الشيوعية، محمود شاكر، (ص 7 - 9). (¬3) اللاجئون نظرة إسلامية، فضل الله ديلموت، مؤتمر الأقليات الإسلامية في العالم، (1/ 361 - 400).

بلادنا، ولكن يجب أن تتم عملية إخراج هؤلاء الفقراء بحيطة وحذر" (¬1)، ومن صور الإجبار على الهجرة: تحويل الديار العامرة إلى صحراء لا زرع بها ولا ماء! ثم صرح "إسرائيل شاهاك" بأن ما يقرب من أربعمائة قرية تم تدميرها تدميرًا كاملًا بديارها وبساتينها وحتى مدافنها، بحيث أصبح عاليها سافلها، ويقال للسياح الذين يمرون بها: إنها كانت صحراء، وقد اتبعت سياسة التدمير هذه بعد احتلال الضفة الغربية والقدس وغزة في (1967 م) (¬2). وعليه فلقد نتج عن إقامة الكيان اليهودي الغاشم على أرضنا في فلسطين خروج أكثر من مليوني لاجئ إضافة إلى 1.7 مليون داخل الأرض المحتلة -من بينهم نصف مليون كانوا موجودين قبل عام (1967 م) - ولا تزال حملات مصادرة الأراضي وهدم المنازل والملاحقات الأمنية والضرب بالرصاص الحي تجري على أشدها في بلاد الأقصى اليوم. د - القضاء على القيادات في مجتمع الأقليات: بطرد زعماء الأقليات الإسلامية ومثقفيهم، ونفيهم خارج البلاد، أو حبسهم ووضع أناس في مناصب الزعامة من الذين باعوا أنفسهم لأعداء هذه الأقلية بدراهم معدودة، وهذا يسهِّل اندماج الأقلية المسلمة في الأكثرية؛ لأن الأقلية عندما تصبح بغير مثقفيها وعلمائها تكون مجموعة مشتتة عديمة النفوذ، يسهل على الأكثرية امتصاصها والقضاء عليها إذا لم تساند من طرف الأمة الإسلامية (¬3). فمثلًا في يوغسلافيا سابقًا وفي الاتحاد السوفيتي منذ تولى الشيوعيون الحكم قتلوا وسجنوا وطردوا مئاتٍ، بل آلافًا من علماء المسلمين، وبقي الشعب المسلم بغير أناس واعين ¬

_ (¬1) يوميات هرتزل، تحرير رفائيل باتاني، ترجمة هاري زون، مطبعة هرتزل، نيويورك 1960 م، (1/ 88). (¬2) اللاجئون نظرة إسلامية، فضل الله ديلموت، (1/ 393). (¬3) الأقليات الإسلامية في العالم اليوم، د. علي الكتاني، (ص 20).

متعلمين يعرفون ماذا ينتظر شعبهم في المستقبل من الخطر الشيوعي ليعدوا لمواجهته. هـ - إسقاط قوامة الزوج، وإضعاف سلطة الوالد: وهذا الأمر من أكبر أبواب الفساد الاجتماعي، حيث تعطي قوانين وأعراف تلك البلاد الزوجة حقوقًا تستغني بها عن زوجها وأولادها وأسرتها، وكذا الأولاد يملكون أن يغادروا الأسرة وأن ينشئوا بعيدًا عنها، وأن يجلب الابن الشرطة لأبيه لأنه ضربه على ذنب اقترفه، أو هدده فقط بالضرب، وبمجرد أن يطالب الابن بحقه فإن الشرطة تتدخل لتستدعي الأب المذنب، وربما أودعته السجن لقيامة بواجب تأديب ولده!! فالأولاد إذا ما كبروا وبلغوا فلا سلطان لأحد عليهم في الإقامة والمبيت والدراسة والعمل، فهم أحرار في تصرفاتهم، ولا سلطان للأب عليهم، ولا واجبات عليهم تجاهه. ولقد خسر كثير من أولئك المهاجرين أبناءهم وأنكروا فضلهم، ومن قبل انسخلوا من دينهم. ومن جهة أخرى فإن المرأة -إذ تتمتع بحرية كبيرة- تجعل الزوج مكبل اليدين أيضًا إزاء تصرفات زوجته: مما يضطره إلى أحد الاحتمالين: طلب الطلاق مع ما يستتبع ذلك من آثار قانونية واقتصادية فادحة، أو السكوت عن تصرفات الزوجة وانحرافاتها الشرعية، تلك التصرفات أو الانحرافات التي لا تعتبر في نظر القانون إلا تعبيرًا عن حرية مباحة لا يملك الزوج لها رفضًا، والمشكلة هنا أن يتأقلم الزوج أو الزوجة في أجواء البيئة القانونية مما يجعل حياة الأسرة المسلمة في خطر كبير (¬1). ذلك أن المرأة مثل الرجل، تؤمِّن الدولة لها مأكلها ومشربها وملبسها ومسكنها، سواء كانت عزباء أو متزوجة، تعمل أو لا تعمل، وكذا الرعاية الصحية مكفولة للجميع بلا استثناء. ¬

_ (¬1) الأسرة المسلمة في أوروبا بين تأثيرات البيئة الاجتماعية والعادات الموروثة، د. أحمد جاء بالله، بحث في المؤتمر الدولي للوسطية، ط 1، 1427 هـ - 2006 م، (ص 345).

الفرع الثاني: مشكلات الأحوال الشخصية

وحق الضمان الاجتماعي والصحي هو لكل مقيم في البلد سواء نال جنسية البلد أو لم ينلها. ونظام الضمان هذا وإن كان يسهِّل على الناس عيشهم، إلا أنه يفتح بابًا واسعًا للزوجة لتمرق من طاعة زوجها لأدنى سبب؛ إذ إنها ليست بحاجة إلى إنفاقه عليها ولا رعايتها ما دامت الدولة تتكفل بهذا، فالعقدة الزوجية عرضة للانفصام عند أول سوء تفاهم، والمرأة إن لم تكن ذات دين يحثها على رعاية زوجها وأولادها وأسرتها، فإنها تقضي على كل هذه القيم عند أول مشكلة دون خوف فقر أو عتاب مجتمع. فلا يبقى إلا عنصر الأخلاق القويمة وحسن التنشئة، والولاء الطوعي للإسلام وقيمه هو الضابط الوحيد الذي يمكن أن يضبط الأسرة ويوجهها، وهو عنصر يتطلب زرعه وتأصيله مجهودات ضخمة ضمن أجواء عائلية مريحة، وقد يوفق رب العائلة في تحقيقه وقد يفشل! الفرع الثاني: مشكلات الأحوال الشخصية: في أثناء الحديث عن المشكلات الاجتماعية ذُكر طرفٌ من المشكلات ذات الصلة بالأحوال الشخصية، وسوف تأتي معالجة فقهية لبعض نوازل هذه الأقليات في جانب الأحوال الشخصية، لكن لعله يكفي في هذا المقام التذكير بعدد من القضايا والمسائل المشكلة التي تواجه الأقليات المسلمة في بلاد الغرب، ومن ذلك: 1 - أحكام الزواج من غير المسلمات سواء كن كتابيات أو ملحدات أو وثنيات، وما يترتب على هذا الزواج من إشكالات وآثار وخيمة على الأسرة المسلمة. 2 - إسقاط المانع الديني من زواج المسلمة من غير المسلم، وجعل إجراءات الزواج ذات طابع مدني وليس دينيًّا، وإسقاط اعتبار الزواج الشرعي عند تسجيله في الأوراق الرسمية، وما يستتبع ذلك من إشكالات. 3 - قدرة المرأة على تطليق نفسها من زوجها بدون إرادته، وعدم قدرة الزوج على ذلك إلا من خلال المحكمة، مع ما يتبعه من آثار في مال الزوجين والمشاركة والمقاسمة

عند الطلاق وعدم التقيد بعدد الطلقات والأصول المعروفة في ذلك شرعًا. 4 - تقنين منع تعدد الزوجات، ولو مع الحاجة أو الضرورة الشرعية، مع إباحة الخليلات. 5 - عدم الاعتراف بموانع الزواج إلا وفقًا للقانون المدني، وهو ما يختلف في بعض الجوانب مع الشريعة الإسلامية. 6 - أحكام الزواج الصوري الذي يلجأ إليه راغبو الإقامة في تلك البلاد بغرض الحصول على التصريح بالإقامة أو الجنسية. 7 - ما يترتب على إسلام الزوجة وبقاء زوجها على ديانته. 8 - ولاية المراكز الإسلامية في عقد التزويج والتطليق، وحكم تطليق القاضي غير المسلم في غير دار الإسلام. 9 - توزيع الإرث وفقًا للقانون المدني المخالف للشريعة الإسلامية، وحكم التوارث بين المسلمين وغير المسلمين. وسوف يلقي البحث -بمشيئة الله في الفصول المقبلة- أضواءً على بعض هذه القضايا الشائكة. وأخيرًا. . . فإن الإسلام دين متكامل، يشمل جميع نظم الحياة الإنسانية المختلفة، ومنها: النظام الاجتماعي، ولا شك أن النظام الاجتماعي الإسلامي يختلف عن سائر النظم الاجتماعية في العالم؛ ولذلك لا يستطيع المسلم أن يعيش وفق أحكام هذا النظام إلا في المجتمع المسلم الذي يدين بدين الإسلام، ويطبقه تطبيقًا كاملًا. ومن هنا تواجه الأقليات الإسلامية التي تعيش في غير المجتمعات الإسلامية المشكلات الكبيرة والكثيرة المختلفة؛ لأن حياتهم الاجتماعية تختلف بكاملها عن حياة الأكثرية، إلا أن أكبر مشكلة اجتماعية تواجه الأقليات المسلمة وتهددها ليلًا ونهارًا ولا تتركها لحظة واحدة؛ هي مشكلة خطر الاندماج والذوبان في الأغلبية التي تعيش بينها،

المطلب الثالث: المشكلات اللغوية والتعليمية

وجميع المشكلات الاجتماعية التي يصنعها أعداء الإسلام تخدم هذه المشكلة مهما تنوعت وتكاثرت. وعليه فإن التحدي الأكبر هو بقاء الأقلية المسلمة متميزة بعقيدتها وشريعتها وأخلاقها وفي الوقت نفسه تسعى لتقوية شوكتها العلمية والاقتصادية والسياسية، وهذا لا يتأتى إلا من خلال التفاعل الإيجابي الحذر مع هذه المجتمعات التي يكثر في حياتها الانحراف ويتنوع الفساد، ويجاهَر بالمنكرات. المطلب الثالث: المشكلات اللغوية والتعليمية: إن العربية عنوان شخصية المسلم، وبقدر ما تتعمق العربية في عقول المسلمين وألسنتهم يرتبطون بالإسلام؛ إذ إن العربية مدخل لفهم القرآن، كما أنها مدخل لإبراز معالم أساسية في شخصية المسلم. العربية لغة القرآن، فهي اللغة الإسلامية الأم التي ينبغي على المسلمين عربًا وعجمًا تعلمها حتى يؤدوا العبادة على أكمل وجه. واللغة العربية تعد الآن رابع لغة قومية في العالم من حيث عدد المتحدثين بها كما قرر أحد الباحثين (¬1)، إذ يتحدث بها نحو 150 مليون، بعد اللغة الصينية والإنجليزية والأسبانية، غير أن الإنجليزية -مثلًا- تعد لغة ثانية في كثير من البلاد مما يزيد عدد المتحدثين بها إلى نحو 800 مليون أيضًا. وبغض النظر عن أن أعدادًا ضخمة من المسلمين غير العرب في العالم الإسلامي لا يحسنون العربية، كما أن مدارسهم لا تعلمهم العربية، حتى كلغة ثانية بعد اللغة القومية الأولى، فإن الأقليات يشعرون بارتباك كبير في هذا الصدد، فالأقليات تعيش حالة أشبه بعزلة، فالتحديات ¬

_ (¬1) دراسات إسلامية وعربية، د. مجاهد مصطفى بهجت، العدد الثاني، بغداد، (1982 م).

المتنوعة تحاصرها من كل جانب، وهي تجالد في مقاومة مستمرة حفاظًا على الوجود ومنعًا من ذوبان الشخصية في عالم الأكثرية الذي تعيش فيه، فكيف يتسنى للأقلية تعلم العربية وتعليمها للناشئة؟ وبعض الأقليات تفتقد العالِم أو الشيخ أو ما يعرف برجل الدين، ليلقنها مبادئ دينها؛ فكيف بالعربية؟ وعلى افتراض وجود بعض المسلمين المتحدثين بالعربية، فإن إلزام الأطفال تلقنها أمر في غاية الصعوبة. وبعض الأقليات تعيش في جهل أو تجهيل ضمن سياسة الدولة وظروف حياتهم الزراعية والريفية، كأكثر مسلمي الكتلة الشيوعية والصين، وهم غير ملمين بلغاتهم القومية فكيف بالعربية؟ وبعض الأقليات كالجاليات الجديدة في أستراليا وأوروبا وأمريكا وبعض الدول الأفريقية، غير ممنوعين من استعمال العربية وتعلمها، إلا أن الظروف الحياتية الضاغطة وانعدام التوجيه والتخطيط العام بشأن الجاليات والأقليات في العالم يجعل من العربية لسانًا ثقيلًا على الناشئة، ففي أستراليا -مثلًا- نجد أبناء المسلمين العرب الذين وفدوا إلى أستراليا وهم أطفال أو خلقوا فيها، نجدهم يعانون صعوبات في النطق بالعربية مع محاولة خجولة من آبائهم لتعليمهم إياها ولتدريسهم لها، وبالرغم من محاولات خجولة أيضًا في إيجاد مدارس السبت والأحد الأهلية لتعليم الأطفال العربية ومبادئ الدين، فإن الأجواء العامة في البلد تشد الطفل إلى ترك العربية أو الانسلاخ عنها واللواذ بالإنجليزية؛ فمدارسهم تعلمهم الإنجليزية وكذلك المذياع، حتى الوالدان قد يتكلمان الإنجليزية الأمر الذي يؤدي وسط حركة الحياة إلى ضياع اللسان العربي في الطفولة الجديدة، فيجعل الأجيال القادمة أكثر انسلاخًا من شخصيتهما العربية والدينية، وأكثر التصاقًا بالمجتمع الجديد الذي يحملون جنسيته وهويته ويتكلمون لغته ويأكلون من خيراته. ويشعر المسلم -مهما ضعفت ثقافته- أن عليه واجبًا أمام أطفال الجيل الجديد، كما يشعر الآباء

بعبء الأمانة الملقاة على كواهلهم وهم يرون أبناءهم وقد تفلتوا من العربية. ومع المحاولات الجادة والجاهدة من قبل الأكثرية غير المسلمة في تذويب اللغة العربية وطمسها من قاموس الأقلية تبدو المشكلة متفاقمة. وكثيرًا ما حاولت الأكثريات إلغاء اللغات القومية بحجة تطويرها، فتمنع كتابتها بالأحرف العربية مثلًا، وتفرض كتابتها بأحرف اللغة المركزية أو الأحرف اللاتينية، وذلك في محاولة أولى منها لقطع حاضر الأقليات بماضيها الثقافي والديني. وهكذا وجدنا روسيا تمنع مسلمي جمهورية الشيشان وأنجوشيا المتحدة مع روسيا -74 % من الجمهورية مسلمون- من كتابة لغتهم بالأحرف العربية، وتفرض روسيا ذلك على سائر القوميات، كما وجدنا الصين تمنع أبناء القومية الإيغور -التركستان، 8 مليون نسمة- من كتابة لغتهم بالأحرف العربية وألزمت المسلمين جميعًا باللغة الصينية، وفي الهند -أيضًا- يُطلب من المسلمين كتابة اللغة العربية -وهي لغة المسلمين الأولى- بالأحرف اللاتينية وتمنع تدريسها في معظم المدارس، حيث تولي الحكومة المركزية اهتمامها بتدريس الهندية والإنجليزية، وتعتبر اللغة الهندوكية لغة الوظيفة الرسمية، وكذلك الأمر في تايلاند، حيث أصرت الحكومة على السيطرة على التعليم في فطاني وعلى نشر اللغة السيامية بدلًا عن اللغة الماوية لغة أهل فطاني، وكانوا يكتبونها بالأحرف العربية، واشترطت الإلمام باللغة التايلاندية للحصول على الوظائف الحكومية. غير أن رفض المسلمين -عمومًا- ترك لغاتهم القومية والإصرار على التمسك بها وتداولها واعتبارها رسمية في مقاطعات الحكم الذاتي، ساعد كثيرًا على حفظ وجودهم وعدم الذوبان في المجتمع الأكثري المفروض، ولو أنهم أتقنوا اللغة المركزية؛ مما أربك السلطات المركزية التي لا تزال تصر على الاستيعاب العام ضمن فرض اللغة الواحدة. ولا شك أن وجود مدارس يمكن أن تعلِّم العربية منهاجًا متكاملًا ولو كلغةٍ ثانية بين الأقليات؛ أمر يساعد على معالجة المشكلة؛ ذلك أن وجود مثل هذه المدارس

المطلب الرابع: المشكلات السياسية

سيفرض هجرة بعض المثقفين العرب أو أساتذة التعليم، وهؤلاء سيشكلون بذاتهم تطورًا في توعية أبناء الجالية، فإذا ما رافقهم توجيه مدروس ومخطط له، أمكن تجاوز بعض المخاطر والعقبات. كما تجدر الإشارة إلى أسلوب اعتنت به الأقليات المسلمة في السنوات الأخيرة، حيث عمدت الجاليات المسلمة إلى إرسال أبنائها وبناتها ليدرسوا اللغة العربية في بلادها، وبين الناطقين بها، ففي مصر نشطت مراكز تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، حيث افتتح في العشر سنوات الأخيرة نحو من ثلاثين مركزًا أهليًّا ليسد حاجة طلاب العربية من غير أهلها، والذين يفدون من دول الجمهوريات الإسلامية المنفصلة عن الاتحاد السوفيتي سابقًا، ومن أفريقيا وجنوب شرق آسيا، إضافة إلى دول أوروبا بأسرها وأمريكا. وكذا الحال في سوريا والأردن والسودان، وأما في المملكة العربية السعودية فقد تأسس عدد من الجمعيات الخيرية التي جابت العالم بأسره تدعم الأقليات وترعى قضاياها، وذلك كالندوة العالمية للشباب، ومؤسسة الوقف الإسلامي، التي وضعت نصب عينيها رعاية الأقليات الإسلامية في الدول الإسلامية المنفصلة عن الاتحاد السوفيتي، ودول أوروبا الشرقية إضافة إلى دول البلقان، فهي تمنح الطلبة منحًا دراسية للدراسة بمعاهد اللغة العربية في بلاد العرب، وتعين على مواصلة الدراسة الجامعية في الكليات الشرعية واللغوية بالجامعة الأزهرية وغيرها من الجامعات الشرعية واللغوية بالمملكة العربية السعودية. المطلب الرابع: المشكلات السياسية: إن قضايا ومشكلات الأقليات عامة، وقضايا ومشكلات الأقليات الدينية خاصة من الدراسات التي يعتبرها الباحثون في مجال العلوم السياسية من الموضوعات القديمة

الجديدة في نفس الوقت، فهي قديمة قدم التميز بين مفهوم الـ (نحن) والـ (غير)، وهي كذلك جديدة نظرًا لإلحاحها الشديد، بل والمستمر على آليات الصراع السياسي، وخاصة في آخر حقب القرن العشرين، وفي أعقاب القرن الحادي والعشرين، حيث غدا الانتساب إلى الإسلام جريمة يجب أن يعاقب عليها، بحيث أصبح من غير المتصور أن توجد أقليات إسلامية ذات كيان سياسي؛ بل غدت كثير من الأكثريات الإسلامية محرومة من حقوقها السياسية!! ومن الملحوظ أنه بعد الحرب الباردة انفجرت صراعات ونزاعات دينية وعرقية في مناطق كثيرة، فهذه البوسنة والهرسك، ومن قبلها كشمير، ومن بعد بورما والفلبين وكوسوفو والشيشان، وغيرها من البلدان التي وجهت فيها اتهامات كثيرة لعدد من الدول والمنظمات والجماعات بممارسة ما يسمى بالتطهير العرقي ضد الأقليات المسلمة. ومع أن الصراعات الطائفية ليست جديدة كظاهرة ضمن التفاعلات السياسية في العالم، إلا أن مظاهر العنف التي برزت في العشرين سنة الأخيرة أصبحت لافتة للنظر والاهتمام، الأمر الذي يفضي إلى تدخلات أجنبية ويفتح الباب أمام ثغرات التدخل الأجنبي بالجملة. والأقليات الإسلامية التي تعيش في مجتمعات لا تدين بالإسلام تتفاوت حجم مشكلاتها السياسية، بدءًا من عدم الاعتراف بوجودهم وحقوقهم السياسية، وتمثيلهم في الوظائف العامة بما يتناسب وتعدادهم وإمكاناتهم وانتهاءً بعدم الاعتراف بالدين الذي ينتمون إليه. وإذا تأملنا في حال الأقلية المسلمة في أفريقيا؛ فإن سياسة الإبعاد والعزل الإجباري عن المشاركة في صنع القرار داخل الدولة -هي التي تعمل، حتى إن دول الأغلبيات المسلمة، والتي قد تصل نسبة المسلمين بها إلى 80 % تعامل معاملة الأقلية، بيمنا الأقلية المسيحية من حيث الوزن العددي هي الأكثر تأثيرًا والأقوى سلطانًا؛ بل وتتحكم في الشعب المسلم، وبلد كنجيريا يمثل

نموذجًا لهذا التسلط؛ حيث تعداد المسلمين بها 80 مليونًا من أصل مائة مليون، ولكن اللافت للنظر أن جميع السلطات مخولة للأقلية المسيحية، بل ويتولى الرئاسة أحيانًا بعض القساوسة كالقس "إزيكو" عام (1960 م)، ويعقوب حون عام (1967 م). ولا يختلف الحال في السنغال التي تتمتع بأغلبية مسلمة (94 %) وتولى حكمها كاثوليكي هو "سينجور" ليحكمها من (1960 م - 1980 م) (¬1). وأما في البلاد الآسيوية، فإن قضية مسلمي كشمير تتصدر المشكلات السياسية الأكثر سخونة، وما تزال رحى الحرب دائرة لتحرير كشمير من دولة الهندوس، ومع أن قرارات الأمم المتحدة نصت في مجملها منذ عام (1948 م) وحتى الآن على وجوب انسحاب القوات الهندية من كشمير وتحررها، واستقلالها سياسيًّا إلا أن شيئًا من هذا لم يكن، بل وتحرص الهند على علاقات حسنة اقتصادية وسياسية مع دولة اليهود لتنال دعمًا في قضية كشمير بوجه من الوجوه (¬2). ولقد عاشت الجمهوريات الإسلامية في كيان ما يسمى بالاتحاد السوفيتي تطالب بالانفصال لعشرات السنين؛ لتحقق هويتها، وتقرر مصيرها، ومن أجل ذلك ثار المسلمون مرات عديدة إلى أن تحررت عدة دول فعليًّا، منها: كازاخستان، وأوزبكستان، وقرغيزستان وطاجيكستان، وتركمانستان، وأذربيجان. وتبقى أقليات مسلمة لا تزال تحت الوصاية الروسية، كما في بلغاريا، وقرتشاي، وأوسيتيا الشمالية، وأنجوشيا (¬3). وتبقى المأساة السياسية للشعب الشيشاني المسلم قائمة ظاهرة للعيان، حيث إنها ¬

_ (¬1) أوضاع الأقليات والجاليات الإسلامية، د. مجدي الداغر، (ص 108 - 109). (¬2) العجز الدولي في كشمير، أليف الدين الترابي، مجلة كشمير، عدد سبتمبر (1998 م)، (ص 30). (¬3) انهيار الاتحاد السوفيتي، د. إيمان يحيى، مجلة مستقبل العالم الإسلامي، مالطا، العدد الخامس (1992 م)، (ص 122).

إحدى الجمهوريات ذات الحكم الذاتي التابعة لروسيا الاتحادية، والتي يفرض الدستور الروسي حظرًا عليها في إعلان استقلالها دون موافقة روسيا. ولقد خاض الشيشانيون حروبًا منذ إعلانهم الاستقلال في (1/ 11/ 1991 م) وإلى وقت كتابة هذا البحث، ولا يزال الروس يصرون على عنادهم برغم خسائر هائلة تكبدوها منذ اجتياح "جروزني" العاصمة (¬1). وفي بلاد الديمقراطية العلمانية نجد مسلمي شرق أوروبا يعانون في البوسنة، والهرسك، وكوسوفو، وسائر دول البلقان من التطهير العرقي الذي أعاد إلى الأذهان مجددًا محاكم التفتيش وفكرة الحرب المقدسة عند الصلبيين (¬2). أما مسلمو غرب أوروبا فلا شك أنهم وإلى أحداث سبتمبر (2001 م) لم يعانوا كما عانى غيرهم، إلا أن الحال تبدل في السنوات الخمس الأخيرة حيث كيلت التهم جزافًا للمسلمين في بريطانيا وعلى لسان رئيس الوزراء الحالي (توني بلير) (¬3)، بل واتهام الإسلام نفسه بأنه دين يحمل مشاعر الكره والبغضاء للآخرين. ومع سماح بريطانيا للمسلمين بالمشاركة في مجلس العموم، وكذلك في بلجيكا؛ إلا أن المسلمين ما يزالون الأقلية الأقل حقوقًا في أوروبا الغربية (¬4). وفي بلاد الديمقراطية يعاني المسلمون المقيمون بأمريكا من التمييز ضدهم وخاصة في المؤسسات الحكومية (¬5). ¬

_ (¬1) أوضاع الأقليات والجاليات الإسلامية، د. مجدي الداغر، (ص 259 - 261). (¬2) محنة الأقليات المسلمة في أوروبا، د. محمود عبد الرازق، القاهرة، مطبعة أولاد عبد العال (1996 م)، (ص 146، 147). (¬3) هذا وقت كتابة البحث. (¬4) الأحكام السياسية للأقليات المسلمة، د. سليمان توبولياك، (ص 39). (¬5) مشاركة المسلمين في الانتخابات الأمريكية، وجوبها وضوابطها الشرعية، د. صلاح الدين سلطان، سلطان للنشر، الولايات المتحدة الأمريكية، ط 1، 1425 هـ 2004 م، (ص 38، 39).

المطلب الخامس: المشكلات الاقتصادية والمالية

ولقد تنامت حدة المواجهات للمد الإسلامي بسبب انتشاره بشكل ملحوظ حتى غدا المسلمون الأقلية (¬1) الأكبر عددًا وقبل اليهود، حيث يبلغ عددهم -في بعض التقديرات- حوالي عشرة ملايين مسلم كما استغل اللوبي اليهودي أحداث سبتمبر (2001 م) ليشنوا حملة ضارية ضد المسلمين. ولا شك أن إقامة المسلمين في البلاد غير الإسلامية تكتنفها إشكالات كثيرة، وتتعلق بالهجرة إلى تلك البلاد واللجوء السياسي إليها أحكام متعددة، كما تثور تساؤلات كثيرة حول تجنس المسلم بجنسية الدول غير المسلمة وتولي الوظائف العامة في تلك الدول، وإقامة الأحزاب السياسية، ودخول المجالس النيابية، وما يحيط بذلك كله من أحكام. المطلب الخامس: المشكلات الاقتصادية والمالية: في قارة كإفريقيا يبدو البعد الاقتصادي مؤثرًا بشكل واضح وفعال، وإذا كانت عامة الدول الإفريقية تعاني فقرًا وضعفًا ناشئًا عن الجهل تارة وعن الاستعمار تارة أخرى؛ فإن الأقلية المسلمة هي الأشد بؤسًا في هذا المجال في أغلب المناطق والبلدان، وقد استهدفت تلك الأقليات المسلمة من حركات التنصير الناشطة في طول أفريقيا وعرضها؛ فهي تقدم الصليب مع الغذاء والدواء والكساء لتلك الأقليات المطحونة. وحتى في القارة الغنية أمريكا؛ فإن الأقلية المسلمة تعاني من تمييز في الأجور والوظائف بين المسلمين وغيرهم؛ حيث يبلغ متوسط دخل الفرد المسلم في كندا عام (1980 م) 20.220 دولار كندي ليقل عن نظيره غير المسلم بما يصل أحيانًا إلى 22 % (¬2) ¬

_ (¬1) فقه الجاليات الإسلامية في المعاملات المالية والمعاملات الاجتماعية، رسالة دكتوراة في الجامعة الأمريكية المفتوحة، د. شريفة سالم السعيد، بإشراف د. محمد أحمد القضاة، نوقشت 2001 م (ص 14 - 16). (¬2) التمييز في الأجور والوظائف وآفاق المستقبل للشباب المسلم في كندا، داود حسن حمداني، ضمن بحوث الأقليات المسلمة في العالم ظروفها المعاصرة، آلامها، وآمالها، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر، 1420 هـ - 1999 م، (3/ 1187 - 1189).

ولا شك أن لهذا التفاوت أسبابه السياسية والقانونية والاجتماعية، إلا أن المحصلة تصب في ضعف القوى الاقتصادية للمسلمين. وفي بلد كاليونان يُحرم المسلمون في تراقيا الغربية من إنشاء وتعمير المباني الخاصة بهم كما يُحرمون من استخراج تصاريح قيادة السيارات، كما منعت الحكومة اليونانية بيع المسلم أملاكه إلى مسلم آخر! وفي حالة قبول البيع فلا بد أن يكون إلى الروم المسيحيين فقط، وفي الأشهر الأخيرة من (1994 م) فرضت على أرباب المهن من المسلمين غرامات كبيرة بدون أي سبب يذكر (¬1). وما حدث في اليونان حدث مثله في روسيا والفلبين وتايلاند والبوسنة وغيرها، حيث صودرت آلاف الأفدنة من أراضي الأوقاف الإسلامية، ووزِّعت على غير المسلمين. ولقد كان لهذا أكبر الأثر في إضعاف الدعوة والدعاة في تلك البلاد. ثم يبقى المال عصب الحياة وأساس التغيير، وكل تحسن لأوضاع الأقليات المسلمة يرتبط بالإمكانات المادية بوجه من الوجوه، فإنشاء مدرسة أو مسجد أو مركز إسلامي يرتبط رأسًا بالحالة الاقتصادية للأقلية المسلمة. وتبقى لدى هذه الأقليات مسائلها ومشكلاتها الاقتصادية المتعلقة بتمييز ما يحل ويحرم من معاملات مالية، أو تعاملات مصرفية، أو أعمال ضمن مؤسسات يكثر فيها الحرام، أو يختلط فيها الحلال بالحرام، أو مستجدات ونوازل ترتبط بواقع تلك البلاد، الأمر الذي يستوجب نظرًا فقهيًّا يعالج هذه المسائل بتؤدة وحكمة. ¬

_ (¬1) المسلمون في تراقيا الغربية -اليونان، للأستاذ. خالد أرن، ضمن بحوث: الأقليات المسلمة في العالم ظروفها المعاصرة، آلامها، وآمالها، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر، 1420 هـ - 1999 م، (3/ 1086 - 1087).

الباب الثاني التأصيل الفقهي لنوازل الأقليات المسلمة

البَابُ الثَانِي التأصيل الفقهي لنوازل الأقليات المسلمة الفصل الأول: الأحكام الشرعية بين الثبات والتغير. الفصل الثاني: أهمية التأصيل لفقه النوازل وخصائصه ومقاصده. الفصل الثالث: الأصول والقواعد الحاكمة لفقه نوازل الأقليات. الفصل الرابع: مناهج وطرق استنباط الأحكام الفقهية لنوازل الأقليات وضوابطها.

الفصل الأول الأحكام الشرعية بين الثبات والتغير

الفْصَل الْأَوَّلُ الأحكام الشرعية بين الثبات والتغير المبحث الأول: خصائص الشريعة الإسلامية. المبحث الثاني: الثبات والتغير في الأحكام الشرعية. المبحث الثالث: موجبات تغير الفتيا والأحكام الفقهية الاجتهادية.

المبحث الأول خصائص الشريعة الإسلامية

المبحث الأول خصائص الشريعة الإسلامية تَمهيد للشريعة المطهرة خصائص مباركة، وسمات جليلة، حققت خلودها، وبرهنت صلاحيتها، وردت على خصومها في كل عصر ومصر، وقبل بيان خصائص الشريعة تفصيلًا تجدر الإشارة ويحسن التمهيد بتعريفها لغةً واصطلاحًا بشكل إجمالي. الشريعة لغةً: الشريعة اسم مصدر، وتطلق على مورد الشاربة، والطريق إليها يسمى "الشرع" وهو مصدر، ثم جعل اسمًا للطريق على النهج الواضح، ثم استعير ذلك للطريقة الإلهية من الدين. ومعنى شرَع، أي: سنَّ، وأوضح وبيَّن المسالك، وهذا فيه معنى الابتداء، فمن ابتدأ في سَنِّ أمرٍ وأوضحه وبيَّنه وجعله منهاجًا؛ فقد شرعه (¬1). الشريعة اصطلاحًا: استعمل العلماء مصطلح الشريعة باصطلاحات متعددة بحسب المقام، ومن ذلك ما يلي: أولًا: إطلاق مصطلح الشريعة على التوحيد: وذلك أخذًا من قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا ¬

_ (¬1) لسان العرب، لابن منظور، (7/ 86)، والقاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، نسخة مصورة عن الطبعة الثالثة للمطبعة الأميرية سنة 1301 هـ, (3/ 42)، ومختار الصحاح، للرازي، (ص 218).

تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13]، وقد وضع الآجُرِّيُّ -رحمه الله- كتابه في التوحيد باسم "الشريعة"، وكذا أطلق ابن بطة الحنبلي -رحمه الله- اسم: "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة" على كتابه في التوحيد والعقيدة. ثانيًا: إطلاق مصطلح الشريعة على الأحكام العملية: وفيما اختلفت فيه الرسالات الإلهية؛ وذلك أخذًا من قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، ومن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوةٌ لِعَلَّات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد" (¬1). قال الإمام الطبري -رحمه الله-: "الدين واحد والشريعة مختلفة" (¬2). ثالثًا: إطلاق مصطلح الشريعة على التوحيد وسائر الأحكام: وذلك أخذًا من قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]. قال القرطبي -رحمه الله- (¬3): "فالشريعة ما شرع الله لعباده من الدين" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16]، (3443)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب: فضائل عيسى -عليه السلام-، (2365). (¬2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر، دار هجر، القاهرة، ط 1، 1422 هـ - 2001 م، (8/ 494). (¬3) أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح، الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي، المفسر الشهير، كان من العلماء العارفين، له مصنفات، منها: الجامع لأحكام القرآن -وهو من أجل التفاسير وأعظمها نفعًا- وكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، والتذكرة بأمور الآخرة. توفي سنة 671 هـ. الديباج المذهب، لابن فرحون، (2/ 308)، شذرات الذهب، لا بن العماد، (7/ 584). (¬4) الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط 2، (16/ 163).

المطلب الأول: الربانية

وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "والشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله" (¬1). والاستعمال الثالث يكثر عند الإطلاق والاستعمال العام، وهو يرادف الوحي كتابًا وسنة، والشريعة بهذا الاعتبار معصومة ومحفوظة، ربانية المصدر، واقعية عالمية. وفيما يلي بيان خصائص الشريعة بإطلاقها العام: المطلب الأول: الربانية: الربانية خصيصة الشريعة الكبرى، فهي من عند الله تعالى وحده أولًا، فلا نقص ولا عيب؛ لأنها {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] فهي مجمع المصالح والمنافع والخيرات؛ لأن مشرعها عليم حكيم، ويجمع فيها ولها كل خير، فتشتمل على كل مصلحة للخلق، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، أنزلها سبحانه بعلمه، وليس له في وضعها من شريك ولا ظهير، ولأجل هذه الخصيصة فإن للشريعة المنزلة الكبرى في عقيدة ووجدان كل مسلم؛ ذلك أنها من عند الله لفظًا ومعنى، أو معنى فحسب؛ وقبولها ومحبتها والرضى بها والامتثال لها هو مقتضى عقد الإيمان والإسلام، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. والتشريع حق خالص لصاحب الشريعة وحده، وهو الله تعالى، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، والرسول إنما هو مبلغ عن الله، قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]، والبلاع للبشارة أو النذارة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا ¬

_ (¬1) مجموع فتاوي شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة المنورة، 1425 هـ - 2004 م، (19/ 308).

وَنَذِيرًا} [الإسراء: 105]. والشريعة تربط الناس بالله؛ وذلك أن "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبد لله اضطرارًا" (¬1). قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56 - 57]، والرسول - صلى الله عليه وسلم - وسائر المؤمنين منقادون لها مذعنون لأوامرها، قال تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15]. "فالشريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه -أي: على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى جميع المكلَّفين، وهي الطريق الموصل والهادي الأعظم، ألا ترى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، فهو عليه الصلاة والسلام أول من هداه الله بالكتاب والإيمان، ثم من اتبعه فيه" (¬2). "فالحكم لله وحده، ورسله يبلغون عنه، فحكمهم حكمه، وأمرهم أمره، وطاعتهم طاعته" (¬3). قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]. وأخيرًا فلا يملك أحد كائنًا من كان أن ينازع الله في سلطانه أو أن يشرِّع لعباده، كما لا يستطيع أحد أن يخلق ذبابًا ولو ظَاهَرَه على ذلك كلُّ إنس وجان. وصفة الربانية في الشريعة الإلهية تعرى عنها كل الشرائع الوضعية والقوانين البشرية، والتي تصدر عن قوة زمنية، وتبنى أحكامها على مراعاة الدنيا والظواهر فحسب، لا مجال فيها للجزاء الأخروي، ولا للتعبد الديني. ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 168). (¬2) الاعتصام، للشاطبي، (2/ 338 - 339). (¬3) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (35/ 363).

المطلب الثاني: الثبات والديمومة مع المرونة

أما الشريعة الربانية فتمتد من الدنيا إلى الآخرة، وتجمع بين الجزاء الدنيوي والأخروي. وبالجملة فهذه الشريعة ربانية في غايتها، إلهية في مقصدها؛ إذ غايتها من الإلزام والالتزام: التعبد لله وطلب رضاه، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]. وهي ربانية في أصولها واستمدادها ومنهجها وطريقتها. المطلب الثاني: الثبات والديمومة مع المرونة: ثبات الشريعة مستمد من كونها حقًّا لا يتغير، وصدقًا لا يتبدل، وختامًا لشرائع الله تعالى فلا تنسخ، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]، فلا معقب لحكمه في الدنيا ولا في الآخرة (¬1)، فالعصمة ثابتة لها في حفظها وفي بيانها، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقال تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]. ومنعُ القرآن من الخلل والفساد، وحفظه وإتقانه، كل ذلك من معاني الإحكام الواردة في قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]، "وهو كله من جملة الحفظ، والحفظ دائم إلى أن تقوم الساعة، فهذه الجملة تدلك على حفظ الشريعة وعصمتها عن التغيير والتبديل" (¬2). وإذا كان التكليف إلى يوم القيامة فإنه لا يتحقق إلا بثباتها ودوامها وسلامتها من التغيير والتبديل، قال الغزالي -رحمه الله- (¬3): "السلف من الأئمة مجمعون على دوام ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، دار طيبة، الرياض، ط 2، 1420 هـ - 1999 م، (3/ 322). (¬2) الموافقات، للشاطبي، (2/ 58). (¬3) أبو حامد، محمد بن محمد الغزالي، الملقب بحجة الإسلام، ولد سنة 450 هـ، تلقى العلم على إمام الحرمين الجويني وغيره، له تصانيف كثيرة، منها: إحياء علوم الدين، والمستصفى في الأصول، توفي سنة 505 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (19/ 322)، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (6/ 191).

التكليف إلى يوم القيامة" (¬1). وقد حرص الصحابة والتابعون لهم بإحسان على العمل على ثبات أحكام الشريعة الإسلامية، فلا ترقى المستحبات إلى مرتبة الواجبات، ولا تنزل المحرمات إلى رتبة المكروهات؛ لأن هذا يعدُّ تغييرًا في الشريعة وتبديلًا لأحكامها. قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- (¬2): "سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمر من بعده سننًا؛ الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في شيء خالفها، من عمل بها مهتد، ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا" (¬3) (¬4). وفي تأكيد ثبوتها يقول الشاطبي -رحمه الله- في كلام محكم: "فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخًا، ولا تخصيصًا لعمومها، ولا تقييدًا لإطلاقها، ولا رفعًا لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال، بل ما أثبت سببًا فهو سبب أبدًا لا يرتفع، وما كان شرطًا فهو أبدًا شرط، وما كان واجبًا فهو واجب أبدًا، أو مندوبًا فمندوب، ¬

_ (¬1) المستصفى في علم الأصول، لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1413 هـ، (1/ 148). (¬2) أبو حفص، عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، أمير المؤمنين الإمام العادل، والخليفة الصالح، ولي الخلافة تسعة وعشرين شهرًا مثل ولاية أبي بكر الصديق، روى عن أنس بن مالك وصلى أنس خلفه، وكان ثقة مأمونًا روى أحاديث كثيرة، توفي عام 101 هـ الطبقات الكبرى، لابن سعد، (5/ 330)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 114). (¬3) كتاب الشريعة، لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري، تحقيق: د. عبد الله بن عمر الدميجي، دار الوطن، الرياض، ط 2، 1420 هـ - 1999 م، (1/ 408). (¬4) الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية، د. عابد بن محمد السفياني، دار الفرقان، القاهرة، ط 1، 1408 هـ - 1988 م، (ص 121 - 129).

وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك" (¬1). ومع ذلك كله فإن بالشريعة سعة ومرونة ومنطقة من العفو تركت قصدًا للناس من غير نسيان، ففي الحديث: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو فأقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئًا"، ثم تلا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] (¬2)، ثم فتح الباب للاجتهاد في هذه المنطقة، ولإلحاق النظير بنظيره. كما يلحظ بجلاء أن نصوص الشريعة عنيت بالأحكام الكلية في بعض القضايا أكثر من عنايتها بالجزئيات التفصيلية؛ فإن كثيرًا من قضايا السياسة الشرعية في الإسلام جاءت النصوص فيها عامةً تضع الأطر وتترك التفاصيل، وهذا ملحوظ في نظام القضاء وتطوره، ونظام الحسبة والمظالم، وطرائق الشورى، وغير ذلك، والحكمة في هذا متجلية في تحقيق مرونة التطبيق بعد ثبات التوثيق. ومن أسباب ثباتها -مع السعة في أحكامها، والمرونة في تطبيقها على اختلاف العصور وتغير البيئات-: ابتناؤها على جلب الصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، فهي شريعة ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (1/ 79). (¬2) أخرجه: أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري في "مستدركه على الصحيحين"، دار المعرفة، بيروت، مصورة عن الطبعة الهندية، كتاب التفسير، تفسير سورة مريم، (2/ 375)، -وعنه: البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الضحايا، باب: ما لم يُذكَر تحريمه ولا كان في معنى ما ذُكر تحريمه مما يؤكل أو يشرب، (10/ 12) -، وأبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في "مسنده": "البحر الزخار"، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة -المملكة العربية السعودية، ط 1، 1409 هـ / 1988 م، (4087)، من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-. قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، وقال نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد"، بتحرير الحافظين الجليلين: العراقي وابن حجر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408 هـ / 1988 م، مصورة عن ط القدسي بالقاهرة، (1/ 171): "إسناده حسن، ورجاله موثقون" اهـ، وقال في موضع آخر (7/ 55): "رجاله ثقات" اهـ.

المطلب الثالث: شمولها لجميع شئون الحياة

الرحمة بالعباد والتيسير عليهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وفي تشريع الرخص عند وجود المشقات برهان ناطق على بيان رعاية مصالح العباد كل العباد، حتى إن أشد الحدود وهو القصاص معلل تشريعه بالمصلحة الراجعة لأولي الألباب. قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]. والأمر بالقتال وإعداد العدة -وهو شديد على النفس أيضًا- معلل بالمصلحة، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، وإرهاب العدو مصلحة؛ لأنه ينكفُّ عن عدوانه على المسلمين إذا رأى قوتهم (¬1). وقد تحققت مرونتها بمراعاتها للظروف القاهرة، والأعذار الطارئة، وتغير الفتوى فيما بني على الأعراف بتغير جهاتها من الزمان والمكان والأحوال. المطلب الثالث: شمولها لجميع شئون الحياة: فكل ما يحتاج إليه الإنسان في حياته قد تكفلت به شريعة الرحمن، فهي أعم من أن تكون أصولًا اعتقادية أو أحكامًا فقهية فروعية أو آدابًا أخلاقية واجتماعية، أو تنظيمات سياسية دولية أو داخلية. ومن شمولها: أنه لا تخلو حادثة عن حكم للشريعة وتوجيه في جميع الأقطار وعلى مر الأعصار، وإذا كانت نصوصها متناهية فإن معانيها وما يستنبط منها ليس بمتناهٍ مطلقًا. قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. ¬

_ (¬1) المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، د. عبد الكريم زيدان، دار عمر بن الخطاب، الإسكندرية، (ص 45 - 57).

قال الإمام الشافعي -رحمه الله-تعليقًا على هذه الآية-: "فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها" (¬1). والدلالة هنا إما نصًّا أو جملة (¬2)، وبيَّن ذلك القرطبي -رحمه الله- فقال: "إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو من الإجماع أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب" (¬3). والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة، منها قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12]،، ومنها: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، ودلالة هذه الآيات قطعية؛ ولذلك سمي هذا القرآن "فرقانًا، وهدًى وبرهانًا، وبيانًا وتبيانًا لكل شيء، وهو حجة الله على الخلق على الجملة والتفصيل والإطلاق والعموم" (¬4). ثم السنة بعد ذلك مفصلة لما أجمل، وشارحة ومبينة لما أبهم، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 4]. فقد جمع القرآن الكليات، ونص على بعض التفصيلات، وتولت السنة بعد ذلك الإكمال، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وقد شمل بيان السنة للقرآن ما يتعلق بمعاملة العبد لربه، ومعاملة العبد لنفسه، ومعاملة العبد لغيره، فعلوم التوحيد والعقيدة والأخلاق والسلوك والعبادات والمعاملات ¬

_ (¬1) الرسالة، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق: أحمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت، (ص 20). (¬2) الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق: د. رفعت فوزي عبد المطلب، دار الوفاء، المنصورة، ط 2، 1425 هـ - 2004 م، (9/ 69). (¬3) تفسير القرطبي، (6/ 420). (¬4) الموافقات، للشاطبي، (3/ 354).

المطلب الرابع: اتزانها من كل وجه

والأحوال وتنظيم العلاقات الدولية كل ذلك قد تناولته هذه الشريعة المعصومة على نحو لا نظير له في شريعة سبقتها، أو قانون وضعي جاء قبلها أو بعدها. وأخيرًا فإن مما يؤكد على شمولية هذه الشريعة ما تقرر من عدم خلو الوقائع عن حكم للشريعة؛ لتستخرج المكلف من داعية الهوى إلى طاعة المولى جل وعلا (¬1). المطلب الرابع: اتزانها من كل وجه: إن الشريعة الإلهية مستقيمة، فلا اضطراب فيها ولا عوج بحال، ولا ميل فيها عن الحق والعدل، ليست لها غاية في تحقيق مصلحة طبقة من العباد دون أخرى، ولا شعب دون شعب، ولا تميل لتحقيق مصلحة مادية على حساب مصلحة أخرى أخلاقية، ولا تؤثر الحياة الدنيا على الحياة الآخرة، ولا عكس، وتجعل العمل والجزاء له أثره الدنيوي والأخروي معًا، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]. وهي توازِنُ بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة دون إخلال، فتبيح الملكية الفردية وتطلقها لينتفع الفرد، ثم هي تعمل على نفع المجتمع وتضع قيودًا على التملك وطرائقه، تمنع فيها الظلم والعدوان والاحتقار والغش والخداع، وتضع قيودًا على الاستثمار وتنمية المال، وأخرى على التسويق والتوزيع، والإنفاق والاستهلاك، وبعض هذه القيود أخلاقية يقوم عليها الإيمان، وأخرى قانونية يقوم عليها السلطان، موازنة بين حقوق الأفراد والمجتمعات، وإقامة للقسط وإشاعة للعدل (¬2). وفي تشريعاتها توازِن بين الفردية والجماعية، فمن العبادات ما يتحتم أداؤه جماعة، في ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 168). (¬2) شريعة الإسلام خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان، د. يوسف القرضاوي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1393 هـ، 1973 م، (ص 20 - 21).

المطلب الخامس: حفظها بحفظ الله

توقيتات محددة، كالصيام، والحج، والصلاة المفروضة، وفيها ما يرغب أداؤه على انفراد كالسنن الرواتب. وهي بالجملة توازِن بين الثابت والتغير من الأهداف والغايات، والوسائل والأساليب، وبين القيم الدينية والأخلاقية، والشئون الدنيوية والعلمية، وبين مختلف الحاجات والغرائز البشرية، والنزعات الإنسانية. المطلب الخامس: حفظها بحفظ الله: لما كانت الشريعة ربانية فقد تولى الله -عز وجل- حفظ أصولها من التحريف والتبديل، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، أي: "وإنا للقرآن الكريم لحافظون من أن يزاد فيه باطل ما ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه" (¬1). وقال -عز وجل-: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]، قال الزجاج: "معناه: أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه" (¬2). وما يسري على القرآن الكريم يسري على السنة؛ لأنها بيان للقرآن الكريم، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فحفظ القرآن الكريم يستلزم حفظ السنة، بل حفظ اللسان العربي أيضًا، قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19]، وهذا البيان إنما هو بسنة النبي العدنان بعد بيان القرآن بالقرآن. ¬

_ (¬1) تفسير الطبري، (14/ 18). (¬2) معالم التنزيل، لأبي محمد الحسين بن مسعود البغوي، تحقيق: محمد النمر، وعثمان ضميرية، وسليمان الحرش، دار طيبة، الرياض، ط 1، 1409 هـ - 1989 م، (7/ 176).

المطلب السادس: صلاحيتها لكل زمان ومكان

يقول المعلِّمي اليماني (¬1) -رحمه الله-: "فأما السنة فقد تكفل الله بحفظها أيضًا؛ لأن تكفله بحفظ القرآن يستلزم تكفله بحفظ بيانه، وهو السنة، وحفظ لسانه، وهو العربية؛ إذ المقصود بقاء الحجة قائمة والهداية باقية، بحيث ينالها من يطلبها؛ لأن محمدًا خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، بل دل على ذلك قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19]، فحفظ الله السنة في صدور الصحابة والتابعين حتى كُتبت ودُوِّنت" (¬2)، والتاريخ شاهد بما قيض الله لهذه السنة المطهرة من الجهابذة الأعلام الذين حفظوها ودونوها ونخلوا صحيحها من سقيمها، ومقبولها من مردودها. المطلب السادس: صلاحيتها لكل زمان ومكان: لم يبعث الله تبارك وتعالى نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليكون نذيرًا لطائفة من الناس دون غيرهم، ولا ليكون رسولًا لأمة من البشر دون سائر الأمم، وإنما بعثه ليكون للعالمين بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، بعثه بشريعة الإسلام الخالدة إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، قاصيهم ودانيهم، أحمرهم وأسودهم، عربيهم وأعجميهم، شرقيهم وغربيهم، فهي بذلك عالمية. وهذه الحقيقة معلومة من دين الإسلام بالضرورة؛ لأن القرآن الكريم صرَّح بها ¬

_ (¬1) عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن محمد، العتمي، فقيه من العلماء، نسبته إلى بني المعلم من بلاد عتمة باليمن، عين أمينًا لمكتبة الحرم المكي سنة 1372 هـ إلى أن مات، من مصنفاته: التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، والأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة، ولد سنة 1313 هـ وتوفي سنة 1386 هـ، ودفن بمكة. الأعلام، للزركلي، (3/ 342). (¬2) الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة، لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، عالم الكتب، بيروت 1402 هـ - 1982 م، (ص 33).

تصريحًا مستفيضًا لا يقبل التأويل، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 158]، ففي هذه الآية الكريمة بيان "عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم -، وهي عامة للثقلين كما نطقت به النصوص، حتى صرحوا بكفر منكره" (¬1)، وبرغم أن الآية الكريمة خاطبت الناس جميعًا برسالته - صلى الله عليه وسلم - إلا أنها أكدت ضمير المخاطبين بوصف: "جميعًا" الدال نصًّا على العموم؛ لرفع احتمال التخصيص (¬2). ويقول الله -عز وجل-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، أي: "وما أرسلناك يا محمد إلى هؤلاء المشركين بالله من قومك خاصة، ولكنَّا أرسلناك كافة للناس أجمعين العرب منهم والعجم، والأحمر والأسود، بشيرًا من أطاعك ونذيرًا من كذبك" (¬3). وقال -عز وجل-: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، أي: "لأنذركم بالقرآن أيها المشركون، وأنذر من بلغه القرآن من الناس كلهم" (¬4). وقال عن القرآن الكريم نفسه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقال: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم: 52]، أي: "وما محمد إلا ذِكْر ذكَّر الله به العالمين؛ الثقلين الجن والإنس" (¬5). أو: وما القرآن الكريم إلا ذكر للعالمين. ومعناه: شرف، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] (¬6). ¬

_ (¬1) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لمحمود شكري الألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (9/ 82). (¬2) تفسير التحرير والتنوير، لمحمد الطاهر ابن عاشور، الدار التونسية، تونس، 1984 م، (9/ 139). (¬3) تفسير الطبري، (19/ 288). (¬4) السابق، (9/ 184). (¬5) السابق، (23/ 204). (¬6) تفسير القرطبي، (18/ 256).

وهذه الحقيقة القرآنية أكدتها السنة النبوية، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأحلت لي الغنائم ولم تحلَّ لأحد قبلي، وأُعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا دخل النار" (¬2). والمراد بالأمة في هذا الحديث عموم الخلق سواء من دخل فيهم في أمة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى الخاص فصار مسلمًا، أو من بقي منهم على كفره فكان من أمته بالمعنى العام، أي: من عموم من بعث إليهم وأمر بدعوتهم، وهم الناس جميعًا بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بدليل ذكره لليهود والنصارى. وإلى جانب هذه الحقيقة الراسخة عقيدة أخرى لا تقل عنها رسوخًا، وهي أن رسول الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم النبيين والمرسلين، فلا نبي بعده ولا رسول، فرسالته الخاتمة هي الخالدة الباقية إلى يوم الدين، فلا نسخ لها ولا زوال. فهذه عقيدة معلومة من دين الله بالضرورة، لا ينكرها إلا من كفر بالرحمن وكُتب عليه الخذلان، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، "وخاتم النبيين الذي: ختم النبوة فطبع عليها، فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة" (¬3)، فهذه الآية الكريمة "نص في أنه لا نبي بعده، وإذا ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب التيمم، (335)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، (521). (¬2) أخرجه: مسلم، كتاب الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته، (153). (¬3) تفسير الطبري، (19/ 121).

كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بطريق الأولى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة"، قال: "فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" (¬2). هاتان الحقيقتان الراسيتان الراسختان مقدمتان لحقيقة كبرى وهي: صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان؛ لأننا لو لم نقل بذلك -مع كون رسالة الإسلام رسالة عالمية خاتمة للرسالات- للزم منه أن يكون الله -عز وجل- قد أجاز للبشر أن يشرِّعوا لأنفسهم في كل زمان ما يصلح لهم، وهذا أبطل الباطل، وبطلانه معلوم من دين الله بالضرورة، كما أن حاكمية الله وانفراده بالسلطان على عباده وتفرده بحق التشريع معلوم من دين الله بالضرورة، قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، وقال سبحانه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، فالذي له الخلق هو وحده الذي يملك الأمر والنهي والتحليل والتحريم والتشريع والحكم، فما من شيء في حياة البشر مهما كان صغيرًا إلا ولله فيه ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير، (6/ 428). (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب المناقب، باب: خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، (3535)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب: ذكر كونه - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، (2286).

حكم، فيجب عليهم أن يردوا كل أمر يختلفون فيه إلى حكم الله وحده، وهذا أمر لا يخالف فيه مسلم موحد. بل إن تعبير "صلاحية الشريعة" ليقصر عن استيعاب الدور المستغرق الدائم العام الباقي للشريعة الإسلامية؛ لأنها لا تتصف بالصلاحية فحسب، وإنما تتصف بالصلاحية والإصلاح، فهي صالحة لكل زمان ومكان، ومصلحة لكل زمان ومكان، بل لا يكفي أن نقول هذا حتى نرفع احتمال المشاركة فنقول: إنها هي وحدها الصالحة والمصلحة لأهل كل زمان ومكان.

المبحث الثاني الثبات والتغير في الأحكام الشرعية

المبحث الثاني الثبات والتغير في الأحكام الشرعية من بين ما وجهه أعداء الشريعة في العصر الحديث إليها من تهم باطلة أنها جامدة غير متطورة، وهذا الافتراء إنما هو ترديد جاهل لما كتبه غربيون مغرضون، أو تأثر ظاهر بنمط الحياة العلمانية الغربية، التي تفصل بين الدين والدنيا (¬1). وبغض النظر عن تلك الافتراءات فإن قضية ثبات أو تغير الأحكام الشرعية تعد واحدة من أخطر القضايا الأصولية وأشدها التباسًا، فتارة يكون الخلاف فيها خلافًا معنويًا ذا دلالات خطيرة، وتطبيقات تنحرف عن الجادة، وتارة يكون الخلاف لفظيًّا لا تترتب عليه ثمرة عملية، وإنما هو خلاف عبارات لاختلاف الاعتبارات؛ الأمر الذي يتأكد معه تحرير النزاع، وفيما يأتي بيان يُعْنَى بدفع الالتباس قبل الترجيح، كما يظهر من المطالب التالية: المطلب الأول: علاقة الحكم الشرعي بمحالِّ ثبوته: يتعلق الحكم الشرعي بأفعال وتصرفات العباد وما يرتبط بها كما هو ظاهر من تعريفاته المختلفة، مثل قول بعض الأصوليين هو: "خطاب الشرع إذا تعلق بأفعال المكلفين" (¬2) أو ¬

_ (¬1) يراجع في هذه المعنى: نحو ثورة في الفكر الديني، د. محمد النويهي، دار الآداب، بيروت، ط 2، 1983 م، (ص 151)، مجلة المحاماة الشرعية، العدد الأول، (ص 8)، الإسلام وأصول الحكم، لعلي عبد الرازق، وممن تولى الرد عليه د. ضياء الدين الريس في كتاب الإسلام والخلافة، (ص 270) وما بعدها، ومن قبله شيخ الأزهر في زمنه الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه نقض الإسلام وأصول الحكم. (¬2) المستصفى، لمحمد بن محمد أبي حامد الغزالي، تحقيق محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1413 هـ (1/ 55)، واعتمده أبو الوليد محمد بن رشد الحفيد في كتابه الضروري =

هو: "خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث هو مكلف" (¬1)، أو هو: "خطاب الله المتعلق بفعل المكلفين بالاقتضاء أو التخيير" (¬2)، وقد زاد ابن الحاجب (¬3)، "أو الوضع" ليدخل الأحكام الوضعية مع التكليفية (¬4). فإذا وصف فعل معين أو عين معينة بحِلٍّ أو حرمةٍ فهل هذا الوصف الشرعي (الحكم) كان لخصائص ذاتية من النفع أو الضر ومن المصلحة أو المفسدة، اقتضت هذا التوصيف الشرعي، فيكون الحكم الشرعي عندئذٍ وصفًا ذاتيًّا بالنسبة لمحالِّ ثبوته، أم إنه لا صلة بين التوصيف الشرعي (الحكم) ومحل ثبوته إلا ما يجعله الشرع بينهما من صلة؟ وقد اختلف الأصوليون في هذه المسألة النظرية على قولين يتخرجان على الخلاف في مسألة التحسين والتقبيح العقليين (¬5)، وقد وقف كلٌّ من الأشاعرة والمعتزلة على طرفي نقيض، وهدَى الله تعالى من شاء إلى الوسط الذي لا غلو فيه ولا تفريط، وفيما يلي بيان المذهبين والترجيح: ¬

_ = في أصول الفقه، تحقيق: جمال الدين العلوي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1994 م، (ص 41). (¬1) شرح العضد على مختصر ابن الحاجب للإيجي، (2/ 110)، حاشية البناني على شرح جمع الجوامع، (1/ 47 - 49). (¬2) المحصول في علم الأصول، لأبي عبد الله محمد بن عمر، فخر الدين الرازي، تحقيق: د. طه جابر فياض العلواني، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ط 1، 1400 هـ (1/ 107)، ونسبه التفتازاني في التلويح على التوضيح، (1/ 22) لأبي الحسن الأشعري. (¬3) أبو عمرو، جمال الدين، عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس ابن الحاجب، الشيخ الإمام العلامة المقرئ الأصولي الفقيه النحوي، تفقه على مذهب الإمام مالك، من مصنفاته: مقدمة وجيزة في النحو، ومنتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل، ولد سنة 570 هـ، وتوفي سنة 646 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (23/ 565)، وفيات الأعيان، لابن خلكان، (3/ 248). (¬4) مختصر المنتهى، لابن الحاجب، (1/ 282 - 283). (¬5) وقد أفردت رسائل علمية قيمة في هذه المسألة في القديم والحديث، فمن ذلك: كتاب نجم الدين الطوفي الحنبلي "درء القول القبيح بالتحسين والتقبيح"، ومن الحديث رسالة دكتوراه بعنوان "التحسين والتقبيح العقليان وأثرهما في مسائل أصول الفقه"، د. عايض الشهراني، نوقشت في قسم أصول الفقه، بكلية الشريعة جامعة الإمام محمد بن سعود، بالسعودية، وقد طبعت بدار كنوز إشبيليا، ط 1، 1429 هـ.

المذهب الأول: التحليل والتحريم صفات عَرَضِيَّة تعرض لمتعلَّقاتها من الأعيان، أو الأفعال بدلالة خطاب الشرع فحسب، ولا ارتباط بين الحكم والصفات الذاتية في متعلَّقه الذي يقوم به، إلا أن الخطاب الشرعي ربط بينهما ابتداءً لغير معنى يعقل، فلا يعتبر في تحريم الخمر ما يتعلق بذاتها من صفة الخمرية وإحداث السكر؛ إذ الحكم لا يتعلق بالأعيان لخصائصها الذاتية أو الملازمة، بل معنى هذا التحريم نسبة الخمر إلى اجتناب الشرب وعدم التناول فحسب. ويعتبرون أن قولنا: الخمر محرمة تجوُّز؛ لأنها جماد لا يتعلق بها خطاب، وإنما المحرم تناولها، أو المقول فيه: لا تفعلوا، كما أن الواجب المقول فيه: لا تتركوا (¬1). وهذا مذهب جمهور المتكلمين من الأصوليين (¬2) وبعض أصوليي الحنفية (¬3). المذهب الثاني: التحليل والتحريم قد يتعلقان بالأفعال والأعيان لخصائص ذاتية، أو ملازمة تناسب الحكم وتصلح له، فإن كانت الأعيان والتصرفات بها من الفساد أو الضرر اقتضت حكمته تعالى ورحمته بعباده التحريم، وإن كانت تتضمن خصائص النفع والصلاح اقتضت رحمته تعالى الإباحة، ولا يمنع أن تكون صفات عرضية إضافية تقتضي الأحكام الشرعية، ولا سبيل لإدراكها من غير طريق النصوص الشرعية، بل ولا يثبت الحكم الشرعي في هذه الأعيان أو ¬

_ (¬1) المنخول من تعليقات الأصول، لأبي حامد الغزالي، تحقيق: محمد حسن هيتو، دار الفكر دمشق، ط 2، 1400 هـ - 1980 م، (ص 7). (¬2) البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني، تحقيق: عبد العظيم محمود الديب، دار الوفاء، المنصورة، مصر، ط 4، 1418 هـ (1/ 79)، المستصفى، للغزالي، (ص 58). (¬3) أصول السرخسي، لأبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1414 هـ - 1993 م، (1/ 195)، كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، لعلاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري، تحقيق: عبد الله محمود محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418 هـ - 1997 م، (1/ 391).

الذوات إلا من جهة النصوص. وهذا مذهب أكثر أصوليي الحنفية وبعض الحنابلة (¬1). ويلاحظ أن المعتزلة بالغوا في وظيفة العقل حتى جعلوه مصدرًا للتشريع، متقدمًا على النقل، وقد جانبوا الصواب حين قصروا الأوصاف المقتضية للأحكام على الأوصاف الذاتية فقط (¬2). وأما الأشاعرة فكان مذهبهم بمثابة رد فعلٍ لمذهب المعتزلة، وذلك حين نفوا العلاقة بين الحكم الشرعي والخصائص الذاتية والملازمة. ثم إنهم عادوا فتناقضوا حين قالوا: إن الأحكام الشرعية معلَّلة، وذكروا الحِكَم المرتبطة بها عند الدخول في مسائل الفقه (¬3). وقد وقع هذا الاضطراب عند الرازي (¬4)، والعز ابن عبد السلام وغيرهما. يقول العز ابن عبد السلام -رحمه الله-معتمدًا مذهب جمهور الأصوليين-: "وليس ¬

_ (¬1) المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري، تحقيق: خليل الميس، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1 (1403)، (2/ 201)، وآراء المعتزلة الأصولية، لعلي بن سعد الضويحي، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1415 هـ، (ص 190) وما بعدها، ميزان الأصول، للسمرقندي، (ص 290)، تيسير التحرير، لأمير باد شاه، (1/ 172)، المغني في أصول الفقه، لجلال الدين أبي محمد عمر بن محمد بن عمر الخبازي، تحقيق: محمد مظهر بقا، مركز البحث العلمي وإحياء التراث بجامعة أم القرى، ط 1 (1403)، (ص 60)، وسلم الوصول للمطيعي، (1/ 85). (¬2) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (11/ 354)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 12). (¬3) الإبهاج في شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول، لعلي بن عبد الكافي السبكي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1404 هـ، (3/ 40 - 41). (¬4) أبو عبد الله، فخر الدين، محمد عمر بن الحسين بن الحسن الرازي الطبرستاني، ولد سنة (544 هـ)، قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: العلامة الكبير ذو الفنون، الأصولي المفسر، كبير الأذكياء والحكماء والمصنفين، له مصنفات كثيرة منها: التفسير الكبير، المحصول في علم الأصول، المطالب في الحكمة، ولد سنة 544 هـ، وتوفي 606 هـ. سير أعلام النبلاء، (21/ 500)، وفيات الأعيان، لابن خلكان، (4/ 248).

وصف الأفعال بالتحليل والتحريم والكراهة والندب والإيجاب وصفًا حقيقيًّا قائمًا بالأفعال؛ إذ لا يقوم عَرَض بعَرَض، ولا يقع التكليف إلا بالأعراض، وإنما هو عبارة عن تعلق خطاب الشرع بالأفعال" (¬1)، ثم يعود فيقرر مذهب الحنفية الأصولي فيقول: "أسباب التحريم والتحليل ضربان: أحدهما: قائم بالمحل الذي يتعلق به فعل المكلف، والثاني: خارج عن المحل، فأما القائم بالمحل من أسباب التحريم فهو كل صفة قائمة في المحل موجبة للتحريم، كصفة الخمر فإنها محرمة لما قام بشربها من الشدة المطربة المفسدة للعقول، وكالميتة حرمت لا قام بها من الاستقذار" (¬2). الترجيح: إن كان من ترجيح بين هذين المذهبين اللذين توسع الأصوليون في عرضهما وبيان أدلتهما والإيرادات وما تندفع به ونحو ذلك، فإنه يترجح مذهب القائلين بتعلق الحكم الشرعي بالأعيان والتصرفات لخصائص ذاتية أو ملازمة، تناسب الحكم وتصلح له؛ ذلك أن الأدلَّة مصرحة بهذا أتم تصريح، ومبينة له أوضح بيان، فإن الله تعالى ما حرم الزنا لحسنه، ولا لانعدام صفة القبح فيه، بل رتب الله تحريمه على تحقق معنى الفاحشة فيه، وسوء سبيله وسبيل من سلكه. قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]. والله تعالى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيأمر بالعدل والإحسان، ولا يأمر بالفحشاء، والعدل والإحسان والفحشاء خصائص ذاتية في الأفعال تقتضي أمرًا بها أو نهيًا عنها، فلا يجوز أن يأمر تعالى بالفحشاء، أو أن ينهى عن العدل والإحسان، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]. ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (2/ 187). (¬2) المرجع السابق، (2/ 190).

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. سئل أعرابي دخل في الإسلام فقيل له: عن أي شيء أسلمت؟ وما رأيت منه -أي النبي - صلى الله عليه وسلم -- مما دلَّك على أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: ما أمر بشيء، فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء، فقال العقل: ليته أمر به، ولا أحلَّ شيئًا، فقال العقل: ليته حرمه، ولا حرَّم شيئًا، فقال العقل: ليته أباحه (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ومن أنكر أن يكون للفعل صفات ذاتية لم يُحسِّن إلا لتعلق الأمر به (¬2) وأن الأحكام بمجرد الخطاب إلى الفعل فقط، فقد أنكر ما جاءت به الشريعة من المصالح والمفاسد والمعروف والمنكر، وما في الشريعة من المناسبات بين الأحكام وعللها، وأنكر خاصة الفقه في الدين الذي هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها" (¬3). ومن غير شك فإن المتتبع لأحكام الشريعة ليقوم في نفسه العرفان بأنها ما شرعت إلا تحصيلًا لمعانٍ وحكم متغياة من قبل الشارع؛ لذا كان إغفال المقاصد في فهم الأوامر والنواهي بعيدًا عن مقصود الشارع (¬4). يقول الدهلوي -رحمه الله- (¬5): "قد يظن أن الأحكام الشرعية غير متضمنة لشيء من ¬

_ (¬1) مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن القيم، تحقيق: علي حسن عبد الحميد الحلبي، دار ابن عفان، ط 1، 1416 هـ - 1996 م، (2/ 459). (¬2) الضمير يعود إلى الفعل. (¬3) مجموع الفتاوي، لابن تيمية (11/ 354). (¬4) الحكم الشرعي بين أصالة الثبات والصلاحية، د. عبد الجليل زهير ضمرة، دار النفائس، الأردن، ط 1، 1426 هـ - 2006 م، (ص 51). (¬5) أبو عبد العزيز، أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي الدهلوي الهندي المشهور بشاه ولي الله، فقيه حنفي من المحدثين من أهل دلهي بالهند، أحيا الله به وبتلاميذه الحديث والسنة في الهند، وعلى كتبه وأسانيده المدار =

المصالح، وأنه ليس بين الأعمال وبين ما جعل الله جزاء لها مناسبة، وهذا ظن فاسد تكذبه السنة وإجماع القرون المشهود لها بالخير" (¬1). ولا يمنع هذا من أن الله تعالى قد يأمر بفعل أو ينهى عنه لغاية متعلقة بذات الأمر أو النهي لا لخصيصة قائمة في المأمور به أو المنهي عنه، كأن يتعبد عباده بالامتثال ويقيم عليهم الحجة بالاختيار، وإلا لِمَ أمر الله الخليل بأن يذبح ولده إسماعيل؟! قال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 103 - 106]. وقد يأمر الشارع الحكيم وينهى لإظهار عبوديته في الخلق وطلب تعظيمه بالاستجابة والطاعة، وإفراده بالتأليه، كما يكون في العبادات المقدَّرة والمؤقتة، والتي لا سبيل لأن يدرك العقل فيها علة لخصوص التقدير أو التأقيت، غير القيام بواجب العبودية لله تعالى، ومن ذلك: تحديد أوقات وعدد ركعات الصلوات ومقادير الزكوات، وأوقات الصيام، ونحو ذلك. ويذهب القرافي -رحمه الله- (¬2) إلى أن مثل هذه العبادات المحضة تعلل أيضًا بمصالح العباد، فيقول: "تخصيص صاحب الشرع بعض الأوقات بأفعال معينة دون بقية الأوقات يقتضي اختصاص ذلك الوقت المعين بمصلحة لا توجد في غير ذلك الوقت، ولولا ذلك ¬

_ = في تلك الديار، وله مصنفات كثيرة، منها: حجة الله البالغة، والإنصاف في مسائل الخلاف، وعقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد، ولد سنة 1110 هـ، وتوفي 1176 هـ. أكبر العلوم، (ص 912)، والأعلام للزركلي، (1/ 149)، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (1/ 272). (¬1) حجة الله البالغة، لشاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي، تحقيق: السيد سابق، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1426 هـ - 2005 م، (1/ 27). (¬2) أبو العباس، شهاب الدين، أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي المالكي القاهري، الفقيه الأصولي المتكلم النحوي، صاحب المؤلفات التي سارت بها الركبان وتداولها العلماء، منها: الذخيرة، والفروق، والقواعد، والتنقيح في أصول الفقه توفي سنة 684 هـ. شجرة النور الزكية، لمحمد بن محمد مخلوف، (ص 188)، والأعلام، للزركلي، (1/ 94).

لكان الفعل عامًّا في جميع الأوقات، ولا بد لما بعد الزوال من معنى لاحظه صاحب الشرع لم يكن موجودًا قبل الزوال، طردًا لقاعدة صاحب الشرع في رعاية المصالح، وهكذا كل أمر تعبدي، معناه أن فيه معنًى لم نعلمه، لا أنه ليس فيه معنى" (¬1). ويرد على هذا أنه لا يلزم من كل أمر أو نهي تحصيل مصلحة للعباد؛ بل قد يقصد الشارع الحكيم الزجر والعقوبة لقيام مقتضاها من جهة المكلفين، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160 - 161]. فلا يمتنع أنه قد يحرِّم الرب ما لا مفسدة فيه؛ عقوبة لمخالفة أو حرمانًا للمخالفين (¬2). وأخيرًا فإن المبالغة في التنقيب عن حِكَم المشروعيات بما لم تظهر دلالته من النصوص والأدلة الشرعية، لا سيما ما يظهر فيه وجه التعبد المحض، قد لا يخلو من تكلف. يقول المقَّري -رحمه الله- (¬3): "التدقيق في تحقيق حِكَم المشروعية من مُلَح العلم لا متينه عند المحققين، بخلاف استنباط علل الأحكام وضبط أماراتها، فلا ينبغي المبالغة في التنقيب عن الحِكَمِ لا سيما فيما ظاهره التعبد" (¬4). ¬

_ (¬1) أنوار البروق في أنواء الفروق، لأحمد بن إدريس الصنهاجي القرافي، تحقيق: د. على جمعة محمد، د. محمد أحمد سراج، دار السلام، القاهرة، ط 1، 1421 هـ - 2001 م، (2/ 584). (¬2) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 59). (¬3) أبو عبد الله، محمد بن محمد بن أحمد القرشي التلمساني الفاسي المالكي، الشهير بالمَقَّري، جد المؤرخ الأديب أحمد المَقَّري صاحب نفح الطيب، وكان فقيهًا ضليعًا بفقه مذهبه وأديبًا شاعرًا، وكان جريء الجنان لا تأخذه في الله لومة لائم، أخذ عنه الشاطبي صاحب الموافقات وابن خلدون، من مصنفاته: القواعد، الطرف والتحف، والمحاضرات، توفي 758 هـ. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، لأحمد بن محمد المقري التلمساني، تحقيق: د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1408 هـ - 1988 م، (5/ 203)، شجرة النور الزكية، لمحمد بن محمد بن مخلوف، (ص 232). (¬4) القواعد، لأبي عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري، تحقيق: أحمد بن عبد الله بن حميد، جامعة أم القرى، مكة، (2/ 406 - 407).

المطلب الثاني: الأدلة على اعتبار الثبات في الأحكام الشرعية

المطلب الثاني: الأدلة على اعتبار الثبات في الأحكام الشرعية: الثبات يرجع معناه اللغوي إلى دوام الشيء على حاله (¬1) والقول الثابت هو القول الحق والصدق، وهو ضد القول الباطل الكذب، فالقول نوعان: ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له، وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها (¬2). وأما معنى مصطلح الثبات عند المتكلمين فهو: "عدم احتمال الزوال بتشكيك المشكك" (¬3). ولقد تظاهرت أنواع الأدلة على تأصيل الثبات في الأحكام الشرعية، وقد مر طرف منها عند ذكر خصائص الشريعة الإسلامية، وفيما يلي بيان مختصر لهذه الأدلة: أولًا: القرآن الكريم: 1 - الأدلة الدالة على حفظ القرآن الكريم من التحريف: وذلك لتبقى أحكامه ثابتة إلى ما شاء الله، كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]، فأحكامه تعالى لا تقبل الزوال أو التبديل؛ لأنها أزلية، والأزلي لا يزول (¬4). أي: صدقًا فيما أخبر؛ فما أخبر به هو الحق، وعدلًا فيما حكم، فما أمر به هو العدل، وما نهى عنه فهو الباطل، ولا معقب لحكمه في الدنيا ولا في الآخرة (¬5)، ولا يملك أحد أن يغيرها ولا أن يبدلها ولا أن يَخرُج عن شيء من أحكامها، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ¬

_ (¬1) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (1/ 399). (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 177). (¬3) كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي، (1/ 536). (¬4) التفسير الكبير، لأبي عبد الله محمد بن عمر بن الحسن فخر الدين الرازي، دار الفكر، بيروت، لبنان، ط 1، 1401 هـ - 1981 م، (13/ 170). (¬5) تفسير ابن كثير، (3/ 322).

لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، والتغيير فيما قد كمل وتم اتهام بالنقص، بل هو عين التنقص. {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]، فلا سبيل لتبديل حقائقه، ولا طمس أحكامه بحمد الله تعالى. 2 - الأدلة التي تحذر من تحريف الشرائع وتبديل الأحكام: قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116]، وفي هذا تحذير من هذا المسلك. وقد ذكر الله طرفًا من عبث المشركين وأهل الكتاب بالأحكام، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 137]. وقال في حق أهل الكتاب: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]، وقال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41]، وقد نهى الله تعالى المؤمنين عن ذلك صراحةً، فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]، وكان من سبب نزولها أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم

انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي، فحرَّمت عليَّ اللحمَ، فأنزلت الآية (¬1). ثانيًا: السنة المطهرة: 1 - الأحاديث الدالة على بقاء طائفة قائمة بأمر الله لا يضرها من خالفها أو خذلها إلى قيام الساعة، ومن ذلك: حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لن يَبْرَحَ هذا الدين قائمًا يقاتِل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة" (¬2). حديث معاوية -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" (¬3). وهذا كله مصداق قوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181]، وهذا يدل على حفظ الدين وبقاء أحكامه، ولا سيما الجهاد إلى يوم القيامة، كما يحمل في ثناياه البشارة الصادقة بالنصر والتمكين. 2 - الأحاديث الآمرة بالمحافظة على ثبات الأحكام الشرعية وحرمة تبديلها، ومنها: حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: "وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فأوصنا، ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي في "جامعه الصحيح"، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ومن سورة المائدة، (3054)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، ورواه بعضهم عن عثمان بن سعد مرسلاً ليس فيه: عن ابن عباس، ورواه خالد الحذاء عن عكرمة مرسلاً" اهـ. (¬2) أخرجه: مسلم، كتاب الإمارة، باب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مَن خالفهم"، (1922). (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب المناقب، (3641)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مَن خالفهم"، (1037).

قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة" (¬1). يقول ابن رجب -رحمه الله- (¬2): "ومما حدث في الأمة بعد عصر الصحابة والتابعين الكلام في الحلال والحرام بمجرد الرأي، ورد كثير مما وردت به السنة في ذلك لمخالفته للرأي والأقيسة العقلية" (¬3). ثالثًا: الإجماع: وهو إجماع منعقد من لدن أصحاب نبينا - صلى الله عليه وسلم -، يقول الغزالي: "والسلف من الأئمة مجمعون على دوام التكليف إلى القيامة" (¬4). وقد قاتل الصديق -رضي الله عنه- مانعي الزكاة بعد مناقشة عمر -رضي الله عنه- ثم انعقد إجماع الصحابة عليه، وذلك أن الامتناع عن دفع الزكاة بدعوى ارتباطها برسول الله - صلى الله عليه وسلم - نوع تحريف وتبديل لأحكام الدين الدائمة والثابتة، فإذا كان الممتنعون أصحاب ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني في "سننه"، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر - بيروت، كتاب السنة، باب: في لزوم السنة، (4607)، والترمذي، كتاب العلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، (2676)، وأبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني المعروف بابن ماجه في "سننه"، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت، المقدمة، باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، (42). قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". (¬2) أبو الفرج، زين الدين، عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن البغدادي ثم الدمشقي الشهير بابن رجب الحنبلي، وهو لقب جده عبد الرحمن، وقال عنه الحافظ ابن حجر: الشيخ المحدث الحافظ، نهل في الحديث أسماءً ورجالًا واطلاعًا وطرقًا وكان صاحب عبادة وتهجد من مصنفاته: فتح الباري شرح صحيح البخاري، ولم يتم، وشرح علل الترمذي، وشرح جامع الترمذي، ولد سنة 736، وتوفي -رحمه الله- 795 هـ، الدرر الكامنة، لابن حجر، (2/ 321)، السحب الوابلة، لابن حميد، (2/ 474). (¬3) جامع العلوم والحكم، لأبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 3، 1412 هـ - 1991 م، (2/ 133). (¬4) المستصفى، للغزالي، (1/ 148).

شوكة ومنعة فقد وجب على الإمام قتالهم (¬1). وقال الصديق مقالته المشهورة: "والله لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَناقًا كانوا يؤدونها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها" (¬2). رابعًا: المعقول: 1 - قضية الثبات في الأحكام ترتبط بقضية الإيمان بأسماء الله وصفاته من العلم والحكمة وغيرها، فأحكامه تعالى صادرة عن صفاته الكاملة وأسمائه الحسنى، فهو أعلم بخلقه وما يصلحهم وما يفسدهم، وإذا كانت الفطرة البشرية ثابتة لا تتغير فما يصلحهم كذلك. {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]. 2 - القول بعدم ثبات الشريعة يفضي إلى القول بعدم صلاحيتها للزمان والمكان، ولو قيل بعدم ثبات أحكام الشرع لبطلت لوازم نبوته - صلى الله عليه وسلم - في الزمان والمكان الآتي بعده، وهذا كفر، فصح أن حكمه - صلى الله عليه وسلم - في زمانه حكم باقٍ في كل زمان أبدَ الأبدِ (¬3). وعليه فالشريعة الإسلامية ثابتة، تستعصي على التحريف والتبديل، وتتأبى على التطويع والتعطيل، ومن رامها بشيء من ذلك رمته بالكفر والتضليل. ولقد حاول كثير من دعاة العصرانية أن ينفذوا إلى غرضهم في تبديل الشريعة وتذويب أحكامها وتطويع مبادئها للأهواء، وذلك من خلال ما اشتهر في كتب أهل العلم من تغير الأحكام بتغير الأزمان، ولا يمكنهم ذلك؛ لأن ما عناه العلماء بهذه المقولة شيء وما أرادوه شيء مختلف تمام الاختلاف، فتغير الأحكام بتغير الأزمان ليس فيه تبديل ¬

_ (¬1) المستصفى، للغزالي، (ص 286)، أصول السرخسي، (2/ 60)، الإحكام، لأبي محمد، علي بن أحمد بن حزم الأندلسي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، (5/ 59). (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب الزكاة، باب: وجوب الزكاة، (1399، 1400)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة و. . .، (20)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬3) الإحكام، لابن حزم، (5/ 59).

المطلب الثالث: أنواع الأحكام الشرعية من حيث الثبات والتغير

للشرع المحكم، ولا تغيير للشريعة الثابتة، بل هو خاصية في الشريعة نفسها تكسبها صفة البقاء والخلود وتزيدها ثباتًا وإحكامًا بقدرتها على تلبية كل متغير في حياة الناس. فشريعة الله حاكمة لا محكومة وكل من يحاول إخضاعها ويئوِّل نصوصها ليذللها لأحكام الزمان والمكان والأقوام من غير طرائق التأويل المستقيم، إنما يجعل شرع الله هزوًا، وينزل به من عليائه، ويجعله خاضعًا لأهواء الناس، وهو بذلك يظلم نفسه، قبل أن يظلم دينه. المطلب الثالث: أنواع الأحكام الشرعية من حيث الثبات والتغير: رفض كثير من العلماء والباحثين تقسيم الأحكام الشرعية إلى ثابت ومتغير، وقالوا: إن هذا التقسيم لا وجود له، وإن صفة الثبات لازمة لكل الأحكام الشرعية، وأنكروا تغير الأحكام بتغير الأزمان، وساقوا في ذلك الأدلة التي سقناها آنفًا في ثبات الشريعة وعدم تغيرها. من هؤلاء العلماء: ابن حزم -رحمه الله- الذي أنكر جواز الانتقال عن حكم بغير نص أوجب النقل عنه، مهما تبدل الزمان أو الحال، وقال: إن الدين "لازم لكل حيٍّ ولكل من يولد إلى يوم القيامة في الأرض، فصح أنه لا معنى لتبدل الزمان ولا لتبدل المكان ولا لتغير الأحوال، وأن ما ثبت فهو ثابت أبدًا في كل مكان وفي كل زمان وعلى كل حال" (¬1). ومن الباحثين المعاصرين من أنكر تغير الأحكام أيضًا، وإن كان قد أقر بتغير الفتوى، وأنكر كذلك تقسيم الأحكام الشرعية إلى ثابت ومتغير (¬2)، ولا منازعة فيما ذهبوا إليه، بل نوافقهم الرأي، ولكن يبدو أن ما عناه العلماء بتغير الأحكام هو ذاته ما عنوه بتغير الفُتيا، وإن كنا نميل إلى تسميتها "تغير الفُتيا"؛ إذ إن التدقيق في الاصطلاح يعد أحد أسباب ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (5/ 5). (¬2) الثبات والشمول في الشريعة، د. عابد السفياني، (ص 448 - 541)، الحكم الشرعي بين أصالة الثبات والصلاحية، د. عبد الجليل زهير ضمرة، ثبات الأحكام الشرعية وضوابط تغير الفتوى، لمحمد شاكر الشريف، بحث على موقع "صيد الفوائد" WWW.Saaid.net.

الوقاية من الانزلاق، وأحد سبل الحماية من تلاعب المغرضين بشريعة رب العالمين. وما استدل به على منع تغير الأحكام صحيح لا مرية فيه، ولكنه ينصرف إلى أمر آخر مغاير، حيث يستدل به على منع استبدال أحكام الشريعة بأحكام ليست منها، والتغيير في الشرع بالزيادة أو النقصان، وعلى ثبات الشريعة وعدم قبولها لرفع شيء من أحكامها أو تعطيله أو استبداله بما لم يشرعه الله تبارك وتعالى ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -. أما تغير الأحكام الذي عناه العلماء أمثال: الشاطبي والقرافي وابن القيم وغيرهم فليس استبدالًا لأحكام الشريعة بغيرها، ولكنه استبدال الحكم الشرعي بحكم شرعي آخر، فقد يكون الحكم هو المشروعية فينتقل إلى المنع أو العكس على اختلاف درجات المشروعية والمنع لا على سبيل النسخ والرفع والإزالة، وإنما على سبيل الانتقال والتحول، وليس في جميع الأحكام، وإنما في الأحكام الدائرة على المصالح أو العوائد والأعراف أو العلل المتغيرة. وتقسيم بعض العلماء أحكام الشريعة إلى ثوابت ومتغيرات لا يعني انقسامها إلى أحكام ثابتة لا تقبل الاستبدال وأخرى متغيرة تقبل الاستبدال بأحكام ليست من دين الله ولا من شريعة الإسلام، وإنما المقصود هو أن في الشريعة الإسلامية أحكامًا ثابتة بنصوص الكتاب والسنة، لا تقبل التغير لثبات المصالح التي شرعت لتحصيلها، أو لكونها من الأسس التي لا تتبدل بتبدل الأزمان أو الأعراف أو العادات فهذه الأحكام لا يصح المساس بها مهما تغيرت الأزمان وتبدلت الأحوال. كما أن في الشريعة الإسلامية أحكامًا بنيت على المصلحة التي يمكن أن تتغير بتغير الأزمان والأحوال والأعراف، فمثل هذه الأحكام موارد اجتهاد، تختلف فيها الأنظار بحسب اجتهاد المجتهدين في التماس المصلحة، وقد يتغير النظر فيها من وقت لآخر إذا تغيرت المصالح وأعراف الناس وعاداتهم، فهي تتغير لأجل ذلك، والمقصود بتغيرها أمران:

الأول: اختلاف وجهات النظر فيها، ولو في الزمان الواحد؛ لاختلاف مسالك المجتهدين في التماس المصلحة، وغير ذلك. الثاني: اختلاف الفُتيا فيها من زمان لآخر، وتغير الفُتيا عند تغير المصالح والأعراف والعادات بتغير الأزمان، حيث ينتقل من حكم شرعي كان مناسبًا في وقت إلى حكم شرعي آخر؛ لكونه أكثر مناسبة فيما استجد من الزمان. فالقسم الأول من أحكام الشريعة هو الذي ينبغي أن يحمل عليه قول ابن حزم فيما سبق، وكذلك قول كل من منع تغير الأحكام بتغير الأزمان؛ إذ الراجح أن أغلبهم لم يقصد تجميد أحكام الشريعة، وإنما قصد حماية الشريعة من التبديل والتحريف؛ ولذلك رأينا فضيلةَ الشيخِ بكر أبي زيد بعد ما حمل على القائلين بتغير الأحكام قال: "والعصرانيون دخلوا من هذا التقعيد الصوري إلى أوسع الأبواب فأخضعوا النصوص ذات الدلالة القطعية كآيات الحدود في السرقة والزنا ونحوهما بإيقاف إقامة الحدود؛ لتغير الزمان، وهكذا، مما نهايته انسلاخ من الشرع تحت سرادق موهوم" (¬1). وعليه فينبغي الحذر من طائفتين: إحداهما: استغلت هذه المقولة لتحقيق بغيتها في نفث سمومها والسعي في إطفاء نور الله وتحريف دينه باسم "تجديد الخطاب الديني"! والثانية: وجدت في هذه المقولة وسيلة للتوفيق بين الفكر الغربي المعاصر وبين أحكام الشريعة! ولا شك أن القائلين بتغير الأحكام بتغير الأزمان، أو بعبارة أدق: تغير الفُتيا بتغير الأزمان والأحوال، لم يقصدوا ما قصده المنحرفون، بل لم يتركوا فرصة لاستغلال هؤلاء المغرضين، أو انزلاقهم إلى ما يريدون من التحريف والتزييف؛ حيث وضعوا الاحتياطات اللازمة، وبيَّنوا البيان الكافي، فمن ذلك أنهم قسموا الأحكام الشرعية إلى ¬

_ (¬1) التعالم وأثره على الفكر والكتاب، ضمن المجموعة العلمية للشيخ بكر أبي زيد، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1416 هـ، (ص 72).

أحكام ثابتة لا تتغير، وأحكام أخرى تتغير بتغير الأزمان. ففي القديم يقول ابن القيم -رحمه الله-: "الأحكام نوعان: نوع: لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا اجتهاد الأئمة؛ كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالًا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها؛ فإن الشارع ينوِّع فيها بحسب المصلحة" (¬1). وفي الحديث يقول أحد الباحثين: "لكن وصف الأحكام الشرعية بأنها تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان على عمومها غير سليم وبإطلاقها غير مستقيم، إنما الأحكام القابلة للتغيُّر، هي الأحكام التي تتغيَّر بتغيُّر العوامل، مثل: فساد الأخلاق، وهي الأحكام غير المنصوص عليها؛ لذلك لا بدَّ من التمييز في الشريعة الإسلامية ما بين القواعد العامة التي لا تقبل التغيُّر ولا التبديل، وبين التطبيقات للأحكام التفصيلية على تلك القواعد العامة؛ لأن أصول الشريعة والأحكام التعبُّدية والمقدَّرات الشرعية لا تقبل التبديل مطلقًا، كحرمة المحارم ووجوب التراضي في العقود وضمان الضرر الذي يلحقه الإنسان بغيره، وسريان إقراره على نفسه وعدم مؤاخذة بريء بذنب غيره، وهذا يجعل مبدأ تغير الأحكام أقرب إلى نظرية المصالح المرسلة بالمقارنة إلى نظرية العرف؛ لأن التغيرات تتحقق حسب مصالح المجتمع. والحق أن الأحكام الشرعية التي تتبدَّل بتبدُّل الزمان المبدأ الشرعي فيها واحد، وهو إحقاق الحق وجلب المصالح ودرء المفاسد وتحقيق ما فيه نفع المجتمع الإسلامي في ضوء ¬

_ (¬1) إغاثة اللهفان، لابن القيم، تحقيق: الشيخ محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، 1395 هـ - 1975 م، (1/ 330 - 331).

مبادئ الإسلام وقواعده العامة، وعلى هذا فإن المبدأ الشرعي باقٍ لا يتغير، وليس في النهاية تبدل الأحكام إلا بتبدل الوسائل التي يتحقق بها مراد الله في الأرض؛ وذلك لأن الأساليب لم تضبطها الشريعة ضبطَّاً كاملًا، بل بقيت مطلقة وعامة حتى يبقى للعقل البشري مجال يعمل فيه ويكون متجاوبًا مع زمانه ومع ظروفه؛ إذ ليس هو من أساسه إلا تطبيقًا لأوجه متعددة لحكم ثابت. وأيضًا يكون الثبات في الأصول والكليات، وأما التغير ففي الفروع والجزئيات، ويكون هذا في مجال الاجتهاد، وفي نطاق النصوص المحتملة، وهو ما يؤيد القول بعدم جواز تبديل الأحكام الثابتة بالنص، مثل: أحكام العبادات؛ لأنه بالتأمل فيما نقل عن الصحابة -ولا سيما في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر- والتابعين وبعض الأئمة بتجاوز بعض الأحكام كمنع عطاء المؤلفة قلوبهم، نجد أنه ليس فيه تبديل ولا خروج على تلك النصوص، لكنهم قد قاموا بما تقتضيه حال الزمان والمكان بقدر الإمكان". (¬1) ولأجل هذا المعنى اختلفت أجوبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على السؤال الواحد نظرًا لاختلاف السائلين، فعن عبدِ اللهِ بن عمرو بن العَاصِ قال كنَّا عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فجاءَ شابٌّ فقال: يا رسولَ الله أُقَبِّلُ وأنا صَائِمٌ؟ قَالَ: "لَا"، فجاءَ شيخ، فقال: أُقَبِّلُ وأنا صائمٌ؟ قال: "نعم"، قال: فنظرَ بَعضُنا إلى بعضٍ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد علمتُ لم نظرَ بعضُكم إلى بعضٍ إنَّ الشيخَ يملِكُ نَفسَهُ" (¬2)، فاختلف جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لاختلاف حالهما. ¬

_ (¬1) تغير الأحكام في الشريعة الإسلامية، د. إسماعيل كوكسال، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1421 هـ - 2000 م، (ص 288 - 289). (¬2) أخرجه: أحمد، (2/ 185)، وأبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني في "المعجم الكبير" -كما في "مجمع الزوائد" (3/ 166) -، قال الهيثمي: "فيه ابن لهيعة؛ وحديثه حسن، وفيه كلام" اهـ، وصححه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في "السلسلة الصحيحة"، مكتبة المعارف، الرياض، 1415 هـ, (1606).

ومثل هذا وقع حين سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - "أيُّ الأعمالِ أفْضلُ؟ " (¬1). فتنوعت الإجابة لتنوع حال السائلين. كما كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أن علَّم الصحابة أن الأحكام الشرعية تدور مع عللها، فقال - صلى الله عليه وسلم - يعلل لهم نهيه عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث: "إِنَّما نهَيتُكم مِن أجْلِ الدَّافَّةِ التي دَفَّتْ فكلُوا وادَّخروا وتصدَّقوا" (¬2). وكان أيضًا من هديه - صلى الله عليه وسلم - النظر في مآلات الأفعال ونتائج التصرفات، وقد قال لعائشة -رضي الله عنها-: "ولولا أنَّ قومكِ حديثٌ عهدهم بِالجاهليةِ فأخافُ أنْ تُنكِرَ قلُوبُهم أنْ أُدخِلَ الجَدْرَ فِي البيتِ وأنْ أُلصِقَ بابهُ بِالأَرض" (¬3). وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن قتل المنافقين خشية أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه (¬4). هذا هو الاحتياط الأول الذي يغلق الباب أمام المغرضين المتربصين بشريعة الإسلام، أما الاحتياط الثاني فهو أنهم وضعوا ضوابط لتغير الفُتيا، وهو ما سيتناول في مباحث تأتي إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) انظر -مثلًا-: "صحيح البخاري"، كتاب الحج، باب: فضل الحج المبرور، (1519)، وكتاب التوحيد، باب: وسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة عملًا، (7534)، و"صحيح مسلم": كتاب الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، (83، 85). (¬2) أخرجه: مسلم، كتاب الأضاحي، باب: بيان ما كان النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في الأول الإسلام و. . .، (1971)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب الحج، باب: فضل مكة وبنيانها، (1584)، ومسلم، كتاب الحج، باب: جدر الكعبة وبابها، (1333)، من حديث الأسود بن يزيد عن عائشة -رضي الله عنها- به. (¬4) أخرجه: البخاري، كتاب المناقب، باب: ما ينهى من دعوة الجاهلية، (3518)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا (2584)، من حديث جابر -رضي الله عنه-، وفيه قصة.

المطلب الرابع: تعريف تغير الفتيا والاجتهاد والفرق بينه وبين النسخ

المطلب الرابع: تعريف تغير الفُتيا والاجتهاد والفرق بينه وبين النسخ: التغير لغة: التبدل والتحول والانتقال، نقول: تغير الشيء، أي: تحوَّل، وغَيَّره: جعله غيرَ ما كان، حوَّله وبدَّله، وغيرت الشيء: بدلته، وغيرت دابتي وثيابي، أي: جعلتها على غير ما كان، وغيرت داري: بنيتها بناء غير الذي كان (¬1). ومعنى (تغير الفُتيا) في الاصطلاح الشرعي لا يبعد عن المعنى اللغوي السابق، فهو: التحول والانتقال -عند الإفتاء في مسألة- من حكم سابق كان مناسبًا لها في وقت أو حال إلى حكم آخر لتبدل الوقت أو الحال. والأفضل ألا يعبر عنه بلفظ (تغيير)؛ لأن كلمة (تغيير) تستعمل كثيرًا بمعنى الإزالة والرفع، وتغير الفتيا ليس فيه إزالة ولا رفع، بل هو مجرد انتقال وتحول من حكم إلى حكم، مع بقاء الحكم ذاته. فالتعبير عن تغيُّر الفُتيا بلفظ (تغيير الفُتيا) لون من التساهل؛ لأنه قد يفيد -أو يفهم منه على الأقل- زوال الحكم، بينما الحكم لا يزول، بل يبقى ما بقيت شريعة الله تعالى. وكذلك التعبير عنه بمصطلح "تغير الأحكام" أو بقاعدة: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان" فيه -أيضًا- قدر من المسامحة؛ لأن الذي يتغير هو الفُتيا، أما الأحكام فلا تتغير ولا تتبدل، فالحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييرًا أو وضعًا، والقول بإمكانية تغير الحكم الشرعي مكافئ للقول بإمكانية ¬

_ (¬1) لسان العرب، لابن منظور، (10/ 155)، تاج العروس، لمحمد بن محمد عبد الرزاق الزبيدي، تحقيق: مجموعة من المحققين، وزارة الإرشاد والأنباء، الكويت، ط 2 مصورة، 1415 هـ - 1994 م، (13/ 286).

تغير خطاب الله تعالى، وقد تُوعد المبدلون لأحكام الله المغيِّرون لشرعه بالإبعاد والهلاك يوم القيامة، ففي الحديث الصحيح: "ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا" (¬1). وتغير الفتيا شيء مخالف تمام المخالفة للنسخ؛ لأن النسخ رفع للحكم وإلغاء ومحوٌ له، وهذا لا يملكه أحد سوى الله -عز وجل-، ومن ثم لا يمكن أن يحدث إلا في زمن النبوة قبل اكتمال التشريع، أما بعد اكتماله وبعد أن لَحِقَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى فلا يتحقق أبدًا. يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله-: "فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخًا، ولا تخصيصًا لعمومها، ولا تقييدًا لإطلاقها، ولا رفعًا لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال، بل ما أثبت سببًا فهو سبب أبدًا لا يرتفع، وما كان شرطًا فهو أبدًا شرط، وما كان واجبًا فهو واجب أبدًا، أو مندوبًا فمندوب، وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك" (¬2). وقد عرف الأصوليون النسخ بأنه: "رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر" (¬3). ومن خلال النظر في هذا التعريف وفي تعريف (تغير الفتيا)، ومن خلال الدراسة لأحكامهما ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب المساقاة، باب: من رأى أن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه، (2367)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، (249) -واللفظ له-، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وفيه قصة. (¬2) الموافقات، للشاطبي، (1/ 78 - 79). (¬3) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل، لأبي عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر المعروف بابن الحاجب، تحقيق: د. نذير حماد، دار ابن حزم، ط 1، 1427 هـ - 2006 م، (2/ 971).

وشروطهما وضوابطهما وأمثلتهما يتبين لنا أن النسخ وتغير الفتيا يلتقيان في وصفين (¬1): الأول: أن كلًّا منهما يراعى فيه المصلحة ومقاصد التشريع. الثاني: أن كلًّا منهما يتحقق فيه الانتقال من حكم إلى حكم، وترك الحكم الأول إلى الثاني. ولكنْ بينهما فروق جوهرية، أهمها: 1 - أن النسخ رفع للحكم ومحوٌ له، بحيث لا يمكن أن يعود مرة ثانية للتعلق بالحادثة أو الواقعة أو الشيء المحكوم عليه، أما تغير الفتيا فليس فيه رفعُ الحكم ولا محوٌ له، وإنما هو عبارة عن ترك الحكم -في مسألة أو نازلة- إلى حكم آخر انتقالًا فقط، وليس لإزالة الحكم الأول؛ بل يبقى الحكم الأول، حتى إذا ما تغير الحال وعاد واقع المسألة لما يناسب الحكم الأول عاد الحكم فتعلق بها. يقول الشاطبي -رحمه الله-: "وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها" (¬2). 2 - أن النسخ لا يملكه إلا الله تبارك وتعالى الذي قال: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، فما أثبته الله في الكتاب والسنة لم يجز لأحد أن يمحوه، وما نسخه الله تعالى في كتابه أو سنة رسوله لم يملك أحد أن يثبته، أما تغير الفُتيا فيملكه كل مجتهد؛ لأنه ينظر إلى الأحكام التي دورانها على المصلحة أو على العوائد، فإذا ما تغيرت المصلحة أو تبدلت العوائد نظر إلى ما يناسبها من الأحكام ¬

_ (¬1) تغير الفتوى بتغير الحال في الشريعة الإسلامية، لسيد إبراهيم درويش، رسالة دكتوراه مخطوطة بكلية الشريعة والقانون، جامعة الأزهر، القاهرة، 1406 هـ - 1986 م، (ص 37). (¬2) الموافقات، للشاطبي، (2/ 286).

فانتقل إليه. 3 - أن النسخ لا يكون إلا في زمن الوحي، ولا يمكن أن يقع بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا بإجماع العلماء (¬1)، أما تغير الفُتيا فيكون في زمن الوحي كما يكون بعده في جميع الأزمان؛ لأن موضوعه هو الأحكام التي تدور مع العوائد أو المصالح، وسببه هو تغير العوائد أو تبدل المصالح، وهذا مستمر أبدًا. هذه أهم الفروق وهناك فروق أخرى وقد اكتفي بما هو أهم تجنبًا للإسهاب والإطالة. ¬

_ (¬1) مراتب الإجماع، لابن حزم، (ص 174، 175).

المبحث الثالث أسباب تغير الفتيا والأحكام الفقهيه الاجتهاديه

المبحث الثالث أسباب تغير الفُتيا والأحكام الفقهية الاجتهادية تمهيد لقد سبق -بما يغني عن الإعادة- أن الشريعة الإسلامية الغراء تميزت بثبات أحكامها وديمومة بقائها، وكمال صلاحيتها عبر الزمان والمكان، فلا جرم أن احتوت على مجامع الخيرات ومفاتح الرحمات لجميع البريات. والأحكام التي جاء بها الدين الحنيف لا تقبل التغير في أصولها، إنما يقع التغير في علم الإنسان بها واستنباطه منها، وتطبيقه لها على ما يستجدُّ من الجزئيات، وبما أن الشريعة كاملة رفيعة المستوى لا يشوبها نقص ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فهي مصونة من الارتداد إلى النقص أو الارتطام في هوة الفساد، وإلا كان ذلك نقصًا من مستواها؛ كما هي غير قابلة لارتقاء إلى أعلى منها؛ لأن هذا الأعلى غير موجود؛ ذلك بأنها من كتاب الله العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فالأحكام التي نص عليها القرآن والسنة المطهرة واستُمِدَّ منها إجماعُ المسلمين لا يمكن أن يقع فيها تغير أو تغيير، ولن تحتاج لذلك؛ لأنها ستظل صالحة لكل زمان ومكان، وهذه الصلوحية تحتمل أن تُصوَّر بكيفيتين: الأولى: أن الشريعة قابلة بأصولها وكلياتها للتطابق مع مختلف الأحوال بحيث تساير أحكامها مختلف المستجدَّات دون حرج ولا مشقَّة ولا عسر. الثانية: أن يكون اختلاف أحوال العصور والأمم قابلًا للتشكيل والتعديل على

المطلب الأول: الأسباب الذاتية لتغير الفتيا والأحكام الفقهية الاجتهادية

نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقةٍ ولا عسرٍ، كما أمكن للإسلام تغيير بعض أحوال الأمم التي اعتنقته. وفيما يأتي بيان لأهم أسباب تغير الفتيا والأحكام الاجتهادية في الشريعة الإسلامية: المطلب الأول: الأسباب الذاتية لتغير الفتيا والأحكام الفقهية الاجتهادية: أولًا: خصائص وقواعد الشريعة الإسلامية: لقد تميزت الشريعة الربانية بمميزات كثيرة، وانفردت بخصائص فريدة تؤهلها للبقاء والصلاحية، والديمومة والثبات من جهة، والسعة والمرونة من جهةٍ أخرى. فالقواعد ثابتة في كل زمان ومكان لا تقبل تبديلًا ولا تغييرًا، وما كان من الفتاوي والأحكام الاجتهادية مرتبطًا بالبيئات والظروف والأعراف والعادات أو المصالح ونحو ذلك فإنها تقبل التغير والاجتهاد، وهذا في ذاته من مظاهر المرونة، ومن دلائل الخصوبة. كما أن الأحكام الاجتهادية لم تسرد سردًا ولم تستوعب ذكرًا في كتاب ولا سنة، وإنما عرضت أصول الأحكام ومعاقد الحلال والحرام، ثم فُتح باب الاجتهاد لتخريج الفروع على الأصول، ورد الجزئيات إلى الكليات، وقياس غير المنصوص على المنصوص، وهذا من شأنه أن يفتح باب السعة، ومراعاة الخلاف؛ ذلك أن الخلاف الذي ينشأ لأسباب تتعلق بالنصوص وفهمها، أو منهج الاستنباط منها، أو لتعارض أدلتها، أو لغياب النصوص فيها -دليل حيوية الفقه الإسلامي وصلاحيته. ثم إن من أعظم ما يدل ويؤكد على قابلية تغير الفتيا والأحكام الاجتهادية ما تمهد من قطعيات الدين وبدهيَّاته أن هذه الرسالة هي الخاتمة، وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هو النبي الخاتم، وأن هذا الكتاب الكريم والشريعة المطهرة هما الناسخان لما سبقهما من الكتب والشراح، فالعالمية إذن من خصائص هذه الشريعة، قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ

جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالىَ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]؛ وعليه فإن رسالة الإسلام تتجاوز حدود المكان والأزمان وبني الإنسان، وهذه الدعوة العالمية وهذه الشريعة الإلهية الخاتمة ترعى الثوابت والمحكمات في كل ميدان، وتتعامل مع قضايا ووسائل الاجتهاد بحسب معطياتها ومقدماتها؛ فلا تقف على رأي لا يتغير في هذا الباب أو ذاك، ولا تجمد على أسلوب أو وسيلة لا ترى غيرها، كما لا تتبنى مذهبًا فقهيًّا ناسب مكانَ نشأةٍ أو ظروفَ بيئةٍ ثم ترفع اجتهاداته إلى منزلة محكمات الشريعة وقطعيات الدين، فتخلط بين الموروث الفقهي والأصول الاعتقادية، أو بين الثابت والمتغير في الشريعة الإسلامية (¬1). وقد حققت الشريعة هذه العالمية باستنادها إلى الفطرة والعقل، فأحكامها في العقل متسقة، ومع الفطرة ملتئمة، وهي تعتبر في الأحكام الكثير الغالب دون القليل النادر، تضع الأصول وترعى الأعراف، وتقيم المصالح (¬2). ومن روافد مرونة هذه الشريعة المطهرة ما يتعلق بقواعدها الشرعية سواء منها الأصولية أو الفقهية، وفيها ما هو ثابت محكم لا يعتريه تغير أو تبديل، وفيها ما هو موضع نقاش بين العلماء، كقواعد دلالات الألفاظ وطرق دلالتها على الأحكام، والقواعد الأصولية المتعلقة بالخاص والعام والمطلق والمقيد، وقواعد الأمر والنهي عند الأصوليين. وأما القواعد الفقهية الكلية فهي من جهة أغلبية، ومن جهة أخرى تؤصِّل بعضها للتغير في الفتاوي والاجتهاديات كقولهم في القواعد الكلية الكبرى: "العادة محكمة" (¬3). ¬

_ (¬1) معالم في أصول الدعوة، محمد يسري، دار اليسر، القاهرة، ط 3، 1429 هـ - 2008 م، (ص 119) وما بعدها. (¬2) مرونة الشريعة الإسلامية وتطبيقها، الحبيب بالخوجة، مجلة الأمة، رييع الأول (1406 هـ)، (ص 66 - 69). (¬3) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1403 هـ - 1983 م، (ص 7)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر، تحقيق وتعريب: المحامي فهمي الحسيني، دار الكتب العلمية، بيروت، مادة (36)، (1/ 40).

فهي تفيد مشروعية تغير الأحكام الاجتهادية والفتاوي في المسائل المتعلقة بالأعراف والعادات، وتلتحق بها في ذات السياق من القواعد قاعدة: "المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا" (¬1)، و"استعمال الناس حجة يجب العمل بها" (¬2). ومن القواعد في هذا السياق: قول الفقهاء: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان" (¬3)، وهي تدل على أن الأحكام المرتبطة بعوامل متغيرة تقبل التغير ولا تمتنع عنه. ومن القواعد أيضًا: ما يؤصل للتغير ولكن من جهات أخرى، وذلك مثل: ما يدل على تغير الأحكام بناء على ظهور العلل أو غيابها؛ فمن ذلك: "الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا" (¬4)، ونحو ذلك: "الحكم إذا أثبت بعلَّة زال بزوالها" (¬5). وقد يتغير الحكم بتغير النيَّات والمقاصد؛ ولذا قعَّد الفقهاء قاعدة: "الأمور بمقاصدها" (¬6). وقد يحصل تغير طارئ في الأحكام نتيجة الظروف القاهرة الطارئة؛ ولذا قعَّد الفقهاء من ضمن القواعد الكلية الكبرى: "المشقة تجلب التيسير" و"الضرورات تبيح المحظورات" (¬7). وأخيرًا: فإنه وعلى الرغم من كونها قواعد كلية فقد قال بعض الفقهاء من الحنفية كابن نجيم إنه "لا يحل الإفتاء من القواعد والضوابط" (¬8)؛ لأنها ليست كلية؛ بل أغلبية، فلا يتأتى القول بإطلاقها؛ لوجود المستثنيات فيها من جهة، ولأن فيها ما هو مستنبط ¬

_ (¬1) درر الحكام، لعلي حيدر، مادة (43)، (1/ 46). (¬2) المرجع السابق، مادة (37)، (1/ 41). (¬3) درر الحكام، لعلي حيدر، مادة (39)، (1/ 43)، الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، د. محمد صدقي بن أحمد البورنو، مكتبة المعارف، الرياض، ط 2، 11410 هـ - 1990 م، (ص 253). (¬4) القواعد الفقهية، لعلي أحمد الندوي، دار القلم، دمشق، ط 1، 1406 هـ - 1986 م، (ص 227). (¬5) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (2/ 8)، القواعد الفقهية، للندوي، (ص 117، 388). (¬6) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 8) القواعد الفقهية، للندوي، (ص 100). (¬7) القواعد الفقهية، للندوي، (ص 270). (¬8) غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر، لأحمد بن محمد الحموي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1405 هـ - 1985 م، (8/ 301).

من أحكام فرعية وليس من نصوص شرعية، إلا أنه ينبغي للمفتي أن يكون ملمًّا بها مطلعًا عليها، حتى يتأتى له ضبط المسائل وتتبع جزئيات الأحكام وجمعها في نسق واحد. ثانيًا: مقاصد الشريعة: للشريعة المطهرة غايات عُليا تأتي بعد مرتبة النصوص، وهي أنواع خمسة ثبتت بالاستقراء للنصوص والأحكام والأدلة والتصرفات الشرعية؛ بحيث صارت معلومة من الدين بالضرورة؛ إذ الشريعة موضوعة لحفظ أديان الناس في عقائدهم وشرائعهم، وإقامة أبدانهم وصيانتها والإبقاء على مهجهم، وحفظ عقولهم، ونماء أموالهم، وصون أعراضهم ونسلهم. وهذه المقاصد على ثلاث مراتب: ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات، وقد جاءت الشريعة الغراء بحفظ كل من هذه المقاصد في مراتبها الثلاث، وتقديم الضروري منها على غيره، وتقديم الحاجيِّ منها على التحسيني. وقد جاءت الشريعة بتشريع ما يقيم الدين ويحفظ على الناس أصوله وفروعه، فعنيت بأحكام العقائد وبيان أحكام أركان الإسلام والإيمان، وشرعت الطهارة وبينت أحكامها، ورغبت في النوافل والاستكثار منها، كما شرعت الحدود لحفظ المحارم وصيانة الأديان، كما جاءت الشريعة بحفظ الأنفس بإقرار حرمتها وتكريمها وتحريم إلحاق الأذى بها، وشرع القصاص لاستدامة الحياة، وأُبيحت الطيبات وسُنَّت آداب الأكل والشرب، والترفه بالمباحات في غير إسراف (¬1). كما شرعت الأحكام التي من شأنها حفظ العقل، ورعاية مصالحه الضرورية والحاجية والتحسينية، وذلك بالدعوة للتفكير والتدبر في آيات الله المتلوة وآياته تعالى المجلوَّة، والنظر والتدبر في صفحة الكتاب المسطور، والكون المنظور، وبالدعوة للتعلم والتعقل، كما حُفظ العقل بتحريم تغييبه بمسكر أو مخدر، وتشريع العقوبات اللازمة لحمايته. ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 16 - 17)، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، د. محمد سعيد رمضان البوطي، المكتبة الأموية، دمشق، ط 1، 1386 هـ - 1996 م، (ص 121) وما بعدها.

وحفظت العرض والنسل بتشريع الزواج وتحريم الزنا، وتيسير مقدمات الزواج ومؤنته، وتحريم مقدمات الزنا ووسائله، وضبط ما يتعلق بالعلاقة بين الزوجين والحقوق المستحقة بناءً على هذه العلاقة، وما يتعلق بحقوق الأبناء على الآباء ونحو ذلك. وسنت الشريعة الأحكام التي تحفظ المال وتُنمِّيه وتُثمره، ووضعت الحدود التي تردع عن سرقته أو خيانته، ورغَّبت في العمل والاكتساب، وحذَّرت من التواكل والإعراض عن الأسباب، وجُلِّيت أحكام المعاملات باختلاف أنواعها، وعُدَّت آدابها وحُدَّت ضوابطها، وحَذَّرت من إضاعة المال ومَنَعَتْ من احتكاره. كما كفلت الشريعة عدم الإكراه على الدين، وحق التفكير والتعبير والمناصحة والتذكير والدعوة إلى الخير (¬1). واعتبار المقاصد له أهميته في تغير الأحكام، كما تجدر الإشارة إلى أهمية التوازن بين النظر إلى الألفاظ ورعاية المقاصد؛ ولهذا ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه لا عبرة بصورة الأسباب الشرعية الخالية من المعاني التي تضمنتها، كما أنه إذا تغير مدلول اللفظ وأصبح خلوًا من معناه الذي شرع الحكم لأجله؛ فإن الحكم يتغير بتغيره، كما أنه لا اختلاف بين الفقهاء على أن تغيير الأسماء والألفاظ الدالة على معانٍ أو أعمالٍ أو ذواتٍ معينةٍ لا يغير أحكام تلك الأشياء. يدل على ذلك حديث: "ليشربنَّ ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها" (¬2)، وقد قعَّد الفقهاء ¬

_ (¬1) مقاصد الشريعة ومكارمها، لعلال الفاسي، دار الغرب الإسلامي، ط 5، 1993 م، (ص 248)، وما بعدها، مقاصد الشريعة الإسلامية، لمحمد الطاهر ابن عاشور، الشركة التونسية للتوزيع، قرطاج، ط 3، 1988 م، (ص 133 - 135). (¬2) أخرجه: أبو داود، كتاب الأشربة، باب: في الداذي، (3688)، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب: العقوبات، (4020)، من حديث أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه-. قال الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية في "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان"، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، ط 2، 1395 هـ / 1975 م، (1/ 261، 347): "إسناده صحيح".

قاعدة: "الأمور بمقاصدها" وقاعدة: "العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني" (¬1). ولقد تألَّف النبي - صلى الله عليه وسلم - قومًا على الإسلام يوم كان المسلمون بحاجة إلى دعم الوجهاء والكبراء في القبائل والعشائر؛ فأعطى كلًّا من أبي سفيان بن حرب، والأقرع بن حابس، والعباس بن مرداس، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، مائةً من الإبل تأليفًا لقلوبهم على الإسلام (¬2)، حتى قال صفوان: "والله لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ" (¬3). وكذلك أعطى أبو بكر -رضي الله عنه- عدي بن حاتم -رضي الله عنه-، والزبرقان بن بدر -رضي الله عنه- لمكانتهما في قومهما، وكانا مسلمين. فلما كان عهد عمر وظهر الإسلام وقوي، وصار للمسلمين شوكة ومنعة، رأى عمر ألَّا يعطي المؤلفة قلوبهم شيئًا على الإسلام (¬4)؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تألفهم على الدخول في الإسلام والثبات عليه، فلا يكون ذلك سنة دائمة، فأوقف عمر -رضي الله عنه- سهم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة، لما رأى من تبدل الأحوال واستغناء الإسلام عنهم. وليس ذلك نسخًا لهذا الحكم، وإنما هو تصرف من عمر -رضي الله عنه- في تنزيل الحكم ¬

_ (¬1) المدخل الفقهي -القواعد الكلية، لأحمد الحجي الكردي، دار المعارف للطباعة، 1399 هـ، (ص 18). (¬2) أخرجه: مسلم، كتاب الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر مَن قوي إيمانه، (1060)، من حديث رافع بن خديج -رضي الله عنه-. (¬3) أخرجه: مسلم، كتاب الفضائل، باب: ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا قط فقال لا، وكثرة عطائه، (2313)، من حديث صفوان بن أمية -رضي الله عنه-. (¬4) أخرجه: الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في "التاريخ الصغير"، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1406 هـ، (1/ 81) -مختصرًا-، وأبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي في "المعرفة والتاريخ"، تحقيق: د. أكرم ضياء العمري، مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط 1، 1410 هـ، (3/ 372). وأبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"، تحقيق: د. محمد عجاج الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت، (2/ 305)، من حديث عبيدة قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر. . . فذكر القصة. قال ابن حجر "الإصابة"، (1/ 102): "إسناده صحيح".

المطلب الثاني: الأسباب الخارجية لتغير الفتيا والأحكام الاجتهادية في الشريعة الإسلامية

حسبما آل إليه الحال في زمنه، والحكم باقٍ ببقاء علته، ولا سبيل إلى القول بنسخه؛ لأنه لا يتصور النسخ في غير زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان منسوخًا لما عمل به أبو بكر في إعطاء المؤلفة قلوبهم (¬1). وعلى هذا المعنى جرى الأئمة في آرائهم الفقهية فهذا مالك (¬2) -رحمه الله- لم يقل بخيار المجلس الثابت بخبر الواحد؛ لمخالفته عمل أهل المدينة، وللغاية من العقد (¬3). وذلك يدل بجلاء على أن الفتاوي والأحكام الاجتهادية قد يطرأ عليها ما يفضي إلى تغييرها بالنظر إلى مقاصد الشريعة وخصائصها وقواعدها. المطلب الثاني: الأسباب الخارجية لتغير الفتيا والأحكام الاجتهادية في الشريعة الإسلامية: يقصد بالأسباب الخارجية ما لا تعلُّق له بنصوص الشريعة وقواعدها ومقاصدها وروحها، فهي عوامل تتعلق باختلاف الأزمان، والأماكن، والبيئات، والأحوال، والعوائد، والأعراف، والمصالح، والعلوم، والمعارف، والمكلفين، وغير ذلك. ولا شك أن عماد هذه الأسباب كلها هو تغير المصلحة؛ لأن هذه الأسباب لا تؤثر بذاتها، بل تدور مع المصلحة التي هي المدرك الكلي للمناطات والعلل القريبة. "فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل ¬

_ (¬1) الاجتهاد وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، لحسن العلمي، ضمن كتاب الاجتهاد الفقهي، أي دور وأي جديد، تنسيق: محمد الروكي، منشورات كلية الأداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ط 1، 1416 هـ - 1996 م، (ص 113). (¬2) أبو عبد الله، مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث، الأصبحي، هو شيخ الإسلام، حجة الأمة، إمام دار الهجرة، صاحب المذهب المشهور، له كتاب الموطأ، ولد سنة 93 هـ، وتوفي سنة 179 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 67)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (8/ 48). (¬3) مقاصد الشريعة، للطاهر ابن عاشور، (ص 50).

الفرع الأول: فساد الزمان وتغيره

إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل" (¬1). ومعلوم أن الأحكام الشرعية مغياة بمصالح جليلة هي المقاصد العُليا للتشريع، ويحُكْم أن هذه المصالح هي من الأمور الوجودية؛ فإنه يعرض لمحالِّها من عوارض التبدل والإخلاف ما يوجب تجديد التكيف مع تلك المحالِّ حسب ما يقتضيه مناط الحكم الأصلي، مما يعني بوضوح أن الحكم المعلل يدور مع علته في سائر محالِّها وتشخُّصاتها. وفيما يلي بيان لأهم الأسباب الخارجية لتغير الفُتيا والأحكام الاجتهادية في الشريعة الإسلامية: الفرع الأول: فساد الزمان وتغيره: والمقصود على وجه الدقة فساد أهل الزمان أو صلاحهم؛ ذلك أن الزمن ليس بذاته مؤثرًا في تغير الأحكام؛ لأنه محلٌّ تتحقق فيه تلك التغيرات. وقد كتب ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين" فصلًا ماتعًا في تغير الفتيا واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد. ويدقق بعض الفقهاء والأصوليين فيقول: "لا نقول: إن الأحكام تتغير بتغير الزمان، بل باختلاف الصورة الحادثة" (¬2). وهو ما عناه العز ابن عبد السلام -رحمه الله- بقوله: "يحدث للناس في كل زمان من الأحكام ما يناسبهم" (¬3)، وإن كان مقصود من قال بتغير الأحكام تبعًا لتغير الزمان، هو الأحكام المبنية على عرف أو عادة فتُغَيَّر تبعًا لتغيرها، وإلا فالأحكام في الأصل تتغير بحسب وجود عللها أو غيابها. ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم (3/ 3). (¬2) البحر المحيط، للزركشي، (1/ 166). (¬3) المرجع السابق، (1/ 166).

النوع الأول: ما يتعلق بالولاية العامة من أحكام

وقد نظر الفاروق -رضي الله عنه- إلى قدسية الزمان فرأى أن الدية في أسنان الإبل تختلف باختلاف الزمان؛ ذلك أن الجناية في الشهر الحرام لا تكون كالجناية في سائر الأزمان (¬1). ومن أمثلة الأحكام التي غيرها الأئمة الفقهاء معلِّلين الداعي إلى هذا بفساد الزمان: الأنواع التالية: النوع الأول: ما يتعلق بالولاية العامة من أحكام: وهذا كما يشمل توسيع نطاق مسئولية الولاية العامة وتطورها، يشمل -أيضًا- تضييقها وتقليصها، فمن أمثلة الجانب الأول: 1 - تكوين المؤسسات الجديدة وتطوير القديمة؛ فمثلاً قد أسس ديوان خاص للإفتاء مع الرقابة عليه، وأسس أيضًا ديوان المظالم للتمييز، وافترقت الحسبة عن القضاء، وبدأت كتابة السجلات وترقيمها، وتحكيم الحكام نيابة عن حاكم واحد، ومنع شهادة الأقارب في المحكمة، ومنع القاضي من الحكم بعلمه، بل لا بد من الاستناد إلى البيِّنات الثابتة في القضاء (¬2). 2 - أفتى أبو يوسف ومحمد بضرورة تزكية الشهود؛ نظرًا لتغير أحوال الناس وتفشي الكذب وضعف الديانة والضمير، مع أن الإمام أبا حنيفة كان يرى الاكتفاء بالعدالة الظاهرة، وكان هذا الحكم مناسبًا لزمانه؛ لأن ذاك الزمان كان من خير القرون (¬3)، ومن ذلك: ما روي أن عمر بن عبد العزيز كان يقضي -وهو قاضٍ في المدينة- بشاهد واحد ويمين، فلما كان بالشام لم يقبل إلا شاهدين لما تغير الناس ¬

_ (¬1) فقه عمر بن الخطاب موازنًا بفقه أشهر المجتهدين، رويعي بن راجح الرحيلي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1403 هـ، (ص 452 - 453). (¬2) المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقا، (2/ 947 - 948)، تغير الأحكام، لكوكسال، (ص 102). (¬3) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1406 هـ - 1986 م، (6/ 270).

هناك عما عرفه من أهل المدينة (¬1). وكان الاكتفاء بالعدالة الظاهرة في غير الحدود الشرعية، وكان سبب ذلك صلاح الناس في زمانه، لكن ضرورة تزكية الشهود جاءت بعد مدة بسبب فساد الأخلاق، ومن أجل ذلك كتب عمر -رضي الله عنه- إلى أبي موسي الأشعري -رضي الله عنه- بأن لا يُسمَع مُجَرَّبٌ عليه شهادة زور أو مجلود في حد أو ظنين في ولاء (¬2) أو قرابة؛ لأن القرآن لم يمنع من شهادة الأقارب في الأصل (¬3). 3 - تدخل الإمام في التسعير للحاجة عند فساد الزمان، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التسعير، وقال: "إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق" (¬4). وحين جوَّز ذلك العلماءُ بينوا أن تحريم التسعير كان لعدم الحاجة إليه، أو وجود ما يقتضيه، فلما قامت الحاجة الداعية إليه جاز (¬5). 4 - جعل الوصية بقرار من الحاكم أو السلطان؛ ذلك أن سوء استعمال الحقوق قد كثر بكثرة الفساد (¬6). ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 85)، تغير الأحكام، د. سها سليم مكداش، دار البشائر الإسلامية، ط 1، 1428 هـ، (ص 407). (¬2) أي متهم في نسبته لغير مواليه. (¬3) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 85 - 86)، المدخل إلى فقه النوازل، أ. د. حسين مطاوع الترتوري، مؤسسة الاعتصام، (ص 81 - 82). (¬4) أخرجه: أبو داود، كتاب الإجارة، باب: في التسعير، (3451)، والترمذي، كتاب البيوع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في التسعير، (1314)، وابن ماجه: كتاب التجارات، باب: من كره أن يسعر، (2200)، من حديث أنس -رضي الله عنه-، قال: قال الناس: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ غلا السعر؛ فسعِّر لنا! فذكره، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال". قال الترمذي: "حسن صحيح". (¬5) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لابن القيم، تحقيق: نايف بن أحمد الحمد، دار عالم الفوائد، ط 1، 1428 هـ، (2/ 638 - 639). (¬6) تعليل الأحكام، لمحمد مصطفى شلبي، دار النهضة العربية، بيروت، ط 2، 1401 هـ - 1981 م (ص 78، 325)، ضوابط المصلحة، للبوطي، (ص 178، 369 - 370).

5 - وكذا تحديد ساعات العمل والإجازة الخاصة من قبل الحاكم بسبب فساد الأخلاق وحيل الناس إلى التعدي والاستغلال (¬1). ومن أمثلة الجانب الثاني: مسألة القول بترتيب بيت مال المسلمين ضمن عصبة الميت. فقد كان هذا رأي طائفة من الصحابة والتابعين وقول المالكية وبعض الشافعية (¬2)، ومفاد المسألة أن من هلك وليس له وارث من ذوي الفروض أو العصبات فإن ما تركه يصير إلى بيت مال المسلمين، وقد شرط ابن قاسم من المالكية لذلك كون بيت مال المسلمين منتظمًا، حين قال: إذا كان الخليفة مثل عمر بن عبد العزيز صار ما تركه الهالك إلى بيت المال. ثم لما فسد بيت مال المسلمين، ووسد الأمر إلى غير أهله في زمن بعض الخلفاء العباسيين، وظهر العبث بأموال المسلمين وصرفها في وجوه اللهو والمجون، غَيَّر الفقهاء الفتيا في هذه المسألة، فذهبوا إلى أن من مات وليس له وارث يتصدق بماله على الفقراء ولا يحوزه بيت المال. وهذا هو الفقه الحي الذي يدخل إلى القلوب بغير استئذان فإن أحكام الله لا يمكن أن تكون أداة أو وسيلة لتزكية مفاسد الأزمان والمجتمعات، والشريعة هي عدل الله في الأرض (¬3). ومثل هذا تقييد سلطة ولي الأمر في فرض الضرائب بشروط وضوابط كثيرة فإن ¬

_ (¬1) الحكم فيما لا نص فيه، د. محمد زكريا البرديسي، (ص 83 - 84). (¬2) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، لأبي عبد الله محمد بن محمد المعروف بالحطاب الرعيني، تحقيق: زكريا عميرات، دار عالم الكتب، 1423 هـ - 2003 م، (8/ 592 - 493)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، لشمس الدين محمد عرفة الدسوقي، دار الفكر، بيروت، (4/ 468)، مغني المحتاج، للخطيب الشربيني، (3/ 6 - 7)، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، لشمس الدين محمد بن شهاب الدين الرملي، دار الفكر، بيروت، 1404 هـ - 1984 م، (6/ 11 - 12). (¬3) الاجتهاد وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، د. حسن العلمي، (ص 115 - 116).

النوع الثاني: تحديد الحريات للمصلحة

تحققت وإلا لم يجز. النوع الثاني: تحديد الحريات للمصلحة: مثل الحجر على المدين، حيث كان له أولًا حقُّ التصرف المطلق في أمواله، سواء كانت هبة أو وقفًا أو تبرعًا، ولو كانت ديونه مستغرقة أمواله كلها باعتبار أن الديون تتعلق بذمته وتبقى أعيان أمواله حرة، وهذا بمقتضى القواعد القياسية التي جرى بها العمل في الزمن الأول، ثم لما فسدت ذمم الناس وكثرت حيلهم وبدأ كثير من المدينين يعمدون إلى تهريب أموالهم عن دائنيهم بوقفها أو إعطائها لمن يثقون بهم على أساس الهبة، لأجل ذلك أفتى المتأخرون من الفقهاء بعدم نفاذ تلك التصرفات من قبل المدين إلا فيما يزيد عن مقدار الدين؛ لأنه ليس من حقه أن يضر غيره (¬1). ومثله أيضًا منع النساء من المساجد، حيث كان الأصل في ذهابهن الإباحة، ولما نظر المجتهدون إلى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - رأوا أن العلة هي المحافظة على مصلحة المرأة في سعيها إلى المسجد وحضورها صلاة الجماعة وانتفاعها بما تسمع من قرآن أو خطبة، ولم يكن في خروجها في عهده - صلى الله عليه وسلم - مفسدة تستدعي المنع، فلما جاء عهد كثر فيه تعرض السفلة من الرجال للنساء، وحدثت وقائع تدل على أن سلطان الدين أصبح ضعيف الأثر في نفوس هؤلاء وأولئك، فقد أخذت واقعة خروج المرأة إلى المسجد حالًا غير الحال التي كانت عليها في زمن النبوة، وانضم إلى مصلحة خروجها مفسدة، وللمجتهد أن ينظر في هذه المفسدة ويقيسها بالمصلحة ليعلم أيهما أرجح وزنًا، ثم يرجع بالواقعة إلى أصول الشريعة ويستنبط لها حكمًا يراعي فيه حالتها الطارئة، ويصل إلى قول أم ¬

_ (¬1) المدخل الفقهي العام، مصطفى الزرقا، (2/ 945)، أبو حنيفة، حياته وعصره، آراؤه وفقهه، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، ط 2، (ص 459 - 461).

النوع الثالث: قبول شهادة الأمثل فالأمثل

المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما مُنعت نساء بني إسرائيل" (¬1)؛ لأن هذا سيكون سببًا لمفاسد تزيد على مصالح النساء في المساجد، مثل: استفادتهن من القراءة أو أخذ العلم (¬2). لكن قد يقال: إن هذا ليس من الاستصلاح في شيء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن للنساء في الذهاب إلى المساجد، ومنعهن في نفس الوقت من التبرج والزينة وإثارة الفتنة، فإذا تعلق بصورة واحدة كل من مناطي الإذن والمنع، قدم المنع عملًا بالقاعدة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"؛ فالإذن للنساء بالخروج إنما هو بناء على النص الدالِّ على ذلك، ومنعهن مِن الخروج هو أيضًا بناء على النص الدال على ذلك (¬3). ولا يمنعنا ما قرره فقهاء المذاهب في هذه المسألة أن نقول: إذا زال المحظور الذي وجد في الزمن الأول، أو لم يعد يوجد ما يبرره اليوم، أو كانت المصلحة أرجح فلتعد الفتيا إلى سابق العهد، ولا سيما وقد خرجت المرأة من بيتها للعمل والدراسة في الجامعات وفي كل المجتمعات، فلا يصح أن يبقى المسجد هو المكان الذي يحظر عليها ارتياده، مع ما تحقق بالتجربة من استفادة المرأة المسلمة من ذهابها إلى المسجد للجمعة أو الجماعات أو الدروس ونحو ذلك. النوع الثالث: قبول شهادة الأمثل فالأمثل: لا يخفى أن العدالة مشترطة في الشاهد؛ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. ومع تقدم الزمان وسوء الأحوال وضعف وازع الإيمان، فإن القاضي إذا طلب تحقيق ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الأذان، باب: انتظار الناس قيام الإمام العالم، (869)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج متطيبة، (445)، -واللفظ له- من حديث عمرة عن عائشة -رضي الله عنها- به. (¬2) تعليل الأحكام، د. مصطفى شلبي، (ص 39). (¬3) ضوابط المصلحة، للبوطي، (ص 366).

النوع الرابع: تكثير العقوبات وتغليظها أو تخفيفها

شرائط العدالة كاملة في الشهود على ما قرره العلماء لضاعت الحقوق لفقدان عدالة الشهود، فصار النزول إلى العدالة النسبية، وقبول شهادة الأمثل فالأمثل هو الممكن المتعين (¬1). وأفتى كذلك متأخرو الحنفية في إثبات الأهلة لصيام رمضان وللعيدين بقبول رؤية شخصين، ولم تكن في السماء علة تمنع الرؤية من غيم أو ضباب أو غبار، بعد أن كان في أصل المذهب الحنفي لا يثبت إهلال الهلال عند صفاء السماء إلا برؤية جمع عظيم؛ لأن معظم الناس يلتمسون الرؤية، فانفراد اثنين بادِّعاء الرؤية مظنة الغلط أو الشبهة، وقد علل المتأخرون قبول رؤية الاثنين بقعود الناس عن التماس رؤية الهلال، فلم تبقَ رؤية اثنين معه مظنة الغلط إذا لم تكن في شهادتهما شبهة أو تهمة تدعو إلى الشك والريبة (¬2). النوع الرابع: تكثير العقوبات وتغليظها أو تخفيفها: لم يكن في حد الخمر تقدير معلوم في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الزهري (¬3): "لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض فيها حدًّا، كان يأمر من حضره يضربون بأيديهم ونعالهم حتى يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ارفعوا" (¬4). ثم لما كان زمن أبي بكر -رضي الله عنه- تغير الحال وكثر الشُرَّاب، فجعل حد الخمر أربعين؛ فقد روى ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن الشُّرَّاب كانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم هذا، فتوخَّى لهم نحوًا مما كانوا يُضربون في عهد ¬

_ (¬1) المبسوط، للسرخسي، (16/ 121)، المدخل الفقهي العام، للزرقا، (2/ 949). (¬2) المدخل الفقهي العام، للزرقا، (2/ 949). (¬3) أبو بكر، محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، الزهري، القرشي، الإمام العلم، صنف كتاب المغازي، ولد سنة 50 هـ، وتوفي سنة 124 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 63)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 326). (¬4) المصنف، لأبي بكر عبد الرزاق بن همام، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظم، الناشر: المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1403 هـ، (7/ 377).

النبي - صلى الله عليه وسلم -. فكان أبو بكر -رضي الله عنه- يجلدهم أربعين حتى توفي" (¬1). فلما كان عهد عمر تتابع الناس في الشراب واستخَفُّوا العقوبة، فشاور كبار الصحابة في جلد شارب الخمر، وقال: "إن الناس قد شربوها واجترؤوا عليها" (¬2)، فقال عبد الرحمن بن عوف: "أخف الحدود ثمانون"؛ (4) فأمر به عمر (¬3). وعن السائب بن يزيد قال: "كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإمرة أبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر، فَجَلَدَ أربعين حتى إذا عتوا وفسقوا جَلَدَ ثمانين" (¬4). ولما رأى أن شربه لم ينقطع زاد عليه حلق الرأس والنفي، وكان كل هذا على أساس المصلحة وسدًّا للذريعة (¬5) كما أنه أمر بهدم الحانات (¬6). كما وأمر بتسخيم وجه شاهد الزور مع التشهير (¬7). وهذا لم يمنع عمر -رضي الله عنه- أن يخفف في ملحقات الحدود من العقوبات الأخرى، حيث ترك نفي الزاني؛ لما وقع أن ربيعة بن أمية بن خلف التحق بهرقل بعد نفيه بسبب ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الأشربة والحد فيه، باب: ما جاء في عدد حد الخمر، (8/ 320)، والحاكم في "المستدرك"، كتاب الحدود، (4/ 375). (¬2) أخرجه: عبد الرزاق في "المصنف"، كتاب الطلاق، باب: حد الخمر (7/ 378). (¬3) أخرجه: مسلم، كتاب الحدود، باب: حد الخمر، (1706)، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-. (¬4) أخرجه: البخاري، كتاب الحدود، باب: الضرب بالجريد والنعال، (6779)، من حديث يزيد بن خصيفة عن السائب -رضي الله عنه- به. (¬5) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لابن تيمية، تحقيق: علي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط 1، 1429 هـ، (ص 134 - 136)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 127 - 128). (¬6) الطرق الحكمية، لابن القيم (1/ 39). (¬7) السنن الكبرى، للبيهقي، (1/ 142)، مصنف ابن أبي شيبة، (10/ 41).

النوع الخامس: تبدل الفتيا وتغيرها تغليظا وتخفيفا

الخمر (¬1)، كما أن عقوبة التغريب أو النفي لم تكن حدًّا (¬2). فقد نظر الصحابة إلى المقصد من الحد والتعزير، وهو زجر الناس عن محارم الله، فداروا مع ما يحقق مقصد الحكم مع تغير الزمان والأحوال، ولم يجمدوا على ما كان الناس عليه في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ كان مجرد الإتيان بشارب الخمر وإحضاره أمام ملأ الصحابة كافيًا في ردعه وزجره، لكن لما استهان الناس بالعقوبة تغير الحكم تحقيقًا للمقصد منه. النوع الخامس: تبدل الفتيا وتغيرها تغليظًا وتخفيفًا: فقد ينقلب المباح مكروهًا أو الحرام مباحًا، أو الحلال مكروهًا، وهكذا بحسب أحوال المكلفين وما يحتفُّ بهم من ظروف وأحوال وقرائن وملابسات، ومن هذا ما روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخلا بها، فقال: "والله إنكم لأحبُّ الناس إليَّ" (¬3). فقد يتوهم بعض المسلمين أن هذا الحكم عام في سائر المكلفين، فيجوز لكل أحد أن يخلو بالمرأة عند الناس لمسارَّتها بما يشاء وإن طال الوقت، بدعوى أن امرأة أقبلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلَّمها في منأى عن الصحابة بحيث لم يسمع أحد منهم كلامهما، وأن الحديث مخرج عند البخاري (¬4)، وأنه ترجم له بقوله: "باب ما يجوز أن يخلو الرجل ¬

_ (¬1) السنن الكبرى، للنسائي، (5166). (¬2) المبسوط، لشمس الدين محمد بن أبي سهل السرخسي، دار المعرفة، بيروت، 1409 هـ - 1989 م، (9/ 44)، ضوابط المصلحة، للبوطي، (ص 179 - 180). (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب النكاح، باب: باب ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس، (5234)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله عنهم-، باب: من فضائل الأنصار -رضي الله عنهم-، (2509). (¬4) أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه، البخاري، روى عن مكي بن إبراهيم، وعبدان بن عثمان، وعلي بن الحسن بن شقيق، والفريابي وابن أبي أويس، وروى عنه خلق كثير، منهم: أبو عيسى الترمذي، وأبو حاتم، وإبراهيم بن إسحاق الحربي، من مصنفاته: الصحيح، والأدب المفرد، وخلق أفعال العباد، ولد سنة 194 هـ، وتوفي سنة 256 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (7/ 191)، =

بالمرأة عند الناس" (¬1). ويذهل عن المخرج وقرائن الأحوال في الزمان والمكان، وقد يسوِّغ هذا لنفسه ويفتن الناس به فتقع الكوارث والطامَّات. فإنه في زمان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان وجود الناس وحضور رقابة المجتمع مانعة حقيقة من حصول الخلوة أو حدوث ما حرَّم الله؛ لأنهم كانوا حقًّا في مجتمع الطهارة الذي تعد فيه النظرة النشاز والكلام الزائد عن الحاجة قادحًا في المروءة والدين، أما في مجتمعات المسلمين اليوم والتي أصبح وجود الناس فيها وحضور رقابتهم وعدمها سواء فإن الفتيا والعمل بمثل هذا جرأة لا تحمد، مع الاختلاف الظاهر في الزمان والقرائن والأحوال. وقد علَّق الحافظ ابن حجر على الحديث بقوله: "قال المهلِّب: لم يُرد أنس أنه خلا بها بحيث غاب عن أبصار من كان معه، وإنما خلا بها بحيث لا يسمع من حضر شكواها، ولا ما دار بينهما من الكلام؛ ولهذا سمع أنس آخر الكلام فنقله، ولم ينقل ما دار بينهما. . . وفيه أن مفاوضة المرأة الأجنبية سرًّا لا يقدح في الدين عند أمْنِ الفتنة، ولكن الأمر كما قالت عائشة: وأيكم يملك إربه كما كان - صلى الله عليه وسلم - يملك إربه" (¬2). فهذا مما تتغير فيه الفتيا حسب القرائن والأحوال، فيقيد بشرط أمْنِ الفتنة فإن تحقق المناط فبها، وإلا فلا. ومن أمثلة ذلك أيضًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التقاط ضالة الإبل بقوله: "وما لك ¬

_ = وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (12/ 391). (¬1) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، 1379 هـ، (9/ 333): "وأخذ المصنف قوله في الترجمة: "عند الناس" مِن قوله في بعض طرق الحديث: "فخلا بها في بعض الطرق أو في بعض السكك" وهي الطرق المسلوكة التي لا تنفك عن مرور الناس غالبًا". (¬2) المصدر السابق، (9/ 333).

ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها، تَرِدُ الماء وترعى الشجر، فذرها حتى يلقاها ربُّها" (¬1). وظل هذا الحكم مستقرًّا إلى آخر عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ولما جاء عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أمر بالتقاط ضوال الإبل وبيعها على خلاف ما كان معمولًا به فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها، ومَرَدُّ هذا إلى فسادِ الذممِ ونقصِ الأمانةِ اللَّذَيْنِ دبَّا بين الناس (¬2). وعليه فقد صان هذا الحكمُ الأموالَ وحفظها من أيدي العابثين، ولو بقي هذا الحكم على ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لَلَحِقَ الضررُ بالمجتمع (¬3). وفي إحياء الأرض الموات قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له" (¬4)، وكان ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - تحفيزًا للمسلمين على إحياء الأراضي الموات واستغلالها واستثمارها، وذلك أيام كان المسلمون يعون مقاصد الأحكام ويلتزمونها، فلم يكن من غرضهم حوزُ الأراضي أو السطوُ عليها ثم إماتتها بعد ذلك كما آل إليه حال من جاء بعدهم. فلما تغير الحال وظهر الجشع والطمع، فصار بعض المسلمين يحوزون من الأرض ما لا يطيقون استغلالَهُ وإحياءَهُ وإنما لضمان ملكيته وحوزته، تغيرت الفتيا زمنَ عمرَ ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب العلم، باب: الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، (91)، ومسلم، كتاب اللقطة، (1722)، من حديث زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه-. (¬2) المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1420 هـ - 1999 م، (8 - 70 - 72)، مناهج الاجتهاد، د. محمد سلام مدكور، (ص 302 - 303). (¬3) محاضرات في تاريخ الفقه الإسلامي، د. محمد يوسف موسى، دار الكتاب العربي، مصر، 1955 م، (ص 8 - 9)، المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقا، (2/ 950 - 951). (¬4) أخرجه: أبو داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب: في إحياء الأموات، (3073)، والترمذي، كتاب الأحكام، باب: ما ذكر في إحياء أرض الموات، (1378، 1379)، من حديث سعيد بن زيد وجابر -رضي الله عنهما-عند الترمذي-، وسعيد وحدَه -عند أبي داود-. قال الترمذي في حديث سعيد: "حديث حسن غريب"، وقال في حديث جابر: "حديث حسن صحيح". وأخرج البخاري، كتاب المزارعة، باب: مَن أحيا أرضًا مواتًا، (2335)، من حديث عروة عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أعمر أرضًا ليست لأحد فهو أحق". قال عروة: قضى به عمر -رضي الله عنه- في خلافته.

النوع السادس: ترجيح واعتماد آراء بعض المذاهب

-رضي الله عنه- فقال عمر: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لمحتجرٍ حقٌ بعد ثلاث سنين" (¬1). وورد عن ابن أبي زيد القيرواني -رحمه الله- (¬2)، أنه سئل: لماذا اتخذت كلبًا، حين سقط حائط دارك، مع أن مالكًا -رحمه الله- نهى عن اتخاذ الكلاب في غير المواضع الثلاثة وهي: حفظ الماشية، أو الزرع في الصحراء، أو للصيد الضروري، لا للهو. فقال: "لو أدرك مالك زمننا لاتخذ أسدًا ضاريًا! " (¬3). أي: للحراسة. وفي تحريم عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- الهدية للولاة فهمٌ ظاهرٌ لهذه المسألة فقال: "كانت الهدية في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدية واليوم رشوة" (¬4). وفي الواقع كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية؛ ولكنه رفضها وعدَّ أخذها مذمومًا باعتباره رشوة بعد فساد الأخلاق (¬5). النوع السادس: ترجيح واعتماد آراء بعض المذاهب: وذلك مثل ما فعله الحنفية في تضمين المستغلين لأموال الوقف أو اليتيم، فإنهم كانوا لا يقولون بأن المنافع مال، ثم أخذوا برأي الشافعية والحنابلة (¬6)؛ لأن الغاصب كان لا ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم في كتاب "الخراج"، دار المعرفة، بيروت، 1399 هـ - 1979 م، (ص 65). (¬2) أبو محمد، عبد الله بن أبي زيد، القيرواني المالكي، ويقال له: مالك الصغير، وكان أحد من برز في العلم والعمل، وكان -رحمه الله- على طريقة السلف في الأصول، من مصنفاته: الرسالة، والنهي عن الجدل، وتوفي 386 هـ. الديباج المذهب، لابن فرحون، (1/ 427)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (17/ 10). (¬3) مقاصد الشريعة، لابن عاشور، (ص 87)، الرف والعمل في المذهب المالكي، للجيدي، (ص 145) , التطور روح الشريعة الإسلامية، لمحمد الشرقاوي، المكتبة العصرية، صيدا، 1960 م، (ص 194). (¬4) علَّقه البخاري جازمًا به في "صحيحه" (5/ 220)؛ فقال: "باب من لم يقبل الهدية لعلة، وقال عمر. . . " فذكره. ووصله: الإمام عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل في زوائده على "الزهد" لأبيه، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1403 هـ - 1983 م، (ص 358)، من حديث عبد الله بن عون القارئ -وفيه قصة-، ومحمد بن سعد في "الطبقات الكبرى"، دار صادر، بيروت، (5/ 377)، من حديث فرات بن مسلم قال: "اشتهى عمر بن عبد العزيز التفاح. . . " فذكر قصةً نحوها، وأبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني في "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء"، دار الكتاب العربي، بيروت، (5/ 294)، من حديث ميمون بن مهران ومن حديث عمرو بن مهاجر بنحوه. (¬5) فلسفة التشريع الإسلامي، صبحي المحمصاني، دار العلم للملايين، بيروت، 1380 هـ - 1961 م، ط 3، (ص 211). (¬6) تعليل الأحكام، د. مصطفى شلبي، (313).

يضمن قيمة المغصوب عن مدة الغصب؛ بل يضمن العين فقط إذا تلفت أو أصابها عيب؛ وذلك لأن المنافع -عندهم- غير متقومة في ذاتها وإنما تُقَوَّم بعقد الإجارة، بينما لا عقد في الغصب، بينما ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى اعتبار المنافع متقومة في ذاتها كالأعيان فأوجبوا تضمين الغاصب أجرة المثل من المال المغصوب مدة غصبه سواء استفاد منه أو لا، لكن المتأخرين من الحنفية لاحظوا تجرؤ الناس على الغصب والعدوان وسعيهم إلى الاستفادة من منافع الأموال المغصوبة فأفتوا بتضمين الغاصب أجرة المثل عن منافع المغصوب إذا كان مالَ وقفٍ أو ملكًا ليتيم أو معدًّا للاستغلال، وهذا رأي خالفوا فيه الأصل القياسي في المذهب زجرًا للناس عن الاعتداء (¬1). ومن الأمثلة أيضًا: أن المالكية والشافعية لا يعتبرون ذوي الأرحام من الورثة، فكانت أموالهم تذهب إلى بيت المال، فلما رأى المالكية والشافعية فساد الزمان وجور السلطان وعدم انتظام بيت المال أخذوا برأي الحنابلة فورَّثوهم (¬2). ومن ذلك أيضًا: ما أفتى به متأخرو الحنفية من جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن؛ نظرًا لانقطاع عطايا المعلمين التي كانت في العهد الأول؛ لأنهم لو انشغلوا بتعليم القرآن دون أخذ أجرة للزم عنه ضياعهم وضياع عيالهم، ولو انشغلوا بالتكسب للزم عنه ضياع القرآن بين الناس، ولقلَّ فيهم القرَّاء والمعلمون، وهذه الفتيا مخالفة لما أفتى به المتقدمون من أئمة المذهب؛ فقد اتفق أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهم الله- على عدم جواز أخذ الأجرة على ذلك؛ شأنه شأن بقية الطاعات من الصلاة والصوم والحج ونحوها؛ بينما علَّل المتأخرون ما ذهبوا إليه بأنه حاصل عن ¬

_ (¬1) المبسوط، للسرخسي (11/ 78 - 79)، المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقا، (945 - 946). (¬2) نهاية المحتاج، للرملي، (6/ 11 - 13)، حاشية الدسوقي، (4/ 468).

الفرع الثاني: اختلاف المكان

اختلاف عصرٍ وأوان، لا اختلاف حجة وبرهان (¬1). الفرع الثاني: اختلاف المكان: لقد تجلَّى أثر المكان في الفُتيا وفي الأحكام الاجتهادية بشكل ظاهر في أنواع وأمثلة كثيرة، منها: النوع الأول: رعاية حرمة المكان: فالدية في أسنان الإبل تختلف باختلاف المكان عند عمر -رضي الله عنه-؛ إذ الجناية في الحرم غيرها في سائر الأماكن، ومقدار التغليظ ثلث الدية سواء كانت الدية إبلًا أو غيرها في بقية الأجناس، لكن الإمامين أبا حنيفة ومالكًا لا يفرقان بين القتل في الحرم وغيره من حيث الدية. أما عند الشافعي وأحمد فيجب التغليظ، وإن اختلفا في كيفية التغليظ (¬2). النوع الثاني: أثر البيئة الجغرافية في تغير الأحكام: تبدو البيئة بجميع عناصرها -ومن أهمها: المكان- مؤثرة في الأحكام الشرعية بوجه أو بآخر، ذلك أن الناس يكتسبون بعض خصائصهم من بلادهم، وتؤثر فيهم تضاريسها ومناخها، فالمناطق المتحضرة تختلف ويختلف أهلها وفقهها عن غيرها من أماكن البادية، وكنتيجة لذلك تتغير أوقات العمل على حسب درجة البرودة والحرارة أو الاختلافات الأخرى، مثل ما هو الحال في القطبين والأماكن الأخرى؛ وهذا من أسباب تغيير الإمام الشافعي لمذهبه القديم بعد أن جاء إلى مصر (¬3). ¬

_ (¬1) نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، لابن عابدين، ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين، (2/ 125 - 126)، المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقا، (2/ 948 - 949). (¬2) كشاف القناع عن متن الإقناع، لمنصور بن يونس البهوتي، تحقيق: هلال مصليحي، دار الفكر، بيروت، 1402 هـ، 06/ 30 - 31)، فقه عمر بن الخطاب، للرحيلي، (ص 447). (¬3) ضحى الإسلام، لأحمد أمين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997 م، (02/ 221 - 223)، تغير الأحكام في الشريعة الإسلامية، محمد أردوغان، منشورات وقف كلية الإلهيات، بجامعة مرمرا، إسطنبول، ط 2، 1994 م، (ص 17، 18).

ولذلك أيضًا يختلف البلوغ عادة في الأقطار الحارَّة، عن الأقطار الباردة، فالصبي في سن الرابعة عشر في بلد ما يبلغ الحُلم فيتعلق به التكليف، ونظيره في بلد آخر لا يبلغ فلا يكون مكلَّفًا؛ فسقوط التكليف عن أحدهما وقيامه بالآخر ليس لاختلاف الخطاب الموجَّه إليهما، بل هو واحد، ولكن متعلِّقه وقوع التكليف على من عاش في بلد حار وظهرت عليه أمارات البلوغ، وعدم التكليف على من عاش في بلد آخر ولم تظهر عليه الأمارات نفسها (¬1). وغني عن البيان أن أوقات الصلوات والصيام تتفاوت بحسب المكان تفاوتًا بينًا كما في المناطق القطبية الشمالية والجنوبية (¬2). ومن أظهر الأمثلة على أثر اختلاف الأماكن في الفتاوي: ما أفتى به علماء الأندلس في أواخر القرن التاسع الهجري في أرض الوقف حين زهد الناس في كرائها للزرع؛ نظرًا لما تحتاجه أرض الزرع من قوة الخدمة ووفرة المصاريف، كما زهدوا في كرائها للغرس والبناء لقصر المدة التي تُكتري أرض الوقف لمثلها؛ ولرفض الغارس أو الباني أن يغرس ثم يقلع أو يبني ثم يهدم؛ ناهيك عما يتطلبه ذلك من الوسائل والعتاد وغيرها في الأندلس التي تختلف في طبيعة الحياة وتكاليفها عن الجزيرة العربية التي لا يتطلب البناء فيها يومئذ أكثر من شيء يسير من الطين والجريد. كان هذا الوضع السائد في الأندلس يومئذ حاملًا لبعض علمائها كابن السراج وابن منظور -عليهما رحمة الله- على الإفتاء بجواز كراء الأرض على التأبيد، ورأوا أن التأبيد لا غرر فيه؛ لأن الأرض باقية غير زائلة (¬3). ¬

_ (¬1) الحكم الشرعي بين العقل والنقل، د. الصادق الغرياني، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1989 م، (ص 325). (¬2) سيأتي تعرض لبعض هذه الأحكام عند الكلام عن أحكام الأقليات في الباب الثالث بمشيئة الله. (¬3) مقاصد الشريعة، لابن عاشور، (ص 125).

النوع الثالث: أثر اختلاف الديار في الأحكام

ولا شك أن هذه الفتيا مراعًى فيها مآل استبقاء الحكم الأصلي المقتضي تحديد أجل المزارعة أو المغارسة في خصوص بلدهم؛ إذ ذلك يجرُّ بلا شك إلى اطِّراح العمل في هذين المجالين؛ مما يجعل أولئك المستثمرين -والأمة كذلك- في حرج كبير، أما المستثمرون فلتضررهم بفوات العمل الذي يتكسبون به لأنفسهم وعيالهم، وأما الأمة فتتضرر بانعدام الأوقات التي تشتد حاجتها إليها؛ وذلك بلا شك مخالف لمقاصد الشريعة في رعايتها لمصالح الخلق، ورفعها للحرج عنهم. وهذه الاعتبارات هي التي بعثت أولئك الأساطين على توخي المصلحة العامة في ضوء الأصول العامة والقواعد الكلية للشريعة (¬1). النوع الثالث: أثر اختلاف الديار في الأحكام: قسم الفقهاء الأقدمون العالم إلى دار إسلام ودار كفر، ودار الكفر تنقسم إلى دار حرب ودار عهد (¬2). ويستدل لهذا التقسيم بحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "كان المشركون على منزلتين من النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين؛ كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه. . . " (¬3). وقد ترتب على هذا التقسيم من اختلاف الأحكام المتعلقة بأهل دار الإسلام وأهل دار الكفر عند بعض الفقهاء الشيء الكثير، سواء فيما يتعلق بالمعاملات أو الأحوال الشخصية أو الجنايات، وسواء فيما يخص التعامل بين المسلم والمسلم أو بين المسلم وغير المسلم. ¬

_ (¬1) اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، د. عبد الرحمن السنوسي، دار ابن الجوزي، ط 1، 1424 هـ، (ص 417). (¬2) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، تحقيق: يوسف بن أحمد البكري، وشاكر بن توفيق العاروري، رمادي للنشر، الدمام، ط 1، 1418 هـ - 1997 م، (3/ 1229). (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب الطلاق، باب: نكاح مَن أسلم من المشركات وعدتهن، (5286).

وفيما يلي بعض الأمثلة: 1 - لو دخل مسلم دار الحرب بأمان فتعامل مع حربي بالربا أو غيره من العقود الفاسدة جاز عند أبي حنيفة ومحمد بن الحسن، ولم يجز عند أبي يوسف وجمهور الفقهاء، وقد استدل أبو حنيفة ومحمد بأن المسلم يحل له أخذ مال الحربي من غير خيانة ولا غدر؛ لأن العصمة منتفية عن ماله، فإتلافه مباح، وفي عقد الربا، المتعاقدان راضيان فلا غدر فيه، فالربا كإتلاف المال، قال محمد: وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فلا بأس بأن يأخذ منهم أموالهم بطيب أنفسهم بأي وجه كان؛ لأنه إنما أخذ المباح على وجه عرا عن الغدر، واستدل أبو يوسف والجمهور بأن حرمة الربا ثابته في حق المسلم والحربي، أما بالنسبة للمسلم فظاهر، وأما بالنسبة للحربي فلأنه مخاطب بالمحرمات، وقال تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] (¬1). 2 - إذا ارتكب المسلم ما يوجب العقوبة في دار الحرب كالزنا والسرقة وشرب الخمر، أو قَذَفَ مسلمًا أو قَتَلَهُ، فإنه لا يكون مستوجبًا للعقوبة عند الحنفية خلافًا للجهور حتى ولو رجع إلى دار الإسلام؛ لأنه لم يقع الفعل موجبًا للعقاب أصلًا؛ لعدم ولاية إمام المسلمين على دار الحرب، وليس لأمير السريَّة إقامة الحد في دار الحرب، وكذلك إذا وقعت الجريمة في دار الإسلام، ثم هرب الشخص إلى دار الحرب فلا تسقط عنه إقامة الحد لوقوع الفعل موجبًا للعقاب فلا يسقط بالهرب (¬2). أما إذا وقع من المسلم في دار الحرب ما يوجب تعزيرًا لا حدًّا أي: مما ¬

_ (¬1) الرد على سير الأوزاعي، لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، تصحيح وتعليق: أبي الوفاء الأفغاني، لجنة إحياء المعارف النعمانية، حيدر آباد، ط 1، (ص 96 - 98)، بدائع الصنائع، للكاساني، (5/ 192). (¬2) الرد على سير الأوزاعي، لأبي يوسف، (ص 80 - 83)، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي، المطبعة الكبرى الأميرية، القاهرة، ط 1، 1313 هـ، (3/ 267)، التشريع الجنائي=

الفرع الثالث: اختلاف أحوال المكلفين ومقاصدهم

ليس له عقوبة مقدرة في الشريعة لجرائم الحرب (الجرائم التي تضر المصلحة العامة) فإن الحنفية نصُّوا على أنه لا يؤدبه الأمير لأول وهلة، ولكن ينصحه حتى لا يعود إلى مثل ذلك أملًا للعذر، فإن عصاه بعد ذلك أدَّبه إلا أن يبين في ذلك عذرًا، فحينئذ يخلِّي سبيله بعد أن يحلف اليمين على قوله (¬1). وبقطع النظر عن أن الراجح في المسألتين المعروضتين للتمثيل هو مذهب الجماهير سلفًا وخلفًا، فإن المقصود بيان أثر اختلاف الديار والأماكن والبلدان في نظرة بعض الفقهاء لاستنباط وإجراء الأحكام. الفرع الثالث: اختلاف أحوال المكلفين ومقاصدهم: والأصل في مراعاة هذا الجانب عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفتاويه، فمن ذلك: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: كنَّا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء شاب فقال يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أُقَبِّلُ وأنا صائم؟ قال: "لا"، فجاء شيخ، فقال: يا رسول الله أُقَبِّلُ وأنا صائم؟ قال: "نعم"، فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "علمت نظر بعضكم إلى بعض، إن الشيخ يملك نفسه" (¬2). وللحديث شاهد آخر من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المباشرة للصائم، فرخَّص له وأتاه آخر فسأله، فنهاه فإذا الذي رَخَّصَ له شيخ وإذا الذي نهاه شابٌّ (¬3). فهذا من باب تغير الفتوى بتغير القرائن والأحوال، فإن ما يباح للشيخ المالك ¬

_ = الإسلامي، لعبد القادر عودة دار الكتاب العربي، بيروت، (1/ 280 - 287). (¬1) التعزير في الشريعة الإسلامية، لعبد العزيز عامر، مطبعة مصطفى البابي، القاهرة، 1377 هـ, 1957 م، (ص 214، 36). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) أخرجه: أبو داود، كتاب الصوم، باب: كراهيته (يعني: القبلة) للشاب، (2387)، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح سنن أبي داود"، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، الكويت، ط 1423،1 هـ / 2002 م، (2065).

لإربه في مثل هذا الشأن لا يباح للشاب الذي يُخشى عليه الجرأة على محارم الله، فينبغي أن يقيد الحكم الفقهي بمخرجه، فرُبَّ غافل عن مقصد الحديث ومخرجه يذهل عن هذا المعنى ويفتي بالجواز مطلقًا بدعوى التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كان يقبل وهو صائم، وأن عمر -رضي الله عنه- فعل ذلك وقال: هششت فقبَّلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله إني صنعت اليوم أمرًا عظيمًا: قَبَّلْتُ وأنا صائم؟! قال: "أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم؟ " (¬1). فقد راعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأحكام القرائن والأحوال المحيطة بالسائلين فلا ينبغي أن تعمم الفتيا لسائر المكلفين مطلقًا. وعليه فقد ذهب طائفة من السلف إلى كراهة القُبلة للصائم، فنهى عنها ابن عمر -رضي الله عنهما- وابن مسعود -رضي الله عنه- وابن المسيب -رحمه الله- (¬2) وقال ابن عباس: "يكره ذلك للشاب ويرخص فيه للشيخ"، وهو مذهب مالك. وقال الشافعي: لا بأس بها إذا لم يحرك منه شهوة، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال الثوري (¬3): لا تفطره والتنزه أحبُّ إليَّ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو داود، كتاب الصوم، باب: القبلة للصائم، (2385)، والإمام أحمد في "مسنده" (1/ 21، 52)، وغيرهما، من حديث جابر بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم-. . . فذكره. ثم قال عمر: قلت: لا بأس به! قال: "فمه؟! ". وصححه ابن خزيمة (1999)، وابن حبان (8/ 313 - إحسان)، والحاكم (1/ 431). (¬2) أبو محمد، سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب، القرشي المخزومي، عالم أهل المدينة، سيد التابعين في زمانه، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر -رضي الله عنه-, وتوفي سنة 94 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 57)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 217). (¬3) أبو عبد الله، سفيان بن سعيد بن مسروق، الثوري، الكوفي، شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، سمع عمرو بن مرة، وحبيب بن أبي حبيب، وروى عنه شعبة، وابن المبارك، ويحيى القطان. ولد سنة 97 هـ، وتوفي سنة 161 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (6/ 371)، التاريخ الكبير، للبخاري، (4/ 92). (¬4) معالم السنن، لأبي سليمان محمد بن محمد الخطابي، تصحيح: محمد راغب الطباخ، في مطبعته بحلب، ط 1, =

وعلى ذلك يتنزل حديث عائشة: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ ويباشر وهو صائم، وكان أملكَكُم لإربه" (¬1). ومن ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجيب عن السؤال الواحد بأجوبة مختلفة؛ وذلك لاختلاف أحوال السائلين. فهو يجيب كل واحد بما يناسب حاله، ويعالج قصوره أو تقصيره، فقد وجدنا من يسأله عن وصية جامعة، فيقول له: "لا تغضب" (¬2)، وآخر يقول له: "قل: آمنت بالله، ثم استقم" (¬3)، وآخر يقول له: "أمسك عليك لسانك. . . " (¬4). وعن سفيان بن عينية (¬5) قال: كان أهل العلم إذا سئلوا (أي: عن القاتل) قالوا: لا توبة له، فإذا ابتُلِيَ رجل (أي: قتل بالفعل) قالوا له: تُبْ (¬6). وبناءً على ما سبق فإذا تبين للمفتي أن للشخص حالًا تُباين أحوال غيره من جهة ¬

_ = 1351 هـ - 1932 م، (2/ 113 - 114)، فتح الباري، لابن حجر، (4/ 150). (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الصوم، باب: المباشرة للصائم، (1927)، ومسلم، كتاب الصيام، باب: بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على مَن لم تحرك شهوته، (1106). (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب: الحذر من الغضب، (6116)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رجلًا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصني، فذكره، فردَّد مرارًا؛ قال: "لا تغضب". (¬3) أخرجه: مسلم، كتاب الإيمان، باب: جامع أوصاف الإسلام، (38)، من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي -رضي الله عنهما-، قال: قلت: يا رسول الله؛ قل لي في الإسلام قولًا لا أسال عنه أحدًا بعدك (وفي رواية: غيرك)؛ فذكره. (¬4) أخرجه: الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في حفظ اللسان، (2406)، والإمام أحمد في "مسنده" (4/ 148، 5/ 259)، وغيرهما، من حديث أبي أمامة عن عقبة بن عامر -رضي الله عنهما-، قال: قلت: يا رسول الله؛ ما النجاة؟ فذكره. قال الترمذي: "حديث حسن". (¬5) أبو محمد، سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون مولى محمد بن مزاحم، أخي الضحاك بن مزاحم، الإمام الكبير حافظ العصر، شيخ الاسلام، الهلالي الكوفي، ثم المكي. ولد سنة 107 هـ، وتوفي سنة 198 هـ. الجرح والتعديل، لعبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس أبو محمد الرازي التميمي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1371 هـ - 1952 م، (1/ 32)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (8/ 454). (¬6) أخرجه: سعيد بن منصور في "سننه"، تحقيق: د. سعد بن عبد الله بن عبد العزيز آل حميد، دار الصميعي، الرياض، ط 1، 1414 هـ 1993 م، (675)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى"، (8/ 16).

معينة أو مورد معين من موارد التكليف فإنه ينظر فيما يصلحه فيصفه له. وقد قال الشاطبي إنه ينبغي على المجتهد: "النظر فيما يصلح لكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص؛ إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد" (¬1). وهكذا يُعْطِي كلَّ إنسان من الدواء ما يرى أنه أشفى لمرضه، وأصلح لأمره، فهذا -وما سبق- أصل في تغير الجواب؛ وأن الفتيا تتغير بتغير أحوال السائلين. ولهذا يجب أن يلاحظ المفتي في فتواه الظروف الشخصية للمستفتي -نفسية واجتماعية- والظروف العامة للعصر والبيئة. ومما يلتحق باختلاف الفُتيا لاختلاف حال المكلَّفين، الاختلاف في النيات، فقد جاءت النصوص متكاثرة تفيد أن الثواب والعقاب بحسب النيات، وأن الأمور بحسب مقاصدها، وهذا الأمر معتبر في عامة الأحوال والأفعال. لذلك لا يجوز هدم قاعدة الشريعة التي تفيد أن "المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات، كما هي معتبرة في التقرُّبات والعبادات" (¬2). والقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالًا أو حرامًا وصحيحًا أو فاسدًا، وطاعة أو معصية، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبة أو مستحبة أو محرمة أو صحيحة أو فاسدة، فإن الرجل إذا اشترى أو استأجر أو اقترض أو نكح ونوى أن ذلك لموكِّله أو لمولِّيه كان له، وإن لم يتكلم به في العقد ولم ينوِهِ له وقع الملك للعاقد، وكذلك لو تملك المباحات في الصيد والحشيش وغيرها ونواه لموكِّله وقع الملك له عند جمهور الفقهاء. ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 98). (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 95 - 96).

الفرع الرابع: العلوم والتقنية المعاصرة

الفرع الرابع: العلوم والتقنية المعاصرة: لا شك أن ثمة ارتباطًا وثيقًا بين الظروف الاجتماعية والثقافية والعادات والعلوم والمعارف التقنية من جهة، وبين ما يقبل التغير من الأحكام الفقهية الاجتهادية، والفتيا في النوازل من جهة أخرى. ولا يخفى أن أحكامًا اجتهادية متعددة قد بُنيت على معارف العصور المتقدمة، وهي قابلة للتغير بناء على تغير تلك المعارف وتطور تلك العلوم، وكما أن هذه المعارف قد تُغير بعض الأحكام التي بنيت عليها؛ فإنها قد تضيِّق هُوَّة الخلاف الفقهي الذي نشأ عند الأقدمين، ومن أمثلة ذلك: المدة القصوى للحمل، وقد اختلف فيها الفقهاء إلى خمسة أقوال (¬1). وقد أمكن اليوم تصوير الجنين في الأرحام، وتسجيل لحظاته، ومعرفة تطوراته، وقياس ما يتعلق بحياته. ومن ذلك أيضًا: ما جرى عليه عمل الفقهاء من الاحتياط لميراث الحمل في ستة تقديرات معروفة ومحتملة للحمل (¬2) وأما اليوم ومع وجود الأشعة التليفزيونية وتصوير الأجنة بشكل دقيق، فإنه بالإمكان تحديد عدد الأجنة ومعرفة جنسها بحيث تتقلص تلك الاحتمالات المفروضة، في تقدير ميراث الحمل. ومن ذلك أيضًا: ما يتعلق بميراث الخنثى المشكل؛ حيث إن الفقهاء -رحمهم الله- قديمًا كانوا يقسمون التركة على تقدير بين تقدير الذكورة، وتقدير الأنوثة، ثم يُعطى الخنثى جزءًا من ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع، للكاساني، (3/ 211). المبسوط، للسرخسي، (6/ 44)، حاشية الدسوقي، (2/ 460)، الكافي في فقه أهل الدينة، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، تحقيق: محمد بن محمد أحيد ولد ماديك، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، ط 2، 1400 هـ - 1980 م، (2/ 620)، مغني المحتاج، للشربيني، (3/ 390)، المغني، لابن قدامة، (11/ 232 - 233). (¬2) المبسوط، للسرخسي، (30/ 52 - 54)، المغني، لابن قدامة، (9/ 177 - 178).

الفرع الخامس: تغير الأعيان واستحالتها

نصيبه على خلاف بينهم في مقدار ذلك النصيب، ويوقف الباقي حتى تتبين حاله (¬1). ولقد بينت التقنية الطبية الحديثة جنس الخنثى حديث الولادة من خلال عمل بعض الفحوصات المخبرية التي يحتكم إليها في تبيين جنسه بيقين. ومن ذلك: ما منعه الفقهاء قديمًا من إجراء القصاص في العظام خوف التلف أو خشية السراية وعدم تحقق المساواة والمماثلة (¬2)، وفي العصر الحديث فإن التقنية الحديثة تؤكد إمكان المماثلة في غير العظام المخوفة كعظام الرقبة أو الرأس أو الظهر، وسواء كان القطع من مفصل أو لم يكن من مفصل. الفرع الخامس: تغير الأعيان واستحالتها: إذا ارتبط الحكم الشرعي بعين ما فإنه يتغير إذا لم تعد العين قائمة أو تحولت من عين إلى أخرى، وهذا مألوف في الفقه ومعروف، فإن الطعام الطاهر يأكله الإنسان، ثم يستحيل في بطنه إلى فضلات تخرج نجسة، والخمر نجسة محرم شربها، فإذا تخللت بنفسها أو خُلِّلت صارت طاهرة في الحالة الأولى باتفاق، وفي الحالة الثانية عند بعض الفقهاء (¬3). والاستحالة بمعناها السابق تختلف عن تغير الوصف الذي لا يترتب عليه ذلك الحكم كصيرورة اللبن جبنًا، والبرُّ طحينًا، والطحين خبزًا، ونحو ذلك. وباصطلاح علماء العصر الحديث فإن الاستحالة وانقلاب العين هو ما يطلق عليه ¬

_ (¬1) المجموع، التكملة، للمطيعي، (16/ 103) المغني، لابن قدامة، (9/ 110 - 111). (¬2) المبسوط، للسرخسي، (26/ 80)، الاستذكار، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، تحقيق: سالم محمد عطا، ومحمد علي معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1421 هـ - 2000 م، (8/ 183 - 84). (¬3) حاشية ابن عابدين، (1/ 518)، حاشية الدسوقي، (1/ 52)، المجموع، للنووي، (2/ 576)، كشاف القناع، للبهوتي، (1/ 187)، المحلى، لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، تحقيق: أحمد محمد شاكر، الطباعة المنيرية، 1352 هـ، (7/ 433 - 434).

اسم التفاعل الكيميائي، الذي يحوِّل المواد ويغيِّر من صفاتها الطبيعية والكيميائية، وكذا يعرَّفه العلماء المتخصصون بقولهم: "كل تفاعل كيميائي يحول المادة إلى مركب آخر، كتحويل الزيوت والشحوم على اختلاف مصادرها إلى صابون" (¬1). وقد تناول ابن حزم هذا الموضوع باسم: "تبدل الأحكام بتبدل الأسماء" وقال: "وأما إذا تبدل الاسم فقد تبدل الحكم بلا شك، كالخمر يتخلل أو يُخلل؛ لأنه إنما حرمت الخمر، والخل ليس خمرًا. وكالعذرة تصير ترابًا فقد سقط حكمها، وكلبن الخنزيرة والحمر والميتات يأكلها الدجاج ويرتضعه الجدي، فقد بطل التحريم؛ إذ انتقل اسم الميتة واللبن والخمر" (¬2) وكذلك إذا دخل الخمر في مواد وطبخت هذه المواد خرجت عن كونها خمرًا مسكرة وطهرت على القول بأنها كانت نجسة (¬3). وأرجح القولين أن نجس العين يطهر بالاستحالة، وهو قول الطرفين من الحنفية وإليه ذهب جمهورهم، وعليه الفتوى في المذهب؛ لعموم البلوى به (¬4)، وهو مذهب جمهور المالكية (¬5)، وقول شيخ الإسلام ابن تيمية (¬6)، وقولٌ مخُرَّج في مذهب أحمد، قياسًا على الخمر إذا انقلبت، وجلود الميتة إذا دُبغت، والجلَّالة إذا حُبست (¬7)، وهو كما تقدم ¬

_ (¬1) استحالة النجاسات، د. محمد محمود الهواري، أعمال الندوة الفقهية الطبية المنعقدة بالكويت في الفترة من (22 - 24/ 5/ 1995 م). (¬2) الإحكام، لابن حزم، (5/ 6). (¬3) الفتاوي، لرشيد رضا، دار الكتاب الجديد، بيروت، 1390 هـ - 1970 م، (4/ 1604). (¬4) البحر الرائق شرح كنز الرقائق، لزين الدين بن إبراهيم بن نجيم، دار المعرفة، بيروت، (1/ 239)، حاشية ابن عابدين، (1/ 534)، والطرفان هما: أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن. (¬5) مواهب الجليل، للحطاب، (1/ 138)، الذخيرة، للقرافي، (1/ 189)، حاشية الدسوقي، (1/ 52). (¬6) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (20/ 522). (¬7) المغني، لابن قدامة، (1/ 97)، الشرح الكبير، لشمس الدين عبد الرحمن بن محمد بن قدامة المعروف بابن أبي عمر، دار الكتاب العربي، (1/ 293 - 294).

مذهب الظاهرية (¬1). وقد صدرت توصية عن الندوة الفقهية الطبية الثامنة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية المنعقدة بالكويت في الفترة من (22 - 24/ 5/ 1995 م)، تفيد أن "الاستحالة التي تعني انقلاب العين إلى عين أخرى تغايرها في صفاتها تحول المواد النجسة أو المتنجسة إلى مواد طاهرة، وتحول المواد المحرمة إلى مواد مباحة شرعًا". ¬

_ (¬1) المحلى، لابن حزم، (1/ 128).

الفصل الثاني أهمية التأصيل لفقه النوازل للأقليات وخصائصه ومقاصده

الفَصلُ الثَانِي أهمية التأصيل لفقه النوازل للأقليات وخصائصه ومقاصده المبحث الأول: أهمية التأصيل لفقه نوازل الأقليات وحكمه. المبحث الثاني: أسباب وخصائص نوازل الأقليات المسلمة. المبحث الثالث: المقاصد الشرعية لفقه نوازل الأقليات المسلمة.

المبحث الأول أهمية التأصيل لفقه نوازل الأقليات وحكمه

المبحث الأول أهمية التأصيل لفقه نوازل الأقليات وحكمه المطلب الأول: أهمية التأصيل لفقه نوازل الأقليات المسلمة: المتأمل في قواعد الشريعة ونصوصها الإجمالية ومقاصدها العامة ومبانيها الكلية، يلمس بجلاء أنها عُنيت ببناء المجتمع الإنساني وتدبير شئونه؛ الجليل منها والدقيق، بل ويلحظ أيضًا أن كل ترتيب أو تدبير أو تشريع يتعلق بالفرد أو الفئة قليلة الأفراد يُرَاعى فيه المجتمع أو المجموع، فليست حكمة التشريع قاصرة على مراعاة مصلحة الفرد دون المجتمع أو العكس، وهذا معنى ملموس في شعائر التعبد، كما هو ملحوظ في سائر الأحكام الشرعية التي تحقق رسالة الإنسان على هذه الأرض، وتمكنه من القيام بواجب الخلافة؛ إذ "القصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض واستنباطٍ لخيراتها وتدبيرٍ لمنافع الجميع" (¬1). وبناء على هذا المقصد القائم على المفهوم الجماعي للتدين جاءت تعاليم الشريعة بصفة عامة، وما يتعلق منها بوجوه التعامل بين الناس بصفة خاصة، متجهة ببيانها التفصيلي إلى مقتضى وجود جماعي للأمة المسلمة تدير فيه شئون الحياة وفقًا لمنهج الله. وذلك سواء فيما يشجر بينهم من الخلافات والعلاقات، أو فيما يشجر بينهم وبين ¬

_ (¬1) مقاصد الشريعة ومكارمها، لعلال الفاسي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 5 (1993 م)، (ص 45 - 46).

أولا: حفظ كيان الأقليات المسلمة

غيرهم ممن لا يدين بالإسلام من الناس، وقام ذلك كله على أساس أن سلطان الشريعة هو السلطان القيِّم الذي تنفذه ضمائر الأفراد فيما هو من خصائص الضمائر، والهيئة الجماعية متمثلة في الدولة فيما هو من خصائصها. والأقليات المسلمة قد تتمكن من إقامة الإسلام فيما بينها إلا أنها في علاقاتها مع المجتمع بعد ذلك تكون خاضعة لغير سلطان الشريعة من أنظمة اجتماعية أو قانونية أو ثقافية ينخرطون فيها -اضطرارًا- ويكون السلطان فيها لدين غير دينها، ويلي أمورها ويحكمها من لا يؤمنون بالإسلام ولا يطبِّقون شريعته بين الناس. وقد كان حظ هذه الحال من أحوال الوجود الإسلامي من التفصيل في نصوص الوحي أقل من حظ تلك الحال التي يكون فيها ذلك الوجود جاريًا على سلطان الشريعة في شئون الجماعة كلها؛ إذ كان ما يتعلق به راجعًا إلى تصرف الفرد المسلم أو الجماعة المسلمة في ذلك الوضع -مع المجتمع الذي انخرطوا فيه والسلطان الذي انضووا تحته- على قدر من الكلية والإجمال والهدي العام، ولعل من حكمة الله تعالى في ذلك أن الوضع الذي يكون فيه للدين سلطان على الجماعة هو وضع منضبط ثابت مستقر، فناسبه البيان التفصيلي، وأما الوضع الذي يكون فيه الوجود الإسلامي خاضعًا لسلطان غير سلطان الدين فإنه وضعٌ استثنائي، متنوعةٌ أحواله، مستجدةٌ فصوله على غير انضباط، فناسبه إذن الهدي العام دون تفصيل؛ ليكون للاجتهاد المنضبط مجاله في الوصول إلى مراد الله تعالى على ضوء ذلك الهدي العام وقواعد استنباط الأحكام، وهو الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى تأصيلٍ مفصَّلٍ لأحكام تلك الأحوال الطارئة، وفيما يلي تركيز لنقاط تمثل أهمية هذا التأصيل، وتؤكد مسيس الحاجة إليه: أولًا: حفظ كيان الأقليات المسلمة: لا شك أن الأقليات المسلمة في عدد من البلدان اليوم تسعى إلى الحفاظ على هويتها

وعقيدتها، وتستفيد من معطيات زمانها ومكانها لترسيخ أقدامها وتقوية شوكتها، الأمر الذي يحتم -في ظل وجود تعقيدات كثيرة- أن يتشكل ما يمكن أن يسمى "بفقه الأقليات". "وفقه الأقليات" فقه يتعامل مع حالةٍ تتفاوت تفاوتًا بينًا من استضعاف مطلق يفتح بابًا للترخص والتعامل مع الحالات الاستثنائية، إلى تأسيس لوضع مستقرٍّ وفاعل في الحياة بشكل عام، وهو فقه لا يمكن أن يغفل طبيعة الأرض التي تعيش عليها الأقلية المسلمة، ولا التحديات التي تواجهها، فهو فقه صحيح الاستمداد من الشريعة، وثيق الارتباط بأصولها ونصوصها، ومشدود العُرى بروحها، يراعي الظروف الطارئة والأحوال الاستثنائية، ويعتبر تلك الخصوصية للأقلية، بما يحقق المصالح ويكثِّرها، ويدفع المفاسد ويقللها، دون أن يكون من مقصوده تتبع الزلات، أو العمل بالهفوات. "لقد كان دأب النظار من الفقهاء المجتهدين في كل زمان أن يعالجوا الأحوال الطارئة في حياة المسلمين بالحلول الشرعية، وأن يوسعوا الاستنباط الفقهي بالنسبة لتلك الأحوال التي لا يكون فيها من نصوص الوحي تفصيل، مثل حال الأقليات المسلمة التي أشرنا إليها، بل كان من دأبهم أن ينتقلوا بالنظر الفقهي من تشريع الأحكام التفصيلية في معالجة تلك الأحوال إلى تأسيس القواعد والأصول المنهجية التي توجِّه ذلك النظر وتكوِّن له ميزانًا هاديًا يتحرى به ما يريده الله تعالى من أحكام في ترشيد الحياة، وتلك مهمة أدَّى فيها الاجتهاد الفقهي في شأن أوضاع الأقليات المسلمة التي أفرزتها التطورات الماضية للتاريخ ما تيسر له أن يؤدِّي، وهي اليوم في شأن الأقليات المسلمة ملقاة على عاتق النظار من الفقهاء والمجتهدين المعاصرين بأشد وأثقل مما كانت ملقاة على عاتق السابقين؛ وذلك لما حصل في هذا الشأن من تطور لم يكن له في السابق مثيل" (¬1). ¬

_ (¬1) نحو منهج أصولي لفقه الأقليات، د. عبد المجيد النجار، المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، العدد الثالث، ربيع ثاني 1424 هـ، فبراير 2003 م، (ص 45).

وإذا كان الفقهاء القدامى كمحمد بن الحسن الشيباني -رحمه الله- في كتابيه "السير الصغير" و"الكبير" قد عرض لأحوال المسلمين وأحكامهم في دار الحرب أو الهدنة والصلح بما يكفي ويشفي، وبما يحقق حيوية الفقه في زمنه، ويؤكد على مواكبة الاجتهاد لحياة الناس، وملاحقة التطور الاجتماعي والتحولات في أنماط الحياة البشرية، ويحقق مصالحها من خلال نصوص وقواعد هذه الشريعة المطهرة، فإن فقهاء أهل هذا الزمان يُدْعون لمواصلة البناء الفقهي الاجتهادي لما يمكن تسميته بفقه الأقليات، وتوجيه العناية بعدئذٍ إلى نوازل تلك الأقليات وأقضيتهم. ومن هذه النقطة يبدأ تقرير أهمية التأصيل لهذا الفقه؛ حيث إن الحاجة تمس إلى امتلاك أهل الإسلام لمدونة فقهية معاصرة لنوازل الأقليات المسلمة على اختلاف أحوالهم وتنوع مشكلاتهم، ودقة ظروفهم؛ لتشمل ما به حفظ عقائدهم وهوياتهم الفكرية، وضبط علاقاتهم الاجتماعية، وتصرفاتهم الاقتصادية، وسائر شئونهم فيما له صلة بالمجتمع غير المسلم الذي يعيشون فيه، ويتعاملون معه، ويخضعون لسلطانه. وهذا التأصيل الذي مست الحاجة إليه في هذا الزمان لا يعني ابتداعًا لقواعد أصولية تفضي إلى تحريمِ ما أحلَّ الله أو إباحةِ ما حرَّم الله؛ إذ الأمر كما يقول الإمام الشافعي -رحمه الله-: "الحلال في دار الإسلام حلال في بلاد الكفر، والحرام في بلاد الإسلام حرام في بلاد الكفر" (¬1). وإن كان قد وقع اختلاف في الأحكام نتيجةً لعوارض وقعت، ومستجدات ظهرت، فليس لمنازعة في الأصل الذي قرره الشافعي -رحمه الله- بدلالة آيات الكتاب العزيز وأحاديث السنة المطهرة. ¬

_ (¬1) الأم، للشافعي، (9/ 237).

وعلى سبيل المثال: فحين اختلف الفقهاء في إقامة الحدود في بلاد الكفر، كان سببه عند المانعين -وهم الحنفية- أن إقامة الحدود مرهونة بوجود سلطان المسلمين، فَبِه تُستوفى الحدود وبعدمه لا يمكن استيفاء الحدود (¬1). وحيث خلت بلاد الكفر عن المنعة والسلطان سقطت فيها الحدود، وهذا الحكم ليس مختصًّا ببلاد الكفار الأصليين، فحتى بلاد الإسلام إذا انحسرت عنها سيادة الشريعة وحلَّت محلَّها الشرائع الغربية تسقط فيها الحدود؛ لخلوها من المنعة والسلطان، إلا أن يقوم بها أهل الحل والعقد حال تمكنهم بعد اجتماعهم. وحين ذهب الفقهاء من الحنفية (¬2) والمالكية (¬3) والشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) إلى كراهية تزوج المسلم من كتابيةٍ في دار الكفر؛ بل حتى من مسلمة (¬6) -عند بعضهم-؛ لم يكن ذلك لمنازعتهم في الأصل الذي ذكرناه؛ وإنما لعوارض أخرى، وهي ما يسببه هذا الزواج من محذورات شرعية، كأن يدفعه الزواج إلى استيطان بلاد الكفر، والرغبة عن بلاد الإسلام، وتكثير سواد المشركين، أو مخافة أن يبقى له نسل في بلاد الكفر فيفتن عن دينه. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع، للكاساني، (7/ 131)، شرح فتح القدير، لكمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام، دار الفكر، بيروت، لبنان، (5/ 266). (¬2) شرح فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 228)، البحر الرائق، لابن نجيم، (3/ 111). (¬3) مواهب الجليل، لشرح مختصر خليل، لأبي عبد الله محمد بن محمد المغربي المعروف بالحطاب الرعيني، تحقيق: الشيخ زكريا عميرات، دار عالم الكتب، 1423 هـ - 2003 م، (5/ 135)، حاشية الدسوقي، (2/ 267). (¬4) مغني المحتاج، للشربيني (3/ 187)، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، لشمس الدين محمد بن أحمد بن شهاب الدين الرملي، دار الفكر، ببيروت، 1404 هـ - 1984 م، (6/ 290). (¬5) كشاف القناع، للبهوتي، (5/ 84)، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، (8/ 135). (¬6) قاله الشافعي في الأم (5/ 655).

ثانيا: إقامة الدين بين الأقليات المسلمة

فإذا قُدِّر لهذه العوارض أن تزول رجع الحكم إلى أصله الأول وزالت الكراهية، وكذا إذا قُوبلت هذه العوارض بأسباب أقوى منها زالت الكراهية، كأن يتحقق المسلم في بلاد الكفر من وقوعه في الزنا إن لم يتزوج، فيصبح الزواج في حقِّه أوجب؛ لأن درء مفسدة كبيرة محققة مقدم على درء مفسدة متوهمة، أو تحصيل مصلحة هينة. إن مثل هذه الأمثلة في حياة الأقليات قديمًا تحمل فقهاءَنا المعاصرين على مواصلة العمل والبناء على ما سلف، وصرف العناية الأصولية والفقهية لاستخراج ضوابط فقهية، وقواعد منهجية لفقه الأقليات، ثم العمل على إحكامها من خلال المحاولات التطبيقية في آحاد المسائل التفصيلية التي تندرج تحت هذا النطاق، وبهذا يتحقق تأسيسٌ يستثمر ما سلف تدوينه من قواعد فقهية وقواعد أصولية، لإنشاء ضوابط فقهية في أبواب متعددة، بحيث يتكون من مجموع ذلك منهج فقهي أصولي متكامل يؤصل لفقه الأقليات، ويوجهه ليثمر ثماره في حياة تلك الأقليات بما يحقق مصالحها ومقاصدها الشرعية. كل هذا مع التأكيد على أن فكرة التأصيل لهذه النوازل لا يمكن أن يتصدى لها إلا الفقهاء المتمهرون، والمجتهدون المتأهلون، فلا مجال لأن يتجاسر الجهال من العوام وأشباههم فيمتطون صهوة هذه الفكرة بما يُفضي إلى تكثير المفاسد والتحلل من رِيْقة التكاليف الشرعية، وتوهين عرى الدين، والانهزام أمام المادية الغربية أو الإلحادية العاتية. ثانيًا: إقامة الدين بين الأقليات المسلمة: إن الحفاظ على عقيدة مسلمي الأقليات وتطبيق شريعة الإسلام فيهم هو من أعظم أسباب إقامة الدين وحفظه بينهم؛ ومن هنا تبرز أهمية أن يجد هؤلاء المسلمون حلولًا لمشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية والفقهية داخل مجتمع المسلمين وفي دائرة دينهم، حتى يتمكنوا من صبغ حياتهم الخاصة بصبغة إسلامية في ظروف من التحدي والقهر المادي والمعنوي لتذويب الشخصية المسلمة بثوابتها العقدية والاجتماعية

والثقافية، بل وإن من حفظ أديان هؤلاء الأقليات: التأصيل والتنظير لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وإبراز محاسنه، فهذه الأصول والقواعد الحاكمة لفقه الأقليات يمكن استثمارها لهداية مجتمعات الأكثرية، بما يقوي شوكة أهل الإسلام ويحمي ظهور أبنائه. وتجدر الإشادة بما حصل في مجتمع كمجتمع ماليزيا اليوم حيث ظهر المسلمون على أهل الملل الأخرى واكتسبت الدعوة إلى الإسلام أنصارًا في كل ميدان، فاندفعت غُربة الإسلام وعَزَّ أهله فسادوا وقادوا. وبناء على ما سبق: فإن التأصيل لنوازل وفقه الأقليات لا يعني بناءً أصوليًّا علميًّا مجرَّدًا لاستنباط الأحكام الفقهية؛ وإنما يجمع إلى ذلك أصولًا وأبعادًا دعوية تقوم على أساس من تبليغ دعوة الإسلام ورسالته، وتحتل فيه مقاصد الدين الكلية ومراميه العامة الموقع المرموق. ومرة أخرى فإن هذا التأصيل يخدم التطبيق العملي الذي يترجم عن صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان. ولا ينبغي أن يصرف عن هذه المحاولة المهمة علاقة هذا الموضوع بالقانون الدولي في الإسلام، واتصاله بجانب من جوانب الفقه السياسي، والذي تعترضه عقبات عملية كثيرة بسبب غياب سلطان الإسلام السياسي أو تغييبه بتعبير أدق؛ لأن للفقه السياسي في الإسلام متطلباته الخاصة، وبيئته المناسبة، وضوابطه المحددة، وكل فقه ينشأ في غير بيئته المناسبة، أو لا تتوفر له متطلباته الخاصة، أو يصدر عن غير أهله -يبدو غريبًا ومضطربًا أحيانًا، أو مائلًا منحرفًا أحيانًا أخرى. ومع التسليم بذلك كله وغيره من العقبات والصعوبات كغلبة التقليد وكثرة الجمود، وضعف الاجتهاد، وندرة المتأهلين لمرتبته؛ فإن نصوص الشريعة قائمة بين أيدينا وصلاحيتها للتطبيق تحت كل الظروف عقيدة قائمة في قلوبنا، فلم يبقَ إلا

ثالثا: وقوع الاضطراب في كثير من المواقف والأحكام المتعلقة بالأقليات

التشمير عن ساعد الجد والتطلع نحو ذرى التفقه في دين الله -عز وجل-، والتأهل لرتب الاجتهاد، مع الحذر من التصدر قبل التأهل لهذا الباب. ثالثًا: وقوع الاضطراب في كثير من المواقف والأحكام المتعلقة بالأقليات: إن تصدر غير المتأهلين لنوازل الأقليات المسلمة، أو غياب منهج النظر الصحيح في استنباط تلك الأحكام، مع ضعف الإحاطة بواقع تلك البلاد وظروف أهلها، وملابسات أحوالهم؛ يُنتِج -ولابد- اضطرابًا شديدًا، وتخبطًا واضحًا في قضايا الأقليات ونوازلها. وقد ينشأ الخلل من تطبيق بعض المتأهلين اليوم لأحكام سابقة صدرت عن فقهاء مسلمين في عهود سياسية مستقرة، وفي حال من التمكين والقوة، دون تنبه لمدى مطابقتها للواقع اليوم، سواء من حيث تطابق معاني المصطلحات، أو توافق الأحكام واتساقها وانسجامها، فنشأ عن الغفلة عن تحرير المصطلحات، والتأكد من تحقق تلك المطابقات، وتحرير المناطات كثيرٌ من الخلط والاضطراب (¬1). ولا شك أن الفتاوي والأحكام الاجتهادية قد يقع فيها تمييز بين حال وحال، وزمان وزمان، ومكان ومكان؛ لذا قعَّد الفقهاء أنه لا يُنُكَرُ تغيُّرُ الأحكام الاجتهادية والفتاوي بتغير الأزمان والأحوال. قال ابن عابدين: "فكثيرٌ من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عُرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد؛ لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام" (¬2). ¬

_ (¬1) الأصول الشرعية للعلاقات بين المسلمين وغيرهم في المجتمعات غير المسلمة، د. محمد أبو الفتح البيانوني، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد السادس، محرم (1413 هـ)، (ص 144 - 145). (¬2) نشر العرف، لابن عابدين، ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين، (2/ 125).

ولا شك أن تعامل المسلمين مع غيرهم يختلف تبعًا لاختلاف الأحوال من حرب إلى عهد، فالكفار في دار العهد مصانة أموالهم ودماؤهم وأعراضهم، فلا يجوز هتكها أو استباحتها، بخلافهم في دار الحرب؛ إذ تستباح دماؤهم وأموالهم بما شنُّوه على الإسلام وأهله من الحرب. وللتمثيل على وقوع الاضطراب في أمور مهمة في هذا الشأن: فقد تخبط الناس اليوم في كيفية تعامل المسلمين المقيمين في بلاد الكفر مع أهل هذه البلاد، فمن مستحلٍّ لدمائهم وأموالهم وأعراضهم بحجة أنهم محاربون للإسلام وأهله، ومن واقع في ولاءٍ كاملٍ لهم يبذل لهم ما يبذله لدولة الإسلام ومجتمعه من حقوق بلا قيد أو تحفظ. وهذا التخبط يرجع إلى عدم فهم الواقع من جهة، وإلى جهلٍ بالأحكام الشرعية من جهة أخرى، وإلى تحقيق المناطات في الواقع من جهة ثالثة! والحكم الشرعي في هذه المسألة ينبني على أمرين مهمين: الأمر الأول: أن عَقْدَ العهد مع دولة كافرة أو إعلان الحرب عليها، إنما ينشئه الخليفة أو الإمام العام الذي يمثل كلمة المسلمين فيحارب أو يعاهد بالنيابة عنهم، وليس لأحد من المسلمين أن ينفرد بعقد عهد أو إعلان حرب بدون إذن الخليفة أو موافقته، ففي هذا افتئات على الإمام وتعدٍّ على سلطانه واستهانة بتمثيله للمسلمين كلهم. ومع غياب الخليفة وسقوط الخلافة الإسلامية، ونشوء دول إسلامية لا تُحكِّم الشريعة في أكثر مناحي حياتها، فُقد الإمام الشرعي الذي يمثل الجماعة المسلمة بأسرها، والذي له الحق أن يتكلم باسمها، فيحارب أو يعاهد، لا سيما إذا علمنا أن هذه الدول مختلفة فيما بينها ومتباينة في ولائها وبرائها، فعدوُّ هذه الدولة المسلمة هو صديق دولة مسلمة أخرى، فليس يجمعها عدوٌّ مشترك أو صديق مشترك! حتى لم تعد هناك دولة واحدة من دول الكفر هي عدو لكل الدول المسلمة!! ففي ظل هذه الحال البائسة يجب التحري في الاستدلال بأقوال الفقهاء الواردة في الحرب أو

العهد؛ لأنها وردت في ظل خلافة إسلامية كانت قائمة، فلا يمكن -بسهولة- تنزيلها على واقعنا من كل وجه؛ بل يجب التدقيق في مدى مطابقة الحالة التي تكلموا فيها على الحالة التي نعيشها اليوم، فحيث تشابهت الحالة بنينا على أقوالهم وخرَّجنا واستدللنا بها، وحيث اختلفت الأحوال وجب الاجتهاد لمعرفة حكم النوازل المستجدات. والأمر الثاني: أن غاية الحرب في الإسلام هي إزالة الفتنة، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]. والفتنة التي يراد إزالتها هي الصد عن سبيل الله، وليس وجود الكفر، فأيما رجل بلغَتْهُ دعوة الإسلام ولم يقنع بها فهو وشأنه؛ إذ لا إكراه في الدين، ولكن إذا حالت أنظمة طاغية ظالمة دون وصول الدعوة إلى الناس حتى يتفكروا فيها، فهذا صدٌّ عن سبيل الله، وهذه فتنة يجب إزالتها، وهذه هي غاية القتال في الإسلام؛ ولذلك كانت الحرب في الإسلام خاضعة لمبادئ سامية لا يجوز تعديها أو التهاون بها، منها: أن يُبلَّغ الكفار دعوة الإسلام قبل أن يُقاتَلُوا؛ لأن الغاية هي تبليغ الدين لهم، وإسلامهم أحب إلى الله ورسوله من أي شيء سواه. فإذا أسلموا ملكوا بلادهم وأموالهم وأعراضهم، فالإسلام لا يريد التسلط على الناس ولا استغلال خيراتهم؛ وإنما يريد نفعهم في الدنيا والآخرة. فإن أبوا الإسلام، أُمِروا بتمكين المسلمين من تبليغ دين الله إلى سائر رعاياهم وشعوبهم؛ لأن الإسلام لا يُكرههم على ترك دينهم، وإنما هدفه تبليغ دين الله الحق لجميع الناس. فإن رضوا بذلك، تُركوا ولم يُتَعرض لهم، وهذا أهم معاني عقد الذمة الذي يعقدونه مع المسلمين. فإن أبوا تمكين المسلمين من تبليغ دين الله فيُؤذنوا عندها بالحرب، وهم يعلمون لماذا يُحَارَبون، وما هي الغاية التي تنتهي إليها حربهم، قال تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ

عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]. ولا بد من إيذانهم بالحرب؛ لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]. فإذا تبين هذا الأصل بشقيه استبان خطأ الذين يستحلون دماء الكفار وأعراضهم بحجة أنهم محاربون؛ لأنه إذا كان يُقصد بكونهم محاربين أنهم يحاربون الدولة المسلمة، فليس هناك دولة كافرة واحدة تحارب جميع الدول المسلمة، وإن وجدت دولة كافرة تحارب بعض الدول المسلمة؛ فإنها تصادق وتعاهد دولًا مسلمة أخرى. وإن كان يُقْصَدُ أنهم محاربون للإسلام بتشويه صورته، وصد الناس عنه، والتربص بالمسلمين الصادقين لإيذائهم أو قتلهم، والضغط على الدول المسلمة لمنعها من تحكيم الشريعة في بقاعها، فهذا حق، ولكن لا بد لمواجهة هذه الحرب من وجود جماعة من المسلمين لها نفوذ وشوكة، تنادي برفع هذا الظلم، وتعلن الحرب على هذه الدول إذا لم تكفَّ عدوانها، حتى تعرف شعوب هذه الدول لماذا تُحَارَبُ ومتى تُحَارَبُ، وحتى إذا فكروا يومًا ما بالعدول عن ظلمهم للمسلمين عرفوا على الأقل مع من سيتكلمون، وما هي مطالبهم. وبقاؤهم على الكفر بعد ذلك لا يبيح بمجرده دماءهم أو أموالهم أو أعراضهم؛ لأن هذه لا تستباح بمجرد الكفر، ولكن تستباح حين يَجمعون مع الكفر محاربة الإسلام والكيد لأهله. وهذه الحرب لا يُنشئها فرد من الأفراد وإنما تُنشئها جماعة أهل الحَلِّ والعقد من المسلمين والتي لها علماؤها وشبابها ونفوذها وتمثيلها الواسع في العالم الإسلامي، بحيث يصح أن يقال عنها بأنها تتكلم باسم المسلمين، أو باسم شريحة كبيرة منهم، وتُعَبِّرُ عن آمالهم وآلامهم، وذلك كله بعد التشاور مع المسلمين المقيمين في بلاد الغربة

رابعا: تجديد الدين بعامة

والتنسيق معهم حتى لا يتضرروا بهذه الحرب ويصبحوا أسرى لدى الكافرين (¬1). وعلى كُلٍّ فهذا ليس موضع بحث هذه المسألة؛ وإنما قاد الحديثَ إليها أهميةُ ضرب المثال ليتضح المقال. وليست المسألة قاصرة على التخبط في موقف المسلمين من غيرهم في تلك البلاد؛ بل فيما يتعلق بالمعاملات والأحوال الشخصية وغيرها من النوازل والأقضية، وتتكرر وتتعدد نفس الملاحظات؛ مما يقيم البرهان على أهمية وشدة الحاجة إلى هذا التأصيل. رابعًا: تجديد الدين بعامة: لا يبعد أن يكون في الاشتغال بنوازل الأقليات المسلمة -تأصيلًا وتطبيقًا- تجديدٌ حقيقيٌّ لهذا الدين، ويمكن تجلية هذا المعنى من خلال النقاط التالية: 1 - دعوة العلماء المقتصدين، وطلبة العلم النابهين للاجتهاد وتحصيل رتبته، والترقي في مدارجه؛ وذلك باستفراغ كلِّ وسمع، وبذل كل جهد لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها الإجمالية والتفصيلية، وهذا من شأنه تحصيلُ آلة علمية خاصة تُعْنَى بأدلة الأحكام ومواضع الإجماع ومواقع الخلاف، وتحصيل ملكة الاستنباط، ومعرفة لسان العرب، والناسخ والمنسوخ وغير ذلك (¬2)؛ مما يكون له الأثر البالغ في تأهيل النابهين وترقية النابغين، والذي ينعكس بدوره على تجديد هذا الدين ببيان أحكامه في المستجدات والنوازل بعامة، ولا شك أن هناك عددًا من النوازل في بلاد المسلمين وبين ظهرانيهم لا تزال بحاجة إلى معالجة علمية دقيقة، واجتهاد معتبر. ¬

_ (¬1) أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في الغرب، د. سالم عبد الغني الرافعي، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1423 هـ - 2002 م، (ص 82 - 90). (¬2) الرسالة، للشافعي، (ص 509 - 511)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 459 - 467)، إرشاد الفحول، للشوكاني، (2/ 1027 - 1034).

وإذا كان اكتمال تلك الآلة في حق آحاد المتأخرين كالأمر المتعذر؛ فإنه يكفي على الصحيح من أقوال الأصوليين أن يكون هذا الناظر مجتهدًا على الأقل في المسألة التي ينظر فيها وما يتصل بها، وإن كان جاهلًا بما عداها من المسائل؛ ذلك أن وجود المجتهد المطلق أمر عزيز (¬1). والاجتهاد يقبل التجزؤ، فلا مانع أن يتحقق وجود مجتهد في باب، ويكون مقلدًا في غيره. قال ابن القيم -رحمه الله-: "الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام، فيكون الرجل مجتهدًا في نوع من العلم مقلدًا في غيره، أو في باب من أبوابه، كما لو استفرغ وسعه في نوع العلم بالفرائض وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم، أو في باب الجهاد أو الحج أو غير ذلك، فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه، ولا تكون معرفته بما اجتهد فيه مسوغة له الإفتاء بما لا يعلم في غيره" (¬2). ومن نافلة القول التأكيد على أهمية الاجتهاد الجماعي وأثره العظيم في هذا الصدد، ونتيجته المحمودة أيضًا على أعضاء تلك المجامع الفقهية والمؤتمرات العلمية، وقيمته في تسديد تلك الاجتهادات والفتاوي الصادرة عن مثل مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر بمصر، أو المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، أو مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، أو هيئات كبار العلماء ودور الإفتاء في مختلف الدول الإسلامية. كما أن الهيئات التي تشكلت حديثًا للنظر في مسائل الأقليات بشكل خاص تمثل نوعًا من الاجتهاد الجماعي، مثل: المجلس الأوروبي للإفتاء، أو مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، وغيرهما. ¬

_ (¬1) روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 353 - 354)، مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (20/ 212)، الرد على من أخلد إلى الأرض، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: خليل عيسى، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، (1413 هـ)، (ص 152). (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 216).

وبناء على ما سلف فلا مانع من وجود المجتهد المتخصص في فقه ونوازل الأقليات، وآخرين في أبواب أخرى بحيث تقوم الجماعة مقام المجتهد المطلق. على أنه تجدر الإشارة في هذا المقام إلى التفريق بين الإجماع الأصولي المعتبر بشروطه وبين القرارات التي تصدر عن بعض هذه المجامع؛ إذ إنها لو صدرت بإجماع أعضاء المجمع المعين مثلًا لم تصل إلى مرتبة الإجماع الأصولي في الحجية؛ إذ لا يخفى أن أعضاء مجمع معين ليسوا كل فقهاء الأمة ومجتهديها، بل هم فئة منهم، على أن الفتاوي الجماعية ربما تكون في ظروف خاصة واقعة تحت ضغوط معينة، وكلما كانت تلك المجامع بعيدة عن سلطان الحكومات، متحررة من ضغوط السياسات كان أنفع، وكان نظرها في النوازل التي تتولى دراستها أنجع (¬1). وفي جميع ما ذُكِرَ إنهاضٌ للفقه الإسلامي وتجديدٌ له وإثراء وإحياء لمواكبته حركةَ الحياة والأحياء. 2 - إن إعطاء هذه النوازل أحكامَها الشرعية المناسبة لها هو دعوة صريحة معلنة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية في جميع جوانب الحياة، وهو بيان عملي تطبيقي يبرهن -مجددًا- على صلاحية هذه الشريعة المطهرة لكل زمان ومكان، وهو إقامة للحجة على أعدائها، وتأكيد لما تقرر من رعايتها للمصالح الضرورية والتي جاءت الشريعة بحمايتها وحفظها؛ لتقوم حياة الإنسان في معاشه ومعاده، وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال. وكذلك رفع الحرج عن الإنسان ودفع المشقة الشديدة بتشريع الرخص والتخفيفات، ورعاية محاسن العادات، والأخذ بمكارم الشمائل ومحمود الصفات، ورعاية أحسن ¬

_ (¬1) الاجتهاد في النوازل، د. محمد حسين الجيزاني، بحث في مجلة العدل، عدد رقم 19، رجب (1424 هـ)، (ص 30 - 31).

المناهج في العادات والمعاملات (¬1). يقول العز ابن عبد السلام -رحمه الله-: "التكاليف كلها راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم والله غني عن عبادة الكل، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين" (¬2). وقال الشاطبي -حمه الله-: "وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا" (¬3). ولا تُقبل دعوى أن الفقه يمر بأعصُر جمود وتقليد وانحطاط -كما يحلو لبعض الناس أن يُعبر- فلا يصلح الاعتماد إذن على هذه الشريعة، وهذه الدعوى لا تخلو من مغالطة وسوء فهم؛ فأما المغالطة فهي في التسوية بين الفقه والشريعة؛ إذ الفقه هو "العلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية بالنظر والاستدلال" (¬4)، وهذا التعريف وغيره من التعاريف يجعل الفقه ملكة وصِفة علمية للإنسان. وعند التعبير عن الفقه بأنه: "مجموعة الأحكام العملية الشرعية المكتسبة من الأدلة التفصيلية" (¬5) يلحظ أن من الأحكام ما هو منصوص عليه، ومنها ما هو مستنبط اجتهادًا، وفي كل عصر من لدن الصحابة يبذل الفقهاء المجتهدون وسعهم ويستفرغون جهدهم في النظر في النصوص لاستنباط أحكام الوقائع ليواكب الفقه حركة الحياة. فالفقه إذن جهدُ بشرٍ يخطئ ويصيب، وقد يشبَّه بالإنسان في مراحله المختلفة، وهو ¬

_ (¬1) مسائل في الفقه: النوازل وكيف يجب التعامل معها، مجلة الدراسات الفقهية المعاصرة، العدد 64، (1425 هـ)، (ص 324). (¬2) قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، للعز ابن عبد السلام، (2/ 126). (¬3) الموافقات، للشاطبي، (2/ 6). (¬4) الإحكام، للآمدي، (1/ 22). (¬5) الإبهاج، لابن السبكي، (1/ 28)، جمع الجوامع، للسبكي، مطبوع مع شرح المحلي وحاشية العطار، (1/ 57 - 60) البحر المحيط، للزركشي، (1/ 21).

عندئذٍ ليس بمعصوم إلا فيما أُجمع عليه من الأحكام. أما الشريعة فلها شأن آخر؛ إذ هي جملة نصوص الكتاب والسنة الصحيحة غير المنسوخة، وهي بهذا الاعتبار مباركة معصومة. يقول الشاطبي: "إن هذه الشريعة المباركة معصومة، كما أن صاحبها - صلى الله عليه وسلم - معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة" (¬1). وهي عامة لكل الخلق في كل زمان ومكان، حاكمة لا محكومة، ومطلقة لا مقيدة، ثابتة لا تزول، لها السيادة العليا والحكم الأعلى: "لا عمل يُفرض، ولا حركة ولا سكون يُدَّعى؛ إلا والشريعة عليه حاكمة" (¬2)، فإذا اعترى الفقهَ -الذي هو عمل المجتهدين- نوعُ قصورٍ أو خلل أو ضعف فلا سبيل لشيء من ذلك إلى الشريعة؛ إذ هي تنزيل من حكيم حميد، فلا يجوز نسبة شيء من النقص إلى كتاب الله -عز وجل- وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. على أن الفقه -أيضًا- لا تسلم في حقه تلك الدعاوى؛ فلقد عرف فقهاؤنا التطور وصاحبوه مصاحبة عميقة في تاريخهم الحي والعملي بأسره، يقول عمر بن عبد العزيز: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" (¬3). وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "تحدثون ويحدث لكم" (¬4). ومما يشهد لذلك ويدل عليه قول معاذ -رضي الله عنه-: "أجتهد رأيي ولا آلو" (¬5). ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 58). (¬2) الموافقات، للشاطبي، (1/ 78). (¬3) المنتقى شرح الموطأ، للباجي، (8/ 64). (¬4) أخرجه: أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في "السنة"، تحقيق: سالم أحمد السلفي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط 1، 1408 هـ، (80)، والدارمي، المقدمة، باب: الفتيا وما فيه من الشدة، (174)، من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إنكم اليوم على الفطرة وإنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول". (¬5) أخرجه: أبو داود، كتاب الأقضية، باب: اجتهاد الرأي في القضاء، (3592)، والترمذي، كتاب الأحكام عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في القاضي كيف يقضي، (1327، 1328)، عن الحارث بن =

وقوله -رضي الله عنه- أيضًا: "يا أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله فيذهب بكم هنا وهنا، فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله لم ينفكَّ المسلمون أن يكون فيهم من إذا سُئِل سُدِّد وإذا قال وُفِّق" (¬1). ومما يبرهن على صلاحية الفقه وسلامته: تعدد المناهج الاجتهادية وتنوع المدارس الفقهية والأصولية، فلم يرجع الفقهاء عند عدم وجدان النص إلى حَدْسٍ أو تخمين، وإنما رجعوا إلى النصوص من طريق آخر ضبطته القواعد والأصول ومناهج القياس وأصول الإلحاق والتفريع، ثم ضبطوا جهدهم بقاعدة نيِّرة تقول: "كل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة" (¬2). وفي أسبوع الفقه الإسلامي الذي عُقد في باريس عام (1951 م)، وقف نقيب المحامين الفرنسيين ليقول: "لست أدري كيف أُوفِّق بين ما كان يُحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي وعدم صلاحيته أساسًا تشريعيًّا يفي بحاجات المجتمع العصري المتطور، وبين ما نسمع الآن، فقد ثبت بجلاء أن الفقه الإسلامي يقوم على مبادئ ذات ¬

_ = عمرو ابن أخي المغيرة ابن شعبة، عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ "؛ قال: أقضي بكتاب الله؛ قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ "؛ قال: فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في كتاب الله؟ "؛ قال:. . . فذكره. فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله". قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في كتابه "التاريخ الكبير"، مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الهند، (2/ 277): "الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي عن أصحاب معاذ عن معاذ، روى عنه أبو عون، ولا يصح، ولا يعرف إلا بهذا، مرسل" اهـ، وقال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل" اهـ. (¬1) أخرجه: الدارمي، المقدمة، باب: مَن هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع، (155). (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 3).

سمة أكيدة لا مرية في نفعها، وأن اختلاف المذاهب الفقهية على مجموعة من الأصول الفنية البديعة تتيح لهذا الفقه أن يستجيب بمرونته لجميع مطالب الحياة الحديثة" (¬1). ويقول د. هوكنج أستاذ الفلسفة بجامعة هارفارد الأمريكية: "إن سبيل تقدم الدول الإسلامية ليس في اتخاذ الأساليب المفترضة التي تدعي أن الدين ليس له أن يقول شيئًا عن حياة الفرد اليومية، أو عن القانون والنظم السياسية، وإنما يجب أن يجد المرء في الدين مصدرًا للنمو والتقدم، ثم قال: وأحيانًا يتساءل البعض عما إذا كان نظام الإسلام يستطيع توليد أفكار جديدة وإصدار أحكام مستقلة تتفق وما تتطلبه الحياة العصرية؟ والجواب على هذه المسألة: هو أن في نظام الإسلام كل استعداد داخلي للنمو، وأما من حيث قابليته للتطور فهو يفضل كثيرًا على النظم والشرائع المماثلة، والصعوبة لا تنشأ من انعدام وسائل النمو والنهضة في الشرع الإسلامي، وإنما انعدام الميل إلى استخدامه، ويقول: وإني أشعر أنني على حق حين أقرر أن الشريعة الإسلامية تحتوي بوفرة على المبادئ اللازمة للنهوض" (¬2). وأخيرًا: فلو كان ثمة نقدٌ يمكن التسليم به فهو النقد الموجه إلى بعض الفقهاء في بعض الأزمان في بعض الاجتهادات، ضرورة كونهم بشرًا يحسنون ويسيئون ويصيبون ويخطئون، أما الشريعة فمعصومة، وأما الفقه فمتجدد يواكب التطور ويلاحق التغير (¬3). وما أجدر الفقه في ميراثه الإسلامي القديم والمعاصر بقول حافظ إبراهيم -رحمه الله-: ¬

_ (¬1) الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإسلامي، أنور الجندي، (ص 182). (¬2) نقلًا عن كتاب شريعة الإسلام، د. يوسف القرضاوي، (ص 71 - 72). (¬3) شبهات حول التشريع الإسلامي، د. محمد نبيل غنايم، مجلة كلية الشريعة، جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، عدد 14، (1403 هـ)، (ص 308).

أَنَا الْبَحْرُ في أَحْشَائِهِ الدُّرُّ كَامِنٌ ... فَهَلْ سَاءَلُوا الْغَوَّاصَ عَنْ صَدَفَاتِي ولا شك أن كثرة الاشتغال بأحكام النوازل بعامة يجدد وجه الفقه، ويعيد إليه نضارته. ولا شك أن هذه الهيئات المجمعية والجهود الموسوعية إذا تضافرت على إيجاد معلمة فقهية متكاملة تستوعب قضايا العصر المستجدة، ووقائعه المستحدثة، بحيث تستكتب فرقًا من الباحثين المتميزين، وتخضع أعمالهم إلى جهد جماعي في المراجعة والتمحيص، لا شك أنها بهذا تجدد في الفقه الإسلامي المعاصر تجديدًا يخدم الدين ويصلح الدنيا بأسرها. 3 - إن قوة الأمم وازدهارها وتقدمها ونموها يقاس بقوة ما لديها من قوة علمية وقدرة على الفكر والنظر والاجتهاد؛ بل إن أمة الإسلام ما ازدهرت حضارتها ولا ارتفع سؤددها بين الأمم إلا وصاحَبَ ذلك وجود حركةٍ علمية ونشاطٍ فقهي قوي، كما أن أزمنة الضعف والانكسار العسكري والسياسي توافق وتصاحب حالة من الضعف والركود العلمي غالبًا. يقول الشَّهْرستاني (¬1): "ولن تنضبط قطُّ شريعة من الشرائع إلا باقتران الاجتهاد بها؛ لأن من ضرورة الانتشار في العالم الحكم بأن الاجتهاد معتبر" (¬2). وبمفهوم المخالفة؛ فإن دعوى إغلاق باب الاجتهاد يصاحبها -ولابد- حالة من الانحسار والانكماش بعد القرون المفضلة والتي كان الاجتهاد شعار علمائها سواء أصحاب المذاهب الأربعة المتبوعة، أو الذين لم تستمر مدارسهم الفقهية بعد موتهم. ¬

_ (¬1) أبو الفتح، محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني، شيخ أهل الكلام والحكمة، وصاحب التصانيف، له تصانيف منها: الملل والنحل، ونهاية الإقدام في علم الكلام، ولد سنة 460 هـ، وتوفي سنة 548 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (20/ 286)، وطبقات الشافعية، لابن قاضي شهبة، (1/ 297). (¬2) الملل والنحل، لمحمد بن عبد الكريم بن أبي بكر الشهرستاني، تحقيق: أمير علي مهنا، وعلي حسن فاعور، دار المعرفة، بيروت، ط 3، 1414 هـ - 1993 م، (1/ 243).

المطلب الثاني: حكم الاشتغال بنوازل الأقليات المسلمة

ومن ثم لا تعرف الأمة في ظل الاجتهاد الفقهي ضعفًا أيًّا كان لونه، وتظل في منزلة الخيرية التي بوأها الله إياها، والتي ينبغي عليها أن تجاهد دونها وتحافظ عليها (¬1). المطلب الثاني: حكم الاشتغال بنوازل الأقليات المسلمة: إن الاشتغال بنوازل الأقليات هو اشتغال بالاجتهاد الفقهي في باب خاص من أبواب الفقه يندر الاهتمام به وتقل العناية ببحثه لأسباب متعددة، وإدراك حكم الاشتغال به يترتب على معرفة حكم الاجتهاد بإطلاق، ثم بقيد نوازل الأقليات، وذلك على النحو التالي: الفرع الأول: معنى الاجتهاد: لا تخرج عبارات الفقهاء والأصوليين -وإن تنوعت أو ضاقت أو اتسعت- عن أن الاجتهاد هو استفراغ الوسع وبذل الجهد من الفقيه المتأهل لتحصيل ظن بحكم شرعي. فيعرِّفه الغزالي بقوله: "هو عبارة عن بذل المجهود، واستفراغ الوسع في طلب العلم بأحكام الشريعة، بحيث يحس من نفسه العجز عن مزيد طلب" (¬2). وعرَّفه الكمال ابن الهمام بأنه: "بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني" (¬3)، وقد تضمن التعريف القيود التالية: القيد الأول: بذل الوسع والطاقة، فمن لم يبذل جهده ويستفرغ وسعه، حتى يُحِسَّ من نفسه العجز عن مزيد بحث، لا يقال له اجتهد، وهذا المعنى دلت عليه اللغة. القيد الثاني: أن يكون صادرًا من أهله، فمن بذل جهده في تحصيل الحكم الشرعي ¬

_ (¬1) منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة، د. مسفر القحطاني، (ص 120 - 121). (¬2) المستصفى، للغزالي، (ص 342). (¬3) التقرير والتحبير شرح التحرير، لمحمد بن محمد بن أمير الحاج، دار الفكر، 1417 هـ - 1996 م، (3/ 388).

الفرع الثاني: حكم الاجتهاد ومجالاته

ولم يكن متأهلًا لذلك، قادرًا على تحصيل آلة الاجتهاد، متمكنًا من ملكة الفقه، لم يعتبر اجتهاده ولم يُسَمَّ عملُهُ اجتهادًا أصلًا. القيد الثالث: أن يكون في الشرعيات؛ فالاجتهاد -اصطلاحًا- خاص باستنباط الأحكام الشرعية دون الأحكام اللغوية والعقلية (¬1). ومما يدخل في الاجتهاد -دخولَ الجزء في الكل- القياسُ، فهو جزء ونوع منه، وقد سئل الشافعي -رحمه الله- عن الاجتهاد والقياس، فقال: إنهما اسمان لمعنى واحد (¬2). أي: أن القياس جزء من الاجتهاد؛ لكونهما يفضيان إلى استنباط حكم شرعي بعد بذل الجهد، والاجتهاد أعم من القياس، ومثل هذا يقال أيضًا في العلاقة بين الاجتهاد والاستحسان أو الاستصلاح (¬3)، وإن كان الشافعي -رحمه الله- يرفض الاستحسان والاستصلاح والرأي الذي لا يسوغ شرعًا، وهو ما كان فيه حمل النظير على نظيره والرد إلى أصل من الأصول دون تتبع للآثار والأحاديث أو النصوص (¬4). الفرع الثاني: حكم الاجتهاد ومجالاته: الاجتهاد مشروع إجمالًا بشروطه المعتبرة، والأصل فيه أنه واجب كفائي عند جمهور الأصوليين (¬5). فإذا قام به البعض سقط التكليف عن الباقين، قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ ¬

_ (¬1) روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 352)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 458). (¬2) الرسالة، للشافعي، (ص 477). (¬3) مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، لعبد الوهاب خلاف، دار القلم، الكويت، ط 6، 1414 هـ - 1993 م، (ص 8). (¬4) الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف، لولي الله الدهلوي، دار النفائس، بيروت، 1403 هـ - 1983 م، (ص 44 - 45). (¬5) البحر المحيط، للزركشي، (6/ 198)، الفصول في الأصول، للجصاص، (4/ 24 - 80)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 460 - 468).

لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. فجعل الله تعالى المؤمنين في هذه الآية على فرقتين: أما الأولى فتحفظ أهل الإسلام بالجهاد، وأما الثانية فتحفظ شريعة الإسلام بالاجتهاد. وفي الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" (¬1). وفي حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- حين بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قوله له: "بم تحكم؟ " قال: بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد؟ " قال: بسنة رسول الله، قال: "فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي، قال: فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدره، وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لما يُرضي رسولَ الله" (¬2). ووقائع اجتهادات الصحابة كثيرة مشتهرة، في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده (¬3). وحكم الاجتهاد قد يدور مع الأحكام الخمسة بحسب اختلاف الأحوال، فمن ذلك (¬4): الوجوب العيني: وذلك في حق الفقيه المتأهل لرتبة الاجتهاد إذا نزل به ما يستوجب الاجتهاد، كما يتعين على المتأهل إذا لم يوجد غيره، أو خِيف فواتُ الوقت. الاستحباب: وذلك إذا كانت الحاجة قائمة مع وجود غيره من المجتهدين وكان الوقت متسعًا. الكراهة: وذلك إذا كانت المسألة مستبعدة الوقوع؛ لكونه لا نفع فيه، وكذا ما لا تتعلق به مصلحة خاصة ولا عامة، ولأن الصحابة فمن بعدهم تحرَّجوا من هذا النوع ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 200 - 217)، الفقيه والمتفقه، لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، تحقيق: عادل بن يوسف العزازي، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1417 هـ - 1996 م، (1/ 490 - 503). (¬4) المسودة، لآل تيمية، (ص 371)، البحر المحيط، للزركشي، (6/ 206 - 207).

حتى تنزل بالناس حاجة فعليَّة، بل ونَهَوا عن تلك الأغلوطات والاستغراق في الافتراضات البعيدة. الحرمة: وذلك إذا كان في مقابلة نص قاطع أو إجماع صحيح، أو هما معًا، أو صدر من غير أهله، فيحرم الاجتهاد عندئذٍ ويحرم سؤال من لم يكن من أهله؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. الإباحة: إذا كانت الحاجة لم تقم، لكنها متوقعة، وكان الوقت متسعًا، وحيث خلا الاجتهاد عن حكم من الأربعة السابقة فهو مباح. والاجتهاد الشرعي يعمل في مجالات ويمتنع في أخرى، فيمتنع الاجتهاد عند وجود ما دلالاته قطعية من نصوص الكتاب والسنة الصحيحة، وكذا ما أُجمع على حكمه من المسائل، وهذا كما يشمل أصول الدين والعقيدة يتناول مسائل الفقه أيضًا، كإيجاب الفرائض وتحريم الكبائر. ويعمل الاجتهاد عمله عند عدم وجود النقل من الكتاب أو السنة الصحيحة، أو لدى وجود ما دلالاته ظنية وليست بقطعية، أما مع ورود النص القاطع فلا. ذلك أن مرتبة الاجتهاد متأخرة عن الكتاب والسنة والإجماع باتفاق أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم (¬1). فلا يحل لمجتهد أن يجتهد ليعارض نصًّا قطعيًا محكمًا غيرَ منسوخ، فلا اجتهاد مع النص أو لا مساغ للاجتهاد في مورد النص (¬2). ¬

_ (¬1) وقد نقل ذلك أبو عمر يوسف بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1414 هـ - 1994 م، (2/ 848)، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه، (1/ 504 - 510)، وابن القيم في إعلام الموقعين، (1/ 67 - 68). (¬2) شرح القواعد الفقهية، لأحمد الزرقا، دار القلم، دمشق، ط 2، 1409 هـ - 1989 م، (ص 147).

وقد عبَّر الشاطبي -رحمه الله- عن مجال الاجتهاد ومَحالِّه المعتبرة لجريان الاجتهاد المقبول فيها بقوله: "مجال الاجتهاد المعتبر ما تردد بين طرفي النفي والإثبات" (¬1). فهو يسلط الضوء على مسرح الاجتهاد المعتبر من المجتهد المتأهل لذلك بأنه ما لم يظهر فيه مقصود الشارع ظهورًا بينًا في الإثبات أو النفي؛ بل ما تردد بينهما. فأفعال المكلف -سواء أكانت قلبية أم بالجوارح، فعلًا أم كفًّا- لا تخلو من أن يَرِدَ فيها خطاب للشارع أو لا. فإن لم يَرِدْ فيها خطاب للشارع فهي إما فرض غير موجود، وإما أن تحمل على البراءة الأصلية، وهذا يرجع إلى خطاب الشارع بالعفو أو غيره، وفي الحديث: ". . . وترك أشياء من غير نسيان من ربكم ولكن رحمة منه لكم" (¬2). فإن كانت مما ورد فيه خطاب شرعي، وظهر فيه قصد الشارع في النفي أو الإثبات، فهذا قطعي في دلالته، وليس من مَحالِّ الاجتهاد أو مجالاته. فإن لم يظهر فيه قصد مؤكد للشارع في النفي أو الإثبات وكان مترددًا بينهما فهو ظني اجتهادي، ومراتب الظني في النفي أو الإثبات تختلف وتتفاوت شدةً وضعفًا، حتى تنتهي إما إلى العلم في طَرَفٍ، وإما إلى الشك في الطرف الآخر، فما كان من ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 155). (¬2) أخرجه: أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني في "سننه"، تحقيق: مجموعة من المحققين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1424 هـ / 2004 م، كتاب الرضاع، (5/ 325)، والحاكم في "مستدركه"، كتاب الأطعمة، (4/ 115)، وأبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني في "المعجم الكبير"، (22/ 221)، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، ط 2، 1404 هـ - 1983 م، وغيرهم، من حديث أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- مرفوعًا، قال: "إن الله حدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء. . . " فذكره؛ "فاقبلوها ولا تبحثوا فيها". ورُوي موقوفًا عليه، ورُوي نحوه من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-. وصححه الحاكم، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 171)، "رواه الطبراني في "الكبير". . . ورجاله رجال الصحيح" اهـ.

النصوص قطعيًّا في ثبوته ودلالته فلا مجال للاجتهاد فيه، وعليه تتنزل القاعدة الأصولية: "اجتهاد مع النص". أما الأحكام التي تتعلق بنصوص ظنية الثبوت أو الدلالة فيجري فيها الاجتهاد، وكذا ما لم تَرِدْ بشأنه نصوص معلومةٌ للمجتهد. وكما أنه لا محل للاجتهاد في المسائل المنصوصة بنصٍّ قطعيِّ الثبوت والدلالة فلا يجوز أيضًا أن تتحول الظنيات إلى قطعيات! ولا يصلح بحال أن تتحول الاختيارات الفقهية إلى ثوابت منهجية! ومع أهمية التأني والتثبت عند مخالفة المذاهب الأربعة إلا أنه لا حرج على المتأهل أن يجتهد فيخالف؛ فإن أحدًا من علماء المذاهب الأربعة لم يقل: إن اتفاقها حجة شرعية، ولو قالوه لم يعتبر قولهم، لأنهم خالفوا فيه أئمتهم من ناحية، ولأنهم مقلِّدون من ناحية أخرى، والمقلِّد لا يقلَّد (¬1)، أما أئمة المذاهب أنفسهم فقد حذروا من تقليدهم، ولم يدَّعوا لأنفسهم العصمة (¬2). وبناء على ما سبق فإن هذا الأصل تحته صور يسوغ للمجتهد أن ينظر فيها، وهي كما يلي: 1 - أن تكون هذه المسألة مما ليس فيها نص قاطع ولا إجماع. 2 - أن يكون ما ورد فيها من أدلة محتملًا قابلًا للتأويل، أو النصوص فيه متعارضة في الظاهر، وتحتاج إلى جمع أو ترجيح. 3 - أن تكون المسألة مترددة بين طرفين وضح في كل واحد منهما مقصد الشارع في ¬

_ (¬1) يجوز تقليد فتيا المقلد إذا كان قادرًا على نقل الفُتْيَا مضبوطة، ولم يكن سواه في موضع الاستفتاء. البرهان في أصول الفقه، لأبي المعالي عبد اللك بن عبد الله الجويني، تحقيق: د. عبد العظيم الديب، دار الأنصار، القاهرة، (2/ 1353)، المسودة، لآل تيمية، (ص 549 - 550). (¬2) الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، دار القلم، الكويت، ط 3، 1420 هـ - 1999 م، (ص 236).

الإثبات، والنفي في الآخر. 4 - ألا تكون المسألة المجتهَد فيها من مسائل أصول الاعتقاد؛ فإن الخلاف في هذه المسائل لا يسوغ، وينكر فيها على المخالف لعقيدة الصحابة والسلف. وبالجملة فإن من شروط المجتهد والاجتهاد المعتبر أن يتعلق بمَحالِّه، وهذا لا يتأتى إلا بأن يعرف المجتهد مواطن الإجماع والاختلاف. وقد قال قتادة -رحمه الله- (¬1): "من لم يعرف الاختلاف لم يشمَّ أنفه الفقه" (¬2). وعن هشام بن عبيد الله الرازي -رحمه الله- (¬3): "من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه" (¬4). وعن عطاء -رحمه الله- (¬5) قال: "لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالمًا باختلاف الناس؛ فإنه إن لم يكن كذلك ردَّ من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه" (¬6). والأصل أن المجتهد لا ينشئ الأحكام من تلقاء نفسه، وإنما يكشف عنها، ومهمته حراسة الأحكام الشرعية من أن تضيع أو تُبدَّل أو تُحرَّف، وليس له حقُّ التشريع؛ إذ هو ¬

_ (¬1) أبو الخطاب، قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز، السدوسي، البصري، قدوة المفسرين والمحدثين، روى عن أنس ابن مالك، وابن المسيب، وروى عنه الأوزاعي، وأيوب السختياني، ولد سنة سنة 60 هـ، وتوفي سنة 117 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (7/ 133)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 269). (¬2) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (2/ 815). (¬3) هشام بن عبيد الله الرازي، تفقه على أبي يوسف، ومحمد، روى عن مالك، وابن أبي ذئب، وروى عنه أبو حاتم، وأحمد بن الفرات، توفي سنة 221 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (9/ 67)، الجواهر المضية، لمحيي الدين القرشي. (¬4) المرجع السابق، (2/ 816). (¬5) عطاء بن عبد الله بن أبي مسلم، البلخي الخراساني، المحدث، الواعظ، نزيل دمشق والقدس، ولد سنة 50 هـ، وتوفي سنة 135 هـ. التاريخ الكبير، لمحمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق: السيد هاشم الندوي، دار الفكر، (6/ 474)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (6/ 140). (¬6) المرجع السابق، (2/ 816).

الفرع الثالث: حكم الاجتهاد في نوازل الأقليات

حق خالص لله تعالى، "فالحاكم هو من صدر عنه الخطاب، وهو الله تعالى، فهو الذي يشرع الحكم وينشئه، وعمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو تبليغ هذا الحكم إلى الناس، وعمل المجتهدين من بعده هو اقتباس هذا الحكم من الأدلة التي نصبها الشارع لمعرفته" (¬1). الفرع الثالث: حكم الاجتهاد في نوازل الأقليات: الأصل أنه لا تخلو نازلة عن حكم شرعي لله تعالى بالكلية على ما هو مذهب جمهور الأصوليين (¬2). فإن قيل: إن النصوص الشرعية متناهية محصورة، والوقائع والنوازل ليست كذلك؛ فالجواب: أن النصوص تشتمل على أحكام الوقائع والنوازل إمَّا نصًّا أو استنباطًا، ثم إن الأحكام الشرعية تتردد بين طرفين: أحدهما: محصور، والآخر: غير محصور، فإذا كانت المسألة واقعة في القسم المنحصر فبها ونعمت، وإلا رُدَّتْ إلى ما لا ينحصر. ومن أمثلة ذلك: أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما ورد بتحريمه دليل، كما أن الأصل في الأشياء الطهارة إلا ما ورد بنجاسته دليل، فإذا وجدت عين لم يَرِدْ ما يدل على حرمة الانتفاع بها (وهي أشياء محصورة) فالأصل أنها مباحة، فإن وجد دليل يدل على نجاستها (وهي أعيان محصورة) وإلا فهي طاهرة. كما أن النوازل والمستجدات لم تزل منذ عهد الصحابة -رضي الله عنهم- إلى يوم الناس هذا، ودأبُ أهل العلم فيها: بيانُ أحكامها الشرعية اجتهادًا واستنباطًا من النصوص الشرعية، وفي هذا البيان أعظم برهان على اكتمال الدين وصلاحية التشريع لكل زمان ومكان. ¬

_ (¬1) أصول الفقه، د. حسين حامد حسان، (ص 134). (¬2) البرهان، للجويني، (2/ 1348 - 1350)، الموافقات، للشاطبي (4/ 155 - 156)، البحر المحيط، للزركشي، (1/ 164 - 165).

ومع تقرير أن الاجتهاد مشروع بشروطه، وقد يكون فرضًا كفائيًّا أو عينيًّا، إلا أن خلافًا قد جرى بين الأئمة حول حكم الاجتهاد في النوازل المستجدة من كل وجه، والتي لم يسبق فيها قول لإمام، أو يعرف فيها قول لعالم أو حاكم. وجمهور الفقهاء والأصوليين على مشروعية الاجتهاد في هذه النوازل، وتسويد الفتاوي فيها بعد تحريرها وضبطها، وذلك استنادًا للشرع والعقل والواقع، فإن النصوص التي تفتح باب الاجتهاد وتُعَيِّنُ عليه الأجور الكثيرة لا تقيده بسبق اجتهاد فيها، كما أن العقل يقضي بأنه عند نزول النوازل المستجدة من كل وجه لا بد أن يتصدى أرباب العلم والحلم لها، وإلا انساق الناس وراء الهوى، وتعطلت منافع الشريعة الغراء وفُتِحَ باب للطعن في وفائها بحاجات البشر. قال الشاطبي: "الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة؛ ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلا بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصًا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، وعند ذلك فإما أن يترك الناس فيها مع أهوائهم، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهو أيضًا اتباع للهوى، وذلك كله فساد" (¬1). والواقع يقرر وجود مسائل كثيرة غير منصوص على حكمها، ولم يسبق لأهل العلم فيها اجتهاد، ولا يُؤْثَر عنهم فيها شيء، مثل: أطفال الأنابيب، واستئجار الأرحام، والاستنساخ، وأحكام التجنس، والعمل السياسي في غير بلاد الإسلام، وكثير من صور المعاملات المالية المستحدثة ونحوها، ولكل زمان نوازله وأقضيته. فإن قيل: إن الإممام أحمد وغيره من أئمة الحديث نهوا عن القول في النوازل التي ليس للقائل ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 104).

فيها سلف وإمام، كقول أحمد لبعض أصحابه: "إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام" (¬1). فالجواب: أن هذا القول محمول على طلب استفراغ الوسع في معرفة كلام الأئمة والفحص عن أقوالهم قبل الاجتهاد، مع لزوم الورع وخشية الله والتحري قبل الحكم على النازلة، ولا ينبغي أن يحمل هذا على التوقف في البحث عن حكم الله من قبل الفقهاء والمجتهدين؛ إذ الفرض على غير المجتهدين سؤال المجتهدين، والفرض على المجتهدين بذل الوسع والجهد لتحصيل ظن بحكم شرعي، وإذا ضاق الوقت واحتيج إلى العمل فلا بد من النظر والترجيح بشرط التأهل واكتمال الآلة، والإحاطة بجوانب النازلة. ومعلوم أن مجتهدي الحنابلة -فضلًا عن غيرهم- بحثوا مسائل ليس لهم فيها سلف، كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رَحِمَهُمَا اللهُ، ولا مانع إذا بذل المجتهد وسعه في النازلة فلم يظهر له الحق، أو تكافأت لديه الأدلة، وعجز عن الترجيح أن يتوقف وأن يُحيل المسائل إلى من هو أعلم، ولا شك أن هذا يتأكد في النوازل؛ لعدم وجود اجتهاد من المجتهدين، وهو امتثال للنهي عن القول على الله بغير علم، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169]. وقد بوَّب البخاري في الصحيح باب: "ما كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُسْئَل مما لم ينزل عليه الوحي فيقول: لا أدري، أو لم يُجب حتى يتنزل عليه الوحي" (¬2). وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الروح فسكت حتى نزلت الآية (¬3)، ولما استأذن مرثد ¬

_ (¬1) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لعبد القادر بن بدران الدمشقي، تحقيق: د. عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1401 هـ - 1981 م، (ص 119). (¬2) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب، (4/ 366). (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب العلم، باب: قول الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، (125)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب: سؤال اليهود النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح وقوله تعالى: =

بن أبي مرثد النبي - صلى الله عليه وسلم - لينكح امرأة بغيًّا يقال لها: "عناق". أمسك فلم يَرُدَّ عليه شيئًا، حتى نزلت آية النور (¬1). وكان هذا شأن المجتهدين من الصحابة فمن بعدهم إذا سئلوا فلم يعلموا، سئل ابن عمر -رضي الله عنهما- عن مسألة، فقال: لا علم لي بها (¬2)، والأدلة التي توجب على المجتهد سؤال غيره كثيرة معلومة، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ولما سأل شريح بن هانئ (¬3) عائشة -رضي الله عنها- عن المسح على الخفين قالت: ائتِ عليًّا فإنه كان أعلم بذلك مني -زاد في رواية: فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- قال: فسألناه (¬4). وقد ذكر ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم أنهم كانوا يكرهون استعمال الرأي في الوقائع قبل أن تنزل، وتفريع الكلام عليها قبل أن تقع، وعدُّوا ذلك اشتغالًا بما لا ينفع (¬5). ويستدل على هذا بالحديث الذي يرويه وهب بن عمرو أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها فإنكم إن لا تعجلوها قبل نزولها لا ينفك المسلمون وفيهم ¬

_ = {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية، (2794)، من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. (¬1) أخرجه: أبو داود، كتاب النكاح، باب: في قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً}، (2051) -مختصرًا-، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ومن سورة النور، (3177)، والنسائي، كتاب النكاح، باب: تزويج الزانية، (3228)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، ثم قال له - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول الآية: "لا تنكحها". قال الترمذي: "حديث حسن غريب". (¬2) أخرجه: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"، تحقيق: عادل بن يوسف العزازي، دار ابن الجوزي، الدمام، 1417 هـ، (1107)، من حديث نافع. (¬3) أبو المقدام، الحارثي، المذحجي، الكوفي، الفقيه، الرجل الصالح، صاحب علي -رضي الله عنه-، حدث عن أبيه، وعلي، وعمر، وعائشة -رضي الله عنهم-، توفي سنة 78 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (4/ 228)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 107). (¬4) أخرجه: مسلم، كتاب الطهارة، باب: التوقيت في المسح على الخفين، (276)، من حديث القاسم بن مخيمرة عن شريح به. (¬5) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (2/ 1061 - 1067)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 69)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 584 - 588).

إذا هي نزلت من إذا قال وُفِّقَ وسُدِّدَ، وإنكم إن تعجلوها تختلف بكم الأهواء فتأخذوا هكذا وهكذا"، وأشار بين يديه وعلى يمينه وعن شماله (¬1). وهذا الحديث يدل بسياقه على شرطية نزول النازلة ووقوعها، وشرطية أهلية المجتهد لاستنباط حكمها، وهذا ما رجحه عدد من أهل العلم المعتبرين قديمًا وحديثًا (¬2). وبناءً على ما سبق؛ فإن الأقليات المسلمة التي تعيش حالة اغتراب كاملة عن أوطان المسلمين، وفي أزمنة الغربة الثانية للدين، ويفشو في ديارهم الجهل ويقِلُّ العلم، وتُحْكَم بلادهم بقوانين وضعية لا ترقب فيهم إلًّا ولا ذمة، كل هذا في بحر لجيٍّ من الفتن، وتشتد عليهم المسائل النازلة، وتكثر فيهم الحوادث الواقعة، فيحيلونها إلى أهل العلم للاجتهاد، ومن ثم الإفتاء؛ فلا ينبغي التوقف عن بحث مسائلهم والاجتهاد في نوازلهم لخصوصية تلك النوازل من جهة، وخصوصية حال أصحابها من جهة أخرى، ولا يَقِلُّ حكم الاجتهاد في هذه الحالة عن فرض الكفاية، وقد يتعين هذا الفرض على المجتهدين المقيمين في تلك البلاد قبل البعيدين عنها. ¬

_ (¬1) أخرجه: الدارمي، باب: التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، (118). وضعفه الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" (882). ورُوي نحوه من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، ومن مُرسَل أبي سلمة بن عبد الرحمن -رحمه الله-، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري"، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، دار المعرفة، بيروت (مصورة عن ط: المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة - مصر)، (13/ 266): "أخرج أبو داود في "المراسيل"، من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة مرفوعًا، ومن طريق طاوس عن معاذ رفعه. . . " فذكره بنحوه، ثم قال: "وهما مرسلان يقوي بعض (كذا؛ ولعلها: بعضهما) بعضًا". (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 266)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار (4/ 526 - 527)، المدخل إلى فقه النوازل، د. عبد الناصر أبو البصل، (ص 125 - 126)، منهج استنباط النوازل، د. مسفر القحطاني، (ص 134 - 135).

المبحث الثاني أسباب وخصائص نوازل الأقليات المسلمة

المبحث الثاني أسباب وخصائص نوازل الأقليات المسلمة لا شك أن هناك أسبابًا عامة للنوازل في المجتمعات بعامة، كما أن هناك خصوصية للأقليات المسلمة تؤدي إلى وقوع نوازل بسبب وضع تلك الأقليات وظروفها. وفيما يلي بيان لأهم تلك الأسباب: أولًا: الإقامة في غير ديار الإسلام: تقرر عند الفقهاء أن الدار التي لا تعلوها أحكام المسلمين، ولا يحكمها مسلمون لا تكون دار إسلام (¬1)، ووجود المسلم بدار لا تحتكم إلى الإسلام ولا تقيم لشريعته وزنًا يترتب عليه نوازل كثيرة جدًّا، تتعلق بأبواب من الفقه والعقيدة على حدًّ سواء، وتبدأ هذه النوازل من حكم الإقامة المستمرة أو الطارئة، وتمرُّ بمسألة حكم الهجرة والتجنس بجنسية تلك الدول، أو الحصول على حق اللجوء السياسي، وما يترتب على ذلك من خضوع المسلم للحكم بغير شريعة الله، والتحاكم إلى غير ما أنزل الله، وما يترتب على ذلك من تولي الوظائف العامة في تلك الدول، والدخول في طاعة حكامها، ثم ما يترتب على مخالطة غير المسلمين من مسائل تتعلق بالولاء والبراء، وما يرتبط بذلك من أحكام مشاركتهم في احتفالاتهم الدينية، أو التشبه بهم في عاداتهم الدنيوية، وغير ذلك. كما تظهر نوازل فقهية كثيرة تتعلق بأبواب الفقه عامة، مثل: ما يتعلق بالطهارة ¬

_ (¬1) شرح السير الكبير، لشمس الدين محمد بن أحمد السرخسي، تحقيق: محمد حسن إسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1417 هـ - 1997 م، (1/ 90) (5/ 12)، المبدع، لابن مفلح (3/ 313)، تفسير القرطبي، (5/ 394 - 350)، حاشية الدسوقي، (2/ 188).

وأحكامها، والصلاة ومواقيتها في البلاد التي يقل فيها النهار أو الليل بشكل ملحوظ، وحكم أدائها في الطائرات والمركبات الفضائية، وحكم دفن المسلم في غير مقابر المسلمين، وعلى طريقة غير المسلمين، وحكم صيام أهل القطبين، ومن يطول نهارهم أو يقصر جدًّا، وحكم دفع الزكاة لإنشاء الأعمال الإسلامية كالمراكز والجمعيات الخيرية، وحكم دفعها لغير المسلمين، ونحو ذلك، كما يشيع في تلك البلاد التعامل بالربا حتى لا يكاد يُعرف سواه، ويُلزم المقيمون بالتأمين والضرائب الباهظة، وتشيع أنواع من البيوع الفاسدة، والإجارات المحرمة شرعًا المباحة قانونًا، فماذا يفعل المسلم المقيم حيال ذلك كله؟ وإذا احتاج المسلم إلى الزواج من غير مسلمة في تلك الدول فما حكم ذلك؟ وما حكم النكاح المؤقت هناك بغية الحصول على إقامة؟ أو ما حكم إجراء زواج صوري بقصد الحصول على جنسية؟ وهل يشرع أن يُحْتَكَمَ إلى قاضٍ غير مسلم إذا نشب نزاع بين زوجين مسلمين، وهل ينفذ قضاؤه بالتفريق؟ وما مدى ولاية المراكز الإسلامية في ديار غير المسلمين على المسلمين هناك في مسائل الطلاق والتفريق بين الأزواج؟ وكيف تعمل امرأة أسلمت وزوجها على دينه، وإذا لم يوجد مسلم من ذويها فمن يزوجها إذا أرادت الزواج؟ وما حكم التعدد في بلاد يمنع قانونها التعدد؟ وهل يجري التوارث بين مسلم وغيره؟ وماذا يفعل المسلم في أطعمة لا يدري حِلَّها من حرمتها حيث يشيع في طعامهم المحرمات والنجاسات، كما أنهم لا يتقيدون بالشروط الشرعية في الذكاة، إلى آخر هذه النوازل المترتبة على إقامة المسلم في بلاد لا تحكِّم الإسلام، ولا تحتكم إليه؟ ومما يلحق بذلك ويدخل فيه دخولًا أوليًّا: ما وقع في بلادهم -وبلادنا أيضًا- من التوسع في الملذات، من المطاعم والمساكن، والمراكب، والملابس، والانشغال بالملاهي، والاستكثار من ذلك كله، وما يترتب عليه من المخالفات والمعاصي والسيئات، والتي قد يجمعها اسم الفجور، كما قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: تحدث للناس أقضية

ثانيا: التقدم العلمي والتقني

بقدر ما أحدثوا من الفجور (¬1). ثانيًا: التقدم العلمي والتقني: لقد شهد هذا العصر الحديث الثورة الصناعية والتقنية والمعلوماتية الهائلة، والتي ترتب عليها من نوازل الفقه الشيء الكثير، بحيث استفاد الناس في حياتهم من هذه المعطيات فائدة ضخمة، وقد ترتب على ذلك بعض المفاسد والمخالفات، ووقعت مستجدات تنتظر مواكبة الفقه لها وملاحقته إياها بالأحكام الصحيحة والدقيقة، والباحث في المستجدات في العبادات والمعاملات والمسائل الطبية والأسرية والسياسية يجد هذه النوازل بالمئات، ولا شك أن حظ تلك البلاد المتقدمة صناعيًّا من تلك المسائل والنوازل أكبر من غيرها. كما أن وطأة هذه المستجدات أشدُّ على الأقلية المسلمة التي تُشد إلى دينها برباط وثيق تنتظر أحكام الفقهاء في هذه المسائل لتعايش عصرها ولتتقي ربَّها. ثالثًا: الحرب الفكرية والثقافية والعسكرية ضد الإسلام وأهله: لا شك أن الخلفية الفكرية والثقافية لدى مجتمعات الأكثرية عن الإسلام وأهله قد ولَّدت حروبًا ضارية على المستويين الفكري والعسكري، وليس هذا في العصر الحديث فحسب، بل جذوره تمتد إلى الحروب الصليبية قبل نحو ألف عام، كما يقول الأب أربان الثاني مفجر الحروب الصليبية: "أيها الجنود المسيحيُّون. . . اذهبوا وخلِّصوا البلاد المقدسة، من أيدي الأشرار، واذهبوا واغسلوا أيديكم بدماء أولئك المسلمين الكفار" (¬2). ومع أن البون الزمني شاسع بين أربان الثاني، وبنديكت السادس عشر إلا أن المنطق واحد يكاد يتطابق، قال تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} ¬

_ (¬1) المنتقى شرح الموطأ، للباجي، (8/ 64). (¬2) الحروب الصليبية، د. سعيد عاشور، مكتبة الأنجلو المصرية، (ص 16).

رابعا: ضعف أوضاع الأقليات المسلمة

[آل عمران: 118]. إن هذه الحرب الثقافية الفكرية، قد ألقت كثيرًا من الشبهات تتعلق بأصل الدين عند أبناء الأقليات المسلمة، لا سيما أولئك الذين ولدوا في تلك الديار، ولم يروا بلاد المسلمين، ولم يعيشوا فيها وفي ظل الحروب الدمويَّة المعاصرة، والتي تجري رحاها على أرض العراق وأفغانستان والسودان والبوسنة وكوسوفا وغيرها -يأتي السؤال من أبناء تلك الأقليات المسلمة عن حكم الانخراط في المؤسسات العسكرية في ديار المخالفين، وحكم التجنيد الإجباري لديهم وما علاقة ذلك بموالاة الكافرين، ونحو ذلك من نوازل مستجدة. رابعًا: ضعف أوضاع الأقليات المسلمة: إن الإسلام في خارج دياره يكاد يحكم على أهله بأنهم أقلية مستضعفة مطلقًا، فمع أن تعداد المسلمين في الهند يبلغ (200) مليون مسلم إلا أنهم يُعَدُّون أقلية وسط الأغلبية غير المسلمة، فهم أقلية مستضعفة، ومن عجب أيضًا أن المسلمين في جمهورية البوسنة والهرسك يمثلون أكثرية حيث يبلغ تعدادهم خمسة ملايين نسمة، إلا أنهم أقلية من حيث الاستضعاف وحكمهم بأقلية صربية وكرواتية حاكمة لا تدين بالإسلام (¬1). بما يعني وقوع استضعاف حقيقي للمسلمين أكثرية أحيانًا وأقلية في أغلب الأحايين، وهذا الاستضعاف كما يعبر عنه بشكل ما بصورة عددية -وإن كانت غير معبرة- فإنه يعبر عنه بصورة سياسية، بحيث يظهر بجلاء في أحايين كثيرة عزل الأقلية المسلمة -سواء أكانت أقل أم أكثر عددًا- عن حقوقها كما هو الحال في بلادٍ إفريقية كثيرة (مثل: أريتريا وأثيوبيا) حيث تقوم الطوائف المسيحية التي تمثل أقلية عددية بالسيطرة السياسية والاقتصادية ¬

_ (¬1) أوضاع الأقليات والجاليات في العالم، د. مجدي الداغر، (ص 39).

على الاكثرية المسلمة. ويلاحظ أيضًا أن هذا الاستضعاف يتمثل في حرمان الأقلية المسلمة في أحايين كثيرة من التكتُّل جغرافيًّا؛ لما قد يترتب عليه من الاستقواء السياسي، كما وقع في جنوب الفلبين في جبهة تحرير مورو، وتركز أكثر من عشرة ملايين مسلم جنوب تايلاند في "فطاني". ومع هذا الضعف السياسي تنشأ مظاهر أسوأ من الضعف حين يجبر المسلم هناك أن يساهم في ميزانية الكنائس بإعطائها نسبة معينة من ماله، وإجبار أولاده على تعلم غير دينه واحترام غير عقيدته وذلك في المدارس الرسمية العامة (¬1). ومثل هذا الضعف السياسي يفتح بابًا لنوازل كثيرة، مثل: حكم الاشتراك في الأحزاب السياسية في ديار المخالفين، وحكم التحالف مع تلك الأحزاب، وحكم الترشيح والمشاركة في الانتخابات، وما هي المخارج السياسية في تلك البلاد؟ ومع ضعف الأحوال الاقتصادية للمسلمين في تلك الديار تأتي نوازل تتعلق بالاقتراض بالربا لشراء المساكن، وأحكام التأمين، وأنواع من المعاملات المستحدثة، ومن أحكام أخرى تتعلق بالإرث والوصيَّة والوقف بين المسلمين وغيرهم. ومع ضعف العناية بالعلم الشرعي المؤصل من جهة، وضعف التواصل مع ديار الإسلام من جهة أخرى، تتداعى النوازل وتكثر من كل حدب وصوب! ¬

_ (¬1) الأحكام السياسية للأقليات المسلمة في الفقه الإسلامي، لسليمان محمد توبولياك، (ص 37).

المبحث الثالث المقاصد الشرعية لفقه نوازل الأقليات المسلمة

المبحث الثالث المقاصد الشرعية لفقه نوازل الأقليات المسلمة لا شك أن الشريعة جاءت لحِكَم وأسرار، وارتبطت أحكامها بعلل تحقق مصالح العباد في العاجل والآجل، علم ذلك من علمه وجهله من جهله، وقد هدى الله بنور الإيمان والتوفيق إلى ذلك طائفةً من علماء الأمة بحثوا في ذلك وقرروه وأصَّلوه، وبرهنوا عليه باستقراء النصوص والأحكام، وفي مقدمة هؤلاء: الإمام الشاطبي الذي اهتم بإثبات مقاصدها وإظهارها بالبرهان القاطع، واهتم آخرون بتعريفها من أمثال: محمد الطاهر ابن عاشور، وعلال الفاسي، فيقول الأخير معرِّفًا المقاصدَ تعريفًا موجزًا: "المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها" (¬1). ويقول أيضًا في موضع آخر: "المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعيش فيها، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها، وتدبير لمنافع الجميع" (¬2). وأما الدكتور الريسوني فيعرفها بأنها: "الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد" (¬3). ¬

_ (¬1) مقاصد الشريعة ومكارمها، لعلال الفاسي، (ص 7). (¬2) مقاصد الشريعة ومكارمها، لعلال الفاسي، (ص 45 - 46). (¬3) نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، لأحمد الريسوني، الدار العالمية للكتاب الإسلامي، ط 2، 1412 هـ - 1992 م، (ص 7).

ويتوقف نيلُ المرء درجةَ الاجتهاد عند الإمام الشاطبي على ضرورة فهم مقاصد الشريعة على كمالها، وفي ذلك يقول: "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها" (¬1). وإنما كان فهم المقاصد ضروريًّا لممارسة الاجتهاد؛ ذلك لأن معظم الزلات والانحرافات التي عرفها تاريخنا الإسلامي كانت ناتجة عن ابتعاد الناس عن ربط الأحكام بمقاصدها، وضعف إدراكهم الأسرار الإلهية لمختلف الأحكام الشرعية، مما أورث فهمًا معوجًّا لمعاني نصوص الكتاب والسنة، وتنزيلًا كليلًا في الواقعات المختلفة. "وإذا كان من المتفق عليه عند أهل العلم بالأصول والفقه أن كل حكم شرعي ينتظم أمورًا ثلاثة؛ هي: الوصف الظاهر المنضبط (العلة) (¬2)، وما في الفعل من نفع أو ضرر (المصلحة)، وما يترتب على الفعل من جلب منفعة أو درء مفسدة (المقاصد)؛ فإن مقتضى هذا الخلوصُ إلى تقرير القول بأن المقاصد تمثل الغاية من التشريع، ويتوقف على حسن إدراكها الاعتداد بمدى مشروعية حكمٍ من عدمه، بل إن هذا يؤكد أن مشروعية التصرفات امتثالًا وامتناعًا تُستمد من مدى ما تتضمنه من جلبٍ للمنفعة أو درء للمفسدة، وبتعبير آخر: يعدُّ التصرف مشروعًا إذا تضمَّن جلبًا للمنفعة أو درءًا للمفسدة، ولا يكون مشروعًا إذا لم يتضمن أحد هذين الأمرين" (¬3). وقد انتهى علماء المقاصد والأصول إلى أن المصالح الشرعية التي يسعى الشارع إلى إيجادها هي الضروريات والحاجيات والتحسينيات، كما سبقت الإشارة إليها. ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 105 - 106). (¬2) يستثنى من ذلك الأحكام التعبدية غير المعقولة المعنى، وما لم يوقف له على وصف ظاهر منضبط يصلح أن يناط به الحكم، وإنما عُرفت له حكمة أو نحوها. (¬3) نحو منهجية رشيدة للتعامل مع مسائل الأقليات المسلمة، د. قطب مصطفى سانو، (ص 23 - 24/ صورة ضوئية)، ضمن بحوث مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي، الدورة السادسة عشرة، (9 - 14/ 4/ 2005 م)، دبي - الإمارات.

أولا: إقامة الدين بين الأقليات المسلمة

وفيما يلي بيان لأهم المقاصد التي يُبنَى عليها فقه النوازل للأقليات المسلمة: أولًا: إقامة الدين بين الأقليات المسلمة: وهذا هو المقصد الأعظم لهذا الفقه، ألا وهو المحافظة على الحياة الدينية للأقليات المسلمة على مستوى الفرد والجماعة (¬1). قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} [الروم: 43]، وقال تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. فلا بد من إقامة الدين، وترك التفرُّق فيه، وإقامة الدين تتضمَّن إقامةَ الضرورات والحاجات ورعاية التحسينيات. فلا مناص من تمكين هذه الأقليات من إقامة شعائر دينها والحفاظ على أصول عقيدتها، وجوهر شخصيتها المسلمة، سواء في ذلك الأفراد أو الجماعات، الرجال أو النساء، وسواء في ذلك الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162]. والأمر بإقامة الدين كما هو للأقليات فهو للأكثريات، لكن ربما كانت مقتضيات الإقامة والحفظ غير المقتضيات، وهو ما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في هذا الأصل الموجه لمقاصد فقه الأقليات (¬2). ولا شك أن منهج إقامة الدين في حياة الأقليات يجب أن يخضع لعلم واسع بالشرعيات وفقه مدقق في حال وواقع الأقليات، حتى تمارس الأقليات حقوقها الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية دون ضغط أو تنازلات. ¬

_ (¬1) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، د. عبد الله ابن الشيخ المحفوظ ابن بيَّه، دار المنهاج، جدة، ط 1، 1428 هـ - 2007 م، (ص 168). (¬2) نحو منهج أصولي لفقه الأقليات، د. عبد المجيد النجار، (ص 51 - 52).

ثانيا: تبليغ رسالة الإسلام والدعوة إلى الله

ثانيًا: تبليغ رسالة الإسلام والدعوة إلى الله: من مقاصد هذا الدين في كل زمان ومكان دعوة الخلق إلى دين الحق، كما قال تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [الحج: 67]. وقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. وقال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 14]. والدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا به (¬1). والمسلم الذي يقيم بين ظهراني غير المسلمين عليه أن يتحمل تبعة هذه الإقامة، وينهض بمسئولياتها، وإذا كانت تلك الديار قد مهَّدت سبيل الإقامة فيها والتحرك داخلها للدعاة؛ لم يعد هناك عذر للتقاعد عن هذا الواجب العظيم، وهو من أعظم أنواع الجهاد. "ولما تعطل الجهاد بالسيف، ونشر كلمة التوحيد بالقوة وَجَبَ ألا يتعطل الجهاد باللسان، والتبليغ بالبيان والتعليم، وذلك لا يكون ولا يمكن إلا بالإقامة بينهم،. . . وهذا وحده كافٍ للمسلم في الترغيب في الإقامة في أوربا وأمريكا وغيرهما من بلاد الكفر، وهي أفضل له من الإقامة ببلاد المسلمين، كما قال الماوردي -رحمه الله- (¬2): وهذا معلوم في شريعتنا وديننا لا يحتاج إلى تقرير، بل ما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ليدعو إلى دين الله تعالى وطاعته، وأمر أمته بذلك أيضًا، وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن هذا الدين سيظهر ولا يبقى بيت حجر ولا مدر إلا دخله. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (15/ 157). (¬2) أبو الحسن، علي بن محمد بن حبيب، البصري، الماوردي، الشافعي، صاحب التصانيف، منها: الإقناع، والحاوي، والأحكام السلطانية، ولد سنة 370 هـ، وتوفي سنة 450 هـ، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (18/ 64) وطبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (5/ 267).

وقد بدأ يظهر الآن مصداق هذا الحديث بسبب العمل الذي يقوم به المسلمون المقيمون في أوربا وأمريكا من الدعوة إلى دين الله تعالى، وتعريف الكفار بكلمة التوحيد الواجب على العبيد" (¬1). والمؤمن حين يقيم داعيًا إلى الله تعالى يعلم أنه مأمور بذلك ومكلف به من الله؛ فليس له أن يتخلَّف عن هذا الواجب، وليس له أن يقرَّ باطلًا أو يقرن الإسلام بغيره، أو أن يحاول التوفيق بين الإسلام والمناهج الباطلة، وليذكر دائما قول الله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13]. "ويمكن توظيف هذا المقصد في حسم الخلاف في جواز إقامة مثل هذه الأقليات ببلاد الكفر، ومن ثم توظيفه في التماس الرخص والسهولة واللين لهذه الأقليات، ما دامت تضطلع بهذه المهمة النبيلة وتخدم هذا المقصد الشرعي" (¬2). كما يتعين أن تتضمن دعوة الناس إلى الإسلام ترغيبًا يؤكد بمؤكدات عملية متعددة، منها: 1 - إن الإسلام يقيم علاقاته بالناس على أساس من الدعوة والتبشير بالحق، وليست هذه خصوصية عداء لشرق أو غرب، ولا موالاة لشرق دون غرب، وإنما ذلك يرد إلى الإيمان بالله ورسله؛ فالمؤمنون على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم أولياء بعض. 2 - الفتح الإسلامي لا يصح ولا يصلح إلا بعد أن تقام الدعوة على وجهها، ولن تنسى ذاكرة التاريخ ما وقع في فتح سمرقند حين دخل القائد البلد فتحًا بغير دعوة ¬

_ (¬1) حكم الإقامة ببلاد الكفار، لعبد العزيز بن الصديق الغماري، يبطنجة في المغرب، ط 2، 1416 هـ - 1996 م، (ص 42 - 43). (¬2) التنظير والتأصيل لفقه الأقليات الإسلامية، أ. محمد المختار ولد امباله، مقال بمجلة الأحمدية، العدد السابع عشر، جمادى الأولى، 1425 هـ، (ص 69).

فاستعدى أهلُها عمرَ بن عبد العزيز، فأمر قاضيَهُ أن ينصفهم فحكم ببطلان الفتح، وأمر بإخراج الجيوش الفاتحة خارج سمرقند، حتى يُدْعَى أهلُها إلى الإسلام أولًا، وبالفعل خرجت الجيوش، وكان هذا سببًا في إسلام أهلها. 3 - ومن المرغِّبات: موعدة الكافر بمغفرة ذنوبه إذا أسلم؛ لأن "الإسلام يهدم ما كان قبله" (¬1)، وعلى هذا فقد اتفق العلماء على قبول توبة الكافر. 4 - ومنها أيضًا: إقراره على نكاحه إذا أسلم، من غير نظر في صحة عقوده السابقة، وإقراره على ما بيده من أموال وإن كان قد حصل عليها من طريق محرمة؛ لأن "الإسلام يهدم ما كان قبله". 5 - إخباره بأن في الإسلام سهمًا مِن الزكاة للمؤلفة قلوبهم، وإن كانوا أغنياء. 6 - إقراره على الدخول في الإسلام ولو على شرط فاسد يشترطه، "وقال الإمام أحمد: يصح الإسلام على الشرط الفاسد، ثم يُلْزَمُ بشرائع الإسلام كلها، ومما استدل به على ذلك حديث: حكيم بن حزام في المسند: "بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا أخِرَّ إلا قائمًا" (¬2)، قال أحمد: معناه أن يسجد من غير ركوع" (¬3)، ونحو هذا مما يرغب في الدخول في الإسلام ويمهد السبيل لذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه: مسلم، كتاب الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، (121)، من حديث عمرو ابن العاص -رضي الله عنه-، في سياق حكاية قصة إسلامه وهو على فراش الموت. (¬2) أخرجه: النسائي، كتاب التطبيق، باب: كيف يخر للسجود، (1084)، وفي "سننه الكبرى"، تحقيق: د. عبد الغفار سليمان البنداري وسيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411 هـ / 1991 م، كتاب التطبيق، باب: كيف يخر للسجود، (671)، والإمام أحمد في "مسنده" (3/ 402)، وغيرهما. وصحح إسنادَه الشيخ الألبانيُّ في "صحيح سنن النسائي"، مكتبة المعارف، الرياض، ط 1، 1419 هـ / 1998 م، (1083). (¬3) جامع العلوم والحكم، في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم، للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد ابن عبد الرحمن الشهير بابن رجب الحنبلي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 3، 1412 هـ - 1991 م، (1/ 229)، بتصرف يسير.

ثالثا: التيسير ورفع الحرج

وهذا على كل حال لا يتضمن إقرارًا لهم على باطل، وحسبنا أن يقال لهم: قال الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] (¬1). كما لا يتضمن القيام بواجب الدعوة عدوانًا على أحد، أو اعتداءً على حرمة، بل البر والقسط هو أساس العلاقة بين المسلم والمسالم من غير المسلمين، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. ثالثًا: التيسير ورفع الحرج: التيسير ورفع الحرج مقصد أساس من مقاصد الشريعة الإسلامية، ذلك أن الشريعة المطهرة نفت عن المكلَّف العسر والمشقة بنصوصها وقواعدها ومقاصدها. قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. بل إن ابن القيم يسجل ملحوظة دقيقة حين ينبه إلى أن الله تعالى ما سمى شريعته تكليفًا إلا في سياق نفي المشقة عن العباد، كقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. وفي الحديث: "إن الدين يسر. . . " (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا ¬

_ (¬1) التعامل مع مجتمع غير مسلم من خلال الانتماء الصادق إلى الإسلام، د. عدنان علي النحوي، ط 1، 1417 هـ, دار النحوي للنشر والتوزيع، الرياض، (ص 179). (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب الإيمان، باب: الدين يسر، (39)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

تنفروا" (¬1). ومن مقاصد هذا الفقه الخاص بالأقليات: تيسير حياتها بإسلامها، ونفي الحرج عنها، ووضع الحلول العملية لمشكلاتها. مظاهر التيسير ومجالاته: لقد تعددت مظاهر التيسير في الشريعة الإسلامية، وتنوعت مجالاته، حتى صارت قاعدة: "المشقة تجلب التيسير" (¬2) من القواعد التي تدخل كل أبواب الدين، وهذا بيان موجز لمظاهر التيسير ومجالاته: 1 - الرخص التي وضعها الله تعالى لأهل الأعذار: فبرغم أن الفرائض والواجبات جاءت من عند الله سهلة هينة، لا شدة فيها ولا آصار، إلا أن الحق تعالى -برحمته- جعل لأهل الأعذار رخصًا ترفع عنهم الحرج، وتميط عنهم العنت، فالمريض الذي لا يقدر على الصوم له أن يفطر ويقضي، وللمسافر أيضًا أن يقصر الصلاة الرباعية، وأن يجمع بين الصلاتين تقديمًا أو تأخيرًا، ومن لم يستطع أن يصلي قائمًا صلى قاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنبه ووجهه للقبلة، أو مستلقيًا على ظهره ورجلاه للقبلة، ومن افتقد الماء أو لم يقدر على استعماله فله أن يتيمم ويجزئه ذلك عن الوضوء وعن الغسل أيضًا؛ فيستبيح به الصلاة حتى يجد الماء أو يقدر على استعماله، والأعمى والأعرج والمريض لا حرج عليهم في التخلف عن الجهاد بنص القرآن، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]. ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب العلم، باب: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، (69)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب: في الأمر بالتيسير وترك التنفير، (1734) -وعنده: "وسكنوا" بدل "وبشروا"-، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-. (¬2) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 76)، والمنثور في القواعد الفقهية، للزركشي، (3/ 169).

2 - إباحة المحظور عند الاضطرار: يقول الله -عز وجل-: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]، ويقول سبحانه: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145]. فقد دلت هاتان الآيتان على القاعدة التي قررها العلماء، وهي قاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات" (¬1). وهي قاعدة مجالاتها ممتدة لتشمل التكاليف كافة، وكذلك قاعدة: "لا واجب مع العجز، ولا حرام مع الضرورة" (¬2). 3 - أن الله تعالى رفع عن المكلفين الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه: قال تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وقال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬3). 4 - العذر بالجهل في كل ما ليس معلومًا من الدين بالضرورة: فكل من جهل حكمًا ليس معلومًا من دين الله بالضرورة يعذر بجهله لهذا الحكم؛ وذلك لأنَّ الله تعالى لا يجازي أحدًا حتى يقيم عليه الحجة الرسالية، قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. ¬

_ (¬1) انظر: الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 84)، والمنثور في القواعد الفقهية، للزركشي، (2/ 317). (¬2) تلقيح الأفهام العلية، لوليد بن راشد السعيدان، (1/ 49). (¬3) أخرجه: ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي، (2045)، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الخلع والطلاق، باب: ما جاء في طلاق المكره، (7/ 356)، وغيرهما، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. وصححه ابن حبان (16/ 202)، والحاكم (2/ 198)، وغيرهما. وفي الباب: عن أبي ذر، وابن عمر، وثوبان، وعقبة بن عامر -رضي الله عنهم-.

رابعا: التأصيل لفقه الجماعة في حياة الأقلية

أما مجالات التيسير فهي كل ما خرج عن دائرة الثوابت القطعيات والمحكمات، فأغلب مسائل الاعتقاد، وأصول الفرائض، وأصول المحرمات، وأصول الفضائل والأخلاق، وغير ذلك -يعد من الثوابت المجمع عليها، والتي لا يصح أن يطرأ عليها التغيير؛ لذلك لا يعتريها التيسير، إنما التيسير يكون في موارد الاجتهاد، وما يمكن أن يطلق عليه مصطلح "المتغيرات". ومجال المتغيرات: الأمور الاجتهادية والأحكام التي ارتبط مناط الحكم فيها بالزمان والمكان والأحوال والعوائد، بما يحقق المصلحة الشرعية، والحِكَم المرعية، وكذا حال المستفتي قوةً وضعفًا، والقرائن المصاحبة للواقعة، قال ابن القيم: "الأحكام نوعان؛ نوع: لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة والأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المُقَدَّرة على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه، والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالًا كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها؛ فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة" (¬1). فما كان من الأحكام من النوع الأول -الذي لا يتغير- فهو خارج عن مجال التيسير قطعًا، وما كان من الأحكام من النوع الثاني -المتغير- فهو من مجالات التيسير إذا توافر الدليل. رابعًا: التأصيل لفقه الجماعة في حياة الأقلية: إن من أهم مقاصد فقه نوازل الأقليات المسلمة هو أنه يسعى لترسيخ معنى الجماعة في حياة الأقلية، سواء في ذلك ما يتعلق بعباداتهم أو معاملاتهم أو علاقاتهم الداخلية أو الخارجية مع مجتمع الاكثرية، فالقضية لا تقف عند حدِّ الإجابة على سؤال أو أسئلة لدى ¬

_ (¬1) إغاثة اللهفان، من مصائد الشيطان، لمحمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، ط 2، 1395 هـ - 1975 م، (1/ 330، 331).

المسلم المغترب أو المقيم في بلاد غير المسلمين حولَ عبادة أو معاملة، وإنما هي محاولة لمعاونة هذه الأقلية على التحرك كمجموعة منظمة، تتسم بالمرونة والانفتاح المنضبط، دون عائق داخلي؛ وذلك ليتحقق حضورها وشهودها في الواقع الخارجي، وتعاملها مع الآخر بشكل إيجابي، يعطي إيجابية المحافظة وإيجابية الانفتاح بلا سلبيات، ويُحقق المعادلة الصعبة التي تقوم على الحفاظ على الهوية المسلمة للفرد والجماعة، مع الحرص على التواصل مع المجتمع والتأثير الإيجابي فيه. ومما تجدر ملاحظته أنه قد تقع للجماعة المسلمة حاجات وضرورات كما تقع للأفراد. "وأعتقد أن من المهم واللازم للفقيه لتكون فتواه عن بينة أن يهتم بالجماعة وضروراتها وحاجاتها المادية والمعنوية، الآنية والمستقبلية، وألا يغفل تأثير هذه الضرورات والحاجات في سير الجماعة وقوتها الاقتصادية، وتماسكها الاجتماعي، وسلوكها الأخلاقي، وتقدمها العلمي والثقافي، وقبل ذلك: هويتها الإيمانية" (¬1). ولا شك أن الجماعة في تلك المجتمعات هي الرحمة لهذه الأقليات في هجير الحياة التي لا تحكم بالإسلام، فهي تحيط بأفرادها؛ تعين ضعيفهم، وتشد من أزرهم، وتحقق معاني التكافل والكفاية. كما أن تقوية شأن الجماعة وتقوية شوكتها في بلاد الأقليات يعين على إبراز وإفراز أهل الحل والعقد لمجتمع الأقلية؛ وهم الذين تناط بهم واجبات الإمام عند فقده أو غيابه، ولا شك أن في نصوص الشرع المطهر ومقاصده ما يدل على أهمية هذا الفقه الجماعي بدءًا من الصلاة والصيام والحج، وانتهاءً بالجهاد، وإقامة الحدود وغير ذلك. والعناية بهذا الفقه الجماعي يثمر قواعد ينشأ عنها فلاح الجماعة الإسلامية في واقع ¬

_ (¬1) في فقه الأقليات الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، (ص 47).

خامسا: تجاوز فقه الترخيص إلى فقه العزائم

اغترابها خارج الوطن الإسلامي. (¬1). خامسًا: تجاوز فقه الترخيص إلى فقه العزائم: الأصل في الوجود الإسلامي خارج دياره أنه طارئ مؤقت بحاجات لا تلبث أن تزول، فيعود الأمر إلى نصابه، ويرجع المغترب إلى بلاده، كما كان الأصل السابق أن الإفتاء لأولئك المغتربين إنما هو فتيا لأفراد قليلين مبعثرين ومستضعفين. وما فتئ الزمان يدور حتى تغير الحال، فزالت تلك الحاجات وبقيت الأقليات في تلك البلاد لم تبرحها، ووجد من أهلها الأصليين من دخل في دين المسلمين، ولم يرغب عن بلاده وموطنه، وتكاثر الناس في جماعات وطوائف، وانتقل وجودهم من عارض طارئ وفردي إلى ثابت مستقرٍّ وجماعي. ولم يكن بدٌّ من تغير الفتيا بتغير الظروف والأحوال، واستقواء المستضعفين بأنواع منوعة من أسباب القوة المادية والمعنوية، فبدأ الفقه يتجاوز مرحلة الظروف الطارئة والاستثنائية في حياة الأقليات الإسلامية، وينتقل عبر مرحلة انتقالية إلى فقه يقوم على القواعد والأصول الأساسية، وينشئ بها فقهًا تأسيسيًّا على المستقر الثابت من الأحكام، ولتبقى دائرة الأحكام والفتيا في الأمور الطارئة والاستثنائية في تقلُّص دائم، وتراجع مستمر. وإذا كان المفتون في مرحلة سابقة أفرادًا مشتتين فقد غَدَوا منتظمين في مجامع فقهية، ومجالس علمية، تعنى بالشأن الفقهي الخاص بالأقليات ولا سيما في بلاد الغرب أوروبا وأمريكا. وإذا كانت السمة الغالبة على فقه المرحلة السابقة هو فقه الرخصة المبيحة، وفقه الضرورة الملجئة، والحاجة التي تنزل منزلة الضرورة؛ فإن فقه العزائم ينبغي أن يحلَّ في محله وأن يأخذ مكانه باستحداث أوضاع قارَّة، وأحوال تتمكن فيها الأقليات من ممارسة إسلامها ومتابعة أحكامها بشكل صحيح ومستقرٍّ. ¬

_ (¬1) نحو منهج أصولي لفقه الأقليات، د. عبد المجيد النجار، (ص 54 - 55).

"فإذا أفتى -مثلًا- على سبيل الترخيص بجواز القرض بالفائض من أجل شراء البيوت فإن ذلك يجب أن يكون استثناءً مقترنًا بوجوب أن يسعى المسلمون سعيًا حثيثًا إلى استحداث المؤسسات التي تُقرض على أساس غير ربوي" (¬1). ولا شك أن النظر في مآلات استمرار الفتيا على نحو من هذا الترخيص سيفضي إلى مآلات لا تحمد عقباها. وإذا كانت الجاليات غير المسلمة التي تعيش في تلك البلاد قد فرضت احترامًا لعقائدها ومقدساتها وأحكامها فإن على الطائفة المسلمة في تلك الديار أن تحقق مكتسباتها وأن تحرز انتصاراتها، ولا يسوغ أبدًا أن تستنيم لفقه ترخيصي أو تسويغي شدت إليه حاجة ملحة أو ضرورة ملجئة. ولا شك أنه مما يعين على تحقيق هذا المقصد المهم في حياة الأقليات: السعي إلى تكوين المؤسسات وتدشين الجهات والهيئات التي ترعى الأقليات في تلك البلاد وفي بلاد الإسلام على حد سواء. ووضع تصور واضح المعالم لمستقبل تلك الأقليات المسلمة في ديار غربتها؛ ليفضي بها إلى دفع غربتها في دينها وفي مجتمعاتها. وهذا إنما يمكن رسم معالمه وإنضاج شكله المستقبلي من خلال بحوث علمية ومداخلات فقهية استشرافية، وتأصيل منهجي، ومشاركة حضارية يثبت للمسلمين حقهم في الريادة والقيادة، واستحقاقهم للمشاركة في تنمية وهداية تلك المجتمعات. ¬

_ (¬1) فقه الأقليات بين فقه الترخيص وفقه التأسيس - المجلس الأوروبي للإفتاء أنموذجيًّا، د. عبد المجيد النجار، (ص 18).

الفصل الثالث الأصول والقواعد الحاكمة لفقه نوازل الأقليات

الفَصل الثَالِثُ الأصول والقواعد الحاكمة لفقه نوازل الأقليات المبحث الأول: القواعد الأصولية والمقاصدية والفقهية والفرق بينها. المبحث الثاني: القواعد المتعلقة بالاجتهاد. المبحث الثالث: القواعد المتعلقة بالرخص والمشقات. المبحث الرابع: القواعد المتعلقة بالضرورات والحاجات. المبحث الخامس: القواعد المتعلقة بالمقاصد. المبحث السادس: القواعد المتعلقة بالتعارض والترجيح بين المصالح والمفاسد. المبحث السابع: القواعد المتعلقة بالمآلات. المبحث الثامن: القواعد المتعلقة بالعرف. المبحث التاسع: القواعد المتعلقة بالولاية والسياسة الشرعية.

تَمْهيد لا اختلاف على أنه من النوازل المعاصرة وجود أقليات مسلمة تقيم بصفة دائمة ومستمرة في بلاد لا تدين بالإسلام، ولا تعترف بسلطانه، وهذه حالة لم تكن معروفة من قبل، وما عرف منها في النادر الشاذ لم يكن بهذا الحجم ولا بهذا الشكل، وقد أصبحت هذه الأقليات تمثِّل وجودًا مهمًّا للإسلام في غير بلاده ودياره؛ إذ بممارستها لشعائر الإسلام تنتشر الدعوة الإسلامية، ويزداد دخول الناس في دين الله، وتتضح الصورة الحقيقيَّة للإسلام بما فيه من عدالة ورحمة وسعة، بل وأصبح يراود المسلمين في السنوات الأخيرة شعورٌ بالأمل في أن يكون لهذه الأقليات حضور فاعل أكبر وتأثير أكبر على مستوى القرارات العالمية؛ لينعكس ذلك إيجابيًّا على الإسلام وأهله. وغير خافٍ أن هذه الكيانات المسلمة تُعاني مشاكل كثيرة، تطرح بسببها أسئلة فقهيَّة كبيرة نابعة من واقعها الحضاري المعقد، ووضعها الاستثنائي في إطار مجتمع له تشريعاته وقوانينه التي لا تمتُّ إلى الإسلام بصلة، وهذه الأسئلة كثيرة ومتنوعة؛ بعضها يتعلق بالمعاملات المالية حيث يسود التعامل بالربا ويشرع، ويؤاجِر المسلم نفسه للكافر فيعمل معه في محلات تقدَّم فيها الأطعمة والأشربة المحرمة، وبعضها يتعلق بالأحوال الشخصية حيث قد يسلم أحد الزوجين وييقى الآخر كافرًا، إلى غير ذلك، وبعضها يتعلق بالمرجعية عند التنازع والخصام حيث تنفرد القوانين والمحاكم الوضعية بالمرجعية، فماذا يفعل هؤلاء المسلمون المستضعفون؟ "لو أن هذا الوضع حدث في طور ازدهار الاجتهاد الفقهي وتعدد المجتهدين وقدرتهم على الاستنباط من الكتاب والسنة وتأصيل الأحكام وتعليلها، لوجد الحلول المناسبة والإجابات الشافية، لكن مع الأسف حدث هذا الوضع في عصر الجمود والتقليد وضعف الاجتهاد وقلة أهله، فأصبح عبئًا ثقيلًا على الفقه الإسلامي؛ إذ لا تمكن معالجته من خلال تراثنا الفقهي، وإنما تمكن معالجته من أصول هذا الفقه وقواعده

ومقاصد الشريعة وأدلتها العامة، إذا وجد من يصلح لأن ينظر في ذلك ويستثمره" (¬1). ولا يخفى أن "أوضاع الأقلية المسلمة في ديار غير المسلمين يمكن أن توصف بأنها أوضاعُ ضرورةٍ بالمعنى العام للضرورة، الذي يشمل الحاجة والضرورة بالمعنى الخاص" (¬2). ومما ينبغي التنبه له: أنه قد ذهب بعض المعاصرين إلى القول بأن هذا الفقه هو فقه جديد في مأخذه وتأصيله حيثما يقول أحد الباحثين: "وعلى كل حال فإن واقع هذه الأقليات الإسلامية -التي نرجو لها أن تكون أكثريات في القريب العاجل- لا بد أن ينظر بعين الاعتبار؛ إذ لا يمكن أن تعامل بما تعامل به المجتمعات التي تعيش في ظل دول إسلامية، وفي وطن إسلامي، مما يستدعي منَّا أن ننتج فقهًا جديدًا يُدعَى (فقه الأقليات الإسلامية) " (¬3). ويقول باحث آخر: "والحق أن مشكلات الأقليات المسلمة لا يمكن أن تواجه إلا باجتهاد جديد، ينطلق من كليات القرآن الكريم، وغاياته، وقيمه العُليا، ومقاصد شريعته، ومنهاجه القويم، ويستنير بما صحَّ من سنة وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تطبيقاته للقرآن وتنزيله لقِيَمِه وكلياته في واقع عصر النبوة؛ وذلك لبلورة منهجية التأسي بالنبي الخاتم - صلى الله عليه وسلم -، وجَعْلِ سنته محجةً بيضاءَ يستطيع المتقون التأسي بها واتباع منهجها في كل عصرٍ ومصر" (¬4). ويزيد الأمر وضوحًا فيقول: "أما الفقه الموروث في مجال التنظير لعلاقة المسلمين بغيرهم فهو -على ثرائه وتنوعه وغناه وتشعبه- قد ارتبط أغلبه بالواقع التاريخي الذي أُنتج فيه، وصار جزءًا من ذلك الواقع بحيث يتعذر تطبيق جزئياته على أي واقع آخر ¬

_ (¬1) التنظير والتأصيل لفقه الأقليات الإسلامية، أ. محمد المختار ولد امباله، (ص 66). (¬2) صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 165). (¬3) التنظير والتأصيل لفقه الأقليات الإسلامية، لمحمد المختار ولد امباله، (ص 66). (¬4) في فقه الأقليات المسلمة، د. طه جابر العلواني، دار نهضة مصر، ط 1، 2000 م، (ص 11).

مغاير لذلك الواقع التاريخي نوعيًّا؛ ولذلك فلا بد من اعتباره سوابق فقهية يتم النظر فيها واستيعابها والعمل على تجاوزها بعد أخذ الدرس منها، والبناء على الأصول التي ساعدت فقهاء الأمة في الماضي على إنتاج ما أنتجوا. . . " (¬1). وبكل وضوح فإن هذا الاتجاه لا يخلو من مخاطرة أو مجازفة؛ ولهذا يرد فضيلة الدكتور عبد الله بن بيَّه على هذا الاتجاه فيقول: "ولا يعني ذلك إحداث فقه جديد خارج إطار الفقه الإسلامي ومرجعيته الكتاب والسنة، وما ينبني عليهما من الأدلة؛ كالإجماع، والقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، والعرف، والاستصحاب، إلى آخر قائمة الأدلة التي اعتمدها الأئمة في أقوالهم وآرائهم العديدة والمتنوعة والتي تمثل ثراءً وسعةً، فقضايا الأقليات قديمة بالجنس حديثة بالنوع" (¬2). ويشير فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي إلى هذه المسألة بقوله: "إن (فقه الأقليات) المنشود لا يخرج عن كونه جزءًا من الفقه العام، ولكنه فقه له خصوصيته، وموضوعه، ومشكلاته المتميزة، وإن لم يعرفه فقهاؤنا السابقون بعنوان يميزه" (¬3). ثم يقول: "فلماذا لا يكون عندنا (فقه الأقليات) كي يهتم بعلاج مشكلاتهم، والإجابة عن تساؤلاتهم، وإن كانت كل هذه الأنواع من الفقه لها جذور في فقهنا الإسلامي، ولكنها غير منظَّمة، وهي مجملة غير مفصَّلة، ناقصة غير مكتملة، مناسبة لعصرها وبيئتها؛ لأن هذه طبيعة الفقه، ولا يتصور من فقه عصر مضى أن يعالج قضايا عصر لم تنشأ عنده، ولم يخطر ببال أهله حدوثها" (¬4). وهذا كله يؤكد بجلاء على أهمية العناية بالتأصيل والتنظير لهذا الفقه ووضع ¬

_ (¬1) المصدر السابق، (ص 11). (¬2) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، د. عبد الله بن بيه، (ص 165). (¬3) في فقه الأقليات المسلمة، د. يوسف القرضاوي، (ص 32). (¬4) المصدر السابق، (ص 32).

قواعده وتأسيس بنيانه، مع رعاية الأصول الشرعية الحاكمة، والقواعد الضابطة لاستنباط الأحكام بشكل عام. وفي محاولة لتأصيل فقه النوازل للأقليات المسلمة يقول فضيلة الدكتور ابن بيَّه: "فقه الأقليات كسائر فروع الفقه، يرجع إلى مصدري الشريعة: الكتاب والسنة، إلا أنه عند التفصيل يرجع: أولًا: إلى كلِّيات الشريعة القاضية برفع الحرج، وتنزيل أحكام الحاجات على أحكام الضرورات، واعتبار عموم البلوى في العبادات والمعاملات، وتنزيل حكم تغير المكان على حكم تغير الزمان، ودرء المفاسد، وارتكاب أخف الضرين وأضعف الشَّرَّين، مما يسميه البعض فقه الموازنات والمصالح المعتبرة والمرسلة دون الملغاة. فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، كما يقول ابن القيم في إعلام الموقعين (¬1). وهي كليات شهدت الشريعة باعتبار جنسها فيما لا يحصر ولا يحصى من النصوص. ثانيًا: يرجع فقه الأقليات إلى نصوص جزئية تنطبق على قضايا وموضوعات ماثلة في ديار الأقليات، وتشاركهم في حكمها الأكثريات المسلمة. ثالثًا: يرجع فقه الأقليات إلى أصل خاص ببعض العلماء يعتبر حالة المسلمين في أرض غير المسلمين سببًا لسقوط بعض الأحكام الشرعية مما عرف بمسألة الدار التي نعبر عنها بحكم المكان، وهو منقول عن عمرو بن العاص من الصحابة، وعن أئمةٍ؛ ¬

_ (¬1) أعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 3).

كالنخعي (¬1)، والثوري (¬2)، وأبي حنيفة، ومحمد، ورواية عن أحمد، وعبد الملك بن حبيب من المالكية (¬3). وهو مؤصَّل من أحاديث؛ كالنهي عن إقامة الحدود في أرض العدو: أصله حديث أبي داود والترمذي وأحمد بإسناد قوي: "لا تقطع الأيدي في السفر" (¬4)، ومرسل مكحول (¬5): "لا ربا بين مسلم وحربي" (¬6). ¬

_ (¬1) أبو عمران، إبراهيم بن يزيد بن قيس الكوفي، فقيه العراق، الإمام الحافظ، أحد الأعلام، روى عن مسروق، وعلقمة بن قيس، وعبيدة السلماني، روى عنه الحكم بن عتيبة، وعمرو بن مرة، وحماد بن أبي سليمان تلميذه، توفي سنة 95 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (6/ 270)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 520). (¬2) أبو عبد الله، سفيان بن سعيد بن مسروق، الثوري، الكوفي، سمع عمرو بن مرة، وحبيب بن أبي حبيب، وروى عنه شعبة، وابن المبارك، ويحيى القطان. ولد سنة 97 هـ، وتوفي سنة 161 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (6/ 371)، التاريخ الكبير، للبخاري، (4/ 92). (¬3) أبو مروان، عبد الملك بن حبيب بن سليمان، فقيه أهل الأندلس، روى عن أصبغ، وأسد بن الفرات، وابن الماجشون، وروى عنه بقي بن مخلد، ومحمد بن وضاح، توفي سنة 238 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، ص 162)، الديباج المذهب، لابن فرحون، (2/ 8). (¬4) أخرجه: أبو داود، كتاب الحدود، باب: في الرجل يسرق في الغزو أيقطع، (4408)، والترمذي، كتاب الحدود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء أن لا تقطع الأيدي في الغزو، (1450) -وعنده: "الغزو" بدل "السفر"-، وأبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي في "سننه الصغرى"، ترقيم: عبد الفتاح أبي غدة، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، 1406 هـ / 1986 م، كتاب قطع السارق، باب: القطع في السفر، (4979)، قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة في تمييز الصحابة" (1/ 289) عن إسناد أبي داود: "إسناده مصري قوي". (¬5) أبو عبد الله، مكحول، الشامي، الدمشقي، عالم أهل الشام، روى عن أنس بن مالك، وأبي هند الداري، وواثلة ابن الأسقع، وروى عنه الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، توفي سنة 112 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (7/ 453)، الجرح والتعديل، (8/ 407). (¬6) ذكره الإمام محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله- في "كتاب سير الأوزاعي" من كتابه "الأم"، تحقيق وتخريج: د. رفعت فوزي عبد المطلب، دار الوفاء بالمنصورة - مصر، ط 1، 1422 هـ / 2001 م، (9/ 249)، ومن طريقه: الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي في "معرفة السنن والآثار"، تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي، دار الوعي بحلب، ط 1، 1411 هـ / 1991 م، (13/ 276)، قال: "قال الأوزاعي: الربا عليه حرام في دار الحرب وغيرها؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وضع من ربا الجاهلية ما أدركه الإسلام من ذلك، وكان أول ربا وضعه ربا العباس بن عبد المطلب؛ فكيف يستحل السلم أكل الربا في قوم قد حرم الله عليه دماءهم =

فانطلاقًا من هذه الأسس التي سنتوسع فيها، ومن الأدلة الإجمالية، والأدلة التفصيلية، وآراء أهل العلم؛ يكون اجتهاد العلماء ترجيحيًّا انتقائيًّا أو إبداعيًّا إنشائيًّا وإن كنت شخصيًّا أميل إلى النوع الأول، ولا أجسر على النوع الثاني إلا بشاهد -أي: بنوع من التخريج- لأن النوع الأول اختيار من أقوال العلماء لمصلحة اقتضت هذا الاختيار، أو لدرء مفسدة قد يؤدي إليها تطبيق القول المتروك، وبصفة أكثر دقة فسيكون الاجتهاد هنا على ثلاثة أضرب: 1 - اجتهاد جديد لإحداث قول في قضية جديدة قياسًا على المنصوص في الأصلين؛ الكتاب والسنة. 2 - واجتهاد في تحقيق المناط، وهو اجتهاد لا ينقطع أبدًا، كما يقول الشاطبي؛ لأنه تطبيق للقاعدة المتفق عليها على واقع جديد تنطبق عليه هذه القاعدة، وليس كالاجتهاد الأول الذي يختص به المجتهدون، بل يستوي فيه المجتهد والمقلد. 3 - أما النوع الثالث فهو اجتهاد ترجيحي وهو اختيار قول قد يكون مرجوحًا في وقت من الأوقات؛ إما لضعف المستند -وليس لانعدامه- فيختاره العلماء لمصلحة اقتضت ذلك، وهذا ما يسمى عند المالكية "جريان العمل"؛ فلهذا، فتسليط الأنواع الثلاثة ¬

_ = وأموالهم؟ وقد كان المسلم يبايع الكافر في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يستحل ذلك. وقال أبو يوسف: القول ما قال الأوزاعي: لا يحل هذا عندنا ولا يجوز، وقد بلغتنا الآثار التي ذكر الأوزاعي في الربا. وإنما أحل أبو حنيفة هذا لأن بعض المشيخة حدثنا عن مكحول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا ربا بين أهل الحرب. . . "، ثم قال الإمام الشافعي: "القول كما قال الأوزاعي وأبو يوسف، والحجة كما احتج الأوزاعي، وما احتج به أبو يوسف لأبي حنيفة ليس بثابت؛ فلا حجة فيه". يراجع: "نصب الراية لأحاديث الهداية"، لجمال الدين عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي، تحقيق: محمد عوامة، مؤسسة الريان، بيروت ودار القبلة للثقافة الإسلامية بجدة - السعودية، ط 1، 1418 هـ / 1997 م، (4/ 44)، و"الدراية في تخريج أحاديث الهداية"، لأحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: السيد عبد الله هاشم اليماني المدني، دار المعرفة، بيروت، (2/ 158)، و"سلسلة الأحاديث الضعيفة وأثرها السيء على الأمة"، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط 1، 1412 هـ / 1992 م، (6533).

للاجتهاد يكون في ضوء العناصر الثلاثة التي تحكم الفتوى وهي: واقع الأقلية، والأدلة الإجمالية، والأدلة التفصيلية. من كل ذلك تنشأ الفتوى في جدليَّةٍ وتداخل وتكامل وتفاعل ينتج منه توازن بين الدليل والواقع يضبط به الفقيه طبيعة الفتوى ويرى به الحكم من خلال مرتبة الحاجة، ومرتبة الدليل، ومرتبة الحكم، وكذلك من خلال التعامل بين الكلي والجزئي، وهو تعامل دقيق لا يجوز فيه إهمال أي منهما، بل يعطى كل منهما قدر ما يستحق من الحكم؛ ولهذا أصَّل المالكية لما سموه بالقاعدة البينية، وهي إعطاء قضية واحدة ذات وجهين حكمين مختلفين باعتبار وجود دليلين. وسترى هذه الأنواع من الاجتهاد من خلال مطالعة مشهد أوضاع الأقليات فيما يتعلق بأنكحتهم ومعاملاتهم المالية وعوائدهم في الأكل واللباس، وفي التعامل مع الناس، في تهاني الأفراح والتعازي في الأحزان والأتراح، في الانخراط في الأحزاب والترشح والانتخاب. . . إلى آخر القائمة. فالأقليات تواجه تحديات عنيدة على مستوى الفرد الذي يعيش وسط بيئة لها فلسفتها الماديَّة التي لا مجال فيها للوازع الديني، وعلى مستوى الأسرة التي تحاول التماسك في خضمِّ مجتمع تفككت فيه الروابط الأسريَّة، واستحالت فيه العلاقة الزوجية بين الزوجين، والأبوية بين الأبناء والأبوين، إلى علاقة غير قائمة على أسس من القوامة الإيجابية. أما على مستوى المجتمع المسلم الصغير الذي يساكن هذه المجتمعات، فهو مبعثر لا ينتظمه ناظم، ولا يجمع شتاته جامع، فالتحدِّيات تطاول العقيدة التي نعني بها: أن يكون المرء مسلمًا مؤمنًا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وليس بالضرورة أشعريًّا ولا سلفيًّا ولا معتزليًّا وغير ذلك من التفسيرات التي تشوِّش على العامِّي. ولعل العقيدة التي كتبها محمد بن أبي زيد القيرواني في صدر "الرسالة" والتي ترجع إلى نصوص الكتاب والسنة لا يختلف عليها طوائف أهل السنة، هي أفضل شيء يتعلمه المسلمون في المهاجر؛ لبساطتها وسلامتها من الجدل والتشويش.

كما تُطَاول ممارسة العبادة مع ما يتطلبه من تكوين الجماعة المسلمة والمؤسسات الإسلامية من مساجد ومدارس ومراكز. كما تطاول العلاقة بالآخر، وإيجاد وسائل التعايش التي تجنِّب المسلم الذوبان الثقافي، وكذلك تحرسه من التقوقع والعزلة؛ ليصبح في النهاية عضوًا فعَّالًا في المجتمع مُمكَّنًا، أسوة بنبي الله يوسف -عليه السلام- عندما خاطب ملك مصر بقوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. كل ذلك يحتاج إلى فقه نفس يوازن بين الدليل وبين الواقع، مع ورع لا تشوبه وسوسة، وجسارة لا ينغِّصها تهتك ولا جرأة" (¬1). وقد حاول الشيخ أن يجمع تلك الأصول نظمًا قائلًا: عُقُوْدُ المُسْلِمِينَ بِدَارِ غَرْبٍ ... تَجَاذَبُهَا المَقَاصِدُ وَالْفُرُوعُ وَمِيْزَانُ الْفَقِيهِ يَجُورُ طَوْرًا ... إلى طَرَفٍ فَيُفْرِطُ أَوْ يَضِيْعُ فِفِي الْجُزْئِيِّ ضِيْقٌ وَانْحِصَارٌ ... وَفِي الكُلِّيِّ مُنفَسَحٌ وَسِيْعُ وَنُوْرُ الْحَقِّ مَصْلَحَةٌ تُوَازَى ... بِجُزْئِيِّ النُّصُوصِ لَهُ سُطُوْعُ مَآلَاتُ الْأُمُورِ لَهَا اعْتِبَارٌ ... وحَاجِيُّ الضَّرُوْرَةِ قَدْ يُطِيْعُ فَزِنْ هَذَا بِذَاكَ وَذَا بِهَذَا ... يَكُنْ في الْقَيْسِ مَنْهَجُكَ الْبَدِيْعُ فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أمْرًا فَدَعْهُ ... وَجَاوِزْهُ إِلَىَ مَا تَسْتَطِيْعُ (¬2) ¬

_ (¬1) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، د. عبد الله بن بيَّه، (ص 169 - 172). (¬2) المرجع السابق، (ص 166).

المبحث الأول القواعد الأصولية والمقاصدية والفقهية والفرق بينهما.

المبحث الأول القواعد الأصولية والمقاصدية والفقهية والفرق بينهما. غنيٌّ عن البيان أن ثمة قواعد أصولية ومقاصدية وفقهية اشتملت عليها مدونة أصول الفقه والقواعد الفقهية، وهي ذات فوائد اجتهادية كبيرة في النظر الفقهي المتعلق بأحوال الأقليات المسلمة وأوضاعها، ولكن لما كانت أحوال الأقليات المسلمة وأوضاعها لم تحظَ بالاهتمام بالنظر الفقهي الاجتهادي إلا قليلًا وذلك بالنسبة لسائر مجالات الفقه العام؛ فإن تلك القواعد الفقهية والأصولية لم يكن استخدامها في الاجتهاد الفقهي بصفة عامة، وفي الاجتهاد لتأصيل فقه الأقليات بصفة خاصة إلا استخدامًا محدودًا، "فظلت لذلك السبب قواعدَ مغمورةً ضعيفةً في أثرها الفقهي، غير نضيجة على التقرير والتحرير والترتيب، وذلك بالرغم من أنها تنطوي على طاقة منهجية اجتهادية كبيرة في مجال فقه الأقليات على وجه الخصوص" (¬1). والمقصود البحث والتفتيش عن تلك القواعد الفقهية والأصولية التي تتعلق بفقه ونوازل الأقليات، لتُدرس بعناية خاصة، واهتمام بحثي مستقل، وفقًا للمقاصد الشرعية لفقه الأقليات، والتي تعتمد على إقامة الدين بين الأقليات، والعمل على تبليغ رسالة الإسلام وتوطين الدعوة إلى الله، وتأصيل فقه الجماعة في حياة الأقليات المسلمة والتأسيس لفقه مستقر، كل ذلك في إطار من التيسير الشرعي المنضبط ورفع الحرج، ¬

_ (¬1) نحو منهج أصولي لفقه الأقليات، د. عبد المجيد النجار، (ص 57) بتصرف يسير.

بحيث يُستثمر ذلك كله لإبراز قواعدَ شرعيةٍ متميزة يبنى عليها فقه الأقليات، بحيث تخرج في نسق مجموع يمهد لشرحها شرحًا يكشف عن مكنوناتها وتطبيقاتها المتعددة في ساحة نوازل الأقليات المسلمة، لتأتي بعد ذلك عملية استخراج ضوابط خاصة بمعالجة أحوال الأقليات المسلمة، على غرار عمل الفقهاء في صياغة ضوابط أصولية أو فقهية خاصة بباب بعينه أو مجال بخصوصه. وبطبيعة الحال فإنه لا حرج من استعمال بعض تلك القواعد بصيغتها التي هي عليها، أو إعادة الصياغة بما يحمل معاني ومقاصد فقه الأقليات المسلمة، مع ملاحظة الفروق التي قد تَدِقُّ بين مقاصد الشارع الحكيم وبين مقاصد المكلفين، وغني عن البيان أن عملًا كهذا يحتاج إلى ذهنيةٍ علمية عميقة، وعقلية أصولية دقيقة، وسياج من تقوى الله -عز وجل-، واجتهاد معتبر. وفيما يأتي محاولة لرصد بعض تلك القواعد المستمدة من منظومة أصول الأحكام والتي يمكن أن تشكل نواة لتلك القواعد الأصولية المقاصدية الفقهية التي يبنى عليها صرح فقه نوازل الأقليات المسلمة. وجدير بالذكر أن بعض تلك القواعد التي ستَرِدُ، منها: ما هو متمحض في علم أصول الفقه، ومنها: ما يتعلق بأصول الدين والفقه معًا، وأما: ما هو مشترك بين أصول الفقه ومقاصد التشريع وقواعد الفقه، فإننا نختار ما هو الأنسب بالنسبة للأصول فنقدمه، ثم نردف بما هو الأقرب للقواعد الفقهية فيأتي تاليًا بعد القواعد الأصولية المتعلقة بنفس الموضوع. وسوف تُصاغ هذه القواعد في مجموعات موضوعية ضبطًا لها وتسهيلًا لدراستها.

المطلب الأول: تعريف القواعد الأصولية وبيان أهميتها

وفيما يلي بيان لأهم مجموعات القواعد الأصولية والمقاصدية والفقهية المتعلقة بتأصيل فقه نوازل الأقليات المسلمة: 1 - القواعد المتعلقة بالاجتهاد. 2 - القواعد المتعلقة بالرخص والمشقات. 3 - القواعد المتعلقة بالضرورات والحاجات. 4 - القواعد المتعلقة بالمقاصد. 5 - القواعد المتعلقة بالتعارض والترجيح بين المصالح والمفاسد. 6 - القواعد المتعلقة بالمآلات. 7 - القواعد المتعلقة بالعرف. 8 - القواعد المتعلقة بالولاية والسياسة. وفي هذا الفصل محاولة لتأصيل هذا الفقه بردِّهِ إلى قواعد علم الأصول والمقاصد الشرعية، وعلم قواعد الفقه بحيث تنتظم جملة وافرة من هذه الأصول الحاكمة والقواعد الضابطة لفقه نوازل الأقليات المسلمة؛ لتجتمع تلك الأصول والقواعد والضوابط في إحكام منهج سديد للتعامل مع النوازل المعاصرة في حياة الأقليات الإسلامية. المطلب الأول: تعريف القواعد الأصولية وبيان أهميتها: تعريف القواعد لغة واصطلاحًا: القاعدة لغةً: تطلق على معانٍ متعددة ترجع إلى معنى الاستقرار والثبات، ومن تلك المعاني: الأساس: فقواعد البيت أسسه التي يقوم عليها، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ

القاعدة اصطلاحا

الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] (¬1)، وقد تطلق القواعد على أساطين البناء، قال الزجاج: "القواعد أساطين البناء التي تعمده" (¬2). قال تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]. أصول السحاب: قال أبو عبيد (¬3): قواعد السحاب: أصولها المعترضة في آفاق السماء، شبهت بقواعد البناء (¬4). وبالجملة فإن أهم معاني القاعدة هو الأساس والأصل، وسواء أكان ذلك حسيًّا كقواعد البيت، أم معنويًّا كقواعد الدين، وقواعد العلوم (¬5). القاعدة اصطلاحًا: بدأ ظهور معنى القاعدة اصطلاحًا في القرن الثامن الهجري، وقد وُجِدَ اتجاهان في تعريف القاعدة اصطلاحًا، وذلك بناءً على اختلافهم هل هي كلية، أم أغلبية؟ ¬

_ (¬1) لسان العرب، لابن منظور، (11/ 239)، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، لإسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، ط 4، 1990 م، (2/ 525)، الكليات، للكفوي، (ص 738). (¬2) لسان العرب، لابن منظور، (11/ 239). (¬3) أبو عبيد، القاسم ابن سلام بن عبد الله، البغدادي، الإمام الحافظ المجتهد ذو الفنون، من مؤلفاته: غريب الحديث، وفضائل القرآن، والناسخ والمنسوخ، ولد سنة 157 هـ، وتوفي سنة 224 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 92)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (10/ 490). (¬4) المرجع السابق، (11/ 239). (¬5) القواعد الفقهية، د. يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1418 هـ - 1998 م، (ص 15).

فممن عرفها بأنها كلية: الجرجاني (¬1) والتفتازاني (¬2) والمقري والسبكي (¬3) وغيرهم (¬4). ومن تعبيراتهم: قول الجرجاني: "قضية كلية منطبقة على جميع جزيئاتها" (¬5). وقول الكفوي (¬6): "القاعدة اصطلاحًا: قضية كلية من حيث اشتمالها بالقوة على أحكام جزئيات موضوعها" (¬7). وقول التاج السبكي: "القاعدة: الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزيئات كثيرة تفهم أحكامها منها" (¬8). فالفاعل مرفوع في النحو، والأمر للوجوب في الأصول، ولكن لما وقع قليل نادر من الاستثناء عرفها بعضهم بأنها أكثرية، وممن عرفها بأنها حكم أكثري أو ¬

_ (¬1) علي بن محمد بن علي الحسيني، الجرجاني، عالم المشرق ويعرف بالسيد الشريف، من مصنفاته: التعريفات، تفسير الزهراوين، شرح المواقف العضدية، ولد سنة 740 هـ، وتوفي سنة 816 هـ. الضوء اللامع، للسخاوي، (5/ 328)، البدر الطالع، للشوكاني، (1/ 333). (¬2) مسعود بن عمر التفتازاني، عالم بالنحو والتصريف، والمعاني والبيان، والأصلين، والمنطق، من مصنفاته: التلويح في أصول فقه الحنفية، وشرح العقائد في أصول الدين، والمقاصد في أصول الدين وشرحها، ولد سنة 712 هـ، وتوفي سنة 792 هـ. الدرر الكامنة، لابن حجر، (4/ 350)، وشذرات الذهب، لابن العماد، (8/ 547). (¬3) تاج الدين، عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام، السبكي، أجاز له جماعة كابن سيد الناس وطبقته ثم قدم دمشق سنة 739 هـ فسمع بها من زينب بنت الكمال، والزي، والذهبي، من مصنفاته: جمع الجوامع، وشرح مختصر ابن الحاجب، وشرح منهاج البيضاوي، ولد سنة 727 هـ، وتوفي سنة 772 هـ. شذرات الذهب، لابن العماد، (8/ 378)، والبدر الطالع، للشوكاني، (1/ 283). (¬4) التعريفات، للجرجاني، (ص 219)، شرح التلويح على التوضيح للتفتازاني، (1/ 36)، والقواعد، للمقري، (1/ 212)، الأشباه والنظائر، لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد عوض، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1411 هـ - 1991 م، (1/ 11). (¬5) التعريفات، للجرجاني، (ص 219). (¬6) أبو البقاء، أيوب بن موسى، الحسيني، الكفوي، كان من قضاة الحنفية، له كتاب الكليات، توفي سنة 1094 هـ. الأعلام، للزركلي، (2/ 38)، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (3/ 31). (¬7) الكليات، لأبي البقاء الكفوي، (ص 728). (¬8) الأشباه والنظائر، للسبكي، (1/ 11).

تعريف الأصول لغة واصطلاحا

قضية أغلبية: الشهاب الحموي (¬1) (¬2). تعريف الأصول لغة واصطلاحًا: الأصول لغة: جمع أصل، والأصل ما يبنى عليه غيره، وأصل كل شيء ما يستند وجود ذلك الشيء إليه (¬3). والأصل اصطلاحًا يطلق على معانٍ، أهمها (¬4): 1 - المقيس عليه: فالخمر أصل النبيذ. 2 - الراجح: كقولهم: "الأصل في الكلام الحقيقة". 3 - الدليل: كقولهم: "أصل المسألة الكتاب والسنة"، أي: دليلها. 4 - القاعدة المستمرة: كقولهم: "تباح الميتة للمضطر على خلاف الأصل". 5 - المستصحب: كقولهم: "الأصل بقاء ما كان على ما كان". 6 - المخرج: كقول الفرضيين: "أصل المسألة كذا". 7 - الغالب في الشرع: كقولهم: "الأصل في لفظ الصلاة شرعًا أنها تطلق على العبادة المخصوصة". معنى القاعدة الأصولية: القاعدة الأصولية هي حكم كلي تنبني عليه الفروع الفقهية (¬5)، فهي بمثابة الأسس والخطط ¬

_ (¬1) أبو العباس، شهاب الدين، أحمد بن محمد الحسني الحموي الحنفي، عالم مشارك في أنواع من العلوم، من مصنفاته: غمز عيون البصائر على محاسن الأشباه والنظائر لابن نجيم في الفروع، والدر النفيس في بيان نسب الإمام محمد بن إدريس، توفي سنة 1198 هـ. الأعلام، للزركلي، (1/ 239)، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (2/ 93). (¬2) غمز عيون البصائر، للحموي، (1/ 51)، تهذيب الفروق (1/ 36)، القواعد الفقهية للباحسين، (ص 44 - 48)، القواعد الفقهية للندوي، (ص 41). (¬3) المصباح المنير، للفيومي، (1/ 16)، تاج العروس، للزبيدي، (27/ 447). (¬4) البحر المحيط، للزركشي، (1/ 16 - 17)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار (1/ 39 - 40)، إرشاد الفحول، للشوكاني، (1/ 57). (¬5) القواعد الأصولية عند الإمام الشاطبي من خلال كتابه الموافقات، د. الجيلالي المريني، دار ابن القيم، الدمام، دار ابن عفان، القاهرة، ط 1، 1425 هـ - 2004 م، (ص 55)، أصول الفقه الحد والموضوع والغاية، د. يعقوب الباحسين، (ص 47).

أهمية القواعد الأصولية

والمناهج التي يضعها المجتهد نصب عينيه عند البدء والشروع في الاستنباط (¬1). أي هي: القواعد التي يُتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة (¬2). وقد توصف بأنها في الأصل قواعد لغوية تتعلق بألفاظ الكتاب والسنة ودلالاتها، مستفادة من أساليب لغة العرب، تساعد المجتهد على التوصل إلى الأحكام الشرعية (¬3). وربما كان من أدق هذه التعاريف أنها: قضايا كلية يُتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة (¬4). وتتميز القاعدة الأصولية بأنها مصوغة صيغة عامة، نحو: العام يجري على عمومه، ما لم يَرِدُ دليل يخصصه، ونحو: كل حكم شرعي أمكن تعليله فالقياس جائز فيه. كما تتميز القاعدة الأصولية بأنها مجردة عن ظروفها وملابساتها، وأسباب الورود، ونحو ذلك، حتى تكون منطبقة تمامًا على كل مثيلاتها المعلولة بعلتها؛ لأنها إذا كانت مرتبطة بسبب خاص ونحو ذلك لم تكن قاعدة. أهمية القواعد الأصولية: تبين أن القاعدة الأصولية منهاج يسلكه المجتهد أثناء استنباط الأحكام الشرعية بغيةَ عدمِ الخطأ؛ فهي قواعد مؤسَّسَة على الدليل، مرتبة بأدلة علمية (¬5) من المنقول والمعقول؛ لذا فهي بمثابة ميزان عدل توزن بها الأمور العلمية، ويُتوصل من خلالها إلى معرفة الأحكام الشرعية التي هي مناط السعادة الدنيوية والأخروية (¬6). ¬

_ (¬1) نظرات في أصول الفقه، د. عمر الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط 1، 1419 هـ - 1999 م، (ص 403). (¬2) أصول الفقه الحد والموضوع والغاية، د. يعقوب الباحسين، (ص 107). (¬3) تيسير علم أصول الفقه، لعبد الله بن يوسف الجديع، توزيع مؤسسة الريان، بيروت، ط 3، 1425 هـ - 2004 م، (ص 211). (¬4) القواعد الأصولية عند ابن تيمية، د. محمد التمبكي الهاشمي، ط 1، دار الرشد، 1429 هـ (1/ 252). (¬5) أصول الفقه، لمحمد أبي زهرة، دار الفكر العربي، (ص 9). (¬6) الإحكام، للآمدي (1/ 24).

المطلب الثاني: تعريف القواعد المقاصدية, وبيان أهميتها وصلتها بالقواعد الأصولية

كما أن الأصولي يتمكن بواسطتها من الردِّ على المخالفين، وأن يقيم منهاج الاستدلال وإقامة الحجة على المعاندين. وهذه القواعد تمس إليها حاجة المفسِّر لكتاب الله، والشارح لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما يعتني بها الباحث في أصول العقيدة والدين؛ لكونها تنمي ملكة الفهم الصحيح، وتولِّد الرشاد في التفكير والاستنباط. وهي تعين على المقارنة يين المذاهب، وتمد الباحث بمعين لا ينضب في أصول الترجيح ولا بد. ولا شك أن علم أصول الفقه واستنباط الأحكام هو من أجلِّ علوم أئمة المسلمين، وهو كما قال أبو حامد الغزالي -رحمه الله- العلم الذي: "ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع. . . فإنه يأخذ من صفو الرأي والشرع سواء السبيل" (¬1). المطلب الثاني: تعريف القواعد المقاصدية, وبيان أهميتها وصلتها بالقواعد الأصولية: الفرع الأول: تعريف القواعد المقاصدية: المقاصد لغةً: المقاصد: جمع مقصَد -بفتح ما قبل الآخر- إذا أريد المصدر بمعنى القصد. أما إذا أريد المكان بمعنى جهة القصد، فيكسر ما قبل الآخر، مقصِد. وقصد لها عدة معانٍ فهي تدل على استقامة الطريق، كما قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل:9]. أي: بيان الطريق المستقيم. كما تدل على العدل والتوسط، ومنه قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19]. ¬

_ (¬1) المستصفى، للغزالي، (ص 4).

وهناك معانٍ أخرى (¬1). والأقرب للمراد أن القصد بمعنى: الأَمِّ والتوجه وإتيان الشيء والعزم والنهود والنهوض. قال صاحب القاموس المحيط (¬2): القصدُ: الأَمُّ (¬3). وقال ابن جني (¬4) في سر الصناعة: "أصل (ق ص د) ومواقعها في كلام العرب: الاعتزام والتوجه والنهود والنهوض نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أو جور" (¬5). تعريف المقاصد اصطلاحًا: المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها (¬6). ومقاصد الشريعة هي ما يقصد الشارع بشرع الحكم، أو هي مراد الحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الخلق. وهو الذي تجليه العقول من نصوص الشرع، فيتداخل مع العلل والأسباب والحكم، مع اختلاف في بعض الشيات، وبخاصة عند من يرى -كالرازي- العللَ مجردَ أمارات وعلامات، وليست حِكَمًا وغاياتٍ (¬7). ¬

_ (¬1) منها: الكسر والانكسار، والاكتناز والكثرة، معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (5/ 95). (¬2) أبو الطاهر، مجد الدين، محمد بن يعقوب بن إبراهيم بن عمر الفيروز آبادي، اللغوي، الشافعي، العلامة، ولد سنة 729 هـ، وتوفي سنة 817 هـ. بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، والقاموس المحيط، وتنوير المقباس في تفسير ابن عباس، وغير ذلك، بغية الوعاة، للسيوطي، (1/ 273)، شذرات الذهب، لابن العماد، (9/ 186). (¬3) القاموس المحيط، للفيروز آبادي، (1/ 324). (¬4) أبو الفتح، عثمان بن جني النحوي، من أحذق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والتصريف، الموصلي، صاحب التصانيف، من تصانيفه: اللمع والخصائص في النحو، والمذكر والمؤنث، وغير ذلك، توفي سنة 392 هـ. بغية الوعاة، للسيوطي، (2/ 132)، وشذرات الذهب، لابن العماد، (4/ 494). (¬5) تاج العروس، للزبيدي، (9/ 36). (¬6) مقاصد الشريعة، لعلال الفاسي، (ص 7). (¬7) علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه، د. عبد الله بن بيه، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ط 2، 1427 هـ - 2006 م، (ص 14).

الفرع الثاني: أهمية القواعد المقاصدية

أو هي: المعاني والحِكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاصٍّ من أحكام الشريعة (¬1). وقد يعبر بالمقاصد عن نفس الحكم المنصب على المصلحة جلبًا والمفسدة درءًا. يقول القرافي: "الأحكام على قسمين: مقاصد: وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها" (¬2). وقد تُستعمل المقاصد باصطلاح شرعي آخر يتعلق بنوايا المكلفين وغاياتهم من أفعالهم، ومن ذلك: القاعدة الفقهية الكلية "الأمور بمقاصدها" وهي إحدى القواعد الخمس الفقهية الكبرى التي بني عليها الفقه الإسلامي. فالمقاصد بالاصطلاح الأول هي: حِكم وغايات. وبالاصطلاح الثاني هي: أحكام تحقق تلك الحكم. وبالاصطلاح الثالث هي: نوايا المكلفين وإراداتهم. والذي نهتم به في هذا السياق هو المعنى الأول. وقد عرف بعض المعاصرين القاعدة المقاصدية فقال: "قضية كلية تعبر عن إرادة الشارع من تشريع الأحكام، وتستفاد عن طريق الاستقراء للأحكام الشرعية" (¬3). الفرع الثاني: أهمية القواعد المقاصدية: إن المقاصد هي روح الشريعة وحِكمها وغاياتها، ومراميها ومغازيها ومعانيها. ولا يتأتى اجتهاد صحيح من غير دراية بقواعد المقاصد. وقد قال الشاطبي في سياق ما يبنى عليه الاجتهاد: "أولًا: معرفة اللغة العربية فيما ¬

_ (¬1) مقاصد الشريعة، للطاهر ابن عاشور، (ص 51). (¬2) الفروق، للقرافي، (2/ 451). (¬3) القواعد الكلية والضوابط الفقهية في الشريعة الإسلامية، د. محمد عثمان شبير، (ص 31).

الفرع الثالث: صلة القواعد المقاصدية يالقواعد الأصولية

يتعلق بدلالات الألفاظ ومقتضيات النصوص. ثانيًا: معرفة مقاصد الشريعة جملة وتفصيلًا إذا تعلق الاجتهاد بالمعاني من المصالح والمفاسد" (¬1)، وقال في المسألة الثانية من مسائل الاجتهاد: "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها" (¬2). والمقاصد تعين المجتهد على الترجيح لدى التعارض بين الأدلة فما كان أقرب إلى تحقيقها فهو أولى بالصواب. وربما أفاد المجتهد من المقاصد بيان وفهم بعض الأحكام الشرعية، وإدراك مرامي بعض النصوص الجزئية وتوجيهها وجهتها الصحيحة. ولا غنى بالمفتي أن ينظر في المقاصد الشرعية قبل فتياه ليعطي المستفتيَ الحكمَ الذي يناسب مقصود الشارع من تشريع الأحكام. والمجتهد يحكِّم المقاصد عند الاعتبار بأقوال الصحابة والسلف فيأخذ ما كان أقرب لتحقيق المقاصد والعمل بالمطلوب. والمقاصد ترشد المجتهد لاستنباط أحكام الوقائع المستجدة مما لم يدل عليه دليل، ولا وجد له نظير يقاس عليه (¬3). وغير ذلك من الفوائد والفرائد التي يجنيها الفقيه والأصولي والمجتهد من درس هذه القواعد وإدراك تلك المقاصد (¬4). الفرع الثالث: صلة القواعد المقاصدية يالقواعد الأصولية: المقاصد من الأصول ولا بد، بل إن المقاصد هي أصول الفقه بعينها (¬5). ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 162). (¬2) الموافقات، للشاطبي، (4/ 105 - 106). (¬3) سيأتي في الفصل الرابع من هذا الباب مزيد بيان لهذه المسألة. (¬4) طرق الكشف عن مقاصد الشارع، د. نعمان جغيم، دار النفائس، الأردن، (ص 43 - 58). (¬5) علاقة المقاصد بأصول الفقه، لابن بيه، (ص 131).

أولا: من حيث العموم والخصوص

وقد ذكر الشيخ ابن بيه ثلاثين منحى من مناحي العلاقة القوية بين الأصول والمقاصد ومثَّل لها بأمثلة بها تدرك الصلات القريبة والوشائج الحميمة بين المقاصد والأصول. وأطال النفس في بيان أمثلة ومجالات تستثمر فيها تلك المقاصد في علم الأصول، وتتداخل معه تأصيلًا وتفريعًا (¬1). على أن المتقرر لدى أهل العلم أن العلاقة بين علمي الأصول والمقاصد هي علاقة العام بالخاص، والجزء بالكل؛ إذ المقاصد إحدى الموضوعات الخاضعة لاختصاص بحث التقعيد الأصولي. ولأهمية القواعد المقاصدية وعناية المتأخرين بها أوشكت أن تنفصل علمًا مستقلًّا عن علم الأصول (¬2). ويمكن فيما يلي إلقاء بعض الأضواء على الفروقات بين القاعدة الأصولية والمقاصدية وذلك من جهتين: أولًا: من حيث العموم والخصوص: القاعدة الأصولية أعم من المقاصدية؛ ذلك أن قواعد المقاصد تتعلق غالبًا ببيان الحِكَم والغايات المتوخاة في التشريع، وأما قواعد الأصول فمنها ما يتعلق بالأدلة التبعية كالمصالح وسدِّ الذرائع، ومنها ما ليس كذلك كالقواعد الأصولية اللغوية مثلًا. ثانيًا: من حيث مصدرها ودليلها: قواعد المقاصد إنما تُستنبط باستقراء نصوص الشارع الحكيم، أو من خلال النظر في الفروع الفقهية، فالعمدة في معرفة المقاصد هي المنقولات، في حين أن القاعدة الأصولية قد تستند إلى المعقولات أو اللغويات. ¬

_ (¬1) علاقة المقاصد بأصول الفقه، لابن بيه، (ص 99 - 131). (¬2) نظرية التقعيد الأصولي، د. أيمن عبد الحميد البدارين، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1427 هـ - 2006 م، (ص 180).

المطلب الثالث: تعريف القواعد الفقهية وبيان أهميتها

فمن الأولى: قاعدة "الأقوى يقدم على الأضعف". ومن الثانية: قاعدة "العام ظني الدلالة" (¬1). ونظرًا لقرب المقاصد من الأصول وانبثاقها عنها فإن قواعدها ستكون مضمنة مع قواعد الأصول في هذا الفصل وملحقة بها جريًا على منهج أبي إسحاق الشاطبي -رحمه الله- في تصانيفه. المطلب الثالث: تعريف القواعد الفقهية وبيان أهميتها: تقدم تعريف القاعدة لغة واصطلاحًا، ومن أحسن تعريفات القواعد الفقهية اصطلاحًا أنها: حكم كلي فقهي ينطبق على فروع كثيرة من أكثر من باب (¬2). فقولنا: "حكم" هو: التعبير السليم في وصف القاعدة من حيث إنه أهم ما في القضية؛ لأنه مناط الفائدة والتصديق والتكذيب. وقولنا: "كلي" أي: أن القاعدة شاملة لجميع أفرادها، ولا يُخِلُّ بكلِّيتها خروج بعض أفرادها لمعارض. وقولنا: "فقهي" قيد لإخراج القواعد في الفنون الأخرى. وقولنا: "ينطبق على فروع كثيرة" فالقاعدة تجمع كثيرًا من الفروع والجزئيات المندرجة تحت معناها وحكمها العام. وقولنا: "من أكثر من باب" قيد لإخراج الضابط؛ إذ هو الشامل لجزئيات من باب واحد فقط، فقاعدة: "الأمور بمقاصدها" تدخل في عامة أبواب الفقه، كما قال ¬

_ (¬1) نظرية التقعيد الأصولي، د. أيمن البدارين، (ص 180 - 181). (¬2) القواعد، للباحسين (13 - 54)، القواعد الفقهية، للندوي، (ص 39 - 45)، نظرية التقعيد الفقهي، للروكي، (ص 38 - 48)، مقدمة قواعد المقري (1/ 103 - 108)، مقدمة قواعد الحصني (1/ 21 - 24) وغيرها.

الشافعي -رحمه الله-: إنها تدخل في سبعين بابًا (¬1)، أما الضابط فهو يجمعها من باب واحد، مثل: "كل ما أوجب غسلًا أوجب وضوءًا إلا الموت" (¬2)، ومثل: "البدن في الغسل كالعضو الواحد" (¬3). فهذه الضوابط تجمع فروعًا، ولكن من باب واحد. وقد نبه على هذا الفرق بين القاعدة والضابط بعض الفقهاء والأصوليين، منهم: التاج السبكي والبناني (¬4) في حاشيته على شرح المحلي (¬5) والفتوحي (¬6) والسيوطي (¬7) وابن نجيم رَحِمَهُمَا اللهُ (¬8) وقد استقر على هذا الفرق عامة المتأخرين. ومن الفروق التي ذكرها بعض المعاصرين: أن القاعدة في الغالب متفق على مضمونها ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 8). (¬2) زاد المستقنع في اختصار المقنع، لأبي النجا موسى بن أحمد الحجاوي، تحقيق: عبد الرحمن العسكر، دار الوطن، الرياض، ط 1، 1425 هـ - 2004 م، (ص 32)، شرح منتهى الإرادات في الجمع بين المقنع والتنقيع وزيادات، لمنصور ابن يونس البهوتي، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1421 هـ - 2000 م، (1/ 145). (¬3) المجموع، للنووي، (2/ 234)، مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (21/ 166). (¬4) عبد الرحمن بن جاد الله، البناني، المغربي، فقيه أصولي،. قدم مصر وجاور بالأزهر، من مصنفاته: حاشية على شرح المحلي على جمع الجوامع، توفي سنة 1198 هـ. الأعلام، للزركلي، (3/ 302)، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (5/ 132). (¬5) جلال الدين، محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم، المحلي، الشافعي، الإمام العلامة، كان آية في الذكاء والفهم، من مصنفاته: شرح جمع الجوامع في الأصول، وشرح المنهاج في الفقه، ولد سنة 791 هـ، وتوفي سنة 864 هـ. شذرات الذهب، لابن العماد، (9/ 447)، الأعلام، للزركلي، (5/ 333). (¬6) شهاب الدين، أحمد بن عبد العزيز بن علي، الفتوحي، الحنبلي، المعروف بابن النجار، الإمام العلامة شيخ الإسلام، من مصنفاته: منتهى الإرادات وشرحه، ولد سنة 862 هـ، وتوفي سنة 949 هـ. شذرات الذهب، لابن العماد، (10/ 396)، السحب الوابلة، لابن حميد، (1/ 156). (¬7) أبو الفضل، جلال الدين، عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق، السيوطي، الشافعي، كان من أعلم أهل زمانه بعلم الحديث وفنونه مشاركًا في علوم كثيرة، من مصنفاته: تدريب الراوي، والدر المنثور، وألفية الحديث، والأشباه والنظائر، ولد سنة 849 هـ، وتوفي سنة 911 هـ. شذرات الذهب، لابن العماد، (10/ 74)، الأعلام، للزركلي، (3/ 301). (¬8) الأشباه والنظائر، لزين الدين بن إبراهيم بن نجيم، تحقيق: محمد مطيع الحافظ، دار الفكر، بيروت، 1986 م، (ص 192)، والأشباه والنظائر، للتاج السبكي، (1/ 11)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (1/ 30)، الأشباه والنظائر في النحو، اللسيوطي، (1/ 9).

بين المذاهب أو أكثرها، أما الضابط فيختص بمذهب معين، بل قد يخالف فيه فقهاء من نفس الذهب (¬1). أهمية القواعد الفقهية: يعتبر علم القواعد الفقهية من أهم العلوم للفقيه والمفتي والقاضي والحاكم والمجتهد؛ إذ به تتدرب العقول في مآخذ ومدارك الأحكام، ومن استوعب القواعد وأحاط بها فقد استوعب الفقه كله، وانفتح له باب للتعرف على أحكام النوازل والمستجدات من خلال معرفة نظائر الفروع وأشباهها وضمِّ المفردات إلى أخواتها وأشكالها. ومن فوائد هذا العلم: 1 - أنه يضبط الأمور المنتشرة المتعددة، وينظمها في سلك واحد مما يُمَكِّنُ من إدراك الروابط بين الجزئيات المتفرقة ويزوِّد الطلعَ عليها بتصور سليم يدرك به الصفات الجامعة بين هذه الجزئيات؛ ولهذا قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله- عن القواعد الفقهية: "تنظم له منثور المسائل في سلك واحد، وتقيد له الشوارد، وتقرب عليه كل متباعد" (¬2). 2 - الضبط بالقواعد يسهل حفظ الفروع، ويغني العالم بالقواعد عن حفظ كثير من الجزئيات والأفراد؛ إذ المسائل الفقهية تعد بمئات الألوف؛ ولا تتسع حافظة أحد للإحاطة بها، فلا بد أن يفوته منها شيء كثير، ولو أدرك أكثرها بمعزل عن القواعد، فقد لا يعرف الرابط بينها ووجه الجمع والفرق، أما حفظ القواعد فهو يكفل له هذا كله بحول الله تعالى وقوته. ولهذا قال القرافي -رحمه الله-: "ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات" (¬3). ¬

_ (¬1) موسوعة القواعد الفقهية، للبورنو، (1/ 35). (¬2) تقرير القواعد وتحرير الفوائد، لابن رجب، (1/ 4). (¬3) الفروق، للقرافي، (1/ 3).

3 - فهم هذه القواعد وحفظها يساعد الفقيه على فهم مناهج الفتيا ويُطلعه على حقائق الفقه ومآخذه، ويُمَكِّنه من تخريج الفروع بطريقة سليمة واستنباط الحلول للوقائع المستجدة، قال السيوطي -رحمه الله-: "اعلم أن فن الأشباه والنظائر فن عظيم؛ به يطلع على حقائق الفقه ومداركه ومآخذه وأسراره، ويتمهر في فهمه واستحضاره، ويقتدر على الإلحاق والتخريج ومعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة والحوادث والوقائع التي لا تنقضي على مر الزمان" (¬1). وبذلك تصبح القواعد مَعِينًا ثَرًّا للفقهاء ومبعثَ حركةٍ دائمة ونشاط متجدد يُبعد الفقه عن أن تتحجر مسائله، وتتجمد قضاياه. 4 - أن تخريج الفروع استنادًا إلى القواعد الكلية يجنب الفقيه التناقض الذي قد يترتب على التخريج من المناسبات الجزئية، قال التقي السبكي (¬2) كما نقله عنه ولده التاج السبكي -رحمه الله-: "وكم من آخر مستكثر في الفروع ومداركها، قد أفرغ جمام ذهنه فيها غفل عن قاعدة كلية؛ فتخبطت عليه تلك المدارك وصار حيرانَ، ومن وفقه الله بمزيد من العناية جمع له بين الأمرين فيرى الأمر رأي العين" (¬3). 5 - ومن فوائد هذا العلم ما أشار إليه القرافي -رحمه الله- وصرح به ابن عاشور -رحمه الله-، وهو أنها -وبخاصة الكبرى منها- تساعد على إدراك مقاصد الشريعة؛ لأن القواعد الأصولية تركز على جانب الاستنباط، وتلاحظ جوانب التعارض والترجيح وما شابه ذلك من الأمور التي ليس فيها ملاحظة لمقاصد الشارع، أما القواعد الفقهية فهي مشتقة من الفروع والجزئيات المتعددة بمعرفة الرابط بينها، ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 6). (¬2) أبو الحسن، تقي الدين، علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف، السبكي، الشافعي، الشيخ الإمام الفقيه المحدث الحافظ المفسر المقرئ الأصولي المتكلم النحوي، من مصنفاته: إبراز الحكم من حديث رفع القلم، الابتهاج في شرح المنهاج، والاعتبار ببقاء الجنة والنار، ولد سنة 683 هـ، وتوفي سنة 756 هـ. طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (10/ 139)، البدر الطالع، للشوكاني، (1/ 320). (¬3) الأشباه والنظائر، للسبكي، (1/ 309).

المطلب الرابع: بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية

ومعرفة مقاصد الشارع التي دعت إليها (¬1). المطلب الرابع: بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية: تقدم أن القاعدة الفقهية في تعريفها المختار هي: حكم كلي فقهي ينطبق على فروع كثيرة من أكثر من باب (¬2). وهناك ارتباط وثيق بين علم الفقه وعلم الأصول، وهو ناتج من كون أحدهما أصلًا والآخر فرعًا، كأصل الشجرة وفروعها. ومع ذلك فهما مختلفان في الحدود والموضوع والثمرة، وغير ذلك من الأمور، وبالتالي فإن قواعد كل علم منهما تتمايز عن قواعد الآخر، ولعل أول من أشار إلى الفرق بين القاعدة الفقهية والأصولية العلامة القرافي -رحمه الله- في الفروق حيث قال في مقدمته: "فإن الشريعة المعظمة المحمدية -زاد الله تعالى منارها شرفًا وعلوًّا- اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان: القسم الأول: المسمى بأصول الفقه وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة، وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح، ونحو: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، والصيغة الخاصة للعموم، ونحو ذلك، وما خرج عن هذا النمط إلا كون القياس حجة، وخبر الواحد، وصفات المجتهدين. القسم الثاني: قواعد كلية فقهية جليلة، كثيرة العدد، عظيمة المدد، مشتملة على أسرار الشرع وحِكمه، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى، ولم يذكر منها شيء في أصول الفقه، وإن اتفقت الإشارة إليه هنالك على سبيل الإجمال فبقي تفصيله لم يتحصل" (¬3). ¬

_ (¬1) مقاصد الشريعة، لابن عاشور، (ص 6)، الفروق، للقرافي، (1/ 2 - 3)، القواعد الفقهية، للباحسين، (ص 114 - 117). (¬2) القواعد الفقهية، للندوي، (ص 45)، نظرية التقعيد الفقهي للروكي، (ص 38 - 48). (¬3) الفروق، للقرافي، (1/ 2 - 3).

ولا شك أن ثمة ارتباطًا بين القاعدتين، واشتباهًا وتداخلًا بسبب وحدة انتسابهما إلى الفقه، وتقارب ثمرتهما من حيث الوصول والتوصل إلى أحكام الشرع، وتواردهما على مقصود واحد وهو الفروع الفقهية، ومتعلقاتها من أحكام وحوادث. وإذا تأملنا الفروق بين القاعدتين تبين أنها كما يلي: 1 - من جهة الحد: القواعد الفقهية: مجموعة القواعد التي يجتمع تحتها كثير من الفروع الفقهية لعلاقة بينهما، أما القواعد الأصولية فيمكن أن تُحدَّ بأنها مجموعة القواعد التي توضح للفقيه طرق استخراج الأحكام من الأدلة الشرعية، فقواعد الفقه تركز على الأحكام، وقواعد الأصول تركز على الأدلة. 2 - من جهة الموضوع: موضوع القاعدة الفقهية أفعال المكلفين، بينما موضوع القاعدة الأصولية الأدلة الشرعية، وما يرتبط بها؛ فالقاعدة الأصولية: "النهي يقتضي الفساد" موضوعها كل دليل من الشريعة ورد فيه نهي، بينما القاعدة الفقهية: "المشقة تجلب التيسير" فموضوعها كل فعل من أفعال المكلَّف يَجِد فيه مشقة معتبرة شرعًا. 3 - من جهة الثمرة: ثمرة القواعد الأصولية: التمكن من استنباط الحكم الشرعي الفرعي، بينما ثمرة القواعد الفقهية: جمع الفروع التشابهة في الحكم تحت رباط قياسي واحد، وقد يقال: إن القواعد الأصولية موصلة للقواعد الفقهية من غير عكس. 4 - من جهة المستفيد منها: القاعدة الفقهية يمكن أن يستفيد منها الفقيه والمتعلم؛ حيث إن كل قاعدة تشتمل على حكم كلي لعدد من المسائل، فالرجوع إليها أيسر من الرجوع إلى حكم كل مسألة على حدة. بينما المستفيد من القواعد الأصولية: هو المجتهد خاصة، حيث يستعملها عند استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها.

5 - من جهة الاستمداد: القاعدة الفقهية مستمدة من الدليل الشرعي، أو المسائل الفرعية المشابهة في الحكم، بينما القواعد الأصولية مستمدة من الأدلة الإجمالية مما يستمد منه علم الأصول، كالعربية، وأصول الدين، وتصور الأحكام. 6 - من جهة الوجود في الواقع: القواعد الفقهية متأخرة في الوجود الواقعي والذهني أيضًا عن القواعد الأصولية؛ لأنها جمع للفروع المتشابهة في رباط مشترك، وهذا لا يكون إلا بعد وجود الفروع التي يسبق وجودها وجود القواعد الأصولية، والفقيه يأخذ قواعد الأصول ويطبقها على جزيئات الدليل الكلي بغية التوصل إلى الحكم الشرعي العملي التفصيلي. 7 - من جهة المسائل: مسائل علم القواعد الفقهية: القواعد الفقهية من حيث التطبيق على الفروع، أما مسائل علم أصول الفقه: فهي عائدة إلى أربعة أركان: الحكم، والدليل، وطرق الاستنباط، وشروط المستنبط، وهذا الفرق أخص من الفرق الثاني المتعلق بالاختلاف من جهة الموضوع. هذه بعض الفروق بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية، وقد يظهر من خلالها وجود علاقة بين هذين النوعين من القواعد هي: العموم والخصوص الوجهي، حيث يجتمعان في وجه، هو: أن كلًّا من قواعد العلمين يندرج تحته فروع، ويختلفان فيما عدا ذلك من نوع هذه الفروع المندرجة، وكيفية اندراجها، كما بينَّا سابقًا (¬1). ¬

_ (¬1) القواعد الفقهية، للباحسين، (ص 135 - 142)، القواعد الفقهية، للوائلي، (ص 13)، القواعد والضوابط الفقهية عند ابن تيمية، (ص 131 - 132)، نظرية التقعيد الفقهي، للروكي، (ص 56 - 59)، موسوعة القواعد الفقهية للبورنو، (1/ 25 - 28)، منهج استنباط أحكام النوازل، للقحطاني، (ص 443 - 447)، القواعد الأصولية عند الإمام الشاطبي، للجيلالي، (ص 59 - 64).

المبحث الثاني القواعد المتعلقة بالاجتهاد

المبحث الثاني القواعد المتعلقة بالاجتهاد لما كان أمر النظر في النوازل الفقهية للأقليات الإسلامية مبنيًّا على الاجتهاد الشرعي بشروطه، فقد ناسب البدء بذكر مجموعة القواعد المتعلقة بالاجتهاد أولًا، ثم ما ينضم إليها من مجموعات القواعد الأصولية والفقهية. المطلب الأول: تعريف الاجتهاد وبيان صلته بالإفتاء: الفرع الأول: معنى الاجتهاد لغة واصطلاحًا: الاجتهاد لغة: افتعال من الجهد، وهي صفة تدل على المبالغة في الفعل، واختلف في ضم الجيم أو فتحها، وقد سبق ابن منظور (¬1) إلى اعتبار الجَهد والجُهد: الطاقة، والاجتهاد والتجاهد بذل الوسع والمجهود (¬2)، وفي بعض المعاجم الحديثة (¬3) تفريق بين الكلمتين، فالجَهْدُ: المشقة والنهاية والغاية، والجُهد: الوسع والطاقة، وفي التنزيل: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]. وعليه فإن الاجتهاد لغةً يطلق على: بذل كل طاقة واستنفاد كل وسع في تحصيل أمر من الأمور التي تستلزم كلفة ومشقة فحسب، ولا يطلق على ما لا مشقة فيه. ¬

_ (¬1) أبو الفضل، جمال الدين، محمد بن مكرم بن علي، الأنصاري، الأفريقي، المصري، من مصنفاته: لسان العرب، واختصر كثيرًا من كتب الأدب كالأغاني، والعقد، والذخيرة، ومفردات ابن البيطار، ولد سنة 630 هـ، وتوفي سنة 711 هـ. بغية الوعاة، للسيوطي، (1/ 248)، والأعلام، للزركلي، (7/ 108). (¬2) لسان العرب، لابن منظور، (2/ 395). (¬3) المعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية (1/ 142).

المسلك الأول: من حيث تكييف الاجتهاد، وهذا يتفرع إلى منحيين

الاجتهاد اصطلاحًا: جرى ذكر تعريف الاجتهاد نقلًا عن الغزالي وابن الهمام (¬1)، وقال الآمدي -رحمه الله- (¬2) هو: "استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية، على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه" (¬3). ونقل الشوكاني -رحمه الله- (¬4) أنه: "بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط" (¬5). وتعددت تعريفات الأصوليين للاجتهاد وتنوعت عباراتهم، بل وتباينت أحيانًا، وهذا بالجملة يكشف عن مسلكين اثنين في تعريف الاجتهاد، وفيما يلي بعض الأضواء على هذين المسلكين (¬6): المسلك الأول: من حيث تكييف الاجتهاد، وهذا يتفرع إلى منحيين: الأول: اعتبار الاجتهاد فعل المجتهد. والثاني: اعتبار الاجتهاد صفة المجتهد (¬7). المنحى الأول: اعتبار الاجتهاد فعل المجتهد: ¬

_ (¬1) وذلك بالفصل الثاني من هذا الباب. (¬2) أبو الحسن، سيف الدين، علي ابن أبي علي بن محمد بن سالم، الآمدي، الأصولي المتكلم أحد أذكياء العالم، من مصنفاته: الإحكام في أصول الأحكام، وأبكار الأفكار، منتهى السول في الأصول، ولد سنة 551 هـ، وتوفي سنة 631 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (22/ 364)، وطبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (8/ 306). (¬3) الإحكام، للآمدي، (4/ 169). (¬4) أبو عبد الله، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن الحسن، اليمني، الصنعاني، الحافظ العلامة الشهير بالشوكاني، القاضي بصنعاء، من مصنفاته: نيل الأوطار، أدب الطلب ومنتهى الأرب، البدر الطالع، وغير ذلك، ولد سنة 1173 هـ، وتوفي سنة 1250 هـ. الأعلام، للزركلي، (6/ 298)، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (11/ 53). (¬5) إرشاد الفحول، للشوكاني، (2/ 1025 - 1026). (¬6) دراسات في الاجتهاد وفهم النص، د. عبد المجيد محمد السوسوه، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط 1، 1424 هـ - 2003 م، (ص 12 - 15). (¬7) المنهج الفريد في الاجتهاد والتقليد، د. وميض العمري، دار النفائس، الأردن، ط 1، 1419 هـ - 1999 م، (ص 22) بتصرف.

المنحى الثاني: اعتبار الاجتهاد صفة للمجتهد

حاول أصحاب هذا الاتجاه التعبير عن الاجتهاد بفعل المجتهد فصدروا تعريفهم ببذل الطاقة أو استفراغ الجهد أو غيرهما من كلمات تدل على الجهد الذي يبذله المجتهد. وقد ذهب بعض المعاصرين (¬1) إلى أن الغزالي اختار كلمة "بذل" عند تعريفه للاجتهاد بقوله: "والاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب" (¬2). إلا أنه بالرجوع إلى تعريف الغزالي الأول عند قوله: "الركن الأول في نفس الاجتهاد وهو عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال" (¬3)، نجد أنه قد جمع بين الكلمتين فاستخدم بذل واستفراغ في التعبير عن فعل المجتهد. وممن اختار كلمة استفراغ: الآمدي بقوله: "استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه" (¬4) وتابعه ابن الحاجب (¬5) والبيضاوي (¬6) وغيرهما. ومن الأصوليين من جمع بين الكلمتين كالغزالي، ومن قبله الشيرازي بقوله: "الاجتهاد في عرف الفقهاء استفراغ الوسع ويذل المجهود في طلب الحكم الشرعي" (¬7). المنحى الثاني: اعتبار الاجتهاد صفة للمجتهد: ¬

_ (¬1) المنهج الفريد، د. وميض العمري، (ص 20). (¬2) المستصفى، للغزالي، (ص 342). (¬3) المصدر السابق، (ص 342). (¬4) الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، (4/ 169). (¬5) مختصر المنتهي، لابن الحاجب، (2/ 1204). (¬6) أبو الخير، ناصر الدين، عبد الله بن عمر بن محمد بن علي القاضي، البيضاوي، من مصنفاته: الغاية القصوى في الفقه، والمنهاج في أصول الفقه، ومختصر الكشاف في التفسير، توفي سنة 685 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (8/ 155)، شذرات الذهب، لابن العماد، (7/ 685). (¬7) اللمع في أصول الفقه، لأبي إسحق إبراهيم بن علي الشيرازي، تحقيق: محيي الدين ديب مستو، ويوسف علي بديوي، دار الكلم الطيب، ودار ابن كثير، دمشق، ط 1، 1416 هـ - 1995 م، (ص 258).

المسلك الثاني: وفيه بني التعريف على قيود مذكورة

وقد صدَّر أصحاب هذا الاتجاه تعريفهم بكلمة "مَلَكَة" على معنى الصفة المكتسبة بالممارسة كالعلم، واستخدام الأصوليين لها من هذا الباب. والقاسم المشترك بين الاتجاه الأول (فعل المجتهد) بفرعيه: (بذل) و (استفراغ)، والاتجاه الثاني (صفة المجتهد)، هو أن الاجتهاد لا يتأتى إلا ببذل الجهد، سواء من البداية (الاتجاه الأول)، أو بعد عدة محاولات وممارسات لهذا البذل والجهد لتصبح صفة ملازمة للمجتهد (الاتجاه الثاني). وذلك لأن الاجتهاد باعتباره صفة لفعل المجتهد لا يتحقق ولا يوجد إلا بالملكة المشار إليها في الاعتبار الثاني، وإذا كان لا بد من حمله على أحد الاعتبارين فحمل الاجتهاد على فعل المجتهد هو الأولى؛ لأن الاجتهاد بهذا المعنى هو الفعل الذي تتطلبه الأمة لاستنباط الأحكام الشرعية، أما وصف الاجتهاد باعتباره (ملكة محضة) فلن ينتقل إلى حيز الفعلية في استنباط الأحكام الشرعية، وسيكون مجرد وصف للقابلية الذهنية المجردة، وليس لها أي آثار شرعية تتجاوز صاحبها. المسلك الثاني: وفيه بني التعريف على قيود مذكورة: القيد الأول: كون الذي يقوم بالاجتهاد مجتهدًا أم فقيهًا: الغزالي يقيد الاجتهاد بصدوره من المجتهد، أما ابن الحاجب وابن الهمام فيقيدانه بالفقيه، ومن الأصوليين من لا يقيده لا بالمجتهد ولا بالفقيه كالشافعي -رحمه الله-، والبيضاوي -رحمه الله-؛ إذ يعرف الاجتهاد بقوله: "استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية" (¬1)، وكذلك الآمدي (¬2)، واعتبر هؤلاء قيد المجتهد أو الفقيه لا قيمة له؛ إذ لا يمكن لمن ليس بمدرك لعلوم الشريعة أن يجتهد، سواء أسُمي فقيهًا أم لم يسمَّ. ¬

_ (¬1) نهاية السول، للإسنوي، (4/ 524). (¬2) الإحكام، للآمدي، (4/ 169).

القيد الثاني: الحكم الشرعي، وهو القيد المذكور في جُلِّ تعريفات الأصوليين للاجتهاد، فالاجتهاد بمعناه الاصطلاحي لا يكون إلا لتحصيل الحكم الشرعي، وهذا القيد ليس محل خلف عند الأصوليين القدماء لإدراكهم حقيقة الاجتهاد الذي يقصدون، أما عند المحدثين ففيه خلط منشؤه عدم قصر الاجتهاد على إدراك أو استنباط الأحكام الشرعية. القيد الثالث: القطع أو الظن: أي: هل الحكم الثابت بالاجتهاد قطعي أم ظني؟ فقد اختلف العلماء في هذا، وجاء تبعًا لذلك اختلافهم في تعريف الاجتهاد. ويمكن تقسيمهم فيما اختلفوا فيه إلى ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى: عرَّفت الاجتهاد وقيدته بما يفيد العلم بمعناه العام، والذي هو: مطلق الإدراك الشامل للقطع والظن؛ باعتبار أن الأحكام الثابتة بالاجتهاد منها: ما هو قطعي، ومنها: ما هو ظني، ومن هذه التعريفات: تعريف الغزالي؛ حيث يقول: "بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة" (¬1). وعرفه ابن قدامة بأنه: "بذل الجهد في العلم بأحكام الشرع" (¬2). المجموعة الثانية: لم تقيد الاجتهاد بأي من القطع أو الظن، وجاءت تعريفاتها خالية من هذا القيد. ومن ذلك: تعريف البيضاوي، حيث يقول: "هو استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية" (¬3). وتعريف الرازي، حيث يقول: "استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع فيه" (¬4). المجموعة الثالثة: قيدت تعريفها للاجتهاد بما يفيد الظن، حيث تكون الأحكام ¬

_ (¬1) المستصفى، للغزالي، (ص 342). (¬2) روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 352). (¬3) نهاية السول، للإسنوي، (4/ 524). (¬4) المحصول، للرازي، (6/ 7).

الثابتة بالاجتهاد ظنية غالبًا، ومن ذلك: تعريف ابن الحاجب؛ حيث يقول: "استفراغ الوسع لتحصيل ظنٍّ بحكمٍ شرعي" (¬1). وتعريف التفتازاني؛ حيث يقول: "استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم" (¬2). وتعريفات المجموعة الأولى والمجموعة الثانية تلتقي في كون تعريفها للاجتهاد يشمل القطعي والظني؛ حيث إن المجموعة الأولى قد قيدت الاجتهاد بها يفيد ذلك، أما المجموعة الثانية فلم تقيده، ولكن جاءت بصفة التعميم، مما يجعله يشمل القطع والظن. وكثير من العلماء لا يرتضون التعريفات التي تفيد شمول الاجتهاد للقطعي والظني، ويعتبرون أن الاجتهاد الفقهي محله الأدلة الظنية لا القطعية؛ ولذلك ارتضوا تعريفات المجموعة الثالثة باعتبارها قيدت الاجتهاد بالظن. ويلاحظ أيضًا أن بعض الأصوليين عرف الاجتهاد بذكر أنواعه دون بيان لحقيقته، كما فعل الشاطبي (¬3) -رحمه الله-، وهو مسلك يتحاشى الدخول في إشكالات مصطلحية كثيرة، وهو جدير بالاعتبار. ومن المعاصرين كذلك من ذهب إلى عدم اعتبار تعريفات الأصوليين للاجتهاد تعريفات محددة بقدر تسميتها بمفهوم الاجتهاد، إدراكًا منه بأن تلك المحاولات نابعة عن مفاهيم معينة تكونت لدى واضعيها حول العملية الاجتهادية (¬4)، وقد ناقش هذه المفاهيم التي قسَّمها إلى ثلاث مراحل بدءًا بالشافعي، ثم مفهوم الاجتهاد بعد الشافعي ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى، لابن الحاجب، (2/ 1204). (¬2) شرح التلويح على التوضيح، للتفتازاني، (2/ 245). (¬3) الموافقات، للشاطبي، (4/ 89). (¬4) الاجتهاد في فهم النص معالم وضوابط، د. قطب سانو، رسالة دكتوراه غير مطبوعة، قدمت إلى كلية القانون في الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا، 1996 م، (ص 25)، نقلًا عن معالم وضوابط الاجتهاد عند شيخ الإسلام ابن تيمية، د. علاء الدين حسين رحال، دار النفائس، الأردن، ط 1، 1422 هـ - 2002 م، (ص 60).

الفرع الثاني: العلاقة بين الفتيا والاجتهاد

إلى نهاية القرن السادس الهجري، ثم مفهوم الاجتهاد من نهاية القرن السادس الهجري إلى يومنا، والمنطلق الذي انطلق منه هو أنَّ وضع تعريف للاجتهاد أمرٌ متعذر؛ إذ يسبقه ممارسة الاجتهاد، وكيف يمارس الشيء قبل معرفة حقيقته؟ (¬1). وايًّا ما كان الراجح من تعريفاتهم للاجتهاد فالحاصل أنهم تارة يطلقون الاجتهاد على المطلق في فروع الشريعة، وتارة على المقيد بالمذهب الفروعي، وتارة على تحقيق المناط، والله تعالى أعلم. القيد الرابع: لا يعتبر الاجتهاد إلا ببذل كامل الوسع واستفراغ جميع الجهد في درك الحكم الشرعي الظني، وإلا لم يكن مجتهدًا، وهو معنى دلَّت عليه اللغة. الفرع الثاني: العلاقة بين الفُتيا والاجتهاد: ذهب عدد من الأصوليين والفقهاء إلى أنه لا فرق بين المفتي والمجتهد، فلم ينصُّوا على فروق بينهما، واهتمامهم ينصَبُّ على شروط المفتي ولوازمه أكثر من تعريفه. وهذا لا يمنع من وجود قواسم مشتركة كثيرة بين المفتي والمجتهد، إلا أن الفروق بينهما يمكن إجمالها فيما يلي: 1 - من جهة مجالات الاجتهاد والإفتاء: فالاجتهاد لا يكون إلا في الأحكام الشرعية الظنية، أما القطعية فلا مجال للاجتهاد فيها؛ إذ هي لا تقبل الاحتمال، ولا يجوز فيها الاختلاف، وخلافًا لذلك فالراجح أن الإفتاء لا يختص بالأحكام الظنية، بل يشمل الأمور القطعية أيضًا؛ لأنه إخبار وتبليغ وتطبيق لأحكام الشريعة. ومن صرح من الأصوليين بالاجتهاد في الأحكام القطعية كان مقصوده الاجتهاد ¬

_ (¬1) الملاحظ أنه ذكر فيما بعد تعريفًا مقترحًا للاجتهاد، هو: بذل من جمع آلات معينة في عصر معين وسعه من أجل التوصل إلى فهم المعاني التي دلت عليها نصوص الوحي -كنابًا وسنة- دلالة قطعية أو ظنية، وتنزيل المعاني المفهومة على واقع إنساني معين، المصدر السابق، (ص 60).

في كشف القطعية، لا الاجتهاد في القطعية ذاتها (¬1). 2 - من جهة رعاية الواقع: فعمل الفقيه والمجتهد في استنباط الأحكام إنما هو عمل متجرد عن الوقائع والنظر فيها، أما المفتي فيجب عليه أن يراعي حين إصداره للفتوى تلك الخصوصية المسئول عنها، والقرائن المحيطة بها، كما ينظر في حال المستفتي وظروفه (¬2). والفتوى الصحيحة تتطلب -مع توافر شروط الاجتهاد في المجتهد- شروطًا أخرى، وهي: معرفة واقعة الاستفتاء، ودراسة نفسية المستفتي، والجماعة التي يعيش فيها، وظروف البيئة أو البلد التي حدثت فيها النازلة أو الواقعة أو العمل، ليعرف مدى أثر الفتوى سلبًا وإيجابًا (¬3). ولا بد من أن يتصف المفتي بما له تعلق بالممارسة العملية وقبول الناس لفتواه، وهي: العقل، والبلوغ، والحرية بالاتفاق، والحياة، والأعلمية، والعدالة، على اختلاف فيها. والعدالة شرعًا: يراد بها أهلية قبول الشهادة والرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعرفها الغزالي بقوله: "العدالة عبارة عن استقامة السيرة والدين، حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس، تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة جميعًا، حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه (¬4)، وذلك إنما يتحقق باجتناب الكبائر، وبعض الصغائر، وبعض المباحات المشبوهة. فلا يُستفتى مجهول العدالة حتى تعلم عدالته بقول عدل أو عدلين أو بالاستفاضة والشهرة؛ لأن العدل يكون غالبًا موفقًا إلى اختيار الصواب، وليطمئن الناس إلى كلامه، ¬

_ (¬1) معالم وضوابط الاجتهاد عند شيخ الإسلام ابن تيمية، د. علاء الدين رحال، (ص 58 - 59). (¬2) منهج الإفتاء عند الإمام ابن قيم الجوزية دراسة وموازنة، د. أسامة عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط 1، 1423 هـ - 2004 م، (ص 68)، وتاريخ الفتوى في الإسلام وأحكامها الشرعية، للينة الحمصي، دار الرشيد، دمشق، ط 1، 1996 م، (ص 55 - 58). (¬3) أصول الفقه، لأبي زهرة، (ص 401). (¬4) المستصفى، للغزالي، (ص 125).

بخلاف الفاسق فإنه مذموم، ويحيط الشك كثيرًا بأقواله (¬1). قال ابن فرحون (¬2): "إن المكلفين قسمان: مجتهد وغير مجتهد، وغير المجتهد أوجب الشرع عليه الرجوع إلى قول المجتهدين العدول، فنزَّل الشرع ظن المجتهد في حقه كظنه لو كان مجتهدًا لضرورة العمل، وهذا أمر مجمع عليه" (¬3). 3 - من حيث حصول الواقعة موضع الفتيا: الإفتاء يختلف عن غيره من حيث حدوث الواقعة المسئول عنها، فلا بد للإفتاء من أمرين: أولهما: السؤال من قبل المستفتي، وثانيهما: وقوع تلك المسألة المسئول عنها، أما في الاجتهاد فلا يشترط هذا. وعليه فالاجتهاد أعمُّ من الإفتاء بهذا الاعتبار (¬4). ويقول الدكتور وهبة الزحيلي: "الأصل في المفتي: أن يكون هو المجتهد أو الفقيه، ثم صار لفظ المفتي في عصرنا يطلق على متفقهة المذاهب، الذين يقتصر جهدهم على تطبيق نصوص الفقه المذهبي على الوقائق، وذلك الإطلاق من قبيل المجاز، أو الحقيقة العرفية بحسب اصطلاحات الحكومة المعاصرة، والفارق بين الاجتهاد والإفتاء: هو أن الإفتاء أخص من الاجتهاد، فإن الاجتهاد هو استنباط الأحكام، سواء أكان هناك سؤال في موضوعها أم لم يكن، أما الإفتاء فإنه لا يكون إلا إذا كانت واقعة وقعت، ويتعرف الفقيه حكمها" (¬5). ¬

_ (¬1) سبل الاستفادة من النوازل المعاصرة، د. وهبة الزحيلي، (ص 14). (¬2) أبو الوفاء، برهان الدين، إبراهيم بن علي بن محمد بن محمد ابن أبي القاسم بن محمد بن فرحون، اليعمري، المالكي، من مصنفاته: تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، والديباج المذهب في أعيان المذهب، وغير ذلك، توفي سنة 799 هـ. الدرر الكامنة، لابن حجر، (1/ 48)، شذرات الذهب، لابن العماد، (8/ 608). (¬3) تبصرة الحكام، لابن فرحون، (1/ 53). (¬4) الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، (32/ 21)، فقه المستجدات في باب العبادات، لطاهر الصديقي، (ص 79). (¬5) سبل الاستفادة من النوازل، د. وهبة الزحيلي، (ص 13).

المطلب الثاني: القواعد الأصولية والمقاصدية المتعلقة بالاجتهاد

المطلب الثاني: القواعد الأصولية والمقاصدية المتعلقة بالاجتهاد: بعد البحث واستقراء القواعد الأصولية والمقاصدية المتعلقة بالاجتهاد، والتي يمكن الإفادة منها في تأصيل فقه النوازل للأقليات المسلمة، فقد أمكن انتقاء وترتيب القواعد الأصولية والمقاصدية الآتية: القاعدة الأولى: الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة. القاعدة الثانية: الاجتهاد المحقق لشروطه معتبر شرعًا. القاعدة الثالثة: ليس على المجتهد التقيُّد بالمذاهب الفقهية. القاعدة الرابعة: على المجتهد الجمع بين فقه النص والواقع. وتفصيل هذه القواعد على النحو الآتي: القاعدة الأولى: الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة (¬1): هذه القاعدة قاعدة مقاصدية تتعلق بعموم التكليف بالشريعة. المعنى العام للقاعدة: أفادت هذه القاعدة أنه لا يخرج أحد من الخلق كائنًا من كان عن أن يكون مخاطبًا بجميع أحكام الشريعة، فتثبت أحكامها الغراء لكل مكلف، وهي صالحة للخلق كافة على اختلاف أجناسهم وأمصارهم وأعصارهم؛ فلا يحاشى أحد من الدخول تحت أحكامها، ولا تحاشى نازلة من النوازل أن تدل الشريعة على حكمها بالنص عليها أو بالاستنباط منها. فالناس كبيرهم وصغيرهم، قويهم وضعيفهم، غنيهم وفقيرهم، ذكرهم وأنثاهم، مخاطبون بأحكامها ومكلفون بأعمالها والوقاع المعهودة والغريبة، الصغيرة والكبيرة، المستجدة ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 244).

والقديمة، الواقعة في غير بلاد الإسلام، والكائنة في بلاد الإسلام -لا تخرج في أحكامها عن سلطان الشريعة، فلا توجد واقعة ولا مكلف مسلم في أي زمان أو مكان يسعه الخروج عن أحكام الشرعية الغراء، وهذه القاعدة تعد فاتحة قواعد التأصيل لهذا الفقه، لأهمتيها البالغة ولابتناء ما يأتي عليها من قواعد حاكمة وأصول ضابطة. أدلة القاعدة: دل على هذه القاعدة الكتاب والسنة والمعقول والإجماع، وذلك على التفصيل التالي: أولًا: القرآن الكريم: وقد دلت آيات كثيرة على هذا المعنى، منها: قوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]. وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]. وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]. وجه الدلالة: الآيات الثلاث السابقة تدل بجملتها على عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم -، وعموم تكليف الناس بها، وعموم أمره - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ جميع الدين. قال ابن كثير (¬1): "وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة، أنه صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى الناس كلهم" (¬2). ثانيًا: السنة المطهرة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود" (¬3). ¬

_ (¬1) أبو الفداء، عماد الدين، إسماعيل بن عمر بن كثير، الدمشقي، الشافعي، من مصنفاته: تفسير القرآن، والبداية والنهاية، وتخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب، سمع من ابن الشحنة، وابن عساكر، والمزي، ولد سنة 701 هـ، وتوفي سنة 774 هـ. الدرر الكامنة، لابن حجر، (1/ 373)، البدر الطالع، للشوكاني، (1/ 102). (¬2) تفسير ابن كثير، (3/ 489). (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب التيمم، (335) -وعنده: "وبُعثت إلى الناس عامة"، وفي رواية: "كافة"-، =

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده؛ لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به؛ إلا كان من أصحاب النار" (¬1). وجه الدلالة: المراد بالأمة في الحديث الثاني: أمة الدعوة؛ أي: كل من دعاه إلى الإيمان؛ لأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يهودي ولا نصراني": بدل من قوله: "من هذه الأمة"؛ أي: بدل من (الأمة)، بدل بعض من كل (¬2). والحديثان يدلان على عموم الشريعة لكل الأمة في كل زمان ومكان؛ فكل من تبلغه دعوة الإسلام، ويسمع بالرسول - صلى الله عليه وسلم - على الوصف الحقيقي، خاليًا من التشويه والتحريف، ومات ولم يؤمن بالذي أرسل به - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه من أصحاب النار. الإجماع: أجمع الصحابة والتابعون ومن بعدهم على عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذا صيَّروا أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة للجميع في أمثالها، وحاولوا فيما وقع من الأحكام على قضايا معينة وليس لها صيغ عامة أن تجري على العموم إما بالقياس، أو بالرد إلى الصيغة أن تجري على العموم المعنوي، أو غير ذلك من المحاولات (¬3). المعقول: أنه لو جاز خطاب البعض ببعض الأحكام، حتى يخص بالخروج عنه بعض الناس، لجاز ¬

_ = ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، (521) -واللفظ له-، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- مرفوعًا: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي. . . " فذكر هذا من هذه الخمس. (¬1) أخرجه: مسلم، كتاب الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته، (153)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) إكمال إكمال المعلم، شرح صحيح مسلم، لأبي عبد الله محمد بن خلفة الأبي، دار الكتب العلمية، بيروت، (1/ 263). (¬3) الموافقات، للشاطبي، (2/ 246).

مثل ذلك في قواعد الإسلام أن لا يخاطب بها بعض من كملت فيه شروط التكليف بها، وكذلك في الإيمان الذي هو رأس الأمر، وهذا باطل بإجماع، فما لزم عنه مثله. وعليه فكل مكلف داخل تحت أحكام الشريعة المبثوثة في الخلق (¬1). وقد عدَّ الشاطبي من فوائد هذه القاعدة الأصولية: إثبات القياس على منكريه من جهة أن الخطاب كان يرد خاصًّا ببعض الناس، ولم يرد في كل قضية لفظ يستند إليه في إلحاق غير المذكور بالمذكور، فأرشد ذلك إلى أنه لا بد في كل واقعة وقعت إذ ذاك أن يلحق بها ما في معناها، وهو معنى القياس. كما أنها أفادت أيضًا أن الصوفية داخلون تحت أحكام الشريعة، وأن ما يذكره الزنادقة من أن التكليف خاص بالعوام ساقط عن الخواص باطل تهدمه هذه القاعدة الأصولية (¬2). تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: هذه القاعدة تتعلق بالأقليات المسلمة من حيث هي تؤصل لدخول جميع المكلفين في الخطاب بالشريعة، سواء أكانوا من المسلمين المقيمين في غير بلاد المسلمين، أم كانوا في بلاد المسلمين، أم كانوا من غير المسلمين. وقد تقدم أنه قد تحفظت بعض المجامع الفقهية المعاصرة على مصطلح "الأقليات" و"الجاليات"؛ لما قد تحمله من دلالات سلبية وغير معبرة. وقد جاء في القرار رقم (151) الصادر عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورته السادسة عشرة بدبي (بدولة الإمارات العربية المتحدة)، ما يلي: ¬

_ (¬1) المصدر السابق، (2/ 246 - 247). (¬2) الموافقات، للشاطبي، (2/ 247 - 248).

1 - ينبغي استبعاد تسمية الوجود خارج العالم الإسلامي بـ"الأقليات"؛ أو "الجاليات"؛ لأن تلك التسميات مصطلحات قانونية لا تعبِّر عن حقيقة الوجود الإسلامي الذي يتصف بالشمولية والأصالة والاستقرار والتعايش مع المجتمعات الأخرى، وأن التسمية المناسبة هي مثل: (المسلمون في الغرب)، أو (المسلمون خارج العالم الإسلامي) (¬1). كما أن المؤتمر الثاني لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا المنعقد بكوبنهاجن بالدانمرك قد درس في فعالياته التعبير بفقه الأقليات؛ فبيَّن القرار أن هذا التعبير إن قصد به الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية لنوازل الأقليات الإسلامية من خلال القواعد الشرعية المقررة في باب الاجتهاد، وتفعيل الأصول الاجتهادية التي تتعلق بالأحوال الاستثنائية كقاعدة: المصالح، والمآلات، والضرورات، ونحوها، واعتبار خصوصية هذه الأقليات من حيث الاغتراب والالتزام القانوني بأنظمة المجتمعات التي يعيشون فيها، والتطلع إلى تبليغ الدعوة لأهلها، فإن ذلك حق، وينبغي أن يعان عليه من دعا إليه. أما إن قصد به تتبع الزلات، وتلمس شواذ الأقوال والتلفيق بين آراء المجتهدين، بدعوى التجديد وتحقيق المصالح، فإن هذا مسلك باطل، يفضي في نهاية المطاف إلى فصل هذه الأقليات عن جذور أمتها في الشرق، وتأسيس فقه محدث لنوازلها، وأصول بدعية للاجتهاد فيها، وينبغي التحذير منه، وبيان سوء مغبته، وبذل النصيحة اللازمة لأصحابه (¬2). وهذا القرار وغيره يؤكد من جهة على خضوع جميع المسلمين تحت قاعدة التكليف الكلية بالشريعة الإسلامية أصولًا وفروعًا، كما يؤكد على واقعية الشريعة في اعترافها بالضرورات والحاجات في حياة الناس، سواء أكانت فردية أم جماعية. كما تظهر الموازنة بين نصوص الشرع الجزئية، ومقاصده الكلية، فلا تُعطل ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي، الدورة السادسة عشرة، ط 1، 1428 هـ - 2007 م، (4/ 711 - 712). (¬2) البيان الختامي للمؤتمر الثاني لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا في جمادى الأولى، عام 1425 هـ، يونيو 2004 م.

القاعدة الثانية: الاجتهاد المحقق لشروطه معتبر شرعا

النصوص الجزئية من الكتاب والسنة بدعوى المحافظة على روح الشريعة ومقاصدها، ولا تُترك رعاية المقاصد الكلية استمساكًا بالمسائل الجزئية، مع تأصيل مبدأ تغير الفُتْيَا بتغير الزمان والمكان والحال والأشخاص، وتُراعى أهمية الموازنة بين المحافظة على الوجود الإسلامي للمسلمين خارج البلاد الإسلامية، والدفاع عن الهوية والخصوصية الدينية والحضارية والثقافية، ومقتضيات ما يسمى بالمواطنة في بلاد غير المسلمين. وهي من جهة أخرى تمهد للرد على من حاول إخراج الوجود الإسلامي في بلاد الأقليات عن سلطان الفقه والأصول والقواعد الشرعية، وذلك بابتداع أو إحداث أصول جديدة. القاعدة الثانية: الاجتهاد المحقق لشروطه معتبر شرعًا: المعنى العام للقاعدة: حتى يكون الاجتهاد معتبرًا فله شروط تتعلق بالمجتهِد، وشروط تتعلق بالمجتهَد فيه. وإذا صدر الاجتهاد ممن تحققت فيه شروط المجتهد الشخصية من الإسلام والتكليف والعدالة وفقه النفس، وكذا شروط المجتهد العلمية المطلوبة لدى الاجتهاد المطلق أو المقيد من معرفة كتاب الله العزيز، وآيات الأحكام فيه، وما يتعلق بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، والسنة المطهرة وأحاديث الأحكام فيها، وما يتميز به المقبول من المردود، والصحيح من السقيم، ومعرفة اللغة العربية وأساليبها وتراكيبها، وطرائق أهلها، بما يميز به صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، ومعاني الألفاظ والتراكيب، ووجوه الدلالات المختلفة، ومعرفة علم أصول الفقه وقواعد الاستدلال، وأصول الاستنباط، وطرق الترجيح، ومعرفة مسائل الإجماع ومواقعه، ومسائل الخلاف ومظانه، ومقاصد الشريعة، وما بنيت عليه من جلب المصالح ودفع المفاسد، وغير ذلك مما يطلب في شخص المجتهد وصفاته العلمية (¬1) -فإنه يكون عندئذٍ معتبرًا إذا كان في محلٍّ ¬

_ (¬1) الإحكام، للآمدي، (4/ 170 - 171)، الموافقات، للشاطبي، (4/ 105 - 118)، شرح جمع الجوامع مع =

يجوز فيه الاجتهاد من كل مسألة ليس عليها دليل نصيٌّ قاطع أو إجماع صحيح منعقد؛ أما ما لم يرد فيه نصٌ ولا إجماع فهو ميدان فسيح ومجال رحبٌ للاجتهاد. فإذا كانت المسألة اجتهادية مترددة بين النفي والإثبات، ونظر فيها المجتهد المتأهل فاستفرغ وسعه وبذل جهده، وسلك الطرائق المرعية والمناهج المرضية في الاستنباط والاستدلال والترجيح عند التعارض؛ فإن هذا الاجتهاد يكون مقبولًا معتبرًا تترتب عليه آثاره الشرعية والواقعية (¬1). أدلة القاعدة: كل دليل استدل به على مشروعية الاجتهاد من القرآن والسنة والإجماع فهو دليل لهذه القاعدة، وفيما يلي بعض أنواع الأدلة عليها: أولًا: القرآن الكريم: قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78، 79]. وجه الدلالة: دلَّ قوله تعالى: {إذ يحكَمَان} على أن داود وسليمان -عليه السلام- حكما في هذه الحادثة معًا كلٌّ منهما بحكم مخالف للآخر، ولو كان وحيًا لما ساغ الخلاف، فدل على أن الحكم الصادر من كل منهما اجتهاد، يؤيد ذلك قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}؛ إذ خص الله سليمان -عليه السلام- بتفهيمه الحكم الصحيح، ولو كان الحكم نصًّا لاشتركا في فهمه (¬2). ¬

_ = حاشية العطار، للمحلي (2/ 421 - 425)، المستصفى، للغزالي، (ص 342 - 344)، إرشاد الفحول، للشوكاني، (2/ 1027 - 1034). (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 279)، الموافقات، للشاطبي، (4/ 155). (¬2) انظر: مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (20/ 224)، أضواء البيان، للشنقيطي (4/ 170 - 172)، الفصول في الأصول، للجصاص، (4/ 24 - 37) فقد ذكر الكثير من الأدلة على إثبات الاجتهاد.

ثانيًا: السنة المطهرة: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" (¬1). 2 - حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- المشهور، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بعثه إلى اليمن، قال له: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله؛ قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ "؛ قال: فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في كتاب الله؟ "؛ قال:. . . فذكره. فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله" (¬2). وجه الدلالة: دل الحديثان على مشروعية الاجتهاد ممن تأهل لرتبته، وقد حفلت السنة النبوية بكثير من الوقائع والحوادث التي اجتهد فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه -رضي الله عنهم- (¬3). ثالثًا: الإجماع: حكى الإمام أبو بكر الجصاص -رحمه الله- (¬4) الإجماع على ذلك -قائلًا-: "وقد استقر أن إجماعهم حجة بما قدمنا على تسويغ الاجتهاد في أحكام الحوادث والرجوع إلى النظر والمقاييس" (¬5). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) إعلام الموقعين، لابن القيم (1/ 200 - 217)، زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، تحقيق: شعيب وعبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 15، 1407 هـ، (3/ 394)، جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (2/ 844)، وما بعدها، الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (1/ 490 - 503). (¬4) أبو بكر، أحمد بن علي، الرازي، الجصاص، الإمام الكبير الشأن، صاحب أبي الحسن الكرخي، وله من التصانيف: أحكام القرآن، وشرح مختصر الطحاوي، وشرح الأسماء الحسنى، ولد سنة 305 هـ، وتوفي سنة 370 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 144)، الجواهر المضية، لمحيي الدين القرشي، (1/ 220). (¬5) الفصول في الأصول، للجصاص، (4/ 53).

وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة". فالقول بجواز الاجتهاد هو مذهب الجماهير (¬1)، ومنهم من ذهب إلى أنه فرض كفاية (¬2). وقد رأينا الشاطبي -رحمه الله- يعقد في الشروط العلمية للاجتهاد قاعدة أصولية مفيدة يقول فيها: إن الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص اشترط له العلم بالعربية، وإن تعلق بالمعاني لزم العلم بمقاصد الشريعة (¬3). وهذا يدل على أن العلم بالعربية أداة فهم النصوص ومن ثم الاستنباط (¬4)، وأن العلم بمقاصد الشريعة يعين على الترجيح بين المصالح والمفاسد. ولقد قرر الشاطبي أن درجة الاجتهاد لا تحصل إلا لمن اتصف بوصفين: 1 - فهم مقاصد الشريعة على كمالها. 2 - التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها (¬5). ويستدل لمباشرة الاجتهاد في محالِّه المعتبرة بعد استيفاء شروطه المعتبرة بها هو معلوم من تناهي النصوص، وعدم تناهي الحوادث المستجدة. وفي هذا المقام يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله-: "الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة؛ ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلا بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصًا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، وعند ذلك؛ فإما أن يترك الناس فيها مع أهوائهم، أو ينظر فيها بغير ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى، لابن تيمية، (20/ 203). (¬2) البحر المحيط، للزركشي، (6/ 198)، والأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 415). (¬3) الموافقات، للشاطبي، (4/ 162). (¬4) اعتبر بعض العلماء، كالشهرستاني صاحب الملل والنحل، والأستاذ عبد الوهاب خلَّاف صاحب أصول الفقه، العلم بالعربية أول شروط الاجتهاد، وفصَّل الشاطبي القول في ذلك. (¬5) الموافقات، للشاطبي، (4/ 105 - 106).

اجتهاد شرعي، وهو أيضًا اتباع للهوى، وذلك كله فساد" (¬1). وقد يرتقي حكم الجواز هنا إلى الوجوب في حق المجتهدين في حالة حاجة الناس الشديدة لمعرفة حكم تلك النازلة مع ضيق وقت النظر والاجتهاد، فحينئذ يتعين على القادر من أهل الاجتهاد التصدي لهذه النازلة وأداء هذه المهمة (¬2). تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: وهذه القاعدة بمنطوقها تقيد الناظر في مسائل ونوازل الأقليات المسلمة بشروط الاجتهاد المعتبرة في شخص المجتهد، وهي تؤكد على هذا المعنى من جهة أن كثيرًا من تلك النوازل الفقهية إنما هي وقاع مستجدة، ربما لا تسعف الفقيه فيها نصوص حاضرة، فهي إلى عمل المجتهد المطلق أقرب منها إلى عمل المجتهد المقيد، وهي إلى ما يسمى "بالاجتهاد الإنشائي" أو "الإبداعي" أقرب منها إلى ما يسمى "بالاجتهاد الانتقائي" (¬3). كما تؤكد هذه القاعدة على اتباع المنهج المعتبر في الاجتهاد والاستنباط والذي يقوم على قاعدة النصوص التفصيلية أولًا ثم ينظر في المصالح والمقاصد ثانيًا، وُيعنَى بفقه الواقع وما تتميز به الأقليات المسلمة في بلاد غير المسلمين من خصائص وظروف دقيقة ثالثًا، وما ينبغي أن يحصل مراعاةً لفقه الأولويات وتحقيقًا لقاعدة الموازنات بين المصالح والمفاسد والإيجابيات والسلبيات والمنافع والمضار أخيرًا. يقول الشاطبي -رحمه الله-: "المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية، ومعنى كونها إضافية أنها منافع ومضار في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 104). (¬2) البحر المحيط، للزركشي، (6/ 206 - 207)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 526 - 527). (¬3) هذه مصطلحات أطلقها فضيلة الدكتور: يوسف القرضاوي، في كتابه الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، (ص 141)، ووافقه عليها الدكتور عبد الله بن بيه في كتابه، صناعة الفتوى، (ص 170)، وغيره من الباحثين.

شخص أو وقت دون وقت. . . فكثير من المنافع تكون ضررًا على قوم لا منافع، أو تكون ضررًا في وقت أو حال، ولا تكون ضررًا في آخر" (¬1). وهذه القاعدة على هذا النحو تؤصل لفقه نوازل الأقليات المسلمة في غير بلاد المسلمين انطلاقًا من النصوص التفصيلية الجزئية، ومن قواعد الاستنباط الأصولية، وفي محالِّ الاجتهاد المعتبرة مع رعاية الضرورات والحاجات وخصوصيات الأقليات. وهذا المنحى يمثل جماهير علماء المسلمين في مجامعهم الفقهية وهيئاتهم العلمية الموجودة في الغرب، كالمجلس الأوروبي للإفتاء، ومجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، وسائر المجامع الفقهية في بلاد المسلمين. كما أن القاعدة ترد بمفهومها على منحى آخر يخالف هذا المنحى قد بدا وظهر ليقدم حلولًا عملية لمشكلات واقعية لا يعتني بالاجتهاد الأصولي المعتبر، ولا يطلب تحقيق شروطه، وإنما هو يستأنس بروح الشرع وعمومياته، ولا يستنبط الأحكام وفق علم أصول الفقه وآلياته، ولا ينظر كثيرًا إلى الأدلة التفصيلية ولا يُعَوِّلُ عليها!! وعند الخوض في فقه الأقليات يعتبر أن هذا الفقه ليس فقهًا فروعيًّا وإنما هو فقه أصولي كلي يشتمل على عقائد وأخلاق ومبادئ وقيم لا مجرد أحكام! وهو اتجاه يستفز إلى تجديد لا في الفقه فحسب! بل في أصول الفقه أيضًا!! ويبرز في التنظير لهذا الاتجاه، د. طه جابر العلواني وهو رئيس المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية، ورئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية في فيرجينيا بأمريكا، ورئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي بفرجينيا أيضًا، حيث يقول: "لا يمكن إدراج "فقه الأقليات" في مدلول "الفقه" كما هو شائع الآن -أي: فقه الفروع- بل الأولى ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 39 - 40).

إدراجه ضمن "الفقه" بالمعنى العام الذي يشمل كل جوانب الشرع اعتقادًا وعملًا، بالمعنى الذي قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" (¬1). أو الفقه الاكبر كما دعاه الإمام أبو حنيفة -رحمه الله-، وأطلقه على الكتاب المنسوب إليه؛ لذلك رأينا ضرورة ربطه بالفقه الأكبر وضعًا للجزء في إطار الكل، وتجاوزًا للفراغ التشريعي أو الفقهي" (¬2). وبدرجة ما ينضم د. جمال الدين عطية إلى هذا الاتجاه (¬3)، ود. جمال الدين كان مستشارًا أكاديميًّا للمعهد العالمي للفكر الإسلامي، ومديرًا لمكتبه بالقاهرة في الفترة من 1987 م - 1992 م، وأمينًا عامًّا للموسوعة الفقهية بوزارة الأوقاف الكويتية في الفترة من 1969 م - 1971 م، وهو الآن مدير لمشروع معلمة القواعد الفقهية التابع للمجمع الفقهي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي. ويبدو هذا المنحى مباينًا ومزايلًا لمنحى الجماهير سلفًا وخلفًا، فما رأينا منذ محمد بن الحسن الشيباني في كتابيه السير الكبير والصغير من دعا إلى هذا، وإن "الاجتهاد الانتقائي" الذي يتحدث عنه، فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي بقوله: "ينتقي من القديم في ضوء الأصول والاعتبارات الشرعية"، و"الاجتهاد الإبداعي"، والذي يواجه ما امتلأت به الحياة المعاصرة من ألوف المسائل الجديدة التي لا يمكن أن تجد لها جوابًا مباشرًا في تراثنا الفقهي العظيم، هذا الاجتهاد الإبداعي وسابقه الانتقائي يراعيان الاستناد إلى القواعد الفقهية الأصولية التي أصَّلها العلماء وحررها الفقهاء، وهي كثيرة وفيرة، وقد ذكر منها الدكتور القرضاوي نفسه نحو أربعين قاعدة (¬4). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في فقه الأقليات المسلمة، د. طه جابر العلواني، دار نهضة مصر القاهرة، ط 1، (2000 م)، (ص 5). (¬3) يراجع: نحو فقه جديد للأقليات، د. جمال الدين عطية، (ص 62 - 64). (¬4) في فقه الأقليات المسلمة، د. يوسف القرضاوي، (ص 40 - 44).

ويؤكد على هذا المعنى، فضيلة الدكتور عبد المجيد النجار الأمين العام المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء وهو يتحدث عن تأسيس قواعد تأصيلية لفقه الأقليات المسلمة فيقول: "لا يقصد منه تأسيس اختراعي لقواعد جديدة تستحدث به استحداثًا بعد أن لم تكن موجودة في المدونة التراثية لعلم أصول الفقه بفروعه المختلفة، بقدر ما يقصد منه تأسيس يستثمر فيه ما جاء في تلك المدونة من ثراء في قواعدها وضوابطها، لتستخلص جملة منها تؤلف في بناء جديد، وتوجه توجيهًا جديدًا، بحيث يتكون منها منهج أصولي متكامل يؤصل لفقه الأقليات" (¬1). ومن قراءة ما يقدمه د. النجار يتضح أنه لا يدخل في قواعد فهم النص واستنباط فقه جديد بقدر ما يدخل في قواعد تطبيق النص والإفتاء به، فهي قواعد حركية لحل إشكالات أكثر منها قواعد نظرية، وهي قواعد إفتاء أكثر منها قواعد استنباط أحكام (¬2). إن ما يقدمه د. طه العلواني تحت عنوان: (نحو بناء أصول لفقه الأقليات)، يعد ثورة وانقلابًا في علم الأصول والقواعد الفقهية! فبالرغم من استدراك فضيلته المبدئي بعدم تجاهل أدلة الفقه ولا شروط الاستنباط منها. . . إلا أنه يعود في صفحات عدة ليطرح منهجًا جديدًا تمام الجِدَّة على الفقه الموروث في أصول الاجتهاد وبناء الأحكام التكليفية وتفريعها، لتقويم الفعل الإنساني وإعطائه الوصف اللائم له من كونه "ينبغي أن يفعل" أو "لا ينبغي أن يفعل" ونحو ذلك. ويمكن أن نختصر أصول العلواني الفقهية الجديدة في الجمع بين القراءتين، ثم حاكمية القرآن على السنة، والطبيعة المبينة فقط (غير الإنشائية للحكم) بالنسبة للسنة ¬

_ (¬1) مجلة المجمع الأوروبي للإفتاء والبحوث، ربيع الثاني (1424 هـ)، العدد 3، (ص 55 - 56). (¬2) فقه الأقليات المسلمة بين فقه الاندماج (المواطنة) وفقه العزلة د. نادية محمود مصطفى، المجلة العلمية للمجلس الأوربي للإفتاء، العدد 10 - 11، الجزء الثاني مايو (2007 م)، (ص 151).

النبوية، وتراجع معنى الحجية في الإجماع والقياس إلى مستوى الوسائل المنهجية أو دوائر الفهم، والفهم بالعموميات من المبادئ الأساسية والقيم الحاكمة والمقاصد العليا والقواعد الكلية لا بالنصوص الجزئية، والمنطق القرآني الكامن في القرآن الذي يقدر الإنسان على كشفه ليشكل قوانين تعصم "العقل الموضوعي" من الشذوذ والخطأ، ويمكن أن توجد قاعدة مشتركة للتفكير بين البشر (هكذا كل البشر!)، ثم اعتبار عالمية الخطاب القرآني، التي يواجه بها الحالة العالمية الراهنة بوصفه كتابًا يقوم على "قواعد إنسانية وقيم مشتركة". (هذا الاتجاه) لا يمثل تجديدًا عاديًّا، بل تجديدًا جذريًّا، يوشك أن يكون تدميريًّا؛ أهم مآلاته: 1 - أنه لا ينبغي الرجوع إلى أعيان الأدلة التفصيلية (الآيات القرآنية والأحاديث النبوية) بقدر ضرورة العودة إلى أجناسها بفهم عام غير تفصيلي! 2 - إحلال القيم والمقاصد والمبادئ والقواعد العامة محل الدلالات الخاصة للأدلة التفصيلية؛ بدلًا من أن تأتي الأولى في مقام المعضدات والضوابط للثانية! 3 - إنشاء قواعد جديدة للترجيح بين الدلالات وفقًا لرؤى جديدة! 4 - إلقاء غشاوة ثقيلة على الحديث وعلومه، وعلى الفقه وأصوله بذريعة النسبية في مقابل الإطلاق القرآني وحده، بل إن السنة نفسها بجملتها أدرجت في عالم النسبي "الزمكاني" باعتبارها كما يقول فضيلة الدكتور العلواني بيانًا للقرآن وتنزيلاً لقيمه في واقع نسبي محدد. 5 - فتح المجال أمام أهل الرأي والفكر المجرد من السند الشرعي التفصيلي؛ لكي يتكلموا بكلام الفقهاء في أفعال المكلفين بما ينبغي فعله وما لا ينبغي، على حد تعبير الدكتور العلواني!

وثمة إشكال تأصيلي آخر يظهر في النموذج الأخير -وهو الدكتور جمال الدين عطية-، فبالإضافة إلى اعتماد أفكار المدرسة الإنسانية في النظرة إلى ما يسمى اليوم بـ "الآخَر" من "وحدة الأصل الإنساني" و"كرامة الإنسان، مطلق الإنسان" و"وحدة الدين"؛ أي: العقيدة، "وسنة التنوع"، ورفض الإسلام لكل أنواع التمييز حتى التمييز بسبب الدين! ومفاهيم المواطنة والولاء الاجتماعي. . . إلخ، ثم اعتماد أفكار نفس المدرسة في "العلاقة مع الآخر" لا سيما المساواة والحريات، والموضوعية وعدم التحيز، إلا أننا لا نركز في مسألة التأصيل إلا على القضية الأخطر، وهي قضية المرجعية فإذا كان بحث الدكتور العلواني يخلي الطريق في التعامل مع النص من زخم القواعد اللغوية وقواعد علوم الدلالة وما إلى ذلك، ليحلِّيها بقواعد فكرية استنبطها فضيلته من قراءته الخاصة للدين ومصادره لا سيما القرآن الكريم؛ فإن الدكتور جمال الدين عطية بعد أن يستعرض تعريفًا وصورًا لواقع الأقليات، ينتقل مباشرة إلى ما سماه المرجعية الدولية التي يجعلها مع المرجعية الشرعية في حزمة المرجعية المطلقة! ورغم أنها أعراف ومنتجات بشرية إلا أنه يجعلها في نفس رتبة الكتابات الفقهية الشرعية، فيقول: "وبالذات الكتابات الفقهية ما هي إلا اجتهادات بشرية ليس لها إلزام شرعي، فضلًا عن أن هذه الاجتهادات كانت استجابة لظروف زمانية ومكانية مختلفة عن ظروفنا الحالية، وإننا بحاجة إلى اجتهادات جديدة تراعي ظروفنا وتعالج مستجدات الأمور" (¬1). واستدراك الدكتور جمال على ذلك، ورغم عرضه لما سماه "المرجعية الشرعية" بصورة اجتهاد منه في تأصيل النظرة، ثم العلاقة مع الآخر، إلا أنه يخلص في مبحثه الأخير (الثامن) إلى أنه قد اتضح من الدراسة الحالية أنه: لا تعارض بين الاتجاه الدولي ¬

_ (¬1) نحو فقه جديد للأقليات، د. جمال الدين عطية، (ص 62).

القاعدة الثالثة: ليس على المجتهد التقيد بالمذاهب الفقهية الأربعة أو قول الجمهور

والرؤية الإسلامية، بل إنهما يتكاملان؛ إذ تقدم الرؤية الإسلامية الأساس النظري والمبادئ العملية التي تشكل المادة التي تترجمها المواثيق الدولية إلى التزامات قانونية، وتنشئ لمراقبة تطبيقها الآليات الضرورية. هكذا صارت الرؤية الإسلامية "المادة"، بينما المترجم عنها هو القانون الدولي "المرجعية الدولية" ومن ثم ما الداعي للتحدث بالمترجم طالما سهل التحدث بالمترجم عنه؟! (¬1) إن هذا المنحى في التأصيل لفقه ونوازل الأقليات يطلق الاجتهاد من ثوابته وضوابطه المعتبرة، فلا يعتبر عندئذٍ اجتهادًا، أو لا يكون معتبرًا! ومن عجب أن الغرب لم يقبل مثل هذا الطرح المنفلت ولا أصحابه، فلفظهم فيمن لفظ بعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (2001 م)! وعليه فإنه لا مناص عند تأصيل فقه الأقليات من الاحتكام إلى الأصول القطعيات والنظر بعين الاعتبار إلى الموروث من الفقهيات، بعد التقيد بالنصوص في الشرعيات، واستصحاب مقاصد فقه الأقليات. القاعدة الثالثة: ليس على المجتهد التقيد بالمذاهب الفقهية الأربعة أو قول الجمهور: المعنى العام للقاعدة: إذا كان المجتهد مستقلًّا عن الانتساب لمذهب متبوع فلا إشكال في كونه لا يتقيد بمذهب بعينه، بل ما أداه إليه اجتهاده هو الذي يصير إليه سواء خالف أم وافق إمامًا بعينه، فأما إن كان المجتهد منتسبًا لمذهب إمام بعينه وهو مقيد بالْفُتْيَا على مذهبه فعليه أن يفتي مستندًا إلى الأدلة النقلية، أو مستنبطًا منها بالاجتهاد، ومتى بان له الحق في خلاف مذهبه فانتقل عنه إلى غيره لم يكن عليه من حرج. ¬

_ (¬1) فقه الأقليات المسلمة بين فقه الاندماج (المواطنة) وفقه العزلة، د. نادية مصطفى، (ص 151 - 153).

دليل القاعدة

دليل القاعدة: الإجماع المستند إلى الأدلة النقلية الكثيرة، وعلى هذا اتفقت كلمة الأئمة في كل زمان ومكان، يقول الشافعي -رحمه الله-: "على أن ليس لأحد أبدًا أن يقول في شيء حلَّ أو حَرُمَ إلا من جهة العلم، وجهة العلم الخبر في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس" (¬1). ويقول ابن حزم -رحمه الله-: "كل قول بمجرد الدعوى بلا برهان فهو مطروح ساقط" (¬2). ويقول ابن تيمية -رحمه الله-: "فليس لأحد من خلق الله كائنًا من كان أن يبطل قولًا، أو يحرم فعلًا إلا بسلطان الحجة" (¬3). والأدلة على وجوب اتباع الدليل أظهر وأشهر من أن يشار إليها، وقد قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقال سبحانه: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [الأنبياء: 24]. والاستدلال هو منهج السلف الذي لم يحيدوا عنه، فلقد: "كان أئمة المسلمين لا يتكلمون في الدين بأن هذا واجب، أو مستحب، أو حرام، أو مباح إلا بدليل شرعي من الكتاب أو السنة وما دلَّا عليه" (¬4). ومن هنا كان الفقه عند المحققين من العلماء وأئمة السلف مبناه على الاستدلال؛ ولذا ذكر ابن تيمية أن "الفقه لا يكون إلا بفهم الأدلة الشرعية بأدلتها السمعية الثبوتية من الكتاب والسنة والإجماع نصًّا واستنباطًا"، وقال عن الذين لم يحققوا الفهم للأدلة السمعية الثبوتية نصًّا واستنباطًا: "ليسوا في الحقيقة فقهاء في الدين؛ بل هم نقلة لكلام ¬

_ (¬1) الرسالة، للشافعي، (ص 39). (¬2) الإحكام، لابن حزم، (1/ 106). (¬3) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (3/ 245). (¬4) المرجع السابق، (27/ 373).

بعض العلماء ومذهبه" (¬1). والأدلة الشرعية بالجملة تنقسم إلى قسمين: نقلية وعقلية؛ فأما النقلية: فالكتاب، والسنة، والإجماع، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، وأما العقلية: فالقياس، والمصلحة المرسلة، والعرف، والاستصحاب. كما أن الأدلة النقلية تحتوي الأدلة العقلية، وكذا الأدلة العقلية تستند إلى الأدلة النقلية؛ إذ العقل لا يستقل بإثبات الأحكام، ومرجع ذلك إلى الوحي المعصوم كتابًا وسنة، والسنة وحي بدلالة القرآن، قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]، وقد أمر الله في القرآن باتباع السنة وهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأعاد أمر السنة إلى القرآن. وأما الإجماع فلا يتصور إلا بدليل يشهد له من القرآن أو السنة، وكذلك القياس لا يتم إلا بدليل من جهتهما. وعلى ما سبق فإن مرجع الأدلة إلى القرآن، أو السنة، والسنة ترجع إلى القرآن، وعليه فإنه يصح القول بأن مرجع جميع أدلة الأحكام إلى القرآن. وأما ما نقل فيه الحكم عن الجمهور أو أكثر أهل العلم أو الأئمة الأربعة وما أشبه؛ فهذا كله لا يُعَدُّ حجةً بذاته عند الأصوليين؛ إذ إن الكثرة لا تعتبر دليلًا؛ إذ ربما كان الحق بجانب الواحد مجانبًا للأكثر (¬2). وقد رأى أبو بكر -رضي الله عنه- قتال مانعي الزكاة، ورفضه أكثر الصحابة، فلما ثبت على رأيه وأيده بأدلته رجعوا إلى قوله. ¬

_ (¬1) الاستقامة، لابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود، المدينة المنورة، ط 1403،1 هـ، (1/ 61). (¬2) إرشاد الفحول، للشوكاني، (1/ 389 - 397)، الفُتيا ومناهج الإفتاء، د. محمد الأشقر، (ص 51، 53)، الإفتاء عند الأصوليين، د. محمد أكرم، (ص 166 - 167).

وكم من قول انفرد به مجتهد، فَرُفض رأيه وعُودي من أجله، ورُمي بالعظائم، ثم تبين للناس بعد ذلك أنه الحق؛ فالترجيح بالمعنى والأدلة، لا بالكثرة، ولا أثر للمخالفة والموافقة في ذلك، وإنما ينبغي أن تذكر الموافقة والمخالفة لمجرد الاستئناس، لا للاحتجاج، ولا للترجيح. ومثل ذلك أيضًا: ما لو اتفق الأئمة الأربعة على قول اجتهادي في المسألة، فلا يمنع ذلك أن يفتي المجتهد بخلافه مما يتبين له أنه الحق بالدليل؛ إذ لا دليل يدل على انحصار الحق في قولهم؛ لأن إجماعهم ليس بحجة، بل الحجة في إجماع الأمة، وقد قال ابن تيمية -رحمه الله-: "ولو قضى أو أفتى يقول سائغ يخرج عن أقوال الأئمة الأربعة في مسائل الأيمان والطلاق وغيرهما، مما ثبت فيه النزاع بين علماء المسلمين، ولم يخالف كتابًا ولا سنة ولا معنى ذلك؛ بل كان القاضي به والمفتي به يستدل عليه بالأدلة الشرعية، كالاستدلال بالكتاب والسنة؛ فإن هذا يسوغ له أن يحكم به ويفتي به، ولا يجوز باتفاق الأئمة الأربعة نقض حكمه إذا حكم به، ولا منعه من الحكم به ولا من الفُتيا به، ولا منع أحد من تقليده" (¬1). وإن كان ما سبق نقله لا يمنع من أن يقال: إن ترجيح مذهب الجمهور (¬2) واعتماده يعني في الأغلب موافقة الأكثر من المجتهدين من لدن الصحابة والتابعين، وهو يحمل في طياته موافقة الوحي والخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين، سواء في النقل أو الاستدلال. والأصل هو كثرة الحقِّ والصواب في مسائل الجمهور من غير قطع بذلك في جميع المسائل. وقد مال عدد من أهل العلم إلى جعل مذهب الجمهور أحد المرجحات عند الخلاف. ومن هذا القبيل ترجيح المزني (¬3) قول الشافعي -رحمه الله- في القديم من مذهبه بجواز ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (33/ 133 - 134). (¬2) قد يطلق الجمهور على الأئمة الأربعة، وإن خالفهم غيرهم من المعتبرين، وقد يطلق على ثلاثة منهم إن اتفقوا وخالفهم الرابع، وقد يطلق على اثنين على قول واحد، واختلف الآخران كل منهما على قول. (¬3) أبو إبراهيم، إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني، المصري، تلميذ الشافعي. وكان إمامًا ورعًا مناظرًا، =

المسح على الجرموق خلافًا لقوله الجديد بالمنع من ذلك، تحرزًا من انفراد الشافعي عن سائر العلماء الذين وافقوه في مذهبه القديم. قال المزني -رحمه الله-: "قال الشافعي: ولا يمسح على جرموقين. قال (يعني الشافعي) في القديم يمسح عليهما. قال المزني: قلت أنا: ولا أعلم بين العلماء في ذلك اختلافًا، وقوله (يعني قول الشافعي) معهم (يعني مع العلماء) أولى به من انفراده عنهم" (¬1). ومن هذا القبيل: ترجيح الموفق ابن قدامة إحدى الروايتين عن أحمد -رحمه الله- باعتبارات عدة، منها: أنه قول أكثر أهل العلم، ومن أمثلة ذلك: اختلاف الروايتين عن أحمد في من جنى على سن فسودها هل فيها حكومة، أم ثلث الدية؟ (¬2)، ومن أمثلته: ما قاله الموفق في مسألة الموضحة في الوجه والرأس وأنها فيهما سواء، وقد روى عن أحمد ما يخالف ويوافق هذا، قال الموفق: "وحمل كلام أحمد على هذا (يعني التسوية فيهما) أولى من حمله على ما يخالف الخبر والأثر وقول أكثر أهل العلم" (¬3). ومن هذا القبيل: ترجيح الإمام ابن بطال المالكي لإحدى الروايتين عن مالك -رحمه الله- تعالى في مسألة التكبير بعد الفراغ من التشهد الأول من حين بدء قيامه إلى الركعة الثالثة أو بعد انتصابه قائمًا، "قال ابن بطال: وهذا الذي يوافق الجمهور أولى (يعني الرواية الأولى)، قال: وهو الذي تشهد له الآثار". نقله عنه النووي -رحمه الله- (¬4). قال الحافظ ابن الصلاح -ذاكرًا بعض ما يترجح به أحد القولين للشافعي أو الوجهين ¬

_ = مجابَ الدعوة متقلِّلًا من الدنيا، صنف كتبًا كثيرة، منها: الجامع الكبير، والجامع الصغير، والمنثور وغيرها، توفي سنة 264 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 97)، سير أعلام النبلاء، (12/ 492). (¬1) مختصر المزني، في فروع الشافعية، لأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، تحقيق: محمد عبد القادر شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1419 هـ - 1998 م، (ص 19). (¬2) المغني، لابن قدامة، (12/ 156). (¬3) المرجع السابق، (12/ 160). (¬4) المجموع، للنووي، (3/ 462).

للأصحاب (يعني أصحاب الشافعي في المذهب) -: "ويترجح ما وافق منهما أكثر أئمة المذاهب المتبوعة أو أكثر العلماء" (¬1)، قال النووي: "وهذا الذي قاله فيه ظهور واحتمال" (¬2). وبالجملة فإذا كان المجتهد مستقلًّا لم يجز له أن يفتي بمذهب أحدٍ من المجتهدين، بل يجب عليه أن يفتي بما هو حكم الله في نظره هو، ولا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين إلا عند الضرورة؛ لأن هذا النوع من المفتين هو الذي يستقل بالأدلة بغير تقليد وتقيُّد بمذهب أحد (¬3). فأما إن كان المفتي منتسبًا إلى مذهب إمام بعينه؛ فإن كان سالكًا سبيل ذلك الإمام في الاجتهاد ومتابعة الدليل -وهذا هو المتبع للإمام حقيقة- فله أن يفتي بما ترجح عنده من قول إمام آخر إن اجتهد فأداه اجتهاده إلى ذلك (¬4). ولا يجوز له أن يفتي بما يعتقده مرجوحًا، للإجماع على ذلك؛ فإن أفتى به أثم؛ لأنه اتباع للهوى، وهو حرام؛ فإن تعارضت الأدلة عنده وعجز عن الترجيح، فيرى الإمام الشافعي أن له الحكم بأيهما شاء لتساويهما عنده، ولمقلده الحكم بأحد القولين إجماعًا (¬5). ويرى الشاطبي أنه يجب عليه التوقف؛ وذلك لأن الجمع بين الدليلين في العمل جمع بين متنافيين، ورجوع إلى إثبات الاختلاف في الشريعة، وهو باطل (¬6). قال ابن دقيق العيد: "هذه المسألة من مشكلات الأصول، والمختار عند المتأخرين الوقف" (¬7). مما تقدم نجد أن أكثر فقهاء الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة أكدوا على أن ¬

_ (¬1) أدب الفتوى، لابن الصلاح، (ص 89). (¬2) المجموع، للنووي، (1/ 68). (¬3) المجموع، للنووي، (1/ 42). (¬4) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 237)، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان، (ص 39). (¬5) شرح عقود رسم المفتي، لابن عابدين، طبع ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين، الآستانة، محمد هاشم القطبي 1321 هـ، (1/ 10 - 11). (¬6) الموافقات، للشاطبي، (4/ 155). (¬7) إرشاد الفحول، للشوكاني، (2/ 1140).

الترجيح

المجتهد يجب عليه أن يتحرى أرجح الأقوال ويفتي بها، ولا يفتي بالمرجوح. الترجيح: الذي يظهر أن المجتهد عليه أن يبحث ويتحرى أرجح الأقوال فيفتي به، وذلك: لأن المفتي واجب عليه الإفتاء بما يعتقد أنه راجح عنده، حتى ولو كان ذلك الراجح مخالفًا لمذهب إمامه، والإجابة بالمرجوح ميل عن الدليل، والتمسك به تعصب لا داعي له، بل إن المفتي واجب عليه أن يتنزه منه؛ ولذلك قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "إذا جاءت المسألة ليس فيها أثر فأفتِ فيها يقول الشافعي" (¬1). ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يفتي السائل بمذهبه الذي يقلده وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلًا" (¬2). وقال ابن القيم: "والصواب أنه إذا ترجح عنده قول غير إمامه بدليل راجح، فلا بد أن يخرج على أصول إمامه وقواعده؛ فإن الأئمة متفقة على أصول الأحكام، ومتى قال بعضهم قولًا مرجوحًا، فأصوله ترده وتقتضي القول الراجح، فكل قول صحيح فهو يُخَرَّجُ على قواعد الأئمة بلا ريب، فإذا تبين لهذا المجتهد المقيد رجحان هذا القول وصحة مأخذه خرج على قواعد إمامه، فله أن يفتي به، وبالله التوفيق. وقد قال القفال (¬3): لو أدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة، قلت: مذهب الشافعي كذا، لكني أقول بمذهب أبي حنيفة؛ لأن السائل إنما يسألني عن مذهب الشافعي، ¬

_ (¬1) كشاف القناع، للبهوتي، (6/ 302). (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 177). (¬3) أبو بكر، محمد بن علي بن إسماعيل، القفال، الشاشي، من مصنفاته: كتاب في أصول الفقه وله شرح الرسالة، ولد سنة 291 هـ، وتوفي سنة 336 هـ. طبقات الففهاء، للشيرازي، (ص 112)، طبقات الشافعية، لابن قاضي شهبة، (1/ 129).

تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات

فلا بد أن أعرِّفه أن الذي أفتيته به غير مذهبه. فسألت -أي: ابن القيم- شيخنا؟ -يعني: ابن تيمية- قدَّس الله روحه عن ذلك، فقال: أكثر المستفتين لا يخطر بقلبه مذهب معين عند الواقعة التي سأل عنها، وإنما سؤاله عن حكمها، وما يعمل به فيها، فلا يسع المفتي أن يفتيه بما يعتقد الصواب في خلافه" (¬1). تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: تقرر بوضوح مما سبق عرضه أنه إذا كان المجتهد مستقلًّا أو غير مستقل بالنظر في المسائل والأحكام الفقهية فإنه مطالب بأن ينتهي إلى ترجيح ما غلب على ظنه أنه الصواب سواء أكان مقيدًا بمذهب من المذاهب الأربعة المتبوعة أم لا. ولا شك أن المجتهد والمفتي في نوازل الأقليات المسلمة يحتاج إلى هذه السعة في مجال البحث والموازنة والترجيح، فله أن يأخذ بمذهب فقهي يخالف مذهبه، وله أن يميل إلى آراء بعض المجتهدين الذين تحرروا من ربقة التقليد، وله أن يأخذ بمذاهب الصحابة المنقولة نقلًا صحيحًا، وقد ذهب ابن السبكي من الشافعية إلى جواز تقليد الصحابة -رضي الله عنه- خلافًا للمعتمد في المذهب، وقال: "وهو الصحيح عندي" (¬2). وانتصر ابن القيم لهذا المنهج فقال: "لا يسع المفتي أو الحاكم عند الله أن يفتي ويحكم بقول فلان وفلان من المتأخرين من مقلدي الأئمة ويأخذ برأيه وترجيحه، ويترك الفتوى والحكم بقول البخاري وإسحاق بن راهويه (¬3)، وعلي بن المديني (¬4)، بل ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 238). (¬2) فتاوي ابن حجر، (4/ 307). (¬3) أبو يعقوب، إسحاق بن إبراهيم بن مخلد، المعروف بابن راهويه، هو الإمام الكبير، شيخ المشرق، سيد الحفاظ، سمع من الفضيل بن عياض، ومعتمر بن سليمان، وجرير بن عبد الحميد، وسفيان بن عيينة، وسمع منه بقية بن الوليد، ويحيى بن آدم، وهما من شيوخه، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وهما من أقرانه، ولد سنة 161، وتوفي سنة 243 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (11/ 358)، المقصد الأرشد، لابن مفلح، (1/ 242). (¬4) أبو الحسن، علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح بن بكر بن سعد السعدي، مولاهم البصري، المعروف =

يرى تقديم قول المتأخرين من أتباع من قلده على فتوى أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود -رضي الله عنهم-. فلا يُدرى ما عذره غدًا عند الله إذا سوَّى بين أقوال أولئك وفتاويهم، فكيف إذا رجحها عليها؟! فكيف إذا عيَّن الأخذ بها حكمًا وإفتاءً، ومنع الأخذ بأقوال الصحابة؟!! " (¬1). ولأهمية هذا المسلك يخاطب ابن القيم المفتين بقوله: "أيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر إذا أفتى بفتوى وأفتى من قلدتموه بغيرها؟ ولا سيما من قال من زعمائكم: إنه يجب تقليد من قلدناه ديننا، ولا يجوز تقليد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، اللهم إنا نشهدك أن أنفسنا لا تطيب بذلك، ونعوذ بك أن نطيب به نفسًا" (¬2). وهو في هذا المسلك يتبع شيخه ابن تيمية -رحمه الله-، الذي قال: "وقد تأملت من هذا الباب ما شاء الله فرأيت الصحابة أفقه الأمة وأعلمها، واعتبر هذا بمسائل الأيمان والنذر والعتق والطلاق وغير ذلك، ومسائل تعليق الطلاق بالشروط ونحو ذلك. وقد بينت فيما كتبته أن المنقول فيها عن الصحابة هو أصح الأقوال قضاءً وقياسًا، وعليه يدل الكتاب والسنة، وعليه يدل القياس الجلي، وكل قول سوى ذلك تناقض في القياس مخالف للنصوص، وكذلك في مسائل غير هذه مثل: مسألة ابن الملاعنة، ومسألة ميراث المرتد، وما شاء الله من المسائل لم أجد أجود الأقوال فيها إلا الأقوال المنقولة عن الصحابة، وإلى ساعتي هذه ما علمت قولًا قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه إلا ¬

_ = بابن المديني، الشيخ الإمام الحجة، أمير المؤمنين في الحديث، سمع أباه، وحماد بن زيد، وجعفر بن سليمان، وحدث عنه أحمد بن حنبل، وأبو يحيى صاعقة، والزعفراني، ولد سنة 261 هـ، وتوفي سنة 234 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (7/ 308)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (11/ 41). (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 118 - 119) بتصرف. (¬2) المرجع السابق، (4/ 145).

وكان القياس معه" (¬1). وقد تقرر أن للمجتهد غير المستقل أن ينتقل عن مذهبه إلى غيره إذا لحق الناس بسببه عنت وشدة، أو كان مأخذه ضعيفًا ودليله غير ناهض. ولقد خالف أبا حنيفة -رحمه الله- صاحباه وتلاميذُه النجباء، ورأينا هذا في بقية تلاميذ الأئمة الثلاثة. وفي حق السائل قال النووي -رحمه الله-: "الذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزم المقلد التمذهب، بل يستفتي من شاء أو من اتفق" (¬2)، وقال ابن حجر -رحمه الله-: "وظاهره جواز الانتقال وجواز تقليد إمام في مسألة، وآخر في أخرى وهكذا من غير التزام مذهب معين، أفتى به العز ابن عبد السلام" (¬3). وقد مال التقنين في بلاد كثيرة إلى الأخذ بمذاهب غير الأئمة الأربعة، كاعتبار أغلب الدول بترجيح اعتبار الطلاق الثلاث دفعة في مجلس واحد طلقة واحدة. إننا قد نرى بعض المذاهب تشدد في مسألة، على حين يخفف فيها مذهب آخر أو مذاهب أخرى، وبعضها يضيق في قضية غاية التضييق، وغيره يوسع فيها غاية التوسعة، وهذا يعطينا فرصة للموازنة والترجيح، واختيار ما هو أهدى سبيلًا، وأرجح دليلًا، ومن هذه الأدلة المعتبرة: أن يكون الرأي أو المذهب أدنى إلى تحقيق مقاصد الشرع، ومصالح الخلق، فما قامت الشريعة إلا لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد (¬4). ولذا لا يصح الإنكار على المجلس الأوروبي للإفتاء في فتياه بجواز ميراث المسلم ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (20/ 582 - 583). (¬2) روضة الطالبين، للنووي، (11/ 117). (¬3) الفتاوي الفقهية، لابن حجر الهيتمي، (4/ 305) باختصار. (¬4) في فقه الأقليات، د. يوسف القرضاوي، (ص 57).

من غير المسلم، مع موافقة ذلك لرأي معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهم-، ومحمد بن الحسن، وسعيد بن المسيب، ومسروق (¬1) ويحيى بن نعيم (¬2)، وإسحاق بن راهويه وابن تيمية وابن القيم، وإن كان مخالفًا لما استقرَّ في مذاهب الأئمة الأربعة (¬3). ومن التطبيقات المتعلقة بهذه القاعدة في مجتمع الأقليات المسلمة وفقهها أهمية دور وأعمال المجامع الفقهية المعاصرة وهيئات الفُتْيَا العامة، ولا شك أن هذا من حسنات هذه الأمة المحمدية المرحومة في هذا الزمان؛ فإن هذه الفتاوي تشبه إلى حد بعيد ما كان يقع في الصدر الأول حين تنزل نازلة فيجمع لها الصِّدِّيق رءوس الناس وخيارهم فيستشيرهم ويأخذ برأيهم إذا اجتمع، وكذا كان الفاروق يفعل (¬4)، وهذا ما يمكن تسميته بالإفتاء الجماعي، أو الاجتهاد الجماعي. وكثيرًا ما تصدر الفتوى بالأغلبية داخل هذه المواقع، وهذا يدل بدوره أيضًا على أنها لا تمثل في أقصى تقدير إلا موقف الجمهور من النوازل المعاصرة. وقد قال الشاعر: لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَاسَرَاةَ لَهُمْ ... وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا وما من شك في أهمية هذه المجامع لا سيما في الاجتهاد في حكم تلك المسائل التي يتغير الحكم فيها تبعًا للمصلحة، كما فعل عمر -رضي الله عنه- بإيقاف سهم المؤلفة قلوبهم من ¬

_ (¬1) أبو عائشة، مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية بن عبد الله بن مر بن سلمان بن معمر، الإمام، القدوة، العلم، حدث عن أبي بن كعب، وعمر، وحدث عنه الشعبي، وإبراهيم النخعي، ويحيى بن وثاب، توفي سنة 63 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (6/ 76)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 63). (¬2) يحيى بن نعيم، من أصحاب الإمام أحمد وروى عنه أشياء. طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، (2/ 541)، المقصد الأرشد، لابن مفلح، (3/ 111). (¬3) الضوابط المنهجية لفقه الأقليات المسلمة، د. صلاح سلطان، (ص 39). (¬4) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 62).

الزكاة؛ لعدم توافر سببه، فلو عاد دور المؤلفة قلوبهم في إعزاز الدين فإنه ينبغي أن يعود لهم سهمهم، غير أن الأحكام التي تتغير لتغير مصلحتها لا يجوز أن يقوم بالنظر والاجتهاد فيها إلا من بلغ درجة الاجتهاد. . . وضمانة لعدم استغلال هذه القاعدة في تعطيل شرع الله بذريعة تغير المصلحة، يجب أن يكون الاجتهاد في هذا النوع من الأحكام اجتهاداً جماعيًّا؛ لكونه أكثر ضمانة في التحري عن المصلحة وتغيرها، وأكثر دقة في الابتعاد عن الهوى، وأكثر إصابة للحق وعدم الأخذ بمجرد توهم التغير، بينما في الاجتهاد الفردي قد يستغله من يريد تعطيل شرع الله، أو من يسيطر عليه هواه في التخلص والتمرد على أحكام الشريعة بذريعة تغيرها لتغير المصلحة التي جاءت لعلاجها (¬1). كذا يطلب الاجتهاد الجماعي فيما يتغير الحكم فيه لتغير حال محكومه زمانًا أو مكانًا. فالأحكام الشرعية جاءت لمعالجة أوضاع الأمة بما يحقق مصالحها الدنيوية والأخروية، وهذه الأحكام تنزل على محلاتها طالما توفر في ذلك المحل أركانه وشرائطه وأسبابه؛ فإن تغير شيء منها نتيجة تغيرات زمنية أو مكانية، توقف إجراء ذلك الحكم لتغير محله، فإذا ما عاد لذلك المحل كامل صفاته الموجبة لإنزال الحكم عاد الحكم وأنزل على محله (¬2). والتغير هنا ليس تغيرًا في الحكم، وإنما هو تغير في مناط الحكم، ومثل هذا لا يعد تغييرًا ولا تبديلًا إذا ما روعي في كل حادثة الظروف والملابسات التي لها صلة بالحكم، فإذا تغيرت الظروف والملابسات المحيطة بالواقعة تغيرت بذلك المسألة وتبدل وجهها، وكانت مسألة أخرى اقتضت حكمًا آخر لها (¬3). وقد رأينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن قطع الأيدي في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو ¬

_ (¬1) الاجتهاد الجماعي، د. عبد المجيد محمد السوسوه، (ص 117 - 118). (¬2) المرجع السابق، (ص 119). (¬3) شريعة الاسلام، د. يوسف القرضاوي، (ص 133).

القاعدة الرابعة: على المجتهد الجمع بين فقه النص والواقع

أشد من تعطيل الحد أو تأخيره، وهو ردة بعض المسلمين؛ لذا ذهب كثير من العلماء إلى أن الحدود لا تقام في أرض العدو. وغني عن التنبيه أن أعمال مجامع الإفتاء والمجامع الفقهية المتعددة لا تقضي على اجتهاد الأفراد ولا تغني عنه؛ لأنه حق لا مصادرة عليه، إذا كان من أهله وفي محله، وسواء أصاب المجتهد أم أخطأ فإن هذا الحق لا يسقط ولا يسلب ممن تأهل لرتبة الاجتهاد والإفتاء. وفي أعمال المجامع الفقهية الناظرة في نوازل الأقليات تطبيقات كثيرة سيأتي بيانها ومناقشة بعضها في الباب الثالث بإذن الله تعالى. القاعدة الرابعة: على المجتهد الجمع بيّن فقه النص والواقع: المعنى العام للقاعدة وأدلتها: إن المجتهد لا يتمكن من أداء ما أنيط به من واجب استنباط الأحكام إلا بنوعين من العلم؛ علم بالنص الشرعي، وعلم بالحال الواقعي. وفيما يلي تفصيل عن كلا النوعين. أولًا: العلم بالنص الشرعي: الأدلة المنصوصة في الكتاب والسنة هي عمدة استدلال الفقيه والمفتي المجتهد، وهذا أمر كالمجمع عليه. يقول الشافعي -رحمه الله-: ". . . وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن ما سواهما تبع لهما" (¬1). قال ابن تيمية -رحمه الله-: ". . . وكذلك إذا قلنا: الكتاب والسنة والإجماع، فمدلول الثلاثة واحد؛ فإن كل ما في الكتاب فالرسول موافق له، والأمة مجمعة عليه من حيث ¬

_ (¬1) جماع العلم، لمحمد بن إدريس الشافعي، دار الآثار، ط 1، 1423 هـ - 2002 م، (ص 3).

1 - النصوص وحي الله تعالى

الجملة، فليس في المؤمنين إلا من يوجب اتباع الكتاب، وكذلك كل ما سنَّه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالقرآن يأمر باتباعه فيه، والمؤمنون مجمعون على ذلك، وكذلك كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه لا يكون إلا حقًّا موافقًا لما في الكتاب والسنة" (¬1). ومما مضى يتبين أن الكتاب والسنة هما أصل الأدلة الأربعة المتفق عليها، وهذا الأصل قد يسمى بالنقل أو الوحي أو السمع أو الشرع أو النص أو الخبر أو الأثر، ويقابله العقل أو الرأي أو النظر أو الاجتهاد أو الاستنباط. خصائص النصوص: ولعله يحسن أن نعرِّج على خصائص النصوص من الكتاب والسنة؛ حيث إن معرفة ما للنصوص من مميزات وخصائص تبين السبب في التعويل عليها والصدور عنها: 1 - النصوص وحي الله تعالى: سواء أكانت من القرآن الكريم أم السنة الصحيحة المطهرة، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، وكلاهما بلغنا عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فالكتاب سمع منه تبليغًا عن ربه تعالى، والسنة صدرت عنه تبيينًا (¬2). قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]. 2 - النصوص محفوظة بحفظ الله: كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، قال ابن القيم -رحمه الله-: "والله تعالى قد ضمن حفظ ما أوحاه إليه - صلى الله عليه وسلم - وأنزل عليه، ليقيم به حجته على العباد إلى آخر الدهر" (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (7/ 40). (¬2) الرسالة، للشافعي، (ص 33)، الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لشمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، تحقيق: علي محمد الدخيل، دار العاصمة، الرياض، ط 3، 1418 هـ - 1998 م، (3/ 880). (¬3) مختصر الصواعق المرسلة، لابن القيم، اختصره الشيخ محمد الموصلي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، =

3 - النصوص حجة الله على خلقه

3 - النصوص حجة الله على خلقه: قال الشافعي -رحمه الله-: ". . . لأن الله جل ثناؤه أقام على خلقه الحجة من وجهين، أصلهما في الكتاب: كتابه ثم سنة نبيه" (¬1). وقد شاع في كتاب المحلَّى لابن حزم عبارته المشهورة: "لا حجة في قول أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). وقال ابن القيم -رحمه الله-: "إن الله سبحانه قد أقام الحجة على خلقه بكتابه ورسله، فقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]. وقال: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، فكل من بلغه هذا القرآن فقد أنذر به وقامت عليه حجة الله به" (¬3). 4 - النصوص طريق العلم ومعرفة الحكم: قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "وأما أصول العلم فالكتاب والسنة، ويوضحه أن هذا الأصل هو طرق التحليل والتحريم ومعرفة أحكام الله وشرعه" (¬4). وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "وأوجب عليهم الإيمان به، وبما جاء به وطاعته، وأن يحللوا ما حلل الله ورسوله، ويحرموا ما حرم الله ورسوله. . . " (¬5). 5 - النصوص واجبة الاتباع: قال ابن عبد البر -رحمه الله-: ". . . وقد أمر الله -عز وجل- بطاعته - صلى الله عليه وسلم - واتباعه أمرًا مطلقًا مجملًا، لم ¬

_ = 1405 هـ، (ص 463). (¬1) الرسالة، للشافعي، (ص 221). (¬2) المحلَّى، لابن حزم، (7/ 112). (¬3) الصواعق المرسلة، لابن القيم، (2/ 735). (¬4) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (1/ 779). (¬5) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (19/ 9).

6 - النصوص واجبة التسليم

يقيد بشيء -كما أمرنا باتباع كتاب الله- ولم يقل: ما وافق كتاب الله، كما قال بعض أهل الزيغ" (¬1). وقال ابن تيمية -رحمه الله-: ". . . فلهذا كانت الحجة الواجبة الاتباع للكتاب والسنة والإجماع، فإن هذا حق لا باطل فيه، واجب الاتباع لا يجوز تركه بحال، عام الوجوب لا يجوز ترك شيء مما دلت عليه هذه الأصول، وليس لأحد الخروج عن شيء مما دلت عليه، وهي مبنية على أصلين: أحدهما: أن هذا جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والثاني: أن ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجب اتباعه، وهذه الثانية إيمانية، ضدها الكفر أو النفاق" (¬2). 6 - النصوص واجبة التسليم: قال تعالى: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، وفي الحديث: "إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضًا، بل يصدق بعضه بعضًا فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه" (¬3). وقد خصص الخطيب البغدادي في كتابه "الفقيه والمتفقه" بابًا عنون له بـ"تعظيم السنن ¬

_ (¬1) جامع بيان العلم، لابن عبد البر، (2/ 1190). (¬2) مجموع الفتاوي، لابن تيمية: (19/ 5 - 6). (¬3) أخرجه: ابن ماجه، المقدمة، باب: في القدر، (85)، والإمام أحمد في "مسنده" (2/ 181) -واللفظ له-، وأبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني في "مصنفه"، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1403 هـ، (11/ 216) -وعنه: الإمام أحمد في "المسند" (2/ 185) -، وغيرهم، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: لقد جلست أنا وأخي مجلسًا ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حجرة، إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها، حتى ارتفعت أصواتهم؛ فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغضبًا قد احمر وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: "مهلًا يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم؛ باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض! إن القرآن. . . " فذكره. وصحح إسنادَه الشيخ أحمد محمد شاكر في تحقيقه للمسند، دار المعارف، القاهرة، (10/ 174)، والشيخ الألباني في تخريج "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز الحنفي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1398 هـ، (ص 200).

7 - النصوص تقدم على الرأي وكل فتيا مخالفة

والحث على التمسك بها، والتسليم لها، والانقياد لها، وترك الاعتراض عليها" (¬1). ومن قبل قال مالك وشيخه ربيعة بن عبد الرحمن (¬2) -رحمهما الله- حين جاء السؤال كيف استوى؟! قالا: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" (¬3). 7 - النصوص تقدم على الرأي وكل فتيا مخالفة: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، وقال سبحانه: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]. فلا مناص من أن يؤخذ الدليل النصي مأخذ الافتقار، وأن يكون العمدة عند الاستدلال وقال الشافعي -رحمه الله-: "يسقط كل شيء خالف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يقوم معه رأي ولا قياس" (¬4). وقال ابن عبد البر -رحمه الله-: "واعلم يا أخي أن السنة والقرآن هما أصل الرأي والعيار عليه، وليس الرأي بالعيار على السنة، بل السنة عيار عليه" (¬5). وقال ابن القيم -رحمه الله-:"وقد كان السلف يشتد عليهم معارضة النصوص بآراء الرجال، ولا يقرون المعارض على ذلك" (¬6). وقد بوَّب الدارمي -رحمه الله- في سننه فقال: "باب الرجل يفتي بشيء، ثم يبلغه عن ¬

_ (¬1) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (1/ 374). (¬2) أبو عثمان، ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي، الإمام، مفتي المدينة، وعالم الوقت، أدرك من الصحابة أنس بن مالك، والسائب بن يزيد، وعامة التابعين، توفي سنة 136 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 65)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (6/ 89). (¬3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، (2/ 441). (¬4) الأم، للشافعي، (3/ 595). (¬5) جامع بيان العلم، لابن عبد البر، (2/ 1140). (¬6) الصواعق المرسلة، لابن القيم، (3/ 1062).

8 - النصوص وافية وشاملة لجميع الدين أصوله وفروعه

النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيرجع إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). كما بوَّب الخطيب البغدادي -رحمه الله- في "الفقيه والمتفقه" فقال: "ذكر ما روي من رجوع الصحابة عن آرائهم التي رأوها إلى أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعوها ووعوها" (¬2). قال ابن تيمية -رحمه الله-: "فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات، والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم" (¬3). وقال الإمام مالك -رحمه الله-: "أو كلما جاء رجل أجدل من الآخر، رد ما أنزل جبريل على محمد - صلى الله عليه وسلم -" (¬4). 8 - النصوص وافية وشاملة لجميع الدين أصوله وفروعه: قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6]. لما سئل سلمان الفارسي -رضي الله عنه-: "قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؛ فقال: أجل. . . " الحديث (¬5). قال الشافعي -رحمه الله-: "فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب ¬

_ (¬1) سنن الدارمي، (1/ 494). (¬2) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (1/ 364). (¬3) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (13/ 28). (¬4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، (1/ 163). (¬5) أخرجه: مسلم، كتاب الطهارة، باب: الاستطابة، (262)، من حديث عبد الرحمن بن يزيد عن سلمان -رضي الله عنه- به.

9 - النصوص واضحة المعاني ظاهرة المراد

الله الدليل على سبيل الهدى فيها" (¬1). 9 - النصوص واضحة المعاني ظاهرة المراد: قال ابن القيم -رحمه الله-: "وكذلك عامة ألفاظ القرآن نعلم قطعًا مراد الله ورسوله منها، كما نعلم قطعًا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغها عن الله تعالى، فغالب معاني القرآن معلوم أنها مراد الله، خبرًا كانت أو طلبًا، بل العلم بمراد الله من كلامه أوضح وأظهر من العلم بمراد كل متكلم من كلامه؛ لكمال علم المتكلم وكمال بيانه، وكمال هداه وإرشاده، وكمال تيسيره للقرآن، حفظًا وفهمًا، عملًا وتلاوة. فكما بلَّغ الرسول ألفاظ القرآن للأمة بلَّغهم معانيه، بل كانت عنايته بتبليغ معانيه أعظم من مجرد تبليغ ألفاظه" (¬2). ومما يشهد للصحابة في فهمهم مراد الله ومراد نبيه - صلى الله عليه وسلم -، والأخذ بظواهر النصوص، وتفسيرها بما يظهر منها: قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن نزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه" (¬3). وقال مسروق -رحمه الله-: "كان عبد الله يقرأ علينا السورة ثم يحدثنا فيها ويفسرها عامَّة النهار" (¬4). ¬

_ (¬1) الرسالة، للشافعي، (ص 20). (¬2) الصواعق المرسلة، لابن القيم، (2/ 636). (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: القراء من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، (5002)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله عنهم-، باب: من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه -رضي الله عنهما-، (2463)، من حديث مسروق قال: قال عبد الله. . . فذكره. (¬4) تفسير الطبري، (1/ 75).

10 - النصوص إذا وجدت سقط الاجتهاد

وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "نعم ترجمان القرآن ابن عباس" (¬1). وقال مجاهد -رحمه الله-: "عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها" (¬2). وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "لم يكن في الصحابة من تأوَّل شيئًا من نصوصه -أي: نصوص الوحي- على خلاف ما دل عليه، لا فيما أخبر به الله عن أسمائه وصفاته، ولا فيما أخبر به عما بعد الموت. . . " (¬3). 10 - النصوص إذا وجدت سقط الاجتهاد: فلا يصار إلى الاجتهاد إلا إذا عدم النص؛ ذلك أن المصير إلى الاجتهاد إنما يكون عند وجود ضرورة ملجئة؛ فالنصوص هي المرجع الأول والحجة القاطعة، ولا ينعقد إجماع على خلافها أبدًا. قال الشافعي -رحمه الله-: ". . أو إجماع علماء المسلمين، الذي لا يمكن أن يجمعوا على خلاف سنَّةٍ له" (¬4). والقياس الصحيح موافق للنصوص فلا يختلفان، وصريح العقل لا يعارض صحيح النقل. وبالجملة فالنصوص حق لا باطل فيه، ولا يمكن الاستدلال بها على إقامة باطل أبدًا. قال ابن تيمية -رحمه الله-: ". . . وذلك أن الحق الذي لا باطل فيه هو ما جاءت به الرسل عن الله، وذلك في حقنا، ويعرف بالكتاب والسنة والإجماع" (¬5). فالحاصل: "أن الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (1/ 84). (¬2) المرجع السابق، (1/ 85). (¬3) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (13/ 252). (¬4) الرسالة، للشافعي، (ص 322). (¬5) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (19/ 5).

المعقول لا يناقض صحيح المنقول، وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل وليس منه" (¬1). وبعد بيان خصائص النصوص يظهر جليًّا أن المجتهد ملزم باتباعها وعدم الحزوج عنها ولو أداه ذلك لمخالفة مذهبه أو رأيه، وقد ذكر ابن القيم الكثير من الأمثلة على ذلك؛ منها: عدم الالتفات إلى قول عمر -رضي الله عنه- في المبتوتة نظرًا لصحة حديث فاطمة بنت قيس -رضي الله عنه-، ولا الأخذ بخلافه في مسألة التيمم للجنب؛ وذلك لصحة حديث عمار بن ياسر -رضي الله عنه-، وغيرها من الأمثلة كثير (¬2). وقد ردَّد ابن القيم في كتبه كثيرًا القول بأنه لا يجوز للمجتهد أن يُقدِّم على الأحاديث الصحيحة عملًا (¬3)، ولا رأيًا ولا قياسًا ولا قول صحابي، ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعًا (¬4). وقد اتفق الأئمة على تقديم النصوص على الآراء، قال النووي -رحمه الله-: "صح عن ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، (2/ 364). (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 29 - 30)، وقد علق على هذين المثالين الدهلوي في حجة الله البالغة في بيانه السبب الذي دعا عمر إلى مخالفة هذه الأحاديث؛ فقال: "أن يبلغه الحديث ولكن لا على الوجه الذي يقع به غالب الظن، فلم يترك اجتهاده؛ بل طعن في الحديث، مثاله: ما رواه أصحاب الأصول أن فاطمة بنت قيس شهدت عند عمر بن الخطاب بأنها كانت مطلقة الثلاث فلم يجعل لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفقة ولا سُكنى فرد شهادتها، وقال: لا أترك كتاب الله يقول امرأة، لا ندري أصدقتْ أم كذبتْ، لها النفقة والسكنى. . .، ومثال آخر: روى الشيخان أنه كان من مذهب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن التيمم لا يجزئ للجنب الذي لا يجد ماء، فروى عنده عمار أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأصابته جنابة ولم يجد ماء، فتمعك في التراب، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك أن تفعل هكذا وضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه ويديه، فلم يقبل عمر، ولم ينهض عنده حجة لقادح خفي رآه فيه، حتى استفاض الحديث في الطبقة الثانية من طرق كثيرة، واضمحل وهم القادح فأخذوا به". حجة الله البالغة، للدهلوي، (1/ 245). وحديث فاطمة أخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها (1480)، أما حديث عمار -رضي الله عنه- فأخرجه البخاري في كتاب التيمم، باب: المتيمم هل ينفخ فيهما، (338). (¬3) المقصود بالعمل هنا عمل أهل المدينة الذي يعتبر حجة عند الإمام مالك -رحمه الله-. (¬4) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 30).

الشافعي -رحمه الله- أنه قال: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوا قولي" (¬1). وروي عنه: "إذا صح الحديث خلاف قولي فاعملوا بالحديث واتركوا قولي"، أو قال: "فهو مذهبي". وروي عنه هذا المعنى بألفاظ مختلفة. وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التثويب، واشتراط التحلل من الإحرام بعذر المرض، وغيرها مما هو معروف في كتب المذهب. وقد حكى المصنف -أي: أبو إسحاق الشيرازي- ذلك عن الأصحاب فيهما وممن حكى أنه أفتى بالحديث من أصحابنا أبو يعقوب البُوَيْطي (¬2) وأبو القاسم الداركي (¬3)، وممن نص عليه أبو الحسن الكيا الطبري (¬4) في كتابه في أصول الفقه، وممن استعمله من أصحابنا المحدثين الإمام أبو بكر البيهقي (¬5) وآخرون. ¬

_ (¬1) معرفة السنن والآثار، للبيهقي (1/ 217)، تحقيق: د. رواس قلعجي، تاريخ دمشق، لابن عساكر (51/ 386). (¬2) أبو يعقوب، يوسف بن يحيى البويطي المصري، أكبر أصحاب الشافعي المصريين، تفقه على الشافعي واختص بصحبته، وكان الشافعي يعتمده في الفتيا ويحيل عليه، واستخلفه على أصحابه بعد موته، فتخرجت على يديه أئمة تفرقوا فى البلاد، توفي سنة 231 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 98) طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي (2/ 162 - 163). (¬3) أبو القاسم، عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، الداركي، الإمام الكبير، شيخ الشافعية بالعراق، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وتفقه عليه أبو حامد الإسفرايني، توفي سنة 375 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 117). (¬4) أبو الحسن، شمس الإسلام، علي بن محمد بن علي الإمام، الكيا الهراسي، الطبري، الملقب عماد الدين، أحد فحول العلماء، ورءوس الأئمة، فقهًا، وأصولًا، وجدلًا، شيخ الشافعية، ومدرس النظامية، ولد سنة 450 هـ، وتوفي سنة 504 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (19/ 350)، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (7/ 232). (¬5) أبو بكر، أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى، البيهقي، النيسابوري، الحافظ العلامة، الثبت، الفقيه، شيخ الإسلام، من مصنفاته: الزهد، ودلائل النبوة، وشعب الإيمان، ولد سنة 384 هـ، وتوفي سنة 458 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (18/ 163)، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (4/ 8).

وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث ومذهب الشافعي خلافه، عملوا بالحديث وأفتوا به قائلين: "مذهب الشافعي ما وافق الحديث" (¬1). وفي شرح الهداية لابن الشِّحنة (¬2) -من كبار الحنفية-: "إذا صح الحديث وكان على خلاف المذهب عمل بالحديث، ويكون ذلك مذهبه ولا يخرج مقلده عن كونه حنفيًّا بالعمل به، فقد صح عنه أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وقد حكى ذلك ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة" (¬3). وقال الإمام السندي -رحمه الله- (¬4) -من كبار الحنفية- في حواشيه على "فتح القدير": "الحديث حجة في نفسه، واحتمال النسخ لا يضر، فإن من سمع الحديث الصحيح فعمل به وهو منسوخ، فهو معذور إلى أن يبلغه الناسخ، ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح لا يعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وفلان، فإنما يُقال له: انظر هل هو منسوخ أم لا؟ أما إذا كان الحديث قد اختلف في نسخه فالعامل به في غاية العذر، فإن تَطرُّقَ الاحتمال إلى خطأ المفتي أقوى من الاحتمال إلى نسخ ما سمعه من الحديث. وقال ابن عبد البر -رحمه الله-: "يجب على كل من بلغه شيء أن يستعمله على عمومه حتى ¬

_ (¬1) المجموع، للنووي، (1/ 63 - 64). (¬2) أبو الفضل، محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمود بن الشهاب غازي بن أيوب ابن حسام الدين محمود شحنة حلب المحب الحلبي، الحنفي، له مصنفات منها: اختصار النشر، وشرح الهداية، وشرح العقائد، توفي سنة 890 هـ. شذرات الذهب، لابن العماد، (9/ 524)، البدر الطالع، للشوكاني، (2/ 263). (¬3) حاشية ابن عابدين، (1/ 167). (¬4) أبو الحسن، نور الدين، محمد بن عبد الهادي، السندي، الحنفي، فقيه حنفي، عالم بالحديث والتفسير، والعربية، من تصانيفه: حاشية على الأذكار للنووي، حاشية على أنوار التنزيل للبيضاوي، حاشية على شرح جمع الجوامع، توفي بالمدينة سنة 1138 هـ. الأعلام، للزركلي، (6/ 253)، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (10/ 262).

يثبت عنده ما يخصه أو ينسخه" (¬1)، وأيضًا فإن المنسوخ من السنة في غاية القلَّة حتى عدَّه بعضهم واحدًا وعشرين حديثًا، وإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول المفتي؛ بل يجب عليه مع احتمال خطأ المفتي، كيف لا يسوغ له الأخذ بالحديث إذا فهم معناه وإن احتمل النسخ؟ ولو كانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسوغ العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان وفلان لكان قولهم شرطًا في العلم بها، وهذا من أبطل الباطل، وقد أقام الله تعالى الحجة برسوله - صلى الله عليه وسلم - دون آحاد الأمة، ولا يعرض احتمال الخطأ لمن عمل بالحديث وأفتى به بعد فهمه إلا وأضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يُعلم خطؤه من صوابه، ويجري عليه التناقض والإخلال، ويقول القول ويرجع عنه، ويُحكى عنه في المسألة عدة أقوال، وهذا كله فيما له نوع أهلية أما إذا لم يكن له أهلية ففرضه ما قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتبه له المفتي من كلامه أو كلام شيخه وإن علا، فلأن يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بالجواز، ولو قدر أنه لم يفهم الحديث فكما لو لم يفهم فتوى المفتي يسأل من يعرفها فكذلك الحديث". انتهى كلام السندي ملخصًا، وقد أطال من هذا النفس العالي -رحمه الله- ورضي عنه" (¬2). ولا شك أن الغفلة عن النصوص والجهل بها عند التصدي للإفتاء لا سيما في النوازل من أخطر الآفات التي تعرض للفتيا، حيث قد يقع اجتهاد في غير محلِّه بسبب الجهل بالنصوص، وقد نصت القاعدة الفقهية على أنه: لا اجتهاد مع النص، ولا شك أن خفاء نصوص السنة هو الأكثر والأشهر. ¬

_ (¬1) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، تحقيق: مجموعة من الباحثين، مؤسسة قرطبة، طبعت أجزاؤه تباعًا على سنوات متعددة، (1/ 304). (¬2) الفتوى في الإسلام، لمحمد جمال الدين القاسمي، تحقيق: محمد عبد الحكيم القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1406 هـ - 1986 م، (ص 111 - 113).

وقد لا يأتي الخطأ من عدم استحضار النص، ولكن من سوء تأويله، وفهمه على غير وجهه، اتباعًا للشهوة، أو إرضاءً لنزوة، أو حبًّا لدنيا، أو تقليدًا أعمى للآخرين. وسوء الفهم أو سوء التأويل آفة قديمة منيت بها النصوص الدينية، والكتب المقدسة، وهو أحد الوجهين فيما وَصَم به القرآن أهل الكتاب من تحريف الكلم عن مواضعه. فليس المقصود بالتحريف تبديل لفظ مكان لفظ فحسب، بل يشمل تفسير اللفظ بغير المراد منه، فهذا هو التحريف المعنوي، والأول هو التحريف اللفظي. ومن أمثلة سوء التأويل ما قاله بعضهم حول الآيات التي وردت في سورة المائدة في شأن من لم يحكم بما أنزل الله، وهو قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]. قال هذا القائل: إن هذه الآيات لم تنزل فينا -معشر المسلمين- وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة. ومقتضي هذا -في زعمه- أن من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود والنصارى فهو كافر أو ظالم أو فاسق، وأما من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين فليس كافرًا ولا ظالمًا ولا فاسقًا! هذا والله مما لا ينقضي منه العجب! (¬1) وإذا كان الأصل إجراء النصوص الشرعية على ظواهرها، فإن ذلك لا يعني الوقوف عند هذه الظواهر دون فهم ما يتضمنه النص من معانٍ وما يشتمل عليه من أحكام، ولا يعني أيضًا عدم الأخذ بالقياس واستخراج العلل (¬2). ¬

_ (¬1) الفتوى بين الانضباط والتسيب، د. يوسف القرضاوي، دار الصحوة، القاهرة، ط 1، 1408 هـ - 1988 م، (ص 69). (¬2) الضوابط الشرعية للإفتاء، د. عبد الحي عزب، (ص 67).

ثانيا: العلم بالحال الواقعي

والوقوف عند الجزئيات يؤدي -أحيانًا- إلى التشديد على الناس في أمور قد سهل الشرع فيها، والتضييق على الناس فيما له مخرج شرعي صحيح، وكذلك الوقوف في وجه مستحدثات العصر بالممانعة والمعارضة دون مبرر شرعي. يقول سفيان الثوري: "إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد" (¬1). وبالجملة فإنه يتعين عند التعامل مع الأدلة النصية أن يكون على منهج الطريقة السلفية الأثرية في تلقي النصوص والاستدلال بها، وأن تتجنب الطريقة المخالفة والزائغة عن الحق، وعن هذا عبر الشاطبي -رحمه الله- فقال: "إن أخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين: أحدهما: (وهي طريقة السلف) أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار، واقتباس ما تضمنه من الحكم، ليعرض عليه النازلة المفروضة، لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم: أما قبل وقوعها فبأن توقع على وفقه، وأما بعد وقوعها فليتلافى الأمر، ويستدرك الخطأ الواقع فيها، بحيث يغلب على الظن أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع، وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة. والثاني: (وهي طريقة الزائغين) أن يؤخذ الدليل مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة، بأن يظهر بادي الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل، من غير تحرٍّ لقصد الشارع، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وفق غرضه، وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكام من الأدلة" (¬2). ثانيًا: العلم بالحال الواقعي: من المقرر عند أهل العلم أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فإن الأحكام الصحيحة لا تكون في الغالب إلا بعد دراسة ممحصة للمسألة المعروضة لدى المفتي، ¬

_ (¬1) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (1/ 784). (¬2) الموافقات، للشاطبي، (3/ 77 - 78)، بتصرف يسير.

فينبغي عليه التريث والأناة، وألا يتسرع فيصدر الحكم في مسائل لم تكن قد اختمرت بعد في ذهنه، وهذا من المزالق الخطيرة التي تزل بسببها أقدام كثير من المفتين. فمن واجبات المفتي: أن يتعرف الواقع الذي يحيط به، والمجتمع الذي يعيش فيه، ويتعرف على الأمور المستحدثة والعادات والمعاملات المنتشرة في بلده. فالإحاطة بهذه الأمور كلها تضيء الطريق لدى المفتي فيجتهد في المسألة ليستنبط لها حكمًا شرعيًّا بعد الدراية الكاملة بملابسات الواقعة والتصور الكامل لها، فمثلًا الاجتهاد للحكم على المعاملات الربوية المستجدة يستلزم الدراسة الكاملة للمعاملات قانونيًّا واجتماعيًّا، وصفة المعاملة وكل ما يتعلق بها عَرَضًا وجوهرًا حتى يمكن استنباط الحكم الشرعي السليم لها (¬1). وقد تقدم أن الفُتيا تتغير بتغير الزمان والمكان إذا كان الحكم مبنيًّا على عرف البلد ثم تغير العرف إلى عرف جديد لا يخالف النصوص الشرعية، كألفاظ العقود والطلاق واليمين ونحوها. وكذلك فإن المنكر إذا ترتب على إنكاره منكر أشد حرم الإنكار، بل يترك بعض المستحبات والاختيار لمصلحة أعلى كتأليف القلوب، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وعلى هذا الأساس قَعَّدَ العلماء رَحِمَهُمَا اللهُ قاعدة "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان" (¬2). قال الحصكفي (¬3): "فإن قلت: قد يحكون أقوالًا بلا ترجيح وقد يختلفون في الصحيح، قلت: يعمل بمثل ما عملوا من اعتبار تغير العرف وأحوال الناس وما هو ¬

_ (¬1) الضوابط الشرعية للإفتاء، د. عبد الحي عزب، (ص 71، 72). (¬2) شرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص 227)، الوجيز، د. البورنو، (ص 253). (¬3) علاء الدين، محمد بن علي بن محمد، الحصني، الحصكفي، مفتي الحنفية في دمشق، فقيه، أصولي، محدث، مفسر، نحوي، من مصنفاته: تعليقة على صحيح البخاري، وخزائن الأسرار وبدائع الأفكار في شرح تنوير الأبصار. توفي سنة 1088 هـ. الأعلام، للزركلي، (6/ 294)، ومعجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (11/ 56).

الأوفق وما ظهر عليه التعامل وما قوي وجهه" (¬1). ولهذه القاعدة أمثلة متعددة في كتب الفقهاء تدل على أنهم راعوا هذا الأصل وطبقوه عمليًّا في أبحاثهم وتقريراتهم وفتاويهم (¬2). قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في فصل: تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد: "هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى مراتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ومصالح كلها، وحكمةٌ كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها، ومن المصلحة إلى المفسدة، ومن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن دخلت فيها بالتأويل" (¬3). فعلى المفتي مراعاة هذا الأصل وضبطه فرب فتوى تصلح لعصر دون عصر، ومصر دون مصر، وشخص دون شخص، بل قد تصلح لشخص في حال ولا تصلح له في حال أخرى. وكلما كان الإنسان أعلم بالشريعة وأصولها وقواعدها، وأعظم ممارسة وأوسع اطلاعًا وأخشى لله وأعلم به كان اجتهاده أضبط ونظره أصوب، وكلما كان مقصرًا أو قاصرًا أخطأ وضل وأضل. ¬

_ (¬1) الدر المختار، للحصكفي، (1/ 181)، مطبوع مع حاشية ابن عابدين. (¬2) شرح فتح القدير، لابن الهمام، (2/ 220، 209)، مجموعة رسائل ابن عابدين: (2/ 123)، شرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص 227 - 229)، بحث "تغير الفتوى وضوابطه وتطبيقاته"، د. عبد الله الغطيمل، (ص 22 - 60)، من مجلة البحوث الففهية المعاصرة، العدد 35، 1418 هـ. (¬3) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 3).

وكذلك كلما كان النظر جماعيًّا وتمهل الإنسان وتأنى وتثبت واستشار أهل الخبرة والاختصاص والنظر الصحيح؛ كان أوفق للحق، فإن يد الله مع الجماعة وما كان أكثر فهو أحب إلى الله {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83] (¬1). بل إن أهل الفُتيا المحققين ليعلمون أنه قد لا يصلح الناس إلا الإفتاء بالقول المرجوح، فهو وإن كان مرجوحًا لكنه رجحان نسبي، فقد يختاره المفتي الرباني ويرجحه لمدرك من المدارك، وهذا لا يصلح أن يخضع للهوى والتشهي، بل يخضع لشرع الله ومراعاة المصالح العامة وجمع كلمة الناس، ونحو ذلك، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]، والحاصل: أن من مارس الفُتيا ونوَّر الله بصيرته وتضلع من النصوص وكلام الأئمة وكان ناصحًا للناس خائفًا من ربه تعالى وُفق لمراعاة هذا الضابط على الوجه الصحيح؛ إذ المعروف أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله (¬2). فلكل زمان حكم والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم (¬3). غير أنه لا يصح أن يطلق العنان في ذلك للمفسدين والمبطلين ومتبعي الهوى ليخالفوا النصوص والقواعد بحجة مراعاة العرف والزمان والمكان، أو ليتأولوا تأويلًا باطلًا متعسفًا، أو ليطوعوا الشريعة لواقع غير إسلامي بدعوى فهم الواقع ومراعاة العرف وتغير الزمان والمكان، بل لا يقوم بهذا إلا العالم الرباني الذي امتلأ قلبه بخشية الله، واتبع رسول ¬

_ (¬1) تغير الفتوى د. محمد عمر بازمول، دار الهجرة، الثقبة، ط 1، 1415 هـ، (ص 56)، بحث "تغير الفُتيا" د. الغطيمل، (ص 21 - 22)، من مجلة البحوث الفقهية، العدد 35، بحث "فقه الواقع: دراسة أصولية فقهية" د. حسين الترتوري، (ص 71: 114)، من مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 34، عام 1418 هـ. (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 205). (¬3) المرجع السابق، (4/ 220).

الله - صلى الله عليه وسلم -، وتضلع من علوم الشريعة، واستعان بالله تعالى وتوكل عليه. وكذلك من أسباب الخطأ الذي يقع فيه كثير من المجتهدين: مجاراة الظروف الواقعة صحيحها وفاسدها وقبولها والإفتاء بصحتها وشرعيتها، وإن خالفت في معظم الأحوال الحكم الشرعي تأثرًا بشدة سطوة الواقع، ويأسًا من محاولة تغييره لصعوبته، وأن ينسى المفتي وظيفة الشرع الحكيم الذي جاء لإصلاح ما فسد من الأحوال والعادات، وأن الواجب تطويع الواقع للنصوص، لا تطويع النصوص للواقع؛ لأن النصوص هي الميزان المعصوم الذي يجب أن يحتكم إليه ويعتمد عليه، أما الواقع فإنه يتغير من حسن إلى سيء ومن سيء إلى أسوأ، أو بالعكس، فلا ثبات له ولا عصمة؛ ولهذا يجب أن يرد المتغير إلى الثابت، ويرد غير المعصوم إلى المعصوم، ويرد الموزون إلى الميزان. قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] (¬1). وقريب من هذا المعنى تقليد غير المسلمين، وهذا من آثار الهزيمة النفسية التي يعاني منها بعض المتصدرين للفتوى والمفتونين بزخرف الحضارة الغربية والذين يريدون أن تذوب الشخصية الإسلامية في هذه الحضارة المادية. يقول فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي: "إن نفرًا من قومنا يعانون ما يسمونه (عقدة النقص) تجاه الغرب وحضارته وفكره، ويعتبرون الغرب إمامًا يجب أن يتبع ومثالًا يجب أن يحتذى، وما كان من أفكارنا وقيمنا وتقاليدنا ونظمنا مخالفًا للغرب اعتبروا ذلك عيبًا في حضارتنا، ونقصًا في شريعتنا، ما عليه الغرب إذًا هو الصواب، وما يخالفه هو الخطأ! " (¬2). ¬

_ (¬1) الإفتاء عند الأصوليين، د. محمد أكرم، (ص 237). (¬2) الفتوى بين الانضباط والتسيب، د. القرضاوي، (ص 84).

تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات

تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: تعتبر هذه القاعدة من أهم القواعد الأصولية لفقه نوازل الأقليات المسلمة، فإن هذا الفقه لا يتأتى له أن يؤدي مهمته، ويحقق غايته، ويؤتي ثمرته إلا باجتماع فقه النصوص الشرعية، وفقه الواقع المعيش. وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم: "لا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم؛ أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا. فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل سليمان - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما إلى معرفة عين الأم" (¬1). والفقيه الحق -كما قال ابن القيم في مقام آخر- هو الذي يزاوج بين الواجب والواقع، فلا يعيش فيما يجب أن يكون فقط، بل فيما هو كائن؛ ولهذا يعرف ما يفرضه الواقع من أحكام، فكثير ما ينزل من المثل الأعلى إلى الواقع الأدنى. وهذا ما جعل ابن القيم يقرر وجوب تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والعرف والحال. "إن واجب الفقيه أن يدرس الواقع دراسة علمية موضوعية، بكل أبعاده وعناصره ومؤثراته، بإيجابياته وسلبياته، ما له وما عليه. ونريد بدارسة الواقع: أن يدرس على الطبيعة لا على الورق، بلا تهويل، ولا ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 87 - 88).

تهوين، فأعظم ما يؤثر في سلامة النظرة العلمية هو اللجوء إلى أسلوب المبالغة والتضخيم، الذي يجعل من الحبة قبة، أو من القط جملًا، كما يقول المثل، أو إلى الأسلوب المقابل، وهو التصغير والتهوين، ومحاولة التقليل من أهمية الأمر رغم خطورته، كما نشاهده في موقفنا من دولة العدو الصهيوني -إسرائيل- وكما نشاهده في موقفنا من الحضارة الغربية. إننا أحيانًا نبني حكمنا الفقهي على معرفتنا بالواقع؛ فإذا أراد الفقيه أن يفتي في مسألة كالتدخين، فإنه يبني فتواه على رأي الطبيب، وتقرير المحلل، فإذا قال الطبيب: إن التدخين ضار بالصحة، خطرٌ عليها، فلا يسع الفقيه إلا أن يقول: هو حرام؛ لأنه لا يجوز للمسلم أن يضر نفسه باختياره، فلا ضرر ولا ضرار، ومناط الضرر قد تحقق برأي الطبيب، فوجب الإفتاء بالتحريم" (¬1). ومن واجب هذا الفقه الواقعي، أو هذا الاجتهاد المعاصر: أن يعرف حقيقة الأقلية المسلمة التي يفتي لها، فلا شك أن الأقليات تتفاوت فيما بينها تفاوتًا بعيدًا. فالأقلية التي يكون معظمها من الوافدين المهاجرين، غير الأقلية التي يكون معظمها من المواطنين الأصليين. والأقلية المستضعفة غير الأقلية المتمكنة ذات المال والجاه والنفوذ. والأقلية المحدودة العدد، غير الأقلية الكبيرة. والأقلية الحديثة الوجود غير الأقلية العريقة التي لها مئات السنين. والأقلية في البلاد الليبرالية التي تنعم بالحريات وحقوق الإنسان، غير الأقلية في البلاد الدكتاتورية التي لا تعترف للإنسان بحق ولا حرية، ولا ترقب في مؤمن إلًّا ولا ذمة. ¬

_ (¬1) في فقه الأقليات، د. يوسف القرضاوي، (ص 45).

والأقلية المبعثرة المنقسمة على نفسها، المختلفة فيما بينها، باختلاف عروقها واتجاهاتها الدينية والفكرية، غير الأقلية المتماسكة المنظمة، التي أمست لها قياداتها ومؤسساتها الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية. ويلزم الفقيه الذي يعالج الواقع في ضوء الشريعة أن يراعي هذا الواقع المتغير، فإن لكل واقع حكمه (¬1). فلا بد في فقه الأقليات ولدى دراسة نوازلها من عملية تأهيل بفقه النص وتدريب على فقه الواقع لتحصل المزاوجة المنتجة، ولتخرج الفتاوي التي تعالج آلام الواقع الحقيقية، ولا تنقل همومًا بعيدة زمانًا أو مكانًا إلى مواقع مثقلة بإشكالات أخرى. "وبحق يجب أن نأخذ بنصيحة د. المقري الإدريسي المغربي: لا يجوز نقل الفتوى في الفروع إلا بعد إعادة الاجتهاد فيها إذا عليها خمسون عامًا، أو تغير المكان ألف ميل، وهي إشارة جلية إلى أن كل عرف له أحكامه في الفروع، لا الثوابت والأصول، والقضية قطعية لا تحتاج إلى مزيد أدلة لكنها تحتاج إلى جهد جهيد لتحقيق مناطها في واقع المجالس الفقهية وتدريب الأئمة والقيادات الإسلامية حتى تصدر الفتوى من امتزاج فقه النصوص ومقاصدها الشرعية مع واقع المشكلات الحقيقية" (¬2). وبالجملة فإن اختلاف الدار من دار الإسلام إلى غيرها أعمق أثرًا وأبعد مدى من التغير من صحراء إلى مدينة، ومن بدو إلى حاضرة، فإذا كان الفقهاء قد درجوا على رعاية التغير في الأحكام في مثل هذا، فلا شك أن رعاية هذا أولى في غير دار الإسلام. وما أصَّله فقهاؤنا من تغير واختلاف في الأحكام لتغير معطيات الواقع، وما عبروا ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص 46). (¬2) الضوابط المنهجية لفقه الأقليات المسلمة، د. صلاح سلطان، (ص 29).

به من قولهم في هذا الاختلاف: إنه اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان -كل ذلك ليؤكد على أهمية هذه القاعدة الأصولية المعتبرة لدى التأصيل والتنظير لفقه نوازل الأقليات المسلمة. وعليه فإذا كانت العادة والعرف لهما اعتبار في الشرع مع كثرة ما يطرأ عليهما من تغيير وتبديل بحسب الأزمنة والأمكنة وتطور أحوال الناس، فإن على العلماء مراعاة ذلك التغير، وخصوصًا حال الفُتْيَا في النوازل والوقائع المستجدة. ولنختم بنقول مضيئة للعلامة القرافي المالكي -رحمه الله- حيث قال: "إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة" (¬1). وقال أيضًا: "ينبغي للمفتي إذا ورد عليه مستفتٍ لا يعلم أنه من أهل البلد الذي منه المفتي وموضع الفُتيا ألا يفتيه بما عادته يفتي به حتى يسأله عن بلده، وهل حدث لهم عرف في ذلك البلد في هذا اللفظ اللغوي أم لا؟ وإن كان اللفظ عرفيًّا، فهل عُرْف ذلك البلد موافق لهذا البلد في عرفه أم لا؟ وهذا أمر متعين واجب لا يختلف فيه العلماء، وأن العادتين متى كانتا في بلدين ليستا سواء أن حكمهما ليس سواء" (¬2). وقد قرر -رحمه الله- هذا المعنى في "الفروق" أيضًا، فقال: "وعلى هذا القانون تراعى الفتاوي على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك. . . والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل ¬

_ (¬1) الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: عبد الفتاح أبي غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط 2، 1416 هـ - 1995 م، (ص 218). (¬2) المرجع السابق، (ص 232).

المطلب الثالث: القواعد الفقهية المتعلقة بالاجتهاد

بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين" (¬1). المطلب الثالث: القواعد الفقهية المتعلقة بالاجتهاد: إن علم القواعد الفقهية يمثل معلمًا عظيمًا من معالم خلود هذه الشريعة الغراء، وبقاء أحكامها، ودوام نفعها، وتجديد الفقه المنتسب إليها، فهو علم يبرهن عمليًّا على صلاحية الشريعة لأن تحكم في كل زمان ومكان، بل وإصلاحها لكل زمان ومكان. ومن نفيس ما قاله الإمام القرافي في أهمية هذا العلم في صدر كتابه الفذ "الفروق": "وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف، ويظهر رونق الفقه ويعرف، وتتضح مناهج الفتوى وتكشف، فيها تنافس العلماء، وتفاضل الفضلاء، وبرز القارح على الجذع، حاز قصب السبق من فيها برع، ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر ولم تقصد نفسه من طلب مناها، ومَن ضَبَطَ الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات؛ لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب، وأجاب الشارع البعيد وتقارب، وحَصَّل طِلبته في أقرب الأزمان، وانشرح صدره لما أشرق فيه من البيان" (¬2). وعليه فإن القواعد الفقهية تعد مصدرًا مهمًّا في التأصيل الفقهي للنوازل بعامة، ويستفاد منها في تأصيل نوازل الأقليات، بما يتمم ويسدد المنظومة الأصولية التي تُعنى بتقعيد مسالك الاستدلال، وفيما يلي أهم القواعد الفقهية التي ترتبط بموضوع الاجتهاد وقواعده الأصولية. ¬

_ (¬1) الفروق، للقرافي (1/ 314). (¬2) الفروق، للقرافي، (1/ 71).

قاعدة: لا مساغ للاجتهاد فى موارد النص

قاعدة: لا مساغ للاجتهاد فى موارد النص (¬1): المعنى العام للقاعدة: لا يتأتى اجتهاد معتبر باستعمال الرأي، أو القياس للوصول إلى حكم في مسألة ورد فيها نص شرعي صريح في دلالته من كتاب، أو سنة، أو إجماع صحيح منعقد. فكل اجتهاد صادم نصًّا ثابتًا واضح الدلالة لا يقبل تأويلاً فهو اجتهاد ممنوع ومردود على صاحبه. وقولهم: "لا مساغ": أي: لا منفذ ولا طريق، والمراد بالاجتهاد الممنوع هنا هو الاجتهاد بالنظر وإعمال الرأي أو القياس حال وجود النص، ولا يمنع اجتهاد في فهم النصوص؛ ليتأتى الانتفاع بها، وإدراك الأحكام منها. والنص -اصطلاحًا- هو: خطاب الشارع، وهو الكتاب العزيز، والأحاديث النبوية الصحيحة الثابتة، والإجماع الثابت بالنقل الصحيح (¬2). وعليه فإن مورد الاجتهاد فيما لم يكن قطعيًّا من كتاب، أو سنة، أو إجماع، والمجتهد فيه عَبَّر عنه الرازي بقوله: "وهو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع" (¬3). وعَبَّر بعض العلماء عن هذه القاعدة بتعبيرات أخرى كقول الشاطبي -رحمه الله-: "مجال الاجتهاد المعتبر ما تردد بين طرفي النفي والإثبات" (¬4). وقال التفتازاني: "لا يجري الاجتهاد في القطعيات، وفيما يجب فيه الاعتقاد الجازم من أصول الدين" (¬5). ¬

_ (¬1) شرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص 147)، قواعد الخادمي، (ص 329)، الوجيز، للبورنو، (ص 328). (¬2) المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقا، (2/ 1015). (¬3) المحصول، للرازي، (6/ 39). (¬4) الموافقات، للشاطبي، (4/ 155) بتصرف يسير. (¬5) شرح التلويح، للتفتازاني، (2/ 247).

أدلة القاعدة

وقد يعبر عنها بأن الاجتهاد لا يكون إلا في الظنيات (¬1)، وإنما يعمل بالاجتهاد عند عدم النص (¬2). أدلة القاعدة: من القرآن الكريم والسنة المطهرة والإجماع والمعقول: أولًا: القرآن الكريم: 1 - قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. 2 - وقال تعالى: {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]. وجه الدلالة: جعل الله الحجة في النصوص التي أنزلها في كتابه وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -. قال الشافعي -رحمه الله-: ". . . لأن الله جل ثناؤه أقام على خلقه الحجة من وجهين، أصلهما في الكتاب: كتابه، ثم سنة نبيه" (¬3). وقال ابن عبد البر -رحمه الله-: "وقد أمر الله -عز وجل- بطاعته واتباعه أمرًا مطلقًا مجملًا لم يقيد بشيء، ولم يقل: ما وافق كتاب الله، كما قال بعض أهل الزيغ" (¬4). وقال ابن حزم -رحمه الله-: "لا حجة في قول أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬5). 3 - وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]. ¬

_ (¬1) معالم وضوابط الاجتهاد عند شيخ الإسلام ابن تيمية، د. علاء الدين رحال، (ص 323). (¬2) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، ط 2، 1395 هـ - 1975 م، (1/ 170). (¬3) الرسالة، للشافعي، (ص 221). (¬4) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (2/ 1190). (¬5) المحلى، لابن حزم، (3/ 343، (7/ 112، 402)، (8/ 198، 490).

ثانيا: السنة المطهرة

وجه الدلالة: لا يجوز أن يقال برأي أو بقياس أو باجتهاد مع وجود النص؛ لأنه يكون تقديمًا بين يدي الله ورسوله، وهو محرم. قال الشافعي -رحمه الله-: "يسقط كل شيء خالف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يقوم معه رأي ولا قياس" (¬1). قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "واعلم يا أخي أن السنة والقرآن هما أصل الرأي والعيار عليه، وليس الرأي بالعيار على السنة، بل السنة عيار عليه" (¬2). ثانيًا: السنة المطهرة: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: ". . . ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله" (¬3). 2 - وحديث معاذ حين أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قاضيًا ومعلمًا فقال له: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء"؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: "فإن لم يكن في كتاب الله؟ " قال: فبسنة رسول الله، قال: "فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال معاذ: فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدري بيده، ثم قال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬4). وجه الدلالة: ظاهر من الحديثين تقديم الكتاب والسنة على الاجتهاد والقياس. ¬

_ (¬1) الأم، للشافعي، (3/ 595). (¬2) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (2/ 1140). (¬3) أخرجه: مسلم، كتاب الفضائل، باب: وجوب امتثال ما قاله شرعًا دون ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - من معايش الدنيا على سبيل الرأي، (2361)، من حديث طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-، وفيه قصة. (¬4) سبق تخريجه.

ثالثا: أقوال الصحابة

ثالثًا: أقوال الصحابة: قال عمر -رضي الله عنه- لشريح حين بعثه قاضيًا: "ما استبان لك في كتاب الله فلا تسأل عنه، فإن لم يستبن في كتاب الله فمن السنة، فإن لم تجده في السنة، فاجتهد رأيك" (¬1). وقال عمر -رضي الله عنه- لأبي موسى -رضي الله عنه- في كتابه الذي أرسله إليه: ". . . ثم الفهمَ الفهمَ فيما أدلي إليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قَايِسِ الأمورَ عند ذلك، واعرفِ الأمثال والأشباه، ثم اعمد إلى أحبها إلى الله فيما ترى وأشبهها بالحق. . . " (¬2). وجه الدلالة: أنه جعل الاجتهاد رتبة متأخرة، بحيث صار بمنزلة الضرورة عند فقد النص اضطرارًا. رابعًا: الإجماع: قال الشافعي -رحمه الله-: "أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس" (¬3). خامسًا: المعقول: 1 - إذا كان الحكم حاصلًا بالنص عليه، فلا حاجة لبذل الوسع بالاجتهاد في تحصيله؛ ¬

_ (¬1) أخرجه: الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (533)، وأبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"، تحقيق: محب الدين أبي سعيد عمر بن غرامة العمروي، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1419 هـ / 1998 م، (23/ 19)، من حديث الشعبي قال: أخذ عمر فرسًا من رجل على سوم، فحمل عليه فعطب، فخاصمه الرجل، فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلًا؛ فقال الرجل: فإني أرضى بشريح العراق، فقال شريح: أخذته صحيحًا مسلمًا، فأنت له ضامن حتى ترده صحيحًا مسلمًا! قال: فكأنه أعجبه؛ فبعثه قاضيًا، وقال. . . فذكره. (¬2) أخرجه: البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الشهادات، باب: لا يحيل حكم القاضي على المقضي له والمقضي عليه و. . .، (10/ 150)، وفي "معرفة السنن والآثار" (14/ 240)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/ 71)، من حديث أبي العوام البصري. وانظر: إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 85 - 86). (¬3) إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 282).

تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات

لأنه حاصل، وتحصيل الحاصل محال. 2 - الحكم الحاصل بالنص القطعي يقيني، والحاصل بالاجتهاد ظني، ولا يقدم الظني على اليقيني (¬1). تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: تفتح هذه القاعدة باباً للاجتهاد عند عدم وجود النص القطعي الدلالة من الكتاب، أو السنة، أو الإجماع الصحيح، ولا شك أن بناء فقه الأقليات المسلمة يحتاج إلى مثل هذا التقعيد، ولا سيما أن غايات هذا الفقه ومقاصده لا تتأتى إلا باجتهاد منضبط يصدر من أهله ويكون في محلِّه. ومن عجب أن تروج مقالة "غلق باب الاجتهاد" في عصر كثرت نوازله، وتعددت مسائله ومشاكله، ولما تصدى الشيخ العلامة أحمد الزرقا -رحمه الله- لشرح قواعد مجلة الأحكام العدلية، قال: "قولهم: لا مساغ للاجتهاد في مورد النص". لا فائدة لوضعه هنا فيما يتبادر؛ لأن باب الاجتهاد مسدود الآن في وجه من يتصدى لدخوله مطلقًا، سواء كان في مورد نص لا يسوغ الاجتهاد فيه أو لا" (¬2)! ثم إنه احتمل -رحمه الله- أن الفقهاء أوردوها إيماءً للمفتين والقضاة بأن يقفوا عند حَدِّهم، فلا تتطلع أنظارهم أو تمتد أعناقهم لمجاوزة ما فُوِّض إليهم من الاجتهاد في ترجيح إحدى الروايتين أو القولين المتساويين بحسب الحوادث والأشخاص إلى ما لم يُفَوَّض إليهم! ثم إنه صحيح أخيرًا أن المراد بالنص في هذه القاعدة إنما هو المنقول في كتب المذهب فحسب، لا ما سبق تقرُّرُه من نصوص الكتاب والسنة والإجماع!! ¬

_ (¬1) شرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص 147). (¬2) المرجع السابق، (ص 148).

وظاهر أن هذا المنحى فرع عن القول بغلق باب الاجتهاد، وهو قول شاع في القرن السابع الهجري -وإن كان قد ظهر في القرن الرابع الهجري- فنقل عن طائفة من الأصوليين كالزركشي (¬1)، والآمدي (¬2)، وقد قال الزركشي: "ولم يختلف اثنان أن ابن عبد السلام بلغ مرتبة الاجتهاد، وكذلك ابن دقيق العيد" (¬3). ويبدو أن الاختلاف والنزاع في المجتهد المطلق دون مجتهد المذهب والمجتهد المقيد؛ ولذا جاء في "مسلم الثبوت وشرحه" ما حاصله أن النزاع في المجتهد المطلق؛ لأن اللازم من دلائل الفريقين ذلك، ثم إن من حكم بوجوب الخلو من بعد العلَّامة النسفي -رحمه الله- فقيه مصر الحنفي (¬4) المتوفى (710 هـ) واختتموا الاجتهاد به عنوا الاجتهاد في المذهب، وأما الاجتهاد المطلق فقالوا: اختتم بالأئمة الأربعة،. . . ثم قال: وهذا كله هوس لا يعبأ به؛ لأن من قال به فقد أفتى من غير علم فضلَّ وأضل (¬5)، وأجاد ابن القيم في رده (¬6)، وأطال الشوكاني النفس في الرد على هذه الدعوى (¬7)، وحرر قبله السيوطي: "الرد على ¬

_ (¬1) البحر المحيط، للزركشي، (6/ 207). (¬2) الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، (4/ 303). (¬3) البحر المحيط، للزركشي، (6/ 209). (¬4) أبو البركات، حافظ الدين، عبد الله بن أحمد بن محمود، النسفي، الحنفي، أحد الزهاد المتأخرين صاحب التصانيف المفيدة فى الفقه والأصول، من تصانيفه: الكافي فى شرح الوافي، والمنار في أصول الفقه، والمنار في أصول الدين، توفي سنة 710 هـ. الجواهر المضية، لمحيي الدين القرشي، (2/ 294)، الدرر الكامنة، لابن حجر، (2/ 247). (¬5) فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، للكنوي، (2/ 431). (¬6) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 212)، وما بعدها. (¬7) إرشاد الفحول، للشوكاني، (2/ 1035 - 1042).

من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض". وعلى منواله نسج الشيخ المراغي (¬1)، وأكد عليه د. محمد سلام مدكور (¬2) وجمع كبير من العلماء المعاصرين. وتجدر ملاحظة مهمة وهي أن الذين قالوا بجواز خلو العصر عن مجتهد لم يكتفوا به في عصرهم، وإنما تعدَّوه إلى كل عصر بعد عصرهم، ثم زادوا فقالوا بوجوب تقليد المذاهب المتبوعة، وبانحصار الحق فيها وحدها؛ لأنها مضبوطة، فأفضى هذا مع بعض المتعصبة إلى أن صار التقليد واجبًا وليس جائزًا، والاجتهاد ممنوعًا أو مستنكرًا. وإذا كان السيوطي قد أطلق دعوى الاجتهاد المطلق لنفسه، وعدَّ نفسه مجدد القرن التاسع الهجري فإن طائفة من العلماء في قرنه وما جاء بعده من قرون قد برزوا وفاقوا، وتفوقوا وألفوا وصنفوا، وادعي لهم الاجتهاد، كان لم يدعوه لأنفسهم. قال الشيخ الفاضل ابن عاشور -رحمه الله-: "ولكن اثنين ارتفعا ارتفاعًا فائقًا إلى مقام الاجتهاد: أولهما من الهند وهو ولي الله الدهلوي (ت: 1176 هـ)، وثانيهما من اليمن وهو الإمام محمد بن علي الشوكاني (ت: 1250 هـ)، فهذان هما اللذان استقلَّا بالنظر في المسائل استقلالًا تامًّا شاملًا، وجدَّدا معاني الأصول، ومعاني الأحكام، لا سيما ثانيهما الذي توفي في أوائل القرن الماضي، فلقد ترك من بين كتبه المهمة شاهدين زكيين في كتاب نيل ¬

_ (¬1) محمد بن مصطفى بن محمد بن عبد المنعم المراغي، ممن تولوا مشيخة الجامع الازهر، وولي أعمالًا منها: القضاء الشرعي، فقضاء القضاة في السودان سنة 1908 - 1919 م، وعين شيخًا للأزهر سنة 1928 م، من مصنفاته: بحث في ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية، وبحوث في التشريع، وغير ذلك، ولد سنة 1298 هـ، وتوفي سنة 1364 هـ. الأعلام، للزركلي، (7/ 103)، معجم المؤلفين، لعمر كحالة، (12/ 34). (¬2) الاجتهاد في التشريع الإسلامي، دار النهضة العربية، القاهرة، ط 1، 1404 هـ - 1984. (ص 92 - 102)، مناهج الاجتهاد، (ص 424)، وكلاهما، للدكتور مدكور.

الأوطار، وكتاب إرشاد الفحول، على أنه قد ارتقى إلى مقام النظر في الأدلة، والاستنباط منها، وأنه لم يَقُل في مسألة من الفقه إلا بما أداه إليه الدليل، وأن له في الأدلة ومناهجها أنظارًا تساوي الأنظار الاجتهادية الأصلية التي بنيت عليها كتب أصول الفقه" (¬1). وعليه فإن باب الاجتهاد مفتوح لكل من كان له متأهلاً، وهم بحمد الله موجودون في كل عصر؛ إذ لا يخلو عصر من مجتهد قائم لله بالحجة، ولا يزال الله تعالى -بكرمه ومنِّه- يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته (¬2)، ويأبى الله تعالى إلا أن يتم نوره، وتجديدُ الله تعالى دين هذه الأمة متحقق ببعث المجددين على رأس كل مائة سنة (¬3). وإذا كانت هممٌ في هذا الزمان قد تقاصرت، فإن سبلًا لتحصيل العلم قد تيسرت، وإذا كان الحصول على نسخة من كتاب في الزمان الأول ربما تعذَّر أو تعسَّر؛ فإن كنوز السنة وذخائر الفقه والأصول في هذا الزمان قد توفرت، ولا يخفى على مُطَّلع أن زمان الحواسيب الآلية اليوم مَكَّنَ -بفضل الله- من الاستفادة من تراث العلماء، وذخائر التراث بشكل لا مثيل له، ولم يخطر لأحدٍ على بالٍ، فصار جواز الاجتهاد شرعًا متحققًا وواقعًا ممكنًا، فلم يبق إلا أن يشمر لهذا الفضل أهله، وأن يتصدى لهذا الخير طلابه، وفي الحديث: "يحمل -وفي رواية: يرث- هذا العلم من كل خلف عدوله. . . " (¬4). ¬

_ (¬1) الاجتهاد، بحث للشيخ الفاضل ابن عاشور، مطبوع في كتاب المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامي بالقاهرة، (ص 62). (¬2) أخرج ابن ماجه، المقدمة، باب: اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من حديث أبي عنبة الخولاني -رضي الله عنه-: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته"، وصححه ابن حبان (2/ 32). (¬3) أخرج أبو داود، كتاب الملاحم، باب: ما يذكر في قرن المائة، (4291)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". وصححه الحاكم (4/ 522). (¬4) أخرجه: البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الشهادات، باب: الرجل من أهل الفقه يسأل عن الرجل من أهل الحديث فيقول: كفوا عن حديثه. . .، (10/ 209) -والرواية الثانية له-، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" =

وقد قيل: كم ترك الأول للآخر! وأخيرًا فإن الاجتهاد يتجزأ، فلا مانع أن يقع اجتهاد في باب دون باب، وأن يتخصص على هذا النحو في الأقليات ومسائلهم فقهاء، وأن يُعنى بتدبير شأنهم في الفُتْيَا والنوازل خاصة علماء فضلاء، فيفيدوا من تراث الأئمة الفقهاء ويزيدوا تفريعًا وتخريجًا تارة، وإنشاءً وابتداءً تارة؛ بل وتارات! كما يتجه الاجتهاد المعاصر في هذا الشأن أيضًا إلى تقديم البحوث والدراسات المتخصصة والمتعمقة، التي تجمع بين رعاية الكليات والجزئيات في سياق واحد، فلا بد من اعتبار خصوص الجزيئات بنصوصها التفصيلية مع اعتبار كلياتها، وبالعكس، وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق، وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد (¬1). ومراعاة النصوص التفصيلية في خصوص المسائل الجزئية مع اعتبار المقاصد التشريعية هو ما يحقق تمام الانسجام بين الأحكام في وحدة متكاملة مترابطة الأجزاء، متصلة الحلقات، في توازن حكيم، لا يميل جهة المقاصد والكليات، ويطرح النصوص الجزئية ويهدر الاحتكام إلى الآية والحديث، ولا يتخذ من نص جزئي قاعدة مستقلة ولو عارضت كلية من كليات الشريعة تضافر على إقامتها ما لا يحصى عدًّا من الأدلة الجزئية. وتفريعًا على ما تقرر من أنه لا مساغ للاجتهاد في موارد النصوص القاطعة، فلا وجه للقول بجواز نكاح الكتابي للمسلمة في بلاد غير المسلمين، أو التسوية بين الذكر والأنثى في الميراث ببلاد الأقليات، أو أن تستباح المحرمات وترتكب المنهيات خارج ¬

_ = (7/ 37، 38) -واللفظ له-، من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري (وقد اختلف في صحبته)، ومن حديثه عن الثقة من أشياخه. وروى من أحاديث: أنس بن مالك، وابن عمر، وأسامة بن زيد، وأبي أمامة، وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة معًا -رضي الله عنهم-. وصححه الإمام أحمد -رحمه الله-؛ كما في "تاريخ دمشق" (7/ 39). (¬1) الموافقات، للشاطبي، (3/ 13).

ديار الإسلام بادعاءات تسويغية، أو مماحكات تبريرية، تهدر النصوص الشرعية ولا يتحقق معها شيء معتبر من المصالح المرعية؛ إذ ليس من معنى الاجتهاد -في قليل أو كثير- أن تلبس الأوضاع الجاهلية لبوس الإسلام، أو أن يرقع الواقع الذي نشأ بعيدًا عن دين الله تعالى بنظريات أو فتاوي تضفي الشرعية على وجوده أو تعطي المصداقية لتناقضاته. وخير للأقليات المسلمة -في عاجل أمرها وآجله- أن تسعى لتحقيق هويتها وتأكيد خيريتها بانتسابها إلى الدين الحق، وما خرج عن هذا السياق فإنه لا يعدو أن يكون استثناء يؤكد هذا المعنى ويستبقيه ولا يدحضه أو يلغيه. وبالجملة فإن الاجتهاد في نوازل الأقليات المسلمة أمر لا بد منه ولا غنى عنه، وكلما كان جماعيًّا أو مجمعيًّا كان أقرب للصواب غالبًا، وأدنى للنفع، وأقدر على تحقيق مقاصد الشرع.

المبحث الثالث القواعد المتعلقة بالرخص والمشقات

المبحث الثالث القواعد المتعلقة بالرخص والمشقات تَمْهيد في كثير من الأحيان تكتنف حياة الأقليات المسلمة مصاعب ومشقَّات تعنتهم وتلحق بهم الحرج، والمتصدون للإفتاء لا ينبغي أن يغيب عنهم ما تقرر وتكرر في هذه الشريعة السمحة من رفع الحرج ونفي العنت والترخيص عند المشقات البالغة، وذلك من غير إفراط أو تفريط، ومن غير تتبع للرخص أو اتباع للحيل. وفيما يأتي بيان لتلك القواعد الأصولية المقاصدية المرتبطة بهذا الشأن، ثم القاعدة الفقهية الكبرى: المشقة تجلب التيسير، وما يليها من قواعد. المطلب الأول: القواعد الأصولية والمقاصدية: القاعدة الأولى: الشريعة مبناها على رفع الحرج: المعنى العام للقاعدة: كل ما ترتب عليه مشقة زائدة، وغير معتادة يفضي إلى ضيق وعسر، سواء أكان ذلك في الأبدان من الآلام أو الأمراض الحسية، أم كان في النفس من الآلام النفسية أو المعنوية، أم كان في المال مما يؤدي إلى إتلافه أو ضياعه، أو كان الغبن فيه غبنًا فاحشًا، فإن الشريعة السمحة ترفعه أو تخففه، إما بالكفِّ عن الفعل الموقع في الحرج، وإما بإباحة الفعل عند الحاجة إليه، ويتناول رفع الحرج الآخرة كما يتناول الدنيا. ويتوجه الرفع والإزالة إلى حقوق الله تعالى فحسب؛ لأنها مبنية على المسامحة، ويكون هذا إما بارتفاع الإثم عند الفعل، وإما بارتفاع الطلب للفعل.

أدلة القاعدة

كما يشمل الرفع: الإزالة بعد الوقوع، والمنع قبل الحصول (¬1). والتعبير عن رفع المشقات، ودفع الضرورات برفع الحرج جارٍ على ألسنة الأصوليين، كقولهم: (دفع الحرج)، و (رفع الحرج)، و (نفي الحرج) (¬2). أدلة القاعدة: من القرآن الكريم والسنة المطهرة، والإجماع، والمعقول. أولًا: القرآن الكريم: 1 - قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. 2 - قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]. وجه الدلالة: نفى الله تعالى الحرج والإثم الأخروي والضيق الدنيوي على الأمة في دينها، وقد جاء لفظ الحرج نكرة منفية؛ ليدل على عموم نفيه، وحتى لا يقال: إنه خاص بأمر دون غيره، والعبرة بعموم لفظ القرآن لا بخصوص سببه (¬3). 3 - قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]. 4 - وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]. ¬

_ (¬1) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ضوابطه وتطبيقاته، د. صالح بن عبد الله بن حميد، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، الكتاب الثلاثون، ط 1، 1403 هـ، (ص 42 - 50)، رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، د. يعقوب عبد الوهاب الباحسين، مكتبة الرشد، الرياض، ط 4، 1422 هـ - 2001 م، (ص 23 - 48). (¬2) شرح التلويح على التوضيح، للتفتازاني، (2/ 127) (2/ 358)، فتح القدير، لابن الهمام، (2/ 306) (3/ 62)، الهداية شرح بداية المبتدي، لأبي الحسن علي بن أبي بكر المرغيناني، مطبوع مع البناية في شرح الهداية، لأبي محمد محمود بن أحمد العيني، دار الفكر، بيروت، ط 2، 1411 هـ - 1990 م، (1/ 603). (¬3) أحكام القرآن، لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص، تحقيق: محمد الصادق قمحاوي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1412 هـ - 1992 م، (4/ 33).

وجه الدلالة

وجه الدلالة: هاتان الآيتان تضمنتا نفي الحرج ورفعه بإسقاط التكليف عن العجزة المذكورين في الآيتين، سواء في الجهة المالية أم البدنية. فالله تعالى وضع عن الأعمى التكليف الذي يشترط له البصر، وعن الأعرج ما يشترط له المشي، وعن المريض ما يؤثر المرض في استطاعته، وهكذا (¬1). كما يُستدل على نفي الحرج في كتاب الله تعالى بكل آية نفت التكليف بما لا يستطاع، وبما لا يدخل تحت الوسع، وبكل آية أَثبتت التيسير والتخفيف في التشريع، وبكل آية نفت العسر عن الشريعة، والضرر والمشقة عن المكلفين، وهي آيات كثيرة معلومة. ثانيًا: السنة المطهرة: 1 - حديث أبي -رضي الله عنه-، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بعثت بالحنيفية السمحة" (¬2). وفي رواية أخرى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَحَبُّ الأديان إلى الله الحنيفيةُ السمحة" (¬3). وجه الدلالة: الحنيفية السمحة هي المائلة عن الباطل إلى الحق في سهولة ويسر (¬4)، فلو ثبت ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي، (8/ 226). (¬2) أخرجه: الإمام أحمد في "مسنده" (5/ 266)، والطبراني في "المعجم الكبير" (8/ 216)، وفيه قصة، وطرفه: "إني لم أُبعَث باليهودية ولا بالنصرانية؛ ولكني بُعِثث. . ." فذكره. وحسنه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2924). وفي الباب: عن أم المؤمنين عائشة، وجابر، وابن عباس، وعلي، وحبيب بن أبي ثابت -رضي الله عنهم-. (¬3) أخرجه: البخاري معلَّقًا بلا إسناد (1/ 29)، والإمام أحمد في "مسنده" (1/ 236)، والبخاري في "الأدب المفرد" (287)، والطبراني في "الكبير" (11/ 227)، وغيرهم. وحسَّن إسنادَه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 94). (¬4) فتح الباري، لابن حجر، (1/ 108، 109، 134).

وجه الدلالة

وجود الحرج في الشرع لم تكن الشريعة سمحة، بل كانت ضيقة حرجة، وهو باطل؛ لمنافاته لحديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فبطل ما أدَّى إليه. 2 - حديث أسامة بن شريك -رضي الله عنه- قال: شهدتُ الأعراب يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلينا حرج في كذا؟ أعلينا حرج في كذا؟ فقال: "عباد الله، وضع الله الحرج إلا من اقترض من عرض أخيه شيئًا فذلك الذي حرج" (¬1). وفي حديث عروة الفقيمي مرفوعًا: أعلينا من حرج في كذا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا، أيها الناس: إن دين الله -عز وجل- في يسر، إن دين الله -عز وجل- في يسر، إن دين الله -عز وجل- في يسر" (¬2). وقد سئل - صلى الله عليه وسلم - في أعمال الحج كثيرًا فقال كثيرًا: "افعل ولا حرج" (¬3). وجه الدلالة: هذه الأحاديث نصوص بينة في ثبوت رفع الحرج ونفيه في الشريعة السمحة، ثم إن كل حديث من السنة المطهرة دل على التيسير في التشريع، والتخفيف في التكليف، وتشريع الرخص عند المشقات، يدل على نفي الحرج عن الشريعة المعظمة. ثالثًا: الإجماع: لقد استقر من لدن الصحابة -رضي الله عنهم- وفي فتاويهم وأحكامهم وإلى يوم الناس هذا أنه ¬

_ (¬1) أخرجه: ابن ماجه، كتاب الطب، باب: ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء، (3436)، والإمام أحمد في "مسنده" (4/ 278)، والبخاري في "الأدب المفرد" (291)، وغيرهم. وصححه ابن خزيمة (2774)، وابن حبان (13/ 426)، والحاكم (4/ 198، 400). (¬2) أخرجه: الإمام أحمد في "مسنده" (5/ 69)، وأبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في "مسنده"، تحقيق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، ط 1، 1404 هـ / 1984 م، (12/ 274)، والطبراني في "المعجم الكبير" (17/ 146). وصحَّح إسناده الشيخ أحمد شاكر في "عمدة التفسير"، دار الوفاء بالمنصورة، مصر، ط 2، 1426 هـ، (1/ 222). (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب الحج، باب: الفتيا على الدابة عند الجمرة، (1736، 1737)، ومسلم، كتاب الحج، باب: من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي، (1306)، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.

رابعا: المعقول

لا حرج في الشرع وأحكامه، ولا نعلم في ذلك مخالفًا، فكان إجماعًا منهم عليه (¬1). قال في مسلَّم الثبوت وشرحه: " (ولا حرج) في الشرع (عقلًا) كما عند المعتزلة، (أو شرعًا)، كما عندنا" (¬2). ولهذا رد الفقهاء قواعد الفقه إلى خمسة كبرى، منها: المشقة تجلب التيسير، وعليها اتفق الفقهاء والعلماء قاطبة (¬3). رابعًا: المعقول: 1 - لو لم يكن الحرج منفيًّا لكان ثابتًا، لكن التالي باطل، فبطل ما أدى إليه، وصدق نقيضه، وهو أن الحرج منفي عن الشرع، وذلك باستقراء أحكام الشريعة استقراءً تامًّا، وإجماع العلماء على أن ليس في أحكام الشريعة ما فيه حرج، إلا ما كان مرفوعًا به حرج أعظم، وهو على التحقيق ليس حرجًا (¬4). 2 - لو كان دفع المشقة والحرج غير مقصود للشارع لما كان في الشرع ترخيص، فلا تخفيف للأعذار ونحوها، والتالي باطل لثبوت الرخص الشرعية للعذر في كثير من الأحكام، ولو لم يكن دفع الحرج والمشقة مقصودًا للشارع للزم التناقض في أحكام الشارع عند إثبات الرخص والتخفيفات، وهو ما يستحيل عقلًا (¬5). شروط القاعدة: لقد سرت تطبيقات هذه القاعدة إلى عموم الأحكام، وتناولت شروط التكليف، ¬

_ (¬1) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، د. يعقوب الباحسين، (ص 68). (¬2) مسلم الثبوت، لابن عبد الشكور مع شرحه فواتح الرحموت، للكنوي، (1/ 135). (¬3) قاعدة المشقة تجلب التيسير، د. يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين، مكتبة الرشد، ط 2، 1426 هـ - 2005 م، (ص 218 - 221). (¬4) المرجع السابق، (ص 221 - 224). (¬5) الموافقات، للشاطبي، (2/ 122 - 123).

وعليها بُنيت قواعد أصولية أخرى، وأُسست قواعد فقهية كبرى. فأما سريانها إلى الأحكام الشرعية بعامة فيتجلى في ثلاثة مظاهر: المظهر الأول: الأحكام المخففة ابتداءً، وهذا جارٍ في جميع الأحكام المتعلقة بالعبادات وغيرها. المظهر الثاني: الأحكام المشروعة للأعذار، وقد شرعت ترخيصًا وتيسيرًا لأجل ما يطرأ على المكلف من عجز أو حرج. المظهر الثالث: ما سقط عن الأمة مما كُلِّفت به بعض الأمم السابقة في شرائعها (¬1). وأمثلة كل مظهر كثيرة شهيرة يطول المقام بذكرها، وأما شروط التكليف المبنية على رفع الحرج فالمقصود بها أمران: 1 - التكليف بفعل مقدور للمكلف: فلا تكليف شرعًا بما لا يطاق، وهو مذهب جمهور العلماء (¬2). وينبني على هذا أن يكون الفعل المكلَّف به ومصدره معلومين للمكلف، فلا يصح التكليف بالمجهول، ويما لا يعقل، وإلا للزم التكليف بما لا يطاق، وهو من أعظم الحرج (¬3). كما أنه لا تكليف إلا بفعل الإنسان، وما يدخل تحت قدرته، فلا يكلف بفعل غيره (¬4)، ولا بما لا يقدر عليه، فلا تكليف بالمستحيل. قال الشاطبي -رحمه الله-: "فالأوصاف التي طبع عليها الإنسان، كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يطلب برفعها ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها؛ فإنه من تكليف ما لا ¬

_ (¬1) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، د. صالح بن حميد، (ص 97). (¬2) البحر المحيط، للزركشي، (1/ 386 - 389)، فواتح الرحموت، للكنوي، (1/ 99 - 103)، المستصفى، للغزالي، (69 - 71)، نهاية السول، للإسنوي، (1/ 345 - 369). (¬3) الموافقات، للشاطبي، (3/ 27). (¬4) فلا يكلف عمرو مثلاً بخياطة زيد أو كتابته ولا بشيء من الصفات الجبلية كالسواد والبياض والطول والقصر، انظر: رفع الحرج، للباحسين، (ص 164).

يطاق، كما لا يطالب بتحسين ما قبح من خلقة جسمه، ولا تكميل ما نقص منها؛ فإن ذلك غير مقدور للإنسان، ومثل هذا لا يقصد الشارع طلبًا ولا نهيًا عنه" (¬1). وبناءً على ذلك فإنه لا يجوز التكليف بما لا يطاق، ويجوز التكليف بالمشاق، وإن كانت غير مقصودة أصلاً للشارع (¬2). 2 - أهلية المكلف للتكليف: كان الشرط السابق متعلقًا بالفعل المكلف به، أما هذا الشرط فيتعلق بقدرة المكلف على فهم الخطاب وتنفيذه، وهو ما يعبَّر عنه بمصطلح الأهلية، وهي على نوعين: 1 - أهلية وجوب بمعنى: صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه، أو صلاحيته للإلزام والالتزام (¬3). 2 - وأهلية الأداء وهي: صلاحيته لصدور الفعل عنه على وجه يعتدُّ به شرعًا (¬4). ولتحقق الأهلية الكاملة تُشترط قدرتان: الأولى: قدرة على فهم الخطاب الشرعي، وهي تتحقق بالعقل، ولما كان العقل متفاوتًا اعتُبِرَ عقل البالغ مناطًا لاعتبار العقل. والثانية: قدرة العمل وتنفيذ ما جاء في الخطاب وهي تتحقق بسلامة البدن وصحته، ولما كان هذا متفاوتًا أيضًا اعتُبِرَت قوة البدن لدى تكامل القوى في سن البلوغ. ولهذا ارتفع التكليف عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 108 - 109). (¬2) الموافقات، للشاطبي، (2/ 119). (¬3) الأهلية وعوارضها بحث للشيخ أحمد إبراهيم، مجلة القانون الاقتصادية عدد 3 السنة الأولى 1931 م، شرح التلويح، للتفتازاني، (2/ 337)، رفع الحرج، للباحسين، (ص 175). (¬4) شرح التلويح، (2/ 337)، للتفتازاني، مباحث الحكم عند الأصوليين، محمد سلام مدكور، المطبعة العالمية، مصر، 1963 م، (ص 251)، رفع الحرج، للباحسين، (ص 176).

تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات

الصغير حتى يكبر، وجاء الحديث واضحًا في هذا المعنى (¬1). كما جاء التخفيف بوضع التكليف عن المخطئ والناسي والمكره، وجاء الحديث مؤكدًا هذا المعنى. ولا شك أن تكليف من ليس أهلًا أَدْخَلُ في الحرج من التكليف بما لا يطاق، وهو ممتنع، فتكليف من ليس أهلًا أولى بالمنع. ولا شك أن التكليف بالمحال (كالأمر بالمستحيل)، وكذا التكليف المحال (كتكليف الصبي غير المميز)، يلزم عنهما الحرج البالغ والمشقة العظيمة؛ لذا انتفيا شرعًا في دين الله تعالى. تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: في مجال فقه الأقليات ونوازلها المستجدة يبرز بوضوح أثر عوارض الأهلية في التكليف من مثل الجهل الذي يعذر معه المكلف، والخطأ، والإكراه ونحو ذلك من العوارض المؤثرة في إجراء الأحكام على المكلفين، ولا سيما من نشأ بحاضرة بعيدة عن الإسلام وأهله، أو كان حديث عهد بإسلام، كما قد يظهر في كثير من أسئلة واستفتاءات ونوازل الأقليات المسلمة، وما قد تتعرض له من حالات إكراه ماديٍّ أو معنويٍّ. ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو داود، كتاب الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حدًّا، (4403)، والترمذي، كتاب الحدود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد، (1423)، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب: طلاق المعتوه، والصغير، والنائم، (2042)، من حديث علي -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل". قال الترمذي: "حسن غريب". وفي الباب: عن علي وعمر، وأم المؤمنين عائشة، وأبي قتادة، وابن عباس -رضي الله عنهم-.

القاعدة الثانية: الرخص فيما لا يصبر عليه من المشاق مطلوبة، وفي المقدور عليه عزيمة أو مباح.

القاعدة الثانية: الرخصُ فيما لا يُصْبَرُ عليه من المشاق مطلوبة، وفي المقدور عليه عزيمة أو مباح (¬1). المعنى العام للقاعدة: تطلق الرخصة في اللغة على معنى التيسير والتسهيل، وخلاف الشدة (¬2). قال في معجم مقاييس اللغة: "الراء والخاء والصاد: أصلٌ يدلُّ على لينٍ وخلاف شدة" (¬3). والرخصة في الاصطلاح الشرعي لها معانٍ، منها: تخفيفُ الأحكامِ المغلظة التي كانت على الأمم السابقة؛ كاشتراط قتل النفس في صحة التوبة، وعدم جواز الصلاة إلا في مكان العبادة، وعدم حل الغنائم، ونحو ذلك (¬4). كما تطلق الرخصة -أيضًا- على ما استُثني من أصل كليٍّ يقتضي المنع مطلقًا من غير اعتبار بكونه لعذر شاق، فيدخل فيها القرض والمساقاة والسَّلَم (¬5). كما تطلق باصطلاحٍ ثالث على ما كان من المشروعات توسعة للعباد مطلقًا مما هو راجعٌ إلى نيلِ حظِّهم وقضاء أوطارهم، وذلك بناءً على أن العزيمة أو الأصل أن ينصرف الخلق إلى عبادة الله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. فإذا وهب الله لهم حظًّا ينالونه فذلك كالرخصة لهم؛ لأنه توجُّهٌ إلى غير المعبود، واعتناءٌ بغير ما اقتضته العبودية؛ فالعزائم حق الله على العباد، والرخص حظُّ العباد من لطف الله. وبناءً على هذا الإطلاق تدخل المباحات في الرخص، ومن حيث هي توسعة على ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (1/ 320). (¬2) القاموس المحيط، للفيروز آبادي، (2/ 302). (¬3) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (2/ 500). (¬4) المستصفى، للغزالي، (ص 78)، روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 60)، فواتح الرحموت، للكنوي، (1/ 95)، أصول السرخسي، (1/ 120). (¬5) الموافقات، للشاطبي، (1/ 303).

العبد، ورفع حرج عنه، وإثبات لحظه (¬1). والمعاني الثلاثة السابقة تعتبر من الإطلاقات المجازية على الرخصة (¬2)، في مقابل المعنى الحقيقي لها في اصطلاح علماء الأصول. أما الرخصة بالمعنى الحقيقي عند الأصوليين فهي: "الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر" (¬3). أو: ما تغير إلى سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي (¬4). والرخصة بناءً على هذا: عبارة عن حكم جديد رُوعي فيه التيسير والتسهيل؛ وذلك لعذر طارئ بعد قيام سبب الحكم الأصلي. والرخصة قد تطلق في مقابل العزيمة: والعزيمة لغة هي: القصد المؤكد، قال ابن فارس: إن العين والزاي والميم: أصل واحد صحيح يدل على الصريمة والقطع (¬5). وقد سُمِّي بعض الرسل بأولي العزم؛ لتأكيد قصدهم في طلب الحق، ولأنهم قطعوا العلائق مع من لم يؤمنوا بما أُرسلوا به (¬6). واصطلاحًا: الحكم الثابت بدليل شرعي خالٍ عن معارض راجح (¬7). أو: هي ما شرع من الأحكام الكلية ابتداءً (¬8). ¬

_ (¬1) قاعدة المشقة تجلب التيسير، د. يعقوب الباحسين، (ص 456 - 457). (¬2) المستصفى، للغزالي، (ص 78)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (1/ 481). (¬3) الإبهاج، لابن السبكي، (1/ 81)، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، لأبي محمد عبد الرحيم بن الحسن الإسنوي، تحقيق: د. محمد حسن هيتو، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1400 هـ، (ص 70)، البحر المحيط، للزركشي، (1/ 327). (¬4) جمع الجوامع، لابن السبكي، (1/ 119 - 120)، مطبوع مع حاشية البناني على شرح المحلي. (¬5) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (4/ 308). (¬6) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (4/ 309)، المستصفى، للغزالي، (ص 78). (¬7) المختصر في أصول الفقه، لعلاء الدين علي بن محمد المعروف بابن اللحام، تحقيق: د. محمد مظهر بقا، جامعة الملك عبد العزيز، مكة المكرمة، الكتاب التاسع، 1400 هـ - 1980 م، (ص 67). (¬8) الموافقات، للشاطبي، (1/ 300).

أو: هي الحكم الثابت لا على خلاف الدليل، أو على خلف الدليل، لكن لا لعذر (¬1). وبالجملة فإن حاصل هذه العبارات يرجع إلى أمرين: أحدهما: أن العزيمة هي الحكم المتغير عنه، فلا تكون عزيمة حتى يكون في مقابلها رخصة. الثاني: ما لم يتغير من العسر إلى اليسر، بل شُرِعَ ابتداءً، من غير نظر إلى الأعذار. وهذه القاعدة تُقسم الترخص المشروع من حيث الصبر على المشاق إلى قسمين: ما يكون في مقابل مشقة لا صبر عليها؛ كمرض يُعجِزُ عن استيفاء الصلاة، أو الصيام، أو جوع شديد، أو عطش شديد قد يُفضي إلى إتلاف النفوس، أو الأعضاء؛ مما يؤدي إلى تفويت العبادة، أو تفويت المهج. فحكم هذا النوع من الرخص التي توجب تخفيفًا في شأن أداء الصلاة، أو تأخير الصيام، أو إباحة الميتة، أو الخمر حال المهلكة -أنها تجري مجرى العزائم، ولا يخرجها ذلك عن كونها رخصة، وإن كانت مطلوبة طلب العزيمة. ولذا قال من قال من الفقهاء بوجوبها استدلالًا بقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] (¬2)، وهذا الترخيص راجع لحق الله تعالى. وأما ما يكون في مقابل مشقة بالمكلف قدرة على الصبر عليها فإن الترخيص فيه راجع إلى حظوظ العباد؛ لينالوا الرفق والسعة من الله. وهذا القسم على ضربين: الأول: أن يكون الطلب فيه من لدن الشارع الحكيم حتى لا يبقى فيه اعتبار لحال المشقة وعدمها؛ كالجمع بعرفة ومزدلفة، فحكمه أنه لاحق بالعزيمة فطلبه على ¬

_ (¬1) نهاية السول، للإسنوي، (1/ 120). (¬2) نهاية السول، للإسنوي، (1/ 121)، الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 82)، جمع الجوامع، لابن السبكي، (1/ 121)، مطبوع مع حاشية البناني على شرح المحلي.

الإطلاق صار سنة لا رخصة مباحة. الثاني: رخص لم تختص بالطلب من لدن الشارع الحكيم، فتبقى على أصلها من الإباحة، فللمكلف أن يأخذ بالعزيمة وإن تحمل المشقة، وله أن يأخذ بالرخصة (¬1). والأصل أن الرخصة حكمها الإباحة، من حيث هي رخصة، وقد ينظر إلى الرخصة من جهة أنها إحياء للنفس فتكون عزيمة واجبة. وبناءً على ما سبق فإن الترخص في مقابل مشقة لا صبر عليها مطلوب، وهو من حقوق الله تعالى، كالإبقاء على النفس، وحفظها من الهلكة. والترخص في مقابل مشقة بالمكلف قدرة على الصبر عليها هو من حقوق العباد وحظوظهم، فما طلبه الشارع بقطع النظر عن المشقة أو الحاجة فهو ملحق بالعزيمة، وما لم يطلبه الشارع فحكمه على الأصل، وهو الإباحة. على أنه تجدر العناية بملاحظة أسباب الرخصة؛ فإن كان سبب الرخصة معصية فإن "الرخص لا تناط بالمعاصي" (¬2). وذلك لأن فعل الرخصة متى توقف على وجود شيء، نظر في ذلك الشيء، فإن كان تعاطيه في نفسه حرامًا، امتنع معه فعل الرخصة وإلا فلا (¬3). ومثال ما توقفت عليه الرخصة وكان في نفسه حرامًا: سفر العبد الآبق والمرأة الناشز، فالسفر في نفسه معصية، والرخصة منوطة به مع دوامه، ومعلقة ومرتبة عليه ترتب المسبب على السبب فلا تباح الرخصة معه، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، والمالكية (¬4). ¬

_ (¬1) القواعد الأصولية عند الإمام الشاطبي، د. الجيلالي المريني، (ص 227 - 228). (¬2) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 138). (¬3) المرجع السابق، (ص 140). (¬4) المرجع السابق، (ص 140)، الذخيرة، لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: د. محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، =

أدلة القاعدة

وقال الحنفية: إن المعصية لا تمنع من الرخصة مستدلين بإطلاق نصوص الرخص عن التقييد، والمطلق يجري على إطلاقه إلا لضرورة، فيشمل ذلك سفر المعصية والطاعة. وذهب الجمهور إلى أن الترخيص مقيد في بعض النصوص، كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، فجعلها رخصة حالَ كون المضطر غيرَ باغٍ بخروجه على إمامه، ولا عادٍ بظلمه للمسلمين بقطع الطريق، ونحو ذلك. كما استدلوا بأن الرخصة نعمة، وهي لا تنال "بالمعصية"، كما أن في ترتيب الترخيص على السبب المعصية تكثيرًا للمعاصي وإعانةً عليها. وعليه فإن الراجح ما نحاه الجمهور. إلا أنه ينبغي الالتفات إلى التفريق بين السبب "المعصية"، والسبب المقارن للمعصية، وهو أمر مهم جدًّا، قال عنه القرافي: "هو جليل حسن في الفقه" (¬1). فمن سافر سفرًا مباحًا استباح به الرخص، كان ارتكب فيه معصية، أو قارنته معصية، فمن سافر مثلًا لأمر مباح كتجارة ونحوها، ثم ارتكب فيه معصية فليس هنا ما يمنع من ترخصه بالجمع أو الفطر مثلًا؛ لأن سفره في نفسه ليس بمعصية تمنع. أدلة القاعدة: من القرآن والسنة والإجماع: أولًا: القرآن الكريم: وهي أنواع كثيرة منها أدلة دلت على التيسير والتخفيف، كما سبق بيانه في ابتناء الشريعة على رفع الحرج. ¬

_ = بيروت، ط 1، 1994 م، (1/ 322)، نهاية المحتاج، للرملي، (2/ 264)، كشاف القناع، للبهوتي، (1/ 505). (¬1) الفروق، للقرافي، (2/ 453).

ثانيا: السنة المطهرة

ومن ذلك قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. وآيات دلت على نفي الحرج في الدين، كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وآيات دلت على رفع الجناح، كقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]. وآيات دلت على نفي الإثم، كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]. وآيات دلت على نفي المؤاخذة، كقوله تعالى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]. وآيات دلت على الاستثناء، كقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]. وهذه الأدلة بجملتها تأمر بالترخص أو تبيحه عند وجود المشقة الكبيرة والحاجة العظيمة. ثانيًا: السنة المطهرة: وهي أنواع كثيرة، منها: 1 - أدلة رخصت في النطق بما لا يحل عند الضرورة والحاجة الشديدة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ويقول خيرًا، وينمي خيرًا". قال ابن شهاب: ولم أسمع يُرَخَّصُ في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث:

الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها (¬1). 2 - وأدلة جوَّزت المسح تخفيفًا، مثل: ما رواه عمرو بن أمية الضمري -رضي الله عنه- قال: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على عمامته وخفيه" (¬2). وعن بلال بن رباح -رضي الله عنه- قال: "مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين والخمار" (¬3). 3 - وأدلة أفادت الإبراد بصلاة الظهر عند شدة الحرِّ؛ كحديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الحرُّ أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجَّل" (¬4). وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اشتد الحرُّ فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحَرِّ من فَيح جهنم" (¬5). وقد دلَّت هذه الأدلة بجملتها من الكتاب والسنة على الترخص فيما غلبت مشقته وزادت عن الحدِّ، ولا شك أن الأخذ بالترخص فيه موافقة لقصد الشارع من التيسير والإرفاق، وفي الحديث: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الصلح، باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، (2692) -وليس عنده قول ابن شهاب-، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الكذب وبيان المباح منه، (2605)، من حديث أم كلثوم بنت عقبة -رضي الله عنها-. ووقع في رواية لمسلم نسبة قول ابن شهاب هذا لأم كلثوم -رضي الله عنها-؛ قالت: "ولم أسمعه يرخِّص. . . " فذكره. (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب الوضوء، باب: المسح على الخفين، (205). (¬3) أخرجه: مسلم، كتاب الطهارة، باب: المسح على الناصية والعمامة، (275). (¬4) أخرجه: البخاري في الأدب المفرد، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الثالثة، 1409 هـ، (1162)، والنسائي، كتاب المواقيت، باب: تعجيل الظهر في البرد، (499)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4669). (¬5) أخرجه: البخاري، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الإبراد بالظهر في شدة الحر، (536)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر لمن يمضي إلى جماعة ويناله الحر في طريقه، (615). (¬6) أخرجه: الطبراني في "المعجم الكبير" (11/ 323)، والبزار في "مسنده" -كما في "كشف الأستار عن زوائد البزار على الكتب الستة"، لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، =

تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات

وقد سمَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - القصر في الصلاة حال السفر صدقة من الله تعالى، فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم؛ فاقبلوا صدقته" (¬1). ولا شك أن الإجماع منعقد في الجملة على ثبوت أصل الترخص بالرخص الشرعية الثابتة والمنصوصة. تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: لا شك في أن حياة الأقليات المسلمة في عالم اليوم محفوفة بضرورات وحاجات، وتكتنفها صعوبات ومشقات، وتَبَنِّي منهج التيسير المنضبط متفق مع روح الدين، والأخذ بالرخص من شأنه أن يفتح بابًا للالتزام بأحكام الشرع والمحافظة عليها. وقد قال سفيان الثوري -رحمه الله-: "إنما الفقه الرخصة من ثقة، فأمَّا التشديد فيحسنه كل أحد" (¬2). وقد كان الفقهاء المحققون يرجحون بين الأحكام بما هو أرفق وأصلح للناس معًا؛ ذلك أن الاعتراف بحاجات الناس وتقديرها منهج شرعي دلَّ عليه ما اتفق الفقهاء عليه من رعاية الضرورات، وتنزيل الحاجة منزلة الضرورة، ومن أجل هذا أجازت الشريعة المطهرة الإجارة والسَّلَم، وهما بيعُ معدومٍ، وأباحت الجعالة مع ما فيها من جهالة، وبيع العرايا مع ما يقع فيه من ربا الفضل، واعتبرت حاجات خاصة كلبس حرير لمن به حكة جلدية، أو عند الاقتتال، ¬

_ = مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1399 هـ / 1979 م، (1/ 469) - من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. وصححه ابن حبان (2/ 69). ورُوي أيضًا من حديث: ابن مسعود وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم-. (¬1) أخرجه: مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها، (686)، من حديث يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، فقد أمن الناس! فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه فسألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "صدقة. . . " فذكره. (¬2) أخرجه أبو نعيم في الحلية، (6/ 367)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، (1/ 784).

وأجازت التبختر بين الصفين في أثناء الجهاد، ونحو ذلك. وعليه فإذا وُجد بعض الأقليات في أماكن يقصر فيها الوقت كثيرًا، أو يطول الوقت فيها طويلًا بما يوقعهم في حرج من جهة أداء الصلاة على وقتها، أو قامت ببعضهم حاجات شديدة وأعذار غالبة تحول بينهم وبين أداء الصلاة على وقتها، لا سيما مع عدم تمكنهم في بلادهم التي يعيشون فيها كأقليات، أو كانت تطرأ لهم أعذار في أوقات معينة تغلبهم عن أدائها في أوقاتها الشرعية، فلا بأس عند ذلك من إباحة الجمع للعذر والحاجة، كان لم يكن سفر، ولا خوف، ولا مطر، وقد ثبت حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال - صلى الله عليه وسلم -: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا في غير خوف ولا سفر"، وفي رواية: "جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بالمدينة، في غير خوف ولا مطر"، قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألا يُحرج أمته، وفي رواية عبد الله بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس يومًا بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، قال: فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة؟ لا أمَّ لك، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته، فصدَّق مقالته (¬1). قال ابن حجر: "وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث، فجوَّزوا الجَمْعَ في الحضر للحاجة مطلقًا، لكن بشرط ألا يُتخذ عادة، وممن قال ¬

_ (¬1) أخرجه: مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر، (705).

به: ابن سيرين (¬1)، وربيعة، وأشهب (¬2)، وابن المنذر (¬3)، والقفال الكبير، وحكاه الخطابي (¬4) عن جماعة من أهل الحديث" (¬5). ومما قد يضرب مثلًا تطبيقيًّا ما قد يسأل عنه في صلاة الجمعة وجوازها قبل الزوال لحاجة تتعلق بضيق الوقت حيث يقصر النهار في بعض البلاد القريبة من القطب، ولا سيما في الشتاء، ومنهم من لا يجد فرصة بسبب دراسته أو عمله إلا في وقت مبكر قبل الزوال. وقد ذهب الحنابلة إلى جوازها قبيل الزوال بيسير قال الخرقي (¬6): "وإن صلوا الجمعة قبل الزوال في الساعة السادسة أجزأتهم". ¬

_ (¬1) أبو بكر، محمد بن سيرين، الإمام، شيخ الإسلام، أبو بكر الأنصاري، البصري، مولى أنس بن مالك، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان ثقة مأمونًا عاليًا رفيعًا فقيهًا إمامًا كثيرَ العلم ورعًا، سمع أبا هريرة، وعمران بن حصين، وابن عباس، وروى عنه قتادة، وأيوب، ويونس بن عبيد، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وتوفي سنة 110 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (7/ 193)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 606). (¬2) أبو عمرو، أشهب بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم، الإمام العلامة، مفتي مصر، القيسي، العامري، المصري، الفقيه، يقال: اسمه مسكين، وأشهب لقب له، سمع مالك بن أنس، والليث بن سعد، وحدث عنه الحارث بن مسكين، ويونس بن عبد الأعلى، ولد سنة 140 هـ، وتوفي سنة 204 هـ. ترتيب المدارك، للقاضي عياض، (3/ 262)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (9/ 500). (¬3) أبو بكر، محمد بن إبراهيم ابن المنذر النيسابوري، الفقيه، الإمام الحافظ العلامة، شيخ الإسلام، من مصنفاته: الإشراف في اختلاف العلماء، والإجماع، والأوسط، توفي سنة 318 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 108)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (14/ 490). (¬4) أبو سليمان، حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب، البستي، الخطابي، صاحب التصانيف، الإمام العلامة، الحافظ اللغوي، من مصنفاته: معالم السنن وهو شرح سنن أبي داود، وغريب الحديث، وشرح الأسماء الحسنى، وكتاب العزلة، ولد سنة بضع عشرة وثلاث مئة، توفي سنة 388 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (17/ 23)، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (3/ 282). (¬5) فتح الباري، لابن حجر، (2/ 24). (¬6) أبو القاسم، عمر بن الحسين بن عبد الله، البغدادي، الخرقي العلامة شيخ الحنابلة، صاحب المختصر المشهور في مذهب الإمام أحمد، كان من كبار العلماء، له مصنفات كثيرة في المذهب لم ينتشر منها إلا المختصر في الفقه، توفي سنة 334 هـ. طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، (3/ 147)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (15/ 363).

قال ابن قدامة: "وفي بعض النسخ في الساعة الخامسة، والصحيح في الساعة السادسة، وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز صلاتها فيما قبل السادسة، وروي عن ابن سعد وجابر وسعيد ومعاوية أنهم صلوها قبل الزوال" (¬1). وقال ابن قدامة: "ولنا على جوازها في السادسة السنة والإجماع، أما السنة فما روى جابر ابن عبد الله -رضي الله عنه-، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي -يعني: الجمعة- ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس (¬2)، وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) قال ابن قيتبة: "لا يسمى غداء ولا قائلة بعد الزوال" وعن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل فيه، وفي رواية لمسلم: "فنرجع وما نجد للحيطان فيأً نستظل به" (¬4). وأما الإجماع فروى الإمام ابن أبي شيبة عن وكيع عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج عن عبد الله بن سيدان قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر الصديق فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدنا مع عمر فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدنا مع عثمان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: زال النهار، فما رأيت أحدًا عاب ذلك ولا أنكره (¬5)، قال: وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر وسعيد ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة، (3/ 239). (¬2) أخرجه: مسلم، كتاب الجمعة، باب: صلاة الجمعة حين تزول الشمس، (858). (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب الجمعة، باب: قول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، (939)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب: صلاة الجمعة حين تزول الشمس، (859) -واللفظ له-. (¬4) أخرجه: البخاري، كتاب المغازي، باب: غزوة الحديبية، (4168)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب: صلاة الجمعة حين تزول الشمس، (860). (¬5) أخرجه: ابن أبي شيبة في "مصنفه"، كتاب الصلاة، باب: مَن كره إذا حضرت الجمعة أن يخرج حتى =

القاعدة الثالثة: طلب التخفيف بوجه غير شرعي باطل

ومعاوية أنهم صلوا قبل الزوال، وأحاديثهم تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها بعد الزوال، في كثير من أوقاته لا خلاف في جوازه، وأنه الأفضل والأولى، وأحاديثنا تدل على جواز فعلها قبل الزوال ولا تنافي بينهما، وأما في أول النهار فالصحيح أنها لا تجوز؛ لما ذكره أكثر أهل العلم، ولأن التوقيت لا يثبت إلا بدليل من نص أو ما يقوم مقامه، وما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن خلفائه أنهم صلوها في أول النهار، ولأن مقتضى الدليل كون وقتها وقت الظهر وإنما جاز تقديمها عليه بما ذكرنا من الدليل، وهو مختص بالساعة السادسة فلم يجز تقديمها عليها، والله أعلم" (¬1). وعليه: فإذا كان بعض المسلمين إمَّا أن يأتي بالجمعة فيصليها قبيل الزوال على ما ترجح جوازه في مذهب أحمد -رحمه الله-، أو أنه لن يأتي بها لصعوبة ومشقة شديدة فإن الفتيا على إباحة أدائها قبل الزوال بيسير يقيم الفريضة، ويعين المكلف على أداء الصلاة، ويحفظ عليه دينه، ويحول بينه وبين الاجتراء على محارم الله. القاعدة الثالثة: طلب التخفيف بوجه غير شرعي باطل (¬2): المعنى العام للقاعدة: لقد تحقق عند الناظر في الأحكام الشرعية ومقاصدها أن المشقة غير مقصودة للشارع أصلاً (¬3)، وأن المشقات الخارجة عن معتاد المشقات في الأعمال العادية مقصود الشارع فيها الرفع على الجملة (¬4). ¬

_ = يصلي، (2/ 107)، والدارقطني في "سننه"، كتاب الجمعة، باب: صلاة الجمعة قبل نصف النهار، (2/ 330). قال الشيخ الألباني: "إسناده محتمل للتحسين، بل هو حسن على طريقة بعض العلماء -كابن رجب وغيره-؛ فإن رجاله ثقات غير عبد الله بن سيدان. . . "، كما في "الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة"، مكتبة المعارف، الرياض، ط 1، 1420 هـ / 2000 م، (ص 42). (¬1) المغني، لابن قدامة، (3/ 240 - 241). (¬2) الموافقات، للشاطبي، (1/ 346). (¬3) المرجع السابق، (2/ 121). (¬4) المرجع السابق، (2/ 156).

والشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل (¬1)، فهي بمجموعها في متناول المكلف آخذة من كل طرف بقسط لا ميل فيه، فلا ميل جهة طرف التشديد، ولا ميل جهة طرف التخفيف، وهذا هو عدل الشريعة، وهو الاقتصاد الذي عبر عنه بعض العلماء فقال: "الاقتصاد رتبة بين رتبتين، ومنزلة بين منزلتين، والمنازل ثلاثة: التقصير في جلب المصالح، والإسراف في جلبها، والاقتصاد بينهما" (¬2). وقد قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]. وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، وفي الحديث: "ليُصَلِّ أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر فليقعد" (¬3). وهذه القاعدة كالمقيدة للقاعدة السابقة والمخصصة لنطاقها، فإن التيسير والتخفيف والترخص ينبغي أن يكون منضبطًا بضابط المشروعية أولًا. والتخفيف الوارد في القاعدة قد يعرف بأنه ضد التثقيل سواء أكان حسيًّا أم معنويًّا (¬4)، أو يقال بأنه: "تسهيل التكليف أو إزالة بعضه" (¬5). والتخفيف أخص من التيسير؛ إذ هو تيسير ما كان فيه عسر في الأصل، ولا يدخل فيه ما كان في الأصل مُيَسَّرًا (¬6)، ولا شك أن الشريعة مبناها على رفع الحرج، وعلى ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (2/ 163). (¬2) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (2/ 340). (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب التهجد، باب: ما يكره من التشديد في العبادة، (1150)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، (784)، من حديث أنس -رضي الله عنه- في قصة صلاة زينب -رضي الله عنها- واتخاذها الحبل! (¬4) لسان العرب، لابن منظور، (4/ 155). (¬5) زاد المسير في علم التفسير، لأبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1404 هـ، (2/ 60). (¬6) خصائص الشريعة الإسلامية، د. عمر سليمان الأشقر، مكتبة الفلاح، الكويت، ط 1، 1382 هـ، (ص 70).

أدلة القاعدة

التيسير والتخفيف وفق منهج صحيح. وأنواع التخفيف في الشريعة على أضرب كثيرة، وأنواع متعددة، فيشمل ما رخص الله للمكلف مما يخفف عنه، وهو أعم من الرخصة باصطلاح الأصوليين، فيشمل ما يستباح مع قيام المحرم، وما انتقل من تشديد إلى تخفيف وتيسير؛ ترفيهًا وتوسعةً على الضعفاء، فضلًا عن أصحاب الأعذار، فكل تخفيف يقابل تشديدًا فهو رخصة شرعها الله لأربابها، كما شرع العزائم لأصحابها (¬1). فإذا طلب المكلف تخفيفًا أو ابتغى تيسيرًا لم يشرعه الله لم يكن في هذا إلا مذمومًا؛ لتهاونه، أو تركه ما يلزمه من التقوى. فمن أصَّل حكمًا أو أفتى فتيا فطرح النصوص ليخفف! أو ترك المحكم لييسر! واتبع المتشابه أو جعل الخلاف بذاته دليلًا ليسهل! أو تَتَبَّع الحيل المحرمة ليتخلص!، أو لفَّق بين المذاهب تلفيقًا محرمًا -فقد انحرف عن جادة الحق في تشريع الأحكام، وضلَّ عن سبيل الصواب في إفتاء الأنام. أدلة القاعدة: من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والإجماع، والمعقول. أولًا: القرآن الكريم: قوله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63]. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف: 170]. وقوله تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف: 43]. وقوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]. ¬

_ (¬1) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق، لمحمد سعيد الحسيني، عناية حسن السماحي سويدان، دار القادري، دمشق، ط 2، 1418 هـ - 1997، (ص 215).

وجه الدلالة

وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. وجه الدلالة: دلت الآيات الكريمات على وجوب أخذ أحكام الدين بقوة، وعدم التفريط أو التهاون بشيء فيها، والاستقامة على المنهج الحق في العقيدة والشريعة. كما دلت الآية الأخيرة على أن طلب التخفيف من وجهه المشروع يُمْنٌ وبركة، وعكسه شؤم وحسرة، فمن لم يَتَّقِ الله لم يجعل الله له مخرجًا، كما يفيده الشرط. ولا شك أن طلب المخرج مما أباحه الله وعلى وجهه المشروع مضمون الفوز والفلاح، أما من طلبه من غير وجهه المباح فهو متعدٍّ لما حدَّ الله -عز وجل- من الحدود، متعرض لعقوبة الله. ثانيًا: السنة المطهرة: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم - للرجل المسيء صلاته ثلاث مرات: "ارجع فصلِّ فإنك لم تُصَلِّ" (¬1). 2 - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم. . . " (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت، (757)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة و. . .، (397)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب الأذان، باب: وجوب صلاة الجماعة، (644)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، (651)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

وجه الدلالة

3 - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" (¬1). وجه الدلالة: دل الحديثان: الأول والثاني على منع التهاون والتساهل في أمر الدين، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الرجل المسيء في صلاته أن يعيدها ثلاث مرات، وشدَّذد على المتخلفين عن الجماعات ولم يفتح لهم بابًا إلى التخفيف من غير عذر ولا مرض. ولما كانت أسباب التخفيف الشرعية كثيرة فإن جلب التخفيف عن غير طريق مشروع لا يكون إلا منهيًّا عنه. وقد أفاد الحديث الثالث هذا المعنى؛ فإنَّ جَمْعَ المتفرق من المال لدى الزكاة أو تفريقه طلبًا للتخفيف أمرٌ لا يُشرع ولا يكون مباحًا. ثالثًا: الإجماع: نقل ابن القيم -رحمه الله- إجماع الصحابة على تحريم الحيل المحرمة وإبطالها، وإجماعهم حجة قاطعة (¬2). رابعًا: المعقول: إن البحث عن التخفيف وطلبه مطلقًا لتوهم المصلحة فيه أمرٌ لا يصح، ولا يصلح من جهتين؛ الأولى: أن هذه الشريعة كاملة ومحكمة فلا يوجد سبب تحقيق التخفيف والمصلحة معًا إلَّا وقد شُرع في دين الله، فما لم يثبت أنه مشروع فلا مصلحة معتبرة في تشريعه، والجهة الثانية: أن المصلحة لا يعرفها على وجهها، ولا يحيط بها حقَّ الإحاطة إلا الله تعالى، ومعرفة العبد بكل حال ناقصة، "فقد يكون ساعيًا في مصلحة نفسه من وجه لا يوصله إليها، أو يوصله إليها عاجلًا، لا آجلًا، أو يوصله إليها ناقصة، لا ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الزكاة، باب: لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع، (1450)، من حديث أنس أن أبا بكر -رضي الله عنهما- كتب له التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا يجمع. . ." فذكره. (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 173).

صور من طلب التخفيف بوجه غير شرعي

كاملة، أو يكون فيها مفسدة تُربي في الموازنة على المصلحة، فلا يقوَّم خيرها بشرها، وكم من مدبِّر أمرًا لا يتم له على كماله أصلًا، ولا يجني منه ثمرة أصلًا" (¬1). فالرجوع إلى ما شرعه الشارع الحكيم في هذا الباب هو تحقيق للمصلحة، وتخفيف على الوجه المشروع. صور من طلب التخفيف بوجه غير شرعي: أولًا: إتباع الحيل المحرمة: معنى الحيل: تطلق الحيلة -لغةً- على: الحذق، وجودة النظر، ودقة التصرف، وحسن تدبير الأمور، وهي مشتقة من التحول والانتقال من حالة إلى أخرى (¬2). ثم غلبت بعرف الاستعمال على ما يكون من الطرق الخفية موصلاً إلى الغرض المطلوب، بحيث لا يتفطن له إلا بنوعٍ من الذكاء، فإن كان المقصود أمرًا حسنًا كانت حيلة حسنة، وإن كان قبيحًا كانت قبيحة (¬3). وقد قال بعض العلماء: إنها صارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت قُصِدَ بها التوصل إلى الغرض المنوع منه شرعًا أو عقلًا أو عادة (¬4). وعرفها الشاطبي -رحمه الله- بقوله: "تقديم عمل ظاهر الجواز؛ لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر" (¬5). ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (1/ 349). (¬2) لسان العرب، لابن منظور، (3/ 399)، المصباح المنير، للفيومي، (1/ 157). (¬3) الفتاوي الكبرى، لابن تيمية، (6/ 106). (¬4) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 241)، وإغاثة اللهفان، لابن القيم، (1/ 385). (¬5) الموافقات، للشاطبي، (4/ 201).

وعرفها ابن القيم -رحمه الله- بأنها: "إظهار أمر جائز؛ ليتوصل به إلى محرم يبطنه" (¬1). ومن ذلك: حيل اليهود في استباحة الحرام، كإيمانهم أول النهار وكفرهم آخره؛ ليصدوا الناس عن الإسلام، وتحريفهم التوراة، وليِّهم ألسنتهم بالكتاب، وزعمهم أن الله أنزلها. كذبًا وزورًا. وهكذا كل حيلة تضمنت إسقاط حق الله أو الآدمي فهي تندرج فيما يستحل به المحارم (¬2). وهذه الحيل الممنوعة على أضرب ثلانة هي (¬3): 1 - حيلة محرمة ويتوصل بها إلى محرم. 2 - حيلة مباحة ويتوصل بها إلى محرم. 3 - حيلة مباحة لا يتوصل بها إلى محرم، وتستعمل لتفضي إلى محرم. وقد ذهب العلماء إلى تحريم الإفتاء بهذه الأنواع جميعًا، بل لا يجوز تقليد من يفتي بها، ويجب نقض حكمه، ولا يجوز الدلالة للمقلِّد على من يفتي بها، وهذا مذهب جمهور العلماء في سائر المذاهب، ونصَّ كثير منهم على عدم قبول الفتاوي التي تتضمن هذا النوع من الحيل. فعند الحنفية: "يمنع مفتٍ ماجنٌ يعلِّم الحيل الباطلة، كتعليم الرِّدَّة؛ لتبين من زوجها، أو لتسقط عنها الزكاة" (¬4). وعند الحنابلة: "ولا يجوز له -أي: المفتي- ولا لغيره تتبع الحيل المحرمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص، لمن أراد نفعه، فإنْ تَتَبَّعَ ذلك -أي: الحيل المكروهة والمحرمة والرخص- ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 160). (¬2) الحيل في الشريعة الإسلامية، د. محمد عبد الوهاب بحيري، ط مطبعة السعادة، مصر، القاهرة، (ص 66). (¬3) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 413)، قاعدة سد الذرائع وأثرها في الفقه الإسلامي، د. محمود حامد عثمان، دار الحديث، ط 1 - 1417 هـ - 1996 م، (ص 85 - 90). (¬4) الدر المختار، للحصكفي، (9/ 214)، مطبوع مع حاشية ابن عابدين.

فُسِّقَ وحرم استفتاؤه" (¬1). وفي كتاب إبطال الحيل: "الفتوى عند أهل العلم: تعليم الحق والدلالة عليه. . . وأما من علَّم الحيلة والمماكرة في دين الله والخديعة لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور حتى يخرج الباطل في صورة الحق فلا يقال له مفتٍ" (¬2). قال ابن القيم -رحمه الله-في الواجب على المفتي-: "يحرم عليه إذا جاءته مسألة فيها تحَيُّلٌ على إسقاط واجب، أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها ويرشده إلى مطلوبه، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده" (¬3). فلا شك أن المفتي المتتبع للحيل متعرض للفسق والمنع من الفُتيا، بل وذهب بعض أهل العلم إلى تكفيره! فقد وقع في عهد ابن المبارك (¬4) -رحمه الله- أن امرأة أُمِرَتْ بالردة لتبين من زوجها فغضب ابن المبارك لذلك غضبًا شديدًا، ثم قال: "أحدثوا في الإسلام، ومن كان أَمَرَ بهذا فهو كافر، ومن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر به أو هَوِيَه ولم يأمر به فهو كافر، ثم قال: ما أرى الشيطان كان يُحسن مثل هذا، حتى جاء هؤلاء فأفادها منهم، فأشاعها حينئذ، أو كان يحسنها ولم يجد من يمضيها فيهم، حتى جاء هؤلاء" (¬5). ¬

_ (¬1) كشاف القناع، للبهوتي، (6/ 307). (¬2) إبطال الحيل، لأبي عبد الله عبيد الله بن محمد العكبري المعروف بابن بطة، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، (ص 31). (¬3) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 229)، وقد نقل مثل هذا عن النووي في روضة الطالبين، (11/ 110)، وعن الحطاب المالكي في مواهب الجليل، (8/ 71). (¬4) أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي المروزي، شيخ خراسان، أحد الأئمة الأعلام وحفاظ الإسلام، عالم زمانه وأمير الأتقياء في وقته، فقيه جواد مجاهد، جمعت فيه خصال الخير، طبق علمه الآفاق فحدَّثَ عنه أئمة أعلام حتى حدَّثَ عنه بعض مشايخه كالثوري وابن عيينة، ولد سنة 118 هـ، وتوفي سنة 181 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (7/ 372)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (8/ 378). (¬5) الفتاوي الكبرى، لابن تيمية، (6/ 106 - 143)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 159 - 188)، عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق، لمحمد سعيد الحسيني، (ص 254 - 266).

الحيل المشروعة

الحيل المشروعة: وهي ما لا خلاف في جوازه؛ كالنطق بكلمة الكفر حالةَ الإكراه، والمعاريض التي يتخلص بها الإنسان من المآثم أو المكاره، وقد ثبتت بالسنة الفعلية والقولية، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للسائل الذي سألة: ممن أنتما؟، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "نحن من ماء" (¬1)، يريد مخلوقين من ماء، لا أنه من بلدة ماء، "وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها" (¬2)، وكان يقول: "إن في المعاريض لمندوحةً عن الكذب" (¬3). وكان الصِّدِّيق يقول لمن سألة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريق الهجرة: "من هذا الرجل الذي بين يديك"؟ فيقول: "هذا الرجل يهديني السبيل" (¬4). فإذا كانت الحيل لا شبهةَ فيها، ولا يترتب عليها مفسدةٌ، وفيها مصلحةٌ، أو رفعُ حرجٍ، أو تيسيرٌ فهذا من الحيل المشروعة. يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فأحسن المخارج ما خَلَّص من المآثم، وأقبح الحيل ما ¬

_ (¬1) أخرجه: الإمام محمد بن إسحاق في "سيرته" (1/ 616 - سيرة ابن هشام، تحقيق: مصطفى السقا، وإبراهيم الإبياري، وعبد الحفيظ شلبي، ط: مصطفى البابي الحلبي، مصر) من طريق محمد بن يحيى بن حبان مرسلاً، ومن طريق ابن إسحاق، أخرجه: الطبري في "تاريخ الرسل والملوك"، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، دار المعرف، القاهرة، ط 2، (2/ 436). (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب المغازي، باب: حديث كعب بن مالك، (4418)، ومسلم، كتاب التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبَيه، (2769)، من حديث كعب بن مالك -رضي الله عنه- الطويل في قصة توبته من التخلُّف عن غزوة تبوك، قال: "ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوةً إلا ورَّى بغيرها". (¬3) أخرجه: البيهقي في "سننه الكبرى"، كتاب الشهادات، باب: المعاريض فيها مندوحة عن الكذب، (10/ 199)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة"، تحقيق: بشر محمد عيون، مكتبة دار البيان، دمشق، ط 1، 1407 هـ / 1987 م، (327)، وأبو أحمد عبد الله بن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال"، تحقيق: يحيى مختاز غزاوي، دار الفكر، بيروت، ط 3، 1409 هـ / 1988 م، (1/ 35، 3/ 96)، من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- مرفوعًا. ورُوي موقوفًا؛ قال البيهقي بعد أن أخرجه موقوفًا (10/ 199): "هذا هو الصحيح موقوف". اهـ. (¬4) أخرجه: البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، (3911)، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-، ضمن قطعة من حديث الهجرة.

ثانيا: تتبع الرخص

أوقع في المحارم، أو أسقط ما أوجبه الله ورسوله من الحق اللازم" (¬1). وعلى هذا فإذا احتال المفتي بشيء مشروع لا شبهةَ فيه لتخليصٍ من ورطةٍ أو تصحيحٍ لمعاملةٍ ونحو ذلك فلا حرج عليه إذا حسن قصده. يقول النووي -رحمه الله-: "وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها، لتخليصٍ من ورطةِ يمينٍ ونحوِها فذلك حسن جميل، وعليه يُحْمَلُ ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا" (¬2). وقال الحجاوي -رحمه الله- (¬3): "وإن حسن قصده -أي: المفتي- في حيلة جائزة لا شبهة فيها، ولا مفسدة لِتُخَلِّصَ المستفتيَ بها من حرج جاز" (¬4). ثانيًا: تَتَبُّعُ الرُّخص: المقصود بتتبع الرخص: النظر في أحكام المذاهب المختلفة؛ لتخير ما هو الأهون والأيسر فيما يقع من المسائل. والواقع أن الفقهاء يختلفون في هذه المسألة إلى ثلاث فرق: فمنهم من يمنع مطلقًا، ومنهم من يجيز بقيود وشروط، ومنهم من يجيز مطلقًا. أولًا: المانعون مطلقًا: وهم بعض الحنفية، وكثير من الشافعية، ومنهم: النووي والغزالي، والمالكية -في الأصح عندهم-، والحنابلة، وابن حزم الظاهري. ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 222). (¬2) المجموع، للنووي، (1/ 46). (¬3) أبو النجا، شرف الدين، موسى بن أحمد بن موسى بن سالم بن عيسى بن سالم، الحجاوي، المقدسي، ثم الصالحي، من مصنفاته: حاشية التنقيح، والإقناع، وزاد المستقنع، ولد سنة 895 هـ، وتوفي سنة 968 هـ. شذرات الذهب، لابن العماد، (10/ 472)، السحب الوابلة، لابن حميد، (3/ 1134). (¬4) كشاف القناع، للبهوتي، (6/ 307).

ثانيا: المجيزون بشروط

يقول الغزالي -رحمه الله-: "وليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده فيتوسع، بل هذا الترجيح عنده كترجيح الدليلين المتعارضين عند المفتي؛ فإنه يتبع ظنه في الترجيح، فلا يقتصر على ملاحظة التخفيف بتتبع الرخص" (¬1). ويقول ابن حزم -رحمه الله-: "واتفقوا أنَّ طلب رخص كل تأويل بلا كتاب ولا سنة فسقٌ لا يحل" (¬2). وقال ابن عبد البر -رحمه الله-بعد نقله قول سليمان التيمي -رحمه الله--: "إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشرُّ كله. قال أبو عمر: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا والحمد لله" (¬3). ويقول الشاطبي -رحمه الله-: "تتبع الرخص ميل مع أهواء النفس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى. . . قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] " (¬4). وذكر أن اتباع الرخص فيه من المفاسد ما فيه، مثل: "الانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، وكالاستهانة بالدين. . . وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم" (¬5)، وفي شرح المحلي على جمع الجوامع: "الأصح أنه يمتنع تتبع الرخص في المذاهب" (¬6)، وهذا يدل على أن هناك رأيًا بجواز تتبعها، لكن ما ذكره من المنع هو الأصح عنده. ثانيًا: المجيزون بشروط: وهم بعض الشافعية، والقرافي من المالكية. قال العز ابن عبد السلام -رحمه الله- في فتاويه: "الناس من لدن الصحابة إلى أن ظهرت ¬

_ (¬1) المستصفى، للغزالي، (ص 374). (¬2) مراتب الإجماع، لابن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت، (ص 175). (¬3) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (2/ 927). (¬4) الموافقات، للشاطبي، (4/ 145). (¬5) المرجع السابق، (4/ 147 - 148). (¬6) حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع، (2/ 400).

ثالثا: المجيزون مطلقا

المذاهب يسألون فيما يسنح لهم العلماءَ المختلفين من غير نكير من أحد، وسواء اتبع الرخص في ذلك أو العزائم؛ لأن من جعل المصيب واحدًا لم يعيِّنه، ومن جعل كل مجتهد مصيبًا فلا إنكار على من قلد في الصواب" (¬1). وقيَّد القرافي -رحمه الله- الجواز بشرط ألا يترتب على تتبع الرخص العمل بما هو باطل لدى جميع من قلدهم. ثالثًا: المجيزون مطلقًا: وهم أكثر الحنفية، وبعض المالكية، وبعض الشافعية. يقول الكمال ابن الهمام -رحمه الله-: "لا يمنع من اتباع رخص المذاهب مانع شرعي؛ إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحب ما خفف على أمته" (¬2) وقال: "والغالب أن هذه إلزامات من المانعين لكفِّ الناس عن تتبعها وإلا أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد قوله أخف عليه، وأنا لا أدري ما يمنع هذا من النقل أو العقل، وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوَّغ له الاجتهاد ما علمت من الشرع ذمه عليه" (¬3). وقال ابن أمير الحاج -رحمه الله- (¬4) في الرد على المانعين ومدعي الإجماع على ذلك، بأن دعوى الإجماع غير صحيحة؛ إذ في تفسيق المتبع للرخص عن أحمد روايتان، وقد حمل ¬

_ (¬1) كتاب الفتاوي، لعز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، تحقيق: عبد الرحمن بن عبد الفتاح، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1406 هـ - 1986 م، (ص 153). (¬2) التقرير والتحبير، لابن أمير الحاج، (3/ 469) بتصرف يسير. (¬3) شرح فتح القدير، لابن الهمام، (7/ 258) بتصرف، وأشار إليه كل من: المحلي في شرحه على جمع الجوامع، (2/ 402) مطبوع مع حاشية البناني، والشاطبي، في الموافقات، (4/ 144 - 145). (¬4) شمس الدين، محمد بن محمد بن محمد الحلبي، الحنفي، ابن أمير الحاج، من مصنفاته: المناسك، والتقرير والتحبير شرح التحرير، وشرح منية المصلي، ولد سنة 825 هـ، وتوفي سنة 879 هـ. الضوء اللامع، للسخاوي، (9/ 210)، والأعلام، للزركلي، (7/ 49).

الترجيح

القاضي أبو يعلى (¬1) الرواية المفسِّقة على غير تأويل ولا مقلد، على أن بعض الحنابلة ذكروا أنه لا يفسق، ولعل من يمنع إنما يقصد ما يوصل إلى صورةٍ لا يكون حكمها صحيحًا عند أحد، أما اتباع الرخص للتسهيل على المكلف كيفما كان فليس بضارًّ (¬2). ويقول أبو إسحاق المروزي الشافعي (¬3)، وإبراهيم الشبراخيتي المالكي (¬4) بالجواز، فقد نقل الدسوقي (¬5) عنه أنه قال: "الذي سمعناه من شيخنا نقلًا عن شيخه أن الصحيح جواز تتبع الرخص، بمعنى تتبع كل سهل لرفع المشقة" (¬6). الترجيح: نوقش مذهب المجوزين مطلقًا بأمور، منها: أن ما نقل من عدم فسقه عن الإمام أحمد وغيره لا يلزم منه حل تتبع الرخص، وذلك أنه إذا كان عاميًّا مقلدًا لمفتيه في ذلك لم يفسق، أما إن كان عاميًّا فأقدم على الترخص من غير تقليد فهذا يفسَّق؛ لإخلاله بفرضه وهو ¬

_ (¬1) أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد، البغدادي، الحنبلي، ابن الفراء، صاحب التعليقة الكبرى، والتصانيف المفيدة في المذهب، من مصنفاته: إبطال تأويل الصفات، والعدة في أصول الفقه، وأحكام القرآن، ولد سنة 380 هـ، وتوفي سنة 458 هـ. طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، (3/ 361)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (18/ 89). (¬2) التقرير والتحبير، لابن أمير الحاج، (3/ 469). (¬3) أبو إسحاق، إبراهيم بن أحمد المروزي، الإمام الكبير، شيخ الشافعية، وفقيه بغداد، صاحب أبي العباس بن سريج، وأكبر تلامذته، انتهت إليه الرياسة في العلم ببغداد، من مصنفاته: كتاب في السنة، وشرح مختصر المزني، توفي سنة 340 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 112)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (15/ 429). (¬4) برهان الدين، إبراهيم بن مرعي بن عطية، الشبراخيتي، المالكي، من مصنفاته: الفتوحات الوهبية شرح الأربعين النووية، وشرح مختصر خليل، توفي سنة 1106 هـ. الاعلام، للزركلي، (1/ 73)، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (1/ 111). (¬5) أبو عبد الله، شمس الدين، محمد بن أحمد بن عرفة، الدسوقي، المصري، المالكي، من تصانيفه: حاشية على شرح الدردير لمختصر خليل، وحاشية على شرح البردة لجلال الدين المحلي، حاشية على مغنى اللبيب لابن هشام في النحو، توفي سنة 1230 هـ. شجرة النور الزكية، لمحمد بن محمد مخلوف، (1/ 361)، الأعلام، للزركلي، (6/ 17). (¬6) جمع الجوامع، لابن السبكي، مع شرحه لجلال الدين المحلي، (2/ 400)، حاشية الدسوقي، (1/ 25).

تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات

التقليد، وكذا إن كان مجتهدًا لم يؤده اجتهاده إلى الرخص. على أن التفسيق منقول عن غير أحمد -رحمه الله- كيحيى القطان -رحمه الله- (¬1) حيث قال: "لو أن رجلًا عمل بكل رخصة: يقول أهل المدينة في السماع -يعني: في الغناء- وبقول أهل الكوفة في النبيذ، وبقول أهل مكة في المتعة لكان فاسقًا" (¬2). وأما الاحتجاج بقول متأخري الحنفية فلا شك أنهم محجوجون بالإجماع الذي حكاه ابن عبد البر وابن حزم (¬3). وعليه: فإن الراجح المنع، إلا أن يؤدي إلى ذلك اجتهاد معتبر أو تقليد سائغ. قال الشاطبي -رحمه الله-: "ومتى خيرنا المقلِّدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم، لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة" (¬4). تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: يحتاج المفتون خارج ديار الإسلام إلى فقه قاعدة الترخيص، وتشتد حاجتهم إلى استعمالها فيما يعود على أهل الإسلام من الأقليات بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة. ذلك أن التخفيف من أجل الترغيب في الإسلام والدخول فيه مقصد شرعي في ديار الإسلام وفي غيرها، وقد سبق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَبِل إسلام وفد ثقيف على شرط فاسد، وفي هذا إظهار وإبراز سماحة الإسلام ويسره وسعته، وحسن عاقبة السياسة النبوية التي ترعى المصالح الشرعية، فإن ثقيفًا حسن إسلامها وفاءت إلى الإسلام ¬

_ (¬1) أبو سعيد، يحيى بين سعيد بن فروخ، القطان، مولاهم البصري، الإمام الكبير، أمير المؤمنين في الحديث، كان ثقة مأمونًا رفيعًا حجةً، سمع سليمان التيمي، وهشام بن عروة، وعطاء بن السائب، وروى عنه سفيان، وشعبة، ومعتمر بن سليمان، توفي سنة 198 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (7/ 293)، سير أعلام النبلاء، (9/ 175). (¬2) المسودة، لآل تيمية، (ص 518 - 519). (¬3) فتاوي الشيخ عليش، (1/ 79). (¬4) الموافقات، للشاطبي، (4/ 131).

ودخلت في شرائعه كافة لما خالط الإيمان القلوب، وتمكنت بشاشته من النفوس. وقد نعى الشيخ محمد سعيد الحسيني (¬1) على أحد المفتين في قازان وقد أفتى لبعض أمراء روسيا الوثنيين أنه لا يصح إسلامه على شرط شرب الخمر وأكل الخنزير، فقال: "إن هذا المتفقه لو كان من أهل البصيرة في الدين، والفقه في شريعة خاتم المرسلين، والوقوف على تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - لما اقترف هذا الخطأ المشين، ولعرف أنهم بعد إسلامهم يقلعون عن تعاطي شرب الخمر، وأكل لم الخنزير، متى تمكنت بشاشة الإيمان من قلوبهم؛ لأن أمة الإجابة لا يتفق جمهورها على الضلالة، لكن الذي أفضي بالأمة الإسلامية إلى ما وصلت إليه هو الجمود والوقوف عند ظواهر نصوص الفقهاء، وتعطيل قوى المدارك والمواهب، وإغلاق باب الاجتهاد بدون قيد" (¬2). فلا شك أن التخفيف في زمن نفور الخلق، ووهن العزائم، ورقة الدين، أمر مطلوب ومرغوب، ومع هذا كله فلا بد من التحرك وفقًا لثوابت شرعية وأصول مرعية، وإلا ترتب على هذا التيسير تغييرٌ للأحكام بغير برهان، وتقوُّلٌ على الله بغير علم، وتعريض الشريعة للتبديل باسم التيسير! والأصل أن التساهل في الفتيا مذموم وممنوع، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59]. ¬

_ (¬1) محمد سعيد بن عبد الرحمن بن محمد الباني الحسني الدمشقي، فقيه فاضل، تولى منصب الإفتاء في بعض أقضية دمشق، وبها تفقَّه وتأدَّب، من مصنفاته: الفرقدان النيران في بعض المباحث المتعلقة بالقرآن، وعمدة التحقيق في التقليد والتلفيق، والكوكب الدري المنير في أحكام الفضة والذهب والحرير، ولد سنة 1294 هـ، ومات سنة 1351 هـ. الأعلام، للزركلي، (6/ 143)، معجم المؤلفين، لعمر كحالة، (10/ 31). (¬2) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق، لمحمد سعيد الحسيني، (ص 221).

وقال النووي: "يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حرم استفتاؤه" (¬1)، وقال ابن مفلح (¬2): "يحرم تساهل المفتي، وتقليد معروف به" (¬3)، وقال القرافي: "أما الحكم أو الفتيا بما هو مرجوح فخلاف الإجماع" (¬4). وكما ظهر من يتشدد في غير موضع للتشديد، فقد ظهر جليًّا أن طائفة أخرى تبحث تحت ستار التخفيف عن التفلت من الأحكام الشرعية المستقرة، سواء أكانت في القضايا الكبرى والمهمات، أم كانت في القضايا الشخصية والجزئيات. فقضية ربا البنوك والمصارف -مثلًا- قضية محسومة في دار الإفتاء المصرية من لدن أول من ولي منصب الإفتاء في الديار المصرية الشيخ محمد عبده -رحمه الله- (¬5) (¬6) وعلى حرمته انعقد اتفاق المجامع الفقهية المعاصرة (¬7). وسواء أكان هذا في ديار الإسلام، أم ¬

_ (¬1) المجموع، للنووي، (1/ 46). (¬2) أبو عبد الله، شمس الدين محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي، تفقه في مذهب الإمام أحمد، وبرع فيه إلى الغاية، وكان أعلم تلامذة ابن تيمية باختياراته، ولد سنة 710 هـ، وتوفي سنة 763 هـ. السحب الوابلة، لابن حميد، (3/ 1093). (¬3) أصول الفقه، لشمس الدين محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي، تحقيق: فهد بن محمد السدحان، مكتبة العبيكان، الرياض، ط 1، 1420 هـ - 1999 م، (4/ 1576). (¬4) الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام، للقرافي، (ص 93). (¬5) محمد عبده بن حسن خير الله، من آل التركماني، مفتي الديار المصرية، ومن كبار رجال الإصلاح والتجديد، تولى منصب القضاء، ثم جعل مستثارًا في محكمة الاستئناف، فمفتيًا للديار المصرية سنة 1317 هـ، من مصنفاته: تفسير القرآن الكريم، ورسالة التوحيد، والإسلام والرد على منتقديه، ولد سنة 1266 هـ وتوفي سنة 1323 هـ. الأعلام، للزركلي، (6/ 252)، ومعجم المؤلفين، لعمر كحالة، (10/ 272 - 273). (¬6) تنظر: فتوى الشيخ محمد عبده -رحمه الله- في تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990 م، (3/ 91)، والشيخ بكري الصدفي -رحمه الله-، "فتاوى دار الإفتاء المصرية" فتوى (413)، والشيخ عبد المجيد سليم -رحمه الله-، "فتاوى دار الإفتاء المصرية" فتوى (617، 621، 3252)، والشيخ حسن مأمون -رحمه الله- "فتاوى دار الإفتاء المصرية" فتوى (3178)، والشيخ جاد الحق -رحمه الله- "فتاوى دار الإفتاء المصرية" فتوى (819)، والشيخ عبد اللطيف حمزة -رحمه الله- "فتاوى دار الإفتاء المصرية" فتوى (3346). (¬7) من ذلك: قرار المؤتمر الإسلامي الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة في المحرم سنة 1385 هـ، وقد =

كان خارج دياره. ثم إنه ظهر من يقول بحل هذه الفوائد الربوية، وامتد الأمر إلى توبيخ من يبحث الآن في: هل فوائد البنوك حلال أم حرام؟! بينما يتابع الأمريكيون رحلات الفضاء الهائلة التي تجاوزت كوكب نبتون!! (¬1). وهذا أحد المعاصرين يقول: "ألا يمكن تحت شعار الفقه المعتدل والمرن أن يقال: إن فتاوي د. سيد طنطاوي في إباحة الربا أوفق من فتاوي المانعين، وأن يقول المبيحون لذلك: إن علينا مواجهة مشكلات العصر بفقه جديد للتكيف مع تطورات العصر" (¬2). ومن قبلُ قال آخر: "إن الربا بفائدة ليس من أنواع الربا المحرم، وإن سبب تخلف مصر هو عدم فتح بنوك على الطريقة الغربية" (¬3). ولا شك أن اتساع دائرة التغريب والعولمة الثقافية، والفكرية والاقتصادية له أثره البالغ على ما تعانيه الأمة اليوم عند معالجة نوازل الأقليات المسلمة في بلاد الغرب، لقد وُجد اتجاه يُعْنَى بتسويغ التبعية الفكرية والثقافية والاقتصادية للغرب. ومن قبلُ وُجد في هذه الأمة من يقول: "إننا عزمنا أن نأخذ كلَّ ما عند الغربيين؛ حتى الالتهابات التي في رئتيهم، والنجاسات التي في أمعائهم" (¬4). وآخر يقول: "إن الأمم الإسلامية لفي حاجة إلى تقليد الغربيين في كلِّ شيء حتى ¬

_ = أعيد نشره بمجلة الأزهر في صفر 1410 هـ، وقرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، "قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي"، للدورات (1 - 13)، القرارات (1 - 126)، لأعوام (1406 - 1423 هـ)، (ص 62)، وقرار مجمع رابطة العالم الإسلامي في دورته التاسعة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من 12 رجب 1406 هـ إلى 19 رجب 1406 هـ. (¬1) أزمة الحوار الديني، لجمال سلطان، دار الصفا، القاهرة، ط 1، 1410 هـ - 1990 م، (ص 38). (¬2) مجلة المجتمع الكويتية، عدد (1321)، (ص 37). (¬3) نقلًا عن العلمانية، نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، د. سفر الحوالي، دار الهجرة، (ص 581). (¬4) والقائل هو أغا أوغلي، أحد دعاة التغريب في تركيا، وانظر: موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، للشيخ مصطفى صبري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1401 هـ - 1981 م، (1/ 369).

في ملاهيهم ومراقصهم وإلحادهم، إن أرادت أن تبلغ شأوهم في حلبة الحياة" (¬1). لقد صار هَمُّ هؤلاء: "أخذ مسلَّمات الفكر الغربي، ثم محاولة تبريرها إسلاميًّا، وتمريرها لدى الأمة، بالبحث عن فتاوي لتسويقها شرعًا" (¬2). فخرجت الفتاوي التي تفصِّل -مثلًا- في موضوع الربا، وأن ما يحرم ما كان ربا استهلاك أخذًا من النظام الرأسمالي الغربي، أو أن ما يحرم هو الربا المضاعف فحسب! "ومما يمزق الضمائر الحية، أن يجد عبيد الفكر الغربي من المتصدين للفتوى، والمتَّسمين بسمة أهل العلم الديني من يُزَوِّرُ لهم أقوالًا يتكئون عليها؛ لِيُنَفِّذوا مآربهم من تغيير صفة الأمة المسلمة، وتغيير وجهتها وقبلتها من حيث يشعرون أو لا يشعرون! " (¬3). ولست بحاجة إلى أن أبين خطأ هذا الاتجاه، بل انحرافه، وأنه خيانة للشريعة؛ لأننا لسنا ملزمين أن نفتي بإباحة الفوائد الربوية -ولو للأقليات الإسلامية- أو جواز شرب الخمر، أو لعب الميسر، أو منع الطلاق، أو التسوية بين الذكر والأنثى في الميراث، أو جواز نكاح الكتابي للمسلمة، أو إمامة المرأةِ الرجالَ في الصلاة؛ لأن هذا لا يتوافق مع تشريعات الغرب وتقنيناته. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (1/ 369). (¬2) أمتنا بين قرنين، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط 2، 1423 هـ - 2002 م، (ص 92). (¬3) الفتوى بين الانضباط والتسيب، د. يوسف القرضاوي، (ص 86).

المطلب الثاني: القواعد الفقهية

المطلب الثاني: القواعد الفقهية: القاعدة الأولى: المشقة تجلب التيسير المعنى العام للقاعدة: المشقة في أصلها اللغوي تدور حول الجهد والعناء والشدة والتعب (¬1)، وفي القرآن الكريم: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل: 7]. وفي الحديث: "لولا أن أشق على أمتي -أو: على الناس- لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة" (¬2)، يعني: لولا أن أثقل على أمتي من المشقة وهي الشدة (¬3). والتيسير يقصد به التسهيل بما لا يجهد النفس أو يثقل الجسم (¬4) واليسر يقابل العسر. والمقصود بجلب المشقة للتيسير أنها تصير سببًا فيه (¬5). ويكون معنى القاعدة، أن الصعوبة والعناء التي يجدها المكلف في تنفيذ الحكم الشرعي تصير سببًّا شرعيًّا صحيحًا للتسهيل والتخفيف عنه بوجه ما (¬6). فكل مشقة خارجة عن معتاد المشقات فإنها تجلب التيسير ويشترط في المشقة التي تجلب التيسير أن تكون منفكة عن العبادة؛ لأن ما لا ينفك عن العبادة من المشقات لا ¬

_ (¬1) لسان العرب، لابن منظور، (7 - 166)، معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (3/ 170 - 171). (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب الجمعة، باب: السواك يوم الجمعة، (887)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب: السواك، (252)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لمجد الدين أبي السعادات المبارك ابن محمد الجزري المعروف بابن الأثير، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمد الطناحي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (2/ 491). (¬4) محاسن التأويل، لمحمد جمال الدين القاسمي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ط 1، 1376 هـ - 1957 م، (3/ 427). (¬5) قاعدة المشقة تجلب التيسير، د. يعقوب الباحسين، (ص 26). (¬6) شرح المجلة، لسليم رستم باز، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 3، (ص 27)، وشرح المادة (17)، في شرح المجلة، للأتاسي، نقلاً عن المشقة تجلب التيسير، د. يعقوب الباحسين، (ص 26).

أثر له في جلب التخفيف أو التيسير، ومن ذلك مشقة الصيام في الحر أو الوضوء في البرد، أو مشقة السعي إلى المسجد في الليل أو مشقة القتل في الجهاد. قال المقَّري: قاعدة: الحرج اللازم للفعل لا يسقطه كالتعرض إلى القتل في الجهاد؛ لأنه قدر معه (¬1). كما يطلب في المشقة أن تكون حقيقية واقعة فعلًا لا متوهمة ولا مظنونة، وذلك بأن تستند إلى ما رخص الشارع لأجله من أسباب كالسفر والمرض والجنون والصغر وغير ذلك. ويشترط في المشقة أن تكون خارجة عن معتاد المشقات في التكاليف العادية، وأن يكون لها شاهد من جنسها في أحكام الشارع؛ فالمستحاضة أبيح لها الصلاة بشرط الوضوء عند كل صلاة، فكذا من به سلس بول لا ينقطع أو جرح لا يرقأ فإنه يأخذ حكم الرخصة التي للمستحاضة من حيث كون الحدث لا ينقطع (¬2). كما يشترط ألا يؤدي بناء الحكم عليها إلى تفويت مصلحة أرجى وأرجح، وإلا لأدى ذلك إلى تفويت مصالح أكثر أو أكبر. والمشقة التي ورد فيها دليل من الشارع يتبع فيها دليله، سواء كان ذلك بتعيين سببها (كالسفر)، أو بضبط السبب الذي تتحقق به المشقة نفسه (كمسافة القصر)، وما لم يرد بشأنه دليل أو ضابط من الشرع فهي إما أن تكون في العبادات أو في المعاملات، فإن كانت في العبادات مرتبطة بها فلا أثر لها في التخفيف، وما كان منفكًّا عنها أو متعلقًا بالمعاملات، فالمتبَع في ضبطها عرف الناس وعادتهم الجارية ما لم تخرج عن إطار الشرع. فإن لم يكن هنا عرف محدد اعتبرت بأقرب المشاق إليها؛ لأن: "ما لا يحد ضابطه لا ¬

_ (¬1) قواعد المقري، (1/ 326). (¬2) قاعدة المشقة تجلب التيسير، د. يعقوب الباحسين، (ص 36 - 39).

الأدلة على القاعدة

يجوز تعطيله ويجب تقريبه" (¬1). فلا بد للمشقة المعتبرة من كونها مماثلة لمشقة معتبرة للشارع في تلك العبادة. فإذا اعتبر الشارع التأذي بالقمل مبيحًا للحلق، فعلى هذا يكون المرض مبيحًا للحلق، إن كانت مشقته مماثلة لمشقة القمل، وكذلك سائر المشاق المبيحة للبس والطيب والدهن، وغيرها من محظورات الإحرام (¬2). الأدلة على القاعدة: من الكتاب الكريم، والسنة المطهرة، والإجماع، والمعقول. أولاً: القرآن الكريم: من ذلك الآيات النافية للحرج: ومنها قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. فالحرج والضيق منفي في دين الله تعالى إما ابتداء بتكليف ما لا عسر فيه ولا مشقة، وإما انتهاء بالتخفيف والتيسير عند حصول عذر طارئ أو مشقة غير عادية. ومن ذلك أيضًا: الآيات النافية للتكليف بما ليس في الوسع، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233]، فلا تكليف بما لا يطاق ولا يحتمل (¬3): فالوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه. ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (2/ 20). (¬2) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (2/ 20)، الفروق، للقرافي، (1/ 238 - 239)، الذخيرة، للقرافي، (1/ 340 - 341)، ونظرية التقريب والتغليب في العلوم الإسلامية، د. أحمد الريسوني، (ص 91 - 92). (¬3) تفسير القرطبي، (3/ 429)، تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990 م، (3/ 120)، عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (1/ 359).

ثانيا: السنة المطهرة

ومن ذلك: الآيات الدالة على إرادة التيسير والتخفيف: قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]. فالتيسير والتخفيف كلاهما عام في أحكام الشرع. ثانيًا: السنة المطهرة: حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بعثت بالحنيفية السمحة" (¬1). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَبُّ الأديان إلى الله الحنيفية السمحة" (¬2). فلو ثبت في الشرع وجود المشقة البالغة لم تكن الشريعة حنيفية سمحة، بل كانت حرجية عسرة، وهذا باطل؛ لمخالفته لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبطل ما أدى إليه، وثبت أن لا حرج ولا مشقة في الشرع (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" (¬4). الإجماع: وقع الإجماع مستندًا إلى الأدلة الكثيرة التظاهرة على نفي الحرج والعنت والضيق، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) قاعدة المشقة تجلب التيسير، د. يعقوب الباحسين، (ص 217). (¬4) أخرجه: البخاري، كتاب الإيمان، باب: الدين يسر، (39). وأخرج البخاري، كتاب الرقاق، باب: القصد والمداومة على العمل، (6463)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، (2818)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لن ينَجِّي أحدًا منكم عمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا"، ولفظ مسلم: "سددوا وقاربوا وأبشروا؛ فإنه لن يُدخِل الجنةَ أحدًا عملُه. . ." الحديث.

الأدلة العقلية

بل وقع الإجماع على الإنكار على من يتشدد أو يضيق في العبادات أو الأحكام والتشريعات، والأخبار المنقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الطيبين وسلف الأمة الصالحين تؤكد هذا المعنى بحمد الله. الأدلة العقلية: كل ما ثبت دليلاً عقليًّا على نفي الحرج، فهو دليل على قاعدة المشقة تجلب التيسير، وقد سبقت تلك الأدلة قريبًا. ضوابط التيسير: موقف العلماء من دعوى التيسير طرفان ووسط، ففريق منهم سلك بالناس مسلك التشديد، فألزمهم ما لا يطيقون، ورجَّح الأخذ بالأحوط دائمًا، ورفض مبدأ التيسير في الفُتيا، مع أن الدين يسر، وأسلوبهم هذا يؤدي في كثير من الأحيان إلى التنفير من الالتزام بتعاليم الإسلام. وعلى الجانب الآخر يقف الفريق الذي أفرط في التيسير فتساهل حتى جعل الدين مسرحًا للتلاعب، وراح يتتبع رخص المذاهب، وُيلفِّق بينها ويلتمس الحيل والشُّبه، ويهرب من الأدلة الواضحة. وربما تذرعوا بالمصلحة تارة، وبالعرف تارة أخرى، وكثيرًا ما يتخذون اختلاف العلماء مدخلاً للترخص، واختيار الأسهل، وإن كان مرجوحًا! وبين ذينك الفريقين فريق وسط -وخير الأمور أوسطها- لم يشددوا مثلما شدد المتنطعون، ولم يتساهلوا مثلما تساهل المتميعون، وإنما توسطوا فسلكوا مسلك التيسير المنضبط بضوابطه، المحكوم بشروطه وقواعده، التيسير الجاري على أصول الشريعة، المضبوط بالدليل الذي لا يصادم نصًّا صريحًا، ولا إجماعًا صحيحًا، ولا قاعدة كلية، ولا أصلًا عامًّا، ولا مقصدًا من مقاصد الشرع الحنيف، فهؤلاء أهدى سبيلاً، وأقوم قيلًا. وعليه: فلا بد من توافر جملة من الضوابط والشروط التي تضبط الفُتيا في النوازل من الانحراف عن تطبيق مبدأ التيسير، وبيانها كالتالي:

الضابط الأول: وجود ما يدعو إلى التيسير

الضابط الأول (¬1): وجود ما يدعو إلى التيسير: فلا بد أن يوجد ما يدعو إلى التيسير من ضرورة، أو حاجة تتنزل منزلة الضرورة، أو مشقة تستوجب التيسير، والتحقق من حصول المشقة التي يستدعي نوعها التيسير؛ فإن التيسير ينبغي ألا يكون مُتَّخَذًا للعبث في الدين، أو مجاراة للأهواء، أو للتشهي وموافقة أغراض الناس، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]، وليس كل مشقة تعرض للإنسان تستدعي التيسير، فإنَّ المشقة لا ينفك عنها عمل من الأعمال غالبًا حتى طلب الرزق، وقد بيَّن العز ابن عبد السلام في قواعد الأحكام أنواع المشقات وما يستدعي منها التيسير، وما لا يستحقه، فقال: "المشاق ضربان: أحدهما: مشقة لا تنفك عنها العبادة كمشقة الوضوء والغسل في شدة السبرات، وكمشقة إقامة الصلاة في الحر والبرد، ولا سيما صلاة الفجر، وكمشقة الصيام في شدة الحر وطول النهار، وكمشقة الحج. . . فهذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات ولا في تخفيفها. . . الضرب الثاني: مشقة تنفك عنها العبادات غالبًا، وهي أنواع: النوع الأول: مشقة عظيمة فادحة كمشقة الخوف على النفوس والأطراف ومنافع الأطراف، فهذه مشقة موجبة للتخفيف والترخيص. . . النوع الثاني: مشقة خفيفة كأدنى وجع في إصبع أو أدنى صداع، أو سوء مزاج خفيف، فهذا لا لفتة إليه ولا تعريج عليه. . . النوع الثالث: مشاق واقعة بين هاتين المشقتين مختلفة في الخفة والشدة، فما دنا منها من ¬

_ (¬1) الرخص الشرعية أحكامها وضوابطها، د. وهبة الزحيلي، دار الخير، دمشق، ط 1، 1413 هـ - 1993 م، (ص 95)، ضوابط تيسير الفتوى، والرد على المتساهلين فيها، د. محمد سعد بن أحمد اليوبي، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1426 هـ، (ص 31).

الضابط الثاني: أن يغلب على الظن حصول المقصود من التيسير

المشقة العليا أوجب التخفيف، وما دنا منها من المشقة الدنيا لم يوجب التخفيف" (¬1). فإذا وُجدت مشقة حقيقية غير معتادة، أو ضرورة يترتب على مخالفتها خطر، أو حاجة تنزل منزلة الضرورة -عامة أو خاصة- ويترتب على مخالفتها عسر وصعوبة وعنت، فعندئذٍ يتوجه الأخذ بالأيسر، ويصح للمفتي أن يعمل بمبدأ التيسير؛ لأن القاعدة أن: "الضرورات تبيح المحظورات" وأن "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة أو خاصة" وأنه: "لا واجب مع العجز، ولا حرام مع الضرورة"، قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}. أما إذا لم يوجد ما يدعو إلى التيسير؛ فإن التيسير عندئذٍ يكون اتباعًا للهوى، وتحكيمًا للشهوة، وهو حرام إجماعًا، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "لا يجوز للمفتي تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإنْ تَتَبَّعَ ذلك فسقَ، وحَرُمَ استفتاؤه" (¬2). وقد نبه الشاطبي -رحمه الله- إلى أمر مهم، وهو أن الحرج إذا كان عامًّا اعتُبِر، وإذا كان خاصًّا لم يعتبر، ونقل عن ابن العربي (¬3) أنه قال: "إذا كان الحرج في نازلةٍ عامة في الناس فإنه يسقط، وإذا كان خاصًّا لم يعتبر عندنا، وفي بعض أصول الشافعي اعتباره" (¬4) الضابط الثاني (¬5): أن يغلب على الظن حصول المقصود من التيسير: فإذا كان الإفتاء بالأيسر لن يرفع الحرج، ولن يزيل المشقة، ولن يحقق المقصود منه ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام (2/ 7، 8). (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم (4/ 222). (¬3) أبو بكر، محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله، ابن العربي، الأندلسي، الإشبيلي، المالكي، المعافري الحافظ المشهور صاحب التصانيف، من تصانيفه: عارضة الأحوذي، وأحكام القرآن، وغير ذلك، ولد سنة 498 هـ، وتوفي سنة 543 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (20/ 198)، ووفيات الأعيان، لابن خلكان، (4/ 296). (¬4) الموافقات، للشاطبي، (2/ 159). (¬5) ضوابط تيسير الفتوى، لليوبي، (ص 38).

الضابط الثالث: ألا يترتب على الأخذ بالأيسر مصادمة الشريعة

في حصول التيسير على المستفتي -فليس له فائدة، ويكون العمل به عبثًا، وشرع الله تعالى منزه عن العبث واللغو. فعلى سبيل المثال: لو غلب على الظن أن الحجيج إن قيل لهم بصحة الرمي قبل الزوال سيزدحمون قبل الزوال كازدحامهم بعد الزوال؛ فعندئذٍ لا يصح ولا يجوز إفتاؤهم بالأيسر، ولا العمل بمبدأ التيسير؛ لأنه لا فائدة فيه، ولا ثمرة منه. الضابط الثالث (¬1): ألَّا يترتب على الأخذ بالأيسر مصادمة الشريعة: فيشترط للتيسير عليه ألَّا يترتب عليه معارضة مصادر الشريعة القطعية أو أصولها ومبادئها العامة، كأن يكون الأخذ بالأيسر مخالفًا للإجماع، أو مصادمًا لنص صريح، أو لقواعد مقررة ثابتة بنصوص الكتاب والسنة، فإنَّ القول -مثلاً- بجواز الربا القليل على جهة التيسير مصادمة لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]. يقول القرافي -رحمه الله-: "كل شيء أفتى فيه المجتهد فخرجت فتياه فيه على خلاف الإجماع، أو القواعد، أو النص، أو القياس الجلي السالم عن المعارض الراجح- لا يجوز لمقلده أن ينقله للناس، ولا يفتي به في دين الله تعالى؛ فإنَّ هذا الحكم لو حكم به حاكم لنقضناه، وما لا نقره شرعًا بعد تقرره بحكم الحاكم أولى ألا نقره شرعًا إذا لم يتأكد، وهذا لم يتأكد فلا نقره شرعًا، والفُتيا بغير شرع حرام، والفُتيا بهذا الحكم حرام" (¬2). الضابط الرابع: استناد التيسير إلى دليل: فالقول بالتيسير لا بد له من دليل شرعي يسنده ويؤيده، أما أن يفتي المفتي بالتيسير دون ضابط من دليل كتاب، أو سنة، أو اجتهاد فهذا ما لا يقره الشرع؛ فعلى ¬

_ (¬1) الرخص الشرعية، د. وهبة الزحيلي، (ص 88). (¬2) الفروق، للقرافي، (2/ 546).

الضابط الخامس: ترك تتبع الرخص والزلات

سبيل المثال: يمكن الإفتاء بوقوع طلاق الثلاث طلقة واحدة تيسيرًا على المستفتي؛ لأنَّ له سندًا من السنة، ففي حديث ابن عباس -رضي الله عنه-: "كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. . ." (¬1) الحديث، وقد أفتى به طائفة من أهل العلم الثقات، وإن خالفوا الجمهور. الضابط الخامس: ترك تتبع الرخص والزلات: فعلى المفتي إذا أراد التيسير أن يطلبه من الوجه الصحيح الذي وصفه الشارع؛ لأنَّ في ذلك حصول المصلحة والتخفيف على وجه الكمال، وهذا يتطلب من المفتي أن يكون عالمًا بأوجه ومجالات التيسير في الشريعة ليتحرَّاها، ولا يصح أن يسلك الطرق غير الصحيحة كتتبع الرخص، والبحث عن شواذِّ الأقوال، والحيل الفاسدة، وغيرها مما ليس مشروعًا؛ إذ الغاية لا تبرر الوسيلة، فليس للمفتي تتبع رخص المذاهب، بأن يبحث في كل ما يُستفتى فيه عن الأسهل من القولين أو الوجهين ويفتي به؛ ذلك أن الراجح في نظر المفتي هو في ظنه حكم الله تعالى، فتركُه والأخذ بغيره لمجرد اليسر والسهولة لا يصح؛ ولأن المفتي لو أفتى الناس بالرخص في كل شيء وفي كل حال ولكل شخص، لَذَابَ الدين بين الناس، وأصبح الأصل هو الترخص لا العزيمة" (¬2). الضابط السادس: عدم ترتب مفسدة على التيسير عاجلاً أو آجلاً: يجب على المفتي أن يراعي في التيسير قاعدة المآل وقاعدة سد الذرائع، وأن يلاحظ ما يترتب على فتواه، ولا يسوغ له أبدًا أن يفتي -ولو على سبيل التيسير- بما يكون سببًا لنشر فتنة أو وقوع ضرر عام، ولو كان رأيه رأيًا شرعيًّا. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "على المفتي أن يمتنع عن الفتوى فيما يضر ¬

_ (¬1) أخرجه: مسلم، كتاب الطلاق، باب: طلاق الثلاث، (1472). (¬2) ضوابط تيسير الفتوى، لليوبي، (ص 39)، الرخص الشرعية أحكامها وضوابطها، للزحيلي، (ص 92) وما بعدها.

الضابط السابع: مراعاة حال المستفتي

بالمسلمين، ويثير الفتن بينهم، وله أن يمتنع عن الفُتيا إن كان قصد المستفتي -كائنًا من كان- نصرة هواه بالفتوى، وليس قصده معرفة الحق واتباعه" (¬1). الضابط السابع: مراعاة حال المستفتي: فالمفتي يجب أن يكون على إدراك بأحوال المستفتي ليعطيه ما يناسبه من الأحكام، وليضع الرخصة موضعها، ويجب أيضًا أن يكون عالمًا بمسالك المستفتين ومآربهم، فمن الناس من يتخذ التيسير وسيلةً إلى الإقدام على المحرمات، ولا يزيده الإفتاء بالأيسر إلا إصرارًا على المعصية واغترارًا بحاله. والناس متفاوتون في درجة تمسكهم بدينهم واستقامتهم عليه، فمنهم: الحريص على أحكام الدين الذي يحمل نفسه على العزيمة وعلى مقتضى الورع، ومنهم: المتساهل الباحث عن المخارج، اللاهث وراء الحيل، المائل إلى التفلت من الأحكام. هذا وقد سبق النقل عن غير واحد من العلماء تحريم التساهل في الفُتيا، وعدم جواز استفتاء المتساهل الذي عرف بالتساهل وعدم التحري، منهم: النووي، وابن الصلاح، وابن مفلح، وغيرهم (¬2). القواعد الأصولية المرتبطة بقاعدة المشقة تجلب التيسير: علاوة على ما ذكر من قواعد أصولية تتعلق بالحاجة والمشقة فإنه ترتبط جملة من القواعد الأصولية بالقاعدة الفقهية "المشقة تجلب التيسير"، ومن ذلك: المصلحة المرسلة، والاستحسان، والترجيح بدفع المشقة، وفيما يلي بيان وجه الارتباط. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (28/ 198). (¬2) المجموع، للنووي، (1/ 37)، أدب الفتوى وشروط المفتي وصفة المستفتي وأحكامه وكيفية الفتوى والاستفتاء، لأبي عمرو عثمان بن الصلاح الشهرزوري، تحقيق: رفعت فوزي عبد المطلب، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 1، 1413 هـ - 1992 م، (ص 65)، الفروع، لشمس الدين ابن مفلح، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1424 هـ - 2003 م، (11/ 113).

القاعدة الأولى: المصلحة المرسلة

القاعدة الأولى: المصلحة المرسلة: المصلحة المرسلة هي: كل منفعة ملائمة لتصرفات الشارع من غير أن يشهد لها بالاعتبار أو الإلغاء أصل معين، والاستصلاح: عمل المجتهد وبناؤه الأحكام على المناسب الذي لم تعتبره أو ترده شواهد الشرع، مما يحقق مصلحة أو يدفع مفسدة، وقد قال بها المالكية والحنابلة وبعض الشافعية (¬1)، وقيدوا الأخذ بها بقيود وشروط سيأتي ذكرها (¬2): وقد جرى عمل المجتهدين من الصحابة فمن بعدهم على العمل بها ورعايتها في أحكامهم؛ إذ هي ضرب من الاجتهاد (¬3). قال صاحب مراقي السعود -مبينًا نماذج من أخذ الصحابة بها-: وَالْوَصفُ حَيْثُ الِاعْتِبَارُ يُجْهلُ ... فَهُوَ الِاسْتِصْلَاحُ قُلْ وَالْمُرْسَلُ نَقْبَلُهُ لِعَمَلِ الصَّحَابَهْ ... كَالنَّقْطِ لِلْمصْحَفِ وَالْكِتَابَهْ تَوْليَةُ الصِّدّيْقِ لِلْفَارُوْقِ ... وَهَدْمُ جَارِ مَسْجِدٍ لِلضِّيْقِ وَعَمَلُ السَّكَّةِ تَجْدِيْدُ النِّدَا ... وَالسِّجْنُ تَدْوِيْنُ الدَّوَاوِيْنِ بَدَا (¬4) ومما ذكروه من ذلك -أيضًا-: تضمين الصناع، وفرض ضرائب إضافية إن لم تَفِ واردات الدولة بمتطلباتها (¬5). ومراعاة المصلحة المرسلة فيه تيسير وتخفيف ودفع للمشقة التي تترتب على عدم ¬

_ (¬1) الاعتصام، للشاطبي، (2/ 129 - 133)، المصلحة المرسلة، لنور الدين الخادمي، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1421 هـ، (ص 96). (¬2) وذلك في الفصل الرابع من الباب الثاني. (¬3) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، د. يعقوب الباحسين، (ص 264 - 266). (¬4) نشر البنود على مراقي السعود، لعبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي، مطبعة فضالة، المغرب، (2/ 189 - 191). (¬5) أصول الفقه الإسلامي، د. زكريا أحمد البري، دار الطباعة الحديثة، نشر دار النهضة، القاهرة، (ص 148).

القاعدة الثانية: الاستحسان

اعتبارها طريقًا لبيان أحكام ما يَجِدُّ من النوازل، وذلك وفقًا لما تقتضيه المصالح التي لم يرد بشأنها نص خاص، وكانت داخلة في إطار المصالح المشروعة المستفادة من اعتبار أجناس أعلى منها، فهي من الأدلة الحيوية التي يتحقق بها إثراء الفقه الإسلامي، وتجديد خصوبته (¬1). وفي المجال التطبيقي المعاصر ذهبت طائفة من الباحثين المعاصرين إلى أن مما يدخل في مجالها: تحديد أجور العمال، أو تحديد ملكية الأراضي الزراعية، أو تحديد أجور المساكن، أو إرسال بعثات دراسية إلى بلاد غير المسلمين، ومكافأة المجدين، وتشريع بعض اللوائح والنظم كاشتراط إثبات عقد الزواج بورقة رسمية لسماع دعوى الإنكار لقيام الزوجية، واشتراط تسجيل البيع في الدوائر المختصة لنقل الملكية، وتحريم ذبح إناث الحيوانات الصغيرة محافظة على الثروة الحيوانية، والإلزام بحمل البطاقة الشخصية أو العائلية، والإلزام بقواعد خاصة لاستخراج جواز السفر والخروج من البلاد، ووضع قواعد المرور في الطرقات العامة. ومما يدخل في ذلك: إنشاء دوائر خاصة للمحافظة على الحقوق، كدوائر التسجيل العقاري، والجوازات والبلديات وغيرها (¬2). القاعدة الثانية: الاستحسان: الاستحسان -لغةً-: مصدر استحسن، أي: عَدَّ الشيء حسنًا أو طلب الأحسن (¬3). واصطلاحًا له عند الأصوليين ثلاثة معانٍ: الأول: ما يستحسنه المجتهد بعقله ويرجحه بمحض رأيه. ¬

_ (¬1) قاعدة المشقة تجلب التيسير، د. يعقوب الباحسين، (ص 312). (¬2) أصول الفقه الإسلامي، د. زكريا البري، (ص 148 - 149)، قاعدة المشقة تجلب التيسير، د. يعقوب الباحسين، (ص 312 - 313). (¬3) لسان العرب، لابن منظور، (3/ 180)، التوقيف على مهمات التعاريف، لعبد الرءوف المناوي، تحقيق: د. عبد الحميد صالح حمدان، عالم الكتب، القاهرة، ط 1، 1410 هـ - 1990 م، (ص 47).

الثاني: ما ينقدح في نفس المجتهد ولا يقدر على التعبير عنه. "وبطلان هذين التعريفين ظاهر؛ لأن المجتهد ليس له الاستناد إلى مجرد عقله في تحسين شيء، وما لم يعبر عنه لا يمكن الحكم له بالقبول حتى يظهر ويعرض على الشرع" (¬1). وإذا كان العقل لا يستقل بالتحسين، وما ينقدح في النفس لا يكون مقياسًا؛ فإنه من المستبعد أن يقصد العلماء من الاستحسان ما يستحسنه المجتهد برأيه، أو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسُر عبارته عنه (¬2). وعليه فإن هذين الاتجاهين في فهم الاستحسان وتعريفه مرفوضان. الثالث: هو العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص يقتضي ذلك. وهذا هو التعريف الصحيح الذي قصده القائلون بالاستحسان. ومن التعريفات الصادرة عن هذا الفهم الصحيح: 1 - قول الكرخي الحنفي (¬3): "الاستحسان هو أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه؛ لوجه يقتضي العدول عن الأول" (¬4). 2 - وقال عنه ابن رشد: "الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعم من القياس، هو أن يكون طرد القياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم فيختص به ذلك الموضع" (¬5). ¬

_ (¬1) مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر، لمحمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط 1، 1426 هـ، (ص 259). (¬2) الاعتصام، للشاطبي، (2/ 138). (¬3) أبو الحسن، عبيد الله بن الحسين بن دلال، البغدادي الكرخي الفقيه، مفتي العراق، شيخ الحنفية، انتهت إليه رئاسة المذهب، وكان من العلماء العباد، ولد سنة 260 هـ، وتوفى سنة 340 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (15/ 426)، والجواهر المضية، لمحيي الدين القرشي، (2/ 493). (¬4) كشف الأسرار، لعبد العزيز البخاري، (4/ 4). (¬5) البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، تحقيق: د. محمد حجي وآخرين، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1408 هـ - 1988 م، (4/ 156).

وعليه فقد دارت تعريفات الأصوليين للاستحسان حول معنى استثناءِ جزئيةٍ ما من حكم دليل، أو قاعدة أغلبية (¬1)، دون تعرض في أغلب التعريفات للداعي والحامل على هذا الاستحسان، أو المعنى المشترك الذي يربط بين الأدلة التي يتحقق بها هذا الاستثناء، ولا شك أن هذا الاستثناء إنما دعا إليه وجود الحرج أو المشقة والعنت، وجدير بالذكر أن السرخسي في "المبسوط" قد تناول التعريف نقلًا عن بعض شيوخه بعبارات تدل على اعتبار المشقة أو الحرج وما يقتضيه ذلك من التخفيف، فقال: "كان شيخنا الإمام يقول: الاستحسان ترك القياس، والأخذ بما هو أوفق للناس، وقيل: الاستحسان طلب السهولة في الأحكام فيما يبتلى به الخاص والعام، وقيل: الأخذ بالسعة، وابتغاء الدَّعة، وقيل: الأخذ بالسماحة، وابتغاء ما فيه الراحة" (¬2). وهذا القدر يكفي في بيان ارتباط الاستحسان بقاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، بل قد صرح السرخسي بذلك حين قال: "وحاصل هذه العبارات أنه ترك العسر لليسر، وهو أصل في الدين، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: لأبي موسى ومعاذ -رضي الله عنهما-، حينما وجههما لليمن: "يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا" (¬3) (¬4). وإذا كان الكرخي الحنفي عرف الاستحسان بأنه: العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى، فإن هذا الوجه هو التخفيف الذي تقتضيه ¬

_ (¬1) أصول السرخسي، (2/ 200)، الإحكام، للآمدي، (4/ 163 - 165)، الموافقات، للشاطبي، (4/ 207)، رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، للباحسين، (ص 277 - 288). (¬2) المبسوط، للسرخسي، (10/ 145). (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب الجهاد، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة مَن عصى إمامه، (3038)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب: في الأمر بالتيسير وترك التنفير، (1733)، من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-. (¬4) المبسوط، للسرخسي، (10/ 145).

المشقة، أو ينشئه الحرج (¬1). وقد يكون الدليل الدال على استثناء الجزئية وتغير حكمها للمشقة الطارئة هو النص، أو الإجماع، أو الضرورة أو القياس الخفي، فينقسم الاستحسان إلى أنواع أربعة بناء على ذلك، كما هو مذهب الحنفية (¬2). وقد يرى غيرهم أن العرف وعمل أهل المدينة، والمصلحة، ومراعاة الخلاف، ورفع المشقة أنواع أخرى للاستحسان، كما هو عند المالكية (¬3). والأنواع بجملتها -كما قدمنا- تعود إلى نفي المشقة ورفع الحرج. وبتتبع الاستحسانات التي قال بها الحنفية في فقههم نخلص إلى نتيجة إجمالية، وهي: أنه ما من حكم قيل به استحسانًا إلا وهو أخف من الحكم المتروك، وفيما يأتي من أمثلة البرهنة على صحة هذه النتيجة: 1 - لو أمر حاكم بقطع يد السارق اليمنى فأخطأ المنفذ فقطع اليسرى، فإن على المنفذ الضمان في القياس الظاهر؛ لأن اليسرى معصومة، فتكون عند إتلافها مضمونة، وقد عدل عن هذا استحسانًا لقياس خفي، وهو: أنه لا شيء على المنفذ؛ لأنه أتلف وأخلف من جنسه ما هو خير منه، فلا يعد إتلافًا، وصار كما لو شهد اثنان على رجل ببيع عبد بألفين، وقيمته ألف، أو شهدا بمثل قيمته، ثم رجعا بعد القضاء لا يضمنان شيئًا (¬4). ولو أن حكم القياس الظاهر جرى هنا لأدى إلى مشقة وحرج، فعدل عن حكمه إلى ما يحقق التيسير. ¬

_ (¬1) الإحكام، للآمدي، (4/ 164)، قاعدة المشقة تجلب التيسير، للباحسين، (ص 318). (¬2) التوضيح، لصدر الشريعة، (2/ 17). (¬3) الموافقات، للشاطبي، (4/ 208)، المحصول في أصول الفقه، للقاضي أبي بكر ابن العربي المالكي، تحقيق: حسين علي البدري، دار البيارق، الأردن، ط 1، 1420 هـ - 1999 م، (ص 131). (¬4) شرح فتح القدير، لابن الهمام، (5/ 398).

القاعدة الثالثة: الترجيح بدفع المشقة

2 - يشترط في الإجارة من بيان مدة المنفعة للعين المؤجرة، وتعيين كل ما يتعلق بالمنفعة، وقد جرى عمل الناس قديمًا على دخول الحمام من غير تعيين ذلك مع تفاوته بين الناس تفاوتًا ملحوظًا فإن ما يستهلك من الماء والصابون والوقت الذي يلبثه داخل الحمام غير محدد ولا منضبط، وهذا من شأنه أن يفسد الإجارة، إلا أنهم أجازوا ذلك للحاجة ودفعًا للمشقة (¬1). وهكذا نجد أحكامًا قيلت استحسانًا كان الجامع فيها هو نفي الحرج والعنت والمشقة (¬2). وهو ما يبرهن على أن الاستحسان إنما هو مظهرٌ واضحٌ، وتجلٍ بينٌ لقاعدة: المشقة تجلب التيسير. وفي نوازل الأقليات وُجِدَتْ فتاوي كثيرة استندت إلى المشقة الواقعة في تخفيف كثير من الأحكام، وأبيحت تصرفات متعددة بناءً على أن ما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة. فصدرت بعض الفتاوي عن المجلس الأوروبي للإفتاء تبيح عند الاضطرار الاقتراض بالربا؛ لشراء المساكن وتملكها، وبقاء المرأة التي أسلمت تحت زوجها غير المسلم، وغير ذلك (¬3). القاعدة الثالثة: الترجيح بدفع المشقة: قد تتعارض الأدلة بحسب الظاهر، وعند التعارض يطلب الترجيح، إذا لم يمكن الجمع، وقد اهتم العلماء بالمرجحات، ونظروا فيها تقديمًا وتأخيرًا، ومما عُدَّ من المرجحات دفعُ المشقة ورفع الحرج، وقد تجلَّى هذا الأمر في تقعيدات، وضوابط للترجيح متعددة، ومن ذلك ما يأتي: الأخذ بالحكم الأخف: ¬

_ (¬1) تعليل الأحكام، لمحمد مصطفى شلبي، (ص 352). (¬2) قاعدة المشقة تجلب التيسير، للباحسين، (ص 323 - 344). (¬3) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، لابن بيه، (ص 332 - 342)، وسيأتي في أثناء البحث مناقشة لهذه الفتاوي بمزيد بيان وإيضاح، وترجيح للراجح، وإنما وقع ذكرها لمجرد التمثيل.

وقد قال طائفة بأنه إذا تكافأت الأقوال، ولم يترجح منها قول فإنه يترجح أيسرها؛ لأن الدين يسر، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - بُعث بالحنيفية السمحة (¬1)، ولأن اليسر هو الغالب في الشرع وأحكامه، وعلى هذا دلت أدلة كثيرة. ومن الأصوليين من خيَّر المكلف في أن يأخذ بأيها شاء، وهو باب من التيسير أيضًا (¬2). وحكى ابن القيم في هذه المسألة سبعة أقوال حيث قال -رحمه الله-: "فإن اختلف عليه مفتيان فأكثر، فهل يأخذ بأغلظ الأقوال، أو بأخفها، أو يتخير، أو يأخذ بقول الأعلم، أو الأورع، أو يعدل إلى مفتٍ آخرَ فينظر من يوافق من الأولين فيعمل بالفتوى التي يوقع عليها، أو يجب عليه أن يتحرى ويبحث عن الراجح بحسبه؟ فيه سبعة مذاهب: أرجحها: السابع، فيعمل كما يعمل عند اختلاف الطريقين، أو الطبيبين، أو المشيرين، كما تقدم، وبالله التوفيق" (¬3). وقال الغزالي -رحمه الله-: "إذا اختلف عليه مفتيان في حكم: فإن تساويا راجعهما مرة أخرى، وقال: تناقض فتواكما وتساويتما عندي، فما الذي يلزمني؟ فإن خيراه تخير، وإن اتفقا على الأمر بالاحتياط أو الميل إلى جانب معين فعل، وإن أصرَّا على الخلاف لم يَبْقَ إلا التخيير؛ فإنه لا سبيل إلى تعطيل الحكم، وليس أحدهما أولى من الآخر، والأئمة كالنجوم فبأيهم اقتدى اهتدى. أما إذا كان أحدهما أفضل وأعلم في اعتقاده اختار القاضي أنه يتخير أيضًا؛ لأن المفضول أيضًا من أهل الاجتهاد، ولو انفرد فكذلك إذا كان معه غيره فزيادة الفضل لا تؤثر. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) المحصول، للرازي، (6/ 214 - 217)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 264)، جمع الجوامع، لابن السبكي، (2/ 352)، أدب الفتوى، لابن الصلاح، (ص 146 - 147). (¬3) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 264).

القاعدة الرابعة: عموم البلوى

والأولى عندي أنه يلزمه اتباع الأفضل" (¬1). وقال القرافي -رحمه الله-: "فإن اختلف عليه العلماء في الفتوى، فقال قوم: يجب عليه الاجتهاد في أعلمهم وأورعهم؛ لتمكنه من ذلك. وقال قوم: لا يجب ذلك؛ لأن الكل طرق إلى الله تعالى، ولم ينكر أحد على العوام في عصرٍ تركَ النظر في أحوال العلماء. وإذا فرَّعنا على الأول فإن حصل ظن الاستواء مطلقًا فأمكن أن يقال: ذلك متعذر، كما قيل في الأمارات، وأمكن أن يقال: يسقط عنه التكليف، ويفعل ما يشاء. وإن حصل ظن الرجحان مطلقًا تعين العمل بالراجح. وإن حصل من وجه: فإن كان في العلم والاستواء في الدين، فمنهم من خيَّر، ومنهم من أوجب الأخذ بقول الأعلم. قال الإمام: وهو الأقرب؛ ولذلك قدم في إمامة الصلاة. وإن كان في الدين والاستواء في العلم فيتعين الأدين، فإن رجح أحدهما في دينه والآخر في علمه، فقيل: يتعين الأدين، وقيل: الأعلم، قال: وهو الأرجح كما مرَّ" (¬2). وأيًّا ما كان الأرجح في هذا الأمر فإن الشاهد من إيراد هذه المسألة بتفاصيلها هو بيان أن التسهيل والتيسير والتخفيف مطلقًا كان سببًا في ذهاب بعض العلماء المعتبرين إلى الترجيح بالأخف. القاعدة الرابعة: عموم البلوى: معنى القاعدة: العموم -لغةً-: هو مصدر عمَّ يَعُمُّ، بمعنى الكثرة والشمول، ومنه سميت العامة لكثرتهم ¬

_ (¬1) المستصفى، للغزالي، (ص 373 - 374). (¬2) الذخيرة، للقرافي، (1/ 147 - 148).

وعمومهم، ولأن العامة تُعَمُّ بالشر: أي: يشملها، ويقال: عم المطر البلاد، أي: شملها، وعم الشيء بالناس، أي: بلغ المواضع كلها، كما أنها تعني العلو، وتعني كذلك السفول (¬1). وأما البلوى -لغةً-: فهي الاختبار، يقال: بلوت الرجل وابتليته، أي: اختبرته وامتحنته، ويكون بالخير وبالشر، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، أي: نختبركم بالشدة والرخاء، والحلال والحرام. كما تعني: البِلَى والإخلاق، يقال: بَلِيَ الميت، أي: أفنته الأرض، ويَلِيَ الثوب، أي: صار خَلِقًا (¬2). وعلى هذا فيكون معنى (عموم البلوى) في اللغة من حيث التركيب الإضافي هو: شمول الاختبار. فإن أردنا أن نطبق هذا المعنى اللغوي على الحقائق الشرعية أمكن أن نقول: إن عموم البلوى يعني: "شمول التكليف بما فيه مشقة"، وذلك على أساس أن الاختبار والابتلاء يتحقق في الشرع بالتكليف الذي فيه شدة، قال تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4]. أما عموم البلوى في الاصطلاح الشرعي العام فهو: شمول وقوع الحادثة مع تعلق التكليف بها، بحيث يعسر احتراز منها أو استغناء المكلف عن العمل بها إلا بمشقة زائدة تقتضي التيسير والتخفيف، أو يحتاج إلى معرفة حكمها؛ مما يقتضي كثرة السؤال عنها واشتهارها (¬3). ¬

_ (¬1) لسان العرب، لابن منظور، (9/ 406)، المصباح المنير، للفيومي، (2/ 430)، كتاب العين، للخليل، (1/ 94)، معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (4/ 15 - 18). (¬2) لسان العرب، لابن منظور، (1/ 497)، (4/ 299)، المصباح المنير، للفيومي، (1/ 62) القاموس المحيط، للفيروزآبادي. (¬3) عموم البلوى دراسة نظرية تطبيقية، مسلم بن محمد الدوسري، مكتبة الرشد، الرياض، (ص 61).

هذا هو تعريف (عموم البلوى) وعليه فيمكن تعريف (ما تعم به البلوى) بأنه: الحادثة التي تقع شاملة مع تعلق التكليف بها بحيث يعسر احتراز المكلف منها أو استغناء المكلف عن العمل بها إلا بمشقة زائدة تقتضي التيسير والتخفيف، أو يحتاج إلى معرفة حكمها مما يقتضي كثرة السؤال عنها وانتشارها (¬1). وقد يعبر عنها بما تمس إليه الحاجة في عموم الأحوال (¬2)، أو بالضرورة العامة أو حاجة الناس العامة، ونحو هذا من عبارات. ومن تأمل في التعريف السابق وفي الوقائع والحالات التي عمت فيها البلوى تبين له أن عموم البلوى يظهر في موضعين: الأول: مسيس الحاجة في عموم الأحوال، بحيث يعسر الاستغناء عنه إلا بمشقة زائدة. والثاني: شيوع الوقوع والتلبس، بحيث يعسر على المكلف الاحتراز عنه أو الانفكاك منه إلا بمشقة زائدة، ففي الموضع الأول ابتلاء بمسيس الحاجة، وفي الثاني ابتلاء بمشقة الدفع (¬3). والنظر في عموم البلوى يرجع إلى ضابطين رئيسين (¬4): الأول: نزارة الشيء وقلته وتفاهته. والمعنى: أن مشقة الاحتراز من الشيء، وعموم الابتلاء به قد يكون نابعًا من قِلَّته ونزارته، من أجل ذلك عفي عما ترشش من الشوارع مما لا يمكن الاحتراز عنه، وما ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص 62). (¬2) كشف الأسرار، للبزدوي، (3/ 24). (¬3) رفع الحرج، د. يعقوب الباحسين، (ص 434 - 435)، رفع الحرج، د. صالح بن حميد، (ص 262). (¬4) الجامع في فقه النوازل، د. صالح بن عبد الله بن حميد، مكتبة العبيكان، الرياض، ط 1، 1424 هـ - 2003 م، (ص 23)، صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 219 - 220).

أسباب عموم البلوى، وأمثلة على كل سبب

ينقله الذباب من العذرة وغير ذلك (¬1). الثاني: كثرة الشيء وشيوعه وانتشاره وامتداد زمنه. فإن الشيء إذا شاع وانتشر وعمَّ شقَّ الاحتراز عنه وعمَّ البلاء به، وتحققت الحاجة معه وَوُجِدَ من المشقة ما يتطلب تيسيرًا، ومن الحرج ما يرفع شرعًا. أسباب عموم البلوى، وأمثلة على كل سبب: السبب الأول: تضمن الفعل الذي ارتبط به المكلف أمرًا يشق الاحتراز عنه. ومثاله: إذا دخل إلى حلق الصائم ذباب، أو بعوض، أو غبار طريق، أو غربلة دقيق؛ فإنه لا يفطر؛ لمشقة الاحتراز عنه (¬2). السبب الثاني: تعدد وقوع الشيء، وتكراره بحيث يعسر الاستغناء عنه. ومثاله: أن مس المصحف من الصبيان للتعلم والاستظهار، مما يتكرر وقوعه، ولا يمكن الاستغناء عنه، فلو كلف الأولياء أمر الصبيان بالوضوء لشقَّ ذلك عليهم، فأبيح لهم ترك الوضوء (¬3). السبب الثالث: شيوع الشيء وانتشاره ووقوعه عامًّا للمكلفين، أو لكثير منهم في عموم أحوالهم، أو في حال واحدة بحيث يلزم عسر الاستغناء عن العمل به. ومثاله: أن أعمال الطاعات كتعليم القرآن والأذان والإمامة منتشرة، ومع أن الأصل فيها أن تفعل بدون أجرة إلا أن الشرع أجاز دفع الأجرة على القيام بها؛ لأنه لو كُلِّفَ الناس بها دون أجرة لشقَّ ذلك عليهم، وربما أدَّى إلى ضياع الأعمال (¬4). السبب الرابع: امتداد زمن الشيء، بحيث يلزم من التكليف معه عسر احتراز عنه: ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين، (1/ 530)، نظرية الضرورة، للزحيلي، (ص 115). (¬2) حاشية ابن عابدين، (3/ 366). (¬3) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 78)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 85). (¬4) المغني، لابن قدامة، (8/ 136 - 139)، شرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص 201).

صلة عموم البلوى بقاعدة المشقة تجلب التيسير

ومثاله: أن المستحاضة، ومن به سلس بول، ومن لا يرقأ جرحه، وأمثالهم من أهل الأعذار قد يمتد الزمان الذي يحل به العذر، ويلزم من التكليف بالوضوء لكل صلاة مشقة، فجاز الجمع بين الظهر والعصر بوضوء واحد، وكذلك بين المغرب والعشاء (¬1). السبب الخامس: أن يقع الشيء متَّصفًا بالقلة والتفاهة والنزارة بحيث يلزم من التكليف معه عسر ومشقة في الاحتراز. ومثاله: أنه قد يظهر شيء قليل من العورة أثناء الصلاة، ولو قيل بالبطلان لشقَّ ذلك على المكلف (¬2)، ومثله: جواز الصلاة مع نجاسة معفوٍّ عنها، كدم القروح والدمامل ونحوها. السبب السادس: وقوع الفعل أو الحال مشتملًا على ضرر يلزم من التكليف معه عسر احتراز منه. ومثاله: أن البقاء على الزوجية عند التنافر فيه ضرر ديني ودنيوي على الزوجين عند التكليف بلزومه، فشرع الطلاق، وكذا الخلع؛ دفعًا للضرر عنهما. السبب السابع: وقوع الفعل أو الحال على وجه الاضطرار بحيث يعسر الاحتراز منه. ومثاله: أن الناس قد يُضطرون إلى استعمال بعض النجاسات كالروث والزبل لتسميد الأرض، ولو قيل بعدم جواز بيعه لشقَّ ذلك على الناس (¬3)، وكذا جواز أكل الميتة ومال الغير مع ضمان الضرر للمضطر، وكذا بيع الرُّمان والبيض في القشر، والفجل ونحوه في باطن الأرض. صلة عموم البلوى بقاعدة المشقة تجلب التيسير: ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة، (1/ 424)، شرح منتهى الإرادات، للبهوتي، (1/ 612). (¬2) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (22/ 123). (¬3) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الشهير بابن رشد الحفيد، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، القاهرة، ط 4، 1395 هـ - 1975 م، (2/ 126).

أدلة القاعدة

لا شك أن مسألة عموم البلوى وثيقة الصلة بقاعدة المشقة تجلب التيسير؛ فإن عموم البلوى بأمر ما يقتضي مشقة وحرجًا يتطلب تخفيفًا وتيسيرًا، ومن العلماء من يرى "عموم البلوى" من القواعد المندرجة تحت قاعدة "المشقة تجلب التيسير" ومن ذلك قولهم: "ما عمت بليته خفت قضيته" (¬1). وكذا قولهم: إن ما عمَّ وإن خفَّ ينزل منزلة ما يثقل إذا اختصَّ (¬2). وفي هذا إشارة إلى أن عموم التلبس بالمشقة وإن كانت خفيفة يعتبر بمنزلة المشقة الشديدة إذا كانت خاصة. أدلة القاعدة: الأصل أن أدلة قاعدة المشقة تجلب التيسير تصلح أدلة لقاعدة عموم البلوى. إلا أنه بالنظر في السنة المطهرة والمأثور عن الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين وفقهاء المسلمين أمكن تلمس ما اعتبر عموم البلوى به سببًا في إحراز الرخصة أو التخفيف الذي دعت إليه حاجة ملحة أو مشقة زائدة. وفيما يأتي بعض الأدلة بمثابة أمثلة على رعاية عموم البلوى: أولًا: السنة المطهرة: 1 - عن كبشة بنت كعب بن مالك -رضي الله عنهما- أن أبا قتاد -رضي الله عنه- دخل فسكبت له وضوءًا، فجاءت هرة فشربت منه، فأصغى لها إلاناء، حتى شربت، قالت كبشة: فرآني ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع، للكاساني، (1/ 81)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (93). (¬2) الأشباه والنظائر، لمحمد بن عمر بن المرحل المعروف بابن الوكيل، تحقيق: د. عادل بن عبد الله الشويخ، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1413 - 1993 م، (2/ 372)، الأشباه والنظائر، لأبي حفص سراج الدين عمر بن علي المعروف بابن الملقن، تحقيق: حمد بن عبد العزيز الخضيري، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية بكراتشي، باكستان، ط 1، 1417 هـ، (2/ 348).

أنظر، فقال: أتعجبين با ابنة أخي، فقلت: نعم، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات" (¬1). وجه الدلالة: لقد اعتبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عموم الابتلاء بدخول الهرة في البيوت سببًا في الترخيص، مع كونها تأكل الفئران والحشرات، ثم تشرب من الإناء، فلو اعتبر ذلك الشرب منجسًا للإناء وما فيه لحصلت مشقة شديدة. ولو اعتبرت الهرة في نفسها نجسة مع كثرة ملابستها للناس لأفضى إلى مشقة أخرى (¬2). 2 - عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كانت الكلاب تبول، وتُقبل وتُدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكونوا يَرُشُّون شيئًا من ذلك" (¬3). وجه الدلالة: لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برش المسجد أو غسل حصبائه، وهذا تخفيف في نجاسة متفق عليها لعموم البلوى ومشقة الاحتراز (¬4). 3 - عن أم سلمة أن امرأة قالت لها: إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر؟ فقالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يطهره ما بعده" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو داود، كتاب الطهارة، باب: سؤر الهرة، (75)، والترمذي، أبواب الطهارة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في سؤر الهرة (92)، والنسائي، كتاب الطهارة، باب: سؤر الهرة (68)، وابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب: الوضوء بسؤر الهرة والرخصة في ذلك، (367). وصححه ابن خزيمة (104)، وابن حبان (4/ 114)، والحاكم (1/ 160). (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 172). (¬3) أخرجه: البخاري معلَّقًا، كتاب الوضوء، باب: إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا، (174)، وأبو داود، كتاب الطهارة، باب: في طهور الأرض إذا يبست، (382). وصححه ابن خزيمة (300)، وابن حبان (5/ 537). (¬4) رفع الحرج، د. صالح بن حميد، (ص 263). (¬5) أخرجه: أبو داود، كتاب الطهارة، باب: في الأذى يصيب الذيل، (383)، والترمذي، أبواب الطهارة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في الوضوء من الموطأ، (143)، وابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب: الأرض =

ثانيا: المأثور عن الصحابة والتابعين

وجه الدلالة: اعتبر النبي - صلى الله عليه وسلم - تكرر ملابسة وملامسة ذيل المرأة للمكان المتنجس أمرًا يوجب تخفيفًا، ويقتضي ترخيصًا فقال بتطهير ذلك الذيل بملابسته لأماكن أخرى طاهرة، ولو قيل بعدم تطهير ذيلها لأفضى إلى مشقة شديدة (¬1). 4 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وطئ أحدكم بنعليه الأذى، فإن التراب له طهور" (¬2). وجه الدلالة: ظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبر عموم البلوى بوطء النجاسات على الأرض سببًا في الترخيص بتطهير النعال بمجرد دكها بالأرض أو الوطء على أرض أخرى طاهرة (¬3). ثانيًا: المأثور عن الصحابة والتابعين: 1 - ما يروى أن عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص -رضي الله عنهما- خرجا في ركب حتى وردوا حوضًا، فسأل عمرو بن العاص صاحب الحوض، وقال: يا صاحب الحوض هل ترد حوضَكَ السباعُ؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض لا تخبرنا، فإنا نَرِدُ على السباع وتَرِدُ علينا (¬4). ¬

_ = يطهر بعضها بعضًا، (531). وصححه الشيخ الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (383). (¬1) إغاثة اللهفان، لابن القيم، (1/ 147). (¬2) أخرجه: أبو داود، كتاب الطهارة، باب: في الأذى يصيب النعل، (385، 386)، والحاكم في "مستدركه"، (1/ 166)، وعنه: البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الصلاة، باب: طهارة الخف والنعل، (2/ 430)، وصححه ابن خزيمة (292). ورُوي نحوه من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-. (¬3) عموم البلوى، للدوسري، (ص 330). (¬4) أخرجه: الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس في "الموطأ"، رواية: يحيى الليثي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، مصر، كتاب الطهارة، باب: الطهور للوضوء، (43)، وعنه وعن غيره: عبد الرزاق في "مصنفه" (1/ 76)، وأخرجه من طريق الإمام مالك: البيهقيُّ في "الكبرى" كتاب الطهارة، باب: سؤر سائر =

وجه الدلالة: اعتبر عمر عموم وشيوع ملابسة السباع للحياض التي يُستَقَى منها سببًا في الترخيص، وذلك مما فهمه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصرفاته الشرعية في هذا الشأن. وهذا يشير إلى أن هذا من مواضع ما تعم به البلوى (¬1). 2 - وعن الحسن البصري أنه قال: "ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم" (¬2). وجه الدلالة: مع كون الدم نجسًا باتفاق إلا أن عسر الاحتراز منه حالَ الجهاد والجراح الكثيرة يتطلب تيسيرًا فدل هذا على اعتبار عموم البلوى مرخِّصًا (¬3). وقد تواتر عن التابعين أنهم كانوا يخوضون في طريقهم إلى المساجد في طين الطرقات التي فيها ما ينجسها ولم يكونوا يغسلون ما أصاب أقدامهم منها (¬4). ويقول ابن حزم -في آثار دم الذباب والبراغيث والنحل وبول الخفاش ونحو ذلك-: "إن كان لا يمكن التحفظ منه وكان في غسله حرج أو عسر لم يلزم من غسله ¬

_ = الحيوانات سوى الكلب والخنزير، (1/ 250)، من حديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا. . . فذكره. قال الإمام النووي -رحمه الله- في "المجموع شرح المهذب"، (1/ 174): "هذا الأثر إسناده صحيح إلى يحيى بن عبد الرحمن، لكنه مرسل منقطع؛ فإن يحيى -وإن كان ثقة- فلم يدرك عمر؛ بل وُلد في خلافة عثمان؛ هذا هو الصواب، قال يحيي بن معين: يحيي بن عبد الرحمن بن حاطب عن عمر باطل! وكذا قاله غير ابن معين. إلا أن هذا المرسل له شواهد تقويه، والمرسل عند الشافعي إذا اعتضد احتج به. . .". (¬1) رفع الحرج، د. يعقوب الباحسين، (ص 87). (¬2) أخرجه: البخاري معلَّقًا بلا إسناد (1/ 77)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"، كتاب الصلاة، باب: في الرجل يصلي وفي ثوبه أو جسده دم، (1/ 392)، ولفظه: "ما في نضخات من دم ما يفسد على رجل صلاته". وصصَّح إسنادَه إلى الحسن الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/ 281). (¬3) عموم البلوى، للدوسري، (334). (¬4) المصنف، لعبد الرزاق، (1/ 31) برقم (97) مصنف ابن أبي شيبة، (1/ 56).

تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات

إلا ما لا حرج فيه ولا عسر" (¬1). وقال سحنون من المالكية فيما يبتلى به المرء من السباع: إن الهر أيسر من الكلب، ,وإن الكلب أيسر حالًا من السباع، وذلك بقدر الحاجة إليه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل طهارتها بتطوافها علينا (¬2). تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: بلاد غير المسلمين عمت بها مخالفات ومنكرات تتعلق بالحياة بأسرها، فلا يكاد يخلو مجال من مجالات الحياة إلا ودخله ما يشوبه ويعكره على أهل الإسلام، ومن ذلك: ما هو نزر يسير، ومنه: ما هو فاحش كثير، وقاعدة التخفيف بعموم البلوى وجدت تطبيقاتها في العبادات والمعاملات في السنة النبوية على حدٍّ سواء، وعليه فهي صالحة لإعمالها من قبل فقهاء الأقليات للترخيص في أعمال شابتها شوائب لا انفكاك عنها ولا بد منها في نفس الوقت، كاختلاط الرجال بالنساء في الأعمال ومرافق الحياة -مثلاً-، وشيوع منكرات اجتماعية عديدة في تلك الديار بشكل مطبق، ووجود مظلة قانونية مخالفة لشريعة الله لها أحكامها التي تنفذ جبرًا وقهرًا على كل مقيم هناك. وعليه فإن القاعدة قد تُسهم في رفع كثير من الحرج والترخيص في النزر اليسير من تلك الأمور. القاعدة الثانية: الإسلام يَجُبُّ ما قبله: المعنى العام للقاعدة: هذه القاعدة تتعلق برفع الحرج عن غير المسلم إذا دخل في الإسلام، فهي تتعلق بتوبة غير المسلم عن الكفر، وحاجته إلى الترغيب في الإسلام. وصيغة القاعدة مستفادة من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإسلام يهدم ما كان قبله" (¬3). ¬

_ (¬1) المحلى، لابن حزم، (1/ 191). (¬2) المنتقى، لأبي الوليد الباجي، (1/ 326). (¬3) أخرجه: مسلم، كتاب الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، (121)، من =

وقد عبَّر عنها الجويني -رحمه الله- فقال: "وزر الكفر ينحط بالإيمان" (¬1). وعبَّر عنها ابن العربي مستفيدًا من روايات الحديث بقوله: "الإسلام يهدم ما كان قبله" (¬2). وعبَّر بعضهم بالحتِّ بدلا من الجَبِّ (¬3). والجَبُّ -لغة-: بمعنى القطع، والتغلب (¬4)، فالإسلام يقطع ما كان قبله عن أن يؤثر فيما بعده، ويمنع محاسبة من أسلم عما ارتكبه قبل إسلامه مما يُعتبر من المعاصي في الإسلام، فما صدر عن غير المسلم من أقوال أو أفعال أو تَركٍ حالَ كفره، إن كان يترتب عليها عقاب، لو صدرت عنه في حال الإسلام، فإن الإسلام يقطعها ويجعلها كالعدم، أي: أنه يرفع آثارها، ويمنع مِن ترتب الأحكام عليها (¬5). كما اتفقت كلمة علماء أهل الإسلام قاطبةً على أن الكافر إذا أسلم لا يُكَلَّفُ بقضاء ما فاته من عبادات، سواء في ذلك الصلاة والصيام والزكاة، أو الحج إذا أعسر بعد يسر في كفره (¬6). بل إنهم لم يصححوا قضاءه للعبادة إذا أراد أن يقضيها؛ لأنه ليس من أهلها، لا فرضًا ولا نفلًا، فلم يصحَّ ما فعله بعد الإسلام عما فاته في زمان الكفر، بخلاف الحائض ¬

_ = حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه-، في سياق حكاية قصة إسلامه وهو على فراش الموت. (¬1) الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، لأبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني، تحقيق: د. محمد يوسف مويس، د. علي عبد المنعم عبد الحميد، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1369 هـ - 1950 م، (ص 409). (¬2) أحكام القرآن، لابن العربي، (2/ 398). (¬3) السيرة النبوية، لابن هشام، (2/ 278). (¬4) لسان العرب، لابن منظور، (2/ 161)، الصحاح، للجوهري، (1/ 96). (¬5) القواعد الفقهية، للبجنوردي، (ص 39)، نقلًا عن قاعدة المشقة تجلب التيسير، د. يعقوب الباحسين، (ص 550). (¬6) حاشية العدوي، للشيخ علي الصعيدي العدوي، مطبوع بهامش: كفاية الطالب الرباني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، تحقيق: أحمد حمدي إمام، مطبعة المدني، القاهرة، ط 1، 1407 هـ - 1987 م، (1/ 625)، المجموع، للنووي، (6/ 252)، روضة الطالبين، للنووي، (1/ 190)، المبدع شرح المقنع، لبرهان الدين إبراهيم بن مفلح، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، (2/ 292)، الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 526).

أولا: القرآن الكريم

فإنها تقضي الصوم؛ لأنها من أهل العبادة في الجملة (¬1). وقد اسْتُدِلَّ لهذه القاعدة من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والإجماع، والمعقول. أولًا: القرآن الكريم: قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. وجه الدلالة: "قل يا محمد للذين كفروا من مشركي قومك: إن ينتهوا عما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله ورسوله وقتالك، وقتال المؤمنين فينيبوا إلى الإيمان يغفر الله لهم ما قد خلا ومضى من ذنوبهم قبل إيمانهم وإنابتهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله بإيمانهم وتوبتهم" (¬2). ثانيًا: السنة المطهرة: 1 - حديث: "أما علمتَ أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله" (¬3). وجه الدلالة: الإسلام يهدم ما قبله من ترك الواجبات وفعل المحرمات، والتعبير بالهدم والجَبِّ والحَتِّ دليل على الاستئصال التام لما كان قبل الإسلام، والتعبير عما كان قبله يدل على الشمول أيضًا. ولم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أحدًا ممن أسلم بقضاء. 2 - حديث معاذ حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن فقال له: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعْلِمْهم أن الله قد افترض عليهم ¬

_ (¬1) حاشية، البجيرمي على الخطيب، لسليمان بن محمد بن عمر البجيرمي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1417 هـ - 1996 م، (2/ 45). (¬2) "تفسير الطبري، (11/ 176). (¬3) أخرجه: مسلم، كتاب الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، (121)، من حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه-، في سياق حكاية قصة إسلامه وهو على فراش الموت.

ثالثا: الإجماع

خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعْلِمْهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وتُردُّ على فقرائهم" (¬1). وجه الدلالة: أن الكافر لا يخاطَبُ بفعل هذه العبادات إلا بعد أن يسلم (¬2)، فلا يجب عليه القضاء؛ لعدم خطابه بفعلها حالَ كفره. ثالثًا: الإجماع: قال أبو الخطاب الكلوذاني (¬3): "أجمعت الأمة الإسلامية على أنه لا يلزمه أن يفعل العبادات في حالِ كفره، ولا يجب عليه القضاء إذا أسلم" (¬4)، وقال المروزي (¬5): "لم يختلف المسلمون في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أحدًا من الكفار أسلم بقضاء شيء من الفرائض، واتفق على القول بذلك أهلُ الفتوى من علماء أهلِ الإسلام" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الزكاة، باب: وجوب الزكاة، (1395)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، (19)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذًا -رضي الله عنه- إلى اليمن فقال. . . فذكره، وفي بعض الروايات: "عن ابن عباس أنَّ معاذًا قال. . ."؛ فجعله من مسند معاذ -رضي الله عنه-. (¬2) شرح عمدة الفقه، كتاب الصلاة، لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: خالد بن علي بن محمد المشيقح، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1418 هـ - 1997 م، (ص 36). (¬3) أبو الخطاب، محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذاني الحنبلي، كان إمامًا علامة ورعًا صالحًا، وافر العقل غزير العلم كثير الفضل والأدب والكتابة، من مصنفاته: التمهيد، الانتصار في المسائل الكبار، والهداية، توفي سنة 510 هـ. شذرات الذهب، لابن العماد، (6/ 45)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (19/ 348). (¬4) التمهيد في أصول الفقه، لأبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني، تحقيق: مفيد محمد أبو عمشة، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، الكتاب السابع والثلاثون، ط 1، 1406 هـ - 1985 م، (1/ 301). (¬5) أبو عبد الله، محمد بن نصر بن الحجاج، المروزي، شيخ الإسلام، الحافظ، أحد أعلام الأمة وعقلائها وعبادها، ولد ببغداد، ونشأ بنيسابور، ورحل رحلة طويلة استوطن بعدها سمرقند وتوفي بها، له كتب كثيرة، منها: تعظيم قدر الصلاة، ورفع اليدين، وقيام الليل، ولد سنة 202 هـ، وتوفي سنة 294 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (14/ 33)، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (2/ 246). (¬6) تعظيم قدر الصلاة، لأبي عبد الله محمد بن نصر المروزي، تحقيق: عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط 1، 1406 هـ، (2/ 991 - 992).

رابعًا: المعقول: وذلك من وجوه: 1 - الكافر حالَ كفره كان منكرًا للوجوب والتحريم فكان الفعل والترك داخلاً في ضمن هذا الاعتقاد الباطل وفرعًا له، فلما تاب من هذا الاعتقاد وموجبه، غفر الله له الأصل وفروعه، فدخلت هذه الفروع فيه حالَ المغفرة، كما دخلت فيه حالَ المعصية. 2 - لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ أحدًا ممن أسلم بضمان دم، ولا مال، ولا بشيء من هذه الأشياء. 3 - فيما يتعلق بالذمي أو الحربي فإنه كان يؤدي ما عليه من عبادات دينه الذي كان يعتقد صحته، وأُقِرَّ عليه باستئمان أو جزية، فلا وجه لعقوبته أو مطالبته. 4 - يُقصد بمخاطبة الكفار بالعبادات -عند من يقول بتكليفهم بفروع الشريعة- زيادة عقوبته في الآخرة بتركها، ولا يُقصد به مطالبته بأدائها في الدنيا؛ لأن العبادات لا تصح من الكفار لافتقارها للنية، والنية لا تصح من كافر، فلما لم تجب عليه في أحكام الدنيا، لم يلزمه قضاؤها إذا أسلم (¬1). 5 - الشارع الحكيم متطلع إلى الترغيب في الإسلام، وإسقاط التكاليف يناسب هذا المعنى (¬2). بل "إذا فعل الكافر الأصلي قربة لا تشترط النية لصحتها، كالصدقة، والضيافة، وصلة الرحم، والإعتاق، والقرض، والعارية، والمنحة، وأشباه ذلك: فإن مات على كفره، فلا ثواب له عليها في الآخرة، لكن يطعم بها في الدنيا، ويوسع في رزقه وعيشه. وإن أسلم فالصواب المختار أنه يثاب عليها في الآخرة؛ للحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان ¬

_ (¬1) المجموع، للنووي، (6/ 252)، كشاف القناع، للبهوتي، (1/ 223)، المبدع، لابن مفلح، (3/ 85). (¬2) مغني المحتاج، للخطيب الشربيني، (1/ 130)، كشاف القناع، للبهوتي، (1/ 223).

أزلفها. . . " (¬1)، أي: قدمها. وعن حكيم بن حزام -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله أرأيت أمورًا كنت أتحنَّثُ بها في الجاهلية من صلة وعتاقة وصدقة هل لي فيها أجر؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أسلمتَ على ما سلف لك من خير" (¬2). فهذان حديثان صحيحان لا يمنعهما عقل، ولم يَرِد الشرع بخلافهما، فوجب العمل بهما، وقد نقل الإجماع على ما ذكرته من إثبات ثوابه إذا أسلم. وأما قول أصحابنا وغيرهم: لا تصح من كافر عبادة، ولو أسلم لم يعتدَّ بها، فمرادهم: لا يعتدُّ بها في أحكام الدنيا، وليس فيه تعرض لثواب الآخرة. فإن أَطلق مطلِقٌ أنه لا يثاب عليها في الآخرة، وصرح بذلك: فهو مجازف مغالط مخالف للسنة الصحيحة التي لا معارض لها" (¬3). وحكم هذه القاعدة يتناول المرتد أيضًا عند أبي حنيفة والمالكية؛ لأن الأدلة لم تُفَرِّقْ في دخول الإسلام بين ما إذا كان بعد كفر أصلي، أو طارئ بالارتداد، بينما ذهب الشافعي إلى أنه يلزم المرتدَّ كلُّ حقٍّ لله وللآدمي (¬4). ونطاق هذه القاعدة يتعلق بحقوق الله تعالى بالأصالة، فلا إثم عليه، ولا تدارك بالقضاء أو الأداء لما فات (¬5). قال ابن العربي: "قال علماؤنا: هذه لطيفة من الله سبحانه منَّ بها على الخليقة؛ وذلك ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري تعليقًا، كتاب الإيمان، باب: حسن إسلام المرء، (41)، والنسائي، كتاب الإيمان وشرائعه، باب: حسن إسلام المرء، (4998)، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (247). (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب البيوع، باب: شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه، (2220)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده، (123). (¬3) المجموع، للنووي، (3/ 4 - 5)، بتصرف يسير، وانظر أيضًا: الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 254). (¬4) أحكام القرآن، لابن العربي، (2/ 399)، قاعدة المشقة تجلب التيسير، د. يعقوب الباحسين، (ص 551). (¬5) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 255)، المنثور في القواعد، للزركشي، (1/ 161).

تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات

أن الكفار يقتحمون الكفر والجرائم، ويرتكبون المعاصي، ويرتكبون المآثم، فلو كان ذلك يوجب مؤاخذتهم لما استدركوا أبدًا توبة، ولا نالتهم مغفرة. فيسَّر الله عليهم قبولَ التوبة عند الإنابة، وبذل المغفرة بالإسلام، وهدم جميع ما تقدم؛ ليكون ذلك أقرب إلى دخولهم في الدين، وأدعى إلى قبولهم كلمة الإسلام، وتأليفًا على الملة، وترغيبًا في الشريعة، فإنهم لو علموا أنهم يؤاخذون لما أنابوا ولا أسلموا" (¬1). واستثنى بعضُ العلماء بعضَ الفروع، كإيجاب الغسل بعد الإسلام للأحداث التي كانت قبله، والكفارات سواء أكانت عن يمين، أو ظهار أو قتل، وذلك بناء على القول بأنها لا تسقط عند بعض الفقهاء، في فروع أخرى (¬2). تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: تُعتبر هذه القاعدة ذهبية في الدعوة إلى الله، ومنحة ربانية لعباد الله ليلجوا في دين الله أفواجًا، وما أشدَّ حاجةَ الأقليات المسلمة وهي تتطلع لنشر دينها، والتمكين لنفسها في تلك الديار أن تدعو إلى الله بهذه القاعدة ترغيبًا في الإسلام، وإزالةً للحواجز التي قد تعوق الراغبين فيه وهي بهذا تَعِد الداخلين في الإسلام بولادة جديدة تهدم ما كان قبله من الذنوب، وتعدهم ثواب ما أسلفوا من خير. وهي مع القاعدة التي بعدها تمثلان منظومة متكاملة في فتح باب التوبة من الكفر والمعاصي بإطلاق. ولا شك أن الجهالة المطبقة في تلك الديار تستوجب هذا الترخيص الرباني بالتوبة لمواجهة كثير من مشقَّات المخالفات والذنوب السالفات. ¬

_ (¬1) أحكام القرآن، لابن العربي، (2/ 398). (¬2) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 388)، الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 255)، المنثور في القواعد للزركشي، (1/ 161).

القاعدة الثالثة: التوبة النصوح تجب ما قبلها

القاعدة الثالثة: التوبة النصوح تجب ما قبلها: هذه القاعدة كالمتممة للقاعدة السابقة، فالسابقة كانت في التوبة من الكفر والشرك، فهي في توبة الكفار، وهذه القاعدة في التوبة من جميع الذنوب والمعاصي فهي في توبة المسلمين. المعنى العام للقاعدة: التوبة -لغةً-: مصدر تاب يتوب، وهي تدل على الرجوع فيقال: توبة ومتابًا، والتوب: ترك الذنب على أجمل الوجوه، والمتاب:. التوبة التامة، وهي الجمع بين ترك القبيح وتحري الجميل (¬1). وهي -اصطلاحًا-: ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدراكه من الأعمال بالإعادة (¬2). أو هي: الرجوع إلى الله بحَلِّ عقدة الإصرار عن القلب، ثم القيام بكل حقوق الرب. أو هي: الندم على معصيته من حيث هي معصية، مع عزمٍ ألَّا يعود إليها إذا قدر عليها (¬3). وأما التوبة النصوح فهي توثيق العزم على ألَّا يعود لمثله، وقيل: هي ألَّا يبقي التائب على عمله أثرًا من المعصية سرًّا وجهرًا (¬4). وعلامتها أن يكره العبد المعصية ويستقبحها، فلا تخطر له على بالٍ ولا تَرِدُ في خاطره أصلاً (¬5). والتوبة النصوح هي ما تضمن ثلاثة اشياء: ¬

_ (¬1) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (1/ 357)، لسان العرب، لابن منظور، (2/ 61). (¬2) المفردات، للراغب، الأصبهاني، (ص 76). (¬3) التعريفات، للجرجاني، (ص 95)، كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، لمحمد علي التهانوي، تحقيق: د. علي دحروج، مكتبة لبنان، بيروت، ط 1، 1996 م، (1/ 524 - 525). (¬4) التعريفات، للجرجاني، (ص 96). (¬5) كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي، (1/ 524 - 525).

"الأول: تعميم الذنوب واستغراقها بها بحيث لا تدع ذنبًا إلا تناولته. الثاني: إجماع العزم والصدق بكليته عليها؛ بحيث لا يبقى عنده تردُّهٌ، ولا تَلَوُّمٌ ولا انتظار، بل يجمع عليها كل إرادته، وعزيمته مبادرًا بها. الثالث: تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته، والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده، لا كمن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ومنصبه ورياسته، أو لحفظ قوته وماله، أو استدعاء حمد الناس، أو الهرب من ذمهم، أو لئلَّا يتسلط عليه السفهاء، أو لقضاء نهمته من الدنيا، أو لإفلاسه وعجزه، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله -عز وجل-. فالأول يتعلق بما يتوب منه، والأوسط يتعلق بذات التائب، والثالث يتعلق بمن يتوب إليه، فنصح التوبة: الصدق فيها والإخلاص، وتعميم الذنوب بها، ولا ريب أن هذه التوبة تستلزم الاستغفار وتتضمنه وتمحو جميع الذنوب، وهي أكمل ما يكون من التوبة" (¬1). وشروط التوبة النصوح: أن يترك المعصية في الحال، وأن يقصد تركها في الاستقبال، وأن يندم على فعلها في الماضي (¬2). فإن تعلقت المعصية بحقِّ آدميٍّ استبرأ منه، وطلب أن يحلَّه بعد أن يعيد إليه حقَّه (¬3) ومن العلماء من يضيف حصولها في الوقت الذي حدده الشارع، وهو ما قبل الغرغرة (¬4). ومقصود هذه القاعدة أن من تاب إلى الله توبة خالصة صحيحة فإن الله تعالى يتجاوز له عما فرط من الذنوب، ويستر عليه ما سلف من العيوب، ويبدل الله سيئاته حسنات. ¬

_ (¬1) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لمحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1393 هـ - 1973 م، (1/ 310 - 312). (¬2) كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي، (1/ 524 - 525). (¬3) رياض الصالحين، لمحيي الدين يحيى بن شرف النووي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1399 هـ - 1979 م، (ص 11). (¬4) الإرشاد إلى قواطع الأدلة، للجويني، (ص 401).

قال ابن القيم -رحمه الله-: "التوبة هي حقيقة دين الإسلام، والدين كله داخل في مسمى التوبة وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله؛ فإن الله يحب التوابين يحب المتطهرين، وإنما يحب الله من فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه؛ فإذًا التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنًا، ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان، وتتناول جميع المقامات؛ ولهذا كانت غاية كل مؤمن وبداية الأمر وخاتمته كما تقدم، وهي الغاية التي وُجد لأجلها الخلق والأمر، والتوحيد جزء منها، بل هو جزؤها الأعظم الذي عليه بناؤها، وأكثر الناس لا يعرفون قدر التوبة ولا حقيقتها، فضلًا عن القيام بها علمًا وعملًا وحالًا، ولم يجعل الله تعالى محبته للتوابين إلا وهم خواصُّ الخلق لديه، ولولا أن التوبة اسمٌ جامعٌ لشرائع الإسلام وحقائق الإيمان، لم يكن الرب تعالى يفرح بتوبة عبده ذلك الفرحَ العظيم، فجميع ما يتكلم فيه الناس من المقامات والأحوال هو تفاصيلها وآثارها" (¬1). فالتوبة واجبة من جميع الذنوب وجوبًا عينيًّا وعلى الفور، سواء أكانت الذنوب من الصغائر، أم من الكبائر. قال النووي -رحمه الله-: "واتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة، وأنها واجبة على الفور، لا يجوز تأخيرها، سواء كانت المعصية صغيرة، أو كبيرة" (¬2)، وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "فإن التوبة واجبة على كل عبد في كل حال" (¬3). وقد دل على وجوبها قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. ¬

_ (¬1) مدارج السالكين، لابن القيم، (1/ 306 - 307). (¬2) شرح صحيح مسلم، للنووي، (17/ 59). (¬3) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (10/ 330).

أدلة القاعدة: دل على هذه القاعدة القرآن الكريم، والسنة المطهرة.

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائةَ مرة" (¬2). ونقل الجويني الإجماع على وجوب ترك الزلات والندم على ما تقدم منها (¬3). والعقل يؤيد ما جاء به النقل، وانعقد عليه الإجماع. أدلة القاعدة: دل على هذه القاعدة القرآن الكريم، والسنة المطهرة. أولًا: القرآن الكريم: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8]. وقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]. وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]. وجه الدلالة: دلت الآية الأولى على أن من تاب توبة نصوحًا فقد كفَّر الله عنه سيئاته، وقوله تعالى في هذا الموضع: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} يفيد تحقق الأمر الموعود به. ¬

_ (¬1) أخرجه: ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: في فرض الجمعة، (1081)، والقضاعي في "مسند الشهاب"، (1/ 420) من حديث جابر -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه: مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب الاستغفار والإكثار منه، (2702) من حديث الأغر المزني -رضي الله عنه-. (¬3) الإرشاد إلى قواطع الأدلة، للجويني، (ص 404 - 405).

ثانيا: السنة المطهرة

ودلت الآية الثانية على تحقق المغفرة لمن تاب وآمن وعمل صالحًا، وزادت الثالثة لمن كملت توبته وصحت رجعته أن الله تعالى يبدل سيئاته حسنات (¬1). ثانيًا: السنة المطهرة: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه" (¬2). 2 - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" (¬3). 3 - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها" (¬4). 4 - وقوله - صلى الله عليه وسلم -وقد سئل أحدنا يذنب، فقال-: "يكتب عليه"، قيل: ثم يستغفر منه ويتوب؟ قال: "يغفر له ويتاب عليه". قيل: فيعود فيذنب، قال: "فيكتب عليه". قال: ثم يستغفر منه ويتوب. قال: "يغفر له ويتاب عليه، ولا يمل الله حتى تملوا" (¬5). ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير، (8/ 168 - 170)، (5/ 308 - 309)، (6/ 127 - 130). (¬2) أخرجه: مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه، (2703)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬3) أخرجه: ابن ماجه، كتاب الزهد، باب: ذكر التوبة، (4250)، والبيهقي في "الكبرى"، كتاب الشهادات، باب: شهادة القاذف، (10/ 154)، وغيرهما، من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. وحسَّن إسنادَه الحافظ ابن حجر العسقلاني في "الفتح" (13/ 471). ورُوي من أحاديث: أبي سعيد، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأم المؤمنين عائشة، وغيرهم -رضي الله عنهم-. (¬4) أخرجه: الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في معاشرة الناس، (1987)، والإمام أحمد في "مسنده" (5/ 153، 158، 177)، وغيرهما، من حديث أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتقِ الله حيثما كنتَ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالِق الناس بخلق حسن". قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". ورُوي من حديث معاذ بن جبل، وأنس بن مالك -رضي الله عنهما-. (¬5) أخرجه: الحاكم في "مستدركه" (1/ 58، 4/ 256) -وعنه في الموضع الأول: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في "شعب الإيمان"، تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1410 هـ، (5/ 408) -، وأبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في "المعجم الأوسط"، تحقيق: طارق بن عوض الله، وعبد المحسن إبراهيم، دار الحرمين، القاهرة، 1415 هـ، (8/ 298)، وفي "المعجم الكبير" (17/ 287) -مختصرًا-، من حديث عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه-. وصححه الحاكم، وحسَّن إسناده: أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقيُّ في "تخريجه الكبير" لأحاديث إحياء علوم الدِّين -كما في "المغني عن حمل الأسفار"، اعتنى به: أشرف عبد المقصود، مكتبة طبرية، الرياض، ط 1، 1415 هـ / 1995 م، (1054/ 2) -، والهيثميُّ في "مجمع الزوائد" (10/ 200).

وجه الدلالة: الأحاديث مصرحة بقبول توبة التائب والتجاوز عن ذنب المستغفر، وأن من تاب غفرت له سيئاته، وعفي له عن خطيئاته، والله تعالى حليم تواب، رحيم ودود، يقبل توبة عبده ما لم يغرغر (¬1). وهذا كله يتعلق بذنوب العباد فيما بينهم، وبين ربهم تبارك وتعالى، وأما فيما يتعلق بذنوب العباد فيما بينهم فما لم يحصل فيه التغافر والتسامح في الدنيا كان فيه القصاص في الآخرة ولا بد، وذلك مقتضى أن ربنا تعالى هو العدل الحكيم. وما عدا ذنوب العباد فيما بينهم فإنه مرجوُّ العفو والمغفرة بالتوبة والإنابة باستثناء الموت على الشرك، قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. قال ابن تيمية -رحمه الله-: "ليس في شريعتنا ذنب إذا فعله الإنسان لم يكن له مخرج منه بالتوبة إلا بضرر عظيم، فإن الله لم يحمل علينا إصرًا كما حمله على الذين من قبلنا" (¬2). وقال ابن القيم -رحمه الله-: "فليس في شرع الله ولا قدره عقوبة تائب البتة" (¬3). ولا شك أن من تاب من الشرك الأكبر والكفر الأكبر قبل موته فإن الله يتوب عليه، ولا عقوبة عليه بالإجماع، كما شهدت به القاعدة السابقة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا ¬

_ (¬1) أخرجه: الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: في فضل التوبة والاستغفار وما ذُكر من رحمة الله لعباده، (3537)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب: ذكر التوبة، (4253)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر". قال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (2/ 394)، والحاكم (4/ 256). ورُوي أيضًا من حديثَي: عبادة بن الصامت، وأبي أيوب بشير بن كعب -رضي الله عنهما-. (¬2) القواعد الفقهية النورانية، لتقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، 1399 هـ، (ص 267). (¬3) إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 97).

تطبيقات في حياة الأقليات

بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68 - 70]. تطبيقات في حياة الأقليات: كثيرًا ما يرتكب أهل تلك الأقليات من المخالفات والموبقات ما يعود سبب إلى جهل بالدين، وغلبة للشهوات، وشيوع للمنكرات، فتفشو المنكرات والحرمات، ويقع التقصير في كثير من الواجبات، وهذا يعرفه كل من عايش تلك الجاليات، ونظر في أحوالها، وخالط مسائلها حيث يقع التقصير كثيرًا في الفرائض والعبادات، ويستهان بمحرمات مالية في وجوه الكسب والإنفاق، وبسبب من غياب مظلة الشريعة الإسلامية وأحكامها الشرعية، وخفوت نور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تلك المجتمعات -تقع مفاسد كثيرة في الجوابن الأسرية والاجتماعية، ويجترأ على كبائر ومحرمات، ثم تنشأ مشاكل معقدة فيما يتعلق بالأنباء، والازواج والزوجات وغير ذلك، وفتح باب التوبة على مصراعية يفتح طاقة الأمل واستعادة الرشد، وفعالية الهوي والشيطان.

المبحث الرابع القواعد المتعلقة بالضرورات والحاجات

المبحث الرابع القواعد المتعلقة بالضرورات والحاجات المطلب الأول: القواعد الأصولية والمقاصدية المتعلقة بالضرورات والحاجات: القاعدة الأولى: الشريعة مبنية على المحافظة على الضرورات الخمس (¬1). المعنى العام للقاعدة: الضرورة -في اللغة-: اسم المصدر من الاضطرار، والاضطرار: الاحتياج إلى الشيء، يقال: اضْطرَّه إليه وضَرَّه إليه، بمعنى: ألجاه، وأحوجه إليه (¬2). و"اضْطُرَّ" افتعل من الضرر، أي: أدركه ضرر، وَوُجِدَ به. وأصل مادة: "ضَّر" تأتي بمعنى خلاف النفع. والضرورة تأتي بمعنى المشقة والحاجة، كما تأتي بمعنى الشدة التي لا مدفع لها (¬3). والمضطر يَرِدُ على معنيين؛ أحدهما: مكتسب الضرر، والثاني: مكتسب دفعه. فالسلطان يضطره، أي: يُلجئه للضرر، والمضطر يبيع منزله، أي: يدفع الضرر الذي يلحقه بامتناعه من بيع ماله (¬4). والضرورة -في اصطلاح علماء الشريعة- تَرِدُ ويقصد بها أحد معنيين: معنى عام، ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 8 - 10)، المستصفى، للغزالي، (ص 174)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 159 - 160)، منهج التشريع الإسلامي وحكمته، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط 2، (ص 17)، حقيقة الضرورة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة، د. محمد حسين الجيزاني، دار المنهاج، الرياض، ط 1، 1428 هـ، (ص 17). (¬2) المصباح المنير، للفيومي، (2/ 360)، النهاية، لابن الأثير، (3/ 82 - 83). (¬3) القاموس المحيط للفيروزآبادي، (2/ 74)، مختار الصحاح، (ص 247)، المعجم الوسيط، (1/ 538). (¬4) أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 3، 1424 هـ - 2003 م، (1/ 82).

ومعنى خاص. أما المعنى العام للضرورة فهو: ما لا بد منه في قيام مصالح الدنيا والدين. والمعنى العام للقاعدة يدور على أن مقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو: أن يحفظ عليهم دينهم، وأنفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم (¬1). وهذه الضرورات الخمس أول من عُني بِعَدِّها على هذا النحو -فيما وصل إلينا- هو أبو المعالي الجويني حيث قال: "فالشريعة متضمنها: مأمور به، ومنهي عنه، ومباح، فأمَّا المأمور به فمعظمه العبادات. . .، وأما المنهيات فأثبت الشرع في الموبقات منها زواجر. . .، وبالجملة: الدم معصوم بالقصاص. . .، والفروج معصومة بالحدود. . .، والأموال معصومة عن السراق بالقطع. . ." (¬2). وتحديد هذه الضرورات وعدُّها في خمس إنما عُلِمَ بالاستقراء التام الحاصل بتتبع نصوص الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات، بحيث ثبتت مراعاة الشَّارع لها والتفاته إليها في جميع أحكامه، بل يستحيل أن يُفَوِّتَها في شيء من أحكامه، بل جميع التكاليف الشرعية تدور حولها بالحفظ والصيانة (¬3). وذهب الآمدي إلى أن هذه الضرورات الخمس المحصورة لم تخلُ من رعايتها ملة من الملل فقال: "المقاصد الخمسة التي لم تخلُ من رعايتها ملة من الملل، ولا شريعة من الشرائع، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال،. . . والحصر في هذه الخمسة الأنواع، إنما كان نظرًا إلى الواقع، والعلم، ولانتفاء مقصد ضروري خارج عنها في العادة" (¬4). ¬

_ (¬1) المستصفى، للغزالي، (ص 174). (¬2) البرهان، للجويني، (2/ 1150 - 1151). (¬3) روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 170)، الموافقات، للشاطبي، (2/ 49 - 52)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 159 - 160). (¬4) الإحكام، للآمدي، (3/ 300).

وأما المعنى الخاص للضرورة، فقد نقل فيه عن الفقهاء والأصوليين القدامى والمحدثين عدة تعاريف، منها: تعريف الدردير المالكي (¬1) لها بقوله: "الخوف على النفس من الهلاك علمًا أو ظنًّا" (¬2). تعريف الجصاص الحنفي لها بقوله: "خوف الضرر بترك الأكل، إما على نفسه أو على عضو من أعضائه" (¬3). وقد عرفها د. وهبة الزحيلي بقوله: "هي أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة؛ بحيث يخاف حدوث ضرر، أو أذى بالنفس، أو بالعضو، أو بالعرض، أو بالعقل، أو بالمال، وتوابعها، ويتعين أو يباح عندئذٍ ارتكاب الحرام، أو ترك الواجب، أو تأخيره عن وقته، دفعًا لضرر عنه في غالب ظنه ضمن قيود الشرع" (¬4). وهو تعريف مبني على الضرورات الخمس، وعلى ما استُفِيد من قاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات" (¬5)، وقاعدة: "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة" (¬6). وهي بالجملة: الحالة الملجئة لارتكاب محظور شرعي. وهذا يدل على أن الضرورة حالة لا مدفعَ لها، كما يدل على أن الضرورة عذر معتبرٌ في ارتكاب المحرمات، وأما سقوط الواجبات فإنه لا يدخل تحت مفهوم الضرورة اصطلاحًا؛ وذلك لأن الوجوب تشترط فيه القدرة والاستطاعة، فعند العجز تسقط الواجبات. ¬

_ (¬1) أبو البركات، أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي حامد العدوي المالكي، الأزهري، تولى الإفتاء بمصر، من تصانيفه: أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك، الشرح الكبير على مختصر خليل، ولد سنة 1127 هـ، وتوفي سنة 1201 هـ. الأعلام، للزركلي، (1/ 244)، ومعجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (2/ 67). (¬2) الشرح الكبير، لأبي البركات أحمد الدردير، دار الفكر، بيروت، (2/ 115 - 116). (¬3) أحكام القرآن، للجصاص، (ص 159). (¬4) نظرية الضرورة الشرعية، د. وهبة الزحيلي، (ص 64). (¬5) الأشباه والنظائر، لابن السبكي، (1/ 45)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 94). (¬6) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 88)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 100).

أدلة القاعدة

وربما أُطلق مصطلح الضرورة على الحاجة، قال ابن العربي: "ولكنَّ المُلْجَأَ مضطرٌ حقيقةً، والمحتاجَ مضطرٌ مجازًا" (¬1). والضرورة التي تُستباح معها المحرمات قد يُلجئ إليها حالةُ التداوي، أو دفعُ الصائل، أو نشوبُ الحريق، أو حوادثُ السير، وبالجملة فإن السبب الجامع لها هو: المحافظة على الضرورات الخمس: الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال، ومن هذه الجهة تنقسم الضرورة بالنظر إلى محافظتها على الضرورات الخمس إلى أقسام خمسة: 1 - ضرورة سببها حفظ الدين، مثل: قتل الشيوخ، والنساء، والأطفال في الجهاد، إذا تحصن بهم العدو فامتنع الجهاد إلا بقتلهم. 2، 3 - ضرورة سببها حفظ النفس، والعقل، مثل: تناولِ المُحَرَّمِ في المخمصة، أو المرض إذا أُلجئ إليه. 4 - ضرورة سببها حفظ النسل، مثل: دفع المال للمعتدي حفظًا لعرض امرأة مسلمة. 5 - ضرورة سببها حفظ المال، مثل: إفساد قليل المال حفظاً لأكثره (¬2). أدلة القاعدة: لقد قامت الأدلة متضافرة على رعاية الشريعة لحالة الضرورة والاضطرار، فمن ذلك: أولًا: القرآن الكريم: قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]. وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145]. وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]. وجه الدلالة: دلت الآيات بجملتها على حِلِّ المحرمات حالَ الاضطرار، حيث ذكر ¬

_ (¬1) أحكام القرآن، لابن العربي، (1/ 81). (¬2) حقيقة الضرورة الشرعية، د. محمد حسين الجيزاني، (ص 35).

ثانيا: السنة المطهرة

الاضطرار بعد ذكر تحريم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أُهِلَّ لغير الله به (¬1). ثم إن جميع أدلة نفي الحرج والتيسير ورفع المشقات دالة على المراد، وقد تقدمت. ثانيًا: السنة المطهرة: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" (¬2). 2 - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأعوذ بك من ضراءَ مضرةٍ، وفتنةٍ مضلةٍ" (¬3). 3 - وقوله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- قال: قلت: يا نبي الله؛ إنَّا بأرض قومٍ أهل الكتاب، أفنأكل في آنيتهم، وبأرض صيد: أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلَّم وبكلبي المعلَّم؛ فما يصلح لي؟ قال: "أما ما ذكرت من أهل الكتاب: فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها. وما صدتَ بقوسك فذكرتَ اسم الله فكُلْ، وما صدتَ بكلبك المعلَّم فذكرتَ اسم الله فكُلْ، وما صدتَ بكلبك غير معلَّم فأدركتَ ذكاته فكُلْ" (¬4). وجه الدالة: دلت هذه الأحاديث بجملتها على نفي الضرر والاضطرار في دين الله تعالى، وأفاد ¬

_ (¬1) تفسير البحر المحيط، لمحمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي، تحقيق: مجموعة من الباحثين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1413 هـ - 1993 م، (1/ 664). (¬2) أخرجه: ابن ماجه: كتاب الأحكام، باب: من بني في حقه ما يضر جاره، (2340)، والإمام أحمد في "مسنده" (5/ 326)، وغيرهما، من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-. ورُوي من أحاديث: ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وجابر، وغيرهم -رضي الله عنهم-. وصححه الألباني في "إرواء الغليل"، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1405 هـ - 1985 م، (896). (¬3) أخرجه: النسائي، كتاب السهو، باب: نوع آخر من الدعاء، (1306)، والإمام أحمد في "مسنده" (4/ 264)، من حديث عمار بن ياسر -رضي الله عنهما-، وهو قطعة من دعاء كان يقوله عمار في صلاته سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وصححه ابن حبان (5/ 304)، والحاكم (1/ 523). (¬4) أخرجه: البخاري، كتاب الذبائح، باب: صيد القوس، (5478)، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب: الصيد بالكلاب المعلمة، (1930).

الحديث الثالث حلَّ ما كان مكروهًا، أو ممنوعًا منه؛ للحاجة إليه. 4 - وعن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- أن أهل بيت كانوا بالحرة محتاجين فماتت عندهم ناقة لهم، أو بعيرهم، فرخَّص لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكلها، فعصمتهم بقية شتائهم أو سنتهم. وفي رواية: أن رسول الله قال لصاحبها: "أما لك ما يغنيك عنها؟ " قال: لا، قال: "اذهب فكُلْها" (¬1). وجه الدلالة: دلّ الحديث على أنه يجوز للمضطر أن يأكل من الميتة ما يكفيه ما دامت المجاعة باقية، والمخمصة قائمة (¬2). 5 - وعن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا بها مخمصة، فما يحل لنا من الميتة؟ فقال: "إذا لم تصطبحوا، ولم تغتبقوا، ولم تحتفئوا بقلًا، فشأنكم بها" (¬3). وجه الدلالة: أفاد الحديث أنهم إذا لم يجدوا لبنًا يصطبحون به أول النهار، أو يغتبقون به آخر النهار، ولم يكن لديهم تمر يأكلونه، فقد حلت لهم الميتة (¬4). وقد وردت أحاديث في إباحة مال الغير عند الاضطرار، وأخرى في الدفع عن النفس والعرض والمال، ومن ذلك: 6 - عن سعيد بن زيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قُتل دون ماله فهو شهيد، ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو داود، كتاب الأطعمة، باب: في المضطر إلى الميتة، (3816)، والإمام أحمد في "مسنده" (5/ 87، 89، 104)، وابنه عبد الله في زوائده على "المسند" (5/ 96، 97). وحسَّن إسنادَه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (3816). (¬2) نيل الأوطار، للشوكاني، (8/ 150). (¬3) أخرجه: الإمام أحمد في "مسنده" (5/ 218)، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الضحايا، باب: ما يحل من الميتة بالضرورة، (9/ 356)، والطبراني في "المعجم الكبير" (3/ 251). وصححه الحاكم (4/ 125). (¬4) نظرية الضرورة الشرعية، د. وهبة الزحيلي، (ص 57).

ثالثا: الإجماع

ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد" (¬1). 7 - وعن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه"، قال: فإن قاتلني، قال: "فاقتله"، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد"، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "فهو في النار" (¬2). وجه الدلالة: دل الحديثان على تعظيم ضرورات النفس، والعرض، والمال، ودفع الصائل عليها؛ لحفظها ورعايتها، وأنه عند الاضطرار تهدر دماء كانت معصومة قبل التعدي والصّيال. ثالثاً: الإجماع: انعقد الإجماع على إباحة الأكل من الميتة في حالة الاضطرار؛ للنص عليه في القرآن الكريم، والسنة النبوية، وقيست عليها سائر المحرمات (¬3). وقد استقرت قواعد الشريعة على نفي الحرج والمشقات البالغة، وإزالة الضرر، وتفويت أعلى المفسدتين بارتكاب أدناهما. والمقاصد الخمسة أو الضرورات الخمس لا بد من حمايتها وحفظها، وقد قسَّم العلماء وسائل حفظ هذه المقاصد إلى ثلاثة أقسام رئيسة، هي: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو داود، كتاب السنة، باب: في قتال اللصوص، (4772)، والترمذي، كتاب الديات، باب: ما جاء فيمن قُتل دون ماله فهو شهيد، (1421) -واللفظ له-، والنسائي، كتاب تحريم الدم، باب: من قاتل دون دينه، (4094، 4095). قال الترمذي: "حسن صحيح"، وأخرجه: البخاري، كتاب المظالم، باب: من قاتل دون ماله، (2480)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره. . . (141)، من حديث عبد الله ابن عمرو -رضي الله عنهما-، مختصرًا مقتصرًا على جملة (الدِّين). (¬2) أخرجه: مسلم، كتاب الإيمان، باب: الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القصد مهدر الدم في حقه و. . .، (140). (¬3) المغني، لابن قدامة، (13/ 330). (¬4) الموافقات، للشاطبي، (2/ 8)، مقاصد الشريعة، لابن عاشور، (ص 78)، المستصفى، للغزالي، (ص 174).

والضروريات: هي ما لا استغناء عنه في الدارين، وما لا بد منه في قيام مصالح المكلفين في الدنيا والدين، وحفظ الضرورات الخمس بإقامة أركانها، وتثبيت دعائمها، وبدرء الفساد الواقع والمتوقع عليها، فالحاجة في الضروريات ملجئة ولا بد (¬1). يقول الشيخ ابن عاشور -رحمه الله-: "ولست أعني باختلال نظام الأمة هلاكها، واضمحلالها؛ لأن هذا قد سلمت منه أعرق الأمم في الوثنية والهمجية، ولكني أعني به أن تصير أحوال الأمة شبيهة بأحوال الأنعام، بحيث لا تكون على الحالة التي أرادها الشارع منها، وقد يفضي بعض ذلك الاختلال إلى الاضمحلال الآجل بتفاني بعضها ببعض، أو بتسلط العدو عليها إذا كانت بمرصد الأمم المعادية لها، أو الطامعة في استيلائها عليها" (¬2). وحفظ الشريعة للمصالح الضرورية يتم من جانبين: الأول: حفظها من جانب الوجود؛ بتشريع ما يقيم أركانها ويثبت بنيانها. الثاني: حفظها من جانب العدم؛ بتشريع ما يدرأ عنها الخلل. وقد حاول بعض الباحثين أن يضع تعريفًا ضابطًا للضروري، فقال: كل ما يؤدي في الدنيا إلى تلف الأصل، أو انحرافه، أو زوال منفعته، أو ما ينزل منزلة ذلك كلًّا أو جزءًا، حقيقةً أو حكمًا سواء كان واقعًا أو متوقعًا، بشكل قطعي، أو قريب من القطعي، وما يؤدي فقده في الآخرة إلى دخول النار وحصول العذاب، ولو لفترة (¬3). 2 - الحاجيات: ما دار كالسياج حول الضروريات ولم يبلغ درجتها في الافتقارِ إليها، وتَرَتُّبِ الهلاك على فقدها. ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 8)، قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (2/ 123). (¬2) مقاصد الشريعة، لابن عاشور، (ص 79). (¬3) تأصيل فقه الأولويات دراسة مقاصدية تحليلية، د. محمد همام ملحم، دار العلوم، عمان، الأردن، ط 1، 2007 م، (ص 228 - 229).

فتتحقق الضروريات مع فقد الحاجيات، ولكن بعسر بالغ وحرج معنت، فالحاجيات تدور على ما تدفع به المشقات من الرخص والتوسعات، وسائر التخفيفات؛ وذلك لتسهل الحياة على المكلفين وتسير بهم في رفق ويسر (¬1). فالحاجة هي الحالة التي تستدعي تيسيرًا أو تسهيلًا لأجل الحصول على المقصود، فهي دون الضرورة من هذه الجهة، وإن كان الحكم الثابت لأجلها مستمرًّا، والثابت للضرورة مؤقتًا (¬2). وهي ما عبر عنه العز ابن عبد السلام -رحمه الله- بقوله: ما توسط بين الضروريات، والتكميلات، هذا بالنسبة لمصالح الدنيا، أما بالنسبة لمصالح الآخرة، ففعل السنن المؤكدات الفاضلات (¬3). وقد ضبطها الشاطبي بقوله: "إنها مفتقر إليها من حيث التوسعة، ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراعَ دخل على المكلفين -على الجملة- الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفاسد العادي المتوقع في المصالح العامة" (¬4). 3 - التحسينيات: وهي مقتضيات المروءات، ومكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحة، والنفوس الصالحة، فتكمل بذلك وتجمل الحياة (¬5). فالتحسينيات لا تتوقف عليها حياة الناس الدينية أو الدنيوية، ولا ينال الناس بفقدها ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 10 - 11)، نظرية الضرورة الشرعية، للزحيلي، (ص 51 - 52). (¬2) شرح القواعد الفقهية، لأحمد الزرقا، (ص 209). (¬3) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام (2/ 60). (¬4) الموافقات، للشاطبي، (2/ 10 - 11). (¬5) الموافقات، للشاطبي، (2/ 11)، أثر الاضطرار في إباحة فعل المحرمات الشرعية، لجمال نادر الفرا، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1414 هـ - 1993 م، (ص 42).

الضوابط الفارقة بين الضروريات والحاجيات والتحسينيات

حرج، إلا أن الحياة بفقد التحسينيات لا تبدو مستقيمة لدى أصحاب الفطر المستقيمة والعقول السلمية (¬1). وقد عبر عنها الجويني -رحمه الله- بقوله: "ما لا يتعلق بضرورة حاقة، ولا حاجة عامة، ولكنه يلوح فيه غرض في جلب مكرمة، أو نفي نقيض لها" وعبر مرة أخرى، فقال: "ما لاح وصح الندب إليه تصريحًا، كالتنظف" (¬2). الضوابط الفارقة بين الضروريات والحاجيات والتحسينيات: تتبدى بعض الضوابط التي تفرق بين هذه المقاصد، فمن جهة المعنى اللغوي لكلٍّ يتضح أن الضروري ما لا بد منه، والحاجة فيه ملجئة، وهو أصل للحاجي وما بعده، وأما الحاجي والتحسيني فإن الحاجة فيهما غير ملجئة أصلًا، ويَنزِل التحسيني رتبة في الاحتياج إليه حيث لا تترتب مشقة بفواته، وإنما تفوت الزينة والجمال. وأما من جهة المعنى الاصطلاحي فلكلٍّ أثرُهُ الدنيوي فإن الفساد المترتب نتيجة فقد الضروري في الدنيا هو إتلاف الأصل، أو زوال منفعته كلًّا أو جزءًا حالًا أو مآلًا. وأما الحاجي ففقده لا يُرتب شيئًا مما سبق من الفساد، سواء أكانت عامة أم خاصة، وإنما تحصل مشقة وشدة، وأما التحسيني ففقده لا يرتب شيئًا مما سبق وإنما فقدان اللذات والمستحسنات. وأما من حيث الأثر الأخروي: ففقد الضروري يترتب عليه التعرض لعذاب الله، ودخول النار إما خلودًا بسبب الكفر، أو دخولًا مؤقتًا بسبب الكبائر من عصاة الموحدين. وأما الحاجي فيترتب على فقده الخوف من دخول النار، ولو دخولًا مؤقتًا، وحصول المشاق ¬

_ (¬1) القواعد الأصولية عند الإمام الشاطبي، د. الجيلالي، (ص 264). (¬2) البرهان، للجويني، (2/ 924 - 925).

ضوابط الضرورة الشرعية وتطبيقات في حياة الأقليات

في دخول الجنة، وأما التحسيني فيترتب على فقده تأخر الإنسان عن عالي رتب ودرج الجنان (¬1). ضوابط الضرورة الشرعية وتطبيقات في حياة الأقليات: ينشأ الاضطرار عند التعارض بين تطبيق الأحكام الشرعية والمحافظة على أحد الضرورات الخمسة من الدين، أو النفس، أو العقل، أو العرض، أو المال، فتنشأ مفسدتان متعارضتان إحداهما أكبر من الأخرى؛ فأمَّا الكبرى فحصول ضرر محقق لا يحتمل في إحد الضرورات الخمس، وأما الصغرى فهي فعل محظور شرعي، ولا مناص من ارتكاب أحد الأمرين وانتهاك إحدى الحرمتين فيترتب على تلك الحالة درء الكبرى بركوب الصغرى. إِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْأَسِنَّةُ مَرْكَبٌ ... فَمَا حِيْلَةُ الْمُضْطَّرِ إِلَّا رُكُوْبُهَا وعند الاضطرار لا يرتكب إلا القدر الذي يكفي لرفع الضرر وإزالة الخطر. وغير خافٍ أن العمل بالضرورة حالة استثنائية مؤقتة، ولا بد من أن تضبط هذه الضرورة بضوابط معتبرة حتى تعتبر ضرورة شرعية تنتهك لأجلها المحرمات وترتكب معها المخالفات. وغني عن البيان أيضًا أن أكثر الساحات اكتظاظًا بالاستثناءات وتعرضًا للضرورات وتنوعًا في الحاجات هي ساحة الأقليات، تلك التي تعيش بعيدًا عن ديار الإسلام شرقاً وغربًا. وفيما يلي ضوابط الضرورة الشرعية التي تبيح -مجتمعة- ارتكاب المحظور، والجرأة على غير المشروع: الضابط الأول: رجحان وقوع الضرر الفادح حالًا أو مآلًا: فمتى قطع المكلف، أو غلب على ظنه حصول مفسدة كبرى بإحدى الضرورات ¬

_ (¬1) تأصيل فقه الأولويات، د. محمد همام، (ص 239 - 244).

الخمس فقد جاز ارتكاب المحرم، فإن لم يغلب على الظن، وإنما كان احتمالًا مرجوحاً لم يجز انتهاك المحرم؛ إذ الأحكام لا تناط بالأوهام، ولا تتعلق بالاحتمالات المستبعدة (¬1). ويدل على هذا الضابط حديث أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا بها مخمصة، فما يحل لنا من الميتة؟ قال: "إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلًا فشأنكم بها" (¬2). ويشهد لذلك من القواعد الفقهية: "لا عبرة بالظن البين خطؤه" (¬3)، و"الرخص لا تناط بالشك" (¬4). وعليه: فلا بد من كون الضرورة أو الضرر حقيقيًّا حالًّا ومعتبرا، ولا يصلح أن يكون متوهمًا لا واقعًا ولا متوقعًا بظن غالب. وعلى هذا فإن العمل بالبنوك والمصارف والمؤسسات الاقتصادية الربوية بالبلاد غير المسلمة وفي ديار الأقليات لا يجوز أن يستباح، ولا عبرة بقول من يعتبر هذا من ضرورة العيش، أو الحاجة التي تُنَزَّلُ عند الفقهاء منزلةَ الضرورة، تلك التي تفرض على الشخص قبول هذا العمل كوسيلة للعيش والارتزاق (¬5)، فإباحة هذا العمل على أنه ضرورة لا يسلم في بلاد الغرب فضلًا عن بلاد المسلمين. فليست الضرورة حاصلة مع وجود أعمال أخرى، ومؤسسات لا تتعامل بالربا أصلًا، والصحيح أنه لا يجوز العمل بالبنوك الربوية مطلقًا، سواء أكان يتصل بعقد الربا، أم لا يتصل به؛ لنص الحديث الوارد فيما يتصل بالربا، وأما ما لا يتصل بالربا فيقاس على ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين (3/ 279)، نظرية الضرورة الشرعية، د. وهبة الزحيلي، (ص 65 - 66). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 157)، والأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 188). (¬4) الأشباه والنظائر، لابن السبكي، (1/ 135)، الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 141). (¬5) يراجع: فتاوي معاصرة، د. يوسف القرضاوي، (ص 529 - 531).

ما يتصل به بجامع الإعانة على الربا. وأما القول بأن فقه الموازنات يقتصي العمل في هذه البنوك؛ لدفع مفسدة أعظم من مفسدة عمل غير المسلمين في هذه البنوك فلا يصح؛ لأن مفسدة الربا أعظم من مفسدة عمل غير المسلم في هذه البنوك، فلا تصح هذه الموازنة. ولو سلم جدلاً اضطرار فرد في بلاد غير المسلمين اضطرارًا حقيقيًّا لم يكن هنا سبيل لإباحة العمل بهذه البنوك مطلقًا لكل أحد؛ إذ الضرورة تقدر بقدرها (¬1). وهكذا لا يجوز الاقتراض من البنوك الربوية مطلقًا لبناء المساكن، أو شرائها مع وجود شركات إسلامية تبيع العقار بالتقسيط (¬2). وبناء على ما سبق فما يدعيه كثيرون في هذه الأيام من ضرورة التختم بالذهب، أو ضرورة التعامل الربوي، أو الضرورة الاقتصادية التي تسمح ببيع الخمور، وفتح الملاهي للسياح. . . ونحو ذلك، كل هذا لا يعتبر من الضرورات الحقيقية، ولا يباح من أجله الحرام، سواء أكان ذلك في بلاد الإسلام، أم في غيرها. ومما ينبغي التنبه إليه أن ارتكاب المحظور عند الاضطرار إنما هو رخصة منَّ الله بها على عباده، والرخص لا تناط بالمعاصي (¬3). فلو أن سائق شاحنة ببلاد غير المسلمين استؤجر لينقل خمرًا من بلد إلى بلد فسافر بشاحنته كان سفره هذا سفر معصية، وكان به عاصيًا، فلا تحل له رخص السفر في قول ¬

_ (¬1) الأعمال والوظائف، وأثر الظروف المعيشية في الغرب في حلها وحرمتها، بحث للدكتور، محمد عثمان شبير، مقدم إلى الدورة الرابعة لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا بالقاهرة 2006 م، (2/ 162 - 163). (¬2) فقه الموازنات والترجيح، عموم البلوى، بحث للدكتور وهبة الزحيلي، مقدم إلى الدورة الرابعة لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، القاهرة 2006 م، (2/ 206). (¬3) الأشباه والنظائر، لابن السبكي، (1/ 135)، والمنثور في القواعد، للزركشي، (2/ 167)، والأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 138).

الضابط الثاني: تحقق فقد الوسائل المشروعة في دفع الضرورة

جمهور أهل العلم (¬1) خلافًا للحنفية. وهكذا كل فعل محرم لا تستباح به الرخص؛ وفاقًا للجمهور وخلافًا للحنفية (¬2). قال ابن العربي: "ما أظن أحدًا يقول بالإباحة، فإن قاله فهو مخطئ قطعًا" (¬3). الضابط الثاني: تحقق فقد الوسائل المشروعة في دفع الضرورة: والمراد أن يتعين ارتكاب النهي الشرعي، أو مخالفة الأمر الشرعي طريقًا لدفع الضرورة ورفع الاضطرار، ومتى أمكن المكلف أن يزيل الضرر بوسيلة مباحة امتنع عليه أن يرتكب المحظور. فلو أن إنسانًا اضطر إلى المال لم يكن له أن يلجأ إلى من يقرضه بالربا من بنك أو غيره حتى يعدم كل سبيل مشروعة للقرض الحسن، أو الكسب الطيب. ولو وَجد الجائع طعامًا لدى آخر لم يجز له أن يأكل الميتة، فإن امتنع صاحب الطعام من بيعه كان له أن يأخذه؛ لسد جوعته جبرًا على صاحبه بقيمته (¬4). وهذا وغيره من الأمثلة يدل على فقهها قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الرجل الذي عنده ناقة لغيره، فقالت امرأته: قم ¬

_ (¬1) المدونة، لمالك بن أنس، تحقيق: زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت، (3/ 436)، المغني، لابن قدامة، (8/ 133)، أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (1/ 570 - 573)، كشاف القناع، للبهوتي، (3/ 559). (¬2) جاء في تيسير التحرير حكاية اختلاف الفقهاء في المسألة بين الحنفية والجمهور: ولا يمنع سفر المعصية من قطع الطريق أو غيره الرخصةَ عند أصحابنا، وقال الأئمة الثلاثة: يمنع؛ لأن الرخصة نعمة فلا تنال بالمعصية، ولقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، أناط رخصة أكل الميتة بالاضطرار بشرط كونه غير باغ، أي: خارج على الإمام، ولا عادٍ، أي: ظالم للمسلمين بقطع الطريق، فيبقى في غير هذه الحالة على أصل الحرمة: فكذا سائر الرخص بالقياس، أو بدلالة النص، أو بالإجماع على عدم الفصل، ولأصحابنا إطلاق نصوص الرخص بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، انظر: تيسير التحرير، لأمير بادشاه، (2/ 440). (¬3) أحكام القرآن، لابن العربي (1/ 85) بتصرف يسير. (¬4) نظرية الضرورة الشرعية، د. وهبة الزحيلي، (ص 66).

فانحرها فأبى، فنفقت، فقالت: اسلخها حتى نقدِّد شحمها ولحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه فسأله فقال - صلى الله عليه وسلم -: "هل عندك غنى يغنيك؟ " قال: لا، قال: "فكلوها" (¬1). ويدل لهذا أيضًا عدد من القواعد الفقهية التي تقرر هذا المعنى، ومن ذلك: "الضرر يدفع بقدر الإمكان" (¬2). فالأصل في الضرر أن يزال بالكلية، فإن لم تمكن إزالته بالكلية، فيزال المقدور عليه، أو يترك على حاله. كالمغصوب يُردُّ بحاله إن كان قائمًا سليمًا، أو معيبًا وأرش النقص معه، فإن كان هالكًا فيُرَدُّ مثله إن كان مثليًّا، أو قيمته إن كان قيميًّا. ومن تلك القواعد الفقهية -أيضًا-: "الميسور لا يسقط بالمعسور" (¬3): فما تيسر من التكاليف لا يسقط بما تعسر أداؤه، والمشقة لا تُسقط التكليف بالأمور المستطاعة، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وقال سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين: "صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب" (¬4). وبالجملة فإنه: متى أمكن لأحد وتيسر له الحصول على الحلال الطيب فإن حالته لا تعد من قبيل الضرورة، بل يتعين عليه في هذه الحالة أن يقتصر على هذا الحلال ويستغني به، ولا يجوز له ارتكاب شيء من الحرام (¬5). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) شرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص 207)، الوجيز، للبورنو، (ص 198). (¬3) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 159)، المنثور، للزركشي، (3/ 198)، الأشباه والنظائر، لابن السبكي، (1/ 174). (¬4) أخرجه: البخاري، كتاب تقصير الصلاة، باب: إذا لم يطق قاعدًا صلى على جنب، (1117)، من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه-. (¬5) حقيقة الضرورة الشرعية، لمحمد الجيزاني، (ص 76).

الضابط الثالث: الاقتصار في ارتكاب المحظور على أدنى قدر لرفع الضرورة

وبناءً على هذا الضابط فإنه لا يحل الاقتراض بالربا من أجل أن يبني الإنسان بيتًا متى كان قادرًا على أن يستأجر، أو كان مالكًا لبيت، ولو متواضعًا، ولا شراء سيارة بالربا؛ ليعمل عليها، ولديه عمل مباح يكفيه، ولا فتح مكتب هندسي، أو محاماة، أو عيادة طبية، أو تمويل أو توسيع محلٍّ تجاري، أو صناعي، أو زراعي. . . ونحو ذلك (¬1). كما أنه لا يجوز العدول إلى علاج محرم، إلا بعد أن لا يجد المسلم علاجًا مباحًا يحقق المطلوب. وكذا لا يحل له العدول إلى تأمين تجاري محرم، إلا بعد أن يفقد التأمين التعاوني التكافلي المشروع. وكذا لا يجوز له العدول إلى طعام محرم، أو دَخْل محرم، إلا بعد أن يفقد الحلال الطيب، فيستغني مثلًا عن الأطعمة التي تحتوي الجيلاتين المحرم بالجيلاتين المباح، وفي ذلك صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة، ونصه: "لا يحل لمسلم استعمال الخمائر والجيلاتين المأخوذة من الخنازير في الأغذية، وفي الخمائر والجيلاتين المتخذة من النباتات أو الحيوانات المذكاة شرعًا غُنية عن ذلك" (¬2). الضابط الثالث: الاقتصار في ارتكاب المحظور على أدنى قدر لرفع الضرورة: وهذا الضابط يتعلق بمقدار ما ينتهك من المحرم المحظور، فيكون ما يباح أو ما يرخص فيه من المحظور مقيدًا بدفع الضرورة، ورفع الاضطرار من غير توسع، أو استرسال؛ وذلك لأن إباحة المحظور إنما جاز لحال الضرورة، فلا يجوز ما زاد عليها، ويبقى المحظور فيما زاد على أصله، وهو الحظر والمنع. فمن ذلك: أن المضطر لا يأكل من الميتة إلا قدر ما يسدُّ رمقه، ويُبقي على مهجته، ومن اضطر ¬

_ (¬1) فقه الموازنات والترجيح، د. وهبة الزحيلي، ضمن بحوث المؤتمر الرابع لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، (2/ 192). (¬2) قرار رقم (23)، الدورة الثالثة، صفر، 1407 هـ.

الضابط الرابع: الاقتصار في ارتكاب المحظور على زمن بقاء الضرورة

إلى الخمر لإزالة الغصة لم يجز له التعدي عن هذا القدر، ومن استشير في شأن خاطب أو ناكح، لم يعدل إلى التصريح متى كان التعريض بقدْحِه كافيًا؛ كأن يقول: لا يصلح لك. . . ونحو ذلك (¬1). ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173]، ففي التفسير: الباغي هو آكل الميتة فوق الحاجة، والعادي هو آكلها مع وجود غيرها، أو الباغي هو من أكلها شهوةً وتلذذًا، والعادي هو من أكل إلى حد الشبع (¬2). ومن القواعد التي دلت على هذا الضابط قاعدة: "ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها" (¬3). وكذا الحاجة تقدر بقدرها، فإذا كان الطبيب يجوز له أن ينظر من العورة بقدر ضرورة العلاج، فليس له أن يزيد عليها، وليس له أن يخلو بالمرأة الأجنبية عنه. وإذا أجاز بعض العلماء للمضطر من المغتربين في غير بلاد المسلمين أن يعمل بعمل محرم لسد رمقه، والإبقاء على نفسه، فليس له أن يبقى مستمرئًا للعمل المحظور، فضلًا عن أن يبقى متربحًا منه! وإنما ما جاز لعذر فإنه يبطل بزواله، كما سيأتي. الضابط الرابع: الاقتصار في ارتكاب المحظور على زمن بقاء الضرورة: وهذا الضابط يتعلق بزمن العمل بحكم الضرورة، فيتقيد زمن الإباحة للمحظور ببقاء الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلتها، فإذا زال العذر المبيح لانتهاك المحرم عاد الأمر إلى سابق عهده من التحريم والمنع، ولا يجوز حينئذٍ العمل بالخلف والبدل؛ إذ لا يجوز الجمع بين البدل والمبدل منه، فإذا زال المانع عاد الممنوع إلى حكمه الأول. وهذا معنى القاعدة الفقهية: "ما جاز لعذر بطل بزواله" (¬4). ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 84)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 95)، المنثور في القواعد، للزركشي، (2/ 320 - 321). (¬2) أحكام القرآن، لابن العربي، (1/ 85)، أحكام القرآن، للقرطبي، (2/ 231). (¬3) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 84)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 95). (¬4) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 85)، والأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 95)، وشرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص 189).

فالمتيمم الذي أبيح له -إذا فقد الماء أو عجز عن استعماله- أن يلجأ إلى التراب في الطهارة، فإذا وجد الماء، أو قدر على استعماله بعد التيمم فإن تيممه يبطل بزوال عذره المبيح، فإذا وُجد الماء بطل التيمم (¬1). وكل ما تجاوز عن حده انعكس إلى ضده (¬2). وإذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اتسع الأمر ضاق (¬3). والمسلم على كل حال وفي كل زمان ومكان، سواء أكان ببلاد المسلمين أم بغيرها مأمور بأن يسعى لدفع غربته، ورفع ضرورته، ومدافعة الاضطرار بعد وقوعه ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، بل هو فرض من فروض الكفاية على الأمة، وفرض متعين على كل قادر مطيق. قال ابن عبد البر: "وجملة القول في ذلك: أن المسلم إذا تعين عليه ردُّ رمق مهجة المسلم وتوجَّه الفرض في ذلك بألَّا يكون هناك غيره قضي عليه بترميق تلك المهجة الآدمية" (¬4). ومن التطبيقات ذات الصلة بحياة الأقليات: قضية ابتعاث طلبة الدراسات العليا إلى الغرب في التخصصات العلمية المتنوعة، والأصل في هذا الأمر أن الإقامة بتلك البلاد غير المسلمة جازت للضرورة، أو الحاجة التي تنزل منزلتها. فإذا احتاج أهل الإسلام لابتعاث أبناء المسلمين في تخصصات دقيقة يحتاج إليها المسلمون، وكان هذا موضع ضرورة، فلتقدر بقدرها وزمانها، فليمنع الابتعاث في غير العلوم الفنية والدقيقة فلا حاجة لابتعاث في علوم لغوية، أو أدبية، أو تاريخية، وإنما ليقتصر على العلوم التجريبية والتطبيقية، والتي لا تتأتى في ديار الإسلام (¬5). ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 83)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 93)، شرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص 163). (¬2) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 83)، الأشباه والنظائر، لا بن نجيم، (ص 93). (¬3) المراجع السابقة. (¬4) التمهيد، لابن عبد البر، (14/ 210)، تفسير القرطبي، (2/ 225 - 226). (¬5) الابتعاث ومخاطره، د. محمد الصباغ، (ص 46 - 48).

الضابط الخامس: ألا يترتب على ارتكاب المحظور وقوع مثله أو أكبر

على أنه تجدر العناية باختيار أهل الاستقامة والتدين من أولئك المبتعثين مع تحصينهم بما يحتاجون إليه، وتوعيتهم بما سيواجهون من إشكالات وتحديات، وإذا قضوا مدة من السنوات هناك فَلْتُقْضَ في كنف المراكز الإسلامية، حتى إذا انتهت أغراضهم العلمية، وقضوا مهمتهم عجَّلوا بعودتهم إلى بلادهم، من غير أن يطيلوا البقاء من غير حاجة معتبرة. الضابط الخامس: ألا يترتب على ارتكاب المحظور وقوع مثله أو أكبر: فينبغي أن يكون الضرر في المحظور الذي يحل الإقدام عليه أقلَّ من حالة الضرورة؛ إذ الضرر لا يزال بضرر مماثل له، ولا بضرر أكبر منه، وإنما يزال بضرر أدنى منه، وفي هذا نظر واعتبار للمآلات. وهذا الضابط يتعلق بتعارض المفاسد، فبقاء المفسدة حال الاضطرار يعارض ارتكاب المحظور، فأيهما كان أكبر دُفع بالأصغر، وأيهما كان أعم دفع بالأخص، وأيهما كان أعلى دفع بالأدون. وهذه كلية الشريعة العظمى وقاعدتها الكبرى، وعليها تدور السياسة الشرعية. قال ابن رجب -رحمه الله-: "إذا اجتمع للمضطر محرَّمان كل منهما لا يباح بدون الضرورة وجب تقديم أخفهما مفسدة، وأقلهما ضررًا؛ لأن الزيادة لا ضرورة إليها فلا تباح" (¬1). وبناءً على ما تقدم فإن قاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات" قد قيدت بقيدٍ مهم، وهو: "بشرط عدم نقصانها عنها" (¬2). ¬

_ (¬1) تقرير القواعد وتحرير الفوائد، لأبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ط 1، 1391 هـ - 1971 م، (ص 265). (¬2) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 84)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 94)، شرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص 185).

فالحاصل أن هذه القاعدة مقيدة بقيدين: أولهما: الإباحة المذكورة بمعنى رفع الإثم والحرج، لا بمعنى التخيير بين الفعل والترك. ثانيهما: الضرورات لا تبيح جميع المحظورات، بل هناك محظورات لا تبيحها الضرورات البتة. ويمكننا بعد مراعاة هذين القيدين صياغة معنى هذه القاعدة على هذا النحو: "الضرورات ترفع الإثم والحرج عند ارتكاب المحظورات التي دونها في المفسدة" (¬1). ومما يؤكد هذا التقييد من القواعد الفقهية: "الضرر لا يزال بمثله" (¬2). "يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام" (¬3). "يُرتكب أخف الضرر لن لدفع أعظمهما" (¬4). ومن القواعد الفقهية المتعلقة بالتدافع بين المصالح والمفاسد وغيرها مما يتصل بهذا الضابط: أن يحفظ المضطر أصول الشريعة وثوابتها، فلا تلجئه ضرورة مهما بلغت لأن يكفر بالله -مثلًا- ولا تحمله نازلة لأن يطمئن قلبه بالكفر -عياذًا بالله-؛ وذلك لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]. فلا يتصور الإكراه على شيء من أعمال القلوب (¬5). قال العز ابن عبد السلام -رحمه الله-: "ولا يتصور الإكراه بالجنان، ولا على جحد ما يجب ¬

_ (¬1) حقيقة الضرورة الشرعية، د. محمد الجيزاني، (ص 112). (¬2) الأشباه والنظائر، لابن السبكي، (1/ 53)، الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 86). (¬3) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 96)، شرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص 197). (¬4) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 87)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 96). (¬5) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 208).

الإيمان به؛ إذ لا اطلاع للمكرِه على ما يشتمل عليه الجنان من كفر وإيمان، وجحد وعرفان" (¬1). كما لا يتصور اضطرار إلى قتل نفس معصومة؛ لأن النفوس من حيث هي نفوس في مرتبة واحدة في نظر الشرع (¬2). قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33]. وكذا لا يتصور اضطرار إلى الزنا واللواط والفواحش الظاهرة والباطنة، قال سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151]، ولو كان يفعل هذا بغير المسلم، وبغير ديار الإسلام. ومما له تعلق بحياة الأقليات من التطبيقات: حرمة تولي الكفار واتخاذهم أولياء من دون المؤمنين، وإن أقام المسلم -لحاجته- بينهم، ولا يجري في ذلك اضطرار؛ لأن عقيدة الولاء والبراء موضعها القلب الذي لا سلطان لأحدٍ عليه، وليس لأحد أن يحتج على محبته القلبية لأعداء الله بما بينه وبينهم من تعامل ظاهر، وليس لأحد أن يدعي اضطرارًا في هذا الأمر، بل لا ينعقد الإيمان إلا ببغض أولياء الشيطان، وما هم عليه من باطل الأديان، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]. كما أنه ليس لأهل فلسطين -وإن بلغ العنت منهم مبلغًا- أن يصالحوا أعداء الدين على التنازل عنها نهائيًّا ولا بيعها للكافرين، ولا عقد صلح دائمٍ ومطلق، فإن وقع شيء ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 137). (¬2) شفاء الغليل، للغزالي، (ص 248).

القاعدة الثانية: الإباحة المنسوبة للضرورة، الأصل في معناها: رفع الحرج، لا التخيير

يتضمن إقرار غير المسلمين على ديار الإسلام ومقدساته، أو كان هذا الصلح دائمًا ومطلقًا فقد صار فاسداً وباطلًا. جاء في قرار لمجمع الفقه الإسلامي بالسودان: "إن المسجد الأقصى وما بارك الله حوله من فلسطين أرض إسلامية، لا يجوز التفريط في شبر منها، وإنه ليس لليهود أي حق تاريخي يبيح لهم الاستيطان فيها" (¬1). وبشكل عام فإن العمل بحكم الضرورة إنما هو حالة مؤقتة، ومسألة استثنائية، والواجب حيالها على أنواع ثلاثة: 1 - ما يجب قبل العمل بحكم الضرورة: وهو الأخذ بالبدائل المباحة والمتاحة. 2 - ما يجب أثناء الضرورة: وهو الاقتصار على القدر والوقت الذي به يرتفع الضرر فحسب. 3 - ما يجب بعد نزولها: وهو السعي إلى رفعها، وبذل الجهد في التخلص منها، وهو واجب مفروض. القاعدة الثانية: الإباحة المنسوبة للضرورة، الأصل في معناها: رفع الحرج، لا التخيير: المعنى العام للقاعدة: لا يصح اعتبار الإباحة المنسوبة إلى الضرورة بمعنى التخيير بين الفعل والترك مطلقًا؛ وذلك لأن ظاهر النصوص الشرعية يفيد رفع الحرج والجناح والإثم في الفعل فحسب، وذلك دون التخيير بين الفعل وتركه، وهو أحد فردي المباح (¬2). ذلك أن المباح عند الأصوليين يطلق بإطلاقين: ¬

_ (¬1) قرار رقم (3)، في الاجتماع الحادي والعشرين، سنة 1421 هـ. (¬2) الموافقات، للشاطبي، (1/ 140 - 141).

أولهما: ما استوى طرفاه، وهو ما خير فيه بين الفعل والترك، وهذا الإطلاق هو الأصل، والمباح بهذا الإطلاق قسيم للواجب، والمندوب، والمكروه، والحرام. والإطلاق الثاني: ما رفع فيه الحرج، وهو بهذا الإطلاق يعم الواجب، والمندوب، والمكروه، والمباح، ويسمى بالحلال، فهو قسيم للحرام، كما قال تعالى: {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [يونس: 59] (¬1). فحكم العمل بالضرورة التي تبيح المحظور هو الإباحة على معنى رفع الحرج والإثم، فلا إثم على مضطر باتفاق إذا اتقى الله تعالى في تقدير الضرورة بقدرها وزمنها. وقد قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وإذا كان الأمر كذلك فإن الإباحة بمعنى رفع الحرج قد يكون معها من الضرورات ما يقتضي إيجاب الفعل أو إيجاب الترك أو الإباحة على معنى رفع الإثم مع بقاء المحظور المرتَكَبِ على حكمه الأصلي، وهو الحرمة المؤبدة. فمثال الضرورة التي يجب فعلها: أكل الميتة لمن أشرف على الموت، ولا يجد ما يدفع به عن نفسه. فهو رخصة من جهة رفع الحرج، عزيمة من جهة الإبقاء على حياته التي أُمر بحفظها وعدم إتلافها. قال ابن قدامة: "يسمى رخصة من حيث إن فيه سعة؛ إذ لم يكلفه الله تعالى إهلاك نفسه، ولكون سبب التحريم موجودًا، وهو خبث المحل ونجاسته، ويجوز أن يسمى عزيمة من حيث وجوب العقاب بتركه، فهو من قبيل الجهتين" (¬2). فلو امتنع عن الأخذ بحكم الضرورة كان آثمًا. ¬

_ (¬1) شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (1/ 427). (¬2) روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 60 - 61).

والحكم بالوجوب تدل عليه قاعدة: "الواجب لا يترك إلا لواجب" (¬1). أو "ما كان ممنوعًا إذا جاز وجب" (¬2)، كما تدل عليه قاعدة: "للوسائل حكم المقاصد" (¬3)، و"ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" (¬4). وذلك لأن أكل الميتة قد تعين وسيلة لحفظ النفس المأمور بحفظها (¬5). ومثال الثاني -وهو الضرورة التي يجب تركها ويحرم فعلها-: قتل المسلم بغير حق، وفي هذه الحالة يترتب على ارتكاب هذا المحرم ارتكاب مثله أو أشد، وهو ما يتعارض مع ما سبق تقريره في الضابط الخامس من ضوابط الضرورة، وعلى الراجح فلا يدخل هذا تحت حقيقة الضرورة الشرعية التي تبيح ارتكاب النهي، بل يصير من قبيل جلب المفاسد لا درئها (¬6). قال ابن القيم -رحمه الله-: "كل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث- فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل" (¬7). وعليه: فإن هذا النوع من الضرورات لا تبيح المحظورات، بل هناك محظورات لا تباح البتة، وإنما تبيح الضرورات من المحظورات ما كانت رتبته وخطورته دون رتبة الضرورة، وهذا معنى قولهم -في تتمة هذه القاعدة-: بشرط عدم نقصانها عنها (¬8). وعليه فلا يكون العمل بالضرورة محرمًا بحال؛ حيث إن الضرورة الشرعية ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 148). (¬2) المنثور في القواعد، للزركشي، (3/ 146)، الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 148). (¬3) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 74)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 135). (¬4) الأشباه والنظائر، لابن السبكي، (2/ 90)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (1/ 357 - 358). (¬5) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 135). (¬6) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 86)، مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (25/ 272 - 273). (¬7) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 3). (¬8) حقيقة الضرورة الشرعية، د. محمد الجيزاني، (ص 111).

أولا: القرآن الكريم

مشروطة بألَّا يعارضها مفسدة مساوية لها، أو راجحة عليها. ومثال الضرورة التي يباح فعلها على معنى رفع الإثم والمؤاخذة: إجراء كلمة الكفر على اللسان عند الإكراه، فالعمل به عند الاضطرار جائز، ويبقى المحظور على ما هو عليه من الحرمة والحظر، ولا يصير جائزًا؛ لأن حرمته مؤبدة. فالمرفوع هو إثم المؤاخذة الأخروية من غير تخيير بين الفعل والترك، بل إن هذا المكرَه لو صبر حتى قتل لكان شهيدًا (¬1). وذلك لأن الأفضل "الامتناع مصابرةً على الدين، واقتداءً بالسلف، وقيل: إن كان ممن يتوقع منه النكاية في العدو، والقيام بأحكام الشرع، فالأفضل التلفظ لمصلحة بقائه، وإلَّا فالأفضل الامتناع" (¬2). أدلة القاعدة: من القرآن الكريم، والمعقول. أولًا: القرآن الكريم: قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]. وجه الدلالة: لم يَذكر الله في الآية تخييرًا، ولا أن له الفعل أو الترك، وإنما ذكر أن التناول حال الاضطرار يرفع الإثم. قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]. ولم يقل: فله الفطر، أو لا يفطر، أولا يجوز له، بل ذكر نفس العذر، وأشار إلى أنه إذا اضطر فعدة من أيام أخر. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص 109). (¬2) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 206 - 207).

ثانيا: المعقول

قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]. على القول بأن المراد القصر من عدد الركعات، ولم يقل: فلكم أن تقصروا، أو: فإن شئتم فاقصروا. وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]، فالتقدير: أن من أُكْرِهَ فلا غضبَ عليه، ولا عذاب يلحقه إن تكلم بكلمة الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، ولم يقل: فله أن ينطق، أو إن شاء فلينطق. وهذا بخلاف الإباحة على معنى التخيير، كما في قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، يريد كيف شئتم، مقبلة ومدبرة، وعلى جنب، فهذا تخيير واضح (¬1). ثانيًا: المعقول: لا تدخل الإباحة هنا في معنى التخيير، وإنما تُقصد على معنى رفع الحرج. لأن لفظ التخيير مفهوم من مقصد الشارع إلى تقرير الإذن في طرفي الفعل والترك، وأنهما على سواء في قصده، ورفع الحرج سكوت عنه، فليس فيه معنى التخيير (¬2). والجميع يقولون: من لم يتكلم بكلمة الكفر مع الإكراه مأجور في أعلى الدرجات، والتخيير ينافي ترجيح أحد الطرفين على الآخر، وكذلك غيره من المواضع المذكورة سواه. تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: لا يصلح باطِّراد أن تقوم حياة الأقليات، أو أن يَعتمد فقه الأقليات على جملة استثناءات، أو على فقه الظروف الطارئة، وحالات الضرورة وما ينزل منزلتها، وإن كان ¬

_ (¬1) القواعد الأصولية عند الإمام الشاطبي، د. الجيلالي، (ص 171). (¬2) الموافقات، للشاطبي، (1/ 143).

لا غنى عن مقاصد مستصحبة لحفظ الحياة الدينية للأقليات المسلمة خارج بلادها، مع مراعاة خصوصيات أوضاع الأقليات كلٌّ بحسبه، مع التطلع إلى تبليغ الرسالة ونشر الدعوة، كل ذلك من خلال مراعاة الأولويات في حدود الإمكانات الداخلية للأقليات، والظروف الخارجية المحيطة بها من مختلف الجهات. فإذا أُعملت قاعدة الضرورات، فأبيح -مثلًا- عند بعض الفقهاء، وبعض مجامع فقه الأقليات شراء مساكن عن طريق التمويل الربوي خارج ديار الإسلام، فإن هذه الإباحة لا تعني بالنسبة للأقليات سوى نفي الحرج والجناح لمن اضطر، وليس الأمر على التخيير بين الفعل والترك، بل الأصل الترك، والاقتراض الربوي حرام فوق كل أرض، وتحت كل سماء. وحري بكل مسلم أن يبحث عن مخرج شرعي له من ورطات الربا، وأن يبادر إلى التخلص من هذا الإثم والحرام، وأن يشفع ذلك بكثير من الاستغفار، فإن الحرمة باقية، وما رفع هو الإثم أو الإصر، أو المؤاخذة الأخروية. وبطبيعة الحال؛ فإن هذا الحكم المذكور يجد مشروعيته فيما لو خلت تلك الديار من مؤسسات مالية تمويلية إسلامية، يمكنها تقديم البدائل الإسلامية لقاطني هذه الديار؛ مما يعني أنه إذا كانت ثمة مؤسسات مالية إسلامية تُعنى بتقديم البدائل لهذا التمويل، فإنه يحرم على كل الأفراد التلبس بهذه الطريقة لشراء المساكن، ولا تعد مشاقهم -والحال كذلك- من المشاق التي تجلب التيسير في الحس الإسلامي، بل لا بد من الابتعاد عن هذا الكابوس الشرس الذي يقوم على امتصاص أتعاب الفقراء، والإمعان في إفقارهم، وتضييق الخناق عليهم من كل حدب وصوب. بل إن الإعراض عن شراء المساكن عبر المؤسسات المالية الإسلامية المتوافرة يعد مخالفة صارخة لتعاليم الدين الحنيف، كما يعد تعمدًا مقصودًا لارتكاب ما نهى الله عنه ورسوله في صريح الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الكريمة، فضلًا عن أن ذلك يعد إضعافًا مقصودًا

وتوهينًا عميقًا للمؤسسات المالية الإسلامية التي تحتاج إلى مزيد من تكاتف المسلمين ودعمهم إياها؛ لتنهض بالمهمة التي تنهض بها المؤسسات المالية التقليدية (¬1). يقول د. صلاح سلطان: "هذه أمثلة لا تفيد الحصر، ولا تعني أن يكون البديل هو الأخذ بالرخصة، أو ارتكاب المحرم للضرورة التي تقدر بقدرها، فبعض من أرادوا شراء بيوت وهم في موضع ثقة طلبت منهم أن يذهبوا إلى بعض الموسرين، ويشتركوا في شراء منزل ويستأجر حصتهم، ثم يكون في العقد حق شراء حصة واحد وراء الآخر بسعر يوم الشراء، وتم ذلك والحمد لله" (¬2). وإذا كانت الاعتداءات على مؤسسات وبيوت المسلمين بالهند لا تتوقف، فلا حرج فيما انتهى إليه المجمع الفقهي بالهند إلى جواز التأمين على هذه المؤسسات والبيوت، مع إقرارهم بما فيه من ربا وقمار وغرر. . . حتى يستطيع المسلمون مواصلة الحياة، وإلا شُرِّدوا (¬3). فإذا أفتى العلماء بانتفاء الحرج عن هذه المعاملة فلا غنى بالسلمين عن السعي للدفاع عن بيوتهم ومؤسساتهم بالسبل الشرعية الممكنة، فإذا زالت تلك الضرورة التي رفعت عنهم الحرج والإثم في التعامل بالتأمين التجاري المحرم؛ فإن عليهم ترك تلك المعاملات التي أُبيحت استثناءً ولظرف طارئ خاص، ولا يتقعد من ذلك حكم بالإباحة، بمعنى: التخيير واستواء الطرفين. وهكذا ينسحب الكلام على كل ما أبيح للضرورة الملجئة من مسائل الأقليات ومشكلاتها المعاصرة، وهذه القاعدة لها أهميتها في دفع تلك الضرورات، ورفع تلك الإشكالات، في مختلف المجالات المالية والاجتماعية والسياسية على حدٍّ سواء. ¬

_ (¬1) نحو منهجية رشيدة للتعامل مع مسائل الأقليات المسلمة، بحث للدكتور قطب سانو، بمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي، الدورة السادسة عشرة، عام 2005 م، دبي، (ص 19 - 20). (¬2) الضوابط المنهجية لفقه الأقليات المسلمة، بحث للدكتور صلاح سلطان، المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء عدد (4)، (ص 41). (¬3) المرجع السابق، (ص 42).

المطلب الثاني: القواعد الفقهية المتعلقة بالضرورة والحاجة

المطلب الثاني: القواعد الفقهية المتعلقة بالضرورة والحاجة: قاعدة: الحاجة تنزل منزل الضرورة: المعنى العام للقاعدة: سبق أن الشريعة ترعى الضرورات؛ لتستبقي الحياة، كما ترعى الحاجات؛ لتنفي المشقات، والتحسينيات؛ لتحقق الجمال والراحات. والضروري يقدم على ما عداه، والحاجي يقدم على التحسيني. وهذه القاعدة تتناول أثر الحاجة في الترخيص ونفي الحرج، كما تتناول العلاقة بينها وبين الضرورة. وفيما يلي شرح لكلا الجانبين: تعريف الحاجة -لغةً-: يقول ابن فارس: "إن الحاء والواو والجيم أصل واحد وهو الاضطرار إلى الشيء" (¬1). كما تأتي الحاجة بمعنى: الفقر، ومنه قولهم: الحُوج: الفقر، والمحوج: المعدِم (¬2). كما تأتي بمعنى: المأربة، أو البغية، أو الأمنيَّة، قال تعالى: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} [غافر: 80]. وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنه- مرفوعًا: "إن لله عبادًا خلقهم لحوائج الناس، يفزع الناس إليهم في حوائجهم! أولئك الآمنون يوم القيامة" (¬3). ¬

_ (¬1) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (2/ 114). (¬2) لسان العرب، لابن منظور، (3/ 379). (¬3) أخرجه: الطبراني في "المعجم الكبير" (12/ 358)، وأبو نعيم "أحمد بن عبد الله الأصبهاني في "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء"، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 4، 1405 هـ، (3/ 225)، وأبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي في "مسند الشهاب"، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1407 هـ / 1986 م، (2/ 117، 118). قال أبو نعيم: "حديث غريب من حديث زيد عن ابن عمر. . ."، وضعفه الشيخ الألباني في، "السلسلة الضعيفة" (3319).

وأصلها حائجة، وجمعها: حاج، وحوج، وحاجات. وتجمع على حوائج، كما سبق في الحديث (¬1). والحاجة -اصطلاحًا-: ذهب بعض أهل العلم إلى أن الحاجة لفظة مبهمة لا يضبط فيها قول (¬2). وعرفها الشاطبي بأنها ما يفتقر إليه من أجل التوسعة، ورفع الحرج (¬3). وتنقسم الحاجة إلى قسمين: عامة، وخاصة. أولًا: حاجة عامة: بحيث يكون الاحتياج شاملًا جميعَ الأمة بمعنى: أن الناس جميعًا يحتاجون إليها فيما يمس مصالحهم العامة من زراعة، أو صناعة، أو تجارة، أو سياسة عادلة وحكم صالح (¬4). وتسمى الحاجة العامة بالحاجة الأصولية، وربما سميت بالضرورة العامة، فهي لا تختص بفرد بعينه، ولا بفئة بخصوصها، ولا ببلد بحدوده، وعنها قال إمام الحرمين: "ما يتعلق بالحاجة العامة، ولا ينتهي إلى حدِّ الضرورة، وهذا مثل: تصحيح الإجارة، فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وضِنَّةِ مُلَّاكِها بها على سبيل العارية، فهذه حاجة ظاهرة غير بالغة مبلغ الضرورة المفروضة في البيع وغيره، ولكن حاجة الجنس قد تبلغ مبلغ ضرورة الشخص الواحد؛ من حيث إن الكافة لو منعوا عما تظهر الحاجة فيه للجنس لنال آحاد الجنس ضرار لا محالة تبلغ مبلغ الضرورة في حق الواحد، وقد يزيد أثر ¬

_ (¬1) لسان العرب، لابن منظور، (3/ 378 - 391)، القاموس المحيط، للفيروزآبادي، (1/ 183)، تاج العروس، للزبيدي، (5/ 495). (¬2) كإمام الحرمين في غياث الأمم، (ص 345). (¬3) الموافقات، للشاطبي، (2/ 10 - 11). (¬4) القواعد الفقهية الكبرى وما تفرع عنها، د. صالح بن غانم السدلان، دار بلنسية، الرياني، ط 2، 1420 هـ - 1999 م، (ص 287 - 288).

ذلك في الضرر الراجع إلى الجنس على ما ينال الآحاد بالنسبة إلى الجنس" (¬1). وأكد هذا المعنى الغزالي بعبارة أخرى، فقال: "والحاجة العامة في حق كافة الخلق تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق الشخص الواحد" (¬2). وقال ابن العربي: "القاعدة السابعة: اعتبار الحاجة في تجويز الممنوع كاعتبار الضرورة في تحليل المحرم" (¬3). ومن الأمثلة على الحاجة العامة: "مشروعية الإجارة، والجعالة، والحوالة، ونحوها، جُوِّزت على خلاف القياس؛ لما في الأولى من ورود العقد على منافعَ معدومةٍ، وفي الثانية من الجهالة، وفي الثالثة من بيع الدين بالدين، لعموم الحاجة إلى ذلك، والحاجة إذا عمت كانت كالضرورة" (¬4). ثانيًا: حاجة خاصة: وهي ما قابلت الحاجة العامة، أي: ما كانت مختصة بفرد معين، أو طائفة محصورة، أو بلد معين، أو زمن معين، وأما الشخص المحتاج إلى أمر معين في جميع الظروف والأحوال والأزمنة والأمكنة فيمكن أن تُعَدَّ حاجته حاجةً عامةً لا خاصةً (¬5)، وحكمها مؤقت، وتعتبر توسيعًا لمعنى الضرورة (¬6). ومن أمثلتها: تضبيب الإناء بالفضة؛ لإصلاح موضع الكسر، ولبس الحرير لحاجة الجرب والحكة ودفع القمل، والأكل من الغنيمة في دار الحرب، ولا يشترط للآكل أن يكون معه غيره (¬7). والمقصود بالقاعدة أن الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة في كونها تبيح المحظور. ¬

_ (¬1) البرهان، للجويني، (2/ 924). (¬2) شفاء الغليل، للغزالي، (ص 246). (¬3) القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، لأبي بكر محمد بن ولد كريم، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1992 م، (2/ 790). (¬4) الأشباه والنظائز، للسيوطي، (ص 88). (¬5) قاعدة المشقة تجلب التيسير، د. يعقوب الباحسين، (ص 506). (¬6) صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 200). (¬7) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 88)، المنثور في القواعد، للزركشي، (2/ 25 - 26).

بين الحاجة الأصولية والضرورة

وعن هذا المعنى عبَّر الزركشي تفصيلًا، فقال: "الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الناس" (¬1)، وهذه هي الحاجة الأصولية. ثم قال: "الحاجة الخاصة تبيح المحظور" (¬2). وهذه هي الحاجة الفقهية التي تلحق في المعنى بالضرورة؛ وجمعًا بين الحاجة العامة والخاصة قيل في نص القاعدة: "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة" (¬3). بين الحاجة الأصولية والضرورة: والمقصود بالحاجة هنا الحاجة الأصولية، بدليل بقاء حكمها واستمراره بدون احتياج لتحققها في آحاد أفرادها. وهي الحاجيات عند الأصوليين على ما قرره الشاطبي بقوله: "ما يفتقر إليها من حيث التوسعة، ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، وإذا لم تُرَاعَ دخل على المكلفين -على الجملة- الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة، وهي جارية في العبادات، والعادات، والمعاملات، والجنايات" (¬4). وهل الحاجة تنزل منزله الضرورة بإطلاق؟ هذا يحتاج إلى معرفة الفرق بين الحاجة والضرورة، ومدى اعتبار أن الحاجة قائمة مقام الضرورة بصفة مطلقة. ومن المتفق عليه أن الحاجة والضرورة قد يطلقان لغةً بمعنى واحد، وهو ¬

_ (¬1) المنثور في القواعد، للزركشي، (2/ 24). (¬2) المرجع السابق، (2/ 25). (¬3) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 88). (¬4) الموافقات، للشاطبي، (2/ 10 - 11).

الاضطرار، والافتقار، ونحوهما. ومن الجهة الاصطلاحية فكلا المصطلحين يتعلقان بمعنى واحد، وهو المشقة، وكل منهما يستدعي التيسير والتخفيف. ولأجل هذا بُنيت قواعد فقهية متعددة، ومتفرعة على القاعدة الكلية الكبرى: "المشقة تجلب التيسير" ومن ذلك: - الضرورات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها. - الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة. وإذا كانا على هذا النحو من التقارب اللغوي، فهل هذا يصل إلى حدِّ التطابق الاصطلاحي؟ لو كان الأمر كذلك ما جاز التفريق بينهما بذكر قاعدتين منفصلتين، ولكان الأصوب أن يقال: الضرورات والحاجات تبيح المحظورات. لكن الصواب أن الحاجة لا يمكن اعتبارها قائمةً مقامَ الضرورة اصطلاحًا، ومطابقةً لمعناها ومؤديةً لمقتضاها تمامَ المطابقة والاقتضاء. والأصل أن الضرورات وحدها هي التي تبيح المحظورات، وأن هذا الحكم لا ينسحب على الحاجات، وقد قال الشافعي -رحمه الله-: "وليس يحل بالحاجة محرم إلَّا في الضرورات" (¬1). وقال أيضًا: "الحاجة لا تحق لأحد أن يأخذ مال غيره" (¬2). وإذا كان الأمر كذلك فإن المصالح الحاجية لا تبيح ما تبيحه المصالح الضرورية، وذلك مبني على أن المشقة الحاصلة في الثانية أفدح منها في الأولى، حتى يطلق على المصالح الضرورية أنها من باب درء المفاسد، كما يطلق على المصالح الحاجية أنها من باب جلب المصالح (¬3). ¬

_ (¬1) الأم، للشافعي، (4/ 52). (¬2) الأم، للشافعي، (3/ 194). (¬3) منهج التشريع الإسلامي وحكمته، للشنقيطي، (ص 16 - 24)، حقيقة الضرورة الشرعية، د. الجيزاني، (ص 47 - 48).

وأكثر العلماء رأوا أن المصالح الحاجية لا يترتب عليها حكم (¬1). قال الطوفي (¬2): "لا يجوز للمجتهد أنه كلما لاح له مصلحة تحسينية أو حاجية اعتبرها ورتب عليها الأحكام حتى يجد لاعتبارها شاهدًا من جنسها" (¬3). وقال ابن قدامة: "فهذان الضربان (يعني: ما يقع في الحاجيات والتحسينيات) لا نعلم خلافًا في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل، فإنه لو جاز ذلك كان وضعًا للشرع بالرأي، ولما احتجنا إلى بعثة الرسل" (¬4). وذلك "لأن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدًا بما هو جارٍ على أصولها، وليس تتبع الرخص، ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها" (¬5). فالترخص بارتكاب الحرام القطعي وإباحته لا بد فيه من أعلى الرتب التي تبيح المخالفة للنص، وتحقق الاستثناء منه. قال القرافي: "الفرق الحادي والثلاثون والمائة: بين قاعدة الانتقال من الحرمة إلى الإباحة، ويشترط فيها أعلى الرتب، وبين قاعدة الانتقال من الإباحة إلى الحرمة يكفي لها أيسر الأسباب" (¬6). فالحاجة ليست من أعلى الرتب، بخلاف الضرورة التي تبيح ارتكاب النهي الذي ¬

_ (¬1) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، لابن بيه، (ص 205). (¬2) أبو الربيع، نجم الدين، سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد، الصرصري ثم البغدادي الفقيه الأصولي، الطوفي الحنبلي المشارك في كثير من العلوم، من تصانيفه: الإكسير في قواعد التفسير، وشرح أربعين النووي، ومقدمة في علم الفرائض، ومختصر الروضة وشرحه، ولد سنة بضع وسبعين وسبعمائة من الهجرة، وتوفي سنة 716 هـ. الذيل على طبقات الحنابلة، لعبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، تحقيق: د. عبد الرحمن ابن سليمان العثيمين، مكتبة العبيكان، ط 1، 1425 هـ - 2005 م، (4/ 404)، المقصد الأرشد، لابن مفلح، (1/ 425). (¬3) شرح مختصر الروضة، للطوفي، (3/ 207). (¬4) روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 170). (¬5) الموافقات، للشاطبي، (4/ 145). (¬6) الفروق، للقرافي، (3/ 813).

يدل على الحرمة غالبًا، والتحريم على رتب أيضًا، فمنه ما يحرم تحريم المقاصد، ومنه ما يكون تحريم وسائل وذرائع، والأول أشدُّ من الثاني. يقول القرافي: "موارد الأحكام على قسمين؛ مقاصد: وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد" (¬1). وعليه: فإن النص الدال على التحريم لا يُعارَض إلَّا بالضرورة، ولا تقوى الحاجة -في الأصل- على معارضته، بل الحاجة لا تؤثِّر حيث يوجد نص بخلافها، ولا تعتبر عندئذٍ. يقول ابن نجيم: "المشقة والحرج إنما يعتبران في موضعٍ لا نص فيه، وأما مع النص بخلافه فلا؛ ولذا قال أبو حنيفة ومحمد -رحمهما الله- بحرمة رعي حشيش الحرم المكي وقطعه إلَّا الإذخر" (¬2). وعليه: فيمكن أن نرصد بين الضرورة والحاجة التي تنزل منزلة الضرورة الفروق التالية: 1 - الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة ليس فيها مخالفة لنص معين غالبًا. أما الضرورة فإنها من قبيل الأحكام الاستثنائية التي وردت على خلاف النص. ولذلك فالحاجة -غالبًا- إنما تعتبر في موضع لا نص فيه بخلاف الضرورة، فإنها تعتبر ولا بد في موضع النص. فالضرورة تُعْرَفُ بمعارضتها للنص ومخالفتها له، والحاجة تجري على وفق النص ولا تقوى على معارضته. 2 - وقد انبنى على هذا الفرق أثر كبير؛ حيث إن الترخص لأجل الضرورة مشروط ومقيد بزمن محدد، وحالٍ معينة، وهي حال قيام العذر، كأكل الميتة لمن أشرف على الهلكة. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (2/ 451). (¬2) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 93).

أما الترخص لأجل الحاجة فإنه يأخذ صفة الدوام والاستمرار -غالبًا-، ويكون لكل أحد، وينتفع به المحتاج وغيره. 3 - النصوص التي شرعت ما يتعلق بالضرورة من استثناء، ويرتبط بها من أحكام، نصوص واضحة محددة، تتعلق برفع حرج وشدة من نوع خاص، كآيات إباحة الميتة للمضطر، والنطق بكلمة الكفر للمكرَه، في حين أن النصوص التي شرعت ما يتعلق بالحاجة من أحكام تتعلق برفع الحرج بصفة عامة، فهي أعمُّ من نصوص الضرورة، وأقلُّ تحديدًا، كنصوص إباحة السَّلَم والإجارة ونحوها. 4 - الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة في المعنى الفقهي تختص بارتكاب منهي ضعف دليله، وتدنَّت مرتبته في سُلَّم المنهيات، وهو ما يعرف بالمحرم لغيره، وما كان تحريمه من باب تحريم الوسائل لا المقاصد، وهو ما يعبر عنه بقولهم: ما فهي عنه سدًّا للذريعة. بخلاف الضرورة فإنها تبيح ارتكاب المحرم لغيره، وتبيح ارتكاب المحرم لذاته، وهو ما نهي عنه وحرم تحريم المقاصد، ومن القواعد: ما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة (¬1). ومعلوم أن ما حرم سدًّا للذريعة أخفُّ مما حرم تحريم المقاصد (¬2). قال ابن القيم: "وما حرم سدًّا للذريعة أُبيح للمصلحة الراجحة، كما أُبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أُبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أُبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب والمعامل من جملة النظر المحرم. ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 161)، زاد المعاد، لابن القيم، (3/ 488). (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 159)، صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 228 - 229)، حقيقة الضرورة الشرعية، د. الجيزاني، (ص 54 - 56).

وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال حرم لسدِّ ذريعة التشبه بالنساء الملعون فاعله، وأُبيح منه ما تدعو إليه الحاجة" (¬1). وعليه: فإن أهم الفروق الجوهرية بين الضرورة والحاجة تتبدى في جهات ثلاث، هي: 1 - مرتبة المشقة: فهي في أعلى الرتب في حال الضرورة، ودون ذلك في حال الحاجة. 2 - مرتبة النهي: فالنهي المرتَكَبُ في حال الضرورة هو ما كان من قبيل المقاصد والوسائل، وأمَّا في حال الحاجة فيقتصر على ما هو من قبيل الوسائل، أو ما نهي عنه سدًّا للذريعة. 3 - مرتبة الدليل: فما ارتبط بالضرورة من أدلة كانت واضحة ومحددة، تتعلق برفع حرج من نوع خاص، وما ارتبط بالحاجة فكانت الأدلة أعم منها في حال الضرورة، وتعلقت برفع الحرج إجمالًا. وبناءً على هذا فإن الحاجات لا تبيح ما كان النهي فيه قويًّا، أو من باب المقاصد، وهذا لا يجعل قولهم: "الحاجة تنزل منزلة الضرورة" مطَّردًا. وعلاوةً على ذلك فإن الحاجة لا ترفع النص، ولا تُوقف العملَ به، كما في الضرورة، وغاية مجالها هو: تخصيص العموم عند من يراها، وبخاصة ما كان تناوله بالعموم ضعيفًا، وقد تُخالف قياسًا، أو تَستثني من قاعدة فقهية. والحق أنها تخصص استنادًا للاستصلاح أو الاستحسان الذي يعتمد على الحاجة (¬2). وبالجملة فإن ما ذكر من الحاجة التي تبيح المحرم إنما هي في حقيقتها توسع في معنى الضرورة وزيادة في نطاقها لا غير، حيث يشترط في تلك الحاجة المبيحة أن تكون موصوفة بقدر من المشقة الزائدة والشدة الظاهرة. ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 161). (¬2) صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 231 - 232).

وذلك بأن يعم البلاء بهذه الحاجة ويكثر، أو يجري عليها تعامل، أو يكون لها نظير في الشرع يمكن إلحاقها به، واشترط أيضًا أن تكون الحاجة مؤقتة غير دائمة؛ ذلك أن الحاجة منها ما يلتحق بالضرورة في كونها تقدر بقدرها، مثل: خروج المعتكف من المسجد لحاجته، ونظر الطبيب إلى عورة المريض إذا دعت حاجة إلى ذلك (¬1). ولأجل هذا المعنى قسَّم بعضُ العلماء الحاجةَ إلى عادية: لا تبيح ارتكاب المحظور الشرعي، وضرورية وهي التي تنزل منزلة الضرورة في إباحة ارتكاب النهي (¬2). ومن ثَمَّ قُسِّمت الحاجة الضرورية إلى نوعين: مؤقتة، ودائمة. فالدائمة هي الحاجة العامة للمحتاج وغيره، مثل: إباحة السَّلَم، والإجارة، فهذا النوع لا يُقدَّر بقدره، وهذا ما قد يسميه بعض العلماء بالمعدول به عن القياس، أو المخالف للقياس، وليس ثمة إباحةٌ لمنهيٍّ أو ارتكابٌ للنهي. وأما الحاجة المؤقتة فهي المقيدة بسبب خاص، وتعلقت بمحتاج دون غيره، كاطلاع الطبيب على عورة مريض، أو مداواة الرجل للنساء والعكس، وخروج المعتكف لحاجة، فهذا النوع ينزل منزلة الضرورة، وعليه فلا تزيد هذه الحاجة عن أن تكون توسيعًا لمعنى الضرورة الفقهية المبيحة للمحظور. وتلخيصاً لما تقدم يمكن أن يقال: إن الضرورة والحاجة لها معنيان: أصولي، وفقهي، على النحو التالي: فالضرورة في معناها الأصولي: كلي ينتظم الأحكام التي بها قوام الأديان والأبدان. والضرورة في معناها الفقهي: شدة وضيق في المرتبة القصوى تبيح المحرم. والحاجة في معناها الأصولي: كلي أَورث عدمُ اعتباره مشقةً وحرجًا للعامة، وأدَّى ¬

_ (¬1) حقيقة الضرورة الشرعية، د. الجيزاني، (ص 51 - 52). (¬2) الحاجة الشرعية حدودها وقواعدها، لأحمد كافي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1424 هـ، (ص 51 - 52).

تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات

اعتباره إلى سهولة ويسر، فكان أصلًا لعقود منصوصة حادت عن قياس، أو خرجت عن قاعدة كلية، أو أدى إليها اجتهاد مجتهد استصلاحًا أو استحسانًا. والحاجة في معناها الفقهي: تلحق بالضرورة في معناها الفقهي في إباحة منهي ضعف دليله، وتدنت مرتبته في سُلَّمِ المنهيات (¬1). ويُمَثَّلُ للحاجة في المعنى الأصولي: ببيع العرايا والسَّلَمِ، والجمع بين المغرب والعشاء للمطر، وجمع المسافر، وصلاة الخوف، وتضمين الأجير المشترك، وجواز تلاوة الحائض للقرآن إذا خشيت النسيان (¬2). ويُمَثَّلُ للحاجة في المعنى الفقهي: بصحة بيع الثمر قبل بدو صلاحه بشرط قطعه، فهذه حاجة فقهية، والأصل عدم الجواز قبل بدو الصلاح، فلما احتيج وشرط القطع جاز، وهذا بخلاف السَّلَمِ فإنه جائز مطلقًا ولكل أحد، أما بيع الثمر قبل بدو الصلاح فأمر خاص بمن احتاج إليه، وهو توسع في معنى الضرورة الفقهية (¬3). تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: جمهور الفقهاء يرون أن يهجر المسلم دار الكفر، وألَّا يقيم إقامة دائمة إلا بين المسلمين الذين يتحاكمون إلى الإِسلام ويحكمون به؛ وذلك لأن الإقامة بغير دار المسلمين تنشأ عنها نوازل متعددة، منها: ما يمس المعاملات، ومنها: ما يمس المناكحات، ومنها: ما يمس الولايات، وهكذا الأمر حين يغيب سلطان الشريعة عن البلاد والعباد. ¬

_ (¬1) صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 228). (¬2) الموافقات، للشاطبي، (4/ 206 - 207). (¬3) صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 214 - 215).

وإذا كان من الفقهاء من أباح الإقامة بدار كفر إذا قدر المسلم على إظهار دينه (¬1)، مستدلين ببقاء النجاشي المسلم في قومه (¬2)، وبأدلة أخرى سوف تأتي في موضعها بمشيئة الله، إلَّا أن هذا الخلاف إنما يتأتى إذا كان قادرًا على إظهار دينه وممارسة عبادته، أمَّا إذا كان مدعوًّا للانسلاخ من دينه بالكلية والفتنة في عقيدته، والصد عن عبادته، فتحرم عندئذٍ الإقامة، وتجب الهجرة إلى مكان خير من مكانه. ويتأكد طلب الخروج من ديار الكفار إذا كان المسلم المقيم لا يستطيع تربية أبنائه تربية إسلامية، أو كان بيته مهددًا بالتحلل الخلقي، ووجد سبيلًا إلى الإقامة في بلد إسلامي فيه بقية من أخلاقه؛ فالعبرة في الموازنة بين البلدان من حيث الصلاح والفساد (¬3). وقد توجد حاجات شديدة تدعو إلى الإقامة في بلاد القوم، لمن لم يجد سبيلًا إلى الإقامة في بلد إسلامي فيه بقية من أخلاق أو أمان بالنسبة له. أو تلجئ حاجة طبية أو غيرها إلى إقامة ولو مؤقتة، فتباح عندئذٍ الإقامة، وربما جازت الجنسية في أحوال معينة أخرى، بناءً على تنزيل الحاجة الشديدة والمشقة الكبيرة منزله الضرورة. ولتحقيق هذا القدر من إقامة الدين والأمن على الأنفس والأموال في غير بلاد المسلمين تمس حاجة إلى مشاركة سياسية، وأخرى اجتماعية، وثالثة اقتصادية. ومن أجل رفع تلك المشقات، وتلبية تلك الاحتياجات وُجِدَ من يبيح تلك المشاركات السياسية بضوابط شرعية وواقعية (¬4). ¬

_ (¬1) فتح الباري، لابن حجر، (7/ 229 - 230)، الفتاوي الحديثية، لشهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي، دار الفكر، (ص 204). (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب: موت النجاشي (3877) من حديث جابر -رضي الله عنه-. (¬3) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، لابن بيه، (ص 284). (¬4) ينظر: قرار المجلس الأوروبي للإفتاء رقم (5/ 16) بتاريخ 1427 هـ - 2006 م.

كما وُجِدَ من يتعامل مع مبدأ المواطنة؛ ليقرر أن الولاء للوطن ليس منافيًا للولاء للدين في حدود الضوابط الشرعية الممكنة (¬1). كما وُجدت فتاوي تعطي المراكز الإسلامية في غير بلاد المسلمين ولاية شرعية جزئية في قضايا الأقليات، بناءً على القول بقيام جماعة المسلمين مقام القاضي، وهي قاعدة معروفة عند المالكية (¬2). وهي تقابل نظرية ولاية أهل الحل والعقد عند علماء السياسة الشرعية. كما أبيحت أنواع من الأعمال في قطاعات متعددة؛ كالقطاع التجاري الخاص، أو القطاعات الرسمية الحكومية، وذلك كله بالنظر إلى قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة، ورعاية هذه المشقات الكبيرة التي يتعرض لها أهلُ الإسلامِ المقيمون في غير بلاده. ¬

_ (¬1) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، لابن بيه، (ص 306). (¬2) مواهب الجليل، للحطاب، (5/ 495)، المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد 10 - 11، الجزء الثاني، (ص 305).

المبحث الخامس القواعد المتعلقة بالمقاصد

المبحث الخامس القواعد المتعلقة بالمقاصد ويُعْنَى بالمقاصد: المقاصد الشرعية ومقاصد المكلفين في الأفعال. المطلب الأولى: القواعد الأصولية والمقاصدية المتعلقة بالمقاصد: القاعدة الأولى: وضع الشريعة إنما هو لحفظ مقاصدها بإقامة مصالح العباد في العاجل والآجل (¬1): المعنى العام للقاعدة: يحسن قبل عرض معنى القاعدة التعرف على معنى مقاصد الشريعة، وبعد ذلك التعرض لمعنى المصالح بشيء من التفصيل. المقاصد -لغة-: جمع مقصد، والمقصد: مصدر ميمي مشتق من الفعل قصد، فيقال: قصد يقصد قصدًا، ومقصدًا، وعليه: فإن المقصد له معانٍ لغويةٌ كثيرةٌ، منها: الأمُّ، الاعتماد، والتوجه، واستقامة الطريق، قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9]. ومنها: التوسط وعدم الإفراط والتفريط، قال تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19] (¬2). وفي الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: "القصدَ القصدَ تبلغوا" (¬3). ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 6)، المستصفى، للغزالي، (ص 174)، الإحكام، للآمدي، (3/ 300). (¬2) المصباح المنير، للفيومي، (2/ 504 - 505)، المعجم الوسيط، (2/ 738). (¬3) قطعة من حديث أخرجه: البخاري، كتاب الرقاق، باب: القصد والمداومة على العمل، (6463)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لن ينَجِّي أحدًا منكم عمله"، قالوا: ولا أنت =

والمقاصد -اصطلاحًا-: لم يوجد عند العلماء الأوائل تعريف واضح ودقيق لمقاصد الشريعة، وإنما وجدت كلمات وجمل لها تعلق ببعض أنواعها وأقسامها، وببعض تعبيراتها ومرادفاتها، وبأمثلتها وتطبيقاتها، وبحجيتها وحقيقتها. فقد ذكروا الكليات المقاصدية الخمس: "حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل أو النسب، والمال"، وذكروا المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية. وذكروا بعض الحكم والأسرار والعلل المتصلة بأحكامها وأدلتها، وذكروا أدلة من المنقول والمعقول دالة على حقيقة المقاصد، وحجيتها، ووجوب مراعاتها، والاعتماد عليها بشروط معينة، وضوابط مقررة، وبدون الخروج عن الشرع أو معارضة أدلته ومصادمة تعاليمه وقواعده وأصوله. كما أنهم عبروا عن المقاصد بتعبيرات كثيرة دلت في مجملها بالتصريح والتلميح على التفاوت بين هؤلاء الأعلام في مراعاة المقاصد واستحضارها عملية فهم النصوص والأحكام، والاجتهاد فيها، والترجيح بينها. ومن تلك التعبيرات والاشتقاقات: المصلحة، والحكمة، والعلة، والمنفعة، والمفسدة، والأغراض، والغايات، والأهداف والمرامي، والأسرار، والمعاني، والمراد، ونفي الضرر والأذى، وغير ذلك مما هو مبثوث في مصادره ومظانه (¬1). ومع أن الإمام الشاطبي يعد أول من أفرد المقاصد الشرعية بالتأليف، وتوسع فيها ¬

_ = يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا". وأخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، (2818)، إلا أنه ليس عنده موضع الشاهد، ولفظه: "سددوا وقاربوا وأبشروا؛ فإنه لن يُدخِل الجنةَ أحدًا عملُه. . ." الحديث. (¬1) علم المقاصد الشرعية، د. نور الدين الخادمي، مكتبة العبيكان، الرياض، ط 1، 1421 هـ، (ص 14 - 15) طرق الكشف عن مقاصد الشارع، د. نعمان جغيم، (ص 25).

تعريف العلماء المعاصرين للمقاصد

بما لم يحصل لأحد قبله، إلا أنه لم يورد اصطلاحًا خاصًّا في تعريفها وضبطها، ولعله لم يشأ التقيد بالحدود المنطقية، ويؤيد ذلك انتقاده لنظرية الحد عن المناطقة. تعريف العلماء المعاصرين للمقاصد: لقد حظيت مقاصد الشريعة في العصر الحديث، بعناية خاصة من قبل المعاصرين؛ وذلك لأهميتها ودورها في الاجتهاد الفقهي، وفي معالجة قضايا الحياة المعاصرة في ضوء الأدلة والنصوص، والقواعد الشرعية، وكان من ضروب هذا الاعتناء: تدوين المقاصد وتأليفها واعتبارها علمًا شرعيًّا وفنًّا أصوليًّا له كسائر العلوم والفنون تعريفاته ومصطلحاته وتقسيماته، وغير ذلك. وقد وردت عدة تعريفات معاصرة نوردها فيما يلي: 1 - عرف الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور المقاصد بأنها: "المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة، وغاياتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها. . . ويدخل في هذا معانٍ من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها" (¬1). وعرفها الشيخ علال الفاسي بقوله: "المراد بمقاصد الشريعة الإسلامية: الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها" (¬2). وعرفها فضيلة الدكتور أحمد الريسوني بقوله: "إن مقاصد الشريعة هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد" (¬3). ¬

_ (¬1) مقاصد الشريعة، لابن عاشور، (ص 51). (¬2) مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، لعلال الفاسي، (ص 3). (¬3) نظرية المقاصد عند الشاطبي، د. أحمد الريسوني، (ص 7).

وعرفها فضيلة الدكتور محمد اليوبي بقوله: "هي المعاني والحكم ونحوها التي راعاها الشارع في التشريع عمومًا وخصوصًا من أجل تحقيق مصالح العباد" (¬1). كما عرفها فضيلة الدكتور نور الدين الخادمي بأنها: "المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية، والمترتبة عليها، سواء أكانت تلك المعاني حكمًا جزئية، أم مصالح كلية، أم سمات إجمالية، وهي تتجمع ضمن هدف واحد، هو: تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين" (¬2). وظاهر من التعريفات السابقة أن المقاصد تعني: الأهداف، والغايات، والحكم العليا من وضع الشريعة، وسن الأحكام في العاجل والآجل. والوقوف على المقاصد العامة للشريعة نافع مفيد في جهات كثيرة، ومجالات عديدة، من ذلك: أن يكون قصد المكلف موافقًا لقصد التشريع، وفي ذلك تحقيق العبودية لله بما يريده الله. والمقاصد الشرعية تنحصر في أقسام ثلاثة: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات. والضروريات: هي كليات تنتظم الأحكام التي بها قوام الأديان والأبدان (¬3). أو يقال: إنها ما ينتظم المحافظة على ضرورات الحياة الخمس من جهة الوجود، ومن جهة العدم (¬4). وحفظ الشريعة للمصالح الضرورية وغيرها يتم على وجهين يكمل أحدهما الآخر، وهما: حفظها من جانب الوجود، وذلك بشرع ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها. ¬

_ (¬1) مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، د. محمد سعد اليوبي، دار الهجرة، الرياض، ط 1، 1418 هـ - 1998 م، (ص 37). (¬2) علم المقاصد الشرعية، د. نور الدين الخادمي، (ص 17). (¬3) صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 228). (¬4) المرجع السابق، (ص 243).

حفظها من جانب العدم، وذلك بشرع ما يدرأ عنها الاختلال الواقع، أو المتوقع فيها (¬1). والضروريات أصل للحاجيات والتحسينيات. أما الحاجيات: فهي كليات أورث عدم اعتبارها مشقةً وحرجًا للخلق عامة، وأدَّى اعتبارها إلى يسر وسهولة (¬2). والحاجيات رتبة متأخرة عن الضروريات، فما كان من قبيل الضروريات فهو أرفع رتبة مما هو من قبيل الحاجيات تأصيلًا وتعليلًا، فالحاجيات مثلًا لا تؤثر فيما ثبت فيه النهي بأدلة قوية، كتحريم الميتة والخمر والخنزير، وإنما الذي يؤثر فيها هو الضروريات. والحاجيات تؤثر في مرتبة المنهيات التي لا توصف بأنها في أعلى رتب المنهيات؛ إذ إن محرمات المقاصد ليست في الحرمة كمحرمات الوسائل والذرائع. وأما التحسينيات: فهي كليات أورث عدم اعتبارها غياب المكرمات، واستقباح الحياة، وأدى اعتبارها إلى تحصيل الكمالات في الأمور الدينية والدنيوية. ورتبة التحسينيات دون رتبة الحاجيات؛ لأنه بفوات التحسينيات لا يترتب حرج، أو إعنات، وإنما تصبح الحياة مستقبحة في نظر العقول الراجحة، والنفوس الكريمة، فهي بمثابة المكمل للحاجيات، والحاجيات بمثابة المكمل للضروريات. وبمعرفة هذه المقاصد يتبين للمسلم مقدار ما حققه منها، فيزداد إيمانًا وتمسكًا بشريعته، وفي حال نقصه يعمل على استدراك ما فرَّط فيه، وتحقيق هذه المقاصد التي جُعلت سببًا للفوز في الدارين. تعريف المصالح -لغة-: المصالح: جمع مصلحة، وهي مصدر ميمي من صلُح يصلُح، ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 8). (¬2) صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 228).

وهي ضد المفسدة، والصلاح ضد الفساد، ويقال: المصلحة كالمنفعة وزنًا ومعنًى (¬1). تعريف المصلحة -اصطلاحًا-: المصالح هي: اللذات وأسبابها، والمفاسد: الآلام وأسبابها، أو الأضرار وأسبابها (¬2)، فتكون المصلحة متمثلة في جلب المنافع وما يوصل إليها، وتكون المفسدة متمثلة في درء الآلام والأضرار وما يوصل إليها (¬3). ويقول الرازي (¬4): "المصلحة لا معنى لها إلا اللذة، أو ما يكون وسيلة إليها، والمفسدة لا معنى لها إلا الألم، أو ما يكون وسيلة إليه" (¬5). وهذه المنفعة لا تقتصر على كونها مادية، بل قد تكون معنوية كذلك، وهو ما ينبه عليه الشاطبي بقوله: "أعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان وتمام عيشه، ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق، حتى يكون منعمًا على الإطلاق" (¬6). فقوله: ما تقتضيه أوصافه الشهوانية إشارة إلى الجانب المادي للمصلحة. وقوله: والعقلية، تنبيه إلى الجانب المعنوي للمصلحة أيضًا. وقال الشوكاني: "قال الخوارزمي والمراد بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق" (¬7). ¬

_ (¬1) المصباح المنير، للفيومي، (1/ 345)، القاموس المحيط، (1/ 233). (¬2) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 15). (¬3) المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالم، المعهد العالمي للفكر الإِسلامي، ط 2، 1415 هـ - 1994 م، (136 - 137). (¬4) محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التيمي البكري الرازي الشافعي، أبو عبد الله الملقب فخر الدين، المعروف بابن الخطيب، الأصولي المفسر المتكلم، له تصانيف كثيرة، منها: المطالب العالية، ونهاية العقول، والأربعين، والمحصل، والمحصول في أصول الفقه، وعيون المسائل، وتأسيس التقديس، توفي 606 هـ، انظر: سير أعلام النبلاء (21/ 500)، ووفيات الأعيان (4/ 248). (¬5) المحصول، للرازي، (6/ 240). (¬6) الموافقات، للشاطبي، (2/ 25). (¬7) إرشاد الفحول، للشوكاني، (2/ 990).

وقال ابن قدامة: والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، بل بمشروعيتها (¬1). والمصالح الشرعية هي المستندة إلى الشرع وهي التي لا تعارض نصًّا ولا إجماعًا، وهي ما يشمل الدنيا والآخرة معًا، ومصلحة الدنيا في إقامة الحياة على منهج الله تعالى بإقامة الدين وبحفظ النفس والنسل والعقل والمال، ومصلحة الآخرة فبإدراك نعيم الجنة، ومرضاة الله تعالى والنجاة من النار. والمصلحة الشرعية لا تتوقف عند حدود الزمان وإنما تشمل كل زمان، وذلك "بخلاف المصلحة لدى أرباب النظم الوضعية؛ إذ يقيسون المصالح والمفاسد بمعايير ضيقة محدودة بعمر الدنيا وحدودها" (¬2). وتبين مما سبق أن المصالح الشرعية هي مقاصد الشارع ومراده، أي: أن الشارع قد قصد تلك المصالح وأراد تحصيلها بالنسبة للمكلف من خلال القيام بالأحكام الشرعية، فالقيام بالفرائض والتعاليم الدينية يؤدي إلى تحقيق مصالح عبادة الله وجلب مرضاته والفوز بجناته وإراحة وطمأنة نفس المكلف. وهذه المصالح أرادها الشارع بتشريعه الأحكام فهي مقصوده ومراده، غير أن هذه المصالح التي قصدها الشارع تعود على المكلف وتؤول إليه، وليس تؤول إلى الله. . . وعليه فإن المقاصد هي نفسها المصالح الشرعية (¬3). وهذه القاعدة التي تؤكد على ابتناء الشريعة على رعاية المقاصد والمصالح معًا، قد توافق على القول بمضمونها الأصوليون قاطبة فيما يعتبر إجماعًا فهذا العز ابن عبد السلام -رحمه الله-، يقول: ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة، (6/ 437). (¬2) ضوابط المصلحة، للبوطي، (ص 31). (¬3) علم المقاصد الشرعية، د. نور الدين الخادمي، (ص 23).

"التكاليف كلها راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وآخرتهم" (¬1). وابن تيمية -رحمه الله- يقرر هذه القاعدة بقوله: "الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها" (¬2). وعلى نفس المنوال نسج القرافي -رحمه الله- فقال: "فإن أوامر الشرع تتبع المصالح الخالصة أو الراجحة، ونواهيه تتبع المفاسد الخالصة أو الراجحة" (¬3). وقال الرازي -رحمه الله-: "إنا لما تأملنا الشرائع وجدنا الأحكام والمصالح متقارنين لا ينفك أحدهما عن الآخر، وذلك معلوم بعد استقرار أوضاع الشرائع، وإذا كان كذلك كان العلم بحصول هذا مقتضيًا ظنَّ حصولِ الآخر وبالعكس من غير أن يكون أحدهما مؤثرًا في الآخر وداعيًا إليه" (¬4). وينقل الآمدي -رحمه الله- إجماع الأئمة على تعليل الشريعة بجلب المصالح ودفع المفاسد فيقول: "وأما الإجماع فهو: أن أئمة الفقه مجمعة على أن أحكام الله لا تخلو من حكمة مقصودة، وإن اختلفوا في كون ذلك بطريق الوجوب كما قالت المعتزلة، أو بحكم الاتفاق والوقوع من غير وجوب كقول أصحابنا" (¬5). ونقل الطوفي هذا الإجماعَ، فقال: "وأما الإجماع فقد أجمع إلا من لا يعتد به من جامدي الظاهرية، على تعليل الأحكام، بالمصالح ودرء المفاسد" (¬6). وبناءً على ما سبق فإن الظاهرية هم نفاة التعليل في الأحكام الشرعية إلا ما نص فيه على ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (2/ 126). (¬2) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (1/ 265). (¬3) الفروق، للقرافي، (2/ 569). (¬4) المحصول، للرازي، (5/ 247). (¬5) الإِحكام، للآمدي، (3/ 316). (¬6) شرح حديث: لا ضرر ولا ضرار، ملحق بكتاب: المصلحة في التشريع الإسلامي، د. مصطفى زيد، عناية وتعليق: د. محمد يسري، دار اليسر، القاهرة. (ص 248).

أدلة القاعدة

علته، وذلك الموقف اعتقادي لا يقبله عامة أهل السنة حيث يرى ابن حزم أن القول بتعليل الأحكام يلزم عنه اعتقاد أن الله شرع الشرائع لعلل أوجبت عليه أن يشرعها (¬1). ثم يعود ابن حزم -رحمه الله- فيقرر أن الحكم قد يشرع لسبب، ويكون عندئذٍ سببًا بشرط أن يرد نص يفيد سببية حيث قال: "ولسنا ننكر أن يكون الله تعالى جعل بعض الأشياء سببًا لبعض ما شرع من الشرائع، بل نقر ذلك ونثبته حيث جاء به النص" (¬2). أدلة القاعدة: ولعله من المناسب أن يكون الرد على ابن حزم من خلال إقامة الأدلة على هذه القاعدة من الكتاب، والسنة، علاوة على ما سبق ذكره وتقريره من أقوال علماء الشريعة، وما نقل من الإجماع عليها. أولًا: القرآن الكريم: 1 - قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. قال الشوكاني: "أي: ما أرسلناك لعلة من العلل إلا لرحمتنا الواسعة، فإن ما بعثتَ به سبب لسعادة الدارين" (¬3). والرحمة التي جعلت علة لرسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن تقوم أو تتحقق إلا إذا كانت الشريعة نفسها مقيمة لما يحقق مصلحة المكلفين على الجملة، ومانعة لما يلحق الفساد بهم؛ إذ لا تتصور الرحمة بحال إذا لم تكفل الشريعة إقامة المصالح ومنع المفاسد (¬4). ¬

_ (¬1) الإحكام، لابن حزم، (8/ 97 - 98). (¬2) الإحكام، لابن حزم، (8/ 102). (¬3) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، دار الوفاء، المنصورة، (3/ 587). (¬4) قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، عرضًا ودراسةً وتحليلًا، د. عبد الرحمن الكيلاني، دار الفكر بدمشق، ط 1، 1421 هـ، (ص 132).

2 - قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 204، 205]. وجه الدلالة: نعيه سبحانه على المفسدين في الأرض يدل على أنه يطلب من الإنسان أن يكون تصرفه في هذا العالم موافقًا لصلاح ما تقتضيه الحكمة من خلقه. كما بين سبحانه في ختام الآية أنه لا يحب الفساد، ومفهومها أنه يحب الصلاح؛ ولذا أقام التشريع محققًا للصلاح، ومانعًا من الفساد. 3 - قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]. وجه الدلالة: إكرام بني آدم يقتضي تشريع ما فيه صلاح الإنسان، وتحصيل سعادته في الدارين. 4 - الأدلة التي فيها تعليل الأحكام بتحصيل المنافع الدينية في الدنيا والآخرة: قال تعالى في ختام آية تشريع الوضوء: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6]. وعقب تشريع الصيام: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. وعقب تشريع الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]. وتعليل العبادة بغاية التقوى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]. 5 - النص على علل الأحكام الجزئية، ومن ذلك: قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ

ثانيا: السنة المطهرة

رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32]. وقال تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]. وجه الدلالة: هذه النصوص تدل على العلية بشكل ظاهر. ثانيًا: السنة المطهرة: • ما ورد مما يدل على أن الشريعة سمحة سهلة ميسرة: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت بالحنيفية السمحة" (¬1). 2 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" (¬2). 3 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الدين يسرٌ ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه" (¬3). وجه الدلالة: هذه الأحاديث تدل على قصد الشارع مصلحةَ العباد، ولو لم يُرِدْ ذلك لما يسر عليهم، ولما رفع الحرج عنهم، ولما نفى العنت والمشقة في الدين. • النص على كثير من المقاصد والحكم للتشريعات النبوية: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر" (¬4). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب الإيمان، باب: الدين يسر، (39)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬4) أخرجه: البخاري، كتاب الاستئذان، باب: الاستئذان من أجل البصر، (6241)، ومسلم، كتاب الآداب، باب: تحريم النظر في بيت غيره، (2156)، من حديث سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: اطلع رجل من جُحر في حُجَر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - مدرى يحك به رأسه؛ فقال: "لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك! إنما جعل. . ." فذكره.

ثالثا: الإجماع

2 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّما نهَيتُكم مِن أجْلِ الدَّافَّةِ التي دَفَّتْ فكلُوا وادَّخروا وتصدَّقوا" (¬1). وجه الدلالة: تضمنت الأحاديث تنصيصًا على العلية؛ وذلك لتحقيق مصالح حفظ العورات وصيانة الحرمات، وحياطة الأعراض في الحديث الأول، وتحقيق التكافل الاجتماعي، والتواصل بين الأغنياء والفقراء في الحديث الثاني. ثالثًا: الإجماع: تقدم ما نقله الآمدي والطوفي من حصول الإجماع على تعليل الأحكام بالمصالح، واتفاق أهل السنة والسلف على ذلك، وليس بطريق الوجوب كما تقوله المعتزلة، وإنما تفضلًا منه تعالى وإحسانًا (¬2). رابعًا: الاستقراء: الناظر في الأحكام الجزئية المتعلقة برخص الصلاة والصوم والسفر والمرض والمطر يمكنه تقريرُ أمرٍ جامعٍ لتلك الأحكام وغيرها، وهذا الأمر هو التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه، ومن تتبع أحكام البيع كمنعِ بيعِ السمك في الماء، والطير في الهواء، والعبد الآبق، والجمل الشارد، وما في بطون الأمهات، وما في أعماق البحار، وبطون الأرض من كنوز ومعادن يتوصل إلى تقرير أمرٍ كليٍّ متعلق بمنع بيع المعدوم والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وعلة ذلك وحكمته إبطال الغرر والضرر والجهالة المفضية إلى أكل أموال الناس بالباطل، والمؤدية إلى حصول التنازع والخصومة (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه: مسلم، كتاب الأضاحي، باب: بيان ما كان النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في. . .، (1971)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) الإحكام، للآمدي، (3/ 316)، المصلحة في الشريعة الإسلامية، د. مصطفى زيد، (ص 248). (¬3) علم المقاصد الشرعية، د. نور الدين الخادمي، (ص 47 - 48).

خامسا: شواهد العقل والحس

خامسًا: شواهد العقل والحس: إن برهان صلاحية الشريعة قائم في الواقع فإن بقاءَها صالحةً لكل زمان ومكان وإنسان، وتطبيقها في كافة الأمصار أمرٌ يدل على انطوائها على مصالح العباد واستجابتها لحاجاتهم، وموافقتها لفطرهم السليمة، وعقولهم المستقيمة. صيغ مشابهة للقاعدة: عبَّر الشاطبي عن هذه القاعدة بتعبيرات عدة تتفق في جوهرها مع قاعدة ابتناء الشريعة على المصالح، فمن ذلك: "التكليف كله إمَّا لدرء المفاسد، وإما لجلب المصالح، أو لهما معًا، فالداخل تحته مقتضٍ لما وضعت له" (¬1). "الأعمال الشرعية غير مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخرى هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها" (¬2). "الأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح، كما أن الأسباب المشروعة أسباب للمصالح لا للمفاسد" (¬3). فكل فعل طاعة أَمَرَ به الشارع فهو سبب لتحقيق مصلحة؛ ولذلك أمر به، وكل فعل معصية نهى عنها فهو سبب لتحقيق مفسدة؛ ولذلك نهى عنه. "المفهوم من وضع الشارع أن الطاعة والمعصية تعظم بحسب عظم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها" (¬4). ¬

_ (¬1) الموفقات، للشاطبي، (1/ 199). (¬2) المرجع السابق، (2/ 385). (¬3) المرجع السابق، (2/ 237). (¬4) المرجع السابق، (2/ 298 - 299).

وهذه القاعدة الأخيرة تشير إلى أن الشارع الحكيم لم يكتفِ بأن يعلم المكلف بأن في فعله للمأمور مصلحة له وفي اقترافه للمنهيات مفسدة تلحقه، وإنما ربط المصلحة بالطاعة؛ لتكون الطاعة حافزة على القيام بالفعل الصالح، وربط المفسدة بالمعصية؛ لتكون رادعة للمكلف عن اقتراف ذلك الفعل (¬1). وقد قال العز ابن عبد السلام -رحمه الله-: "على رتب المصالح تترتب الفضائل في الدنيا والأجور في العقبى، وعلى رتب المفاسد تترتب الصغائر والكبائر وعقوبات الدنيا والآخرة" (¬2). كما تشير هذه القاعدة إلى أن المصلحة والمفسدة يرجع تقديرها والحكم عليها إلى الشارع الحكيم سبحانه، وليس إلى محض العقول أو مجرد الأهواء. فالمراد بالمصلحة ما يعتد بها شرعًا ويرتب عليها مقتضياتها (¬3) وعليه فقد ساق الشاطبي قاعدة بمثابة القيد للقاعدة التي معنا، وهي: "وضع الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد، فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع، وعلى الحد الذي حدَّه، لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم" (¬4). وليس في تقرير المصالح بالمنقول إزراء بالمعقول، فالعقل يدرك المصلحة والمفسدة، ولكنه ليس بشارع ولا حاكم، فهو مدرك للأحكام، وليس منشئًا لها، و"إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعًا، ويتأخر العقل فيكون تابعًا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل " (¬5). وعليه فإن إدراك العقل للمصالح معتبر على أنه تابع لا متَّبَع، وانفلات العقل من ¬

_ (¬1) قواعد المقاصد عند الشاطبي، د. عبد الرحمن الكيلاني، (ص 137). (¬2) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 41 - 42). (¬3) المرجع السابق، (2/ 37). (¬4) المرجع السابق، (2/ 172). (¬5) المرجع السابق، (1/ 87).

ضوابط الشرع يصيره هوى محضًا، وباطلًا صرفًا. "والمصالح المجتلبة شرعًا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية" (¬1). إن قاعدة وضع الشريعة لحفظ مقاصدها في الخلق بإقامة مصالح العباد في العاجل والآجل تدل بجلاء على أن الشريعة ما وضعت إلا لسعادة المكلف في الدنيا والآخرة. والتكاليف الشرعية وإن وجد فيها ما لا ينفك عنها غالبًا من المشقات إلا أنها مشقات محمودة العاقبة في الأولى والآخرة. والله -تبارك وتعالى- خلق العبد ليعبده، وبالألوهية يُفرده، دلَّ على ذلك قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فكانت العبادة غاية وعلة لوجود الخلق. ثم إنه -تعالى شأنه- جعل العبادة لحكمة جليلة ومقصد سامٍ، ألا وهو تحصيل التقوى، وإنما تراد الأعمال لما يقوم بالقلب من أحوال، دل على ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وقال جل وعلا: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]. ثم إن التقوى تعود عائدتها، وترجع فائدتها إلى المكلف وحده، فيسعد في الدنيا ولا يشقى، ويهنأ في الآخرة ويرضى. فحصول البركة، وتيسير المعاش، وتتابع الخيرات، وتفريج الكربات، وانتظام ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (2/ 37 - 38).

تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات

الحياة -كل ذلك من ثمرات التقوى التي بها يسعد الإنسان في الدنيا، وحصول النجاة، ودخول الجنات، ومجاورة الأنبياء، ورؤية وجه رب الأرض والسموات- كل ذلك من ثمرات التقوى التي بها يسعد الإنسان في الآخرة. تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: كما تقدم فإن تطبيق هذه القاعدة في حياة الناس كافة، سواء أكانوا في ديار الإسلام أم خارجها -من شأنه أن يقيم الحياة ويحفظها، ويرعى ضروراتها، ويضبط مسيرتها. وانطلاقًا مما تشهده تلك الديار من تطور مذهل وتقدم هائل في كافة المجالات، بل اعتدادًا بما يغشى عالم السياسة والاجتماع والاقتصاد والتربية في تلك الديار من تغيرات حثيثة، وتنظيمات متلاحقة، وتطورات متعاقبة؛ لذلك فإن توجيه مسائل الأقليات وتسديدها بتعاليم الدين ينبغي أن يقوم على اعتصام رشيد بالأصول الكلية، والقواعد العامة، والمقاصد الشرعية (¬1). وإذا تحقق أن الشريعة تحفظ مقاصدها في الخلق بإقامة المصالح، ودفع المفاسد في كل زمان ومكان، فلا بد إذن من إعمال هذه القاعدة في حياة الأقليات، وهذا الإعمال يحتاج إلى استيعاب ما كتبه الأقدمون في المقاصد والمصالح، وتفهُّم ما قيده المعاصرون، ورتبوه وطبقوه على قواعد الأقدمين. وفي أمثال ما كتبه القفال الكبير في محاسن الشريعة، والباقلاني في الأحكام والعلل، وما كتبه الجويني في البرهان، والغياثي، والغزالي في شفاء العليل، والعز ابن عبد السلام في قواعد الأحكام، والقرافي في الفروق، وابن تيمية في كثير من مصنفاته، وابن القيم في إعلام الموقعين، والطرق الحكمية، وبدائع الفوائد، والشاطبي في الموافقات، ¬

_ (¬1) نحو منهجية رشيدة للتعامل مع مسائل الأقليات المسلمة، د. قطب سانو، (ص 4).

والاعتصام، وابن عاشور في مقاصد الشريعة، وعلال الفاسي في المقاصد الشرعية، ويوسف حامد العالم، ومحمد البلتاجي وغيرهم من المعاصرين -في ذلك كله ثروة فقهية أصولية عظمى لمن كملت آلته واستعدت قريحته للتصدي لحفظ حياة الأقليات، ورعاية المقاصد الشرعية في ظروفهم العادية والاستثنائية، على حدٍّ سواء، وبما لا يفضي إلى تعطيل النصوص الشرعية الجزئية، أو إهمالها، مع ما قد يقع من تجاذب، أو تنازع بين المصالح والمقاصد والنصوص. يقول العلامة ابن بيه: عُقُودُ الْمُسْلِمِيْنَ بِدَارِ غَربٍ ... تَجَاذَبُهَا الْمَقَاصِدُ وَالْفُرُوْعُ وَمِيْزانُ الْفَقِيْهِ يَجُوْرُ طَوْرًا ... إِلَى طَرَفٍ فَيُفْرِطُ أَوْ يَضِيْعُ فَفِي الْجُزْئِيِّ ضِيْقٌ وَانْحِسَارٌ ... وَفِي الْكُلِّيِّ مُنْفَسَحٌ وَسِيْعٌ وَنُوْرُ الْحَقِّ مَصْلَحَةٌ تُوَازَى ... بِجُزْئِيِّ النُّصُوْصِ لَهُ سُطُوْعُ والمتصدرون لمثل هذه المسائل الشائكة في بلاد الأقليات المسلمة حين يعملون هذه القاعدة وغيرها قد يخرجون بأحكام أو بفتاوي قد تستنكر في بادي الرأي، لكنها قد تثبت عند المناقشة والموازنة والترجيح، كما انتهى إليه نظر عمر -رضي الله عنه- في إيقاف سهم المؤلفة قلوبهم، وقطع يد السارق، ومنع الزواج بالكتابية، والإلزام بالطلقات الثلاث، والزيادة في حد الشرب إلى ثمانين. . . وغير ذلك من التصرفات العمرية التي تعتبر اجتهادًا مقاصديًّا مع أنه -رضي الله عنه- هو الذي أعمل النص الجزئي عند تقبيل الحجر الأسود، والاضطباع، والرَّمَل. . . وغير ذلك. ومن قبل اجتهد مقاصديًّا بعض الصحابة فراعوا المقاصد فصلوا العصر في الطريق إلى بني قريظة، واجتهد غيرهم فلم يصلها إلا بعد العشاء في بني قريظة، فكان الأولون

مع المقصد والمعنى، وكان الآخرون مع النص والمبنى، ولم يكن أحد الفريقين ينقصه الهدى أو التقى، ولكنه الاجتهاد البشري الذي قد يراعي جانبًا أكثر من جانب، والشاهد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما خطَّأ أحد الفريقين، ولا ثرَّب على أحد من المجتهدين. وينبغي لمن يتصدى لبحث مسائل الأقليات أن ينظر إلى اجتهادات النبي - صلى الله عليه وسلم - المكية زمن القلة والضعف، كما قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} [الأنفال: 26]، وكيف اعتمد - صلى الله عليه وسلم - سياسة الصبر والكف، ولم يستجب لاستفزاز أو استعداء خارجي، كما قال له -تعالى شأنه-: {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60]؛ وذلك لحفظ شأن هذه الأقلية، ورعاية أمر هذه الدعوة الإسلامية، فلما قويت الشوكة وبُنيت الدولة كانت الاجتهادات على وفق ذلك، فلئن صبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكفَّ هو وأصحابه أيديهم لما قُتلت سمية وياسر -رضي الله عنهما- في مكة تحت التعذيب، فإنه لم يصبر على مجرَّد كشف عورة مسلمة في سوق بني قينقاع، فجرَّد لذلك الأمرِ حربًا على يهود، حتى أجلى بني قينقاع عن المدينة. وهو أمرٌ يؤكد على رعاية الأولويات في فقه الأقليات، والنظر إلى المقاصد والمصالح والمآلات (¬1). وإعمال تلك القواعد والأصول الحاكمة يكون باعتمادها إطارًا لمعالجة الوقائع والنوازل التي يحتاج في معالجتها إلى ورع دقيق، وفقه عميق، وفطنة وملكة صحيحة. ونوازل الأقليات المسلمة وما تواجَهُ به من تأصيل لأحكامها وتقعيد لمسائلها ينبغي أن يُراعَى فيه الفروق بين الضرورة الفردية، والضرورة الجماعية العامة، فالأولى مؤقتة، والثانية دائمة. والأولى قد تَتحقق بسهولة، ويُتَعَرَّفُ على وجودها بيسر، والثانية لا تتحقق إلا بعد ¬

_ (¬1) الضوابط المنهجية لفقه الأقليات المسلمة، د. صلاح سلطان، (ص 33 - 36).

طول نظر، وفحص وبحث. ولهذا رأينا الشارع الحكيم يراعي ضرورة المضطر إلى الميتة فيبيح له الأكل منها، ثم يراعي الحاجة العامة فيبيح -مثلًا- بيعَ السَّلَم والعرايا. . . ونحو ذلك، والأكل من الميتة أمرٌ شخصي مؤقت، والتعامل في السَّلَم أمرٌ عام في المجتمع ودائم. فالشارع الحكيم له قصد في أن تتعدى إباحة الفعل إلى غير محتاج إليه؛ لما له من الأثر النافع للعموم، كما هو في سائر الرخص في المعاملات؛ لما يترتب عليه من رواج الأسواق وتحصيل الأقوات، وتوفير الأعمال والأشغال. ومن الخطأ البين: الخلطُ بين الحاجات، والضرورات لدى الأفراد والمجتمعات، ومن المعلوم أن الحاجة في حق الكافة تنزل منزلة الضرورة في حق الفرد، يقول الجويني -وهو يتناول موضوع الكسب الحرام فيما لو عمَّ الزمانَ وأهلَه، فلم يوجد إلى طلب الحلال سبيل-: "فلهم أن يأخذوا منه -أي: الحرام- قدر الحاجة، ولا يشترط الضرورة التي ترعاها في إحلال الميتة في حقوق آحاد الناس، بل الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر، فإن الواحد المضطر لو صَابَرَ ضرورتَهُ ولم يتعاطَ الميتة لهلك، ولو صابر الناس حاجاتهم وتعدوها إلى الضرورة لهلك الناس قاطبةً، ففي تعدي الكافة الحاجة من خوف الهلاك ما في تعدي الضرورة في حق الآحاد" (¬1)؛ إذ لا يراعى فيما يعمُّ الكافة الضرورة، بل يُكْتَفَى بحاجة ظاهرة. كما تنبغي مراعاة الفروق بين أحكام يعود تفويتها بالضرر على المجتمع في مجمله، وبين الأحكام التي يعود تفويتها بالضرر على شخص المسلم في خاصة نفسه، ودينه ¬

_ (¬1) غياث الأمم، للجويني، (ص 345).

ومروءته؛ فإنه يُسْتَخَفُّ في الأولى، ما لا يُسْتَخَفُّ في الثانية. والنوع الأول هو لحفظ مصالحَ جماعيةٍ تتحقق بامتثال الأمة في مجملها، والثاني لحفظ مصالحَ تتعلق بامتثال آحاد الناس. ومثال الأول: النهي عن بيع الطعام قبل قبضه على تعليل الرهون لذلك برواج السلع في الأسواق. ومثال الثاني: وجوب الصلاة، والزكاة، والصوم، وسائر العبادات، والنهي عن السرقة، والغش، وسائر المحرمات، التي تناقض ما يلزم للنفس من التزكية، والاستقامة. وكلا النوعين مطلوب امتثالًا؛ لكن النظام العام للمجتمعات الأوروبية رُسمت قوانينه على نظر آخر للصلاح والفساد؛ ولذلك فتفويت المسلم للنوع الأول في هذه المجتمعات، هو أقلُّ ضررًا من تفويت النوع الثاني؛ ولذلك ينبغي أن تكون درجات المصالح بإزاء الترخص متفاوتة (¬1). "ومما يُسهم في ترشيد فقه الأقليات: التركيزُ على الأقلية باعتبارهم جماعةً متميزةً، لها هويتها وأهدافها ومشخصاتها، ولا يمكنها أن يُتغافل عنها، وينبغي لأهل الفقه أن ينظروا إلى هذا الكيان الجماعي، وما يتطلبه من مقومات، وما له من ضرورات وحاجات، وكيف تستطيع الجماعة أن تعيش بإسلامها في مجتمع غير مسلم، قويةً متماسكةً، مؤمنةً بالتنوع في إطار الوحدة. وقد لاحظتُ أن أهل الفقه -عادةً- حينما يتحدثون عن الضرورات التي تبيح المحظورات، وعن الحاجة التي قد تُنَزَّل منزلةَ الضرورة، إنما يُركزون على ضرورة الفرد المسلم وحاجته، غيرَ معنيين كثيرًا بضرورات الجماعة المسلمة وحاجاتها. وأعتقد أن من المهم واللازم للفقيه -لتكون فتواه عن بينة- أن يهتم بالجماعة وضروراتها وحاجاتها المادية والمعنوية، الآنية والمستقبلة، وألا يُغْفِلَ تأثيرَ هذه ¬

_ (¬1) منطلقات لفقه الأقليات، أ. العربي البشري، (ص 241).

الضرورات والحاجات في سَيْرِ الجماعة وقوتها الاقتصادية، وتماسكها الاجتماعي، وسلوكها الأخلاقي، وتقدمها العلمي والثقافي، وقبل ذلك: هويتها الإيمانية. لقد عُني القرآن والسنة بالجماعة؛ ولهذا كان الخطاب القرآني بأحكام الله تعالى خطابًا للجماعة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، سواء تعلَّق التكليف بالتعبد: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، أم تعلَّق بالمعاملات: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، أم تعلَّق بشئون الأسرة: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، أم تعلَّق بالعقوبات والتشريع الجنائي: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]. بل يخاطب القرآن الجماعة أو الأمة كلها بما ينفذه الولاة والأمراء، مثل: إبرام المعاهدات مع الأعداء، ومثل: إقامة الحدود على الجناة، كقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 4]. وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38]. وهذه النصوص وغيرها تؤكد أهمية الجماعة، ومسئوليتها التضامنية في إقامة شرع الله، وتطبيق أحكامه في الأرض. والأحاديث النبوية تؤيد هذا الاتجاه وتقويه، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه: الترمذي، كتاب الفتن، باب: لزوم الجماعة، (2167)، والحاكم في "مستدركه" (1/ 115، 116)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. ولأوله شاهد من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره.

والفقه الإسلامي يبارك هذه النزعة الجماعية بأحكام كثيرة، بعضها يتعلق بالجانب الاجتماعي، وبعضها يتعلق بالجانب الاقتصادي، وبعضها بالجانب السياسي. وحسبنا أنه يُقدم حق الجماعة على حقوق الأفراد الخاصة، فعندما يغزو العدو أرضًا، تنفر الجماعة كلها للمقاومة، فيخرج الابن بغير إذن أبويه، وتخرج المرأة بغير إذن زوجها، والمرءوس بغير إذن رئيسه؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا حق لفرد أمام حرمات الأمة. ويذكر الإمام الغزالي هنا مسألة (التترس) وهو أن يَتَّخِذَ العدوُّ المحاربُ بعضَ المسلمين تروسًا بشرية يَحتمي بهم، ويضعهم في مواجهة الخطر، ويجيز الإمام الغزالي وغيرُهُ من الفقهاء التضحيةَ بهؤلاء المُتَتَرَّسِ بهم، إذا كان في الإبقاء عليهم خطرٌ على الجماعة كلِّها؛ لأنَّ الإبقاء على الكل أهم من الإبقاء على الجزء. ومن ثَمَّ كان لا بد للفقه المطلوب هنا: أن يراعي مصالح الجماعة المسلمة، ولا يجعل كلَّ همه الاقتصارَ على حفظ مصالح الأفراد، فالفرد قليل بنفسه كثير بجماعته. ومن حقِّ الجماعة المسلمة في ديار الغرب ونحوها: أن تكون جماعة قوية متعلمة متماسكة قادرة على أن تؤدي دورها، وتتمسك بدينها، وتحافظ على هويتها، وتُنَشِّئَ أبناءَها وبناتها تنشئةً إسلامية حقَّةً، وتبلغ رسالتها من حولها بلسان عصرها" (¬1). ومما يلتحق برعاية الضرورات والحاجات في بلاد الأقليات المسلمة: الاعترافُ بحالات استثنائية، وظروف طارئة وبلوى عامة، والتعامل مع كلٍّ بما يناسبه، فيحقق المصلحة ويدرأ المفسدة. فإذا خلت تلك الديار عن ولاية شرعية تُرَدُّ إليها المنازعاتُ، وتفصل في الخصومات، ولم يوجد من تتحقق أهليته الشرعية لذلك، فلا حرج أن يُعتبر الأمثل ¬

_ (¬1) في فقه الأقليات المسلمة، د. يوسف القرضاوي، (ص 46 - 48).

فالأمثل من أهل تلك الديار، أو المقيمين بها. وقد قال ابن القيم -رحمه الله-: "إذا لم يجد السلطان من يوليه إلَّا قاضيًا عاريًا عن شروط القضاء، لم يعطل البلد عن قاضٍ، وولَّى الأمثلَ فالأمثلَ. ونظيرها لو غلب الحرامُ المحض أو الشبهة حتى لم يجد الحلالَ المحض فإنه يتناول الأمثلَ فالأمثلَ. ونظيرُ هذا لو كان الفسق هو الغالب على أهل تلك البلد، وإن لم تقبل شهادة بعضهم على بعض وشهادته له لتعطلت الحقوق وضاعت، قُبِلَ شهادةُ الأمثلِ فالأمثلِ. ونظيرُ هذا لو شهد بعض النساء على بعض بحق في بدن أو عرض، أو مال، وهن منفردات، بحيث لا رجلَ معهن، كالحمَّامات، والأعراس، قبلت شهادةُ الأمثلِ منهن" (¬1). "ولا يضع الله ورسوله حقَّ المظلوم، ويعطل إقامة دينه في مثل هذه الصور أبدًا، بل نبه الله على قبول شهادة الكفار على المسلمين في السفر في الوصية في آخر سورة نزلت ولم ينسخها شيء ألبتة، ولا نسخ هذا الحكم كتاب ولا سنة، ولا اجتمعت الأمة على خلافه، ولا يليق بالشريعة سواه، فإن الشريعة شُرِعَتْ لتحصيل مصالح العباد بحسب الإمكان، وأي مصلحة لهم في تعطيل حقوقهم إذا لم يحضر أثناء تلك العقود شاهدان حُرَّان ذكران عدلان؟ بل إذا قلتم: نقبل شهادة النساء حيث لا رجلَ، وينفذ حكم الفاسق إذا خلا الزمان عن قاضٍ عادل عالم، فكيف لا تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعضهم إذا خلا جمعهم عن مسلم" (¬2). ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 197). (¬2) الفواكه العديدة في المسائل المفيدة، لأحمد بن محمد بن منقور، تحقيق: زهير الشاويش، شركة الطباعة العربية السعودية، ط 5، 1407 هـ - 1987 م، (2/ 182 - 183)، مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 1، 1411 هـ - 1991 م، (ص 123 - 125)، في فقه الأقليات المسلمة، د. يوسف القرضاوي، (ص 55 - 56).

وأخيرًا فإن التأكيد على رعاية هذه المصالح يجب أن يكون بميزان الحق، لا الهوى، والعدل، لا الجور، فمن المصالح ما هو غير معتبر، فلا يصلح إذن أن يُنادَى في غرب ولا شرق ولا في أقلية ولا أكثرية بمساواة الأنثى للذكر مثلًا في الإرث؛ نظرًا لتساويهم في الأخوة؛ وذلك لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]. كما لا يصلح لمسلمة أن تنزع حجابها في دار غير المسلمين؛ لتعمل في وظيفة، أو تتلقى تعليمًا، فضلًا عن أن تفعل هذا مسايرةً أو تقليدًا، والله تعالى يقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31]. ولا يحلُّ لمسلم أن يُنشئ مصنعًا لبيع الخمور، أو أن يفتح محلًّا للتجارة فيها، لا في ديار المسلمين؛ بحجة تشجيع السياحة، وتنمية الاقتصاد، وزيادة الدخل القومي، ولا في ديار غير المسلمين؛ بحجة الحاجة، أو ضيق ذات اليد، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]. ولا يحلُّ لمسلم أن يعمل ببلاد الغرب، أو الشرق في بيع أوراق اليانصيب (القمار)، ولا الخنزير، ولو تَوَهَّمَ أن في ذلك مصلحةً. إن المصلحة راجعة إلى خطاب الشارع الحكيم، والفرق واضح بين المصلحة القائمة على أوامر الشرع المطهر، والمتوهمة الراجعة إلى داعية الهوى والتشهي، قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].

القاعدة الثانية: المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه

القاعدة الثانية: المقصدُ الشرعي من وضع الشريعة إخراجُ المكلف عن داعية هواه (¬1): المعنى العام للقاعدة: سبق في القاعدة الأولى أن الشارع الحكيم من مقاصده في وضع الشريعة: إقامة المصالح الدنيوية والأخروية على وجه كلي بما يكفل سعادة المكلف في الدارين، وفي هذه القاعدة يتقرر أن الشارع الحكيم يطلب من المكلف أن يدخل تحت سلطان الشريعة، منقادًا لهلالا لهواه، مُؤْثِرًا أحكامها على ما يميل إليه بطبعه أو يتمناه، وبذلك يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبد لله اضطرارًا، فالمقصود من وضع الشريعة: إخراجُ المكلف عن داعية هواه إلى طاعة ربه ومولاه. وهذا المقصد يتناول كلَّ المكلفين في جميع الأزمان والبلدان، وعلى كلِّ أحوال الطوائف والتجمعات من أقلية أو أكثرية على حدٍّ سواء. أدلة القاعدة: أولًا: القرآن الكريم: قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا} [النحل: 36]. وجه الدلالة: أفادت الآيات الكريمات وجوبَ عبادة الله تعالى وحده، بامتثال أمره، واجتناب نهيه، والانقياد لحكمه، وهذا هو التعبد الذي خلق الله الخلق لأجله. ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 168).

ثانيا: السنة المطهرة

وقال تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]. وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]. وقال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون: 71]. وجه الدلالة: اتباع الهوى وترك الانقياد لأمر الله تعالى مضاد لعبادة الله التي أَمَرَ الله بها، وقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]. فقد حصر الأمر في شيئين: الوحي وهو الشريعة، والهوى، فلا ثالث لهما، وإذا كان كذلك فهما متضادان؛ لذا كان قصد الشَّارع الخروج عن اتباع الهوى، والدخول تحت التعبد للمولى (¬1). ثانيًا: السنة المطهرة: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حقُّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا" (¬2). وجه الدلالة: دلَّ الحديث على ثبوت أن العباد مخلوقون لعبادة الله تعالى، والامتثال لأحكامه أمرًا ونهيًا بما يؤكد دلالة المجموعة الأولى من الآيات. 2 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث مهلكات: شحٌّ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه" (¬3). ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 170). (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب الجهاد، باب: اسم الفرس والحمار، (2856)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، (30) من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار يقال له عُفير، فقال: "يا معاذ؛ هل تدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟ "؛ قلت: الله ورسوله أعلم! قال: "فإن حق الله. . . " فذكره. (¬3) أخرجه: الطبراني في "المعجم الأوسط" (5/ 328)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1/ 471)، والبزار في =

ثالثا: المعقول

وجه الدلالة: دلَّ الحديث على ذمِّ الهوى وحرمة اتباعه، بما يؤكد دلالة المجموعة الثانية من الآيات. ثالثًا: المعقول: من الأدلة والبراهين على أن العباد خلقوا لعبادة الله، وإخراجهم من هوى نفوسهم: جملةُ الأحكام الشرعية، وسائرُ الأوامر والنواهي الداعية إلى الامتثال والخضوع والعبادة، والساعية إلى تنظيم المعاملات الإنسانية على وفق الهدى والتعاليم الإلهية، وليس بمقتضى ما تمليه مختلف الشهوات والنزوات والأهواء التي كثيرًا ما تتناقض وتتعارض وتتزاحم. والأوامر والنواهي الشرعية تشمل: التوحيد والعقيدة، وتشمل: العبادات، والمعاملات والأحوال الشخصية، والجنايات. وهذه الأحكام الشرعية لا تخلو من الأحكام الخمسة المعلومة: الوجوب، والتحريم، والندب، والكراهة، والإباحة. فأما الوجوب، والتحريم فظاهر مصادمتهما لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار، وأما الندب، والكراهة، والإباحة، وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف واختياره، فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره، فهي راجعة إلى إخراجه عن اختياره أيضًا. ¬

_ = "مسنده"، (1/ 60 - كشف الأستار)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1/ 215)، وغيرهم، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-. ورُوي أيضًا من حديث ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنهم-. وحسَّنه بمجموع طرقه: الحافظ أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي المنذريُّ في "الترغيب والترهيب"، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، ط 1، 1417 هـ، (1/ 174)، والشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة"، (1802).

تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات

وفي كل الأحوال تكون الأحكام الشرعية الخمسة قد أَخرجت المكلَّفَ من دائرة هواه وشهواته ونزواته. وإدراك هذه القاعدة وامتثالها ينبه إلى أمور ووسائل مهمة، منها: 1 - كل عمل كان المتَّبَع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير فهو باطل بإطلاق. 2 - اتباع الهوى طريق إلى المذموم، وإن جاء في ضمن المحمود؛ لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة، فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفًا. 3 - اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنة لأن يحتال بها على أغراضه، فتصير كالآلة المعَدَّة لاقتناص أغراضه، كالمرائي يتخذ الأعمال الصالحة سُلَّمًا لما في أيدي الناس (¬1). تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: من المعلوم أن خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين لا يفرق بين مسلمٍ يعيش في الشرق وآخرَ في الغرب، ومعلوم أيضًا أن خصوصية المجتمع الذي تعيش فيه الأقلية المسلمة بعيدًا عن ديار الإسلام لا يصلح أن يحمل المسلمين في تلك الديار إلى حالةِ تَلَمُّسٍ للرخص وتفتيش عن الضرورات، وانتقاء للحاجيات؛ لئلَّا يتحول هذا إلى نوع من الترخيص السلبي الذي لا ينسجم مع كليات الشرع، وخصائص الأمة والرسالة. وفي نفس الوقت تنبغي المحافظة على حياة هذه الأقليات المسلمة، ورعاية هويتها الإسلامية، وتعهد الأجيال المتعاقبة حتى لا تتعرض لحملات التذويب، وطمس الهوية، وتغييب الثقافة الإسلامية. ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 173 - 176).

والجمع بين المتطلبين السابقين يستلزم فقيهًا يوصف بفقه النفس، وبعد النظر، وسعة الصدر ورجاحة الفكر، وصدق الإيمان، ورسوخ التقوى. وكل من الفقيه المفتي، والسائل المستفتي عليه أن يحسن قصده، ويضبط قوله بضوابط الشرع المطهر. أما المفتي فيعلم أنه يمارس صفة مركبة تبدأ بالتشخيص والتكييف الفقهي للمسألة، وتمرُّ بتَلَمُّسِ الدليلِ، وعلاقاته بالواقع، ومن ثم تصدر الفتيا، ولا يتم إلا بعلم وعمل ودرية وتجربة ومشورة. وليحذر المفتي والمستفتي من الوقوع تحت ضغط الواقع والمجتمع، أو التقديم بين يدي الله ورسوله بقول، أو رأي، وقد قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119]. والأصل هو وجوب التحاكم إلى الشرع المطهر داخل ديار الإسلام وخارجها، فإن الأحكام الشرعية تخاطب المسلم حيثما كان، وتحكيم الشريعة عند القدرة على ذلك أحد معاقد التفرقة بين الإيمان والنفاق (¬1). وعليه، فلا يحل لمسلم أن يتحاكم إلى غير كتاب ربه، فإن فعل اختيارًا لم يكن من أهل الإسلام. قال ابن حزم -رحمه الله-: "لا خلاف بين اثنين من المسلمين أن من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأتِ بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الإسلام" (¬2). وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدَّل الشرع المجمع عليه كان كافرًا باتفاق الفقهاء" (¬3). ويرخص في اللجوء إلى القضاء الوضعي عندما يتعين سبيلًا لاستخلاص حقٍّ أو دفع مظلمة في بلد لا تحكمه الشريعة؛ لانعدام البديل الشرعي القادر على ذلك، سواء ¬

_ (¬1) قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، كوبنهاجن، الدنمارك، 1425 هـ - 2000 هـ، (ص 21). (¬2) الإحكام، لابن حزم، (5/ 173)، بتصرف يسير. (¬3) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (3/ 267).

أكان ذلك داخل بلاد الإسلام، أم كان خارجها، ويقيد ذلك بما يلي: - تعذر استخلاص الحقوق، أو دفع المظالم عن طريق القضاء، أو التحكيم الشرعي لغيابه، أو العجز عن تنفيذ أحكامه. - اللجوء إلى بعض حملة الشريعة لتحديد الحكم الشرعي الواجب التطبيق في موضوع النازلة، والاقتصار على المطالبة به، والسعي في تنفيذه؛ لأن ما زاد على ذلك ابتداءً أو انتهاءً خروجٌ على الحق، وحكمٌ بغير ما أنزل الله. - كراهية القلب للتحاكم إلى القضاء الوضعي، وبقاء هذا الترخص في دائرة الضرورة والاستثناء. دلَّ على ذلك قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]، وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145]، وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115]، كما يستفاد ذلك من القاعدة الفقهية: "الضرورات تبيح المحظورات"، ودلائلها المعروفة في كتب القواعد الفقهية. كما يدل على ذلك أيضًا قصةُ لجوءِ الصحابة -رضي الله عنهم- للمثول أمام الحاكم النجاشي الكافر -يومئذٍ- مرتين بسبب مطالبة كفار قريش بهم، وللذود عن حقهم في إبطال مزاعم قريش الباطلة فيهم، ومن قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بشأن الرواية التي كتبها المدعو سلمان رشدي [القرار الثالث: يعلن المجلس أنه يجب ملاحقة هذا الشخص، بدعوى قضائية جزائية تقدم عليه، وعلى دار النشر التي نشرت له هذه الرواية، وفي المحاكم المختصة في بريطانيا، وأن تتولى رفع هذه الدعوى عليه منظمة المؤتمر الإسلامي التي تمثل الدول الإسلامية، وأن توكِّلَ لهذه الدعوى أقوى المحامين المتمرسين في القضايا الجنائية أمام محاكم الجزاء البريطانية] (¬1)، وواضح من القرار تجويزهم ¬

_ (¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي، (ص 252).

التحاكم إلى المحاكم البريطانية في تلك النازلة. وأما ما يدل على القيد الأول: تعذر استخلاص الحقوق أو دفع المظالم عن طريق القضاء الشرعي، فهو أنه إذا أمكن استخلاص الحق أو دفع المظلمة عن طريق القضاء الشرعي لم تكن هناك ضرورة تلجئ إلى التحاكم إلى القانون الوضعي الذي حكمه التحريم، كما تقدم لغير الضرورة. وأما ما يدل على القيد الثاني: معرفة حكم الشرع في النازلة وعدم المطالبة بزيادة، فهو أن المطالبة بزيادة على حكم الشرع ظلم، والظلم حرام، دلَّ على ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع، فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44]، ومن أدلة السنة: الحديث القدسي: "إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا" (¬1)، ومن دلائل ذلك: أن المسلم يجب عليه في حالة سلوك الوسيلة المباحة، وهي التحاكم إلى الشرع، ألا يأخذ مال غيره، وإن حكم له به الحاكم الشرعي؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها، أو فليتركها" (¬2)؛ فمن باب أولى لا يبيح له حكم الحاكم غير الشرعي أن يظلم غيره. ومن دلائل ذلك أيضًا: القاعدة الفقهية: "الضرورة تقدر بقدرها"، ودلائلها المعروفة، ولأن الضرورة أباحت سلوك وسيلة محرمة لاستخلاص الحق ودفع الظلم، ¬

_ (¬1) أخرجه: مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، (2577)، من حديث أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عن الله -سبحانه وتعالى- أنه قال: "يا عبادي؛ إني حرمت الظلم. . ." فذكره. (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب: إثم مَن خاصم في باطل وهو يعلمه، (2458)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، (1713)، من حديث زينب بنت أم سلمة عن أمها أم سلمة -رضي الله عنها- زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرتها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال. . . فذكره.

المطلب الثاني: القواعد الفقهية المتعلقة بالمقاصد

ولم تبح سلوكها لظلم الآخرين وأخذ ما ليس بحق. ومن أدلة القيد الثالث، وهو كراهة القلب للتحاكم إلى القانون الوضعي: قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]، ومنها: حديث: "فليغيره. . . فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (¬1)، وحديث: "ولكن من رضي وتابع" (¬2). يجب على المسلمين المقيمين خارج ديار الإسلام أفرادًا وجماعات أن يسعوا إلى إيجاد البديل الشرعي عن القضاء الوضعي، وذلك عن طريق مجالس الصلح والتحكيم ونحوه، والسعي إلى التسكين القانوني لهذه الآليات، والحصول على إقرار دول إقامتهم بأحكامها، وعليهم أن يتواصوا فيما بينهم بالأخلاق الإسلامية الكريمة التي تقيهم الخصومات ابتداءً. ودليله أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومن الواجب: تحكيم شرع الله، والتحاكم إليه، ومن الواجب على المقيم خارج بلاد الإسلام: أن يظهر بها دينه، وهذه الواجبات لا تتم إلا بما ذكر في قرار المجمع، والله تعالى أعلى وأعلم (¬3). المطلب الثاني: القواعد الفقهية المتعلقة بالمقاصد: قاعدة: الأمور بمقاصدها: معنى القاعدة: ¬

_ (¬1) قطعة من حديث أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان و. . .، (49)، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده. . . " الحديثَ. (¬2) أخرجه: مسلم، كتاب الإمارة، باب: وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا، ونحو ذلك، (1854)، من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع"؛ قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا ما صلوا". (¬3) قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، باختصار، (ص 21 - 31).

هذه القاعدة على وجازة ألفاظها أجمع القواعد الكلية الكبرى؛ حيث إن أعمال المكلَّف وتصرفاته القولية والفعلية تختلف نتائجها وتتباين أحكامها الشرعية المترتبة عليها بحسب مقصود المكلف وغايته من تلك الأقوال والأفعال والتصرفات. ولفظة الأمور عامة بدليل دخول "أل" الجنسية عليها، ولفظة "مقاصدها" عامة؛ لإضافتها إلى ضمير لفظ عام. فالقاعدة تشمل جميع ما يثاب عليه العبد، أو يعاقب، فتشمل بعمومها الواجب، والمندوب، والحرام، والمكروه، والمباح، وكما تشمل الفعل تشمل الترك إذا كان مقصودًا بنية، فأحكام الأمور بمقاصدها التي دعت إليها وبعثت عليها (¬1). وقد يعبر عن القاعدة بدليلها، وهو حديث: "إنما الأعمال بالنيات" (¬2)، فيقال: قاعدة: "إنما الأعمال بالنيات"، والمقاصد معتبرة في العبادات والعادات (¬3). والنية في اللغة: العزم على الشيء، يقال: نويت نية، أي: عزمت (¬4). وهي بمعناها العام: "انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرض من جلب نفع، أو دفع ضرٍّ، حالًا أو مآلًا، والشرع خصَّها بالإرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاءَ وجه الله تعالى وامتثالًا لحكمه" (¬5). والنية تعرف اصطلاحًا بأنها: قصد الشيء مقترنًا بفعله، أو: القصد الكلي الشامل للعزم والقصد المقارن للفعل (¬6). ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 8)، الأشباه والنظائر، للسبكي، (1/ 67)، المقاصد الشرعية في القواعد الفقهية، د. عبد العزيز عزام، دار البيان للنشر والتوزيع، ط 1، القاهرة، 2001 م، (ص 57). (¬2) أخرجه البخاري: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي (1)، وهذا لفظه، ومسلم: كتاب الإمارة، باب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (1907)، من حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا. (¬3) القواعد الفقهية الكبرى وما تفرع عنها، للسدلان، (ص 41 - 42). (¬4) لسان العرب، لابن منظور، (14/ 343)، المصباح المنير، للفيومي، (2/ 632). (¬5) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 30)، وفيض القدير شرح الجامع الصغير، لمحمد عبد الرءوف المناوي، ضبط وتصحيح: أحمد عبد السلام، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1415 هـ - 1994، (1/ 40)، نقلًا عن البيضاوي. (¬6) نهاية الإحكام في بيان ما للنية من أحكام، لأحمد بك الحسيني، وقد حقق بكلية الشريعة، بالرياض، عام =

أو هي: قصد كلي نسبي، شامل للعزم والقصد المتقدم على الفعل، أو المقارن له في بعض أحواله (¬1). وللنية مرادفات متعددة، منها: القصد والإرادة والعزم. وتقترب ألفاظ أخرى من معناها مع وجود فروق، مثل: الهم، والمشيئة، والرغبة، والابتغاء، ونحوها. والنية بمعناها العام وهو: الإخلاص لله تعالى في القول والعمل تدخل في جميع الأعمال الأخروية دخولًا أوليًّا، وقد صاغ بعض الفقهاء من ذلك المعنى قاعدة فقهية واعتبرها قاعدة الفقه الكلية الأولى، فقال ابن نجيم: "لا ثواب إلا بالنية" (¬2). والمقصود من النية في العبادات أمران: أولهما: تمييز العبادات عن العادات: فالإمساك عن المفطرات -مثلًا- قد يكون بنية الصيام فيكون قربة، وقد يكون حمية أو تداويًا، فلا يكون عبادة. ثانيهما: تمييز العبادات: سواء بين الفروض كالظهر والعصر، أو بين الفروض والنوافل كسنة الفجر وفريضته. والنية محلها القلب إجماعًا؛ لأنها من عمله (¬3)، ولا يكفي التلفظ باللسان دون عقد القلب، ولا يشترط مع عمل القلب التلفظ. ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابة -رضي الله عنهم- تلفظ بالنية إلَّا في الحج، وقد قيل: إن هذا من ¬

_ = 1401 هـ للباحث مساعد بن قاسم الفالح، (ص 8 - 9). (¬1) النية وأثرها في الأحكام الشرعية، د. صالح السدلان، مكتبة الخريجي، الرياض، 1403 هـ، (1/ 96). (¬2) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 14). (¬3) المقاصد الشرعية، د. عبد العزيز عزام، (ص 59).

أدلة القاعدة

إظهار النسك، لا من الجهر بالنية (¬1). ووقت النية أول العبادات ولو حكمًا، فإذا تأخرت عنه لم يصحَّ في الجملة، ويجوز ويجزئ تقدمها عليه في الصيام المفروض، ويستصحب حكمها ما لم يشتغل بعمل آخر يقطعها، فمن نوى الصلاة عند الوضوء، ثم حضر المسجد فافتتح صلاته بتلك النية أجزأته؛ لأن النية المتقدمة باقية إلى وقت الشروع حكمًا (¬2)، وللفقهاء تفاصيل كثيرة في أمر نية العبادات، وفروق بين المفروض والمندوب منها. أدلة القاعدة: أولًا: السنة المطهرة: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. . ." الحديث، وفي رواية: "إنما الأعمال بالنية" (¬3). وجه الدلالة: أفادت عبارة الحديث أن الأعمال تقبل أو ترد، ويثاب عليها أو يعاقب بحسب النية الباعثة عليها، والداعية إليها، فلا يحصل للعامل من عمله إلا ما نواه به (¬4). 2 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلَّا أُجرت عليها حتى ما تجعل في ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى، لابن تيمية، (26/ 21 - 23). (¬2) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 24)، المقاصد الشرعية، د. عبد العزيز عزام (69)، القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، ط 1، 1417 هـ - 1997 م، (ص 34). (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (1)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب: قوله: - صلى الله عليه وسلم - "إنما الأعمال بالنية" وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، (1907) -وعنده وعند البخاري في مواضع أخرى، مثل: كتاب الإيمان، باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، (54): "إنما الأعمال بالنية"-، من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬4) الجامع في شرح الأربعين، محمد يسري، دار اليسر، القاهرة، ط 3، (1/ 56 - 57).

فم امرأتك" (¬1). 3 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رُبَّ قتيلٍ بين الصفين الله أعلم بنيته" (¬2). 4 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا عمل لمن لا نية له" (¬3). 5 - قول - صلى الله عليه وسلم -: "إنما يبعث -وفي رواية: يحشر- الناس على نياتهم" (¬4). وجه الدلالة: والأحاديث بجملتها دالة على اعتبار تأثير النية في أعمال الخلق صحةً وفسادًا، ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الإيمان، باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، (56)، ومسلم، كتاب الوصية، باب: الوصية بالثلث (1628)، من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، في قصة عيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - له وهو على فراش الموت. (¬2) أخرجه: الإمام أحمد في "مسنده" (1/ 397)، وأبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة في "مسنده"، تحقيق: عادل ابن يوسف العزازي وأحمد فريد المزيدي، دار الوطن، الرياض، ط 1، 1418 هـ / 1997 م، (403)، من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش، ورُبَّ. . ." فذكره. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/ 194): "رجال سنده موثقون"، وقال في "بذل الماعون في فضل الطاعون"، تحقيق: أحمد عصام عبد القادر الكاتب، دار العاصمة، الرياض، (ص 188): "سنده جيد". (¬3) أخرجه: البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الطهارة، باب: الاستياك بالأصابع، (1/ 41)، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-، أن رجلًا من الأنصار من بني عمرو بن عوف قال: يا رسول الله إنك رغَّبتنا في السواك، فهل دون ذلك من شيء؟ قال: "أصبعاك سواك عند وضوئك تمرهما على أسنانك، إنه لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حسبة له". وضعَّفه الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني في "التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير"، اعتنى به: أبو عاصم حسن بن عباس بن قطب، مؤسسة قرطبة، مصر، ط 1، 1416 هـ / 1995 م، (1/ 264) بقوله: "في سنده جهالة". (¬4) أخرجه: ابن ماجه، كتاب الزهد، باب: النية، (4229)، والإمام أحمد في "مسنده" (2/ 392) -والرواية الثانية له-، وغيرهما، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وحسَّن إسنادَه المنذريُّ في "الترغيب والترهيب" (1/ 25)، وأخرج البخاري، كتاب البيوع، باب: ما ذُكر في الأسواق، (2118)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: الخسف بالجيش الذي يؤم البيت، (2884) -والسياق واللفظ له-، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: عبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامه، فقلنا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنعتَ شيئًا في منامك لم تكن تفعله، فقال: العجب إن ناسًا من أمتي يؤمُّون بالبيت برجل من قريش، قد لجا بالبيت، حتى إذا كانوا بالبداء خسف بهم؛ فقلنا: يا رسول الله إن الطريق قد يجمع الناس، قال: "نعم فيهم المستبصر للكلام، والمجبور، وابن السبيل يهلكون مهلكاً واحدًا، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم".

وقولًا وردًّا، ومجازاةً عليها، فميزان الأعمال إنما هو النية والقصد (¬1). وإذا كانت الأمور بمقاصدها فإنه ينبغي على كل مكلَّف أن يكون قصده في أفعاله وأقواله الظاهرة والباطنة موافقًا لقصد الشارع الحكيم؛ وذلك حتى تؤتي ثمارها وتعود بصالح نتائجها، وإلا فإنه لا يكفي أن يكون ظاهر الفعل مشروعًا ليوصف بالمشروعية وإنما لا بد أن يكون قصد المكلف المباشر للفعل مشروعًا أيضًا. ومخالفة قصد الشارع ومنافاته هدمٌ للمصالح التي شرعت من أجلها الأحكام، وعلى سبيل المثال فإذا كان المكلف مأمورًا بالنكاح استحبابًا لتحصيل مصالح العفاف واستمرار النسل ونحو ذلك؛ فإن قصده التحليل للزوج الأول يهدم هذه المصالح ويقضي عليها ويناقض مقصود الشارع. والطلاق أبيح لتحقيق مصلحة مشروعة ودرء مفسدة ممنوعة، فإذا استعمل الزوج هذا الطلاق ليحرم المرأة من حقها في الإرث لدى مرضه مرض الموت فقد ناقض مقصود الشارع من تشريع الطلاق. وهكذا لو خالف المكلف مقصود الشارع في البيع والهبة والشركات ونحوها. وبالجملة فإن المكلف عليه أن يجرى على موافقة قصد الشارع لتتحقق له المصالح الدينية والدنيوية، وينال أجر العبودية في أعماله العادية والعبادية، وبهذا يعمر الأرض وتحقق خلافته فيها وتثمر الثمرات المرجوة، وبهذا يكون قد حقق العبودية التي تعني ألا يتصرف العبد إلا بما يرضي ربه ومولاه، ولو خالف في ذلك هواه ومشتهاه، فيقتضي هذا موافقة لقصد الشارع، أو على الأقل ترك المناقضة لمقصوده. وهذا الأمر يتحقق بامتثال الأمر والقصد معًا سواء اطلع المكلف على المصالح أو ¬

_ (¬1) القواعد الفقهية الكبرى وما يتفرع عنها، د. صالح السدلان، (ص 45).

القواعد المندرجة تحت القاعدة

لا، وسواء اطلع على المفاسد المترتبة على المخالفة أو لا. القواعد المندرجة تحت القاعدة: قاعدة الأمور بمقاصدها أوسع القواعد وأجمعها، ومن أكثرها فروعًا وأشملها، فإن عددًا كبيرًا من القواعد الصغرى قد اندرج تحتها، ودخل في طياتها بما يوسع تطبيقها، ويعظم الإفادة منها. ومن أهم تلك القواعد ما يلي: 1 - القربات التي لا لبس فيها لا تحتاج إلى نية الإضافة لله تعالى (¬1). 2 - الألفاظ إذا كانت نصوصًا في شيء غير متردد لم تحتج إلى نية تعيين المدلول (¬2). 3 - لا ثواب إلا بنية (¬3). 4 - منافع الأعيان المتعينة لا تحتاج إلى تعيين (¬4). 5 - الحقوق إذا تعينت لا تحتاج إلى تعيين (¬5). 6 - الخطأ فيما لا يشترط له التعيين لا يؤثر (¬6). 7 - مقاصد اللفظ على نية اللافظ (¬7). 8 - هل العبرة بصيغ العقود، أو بمعانيها؟ (1). ¬

_ (¬1) الأمنية في إدراك النية، لأبي العباس أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: د. مساعد بن قاسم الفالح، مكتبة الحرمين، الرياض، ط 1، 1408 هـ - 1988 م، (ص 170)، مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (26/ 29). (¬2) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 314)، إعلام الموقعين، لابن القيم (2/ 4)، الأمنية في إدراك النية، للقرافي، (ص 6). (¬3) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 14)، القواعد الفقهية الكبرى وما تفرع عنها، د. صالح السدلان، (ص 54 - 56). (¬4) الأمنية في إدراك النية، للقرافي، (ص 170)، قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 314). (¬5) النية وأثرها في الأحكام الشرعية، د. صالح السدلان، (1/ 217 - 218). (¬6) الأشباه والنظائر، لابن السبكي، (1/ 56)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 29). (¬7) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 44)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 19 - 20). =

ومن القواعد المستثناة من قاعدة الأمور بمقاصدها

9 - هل الأيمان مبنية على الألفاظ، أو الأغراض (¬2). 10 - هل الأيمان مبنية على العرف (¬3). 11 - اليمين على نية الحالف، أو على نية المستحلف (¬4). 12 - المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات، كما هي معتبرة في القربات والعبادات (¬5). 13 - يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد (¬6). ومن القواعد المستثناة من قاعدة الأمور بمقاصدها: 1 - من استعجل شيئًا قبل أوانه عُوقب بحرمانه (¬7). 2 - الإيثار في القرب مكروهٌ، وفي غيرها محبوب (¬8). تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: لا تكاد تنحصر تلك التطبيقات التي تندرج تحت قاعدة الأمور بمقاصدها في حياة الأقليات الإسلامية، فهي كما تتعلق بالعبادات تتعلق بالمعاملات وقضايا الأحوال الشخصية والجنايات ومسائل السياسة الشرعية في تلك الديار، وللتمثيل فقط أسوق ¬

_ = (1) الأشباه والنظائر، لابن السبكي، (1/ 174)، الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 166). (¬2) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 57). (¬3) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 93)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 106)، المقاصد الشرعية في القواعد الفقهية، د. عبد العزيز عزام، (ص 78). (¬4) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 44)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 19 - 20). (¬5) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 95 - 96)، القواعد الفقهية، د. نجاح أبو العنين، ط الجامعة الأمريكية المفتوحة، (ص 64 - 65). (¬6) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 158)، النية وأثرها في الأحكام الشرعية، د. صالح السدلان، (1/ 228 - 230). (¬7) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 152)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 184). (¬8) المنثور، للزركشي، (1/ 210 - 215)، الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 116)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 132).

من قرارات مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا القرار الآتي مع تسبيبه وتوجيهه. "لا حرج في دراسة القوانين الوضعية المخالفة للشريعة، أو تولي تدريسها للتعرف على حقيقتها، وبيان فضل أحكام الشريعة عليها، أو للتوصل بدراستها إلى العمل بالمحاماة؛ لنصرة المظلومين، واستخلاص حقوقهم، بشرط أن يكون عنده من العلم بالشريعة ما يمنعه من التعاون على الإثم والعدوان". والأمور بمقاصدها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬1)، ودراسة القوانين الوضعية تشبه دراسة العقائد الباطلة، وقد أعلمنا الله تعالى في كتابه الكريم بالعديد من العقائد الباطلة والشرائع المنحرفة؛ للتحذير منها، ومناظرة أهلها وجدالهم بالتي هي أحسن، فمن درس القانون الوضعي لهذه الأغراض، فلا حرج عليه، كما أنه تعالى قال في كتابه الكريم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، والحالات التي أباح قرار المجمع فيها دراسة القوانين الوضعية داخلة في التعاون على البر والتقوى؛ إذ من البر إنصاف المظلومين. "تولي الصالحين الأكفاء من المسلمين بعض الولايات العامة خارج بلاد الإسلام، أو في البلاد التي تحكم بالقوانين الوضعية المخالفة للشريعة أولى من تركها لأهل الشر والفساد، وبطانة السوء الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، كما فعل نبي الله يوسف -عليه السلام-. دلَّ على ذلك: تولي يوسف -عليه السلام- الحكم في دولة كافرة، ولم يمكنه أن يحكم بكل أحكام الإسلام. إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - للنجاشي في ملكه مع كون النجاشي كان كذلك حاكمًا مسلمًا في دولة كافرة، وكان تبعًا لذلك يحكم بأشياء من شريعتهم تخالف شريعة القرآن. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

وممن أباح ذلك: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، حيث قال: "والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن؛ فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيرًا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيًا، بل وإمامًا، وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل: إنه سُمَّ على ذلك. فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة، وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها" (¬1). وقال القرطبي -رحمه الله-: "قال بعض أهل العلم: في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر، والسلطان الكافر، بشرط أن يعلم أنّه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء؛ وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره، فلا يجوز ذلك. وقال قوم: إن هذا كان ليوسف خاصة، وهذا اليوم غير جائز؛ والأول أولى إذا كان على الشرط الذي ذكرناه. والله أعلم. قال الماوردي: فإن كان المولي ظالمًا فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين؛ أحدهما: جوازها إذا عمل بالحق فيما تقلده؛ لأن يوسف ولي من قبل فرعون، ولأن الاعتبار في حقه بفعله، لا بفعل غيره" (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (19/ 219 - 220). (¬2) تفسير القرطبي، (9/ 215)، قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، باختصار، (ص 20 - 31).

المبحث السادس القواعد المتعلقة بالتعارض والترجيح بين المصالح والمفاسد

المبحث السادس القواعد المتعلقة بالتعارض والترجيح بين المصالح والمفاسد المطلب الأول: القواعد الأصولية والمقاصدية القاعدة الأولى: عند تعارض المصالح تُقَدَّمُ أولاها وأرجحها: المعنى العام للقاعدة: يدور معنى هذه القاعدة -المتفق عليها في الجملة- على تقديم أولى المصالح عند تعارضها، والترجيح بينها عند تنازعها بناءً على حجة التقديم والأولوية المعتبرة. فإذا كانت المصالح من حيث قوتها قد تنقسم إلى ضرورية وحاجية وتحسينية؛ (¬1) فإن الضروري منها يقدم على ما سواها؛ وذلك لأن الأمة بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها بحيث لا يستقيم النظام باختلالها. (¬2) والحاجي منها يقدم على التحسيني في نفس المرتبة؛ وذلك لأنَّ الأمة تحتاج إليه لاقتناء مصالحها، وانتظام أمورها على وجه حسن، بحيث لولا مراعاته لما فسد النظام، ولكنه كان على حالة غير منتظمة (¬3)، فما يتعلق منها بحفظ الأديان يقدم في الجملة على ما سواه مما هو في رتبته، وما كان متعلقًا بحفظ الأنفس يقدم على ما دونه من حفظ العقل والنسل والمال. . . وهكذا. وما كان منها عامًّا شاملًا يقدم على ما كان خاصًّا، فالمصلحة العامة ترجح على المصلحة الخاصة عند التعارض. (¬4) ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 8)، المستصفى، للغزالي، (ص 174)، المحصول، للرازي، (5/ 220 - 222). (¬2) مقاصد الشريعة، للطاهر ابن عاشور، (ص 79). (¬3) المرجع السابق، (ص 82). (¬4) الموافقات، للشاطبي، (1/ 350).

وما كان منها كليًّا يقدم على الجزئي الظني من المصالح ولا اعتبار للموهوم منها إطلاقًا عند التعارض. (¬1) وما كان من المصالح متعديًا يرجح على القاصر عند التعارض إذا كان من رتبة واحدة. ويقدم ما يدوم نفعه على ما لا دوام لنفعه. وما كان من المصالح أخرويًّا فإنه يقدم -في الجملة- على الدنيوي (¬2)، والحكم التكليفي يترجح على الوضعي. (¬3) وما كان من المصالح واجبًا عينيًّا مضيقًا فإنه يقدم على ما وجب وجوبًا كفائيًّا موسعًا. (¬4) والواجب يقدم على المندوب عند التعارض، والفرض أفضل من النفل (¬5)، ويقدم آكد الواجبين عند التعارض. والوجوب يرجح على ما سوى التحريم. (¬6) والندب أولى من الإباحة. (¬7) ونحو هذا من قواعد التعارض بين المصالح، ولا شك أن محلَّ هذه القواعد والترجيحات هو عند العجز عن تحصيل المصلحتين معًا؛ إذ القاعدة المقدَّمة أن تحصيل المصلحتين أولى من تفويت إحداهما (¬8). ¬

_ (¬1) المصدر السابق، (1/ 324)، الاعتصام، للشاطبي، (1/ 200 - 201). (¬2) الموافقات، للشاطبي، (2/ 370 - 387)، غياث الأمم، للجويني، (ص 479). (¬3) شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 693)، البحر المحيط، للزركشي، (1/ 129). (¬4) البحر المحيط، للزركشي، (1/ 332 - 333)، المنثور، للزركشي، (3/ 39 - 40). (¬5) غمز عيون البصائر، للحموي، (1/ 448). (¬6) التقرير والتحبير، لابن أمير الحاج، (3/ 30). (¬7) المرجع السابق، (3/ 30). (¬8) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 87)، الفوائد في اختصار المقاصد أو القواعد الصغرى، لعز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي، تحقيق: إياد خالد الطباع، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، سوريا، ط 1، 1416 هـ - 1996 م، (ص 47).

أدلة القاعدة

فلا شك أن الجمع أولى من الترجيح (¬1)، إلا أنه عند التعارض تُحَصَّلُ أعظمُ المصلحتين بتفويت أدناهما، ويُرَجَّح خيرُ الخيرين بتفويت أدناهما. أدلة القاعدة: لقد تضافرت الأدلة من المنقول والمعقول على أنه إذا تلازمت المصالح وتزاحمت ولم يمكن تحصيلها جميعًا فإنه يُختار الأعظمُ والأعلى والأهمُّ، وإن فات ما دونها من المصالح، وفيما يلي طرفٌ من الأدلة باختصار: أولًا: القرآن الكريم: • الآيات التي ورد فيها الأمر باتباع الأحسن والأخذ بالأفضل: مثل: قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُم} [الزمر: 55]. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]. وقوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53]. وقوله تعالى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145]. وجه الأدلة: الأحسن يحتمل معنى التفضيل، كأنه قال: إذا وُجد مباحان، فخذوا بالأحسن منهما كالعفو والقصاص، والصبر والانتصار. (¬2) • الآيات التي ورد فيها الأفضل والأكمل ثوابًا، مثل: قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. ¬

_ (¬1) بداية المجتهد، لابن رشد، (1/ 37)، تفسير القرطبي، (3/ 175). (¬2) المحرر الوجيز، لابن عطية، (2/ 520)، تفسير الطبري، (13/ 109).

ثانيا: السنة المطهرة

وقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95]. وقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]. وجه الدلالة: لقد جاز إخراج الصدقة جهارًا، والأولى والأفضل إخراجها إسرارًا، والجهاد في سبيل الله أفضل من القعود، والعفو أولى من عدمه. وهكذا تتباين رتب الأعمال، وتتفاوت الأجور على الطاعات. ثانيًا: السنة المطهرة: • الأحاديث التي قدمت الأولويات في الدعوة إلى دين الله، وفرَّقت بين مصلحة القيام بالفرائض، والقيام بالنوافل: مثل: قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ حين أرسله إلى اليمن: "يا معاذ إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلواتٍ في كل يومٍ وليلةٍ، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتقِ دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجابٌ" (¬1). ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - حين سأله رجل عن الإسلام فقال: "خمس صلوات في اليوم والليلة". ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الزكاة، باب: أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا، (1496)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، (19)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن. . . فذكره. وفي بعض الروايات: "عن ابن عباس أنَّ معاذًا قال. . . "؛ فجعله من مسند معاذ -رضي الله عنه-.

فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا، إلَّا أن تطَّوع". قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وصيام رمضان". قال: هل عليَّ غيره؟ قال: "لا، إلَّا أن تطوع". قال: وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة؛ قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا، إلَّا أن تطوع". قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفلح إن صدق" (¬1). • الأحاديث التي دلت على التفريق بين رتب الطاعات: مثل: قوله - صلى الله عليه وسلم - حين سئل أيُّ العمل أفضل؟ فقال: "إيمان بالله ورسوله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم - حين سئل أيُّ الإسلام أفضل؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده" (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم - حين سئل أيُّ الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" (¬4). وجه الدلالة: دلت الأحاديث السابقة على أن الأعمال متفاضلة في نفسها وفي ثوابها، وفي أولويتها عند التزاحم، وفي أرجحيتها في الطلب الشرعي، فَتُقَدَّم الفرائض على النوافل، ويُقَدَّم ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الإيمان، باب: الزكاة من الإسلام و. . .، (46)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، (11)، من حديث طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب الإيمان، باب: مَن قال: إن الإيمان هو العمل، (26)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، (83)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب الإيمان، باب: أمور الإيمان، (11)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، (42)، من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-. وأخرجه: البخاري، كتاب الإيمان، باب: أمور الإيمان، (10) -وليس عنده السؤال-، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام، وأي أموره أفضل، (40)، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-. وأخرجه: مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام، وأي أموره أفضل، (41)، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، بدون السؤال. (¬4) أخرجه: البخاري، كتاب الإيمان، باب: أمور الإيمان، (12)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام، وأي أموره أفضل، (39)، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.

ثالثا: القواعد الشرعية

الإيمان بالله على سائر الفرائض، وتُقَدَّم النوافل المتعدية على غيرها. والسنة تزخر ببيان المفاضلة في الأعمال بناءً على زمانها (¬1)، وترجيحها بناءً على مكانها (¬2). كما وَرَدَ فيها التحذير من الذنوب والمعاصي بحسب رتبها، فالشرك بالله أخطرها، ثم الكبائر، ثم الصغائر. . . وهكذا. ثالثًا: القواعد الشرعية: قواعد نفي الحرج ورفع الضيق، كقاعدة: المشقة تجلب التيسير، وكقاعدة: إذا ضاق الأمر اتسع (¬3)، وقاعدة: لا واجب مع عجز، ولا حرام مع ضرورة (¬4)، ومثل ذلك قواعد الأصول والمقاصد، وغيرها من قواعد الفقه التي تتضافر جميعًا على نفي الضرر وفتح باب السعة (كالمصالح المرسلة، وكالأخذ بالأحوط، والاستحسان. . . وغيرها)، فإذا كان المكلف مأمورًا بمصلحة ما وقد تعارضت مع غيرها ولا سبيل للجمع بينهما فلا بد إذًا من الترجيح، ولا يصلح ترجيح بلا مرجح، وعند التزاحم لا بد عند تقديم حقٍّ على غيره أن يكون مرجحًا وله أسباب (¬5)؛ إذ التحكم باطل، والعمل بالتشهي ممنوع. ومتى كان الترجيح بالأهمية، أو الأولوية، أو غلبة النفع، أو نحو ذلك كان ترجيحًا له أسبابه، وكان محقِّقًا لمقصود الشارع {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وفي الحديث: "وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬6). ¬

_ (¬1) كأحاديث عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر وغيرها. (¬2) كأحاديث فضل الصلاة في المساجد الثلاثة، وفضل حرم مكة والمدينة. (¬3) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 83). (¬4) إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 41). (¬5) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 426). (¬6) قطعة من حديث أخرجه: البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب، باب: الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (7288)، ومسلم، كتاب الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر، (1337)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دعوني ما تركتكم؛ إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم. . . " فذكره.

القاعدة الثانية: عند تعارض المفاسد تدفع أعظمها فسادا

وهكذا فإن قواعد المقاصد تقتضي تقديم الضروري على ما عداه، وتقديم الحاجيات على التحسينات، وتقديم كل مرتبة على مكملاتها، فمثلًا: "مصلحة البدن مقدمة على مصلحة المال، ومصلحة القلب مقدمة على مصلحة البدن". (¬1) القاعدة الثانية: عند تعارض المفاسد تدفع أعظمها فسادًا: المعنى العام للقاعدة: "إذا دار الأمر بين درء مفسدتين وكانت إحداهما أكثر فسادًا من الأخرى، فدرء العليا منهما أولى من درء غيرها، وهذا موضع يقبله كل عاقل، واتفق عليه أولو لعلم ". (¬2) وكما أن القاعدة السابقة تنص على تقديم المصلحة الأرجح والأولى عند التعارض بين المصالح، فكذا عند تعارض المفاسد تدفع المفسدة الأكبر، ولا شك أن أعظم المكروهين أولاهما بالترك، فيرتكب أدنى المكروهين ضررًا ليتخلص به من أشدهما ضررًا (¬3). فمطلوب الشريعة ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعًا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعًا. (¬4) أدلة القاعدة: أولًا: القرآن الكريم: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ ¬

_ (¬1) الفتاوي الكبرى، لابن تيمية، (4/ 467). (¬2) شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 447 - 448). (¬3) إغاثة اللهفان، لابن القيم، (2/ 142). (¬4) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (23/ 343).

ثانيا: السنة المطهرة

أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]. وجه الدلالة: قال ابن تيمية في معنى الآية: "يقول الله -عز وجل-: وإن كان قتل النفوس فيه شرٌّ، فالفتنة الحاصلة بالكفر وظهور أهله أعظم من ذلك، فيندفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما". (¬1) ثانيًا: السنة المطهرة: 1 - عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستكون أثرة وأمور تنكرونها" قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: "تؤدُّون الحقَّ الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم" (¬2). 2 - وعن أسيد بن حضير -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" (¬3). وجه الدلالة: الحديثان يوجهان إلى الصبر على مفسدة أمراء الجور، وتَرْكِ قتالهم لما يترتب عليه من الفتنة الكبيرة والشر المستطير، قال ابن تيمية: "فَأَمَرَ -مع ذكره لظلمهم- بالصبر وإعطاء حقوقهم وطلب المظلوم حقه من الله، ولم يأذن للمظلوم المبغي عليه بقتال الباغي في مثل هذه الصور؛ فإن فيه فتنةً وشرًّا أعظم من ظلمهم، فالمشروع فيه الصبر". (¬4) 3 - وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسمًا، فقلت: والله يا رسول الله لَغيرُ هؤلاء كان أحقَّ به منهم، قال: "إنهم خيروني أن يسألوني بالفُحش، أو ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (10/ 513). (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، (3603)، ومسلم، كتاب، باب: وجوب الوفاء بيعة الخلفاء الأول فالأول، (1843) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-. (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض"، (3792)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب: الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم، (1845)، من حديث أنس بن مالك عن أسيد بن حضير -رضي الله عنه- أنَّ رجلًا من الأنصار قال: يا رسول الله؛ ألا تستعملني كما استعملت فلانًا؟ فذكره. (¬4) الاستقامة، لابن تيمية، (1/ 35 - 36).

يبخِّلوني، فلست بباخل" (¬1). وجه الدلالة: "الحديث فيه ارتكاب مفسدة لأجل أخرى؛ فإن القوم خيروه - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين مكروهين لا يتركونه من أحدهما: المسألة الفاحشة، والتبخيل، والتبخيل أشدُّ، فدفع - صلى الله عليه وسلم - الأشدَّ بإعطائهم" (¬2). ومثل هذا تركه - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ على الغالِّ (¬3) والمدين (¬4) وتركه قتلَ المنافقين (¬5)، وهذا يدل بجلاء على صحة هذه القاعدة، وكثرة تطبيقاتها. وفي تقريرها من جهة القواعد الأصولية والمقاصدية يقول العز ابن عبد السلام -رحمه الله-: "وقد أمر الله بإقامة مصالح متجانسة، وأخرج بعضها عن الأمر إنما لمشقة ملابستها، وإما لمفسدة تعارضها، وزَجَرَ عن مفاسد متماثلة، وأخرج بعضها عن الزجر، إما لمشقة اجتنابها، وإما لمصلحة تعارضها". (¬6) ¬

_ (¬1) أخرجه: مسلم، كتاب الزكاة، باب: إعطاء من سأل بفحش وغلظة، (1056). (¬2) الاستقامة، لابن تيمية، (2/ 266). (¬3) أخرجه: أبو داود، كتاب الجهاد، باب: في تعظيم الغلول، (2710)، وابن ماجه، كتاب الجهاد، باب: الغلول، (2848)، من حديث زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- أن رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي يوم خيبر فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صلوا على صاحبكم" فتغيرت وجوه الناس لذلك؛ فقال: "إن صاحبكم غل في سبيل الله"، ففتشنا متاعه؛ فوجدنا خرزًا من خرز يهود، لا يساوي درهمين! وصححه ابن حبان (11/ 190)، والحاكم (2/ 127). (¬4) أخرجه: البخاري، كتاب الكفالة، باب: الدَّين، (2298)، ومسلم، كتاب الفرائض، باب: من ترك مالًا فلورثته، (1619)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وأخرجه البخاري، كتاب الكفالة، باب: الدَّين، (2295)، من حديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-. (¬5) أخرجه: البخاري، كتاب المناقب، باب: ما ينهى من دعوة الجاهلية، (3518)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا (2584)، من حديث جابر -رضي الله عنه-، وفيه قصة. (¬6) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 7).

القاعدة الثالثة: المصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد فهي المقصودة شرعا، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد

القاعدة الثالثة: المصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد فهي المقصودة شرعًا، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد (¬1): معنى القاعدة: تقرَّر فيما مضى من قواعد المقاصد: أن الشريعة تَجلب المصالح وتُكثرها، وتَدفع المفاسد وتُقللها، كل ذلك من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، فالمفاسد أو المصالح ممنوعة أو مشروعة من أجل إقامة الحياة الدنيا على نحو يوصل إلى مرضاته تعالى في الآخرة، لا لمجرد نيل الشهوات الدنيوية، أو تحصيل اللَّذات العاجلة، وإلَّا لما كانت حاجةٌ لإنزال الشريعة "فوضع الشريعة، وإن كان لمصالح العباد، فإنما هو حسب أَمْرِ الشارع، وعلى الحد الذي حدَّهُ، لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم". (¬2) والمصالح والمفاسد منها: دنيوي -أي: وجوده في الحياة الدنيا- ومنها: أخروي يكون في الآخرة. فأما المصالح الدنيوية فلا يمكن -بحسب العادة- أن تتجرد عن المفسدة الدنيوية أيضًا، فهي لا تتمحض مصالحَ خالصة لا تشوبها شائبةُ مفسدةٍ من تكليف ومشقة، تصاحب المصلحة أو تسبقها أو تلحقها. يقول العز ابن عبد السلام -رحمه الله-: "إن المصالح الخالصة عزيزة الوجود، فإن المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمراكب والمساكن لا تحصل إلا بِنَصَبٍ مقترنٍ بها، أو سابقٍ، أو لاحقٍ" (¬3). وكذلك المفاسد قَلَّ أن تتمحضَ، فما من مفسدةٍ إلَّا وتقترن بها أو تلحقها أو تسبقها ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 26 - 27). (¬2) المصدر السابق، (2/ 172). (¬3) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 9 - 10).

مصلحة ما. فالخمر والميسر وإن كانت المفاسد فيها كثيرةً وكبيرةً وراجحةً إلَّا أن فيها مصلحةً ولو كانت قليلةً أو ضعيفةً أو مرجوحةً. ولذا قال سبحانه: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. والشارع الحكيم -سبحانه- في خطابه الشرعي يراعي الغالب من الأمرين، فيكون الحكم الشرعي للغالب، سواء أكان الغالبُ جانبَ الأمر، أم كان الغالبُ جانبَ الحظر، فالشارع يقيم الحكم للغالب من الجهتين: المصلحة أو المفسدة، والمفسدة إذا شابت الفعل المأمور به فليست هي المقصودة بذلك الأمر، وإنما المقصود الجهة الغالبة من المصلحة. وفي هذا يقول العز -رحمه الله-: "فإن قيل: الجهاد إفساد، وتفويت للنفوس والأطراف والأموال، وهو مع ذلك قربة إلى الله؟ قلنا: لا يتقرب به من جهة كونه إفساداً، وإنما يتقرب به من جهة كونه وسيلةً إلى درء المفاسد وجلب المصالح" (¬1). وكذا إقامة القصاص والحدود مع ما فيه من فوات الأنفس والأطراف لمن تقام عليه فإنه إنما يتقرب به من جهة كونه وسيلة إلى درء المفاسد عن المجتمع بأسره. وعليه فإنه عند اختلاط وامتزاج المصالح بالمفاسد الراجعة إلى الدنيا فإنها تفهم على مقتضى الغالب: "فإذا كان الغالب جهة المصلحة، فهي المصلحة المفهومة عرفًا، وإذا غلبت الجهة الأخرى، فهي المفسدة المفهومة عرفاً؛ ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوباً إلى الجهة الراجحة، فإن رجحت المصلحة فمطلوب، ويقال فيه: إنه مصلحة، وإذا غلبت جهة المفسدة، فمهروب عنه، ويقال: إنه مفسدة" (¬2). ¬

_ (¬1) المصدر السابق، (1 - 185). (¬2) الموافقات، للشاطبي، (2/ 26).

وغني عن البيان أنه متى أمكن تحصيل الصالح ودرء المفاسد كان هذا هو المتعين. وأما إن استوى طرفا المصلحة والمفسدة في الأمر فقد يُتَخير بينهما وقد يُتوقف فيهما. يقول الطوفي: "وإن اجتمع فيه الأمران: المصلحة والمفسدة، فإن أمكن تحصيل المصلحة ودفع المفسدة تعين، وإن تعذر فُعل الأهم من تحصيلٍ أو دفعٍ إن تفاوتا في الأهمية، وإن تساويا فبالاختيار، أو القرعة إن اتجهت التهمة، وإن تعارض مصلحتان أو مفسدتان أو مصلحة ومفسدة وتَرَجَّحَ كل واحد من الطرفين بوجه دون وجه، اعتبرنا أرجح الوجهين تحصيلًا أو دفعًا، فإن تساويا في ذلك عدنا إلى الاختيار أو القرعة". (¬1) وقد أنكر بعض العلماء وجود حالة يستوي فيها طرفا المصلحة والمفسدة، حتى قال ابن القيم -رحمه الله-: "هذا القسم لا وجود له، وإنْ حصرَهُ التقسيم، فإمَّا أن يكون حصوله أولى بالفاعل وهو راجح المصلحة، وإمَّا أن يكون عدمه أولى به وهو راجح المفسدة، وأما فعل يكون حصوله أولى لمصلحته وعدمه أولى به لمفسدته، وكلاهما متساويان، فهذا مما لم يقم دليل على ثبوته، بل الدليل يقتضي نفيه، فإن المصلحة والمفسدة، والمنفعة والمضرة، واللذة والألم، إذا تقابلا فلا بد أن يغلب أحدهما الآخر" (¬2). وقد مالت طائفة إلى إثبات هذه الحالة، منهم: العز ابن عبد السلام -رحمه الله- (¬3). وقال الغزالي -رحمه الله-: "إن الأسباب الدنيوية مختلطة قد امتزج خيرها بشرها، فقلما يصفو خيرها. . . ولكن تنقسم إلى ما نفعه أكثر من ضره. . . وإلى ما ضره أكثر من نفعه وإلى ما يكافئ ضرره نفعه" (¬4). ¬

_ (¬1) التعيين في شرح الأربعين، للطوفي، (ص 278). (¬2) مفتاح دار السعادة، لابن القيم، (2/ 349). (¬3) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 136). (¬4) إحياء علوم الدين، لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي، دار المعرفة، بيروت، (4/ 100).

وقد رجَّح بعض العلماء في حالة الاستواء اختيار درء المفسدة، فقد قال ابن السبكي -رحمه الله-: "تقديم درء المفاسد على جلب المصالح عند التعارض إنما هو فيما إذا تساويا من حيث المصلحة والمفسدة" (¬1). وقال الخادمي -رحمه الله- (¬2): "والأصل في اجتماع المفسدة والمصلحة ترجيح جانب المفسدة عند الاستواء" (¬3). وقد يستدل لذلك المنحى بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬4). حيث أطلق في الحديث الاجتناب في المنهيات، ولو مع مشقة في الترك، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة والوسع، وقد نقل هذا عن الإمام أحمد -رحمه الله-. (¬5) ولأن الغالب في الواجبات أن لها بدلاً، وأما فعل المحرمات فإنه لا يُتَمَكَّنُ غالبًا من تلافي مفسدتها بعد وقوعها. فلو أن إنساناً أكره على أحد أمرين إما ترك واجب، أو فعل محرم، وهما في رتبة واحدة، فالأولى ترك الواجب بدلاً من فعل المحرم؛ إذ درءُ المفسدة مقدَّمٌ على جلب المصلحة. ¬

_ (¬1) الإبهاج، لابن السبكي، (3/ 65). (¬2) عبد الله بن محمد بن مصطفى، الخادمي، الرومي، الحنفي. فقيه، أصولي، واعظ، مشارك في بعض من العلوم، من مصنفاته: منافع الدقائق شرح مجامع الحقائق لوالده في الأصول، شرح البسملة لوالده، توفي سنة 1192 هـ. معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (6/ 141). (¬3) بريقة محمودية، للخادمي، (1/ 265 - 266). (¬4) قطعة من حديث أخرجه: البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب، باب: الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (7288)، ومسلم، كتاب الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر، (1337)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دعوني ما تركتكم؛ إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم. . . " فذكره. (¬5) فتح الباري، لابن حجر، (13/ 261).

أدلة القاعدة

أدلة القاعدة: أولًا: القرآن الكريم: 1 - قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. وجه الدلالة: دلت الآية على أولوية درءِ المفسدة عندما تكون أعظم رتبة من المصلحة حالَ اجتماعها في الخمر أو في الميسر، وهي تدل على أن الحكم للغالب من المصلحة أو المفسدة، وأن المغلوب في حكم الاعتياد لا قيمة له في ميزان الشرع؛ ولهذا لعَن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الخمر عشرةَ أصناف (¬1)؛ مع وجود مصلحة ما لهم فيها. 2 - قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221]. ¬

_ (¬1) أخرجه: الترمذي، كتاب البيوع، باب: النهي أن يتخذ الخمر خلًّا، (1295)، وابن ماجه، كتاب الأشربة، باب: لُعنت الخمر على عشرة أوجه، (3381)، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "لعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الخمر عشرة: عاصرَها، ومعْتصرَها، وشاربَها، وحاملَها، والمحمولةَ إليه، وساقِيَها، وبائِعَها، وآكلَ ثمنِهَا، والمشتريَ لها، والمشتراةَ له". قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 136): "رواته ثقات". وأخرجه: أبو داود، كتاب الأشربة، باب: العنب يُعصر للخمر، (3674)، وابن ماجه، كتاب الأشربة، باب: لُعنت الخمر على عشرة أوجه، (3380)، من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لُعنت الخمر على عشرة أوجه: بعينها، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها، وشاربها، وساقيها". واللفظ لابن ماجه. وصححه ابن السكن؛ كما في "التلخيص الحبير"، لابن حجر العسقلاني، (4/ 136). وفي الباب: عن ابن عباس، وعن عثمان بن أبي العاص، وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم-.

ثانيا: السنة المطهرة

وجه الدلالة: دلت الآية على المنع من نكاح المشركات وإنكاح المشرك للمؤمنة؛ لما في ذلك من المفسدة الغالبة في الدين، وقطع اعتبار المصلحة المترتبة على هذا النكاح، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}. وقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ}. ثانيًا: السنة المطهرة: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة عبد الله بن أبي بن سلول، وقد قال له عمر -رضي الله عنه-: يا رسول الله؛ دعني أضرب عنق هذا المنافق! قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" (¬1). وجه الدلالة: لما عظمت المفسدة بقتل المنافق عبد الله بن أبي بن سلول على مصلحة قتله أَمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكفِّ عنه؛ فالإبقاء على حياته -مع ما فيه من المفاسد- مصلحته راجحة على مفسدة الصد عن سبيل الله ودينه، إذا تحدث الناس أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إذا اختلف مع بعض أصحابه قتلهم. 2 - قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة حين سألته عن الجدر وباب الكعبة، فقال: "ولولا أن قومك حديثٌ عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تُنكِر قلوبهم أن أُدخل الجَدْرَ في البيت، وأن أُلصِقَ بابه بالأرض" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب التفسير، باب: قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون: 6]، (4905)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: نصر الأخ ظالماً أو مظلومًا، (2584)، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-. (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب الحج، باب: فضل مكة وبنيانها، (1584)، ومسلم، كتاب الحج، باب: جدر الكعبة وبابها، (1333)، من حديث الأسود بن يزيد عن عائشة -رضي الله عنها- به.

ثالثا: المعقول

وجه الدلالة: غلَّب النبي - صلى الله عليه وسلم - مصلحة تأليف القلوب على الإسلام على مفسدة بقاء جزء من البيت خارج بنائه، وارتفاع باب الكعبة عن الطائفين والزوَّار. ثالثًا: المعقول: 1 - لو أن الجهة المغلوبة كانت مقصودةً للشارع ومعتبرةً لم يكن الفعل مأمورًا به بإطلاق، أو منهيًّا عنه بإطلاق، بل يكون مأمورًا به من حيث المصلحة، ومنهيًّا عنه من حيث المفسدة، ومعلوم قطعًا أن النهي عن الخمر والميسر ونحوهما كان قاطعًا باتًّا غيرَ معللٍ بالمصلحة. (¬1) 2 - لو كانت الجهة المغلوبة مقصودةً ومعتبرةً للشارع مع الجهة الغالبة سواءً بسواءٍ لكان تكليفًا بما لا يطاق، وهو باطل شرعًا؛ وذلك لأن الجهة المرجوحة مضادة في الطلب للجهة الراجحة، فيكون المكلف مأمورًا بالإيقاع وبعدمه في وقت واحد في محل واحد، وهو تكليف محالٌ لا يطاق (¬2). تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: إن هذه القاعدة الأصولية المقاصدية تقيم البرهان على ارتباط وثيق بين المصلحة من جهة، وبين الأحكام من جهة أخرى، كما أنها تجعل الكلمة الأخيرة عند التعارض هي لنص الشارع الحكيم، مع قطع النظر للمغلوب من المصالح أو المفاسد. ولا شك أنَّ ثمةَ تطبيقاتٍ كثيرةً ومتعددةً لهذه القاعدة وسابقتها في حياة الأقليات الإسلامية، والتي تعيش نائية عن بلاد المسلمين، ومحكومة بغير شرائعهم، وعليه: فإن مسائلَ كثيرةً مما اعتبر الشارع فيها وجوهًا من المصالح أو المفاسد تشرع لأجلها الأحكام سوف تبقى ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 31). (¬2) المصدر السابق، (2/ 32).

متأبدةً بأحكامها، وإن حاول بعضهم الولوج إلى استبدال أحكامها أو تغييرها بحجة المصلحة. فالاقتراض الربوي لشراء المساكن -مثلًا- أو التمويل الربوي للأعمال الصناعية أو الإنتاجية سوف يبقى محرمًا بحرمة الربا، وإن ذكرت مصالحُ فهي غير ملتفتٍ إليها من قِبَلِ الشارع الحكيم، وهي مرجوحة أمام عظم المفاسد التي تترتب على مخالفة النصوص الشرعية القطعية، والحقائق التاريخية، والوقائع الجارية والحالية. والتحاق أبناء الأقليات المسلمة بجيوش غير المسلمين، والعمل بها في المجالات العسكرية سيبقى محرمًا بحرمة موالاة غير المؤمنين، وإن ذكرت مصالحُ ترتبط بالمواطنة، أو بغيرها، فهي غير ملتفتٍ إليها من قِبَلِ الشارع الحكيم، وهي أيضًا مرجوحة أمام عظم المفاسد التي تترتب على مخالفة النصِّ الشرعي القطعي. والقدس الأبية أرض إسلامية لا يملك الفلسطينيون أن يتنازلوا عنها، ولا أن يساوموا عليها، ولا أن يبيعوا أرضها لليهود، وإن ذكرت مصالحُ ترتبط بإقامة دولة فلسطينية متنازلة عن قدسها، فهي كذلك غير ملتفتٍ إليها شرعًا، وهي مرجوحة أمام عظم المفاسد التي تترتب على مخالفة النصوص الشرعية، والحقائق التاريخية، والاعتبارات الواقعية.

القاعدة الرابعة: الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم تعارضها مصلحة راجحة.

القاعدة الرابعة: الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم تعارضها مصلحة راجحة (¬1). القاعدة الخامسة: ما حرم سدًّا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة (¬2). المعنى العام للقاعدتين: هاتان القاعدتان يتجاذبهما نظر الفقيه والأصولي، فالأولى تفيد أن كل وسيلة مباحة تفضي إلى مفسدة غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها -يجب منعُهَا وسدُّ طريقها. يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "كل فعل أفضى إلى المحرم كثيرًا كان سببًا للشر والفساد، فإذا لم يكن فيه مصلحة راجحة شرعية، وكانت مفسدته راجحة نهي عنه". (¬3) وهذا ما يعبر عنه العلماء بسدِّ الذرائع، قال الشاطبي: "حقيقة الذرائع: التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة". (¬4) وأما القاعدة الثانية فيعبر عنها بقاعدة: فتح الذرائع، فمن الذرائع ما يجب فتحه؛ لما فيه من المصالح الراجحة على المفسدة المتوقعة، فإذا تبين في فعلٍ ما مفسدة ومصلحة راجحة فلا مجال لإعمال قاعدة سدِّ الذرائع؛ لما يترتب عليها من الحرج وتفويت المصالح. قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وما كان منهيًّا عنه لسد الذريعة، لا لأنه مفسدة في نفسه يشرع إذا كان فيه مصلحة راجحة، ولا تُفَوَّتُ المصلحة لغير مفسدة راجحة". (¬5) ومن الفقهاء من اعتمد سدَّ الذرائع دون فتحها، كالإمام مالك -رحمه الله- فإنه يبالغ في سدِّ الذرائع، حتى ينهى عنها مع الحاجة إليها. (¬6) ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 305)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 161). (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم (2/ 161)، موسوعة القواعد، للبورنو، (1/ 92). (¬3) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (32/ 228). (¬4) الموافقات، للشاطبي، (4/ 199). (¬5) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (23/ 214). (¬6) المصدر السابق، (23/ 215).

أدلة القاعدتين

والمراد بالحاجة هنا المشقة التي تلحق المكلَّف بسبب ترك هذا الفعل، بحيث لا تصل إلى درجة التلف والهلاك. وسبب إيراد هاتين القاعدتين هو تعارض المصالح والمفاسد، فمتى تعارضت مفسدة مرجوحة بمصلحة راجحة، فالعبرة بالراجحة. قال ابن تيمية: "والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم". (¬1) أدلة القاعدتين: أطال ابن القيم في الاستدلال لسدِّ الذرائع حتى ذكر في إعلام الموقعين تسعةً وتسعين دليلًا على اعتبار سدِّ الذرائع أصلًا شرعيًّا. ومن ذلك ما يلي: أولًا: القرآن الكريم: 1 - قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. وجه الدلالة: سبُّ دين الكفار الباطل جائز؛ لكن نُهي عنه لما يترتب عليه من المفسدة الكبيرة، وهي مبادلة السب بالسب، ولا شك أن مصلحة تركهم سبَّ الله تعالى راجحة على مصلحة سب آلهتهم الباطلة. (¬2) ولكن إذا كان في سبِّ آلهتهم ما يغيظهم فيحملهم على النظر فيما هم عليه من سفه وباطل، ولم ينشأ عن ذلك مفسدة تفوق هذه المصلحة أو تساويها جاز. (¬3) ¬

_ (¬1) المصدر السابق، (29/ 49). (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 137) الفتاوي الكبرى، لابن تيمية، (6/ 174). (¬3) القواعد الفقهية، د. محمد بكر إسماعيل، (ص 119).

ثانيا: من السنة المطهرة

2 - قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]. وجه الدلالة: الأصل أن الضرب في الأرض جائز، لكن منع منه أنها قد تتوصل به أحيانًا إلى إبداء زينتها، والتبرج بها، وهذا مفسدته راجحة على مصلحة جواز الضرب، فإن لم يكن أجنبي عنها ففعلت ذلك أمام زوجها لم يكن من حرج. 3 - قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5]. وجه الدلالة: نكاح الكاتبيات جائز فإذا أفضى إلى عزوف المسلمين عن زواج المسلمات، ولَحِقَ بهن ضرر لأجل ذلك جاز للحاكم منعُهُ سدًّا للذريعة، كما فعل عمر -رضي الله عنه- حين رأى المسلمين استكثروا من نكاح الكتابيات، وأنهن غلبن المسلمين على نسائهم. والنص القرآني لم يجعل نكاح الكتابيات واجبًا، وإنما أباحه فقط، والمباح لا يبقى على بابه إن أدَّى فعله أو تركه إلى ضرر. ثانيًا: من السنة المطهرة: 1 - عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: أن عبد الله بن أبي بن سلول قال عقب تداعي المهاجرين والأنصار: أقد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ، فقال عمر: ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيثَ -لعبد الله- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:

"لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه" (¬1). وجه الدلالة: "أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكفُّ عن قتل المنافقين مع كونه مصلحةً؛ لئلَّا يكونَ ذريعةً إلى أن يقال: إنَّ محمدًا يقتل أصحابه؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، وممن لم يدخل فيه، وهذا النفور حرام". (¬2) 2 - عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَحَرَّوْا بصلاتكم طلوعَ الشمس ولا غروبَها؛ فإنها تطلعت بقرنَي شيطان" (¬3). لما كان الكفار يسجدون للشمس في تلك الأوقات نُهي عن الصلاة فيها؛ لئلَّا يكون المصلي متشبهًا بالكفار، وفي المقابل أبيحتِ النوافلُ ذواتُ الأسباب في أوقات النهي، بناءً على أن النهي عن الصلاة كان لسدِّ الذريعة فيباح للمصلحة الراجحة. (¬4) على أن جملة كبيرة من الأحكام يمكن تخريجها على هذا النحو؛ كإباحة النظر إلى المخطوبة، وقد نُهي عن النظر سدًّا لذريعة الفتنة بالنساء، وكإباحة السفر بالمرأة إذا خيف ضياعها كسفرها من دار الحرب، وكسفر أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- لما تخلَّفت عن الركب، فسافرت مع صفوان بن المعطل، فإنه لم يُنْهَ عنه إلَّا لإفضائه إلى المفسدة، فإذا ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب المناقب، باب: ما يُنهى من دعوة الجاهلية، (3518)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا، (2584). (¬2) الفتاوي الكبرى، لابن تيمية، (6/ 174). (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب: الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، (582)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، (828) -واللفظ له-، من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-. (¬4) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (23/ 186).

التطبيقات في حياة الأقليات

كان مقتضيًا للمصلحة الراجحة لم يكن مفضيًا إلى المفسدة. (¬1) وكذلك دفع الرشوة مَنْهِيٌّ عنه؛ لأنه وسيلة لأخذ محرم، فلو توقفت عليها حاجةٌ ومصلحة شرعية راجحةٌ أبيحت للدافع وظلَّت حرمتها على الآخذ. (¬2) وبالجملة فإن تعميم هذا الأصل اعتمادًا على تلك الشواهد يرجع أيضًا إلى مسألة أصولية هي: القياس على الرخص، وجوازه هو قول الأكثر من الأصوليين؛ لعموم الأدلة على حجية القياس، ولأن الحكم يدور مع العلة، فإذا وجدت علة الرخصة في موضعٍ آخرَ ثبت حكمها (¬3). التطبيقات في حياة الأقليات: تموج حياة الأقليات بتدافعات كثيرة يجب التأمل فيها، ومن ذلك: مناظرة المخالفين في أصل الدين ببلاد الأقليات الإسلامية، وبيان فساد معتقداتهم وبطلان أديانهم جائز مع ما يتضمنه من قدح في عقائدهم ومعبوداتهم من دون الله؛ فإن أفضى ذلك إلى مفسدةِ وُلُوغِهِمْ في أعراض المسلمين ودمائهم وأديانهم فيجب الكفُّ عنه؛ سدًّا لهذه الذريعة التي تخول لهم -والدولة بأيديهم- أن يتناولوا أهل الإسلام حالَ استضعافهم بحروب الإبادة والاستئصال. ومن ذلك -أيضًا-: عقودُ التأمين خارج بلاد المسلمين إذا كانت من شأنها إقامة المؤسسات والمشروعات الإسلامية التي تحفظ على المسلمين هنالك أديانهم واجتماع أمرهم كالمدارس والمراكز الإسلامية ونحوها، فإنه يباح إجراؤها، مع أن تلك العقود محرمة سدًّا لذريعة الربا والغرر والقمار وأكل المال بالباطل، لكنها لما تعينت وسيلة لحفظ الأديان بأقامة تلك المؤسسات الإسلامية المهمة جازت؛ لأن ما حرم سدًّا للذريعة أُبيح للمصلحة الراجحة. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (23/ 185 - 186). (¬2) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 173). (¬3) شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 220).

القاعدة السادسة: إذا تعارض الواجب والمحظور أيهما يقدم؟

القاعدة السادسة: إذا تعارض الواجب والمحظور أيهما يقدم؟ المعنى العام للقاعدة: لا خلاف أنه إذا تعارض واجب مع مندوب أن يقدم الواجب، وأن الفرض أفضل من النفل، بحيث إذا تعارض واجب مع مندوب أو مسنون، ثم ضاق الوقت عن المسنون؛ فإنه يترك تقديمًا لمصلحة الواجب؛ وذلك لأن الفرض والواجب أحبُّ إلى الله من المندوب، وثوابه أعظم وأكثر. (¬1) والاتفاق حاصل أيضًا بين الأصوليين على أن الواجب يرجح على ما سوى التحريم فيرجح الوجوب على الكراهة والندب والإباحة، وقد يعبر عن هذا بقول بعض الأصوليين: "يقدم الأمر على ما سوى النهي" (¬2). إلا أنه وقع الخلاف: هل يقدم الأمر على النهي، أم يقدم النهي على الأمر مطلقًا، وبعبارةٍ أدقَّ: هل يُقَدَّمُ فعلُ الواجب على ترك المحظور، أم يُقَدَّمُ تركُ المحظور على فعل الواجب عند التعارض؟ أدلة القاعدة: اختلف الأصوليون في ذلك على مذهبين: الأول: يُقَدَّمُ النهي أو المحظور على ما سواه مطلقًا، وهذا مذهب جمهور الأصوليين واختيار أكثرهم (¬3). ¬

_ (¬1) غمز عيون البصائر، للحموي، (1/ 448)، الفروق، للقرافي، (2/ 566). (¬2) التقرير والتحبير، لابن أمير الحاج، (3/ 30). (¬3) الإحكام، للآمدي، (4/ 269)، الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 106)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 121).

الثاني

الثاني: يقدم الأمر أو الواجب على ما سواه مطلقًا، وهذا مذهب ابن تيمية وابن القيم. (¬1) وذهب الآمدي والهندي (¬2) وابن حمدان إلى تقديم المبيح على الأمر أو النهي. (¬3) وقد استدل أصحاب المذهب الأول لمذهبهم وعللوه بعدد من الأدلة والتعليلات منها: 1 - أن النهي وَرَدَ جازمًا وعُلِّقَ الأمرُ بالاستطاعة، وذلك في مثل قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". (¬4) وقال الشاطبي -تعليلًا لهذا المذهب-: "إن المناهي تمتثل بفعل واحد وهو الكفِّ، فللإنسان قدرة عليها في الجملة من غير مشقة، وأما الأوامر فلا قدرة للبشر على فعل جميعها، وإنما تتوارد على المكلف على البدل بحسب ما اقتضاه الترجيح، فترك بعض الأوامر ليس بمخالفة على الإطلاق بخلاف بعض النواهي فإنه مخالفة في الجملة". (¬5) وقال الطوفي -في تسبيب الفرق بين المأمور به والمنهي عنه-: "لأن تَرْكَ المنهي عنه عبارة عن استصحابِ حالِ عدمِهِ والاستمرار على عدمه، وليس ذلك ما لا يُستطاع حتى يسقط التكليف به، بخلاف فعل المأمور به، فإنه عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود، وذلك يتوقف على شروط وأسباب كالقدرة على الفعل ونحوها، وبعض ذلك يستطاع، وبعضه لا يستطاع، فلا جَرَمَ سقط التكليف به؛ لأن الله -عز وجل- أخبر ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 120 - 121)، الفوائد، لابن القيم، (ص 120). (¬2) أبو عبد الله، صفي الدين، محمد بن عبد الرحيم بن محمد، الهندي، الأرموي، الشافعي، كان فقيهًا أصوليًّا متكلمًا، من مصنفاته: الزبدة والفائق في علم الكلام، والنهاية، والرسالة السيفية في أصول الفقه، ولد سنة 644 هـ، وتوفي سنة 715 هـ. الدرر الكامنة، لابن حجر، (4/ 14)، وشذرات الذهب، لابن العماد، (8/ 68). (¬3) شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 659)، الإحكام، للآمدي، (4/ 260). (¬4) سبق تخريجه. (¬5) الموافقات، للشاطبي، (4/ 272).

أنه لا يكلِّفُ نفسًا إلا وُسعها، وهذه رخصة عظيمة في كثير من الأحكام". (¬1) 2 - النهي يقدم لشدة الطلب فيه، ولاقتضائه الدوام، بخلاف الأمر الذي لا يفيد التكرار فإن النهي يفيده. (¬2) واستدل القائلون بتقديم الأمر مطلقًا بمجموعات من الأدلة: قال ابن القيم: "فإن تَرْكَ الأمر أعظمُ من ارتكاب النهي في أكثر من ثلاثين وجهًا، ذكرها شيخنا -يعني: ابن تيمية -رحمه الله-- في بعض تصانيفه". (¬3) وذكر ابن القيم -رحمه الله- ثلاثة وعشرين وجهًا تدل على أن تَرْكَ الأمر أعظمُ من ارتكاب النهي. (¬4) ومن ذلك: 1 - أن الطاعة والمعصية إنما تتعلقان بالأمر أصلًا وبالنهي تبعًا، فالمطيع ممتثل المأمور، والعاصي تارك المأمور، قال تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6]. 2 - أن فعل المأمورات أحبُّ عند الله من ترك المنهيات، ومما يدل على ذلك: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4]، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سئل: أي الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها. . . " (¬5) ونحو ذلك. وأما في جانب المنهيات فأكثر ما جاء لنفي المحبة، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ ¬

_ (¬1) التعيين في شرح الأربعين، للطوفي، (112 - 111). (¬2) الإحكام، للآمدي، (4/ 259). (¬3) إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 121). (¬4) الفوائد، لابن القيم، (ص 119). (¬5) أخرجه: البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها، (527)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (85) من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.

الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، وأخبر في بعض المواضع أنه سبحانه يكرهها ويسخطها، فقال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38]. 3 - كما أن فِعْلَ المأمور مقصود لذاته، وتَرْكَ النهي مقصود لتكميل فِعْلِ المأمور، فهو منهي عنه لأجل كونه يُخِلُّ بفعل المأمور أو يُضْعِفه وينقصه، كما في نهيه تعالى عن الخمر والميسر بكونهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة، فالمنهيات قواطع وموانع صادَّةٌ عن فعل المأمورات، أو عن كمالها. 4 - أن العبادة التي لأجلها خُلِقَ الخلقُ هي تلك الأوامرُ، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. 5 - أنه لو تَرَكَ جميعَ المنهيات، ولم يأتِ بالإيمان والأعمال المأمور بها لم ينفعه ذلك التَرْكُ شيئًا وكان خالدًا في النار، ولو قال المدعو إلى الإيمان: لا أُصدق ولا أُكذب، ولا أُحب ولا أبغض، ولا أعبده ولا أعبد غيره كان كافرًا بمجرد الترك والإعراض، بخلاف ما لو آمن ثم ارتكب المنهيات بغلبة شهوته، أو ضعف عزيمته فلا يكون كافرًا. وقد أجاب أصحاب هذا القول عن أدلة أصحاب القول الأول بما يَرُدُّ مذهبَهُمْ، ومن ذلك: 1 - أن الحديث المستَدَلَّ به على تقييد الأمر بالاستطاعة لا يدل على المدعى من اعتناء الشرع بترك المنهيات أكثر من عنايته بفعل المأمورات؛ وذلك لأن المطلوب هو الكفُّ، فلا يُتَصوَّرُ فيه عدمُ الاستطاعة، بخلاف الفعل؛ فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن ثَمَّ جاء التقييد في الأمر بحسب الاستطاعة دون النهي. (¬1) 2 - كما أن ترك الأمر منهي عنه، واجتناب النهي مأمور به، وما ذكر من يسر تَرْكِ النهي ¬

_ (¬1) فتح الباري، لابن حجر، (13/ 262 - 263).

لا يدلُّ على كون الاعتناء بالنهي أشدَّ من الاعتناء بالأمر. (¬1) وذهب الآمدي ومن معه إلى تأييد مذهبهم بأدلة كلامية، منها: 1 - أن مدلول المبيح متحد ومحدد، ومدلول الأمر متعدد؛ لأنه يشمل الوجوب والندب والإباحة، فكان المبيح أولى. 2 - المبيح يمكن العمل بمقتضاه على تقديريه: على تقدير مساواته للأمر، ورجحانه، والعمل بمقتضى الأمر متوقف على الترجيح، وما يتم العمل به على تقديريه، يكون أولى مما لا يتم العمل به إلا على تقدير واحد. 3 - غاية ما يلزم من العمل بالمبيح تأويل الآخر بصرفه عن محمله الظاهر إلى المحمل البعيد، والعمل بالأمر يلزم منه تعطيل المبيح بالكلية، والتأويل أولى من التعطيل (¬2). وقد رُدَّ على تلك الوجوه بردود كثيرة، منها: 1 - أن الإباحة كثيرًا ما تَرِدُ عليها القيودُ التي تحيلها إلى الوجوب، أو الكراهة، أو التحريم، أو الندب، وهذا مما لا يحتمله الأمر أو النهي، فالصلاة واجبة فلا يتغير حكمها بحال، والزنا حرام فلا يتبدل حكمه أبدًا، بخلاف النكاح فإنه يباح في أصله، ويتغير حكمه بناءً على تغير الظروف والأحوال. 2 - وهذا يدل على ضعف جانب المبيح إذا تعارض مع الأمر أو النهي، وعليه فيقدمان عليه. 3 - المصالح المترتبة على فعل الأمر وترك النهي أعظم من المصالح المترتبة على فعل المباح؛ وذلك لتعلق الثواب والعقاب بالأمر والنهي بخلاف المباح. وعلى ذلك فإن الحق ظاهر في تقديم الأمر أو النهي إذا تعارضا مع المبيح. ¬

_ (¬1) تأصيل فقه الأولويات، د. محمد همام، (ص 304 - 305). (¬2) الإحكام، للآمدي، (4/ 269).

وأما ما ذهب إليه ابن تيمية وابن القيم من تقديم الواجب على المحظور، أو الأمر على النهي، فلا شك أن أصل الأوامر الشرعية ورأسها من الإيمان مقدمٌ على فعل كل نهي دون الشرك والكفر. والتعارض المقدر إذا كان بشكل مطلق أو كلي أو أغلبي وكان في محلٍّ واحدٍ أو حالٍ واحدةٍ فيقدم الأمر على النهي، ويكون تَرْكُ الأمر أعظمَ من ارتكاب النهي. وأما ما يتعلق بالجزئيات من ذلك، كأن يتعارض فعل المأمور الجزئي مع ارتكاب المنهي الجزئي في محلٍّ واحد، فينبغي النظر في رتبة المأمور ورتبة المحظور، فإن كانت المفاسد المترتبة على فعل المحرم أعظمَ من مفاسد ترك الواجب احتُمِلت مفسدة ترك الواجب لدرء مفسدة فعل المحرم، وإن كانت مفسدة ترك الواجب أعظمَ ففعل المحرم أولى، وهذا له تعلق بالترجيح بين المصالح والمفاسد عند التعارض، وضوابط ذلك من الكلية والجزئية والتعدي والقصور. وعليه فلا بدَّ ولا غنى عن النظر في مراتب الأمر والنهي، والواجب والمحرم عند التعارض، فإذا تعارضت صغيرة مع واجب شرعي فليقدم الواجب -فضلًا عن ركن أو أصل من أصول الإيمان- وإذا تعارضت الكبيرة مع الواجب الذي هو من جنس الوسائل -مثلًا- فليقدم ترك مثله على ارتكاب مثلها. فإن استوت الرتبتان بين الواجب والمحظور، أو نقصت رتبة الواجب، أو حصل تردد أو اشتباه فليعمل عندئذٍ بمذهب عامة الأصوليين من تقديم درء المفسدة على جلب المصلحة، أو تقديم الامتناع عن ارتكاب المنهي عنه درءًا لمفسدته، ولو فَوَّتَ هذا تحصيلَ مصلحة الأمر. على أنه لا اختلاف على أن ترك الحرام أولى من فعل ما يُستحب، فإذا كان الدنو والقرب من الإمام وإدراك الصف الأول يوم الجمعة وفي الجماعة مستحبًّا متأكدًا فإن تخطي الرقاب يوم الجمعة محرم، فَيُنهَى عن ذلك، ولو فَوَّتَ المصلحة المترتبة على فعل المستحب.

تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات

تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: ما تزال حياة الأقليات تزخر بكثير من التعارضات والتناقضات، ومن أشدها: ما قد يقع من تعارض بين واجب ومحرم، فلو أن امرأة غير مسلمة تمكَّنَ دين الله من قلبها فدخلت في الإسلام فانبتَّتْ صلتها بأهلها من أهل ملتها الأولى، ولم تجد من تأوي إليه من المسلمين في تلك الدار، فأرادت الهجرة أو السفر من ذلك المكان إلى غيره حفظًا لدينها أو خوفًا على حريتها أو حياتها، وهي منهية عن السفر بدون محرم -على ما هو الأصل في حكم سفر المرأة- فإن أمرها بالهجرة والانتقال مقدم هنا على ما عارضه من النهي عن سفرها بغير محرم، فيقدم الأمر على النهي، والواجب على المحظور، على أن رتبة الأمر هنا فوق رتبة النهي؛ فإن النهي هنا من باب النهي عن الوسائل المفضية للفساد والفتنة، والأمر إنما هو من باب المقاصد لإقامة أمر ضروري وهو حفظ الدين. ولو أن مسلمًا عمل بجيش غير المسلمين في ديار الأقليات فتوجَّه الأمر إليه بقتل المسلمين وحربهم -كما وقع للمسلمين الأمريكان عند غزو أمريكا لبلاد الأفغان وغيرها- فقد تعارض ما وجب الوفاء به من الأعمال المتعاقد عليها مع دولته مع النهي عن قتل المسلم للمسلم بدون حقٍّ مشروع؛ فيقدم النهي لأن رتبته أعلى؛ إذ حِفْظُ النفس المعصومة مقدمٌ على حفظ ما دونها؛ ولأن المفاسد المترتبة على قتل المسلم -وهو كبيرة- أعظمُ من المفاسد المترتبة على تركه الوفاءَ بمقتضيات عقد وظيفته الذي هو من جنس الوسائل. والأمثلة على تلك التعارضات في بلاد الأقليات كثيرة شهيرة، والموفَّقُ مَنْ عصمه الله.

المطلب الثاني: القواعد الفقهية

المطلب الثاني: القواعد الفقهية: القاعدة الأولى: إذا تعارض المانع والمقتضي يقدم المانع (¬1): القاعدة الثانية: درء المفاسد أولى من جلب المصالح (¬2): المعنى العام للقاعدتين: هاتان القاعدتان متقاربتان في المعنى، وقد تقدم في قواعد الأصول ما يدل على أن محلهما إذا توارد المقتضي والمانع على محل واحد، أما إذا لم يردا على محل واحد فإنه يعطى كل منهما حكمه. فلو أنه جَمَعَ بين من تحلُّ له ومن لا تحلُّ له في عقد واحد: صحَّ العقد في الحلال، وبطل في الأخرى، وكما لو جَمَعَ بين وقف وملك، وباعهما صفقةً واحدة: صحَّ في الملك بحصته من الثمن. وكما لو جَمَعَ بين ماله ومال غيره وباعهما صفقةً واحدةً؛ لأنه يصح في ماله ويتوقف في مال الغير على إجازة المالك. وهاتان القاعدتان قد يخرج عنهما فروع تُستثْنَى بسبب ما قد يحصل من التردد في الفروع، وتقدير المصالح ورجحانها على المفاسد والعكس؛ لأن المراد من تقديم المانع على المقتضي هو رعايته وتقديم العمل به. وعليه: فإن محلهما في حال تساوي المصالح والمفاسد أو التردد في أيهما أغلب، فيجوز الكذب بين المتخاصمين للإصلاح؛ إذ مفسدة الكذب قاصرة على نفس الفاعل، وهو من يصلح، والمصلحة متعدية، وهنا غلب جلب المنفعة على درء المفسدة. ¬

_ (¬1) شرح القواعد الفقهية، لأحمد الزرقا، (ص 223). (¬2) المصدر السابق، (ص 205).

أدلة القاعدتين

وقد عد العز ابن عبد السلام -رحمه الله- في قواعده ثلاثًا وستين موضعًا، وكلها ترجح فيها جلب المصالح والمنافع على درء المفاسد. (¬1) على أنه قد يتعارض مانعٌ ومقتضٍ، ولا يقدم أحدهما على الآخر، بل يعمل في كل منهما بما يقتضيه، وقد مَثَّلوا لذلك بالمسألة التالية: رجل قال لامرأته: إن لم أطلقك اليوم ثلاثًا فأنت طالق، ثم أراد أن لا يطلق امرأته، ولا يصير حانثًا، قالوا: الحيلة في هذا ما روي عن أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- وعليه الفتوى: أن يقول لامرأته في اليوم: أنت طالق ثلاثًا على ألف درهم، فإذا قال لها ذلك تقول المرأة: لا أقبل، فإذا قالت المرأة ذلك ومضى اليوم كان الزوج بارًّا في يمينه، ولا يقع الطلاق؛ لأنه طلقها في اليوم ثلاثًا، وإنما لم يقع الطلاق عليها لردِّ المرأة، وهذا لا يُخرج كلامَ الزوج من أن يكون تطليقًا. (¬2) ولا فرق عندهم في تقديم المانع على المقتضي بين أن يجيئا معًا كأكثر الفروع والأمثلة المضروبة والمخرجة على القاعدة، وبين أن يطرأ المانع على المقتضي قبل حصول المقصود من المقتضي، ففي كلٍّ يُقَدَّمُ المانع، كما لو شهد لامرأة أجنبية عنه، ثم صار أجيرًا -أي: أجيرًا خاصًّا- قبل القضاء بشهادته بطلت شهادته في المسألتين. (¬3) أدلة القاعدتين: سبقت أدلة للقاعدتين من القرآن، والسنة، والمقاصد، والقواعد الشرعية، ويمكن إضافة الحديث التالي: ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 137 - 161). (¬2) شرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص 250 - 251)، وعزاه لحاشية الرملي على جامع الفصوليين من الباب الرابع والثلاثين، (ص 213). (¬3) معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، لعلي بن خليل الطرابلسي، المطبعة الميمنية، القاهرة، (ص 108).

وجه الدلالة

- عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: "ردَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا" (¬1). وجه الدلالة: المصلحة الخاصة عارضتها مفسدةٌ متعديةٌ؛ بحيث إن مصلحة الانقطاع للتعبد عارضتها مفسدة تقليل نسل الأمة، ومنْع تكثير سوادها، مع ما في ذلك من المفاسد التي تعود عليه خاصة. ونحو هذا المعنى ثابت في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال أنس -رضي الله عنه-: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أُخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رَغِب عن سنتي فليس منِّي" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب النكاح، باب: ما يُكره من التبتل والخصاء، (5073)، ومسلم، كتاب النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه، واشتغال مَن عجز عن المؤن بالصوم، (1402). (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب النكاح، باب: الترغيب في النكاح، (5063)، ومسلم، كتاب النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه، واشتغال مَن عجز عن المؤن بالصوم، (1401).

القواعد من الثالثة إلى السابعة

القواعد من الثالثة إلى السابعة: 3 - الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف. (¬1) 4 - يُختار أهون الشرين أو أخف الضررين. (¬2) 5 - يُتَحَمَّلُ الضرر الخاص لدفع الضرر العام. (¬3) 6 - إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمها ضررًا بارتكاب أخفهما. (¬4) 7 - إذا اجتمع ضرران أسقط الأصغر الأكبر (¬5) المعنى العام للقواعد: هذه القواعد مختلفةٌ مبنًى مقتربةٌ معنًى في الجملة؛ لذا ناسب جمعها معًا، وهي متعلقة بالقاعدة الفقهية السابقة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، ومتفرعة عن القاعدة الكلية الكبرى: "لا ضرر ولا ضرار". وهي تدور حول المعنى الكلي العظيم والذي ابتنيت عليه الشريعة السمحة من تحصيل المصالح وتكميلها، ودفع المفاسد وتقليلها. وتعتبر قاعدة: "يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام" مبنيةً على المقاصد الشرعية في مصالح العباد، استخرجها المجتهدون من الإجماع، ومعقول النصوص، وتعتبر قيدًا لقاعدة: "الضرر لا يزال بمثله". (¬6) فالشرع إنما جاء ليحفظ على الناس دينهم، وأنفسهم، وعقولهم، وأنسابهم، ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 96)، شرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص 199). (¬2) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 87)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 98). (¬3) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 96)، شرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص 197). (¬4) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 87)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 98). (¬5) إيضاح المسالك، للونشريسي، (ص 95). (¬6) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 86)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 96).

أدلة القواعد

وأموالهم، فكل ما يؤدي إلى الإخلال بواحد منها فهو مضرة يجب إزالتها ما أمكن، وفي سبيل تأكيد مقاصد الشرع بدفع الضرر الأعم بارتكاب الضرر الأخص، ولهذه الحكمة شُرِعَ حدُّ القطع حمايةَّ لَلأموال، وحدُّ الزنا والقذف صيانةً للأعراض، وحدُّ الشرب حفظًا للعقول، والقصاصُ وقتلُ المرتد صيانةَّ لَلأنفس والأديان، ومن هذا القبيل شُرِعَ قتلُ الساحرِ المضرِ، والكافرِ المضلِّ؛ لأن أحدهم يفتن الناس، والآخر يدعوهم إلى الكفر، فيتحمل الضرر الأخص ويرتكب؛ لدفع الضرر الأعم. (¬1) ولأجل هذا جوَّز الفقهاء الحجرَ على المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس. (¬2) أدلة القواعد: أدلة هذه القواعد كثيرة شهيرة تقدم عدد منها، ويمكن أن نسوق دليلين للتمثيل فقط من الكتاب والسنة: أولًا: القرآن الكريم: قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]. وجه الدلالة: قررت الآية حكمين هامين هما: حرمة الميتة والدم ولحم الخنزير، والثاني إباحة الميتة للمضطر. وبالنظر في الآية يظهر التعارض بين مفسدتين إحداهما أعظم من الأخرى، فالأكل من الميتة مفسدة ومعصية، وترك الأكل منها مع عدم وجدان غيرها مفسدة أعظم؛ لإفضائها إلى هلاك النفس وفواتها بالجوع. ¬

_ (¬1) الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، للبورنو، (ص 206). (¬2) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 87).

ثانيا: السنة المطهرة

والأُولى دون الثانية في الضرر والمفسدة؛ لذا جاء الحكم الشرعي بإباحتها للمضطر عند خوف الهلكة. ثانيًا: السنة المطهرة: حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أن أعرابيًّا قام إلى ناحية في المسجد فبال فيها، فصاح به الناس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعوه ولا تزرموه". فلما فرغ دعا بدلو من ماء فصبَّهُ عليه (¬1). وجه الدلالة: قال الإمام النووي: "وفيه الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ولا إيذاء إذا لم يأتِ بالمخالفة استخفافًا أو عنادًا، وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "دعوه" لمصلحتين إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله لتنجست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد" (¬2). على أنه لو حبس بوله تضرر، ولو أنهم نهروه لنفر، وربما رجع عن دينه، فاحتملت أدون المفسدتين لدرء أعلاهما. ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب: الرفق في الأمر كله، (6025)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب: وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد و. . .، (284) -واللفظ له-. (¬2) شرح صحيح مسلم، للنووي، (3/ 191).

المبحث السابع القواعد المتعلقة بالمآلات

المبحث السابع القواعد المتعلقة بالمآلات المطلب الأول: القواعد الأصولية والمقاصدية القاعدة الأولى: النظير في المآلات معتبر مقصود شرعًا: المعنى العام للقاعدة: المآلات هي واحد المآل، وهو مصدر ميمي من آل الشيء يؤول أَوْلًا ومآلًا بمعنى: رجع، والموئل: المرجع وزنًا ومعنًى. كما يأتي بمعنى الإصلاح والسياسة، من قولهم: آلَ المالَ، أي: أصلحه وساسه، وآل على القوم: أي: ولي عليهم (¬1). واعتبار المآل من حيث معناه الإضافي بمعنى الاعتداد بالشيء وما يصير إليه. أما المعنى الاصطلاحي لاعتبار المآلات وباعتبار هذا التركيب فله معنى لقبي خاص يضبط حقيقته، ويبين ماهيته، فإنه يدور حول تحقيق المناط في آحاد الصور بالنظر إلى مقاصد الشرع في تشريع الأحكام؛ فهو حكم على مقدمات التصرفات والأفعال بالنظر إلى نتائجها وما تفضي إليه. وقد عبَّر عن هذا بعض الباحثين بقوله: "هو تحقيق مناط الحكم بالنظر في الاقتضاء التبعي الذي يكون عليه عند تنزيله من حيث حصول مقصده، والبناء على ما يستدعيه ذلك الاقتضاء" (¬2). ¬

_ (¬1) لسان العرب، لابن منظور، (1/ 260)، القاموس المحيط، للفيروزآبادي، (3/ 320). (¬2) اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، عبد الرحمن السنوسي، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1424 هـ، (ص 19).

فهذا المبدأ يُعْنَى بمراعاة ما ينشأ عن تصرفات وأفعال المكلفين من آثار وأحوال لها دخل مباشر في تكوين مناط الحكم وتكييفه، ومن ثم إصدار الحكم على تلك الأفعال بحسب ما تنتهي إليه وتفضي من النتائج. على أنه من المآلات ما يكون قطعيًّا في تحققه وحصوله، ومنها ما يكون ظنيًّا في تحققه، ولم يبلغ مبلغ القطع واليقين، ومنها ما يكون نادرًا، أو موهومًا. ومحل النظر في المآلات إنما هو في الأفعال والتصرفات. ولذا عبر عنها الشاطبي بقوله: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا" (¬1). والأفعال هي كل ما يصدر عن المكلَّف، وتتعلق به قدرته من قول أو فعل أو اعتقاد أو نية (¬2). فيشمل الفعل وهو أعم من الاعتقاد والقول، كما يشمل الواقع والمتوقع؛ لأنهم عبروا بالتعلق عما من شأنه أن يتعلق وإن لم يقع بعد، تسميةً للشيء باسم ما يؤول إليه (¬3). ولا يشترط في هذه الأفعال أن تكون موافقة أو مخالفة، فهي عمومًا يُنْظَرُ في آثارها وما يترتب عليها من نتائجها مطلقًا. وهذه القاعدة وثيقة التعلق بقواعد المقاصد، والتي من أهمها: "قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصده في التشريع" (¬4). كما ترتبط بالقاعدة المقاصدية الأخرى: المقاصد معتبرة في التصرفات (¬5)، وهي قريبة من القاعدة الفقهية الكبرى: الأمور بمقاصدها (¬6). ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 194). (¬2) نهاية السول، للإسنوي، (1/ 56)، حاشية البناني على شرح المحلِّي، (1/ 49). (¬3) نهاية السول، للإسنوي، (1/ 53). (¬4) الموافقات، للشاطبي، (2/ 331). (¬5) المرجع السابق، (2/ 323). (¬6) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 8).

والقاعدة مترتبة على مجموعة القواعد المتعلقة بالتعارض بين المصالح والمفاسد؛ وذلك لأن فعل المكلف قد يكون مشروعًا لمصلحة فيه تُسْتَجْلَبُ، أو مفسدة تُدرأ، ولكن بالنظر إلى مآله قد نجده على خلاف ما قُصِدَ فيه، فإذا أُطْلِقَ القول فيه بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي استجلاب المصلحة، أو تزيد عليها، مما قد يمنع إطلاق القول بالمشروعية. وبالمثل إذا أُطْلِقَ القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية. وعليه: فإن إهمال النظر إلى المآلات من حيث إفضاء الأفعال والتصرفات إلى نقيض المقصود الذي شُرِعَتْ له يُرتب أنواعًا من الخلل؛ إذ ربما أدى القول بعدم مشروعية الفعل إلى استدفاع مصلحة تربو على المفسدة التي مُنِعَ الفعلُ من أجلها. وقد يؤدي القول بإطلاق مشروعية الفعل إلى جلب مفسدة أكبر من المصلحة التي شُرِعَ الفعل من أجلها، وهكذا تكون الآثار المترتبة على إهمال النظر إلى المآل على الضد والنقيض مما قصده الشارع وأراده، ونقيض مقصد الشارع باطل، فما يؤدي إليه مثله. وبناءً على ذلك فإن المجتهد الناظر في هذه المسائل -لا سيما المستجدة والنازلة- عليه أن يراعي مآلات الأفعال، ونتائجها بما يتفق مع مقصد الشارع من تشريع تلك الأفعال والتصرفات، فإذا كان الفعل في مآله لا يتفق مع مقصد الشارع منعه المجتهد ابتداءً قبل وقوعه؛ لأن "الدفع أسهل من الرفع" (¬1). وهذه القاعدة تتطلب من المجتهد أن يكون دقيقَ النظر عميقَ البحث، وقد علَّق الشاطبي على أهمية الدربة على هذا المعنى، فقال: "وهو مجال للمجتهد صعبُ المورد، ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 138).

أدلة القاعدة

إلا أنه عذبُ المذاق، محمودُ الغِبِّ، جارٍ على مقاصد الشريعة" (¬1). أدلة القاعدة: أولًا: القرآن الكريم: 1 - مجموعة الآيات المستدَلُّ بها على قواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد، كقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. وقوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110]. ونحوها من الآيات، فهي تنهى عن أفعال معينة تؤول عاقبتها إلى عكس مقصودها من تعظيم الله تعالى. 2 - مجموعة الآيات التي ترشد إلى اعتبار المآل بدليل ربط الشارع بين الأحكام ونتائجها العملية، نحو: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]. وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]، فهذه الآيات ترشد إلى اعتبار مآل هذه التصرفات والأفعال بشكل مباشر في تحصيل التقوى، وحصول أمن المجتمعات، وتُحقق الحفاظ على حياة الناس. 3 - مجموعة الآيات التي تبين اعتبار المآلات بشكل خاص، ومنها: قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 195).

ثانيا: السنة المطهرة

كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79]. وجه الدلالة: لا شك أن إعطابَ السفينة أو إلحاقَ ضررٍ بها ينبغي منعه ودفعه؛ لكونه مضرَّةً ومفسدةً، لكن لما لُوحظ مآلُ هذا الفعلِ من نجاةِ السفينةِ من الملِكِ الظالم كان هذا الإضرارُ محمودًا من جهةِ مآله، ومشروعًا من جهة نتيجته. 4 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]. وجه الدلالة: قد يجلد من رأى الزنا بعيني رأسه فشهد به من غير أن يأتي عليه بأربعة شهداء، وهذا في ذاته ضررٌ ومفسدةٌ إلَّا أنها لمَّا حفظتِ الأعراضَ ومنعت من إشاعة الفاحشة أو تشويه الشرفاء، فقد جاء هذا الاحتياطُ في عدد الشهود، وإقامة حدِّ القذف على من قذف؛ للمآلِ المرجو من حفظ المجتمع المسلم أن تُستعلَنَ فيه الفاحشةُ، أو تُنتهكَ فيه أعراضُ المؤمنين بالبهتان. 5 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101]. وجه الدلالة: السؤال وسيلة العلم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - خيرُ من يُسأل؛ ليبين أحكام الله تعالى، فإذا ترتب على هذا السؤال تشديدٌ على المسلمين بتشريع يوجب أو يمنع فإن السؤال لا يكون مآله محمودًا؛ إذ أعظم المسلمين في المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء فَحُرِّمَ لأجل مسألته، أو وجب لأجل مراجعته، والأصل أن ما سكت عنه الشارعُ الحكيمُ فهو عفوٌ ورحمة منه بعباده. وقد ذُمَّ السابقون بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم. ثانيًا: السنة المطهرة:

الأحاديث التي سبقت في قواعد تعارض المصالح والمفاسد وتدافعها، مثل: 1 - حديث بول الأعرابي في المسجد، ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن قطع بوله (¬1)؛ لما يؤول من انتشار النجاسة وحصول النفرة. 2 - وحديث امتناعه - صلى الله عليه وسلم - عن قتل المنافقين؛ لئلَّا يتحدث الناسُ أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يقتل أصحابه! (¬2)، ونحو ذلك. 3 - وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "خيار أئمتكم الذين تُحبونهم ويُحبونكم، وتُصَلُّون عليهم ويُصَلُّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تُبغضونهم ويُبغضونكم، وتَلعنونهم ويَلعنونكم". قالوا: قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: "لا ما أقاموا فيكمُ الصلاةَ، لا ما أقاموا فيكمُ الصلاةَ، ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فَلْيَكْرَهْ ما يأتي من معصية الله، ولا يَنْزِعَنْ يدًا من طاعة" (¬3). وجه الدلالة: في الخروج على الظالم مصلحةُ عزله وتوليةُ العدلِ، وإشاعةُ الصلاحِ، وإزالةُ الفسادِ، إلَّا أنه لما يؤول إليه ويفضي من استباحة دماء أهل الإسلام، وحصول الفتن في مجتمعات المسلمين، وغيرِ ذلك من أسبابٍ- أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على جور الأئمة، وعدمِ منابذتِهم أو الخروجِ عليهم. 4 - عن أم كلثوم بنت عقبة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "ليس الكذاب الذي يُصلح بين الناس، ويقول خيرًا وينمي خيرًا". وقالت: لم أسمعْهُ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب المناقب، باب: ما ينهى من دعوة الجاهلية، (3518)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا (2584)، من حديث جابر -رضي الله عنه-، وفيه قصة. (¬3) أخرجه: مسلم، كتاب الإمارة، باب: خيار الأئمة وشرارهم، (1855).

ثالثا: أقوال الصحابة وفتاويهم

يُرَخِّصُ في شيءٍ مما يقول الناس إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجلِ امرأتَهُ، وحديثُ المرأةِ زوجَهَا (¬1). وجه الدلالة: "الكذب مفسدة محرمة، إلَّا أن يكونَ فيه جلبُ مصلحةٍ، أو درءُ مفسدةٍ، فيجوزُ تارةً، ويجبُ أخرى، وله أمثلةٌ، أحدها: أن يكذب لزوجته لإصلاحها وحسن عشرتها فيجوز؛ لأن قبح الكذب الذي لا يضرُّ ولا ينفع يسيرٌ، فإذا تضمن مصلحةً تربو على قبحه أُبيح الإقدام عليه تحصيلاً لتلك المصلحة، وكذلك الكذبُ للإصلاح بين الناس، وهو أولى بالجواز؛ لعموم مصلحته" (¬2). وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناجى اثنانِ دون صاحبِهما؛ فإن ذلك يحزنه" (¬3). وجه الدلالة: الأصل في التناجي الجواز، لكن لما وُجد ثالثٌ يحزنه ذلك، وربما يفضي إلى عداوة كان ممنوعًا منه؛ لما يؤول إليه من المفسدة الراجحة. ثالثًا: أقوال الصحابة وفتاويهم: 1 - فتوى عمر -رضي الله عنه- في قتل الجماعة بالواحد، وقوله: "لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم" (¬4). والأصل أن النفس بالنفس، لكن لما خُشِيَ من أن يقع الاشتراك في القتل ليدرأ ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الصلح، باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، (2692) -وليس عنده قولها-، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الكذب وبيان المباح منه، (2605). ووقع في رواية لمسلم نسبة قول أم كلثوم هذا لابن شهاب الزهري؛ قال: "ولم أسمع يرخِّص. . ." فذكره. (¬2) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 152). (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب الاستئذان، باب: إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارة والمناجاة، (6290)، ومسلم، كتاب السلام، باب: تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث بغير رضاه، (2184) -واللفظ له-. (¬4) أخرجه: البخاري، كتاب الديات، باب: إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم؟، (6896)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، أن غلامًا قُتل غيلة فقال عمر. . . فذكره.

رابعا: المعقول

القصاص، فيكون من ذلك مفاسدُ عظيمةٌ تفضي إلى إبطال القصاص -أفتى عمر -رضي الله عنه- بقتل الجماعة إذا تمالؤوا على قتل واحد. وقد كتب عمر -رضي الله عنه- إلى حذيفةَ بنِ اليمان بأن يُطَلِّقَ امرأة كتابية تزوجها (¬1)؛ لئلا يفضي هذا إلى إهمال الزواج من المسلمات. كما حكم بإيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثًا (¬2)؛ ليتعودوا الاحتياط، وليتحفظوا في باب الأَيمان. وقد تنازل الحسنُ بن عليٍّ -رضي الله عنه- عن الخلافة لمعاويةَ لِيُصلح بين فئتين عظميتين من المسلمين، وكان جديرًا بالخلافة حقيقًا بها (¬3). رابعًا: المعقول: عَرَضَ الشاطبيُّ لثلاثةِ أدلةٍ هي: الدليل الأول: التكاليف الشرعية إنما شُرعت لمصالح العباد، وهي إما دنيوية أو أخروية، فأمَّا الأخروية فترجع إلى مآل المكلف في آخرته؛ ليكون من أهل النعيم المقيم، لا من أهل الجحيم. ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تفسيره" المسمى "جامع البيان عن تأويل آي القرآن"، تحقيق: محمود محمد شاكر، راجعه وخرج أحاديثه: أحمد محمد شاكر، دار المعارف، مصر، (4/ 364)، والطبراني في "المعجم الكبير" (12/ 248)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ". . . وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- غضبًا شديدًا، حتى همَّ بأن يسطُو عليهما. فقالا: نحن نطلق يا أمير المؤمنين، ولا تغضب! فقال: لئن حلَّ طلاقُهن لقد حلَّ نكاحهن، ولكن أنتزعهن منكم صَغَرة قِماءً". قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره"، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة، الرياض، ط 2، 1420 هـ - 1999 م، (1/ 582): "حديث غريب جدًّا، وهذا الأثر عن عمر غريب أيضًا". (¬2) أخرجه: مسلم، كتاب الطلاق، باب: طلاق الثلاث، (1472)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن علي -رضي الله عنهما-: "ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين، و. . ."، (2704)، من حديث الحسن البصري -رحمه الله-.

ضوابط الاجتهاد بالنظر في المآلات

وأما الدنيوية: فإن الأعمال مقدمات لنتائج المصالح، وهي أسباب لمسببات مقصودة للشارع الحكيم، والمسبباتُ هي مآلاتُ الأسباب، فاعتبارُها في جريان الأسبابِ مطلوبٌ، وهو معنى النظر في المآلات. الدليل الثاني: أن مآلات الأعمال إما أن تكون معتبرةً شرعًا، أو غير معتبرة، فإن اعتبرت فهو المطلوب، وإن لم تعتبر أمكن أن يكون للأعمال مآلاتٌ مضادةٌ لمقصود تلك الأعمال، وذلك غير صحيح؛ لما تقرر سابقًا من أن التكاليف الشرعية لمصالح العباد، ولا مصلحة تتوقع مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد. الدليل الثالث: الاستقراء التامُّ؛ وذلك لأنَّ تَتَبُّعَ أدلة الشريعة المختلفة يُرشد إلى اعتبار النظر في المآلات جملةً وتفصيلًا (¬1). وبالجملة فإن الأدلة الدالة على هذا الأصل ليست مقصورةً ولا محصورةً بما سبق، ولقد ساق ابن القيم -رحمه الله- تسعةً وتسعين دليلًا من الكتابِ والسنةِ وعملِ الصحابة -رضي الله عنهم- كلها تنطق بهذا الأصل وتقرره (¬2). ضوابط الاجتهاد بالنظر في المآلات: ومما ينبغي الالتفات إليه في هذه القاعدة: ضوابطُ الاجتهاد بالنظر في المآلات، ومن ذلك: 1 - تَرَجُّحُ حصولِ المآل سواء أكان مصلحة أم مفسدة، وذلك بغلبة الظن على أقل تقدير: وقد قضى عمر في رجلٍ فتحَ نوافذَ على بيتِ جارِهِ بأن يوضع سرير خلف تلك الكوى النافذة، ويقوم عليه رجل، فإن تأتَّى له النظرُ إلى ما في دار الرجل مُنِعَ من ذلك، ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 195 - 197) بتصرف واختصار. (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 137)، وما بعدها.

تعلق قاعدة المآلات بالقواعد الأصولية والمقاصدية

وإن لم يتأتَّ له ذلك لم يُمنع (¬1)، وهذا إنما ينطلق من التحقق من مفسدةِ هذا العمل مآلًا. 2 - أن يكون النظر على وفق مقاصد الشريعة: وذلك لأن المآلات ربما وقع فيها تعارضٌ بين مصلحة ومفسدة، وفي حال التزاحم لا بدَّ من الاحتكام إلى مقاصد الشريعة، فلا عبرةَ بمفسدة هيئة في جنب مصلحة عظمى. فالتصرف إذا كان سيفضي إلى مفسدة أكيدة، أو إبطالِ مقصدٍ شرعيٍّ مُنِعَ منه، وإن كان جائزًا في الأصل، واتَّفَقَ على شرعية هذا التصرفِ سائرُ المحققين من العلماء. (¬2) 3 - أن يكون المآل المتوقع منضبطًا في علته وحكمه: فلا بدَّ أن تكون مفسدة المآل أو مصلحته مسلَّمةَ الحكمِ، بحيث لا يخالف من يعتدُّ بقوله في مقتضاه، وإلاَّ فإن الاجتهاد على هذا النحو مقدوحٌ فيه بمنع حكم الأصل، وكذا ينبغي أن تكون العلة محققةَ الظهورِ في هذا المآل ومعتبرةً في مقدارها، بحيث يتفق على أن هذا القدر منها يعدُّ فاحشًا كثيرًا، يخرج عن مألوف العرف، وتبقى بقاءً مؤثرًا، أو تتمادى في الكبر. وقد ذكر ابن عبد البر أن المفسدة التي يُحْكَمُ بوجوب دفعها هي ما بان ضررها، وبقي أثرها، وخِيفَ تماديها (¬3). تعلق قاعدة المآلات بالقواعد الأصولية والمقاصدية: تعتبر قاعدة مراعاة المآلات والنظر في عواقب التصرفات بمثابة الأصل العامِّ والمستند الأول لعدد من القواعد التشريعية العامة، وهذا ما أشار إليه الشاطبي بقوله: "هذا الأصل ¬

_ (¬1) المدونة، من رواية سحنون بن سعيد، (4/ 474). (¬2) اعتبار المآلات، للسنوسي، (ص 355). (¬3) التمهيد، لابن عبد البر، (20/ 161).

ينبني عليه قواعدُ، منها: قاعدة الذرائع (¬1). . .، ومنها: قاعدة الحيل. . . (¬2)، ومما ينبني على هذا الأصل قاعدة الاستحسان (¬3)، ومنها: قاعدة مراعاة الخلاف" (¬4)، وقاعدة: التقييد في استعمال الحق. فجميع هذه القواعد متفرعة عن أصل النظر إلى المآل، وبيان ذلك: أن سدَّ الذرائع هو: حسم الوسائل التي ظاهرها المشروعية، وتؤدي إلى الوقوع في ممنوع منهيٍّ عنه غالبًا أو كثيرًا (¬5)، وتظهر صلة هذا المنهج الأصولي بمبدأ النظر إلى المآل من خلال معرفة أركانه الثلاثة، وهي: 1 - الوسيلة المشروعة. 2 - والمتوسل إليه الممنوع. 3 - والواسطة بين هذين الطرفين، وهو الإفضاء (¬6). فلما صارت الوسيلة المشروعة مفضيةً في الكثير أو الغالب إلى مآل ومقصد محرم مُنعت تلك الوسيلة التفاتًا إلى مفسدة المآل؛ كونها أغلب وأرجح، وشواهدها جميعُ ما تقدَّم، من مثل: النهي عن سب آلهة المشركين، والامتناع عن قتل المنافقين. والملاحظ في سدِّ الذريعة أن الفعل المشروع المؤدي -كثيرًا أو غالبًا- إلى مآل محظور يمنع بقطع النظر عن قصد الممارس لذاك الفعل، أي: أنه يمنع سواء أقصد المكلف ذاك ¬

_ (¬1) المواففات، للشاطبي، (2/ 198). (¬2) المرجع السابق، (4/ 201). (¬3) المرجع السابق، (4/ 205). (¬4) المرجع السابق، (4/ 202). (¬5) المقدمات الممهدات، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد (الجد)، تحقيق: د. محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1408 هـ - 1998 م، (2/ 39)، وتفسير القرطبي، (2/ 57 - 58)، والبحر المحيط، للزركشي، (6/ 82)، والموافقات، للشاطبي، (4/ 198)، مع اختلاف في العبارات واتفاق في المعنى والمضمون. (¬6) سد الذرائع في الشريعة الإسلامية، لمحمد هشام البرهاني، دار الفكر، دمشق، 1995 م، (ص 102).

المآل، أم لم يقصده، إمعانًا في سدِّ أبواب الممنوعات. أما بالنسبة لقاعدة منع الحيل: فيظهر وجه صلتها بمبدأ النظر إلى المآل بالنظر إلى حقيقتها؛ إذ هي تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر (¬1)، كالواهبِ مالَهُ عند رأس الحولِ فرارًا من الزكاة، فإن الهبة في أصلها مشروعة، ولكنها آلت في هذا الظرف إلى مآلٍ ممنوع، وهو التهرب من الزكاة، فاعتبرت في حكم العدم، وعُومل الواهبُ بنقيض مقصوده (¬2). وأما قاعدة الاستحسان: فقد سبقت الإشارة إليها، وإظهار ما بينها وبين مبدأ رفع الحرج من علاقة وصلة، أما صلتها بمبدأ النظر إلى المآل فيبدو باستحضار وجه الصلة بينها وبين مبدأ رفع الحرج؛ ذلك أن القول باطراد الحكم الأصلي المقتضي الحظرَ قد يؤول إلى الإيقاع في الحرج والمشقة، وتفويتِ حاجةٍ أساسيةٍ للعامةِ، فالالتفات إلى ذلك المآلِ اقتضى العدولَ بالمسألة من حكمِ نظائرِهَا إلى ما هو مخالفٌ، وهذا ما أشار إليه الشاطبي بقوله: "فيكون إجراء القياس مطلقًا في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده، فَيُستثنَى موضعُ الحرج". (¬3) وقد قرر الشاطبي أن قاعدة الاستحسان عند مالك ترجع إلى نظرية اعتبار المآل، (¬4) فجعل الاستحسانَ مبنيًّا على قاعدة المآل، لا على مجرد التشهي والتشريع بحسب الهوى. وأما قاعدة مراعاة الخلاف: فتتجلى صلتها بالوقوف على المقصود بهذه القاعدة؛ إذ ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 201)، وخرج بذلك الحيل المشروعة التي تكلم عنها العلماء، كأن يقصد بها دفع الباطل، أو أخْذ الحق، أو منْع إصابته بمكروه، ينظر: الفتاوي الكبرى، لابن تيمية، (6/ 109). (¬2) الشرح الصغير على أقرب المسالك وبهامشه حاشية الشيخ أحمد الصاوي، لأبي البركات أحمد بن محمد الدردير، تحقيق: د. مصطفى كمال وصفي، دار المعارف، القاهرة، 1986 م، (1/ 601)، والمغني، لابن قدامة، (4/ 136 - 137). (¬3) الموافقات، للشاطبي، (4/ 206 - 207). (¬4) الموافقات، للشاطبي، (4/ 206).

مفاد هذه القاعدة: اعتبار رأي المخالف في الحكم رغم مرجوحية دليله؛ نظرًا لما يلزم عن التقيد في بعض الوقائع من مآلٍ ممنوع (¬1). وأمثلة ذلك كثيرة، منها: 1 - ما قاله العز ابن عبد السلام -رحمه الله- من جواز صلاة الشافعي خلف المالكي وبالعكس، وإن اختلفا في كثير من الفروع التي تمسُّ شروطَ الصلاة مراعاةً منه لرأي المخالفين؛ ذلك أن القول ببطلان صلاة غير الشافعي سيؤدي إلى مفسدة كبيرة، وهو ما وضحه بقوله: "الجماعة للصلاة مطلوبة للشارع، فلو قلنا بالامتناع من الائتمام خلف من يخالف في المذهب؛ لأدى إلى تعطيل الجماعات". (¬2) فالإمام العز يستند في بيانه لوجه القول بجواز صلاة المالكي خلف الشافعي وبالعكس إلى مآل القول ببطلان تلك الصلاة من نقضها لوحدة الأمة، وإثارتها لنوازع الاختلاف والفتن. فاطِّراد القول ببطلان صلاة من لم يقرَّ أركان الصلاة المعتبرة عند الشافعية (¬3) سيؤول إلى بطلان صلاة كلِّ شافعيٍّ يَقتدي بمالكيٍّ، ناهيك عن بطلان صلاة الإمام المالكيِّ. ومن هنا حكى المازري (¬4) الإجماعَ على جواز صلاة أتباع المذاهب خلف بعضهم، وإن اختلفوا في الفروع الظنية مراعاةً للخلاف. (¬5) ¬

_ (¬1) القواعد، للمقري، (1/ 236)، والموافقات، للشاطبي، (4/ 202)، وإيضاح المسالك، للونشريسي، (ص 63 - 67)، والأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 136). (¬2) إيضاح المسالك، للونشريسي، (ص 63). (¬3) ومن ذلك -مثلًا-: أن الشافعية لا يرون وجوب مسح جميع الرأس في الوضوء، بينما يرى المالكية أن أركان الوضوء لا تكتمل إلا بمسح جميع الرأس. (¬4) أبو عبد الله، محمد بن علي بن عمر، التميمي، المازري، الشيخ الإمام العلامة البحر المتفنن، المالكي، من مصنفاته: إيضاح المحصول في برهان الأصول، والمعلم بفوائد كتاب مسلم شرح صحيح مسلم، وغير ذلك، توفي سنة 536 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (20/ 104)، والديباج المذهب، لابن فرحون، (2/ 250). (¬5) إيضاح المسالك، للونشريسي، (63).

2 - ما قاله الشافعية من استحباب الدَّلك في الوضوء، واستيعاب الرأس بالمسح، وترك صلاة الأداء خلف القضاء وعكسه، وقطع المتيممِ الصلاةَ إذا رأى الماءَ خروجًا من خلاف مَنْ أوجب الجميع. (¬1) 3 - ومنها -أيضًا- ما قاله الحنفية في السفيه المحجور عليه إذا أراد عمرة واحدة، فالقياس أن يُمْنَعَ؛ لأنها تطوع فصارت كالحج تطوعًا، غير أن قاعدةَ مراعاةِ الاختلاف تقتضي ألَّا تمُنع استحسانًا؛ لأن بعض العلماء قال بوجوبها، فَيُمَكَّنُ منها احتياطًا، ومراعاةً للخلاف. (¬2) 4 - ما قاله المالكية في أن كلَّ عقدٍ اخْتُلِفَ في فساده، كنكاحِ الشغار، ونكاحِ وليٍّ فقدَ شرطًا، أو نكاحٍ بغير وليٍّ فهو كالصحيح من حيث: التحريم، والإرث، والصداق، وفسخه بطلاق اعتبارًا لرأي المخالف القائل بصحة ذلك العقد. (¬3) فهذه الصور وغيرها راعت مآلَ اطَّرادِ الحكم على وفق الرأي الراجح من إبطال كثير من تصرفات المكلفين، أو تعريض أعمالهم للخدش والخلل، فتفاديًا لذاك المآلِ الممنوعِ أُخِذَتْ بالاعتبار الآراءُ الأخرى المحتملة للصحة والصواب: "وهو أمر يعكس واقعية الشريعة الإسلامية في معالجتها للقضايا وفقَ حقائقها وآثارِها المترتبةِ عليها". (¬4) كما أن لهذه القاعدة تعلُّقًا -أيضًا- بقاعدة تقييد الشخص في استعمال حقِّه: "وخلاصة هذه القاعدة أن المجتهد ينظر إلى مآلِ استعمالِ الشخص لحقِّه الذي قرَّره الشارع له، فإذا تبين للمجتهد أن الشخص لم يستعمل حقَّه إلَّا للإضرار بغيره، فإنه ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 136 - 137)، والأشباه والنظائر، لابن السبكي، (1/ 114). (¬2) رد المحتار، لابن عابدين، (9/ 217)، تعليل الأحكام، د. محمد الشلبي، (ص 356). (¬3) الشرح الصغير، للدردير بحاشية الصاوي، (2/ 388). (¬4) مآلات الأفعال، لحسين الذهبي، (109)، رسالة ماجستير.

يحكم بالمنع من هذا الفعل؛ عملًا بقاعدة اعتبار المآلِ، أما إذا لم ينحصر استعمالُ الحقِّ في قصد الإضرار بالغير، بل كان الشخص قاصدًا لمصلحة نفسه من الفعل، وصحب هذا القصدَ قصدُ الإضرار بالغير، فإن على الفقيه أن يجري موازنة بين الحقَّين، وذلك على أساس قوة المصالح التي تُستعمل هذه الحقوق لحمايتها، فيقدِّم مصلحة الجماعة في دفع الأضرار العامة على مصلحة الشخص في استعمال حقِّه، ويقدِّم الحقَّ الذي يُستعمل محافظةً على النفس على الحقِّ الذي يُستعمل محافظة على المال، والمصلحةَ الحاجيةَ على التحسينيةِ. . . وهكذا". (¬1) وإذا ما نُظِرَ إلى تلك القواعد والأصول جميعًا بنظرة أعمق فإنه يتلمس ما بينها من التقاء واجتماع. فقاعدة سدِّ الذرائع، والاستحسان، ومراعاة الخلاف، وتقييد الشخص في استعمال حقِّه تتركز حولَ مضمونِ الاستثناءِ، فالاستحسانُ استثناءٌ من الأصول العامة والقواعد الكلية، حين يكون طرد تلك القواعد سببًا في الحرج والمشقة البالغة، ومخالفة مقصود الشارع. بينما سدُّ الذرائع استثناءٌ من حكم المشروعية بالمنع من الجائز إذا كان يؤدي إلى ممنوع في حالة من الحالات. أما مراعاةُ الخلافِ فهو استثناءٌ في الأخذ بالراجح للعمل بالمرجوح؛ احتياطًا للمصالح المشروعة. وكذلك تقييدُ الشخص في استعمال حقِّه فإنما هو استثناءٌ من الأصلِ المتقرِّرِ إذا ترتب على استعمال الحقِّ ضررٌ متعدٍّ مقصودٌ إليه دون غيره. وبالنظر إلى غاية هذه الأصول والقواعد جميعًا فإنها غاية واحدة تنتهي إلى حفظ المصالح ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (109).

تعلق قاعدة المآلات بالقواعد الفقهية

وإقامتها، ودفع المفاسد وتقليلها، فهي تدور حول محورِ تحقيقِ المصالحِ المعتبرة، وذلك -في الجملة- من خلال قاعدةِ مراعاة التصرفات، ونتائج الأفعال وما تنتهي إليه. تعلق قاعدة المآلات بالقواعد الفقهية: القواعد الفقهية التي سبق عرضها في مجال تعارض المصالح والمفاسد هي قواعد متعلقة بالمآلات، وذلك نحو: - درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. - الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف. - يُختار أهونُ الشرين أو أخف الضررين. - إذا تعارضت مفسدتان رُوعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما. - يُتَحَمَّلُ الضرر الخاص بدفع الضرر العام. ونحوها من القواعد التي تراعَى فيها المآلات وعواقب التصرفات. ومن القواعد الفقهية التي ترتبط بهذا المبدأ ما يلي: القاعدة الأولى: من استعجل شيئًا قبل أوانه عُوقب بحرمانه (¬1): ولقد تنوعت عبارات الفقهاء في التعبير عن هذه القاعدة، فمنهم من عَّبر عنها من الحنفية بقوله: "من استعجل ما أخَّره الشرع يُجازَى بردِّه" (¬2). وعبَّر عنها بعض المالكية فقالوا: "الأصل المعاملة بنقيض المقصود الفاسد" (¬3). وعبَّر عنها بعض الشافعية فقالوا: "المعارضة بنقيض المقصود" (¬4). ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 152)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 184). (¬2) درر الحكام، لعلي حيدر، (1/ 87). (¬3) إيضاح المسالك، للونشريسي، (ص 132). (¬4) المنثور في القواعد، للزركشي، (3/ 183).

فمن القرآن الكريم

وعبَّر عنها بعض الحنابلة فقالوا: "من تعجَّل حقَّه، أو ما أُبيّحَ له قبل وقته على وجه محرم عُوقب بحرمانه" (¬1). وهذه القاعدة على اختلاف صيغها ذات مضمون واحد، وهو يدور حول سدِّ ذرائع الفساد، وإغلاق أبواب الوسائل المحرمة. وإذا كانت القاعدة الكلية الكبرى "الأمور بمقاصدها" تُقَرِّرُ أن الفاعل يُعامَلُ بحسب مقصده، فإن هذه القاعدة تمثل استثناءً حين يُعامَل بنقيض قصده، فمن توسل بمحرَّم أو تذرَّع بحيلة باطلة استعجالاً لما هو مقرر له، أو ما كان من حقه مؤجلًا، فإنه يعامل بنقيض مقصوده، ويمنع مما كان مستحِقًّا له زجزًا وردعًا له وعقوبة، علاوة على العقوبة المستحقة على الفعل نفسه (¬2). وهذه القاعدة تقرر النظر إلى هذا القصد السيئ والفعل المحرم بالإبطال؛ لأن الغايات لا تُسَوِّغُ الوسائل إذا كانت محرمة، فمن احتال على تحليل الحرام، أو تحريم الحلال، فإنه يعامل بنقيض قصده عقوبةً له. فنصوص القرآن الكريم والسنة وفتاوي الأئمة دالة على أن من احتال على الشرع فأبطل الحقوق، وأحلَّ الحرام، وحرم الحلال أنه يُعامَل بنقيض قصده جزاءً وفاقًا (¬3). فمن القرآن الكريم: قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163]. ¬

_ (¬1) القواعد، لابن رجب، (ص 247). (¬2) الوجيز في قواعد الفقه الكلية، للبورنو، (ص 96). (¬3) إغاثة اللهفان، لابن القيم، (1/ 370).

ومن السنة النبوية

وجه الدلالة: لما احتال اليهود على الصيد المحرم يوم السبت، ووضعوا الشباك وأخذوا الصيد يوم الأحد، سمَّى الله هذا العملَ اعتداءً وجازاهم بنقيض قصدهم بأن عاقبهم (¬1). ومن السنة النبوية: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه" (¬2). وجه الدلالة: استحقَّ اليهود اللعنة والعقوبة بما احتالوا على النهي؛ فإن الله تعالى حرَّم عليهم شحوم الميتة، فأذابوها، ثم باعوها، وأكلوا ثمنها. 2 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرث القاتل" (¬3). وجه الدلالة: من قَتَلَ مورِّثَهُ متعجلًا إرثَهُ منه عُوقب بنقيض قصده، فمنع من ميراثه، وقياسًا مَنْ قَتَلَ الموصي له بطلتْ وصيته. 3 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله المحلِّلَ والمحلَّلَ له"، وسماه - صلى الله عليه وسلم - بالتيس المستعار (¬4). ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي، (7/ 306). (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب البيوع، باب: بيع الميتة والأصنام، (2236) ومسلم، كتاب المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، (1581) من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-. (¬3) أخرجه: الترمذي، كتاب الفرائض عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في إبطال ميراث القاتل، (2109)، وابن ماجه، كتاب الديات، باب: القاتل لا يرث، (2645)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. قال البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 220): "إسحاق بن عبد الله لا يحتج به، إلا أنَّ شواهده تقويه" اهـ، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح سنن الترمذي"، مكتبة المعارف، الرياض، ط 1، 1420 هـ - 2000 م، (2109). وفي الباب: عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهم-. (¬4) أخرجه: ابن ماجه، كتاب النكاح، باب: المحلل والمحلل له، (1936)، من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ "؛ قالوا: بلى يا رسول الله؛ قال: "هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له". وصححه الحاكم (2/ 200). وفي الباب: عن جابر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة -رضي الله عنهم-.

القاعدة الثانية: ما قارب الشيء يعطى حكمه

وجه الدلالة: لمَّا قصدا بهذا النكاح التحليل، واحتالا على استباحة الحرام وتحليله استحقّا اللعنةَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد أفتى العلماء -وفقًا لهذه القاعدة- بما يسدُّ باب الحيل المحرمة. وقد ذُكِرَ للإمام أحمد -رحمه الله- أن امرأة كانت تريد أن تفارق زوجها فيأبى عليها، فقال لها بعض أرباب الحيل: لو ارْتَدَدْتِ عن الإسلام بِنْتِ؛ ففعلتْ. فغضب أحمد -رحمه الله- وقال: "من أفتى بهذا أو علَّمه أو رضي به فهو كافر" ووجهُهُ أنه أمر باستحلال الكفر، وذلك كفر (¬1). وذهب بعض الحنفية إلى عدم وقوع الفرقة أصلًا بهذا زجراً لها، ومن أفتى منهم بوقوع الفرقة قال: وليس لها بعد توبتها أن تتزوج بغير زوجها، وتُجْبَر على تجديد عقدها بمهر يسير مع زوجها الأول، وبه يُفْتَى. (¬2) القاعدة الثانية: ما قارب الشيءَ يُعطَى حُكْمَه: وقد تنوعت عبارة الفقهاء في التعبير عن هذه القاعدة، فقالوا: ما قارب الشيء هل يُعْطَى حكمَه؟ (¬3) وقالوا: المشرف على الزوال هل يُعْطَى حكمَ الزائل؟ (¬4) وقالوا: المتوقَّعُ هل يُجْعَلُ كالواقع؟ (¬5) ¬

_ (¬1) إغاثة اللهفان، لابن القيم، (1/ 356). (¬2) شرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص 471 - 472). (¬3) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 178)، المنثور، للزركشي، (3/ 144). (¬4) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 178)، الأشباه والنظائر، لابن السبكي، (1/ 98). (¬5) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 178)، الأشباه والنظائر، لابن السبكي، (1/ 98).

وألحقوا بها ما هو أخص منها، كقولهم: هل العبرة بالحال أو المآل؟ (¬1) الطارئ هل يُنَزَّلُ منزلةَ المقارِن؟ (¬2) وألحقوا بها ما هو قريب منها، كقولهم: تنزيل الاكتساب منزلة المال الحاضر. (¬3) وهذه القواعد بجملتها تؤكد على معنى اعتبار المآل وأثره القوي في بناء الأحكام والفتاوي عليه؛ حيث تدلُّ القاعدة المذكورة أن ما لاح منه الإفضاء إلى مآل ما إلى حدِّ القرب؛ فإنه يُعْطَى حكمَ مآلِهِ الذي يُؤذن بقرب الإفضاء إليه. وقد صِيغتْ أكثر هذه القواعد بصيغة الاستفهام؛ للإفصاح عن الخلاف فيها، واختلاف الترجيح في الفروع تبعاً لذلك. والفقهاء ذكروا القاعدة وصيغها كثيرًا في ثنايا تعليل الأحكام. ولقد ذهب بعض الحنفية والمالكية، وهو أحد القولين للشافعية والحنابلة إلى أن العبرة بالمآل وثاني الحال، أي: بما يؤول إليه الشيء في المستقبل، فَيُسْنَدُ الحكم إليه في الحال. (¬4) قال ابن رجب: ومن عجَّل عبادة قبل وقت الوجوب، ثم جاء وقت الوجوب وقد تغير الحال، بحيث لو فعل المعجَّل في وقت الوجوب لم يجزئه، فهل تجزئه أو لا؟ (¬5) وقد قال أصحاب هذا الرأي: إن العبرة بالمآل بحسب ما يطرأ في المستقبل؛ لأن ما يحدث في المستقبل لو كان موجودًا في الحال لأثَّر في الحكم فيعتدُّ بالمآل ويُعْطَى حكمَ الحال. ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 178)، الأشباه والنظائر، لابن السبكي، (1/ 98). (¬2) المنثور، للزركشي، (2/ 347). (¬3) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 180)، إيضاح القواعد الفقهية، للحجي، (ص 99). (¬4) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 180)، المقاصد الشرعية في القواعد الفقهية، د. عبد العزيز عزام، (ص 494). (¬5) القواعد، لابن رجب، (ص 6).

تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات

فيجوز مثلًا التيمم لمن معه ماء يحتاج إلى شربه في المآل، لا في الحال (¬1)، ويُنَزَّلُ القادر على الكسب منزلةَ واجدِ المال في منعه من الزكاة. (¬2) ويباح بيع ما لا يُنْتَفَعُ به في الحال كدود القزِّ الذي يُنْتَفَعُ به بعد حياته باستخراج الحرير، (¬3) وكذا الصغير من الحيوان الذي يُنْتَفَعُ به بعد مُدَّةٍ. وذهب الحنفية والظاهرية، وهو أحد قولي الشافعية والحنابلة إلى ابتناء الحكم على الحال دون المآل (¬4). وإنما كان الحكم بناء على الحال دون المآل؛ لأن إنشاء التصرف هو الذي قد نشأ عنه الحكم المتعلق بمن أنشأ هذا التصرف، ووقت الإنشاء كان في الحال، فتكون العبرة بالحال، لا بالمآل. وبناءً على اختلاف الأنظار في أيِّهما يقدَّم اختلفتِ الأحكامُ. ومآخذُ الأدلة قد تُعْطِي ما يخدم المذهبين. تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: تعتبر هذه القاعدة من أهم القواعد في الإفتاء للأقليات في الواقع المعاصر؛ وذلك لأن كثيرًا من الأفعال؛ بل وردود الأفعال في تلك الديار قد تبدو داخلة ضمن إطار المشروعية، إلا أنه بالنظر إلى مآلاتها لا يمكن بحال أن تباح أو تستباح. وكثير من الأمور المتعلقة بحياة الأقليات وشئونها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تخضع لهذه القاعدة. وعليه فقد جرت الفتيا في تلك الديار بالتزام النظام العام والقانون الحاكم في تلك ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 180)، إيضاح القواعد الفقهية، للحجي، (ص 99). (¬2) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 180). (¬3) حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع، لعبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ط 1، 1312 هـ - 1392 م، (4/ 334 - 335). (¬4) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 180)، المقاصد الشرعية في القواعد الفقهية، د. عبد العزيز عزام، (ص 493).

الديار إذا كان عدم التزامه يرتب ضررًا فادحًا على الشخص أو الجماعة، أو يعرض الفرد أو الطائفة لما لا قبل لهم به من العقوبة والنكال، وذلك بشرط ألا يُفضي هذا إلى ارتكاب للمنكرات أو وقوع في المخالفات. وفيما يلي بعض هذه الأمثلة: - ما نصَّ عليه الحنابلة من منع المسلم الذي دخل أرض العدو بأمان أن يتزوج منهم؛ مراعاة لما ينجم عن هذا الزواج من مآل يتهدد نسل المسلمين، وهو الأمر الذي عبَّر عنه ابن قدامة بقوله: "لأنه لا يأمن من أن تأتي امرأته بولد فيستولي عليه الكفار، وربما نشأ بينهم فيصير على دينهم" (¬1). فالحنابلة لم ينظروا إلى صورة الفعل فقط، وإنما نظروا -أيضًا- إلى نتيجته ومسببه؛ أي: على ضوء ذلك المآل الذي هو مفسدة غالبة، فحكموا على الفعل بالمنع، سواء أكان تحريمًا، أم كراهة. وتخريجًا على هذا منع عدد من الفقهاء المعاصرين الزواج من أهل تلك الديار اختيارًا؛ للمفاسد المذكورة ولغيرها مما استجد في الوقت الراهن (¬2) على أن نفس قاعدة المالآت أعملها بعض الفقهاء المعاصرين اليوم في الرد على من قال بحرمة نكاح من أقام بغير بلاد المسلمين ينوي الطلاق قبل مغادرة تلك البلاد؛ ذلك أن منعه من مثل هذا النكاح قد يؤول به إلى ارتكاب الحرام (¬3). وبهذه القاعدة أخذ من قال بحل التأمين التجاري على المؤسسات الإسلامية بديار الغرب، حيث يُفضي عدم إجراء هذا التأمين عليها إلى تعرضها إلى أخطار محدقة تنتهي إلى إضعاف وجودها أو زوالها من حياة الأقلية المسلمة التي تحتاج إليها في إقامة دينها (¬4). ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة، (13/ 149). (¬2) آثار ابن باديس، طبعة الشئون الدينية، الجزائر، ط 1، 1405 هـ - 1984 م، (3/ 309)، في فقه الأقليات المسلمة، د. يوسف القرضاوي، (ص 99 - 100)، جريمة الزواج بغير المسلمات فقهًا وسياسة، أ. عبد المتعال الجابري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 3، 1403 هـ - 1983 م، (ص 103). (¬3) صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 132 - 133). (¬4) سيأتي مناقشة ذلك تفصيلًا -بمشيئة الله- في الفصل الثاني من الباب الثالث.

المبحث الثامن القواعد المتعلقة بالعرف

المبحث الثامن القواعد المتعلقة بالعرف (¬1) القاعدة الأولى: العرف معتبر في التشريع، أو: العادة محكمة (¬2): المعنى العام للقاعدة: العرف: ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول (¬3). وهو ما يعرف بين الناس، وما تعارفوا عليه (¬4). وعرَّفه بعض المعاصرين بقوله: "هو ما استقرَّ في النفوس، واستحسنته العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، واستمرَّ الناس عليه، بما لا تَرُدُّه الشريعة وأقرَّتهم عليه" (¬5). وهذا المعنى الاصطلاحي يتفق من وجه مع بعض المعاني اللغوية للعرف، وهو معنى التتابع والسكون والطمأنية؛ فإن العرف لا يعتبر إلا إذا كان مستمرًّا ومستقرًّا ومطَّردًا اطِّرادًا بَيِّنًا (¬6). والعرف له تقسيمات كثيرة؛ فمنه عرفٌ ثابت وآخرُ متبدل، ومنه عرفٌ قوليٌّ وآخرُ عمليٌّ، ومنه عرفٌ عامٌّ وآخرُ خاصٌّ، ومنه عرفٌ صحيح وآخرُ فاسد. وقد قرَّر الأصوليون والفقهاء -جميعًا- اعتبار العرف وقالوا به، وأظهروا أثره في ¬

_ (¬1) نظرًا للاتفاق اللفظي والمعنوي بين قاعدة العرف الأصولية وقاعدته الفقهية، فقد جمعتا في سياق واحد طلبًا للاختصار وعدم التكرار. (¬2) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (1/ 165)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 101). (¬3) التعريفات، للجرجاني، (ص 193). (¬4) بلوغ السول شرح منظومة ابن عاصم في الأصول، (ص 320). (¬5) أثر العرف في التشريع الإسلامي، د. السيد صالح عوض، دار الكتاب الجامعي، القاهرة، ط 1، 1981 م، (ص 52). (¬6) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (4/ 281).

الفتاوي والأحكام، واستدلوا على اعتباره وأثره في التشريع وأصوله وقواعده بأدلة كثيرة مستفيضة. ومعنى اعتباره: الاعتداد به ومراعاته، والأخذ به في بناء الأحكام، ويكون دليلًا على مشروعية الحكم ظاهرًا؛ فما غلب على الناس من معاملة، أو معنى من المعاني، أو نحو ذلك فيجب النظر إليه لدى تفصيل أحكام الوقائع التي تحدث بينهم؛ فإذا تبدل العرف بعرف طارئ كان على الفقيه أن يراعي العرف الطارئ في بناء الأحكام؛ إذ النظر في الوقائع يتجدد بتجدد العرف (¬1). والعادة قريبة المعنى من العرف لغةً واصطلاحًا؛ فهي في اللغة تدور على معنى العود والتكرار، والدأب والاستمرار، وكل من عاد إلى شيء بعد انصرافه عنه فهو عائد (¬2). قال تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107]، والعادة هي ما يتكرر مرة بعد أخرى؛ فتشمل ما كان مصدره العقل، وتلقته الطباع السليمة، وقد قال كثير من الأصوليين والفقهاء بترادف العادة مع العرف (¬3). ومنهم من لَاحَظَ أن العادة تنشئ عرفًا (¬4). ومنهم من خصَّ العادة بأنها العرف العملي (¬5). ومنهم من اعتبرها والنظائر بمعنى واحد، وإن اختلف مفهومهما (¬6). ¬

_ (¬1) أثر العرف في التشريع الإسلامي، د. السيد صالح، (ص 148 - 149). (¬2) لسان العرب، لابن منظور، (10/ 459). (¬3) نشر العرف، لابن عابدين، (2/ 114)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 101)، شرح مجلة الأحكام العدلية، لعلي حيدر، (1/ 40). (¬4) أثر العرف في التشريع الإسلامي، د. السيد صالح عوض، (ص 50). (¬5) التقرير والتحبير، لابن أمير الحاج (1/ 350). (¬6) شرح المجلة، للأتاسي، طبعة المكتبة الحبيبية، كانسي رود، باكستان، (1/ 78).

أدلة القاعدة

ومعنى قولهم: العادة محكمة: أنها تجعل حكمًا لإثبات حكم شرعي (¬1). ولا شك أن العادة تُحَكَّمُ ويُحتج بها عند عدم مخالفتها لنصٍّ شرعي أو شرط لأحد المتعاقدين، فما لم يَرِدْ بضبطه ضابط شرعي، أو لا نص فيه لأحد المتعاقدين فمردُّهُ إلى العرف والعادة ولا بد (¬2). أدلة القاعدة: أولًا: القرآن الكريم: قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، وقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]، وقوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]. وجه الدلالة: أفادت الآيات التي ذكرت العرف بنصه أو بمعناه اعتباره في تقرير الأحكام ورعايته. قال القرافي -رحمه الله-في الفروق عند حديثه عن اختلاف الزوجين في متاع البيت وأن القول لمن شهدت له العادة-: "لنا قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] فكل ما شهدت به العادة قُضِيَ به لظاهر هذه الآية، إلا أن يكون هناك بينة" (¬3). وقد ذكر ابن العربي في أحكام القرآن معنى العرف عند المفسرين، ثم قال: "أما العرف فالمراد به هنا: المعروف من الدين، المعلوم من مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، المعلق عليها في كل شريعة، {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} تتناول جميع المأمورات والمنهيات، وأنه -أي: العرف- ما عُرِفَ ¬

_ (¬1) شرح المجلة، للأتاسي، (1/ 79). (¬2) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (1/ 181)، المنثور، للزركشي (2/ 391)، مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (19/ 235). (¬3) الفروق، للقرافي، (3/ 940).

ثانيا: السنة المطهرة

حكمُه واستقرَّ في الشريعة موضعُه، واتفقت القلوب على علمه وعمله" (¬1). وأما قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، فقال الطبري -في تفسيرها-: "ويعني بقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} بما يجب لمثلها على مثله؛ إذ كان الله -جل ذكره- قد علم تفاوت أحوال خلقه بالغنى والفقر" (¬2). ولا شك أن تفاوت أحوال الناس يقتضي تحكيم العرف في ذلك، فتلزم الأزواج النفقة على ما جرى به العرف، وعلى قدر اجتهاد الحكام في ذلك. ومثل هذا يقال في قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]، وهذا يتفاوت بحسب حال الزوج يسارًا أو إعسارًا، وبحسب حال أهل ذلك المكان، وغير ذلك. وفي قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] إشارة ظاهرة إلى اعتبار العرف؛ فقد أحالت الآية الكريمة في بيان الوسط في الكفارة على العرف -كما صرح بذلك العلماء- فيطعم الوسط عددًا وقدرًا؛ فتكفي في العدد وجبتان؛ لأنه الوسط بين وجبة واحدة وثلاث وجبات، ويطعم الوسط في القدر والنوع؛ مثل الخبز والتمر، والخبز والزيت (¬3). وما يتعلق بحقوق الزوجة على زوجها فمردُّه -أيضًا- إلى العرف، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]. ثانيًا: السنة المطهرة: وهي سنة قولية وتقريرية. فأما القولية: فمثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لهند بنت عتبة وقد شكت بخل زوجها أبي سفيان ¬

_ (¬1) أحكام القرآن، لابن العربي، (2/ 362، 363). (¬2) تفسير الطبري، (5/ 44). (¬3) أحكام القرآن، للجصاص، (4/ 118).

ثالثا: الإجماع

-رضي الله عنه-: "خذي ما يكفيكِ وولدَكِ بالمعروف" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -في حجة الوداع عن نفقة الزوجات-: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" (¬2). وجه الدلالة: ظاهر من الحديثين اعتبار العرف في التشريع فيما جاء من الأحكام مطلقًا ولم يُفَصَّلْ. وقال النووي -رحمه الله- ضمن فوائد الحديث: "اعتماد العرف في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعي" (¬3). والسنة التقريرية تؤكد القولية؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ أمورًا كثيرة من أعراف الجاهلية التي لا تُعارِضُ الشرع المطهر؛ بل وشارك فيها بنفسه - صلى الله عليه وسلم -. فأقرَّ عقودًا كثيرة كانوا يتعاملون بها؛ كالبيع، والإيجار، والسَّلَم، والمضاربة، وأبطل ما كان محرمًا في الشرع، وأقرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية (¬4). كما أقرَّ على أمور كثيرة من المباحات، وأقرَّ نكاحًا وأبطل نكاحًا، إلى آخر ما يعرف في هذا الشأن من السنة التقريرية. ثالثًا: الإجماع: قال القرافي -رحمه الله- "وأما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب النفقات، باب: إذا لم ينفق الرجل. . .، (5364)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب: قضية هند، (1714) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) أخرجه: مسلم، كتاب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، (1218) من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، (12/ 8). (¬4) أخرجه: مسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: القسامة، (1670)، من حديث أبي سلمة ابن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ القسامة. . . فذكره. (¬5) شرح تنقيح الفصول، للقرافي، (ص 353).

وقد استند القرافي في مشروعيته إلى إجماع لا يستند إلى نصٍّ مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وإنما إلى ما جرى به العرف في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، وبين الصحابة من العمل بالقِرَاض أو المضاربة، وهذا الإجماع السكوتي المستَنِدُ إلى العرف الجاري أو السنة التقريرية حجة عند الأكثر. وقد قال الشوكاني -رحمه الله-: "وهذه الآثار تدل على أن المضاربة كان الصحابة يتعاملون بها من غير نكير؛ فكان ذلك إجماعًا منهم على الجواز" (¬1). وقال ابن حزم -رحمه الله-: "كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في القرآن والسنة نعلمه -ولله الحمد- حاشا القِراض؛ فما وجدنا له أصلًا فيهما ألبتة؛ ولكنه إجماع صحيح مجرد" (¬2). وقد استدل بعض العلماء على حجية العرف بالأدلة العامة القاطعة النافية للحرج؛ فقد قال الشيخ محمد مصطفى المراغي في سياق حجية العرف: "وأرى أن العمل به عملٌ بالأدلة الشرعية، وعملٌ بما يستفاد من مدارك التشريع في مواطنَ كثيرةٍ، وإن شئت فقل: إنه الكتاب؛ ففي الكتاب الكريم: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وهذان النصان يجب أن تبقى سيطرتهما تامة على جميع التشريع الإسلامي، فإذا وجدنا أن العمل بالنصوص الخاصة يوقع في الحرج لحدوث ضرورة ما، أو لحدوث عرف عام يوجب تركه الحرج- وجب أن تقف النصوص الخاصة عن عملها في تلك المواطن، وأن يُعْمَلَ بالنص العام القاطع الموجب لنفي الحرج. من ذلك نعلم أن العرف ليس دليلًا، وأنه لم يُعْمَلْ به لاعتباره دليلًا، وإنما يُعْمَلُ به امتثالًا للدليل العام القاطع الموجب لنفي الحرج (¬3). ¬

_ (¬1) نيل الأوطار، للشوكاني، (5/ 318 - 319). (¬2) مراتب الإجماع، لابن حزم، عناية: حسن إسبر، دار ابن حزم، ط 1، 1998 م، (ص 162). (¬3) الاجتهاد في الإسلام، لمحمد مصطفى المراغي، دار الاجتهاد، القاهرة، 1379 هـ - 1919 م، (ص 51).

شروط اعتبار العرف

شروط اعتبار العرف: اشترط العلماء لاعتبار العرف شروطًا أهمها: 1 - أن يكون العرف مطَّردًا أو غالبًا: ويقصد بالاطِّراد أن يكون العمل بالعرف مستمرًّا في جميع الحوادث، لا يختلف من شخص لآخر، ولا يُقصد به العموم الذي هو الانتشار في سائر الأقطار؛ لذا جاز أن يكون العرف عامًّا في جميع الأمصار، ولا يكون مطَّردًا، والعرف الخاص قد يكون مطَّردًا وغير مطَّرد، وهذا الذي لا يكون منتشرًا في جميع الأمصار ومعنى: غالبًا، أي: يكون شائعًا بين أهله في أكثر الحوادث؛ إذ العبرة للغالب الشائع، وليس للقليل النادر (¬1). لذا قال الفقهاء: "إنما تُعتبر العادة إذا اطَّردت أو غلبت" (¬2). 2 - أن يكون العرف مقارِنًا أو سابقًا: ولا يُعتبر العرف المتأخر في التصرفات السابقة، قال ابن نجيم: "العرف الذي تُحمل عليه الألفاظ إنما هو العرف المقارِن أو السابق دون المتأخ؛ ولذا قالوا: لا عبرة بالعرف الطارئ" (¬3). 3 - ألَّا يترتب على العمل بالعرف تعطيل نصٍّ ثابت أو معارضة أصلٍ قطعي: فكل عرف ورد النص بخلافه فهو غير معتبر؛ ومن المعلوم أن العرف لا يستقل بإنشاء الحكم الشرعي، وإنما هو فقط يؤدي دوره في تنزيل الحكم الشرعي على الواقع، وعليه فلو تعارض العرف مع النص من كل وجهٍ أو الأصل الشرعي القطعي؛ فإن هذا العرف يُهدر ولا يُلتفت إليه؛ كتعارف الناس في بعض الأوقات على تناول المحرمات، وأكل الربا، وخروج النساء متبرجاتٍ، فإذا كان كذلك فلا اعتبار ¬

_ (¬1) منافح الدقائق شرح مجامع الحقائق، للسيد مصطفى بن السيد محمد الكوز الحصاري، طبع دمشق، (ص 325). (¬2) درر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر، (1/ 45)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 103). (¬3) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 110).

4 - ألا يعارض العرف بتصريح بخلافه

للعرف؛ لأن اعتماده يكون إقرارًا لتشريع مضاد لشرع الله، ولا مشرِّع إلا الله تعالى؛ فالنصُّ أقوى، فلا يُتْرَكُ الأقوى للأوهى (¬1) وهذا موضع اتفاق. 4 - ألَّا يُعَاَرضَ العرف بتصريحٍ بخلافه: فإن خالف العرفَ شرطٌ على خلافه فإن الشرط مقدم؛ لأنه أقوى (¬2)، فلو استأجر شخص سيارة من مكان إلى مكان، واشترط أن يدفع عشرين جنيهًا فليس لصاحب السيارة أن يُلزمه بأكثر، بحجة أن ذلك هو عرف الناس، وليس له أن يدفع أقلَّ استمساكًا بالعرف؛ لأن الشرط جاء على خلافه؛ فلا اعتبار له، وإنما الاعتبار عندئذ للشرط. والقاعدة أنه لا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح. 5 - أن يكون العرف عامًّا: وهذا الشرط اختلف العلماء فيه، فليس هذا موضع إجماع، وقد تقدم أن عموم العرف غير اطراده؛ لأنه قد يكون عامًّا، ولا يستمر العمل به في جميع الحوادث فلا يطَّرد، وقد يكون خاصًّا بفئة أو طائفة أو مهنة، أو أهل بلد خاص؛ فالعام قد يكون غير مطَّرد، والمطَّرد قد يكون غير عام (¬3)، "والذين قالوا باشتراط هذا الشرط في العرف لا يَقصدون كل أنواع العرف، وإنما يَقصدون العرف القاضي على الأدلة، وهو ما يكون دليلًا على الحكم ظاهرًا، أما العرف المرجوع إليه في تطبيق الأحكام العامة أو المطلقة على الحوادث فهذا لا يُشترط فيه العموم، وكذلك العرف الذي يُنَزَّلُ منزلة النطق" (¬4). ¬

_ (¬1) المدخل الفقهي العام، للزرقا، (2/ 902)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 102)، رسائل ابن عابدين، (2/ 116). (¬2) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (2/ 311). (¬3) أثر العرف في التشريع الإسلامي، د. السيد صالح عوض، (ص 196). (¬4) تغير الفتوى بتغير الحال، سيد إبراهيم درويش، (ص 221 - 222).

6 - التكرار والشيوع

6 - التكرار والشيوع: بمعنى أن العادة حتى تُعْتَبَرَ لا بد من تكرار استعمالها وشيوع العمل بها إلى أن يصير المعنى المنقول إليه مفهومًا بغير قرينة، ويكون هو السابق إلى الفهم دون غيره عند الإطلاق (¬1). وهذا الشرط مختلَفٌ فيه كالشرط السابق. فإذا تحققت الشروط السالفة كان العرف ملزِمًا ومعتبرًا، وهو ما أشار إليه الفقهاء والأصوليون بعباراتٍ متعددةٍ وقواعدَ محددةٍ. ومما ينبغي استحضاره: أن العرف ليس دليلًا بذاته وإن اتُّفِقَ على اعتباره؛ فالعرف ترجع دلالته إلى الكتاب والسنة والإجماع، فدلالته ليست ذاتية على التحقيق. وأما قول الفقهاء: "إن الثابت بالعرف كالثابت بالنص" (¬2) فمعناه: أن ما أجمله النص فبينه فبينه العرف فهو كالثابت بالنص، وهو ما عُبِّرَ عنه بصورة أوضح في مثل قولهم: "التعيين بالعرف كالتعيين بالنص" (¬3)، "المعروف كالمشروط" (¬4)، و"المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا (¬5). وغاية العرف أن يكون أمارةً كاشفة عن المصلحة التي دعت الناس إلى التعامل بما تعارفوه، وكان ذلك سببًا في انتشاره واطِّراده، فإن كانت تلك المصلحة حقيقيةً وليست بملغاة ولم تعارض نصوص الشريعة؛ فإنها تعتبر من المصلحة المرسلة، وهي معتبرة من أدلة التشريع في الجملة. ¬

_ (¬1) تبصرة الحكام، لابن فرحون، (2/ 74)، ومعين الحكام، لابن عبد الرفيع التونسي، (ص 125). (¬2) المبسوط، للسرخسي، (9/ 4)، البحر الرائق، لابن نجيم، (3/ 188)، حاشية ابن عابدين، (2/ 357). (¬3) المبسوط، للسرخسي، (4/ 152)، شرح مجلة الأحكام العدلية، لعلي حيدر، (1/ 46). (¬4) شرح فتح القدير، (3/ 381)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 103)، شرح مجلة الأحكام العدلية، لعلي حيدر، (3/ 609). (¬5) حاشية ابن عابدين، (8/ 501)، شرح مجلة الأحكام العدلية، لعلي حيدر، (1/ 46).

وأما إن كانت غير حقيقية أو متوهمة أو مخالفة لأصول الشريعة أو نصوصها - فالعرف الراجع إليها غير معتبر؛ لأنه عرف فاسد (¬1). وإذا تبين ما ذُكِرَ فلا غنى بالمجتهد والقاضي والمفتي عن اعتبار العرف الجاري في التعامل بين الناس لدى الإفتاء؛ لأن النص قد يتوقف في أخذ الحكم منه على العرف والعادة. كما أنه لدى التطبيق يُطْلَبُ مراعاة العرف في مثل المعاملات الجارية بين الناس. وقد نصَّ العلماء على ذلك كثيرًا؛ فهذا ابن عابدين في رسالته "نشر العَرْفِ في بناء بعض الأحكام على العُرْفِ" يقول: "فهذا كله وأمثاله دلائل واضحة على أن المفتي ليس له الجمود على المنقول في كتب ظاهر الرواية من غير مراعاة الزمان وأهله، وإلَّا يُضَيِّعُ حقوقًا كثيرة ويكون ضرره أكثر من نفعه، وليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما بظاهر الرواية ويتركا العرف، والله أعلم " (¬2). وقال القرافي: "إن إجراء هذه الأحكام التي مَدْرَكُهَا العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما في الشريعة يتبعُ العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة، إلى ما تقتضيه العادة المتجددة". ثم شرع يفصل: "ألا ترى أنهم لما جعلوا أن المعاملات إذا أطلق فيها الثمن يحمل على غالب النقود، فإذا كانت العادة نقدًا معيَّنًا حملنا الإطلاق عليه، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عيَّنا ما انتقلت العادة إليه وألغينا الأول؛ لانتقال العادة منه " (¬3). وفيما يلي بعض الأمثلة على تغير الفتيا بتغير العرف: 1 - إن أبا حنيفة لم يجوِّز بيع النحل ودود القز قياسًا على سائر الهوام بجامع عدم المالية ¬

_ (¬1) العرف وأثره في التشريع، د. السيد صالح عوض، (ص 239). (¬2) نشر العرف، لابن عابدين، (2/ 131). (¬3) الإحكام في تمييز الفتاوي من الأحكام، للقرافي، (ص 218، 219).

والتقوم، ثم أجاز محمد بن الحسن الشيباني بيعهما؛ لأنهما صارا في عهده متقومين (¬1). 2 - لما ورد الحديث بإخراج صاع من تمر أو شعير أو قمح أو زبيب أو أقط (¬2) في زكاة الفطر -رأى العلماء أن هذه الأقوات كانت هي غالب القوت عندما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الحديث في ذلك الزمان؛ فكأنه قال: أخرجوا صاعًا من غالب قوت البلد التي أنتم فيها. وعلى ذلك أفتى العلماء بجواز إخراج صاع من الأرز والذرة ونحوه، إذا كان هذا هو غالب قوت البلد في زمانهم (¬3). 3 - إذا استأجر رَجلٌ رجلًا لعمل معين كخياطة ثوب أو لطبع كتاب أو غير ذلك من الأعمال التي يلزم الصانع فيها أدوات لإتمام صنعته؛ فهل هذه الأدوات على المستأجر، أم على الصانع؟ اختلف الشافعية، وصحح الرافعي الرجوع في ذلك إلى العادة فيحكم بها ويتغير الحكم بتغيرها (¬4). 4 - لو حلف رجل أن لا يأكل لحمًا لم يحنث بأكل السمك وإن سماه الله لحمًا طريًّا، وكذلك لو حلف أن لا يجلس على بساط أو تحت سقف أو في ضوء سراج لم يحنث بالجلوس على الأرض، وإنْ سمَّاها الله بساطًا، ولا تحت السماء وإنْ سمَّاها الله سقفًا، ولا في الشمس ¬

_ (¬1) العرف والعادة في رأي الفقهاء، للشيخ أحمد فهمي أبي سنة، ط 2، 1412 هـ - 1992، (ص 130). (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر، وباب: صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين، وباب: صاع من شعير، وباب: صدقة الفطر صاعًا من طعام، وباب: صدقة الفطر صاعًا من تمر، وباب: صاع من زبيب (1503، 1504، 1505، 1506، 1507، 1508)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، (984، 985)، من حديثي ابن عمر، وأبي سعيد الخدري -رضي الله عنهم-. (¬3) المغني، لابن قدامة، (4/ 290)، مغني المحتاج، للخطيب الشربيني، (1/ 406)، شرح مختصر خليل، للخرشي، دار الكتب العلمية، ط 1، ضبطه وخرج آياته وأحاديثه زكريا عميرات، (2/ 538). (¬4) أسنى المطالب، لزكريا الأنصاري، تحقيق: د. محمد محمد تامر، دار الكتب العلمية، ط 1، 2000 م، (2/ 418)، مغني المحتاج، للخطيب الشربيني، (2/ 346).

وإن سمَّاها الله سراجًا، فيقدم العرف على الشرع في جميع ذلك؛ لأنها اسْتُعملت في الشرع تسمية بلا تعليق حكم وتكليف (¬1). 5 - إذا اختلف الزوج والزوجة في قبض الصداق بعد الدخول، فإن القول قول الزوج؛ بناء على العادة في بلد ما مِن أن الزوج لا يدخل حتى يدفع كامل الصداق، وإن القول قول الزوجة في بلد آخر؛ بناء على عاداتهم من عدم دفع كامل الصداق قبل الدخول؛ فاختلف الحكم تبعًا للعادة بأن جعل القول للزوج تارة وللزوجة تارة أخرى، ولا يوجد اختلاف في أصل الدليل الشرعي (¬2). ومن القواعد المرادفة لقاعدة العرف معتبر والعادة محكمة والمندرجة تحتها ما يلي: 1 - استعمال الناس حجة يجب العمل بها (¬3): وعلى اعتبار الاستعمال مرادفًا للعادة تعتبر هذه القاعدة مرادفةً لقاعدة العادة محكمة. وأماَّ إذا كان الاستعمال بمعنى نقل اللفظ عن وضعه الأصلي واستعماله في المعنى المجازي شرعًا وغلبة استعماله فيه- فإن معناها إذن: أن الحقيقة العرفية محكَّمة في فهم الألفاظ. فلو حلف لا يأكل شواءً اختصت عينه باللحم المشوي دون البيض أو الباذنجان أو غيرهما مما قد يشوى (¬4). 2 - الثابت بالعرف كالثابت بدليل شرعي، الثابت بالعرف كالثابت بالنص (¬5)، والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا (¬6). ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 93)، ضوابط المصلحة، للبوطي، (ص 249). (¬2) الإحكام، للقرافي، (ص 219 - 220)، الميسر في أصول الفقه، للغرياني (169)، الحكم فيما لا نص فيه، للبرديسي، (ص 98 - 99). (¬3) خاتمة مجامع الحقائق، للخادمي، المطبعة العامرة، استانبول، 1308 هـ، (ص 308)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية، لعلي حيدر، (1/ 41). (¬4) تقرير القواعد وتحرير الفوائد، لابن رجب، (2/ 555). (¬5) درر الحكام، (1/ 46)، نشر العرف، (2/ 115). (¬6) درر الحكام شرح مجله الأحكام، لعلي حيدر، (1/ 46).

فما تَوافقَ عليه الناس وتحققت فيه الشروط فإنه محكَّم؛ لأنه حينئذ يكون كالثابت بدليل شرعي؛ فيُعمَل به ويُحتَكَم إليه؛ كالدليل الشرعي سواء بسواء. 3 - إنما تعتبر العادة إذا اطَّردت أو غَلبت (¬1)، والعبرة للغالب الشائع لا للنادر (¬2). وهما قاعدتان تُعَبِّران عن بعض شرائط العرف لكي يُعتبر، وهي شرائط الاطِّراد والغلبة والشيوع والاشتهار بين الناس. 4 - العرفُ الذي تُحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارِنُ السابق دون المتأخر اللَّاحق (¬3). فلا عِبرة للعرف الطارئ؛ فلا بد من أن يكون العرف سابقًا في الوجود عن الحكم لا تاليًا له متأخِّرًا عنه؛ فيحمل الحكم على العرف الموجود وقت التلفظ. 5 - الحقيقة تُترك بدلالة العادة (¬4). فدلالة اللفظ الحقيقية تُترك ولا تُعتبر إذا دلَّ العرف والعادة على استعمال هذه اللفظة استعمالًا مغايرًا لمعناها الحقيقي، ويُبنَى الحكمُ على المعنى الذي دل عليه العرف والعادة (¬5). 6 - الكتاب كالخطاب (¬6). فالكتابة كالمخاطبة الشفهية؛ لأن ما يترتب عليهما واحد، والكتابة ممن نأى بمنزلة الخطاب ممن دنا، وكلُّ كتاب يُحَرَّرُ على الوجه المتعارف عليه بين الناس يكون حجة على كاتبه؛ كالنطق باللسان. ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 92)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 103). (¬2) خاتمة مجامع الحقائق، للخادمي، المبطعة العامرة، استانبول، 1308 هـ، (ص 325)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر، (1/ 45). (¬3) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 96)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 110). (¬4) خاتمة مجامع الحقائق، للخادمي، (319)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر، (1/ 43). (¬5) الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، للبورنو، (ص 244). (¬6) شرح المجلة، للأتاسي، (1/ 190).

القاعدة الثانية: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان.

القاعدة الثانية: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان (¬1). هذه القاعدة متفرعة عن قاعدة العرف والعادة، وهي أهم قاعدة تُبنى عليها، ولا شك أن لها تعلُّقًا كبيرًا بما يتصل بالأقليات المسلمة والتي تعيش زمان غربتها اليوم. ولخصوصية هذه القاعدة وأهميتها أُفْرِدَتْ. وللقاعدة صيغ متقاربة، منها: ما ذكره الخرشي (¬2) من قوله: "الأمور العرفية تتغير بتغير العرف" (¬3). وهذا ما بينه قبل ذلك القرافي بقوله: "فإن القاعدة المجمع عليها أن كل حكم مبني على عادة، إذا تغيرت العادة تَغَيَّرَ" (¬4). وقال أيضًا: "وإن اختلفت العوائد في الأمصار والأعصار وجب اختلاف هذه الأحكام" (¬5). معنى القاعدة: هذه القاعدة وقع اختلاف في صيغتها، ومعارضة عند بعض الفقهاء لمعناها، وكُتبت حولها رسائلُ كثيرةٌ، وبحوث عديدة، ومن ذلك: 1 - "الفقه والقضاء وأولو الأمر ودورهم التطبيقي لقاعدة تغير الأحكام بتغير الأزمان"، أ. د. محمد راشد علي، وهي رسالة ماجستير في كلية الشريعة، جامعة الأزهر، القاهرة. ¬

_ (¬1) المجلة، المادة (39)، وشروحها، للأتاسي، (1/ 91)، وعلي حيدر، (1/ 43)، شرح الخاتمة، لسليمان القرق أغاجي، مطبعة الحاج مرحم البوسنوي، استانبول، 1499 هـ، (ص 65)، الوجيز في قواعد الفقه الكلية، للبورنو، (ص 253). (¬2) أبو عبد الله، محمد بن عبد الله، الخرشي، المالكي، أول من تولى مشيخة الأزهر، كان فقيهًا فاضلًا ورعًا من تصانيفه: الدرة السنية على حل ألفاظ الآجرومية، شرح مختصر الشيخ خليل في الفروع، وغير ذلك، ولد سنة 1010 هـ، وتوفي سنة 1101 هـ. الأعلام، للزركلي، (6/ 240)، موسوعة الأعلام، موقع وزارة الأوقاف، (1/ 202). (¬3) شرح مختصر خليل، للخرشي، (4/ 470). (¬4) الفروق، للقرافي، (4/ 1261). (¬5) المصدر نفسه، (4/ 1261).

2 - "تغير الفتوى بتغير الحال"، د. سيد إبراهيم درويش، وهي رسالة دكتوراه في كلية الشريعة جامعة الأزهر، القاهرة. 3 - "تغير الأحكام في الشريعة الإسلامية"، د. إسماعيل كوكسال، جامعة الزيتونة، تونس. 4 - "تغير الأحكام- دراسة تطبيقية لقاعدة لا ينكر تغير الأحكام بتغير القرائن والأزمان"، د. هاسليم مكداش، وهي رسالة دكتوراه بقسم الشريعة في جامعة الجنان بلبنان. 5 - "تغير الظروف وأثره في اختلاف الأحكام في الشريعة الإسلامية"، د. محمد قاسم المنسي، وهي رسالة دكتوراه بكلية دار العلوم، جامعة القاهرة. 6 - "مدى تغير الأحكام بتغير الجهات الأربع (الزمان والمكان والأشخاص والأحوال) "، د. عبد الله ربيع عبد الله، وهو بحث للترقية في كلية الدراسات الإسلامية والعربية، جامعة الأزهر. 7 - "تغير الأحكام في الشريعة الإسلامية"، د. محمد أردوغان، وهي رسالة بالتركية في جامعة مرمرا باسطنبول. إلى غير ذلك من بحوث كثيرة تناولت الموضوع وعالجته بطرائقَ شتى، وهذا يؤكد أهميته، ويُرشح جدارته. ونظرًا لأن المقصود في هذا المجال ذِكْرُ القواعد التي يَعتمد عليها تأصيل فقه نوازل الأقليات المسلمة؛ فإننا نعرض عن الإطالة بذكر خلافات ومناظرات في صحة القاعدة ومعناها؛ لنعطي خلاصة سالمة -بإذن الله- مع الإحالة إلى ما سبق من موجبات تغير الفتيا والأحكام الاجتهادية بتغير ما يؤثر في الفتيا. والمعنى الذي لا اختلاف عليه لهذه القاعدة هو: أنه لا يستنكر -كما لا يجهل- اختلاف الفتيا والأحكام في الموارد الاجتهادية بتغير ما تَستند إليه من الأعراف والعادات، أو المكان والبيئات، أو الأشخاص والأحوال.

والتعبير بالزمان إنما كان لأنه وعاء التغير وظرف العوائد؛ فما كان من الأعراف أو العادات ليست أحكامًا شرعية بذاتها ولا مناطًا لحكم شرعي فما يُبنَى عليها من أحكام يتغير بتغييرها، ما لم تخالف نصًّا شرعيًّا أو إجماعًا منعقدًا، وما كان من الأعراف مناطًا لحكم شرعي لكن يتغير بتغير الأعراف والصالح فهو أيضًا مما يناله التغيير. يدخل في هذا جميع التراتيب والأوضاع واللوائح الإدارية والإنسانية والتطورات العلمية، والاقتصادية والتي من شأنها أن تتغير الحياة بتغيرها، وأن تتأثر بتبديلها. فالنظام التجاري والمرور وأنظمة المحاكم والجامعات والمؤسسات العقارية والبلديات ودوائر التوثيق والتصديقات، وأنواع التعزيرات المرتبطة بالمخالفات في تلك الجهات؛ كبيع الفاسد من الطعام، أو التزوير في المحَرَّرات، أو المخالفة في اشتراطات الصحة والسلامة، ونحو ذلك -فهذا كله مما تتغير أحكامه، وتتبدل بتبدل الأعراف واللوائح والتراتيب. وقد جرى ذِكْرُ أمثلة من تلك الأحكام التي تتغير بتغير الأعراف وفساد أهل الزمان؛ كتضمين الصناع، واتخاذ الدواوين، وتضمين الساعي بالفساد، وأخذ الأجرة على أعمال من القربات، واتخاذ دار للسجن، ونحو ذلك (¬1). قال القرافي -رحمه الله-: "إذا جاء رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجْرِهِ على عرف بلدك، واسأله عن عرف أهل بلده، وأجْرِهِ عليه وأفْتِهِ به دون عُرْفِ بلدك والمقرر في كتبك؛ فهذا هو الحق الواضح" (¬2). ويقول القرافي -رحمه الله-: "إن إجراء هذه الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير ¬

_ (¬1) قاعدة العادة محكمة، د. يعقوب الباحسين، ط مكتبة الرشد، (ص 220 - 226)، المدخل الفقهي، للزرقا، (2/ 945 - 951)، الوجيز، للبورنو، (253 - 256). (¬2) الفروق، للقرافي، (1/ 176).

أدلة القاعدة

تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين؛ بل كل ما في الشريعة يتبع العوائد؛ يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة" (¬1). وقال ابن القيم -رحمه الله-: "من أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلَّ وأضلَّ" (¬2). أدلة القاعدة: كل دليل وَرَدَ في الاستدلال على تغير الأحكام المبنية على الأعراف والعوائد بتغيرها فهو دليل لهذه القاعدة ولا بد، كما أن كل دليل تناول صلة الاستحسان، أو سد الذرائع، أو المصلحة المرسلة بتغير الفتيا والأحكام، فهو دليل لهذه القاعدة ولا بد. وذلك نظرًا لكون التغير في الفتيا والأحكام الاجتهادية يرجع إلى تلك الأصول الشرعية. وقد نقل العلماء الإجماع على معنى هذه القاعدة؛ فقال القرافي: "إن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيف دارت، وتَبطل معها إذا بطلت؛ كالنقود في المعاملات، والعيوب في الأعراض في المبايعات، ونحو ذلك؛ فلو تغيرت العادة في النقد والسكة إلى سكة أخرى لَحُمِلَ الثمن في البيع على السكة التي تجددت العادة بها دون ما قبلها، وكذلك إذا كان الشيء عيبًا في الثياب عادة رُدَّ به المبيع، فإذا تغيرت العادة لم يعد عيبًا يُرَدُّ به، وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المترتبة على العوائد، وهذا مجمع عليه بين العلماء، ولا خلاف فيه" (¬3). وعلى هذا علق ابن القيم فقال: "وهذا محض الفقه" (¬4). ¬

_ (¬1) الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام، للقرافي، (218). (¬2) إعلام الوقعين، لابن القيم، (3/ 78). (¬3) الفروق، للقرافي، (1/ 314). (¬4) إعلام الوقعين، لابن القيم، (3/ 78).

الضابط الأول: ألا يكون تغير العرف مصادما للنصوص الشرعية

وقد سبق قريبًا قول القرافي: إن مخالفة ذلك هو خلاف الإجماع. فإذا تقرَّرَ تغير الفتيا والأحكام المستندة إلى الأعراف والعادات فلا بد من ضبط ذلك التغير بضوابطَ حاكمةٍ وقواعد واضحة؛ فإن قاعدة "تغير الفُتيا بتغير الأزمان" لا يمكن أن تنعكس بالسلب على أصل عبودية الخلق للخالق؛ لأن هذا التغير هو مراد الشارع الحكيم، وتحققه لا يمكن أن يكون إلا ضمن مشيئة الله ومراده؛ لأن الله تعالى هو المتفرد على عباده بالألوهية والحاكمية. لذلك يجب أن يأتي هذا التغير منسجمًا مع النصوص والأحكام مؤتلفًا مع المقاصد العامة للتشريع، وإن اختلف مع الأهواء والأمزجة؛ لأن الله أعلم بما يُصلح الناسَ ويُفسدهم، كما يجب أن يبقى مبدأ الامتثال ببقاء الأحكام التعبدية التي لم تعلل على حالها جملة وتفصيلًا. ومن أجل تحقيق هذا وضع العلماء ضوابطَ لِتَغَيُّرِ الفُتيا، بتغيُّرِ العرف والعادة، وبيانها كالتالي: الضابط الأول: ألَّا يكون تغير العرف مصادمًا للنصوص الشرعية: الأصل التمسك بالنص، وعدم مخالفته، وتحكيمه في كل ما يمكن تحكيمه فيه دون التحول إلى غيره، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]، وقال سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وقال عز من قائل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ". . . وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله. . . " (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه: مسلم، كتاب الحج، باب: حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، (1218)، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.

الضابط الثاني: أن يكون التغير موافقا لمقاصد الشريعة

فكل تغير في العادات أو الأعراف هدمته الشريعة فلا اعتبار له، ولا وزن له؛ فإذا صار عُرف الناس في بلاد ما اتباع كل ناعق، أو مسايرة كل صيحة، أو صرعة غربية؛ فإن هذا هو العرف الفاسد الذي لا قيمة له. وعلى سبيل المثال: إذا كان من عادة الغرب ابتذال المرأة وإهانتها على نحو ما يرى من بيعها في أسواق النخاسة العالمية، وإجبارها على ممارسة أعمال تنافي طبيعتها وخلقتها؛ فإن هذا العرف إذا انتقل إلينا لا يبيح عري المرأة ولا اختلاطها بشكل مستهتر بالرجل؛ فإن النصوص الشرعية المتضافرة تمنع ذلك، وتقطع سبيله. ونختم قولنا -مكرِّرِين-: إن الأحكام الثابتة بناء على النص لا تتغير أحكامها؛ لأن النص أقوى من العرف؛ إذ لا يحتمل أن يكون مستندًا على باطل بخلاف العرف والعادة فقد تكون مبنية على باطل (¬1). فيتعين مراعاة مراتب الأدلة الشرعية ومراتب التعليل في الأحكام الشرعية، وترتيب الأدلة على حسب قوتها، فلا يصح أن تختلط مستويات الأدلة، فإذا وُجِدَ النصُّ فلا مساغ للاجتهاد مع وجود النص، وكذلك لا اعتبار للمصلحة مع وجود النص، وإذا سبق الإجماع فلا اعتبار للعرف الطارئ، وهكذا. الضابط الثاني: أن يكون التغير موافقًا لمقاصد الشريعة: التدابير التي تتطلبها مصالح الناس في زمن ما إذا لم تُحقق الغرض منها في زمن آخر بسبب تغير الظروف- فإنه لا مانع شرعًا من استحداث تدابير جديدة تلائم الظروف الجديدة، وبالتالي يتغير الحكم تبعًا لذلك؛ إذ المعول عليه في ذلك هو موافقة مقاصد الشريعة في تحقيق مصالح الناس سواء بجلب المصلحة، أو دفع المفسدة. يقول ابن عقيل (¬2): "السياسة ما كان فعلًا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، ¬

_ (¬1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر، (1/ 47 - 48). (¬2) أبو الوفاء، علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد الله، البغدادي، الظفري، الحنبلي المتكلم، صاحب =

الضابط الثالث: أن يكون التغير معتبرا شرعا

وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا نزل به وحي" (¬1). وتطبيقًا لذلك رأينا الفقه المعاصر يُرشِد إلى ضرورة توثيق عقد النكاح استنادًا إلى أدلة من المصلحة المرسلة، وسد ذرائع الفساد، وضياع الحقوق. كما وجدنا تحديدًا لأساليب التقاضي وفض النزاع وتخصيص محاكم لأغراض معينة؛ كالمعاملات أو الأحوال الشخصية؛ وذلك محكوم لما سبق أيضًا من عدم مصادمة النصوص الشرعية؛ فلا سبيل إذن إلى إباحة ربا محرم تحت هذا النص، أو القول مثلًا بجواز تأمين تجاري بحجة أن فيه نفعًا أو تحقيقًا لمصلحة! الضابط الثالث: أن يكون التغير معتبرًا شرعًا: ولا يكون كذلك إلَّا إذا ترتب على إهمال هذا التغير الطارئ اختلالُ مصلحة من المصالح الضرورية، أو الحاجية، أو أدى إلى وقوع حرج ومشقة معتبرين، أو أدى إلى إخلال حقيقي بفطرة الإنسان ومقوماته وخصائصه (¬2). ومما يشهد لهذا نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن إقامة الحدود في أرض العدو، وفي الحديث: "لا تُقطع الأيدي في الغزو" (¬3). وقد روي أن عمر -رضي الله عنه- كتب إلى الناس: "أن لا يَجْلِدَنْ أميرُ جيش ولا سرية ولا رجلٌ من المسلمين أحدًا وهو غازٍ، حتى يقطع الدرب قافلًا؛ لئلَّا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار" (¬4). ¬

_ = التصانيف، الإمام العلامة البحر، شيخ الحنابلة، من تصانيفه: الفنون، والمفردات، وعمدة الأدلة، وغير ذلك، ولد سنة 431 هـ، وتوفي سنة 513 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (19/ 443)، وذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب، (1/ 316). (¬1) الطرق الحكمية، لابن القيم، (2/ 29). (¬2) تغير الظروف وأثره في تغير الأحكام، د. محمد قاسم المنسي، ط 1، 1430 هـ، دار السلام، القاهرة، (ص 552). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) أخرجه: ابن أبي شيبة في "مصنفه"، كتاب الحدود، باب: في إقامة الحد على الرجل في أرض العدو، (10/ 102)، من حديث حكيم بن عمير قال: كتب عمر بن الخطاب: أن لا يجلدن. . . فذكره.

الضابط الرابع: أن يكون الناظر في التغير من المجتهدين

ومن هذا الباب: لم يُعْطِ عمرُ المؤلفةَ قلوبهم من الزكاة (¬1)، وأسقط الحد عمن سرق في عام المجاعة (¬2). على أنه لا ينبغي أن يهمل أن مراتب الصالح قد تتغير بتغير الأزمان والأمصار والأحوال؛ فما كان حاجيًّا في زمن قد يصير ضروريًّا في غيره، وما كان تحسينيًّا قد يغدو حاجيًّا؛ وذلك لتغير ظروف الحياة والبيئات والأعراف؛ فلا شك أن الكهرباء -مثلًا- في الزمن الأول رُبَّما كانت تحسينية، أما الآن فهي حاجية، ومن قبل الحاجات العامة، وقد يصل النظر بها إلى رتبة الضروري، وهذا له تعلُّقٌ على كل حال بالحاجي والتحسيني دون الضروري؛ فإنه في كل زمان ومكان يبقى الضروري ضروريًّا؛ لأنه يُمَثِّلُ النظام العام والأصول الشرعية؛ فالتغير لا يجري إلا فيما كان حاجيًّا أو تحسينيًّا (¬3). وقد روي عن عمر عبد العزيز: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" (¬4). الضابط الرابع: أن يكون الناظر في التغير من المجتهدين: ولا سيما الاجتهاد الجماعي، وأن يتمتع المجتهد بالجمع بين فقه الشرع وفهم الواقع، وبالجمع بين إدراك المسألة الجزئية والإحاطة بالأصول العامة والقواعد الكلية، مع توفر آلات الاجتهاد وأدوات الفُتيا، وإمعان النظر، واختبار كل تغير في الأحوال والأحداث. وأخيرًا فإن الذي يقول -في حقِّ هذه العوائد والأعراف-: إنها تغيرت وبالتالي تتغير الفتيا المرتبة عليها إنما هم أهل العلم والمعرفة بالشرع، وليس أهل الهوى والجهل (¬5). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) أخرجه: عبد الرزاق في "مصنفه"، كتاب اللقطة، باب: القطع في عام سنة (10/ 242)، وابن أبي شيبة، كتاب الحدود، باب: في الرجل يسرق الثمر والطعام، (10/ 27، 28)، من حديث يحيى بن أبي كثير قال: قال عمر: "لا يقطع في عذق ولا عام السنة". وهذا منقطع؛ يحيى لم يُدرِك عمر. (¬3) تأصيل فقه الأولويات، د. محمد همام، (ص 388 - 389). (¬4) الفروق، للقرافي، (4/ 1314). (¬5) مدى تغير الأحكام بتغير الجهات الأربع، د. عبد الله ربيع، وزارة الأوقاف، الإدارة العامة لبحوث الدعوة، (ص 148 - 149).

ولاشك أنها مسالك ضيقة لا يسلكها إلا الخريت الماهر (¬1). ومما ينبغي أن يعلم: أن تغير الفتيا بتغير ما ترتبت عليه إنما هو مما يهدف إلى إبقاء الأمور تحت حكم الشريعة وسلطانها، وإن تغيرت صورتها الظاهرة؛ فهو ليس خروجًا على الشريعة واستحداثًا لأحكام جديدة. وأن التغير في الفتيا هو تغيُّرٌ خاص من حيث الزمان والمكان والشخص، حيث تتغير فقط بالنسبة للزمان أو المكان أو الشخص الذي تغيرت في حقه مسوغات الفتيا، وهذا معناه أن الأمور تكون باقية علي ما هي عليه في بقية الأماكن والأزمان والأشخاص. وأن أهل العلم عندما قالوا بمراعاة الأصول والعوائد ونحوها إنما قالوا ذلك حتى لا يقعوا في الظلم؛ إما ظلم العباد بإلزامهم بما لم يُلزمهم به الشرع، وإما ظلم أنفسهم بالخطأ على الدين. والأقليات المسلمة بحاجة إلى فقه هذه القواعد الضابطة والأصول الحاكمة لنوازل وفقه هذه الأقليات التي تعيش خارج أرضها ومحكومة بغير شريعة ربها في أغلب أحوالها. وهذا يشير إلى أهمية تحقيق المناط، وهو تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع، علة حكم ما في محله نص أو إجماع؛ فيبين المجتهد وجودها في الفرع (¬2). ومجال تطبيق هذه القاعدة في نوازل الأقليات يتضح في لجوء الفقيه إلى أهل الخبرة في كل القضايا التي علَّقَ الشارع حكمها على وصف أو شرط أو مانع أو سبب؛ للتحقق من قيام أي منها ليرتب عليه الحكم المناسب (¬3). ¬

_ (¬1) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، د. عبد الله بن بيه، (ص 259). (¬2) شرح مختصر الروضة، للطوفي، (3/ 233). (¬3) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، لابن بيه، (ص 260).

المبحث التاسع القواعد المتعلقة بالولاية والسياسة الشرعية

المبحث التاسع القواعد المتعلقة بالولاية والسياسة الشرعية القاعدة الأولى: التصرف على الرعية منوط بالمصلحة: (¬1) المعنى العام للقاعدة: وردت هذه القاعدة بعبارات متقاربة، منها: قول الإمام الشافعي -رحمه الله-: "منزلة الوالي من رعيته بمنزلة والي مال اليتيم من ماله" (¬2) وعبَّر عنها التاج السبكي بقوله: "كل متصرف عن الغير فعليه أن يتصرف بالمصلحة" (¬3). وواضح أن من الفقهاء من أطلق التعبير، فقال: التصرف على الرعية منوط بالمصلحة، ومنهم: مَنْ قيَّد بلفظ الإمام، فقال: "تصرُّفُ الإمام على الرعية منوط بالمصلحة". وهذه القاعدة تفيد أن نفاذ تصرف الراعي على الرعية، ولزومه عليهم شاءوا أو أبوا معلَّق ومتوقف على وجود الثمرة والمنفعة في ضمن تصرفه، دينية كانت أو دنيوية، فإن تضمن التصرف منفعة ما وجب عليهم تنفيذه، وإلا رُدَّ؛ لأن الراعي ناظر، وتصرفه حينئذ متردد بين الضرر والعبث، وكلاهما ليس من النظر في شيء. (¬4) وهذه القاعدة قاعدة مطَّردة تسري على الحكام والولاة، كما تسري على كل أسرة وراعيها (¬5) والرعية هنا كل من دخل تحت ولاية مَنْ ولَّاه الله أمرهم. ¬

_ (¬1) المنثور، للزركشي، (1/ 309)، مجلة الأحكام العدلية، مادة، (58)، الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 121). (¬2) الأم، للشافعي، (5/ 351)، الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 121). (¬3) الأشباه والنظائر، لابن السبكي، (1/ 310). (¬4) القواعد الفقهية على المذهب الحنفي والشافعي، د. محمد الزحيلي، (ص 436). (¬5) القواعد الفقهية، د. محمد بكر إسماعيل، (ص 113).

كما أن القاعدة تشير إلى أهمية أن يرعى كلُّ راعٍ رعيته بنصحه، وطلب الخير لها، وتحقيق مصالحها العامة، وأن كل تصرف على خلاف هذه المصلحة مما يُقصد به استثمار، أو استبداد، أو يؤدي إلى ضرر أو فساد فهو غير جائز. فالولاة والعمال والأمراء والقضاة والقادة وغيرهم ليسوا عمالًا لأنفسهم، إنما هم وكلاء عن الأمة في القيام بشئونها، فعليهم أن يراعوا خير التدابير؛ لإقامة العدل، وإزالة الظلم، وإحقاق الحق، وصيانة الأخلاق، وتطهير المجتمع من الفساد، ونشر العلم ومحاربة الجهل، والحرص على الأموال العامة، ورعايتها وإنفاقها فقط فيما يعود على الأمة بالخير والنفع، كما لا يجوز لهم أن يُحابُوا بها أحدًا دون أحد لجاه أو لسلطان أو لرغبة أو لطمع؛ لأنه لا يجوز للوالي أن يأخذ درهمًا من أموال الناس إلا بحق، كما لا يجوز له أن يضعه إِلَّا في يد مستحق. وقد أخذ الشافعي -رحمه الله- هذه القاعدة من قول عمر -رضي الله عنه-: "إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم، إن استغنيتُ عنه استعففتُ، وإن افتقرتُ أكلتُ بالمعروف" (¬1). وأيضًا ما ذكره القاضي أبو يوسف في "الخراج" حيث قال: "بعث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عمار بن ياسر على الصلاة والحرب، وبعث عبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال، وبعث عثمان بن حنيف على مساحة الأرضين، وجعل بينهم شاة كلَّ يوم، في بيت المال، شطرها وبطنها لعمار، وربعها لعبد الله بن مسعود وربعها الآخر لعثمان بن حنيف، وقال: إني أنزلت نفسي وإياكم من هذا المال بمنزلة ولي اليتيم، فإن الله تبارك ¬

_ (¬1) أخرجه: ابن أبي شيبة في "مصنفه"، كتاب السير، باب: ما قالوا في عدالة الوالي وقسمه قليلًا كان أو كثيرًا، (12/ 324) -ومن طريقه: البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (9/ 286) -، وابن جرير في "تفسيره" (7/ 582)، وسعيد بن منصور في "سننه" -كما في "تفسير ابن كثير" (2/ 218) -. وصححَّ إسنادَه: الحافظُ ابن كثير، والحافظ ابن حجر في "الفتح"، (13/ 151).

أدلة القاعدة

وتعالى قال: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] والله ما أرى أرضًا يؤخذ منها شاة كل يوم إلا استسرع خرابها". (¬1) أدلة القاعدة: أولًا: القرآن الكريم: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 59]. وجه الدلالة: الأمانات تتضمن الولاياتِ كلَّها الدينية والدنيوية، كبيرها وصغيرها، وأنه يتحتم على كل من يقوم بولاية ما أن يقيم العدل، ويزن الأمور بالقسطاس المستقيم. ومن شواهد هذه القاعدة في كتاب الله الكريم: قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]، وقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، وكذا قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152]. فهذه الآيات على اختلاف موارد نزولها تفرض الاحتياط في حفظ أموال الضعفاء والعاجزين. ففي الآية الأولى نُهِيَ الأولياءُ أن يؤتوا السفهاء أموالهم مخافةَ أن يضيعوها؛ لضعف عقولهم، وخفة أحلامهم، حتى تزول صفة السفه عنهم، وفي الآية التالية وقع التنبيه على أنه لا يصح التصرف في مال اليتيم إلا بالخصلة التي هي أنفع له كتثميره وحفظه، أو أخذه قرضًا. وهكذا في سائر الأحوال جعل التصرف منوطًا بالمصلحة. (¬2) ¬

_ (¬1) الخراج، لأبي يوسف، (ص 36). (¬2) القواعد الفقهية، د. محمد بكر إسماعيل، (ص 112).

ثانيا: السنة المطهرة

ثانيًا: السنة المطهرة: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لم يجهد لهم وبنصح إلا لم يدخل معهم الجنة" (¬1). 2 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلَّا حرم الله عليه الجنة" (¬2). 3 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته؛ فالإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل في أهله راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راعٍ وهو مسئول عن رعيته" (¬3). وجه الدلالة: الأحاديث السابقة تبيِّنُ اطِّراد القاعدة وشمولها لكل راعٍ ورعية، وتَعِدُ الناصح من الولاة خيرًا عظيمًا، وتُنذر الخائن منهم شرًّا مستطيرًا. ولا شك أن القواعد الشرعية والأصول العقلية كافة تحمل على جلب المصالح ودرء المفاسد، وعليه فلا يجوز لوالٍ أو وصي أو قاضٍ أو إمام أن يعمل في رعيته إلا بما تقتضيه المصلحة من جلب منفعة، أو دفع مفسدة. ¬

_ (¬1) أخرجه: مسلم، كتاب الإيمان، باب: استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، (142)، من حديث معقل بن يسار -رضي الله عنه-. وأخرج البخاري، كتاب الأحكام، باب: من استرعى رعية فلم ينصح، (7150)، من حديثه مرفوعًا: "ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة". (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب الأحكام، باب: من استرعى رعية فلم ينصح، (7151)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، (142) -واللفظ له-، من حديث معقل بن يسار -رضي الله عنه-. (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب العتق، باب: العبد راعٍ في مال سيده، (2558)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم، (1829)، من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.

القاعدة الثانية: يقوم أهل الحل والعقد عند الاقتضاء مقام الإمام ونائبه

القاعدة الثانية: يقوم أهل الحل والعقد عند الاقتضاء مقام الإمام ونائبه: المعنى العام للقاعدة: هذه القاعدة قاعدة فقهية مستنبطة من كلام علماء السياسة الشرعية والولايات العامة أولًا، ثم مما قرره فقهاء المالكية ثانيًا. ومصطلح أهل الحل والعقد أطلقه أبو الحسن الأشعري (¬1) المتوفى سنة 324 هـ (¬2)، ثم ذكره أبو بكر الباقلاني المتوفى سنة 403 هـ (¬3) ثم أبو الحسن الماوردي المتوفى سنة 450 هـ (¬4)، ثم شاع بعد ذلك وذاع في كتب السياسة الشرعية، والفقه والأصول وعلم العقيدة، وغيرها من العلوم. وقد ارتبط هذا المصطلح بمصطلحات أخرى تقاربه في معناه، مثل: "أولو الأمر"، "أهل الاختيار"، "أهل الشورى"، "أهل الشوكة"، "أهل الاجتهاد"، "أهل الرأي والتدبير" وغيرها من مصطلحات في باب السياسة الشرعية. والمقصود بأهل الحل والعقد -اصطلاحًا- ما قاله النووي -رحمه الله-: "وتنعقد الإمامة بالبيعة، والأصح بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم". (¬5) ¬

_ (¬1) أبو الحسن، علي بن إسماعيل بن أبي بشر، الأشعري المتكلم صاحب الكتب والتصانيف في الرد على الملحدة وغيرهم من المعتزلة، والرافضة، والجهمية، والخوارج، وسائر أصناف المبتدعة، من مصنفاته: تبيين كذب المفتري، ومقالات المسلمين، والإبانة عن أصول الديانة، ولد سنة 260 هـ، وتوفي سنة 324 هـ. تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، (13/ 260)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (15/ 85). (¬2) الإبانة، لأبي الحسن الأشعري، (ص 251). (¬3) في كتابه تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، لمحمد بن الطيب الباقلاني، تحقيق: عماد الدين أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1407 هـ - 1978 م، (ص 467). (¬4) الأحكام السلطانية والولايات الدينية، لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، تحقيق: د. أحمد مبارك البغدادي، دار ابن قتيبة، الكويت، ط 1، 1409 هـ - 1989 م، (ص 6). (¬5) نهاية المحتاج، للرملي، (7/ 410).

وهذا ما تابعه عليه أكثر المتأخرين أيضًا، يقول الشيخ محمد عبده: "وهم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند، وسائر الرؤساء والزعماء، الذين يَرجع إليهمُ الناسُ في الحاجات والمصالح العامة" (¬1). وإلى قريب منه ذهب الشيخ محمود شلتوت (¬2)، فقال: "أهل الحل والعقد هم أولو الأمر الذين يمثلون الأمة ويختارون باسمها الخليفة، وهم أهل العلم والرأي والخبرة في كل ناحية من نواحي النشاط الحيوي بالأمة" (¬3). وقد وقع بعض الخلاف اليسير في المقصود بذلك، وكان ينبغي ألا يقع خلاف فيه، يقول الشيخ محمد رشيد رضا: "كان ينبغي أن تكون تسميتهم بأهل الحل والعقد مانعة من الخلاف فيهم؛ إذ المتبادر أنهم زعماء الأمة وأولو المكانة، وموضع الثقة من سوادها الأعظم، بحيث تتبعهم في طاعة من يُوَلَّونَ عليها فينتظم به أمرها، ويكون بمأمن من عصيانها وخروجها عليه". (¬4) والحاصل أن هذا الاصطلاح متعارف عليه بين علماء الشريعة دلت عليه الآيات الكريمات الآمرة بمشورة العلماء والحكماء، وأصحاب الكفاية والدراية، كما دلت عليه الآيات الواردة في شأن مسئولية أهل العلم وبيان مرجعيتهم، والأمر باتباعهم وسؤالهم، كما نبهت عليه الآيات الآمرة بالانتصاب للدعوة والاجتماع على الأمر والنهي، مع النصح لأئمة المسلمين وعامتهم. ¬

_ (¬1) تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا، (5/ 181). (¬2) الشيخ محمود شلتوت: فقيه مفسر مصري تخرج بالأزهر سنة 1918 م، وتنقل في التدريس إلى أن نقل للقسم العالي بالقاهرة سنة 1927 هـ، وكان داعية إصلاح نير الفكرة، ترقى في المناصب الشرعية حتى عُيِّنَ شيخًا للأزهر سنة 1958 م، له مصنفات كثيرة، منها: توجيهات الإسلام، والإسلام عقيدة وشريعة، والإسلام والتكافل الاجتماعي، ولد سنة 1310 هـ، وتوفي سنة 1383 هـ الأعلام، للزركلي، (7/ 173). (¬3) من توجيهات الإسلام، للشيخ محمود شلتوت، (ص 568). (¬4) الخلافة، لمحمد رشيد رضا، (ص 18).

كما تقضي به قواعد الاجتماع والعمران البشري، والسياسة الشرعية، من كونهم ممثلين عن الأمة في النظر لها والقيام بمصالحها من تولية أئمتها ومحاسبتهم وعزلهم، وقد ذكر الماوردي (¬1) وأبو يعلى (¬2) ثلاثة شروط لأهل الحل والعقد بصفتهم أهل الاختيار والبيع، وهي: 1 - العدالة الجامعة لشروطها. 2 - العلم الذي يُتَوَصَّلُ به إلى معرفة من يستحق الإمامة. 3 - الرأي والحكمة المؤديان إلى معرفة الأصح للإمامة. وذلك بعد الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والذكورة (¬3). واشترط بعضهم سكنى دار الإسلام؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] (¬4). فمن اجتمعت فيه هذه الصفات الأساسية فقد صار منهم، ثم هم يتفاوتون بحسب صفاتهم التكميلية، ومنها: الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، والخبرة والتجربة والورع. (¬5) وأهل الحل والعقد هم وكلاء الأمة ونوابها في عقد الأمور الكبيرة العظيمة وحلها، وهذا العمل الجليل يعقد لهم ولاية ونفوذًا للكلمة في عموم الأمة. ومما يُستأنس به للدلالة على معنى قيام النقباء والوكلاء عن الأمة ما ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال -حين أذن له المسلمون في عتق سبي هوزان-: "إني لا أدري من أَذِنَ منكم ¬

_ (¬1) الأحكام السلطانية، للماوردي، (ص 4). (¬2) الأحكام السلطانية، للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن الفراء، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1421 هـ - 2000 م، (ص 19). (¬3) غياث الأمم، للجويني، (ص 48 - 50). (¬4) نظرية الإسلام وهديه، لأبي الأعلى المودودي، (ص 298). (¬5) غياث الأمم، للجويني، (ص 66)، نظرية الإسلام وهديه، (ص 300) وما بعدها.

ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم" (¬1). فرجع الناس، فكلمهم عرفاؤهم فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه أن الناس قد طيبوا وأذنوا. وهو يدل على مشروعية إنابة البعض عن الكل. فالعلاقة إذن وكالة صريحة أو ضمنية بينهم وبين الأمة. (¬2) فيقومون نيابة عن الأمة في اختيار الأصلح للإمامة العظمى، قال الماوردي: "فإذا اجتمع أهل الحل والعقد للاختيار تصفَّحوا أحوال الإمام الموجودة فيهم شروطها، فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلًا، وأكملهم شروطًا، ومن يُسرع الناس إلى طاعته، ولا يتوقفون عن بيعته" (¬3) وعلى الإمام أن يشاورهم ويرجع إليهم في أمور المسلمين العامة ولا يستبد برأيه دونهم، قال ابن خويز -رحمه الله- (¬4): "واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكُتَّاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها (¬5). كما أن عليهم أن يعلنوا بعزل الإمام إذا وقع منه كفر صراح، قال ابن حجر: "ينعزل (يعني الإمام) بالكفر إجماعًا، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الأحكام، باب: العرفاء للناس، (7176، 7177). (¬2) النظريات السياسية، د. محمد ضياء الدين الريس، (ص 222)، رئاسة الدولة في الفقه الإسلامي، د. محمد رأفت عثمان، (ص 257). (¬3) الأحكام السلطانية، للماوردي، (ص 7). (¬4) أبو عبد الله، محمد أبو بكر بن أحمد بن عبد الله بن خويز منداد، المالكي، من مصنفاته: كتاب كبير في الخلاف، وكتاب في أصول الفقه، وكتاب في أحكام القرآن، توفي سنة 390 هـ. ترتيب المدارك، للقاضي عياض، (7/ 77)، والديباج المذهب، لابن فرحون، (2/ 229). (¬5) تفسير القرطبي، (4/ 250). (¬6) فتح الباري، لابن حجر، (13/ 123).

وقال إمام الحرمين -رحمه الله-: "الإسلام هو الأصل والعصام، فلو فرض انسلال الإمام عن الدين لم يَخْفَ انخلاعُهُ، وارتفاعُ منصبه وانقطاعه، فلو جدَّدَ إسلامًا لم يَعُدْ إمامًا إلا أن يُجَدَّدَ اختيارُهُ" (¬1). فإن خلا الزمان عن إمام أو نائبه لموت أو فقد حسي بالأسر أو نحوه، أو فقدٍ شرعيٍّ بالكفر، أو بترك تحكيم الشريعة واستبدالها، آل الأمر إلى أهل الحل والعقد، وعادت الولاية العامة إليهم. قال الجويني: "فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطانٍ ذي نجدة واستقلال وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء، وحقٌّ على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يَرجعوا إلى علمائهم، ويَصْدُروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك فقد هُدُوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاةَ العباد، فإنْ عسر جمعهم على واحد استبدَّ أهل كل صقع وناحية باتباع عالمهم" (¬2). وعليه فإن شغور الزمان عن إمام يُعيدُ السلطان إلى الأمة ممثلةً في أهل الحل والعقد فيها، فتصدر عنهم وتأخذ بقولهم؛ حيث صاروا نوابها في إقامة دينها وحفظ أمرها، حتى يجتمعوا على واحد يبايعونه إمامًا. وعلى ما تقدَّم فإن معنى هذه القاعدة: أن واجبات الإمام لا تسقط بغيابه أو بفقده، إنما تصير إلى نواب الأمة من أهل الحل والعقد، فيقومون بالواجبات العلمية والاجتماعية والسياسية والدينية حتى ينصب الإمام. ¬

_ (¬1) غياث الأمم، للجويني، (ص 75). (¬2) المصدر السابق، (ص 282).

أدلة القاعدة

أدلة القاعدة: أولًا: القرآن الكريم: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. وجه الدلالة: أولو الأمر إما أن يكونوا علماء أو أمراء، والعلماء ورثة الأنبياء فتجب طاعتهم لصفة العلم فيهم، وأما الأمراء والزعماء فتجب طاعتهم في المعروف لينتظم أمر الناس. قال ابن العربي: "والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعًا، أما الأمراء فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم، وأما العلماء فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق، وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم واجب" (¬1). فإن لم يكن ثمة أمراء فقد وجبت طاعة العلماء والزعماء، وكل من كان متبوعًا متابعًا لأهل العلم (¬2). ثانيًا: السنة المطهرة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم" (¬3). ¬

_ (¬1) أحكام القرآن، لابن العربي، (1/ 574). (¬2) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (28/ 170). (¬3) أخرجه: ابن ماجه، المقدمة، باب: من بلغ علمًا، (230)، وأبو حاتم محمد بن حبان البستي في =

وجه الدلالة: أفاد قوله: ولزوم الجماعة: لزومها بالمعنى العلمي وهم أهل الحق والاجتماع على الاتباع، ولزومها بالمعنى العملي وهم المجتمعون على إمام على مقتضى الشرع، فإذا شغر الزمان عن الإمام وعجز الناس عن الجماعة بالمعنى العملي السياسي فيلتزمون جماعة أهل الحل والعقد، فتجب طاعتهم، وتحرم منابذتهم؛ لأنهم إما علماء، وهؤلاء طاعتهم لازمة؛ لأنهم المراجع العلمية التي يصدر عنها الناس، وإما أمراء وزعماء، فهؤلاء طاعتهم فرض بالنص والإجماع، وإما زعماء ووجهاء، وهؤلاء يطاعون تبعًا لأولئك (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالجماعة" (¬2)، وقوله: "يد الله مع الجماعة" (¬3)، ونحو ذلك يفيد لزوم الجماعة والحذر من الشذوذ والفُرقة. ¬

_ = "صحيحه"، بترتيب ابن بلبان، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1414 هـ - 1993 م، (2/ 454) -واللفظ والزيادة الأخيرة له-، وغيرهما، من حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه-. وفي الباب: عن ابن مسعود، وأنس بن مالك، وجبير بن مطعم، وجابر، ومعاذ بن جبل، وغيرهم -رضي الله عنهم-. (¬1) أهل الحل والعقد صفاتهم ووظائفهم، د. عبد الله الطريفي، دار الفضيلة، الرياض، ط 2، 1425 هـ، (ص 131 - 133)، جماعة المسلمين مفهومها، وكيفية لزومها، د. صلاح الصاوي، دار الصفوة، القاهرة، ط 1، 1409 هـ، (ص 21)، منهج السنة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، د. يحيى إسماعيل، (ص 37 - 64). التاج والإكليل، للمواق (4/ 156). (¬2) أخرجه: الترمذي، كتاب الفتن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في لزوم الجماعة، (2165)، والإمام أحمد في "مسنده" (1/ 18) -وليس عنده الشاهد من الحديث-، من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: خطبنا عمر بالجابية، فقال: "يا أيها الناس، إني قمت فيكم كمقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا، فقال: "أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم. . . " فذكر الحديث، وفيه: "عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة. . . " الحديث. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (16/ 239)، والحاكم (1/ 114). (¬3) سبق تخريجه.

ثالثا: القواعد الشرعية العامة، وبعض القواعد الفقهية الخاصة

ثالثًا: القواعد الشرعية العامة، وبعض القواعد الفقهية الخاصة: أما القواعد الشرعية فتقضي بأنه لا يصلح تفويت مصالح المسلمين بغياب الإمام أو فقده، فتمضي الأمة -من خلال أهل الحل والعقد فيها- إلى القيام بهذه الواجبات الشرعية العملية والعلمية حتى ينصب الإمام، وفي هذا إعمال لقواعد الفقه الكلية، مثل: الضرر يزال، وتحصيل المصالح، ودفع المفاسد. وأما القواعد الفقهية الخاصة، فقد قرَّر المالكية قاعدة قيام جماعة المسلمين مقام القاضي، أو قيام العدول مقام القاضي. (¬1) وذلك لأن الإمام في الأصل نائب عن الجماعة، فلا يستبعد أن تنوب الجماعة مناب الإمام إذا تعذر وجوده. وقد نصَّ المالكية في باب أحكام زوجة المفقود على أن جماعة المسلمين تقوم مقام القاضي، قال خليل (¬2) في مختصره: "فصل: ولزوجة المفقود الرفع للقاضي، والوالي، ووالي الماء، وإلا. . . فلجماعة المسلمين" (¬3). قال الحطاب (¬4): "وأما جماعة المسلمين فظاهر كلامه أنه لا يصح ضربهم الأجل (أي: لزوجة المفقود) إلا عند فقد من ذكر" (¬5). وهم: القاضي، والوالي، وقاضي الماء. ¬

_ (¬1) مواهب الجليل، للحطاب، (3/ 287)، (5/ 496). (¬2) أبو الضياء، خليل بن إسحاق بن موسى، الجندي، المالكي، من مصنفاته: المختصر في فروع المالكية مشهور له شروح، ومناسك الحج، وشرح مختصر ابن الحاجب، توفي سنة 767 هـ. الديباج المذهب، لابن فرحون، (1/ 357)، والدرر الكامنة، لابن حجر، (2/ 86). (¬3) المصدر السابق، (5/ 495). (¬4) محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن حسين المعروف بالحطاب الرعيني المالكي، ولد سنة 902 هـ، كان فقيهًا أصوليًّا مشاركًا في بعض العلوم، له مصنفات، منها: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، ومتممة الآجرومية، وقرة العين بشرح الورقات، لإمام الحرمين. توفي بطرابلس الغرب سنة 954 هـ. الأعلام، للزركلي، (7/ 58)، ومعجم المؤلفين، لعمر كحالة، (13/ 226). (¬5) مواهب الجليل، للحطاب، (5/ 496).

وفي شرح المواق (¬1): "وقال القابسي (¬2) وغيره من القرويين: لو كانت المرأة في موضع لا سلطان فيه، لرفعت أمرها إلى صالحي جيرانها؛ يكشفوا عن خبر زوجها، ثم ضربوا لها الأجل أربعة أعوام، ثم عدة الوفاة، وتحل للأزواج؛ لأن فعل الجماعة في عدم الإمام كحكم الإمام". (¬3) وقال الدردير في الشرح الصغير على "أقرب المسالك": "أو لجماعة المسلمين عند عدمه (أي: الإمام) ولو حُكمًا، كما في زمننا بمصر؛ إذ لا حاكم فيها شرعي، ويكفي الواحد من جماعة المسلمين إن كان عدلًا عارفًا شأنه أن يرجع إليه في مهمات الأمور بين الناس، لا مطلق واحد، وهو مجمل كلام العلامة الأجهوري، وهو ظاهر لا خفاء به، والاعتراض عليه تعسف". (¬4) وقال ابن عرفة -رحمه الله- (¬5): "الذي استمرَّ عليه قضاة بلدنا أن الرفع إلى العدول كالرفع إلى السلطان" (¬6). نقل ابن فرحون عن المازري أن ولاية القضاء تنعقد بعقد "ذوي الرأي وأهل العلم والمعرفة والعدالة، لرجل منهم كملت فيه شروط القضاء، وهذا حيث لا يمكنهم ¬

_ (¬1) أبو عبد الله، محمد بن يوسف بن أبي القاسم بن يوسف، العبدري، الغرناطي، المواق، فقيه مالكي، كان عالم غرناطة وإمامها وصالحها في وقته، من مصنفاته: التاج والإكليل شرح مختصر خليل، توفي سنة 798 هـ. الأعلام، للزركلي، (7/ 154). (¬2) أبو الحسن، علي بن محمد بن خلف، القابسي، المعافري، المالكي، كان واسع الرواية عالمًا بالحديث وعلله ورجاله، فقيهًا أصوليًّا متكلمًا مؤلفًا مجيدًا، من مصنفاته: المهذب في الفقه، وأحكام الديانة، وكتاب المنقذ من شبه التأويل، ولد سنة 324 هـ، وتوفي سنة 403 هـ. ترتيب المدارك، للقاضي عياض، (7/ 92)، والديباج المذهب، لابن فرحون، (2/ 101). (¬3) التاج والإكليل، للمواق، (5/ 496 - 498)، مطبوع بهامش مواهب الجليل. (¬4) الشرح الصغير، للدردير، (2/ 694). (¬5) أبو عبد الله، محمد بن محمد بن عرفة، الورغمي، التونسي، المالكي عالم المغرب، من مصنفاته: تفسير القرآن، المبسوط من فروع المالكية في تسعة أسفار، مختصر الحوفي في الفرائض، منظومة في قراءة يعقوب، ولد سنة 716 هـ، وتوفي سنة 803 هـ. الديباج المذهب، لابن فرحون، (2/ 331)، الضوء اللامع، للسخاوي، (9/ 240). (¬6) مواهب الجليل، للحطاب، (5/ 578).

تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات

مطالعة الإمام في ذلك" (¬1). وعند الحنابلة ما يوافق ما قرره المالكية؛ فهذا أبو يعلى الفراء يقول: "ولو أن أهل بلد قد خلا من قاضٍ أجمعوا على أن قلَّدوا عليهم قاضيًا، نظرت: فإن كان الإمام موجودًا بطل التقليد، وإن كان مفقودًا صح ونفذت أحكامه عليهم" (¬2). وعند الحنفية يقول ابن عابدين -رحمه الله-: "فلو كان الولاة كفارًا يجوز للمسلمين إقامة الجمعة، ويصير القاضي قاضيًا بتراضي المسلمين" (¬3). وهذا يدل بجلاء على مضي كلمة أهل الحل والعقد في الأمة عند غياب الأئمة أو فقدهم شرعًا. تطبيقات القاعدة في تأصيل فقه الأقليات: لا شك أن هذه القاعدة مفيدة جدًّا في أحوال الأقليات المسلمة في غير ديار المسلمين، وهي بهذا تفتح باب الولاية على المسلمين هناك لأهل العلم والفضل فيهم، من الأفراد والهيئات، ولا سيما فيما يتصل بالأحوال الشخصية والمعاملات المالية، ونحوها. ومن الأمثلة التي يجري فيها إعمال هذه القاعدة: تفويض ولاية التفريق والتطليق الجبري على الزوج في ديار الأقليات إلى العلماء المؤهلين القائمين على المراكز الإسلامية في بلاد الأقليات؛ حيث إن اللجوء إلى القضاء الوضعي في تلك الديار لا يترتب عليه وحده إنهاء الزواج من الناحية الشرعية، إلا إذا صدر الطلاق من الزوج، وفي حالة امتناعه يجوز للمراة أن ترفع أمرها للمراكز الإسلامية، وما في حكمها مما يعتبر مرجعًا لجماعة المسلمين هنالك. كذلك تتولى هذه المراكز -من الناحية الشرعية- عقود الزواج لمن لا ولي لها؛ وذلك استنادًا إلى القاعدة التي تقررت من قيام جماعة العدول مقام القاضي، وقيام أهل الحل والعقد مقام الإمام أو نائبه (¬4). ¬

_ (¬1) تبصرة الحكام، لابن فرحون، (1/ 19). (¬2) الأحكام السلطانية، لأبي يعلى، (ص 73). (¬3) حاشية ابن عابدين، (3/ 14). (¬4) سيأتي مزيد تفصيل -بمشيئة الله- في الفصل الرابع من الباب الثالث.

الفصل الرابع مناهج وطرق استنباط الأحكام الفقهية للنوازل وضوابطها

الفْصَلُ الرَّابِعُ مناهج وطرق استنباط الأحكام الفقهية للنوازل وضوابطها المبحث الأول: مناهج الحكم على النوازل. المبحث الثاني: طرق استنباط أحكام النوازل وضوابطها.

المبحث الأول مناهج الحكم على النوازل

المبحث الأول مناهج الحكم على النوازل تَمَهيد كان الأصل في الصدر الأول أن تردَّ المسائل والأحكام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصدر السائل عن فتياه - صلى الله عليه وسلم -، وبوفاته - صلى الله عليه وسلم - كان الرد إلى أصحابه المجتهدين -رضي الله عنهم-، ولا شك أن الصحابة هم أولى الأمة بموافقة الحق والهداية إلى الصواب، ومنهم من زكاهم الله ورسوله بأعيانهم، وأشار بالعلم والفقه في دين الله إلى مقامهم؛ ولذا كان العلم بفتاويهم وأقاويلهم ومذاهبهم من أنفع ما يتزود به الفقيه، وبالجملة فإنه كلما كان العهد بالرسول أقرب كان الصواب والتوفيق أغلب، فآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا (¬1). وقد واجهوا -رضي الله عنهم- نوازل لم يكن لهم بها عهد في حياة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، فبذلوا وسعهم واستفرغوا جهدهم في دَرْكِ أحكامها، ومعرفة وجوه الفتيا في مسائلها ونوازلها، وقد مارسوا -رضي الله عنهم- الاجتهاد جماعيًّا وفرديًّا في تلك المسائل المستجدة؛ فمن مسائل الاجتهاد الجماعي: قتال مانعي الزكاة، واجتماع الناس على رأي أبي بكر وفقهه بعد نقاش وحوار علمي من عمر -رضي الله عنه-، وبعد مقتل كثير من القُرَّاءِ في حروب الردة شرح الله صدر الصديق لرأي عمر بجمع القرآن؛ فأسند ذلك إلى زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، وجرى العمل في ذلك استنادًا إلى قاعدة المصالح المرسلة، وهكذا تعددت أمثلة الاجتهاد، أو الإفتاء الجماعي. ومن أمثلة الاجتهاد الفردي: رأي عمر في إمضاء الطلاق ثلاثًا بلفظ واحد (¬2) مع ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 118)، (2/ 261)، الموافقات، للشاطبي، (3/ 202). (¬2) سبق تخريجه.

خلاف ينقل عن بعض الصحابة له في ذلك (¬1)، وكذا قتله الجماعة بالواحد (¬2)، وتوريثه المطلقة ثلاثًا في مرض الموت ما دامت في عدتها (¬3). وهكذا انفرد عمر بآراء، كما انفرد ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهم- وغيرهما باجتهادات، وشارك الصحابةَ في ذلك كبارُ التابعين؛ كسعيد بن المسيب -رحمه الله- في المدينة. ويقول الدهلوي -رحمه الله-: "كان سعيد بن المسيب لسان فقهاء المدينة، وكان أحفظهم لقضايا عمر، ولحديث أبي هريرة" (¬4)، ومذهب سعيد بن المسيب هو كالأصل لمذهب الإمام مالك بالمدينة؛ كما كان مذهب إبراهيم النخعي أصل مذهب الحنفية بالعراق (¬5)، وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أخذ النخعي وعلقمة (¬6) وغيرهما. يقول ابن القيم -رحمه الله-: "والدين والفقه والعلم انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود، وأصحاب زيد بن ثابت، وأصحاب عبد الله بن عمر، وأصحاب عبد الله ¬

_ (¬1) يراجع: "سنن أبي داود"، كتاب الطلاق، باب: نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، (2197)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الخلع والطلاق، باب: الاختيار للزوج أن لا يطلق إلا واحدة (7/ 331)، من حديث مجاهد عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وصححَّ إسنادَه الحافظُ ابنُ حجر في "الفتح" (9/ 362). (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب الديات، باب: إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم؟ (6896)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، أن غلامًا قُتل غيلة، فقال عمر: "لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم". (¬3) أخرجه: ابن أبي شيبة في "مصنفه"، كتاب الطلاق، باب: من قال: ترثه ما دامت في العدة منه إذا طلق وهو مريض، (5/ 217)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 97)، عن شريح قال: أتاني عروة البارقي من عند عمر، في الرجل يطلق امرأته ثلاثًا في مرضه: أنها ترثه ما دامت في العدة ولا يرثها. وصححَّ إسنادَه بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (20/ 333). (¬4) حجة الله البالغة، للدهلوي، (1/ 248). (¬5) الفكر السامي، للحجوي، (1/ 292). (¬6) أبو شبل، علقمة بن قيس بن عبد الله، النخعي، الكوفي، الإمام، فقيه العراق، وخال ففيه العراق إبراهيم النخعي، وعداده في المخضرمين، حدث عن جمع من الصحابة، ولد في أيام الرسالة المحمدية، وتوفي سنة 65 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (6/ 86)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 53).

ابن عباس؛ فعِلْمُ الناس عامته عن أصحاب هؤلاء الأربعة، فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر، وأما أهل مكة فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن عباس، وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود" (¬1). وبالجملة فقد تلقى كبار التابعين عن الصحابة وتحقق هذا الاتصال والتلقي فأخذ اللاحق عن السابق، ووجدت اجتهادات لصغار الصحابة والتابعين في مسائل جدَّت وحوادث وقعت لم تكن معهودة في الزمن الأول. وبالجملة فقد اعتبر الشاطبي مصادر الصحابة في الاستنباط راجعةً إلى الكتاب والسنة والإجماع والرأي (¬2). "وكان الصحابة -أيضًا- يشرعون أحكامًا لحوادث بناءً على المصلحة الواجب مراعاتها، أو المفسدة الواجب دفعها؛ فكان اجتهادهم فيما لا نص فيه، لا سيما فيما فيه مجال يتسع لحاجات الناس ومصالحهم" (¬3). وبانقراض عصر التابعين ودخول عصر تابعي التابعين وما تلاه من عصور الأئمة الأربعة المجتهدين؛ فقد برزت هذه المذاهب الفقهية والمدارس العلمية، والتي تميزت باجتماع همم الطلبة على نشرها، والعناية بتحريرها وضبط أصولها، وتدوين مسائلها. وبهذا استقرَّت مناهج الأئمة الأربعة على أنها طرق للنظر والاستنباط في بحث أحكام النوازل والمستجدات؛ وذلك لاستيعابهم لسائر أساليب المتقدمين مما لا يسع أحدًا جاء بعدهم أن يحدث طرقًا تختلف كلية عما قرروه من أصول وقواعد (¬4). ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 21). (¬2) الموافقات، للشاطبي، (3/ 200). (¬3) خلاصة التشريع الإسلامي، لعبد الوهاب خلاف، دار القلم، الكويت، (ص 40) بتصرف. (¬4) منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة، د. مسفر القحطاني، (ص 268).

المطلب الأول: مناهج الأئمة الأربعة وأتباع مذاهبهم في الحكم على النوازل

ومن غير شكٍّ فإن المذاهب الأربعة وما دُوِّن فيها من ذخيرة فقهية وثروة علمية تمثل تراثًا ثريًّا ومصدرًا غنيًّا، لا غنى لباحث في المسائل المعاصرة عنه. وفي المطلب الآتي مزيد إيضاح، وبيان لتلك الأصول التي ظهر اعتماد الأئمة الأربعة عليها في إدراك الأحكام، وبناء منهج الاستنباط لنوازل المسائل والأقضيات. المطلب الأول: مناهج الأئمة الأربعة وأتباع مذاهبهم في الحكم على النوازل: لقد اتفق الأئمة الأربعة وأتباع مذاهبهم من الفقهاء على اعتماد الأصول الأربعة لمصادر التشريع، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وإن وجدت بينهم اختيارات خاصة في مسائل أصولية تتعلق بهذه المباحث الأربعة والمصادر العامة للتشريع، وانفرد بعضهم بالعناية بأصول أخرى إضافية، وعرف في مذهبه الفقهي التعويل عليها والاستناد إليها. مذهب مالك: فمالك إمام دار الهجرة يعتبر إجماع أهل المدينة ويعده حجةً شرعية ودليلًا من الأدلة المعتبرة خلافًا لبقية المذاهب الفقهية؛ وذلك لأنه رأى أن الناس تبع لأهل المدينة من المهاجرين والأنصار؛ ولما اختصهم الله به من هجرة نبيهم إليهم وحياته بين أظهرهم وحضورهم الوحي والتنزيل، ومعرفتهم بالفقه والتأويل. حتى قال مالك -رحمه الله- في رسالته إلى الليث -رحمه الله- (¬1): "فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرًا معمولًا به لم أر لأحدٍ خلافه، للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحدٍ انتحالها ولا ¬

_ (¬1) أبو الحارث، الليث بن سعد بن عبد الرحمن، الفهمي، الإمام الحافظ، شيخ الإسلام، وعالم الديار المصرية، كان الشافعي يتأسف على فواته، وكان يقول: هو أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به، ولد سنة 94 هـ، وتوفي سنة 175 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 78)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (8/ 136).

ادعاؤها" (¬1). وقد جاء فقهاء المالكية بعد إمامهم فزادوا الأمر وضوحًا وتفصيلًا؛ فأقاموا تفرقة بين عمل أهل المدينة المبني على الاجتهاد، وبين العمل المبني على النقل (¬2)؛ فالثاني حجة دون الأول على رأي طائفة من المالكية (¬3). وقد وجد في مذاهب أخرى ما يدل على مراعاة الترجيح بالعمل دون ذكر قطر بعينه؛ فالإمام أحمد -رحمه الله- قال: "شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها ولا يعتمد عليها" (¬4). وهو يدل على اعتبار العمل عنده. كذا نقل عنه عمل بحديث ضعيف لكون العمل عليه، وهو حديث "العرب أكفاء إلا حائكًا أو حجامًا" (¬5)؛ فقيل له: كيف تأخذ به وأنت تضعفه؟ قال: العمل عليه. قال الموفق: أي: أنه يوافق أهل العرف (¬6). وكذلك يرجح بالعمل عند الشافعية؛ فقد ذكر ابن الصلاح -رحمه الله- في أحكام المفتي والمستفتي: أن القول القديم إذا قيل فيه إنه جرى به العمل فإن هذا يدل على أن ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك، للقاضي عياض، طبعة وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمغرب، (1/ 43). (¬2) ترتيب المدارك، للقاضي عياض، (1/ 47 - 53)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 392) وما بعدها. (¬3) وقد فصَّل ابن تيمية في هذه المسألة تفصيلًا مفيدًا في مجموع الفتاوي، (20/ 294) وما بعدها. (¬4) طبقات الحنابلة، لأبي يعلى، (2/ 140). (¬5) أخرجه: البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب النكاح، باب: اعتبار الصنعة في الكفاءة، (7/ 134)، وابن عدي في "الكامل"، (5/ 95، 209) -ومن طريقه وطريق غيره: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية"، تحقيق: خليل الميس، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1403 هـ، (2/ 617، 618)، من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العرب أكفاء بعضها بعضًا قبيل بقبيل، ورجل برجل، والموالي أكفاء بعضها بعضًا قبيل بقبيل، ورجل برجل، إلا حائك أو حجام"، ورُوي من حديث أم المؤمنين عائشة، ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهما-. وضعَّفه البيهقي وابن الجوزي وغيرهما. (¬6) العرف، لعادل قوته، (1/ 121).

القول القديم هو المفتى به (¬1). وبينوا حال خبر الآحاد مع عمل أهل المدينة؛ فما كان من الأخبار مطابقًا وموافقًا فقد تأكد الأمر بالعمل، وما كان مخالفًا فإن كان عملهم من طريق النقل تُرِكَ به الخبر، وإن كان إجماعهم اجتهادًا قُدِمَ الخبر عند الجمهور، وفيه خلاف بين المالكية. وما لم يكن ثم عمل بخلاف ولا وفاق خبر الواحد؛ فالمصير إلى خبر الواحد ولا بد. وفرَّق ابن القيم في عمل أهل المدينة بين حالين وعصرين، عصر الرسول والصحابة، وعصر من جاء بعدهم؛ فإن العمل بالمدينة كان بحسب من جاء من المفتين وتولى من العمال والولاة وعمل به المحتسبون (¬2). كما اعتبر مالك -رحمه الله- من أكثر الفقهاء مراعاة للمصالح المرسلة وأخذًا بها، حتى عُدَّتْ من أصوله التي انفرد بمزيد العناية بها، وبذلك ننتهي إلى أن أصول المذهب هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والمصالح المرسلة. ويلاحظ أنه رَدَّ إجماع أهل المدينة إلى دليل السنة. وينسب إلى مالك -رحمه الله- تقديم القياس على الخبر الواحد، كما ذكر ذلك ابن القصار رحمه الله (¬3) في مقدمته الأصولية (¬4). وعلى الصحيح فإنه يَعتبر قولَ الصحابي حجةً بشرط عدم المخالف، ويَعمل ¬

_ (¬1) أدب الفتوى، لابن الصلاح، (ص 90). (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 394). (¬3) أبو الحسن، علي بن عمر بن أحمد البغدادي القاضي، شيخ المالكية، المعروف بابن القصار، تفقه بأبي بكر الأبهري، كان أصوليًّا نظارًا ولي قضاء بغداد، وله كتاب في مسائل الخلاف كبير، توفي سنة 398 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 168)، والديباج المذهب، لابن فرحون (2/ 100). (¬4) المقدمة الأصولية، لابن القصار، (ص 29).

مذهب أبي حنيفة

بالاستحسان، وذكر الزرقاني -رحمه الله- (¬1) أربع مسائل صرح مالك فيها بالاستحسان فذكره بلفظه، وإلَّا فقد عمل به فيما فوق تلك المسائل، وأما تلك المسائل فقد انفرد باستحسانها دون باقي الأئمة (¬2). كما اشتهر عنه مراعاة الخلاف؛ كما نقل عن الإمام أحمد -رحمه الله- ذلك أيضًا (¬3). وعُنِيَ المالكية بكتب النوازل والمسائل، ودونوا في ذلك شيئًا كثيرًا. مذهب أبي حنيفة: وأما الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- فقد أكثر من الاستدلال بالاستحسان، ومعلومٌ اعتمادُهُ على رفع الحرج والمشقات، وتحصيل المصالح والمنافع بالاجتهاد، وذلك حين يؤدي القياس إلى غلو أو ضرر أو مشقة شديدة. كما ظهر في فقهه مراعاة الأعراف والعمل بموجبها، وهو أمر أدى إلى مرونة ظاهرة في مذهبه، ويسر بالغ في فروعه ومسائله. كما عرف للحنفية موقف من أحاديث الآحاد؛ حيث لم يكتفوا بما اشترطه أهل الحديث وجمهور الفقهاء من شروط لقبوله؛ بل أضافوا شروطًا، منها: 1 - ألا يكون خبر الواحد مما تعم به البلوى، واحتج أبو حنيفة لردِّهِ بأن ما تعم به البلوى يكثر وقوعه فيكثر السؤال عنه، وما يكثر السؤال عنه يكثر الجواب عنه فيقع التحدث به كثيرًا، وينقل نقلًا مستفيضًا ذائعًا، فإذا لم ينقل مثله دلَّ على فساد أصله (¬4). ¬

_ (¬1) عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن محمد بن علوان الزرقاني، المصري المالكي، فقيه مالكي، من تصانيفه: شرح مختصر الشيخ خليل في الفروع، شرح الموطأ للأمام مالك، توفي سنة 1099 هـ. شجرة النور الزكية، لمحمد بن محمد مخلوف، (ص 304)، والأعلام، للزركلي، (6/ 184). (¬2) شرح الزرقاني على موطأ مالك، لمحمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني، دار الكتب العلمية، بيروت، (6/ 176). (¬3) المغني، لابن قدامة، (3/ 24). (¬4) تخريج الفروع على الأصول، لأبي المناقب، محمود بن أحمد الزنجاني، تحقيق: د. محمد أديب صالح، (ص 63)، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1398 هـ.

2 - ألَّا يخالف حديث الآحاد القياس حالَ كون راويه غير فقيه: فهم يذهبون إلى تقديم القياس عليه في هذه الحالة، لا سيما مع عدم علم راويه بالفقه؛ لاحتمال خطئه (¬1). 3 - ألَّا يخالف حديث الآحاد الأصول العامة حال كون راويه غير فقيه (¬2). 4 - ألَّا يعمل الراوي بخلاف الحديث الذي رواه (¬3). هذا، وقد تناول العلماء في بقية المذاهب رأي الحنفية بالمناقشة والتفنيد، وطال بينهم الحجاج في هذه المسائل الأصولية والضوابط العلمية للاستنباط. ولا يَعني هذا ازورارًا من الحنفية وإمامهم عن الحديث وحجيته في مقابل الرأي؛ فقد نُقِلَ عن بعض الحنفية ما نصه: "إذا صحَّ الحديث وكان على خلاف المذهب عُمل بالحديث، ويكون ذلك مذهبه، ولا يخرج مقلده عن كونه حنفيًّا بالعمل به؛ فقد صحَّ عن أبي حنيفة أنه قال: "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي"، وقد حكى ذلك ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة" (¬4). وقد قرَّر الحنفية ما يُفْتَى به في مذهبهم من تقديم قول الإمام لا سيما إذا كان معه أحد صاحبيه، فإن اختلف قولهما عن قوله لاختلاف الزمان وتغيره أخذ بقول المتأخر، وإذا اجتمع المتأخرون من أئمة المذهب على أمر اختير قولهم وعمل به (¬5)، كما عدوا مسائل يُفْتَى فيها بقول زفر (¬6)، وقدم قول أبي يوسف في القضاء مطلقًا (¬7). ¬

_ (¬1) الفصول، للجصاص، (3/ 136). (¬2) المرجع السابق، (3/ 129 - 139). (¬3) المرجع السابق، (3/ 203). (¬4) حاشية ابن عابدين، (1/ 167). (¬5) المرجع السابق، (1/ 172). (¬6) أبو الهذيل، زفر بن الهذيل العنبري، الفقيه المجتهد أبو الهذيل ابن الهذيل بن قيس بن سلم، تفقه بأبي حنيفة، وهو أكبر تلامذته، وكان ممن جمع بين العلم والعمل، وهو من بحور الفقه وأذكياء الوقت، وكان يدري الحديث ويتقنه، ولد سنة 110 هـ، وتوفي سنة 158 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 135)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (8/ 38). (¬7) حاشية ابن عابدين، (1/ 172 - 173).

مذهب الشافعي

وبالجملة قالوا: إن المتون مقدمة على الشروح، والشروح مقدمة على الفتاوي، فإذا تعارض ما في المتون والفتاوي فالمعتمد ما في المتون، وكذا يقدم ما في الشروح على ما في الفتاوي (¬1). مذهب الشافعي: فإذا تحولنا إلى إمام علم الأصول وواضع لبناته الأولى فإننا نجد الإمام الشافعي -رحمه الله- ينبه على أن العلم طبقات: الأولى: الكتاب والسنة، والثانية: الإجماع فيما ليس كتابًا ولا سنة، الثالثة: أن يقول صحابي فلا يُعْلَمُ له مخالف من الصحابة، الرابعة: اختلاف الصحابة، الخامسة: القياس (¬2). وبشأن أقاويل الصحابة نجده يفصل في الرسالة فيقول: "أقاويل الصحابة إذا تفرقوا فيها نصير إلى ما وافق الكتاب أو السنة، أو الإجماع، أو كان أصحَّ في القياس، وإذا قال الواحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم فيه له موافقة ولا خلاف صرتُ إلى اتباع قوله إذا لم أجد كتابًا ولا سنة ولا إجماعًا ولا شيئًا في معناه، يحكم له بحكمه، أو وُجِدَ معه قياس" (¬3). ووجدنا الشافعي ينكر الاستحسان ويردُّه، ويقول: "من استحسن فقد شرع" (¬4). كما وجدناه يقبل المرسل -وهو من قسم الضعيف- ولكن بشروط فصَّلها في رسالته، وحاصلها: 1 - أن يُقَوِّيَ المرسلَ حديثٌ مسندٌ متصل في معناه، وعندها تكون الحجة للمسند دون المرسل. ¬

_ (¬1) شرح عقود رسم المفتي، لابن عابدين، (1/ 36)، حاشية ابن عابدين، (1/ 173)، (8/ 62). (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 248). (¬3) الرسالة، للشافعي، (ص 596 - 598) بتصرف. (¬4) المستصفى، للغزالي، (ص 171)، والإحكام، للآمدي، (4/ 162)، والرسالة، للشافعي، (ص 503) وما بعدها.

مذهب أحمد

2 - أن يُقَوَّى المرسل بمثله بشرط قبول أهل العلم له وأخذهم به. 3 - أن يوافقَ المرسلُ قولَ بعضِ الصحابة؛ فإنه يكون في معنى الرفع. 4 - أن يتلقاه أهل العلم بالقبول فيفتي به جماعة منهم (¬1). ومع ذلك إذا عارضه مسندٌ في موضوعه قُدِّمَ المسندُ عليه. وللشافعي موقف من الذرائع؛ فهو لا يقول بها، ويقول: "لا أتهم أحدًا". ويتفق مع من قال بالمصالح المرسلة بشرط ملاءمتها للمصالح المعتبرة المشهود لها بالأصول (¬2). وقد روى مذهبَهُ الجديدَ ستةٌ من أصحابه وتلامذته، وأتباع المذهب يأخذون بالراجح من أقواله، وهو ما نَصَّ على رجحانه، وإلَّا فما علم تأخره، وإلا فما فرع عليه وحده، وإلا فما قال عن مقابله: مدخول أو يَلزمه فساد، وإلَّا فما أفرده في محل أو جواب، وإلَّا فما وافق مذهب مجتهد لتقويته به، فإن خلا عن ذلك كله فهو لتكافؤ نظيره. وإنما يعتبر المتأخر مذهب الشافعي إذا أفتى به، أما إذا ذكره في مقام الاستنباط والترجيح ولم يصرح بالرجوع عن الأول فلا (¬3). قال النووي -رحمه الله-: "كل مسألة فيها قولان للشافعي -رحمه الله-، قديم وجديد؛ فالجديد هو الصحيح، وعليه العمل؛ لأن القديم مرجوع عنه، واستثنى جماعة من أصحابنا نحو عشرين مسألة أو أكثر، وقالوا: يفتى فيها بالقديم" (¬4). مذهب أحمد: فإذا انتهى الأمر إلى إمام أهل السنة والجماعة بأن تأثره بمنهج شيخه الشافعي ¬

_ (¬1) الرسالة، (ص 462) وما بعدها. (¬2) البحر المحيط، للزركشي، (6/ 78). (¬3) نهاية المحتاج، للرملي، (3/ 480). (¬4) المجموع، للنووي، (1/ 66).

وأخذه بأصوله، ويظهر جليًّا أن الإمام أحمد يعظم النصوص ويقدمها، ويثني بالعناية بأقاويل الصحابة وفتاويهم، وبها يفتي، فإذا اختلفوا تخيَّرَ من أقوالهم ما كان أقربها وأشبهها بالكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم. وكان يأخذ بالضعيف الذي يسميه غيره بالحسن، ويقدمه على الرأي والقياس، وكان يرى القياسَ آخرَ هذه الأصول رتبةً؛ فلا يصير إليه إلَّا إذا لم يجد في الباب نصًّا، ولا قولًا لصاحب، ولا أثرًا مرسلًا، ولا أثرًا ضعيفًا، فهذا عنده موضع ضرورة إذن (¬1). وكثيرًا ما ظهر في فقه مدرسته أثرُ الاستصحاب في الأحكام، وجاء مذهبه ثانيًا بعد مذهب المالكية في العمل بالاستصلاح (¬2). وظهر العمل بسد الذرائع جليًّا في فتاوي الإمام؛ فحرم العينة والبيوع التي يتوصل بها إلى الحرام؛ فلا يصح بيع العنب لمن يعصره خمرًا، ولا يصح بيع الدار لمن يستعملها استعمالًا غير شرعي، وقال عن نفسه: "وأنا أنظر في الحديث فإذا رأيت ما هو أقوى وأحسن أخذت به وتركت الأول" (¬3). وإذا كان المذهب ظاهرًا مشهورًا بحيث اختاره جمهور الأصحاب واعتمدوا نقله والانتصار له حتى قلَّ ذِكْرُ الرواية الثانية -فهذا لا إشكال في أنه المذهب، وإن وُجِدَ من الأصحاب من يدعي أن المذهب غيره. وإذا كانت الروايتان بمستوى واحد أو متقارب في الظهور بحيث وقع الخلاف في ترجيح إحداها على الأخرى بين الأصحاب وتقاربت الأدلة في القوة -فإن معرفة المذهب الصحيح في هذه الحالة تكون على مراتب: ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 30 - 32). (¬2) أسباب اختلاف الفقهاء، لعلي الخفيف، دار الفكر العربي، القاهرة، ط 2، 1416 هـ - 1996 م، (ص 269). (¬3) الإنصاف، للمرداوي، (1/ 9)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 495).

المرتبة الأولى: أن يتفق محققو المذهب على رواية واحدة، فتكون حينئذٍ هي المعتمدة والصحيحة في المذهب، وهؤلاء هم: الموفق ابن قدامة ت: 620 هـ، مجد الدين ابن تيمية (¬1) ت: 653 هـ، شمس الدين ابن أبي عمر المقدسي (¬2) ت: 682 هـ، شمس الدين ابن مفلح ت: 763 هـ، زين الدين ابن رجب ت: 795 هـ، سراج الدين الدجيلي (¬3) ت: 732 هـ، نجم الدين ابن حمدان ت: 695 هـ، شمس الدين ابن عبد القوي المقدسي (¬4) ت: 699 هـ، وجيه الدين ابن المنجى التنوخي (¬5) ت: 606 هـ، تقي الدين ابن تيمية ت: 728 هـ. المرتبة الثانية: إذا اختلف المحققون في الرواية الصحيحة قُدِّمَ ما قدمه ابن مفلح في الفروع. ¬

_ (¬1) أبو البركات، مجد الدين، عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد بن علي الحراني، ابن تيمية، فقيه العصر شيخ الحنابلة، من مصنفاته: المنتقي من أحاديث الأحكام، الأحكام الكبرى، المحرر في الفقه، وغير ذلك، ولد سنة 590 هـ، وتوفي سنة 652 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (23/ 291)، وذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب، (4/ 1). (¬2) أبو الفرج، شمس الدين، عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الشيخ الإمام العلامة الفقيه المجتهد شيخ الإسلام ابن الإمام أبي عمر المقدسي الحنبلي، ولد سنة 597 هـ بدمشق، سمع أباه وعمه الشيخ الموفق، وسمع بنفسه من أصحاب السلفي، وهو أول من ولي قضاء الحنابلة بها، من كتبه: الشافي وهو الشرح الكبير للمقنع في فقه الحنابلة، وانتهت إليه رئاسة العلم في زمانه، توفي بدمشق 682 هـ. المقصد الأرشد، لابن مفلح، (2/ 107)، والأعلام للزركلي (3/ 329). (¬3) أبو عبد الله، سراج الدين، الحسين بن يوسف بن محمد بن أبي السري، الدجيلي، ثم البغدادي، الفقيه الحنبلي المقرئ الفرضي النحوي الأديب، من مصنفاته: الوجيز في الفقه، وكتاب نزهة الناظر، وتنبيه الغافلين، ولد سنة 664 هـ، وتوفي سنة 732 هـ. المقصد الأرشد، لابن مفلح، (1/ 349)، وشذرات الذهب، لابن العماد، (8/ 173). (¬4) أبو عبد الله، شمس الدين، محمد بن عبد القوي بن بدران، المقدسي، المرداوي، الفقيه المحدث النحوي، له تصانيف منها: القصيدة الطويلة الدالية، ومجمع البحرين، والفروق، وعمل طبقات للأصحاب، وحدَّث، 603 هـ، وتوفي سنة 699 هـ. ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب، (4/ 307)، والمقصد الرشد، لابن مفلح، (2/ 459). (¬5) أبو المعاليِ، وجيه الدين، أسعد بن المنجى بن أبي المنجى بركات التنوخي الشيخ، الإمام، العلامة، شيخ الحنابلة، ثم الدمشقي، الحنبلي، من مصنفاته: النهاية في شرح الهداية، والخلاصة في المذهب، وغير ذلك. ولد سنة 519 هـ، وتوفي سنة 606 هـ. سير أعلام النبلاء (21/ 436)، والمقصد الأرشد، لابن مفلح، (1/ 279).

المرتبة الثالثة: فإن لم يُقَدِّمْ ابنُ مفلح إحدى الروايتين في الفروع؛ فالمذهب ما اتفق عليه الموفق ابن قدامة ومجد الدين ابن تيمية. المرتبة الرابعة: إذا اختلف الشيخان فالمذهب مع من وافقه ابن رجب في "القواعد الفقهية"، أو شيخ الإسلام ابن تيمية. فإن لم يوافقهم أحد فالمذهب ما عليه الموفق في "الكافي" أو غيره، ثم ما عليه المجد. المرتبة الخامسة: إذا لم يكن للشيخين جميعًا ولا لأحدهما منفردًا تصحيح في المسألة فعلى الترتيب التالي: 1 - ما قاله ابن رجب. 2 - ما قاله الدجيلي في "الوجيز". 3 - ما قاله ابن حمدان في "الرعاية الكبرى" و"الصغرى"؛ فإن اختلفا قُدِّمَ ما في "الرعاية الكبرى". 4 - ما قاله ابن عبد القوي. 5 - ما قاله ابن منجى في "الخلاصة". 6 - ثم ما قاله ابن عبدوس (¬1) في "التذكرة". ثم هذه المراحل أغلبية وعلى سبيل الاحتمال، وقد لا تَطَّرِدُ اطِّرادًا تامًّا بسبب تفاوت ما يكون به الترجيح والتصحيح للنصوص والأدلة والمآخذ (¬2). ¬

_ (¬1) أبو الحسن، علي بن عمر بن أحمد بن عمار بن أحمد بن علي بن عبدوس الحراني، الفقيه الزاهد، العارف الواعظ، برع في الفقه والتفسير والوعظ، والغالب على كلامه التذكير وعلوم المعاملات، ومن مصنفاته: تفسير كبير، وكتاب المذهب في المذهب، ولد سنة 510 هـ، وتوفي سنة 559 هـ. ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب، (2/ 90)، والمقصد الأرشد، لابن مفلح، (2/ 242). (¬2) الإنصاف، للمرداوي، (1/ 17).

المطلب الثاني: ضوابط الإفادة من المذاهب الفقهية في الحكم على النوازل.

المطلب الثاني: ضوابط الإفادة من المذاهب الفقهية في الحكم على النوازل. بعد أن تقررت أصول الأئمة الأربعة بشيء من الإيضاح وبان اتفاق الجميع على مرجعية الكتاب والسنة، وما استند إليهما من الإجماع، أو القياس، وتميزت ملامح اجتهاد كل مدرسة في التعامل مع الكتاب والسنة في دلالات ألفاظها وموقف كلٍّ من أحاديث الآحاد، والمراسيل، والحديث الضعيف، ورتبة ذلك في سُلَّم أولويات الاستنباط، والموقف من القياس وسائر الأدلة المختلف فيها؛ كالاستحسان، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، وقول الصحابي وغيرها -فقد تكشف البحث عن جملة حقائق مهمة: أولاها: مذاهب الفقهاء الأربعة المتبوعين مناهج وطرق مشروعة لاستنباط أحكام الحوادث ومعرفة ما يجب حيال النوازل، وهي مدارس للتعلم وطرق للتعبد. قال الشاطبي: "إذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع، وهو الذي كان عليه السلف الصالح فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أحق بالاتباع وأولى بالاعتبار، وإن كانت المذاهب كلها طرقًا إلى الله تعالى، ولكن الترجيح فيها لا بد منه؛ لأنه أبعد من اتباع الهوى، وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد" (¬1). ثانيها: اعتمدت المذاهب جميعًا -على تفاوت بينها- النظر إلى المقاصد والمصالح، فمن متوسع في الأخذ بها متعمق في أغاويرها، دائر مع إيرادها وصدرها، ومن متشبث بالنصوص متمسك بأهدابها؛ فالتباين إنما هو في التنائي عن النص والشسوع عنه، أو اللياطة به واللصوق (¬2). ثالثها: كل المذاهب -بدون استثناء- اعتمدت قادة مجتهدين، ومجتهدي مذهب، ومقلدين متبصرين، ومقلدين ناقلين، وجعلت مَنْ سلك سبيلهم من عوام المسلمين في ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 260 - 261). (¬2) صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 144).

سعة من دينه، وسداد في أمره. كما أنها اعتمدت ما اشتهر من أقوال هؤلاء وتَرَجَّحَ، غير أنها ذكرت جواز العمل بغير الراجح وبغير المشهور منها؛ لضرورة أو حاجة تنزل منزلتها بضوابط معلومة، منها: عروض مصلحة تُستجلب، أو مفسدة تُستدفع، أو إحراز رفق بالعباد، أو تحقيق تيسير على الناس، وقد ذكر السبكي في فتاويه أنه يجوز تقليد الوجه الضعيف في نفس الأمر بالنسبة للعمل في حق نفسه، لا الفتوى والحكم، فقد نقل ابن الصلاح الإجماع على أنه لا يجوز (¬1). وعند المالكية اشترطوا ألَّا يكون القول ضعيفًا جدًّا، وأن تثبت نسبته إلى قائل يُقْتَدَى به علمًا وورعًا، وأن تكون الضرورة محققةً، لا متوهمةً (¬2). وقد نقل ابن عابدين جواز العمل بالقول الضعيف للمصلحة، وفي موضع ضرورة طلبًا للتيسير، وقال: "وبه عُلِمَ أن المضطر له العمل بذلك لنفسه كما قلنا، وأن المفتي له الإفتاء به للمضطر، وينبغي أن يلحق بالضرورة -أيضًا- ما قدمناه من أنه لا يُفْتَى بكفر مسلم في كفره اختلافٌ، ولو رواية ضعيفة؛ فقد عدلوا عن الإفتاء بالصحيح؛ لأن الكفر شيء عظيم" (¬3). وقد حقَّق بعض الباحثين جواز العمل بالمرجوح والأخذ به عند الضرورة والحاجة التي تنزل منزلتها؛ وذلك لدفع مفسدة تعتبر شرعًا، لا لجلب مصلحة؛ استنادًا إلى أن الضرورات تبيح المحظورات، وجواز ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما قال القرافي -رحمه الله-: "إذا رأينا من فعل شيئًا مختلفًا في تحريمه وتحليله، وهو يعتقد تحريمه ¬

_ (¬1) فتاوي السبكي، لتقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي، دار المعرفة، بيروت، (2/ 12)، نهاية المحتاج، للرملي، (1/ 47). (¬2) حاشية الدسوقي على الدردير، (4/ 130)، نشر البنود، لعبد الله الشنقيطي، (2/ 275 - 276). (¬3) شرح عقود رسم المفتي، لابن عابدين، (1/ 50).

أولا: التزام المذهب الواحد غير لازم

أنكرنا عليه؛ لأنه منتهك الحرمة من جهة اعتقاده" (¬1). رابعها: وجد بعد عصر نشوء المذاهب الأربعة علماء متفقهة بدأوا متمذهبين وانتهوا مجتهدين يتصرفون تصرفات المجتهد المطلق، وقد جمعت فتاويهم ودونت مسائلهم، ويمثل هذا التوجه مجموعة فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية؛ حيث يعتمد اعتمادًا واصبًا على الكتاب والسنة وأقوال السلف، يصحح ويرجح أقوالًا للصحابة والتابعين شبه مهجورة إذا ظهر له أنها أسعد بالدليل والقواعد، "وتكاد فتاوي ابن تيمية تكون المجموعة الفريدة -بعد عصر المجتهدين- التي ارتفعت عن التقليد، وسمت عن مجرد النقل عن الأئمة إلى مرتبة الاستنباط والتصرف في الأدلة؛ تفصيلًا لمجمل، وتأويلًا لمشكل، وترجيحًا عند تعارض. مع العلم أن فتاوي ابن تيمية تمثل خلاصة فقهه الذي يتفق غالبًا مع المشهور من مذهب أحمد، إلا أنها أيضًا تمثل اجتهاداته واختياراته التي قد يرجح منها الرواية المرجوحة، وفي أحيان أخرى قد يعتمد فيها بعض آراء أئمة المذاهب الأخرى، وبخاصة المذهب المالكي، إلا أنه قد يخالف الأئمة الأربعة، ويعتمد أقوال الصحابة أو التابعين، ويتصرف تصرف المجتهد المطلق، مع اختيارات يصعب تقليدها أحيانًا" (¬2). وفيما يأتي ضوابط نافعة في الإفادة من المذاهب الفقهية الأربعة في معرفة أحكام النوازل الواقعة، ولا سيما نوازل الأقليات المسلمة: أولًا: التزام المذهب الواحد غير لازم: الناظر في مسائل النوازل -ولا سيما نوازل الأقليات- لا بد له من أهلية علمية ¬

_ (¬1) الفروق للقرافي، (4/ 37). (¬2) صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 145 - 146).

متميزة؛ نظرًا لجِدَّة تلك المسائل، ووعورة مسالك تحصيل أحكامها، مع تلاطم في متغيرات الواقع الذي يحيط بها، وعليه فلا بد أن يكون من أهل العلم بالفقه المعتبرين، وهذا لا يتأتى إلا بعد درس للفقه طويل، وخبرة ببعض مذاهب الأئمة فيه، ومع شيوع دعوى تعذر وجود المجتهد المستقل في هذا الزمان؛ فإن هذا لا يمنع من وجود مجتهد في مذهب إمام من الأئمة، أو نوع من أنواع الفقه والعلم، أو في مسألة أو مسائل من العلم، وهذا يستتبع أن يوسع الباحث في نوازل الأقليات المعاصرة دائرة بحثه؛ فيطلع على مذاهب الأئمة الأربعة، وأقوالهم وفتاويهم، وسواء أكان مقلدًا في مذهبه الفقهي، أم مجتهدًا. يقول القرافي: "يجوز تقليد المذاهب في النوازل" (¬1). وقال النووي: "الذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزم المقلد التمذهب بمذهب، بل يستفتي من شاء، أو من اتفق" (¬2). وقال ابن حجر: "وظاهره جواز الانتقال من مذهب لآخر، وأفتى شيخ الإسلام عز الدين ابن عبد السلام بجواز تقليد إمام مذهب في مسألة، وآخر في أخرى، وهكذا من غير التزام مذهب معين" (¬3). وقال ابن السبكي: "يجوز تقليد الصحابة -رضي الله عنهم- (أي: خلافًا للمعتمد في المذهب) وهو الصحيح عندي" (¬4). وبناءً على هذا فإنه مما يُعِين على الوصول إلى الحق ومعرفة وجه الصواب في النوازل المعاصرة تتبع مطاوي الكتب وخبايا الأسفار، وأقوال علماء المذاهب في شتى ¬

_ (¬1) شرح تنقيح الفصول، للقرافي، (ص 339). (¬2) روضة الطالبين، للنووي، (11/ 117). (¬3) الفتاوي الفقهية الكبرى، لابن حجر الهيتمي، دار الفكر، (4/ 305). (¬4) الفتاوي الفقهية، لابن حجر الهيتمي، (4/ 307).

الأمصار، وبمقدار علو الهمة في تحصيلها تتنور الأفكار. ويؤكد الشيخ الزرقا على اعتبار مجموعة المذاهب الاجتهادية كمذهب واحد كبير في الشريعة، وكل مذهب منها يعتبر كالقول في المذهب الواحد؛ فيختار العلماء من هذه المذاهب، ويرجحون ما هو أوفى بمصالح الناس وحاجتهم في هذا العصر (¬1). "وهنا يلزم الفقيه أو المفتي أو الباحث الشرعي أن يسبح سبحًا طويلًا في آفاق الفقه بمختلف مدارسه ومشاربه، ولا يقف عند الرأي السائد والشائع؛ فكم من آراء رشيدة مخبوءة في بطون الكتب لا يعلمها إلا القليلون، أو لعلها لا تُعْلَمُ إلا بالبحث والتفتيش، وكم من آراء مهجورة تستحق أن تُشهَرَ، وآراء ضعفت في زمنها يجدر بها أن تقوى الآن، وكم من آراء أهيل عليها التراب؛ لأنها لم تجد من ينصرها ويدافع عنها، أو لأنها كانت سابقة لزمنها فلعلها لم تكن صالحة لذلك الزمن، وهي صالحة لزمننا هذا. ولعل أبرز مثال لذلك: آراء شيخ الإسلام ابن تيمية في الطلاق ونحوه؛ فقد رفضها أكثر أهل عصره، واتهموه من أجلها بتهم شتى، وحاكمه علماء وقته، ودخل السجن أكثر من مرة من أجل آرائه وفتاويه، ثم فاء في الأعصر الأخيرة طوائف من أهل العلم إلى فتاويه فأفتوا بها؛ لأنهم رأوا فيها إنقاذ الأسرة المسلمة من الانهيار بسبب كثرة إيقاع الطلاق، مع حرص الزوجين على بقاء العشرة. ولو أردت أن أضرب مثلًا لذلك في موضوعنا، لوجدت أمثلة شتى. ومن ذلك: ما يتعرض له كثير من الذين يهديهم الله للإسلام؛ فيدخلون في دين الله من الرجال والنساء ثم يتوفى آباؤهم أو أمهاتهم، وقد تركوا وراءهم تركات كثيرًا ما تكون كبيرة، فهل يسع المسلم والمسلمة أن يرث هذا المال من أبيه وأمه؟ والقوانين تجعل له الحق في الميراث وهو وأسرته في حاجة إليه، وإخوانه من المسلمين من حوله في حاجة إليه؟ ¬

_ (¬1) المدخل الفقهي، للزرقا، (1/ 262).

إن الذي يكتفي بالمذاهب الأربعة المشهورة عند أهل السنة؛ بل الذي يقرأ المذاهب السبعة أو الثمانية (بزيادة مذهب الجعفرية والزيدية والإباضية والظاهرية) يجد أن اختلاف الدين مانع من موانع الميراث المشهورة، وهم يستندون في ذلك إلى الحديث المشهور: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" (¬1). والحديث الآخر: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" (¬2). ولكن من يبحث خارج المذاهب الأربعة يجد قولًا معتبرًا بجواز توريث المسلم من الكافر، وهو رأي قال به بعض الصحابة والتابعين؛ فقد روي عن معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان من الصحابة، كما روي عن محمد ابن الحنفية (¬3)، ومحمد بن علي ابن الحسن (¬4)، وسعيد بن المسيب، ومسروق بن الأجدع، وعبد الله بن مغفل، ويحيى ابن يعمر (¬5)، وإسحاق بن راهويه. ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الفرائض، باب: لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم و. . .، (6764)، ومسلم، كتاب الفرائض، (1614)، من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-. (¬2) أخرجه: أبو داود، كتاب الفرائض، باب: هل يرث المسلم الكافر؟ (2911)، وابن ماجه، كتاب الفرائض، باب: ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك، (2731)، من حديث عبد الله بن عمرو. ورُوي من حديث: جابر بن عبد الله، وأسامة بن زيد، وأبي هريرة، وأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنهم-. وصححه الشيخ الألباني في "صحيح سنن أبي داود"، (2911). (¬3) الإمام أبو القاسم وأبو عبد الله، محمد بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي المدني، أخو الحسن والحسين، رأى عمر وروى عنه وعن أبيه، وعن أبي هريرة، وعثمان، وروى عنه أبو جعفر الباقر، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وعمرو بن دينار، وغيرهم، ولد لثلاث بقين من خلافة عمر، وتوفي سنة 81 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (8/ 26)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 110). (¬4) أبو عبد الله، محمد بن علي بن الحسن بن عبد الرحمن، العلوي الكوفي، الإمام المحدث الثقة العالم الفقيه، مسند الكوفة ولد سنة 367 هـ، وتوفي سنة 445 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (17/ 636)، وشذرات الذهب، لابن العماد، (5/ 198). (¬5) أبو سليمان، يحيى بن يعمر، الفقيه العلامة المقرئ العدواني البصري قاضي مرو ويكنى أبا عدي، وكان من أهل البصرة، وكان نحويًّا صاحب علم بالعربية والقرآن، توفي عام 129 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (7/ 368)، وسير أعلام النبلاء، (4/ 441).

وقد رجح هذا الرأيَ شيخُ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم رحمهما الله، وهو ترجيح له وزنه وقيمته في عصرنا (¬1). وأول أصحاب هذا القول "الكافر" في حديث: "لا يرث المسلم الكافر". أن المراد الكافر الحربي، مثل: حمل طائفة من العلماء حديث: "لا يقتل المسلم بكافر" (¬2). على الكافر الحربي. قال ابن القيم: "وحمله على الحربي هنا أولى وأقرب محملًا" (¬3) (¬4). فإن قيل: إن العمل في مسألة ما باجتهاد إمام وفي أخرى باجتهاد أمام آخر يعتبر تلفيقًا وهو ممنوع -فالجواب: اتفق العلماء على أن التلفيق إذا أبطل إجماعًا فإنه لا يجوز، ثم اختلفوا فيما لو عمل في مسألة باجتهاد إمام وفي أخرى باجتهاد آخر، ورجح الجوازَ جمهورُ الفقهاء الذين لا يلزمون المقلِّد باتباع مذهب واحد في كل مسألة. وجرى الخلاف بينهم في التلفيق بين قولين لمجتهدين مختلفين في مسألة واحدة، وذلك على ثلاثة مذاهب أساسية: الأول: الجواز مطلقًا. الثاني: المنع مطلقًا. الثالث: الجواز بشروط. وفيما يلي أدلة كل فريق: ¬

_ (¬1) المستدرك على مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (4/ 129)، أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 853) وما بعدها. (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب العلم، باب: كتابة العلم، (111)، من حديث أبي جُحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: "العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر". (¬3) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 855). (¬4) في فقه الأقليات، د. يوسف القرضاوي، (ص 57 - 58).

[أولا]: القائلون بالجواز مطلقا

القائلون بالجواز مطلقًا: استدل القائلون بالجواز بأدلة، منها: أن الأصل جوازه ما لم يثبت منعه بدليل شرعي من كتاب، أو سنة، أو إجماع، ولم يوجد، كما أن الحال في عهد أوائل الأمة كان على ذلك، حيث عمل العامة بالتلفيق من لدن الصحابة فمن بعدهم، وذلك من غير نكير، وقد ذهب إلى جوازه طائفة من علماء المذاهب أنفسهم، يقول الشيخ مرعي الحنبلي (¬1) في رسالة في جواز التلفيق للعوام: ". . . والذي أذهب إليه وأختاره القول بجواز التقليد في التلفيق، لا بقصد تتبع ذلك؛ لأن من تتبع الرخص فسق، بل حيث وقع ذلك اتفاقًا، خصوصًا من العوام الذين لا يسعهم غير ذلك. . . ولا يسع الناس غير هذا، ويؤيده أنه في عصر الصحابة والتابعي -رضي الله عنهم- ومع كثرة مذاهبهم وتباينهم -لم ينقل عن أحد منهم أنه قال لمن استفتاه: الواجب عليك أن تراعي أحكام مذهب من قلدته؛ لئلَّا تلفق في عبارتك بين مذهبين فأكثر، بل كل من سئل منهم عن مسألة أفتى السائل بما يراه، مجيزًا له العمل من غير فحص ولا تفصيل، ولو كان ذلك لازمًا لما أهملوه، خصوصًا مع كثرة تباين أقوالهم" (¬2). وقال الدسوقي المالكي في حواشيه على (شرح خليل) في بحث الفتوى من خطبة الكتاب: وفي كتاب الشبراخيتي (امتناع التلفيق) والذي سمعناه من شيخنا نقلًا عن شيخه الصغير وغيره أن الصحيح جوازه وهو فسحة. قال الدسوقي: وبالجملة ففي التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين طريقتان: المنع: وهو طريقة المصاروة. ¬

_ (¬1) مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد الكرمي المقدسي الحنبلي، مؤرخ أديب ومن كبار الفقهاء الحنابلة من مصنفاته: غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى، وتوقيف الفريقين على خلود أهل الدارين، وتنوير بصائر المقلدين في مناقب الأئمة المجتهدين. توفي سنة 1033 هـ. الأعلام، للزركلي، (7/ 203)، ومعجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (12/ 218). (¬2) تجريد زوائد الغاية والشرح، لحسن الشطي، مطبوع مع مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، لمصطفى السيوطي الرحيباني، المكتب الإسلامي، دمشق، 1961 م، (1/ 699 - 671).

ثانيا: القائلون بالمنع مطلقا

والجواز: وهو طريقة المغاربة، ورجحت" (¬1). وقال ابن الهمام -في فتح القدير في كتاب أدب القاضي-: المقلد له أن يقلد أي مجتهد شاء، ثم قال: "وأنا لا أدري ما يمنع هذا (أي: تتبع الرخص، وأخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد أخف عليه) من النقل أو العقل، وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، ما علمت من الشرع ذمه عليه، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب ما خفف عن أمته" (¬2). كما نقل مثل هذا عن ابن نجيم المصري الحنفي وغيره، وقد صلى أبو يوسف خلف هارون الرشيد بعد أن احتجم ولم يتوضأ؛ عملًا بمذهب مالك، وأخذ أبو يوسف بقول أهل المدينة، حين أُعلم أنه صلى بعد أن اغتسل من ماء بئر فيه فأرة ميتة، فقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا". ثانيًا: القائلون بالمنع مطلقًا: 1 - التلفيق يؤدي إلى التلاعب بأمور الدين وأحكام الشرع؛ لكونه يؤدي إلى تتبع الرخص والأخذ بما هو أيسر من المذاهب، وهذا لا يجوز. وقد أثر عن الإمام أحمد قوله: "لو أن رجلًا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقًا" (¬3). 2 - إن الأخذ بالتلفيق يلزم منه احتمال الوقوع في خلاف المجمع عليه؛ لأنه ربما يكون المجموع الذي عمل به ولَفَّقَهُ مما لم يقل به أحد (¬4) فيكون باطلًا. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي، (1/ 20). (¬2) شرح فتح القدير، لابن الهمام، (7/ 258). (¬3) المسودة، لآل تيمية، (ص 519). (¬4) الكشف والتدقيق لشرح غاية التحقيق في منع التلفيق، للسيوطي، (ص 7) وما بعدها، وشرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 577) وما بعدها، وإرشاد الفحول، للشوكاني، (2/ 1106 - 1109).

ثالثا: القائلون بالجواز بشروط

ونوقش القول بأن التلفيق يؤدي إلى تتبع الرخص والبحث عن الأيسر من المذاهب، وهو ما يؤدي إلى التلاعب بأحكام الدين، نوقش بأن هذا مردود؛ لأنه لا ملازمة بين هذا وبين التلفيق، فالتلفيق يمكن أن يكون دون تتبع الرخص وبحث عن الأيسر من المذاهب؛ لأن الملفق إنما يعمل بما هو أليق وأرفق لحاله، وهذا يساير ما قصده الشرع الحكيم من التخفيف والتيسير (¬1). ثالثًا: القائلون بالجواز بشروط: واستدل القائلون بالجواز بشروط بأدلة المجيزين مع مراعاة ما عند المانعين لتكون الشروط هي: 1 - ألا يؤدي ذلك إلى تتبع الرخص في المذاهب والعمل بالتشهي. 2 - أن يصار إليه عند الضرورة وما ينزل منزلتها. وقد حاول الدكتور وهبة الزحيلي أن يقدم ضابطًا يُسْتَنَدُ إليه في جواز التلفيق وعدم جوازه فقال: "كل ما أفضى إلى تقويض دعائم الشريعة، والقضاء على سياستها، وحكمتها فهو محظور، وخصوصًا الحيل، وأن كل ما يؤيد دعائم الشريعة، وما ترمي إليه حكمتها وسياستها لإسعاد الناس في الدارين وتيسير العبادات عليهم وصيانة مصالحهم في المعاملات؛ فهو جائز مطلوب. والتلفيق الجائز هو عند الحاجة أو الضرورة، وليس من أجل العبث، أو تتبع الأيسر والأسهل عمدًا بدون مصلحة شرعية، وهو مقصور على بعض أحكام العبادات والمعاملات الاجتهادية لا القطعية" (¬2). ¬

_ (¬1) المراجع السابقة، وقواعد في علم الفقه، للكيرواني، (ص 290) وما بعدها. (¬2) أصول الفقه، د. وهبة الزحيلي، (2/ 1153).

الترجيح

الترجيح: ولعل الراجح من هذه الأقوال: قول من قال بجوازه؛ لتواتر عمل السلف من أئمة المذاهب وغيرهم عليه؛ ولأن هذا النهي عنه ما نقل إلا في القرن السابع، وقد مضى عمل الأمة على خلافه، وذلك الجواز بشرط ألا يخرق إجماعًا. وبناءً على ما سبق فإنه يجوز للمفتي أن يستعمل التلفيق في الفُتيا، وذلك بالضوابط التالية: 1 - أن يتبع القول لدليله: فلا يختار من المذاهب أضعفها دليلًا، بل يختار أقواها دليلًا، ولا يتبع شواذ الفُتيا، وأن يكون عليمًا بمناهج المذهب الذي يختار منه. 2 - أن يجتهد في ألا يترك المتفق عليه إلى المختلف فيه، فمثلًا: إذا أحيط خبرًا بالمذاهب الإسلامية على تولي المرأة عقد زواجها بنفسها، لا يفتي بقول أبي حنيفة الذي انفرد به من بين الجمهور، بل يفتي بقول الجمهور، ولا مانع من أن يبين له قول أبي حنيفة ووجه اختياره رأيَ الجمهور. 3 - ألَّا يتبع أهواء الناس: بل يتبع الدليل، وينظر في المصالح المعتبرة شرعًا، وأن يكون حسن القصد في اختيار ما يختار، فلا يختار لإرضاء حاكم أو لهوى الناس، ويجهل غضب الله تعالى ورضاه، فلا يكون كأولئك المفتين الذين يتعرفون مقاصد الحكام قبل أن يفتوا، فهم يفتون لأجل الحكام، لا لأجل الحق، ولقد رأى الناس من بعض المفتين أنه يتبع موضع التسامح بالنسبة للحاكم ولنفسه، وموضع التشدد بالنسبة للناس، فيختار لنفسه من المذاهب أيسر الآراء، ويختار لغيره آراء مذهبه الذي يفتي به، ولو بلغ حد التشدد (¬1). ويلخص العلامة القاسمي (¬2) الموقف من التلفيق، فيقول: ¬

_ (¬1) أصول الفقه، لمحمد أبي زهرة، (ص 405)، الضوابط الشرعية للإفتاء، د. عبد الحي عزب، (ص 308). (¬2) القاسمي: جمال الدين أو محمد جمال الدين ابن محمد، من سلالة الحسين السبط، إمام الشام في عصره علمًا بالدين، وتضلعًا من فنون الأدب، مولده ووفاته في دمشق، كان سلفي العقيدة لا يقول بالتقليد، له من الكتب: الفتوى في الإسلام، وإرشاد الخلق إلى العمل بخبر البرق، وموعظة المؤمنين اختصر به إحياء علوم الدين، للغزالي، وإصلاح المساجد من البدع والعوائد، وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، ومحاسن التأويل في تفسير القرآن الكريم، توفي عام 1332 هـ. ينظر: الأعلام، للزركلي، (2/ 135).

ثانيا: استخراج الأصول والقواعد والضوابط النافعة في الحكم على النوازل

"والقصد أن التلفيق الذي يبحث عنه المتأخرون ينبغي للمفتي إذا اسْتُفْتِيَ عن مسألة منه أن ينظر إلى مأخذها من الكتاب والسنة أو مدركها المعقول منها، وأما تسرعه إلى القول بالتلفيق بطلانًا أو قبولًا فعدول عن منهج السلف، على أن ما يسمونه بعدُ تلفيقًا -بقطع النظر عما ذكرنا من شأنه- ربما رجع إلى نوع الرخص التي يحب الله أن تؤتى" (¬1). فإن قيل: أليس في هذا تتبع لرخص المذاهب، وخروج عن السبيل القويم إلى مسلك ذميم من تتبع الرخص والمسائل الشاذة في كل مذهب؟ فالجواب كما تقدم: إن تتبع الرخص في كل مذهب ممنوع إلا أن يؤدي إليه اجتهاد معتبر، أو تقليد سائغ. ثانيًا: استخراج الأصول والقواعد والضوابط النافعة في الحكم على النوازل: مما لا شك فيه أن الفقه فيما مضى قد ساير حياة الناس، وضبط إيقاع الحياة وواكب المستجدات في كل عصر بحسبه، وتصدى فقهاؤنا الأقدمون لأقضيات متعددة ومسائل مستحدثة لم يكن للسابقين عليهم عهد بها؛ فاستثمروا أحكام تلك النوازل بثاقب النظر وبديع الاستنباط؛ فأكدوا برهان صلاحية الشريعة الإسلامية وأصالتها، وقدموا الدليل على إعجازها وتمام كمالها. وتصدى الفقهاء والمجتهدون لمسائل شتى، فوضعوا لها حلولًا جزئية وأحكامًا خاصة، ومن جملة تلك الفروع المستكثرة والمسائل المتنوعة قعدوا قواعد جامعة، في الفقه تارة، وفي الأصول أخرى، وفي مقاصد الشريعة تارة ثالثة. وهذه القواعد الجامعة والضوابط الحاكمة كانت بمثابة علامات الطريق ومنارات الاهتداء لمن جاء بعدهم، فحذا حذوهم ونسج على منوالهم؛ فاعتدوا بتلك القواعد ¬

_ (¬1) الفتوى في الإسلام، للقاسمي، (ص 171).

الجامعة النافعة، وعملوا من خلالها على التصدي لصعاب النوازل، ومدلهمات المسائل، وفيما سبق عرضه من قواعد أصولية وفقهية ما يشهد على أن اجتهادهم كان عن تقعيد وتأصيل؛ يبنى عليه التفصيل ويرتبط بالدليل والتعليل. وفي التأكيد على هذا المعنى قال ابن عبد البر -رحمه الله- في باب من كتاب "جامع بيان العلم وفضله" بعنوان: "اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة"، يقول -رحمه الله-: "وهذا يوضح لك أن الاجتهاد لا يكون إلا على أصول يضاف إليها التحليل والتحريم، وأنه لا يجتهد إلا عالم بها" (¬1). وعليه فإنه يتعين على فقهاء الزمن الحاضر دراسة تلك الفتاوي والمسائل التي حكم فيها المتقدمون وفقًا لأصولهم وقواعدهم؛ ليستنبطوا تلك القواعد الجامعة، لترد إليها النوازل المعاصرة، وليستعينوا بذلك التراث الفقهي على تكوين الملكة الأصولية المقاصدية الفقهية التي تهيئ للتعامل مع المسائل المستحدثة، ولا سيما في مجال الأقليات الإسلامية التي تكثر عوارضها وتتنوع طوارئها ومشكلاتها. وعلى فقهاء الزمن الحاضر أن يعلِّموا طلبتهم هذه المنهجية بالاتكاء على ما أصَّله الأقدمون، والانتفاع بطريقتهم العلمية الرائقة، وما أحسن قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-في مجلس للتفقه والتعليم-: "أما بعد: فقد كنا في مجلس التفقه في الدين، والنظر في مدارك الأحكام الشرعية، تصويرًا وتقريرًا، وتأصيلًا وتفصيلًا، فوقع الكلام في. . . فأقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا مبني على أصلٍ وفصلين. . . " (¬2). ودراسة ما كتبه الأقدمون في مقاصد الشريعة يفيد العالم المجتهد المتصدي لنوازل العصر كثيرًا، ويمكنه من التفريق بين رتب المقاصد والمقدم منها عند التعارض، ¬

_ (¬1) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (2/ 848). (¬2) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (21/ 534).

والتمييز عند اختلاط الأحكام وتداخلها بين رتب المأمورات والمنهيات، وإدراك مراتب الأدلة والأحكام، ومعرفة مواضع الإجماع والاتفاق، ومواقع السعة والاختلاف، وأسباب الترجيح والمرجحات، ونحو ذلك مما تكمل به عدة فقيه يدرس نوازل العصر. وبمثل هذا المسلك الرشيد تتحقق مصالح العباد ويتبصر الفقيه بما به تحقق الرشاد في الفتاوى، وتظهر صحة قول الإمام الشافعي وأرجحيته حين قال: "وليس يؤمر أحد أن يحكم بحق إلا وقد علم الحق، ولا يكون الحق معلومًا إلا عن الله نصًّا أو دلالة من الله؛ فقد جعل الله الحق في كتابه، ثم في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ فليس تنزل بأحدٍ نازلة إلا والكتاب يدل عليها نصًّا أو جملة" (¬1). وليس يخفى أنه ما من عالم مجتهد قد حفظت أقواله، وجمعت مصنفاته إلَّا وقد بث في ثنايا ما ألف وصنف وما أفتى فيه من مسائل ونوازل أصولًا وضوابط في سائر أبواب الفقه والعلم، ومنهم من عني بالتصنيف في القواعد الفقهية والأصولية خاصة، ومنهم من تناول القواعد المقاصدية، وقد اشتهر جمع من العلماء بالعناية بهذا المنحى في التأليف والتصنيف، وليس في الأقدمين كالشافعي والعز ابن عبد السلام وابن تيمية والشاطبي وابن القيم في هذا المجال أحد! ثم إن المحدثين والمعاصرين قد أدلوا في هذا المجال بدلاء متفاوتة، وإن كان حظ معظمهم في الجمع والترتيب والتنضيد والتنسيق أوفر من حظهم في التأصيل والتقعيد. ولا إشكال في هذا فإن من المتفقهين غير فقهاء وهم الرواة، ومنهم حاملو الفقه الفقهاء، ومن الصنف الأخير صفوة هم أهل الاستنباط والتقعيد والتأصيل، وأولئك ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين! ¬

_ (¬1) الأم، للشافعي، (9/ 69).

ثالثا: تطبيق بعض الفتاوي القديمة جزئيا أو كليا في المسائل المعاصرة

ومن الفقهاء من تقصر همته على تنزيل الأحكام في مواقعها، ومنهم من تتعدى همته الواقع الحاضر إلى المستقبل، وينفذ بصره من الحال إلى المآل، ويمتلك رؤية ارتيادية واستراتيجية في السياسة الشرعية؛ فيبصر مواقع المصلحة ويتوخاها، ومواقع المفسدة ويتخطاها. ويرتب الأولويات ويرعاها، وهذا يمتلك ناصية ما يسمى بفقه التوقع بعد فقه الواقع! ولا شك أن الصنف الأخير أندر من الكبريت الأحمر، وأنفس من الإبريز الأصفر. ثالثًا: تطبيق بعض الفتاوي القديمة جزئيًّا أو كليًّا في المسائل المعاصرة: الفتاوي السابقة ميدان فسيح ينتفع من خلاله الفقيه، ويستأنس به المجتهد، وهو علم لا غنى عنه للفقيه المعاصر؛ فهو علم تروى فيه الأحكام الصادرة عن الفقهاء في الوقائع الجزئية؛ ليسهل الأمر على القاصرين بعدهم (¬1). ومعرفة تلك الفتاوي القديمة تعطي صورة عن النازلة في عهدها السابق وتطورها الذي جد في الوقت اللاحق، والفقيه حيث يطالع مسالك العلماء في تقرير حكمها يتمهد طريق بحثه، وتتذلل وعورة سبيله في بحث النازلة؛ فربما طبق على هذه الفتاوي مباشرة، وربما لمح أوجهًا للفرق والتمييز بين القديم والحديث. يقول الشيخ الزرقاء -رحمه الله-: "وكُتُبُ الفتاوي هذه تمثل الناحية التطبيقية العلمية من الفقه، وتُظهر نتائج المبادئ النظرية والأحكام المقررة، ومدى ملاءمتها للمصلحة التطبيقية عند وقوع الحوادث المتوقعة كل وقت؛ لأن الحوادث المتأخرة كثيرًا ما تتشابه مع وقائع الماضي" (¬2). وحين تُذكر الفتاوي القديمة تأتي في المقدمة فتاوي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم -كما قال ابن القيم -رحمه الله--: "مثلوا الوقائع بنظائرها وشبهوها بأمثالها، وردُّوا بعضها إلى بعض ¬

_ (¬1) مفتاح السعادة، لطاش كبرى زاده، (2/ 557 - 558). (¬2) المدخل الفقهي العام، للزرقا، (1/ 214).

في أحكامها، وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طريقه، وبينوا لهم سبيله" (¬1). ثم مَنْ بعدهم مِنْ التابعين وتابعيهم لهم تبع في هذا المنهج والمسلك. ومن غير شك فإن النوازل المعاصرة ازدادت تعقيدًا بتعقيدات العصر، وبظهور مخترعات علمية مذهلة التطور، لا في مجال المعلومات فحسب، بل في كل مجال علمي، ودراسة الفتاوي القديمة تعطي تصورًا عن وضع النازلة الجديدة وإلى أي مدى يمكن اعتبارها نازلة من كل وجه، وهذا قد يفيد في تكييفها، ومن ثم استنباط الحكم المناسب لها. وفي التراث الفقهي المذهبي القديم ما يشير بجلاء إلى مآخذ أحكام معاصرة، ومسائل نازلة كالتلقيح الصناعي، وقد ذَكَرَ الفقهاء حكم استدخال المرأة منيًّا في فرجها، وسواء أكان المني لزوجها، أم لغيره، وسواء أكان ذلك لشهوة، أم لا؟ وسواء أكان ذلك عن قصد، أم لا؟ بما يمكن أن يكوَّن أمارات ترشد إلى حكم التلقيح المجهري والصناعي اليوم (¬2). وفي التراث الفقهي المذهبي ما يتناول حكم الوفاة الدماغية، وما يترتب عليها؛ فقد تناول الفقهاء حكم من جرح فلم تبقَ فيه إلا مثل حركة المذبوح بحيث يعمل قلبه وأعضاؤه تتحرك حركة لا إرادية؛ فهل يحكم له بالحياة، أم لا؟ وما حكم من جنى عليه في هذه الحالة، وهل يعد قاتلًا، أم لا؟ (¬3). ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 257). (¬2) الفتاوي الهندية، للشيخ نظام وجماعة من علماء الهند، تحقيق: عبد اللطيف حسن عبد الرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1421 هـ - 2000 م، (4/ 124)، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، لعبد الرحمن بن محمد بن سليمان الكليبولي، المدعو بشيخي زاده، دار الكتب العلمية، بيروت، 1419 هـ (2/ 252)، حاشية ابن عابدين، (5/ 213)، فتاوي الرملي، (4/ 202)، حواشي الشرواني وابن قاسم على تحفة المحتاج، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1357 هـ - 1938 م، (8/ 231)، نهاية المحتاج، للرملي، (8/ 430 - 431)، كشاف القناع، للبهوتي، (5/ 73). (¬3) حاشية ابن عابدين، (3/ 130)، مغني المحتاج، للخطيب الشربيني، (4/ 12)، كشاف القناع، للبهوتي، (5/ 516).

رابعا: الاعتماد على النصوص في ضوء المقاصد

وفي التراث الفقهي ما يتعرض لحكم إعادة الجزء المقطوع في حدٍّ أو قصاصٍ من الجاني بعد تنفيذ الحكم، وقد تناول الفقهاء هذه المسألة، أو ما هو قريب منها في حال إذن المجني عليه في الإعادة والرد، وفي حال لم يأذن، وفي حال استطاع المجني عليه الإعادة لعضوه المقطوع، وفي حال لم يستطع (¬1). وينبغي التنبه إلى أن دلالة تلك الفتاوي القديمة على النوازل المستجدة قد لا تكون بطريق المطابقة، وإنما بطريق التضمن أو اللزوم، وقد لا تكون بمفهوم الموافقة، وإنما قد تكون بمفهوم المخالفة. رابعًا: الاعتماد على النصوص في ضوء المقاصد: وأخيرًا فإن المفتي المعاصر اليوم إذا طالع هذه الفتاوي وتأمل في طريقة الفقهاء القدامى بان له تعلقهم بالنصوص والتزامهم بها، وحرصهم عليها، وعنايتهم بفقهها، وما صادمها أو عارضها أو أهدرها فهو مرفوض. كما تبرز -وبوضوح أيضًا- عنايتهم بالمعاني والمقاصد والمصالح، والأصل أن يجتمع في حس الفقيه النص وما يقتضيه، والمصلحة والمعنى معًا. ولقد رأينا في فقه المذاهب أيضًا رعاية ما سبق آنفًا؛ فالمزارعة مثلًا فاسدة في ظاهر الرواية عند الحنفية، وهو رأي أبي حنيفة، لكن الفتيا المعتمدة في مذهب الفقهاء الحنفية هي على قول الصاحبين، وهو أن المزارعة جائزة (¬2)؛ للنص عليها ولحاجة الناس إليها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع" (¬3). ¬

_ (¬1) الفتاوي الهندية، (6/ 11)، الأم، للشافعي، (7/ 184)، الإنصاف، للمرداوي، (10/ 98)، كشاف القناع، للبهوتي، (5/ 549)، البيان والتحصيل، لابن رشد، (16/ 17). (¬2) الدر المختار، للحصكفي، (6/ 275)، الفتاوي الهندية، (5/ 291). (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب الإجارة، باب: إذا استأجر أرضًا فمات أحدهما، (2285)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع، (1551) -واللفظ له-، من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.

وهذا مذهب المالكية والحنابلة مع الظاهرية (¬1). ومثل هذا كثير مشهور معروف من مذاهب الفقهاء من لدن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد كانوا -رضي الله عنهم- ينظرون إلى النصوص، وإلى مقاصدها معًا، ولا يغفلون حكمها وعللها ومصالح الناس. وتصرفات الصحابة الفقهية تؤكد على كلية الشريعة الكبرى التي تستند إليها أحكامها، وهي جلب المصالح وتكثيرها، ودفع المفاسد وتقليلها. وباستقراء ما أثر عن الصحابة نجد نماذج كثيرة تنم عن اجتهادات عميقة لا تخرج عن روح النص، وإن بدت للبعض مخالفة له، من ذلك: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيًا وواليًا فطلب منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أخذه الزكاة من أهل اليمن التوسط في أخذه فقال: "خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر" (¬2). لكن معاذًا نظر إلى الحكمة من أخذ الزكاة فقال لأهل اليمن: "ائتوني بعرض ثياب خميص، أو لبيس في الصدقة مكان الشعير أهوَنُ عليكم، وخيرٌ لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة" (¬3). ¬

_ (¬1) مواهب الجليل، للحطاب، (7/ 152)، كشاف القناع، للبهوتي، (3/ 537)، المحلى، لابن حزم، (8/ 211). (¬2) أخرجه: أبو داود، كتاب الزكاة، باب: صدقة الزرع، (1599)، وابن ماجه، كتاب الزكاة، باب: ما تجب فيه الزكاة من الأموال، (1814)، والحاكم في "المستدرك " (1/ 387)، من حديث عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى اليمن فقال. . . فذكره. قال الحاكم: "هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، إن صح سماع عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل؛ فإني لا أتقنه"؛ فتعقبه الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير"، (2/ 375) بقوله: "لم يصح؛ لأنه ولد بعد موته، أو في سنة موته، أو بعد موته بسنة. وقال البزار: لا نعلم أنَّ عطاءً سمع من معاذ". اهـ. (¬3) علَّقه البخاري جازمًا به إلى طاوس قال: قال معاذ، كتاب الزكاة، باب: العرض في الزكاة، (1/ 447). ووصله -مختصرًا-: ابن أبي شيبة في "مصنفه"، كتاب الزكاة، باب: ما قالوا في أخذ العروض في الصدقة، (3/ 181). قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 18): "إسناده إلى طاوس صحيح، إلا أن طاوسًا لم يسمع من معاذ".

وقد أفتى وقضى الخلفاء الراشدون في كثير من القضايا، كان بعضها يشتمل على تغييرات طفيفة، أو كبيرة عما كان يُفْتَى به في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبعضها مما لم يسن فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - سنة. وقد سبقت اجتهادات عمر -رضي الله عنه- في منع التزوج بالكتابيات (¬1)، ودرء حد السرقة عام الرمادة (¬2)، وإجازته للتسعير (¬3). وتضمين علي -رضي الله عنه- للصناع (¬4)، وغيرها. وهذه الاجتهادات كلها دائرة في إطار السياسة الشرعية ورعاية المصالح الإنسانية، من غير مناقضةٍ لمقصود النص، ولا إبطالٍ للفظه، "ومن أراد أن يعرف المناسبات والمصالح والمفاسد فعليه أن يعرض ذلك على عقله، بتقدير أن الشرع لم يَرِدْ به، ثم يبني عليه الأحكام" (¬5). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه، وقال ابن القيم -رحمه الله- في إعلام الموقعين، (3/ 11): قال السعدي سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث، فقال: العذق النخلة، وعام سنة المجاعة. فقلت لأحمد: تقول به. فقال: إي لعمري. قلت: إن سرق في مجاعة لا تقطعه. فقال: لا إذا حملته الحاجة على ذلك والناس في مجاعة وشدة. (¬3) أخرجه: الإمام مالك في "الموطأ" (1328)، والبيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب البيوع، باب: التسعير، (6/ 29) -مختصرًا ومطولًا-، وفي "معرفة السنن والآثار" (8/ 204)، من حديث عن سعيد بن المسيب، أن عمر ابن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له بالسوق؛ فقال له عمر بن الخطاب: "إما ان تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا". (¬4) أخرجه: ابن أبي شيبة في "مصنفه"، كتاب البيوع والأقضية، باب: في القصار والصباغ وغيره، (6/ 285). (¬5) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 13).

المطلب الثالث: المناهج المعاصرة في التعامل مع نوازل الأقليات

المطلب الثالث: المناهج المعاصرة في التعامل مع نوازل الأقليات: تمهيد لنوازل الأقليات المسلمة خصوصيات كثيرة ومتنوعة بتنوع خصائص وظروف تلك الأقليات في مواطنها، وقد سبق ذكر طرف من تلك الخصوصيات، وتنبيه على المقاصد الشرعية لفقه النوازل للأقليات الإسلامية، وهي مقاصد تدور على حفظ حياة تلك الأقليات، والتمكين لها في تلك المجتمعات، وحمايتها من الذوبان ومن الانعزال، مع تطلع إلى نشر دين الإسلام بالحال والمقال، وإقامة علاقة رشيدة مع الواقع الذي تعيش فيه تلك الأقليات. والتعامل مع نوازل تلك الأقليات يحتاج إلى اجتهاد يقوم على الانتقاء بالترجيح في ظل متغيرات كثيرة، ولا يمتنع أن يكون في بعض مسائله اجتهاد جديد من غير تعويل على انتقاء، أو تخريج، ويبقى أن الاجتهاد في تحقيق المناط باقٍ لا ينقطع؛ لأنه تطبيق للقاعدة العلمية المتفق عليها على واقع جديد تنطبق عليه تلك القاعدة. وهذه الأيام تشهد اهتمامًا متزايدًا بشأن الأقليات؛ فالمجلس الأوروبي للإفتاء معني بمسائلها، ومجمع فقهاء الشريعة بأمريكا يعقد المؤتمرات لبحث نوازلها، ومن قبلهما مجمع الفقه الإسلامي بجدة، وبرابطة العالم الإسلامي كثيرًا ما عنيا ببحث قضاياها من خلال مؤتمرات وبحوث متعددة. كما أن المفتين عبر وسائل الإعلام الفضائية المباشرة يبثون فتاويهم، ويجيبون على البعد عن أسئلة مشاهديهم ومستمعيهم من أبناء المسلمين خارج ديار الإسلام حول العالم.

الفرع الأول: نماذج من نوازل الأقليات المسلمة

الفرع الأول: نماذج من نوازل الأقليات المسلمة: وهذه النوازل باب مفتوح ونهر ممدود، لا تنقطع روافده، ولا تجف منابعه، ما تبدل الجديدان، وبقيت في الأرض حياة، فحياة الناس متجددة، والوتيرة في ذلك متسارعة، وفيما يلي نماذج من تلك النوازل لها علاقة بشتى أبواب الفقه: أولًا: من نوازل الأقليات في العبادات: - أوقات الصلاة لأهل القطبين وأحكامها. - الصلاة في الطائرات والمركبات الفضائية. - الخطبة والصلاة في معابد غير المسلمين، وما مدى حرمة تلك المعابد. - حكم إمامة المرأة للرجال في الصلاة أو في الجمعة. - خطبة الجمعة بغير العربية. - دفن المسلم في مقابر غير المسلمين. - دفن المسلم على طريقة غير المسلمين (التابوت). - المشاركة في تشييع جنازة غير المسلم. - دخول الكنائس للعزاء ونحوه. - أحكام ذبائح غير المسلمين. - أحكام الأطعمة والأدوية التي تدخلها مواد نجسة أو محرمة. - حكم إعطاء الزكاة لغير المسلمين. - حكم توظيف أموال الزكاة في مشاريع تجارية لدعم المراكز الإسلامية. - حكم نقل أموال الزكاة من مواردها. - حكم دفع أموال الزكاة لأعمال الجمعيات والمراكز الإسلامية.

ثانيا: من نوازل الأقليات في المعاملات

- حكم دفع أموال الزكاة إلى مصارف غير منصوص عليها؛ لحاجة الأقليات إليها. - كيفية صيام أهل القطبين. ثانيًا: من نوازل الأقليات في المعاملات: - حكم العمل والتعامل مع البنوك خارج بلاد الإسلام. - حكم التمويل البنكي لشراء المساكن. - أحكام عقود التأمين التجاري. - أحكام الضرائب وحكم التحايل عليها والتهرب منها. - حكم الإجارة على الأعمال المحرمة، أو التي تشتمل على محرمات. - حكم دفع الرشاوى لإنجاز بعض الأعمال الإسلامية أو الشخصية. - حكم الإجارة على طباعة مطبوعات دينية لغير المسلمين. - حكم الإجارة على بناء دور العبادة لغير المسلمين. - حكم الإجارة على بناء دور اللهو المحرم ونحوها. - حكم الإجارة في أعمال المطاعم والفنادق والأعمال السياحية. - حكم الاشتغال بالمحاماة، وتوكيل غير المسلمين. - حكم الاشتغال بالقضاء. - حكم الاشتغال بالأعمال العسكرية. ثالثًا: من نوازل الأقليات في النكاح والطلاق: - حكم الزواج من غير المسلمات في غير دار الإسلام. - حكم النكاح المؤقت في غير دار الإسلام. - حكم توثيق الزواج في المحاكم غير المسلمة.

رابعا: من نوازل الأقليات الأسرية والاجتماعية

- حكم الزواج الصوري بقصد الحصول على الإقامة أو الجنسية في غير دار الإسلام. - حكم زواج المسلمة من غير المسلم وما يترتب عليه من آثار. - حكم إجراء عقد الزواج بين المسلم والكتابية على يد القسيس في الكنيسة. - حكم اللجوء إلى الشرطة أو المحاكم غير المسلمة في الخلافات الزوجية. - حكم بقاء من أسلمت تحت زوجها الكافر طمعًا في إسلامه. - ولاية عقد النكاح لمن لا ولي لها في بلاد الأقليات. - حكم تعدد الزوجات في البلاد غير المسلمة التي لا يجيز قانونها تعدد الزوجات. - حكم الزواج بنية الطلاق لمن أقام بتلك الديار. - حكم طلب الطلاق من القاضي غير المسلم في غير دار الإسلام. - ما يترتب على وقوع الطلاق من آثار في غير دار الإسلام. - حكم الطلاق الصوري لأجل التعدد في تلك البلاد. - حكم البقاء مع غير المسلمة التي دخلت في الإسلام، ثم لم تلتزم بشرائعه. - ولاية المراكز الإسلامية في التطليق والتفريق. رابعًا: من نوازل الأقليات الأسرية والاجتماعية: - حكم نزع حجاب المسلمة في المدارس والمصالح الحكومية. - حكم الوقف والوصية والهبة بين المسلمين وغير المسلمين. - حكم الوصية والوقف لابن الزنا، وللولد غير المسلم. - أحكام المشاركات في الأعياد الدينية، أو المناسبات القومية، ونحو ذلك. - أحكام المشاركات في الجمعيات الاجتماعية، أو الدينية، أو الفكرية. - موقف الأقليات المسلمة عند تعرضها للاعتداء من أهل تلك الدار.

خامسا: من نوازل الأقليات في السياسة الشرعية

خامسًا: من نوازل الأقليات في السياسة الشرعية: - حكم ولاية أهل الحل والعقد في تلك الديار على الأقليات المسلمة. - حكم تولي الوظائف العامة في الدولة غير المسلمة. - حكم إقامة الأحزاب الإسلامية في الدولة غير المسلمة. - حكم الانضمام إلى أحزاب غير إسلامية. - حكم تحالف الأحزاب الإسلامية مع أحزاب غير إسلامية. - حكم المشاركة في الترشيح والانتخابات النيابية. - واجب الأقليات في نصرة القضايا الإسلامية. إلى آخر هذه المسائل الكثيرة والمتشعبة في شتى نواحي الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وهذه النوازل إنما هي أسئلة تدل على أن اغترابهم عن بلاد الإسلام لم يُنسهم دينهم، بل هم حريصون تمام الحرص على إرضاء باريهم، وعدم الخروج عن سلطان دينه وأحكام شرعته. كما أن هذه الأسئلة وأخواتها تتطلب الإجابة من علماء الشريعة الراسخين في العلم، الذين استفرغوا وسعهم في معرفة الشرع، ومعرفة الواقع على حدٍّ سواء؛ إذ لا يكفي واحد عن الآخر، وبطبيعة الحال -وكما تقدم- فإن بعض هذه الأمثلة تحتاج إلى اجتهاد جديد، وأخرى إلى ترجيح وانتقاء من الذخيرة الفقهية، مع اجتهاد دائم في تحقيق المناط، ورعاية حالة وجود المسلمين على أرض غير إسلامية مما يعرف بمسألة الدار، والتي قد يعبر عنها أيضًا بحكم المكان. الفرع الثاني: المناهج المعاصرة فى الحكم على نوازل الأقليات: بتتبع تلك الأسئلة الواردة عن مختلف وسائل الاتصال والإعلام، وبتتبع الإجابات الصادرة عبر مختلف وسائل تبليغ الفتيا من الرسائل والكتب والبحوث

المنهج الأول: منهج التضييق والإفراط

والمجلات والصحف والإذاعات والفضائيات -يظهر بجلاء ذلك التنوع الضخم في أسئلة النوازل لدى تلك الأقليات الإسلامية فضلًا عن الأسئلة فيما لا يعد من قبيل المسائل المستجدة والقضايا المستحدثة، ولا تخطئ عين متفحص أن هذه الإجابات التي تصدر إلى تلك الأقليات الناشئة في مواطنها المقيمة في بلاد لا تحكم بشريعة ربها، والمتفاوتة في ظروفها وآلامها ومشكلاتها- ترجع إلى ثلاثة مناهج في تعاملها مع تلك الأسئلة، وتعاطيها مع تلك المشكلات. وفيما يلي بيان مختصر لتلك المناهج: المنهج الأول: منهج التضييق والإفراط: وأصحاب هذا المنهج فريقان؛ أهل ظاهرية حديثة، وأهل مذهبية قديمة. فأما الأولون فعلى الظواهر النصية يجمدون، وعن مقاصد الشريعة يعرضون، لا يقولون بالقياس، ويحمِّلون النصوص فوق ما قد تحتمله من دلالات، ويعتقدون النصوص وحدها وافية بأحكام كل نازلة بطريق النص عليها، أو بما لا يحتمل في الفهم إلا وجهًا واحدًا، وهم يحمِّلون الاستصحاب ما لا يحتمل، وينكرون تغير الفتيا بتغير الأوصاف والأعراف والمصالح والعلل. وهؤلاء تحملهم ظاهريتهم على تحوطٍ يفضي إلى تشدد؛ لذا يبالغون في سدِّ الذرائع، ولا يعرفون في الفقه إلا رأيًا واحدًا هو الراجح المطلق، وما سواه عدم من العدم! وعدم إدراك قواعد ومقاصد فقه الأقليات وإعمال تلك الأصول والضوابط يفضي بصاحبه إلى تشديد وتعسيرٍ الشريعةُ منه بريئة. قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَليْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وفي الحديث: "يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تنفِّروا" (¬1). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

وقد قال الإمام أحمد: "من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدد عليهم" (¬1). وليت هؤلاء حين شددوا في رأي أحالوا على غيرهم؛ فإنه يجوز للمفتي أن يحيل من استفتاه على غيره ممن يخالفه القول في أمر اجتهادي لا نصَّ فيه ولا إجماع، ولو كان شأنه خطيرًا؛ لأن قصارى ما عند هذا المفتي هو ما انتهى إليه رأيه، ولعله يتهم رأيه إن كان منصفًا، ولعل ما عند غيره من الرأي أولى وأفضل مما عنده! وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن مسألة في الطلاق فقال: "إذا فعله يحنث". فقال له السائل: إن أفتاني أجد بأنه لا يحنث -يعني: يصح؟ - فقال: "نعم، تعرف حلقة المدنيين؟ "؛ فَدَلَّهُ على مفتٍ يخالفه في اجتهاده؛ لما في ذلك من السعة على المستفتي (¬2). وبالجملة فإن هؤلاء الصنف يغلب عليهم التشديد، ويتجافون عن التيسير، ويغلب عليهم التعصب لرأي في أمر اجتهادي، أو تشدد في أمر خلافي، وقد قال سفيان الثوري: "إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد" (¬3). وأما الصنف الثاني فهم أصحاب المذهبية المفرطة، الذين يعتقدون أنه يجب على كل أحد أن ينتمي إلى أحد المذاهب الأربعة المتبوعة، ويُلزمون علماء كل مذهب بالاجتهاد في إطاره فحسب؛ تخريجًا على قول الإمام أو الأصحاب، فإذا سُئلوا فإنهم لا يُفتُون إلا بنص الإمام أو تخريجًا أو إلحاقًا، فإن لم يجدوا كان المنع والحظر إليهم أقربَ من الإباحة والحِلِّ. وقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وإذا نزلت بالمسلم نازلة يَستفتي من اعتقد أنه يُفتيه ¬

_ (¬1) الآداب الشرعية والمنح المرعية، لشمس الدين محمد بن مفلح، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعمر القيام، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 3، 1419 هـ - 1999 م، (1/ 189). (¬2) كشاف القناع، للبهوتي، (6/ 300)، البحر المحيط، للزركشي، (6/ 319). (¬3) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (2/ 784).

بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يوجبه ويخبر به؛ بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). وهم يغلبون إطلاق قاعدة "الخروج من الخلاف مستحب"؛ فكل ما وقع للأقليات من مسائل، أو جاء من ديارهم من أقضيات فهو محل شبهة فينبغي أن يحتاط فيها ويفتوا بالأشد، وبالاحتياط. وقاعدة: "الخروج من الخلاف مستحب" مقيدة بقيود يتعين مراعاتها، منها: - ألَّا يؤدي الخروج من الخلاف إلى الوقوع في محظور شرعي. - ألَّا يكون دليل المخالف معلومَ الضعفِ فلا يلتفت عندئذٍ إلى خلافه. - ألَّا يؤدي الخروج من الخلاف إلى وقوع في خلاف آخر. - ألَّا يكون العامل بالقاعدة مجتهدًا، فإذا كان مجتهدًا لم يجز له الاحتياط فيها، بل ينبغي عليه أن يُفتي الناس بما ترجح عنده من الأدلة والبراهين (¬2). ومما لا شك فيه أن حاجة الأقليات إلى السعة والتيسير بالغة، فلو أن امرأة مسلمة في ديار غير المسلمين لا عائلَ لها ولا مُعينَ، ثم مات عنها أبوها غير المسلم تاركًا لها ما يكفي سدادًا من عيشها وصلاحًا لحالها، وغناءً من فقرها وحاجتها في ذلك المجتمع غير المسلم الذي لا يقيم للنساء قدرًا، ولا يرعى لهن حرمة -أفلا يتسع الفقه الإسلامي في تلك الديار لأن تُفْتَى بجواز أخذها لإرثها من أبيها؟ وهذا وإن خالف ظاهرَ نصٍّ، ومذاهبَ الأربعة الفقهاء فإنه قد وافق قول معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان من الصحابة، ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (20/ 208 - 209). (¬2) العمل بالاحتياط في الفقه الإسلامي، لمنيب محمود شاكر، دار النفائس، الرياض، ط 1، (ص 118).

المنهج الثاني: منهج التساهل والتفريط

وسعيد بن المسيب ومسروق من التابعين، ومحمد بن الحسن ويحيى بن يعمر وإسحاق بن راهويه وابن تيمية وابن القيم فيما رجحوه في ديار الإسلام؛ فكيف بغيرها؟! المنهج الثاني: منهج التساهل والتفريط: وأصحاب هذا المنهج فِرَقٌ: إحداهما: تقدم المصلحة على النص. والثانية: تنهزم أمام الواقع الماثل في حياة الأقليات وديارها البعيدة عن ديار أهل الإسلام مبنى ومعنى، وربما اجتمعت السوأتان معًا. والثالثة: من يفعل ذلك رغبة أو رهبة. فأصحاب التوجه الأول يغلبهم النظر إلى مصالح عاجلة وجزئية عن النظر إلى المصالح الآجلة والكلية؛ فالتيسير مصلحة تقابلها مصلحة إقامة دين الأقلية، والاقتراض بالربا يفتح بابًا للسعة في الدنيا، ولكنه يغلق أبواب السعة في الآخرة. فغدا أصحاب هذا التوجه يُقَدِّمون مصالحَ موهومةً على نصوص معلومة؛ فلا مانع من التعامل بالبيوع المحرمة والفاسدة في دار غير المسلمين، ولا حرج على من لجأ إلى حيل باطلة وإن تخوَّض بسببها في الدماء أو الفروج المحرمة بغير برهان، والأقليات لها فقه خاصٌّ يحكمها، وأصول للاستنباط تخالف ما عليه المسلمون في بلادهم، والاجتهاد أبوابه مُشْرَعَةٌ وبلا شروط أو حدود!! وعليه فإن دعاوي التجديد الفقهي والأصولي رائجة بين أصحاب هذا المنهج المصلحي التجديدي التحايلي المتهافت! وأصحاب التوجه الثاني مهمتهم "إضفاء الشرعية على هذا الواقع؛ بالتماس تخريجات وتأويلات شرعية تعطيه سندًا للبقاء، وقد تكون مهمتهم تبرير أو تمرير

ما يراد إخراجه للناس من قوانين أو قرارات أو إجراءات تريدها السلطة. ومن هؤلاء من يفعل ذلك مخلصًا مقتنعًا لا ينبغي زلفى إلى أحد، ولا مكافأة من ذي سلطان؛ ولكنه واقع تحت تأثير الهزيمة النفسية أمام حضارة الغرب وفلسفاته ومُسَلَّماته" (¬1). فالقوانين الغربية لديهم تتفق مع الإسلام في أكثر الجوانب، والشريعة كأنها مطبقة في بلاد غير المسلمين، والانتماء إلى تلك البلاد جنسيةً يوجب القبول بأحكامها ديانةً ويُلزم بإعطاء الولاء ظاهرًا وباطنًا. وبسبب من هذه الرؤية تتميع كثير من المواقف، وتتحلل كثير من العقائد، ويضعف التمسك بكثير من الأحكام الأصلية والفرعية على حدٍّ سواء؛ فليست المحافظة على أديان الأقليات بمقصد، ولا تبليغ الدين ورعاية حرماته بهدفٍ! وفي هذا الصدد تُطبق قواعد العرف والرخص والمشقات والضرورات ونحوها على غير وجهها، وتُتَّبع رخص المذاهب بغير ضابط، ويُتذرع بالخلاف لاختيار الأيسر مطلقًا. وأصحاب التوجه الثالث: "منهم من يفعل ذلك رغبة في دنيا يملكها أصحاب السلطة، أو من وراءهم، من الذين يحركون الأزرار من وراء الستار، أو حبًّا للظهور والشهرة على طريقة خالِفْ تُعْرَفْ، إلى غير ذلك من عوامل الرغب والرهب، أو الخوف والطمع التي تحرك كثيرًا من البشر، وإن حملوا ألقاب أهل العلم، وأُلبسوا لباس أهل الدين" (¬2). فلا مانع من تولي المرأة الولاية العامة والقضاء، بل وخطبة الجمعة، وإمامة المصلين! ولا حرج من تغير الفتيا بتغير الرياح! ¬

_ (¬1) الاجتهاد المعاصر، د. يوسف القرضاوي، (ص 90). (¬2) المرجع السابق، (ص 90).

المنهج الثالث: منهج الوسطية والاعتدال

يقول الإمام القرافي -رحمه الله-: "لا ينبغي للمفتي إذا كان في المسألة قولان: أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف -أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف، وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين، ودليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه، وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق، نعوذ بالله من صفات الغافلين" (¬1). وقد عدَّ ابن السمعاني (¬2) من شروط العلماء أهل الإفتاء: الكف عن الترخيص والتساهل، ثم صنف -رحمه الله- التساهل نوعين: "- أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام، ويأخذ ببادئ النظر، وأوائل الفكر فهذا مقصر في حقِّ الاجتهاد، ولا يحل له أن يفتي ولا يجوز. - أن يتساهل في طلب الرخص وتأوُّل السنة فهذا متجوز في دينه وهو آثمُ من الأول" (¬3). المنهج الثالث: منهج الوسطية والاعتدال: الوسطية في هذا الباب هي وسطية الإسلام في استنباط الأحكام، وهي وسطية بين طرفي التشديد والإفراط، وبين التسيب والتفريط، وهي وسطية تنضبط بالنصوص، وترعى المقاصد، وتحقق المصالح، وتفرق بين الفتيا العامة والخاصة في شأن الأقليات، وهي وسطية السداد في الإفتاء مع المقاربة، لا تكلف ¬

_ (¬1) الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام، للقرافي، (ص 250). (¬2) أبو المظفر، الإمام العلامة مفتي خراسان وشيخ الشافعية، منصور بن محمد بن عبد الجبار التميمي السمعاني المروزي الحنفي ثم الشافعي، من مصنفاته: القواطع في أصول الفقه، والمنهاج لأهل السنة، والأمالي في الحديث وغير ذلك، ولد 426 هـ، وتوفي سنة 489 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (19/ 114)، وطبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (5/ 335). (¬3) تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية، لمحمد بن علي بن حسين المكي المالكي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1347 هـ، (1/ 116 - 117).

العباد ما يرهقهم عنتًا، ولا تفتح لهم بابًا إلى الاجتراء على الأحكام والحرمات. والأمر كما قال الشاطبي -رحمه الله-: "المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور؛ فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال" (¬1). وهو منهج لا يجمد على مذهب بعينه، ولا يهمل آراء المجتهدين، يسعى أربابه إلى رأب الصدع ولمِّ الشمل، ووحدة صف الأقليات، وتقدير ضروراتهم بقدرها، ومراعاة حاجاتهم بما يحققها، ويوازن بين النصوص ومقاصد الشرع، ولا يقيم الشقاق بين النصوص الجزئية والمصالح المرعية؛ فهو منهج فقهي تأصيلي، لا تسويغي ولا تبريري. وهو منهج يراعي أن ما عَمَّتْ به البلوى في بلد لم تعمَّ به في غيره، وأن الذرائع كما يجب سدُّها قد يجب فتحُها، وأن الأحكام المنوطة بالأعراف والعادات تتغير بتغيرها، وأن اختلاف المقاصد يورث اختلاف الأحكام، وأن اختلاف الديار والأحوال له مدخل في تغير الفتيا بالنسبة للأقليات، وما استقرَّ عليه الصالحون من علماء قُطْرٍ، أو جرت به الفتيا في بلد لا ينبغي زلزلته أو توهينه (¬2). وهو منهج يتجنب أصحابه مصادمة النصوص الشرعية والإجماع المنعقد، ويحذرون من بناء فتياهم على قياس فاسد أو ما لا يصلح دليلًا في ذاته. ولا يَعتبرون من الشذوذ في الإفتاء مخالفة المجتهد المتأهل للأئمة الأربعة في مذاهبهم وفتاويهم، وربما أخذوا ببعض تلك الفتاوى التي رُفضت في زمن ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 258). (¬2) ميثاق الإفتاء المعاصر، محمد يسري، دار اليسر، القاهرة، ط 1، 1431 هـ، (ص 116).

أصحابها، ثم تلقَّاها الناس بعد ذلك بالقبول. وفي نوازل الأقليات يتأكد الرجوع إلى هيئات الإفتاء الجماعي؛ لقربها من الصواب بكثرة الفقهاء، وبوجود العلماء والخبراء بأحوال تلك الأقليات وملابسات ما يستجد في حياتهم من قضايا، وبطول البحث والمناقشات مما قد يتجنب معه ما يمكن أن يكون في الاجتهاد الفردي من قصور أو شذوذ. وأرباب هذا المنهج هم فقهاء أهل السنة النبلاء، وأئمة الفتيا الصالحين الفضلاء، عُرِفَتْ في الأمة بالخير سابقتهم، وتُلُقِّيَتْ بالقبول من الخاصة والعامة فتاويهم، فلا يدخل فيهم أصحاب توجه بدعي، ولا منهج غير مرضي.

المبحث الثاني طرق استنباط أحكام النوازل وضوابطها

المبحث الثاني طرق استنباط أحكام النوازل وضوابطها هناك ضوابط ينبغي أن يراعيها الناظر في النوازل، ولا يخلَّ بها، وهذه الضوابط منها ما يحتاجه قبل الحكم في النازلة، ومنها ما يحتاجه في الاستنباط أثناء البحث والاجتهاد في حكم النازلة، وسنبدأ بذكر الضوابط التي تراعى قبل الحكم في النازلة، ومنها: المطلب الأول: ضوابط قبل الاستنباط لحكم النازلة: أولًا: تحقق وقوع النازلة: جاء عن السلف الصالح التحذير من السؤال عما لم يقع وكراهية الكلام فيه؛ وذلك لأنه اشتغال عن الأَولى من معرفة أحكام ما نزل بالناس، ولأنه يدل على فراغ ذهني، ويفتح باب الجدال ويضيع الأوقات، ويشتت الجهود بلا فائدة تُذْكَرُ، فضلًا عن كونه مزلةَ أقدامٍ نتيجة عدم التصور الكامل للأمر؛ إذ لا ريب أنَّ تصور ما وقع أيسر وأضبط من تصور ما لم يقع، ولكنْ هناك فرق بين مسائل يحتمل وقوعها، ومسائل يستحيل حدوثها، أو يندر وقوعها، فالأُولى: لا حرج على المجتهد أن ينظر فيها، ويُوَلِّدُ أحكامها، والثانية: لا يحسن به أن يضيع وقته فيها، فيشغل نفسه عما هو أولى وأهم، وقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من علم لا ينفع (¬1). وقد تضمنت كتب آداب طالب العلم والعالم، وكتب آداب الفُتيا ونحوها آثارًا عن السلف في ذم هذا النوع من المسائل، فمما جاء عن الصحابة -رضي الله عنهم- في ذلك: ¬

_ (¬1) أخرجه: مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، (2722)، من حديث زيد بن أرقم -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل. . . اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع. . ." الحديث.

أن رجلًا جاء إلى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فسأله عن شيء فقال له ابن عمر: "لا تسأل عما لم يكن فإني سمعت عمر -رضي الله عنه- يلعن من سأل عما لم يكن" (¬1). وكان زيد بن ثابت -رضي الله عنه- إذا سأله رجل عن شيء قال: "آلله! أكان هذا؟ فإن قال: نعم، تكلم فيه، وإلَّا لم يتكلم" (¬2). وعن مسروق قال: "كنت أمشي مع أبي بن كعب -رضي الله عنه- فقال فتى: ما تقول يا عماه في كذا وكذا؟ قال: يا ابن أخي أكان هذا؟ قال: لا، قال: فاعفنا حتى يكون" (¬3). وجاء نحو هذا عن التابعين -رضي الله عنهم-، فعن عبد الملك بن مروان أنه سأل ابن شهاب الزهري -رحمه الله- عن مسألة، فقال له ابن شهاب: أكان هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، قال: فدعه فإنه إذا كان أتى الله له بفرج" (¬4). فعلى المفتي والمجتهد في النوازل عامة، وفيما يتعلق بمسائل الأقليات خاصة أن يتأكد من وقوع النازلة، ولا يفرض مسائل غريبة، أو نادرة الوقوع، وأما إذا كانت المسائل متوقعة الحصول، أو ستحصل قطعًا، كمثل ما جاء في الكتاب والسنة من أمور غيبية لمَّا تحصل بعد لكننا جازمون بوقوعها؛ فإن البحث عنها مشروع، والنظر فيها مطلوب؛ لبيان أحكامها وتفصيل أحوالها؛ ولذا سأل الصحابة -رضي الله عنهم- رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليوم الذي كَسَنَةٍ ¬

_ (¬1) أخرجه: الدارمي، المقدمة، باب: كراهية الفتيا، (123)، من حديث زيد المنقري. وصححَّ إسنادَه الشيخُ الألبانيُّ في "السلسلة الضعيفة"، (2/ 287). (¬2) أخرجه: أبو خيثمة زهير بن حرب في كتاب "العلم"، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1403 هـ / 1983 م، (75) -واللفظ له-، وعنه: أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي في "معجم الصحابة"، تحقيق: محمد الأمين بن محمد الجكني، مكتبة دار البيان، الكويت، (858)، ومن طريق أبي خيثمة: ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"، (2068). وأخرجه أيضًا: الدارمي، المقدمة، باب: كراهية الفتيا، (124). (¬3) أخرجه: أبو خيثمة في كتاب "العلم"، (76)، والدارمي، المقدمة، باب: مَن هاب الفتية وكره التنطع والتبدع، (152) -واللفظ له-، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"، (1604). (¬4) أخرجه: ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"، (2066).

ثانيا: أن تكون النازلة من المسائل التي يسوغ النظر فيها

من أيام الدجال: أتكفينا فيه صلاة يوم واحد؟ فقال: "لا؛ اقدروا له قدره" (¬1). وهذا عين الفقه في الدين، فقد سألوا عما تيقنوا حصوله، وكان سؤالهم نافعًا للأمة بلا ريب، سواء منهم من سيوجد في عصر الدَّجال، أو حتى من وجد قبله، وبلا شك فقد أفاد هذا بلاد الأقليات المسلمة في زماننا، والتي يبقى الليل فيها ستة أشهر، والنهار ستة أشهر، كما في بعض المناطق القطبية، أو يَقِلُّ فيها الليل جدًّا أو النهار وهو -لعمر الله- دليل على كمال هذا الدين وشموله، فلله الحمد والمنة. فمثل هذه المسائل التي يُتوقع حصولها يُشْرع البحث فيها والسؤال عنها، وقد بيَّن ابن القيم -رحمه الله- هذا المعنى فقال: "والحق التفصيل؛ فإذا كان في المسألة نص من كتاب الله، أو سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أثر عن الصحابة لم يُكْرَهِ الكلام فيها، وإن لم يكن فيها نص ولا أثر، فإن كانت بعيدة الوقوع، أو مقدرة لا تقع لم يُستحب له الكلام فيها، وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد، وغرض السائل الإحاطة بعلمها؛ ليكون منها على بصيرة إذا وقعت اسْتُحِبَّ له الجواب بما يعلم، ولاسيما إن كان السائل يتفقه بذلك، ويعتبر بها نظائرها ويُفرع عليها، فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى، والله أعلم" (¬2). ثانيًا: أن تكون النازلة من المسائل التي يسوغ النظر فيها: تقرَّرَ فيما سبق أنه ينبغي على المجتهد ألَّا يشغل نفسه إلا بما ينفع الناس، وهذا الضابط ينطبق على ما سبق من التأكد من وقوع النازلة، أو غلبة الظن بوقوعها، وينطبق كذلك على ما نحن بصدده من المسائل التي حكمها كحكم ما لم يقع من المسائل؛ لعدم النفع والفائدة في البحث عن أحكامها، فعلى المجتهد والناظر أن يراعي ما فيه نفع الناس، وألا يشغل نفسه والآخرين إلا بما ¬

_ (¬1) قطعة من حديث طويل، أخرجه: مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال وصفته وما معه، (2937)، من حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه-. (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 222).

ينفع الناس ويحتاجون إليه في دينهم ودنياهم. أما الأسئلة الجدلية أو التي يراد بها إعنات المسئول، أو التعالم والتفاصح، أو نحو ذلك من المقاصد المذمومة، فلا ينبغي للناظر في النوازل أن يُلقي لها بالًا؛ لما فيها من المفسدة الراجحة على المصلحة -إن وجدت- ولذا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الغلوطات (¬1). قال الخطابي في هذا المعنى: "إنه نهى أن يعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط؛ ليستزلوا بها ويستسقط رأيهم فيها، وفيه كراهية التعمق والتكلف فيما لا حاجة للإنسان إليه من المسألة، ووجوب التوقف عما لا علم للمسئول به" (¬2). ومما يلحق بهذا: أنه لا اجتهاد في مورد النص، فلا يجتهد الإنسان في مقابلة دليل قطعي، وإنما يجتهد في الجمع بين النصوص أو الترجيح بينها، وكذا فيما لا نص فيه. وبناء على ما سبق فإن هذا الأصل تحته صور يسوغ للمجتهد أن ينظر فيها، وهي كما يلي: 1 - أن تكون هذه المسألة مما لا نص فيها قاطع ولا إجماع. 2 - أن يكون ما ورد فيها من أدلة محتملًا قابلًا للتأويل، أو النصوص فيه متعارضة في الظاهر، وتحتاج إلى جمع أو ترجيح. 3 - أن تكون المسألة مترددة بين طرفين وضح في كل واحد منهما مقصد الشارع في الإثبات في أحدهما، والنفي في الآخر. 4 - ألَّا تكون المسألة المجتهد فيها من مسائل أصول الاعتقاد؛ فإن الخلاف في هذه ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو داود، كتاب العلم، باب: التوقي في الفتيا، (3656)، والإمام أحمد في "مسنده" (5/ 435)، من حديث معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-. وضعَّفه الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن القطان الفاسي في "بيان الوهم والإيهام الواقعَين في كتاب الأحكام"، تحقيق: د. الحسين آيت سعيد، دار طيبة، الرياض، ط 1، 1418 هـ - 1997 م، (4/ 66، 5/ 654)، والشيخ الألباني في "تمام المنة في التعليق على فقه السنة"، المكتبة الإسلامية بعمان ودار الراية بالرياض، ط 3، 1409 هـ، (ص 45). (¬2) معالم السنن، للخطابي، (4/ 186).

ثالثا: تقوى الله وصدق اللجأ إليه تعالى وسؤاله التوفيق

المسائل لا يسوغ، وينكر فيها على المخالف لعقيدة السلف. 5 - أن تكون المسألة المجتهد فيها من النوازل والوقائع، أو مما يمكن وقوعها في الغالب، وتمس الحاجة إلى معرفة أحكامها، كما سبق (¬1). ثالثًا: تقوى الله وصدق اللَّجَأ إليه تعالى وسؤاله التوفيق: وهذا من أهم الآداب التي يتعين على المفتي والمجتهد مراعاتها عند النظر؛ ليحصل له التوفيق للصواب، فإنَّ الله تعالى يقول عن الملائكة: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]. ويقول سبحانه: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، ويقول سبحانه: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 25 - 28]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت" (¬2). وفي قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 105 - 106]، الأمر بالاستغفار مقرونًا بالحكم بين الناس، مما يشير إلى أنه ينبغي للمفتي أن يستغفر ربه، ويلجأ إليه قبل الإفتاء والحكم. ¬

_ (¬1) الرسالة، للشافعي، (ص 560)، الفصول في الأصول، للجصاص، (4/ 13)، الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (1/ 504)، الموافقات، للشاطبي، (5/ 114 - 118)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 67 - 69)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 584 - 588)، جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، (1/ 241 - 252). (¬2) أخرجه: أبو داود، كتاب الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح، (5090)، والبخاري في "الأدب المفرد"، (701)، والإمام أحمد في "مسنده" (5/ 42)، من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه-. وصححه ابن حبان (3/ 250).

إنَّ من أعظم المزالق عند بعض المفتين ضعف الصلة بالله تعالى، وقلة اللَّجَأ إليه، والاعتماد على ما أوتيه المرء من ذكاء؛ ولذا يكثر من هؤلاء اتباع الهوى، وإرضاء الناس رعاة كانوا أو رعية، وقد حذر الله تعالى من ذلك، فقال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49]. إنَّ هذا الصنف من المفتين عزيز ليس في زماننا فحسب، بل وفيما مضى من الأزمنة، كما قال سفيان الثوري -رحمه الله-: "ما من الناس أعزُّ من فقيه ورع" (¬1). إذ العلم الحقيقي هو ما أورث الخشية من الله، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. وقال ابن القيم -رحمه الله-: "ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي لا العلمي المجرد إلى ملهِم الصواب، ومعلم الخير وهادي القلوب؛ أن يلهمه الصواب، ويفتح له طريق السداد، ويدلَّه على حكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة، فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق، وما أجدر مَنْ أَملَ فضلَ ربه أن لا يحرمه إيَّاه، فإذا وجد في قلبه هذه الهمَّة فهي طلائع بشرى التوفيق، فعليه أن يوجه وجهه، ويحدق نظره إلى منبع الهدى ومعدن الصواب ومطلع الرشد، وهو النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة، فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النَّازلة منها، فإن ظفر بذلك أخبر به، وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار والإكثار من ذكر الله؛ فإنَّ العلم نور الله يقذفه في قلب عبده، والهوى والمعصية رياح عاصفة تطفئ ذلك النور أو تكاد، ولا بد أن تضعفه، وشهدتُ شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه إذا أعيته المسائل استصعبت عليه فرَّ منها إلى التوبة ¬

_ (¬1) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (2/ 340).

رابعا: تفهم النازلة وتصورها تصورا صحيحا دقيقا

والاستغفار، والاستغاثة بالله واللجوء إليه، واستنزال الصواب من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدًّا وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ، ولا ريب أن من وفق لهذا الافتقار علمًا وحالًا وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد، فقد أُعطي حظَّه من التوفيق، ومن حرمه فقد منع الطريق والرفيق" (¬1). رابعًا: تفهُّم النازلة وتصوُّرها تصوُّرًا صحيحًا دقيقًا: يَطرق المجتهد في نوازل الأقليات موضوعات لم تُطرق -غالبًا- من قبل بهذه الصورة، وإنما هي قضايا مستجدة يغلب عليها طابع العصر الحديث وتقنيات الحضارة المعاصرة التي لم تَدُرْ بخلد العلماء السابقين، ولا سيما في غير ديار الإسلام، والمفتي يلزمه ثلاثة أمور: 1 - تصوُّر المسألة تصوُّرًا صحيحًا؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. 2 - معرفة الأدلة الواردة فيها وكلام أهل العلم حولها. 3 - تنزيل هذه الأدلة على واقع المستفتي والسائل، وهي أصعبها. إن ما حفل به العصر من متغيرات هائلة في شتى مجالات المعرفة والعلم والتقنية لا يصلح معه أن يكون المجتهدون إزاءه في التباس أو تقليد أو انعزال، فترى كثيرًا منهم مترددين أو مؤثرين جانب الورع أو الخوف، أو سالكين الطريق الأسهل بالمنع منه، والتحذير والإحجام عن النظر فيه، فإذا ما دُهي به الناس وتعاطوه وأصبح جزءًا من واقعهم بدءوا ينظرون إليه بعين الاعتبار، ويتعاملون معه تعاملًا مختلفًا، بل المفترض أن يكون علماء الشرع -ولاسيما من كان منهم في تلك البلاد التي تسكنها الأقليات- أسبقَ الناس إلى فهم هذه المستجدات، ومعرفة تفاصيلها لإبداء حكم الشرع فيها، وأن يحملوا نوعًا من المبادرة في مثل ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 172 - 173).

هذه المسائل، لا أن يلوذوا بالصمت. والحاصل أن فهم واقع النازلة فهمًا صحيحًا من أهم المهمات، وأوجب الواجبات على العلماء والمفتين، ولأهمية هذا الضابط جاء في كتاب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: "إن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أُدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بالحق لا نفاذ له. . . ثم الفهمَ الفهمَ فيما أُدلي إليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال والأشباه، ثم اعمد إلى أحبها إلى الله فيما ترى وأشبهها بالحق. . . " (¬1). وقد شرح ابن القيم هذا الكتاب في إعلام الموقعين شرحًا حافلًا، ومما قال فيه: "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا، ومن تأمَّل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحةً بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه: البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب الشهادات، باب: لا يحيل حكم القاضي على المقضي له والمقضي عليه و. . .، (10/ 150)، وفي "معرفة السنن والآثار" (14/ 240)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/ 71)، من حديث أبي العوام البصري. قال ابن القيم في إعلام الموقعين: (1/ 86): هذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه. (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 87 - 88) باختصار.

خامسا: التأني واستشارة أهل الخبرة والاختصاص فيما أشكل

وينبغي للمفتي أن يتفطن من مقصود السائل، ويستفصل عما يحتاج إلى استفصال، فعند التفصيل يحصل التحصيل، وإجمال الفتوى عند الحاجة إلى التفصيل يجعل الحكم واحدًا لصور مختلفة تختلف الفتوى باختلافها، فيكون المفتي مجيبًا بغير الصواب. خامسًا: التأني واستشارة أهل الخبرة والاختصاص فيما أشكل: يَلزم المتصدرَ للفتيا أن يتثبت ويتحرى ويتأنى في النظر للمسألة من جميع جوانبها؛ لأن النظر القاصر ينشأ عنه من الغلط والوهم ما يُفسد الأديان ويُضَلُّ به بنو الإنسان، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "من أُفتي بغير علم -وفي رواية: بفتيا غير ثبت- كان إثمه على من أفتاه" (¬1). وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يُسأل عن المسألة فيتفكر فيها شهرًا، ثم يقول: "اللهم إن كان صوابًا فمن عندك، وإن كان خطأ فمن ابن مسعود" (¬2)، وقال -رضي الله عنه-: "من أفتى الناس في كل ما يسألونه فهو مجنون" (¬3). وقال الإمام مالك بن أنس -رحمه الله-: "إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن"، وقال أيضًا: "ربما وردت عليَّ المسألة فأفكر فيها ليالي" (¬4). كما أن من لوازم التثبت سؤالَ أهل الاختصاص فيما يتعلق بعلومهم، كأهل الطب والفلك والاقتصاد ونحوها؛ عملًا بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]. ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو داود، كتاب العلم، باب: التوقي في الفتيا، (3657)، وابن ماجه، المقدمة، باب: اجتناب الرأي والقياس، (53) -والرواية الثانية له-. زاد أبو داود لا رواية: "ومَن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره؛ فقد خانه". وصححه الحاكم (1/ 103، 126). (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 81) بتصرف واختصار. (¬3) أخرجه: الطبراني في "المعجم الكبير"، (8/ 106)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"، (2208، 2213). وصححه ابن القيم في "إعلام الموقعين"، (2/ 185). (¬4) ترتيب المدارك، للقاضي عياض، (1/ 178).

قال الخطيب البغدادي -رحمه الله-: "ثم يذكر المسألة لمن بحضرته ممن يصلح لذلك من أهل العلم ويشاورهم في الجواب، ويسأل كل واحد منهم عما عنده فإنَّ في ذلك بركةً واقتداءً بالسلف الصالح، وقد قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] وشاوَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في مواضعَ وأشياءَ (¬1) وأمر بالمشاورة وكانت الصحابة تتشاور في الفتاوي والأحكام" (¬2). وعن ابن وهب -رحمه الله- (¬3) قال: سمعت مالكًا -رحمه الله- يقول: "العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق، وكان يقال: التأني من الله، والعجلة من الشيطان، وما عجَّل امرؤ فأصاب، واتَّأد آخر فأصاب إلَّا كان الذي اتَّأد أصوبَ رأيًا، ولا عجَّل امرؤ فأخطأ، واتَّأد آخر فأخطأ إلا كان الذي اتَّأد أيسرَ خطأً" (¬4). وقد كان أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- يسألان الناس عما ليس لهما به علم، ويتحريان في ذلك، وفي الصحيحين حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في جمعِ عمرَ المهاجرين والأنصار لاستشارتهم في أمر الوباء الذي وقع بالشام ومحاجته لأبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنهما- (¬5). ¬

_ (¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة، (8/ 274): "ونبينا - صلى الله عليه وسلم - كان يشاور أصحابه وكان أحيانًا يرجع إليهم في الرأي، كما قال له الحباب يوم بدر: "يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أهو منزل أنزلكه الله تعالى، فليس لنا أن نتعداه، أم هو الحرب والرأي والمكيدة؟ فقال: بل هو الحرب والرأي والمكيدة. فقال: ليس هذا بمنزل قتال، قال: فرجع إلى رأي الحباب". وهذا الحديث أخرجه محمد بن إسحاق بن يسار (2/ 620 - ابن هشام) ومن طريقه أخرجه الطبري في تاريخ الأمم والملوك (2/ 29)، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، وضعَّفه الألباني في السلسلة الضعيفة، (3448). (¬2) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (2/ 390). (¬3) أبو محمد، عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي، الفهري، المصري الفقيه، روى عن أربعمائة عالم منهم: مالك، والليث، وابن أبي ذئب، وروى عنه أصبغ بن الفرج، وسحنون، وأحمد بن صالح، من مصنفاته: الجامع الكبير، والأهوال، وتفسير الموطأ، وغير ذلك، ولد سنة 125 هـ، وتوفي سنة 197 هـ. تهذيب الكمال، للمزي، (16/ 277)، والديباج المذهب، لابن فرحون، (1/ 413). (¬4) أخرجه البيهقي في "المدخل"، (ص 437)، وذكره ابن مفلح في "الآداب الشرعية"، (2/ 65). (¬5) أخرجه: البخاري، كتاب الطب، باب: ما يذكر في الطاعون، (5729)، ومسلم، كتاب السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، (2219).

وعن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر -رضي الله عنه- إذا وَرَدَ عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الأمر سنة قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في ذلك بقضاء فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه قضاء فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا - صلى الله عليه وسلم - فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمعَ رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به (¬1). وقال أبو حصين الأسدي -رحمه الله- (¬2): "إنَّ أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر" (¬3). قال البخاري -رحمه الله-: "وكانت الأئمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. . . وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولًا كانوا أو شبابًا وكان وقَّافًا عند كتاب الله عز وجل" (¬4). ومما يلتحق بهذا عدمُ التسرع في النفي العام، كأن ينفي كلامًا عن إمام، أو ينفي ورود حديث أو صحته أو ضعفه، أو ينفي الخلاف ويدعي الإجماع، وكثيرًا ما يكون في المسألة خلاف؛ بل ربما يكون مشهورًا. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) أبو حصين الأسدي، عثمان بن عاصم بن حصين، الإمام الحافظ، الأسدي الكوفي، روى عن جابر بن سمرة، وابن عباس، وابن الزبير -رضي الله عنهم-، وروى عنه أبو مالك الأشجعي، ومحمد بن جحادة، وشعبة، والثوري، قال ابن معين والنسائي وجماعة: أبو حصين ثقة. توفي سنة 128 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (6/ 160)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 412). (¬3) أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 416)، وقال: قال أبو شهاب: سمعت أبا حصين. (¬4) "صحيح البخاري"، كتاب الاعتصام بالكتاب، باب: قول الله تعالى "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ". . .، (4/ 376).

سادسا: التورع عن الفتيا ما أمكن، وترك التكلف

سادسًا: التورع عن الفُتيا ما أمكن، وترك التكلف: الفُتيا أمرها عظيم وخطرها جسيم، وقد تواتر عن الصحابة والتابعين وأئمة السلف مراعاة هذا الأمر والتأكيد عليه، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إذا أخطأ العالم أن يقول: لا أدري؛ فقد أُصيبت مقاتله" (¬1). وما أكثر ما ينبغي أن تقال: "لا أدري" في مثل نوازل الأقليات اليوم. وعن عقبة بن مسلم -رحمه الله- (¬2) قال: صحبت عبد الله بن عمر أربعة وثلاثين شهرًا، فكثيرًا ما كان يُسأل فيقول: لا أدري، ثم يلتفت إليَّ فيقول: تدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسرًا لهم إلى جهنم (¬3). وقال ابن أبي ليلى -رحمه الله- (¬4): "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما كان منهم محدث إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه الحديث، ولا مفتٍ إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه الفُتيا، يُسأل ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في "أخلاق العلماء"، تحقيق: إسماعيل بن محمد الأنصاري، نشر وتوزيع: رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، 1398 هـ - 1978 م، (ص 115) -ومن طريقه: الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقة" (1112) -، من حديث عبد الرزاق قال: كان مالك يذكر قال: كان ابن عباس يقول. . . فذكره. وأخرجه البيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى"، (813)، من حديث مالك بن أنس عن ابن عجلان قال: قال ابن عباس. . . فذكره. (¬2) أبو محمد، عقبة بن مسلم التجيبي، المصري، القاضي، إمام المسجد العتيق بمصر، روى عن عبد الله بن الحارث ابن جزء الزبيدي، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وروى عنه جعفر بن ربيعة الكندي، وحرملة بن عمران التجيبي، وحيوة بن شريح، توفي قريبًا من سنة عشرين ومئة. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (6/ 316)، وتهذيب الكمال، للمزي، (25/ 222) (¬3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، باب: ما يلزم العالم إذا سئل عما لا يدريه. . . (2/ 841) عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬4) أبو عيسى، عبد الرحمن بن أبي ليلى، واسمه يسار بن بلال بن بليل بن أحيحة بن الجلاح الإمام العلامة الحافظ الأنصاري الكوفي، الفقيه، حدَّث عن عمر، وعلي، وأبي ذر، وابن مسعود، وبلال، وروى عنه عمرو بن مرة، والحكم بن عتيبة، وحصين بن عبد الرحمن، توفي سنة 82 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (6/ 109)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 263).

أحدهم عن المسألة فيردَّها إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجعَ إلى الأول" (¬1). وعن ابن سيرين -رحمه الله-: أنه كان لا يفتي في الفروج بشيء فيه اختلاف (¬2). وقال سفيان الثوري -رحمه الله-: "أدركت الفقهاء وهم يَكرهون أن يجيبوا في المسائل والفُتيا حتى لا يجدوا بدًّا من أن يفتوا، وقال: أعلم الناس بالفتيا أسكتهم عنها، وأجهلهم بها أنطقهم" (¬3). وسئل مالك -رحمه الله- عن مسألة، فقال: لا أدري، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة فغضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] (¬4). وقال أحمد -رحمه الله- في رواية ابن منصور (¬5): "لا ينبغي أن يجيب في كل ما يُستفتَى فيه" (¬6). وقد قال أبو بكر الخطيب والصيمري (¬7) -رحمهما الله-: "من حرص على الفتوى وسابقَ إليها وثابرَ عليها قلَّ توفيقه واضطرب في أمره، وإذا ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي، المقدمة، باب: من هاب الفتيا، (1/ 248) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مقطوعًا، وقال محققه حسين سليم أسد: إسناده صحيح. (¬2) أخرجه الدارمي، المقدمة، باب: من هاب الفُتيا، (1/ 256) عن ابن سيرين مقطوعًا، وقال محققه حسين سليم أسد: إسناده صحيح. (¬3) الآداب الشرعية، لابن مفلح، (2/ 66 - 67). (¬4) المجموع، للنووي، (1/ 41). (¬5) أبو يعقوب، إسحاق بن منصور بن بهرام المروزي، نزيل نيسابور، الكوسج الإمام الفقيه الحافظ الحجة، هو أحد الأئمة من أصحاب الحديث من الزهاد والمتمسكين بالسنة، وهو صاحب المسائل عن أحمد بن حنبل، سمع سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، والنضر بن شميل، ويحيى بن سعيد القطان، ولد بعد السبعين ومائة، وتوفي سنة 251 هـ. طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، (1/ 303)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (12/ 258). (¬6) الآداب الشرعية، لابن مفلح، (2/ 62). (¬7) أبو القاسم، عبد الواحد بن الحسين بن محمد القاضي، الصيمري، نزيل البصرة، أحد أئمة المذهب، كان حافظًا للمذهب حسن التصانيف، ومن تصانيفه: الإيضاح فى المذهب نحو سبعة مجلدات، والكفاية، وكتاب في القياس والعلل، وكتاب صغير في أدب المفتي والمستفتي، وكتاب في الشروط، توفي بعد سنة 386 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 125)، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (3/ 339)

سابعا: التجرد من الهوى والغرض في السؤال والجواب

كان كارهًا لذلك غير مختار له ما وجد مندوحة عنه وقدر أن يحيل بالأمر فيه على غيره كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في جوابه وفتياه أغلب" (¬1). سابعًا: التجرد من الهوى والغرض في السؤال والجواب: وهذا ضابط مهم للغاية؛ إذ قد يدفع الهوى المستفتي إلى أن يصوغ السؤال بطريقة معينة ليحصل على الجواب الذي يريده، فلا ينبغي للمفتي أن يُستغفل، بل عليه أن يكون يقظًا للسؤال ولحال السائل، عالمًا بحيل الناس ودسائسهم حتى لا يغلبوه بمكرهم فيستخرجوا منه الفتاوي حسب أهوائهم. قال ابن عابدين -رحمه الله-: "وهذا شرط في زماننا وليحترز من الوكلاء في الخصومات فإنَّ أحدهم لا يرضى إلا بإثبات دعواه لموكله بأي وجه أمكن، ولهم مهارة في الحيل والتزوير، وقلبِ الكلام وتصوير الباطل بصورة الحق، فغفلة المفتي يَلزم منها ضرر عظيم في هذا الزمان" (¬2). فكيف بزماننا اليوم وبنوازل لا عهد لأحد بها؟! وقال ابن القيم -رحمه الله-: "فكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق، وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل، ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك، بل هو أغلب أحوال الناس" (¬3). ثم قال -رحمه الله-: "ينبغي للمفتي أن يكون بصيرًا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذرًا فطنًا فقيهًا بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ" (¬4). ¬

_ (¬1) صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان، (ص 11). (¬2) حاشية ابن عابدين، (8/ 30 - 31) بتصرف. (¬3) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 229). (¬4) المرجع السابق، (4/ 229).

ثامنا: أهلية المفتي للفتيا

وأما المفتي فإن تجرده من الهوى أشدُّ لزومًا من المستفتي؛ لأنه موقِّع عن الله تعالى مخبر بشرعه، فإن أفتى بهواه موافقة لغرضه أو غرض من يحابيه كان مفتريًا على الله؛ إذ سينسب باطله وإفكه إلى شريعة الله -عياذًا بالله- وقد قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116، 117]، وقال سبحانه: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]. ولقد كثر في زماننا من يُفتي بالباطل اتباعًا لهوى نفسه، أو هوى الحكام والمسئولين، أو هوى العامة والمستفتين. وقد يداخل الهوى بعضَ المفتين فيتعلق بالخلاف الوارد في المسألة ويُفتي بما يوافق هواه أو هوى مستفتيه آخذًا بأي قول قيل في المسألة، ولو كان مطَّرَحًا أو شاذًّا لا يُعَوَّل عليه أو لا يُعرف قائله، وربما علل باطله بدعوى التيسير ورفع الحرج وأنَّ الخلاف رحمة، وأنَّ من ابتلي بما فيه الخلاف فليقلد من أباح، مع أن تتبع الرخص فسق وزندقة، كما هو مشهور عند العلماء وأهل الأصول. وقد أحسن ابن القيم -رحمه الله- إذ قال: "لا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغرض، فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به ويفتي به ويحكم به، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر" (¬1). ثامنًا: أهلية المفتي للفتيا: لما كانت الفُتيا خبرًا عن الله وتوقيعًا عنه تعالى فلا بد للمتصدر لها من شروط تتحقق فيه؛ ليكون أهلًا للقيام بهذه المهمة العظيمة التي تولاها الله بنفسه، فقال: {يَسْتَفْتُونَكَ ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (4/ 211).

قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ. . .} [النساء: 176]. قال صالح بن أحمد (¬1): قلت لأبي: ما تقول في الرجل يُسْأَلُ عن الشيء، فيجيب بما في الحديث، وليس بعالم في الفقه؟ فقال: يجب على الرجل إذا حمل نفسه على الفُتيا أن يكون عالمًا بوجوه القرآن، عالمًا بالأسانيد الصحيحة، عالمًا بالسنة، وإنما جاء خلاف من خالف؛ لقلة معرفتهم بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها (¬2). وقيل لابن المبارك: متى يفتي الرجل؟ قال: إذا كان عالمًا بالأثر بصيرًا بالرأي. وقيل ليحيي بن أكثم (¬3): متى يجب لرجل أن يفتي؟ فقال: إذا كان بصيرًا بالرأي بصيرًا بالأثر. قال ابن القيم معلقًا: يريدان بالرأي القياس الصحيح والمعاني والعلل الصحيحة التي علق الشارع بها الأحكام، وجعلها مؤثرة فيها طردًا وعكسًا (¬4). ولهذا ذهب أكثر الأصوليين إلى أن المفتي هو المجتهد (¬5) وعبروا عن غير المجتهد بالمقلد وبالمستفتي. واشترطوا في المجتهد أن يكون صحيح العقل، عالمًا بكتاب الله -عز وجل- وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) أبو الفضل، صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد، الإمام المحدِّث الحافظ الفقيه القاضي، الشيباني البغدادي، قاضي أصبهان، سمع أباه، وتفقه عليه، ولد سنة 203 هـ، وتوفي سنة 266 هـ. طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، (1/ 462)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (12/ 529). (¬2) المرجع السابق، (1/ 46). (¬3) أبو محمد، يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن بن سمعان، التميمي، المروزي، قاضي القضاة البغدادي، الحنفي، الفقيه سمع من عبد العزيز بن أبي حازم، وابن المبارك، وعبد العزيز الدراوردي، حدث عنه الترمذي، وأبو حاتم، والبخاري خارج صحيحه، وإسماعيل القاضي، من مصنفاته: كتاب التنبيه، توفي سنة 242 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (2/ 340) وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (12/ 5). (¬4) المرجع السابق، (4/ 47). (¬5) البرهان، للجويني، (2/ 1332).

المطلب الثاني: ضوابط في أثناء استنباط الحكم على النازلة

والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، وسائر ما يعتري الألفاظ من وجوه الدلالات، ومن ذلك أيضًا: معرفة آثار الصحابة والإشراف على مسائل الخلاف والوقوف على مواضع الإجماع، والاطلاع على الفتاوي، ومعرفة اختلاف العلماء في لسان العرب، والإحاطة بوجوه الجمع والترجيح، ومعرفة القواعد الكليات الجامعة للجزئيات، والأصول التي تنطوي تحتها الفرعيات، ومعرفة الأشباه والنظائر، وملاحظة الفروق بين المسائل (¬1). فهذه جملة الآلة التي لا بدَّ منها للمجتهد حتى يصلح له النظر في المستجدات، ويعتبر له قول، وتُقبل له فتوى في نائبات المسائل والنوازل، والاجتهاد منصِبٌ يقبل التجزؤ على الصحيح من أقوال أهل العلم، وعليه لا يلزم المجتهد في الواقعة إلَّا أن يكون ملمًا بما تَرِدُ إليه من القواعد والأصول، عارفًا بما يختصُّ بها من الأخبار والأقوال. المطلب الثاني: ضوابط في أثناء استنباط الحكم على النازلة: سبق الكلام في المطلب الأول على بعض الضوابط التي يحتاجها الناظر في النوازل قبل الفُتيا في الواقعة، وفي هذا المطلب بيان لبعض الضوابط والآداب التي ينبغي أن تراعى أثناء استنباط حكم النازلة والفتيا فيها؛ ومن هذه الضوابط ما يلي: أولًا: أن يتطابق الاجتهاد مع ما يحقق العبودية لله رب العالمين: قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]. فالإسلام هو الاستسلام لله، والتجرد من متابعة غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والشريعة وضعت ليخرج المكلف من عبادة النفس والهوى إلى عبادة المولى جل وعلا، فإمَّا أن يكون المرء عبدًا لله، وإلا فهو عبد لغيره، وغيره قد يكون هواه، فكل من استكبر عن ¬

_ (¬1) الأم، للشافعي، (9/ 76 - 77).

عبادة الله لا بدَّ أن يعبد غيره (¬1). قال ابن القيم في النونية: هَرَبُوا مِنَ الرِّقِ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ ... فبُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ والشَّيْطَانِ ويدل لهذا قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23]. وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من انشغل بالدنيا ورضي بها وكانت هي محلَّ سعادته ومعقدَ ولائه وبرائه عابدًا لها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعْطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش. . ." (¬2). والعبادة ليست قاصرة على الشعائر، بل معناها جامع، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة (¬3). فالدين كله داخل في العبادة، ومن ثم فتصرفات المسلم كلها يجب أن تكون ضمن إطار العبادة، لأجل تحقيق العبودية لله رب العالمين، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بأصلين: 1 - أن لا يعبد إلا الله. 2 - أن لا يعبد الله إلا بما أمر وشرع (¬4). فلا يعبد الله بغير ذلك من الأهواء والظنون والبدع. ¬

_ (¬1) العبودية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، تحقيق: محمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 7، 1426 هـ - 2005 م، (ص 100). (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب الجهاد، باب: الحراسة في الغزو في سبيل الله، (2886، 2887)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬3) العبودية، لابن تيمية، (ص 44). (¬4) المرجع السابق، (ص 71).

ثانيا: عدم الخروج عن طريق السلف في فهم الأدلة

وبناء على هذا الضابط المهم فالاجتهاد يجب أن يتطابق مع مبدأ العبودية لله تعالى، وأن يكون ضابط العبودية منطلقًا في التعامل مع كافة ما يطرأ من نوازل ومستجدَّات، وألا يقصر مفهوم العبودية على الناحية الشعائرية فقط، بل لا بدَّ أن يتسع ليشمل نواحي المعاملات والأنكحة والجنايات، وغير ذلك مما يجب إدراجه ضمن مبدأ العبودية الإلهية (¬1). ثانيًا: عدم الخروج عن طريق السلف في فهم الأدلة: يجب على المجتهد في تعامله مع الأدلة أن يرجع لأقوال السلف، وكيفية فهمهم لها، وأن يكون فهمه موافقًا لمنهجهم، وألَّا يخرج عن أقوالهم، وألَّا يتكلم في مسألة ليس له فيها إمام، كما قال الإمام أحمد -رضي الله عنه-. وعلامة صحة اجتهاده أن يوافق السلف في فهمهم واجتهادهم، أما أن يشذ عنهم ويأتي بقول جديد لم يعرف عندهم، أو أنكروه على قائله، فإن ذلك عبث، وليس اجتهادًا. ويجب أن يعرف الخلاف الذي عدَّهُ السلف سائغًا من الخلاف الذي أنكروا فيه على المخالف. ثم إن منهج السلف هو منهج لهم في جملتهم، وبناء عليه فلا يصح أن يأتي بقول مهجور، أو لم تثبت نسبته إلى قائله فيقول به زاعمًا أن له فيه سلفًا، بل لا بدَّ من صحة ثبوته عن قائله، ومن كون الأدلة تحتمله، ومن كونه لم يُنْكَرْ على قائله من أئمة زمانه وعلماء عصره، فلا يقال مثلًا بحل نكاح المتعة؛ لأنه قول ابن عباس -رضي الله عنهما-، ويدَّعي أن ذلك ليس خارجًا عن منهج السلف؛ لأن هذا القول إن سلم أن ابن عباس -رضي الله عنهما- لم يرجعْ عنه فهو مخالف للأدلة الصريحة، وقد أنكره عليه غيره من الصحابة والتابعين والأئمة، فكيف وقد رجع عنه؟! فالمقصود أن منهج السلف لا يعني اعتماد قول مهجور أو ضعيف جدًّا لا يعدو أن ¬

_ (¬1) الاجتهاد المقاصدي. . حجيته. . ضوابطه. . مجالاته، د. نور الدين بن مختار الخادمي، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الدوحة، ط 2، 1998 م، (2/ 27)، معالم وضوابط الاجتهاد عند شيخ الإسلام ابن تيمية، لعلاء الدين رحال، (ص 306).

ثالثا: التحرر من الخوف وضغط الواقع الفاسد

يكون اجتهادًا أخطأ فيه صاحبه، فلا يحتج به على أنه من طريق السلف. ثالثًا: التحرر من الخوف وضغط الواقع الفاسد: إن مهمة الشرائع هي تصحيح الواقع الفاسد الذي يحياه الناس، ووضع المنهج الصحيح الذي يحكم الحياة والأحياء، ولا ينبغي أن تنقلب الصورة فيصبح الواقع الفاسد هو الحاكم على الشرع، وتصبح النصوص والأحكام الشرعية أداةً لتبرير الواقع الذي يعيشه الناس. والمجتهد لا بدَّ أن يتحرر من عقدة الخوف من ضغط الواقع الذي تردَّى الناس إليه، ويحاول أن يرتقي بهم إلى أفق الشرع الرحب السمح الذي يتناسب مع الفطرة السوية، ولا يصادم مصالح العباد ومنافعهم، كما لا ينبغي أن تكون اجتهاداته وفتاويه تبريرًا لهذا الواقع المنحرف، وتسويغًا لأباطيله، بأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان، ولا قام عليها من برهان. وقد يكون هذا التبرير ممن باعوا دينهم بدنياهم أو بدنيا غيرهم، أو قد يكون من مخلصين غيورين على دينهم، ولكن الواقع يضغط عليهم بقوة من حيث يشعرون، أو لا يشعرون، فهم يركبون الصعب والذلول لتطويع النصوص للواقع، على حين يجب أن يطوع الواقع للنصوص؛ لأن النصوص هي الميزان المعصوم الذي يُحتكم إليه ويُعَوَّلُ عليه. والواقع يتغير من حسن إلى سيئ، ومن سيئ إلى أسوأ أو بالعكس، فلا ثبات له ولا عصمة؛ ولهذا يجب أن يرد المتغير إلى الثابت، ويرد غير المعصوم إلى المعصوم، ويرد الموزون إلى الميزان (¬1). قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ¬

_ (¬1) الفتوى بين الانضباط والتسيب، للقرضاوي، (ص 82 - 84).

ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. وضغط الواقع ونفرة الناس عن الدين لا يُسوِّغ التضحية بالثوابت والمسلمات، أو التنازل عن الأصول والقطعيات، مهما بلغت مجتمعات الأقليات من تغير وتطور، فإن نصوص الشرع جاءت صالحة للناس في كل زمان ومكان. ولعل عقدة النقص تجاه الغرب وحضارته وفكره، والتقليد أو التبعية، فإن شئت قلت: العبودية لهذا التغريب المتعمد للمجتمع على أيدي نفر يعتبرون الغرب إمامًا يجب أن يُتَّبع، ومثالًا يجب أن يُحتذَى، وما كان من أفكارنا وقيمنا وتقاليدنا ونظمنا مخالفًا للغرب، اعتبروه عيبًا في حضارتنا ونقصًا في شريعتنا، ثم تبدأ المحاولات لتبرير هذا الوضع وإضفاء الشرعية عليه، واصطياد الشبهات، وتحريف الأدلة عن مواضعها؛ كل هذا هو أكبر دليل على الهزيمة النفسية والمروق من الدين شيئًا فشيئًا عندما يُفتح الباب للتنازل عن الحق من أجل إرضاء الباطل، أو الالتقاء معه في منتصف الطريق. ومما يلجأ إليه بعض المجتهدين والمفتين -تحت ضغط الواقع الفاسد- هو اللجوء إلى الحيل الباطلة لإضفاء الشرعية على المخالفات الصريحة الواضحة، وقد عقد ابن القيم أبوابًا كثيرة في كتابه "إعلام الموقعين" للرد على هذه الحيل الباطلة وتفنيدها ودحض شبهات مدعيها فأحسن وأجاد، ومما قاله: "فتعالى شارع هذه الشريعة الفائقة لكل شريعة أن يشرع فيها الحيل التي تُسقط فرائضه، وتُحِلُّ محارمه، وتُبطل حقوق عباده، ويفتح للناس أبواب الاحتيال وأنواع المكر والخداع، وأن يبيح التوصل بالأسباب المشروعة إلى الأمور المحرمة الممنوعة، وأن يجعلها مضغة لأفواه المحتالين، عرضة لأغراض المخادعين، الذين يقولون ما لا يفعلون، ويظهرون خلاف ما يبطنون" (¬1). ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 206).

وقال تحت باب "تجويز الحيل يناقض سدَّ الذرائع": "وتجويز الحيل يناقض سدَّ الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع يسدُّ الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليه بحيله، فأين من يمنع من الجائز خشيةَ الوقوع في المحرم، إلى من يعمل الحيلة في التوصل إليه؟ " (¬1). ولا يخفى أن هذا اللون من الاجتهاد لتبرير الواقع تحت دعوى التيسير ورفع الحرج له آثار سيئة على الدين وعلى الأمة، ومما لا خلاف عليه أن من مقاصد الشريعة الغراء: رفعَ الحرج وجلبَ النفع ودرءَ المشقة والضرر عن المسلم في الدارين، ولكن دون تسيب في الترخص، أو ردِّ بعض النصوص، وتأويلها بما لا يحتمل وجهًا في اللغة، أو في الشرع. ودعاة التغريب يجدون متكئًا قويًّا، وركنًا متينًا يلجئون إليه عندما يجدون من يبرر لهم دعاواهم باسم الاجتهاد لإضفاء الشرعية على فساد القيم وفساد التصور، فهم يريدون إسلامًا غربيًّا يناسب أهواءهم ويلتقي مع مصالحهم، فتارة يقولون: لا نأخذ بأقوال الأئمة والفقهاء، ولا الشراح والمفسرين، فإنها آراء بشر، ولا نأخذ إلا من الوحي المعصوم. فإن وافقتَهم على ذلك -افتراضًا- قالوا: إنا نأخذ ببعض الوحي دون بعضه. . . نأخذ بالقرآن، ولا نأخذ بالسنة، فإن فيها الضعيفَ والموضوعَ والمردودَ، أو نأخذ بالسنة المتواترة، ولا نأخذ بسنن الآحاد، أو نأخذ بالسنة العملية، ولا نأخذ بالسنة القولية!! فإن سلم لهم ذلك، قالوا: القرآن نفسه إنما كان يعالج أوضاع البيئة العربية المحدودة، وشؤون المجتمع البدوي الصغير، فلا بدَّ أن نأخذ ما يليق بتطورنا، وندع منه ما ليس كذلك!! فإذا قال القرآن: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] وإذا سَمَّى ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (3/ 159).

رابعا: أن يلتزم الشروط المقررة عند اختيار أحد المذاهب في المسألة

لحم الخنزير "رجسًا" قالوا: إنما قال القرآن ذلك في خنازير كانت سيئة التغذية، أما خنازير اليوم فليست كذلك، إنها خنازير عصرية، وليست خنازير متخلفة كخنازير العصور الماضية!! وإذا قال القرآن في الميراث: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، قالوا: إنما كان قبل أن تخرج المرأة للعمل، وتثبت وجودها في ميادين الحياة المختلفة. أما اليوم فقد أصبح لها شخصيتها واستقلالها الاقتصادي، فلزم أن ترث كما يرث الرجل، ولم يعد مجال للتفرقة بين الجنسيين!! وإذا قال القرآن: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، قالوا: إنما حرَّم القرآن ذلك في بيئة حارَّة، ولو نزل القرآن في بيئة باردة لكان له موقف آخر!! (¬1). رابعًا: أن يلتزم الشروط المقررة عند اختيار أحد المذاهب في المسألة: وهذه الشروط هي: 1 - أن يتبع القول لدليله ولا يختار من المذاهب أضعفها دليلًا، بل يختار أقواها دليلًا؛ لأن الفُتيا شرع عام على المكلفين، واتباع الشرع إنما يكون بالدليل، وليس اتباعًا للهوى، والأدلة يجب فيها اتباع الراجح، أما الحكم أو الفُتيا بما هو مرجوح فخلاف الإجماع. 2 - أن يجتهد ويستفرغ وسعه تمامًا في ألا يخالف الإجماع. 3 - أن لا يتبع أهواء الناس، بل يتبع الدليل والمصلحة المعتبرة شرعًا بشروطها (¬2). خامسًا: أن يستدل ثم يعتقد، ولا يعتقد ثم يستدل: فالواجب على المفتي أن يتصور المسألة جيدًا، ثم يستدل على حكمها بأدلة الشريعة ¬

_ (¬1) الفتوى بين الانضباط والتسيب، للقرضاوي، (ص 88 - 89). (¬2) الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام، للقرافي، (ص 92 - 93)، أصول الفقه، لأبي زهرة، (ص 403).

سادسا: ألا يجزم بأن هذا حكم الله إذا كان الجواب مبنيا على الاجتهاد

بالمنهجية المعتبرة عند أهل العلم، ثم يفتي بما ظهر له، وأما أن يتصور في ذهنه الجواب، ثم يبحث في الأدلة عما يوافق اعتقاده السابق، وربما يلوي أعناق النصوص؛ لتدل على ما يوافق اعتقاده فهذه خيانة للأمانة وإضلال للناس، وهو منهج أهل البدع والأهواء، الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويصرفون النصوص عن ظواهرها؛ لتوافق آراءهم وأهواءهم. قال ابن القيم -رحمه الله- ردًّا على من أوَّل حديثًا صحيحًا تأويلًا غير سائغ: "هذا لفظ الحديث وهو الأصح إسنادًا، وهو لا يحتمل ما ذكرتم من التأويل بوجه ما، ولكن هذا عمل من جعل الأدلة تبعًا للمذهب، فاعتقد ثم استدلَّ، وأما من جعل المذهب تبعًا للدليل، واستدلَّ ثم اعتقد لم يمكنه هذا العمل" (¬1). سادسًا: ألا يجزم بأن هذا حكم الله إذا كان الجواب مبنيًّا على الاجتهاد: إن المفتي التقي الورع لا يجزم بأن جوابه هو حكم الله في نفس الأمر إذا لم يكن عنده دليل قطعيٌّ، بل كان جوابه مبنيًّا على الظن والاجتهاد، وإنما يقول: هذا ما ظهر لي، أو نحو ذلك، ويعتقد أن رأيه صواب محتمل الخطأ، وأن رأي غيره خطأ محتمل الصواب. وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أميره بريدة -رضي الله عنه- أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله، وقال له: "فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك" (¬2). قال ابن القيم -رحمه الله-: "فتأمل كيف فرَّق بين حكم الله، وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يُسمى حكم المجتهدين حكمَ الله، ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حكمًا حكم به، فقال: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر! فقال: لا! بل اكتب: هذا ما رأى عمر، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر" (¬3). ¬

_ (¬1) زاد المعاد، لابن القيم، (5/ 268). (¬2) جزء من حديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث. . . (1731) من حديث بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه- مرفوعًا. (¬3) أخرجه: البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب آداب القاضي، باب: ما يقضي به القاضي. . .، (10/ 116)، =

وهكذا لا ينبغي أن يقول فيما أدَّاه اجتهاده، ولم يظفر فيه بنص عن الله ورسوله: هذا حلال وهذا حرام. ولهذا كان السلف يتورعون عن إطلاق الحرام على كثير من الأمور التي يرون تحريمها إذا لم تثبت بنص قاطع، وإنما يقولون: نكره كذا، لا ينبغي كذا، ونحو هذا، حتى لا يقع الواحد منهم فيما حذر الله منه وزجر عنه بقوله سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]. قال الإمام مالك -رحمه الله-: "لم يكن من أمر الناس، ولا مَنْ مضى مِنْ سلفنا، ولا أدركنا أحدًا ممن يُقتدَى به يقول في شيء: هذا حلال، وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، إنما كانوا يقولون: نكره كذا، ونرى هذا حسنًا، ينبغي هذا، ولا نرى هذا" (¬1). وقال ابن القيم -رحمه الله-: لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بأنه أحلَّ كذا، أو حرَّمه، أو أوجبه، أو كرهه، إلَّا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نصَّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على إباحته، أو تحريمه، أو إيجابه، أو كراهته، وأمَّا ما وجده في كتابه الذي تلقَّاه عمن قلده دينه فليس له أن يشهدَ على الله ورسوله به، ويغرَّ الناس بذلك، ولا علم له بحكم الله ورسوله. قال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحلَّ الله كذا، أو حرَّم الله كذا، فيقول الله له: كذبت لم أُحِلَّ كذا ولم أُحَرِّمْهُ. . . وسمعت شيخ الإسلام يقول: حضرت مجلسًا فيه القضاة وغيرهم فَجَرَتْ حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر، فقلت له: ما هذه الحكومة؟ فقال: هذا حكم الله، فقلت له: صار قول زفر هو حكم الله ¬

_ = وأبو جعفر أحمد ابن محمد بن سلامة الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، 1408 هـ - 1987 م، (9/ 214). (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 39).

سابعا: مراعاة الحال والزمان والمكان، أو فقه الواقع المحيط بالنازلة

الذي حكم به وألزم به الأُمَّة! قل: هذا حكم زفر، ولا تقل: هذا حكم الله (¬1). سابعًا: مراعاة الحال والزمان والمكان، أو فقه الواقع المحيط بالنازلة: قد تتغير الفُتيا بتغير الزمان والمكان إذا كان الحكم مبنيًّا على عرف البلد، ثم تغير العرف إلى عرف جديد لا يخالف النصوص الشرعية، كألفاظ العقود والطلاق واليمين، ونحوها. فعلى المفتي مراعاة هذا الأصل وضبطه، فربَّ فتوى تصلح لعصر دون عصر، ومصر دون مصر، وشخص دون شخص، بل قد تصلح لشخص في حال، ولا تصلح له في حال أخرى. ولعل من المهم أن نشير -مرة أخرى- إلى بعض الضوابط الهامة التي سبقت، والتي يجب أن تراعى عند تغير الأزمنة أو الأمكنة أو الظروف، مما يؤدي إلى تغير الفتيا، ومنها: 1 - أن الشريعة الإسلامية ثابتة لا تتغير بتغير الأحوال ومرور الزمان، وكون بعض الأحكام الشرعية تختلف بسبب تغير الزمان أو المكان أو العرف فليس معناه أن الأحكام مضطربة -عياذًا بالله- أو متباينة، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. وإنما ذلك لأن الحكم الشرعي لازمٌ لعلته وجارٍ معها، فيدور معها وجودًا وعدمًا، فإذا اختلفت الأحوال والأمكنة والأزمنة اختلفت العلل في بعض الأحكام، فيتغير الحكم بناءً على ذلك، وهو عين المصلحة والحكمة واليسر ورفع الحرج، وذلك من كمال الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان، ولله الحمد والمنة. 2 - إن تغير الفُتيا بتغير الزمان أو الكان أو العوائد والأعراف، ونحو ذلك، ليس خاضعًا للتشهي وأهواء الناس، وإنما يرجع لوجود سبب شرعي يدعو المجتهد إلى إعادة النظر في مدارك الأحكام، ومن ثم تتغير الفُتيا تبعًا لتغير مداركها نتيجةً لمصالح ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (4/ 175 - 176).

معتبرة شرعية، وأصول ثابتة مرعية؛ إذ الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، والشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها. 3 - إن تغير الفُتيا يجب أن يكون مقصورًا على أهل الفُتيا والاجتهاد من العلماء الربانيين الذين يخشون الله وينصحون لعباد الله، ويسيرون في دربهم على بصيرة واتباع، لا على هوى وابتداع، وليس لمن قصر باعه وقلَّ اطلاعه في العلم، ولا لمن بضاعته مزجاة أن يتصدر لذلك أو يمارسه، وإلا أفسد أكثر مما يصلح وأضلَّ الناسَ بغير علم، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144]، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]. وكلما كان المفتي أعلمَ بالشريعة وأصولها وقواعدها، وأعظمَ ممارسة، وأوسعَ اطلاعًا، وأخشى لله وأعلمَ به -كان اجتهاده أضبطَ ونظره أصوبَ. وكذلك كلما كان النظر جماعيًّا وتمهَّل الإنسان وتأنَّى وتثبَّت واستشار أهل الخبرة والاختصاص والنظر الصحيح كان أوفقَ للحق، فإن يد الله مع الجماعة {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83] (¬1). غير أنه لا يصح أن يُطْلَقَ العنانُ في ذلك للمفسدين والمبطلين ومتبعي الهوى؛ ليخالفوا النصوص والقواعد بحجة مراعاة العرف والزمان والمكان، أو ليتأولوا تأويلًا باطلًا متعسفًا، أو ليطوعوا الشريعة لواقع غير إسلامي بدعوى فهم الواقع، ومراعاة ¬

_ (¬1) بحث تغير الفتوى، د. محمد عمر بازمول، دار الهجرة، الثقبة، ط 1، 1415 هـ، (ص 56)، بحث تغير الفُتيا، د. الغطيمل، (ص 21 - 22)، بحث فقه الواقع، د. حسين الترتوري، (ص 71 - 114).

ثامنا: أن يذكر دليل الحكم في فتيا النازلة

العرف وتغير الزمان والمكان، بل لا يقوم بهذا إلا العالم الرباني الذي امتلأ قلبه بخشية الله، واتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتضلَّع من علوم الشريعة، وفَهِمَ هذا الضابطَ حقَّ الفهم، ولاحظ كيف طبقه الأئمة المتقدمون، وكيف كانوا يراعونه، وبالله التوفيق. ثامنًا: أن يذكر دليل الحكم في فتيا النازلة: وذلك لأن الحجة إنما هي في دليل الحكم، لا سيما إن كان من كتاب أو سنة أو قول صحابي، قال ابن القيم -رحمه الله-: "ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ما أمكنه ذلك، ولا يلقيه إلى المستفتي ساذجًا مجرَّدًا عن دليله ومأخذه، فهذا لضيق عطنه وقلة بضاعته من العلم، ومن تأمَّل فتاوي النبي - صلى الله عليه وسلم -الذي قوله حجة بنفسه- رآها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم ونظيره ووجه مشروعيته" (¬1). وقد ذهب كثير من العلماء إلى عدم مطالبة المفتي بذكر الدليل في فتياه (¬2). والظاهر أن هذا يختلف باختلاف حال المستفتي، وطبيعة الفتوى أو النازلة، فإذا كان السائل طالبَ علمٍ، أو له دراية بالأدلة وعلوم الشرع، أو طلب معرفة الدليل، فإنَّ المفتي يذكر له الدليل والحكمة من المشروعية تطمينًا لقلبه وزيادةً في علمه. وكذلك إذا كانت النازلة عامة تتعلق بالأُمَّة، أو تمسُّ مصالح المسلمين، أو ذات تفاصيل ومداخل ومخارج، فينبغي أن يذكر فيها الأدلة والحجج، ويبسط القول ويجيب عن الإشكالات، ونحو ذلك. أما إذا كان المستفتي عاميًّا لا يفقه معنى الدليل -ولا سيما إن كان من غير الكتاب والسنة- ولا وجه الاستدلال فلا حاجة لذكره له؛ لعدم الفائدة، وإنما يجيبه بما يحتاجه من ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 161). (¬2) صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان، (ص 84)، المجموع، للنووي، (1/ 52)، الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (2/ 406 - 407).

تاسعا: أن يذكر البدائل المباحة عند المنع

الحكم الشرعي. تاسعًا: أن يذكر البدائل المباحة عند المنع: وهذا الأدب له أصل من الكتاب والسنة، وعليه شواهد كثيرة. فمن القرآن الكريم: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104]، فلما نهاهم عن هذه الكلمة "راعنا" أرشدهم إلى ما يؤدي المعنى المراد مع السلامة من المحذور، فقال: {وَقُولُوا انْظُرْنَا}. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان" (¬1)، وهذا من أحسن البيان وأبلغه حيث نهاه عن شيء، وأرشده إلى البديل الصحيح، وبيَّن له الحكمة في النهي، فصلوات الله وسلامه على من أوتي جوامع الكلم. ولا ريب أن هذا الأمر له أهمية كبيرة في عصرنا حيث الانفتاح على معطيات الحضارة عبر وسائل الإعلام وغيرها، وهذه التقنيات فيها الكثير مما يخالف شريعتنا، ولا غرو في ذلك؛ إذ كانت قادمة من مجتمعات لا تراعي قيمًا ولا دينًا ولا أخلاقًا، وقد غزت هذه المستجدات بلاد المسلمين وانبهر بها كثير من الناس ومارسوها، فإذا ما نهاهم الفقيه عنها وبيَّن لهم أدلة المنع منها فلا بدَّ أن يرشدهم إلى البدائل المباحة، والوسائل المتاحة؛ ليوسع عليهم ولا يُوقعهم في حرج أو عنت، وهذا من كمال النصيحة للمسلمين. ¬

_ (¬1) أخرجه: مسلم، كتاب القدر، باب: في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، (2664)، وطرفه: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص. . ." الحديث.

عاشرا: أن يمهد لما قد يستغرب من أحكام

وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلَّا كان حقًّا عليه أن يدلَّ أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شرَّ ما يعلمه لهم. . ." (¬1)، وهذا شأن ورثة الأنبياء كذلك. عاشرًا: أن يمهد لما قد يُستغرب من أحكام: ومما يلتحق بما تقدم أنَّه ينبغي للمفتي أن يمهد للحكم المستغرب بما يجعله مقبولًا لدى المستفتي في النازلة. قال ابن القيم -رحمه الله-: "إذا كان الحكم مستغربًا جدًّا فينبغي للمفتي أن يوطئ قبله ما يكون مؤذنًا به، كالدليل عليه، والمقدمة بين يديه، فتأمَّل ذكره سبحانه وتعالى قصة زكريا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر الشبيبة وبلوغه السنَّ الذي لا يولد فيه لمثله في العادة، فذكر قصته مقدمة بين يدي قصة المسيح وولادته من غير أب، فإنَّ النفوس لمَّا آنست بولد بين شيخين كبيرين لا يولد لهما عادةً سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب" (¬2). حادي عشر: مراعاة الحكمة في الجواب، وإرشاد السائل إلى ما ينفعه: إذا سأل المستفتي عن مسألة لا نفعَ فيها، أو ستشغله عما هو أنفع، أو دلَّ جهله بما سأل عنه على جهله بما هو أخفى منه مع شدة الحاجة إليه، فإن على المفتي أن يُراعي هذه المقامات، ويهتم بما هو أنفعُ للسائل، وأصلح له في دينه ودنياه، وذلك من كمال فقهه ونصحه وربانيته، ولهذا الأصل شواهد من الكتاب والسنة، فقد قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فسألوه عن السبب في كون الهلال يبدو صغيرًا ثم يكبر، فعدل بهم إلى ما ينبغي أن يعرفوه ويسألوا عنه، وهذا يسمى "أسلوب الحكيم". وكذلك ورد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلًا قال: "يا رسول الله، إنا نركب البحر ¬

_ (¬1) أخرجه: مسلم، كتاب الإمارة، باب: وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، (1844)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-. (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 163).

ثاني عشر: سلامة الفتيا والجواب من الغموض والمصطلحات الخاصة

ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" (¬1)، فلما كان السائل جاهلًا بطهورية ماء البحر، فقد تحقق جهله بطعام البحر وميتته؛ فلذا أجاب عن سؤاله، وزاده بما يحتاج إليه مما عرف أنه يجهله. وقد ترجم البخاري -رحمه الله- لذلك في صحيحه، فقال: "باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله عنه"، ثم ذكر حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- "ما يلبس المحرم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا الخفاف، إلا أن لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل الكعبين" (¬2). فالسؤال عما يلبس المحرم، ولمَّا كان المُحَرَّمُ عليه أمورًا معينة، وبيانها أنفع ليجتنبها ويلبس ما عداها عدل إلى بيان ما يَجتنبُ المحرم لبسه. ثاني عشر: سلامة الفتيا والجواب من الغموض والمصطلحات الخاصة: لما كانت الفُتيا بيانًا للحكم الشرعي، وتحمل في طياتها تبليغًا للسائل وجب تقديمها بأسلوب بيِّنٍ واضح قويم، يفهمه السائل بلا التباس، ويدركه أوساط الناس، قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]. لذا كان من المتحتم أن تصاغ الفتوى بأسلوب محرَّرٍ رصين خالٍ من المصطلحات ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو داود، كتاب الطهارة، باب: الوضوء بماء البحر، (83)، والترمذي، أبواب الطهارة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في ماء البحر أنه طهور، (69)، وابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب: الوضوء بماء البحر، (386)، والنسائي، كتاب الطهارة، باب: ماء البحر (59)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (111)، وابن حبان (4/ 49، 12/ 62)، والحاكم (1/ 142). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب: كراهية التعري في الصلاة وغيرها، (364)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة. . . (1177) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا.

ثالث عشر: تغليب التيسير على التعسير، والتبشير على التنفير

التي يتعذر فهمها على المستفتي، وأن تكون واضحة الدلالة غيرَ موهمة. هذا وإن بعض المتصدرين للفتيا يعمد إلى حيلة لا تخفى؛ إذ يضمن فتواه عدة أقوال ليقحم فيها آراء معينة يريد أن ينشرها بين الناس، ولا يسلك جادة أهل العلم بتزييفها وبيان تهافتها، بل يترك الأقوال مطلقة مرسلة بدون ترجيح، وقد يصرح للسائل بأن له أن يختار ما شاء من الأقوال؛ إذ من ابتلي بشيء مما اختلف فيه فليقلد من أباح! أو الخلاف رحمة! ولا إنكار في مسائل الخلاف! وهذا إنما يزين باطله بهذه القواعد، ويتعمد الغموض في الفتوى، وعدم الوضوح فيها؛ ليسهل عليه التخلص من تتبع الناصحين ونقدهم، والله عند لسان كل قائل وقلبه! ثالث عشر: تغليب التيسير على التعسير، والتبشير على التنفير: إن التكليف في شريعة الإسلام بحسب الطاقة والوسع، وإن طاقات الناس تتفاوت، وظروفهم تختلف؛ ولهذا راعى الشرع الأعذار والضرورات، وجعل لها أحكامها الخاصة، حتى إنه ليبيح بها المحظورات، ويُسقط الواجبات (¬1). وشريعتنا تتميز بالوسطية واليسر؛ ولذا ينبغي للناظر في أحكام النوازل -ولا سيما نوازل الأقليات المسلمة- من أهل الفُتيا والاجتهاد أن يكون على الوسط المعتدل بين طرفي التشدد والانحلال، كما قال الشاطبي -رحمه الله-: "المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم إلى مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مرَّ أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين، خرج عن قصد الشارع؛ ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذمومًا عند العلماء الراسخين، فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة ¬

_ (¬1) الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، د. يوسف القرضاوي، دار الصحوة للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 3، 1414 هـ - 1994 م، (ص 189).

الخلق، أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضًا؛ لأن المستفتي إذا ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين وأدَّى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة، وهو مشاهد، وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي على الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلك، والأدلة كثيرة" (¬1). لهذا ينبغي للمفتي أن يراعي حالة المستفتي، أو واقع النازلة، فيسير في نظره نحو الوسط المطلوب باعتدال لا إفراط فيه نحو التشدد، ولا تفريط فيه نحو التساهل وفق مقتضى الأدلة الشرعية وأصول الفُتيا. فالعلم هو العاصم من الحكم بالجهل، والورع هو العاصم من الحكم بالهوى، والاعتدال هو العاصم من الغلو والتفريط، وهذا الاتجاه هو الذي يجب أن يسود، وهو الاتجاه الشرعي الصحيح، وهو الذي يدعو إليه أئمةُ العلم المصلحون (¬2). وهذا الرأي يؤكده الإمام الشاطبي -وغيره- حيث يقول في فصل "الوسطية في الفتوى": "فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفُتيا بإطلاق مضادًّا للمشي على التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضادٌّ له أيضًا، وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد، فلا يجعل بينهما وسطًا، وهذا غلط، والوسط هو معظم الشريعة وأمُّ الكتاب، ومن تأمَّل موارد الأحكام بالاستقراء التامِّ عَرف ذلك، وأكثر مَن هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية، بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي، بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه، وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى، وليس بين التشديد والتخفيف واسطة، وهذا قلب للمعنى المقصود من الشريعة، وقد تقدَّم أن ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 258 - 259) باختصار. (¬2) الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، (ص 234).

رابع عشر: احترام العلماء وتقدير اجتهادات المخالفين

اتباع الهوى ليس من المشقَّات التي يترخص بسببها، وأن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى، وأن الشريعة حَمْلٌ على التوسط، لا على مطلق التخفيف، وإلا لزم ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ومخالفة للهوى، ولا على مطلق التشديد، فليأخذ الموفق من هذا الموضوع حذره، فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه" (¬1). رابع عشر: احترام العلماء وتقدير اجتهادات المخالفين: مضت السنة حميدةً بين أهل العلم برعاية أقدار العلماء وصيانة حرماتهم، والكفِّ عن أعراضهم، ومعرفة الرجال بالحق، لا الحق بالرجال، مع حسن الظن وتقديم العذر، والاعتذار عن المخطئ من أهل العلم. وكان الحرص على الجماعة ووحدة الصف شعارهم ودأبهم وديدنهم؛ وذلك من لدن الصحابة وإلى يوم الناس هذا؛ وكان من الصحابة من يصلي خلف من لا يتوضأ من أكل لحم الجزور، ولا من خروج الدم بالحجامة، ولا من أكل ما مسته النار مع أن مذهبه بخلاف ذلك. وصلَّى الرشيد إمامًا وقد احتجم ولم يتوضأ، وصلى خلفه أبو يوسف، ولم يُعِدِ الصلاة مع أن الحجامة عنده تنقض الوضوء، وكان أحمد يرى نقض الوضوء من الرعاف والحجامة، فقيل له: إن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل يُصلِّي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف مالك، وسعيد بن المسيب؟! وكان أهل العلم يتبادلون الثناء والاحترام والإكرام والدعاء بظهر الغيب؛ فيقدر التلميذ شيخه، ويثني الشيخ على تلميذه، ويدعو كل منهما للآخر. فإذا اختلفوا فبأدب جمٍّ وبتقدير متبادل؛ قال الشافعي -رحمه الله- ليونس الصدفي -رحمه الله- (¬2) ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 259 - 260). (¬2) يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة بن حفص بن حيان الصدفي، أبو موسى المصري، أحد أصحاب الشافعي وأئمة الحديث، ولد سنة 170 هـ، وتوفي سنة 264 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 99)، وطبقات =

المطلب الثالث: الطريقة العامة لاستنباط حكم النازلة

وقد تناظرا في مسألة فلم يتفقا، فلما التقيا أخذ الشافعي بيده، وقال: "يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة؟ " (¬1). وعليه فلو أن مفتيًا فردًا أو مجمعًا فقهيًّا أفتى فتيا في شأن نوازل الأقليات وكانت خطأ لسبب أو لآخر -فإن هذا لا يُعَدُّ بذاته سببًا كافيًا للقدح في دين أحد أو تجريحه، فضلًا عن أن القطع في مثل هذه الفتاوي بالخطأ أمر ليس باليسير؛ وذلك لما يحتفُّ بواقع تلك المسائل، وحال أهلها من أمور تلتبس وتخفى على كثيرين؛ مما قد يتطرق معه الخطأ في الفتيا من جهة تصويرها أو تكييفها أو تطبيق الأدلة عليها. فلا غنى عن الانضباط بأدب الخلاف، والورع عن الوقوع في أعراض العلماء، مع بيان الحق بدليله من غير إقذاع في عبارة، أو غمز في إشارة. المطلب الثالث: الطريقة العامة لاستنباط حكم النازلة: إن استباط حكم النوازل ولا سيما في بلاد الأقليات من أدقِّ مسالك الفقه وأصعبها؛ لأن الوقائع التي تحدث للأفراد والمجتمعات لا تتناهى صورها، ولا تقف أنماطها عند حد معين، وتزداد صعوبة هذا الفقه مع تعاقب الأجيال، وتطور الأعصار وسرعة التغير في معطيات الحضارة والتداخل الشديد بين الشعوب والمجتمعات، وعولمة الأعراف والعادات مما جعل الناظر في النوازل يَطرق أبوابًا لم تُطرق من قبل، ولا تُفتحُ هذه الأبواب -غالبًا- إلا بجهد مضاعف ودراسة وافية عميقة متكاملة. وأكثرُ ما يحدث في ساحة الإفتاء المعاصرة من غلط وخلط إنما هو في الغالب من خطأ التصور للنازلة، أو التقصير في معرفة التكييف الصحيح لها، ومعلوم أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ¬

_ = الشافعية، لابن السبكي، (2/ 171). (¬1) ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء، (10/ 16).

فإذا فسد التصور فبدهي أن يفسد الحكم؛ ولهذا قال الحجوي -رحمه الله-: "أكثر أغلاط الفتاوي من التصور" (¬1). ومهما كان علم المفتي بالنصوص ومعرفته بالأدلة فإن هذا لا ينتج الحكم الصحيح ما لم يؤيد بمعرفة الواقع وفهمه على حقيقته وحسن تصوره. وعليه فإن الناظر في نازلة من النوازل عليه أن يسلك المنهج الآتي بخطواته الثلاثة: أولًا: التصور، ثانيًا: التكييف، ثالثًا: التطبيق (¬2). قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "جميع المسائل التي تحدث في كل وقت سواء حدثت أجناسها أو أفرادها يجب أن تُتَصور قبل كل شيء، فإذا عُرفت حقيقتها وشُخصت صفاتها، وتصورها الإنسان تصورًا تامًّا بذاتها ومقدماتها ونتائجها طُبقت على نصوص الشرع وأصوله الكلية؛ فإن الشرع يحلُّ جميع المشكلات: مشكلات الجماعات والأفراد، ويحل المسائل الكلية والجزئية، يحلها حلًّا مرضيًا للعقول الصحيحة، والفطر السليمة. ويشترط أن ينظر فيه البصير من جميع نواحيه وجوانبه الواقعية والشرعية" (¬3). فهذه ثلاثة مدارك لا بدَّ لها من هذا الترتيب، فإن وقع خلل في أحدها نتج عنه ولا بدَّ خلل في الذي يليه، وصدق إياس بن معاوية (¬4) -رحمه الله- لما قال لربيعة بن أبي عبد الرحمن ¬

_ (¬1) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، لمحمد بن الحسن الحجوي الثعالبي، تحقيق: د. عبد العزيز القاري، المكتبة العلمية، المدينة المنورة، 1396 هـ، (4/ 571). (¬2) فقه النوازل، د. محمد حسين الجيزاني، (1/ 38). (¬3) الفتاوي السعدية، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مركز صالح ابن صالح الثقافي، عنيزة، ط 1، 1411 هـ، (7/ 137). (¬4) أبو واثلة، إياس بن معاوية بن قرة المزني، قاضي البصرة العلامة، روى عن سعيد بن المسيب، وأبيه، وأبي مجلز، ونافع، روى عنه ابن عجلان، وشعبة، وحماد بن سلمة، توفي سنة 121 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (2/ 282)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 155).

المدرك الأول: التصور

-رحمه الله-: "إن الشيء إذا بني على عوج، لم يكد يعتدل" (¬1). والمتأمل في كثير من الفتاوي المعاصرة الجانحة عن الصواب يجد أن الخطأ الرئيس فيها هو خطأ في تصورها، أو في إلحاقها بما يناسبها من أبواب الفقه ومسائله. وفيما يلي بيان مختصر لهذه المدارك الثلاثة: المدرك الأول: التصور: التصور أو التصوير هو حصول صورة الشيء في الذهن أو العقل، أو إدراك الماهية من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات (¬2). ولذا شاع أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره (¬3)، وقد يعبر عن هذا بقولهم: إن الحكم على الشيء بدون تصوره محال (¬4). وبلا شك فهو مقدَّم على أخويه وبدونه يُعَدُّ الإقدام على الحكم ضربًا من الخبط في عماية، وقاصمة من القواصم، وكثير من الناس يتوهم أن لديه التصور الصحيح مع أنه فاسد التصور سقيم الفهم على حد قول أبي الطيب: وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيْحًا ... وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيْمِ فلا بدَّ في تصور النازلة وفهمها فهمًا صحيحًا من الجمع بين أمرين: 1 - تصور النازلة في ذاتها. 2 - تصور ما يحيط بها من ملابسات وقرائن وأحوال. ولا يكفي الأول وحده، بل لا بدَّ من النظر في الثاني؛ إذ للقرائن والملابسات أعظم الأثر في تغير الحكم فليضبط هذا المقام جيدًا، وليحرر فإنه من الأهمية بمكان. ¬

_ (¬1) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (2/ 1140). (¬2) التعريفات، للجرجاني، (ص 199)، شرح الأخضري على السلم في المنطق، البابي الحلبي، 1948 م، (ص 24). (¬3) التقرير والتحبير شرح التحرير، لابن أمير الحاج، (3/ 24). (¬4) المرجع السابق، (2/ 110).

ثم إن تصور النازلة وفهمها فهمًا صحيحًا قد يتطلب استقراءًا نظريًّا وعمليًّا، وقد يفتقر إلى إجراء استبانة، أو جولة ميدانية، أو مقابلات شخصية، وربما احتاج الأمر إلى معايشة ومعاشرة. وربما كان سؤال أهل الشأن والاختصاص كافيًا، كمراجعة الأطباء في النوازل الطبية، والاقتصاديين في الأمور الاقتصادية، والسياسيين في الأمور السياسية، وهكذا (¬1). ومن هنا قال الخطيب البغدادي -رحمه الله-: "إن العلوم كلها أبازير (¬2) للفقه، وليس دون الفقه علم إلا وصاحبه يحتاج إلى دون ما يحتاج إليه الفقيه؛ لأن الفقيه يحتاج أن يتعلق بطرف من معرفة كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وإلى معرفة الجد والهزل، والخلاف والضد، والنفع والضر، وأمور الناس الجارية بينهم، والعادات المعروفة منهم، فمن شرط المفتي النظر في جميع ما ذكرناه، ولن يدرك ذلك إلا بملاقاةِ الرجال، والاجتماع مع أهل النحل والمقالات المختلفة، ومُسَاءَلَتِهِمْ وكثرة المذاكرة لهم، وجمع الكتب ودرسها، ودوام مطالعتها" (¬3). ويمكن أن يقال: إن تصور أي نازلة من النوازل لا بدَّ له من خطوات هي: 1 - الاستقصاء والتحري عن الدراسات السابقة وحول النازلة سواء أكانت هذه الدراسات شرعية، أم غير شرعية. 2 - النظر في جذور النازلة وتاريخ نشأتها، وهي من الأهمية بمكان، مع غفلة كثير عنها. 3 - البحث عن ظروف النازلة وبيئتها وأحوالها المحيطة بها، وهي الناحية الجغرافية. 4 - معرفة مدى انتشارها وحاجة الناس إليها وأهميتها. 5 - معرفة ما يترتب عليها من مصالح ومفاسد، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) سبل الاستفادة من النوازل والفتاوي، د. وهبة الزحيلي، (ص 7 - 8)، ضوابط الدراسات الفقهية، د. سلمان العودة، (ص 132 - 133). (¬2) أبازير: توابل، المعجم الوسيط، (1/ 82). (¬3) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (2/ 333 - 334).

المدرك الثاني: التكييف

6 - الرجوع إلى أهل الشأن والاختصاص، وسؤالهم عما يتعلق بهذه النازلة ومباحثتهم فيما يشكل من تفاصيلها (¬1)؛ فلا بدَّ من معرفة أصولها وفروعها وظروفها، ولا بدَّ كذلك من تحديث المعلومات؛ فإن الأساليب تتجدد وتختلف من عصر لآخر، وزماننا من أشد الأزمنة تغيرًا وتطورًا، وقد سمي بعصر السرعة -وهو كذلك- فلا يليق بالفقيه أن يكون بمعزل عن هذه التطورات والتغيرات، وإلا ضلَّ وأضلَّ، والله المستعان. هذا ما يتعلق بالمدرك الأول وهو التصور (¬2). وعليه فإن الحكم مثلًا على طفل الأنابيب، أو التأمينات في ديار الأقليات، أو الاستنساخ، ونحو ذلك موقوف بشكل أوليٍّ على فهم حقيقة هذه المصطلحات، وتصور مدلولها بشكل واضح. المدرك الثاني: التكييف: وهذا المصطلح وإن كان حديث الاستعمال إلا أن الفقهاء القدامى قد مارسوه تحت تسميات عدة، وألفاظ مختلفة، مع اتحاد المعنى مع "التكييف"، فقد أطلقوا عليه، حقيقة الشيء وماهيته، وطبيعته، والقياس، والتخريج الفقهي، والأشباه الفقهية. ومن أحسن التعريفات للتكييف الفقهي ما ذكره الدكتور محمد عثمان شبير بقوله: "هو تحديد حقيقة الواقعة المستجدة لإلحاقها بأصل فقهي خصَّه الفقه الإسلامي بأوصاف فقهية، بقصد إعطاء تلك الأوصاف للواقعة المستجدة عند التحقق من المجانسة والمشابهة بين الأصل والواقعة المستجدة في الحقيقة" (¬3). ¬

_ (¬1) فقه النوازل، للجيزاني، (1/ 44). (¬2) منهج استنباط أحكام النوازل، لمسفر القحطاني، (ص 366 - 367)، المدخل إلى فقه النوازل، د. عبد الناصر أبو البصل، (ص 3). (¬3) التكييف الفقهي للوقائع المستجدة وتطبيقاته الفقهية، للدكتور محمد عثمان شبير، دار القلم، دمشق، ط 1، 4251 هـ - 2004 م، (ص 30).

وكذلك ما استنبطه الدكتور مسفر القحطاني بقوله: "التصور الكامل للواقعة وتحرير الأصل الذي تنتمي إليه" (¬1). وكذا ما ذكره الدكتور محمد الجيزاني بقوله: "تصنيف المسألة تحت ما يناسبها من النظر الفقهي، أو يقال: هو ردُّ المسألة إلى أصل من الأصول الشرعية" (¬2). وقد عُرِّف التكييف بتعريفات أخرى كثيرة لا تخلو من انتقاد، أعرضنا عنها خشية الإطالة. ويتلخص من التعريفات المذكورة أن تكييف النازلة متوقف على تحصيل أمرين: 1 - حصول الفهم الصحيح والتصور التام للمسألة النازلة، كما مضى بيانه في المدرك الأول. 2 - أن يكون لدى الناظر المعرفة التامة بأحكام الفقه وقواعده، وهذا إنما يتأتَّى لمن استجمع شروط الاجتهاد. ولا شك أن التكييف الفقهي للنازلة من أهم خطوات استنباط حكمها؛ لأنه يضع الأمر النازل في إطار توصيف دقيق لواقع المسألة، مما يُعِين على إلحاقها بباب من أبواب الفقه تدرس في إطاره، ويُلْتَمَسُ حكمها في سياقه. والتكييف نوعان: بسيط ومركَّب. فالبسيط هو الجليُّ، وهو ما سهل فيه ردُّ النازلة إلى أصل فقهي واضح. والمركَّب هو ما أشكل فيه ردُّ النازلة إلى أصل فقهي معين، بل يتجاذب النازلةَ أكثرُ من أصل. ويمكن في هذا النوع دون النوع الأول أن تجعل النازلة مسألة مستقلة بذاتها بحيث ينظر إليها باعتبار أنها مركَّبة من عدة أصول، ولا تُرَدُّ إلى أصل معين من الأصول الفقهية المقررة ¬

_ (¬1) منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة، د. مسفر القحطاني، (ص 354). (¬2) فقه النوازل، للجيزاني، (1/ 47).

أولا: التكييف على نص شرعي من الكتاب أو السنة أو الإجماع

عند الفقهاء، فلا بدَّ أن يستقل بنظر خاص وحكم معين (¬1). أنواع التكييف الفقهي: إذا كان التكييف الفقهي مقاربًا لكلٍّ من القياس والتخريج والأشباه، فيمكن أن نستخلص أنواع التكييف الفقهي من خلال قراءة متأنية لكل من القياس والتخريج والأشباه، وهو يتنوع باعتبارات مختلفة إلى أنواع: 1 - النص والإجماع. 2 - التكييف على قاعدة كلية عامة. 3 - التكييف على نص فقهي لفقيه. 4 - الاستنباط (¬2). أولًا: التكييف على نصٍّ شرعي من الكتاب أو السنة أو الإجماع: الأصل أن يكون التكييف مبنيًّا على نصٍّ شرعي، وذلك إمَّا بدلالة العموم، أو المفهوم، أو الإيماء، أو الإشارة، أو القياس، أو يبنى على الإجماع، ومن أمثلته: الحكم بدخول الشَّعْرِ الصناعي (الباروكة) تحت قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله الواصلة والمستوصلة" (¬3). ثانيًا: التكييف على قاعدة كلية عامة: ولكل قاعدة كلية مناط وهو المعنى الذي يربط بين موضوعها وحكمها، فلا بدَّ ¬

_ (¬1) فقه النوازل، د. محمد الجيزاني، (1/ 49 - 50)، التكييف الفقهي، د. عثمان شبير، (ص 35 - 36). (¬2) فقه النوازل، د. محمد الجيزاني، (1/ 50 - 53)، التكييف الفقهي، د. عثمان شبير، (ص 32 - 34). (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب اللباس، باب: الوصل في الشعر، (5934)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة و. . .، (2123)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-، أن جارية من الأنصار تزوجت، وأنها مرضت، فتمعط شعرها، فأرادوا أن يَصِلوها؛ فسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال. . . فذكره. وفي الباب: عن أبي هريرة، وابن عمر، وأسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهم-.

ثالثا: التكييف على نص فقهي لفقيه

للفقيه من تحقيق المناط في تكييف الوقائع على القواعد الكلية، أي: التحقق من وجود المعنى الذي يربط بين الموضوع والحكم الكلي في الفرع، كما أنه لا بدَّ من مراعاة المآلات فينظر في الظروف المحتفَّةِ بالفرع مما لم تتعرض له القاعدة، ويُراعي تلك الظروف وما يترتب عليها من نتائج عند التكييف الفقهي للواقعة المستجدة على القاعدة الكلية. ومن أمثلة هذا النوع: مشروعية السعي فوق سطح المسعى عملًا بالقاعدة الفقهية: "الهواء يأخذ حكم القرار". ثالثًا: التكييف على نصٍّ فقهي لفقيه: نصُّ الفقيه: هو الحكم الذي دلَّ عليه بلفظ صريح، أو فهمه أصحابه من طريق دلالة الاقتضاء أو التنبيه أو الإيماء. ويمكن التَّعَرُّف على نصوص الفقهاء من خلال كتبهم، أو نقل تلاميذهم عنهم، وقد يختلف النقل فيصار إلى الترجيح على المنهج الذي بينه أصحاب هذا الفقيه وأتباعه، ويكون الراجح نصًّا للفقيه ومذهبًا له (¬1). ومن أمثلته: جواز ما يسمَّى بـ (البوفيه المفتوح) تخريجًا على صور إجازة الفقهاء الانتفاع بالحمامات مع تفاوت استهلاك المياه والصابون وغيرها وثبات الأجرة. رابعًا: التكييف عن طريق الاستنباط: أي: استخراج الحكم بالاجتهاد، وقد يستخرجه عن طريق الاستصلاح، أو سدِّ الذرائع، أو الاستحسان، أو نحو ذلك من الطرق. ومن أمثلته: الحكم بجواز عقود التوريد والمقاولات والصيانة ونحوها؛ استصلاحًا أو استحسانًا؛ لدفع حرج أو مشقة ونحوها. ¬

_ (¬1) تحرير المقال فيما تصح نسبته للمجتهد، د. عياض السلمي، مطابع الإشعاع، السعودية، ط 1، 1415 هـ، (ص 19).

ومنهج الاستنباط ذكره الزركشي -رحمه الله- فقال: "اعلم أنه حق على المجتهد أن يطلب لنفسه أقوى الحجج عند الله ما وجد إلى ذلك سبيلًا؛ لأن الحجة كلما قويت أمن على نفسه من الزلل، وما أحسن قول الشافعي في الأم: وإنما يؤخذ العلم من أعلى. وقال -فيما حكاه عنه الغزالي في المنخول-: إذا وقعت الواقعة فليعرضها (المجتهد) على نصوص الكتاب، فإن أعوزه فعلى الخبر المتواتر، ثم الآحاد، فإن أعوزه لم يخض في القياس، بل يلتفت إلى ظواهر الكتاب، فإن وجد ظاهرًا نظر في المخصصات من قياس وخبر، فإن لم يجد مخصصًا حكم به، وإن لم يعثر على ظاهر من كتاب ولا سنة نظر إلى المذاهب فإن وجدها مجمعًا عليها اتبع الإجماع، وإن لم يجد إجماعًا خاض في القياس، ويلاحظ القواعد الكلية أولًا ويقدمها على الجزئيات. . . فإن عدم قاعدة كلية نظر في النصوص ومواقع الإجماع، فإن وجدها في معنى واحد ألحق به، وإلا انحدر إلى قياس مخيل، فإن أعوزه تمسك بالشبه، ولا يعول على طرد. قال الغزالي: هذا تدريج النظر على ما قاله الشافعي، ولقد أخر الإجماع عن الأخبار، وذلك فيه تأخير مرتبة لا تأخير عمل؛ إذ العمل به مقدم، ولكن الخبر مقدم في المرتبة عليه فإنه مستند قبول الإجماع (¬1). وخالف بعضهم فقال: الصحيح أن نظره في الإجماع يكون أولًا؛ إذ النصوص يحتمل أن تكون منسوخة، ولا كذلك الإجماع، وإنما قدَّم الشافعيُّ النصَّ على الظاهر تنبيهًا على أنه يطلب من كل شيء ما هو الأشرف، فأوَّل ما يطلب من الكتاب والسنة النص، فإن لم يجد فالظاهر، فإن لم يجد في منطوقها ولا مفهومها رجع إلى أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم في تقريره بعض أمته، فإن لم يجد ¬

_ (¬1) المنخول، للغزالي، (ص 466 - 467).

المدرك الثالث: التطبيق

نظر في الإجماع، ثم في القياس إن لم يجد الإجماع، وسكت الشافعي عما بعد ذلك، ولا شك أن آخرَ المراتبِ إذا لم يجد شيئًا الحكمُ بالبراءة الأصلية (¬1). المدرك الثالث: التطبيق: تطبيق الحكم على النازلة يراد به: تنزيل الحكم الشرعي على المسألة النازلة. ذلك أن تصور النازلة وفهمها فهمًا صحيحًا، ثم تكييفها من الناحية الفقهية يتعرف بهما على حكم النازلة المناسب لها، وهذا نظر جزئي خاص. أمَّا تنزيل هذا الحكم على النازلة فهو أمر آخر؛ إذ يحتاج ذلك إلى نظر كليٍّ عام، فلا بدَّ من مراعاة المصالح عند تطبيق الحكم على النازلة بحيث لا يفضي تحصيل المصلحة الجزئية إلى تفويت مصلحة عظمى. وعليه فإعطاء النازلة حكمًا خاصًّا بها لا بدَّ أن يُحَافَظَ معه على مقاصد الشريعة؛ ولهذا ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم -عليه السلام- مراعاة للمصلحة العليا (¬2). إن تنزيل الأحكام على النوازل ليس بالأمر الهين، وإنما يحتاج إلى فقه دقيق، ونظر وثيق، وقد أشار السبكي -رحمه الله- إلى الفرق بين الفقيه المطلق وهو الذي يصنف ويدرس، وبين الفقيه المفتي وهو الذي ينزل الأحكام الفقهية على أحوال الناس الواقعات، وذكر أن الفقيه المفتي أعلى رتبة من الفقيه المطلق، وأنه يحتاج إلى تبصر زائد على حفظ الفقه وأدلته (¬3). فلا بدَّ حينئذٍ من مراعاة مقاصد الشريعة ومصالحها وقواعدها الكلية والموازنة بين ¬

_ (¬1) البحر المحيط، للزركشي، (6/ 229 - 230). (¬2) أخرج البخاري، كتاب الحج، باب: فضل مكة وبنيانها، (1585)، ومسلم، كتاب الحج، باب: نقض الكعبة وبنائها، (1333)، من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت، ثم لبنيته على أساس إبراهيم -عليه السلام-؛ فإنَّ قريشًا استقصرت بناءَه، وجعلت له خَلفًا". (¬3) الرد على من أخلد إلى الأرض، للسيوطي، (ص 179).

المطلب الرابع: الاستنباط بالرد إلى الأدلة الشرعية وضوابطه

المصالح والمفاسد، والنظر إلى المآلات وتقدير حالات الضرورة وعموم البلوى، واعتبار الأعراف والعادات، واختلاف الأحوال والظروف والزمان والمكان، إلى غير ذلك. فإنْ عَجَزَ الفقيه عن الوصول إلى حكم في النازلة فإن عليه التوقف حتى يجد فيها مخرجًا، وينتهي إلى قول محدد فيها، فإن كانت مسألة تضيق وقت العمل بها جاز له أن يُقلد فيها أوثق العلماء عنده علمًا ودينًا. قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "ومن أشكل عليه شيء لزمه الوقوف، ولم يجز له أن يحيل على الله قولًا في دينه لا نظير له من أصل، ولا هو في معنى أصل، وهذا الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديمًا وحديثًا، فتدبَّرْهُ" (¬1). المطلب الرابع: الاستنباط بالرد إلى الأدلة الشرعية وضوابطه: الأدلة الشرعية التي تفيد في استثمار الأحكام واستنباطها معلومة مشهورة، وطريق الاستنباط منها مذكورة ومعروفة؛ قال الشافعي -رحمه الله-: "نعم يحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليها التي لا اختلاف فيها، فنقول لهذا: حكمنا بالحق في الظاهر والباطن، ويحكم بالسنة التي قد رُوِيَتْ من طريق الانفراد لا يجتمع الناس عليها؛ فنقول: حكمنا بالحق في الظاهر؛ لأنه يمكن الغلط فيمن روى الحديث، ونحكم بالإجماع، ثم القياس، وهو أضعف من هذا، ولكنها منزلة ضرورة؛ لأنه لا يحلُّ القياس والخبر موجود" (¬2). فهذه الأدلة هي المصادر الأصلية، وهي متفق عليها في الجملة -بحمد الله- وكلها يعود إلى كتاب الله تعالى، كما قال الشافعي -رحمه الله-: "فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها" (¬3). ¬

_ (¬1) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (2/ 848). (¬2) الرسالة، للشافعي، (ص 599). (¬3) المرجع السابق، (ص 20).

أولا: الكتاب والسنة (النصوص)

ثم تأتي الأدلة التي اختلف فيها في رتبة ثانية بعد الأصول الأربعة المذكورة، وتُسمَّى المصارد الفرعية وأهمها: الاستحسان، والاستصلاح، والعرف، والاستصحاب، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، وسدُّ الذرائع، وغير ذلك. وفيما يأتي بيان تلك المصادر الأصلية والفرعية، مع ذكر أسباب الرد إليها لدى استنباط أحكام النوازل وعمل المجتهد فيها بالاستنباط. أولًا: الكتاب والسنة (النصوص): لا اختلاف أن القرآن والسنة هما الأصلان المعصومان والوحيان المطهران، وهما المشتملان على أدلة الأحكام من غير نقصان، وعمل المجتهد فيهما على ثمانية أقسام ذكرها الماوردي -رحمه الله- فقال: أحدها: ما كان الاجتهاد مستخرجًا من معنى النص: كاستخراج علَّة الربا من البُرِّ، فهذا صحيح عند القائلين بالقياس. ثانيها: ما استخرجه من شبه النص: كالعبد في ثبوت ملكه؛ لتردد شبهه بالحُرِّ في أنه يملك؛ لأنه مكلَّف، وشبهه بالبهيمة في أنه لا يملك؛ لأنه مملوك، فهو صحيح غير مدفوع عند القائلين بالقياس والمنكرين له، غير أن المنكرين له جعلوه داخلًا في عموم أحد الشبهين، ومن قال بالقياس جعله ملحقًا بأحد الشبهين. ثالثها: ما كان مستخرجًا من عموم النص: كالذي بيده عقدة النكاح في قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاح} [البقرة: 237] يعم الأب والزوج، والمراد به أحدهما، وهذا صحيح يتوصل إليه بالترجيح. رابعها: ما استخرج من إجمال النص: كقوله تعالى في المتعة: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]؛

خامسها: ما استخرج من أحوال النص

فيصح الاجتهاد على قدر المتعة باعتبار حال الزوجين. خامسها: ما استخرج من أحوال النص: كقوله تعالى في المتمتع: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]؛ فاحتمل صيام الثلاثة قبل عرفة، واحتمل صيام السبعة إذا رجع في طريقه، وإذا رجع إلى بلده، فيصح الاجتهاد في تغليب إحدى الحالتين على الأخرى. سادسها: ما استخرج من دلائل النص: كقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، فاستدللنا على تقدير نفقة الموسر بمُدَّين، بأن أكثر ما جاءت به السنة في فدية الآدمي أن لكِّل مسكين مُدَّين، واستدللنا على تقدير نفقة المعسر بمُدٍّ بأن أقلَّ ما جاءت به السنة في كفارة الوطء، أن لكل مسكين مُدًّا. سابعها: ما استخرج من أمارات النص: كاستخراج دلائل القِبلة لمن خفيت عليه، مع قوله تعالى: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]، مع الاجتهاد في القِبلة بالأمارات والدلالة عليها من هبوب الرياح ومطالع النجوم. ثامنها: ما استخرج من غير نص ولا أصلٍ: قال: واختلف أصحابنا في صحة الاجتهاد بغلبة الظن على وجهين: أحدهما: لا يصح حتى يقترن بأصل؛ لأنه لا يجوز أن يرجع في الشرع إلى غير أصل، وهو ظاهر مذهب الشافعي؛ ولهذا كان ينكر القول بالاستحسان؛ لأنه تغليب ظن بغير أصل. والثاني: يصح الاجتهاد به؛ لأن الاجتهاد في الشرع أصل، فجاز أن يُسْتَغْنَى عن أصل. وقد اجتهد العلماء في التعزير على ما دون الحد بآرائهم في أصله من ضرب وحبس، وفي تقديره بعشر جلدات في حال، وبعشرين في حال، وليس لهم في هذه

الفرع الأول: ضوابط الاستنباط من الكتاب والسنة

المقادير أصل مشروع. والفرق بين الاجتهاد بغلبة الظن وبين الاستحسان: أن الاستحسان يترك به القياس، والاجتهاد بغلبة الظن يستعمل مع عدم القياس (¬1). الفرع الأول: ضوابط الاستنباط من الكتاب والسنة: عند الاستنباط من نصوص الكتاب والسنة يتعين مراعاة الضوابط التالية: أولًا: تلقي نصوص الوحيين بالتسليم والتعظيم: أَمَرَ الله تعالى بالدخول في شرائع الإيمان كافَّةً، ونهى عن الإيمان ببعض والتكذيب ببعض، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] وأَمَرَ المؤمنين أن يقولوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، كما نعى القرآن على من آمن ببعض الكتاب أو الرسل وكفر ببعض. وفي الحديث: "إن القرآن لم ينزل يُكَذِّبُ بعضُهُ بعضًا؛ بل يُصَدِّقُ بعضُه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فَرُدُّوه إلى عالمه" (¬2). "فينبغي للمسلم أن يُقَدِّرَ قدرَ كلام الله ورسوله، فجميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس" (¬3). فكل ما أَمَرَ به الشارع أو نهى عنه، أو دلَّ عليه وأخبر به، فحقُّهُ التصديقُ والتسليم مع الإجلال والتعظيم، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} ¬

_ (¬1) أدب القاضي، لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري الشافعي، تحقيق: محيي السرحان، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1391 هـ، 1971 م (1/ 516)، البحر المحيط، للزركشي، (6/ 231 - 232)، إرشاد الفحول، للشوكاني، (2/ 1059). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) الإيمان، لابن تيمية، (ص 34) باختصار.

[الحج: 30]، وقال سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]. وما كان -من أَمْرِ الله- متعلِّقًا بعمل فحقُّهُ الامتثالُ والاتباع بلا تردد، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. والسنة صنو الكتاب في وجوب التسليم والتعظيم. قال الأوزاعي (¬1) (¬2) للزهري: يا أبا بكر، حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من لطم الخدود و. . ." (¬3)، و"ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حقَّ -وفي رواية: شرف- كبيرنا" (¬4)، وما أشبه من الحديث ما معناه؟ فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه فقال: "من الله -عز وجل- العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم" (¬5). وَوَرَدَ ذلك عن الزهري عقب روايته لحديث: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. . ." (¬6)، والحديث رواه الأوزاعي عن الزهري، ثم قال: فقلت للزهري: ما هذا؟ ¬

_ (¬1) في أصل الرواية "قال رجل للزهري"، قال ابن حجر: "وهذا الرجل هو الأوزاعي"، تغليق التعليق، (5/ 366). (¬2) أبو عمرو، عبد الرحمن بن عمرو، الأوزاعي، كان ثقة مأمونًا صدوقًا فاضلًا خيرًا كثير الحديث والعلم والفقه حجة، ولد سنة 88 هـ، وتوفي سنة 157 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (7/ 488)، وطبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 76). (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب الجنائز، باب: ليس منا من شق الجيوب، (1294)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، (103)، من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. (¬4) أخرجه: أبو داود، كتاب الأدب، باب: في الرحمة، (4943)، والترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في رحمة الصبيان، (1920) -واللفظ له-، من حديث عبد الله بن عمرو. قال الترمذي (1921): "حسن صحيح". وفي الباب: عن أنس بن مالك، وابن عباس، وأبي أمامة، وأبي هريرة -رضي الله عنهم-. (¬5) أخرجه أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد الخلال أبو بكر في السنة، تحقيق: د. عطية الزهراني، الناشر: دار الراية - الرياض، ط 1، (3/ 579) عن الزهري. (¬6) أخرجه: البخاري، كتاب الأشربة، باب: قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، (5578)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كماله، (57)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

ثانيا: جمع النصوص في الباب الواحد وإعمالها ما أمكن

فقال: "من الله العلم، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم، أَمِرُّوا أحاديثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما جاءت" (¬1)، زاد في لفظ: "من الله القول، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، أَمِرُّوا حديثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء بلا كيفٍ" (¬2)، وقال مَرَّةً: "وكانوا يُجْرُون الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما جاءت تعظيمًا لحرمات الله" (¬3). "والإنسان إذا علم أن الله تعالى أصدق قيلًا، وأحسن حديثًا، وأن رسوله هو رسول الله بالنقل والعقل والبراهين اليقينية، ثم وَجَدَ في عقله ما ينازعه في خبر الرسول، كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه، فإن العامِّيَ يصدق لأهل الاختصاص ما يقولونه دون اعتراض، وإن لم يتضح له وجهه، وإذا اتضح ازداد نورًا على نور. . . فكيف حال الناس مع الرسل وهم الصَّادقون المصدقون؛ بل لا يجوز أن يخبر الواحد منهم خلاف ما هو الحق في نفس الأمر" (¬4). ثانيًا: جمع النصوص في الباب الواحد وإعمالها ما أمكن: إن معقد السلامة من الانحراف أو الخطأ عند بحث نازلة وتفصيل أحكامها هو جمع ما وَرَدَ بشأنها من نصوص الكتاب والسنة على درجة الاستقصاء، مع تحرير دلالات كلٍّ، وتصحيح النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واعتماد فَهْمِ الصحابة والثقات من علماء السلف الصالح -رضي الله عنهم-، فإن بدا ما ظاهره التعارض بين نصوص الوحيين عند المجتهد -لا في الواقع ونفس الأمر- فينبغي الجمع بين هذه الأدلة بردِّ ما غمض منها واشتبه إلى ما ظهر منها ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني في حلية الأولياء، الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت، ط 4، (3/ 369) عن الزهري. (¬2) سير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 346). (¬3) الاعتقاد، للبيهقي، (ص 251). (¬4) درء التعارض، لابن تيمية، (1/ 141 - 142) باختصار وتصرف.

واتضح، وتقييد مطلقها بمقيدها، وتخصيص عامِّهَا بخاصِّهَا، فإن كان التعارض في الواقع ونفس الأمر فبنسخ منسوخها بناسخها -وذلك في الأحكام دون الأخبار؛ فإن الأخبار لا يدخلها نسخ- وإن لم يكن إلى علم ذلك من سبيل، فبردِّهِ إلى عالمه -تبارك وتعالى-. قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]. وفي الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نزل الكتاب الأول من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف، زاجرًا، وآمرًا، وحلالًا، وحرامًا، ومحكمًا، ومتشابهًا، وأمثالًا، فأحِلُّوا حلاله، وحرِّموا حرامه، وافعلوا ما أُمرتم به، وانتهوا عما نُهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمة، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا" (¬1). وإذا اتضح هذا؛ فإنه لا يجوز أن يؤخذ نص وأن يطرح نظيره في نفس الباب، أو أن تُعْمَلَ مجموعةٌ من النصوص وتُهْمَلَ الأخرى؛ لأن هذا مظنة الضلال في الفهم، والغلط في التأويل، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضًا" (¬2). وقال الشاطبي -رحمه الله-: "ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين، إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة، بحسب ما ثبت ¬

_ (¬1) أخرجه: ابن حبان في "صحيحه" (3/ 20)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 553)، والطبراني في "المعجم الكبير"، (9/ 26)، من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي، (2/ 212).

ثالثا: حجية فهم الصحابة والسلف الصالح

من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها. . . " (¬1). ومما يلتحق بهذا المعنى: جمعُ روايات الحديث الواحد، والنظر في أسانيده وألفاظه معًا وقبول ما ثبت، وطرح ما لم يثبت، وكما قيل: والحديث إذا لم تجمع طرقه لم تتبين علله، ثم النظر في الحديث بطوله وفي الروايات مجتمعة. وقد حكى الباقلاني الإجماع على منع التعارض بين الأدلة الشرعية في نفس الأمر مطلقًا، كما روى الخطيب البغدادي عنه ذلك، فقال: "يقول الباقلاني: وكل خبرين عُلِمَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم بهما، فلا يصح دخول التعارض فيهما على وجه، وإن كان ظاهرهما متعارضين؛ لأن معنى التعارض بين الخبرين والقرآن من أَمْرٍ ونهي وغير ذلك، أن يكون موجب أحدهما منافيًا لموجب الآخر، وذلك يبطل التكليف إن كانا أمرًا ونهيًا، وإباحة وحظرًا، أو يوجب كون أحدهما صدقًا والآخر كذبًا إن كانا خبرين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزه عن ذلك أجمع، ومعصوم منه باتفاق الأمة، وكل مثبت للنبوة" (¬2). ثالثًا: حجية فهم الصحابة والسلف الصالح: إذا كان الكتاب الكريم حَمَّالَ أوجهٍ في الفهم مختلفة؛ فإن بيان أصحاب نبينا - صلى الله عليه وسلم - له حجة وأمارة على الفهم الصحيح، فهم أبرُّ الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأصحها فطرة، وأحسنها سريرة، وأصرحها برهانًا، حضروا التنزيل وعلموا أسبابه، وفهموا مقاصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأدركوا مراده، اختارهم الله تعالى -على علم- على العالمين سوى الأنبياء والمرسلين، "فكل من له لسان صدق من مشهور بعلم أو دين، معترف بأن خير هذه الأمة هم الصحابة -رضي الله عنهم-" (¬3). ¬

_ (¬1) الاعتصام، للشاطبي، (1/ 244 - 245). (¬2) الكفاية، للخطيب البغدادي، (2/ 558). (¬3) شرح العقيدة الأصفهانية، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: سعيد بن نصر بن محمد، =

"فمن أخبرنا الله -عز وجل- أنه علم ما في قلوبهم، فرضي عنهم، وأنزل السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم، أو الشك فيهم البتة" (¬1). قال قتادة -رحمه الله- في قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6]: "أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). وقال سفيان -رحمه الله- في قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]: "هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -" (¬3). وفي منزلة علمهم واجتهادهم وفتاويهم قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: ". . . فعلموا ما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامًّا وخاصًّا، وعزمًا وإرشادًا، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع وعقل، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا، ومَنْ أدركنا ممن يُرضَى أو حكي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرقوا، وهكذا نقول، ولم نخرج عن أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله" (¬4). وأفضل علم السلف والخلف ما كانوا مقتدين فيه بالصحابة. يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "ولا تجد إمامًا في العلم والدين، كمالك، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ومثل: الفضيل (¬5)، ¬

_ = مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1422 هـ - 2001 م، (ص 211). (¬1) الفصل في الملل والأهواء والنحل، لعلي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، مكتبة الخانجي، القاهرة، (4/ 116). (¬2) أخرجه ابن جرير في تفسيره (20/ 352) عن قتادة. (¬3) تفسير ابن كثير، (6/ 201). (¬4) انظر: إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 80)، وعزاه للشافعي في الرسالة البغدادية القديمة. (¬5) أبو علي، الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر، الإمام القدوة الثبت، شيخ الإسلام، كان ثقة ثبتًا فاضلًا =

رابعا: الإيمان بالنصوص على ظاهرها، ورد التأويل المتعسف

وأبي سليمان (¬1)، ومعروف الكرخي (¬2)، وأمثالهم، إلا وهم مصرِّحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين بعلم الصحابة، وأفضل عملهم ما كانوا فيه مقتدين بعمل الصحابة، وهم يرون الصحابة فوقهم في جميع أبواب الفضائل والمناقب" (¬3). ثم إن التابعين وتابعيهم قد حصل لهم من العلم بمراد الله ورسوله ما هو أقرب إلى منزلة الصحابة ممن هم دونهم؛ وذلك لملازمتهم لهم، واشتغالهم بالقرآن حفظًا وتفسيرًا، وبالحديث رواية ودراية، ورحلاتهم في طلب الصحابة وطلب حديثهم وعلومهم مشهورة معروفة، "ومن المعلوم أن كل من كان بكلام المتبوع وأحواله وبواطن أموره وظواهرها أعلم، وهو بذلك أقوم، كان أحقَّ بالاختصاص به، ولا ريب أن أهل الحديث أعلمُ الأمة وأخصُّها بعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم -" (¬4). رابعًا: الإيمان بالنصوص على ظاهرها، وردُّ التأويل المتعسف: ويقصد بظاهر النصوص مدلولها المفهوم بمقتضى الخطاب العربي، لا ما يقابل النصَّ عند الأصوليين، والظاهر عندهم ما احتمل معنًى راجحًا وآخرَ مرجوحًا، ¬

_ = عابدًا ورعًا كثيرَ الحديث، حدَّث عن منصور، والأعمش، وبيان بن بشر، وحدَّث عنه ابن المبارك، ويحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن عيينة، توفي سنة 187 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (5/ 500)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (8/ 421). (¬1) أبو سليمان، عبد الرحمن بن أحمد بن عطية الداراني، الإمام الكبير، زاهد العصر، ولد في حدود الأربعين ومئة، روى عن سفيان الثوري، وأبي الأشهب العطاردي، وعبد الواحد بن زيد البصري، وروى عنه تلميذه أحمد ابن أبي الحواري، وهاشم بن خالد، وحميد بن هشام العنسي، توفي سنة 215 هـ. تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، (11/ 523)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (10/ 182). (¬2) أبو محفوظ، معروف بن الفيرزان، العابد المعروف بالكرخي، كان أحد المشتهرين بالزهد والعزوف عن الدنيا وأسند أحاديث كثيرة عن بكر بن خنيس، والربيع بن صبيح، وغيرهما، روى عنه خلف بن هشام البزاز، وزكريا بن يحيى المروزي، توفي سنة 200 هـ. تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، (15/ 263)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (9/ 339). (¬3) شرح العقيدة الأصفهانية، لابن تيمية، (ص 211 - 212). (¬4) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (4/ 91).

والنص هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا، "فلفظة الظاهر قد صارت مشتركة، فإن الظاهر في الفطر السليمة، واللسان العربي، والدين القيم، ولسان السلف، غير الظاهر في عرف كثير من المتأخرين" (¬1)، فالواجب في نصوص الوحي إجراؤها على ظاهرها المتبادر من كلام المتكلم، واعتقاد أن هذا المعنى هو مراد المتكلم، ونفيه يكون تكذيبًا للمتكلم، أو اتهامًا له بالعيِّ وعدم القدرة على البيان عما في نفسه، أو اتهامًا له بالغبن والتدليس، وعدم النصح للمكلَّف، وكل ذلك ممتنع في حق الله تعالى وحق رسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم -. ومراد المتكلم يُعْلَمُ إمَّا باستعماله اللفظ الذي يدلُّ بوضعه على المعنى المراد مع تخلية السياق عن أية قرينة تصرفه عن دلالته الظاهرة، أو بأن يصرِّح بإرادة المعنى المطلوب بيانه، أو أن يحتفَّ بكلامه من القرائن التي تدلُّ على مراده، وعلى هذا فصرف الكلام عن ظاهره المتبادر -من غير دليل يوجبه أو يبين مراد المتكلم- تحكمٌ غير مقبول سببه الجهل أو الهوى، ولا يسلم لهذا المتأول تأويله (¬2) حتى يجيب على أمور أربعة: أحدها: أن يبيِّن احتمال اللفظ لذلك المعنى الذي أورده من جهة اللغة. الثاني: أن يبيِّن وجه تعيينه لهذا المعنى أنه المراد. الثالث: أن يقيم الدليل الصارف للفظ عن حقيقته وظاهره؛ لأن الأصل عدمه، قال ابن الوزير -رحمه الله-: "من النقص في الدين ردُّ النصوص والظواهر، وردُّ حقائقها إلى المجاز من غير طريق قاطعة تدلُّ على ثبوت الموجب للتأويل. . . " (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (33/ 175). (¬2) التأويل: "صرف اللفظ عن الاحتمال الظاهر إلى احتمال مرجوح؛ لاعتضاده بدليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر" ا. هـ، روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 178). (¬3) إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد، لمحمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى ابن المفضل الحسني القاسمي المعروف بابن الوزير، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1987 م، (ص 123).

الرابع: أن يبيِّن سلامة الدليل الصارف عن المعارض؛ إذ دليل إرادة الحقيقة والظاهر قائم، وهو إما قطعيٌّ، وإما ظاهر، فإن كان قطعيًّا لم يُلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهرًا فلا بدَّ من الترجيح (¬1). ومما يدلُّ على إعمال الظواهر: أنه لا يتم بلاغ ولا يكمل إنذار، ولا تقوم الحجة ولا تنقطع المعذرة بكلام لا تفيد ألفاظه اليقين، ولا تدلُّ على مراد المتكلم بها؛ بل على خلاف ذلك، فينتفي عن القرآن -والعياذ بالله- معنى الهداية، وشفاء الصدور، والرحمة، التي وصف الله تعالى بها كتابه الكريم، ومعاني الرأفة والرحمة والحرص على رفع العنت والمشقة عن الأمة، التي وصف الله تعالى بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - في كتابه العزيز، وهو الذي ترك الأمة على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فلا التباس في أمره ونهيه، ولا إلغاز في إرشاده وخبره، باطنه وظاهره سواء، كيف لا، وهو القائل: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدلَّ أمته على خير ما يعلمه لهم وبنذرهم شرَّ ما يعلمه لهم. . ." (¬2). وفي إنكار التأويل الكلامي ومناهج الفلاسفة والعقلانيين ومن تأثَّرَ بهم من المتكلمين، يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "وقد توسَّع مَنْ تأخَّرَ عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلًا يَرُدُّون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل -ولو كان مستكرهًا- ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتَّبوه هو أشرف العلوم، وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عاميٌّ جاهل، ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (6/ 360 - 361)، بدائع الفوائد، لابن قيم الجوزية، تحقيق: هشام عبد العزيز عطا وعادل عبد الحميد العدوي وأشرف أحمد، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط 1، 1416 هـ - 1996 م، (4/ 1009)، الصواعق المرسلة، لابن القيم، (1/ 288 - 290). (¬2) سبق تخريجه.

خامسا: درء التعارض بين صحيح النقل وصريح العقل

فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف" (¬1). خامسًا: درء التعارض بين صحيح النقل وصريح العقل: مما ينبغي اعتقاده أن نصوص الكتاب والسنة الصحيحة والصريحة في دلالتها، لا يعارضها شيء من المعقولات الصريحة؛ ذلك أن العقل شاهد بصحة الشريعة إجمالًا وتفصيلًا. فأمَّا الإجمال، فمن جهة شهادة العقل بصحة النبوة، وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيلزم من ذلك تصديقه في كل ما يخبر به من الكتاب والحكمة. وأما التفصيل، فمسائل الشريعة ليس فيها ما يَرُدُّهُ العقل؛ بل كل ما أدركه العقل من مسائلها فهو يشهد له بالصحة تصديقًا وتعضيدًا، وما قصر العقل عن إدراكه من مسائلها، فهذا لعظم الشريعة، وتفوقها، ومع ذلك فليس في العقل ما يمنع وقوع تلك المسائل التي عجز العقل عن إدراكها، فالشريعة قد تأتي بما يحير العقول لا بما تحيله العقول. فإن وُجِدَ ما يوهم التعارض بين العقل والنقل، فإما أن يكون النقل غير صحيح، أو يكون صحيحًا ليس فيه دلالة صحيحة على المدَّعَى، وإما أن يكون العقل فاسدًا بفساد مقدماته. "والمقصود هو بيان أنه إذا ظهر تعارض بين الدليلين النقلي والعقلي، فلا بدَّ من أحد ثلاثة احتمالات: الأول: أن يكون أحد الدليلين قطعيًّا، والآخر ظنيًّا، فيجب تقديم القطعي نقليًّا كان، أو عقليًّا، وإن كانا ظنِّيين فالواجب تقديم الراجح، عقليًّا كان، أو نقليًّا. الثاني: أن يكون أحد الدليلين فاسدًا، فالواجب تقديم الدليل الصحيح على الفاسد سواء أكان نقليًّا، أم عقليًّا. الثالث: أن يكون أحد الدليلين صريحًا والآخر ليس بذاك، فهنا يجب تقديم الدلالة ¬

_ (¬1) فتح الباري، لابن حجر، (13/ 253).

الصريحة على الدلالة الخفية، لكن قد يخفى من وجوه الدلالات عند بعض الناس ما قد يكون بينًا وواضحًا عند البعض الآخر، فلا تعارض في نفس الأمر عندئذٍ. أما أن يكون الدليلان قطعيين -سندًا ومتنًا- ثم يتعارضان، فهذا لا يكون أبدًا، لا بين نقليين، ولا بين عقليين، ولا بين نقليٍّ وعقليٍّ" (¬1). وخلاصة اعتقاد أهل السنة في هذا الباب: "أن الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول، وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل وليس منه" (¬2). وقد أعمل الصحابة -رضي الله عنهم- هذا الأصل، وتلقاه عنهم التابعون، وتواترت عبارات أهل العلم بهذا المعنى. يقول الإمام الشافعي -رحمه الله-: "كل شيء خالف أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سقط، ولا يقوم معه رأي ولا قياس، فإن الله تعالى قطع العذر بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فليس لأحد معه أَمْرٌ ولا نهي غير ما أمر هو به" (¬3). وعليه فإذا كان التعارض بين نصين فعلى المستنبط العناية بالآتي مراعيًا الترتيب: 1 - الجمع والتوفيق بين المتعارضين بوجه مقبول. لأنه إذا أمكن ذلك، ولو من بعض الوجوه، كان العمل بهما متعينًا، ولا يجوز الترجيح بينهما؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما بالكلية. 2 - الترجيح بين الدليلين بأحد المرجحات. ¬

_ (¬1) منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة، لعثمان بن علي حسن، مكتبة الرشد، الرياض، ط 5، 1427 هـ - 2006 م، (1/ 366). (¬2) درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، (2/ 364). (¬3) الأم، للشافعي، (2/ 595).

3 - النسخ لأحد الدليلين. 4 - تساقط الدليلين إذا تعذرت الوجوه السابقة فيترك العمل بهما معًا، ويعمل بغيرهما من الأدلة، كأن الواقعة حينئذٍ لا نصَّ فيها، وهذه صورة فرضية لا وجود لها (¬1). والمستنبط للأحكام الفقهية في النوازل المعاصرة قد يقع له إشكال من تعارض الأدلة، فلا بدَّ أن يتعرف على الطريق الذي يسلكه في التعامل مع هذا الإشكال بأيسر طريق. ونحصر النقاط التي يتبعها المستنبط في ذلك فيما يأتي: التأكد من حصول التعارض بين الدليلين، ويكون ذلك بالتحقق مما يلي: 1 - تساوي الدليلين في القطعية والظنية من جهتي الثبوت والدلالة؛ فلا تعارض بين قطعي وظني، ولا بين نص وقياس. 2 - تساوي الدليلين في قوة الدلالة، بأن تكون دلالتهما من نوع واحد، كدلالة العبارة، أو الإشارة، أو المنطوق، أو المفهوم؛ فإن تفاوت أحدهما على الآخر في القوة فلا تعارض. 3 - اتحاد محل الحكم وزمانه، فإن اختلف المحل أو الزمن فلا تعارض (¬2). فإذا توافرت هذه الأمور أعمل المنهج السابق في العمل عند التعارض، فعلى المجتهد في النوازل التزام القواعد والضوابط عند الترجيح والجمع، ولا يرجح بلا مرجح أو يجمع بدون داعي الجمع، يقول الشاطبي -رحمه الله-: "لا يصح إعمال أحد دليلين متعارضين جزافًا من غير نظر في ترجيحه على الآخر" (¬3). ¬

_ (¬1) شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 599) وما بعدها، الموافقات، للشاطبي، (4/ 176) وما بعدها، أصول الفقه الإسلامي، للزحيلي، (2/ 1169) وما بعدها، المهذب في علم أصول الفقه المقارن، أ. د. عبد الكريم بن علي بن محمد النملة، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1420 هـ - 1999 م، (5/ 2411) وما بعدها. (¬2) شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 609 - 613)، البحر المحيط، للزركشي، (6/ 114 - 116)، إرشاد الفحول، للشوكاني، (2/ 1114 - 1115). (¬3) الموافقات، للشاطبي، (4/ 122).

سادسا: معرفة حال الدليل من حيث العمل به

سادسًا: معرفة حال الدليل من حيث العمل به: يقول الشاطبي: كل دليل لا يخلو: 1 - أن يكون معمولًا به في السلف المتقدمين دائمًا أو أكثريًّا. 2 - أو لا يكون معمولًا به إلا قليلًا أو في وقت ما. 3 - أو لا يثبت به عمل. فهذه ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون معمولًا به دائمًا أو أكثريًّا، فلا إشكال في الاستدلال به، ولا في العمل على وفْقِهِ، كفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قوله في الطهارات والصلوات على تنوعها من فرض أو نفل. والثاني: ألَّا يقع العمل به إلا قليلًا، ووقع إيثار غيره والعمل به دائمًا أو أكثريًّا؛ فذلك الغير هو السنة المتبعة. وأما ما لم يقع العمل عليه إلا قليلًا، فيجب التثبت فيه وفي العمل على وفْقِهِ. . . ولهذا القسم أمثلة كثيرة، ولكنها على ضربين: أحدهما: أن يُتبين فيه للعمل القليل وجهٌ يصلح أن يكون سببًا للقلة، كما جاء في حديث إمامة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يومين (¬1)، وبيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن وقت الصلاة، فقال: "صل معنا هذين -يعني: اليومين-" (¬2)، فصلاته في اليوم (الثاني) في ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو داود، كتاب الصلاة، باب: في المواقيت، (393)، والترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، (149)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمَّني جبريل -عليه السلام- عند البيت مرتين. . ." الحديث. وصححه ابن خزيمة (325). ورُوي أيضًا من حديث جابر وأبي سعيد الخدري -رضي الله عنهما-. (¬2) أخرجه: مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: أوقات الصلوات الخمس، (613)، من حديث بريدة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلًا سأله عن وقت الصلاة؛ فقال له. . . فذكره، قال: فلما زالت الشمس =

أواخر الأوقات وقع موقع البيان لآخر وقت الاختيار الذي لا يُتَعَدَّى. ثم لم يزل مثابرًا على أوائل الأوقات إلا عند عارض؛ كالإبراد في شدة الحَرِّ ونحو ذلك. والضرب الثاني: ما كان على خلاف ذلك، ويأتي على وجوه: 1 - أن يكون محتملًا في نفسه، والذي هو أبرأ للعهدة وأبلغ في الاحتياط تَرْكُهُ، والعمل على وفق الأغلب، كقيام الرجل للرجل إكرامًا له وتعظيمًا، فإن العمل المتصل تركه؛ فقد كانوا لا يقومون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أقبل عليهم. 2 - أن يكون مما فُعِلَ فلتةً، فسكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع علمه به، ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي ولا غيره، ولا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يأذن فيه ابتداءً لأحد، كما في قصة الرجل الذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أَمْرٍ فعمل فيه، ثم رأى أن قد خان الله ورسوله، فربط نفسه بسارية من سواري المسجد (¬1). 3 - أن يكون العمل القليل رأيًا لبعض الصحابة لم يُتَابَعْ عليه، كما روي عن أبي طلحة الأنصاري أنه أكل بَرَدًا وهو صائم في رمضان، فقيل له: ألست صائمًا؟ فقال: بلى؛ إن ذا ليس بطعام ولا شراب؛ وإنما هو بركة من السماء، نطهر به بطوننا! (¬2). 4 - أن يكون عُمِلَ به قليلًا ثم نسخ، فترك العمل به جملة، فلا يكون حجة بإطلاق، ¬

_ = أَمَرَ بلالًا فأذَّن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم. . . الحديث. (¬1) الرجل هو "أبو لبابة الأنصاري" في قصة بني قريظة، لما استشاروه أن ينزلوا على حكمه - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، يعني: الذبح. انظر: "مسند الإمام أحمد" (6/ 141)، السيرة النبوية، لابن هشام، (2/ 236 - 237). (¬2) أخرجه: أبو يعلى في "مسنده"، (3/ 15، 7/ 73)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"، (5/ 114)، وغيرهما، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: مطرت السماء بَرَدًا، فقال لنا أبو طلحة ونحن غلمان: ناولني يا أنس من ذاك البَرَدِ فجعل يأكل وهو صائم. . . الحديث. قال أنس: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: "خذ عن عمك". وقال الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" (63): "منكر". ورُوي موقوفًا على أبي طلحة بإسناد صحيح على شرط الشيخين؛ كما في المصدر السابق.

فكان من الواجب في مثله الوقوف مع الأمر العام. ومثاله: حديث الصيام عن الميت (¬1)؛ فإنه لم يُنقَل استمرارُ عملٍ به ولا كثرة، إن أغلب الرواية فيه دائرة على عائشة وابن عباس، وهما أول من خالفاه. وبسبب ذلك ينبغي للعامل أن يتحرَّى العمل على وفق الأولين، فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل إلا قليلًا وعند الحاجة ومسِّ الضرورة. أما لو عمل بالقليل دائمًا للزمه أمور: 1 - المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليه، وفي مخالفة السلف الأولين ما فيها. 2 - استلزام ترك ما داوموا عليه. 3 - أن ذلك ذريعة إلى اندراس أعلام ما داوموا عليه، واشتهار ما خالفه. فالحذرَ الحذرَ من مخالفة الأولين، فلو كان ثَمَّ فضلٌ ما، لكان الأولون أحقَّ به، والله المستعان. والقسم الثالث: أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال، فهو أشدُّ مما قبله، فكل مَنْ خالف السلف الأولين فهو على خطأ، وهذا كافٍ. والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جارٍ هذا المجرى. وكثيرًا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة، يُحَمِّلُونهما مذاهبهم، ويُغَبِّرُون بمشتبههما في وجوه العامة، ويظنون أنهم على شيء (¬2). وقد أوردتُ كلامَ الشاطبي بطوله لبيان أهمية هذا الضابط، والتنبيه على عناصره وأقسامه ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الصيام، باب: مَن مات وعليه صوم (1952)، ومسلم، كتاب الصيام، باب: قضاء الصيام عن الميت، (1147)، من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن مات وعليه صيام صام عنه وليه". (¬2) الموافقات، للشاطبي، (3/ 56 - 71) بتصرف واختصار، تهذيب الموافقات، لمحمد بن حسين الجيزاني، دار ابن الجوزي، الرياض، ط 2، 1427 هـ (ص 225) وما بعدها.

ثانيا: الإجماع

ومتعلقاته، وإن لم يكن من القصد مناقشة ما ضرب من أمثلة فقهية تتفاوت فيها الأنظار. ثانيًا: الإجماع: الإجماع هو اتفاق المجتهدين من أُمَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - على حكم شرعي ظني في عصر غير عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬1). والإجماع حجة متى انعقد بشروطه المعتبرة (¬2). والإجماع المستند إلى المصلحة أو العرف وليس إلى نصٍّ شرعي يجوز رفعه بإجماع لاحِقٍ إذا تغيرت المصلحة التي بُني عليها الإجماع السابق، فلا تبقى للإجماع الأول حجيَّة إذا لم تتحقق تلك المصلحة، فإذا تغيرت وتحولت لم يكن هناك وجه لبقاء حجية ذلك الإجماع (¬3). وتطبيقًا لما سبق أجاز أبو حنيفة ومالك -رحمهما الله- إعطاء الزكاة لبني هاشم عند عدم حصولهم على حقِّهم من الخمس (¬4)، وذهب بعض التابعين إلى جواز التسعير (¬5). ووجه الرَّدِّ إلى الإجماع في استنباط أحكام النوازل يتأتَّى من جهات: الأولى: أن الإجماع متى تأتَّى في مسألة فإنه يستند بالأصالة إلى نصٍّ من كتاب وسنة؛ فيثبت فيه عندئذٍ ما يثبت من جهة الرَّدِّ إلى الكتاب والسنة. الثانية: الإجماع لا تجوز مخالفته إذا انعقد صحيحًا، والناظر في الفقه عمومًا، وفي النوازل خاصة عليه أن يتحرى ألَّا يُفتيَ بخلاف ما أُجمع عليه؛ إذ لا اجتهاد مع إجماع صريح. ¬

_ (¬1) نهاية السول، للإسنوي، (3/ 237)، المحصول، للرازي، (4/ 20). (¬2) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (19/ 195). (¬3) نهاية السول شرح منهاج الأصول، للإسنوي (3/ 881 - 883)، شرح الكوكب المنير، لابن النجار الحنبلي، (2/ 211). (¬4) مواهب الجليل، للحطاب، (3/ 224)، شرح مختصر خليل، للخرشي، (4/ 110)، حاشية الدسوقي، (1/ 493)، حاشية ابن عابدين، (3/ 299). (¬5) الاستذكار، لابن عبد البر، (6/ 412 - 413).

ثالثا القياس

ولهذا كان من شروط المتصدي للفتيا والاجتهاد: العلم بمواقع الإجماع، ومواطن الخلاف. قال سعيد بن جبير (¬1): "أعلم الناس أعلمهم بالإجماع والاختلاف" (¬2). الثالثة: الإفتاء الجماعي ليس إجماعًا، وليست أعمال المجامع الفقهية إجماعًا أصوليًّا، ولو كانت مجامعَ دوليةً أو عالميةً، على أن الرأي فيها يصدر بأغلبية مطلقة أو اتفاق، وهذا يمكن أن يقترب في المعنى من قول الجمهور عند الأقدمين، ولا شك أن الأصل كثرة الصواب وموافقة الحق في المسائل التي قال بها الجمهور قديمًا أو حديثًا، من غير قطع في جميع المسائل. ومن كان مجتهدًا فخالف الجمهور فلا حرج عليه، ويسوغ له أن يفتى باجتهاده، ولا يجوز نقض حكم إذا حكم به، ولا منعه من الفتيا، ولا منع أحد من تقليده (¬3). ثالثًا القياس: هو حمل فرعٍ على أصلٍ في حكمٍ بجامعٍ بينهما (¬4). وهو حجة عند أكثر العلماء من لدن الصحابة -رضي الله عنهم-، قال ابن القيم: "كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهدون في النوازل ويقيسون بعض الأحكام على بعض ويعتبرون النظير بنظيره" (¬5). ¬

_ (¬1) أبو محمد، سعيد بن جبير بن هشام الأسدي، الوالبي، مولاهم، الإمام الحافظ المقرئ المفسر الشهيد، أحد الأعلام روى عن ابن عباس فأكثرَ وجوَّد، وعن عبد الله بن مغفل، وعائشة، وعدي بن حاتم، وحدَّث عنه أبو صالح، السمان، وآدم بن سليمان والد يحيى، وأشعث ابن أبي الشعثاء، توفي سنة 95 هـ. تهذيب الكمال، للمزي، (10/ 358)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 321). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في العلل ومعرفة الرجال (3/ 66) عن سعيد بن جبير أنه قال: أعلم الناس أعلمهم بالاختلاف. (¬3) ميثاق الإفتاء المعاصر، محمد يسري، (ص 62). (¬4) روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 275)، التمهيد، لأبي الخطاب، (1/ 24)، شفاء الغليل، للغزالي، (ص 18)، العدة في أصول الفقه، للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء البغدادي الحنبلي، تحقيق: د. أحمد بن علي سير المباركي، (1/ 174). (¬5) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 203).

وللقياس أركان، ولكلِّ ركنٍ أحكامٌ وشروط تُمَثِّلُ بالجملة شروط صحة القياس الذي يعتبر لاستنباط الأحكام، ويُرْجَعُ إليه في إدراك الواجب في الوقائع المختلفة. ومن غير شك فإن القياس هو مظهر من مظاهر إحكام الشريعة وكمالها، وهو برهان صلوحيتها وسعتها؛ فإن النصوص تتناهى وليست كذلك الوقائع والحوادث؛ "فلا سبيل لإعطاء الحوادث والمعاملات الجديدة منازلها وأحكامها في فقه الشريعة إلا عن طريق الاجتهاد بالرأي الذي رأسه القياس؛ فالقياس أغزر المصادر الفقهية في إثبات الأحكام الفرعية للحوادث" (¬1). وعليه فإن الناظر في أحكام النوازل لا يتأتَّى له بحثٌ ولا استدلال إلَّا بعد العلم بالقياس ولا بدَّ، والمعول في إدراك أحكام النوازل عليه هو القياس. وعلى المفتي أن يُطَوِّلَ البحث في درك النصوص أولًا، ثم التعرف على علل الأحكام ثانيًا؛ إذ العلة هي ركن القياس الأكبر، وعليها مداره واعتماده، ومباحثها من أدقِّ مباحث علم الأصول وأصعبها. والأحكام المعللة بوصف ظاهر منضبط يشرع الحكم عند وجوده يمكن قياس نظائرها عليها، وتلك العلل قد تكون ثابتة لا تَغَيُّرَ فيها كعلة السُّكر لإثبات حد الخمر، وعلة الإيلاج في فرج محرَّم لإثبات حد الزنا، وقد تكون العلة قابلة للتغير بتغير الأعراف أو المصلحة، وعلى المجتهد أن يتتبع تلك العلل، وأن يعرف أيها يؤثر في جلب الحكم (¬2). وقد يظهر بجلاء أن علَّة الحكم مرتبطة بمصلحة ما فإذا زالت فلا ينبغي أن يبقى للحكم وجود؛ ولذا رأينا عمر -رضي الله عنه- يقول -بعد أن جمع الصحابة على إمام في التراويح-: "نِعْمَ ¬

_ (¬1) المدخل الفقهي العام، للزرقا، (1/ 79 - 80). (¬2) الحكم الشرعي بين العقل والنقل، د. الصادق الغرياني، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1989 م، (ص 136)، أصول الفقه، لأبي زهرة، (ص 275).

رابعا: المصلحة المرسلة

البدعة هذه" (¬1)؛ لأن علة تركه - صلى الله عليه وسلم - المداومة عليها هو خشيته أن تُفرض على أُمَّتِهِ (¬2). وأَمَرَ عمرُ بن عبد العزيز -رحمه الله- بكتابة السنة وتدوينها مع أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أن يكتب عنه شيء غير القرآن؛ خوفًا من أن يختلط القرآن بغيره، فلما زال هذا السبب كُتِبَت السُّنة (¬3). وإذا كانت تلك الأمثلة قد حُسم أمرُها في فقه الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم، فإن ثمة أمثلةً في عالم اليوم قابلة لهذا التغير ومرشحة لهذا التطور، وإن لم يقع عليها اتفاق. وهكذا ينفتح باب الاجتهاد بسبب اختلاف الواقع بين زمنه - صلى الله عليه وسلم - والعصور المتقدمة من جهة، وبين العصور المتأخرة من جهة أخرى. رابعًا: المصلحة المرسلة: المصلحة -لغةً-: ما فيه صلاح قوي، وهي ضدُّ المفسدة (¬4). وفي الاصطلاح معناها: جلبُ المنفعة ودفعُ المضرة (¬5)، أو ما تضمن جَلْبَ المنافع ودَرْءَ المفاسد على وجه لا يستقلُّ العقل بدركه على حال (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب: فضل من قام رمضان، (2010). (¬2) المغني، لابن قدامة، (2/ 603)، المجموع، للنووي، (4/ 30)، وانظر: صحيح البخاري (2/ 707)، وموطأ مالك، (1/ 114 - عبد الباقي)، وشعب الإيمان، للبيهقي، (3/ 177). (¬3) أخرج مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب: التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، (3004)، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تكتبوا عنِّي، ومَن كتَبَ عَنِّي غيرَ القرآنِ فليَمْحُهُ، وحدِّثوا عني ولا حرج. . . ". قال ابن القيم -رحمه الله-: "وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة غير القُرآن في أوَّل الإسلام؛ لئلَّا يختلط القرآن بغيره، فلما علم القرآن وتميز وأُفرِد بِالضبط والحفظ وأُمنت عليه مفسدة الاختلاط أُذن في الكتابة". حاشية ابن القيم على سنن أبي داود، لمحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1415 هـ، (10/ 55). (¬4) لسان العرب، لابن منظور، (7/ 384). (¬5) المستصفى، للغزالي، (ص 174). (¬6) الاعتصام، للشاطبي، (2/ 113).

حجية المصلحة المرسلة

والمصالح من حيث حكمها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 - المصالح المعتبرة: وهي التي حَكَمَ الشارع عليها بالاعتبار، وذلك كتشريع القصاص لمصلحة حفظ النفس، وتشريع الجهاد لمصلحة حفظ الدين، وهذه لا خلاف في اعتبارها، وليست هي المعنية بالدراسة في أصل المصلحة. 2 - المصالح الملغاة: وهي التي حكم الشرع عليها بالإلغاء، وذلك كمصلحة الأنثى في مساواتها بالذكر في الميراث، ومصلحة المرابي في تنمية ماله عن طريق الربا، فهذه لا خلاف في إهدارها، وعدم التعويل عليها. 3 - المصالح المرسلة: وهي التي لم يشهد لها الشارع بالاعتبار، ولا بالإلغاء، مع دخولها تحت أصل كلي معمول به في الشرع، وهذه هي المقصودة عند إطلاق لفظ المصلحة في الأصول. فهي: "كل منفعة داخلة في مقاصد الشارع الضرورية، والحاجية ودون أن يكون لها شاهد بالاعتبار أو الإلغاء" وقد سمَّاها العلماء مصلحة مرسلة، أما كونها مصلحة: فلأنها تجلب نفعًا، وتدفع ضررًا، وهي مرسلة: لأنها مطلقة عن اعتبار الشارع أو إلغائه، فهي إذن تكون في الوقائع المسكوت عنها، وليس لها نظير منصوص على حكمه حتى تقاس عليه، وفيها وصف مناسب لتشريع حكم معين، من شأنه أن يحقق منفعة أو يدفع مفسدة (¬1). حجية المصلحة المرسلة: لا خلاف بين العلماء في أن العبادات لا يجري فيها العمل بالمصالح المرسلة؛ لأن العبادة سبيلها التوقيف، فلا مجال فيها للاجتهاد والرأي، والزيادة عليها ابتداع في الدين، والابتداع مذموم (¬2)، ويدل على ذلك السنة والإجماع والاستقراء (¬3). ¬

_ (¬1) الوجيز في أصول الفقه، د. عبد الكريم زيدان، (ص 237). (¬2) المرجع السابق، (ص 238). (¬3) القواعد النورانية، لابن تيمية، (ص 112 - 113).

مناقشة أدلة المنكرين

أما المعاملات فقد اختلف العلماء في اعتبار أصل المصلحة المرسلة فيها وفي حجيتها في أبوابها، واشتهر بالقول بها مالك -رحمه الله-، ثم أحمد بن حنبل -رحمه الله-، ونسب إلى الشافعية والحنفية إنكار المصلحة المرسلة، وبين هذين الفريقين يقف فريق من العلماء موقفًا وسطًا، كالغزالي -رحمه الله- الذي اشترط في قبولها أن تكون ضرورية لا حاجية، وأن تكون قطعية كلية، وجعلها كالاستحسان (¬1)، "وهذا الخلاف يُحكى في كتب الأصول على نحو واسع، ولكننا لا نجد آثاره بهذه السعة والكثرة في كتب الفقه، فالفقهاء المنسوب إليهم عدم الأخذ بالمصالح المرسلة وُجدتْ لهم اجتهادات قامت على أساس المصلحة المرسلة. . . كما نجده في فقه الشافعية والحنفية" (¬2). وقد استدل المانعون المنكرون للمصلحة المرسلة بأن القول بالمصلحة المرسلة يعني أن الشارع ترك بعض مصالح العباد فلم يشرع لها من الأحكام ما يحققها في الدارين، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقال سبحانه: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، وقال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة 3]. كما استدلوا بأن المصالح المرسلة مترددة بين المعتبرة والملغاة، فليس إلحاقها بالمصالح المعتبرة بأولى من إلحاقها بالملغاة، فامتنع الاحتجاج بها دون شاهد يرجح كونها معتبرة لا ملغاة (¬3). واحتجوا كذلك بأن الاحتجاج بالمصلحة المرسلة، يفتح الباب على مصراعيه لكل مفتون من علماء السوء وأئمة الضلال ليقول ما شاء بهواه بعد أن يلبسه ثوب المصلحة. مناقشة أدلة المنكرين: هذه هي أدلة المنكرين للمصالح المرسلة، والواقع أنها في ظاهرها قوية، ولها وجاهة واعتبار، ¬

_ (¬1) المستصفى، للغزالي، (ص 175 - 176). (¬2) الوجيز في أصول الفقه، د. عبد الكريم زيدان، (ص 238). (¬3) إحكام الأحكام، للآمدي، (4/ 167 - 168).

ولكنها مع ذلك لا تنهض لدفع هذا الأصل، وإن كانت تفيد في التقييد ووضع الشروط. فقولهم: إن الشريعة راعت المصالح، ولم تفرط في ذلك صحيح، ولكنها لم تنصَّ على جميع جزئيات المصالح إلى يوم الدين، وإنما نصت على بعضها وعلى كلياتها، ودلت بمجموع أحكامها ومبادئها على أن المصلحة هي مقصود الشارع، وهذا من دلائل صلاحيتها للبقاء والعموم؛ لأن جزئيات المصالح تتغير وتتبدل، فليس من المصلحة أن ينصَّ الشارع الحكيم على كل جزئية؛ وبناءً على ذلك فإنه إذا طرأت مصلحة لم يَرِدْ في الشرع حكم خاص بها وكانت مناسبة ولا تخالف نصًّا ولا أصلًا، فمن السائغ إيجاد الحكم الذي يناسب ويحقق تلك المصلحة. وأما قولهم بأن المصالح المرسلة مترددة بين المعتبرة والملغاة فهذا صحيح، ولكن هذا لا يترتب عليه إهدارها؛ لأن الإلحاق بالمعتبرة أولى؛ لأن الشريعة مبناها على جلب المصالح، ثم إنه إذا قامت قرينة تدل على أن هذه المصلحة المرسلة محققة لمقاصد الشارع فلا مجال لإهدارها أو إلحاقها بالمصالح الملغاة. وأما قولهم بأن هذا يُجَرِّئ الجهالَ، فيرد عليه بأن الجهال والمغرضين وأصحاب الأهواء لا يفتأون يمارسون التضليل، ويدخلون إليه من كل باب، سواء من باب المصلحة أو غيره، وإن واجب العلماء كشف زيفهم والرد على ترهاتهم. أما القائلون بالمصلحة المرسلة فقد استدلوا بالآتي: 1 - "أن الشريعة ما وضعت إلا لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل" (¬1)، وأنها "كلها مصالح: إما درء مفاسد أو جلب مصالح" (¬2)، وأن "مبناها وأساسها على الحكمة، ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (2/ 6). (¬2) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 14).

شروط العمل بالمصلحة المرسلة

ومصالح العباد في المعاش والمعاد" (¬1). 2 - "أن مصالح الناس ووسائلهم إلى هذه المصالح تتغير باختلاف الظروف والأحوال والأزمان، ولا يمكن حصرها مقدمًا، فإذا لم نعتبر مثلًا إلا ما جاء الدليل الخاص باعتباره نكون قد ضيقنا واسعًا، وفوَّتْنَا على الخلق مصالح كثيرة، وهذا لا يتفق مع عموم الشريعة وبقائها، فيكون المصير إليه غير صحيح" (¬2). 3 - أن المجتهدين من الصحابة ومن جاء بعدهم جَرَوْا في اجتهاداتهم على رعاية المصلحة وأنهم كانوا يُفْتُون في كثير من الوقائع بمجرد اشتمال الواقعة على مصلحة راجحة، دون تقيد بمقتضى قواعد القياس، أي: بقياسٍ شاهد على اعتبار المصلحة، دون إنكار من أحد، فكان ذلك إجماعًا على اعتبار المناسب المرسل (¬3). ومن هذا العرض لأدلة الفريقين يتضح رجحان القول الثاني وهو قول المعتبرين لأصل المصلحة المرسلة؛ وذلك لقوة أدلتهم، ولضعف أدلة المنكرين، وكثرة الاعتراضات عليها. ويؤيد ذلك أننا "لو لم نجعل المصلحة المرسلة دليلًا من الأدلة للزم من ذلك خلو كثير من الحوادث من الأحكام، ولضاقت الشريعة عن مصالح الناس وقصرت عن حاجاتهم، ولم تصلح لمسايرة مختلف المجتمعات والأزمان والأحوال" (¬4). شروط العمل بالمصلحة المرسلة: وضع العلماء شروطًا للعمل بالمصلحة المرسلة، وهذه الشروط هي: 1 - ألا تعارض أصلاً ثابتًا بنص أو إجماع؛ لأن الأصل في الشريعة مصلحة الدين، فيجب ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 3) (¬2) الوجيز في أصول الفقه، د. عبد الكريم زيدان، (ص 241). (¬3) تغير الأحكام، لكوكسال، (ص 190). (¬4) الجامع لمسائل أصول الفقه، د. عبد الكريم النملة، (ص 390).

أثر المصلحة المرسلة في استنباط الفتيا

التضحية بما سواها مما قد يعارضها من المصالح الأخرى إبقاءً لها وحفاظًا عليها (¬1). 2 - أن يكون الأخذ بها لحفظ ضروري أو لرفع حرج (¬2). 3 - أن تكون معقولة بذاتها بحيث لو عُرِضَتْ على العقول السليمة لتلقَّتْهَا بالقبول (¬3). 4 - أن تكون المصلحة قطعية حقيقية، وليست ظنية أو وهمية (¬4). 5 - أن تكون كلية وعامة، وليست شخصية (¬5). أثر المصلحة المرسلة في استنباط الفتيا: إذا جرى التسليم بأن المصلحة المرسلة أصل من أصول التشريع والاستدلال، وبأن الشريعة مبنية على رعاية المصالح ودفع المفاسد، والواقع يشهد بتغير المصالح وتبَدُّلِ الأوصاف التي تكتنف فعل المكلف، فيكون في وقت وفي حال مصلحة، ويكون في وقت وفي حال مفسدة؛ فإنه لا مانع من القول بتغير الفتيا بتغير المصلحة؛ بل إن "المصلحة تعتبر أهم الأدلة الاجتهادية التي تعدُّ سببًا لتغير الفتاوي والأحكام؛ وذلك لأنه ثبت بالاستقراء أن تغير الفتاوي والأحكام بتغير المصالح يتردد كثيرًا على ألسنة الفقهاء أكثر مما يتردد على تغير الفتاوي والأحكام بالعرف والاستحسان، ولعل ذلك يرجع إلى أن المصلحة أسرع في تغيرها من آن لآخر" (¬6). فالأحكام التي تُبْنَى على المصلحة تكون تابعة لهذه المصلحة دائمًا، وتدور معها حيث دارت كدورانها مع العلة سواء بسواء تثبت بثبوتها وتنتفي بانتفائها، "فإذا بقيت ¬

_ (¬1) تغيير الأحكام، لكوكسال، (ص 187). (¬2) المحصول، للرازي، (6/ 220)، البحر المحيط، للزركشي، (6/ 78). (¬3) الاعتصام، للشاطبي، (2/ 129)، الوجيز، د. عبد الكريم زيدان، (ص 242). (¬4) المستصفى، للغزالي، (ص 176 - 177). (¬5) المستصفى، للغزالي، (ص 176)، نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، د. حسين حامد حسان، (ص 451 - 455). (¬6) تغير الفتوى بتغير الحال، د. سيد درويش، (ص 320) بتصرف.

الأمثلة على تغير الفتيا بتغير المصلحة

المصلحة بقي الحكم الذي يترتب عليها، وإذا تغيرت المصلحة اقتضى هذا التغير حكمًا جديدًا مناسبًا للمصلحة الجديدة" (¬1)، وهذا التوقف أو التغير ليس من قبيل النسخ للحكم؛ لأنه لا نسخ بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالحكم الأول باقٍ، ولكن لكون محله لم تتوافر فيه الأسباب الموجبة لذلك الحكم فتعذر تطبيق ذلك الحكم، فإذا ما توافرت أسبابه مرة ثانية وجب تطبيقه. إن تغير الفُتيا بتغير المصالح أمرٌ ضروري؛ وذلك لأن "الحياة في تطور مستمر، وأساليب الناس في الوصول إلى مصالحهم تتغير في كل زمان وبيئة، وفي أثناء ذلك تتجدد مصالح العباد، فلو اقتصرنا على الأحكام المنصوصة مصالحها لتعطل كثير من مصالح العباد بجمود التشريع، وهذا ضرر كبير لا يتفق مع قصد الشارع من تحقيق المصالح ودفع المفاسد، وحينئذ لا بد من إصدار أحكام جديدة تتوافق مع المقاصد الشرعية العامة والأهداف الرئيسة، حتى يتحقق خلود الشريعة وصلاحيتها الدائمة" (¬2). الأمثلة على تغير الفتيا بتغير المصلحة: 1 - لما طلب الناس من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُسَعِّرَ لهم لم يفعل، وقال: "إن الله هو المسعِّرُ القابض الباسط" (¬3)؛ وذلك لأن التسعير وقتها كان سيؤدي إلى ظلم؛ لأن غلاء السعر كان بسبب قلة العرض وزيادة الطلب، فلما كان عصر التابعين وتغيرت أحوال الناس، وصارت هناك حالات من الغلاء غير طبيعية، أجاز بعض علماء التابعين التسعير؛ دفعًا للضرر عن الجمهور (¬4). ¬

_ (¬1) تغير الأحكام، لكوكسال، (ص 189). (¬2) تغير الأحكام، لكوكسال، (ص 189). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) تغير الأحكام دراسة تطبيقية لقاعدة: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير القرائن والأزمان" في الفقه الإسلامي، لسها سليم مكداش، دار البشائر، بيروت، ط 1، 1428 هـ - 2007 م، (316 - 317)، ضوابط المصلحة، =

2 - في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن محفوظًا في صدور الرجال، ومكتوبًا في موادَّ متفرقةٍ كالجريد واللخاف والعظام والخزف وغير ذلك، فلما تغير الحال باستشهاد كثير من القراء في اليمامة أشار عمر على أبي بكر بجمع القرآن، فأمر أبو بكر زيد بن ثابت بجمع القرآن وكتابته في صحف مجموعة غير متفرقة، فلما كان عهد عثمان تغير الحال باختلاف الناس في القراءات، فأمر عثمان بجمع القرآن في مصحفٍ إمام، ونسخ منه أربع نسخ، وأرسل إلى كل أفق بنسخة، وأَمَرَ بإحراق ما عداها (¬1). 3 - منع عمر الصحابة من مغادرة المدينة ليستعين بهم في إدارة الدولة؛ ليستشيرهم في الأحكام والمسائل العامة (¬2). 4 - الحكم بطهارة سؤر سباع الطير كالصقر والنسر مراعاةً للضرورة؛ إذ لا يمكن الاحتراز منها بالنسبة لسكان الصحارى والأعراب (¬3). 5 - لما كان عام المجاعة أسقط عمرُ حدَّ القطع عن السارق، وليس ذلك إلا لظروف طارئة صاحبت السرقة، وجعلت الحكمة من القطع غير متحققة (¬4). وبناءً على ما سبق فإذا وردت النازلة فلم تصادف نصًّا، ولا إجماعًا، ولا أمكن ردُّها إلى قياس، فإن جاءت متضمنة لتحقيق منفعة اعتبر الشارع الحكيم جنسها، ولم يعتبر عينها ولا أهدرها بنصٍّ من نصوصه، وكانت بقية الشروط المعتبرة متوافرة فيها -أمكن الحمل في الحكم عليها، شريطةَ الحذر من اتباع الهوى، والحكم بالتشهي ودون توقٍّ أو تحرٍّ. ¬

_ = للبوطي، (ص 161). (¬1) ضوابط المصلحة، للبوطي، (ص 308 - 309). (¬2) مناهج الاجتهاد، د. محمد سلام مدكور، (ص 54)، المصلحة المرسلة، لنور الدين الخادمي، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1421 هـ، (ص 39). (¬3) أصول السرخسي، (2/ 204). (¬4) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 10).

خامسا: الاستحسان

خامسًا: الاستحسان: تقدَّمَ أن الاستحسان دليل شرعي تثبت به الأحكام في مقابلة ما يوجبه القياس أو عموم النص (¬1). أو هو العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه هو أقوى (¬2). وإمعان النظر في التعريفات السابقة يُفضي إلى أن حقيقة الاستحسان تكمن في ترجيح قياس خفي على قياس جلي بناءً على دليل، أو استثناء مسألة جزئية من قاعدة كلية أو أصل عام لاقتضاء دليل خاص لذلك (¬3). "ويستفاد من مجموع هذه التعاريف أن المقصود بالاستحسان هو العدول عن قياس جلي إلى قياس خفي، أو استثناء مسألة جزئية من أصل كلي؛ لدليل تطمئن إليه نفس المجتهد، يقتضي هذا الاستثناء أو ذاك العدول، فإذا عرضت للمجتهد مسألة يتنازعها قياسان: الأول: ظاهر جلي يقتضي حكمًا معينًا، والثاني: قياس خفي يقتضي حكمًا آخر، وقام في نفس المجتهد دليل يقتضي ترجيح القياس الثاني على القياس الأول، أو العدول عن مقتضى القياس الجلي إلى مقتضى القياس الخفي، فهذا العدول أو ذلك الترجيح هو الاستحسان، والدليل الذي اقتضى هذا العدول يُسَمَّى بوجه الاستحسان، أي: سنده، والحكم الثابت بالاستحسان هو الحكم المستحسن، أي: الثابت على خلاف القياس الجلي، وكذلك إذا عرضت للمجتهد مسألة تندرج تحت قاعدة عامة أو يتناولها أصل كلي، ووجد المجتهد دليلاً خاصًّا يقتضي استثناء هذه الجزئية من الأصل الكلي والعدول بها عن الحكم الثابت لنظائرها إلى حكم آخر للدليل الخاص الذي قام في نفسه، فهذا ¬

_ (¬1) الإحكام، للآمدي، (4/ 163 - 164)، روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 167). (¬2) كشف الأسرار عن أصول البزدوي، لعبد العزيز البخاري، (4/ 4). (¬3) الموافقات، للشاطبي، (4/ 205 - 210)، أصول السرخسي، (2/ 200 - 210)، الاجتهاد في العصر الحاضر ومدى الحاجة إليه، خالد عبد العليم، رسالة ماجستير، (ص 306).

ثمرة العمل بالاستحسان

العدول الاستثنائي هو الاستحسان، والدليل الذي اقتضاه هو وجه الاستحسان، أي: سنده، والحكم الثابت به هو الحكم المستحسن، أي: الحكم الثابت على خلاف القياس، والقياس هنا هو الأصل الكلي أو القاعدة العامة" (¬1). ثمرة العمل بالاستحسان: القائلون بالاستحسان -وهم الجمهور- يرون أن الاستحسان له فوائد وثمار تساعد على تحقيق مقاصد الشارع، ومن هذه الفوائد: 1 - أنه يحول دون تفحش القياس، ويمنع التعسف الذي قد يسببه طرد القياس والقواعد؛ لذلك قال ابن رشد: "الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعم من القياس هو أن يكون طرد القياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه" (¬2). 2 - أنه يرفع الحرج ويحقق السعة واليسر؛ لذلك قال السرخسي -رحمه الله- (¬3): "الاستحسان ترك القياس، والأخذ بما هو أوفق للناس، وقيل: الاستحسان طلب السهولة في الأحكام فيما يُبتلَى فيه الخاص والعام، وقيل: الأخذ بالسعة وابتغاء الدَّعَة، وقيل: الأخذ بالسماحة وابتغاء ما فيه الراحة، وحاصل هذه العبارات أنه ترك العسر لليسر، وهو أصل في الدين" (¬4). 3 - أنه يحقق المصلحة، ويحقق مقاصد الشرع؛ إذ هو يعتمد بقدر كبير على النظر في المآلات والتماس المصلحة، وتحري مقصود الشارع الحكيم، فالاستحسان تحرٍّ للمصلحة ¬

_ (¬1) الوجيز في أصول الفقه، د. عبد الكريم زيدان، (ص 231). (¬2) البيان والتحصيل، لابن رشد، (4/ 156). (¬3) أبو بكر، محمد بن أحمد بن أبي سهل، السرخسي، الإمام الكبير، شمس الأئمة، كان إمامًا علامة، حجة، متكلمًا، فقيهًا، أصوليًّا، مناظرًا، له كتاب المبسوط أملاه وهو في السجن، وله شرح السير الكبير، توفي في حدود سنة 490 هـ. الجواهر المضية، لمحيي الدين القرشي، (3/ 78)، والأعلام، للزركلي، (5/ 315). (¬4) المبسوط، للسرخسي، (10/ 145).

حجية الاستحسان.

وضبطٌ للمآل؛ لأن "كون النظر في مآلات التطبيق معتبرًا شرعًا يؤكده ويدعمه مبدأ الاستحسان الهادف إلى تحري المصلحة إبان تطبيق الحكم، وذلك عن طريق الاستثناء، من مقتضى القواعد والأقيسة" (¬1). من هنا جاء تعريف الإمام الشاطبي: "الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي". حجية الاستحسان. يعتبر الاستحسان من الأصول المختلف فيها، فقد عمل به الحنفية والمالكية والحنابلة، وأنكره الشافعي، وقال: "من استحسن فقد شرع" (¬2)، وبالطبع لم يقبله ابن حزم وسائر الظاهرية (¬3)؛ لأنه من الرأي وهم ينكرون الرأي جملةً وتفصيلًا، ويتمسكون بظواهر النصوص، ولم يقبله -كذلك- الشوكاني، وقال عنه: "إن كان راجعًا إلى الأدلة الأخرى فهو تكرار، وإن كان خارجًا عنها فليس من الشرع في شيء، بل هو التقوُّلُ على هذه الشريعة بما لم يكن فيها تارة، وبما يضادها تارة أخرى" (¬4). واستدل العلماء القائلون بالاستحسان بأدلة من أهمها وأقواها: أن الشارع الحكيم قد عدل في بعض الوقائع عن مقتضى القياس، فمن أمثلة ذلك: أن القياس يأبى جواز السَّلم؛ لأن المعقود عليه معدوم عند العقد، ومع ذلك رخَّص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السَّلَم، ومن ذلك أيضًا: جواز عقد الإجارة فإنه ثابت بخلاف القياس لحاجة الناس إلى ذلك، فإن العقد على المنافع بعد وجودها لا يتحقق؛ لأنها لا تبقى زمانين، فلا بد من إقامة العين المنتفع بها مقام الإجارة في حكم جواز العقد؛ لحاجة الناس إلى ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) الاجتهاد في العصر الحاضر ومدى الحاجة إليه، خالد عبد العليم، (ص 305). (¬2) إحكام الأحكام، للآمدي، (4/ 162)، المستصفى، للغزالي، (ص 171)، البحر المحيط، للزركشي، (6/ 87). (¬3) الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، (6/ 16 - 21). (¬4) إرشاد الفحول، للشوكاني، (2/ 989). (¬5) أصول السرخسي، (2/ 203)، الموافقات، للشاطبي، (4/ 207 - 208).

أنواع الاستحسان

أنواع الاستحسان: 1 - الاستحسان بالنص: وهو العدول عن حكم القياس في مسألة ما إلى حكم مخالف له ثبت بالكتاب أو السنة، مثاله: أن القياس لا يجوِّز العرايا؛ لأنه يبيع تمرًا برطب، وهو داخل تحت النهي عن بيع المزابنة، الذي سببه الجهل بتماثل البدلين الربويين المتجانسين، والجهل بالتماثل في باب الربا كالعلم بالتفاضل، وهي قاعدة متقررة، ولكن تم العدول عن هذا الحكم، واستثناؤه من الأصل الكلي؛ لدليل ثبت بالسنة، وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخصَّ في العرايا. 2 - الاستحسان بالإجماع: وهو العدول عن حكم القياس في مسألة إلى حكم مخالف له ثبت بالإجماع، ومثاله: أن القياس لا يجوِّز عقد الاستصناع؛ لأنه بيع معدوم، لكن تم العدول عن هذا الحكم إلى حكم آخر، وهو جواز عقد الاستصناع؛ لتعامل الأمَّة به من غير نكير فصار إجماعًا، ومن أمثلته أيضًا: دخول الحمامات بأجر معلوم، فالقاعدة العامة تقضي بفساده لجهالة ما يستهلكه الداخل من الماء، وجهالة المدة التي يمكثها في الحمام، ولكنه أُجيزَ استثناءً من القاعدة العامة استحسانًا لجريان العمل به دون إنكار من أحد. 3 - الاستحسان بالعرف والعادة: وهو العدول عن حكم القياس في مسألة إلى حكم آخر مخالف له نظرًا لجريان العرف بذلك وعملًا بما اعتاده الناس، ومثاله: إذا حلف لا يأكل اللحم، فإن القياس يقتضي حنثه إن أكل السمك، لكن إن جرى عرف الناس بعدم إطلاق اسم اللحم على السمك تم العدول عن هذا الحكم، وكذلك إن حلف لا يدخل بيتًا فالقياس يقتضي أنه يحنث إن دخل المسجد؛ لأنه يسمى بيتًا، لكن عدل عن هذا الحكم إلى عدم الحنث؛ لتعارف الناس على عدم إطلاق

4 - الاستحسان بالضرورة

لفظ البيت على المسجد (¬1). 4 - الاستحسان بالضرورة: وهو العدول عن حكم القياس في مسألة إلى حكم آخر مخالف له للضرورة. مثاله: العفو عن يسير الغرر والغبن في المعاملات، وتطهير الآبار التي تقع فيها النجاسة بنزح قدر معين من الماء منها استحسانًا للضرورة مع أنه على خلاف القياس. 5 - الاستحسان بالمصلحة: وهو العدول عن حكم القياس وعن الأصل العام إلى حكم آخر للمصلحة. ومثاله: تضمين الأجير المشترك ما يهلك عنده من أمتعة الناس، إلا إذا كان الهلاك بقوة قاهرة لا يمكن دفعها أو التحرز منها، مع أن ذلك خلاف القياس، وخلاف الأصل العام الذي يقضي بعدم تضمينه إلا بالتقصير أو التعدي؛ لأنه أمين، والمؤتمن غير ضامن إلا إذا فرط أو تعدى (¬2). 6 - الاستحسان بالقياس الخفي: وهو العدول عن حكم القياس الظاهر إلى حكم آخر بقياسٍ آخرَ أدقَّ وأخفى من الأول لكنه أقوى حجة وأسدُّ نظرًا وأصح استنتاجًا. ومثاله: الحكم بطهارة سؤر سباع الطير، فالقياس الجلي يلحقها بسباع البهائم، لكن القياس الخفي يلحقها بسؤر الآدمي؛ لأنها تشرب بمناقيرها وهي عظام طاهرة. أثر الاستحسان في استنباط الفتيا: مما سبق تبين أن الاستحسان انتقال من حكم ثبت بدليل عام أو قياس جلي إلى ¬

_ (¬1) الجامع لمسائل أصول الفقه وتطبيقها على المذهب الراجح، أ. د. عبد الكريم بن علي بن محمد النملة، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1420 هـ -2000 م، (ص 384). (¬2) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، للزيلعي، (5/ 138)، المغني، لابن قدامة، (8/ 103 - 104)، البحر المحيط، للزركشي، (6/ 89).

حكم آخر ثبت بدليل خاص أو قياس خفي، أو انتقال من حكم في مسألة مندرجة تحت قاعدة كلية أو أصل عام إلى حكم مستند للضرورة أو الحاجة أو المصلحة أو مقتضى العرف والعادة. وبذلك يتضح أن الاستحسان أداة من أدوات تغير الفُتيا "وأنه من أهم الأصول التطبيقية التي تنتج أحكامًا متغيرة وفق الحاجة، فهو طريقة عملية في تطبيق أدلة الشريعة وقواعدها، عندما تصادم واقع الناس في بعض جزئياتها، فهو النافذة التي يطل منها الفقيه على واقعهم، فيرفع عنهم الحرج ويدفع الضرر، ويحقق المنافع بتطبيق مبادئ الشريعة وأصولها، وهذا يتحقق حينما يكون إعمال الدليل على عمومه في بعض الحالات يؤدي إلى فوات مصلحة الدليل أو إلى تحصيلها وتفويت ما هو أعظم منها، فهنا لا يؤخذ بعموم الدليل في هذه الحالة؛ لأن الشارع لم يقصد بتطبيق هذا الدليل العام الحالات التي يؤدي منها تطبيق هذا العموم إلى ضرر، أو عدم حصول المصالح المقصود تحصيلها بهذا الدليل العام، فهنا يدخل الاستحسان ليبين خروج هذه الحالة من العموم ووجه عدم انطباق المصلحة عليها" (¬1). فالاستحسان -إذن- أداة لتغير الفتيا، يعطي المفتي مساحة من المرونة يلتمس فيها المصلحة المتفقة مع مقاصد الشرع "بحيث إذا عرضت واقعة يقتضي عموم النص فيها حكمًا أو يقتضي الأصل الظاهر حكمًا فيها أو يقتضي تطبيق الحكم الكلي حكمًا فيها، وظهر للمجتهد أن لهذه الواقعة ظروفًا وملابساتٍ خاصة تجعل تطبيق النص العام أو الحكم الكلي عليها أو اتباع القياس الظاهر فيها يُفَوِّتُ المصلحة، أو يؤدي إلى مفسدة، ¬

_ (¬1) الفقه التطبيقي: رؤية جديدة لفقه متغير، لعبد الله العلويط، (ص 38).

فعدل عن هذا الحكم إلى حكم آخر اقتضاه تخصيصها، من العام، أو استثناؤها من الكلي، أو اقتضاه قياس خفي غير متبادر، فهذا العدول هو الاستحسان" (¬1). وعليه: فإن "المجتهد إذا عرضت له نازلة يقتضي عموم النص فيها حكمًا، أو يقتضي القياس الظاهر المتبادر حكمًا، أو يقتضي تطبيق الحكم الكلي فيها حكمًا، وظهر للمجتهد أن لهذه النازلة ظروفًا وملابساتٍ خاصةً تجعل تطبيق النص العام أو الحكم الكلي عليها أو اتباع القياس الظاهر منها يُفَوِّتُ المصلحة أو يؤدي إلى مفسدة، فعدل فيها عن هذا الحكم إلى حكم آخر اقتضاه تخصيصها من العام، أو استثناؤها من الكلي، أو اقتضاه قياس خفي غير متبادر -فهذا العدول هو الاستحسان، وهو من طرق الاجتهاد بالرأي يحتاج إليه الناظر المجتهد في تقدير الظروف الخاصة لهذه الواقعة، وترجح دليل على آخر للوصول إلى الحكم المناسب لها، الموافق لمقاصد الشرع وكلياته" (¬2). كالاستحسان بالنص ممثلين له ببيع السَّلَم وبيع العرايا، واستحسان بالإجماع ممثلين له بالاستصناع، واستحسان بالعرف أو العادة ممثلين له بجريان العرف في الأيمان، كمن قال: والله لا أدخل بيتًا فدخل مسجدًا لم يحنث، واستحسان بالضرورة ممثلين له بما يصعب التحرز عنه، مثل: من صار إلى حلقة ذباب لم يفطر، والعفو عن يسير الغبن في المعاملات (¬3). ¬

_ (¬1) تغير الفتوى بتغير الحال، د. سيد درويش، (ص 276). (¬2) منهج استنباط أحكام النوازل، د. مسفر القحطاني، (ص 415). (¬3) كشف الأسرار، لعبد العزيز البخاري، (4/ 6 - 8)، أصول السرخسي، (2/ 202 - 203)، أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي، د. مصطفى ديب البغا، دار الإمام البخاري، دمشق، (ص 140 - 150)، فتح الغفار بشرح المنار، لزين الدين ابن إبراهيم الشهير بابن نجيم الحنفي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط 1، 1355 هـ - 1963 م (3/ 33 - 34).

سابعا: الاستصحاب

سابعًا: الاستصحاب: هو الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناءً على ثبوته في الزمان الأول (¬1). أو هو استدامة إثبات ما كان ثابتًا، أو نفي ما كان منفيًّا (¬2)، فهو استبقاء الحكم الذي ثبت بدليل في الماضي قائمًا في الحال حتى يوجد دليل بغيره، أو هو اعتبار الحكم الذي ثبت في الماضي بدليل مصاحبًا لوقعته وملازمًا لها حتى يوجد دليل يدلُّ على قطع هذه المصاحبة (¬3). وللاستصحاب أنواع منها: 1 - استصحاب البراءة الأصلية: أو العدم الأصلي؛ كبراءة الذمة من التكليف حتى يقوم دليل يثبته. وهذا النوع من الاستصحاب لا خلاف في اعتباره، ومن الأصوليين من يعده من الأدلة المتفق عليها (¬4). 2 - استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي: كالطهارة، فإنها وصف متى ثبت أبيحت الصلاة؛ فيستصحب وجودها حتى يثبت خلاف هذا الوصف بالحدث. 3 - استصحاب ما دلَّ العقل والشرع على ثبوته: كالملك عند وجود سببه؛ فإنه يثبت حتى يؤخذ ما يزيله. 4 - استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع: وهو محل خلاف، والأكثر على عدم حجيته؛ لأنه يؤدي إلى تكافؤ الأدلة؛ فيصح لكل من الخصمين استصحاب الإجماع في محل النزاع على النحو الذي يوافق مذهبه. ¬

_ (¬1) نهاية السول، للإسنوي، (4/ 358)، كشف الأسرار، للبخاري، (3/ 545). (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 339). (¬3) مصادر التشريع الإسلامي، د. عبد الوهاب خلاف، (ص 151). (¬4) روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 155 - 156)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 339).

ثامنا: العرف

مثاله: المتيمم إذا رأى الماء بعد الشروع بالصلاة، فالإجماع منعقد على صحة شروعه في الصلاة وأن صلاته صحيحة لو انتهت قبل رؤية الماء، فيستصحب حكم الصحة المجمع عليه حالَ عدم رؤية الماء إلى حال ما بعد الرؤية، وهذا متنازع فيه؛ لأن الإجماع إنما دلَّ على الدوام فيها حالَ عدم الماء دون حال وجوده (¬1). والمجتهد ينتفع بالأصل المستصحب حيث عدم دليلًا خاصًّا في المسألة النازلة، وعلى هذا الأصل بنيت جملة من القواعد المهمة، منها: الأصل براءة الذمة (¬2)، والأصل في الأشياء الإباحة ما لم يَرِدْ دليل يدل على المنع (¬3)، الأصل بقاء ما كان على ما كان (¬4)، وغيرها. ثامنًا: العرف: مضى أن العرف هو ما استقرَّ في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، وهو ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة (¬5). وقد سبقت الأدلة على أهميته، وبيان ضوابطه والقواعد التي تتصل به، وأثره في الاستنباط من الأدلة. ولا شك أن الأقليات الإسلامية اليوم في ديار غربتها تحكمها أعراف وتقاليد وعادات اعتادها الناس، وأن المجتهد مأمور بالالتفات إليها واعتبارها عند الحكم على نوازل تلك الأقليات المسلمة، وقد سبق النقل عن علمائنا الكبار كالقرافي، والشاطبي، وابن القيم، وغيرهم في اعتبار الأعراف سببًا لتغير الفتيا في الأحكام الاجتهادية المبنية على العادات والأعراف. ¬

_ (¬1) المستصفى، للغزالي، (ص 160 - 162)، نهاية السول، للإسنوي، (4/ 358 - 366)، البحر المحيط، للزركشي، (6/ 20 - 22)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 399) وما بعدها. (¬2) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 53)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (1/ 64). (¬3) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 60)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (1/ 73). (¬4) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 51)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (1/ 62). (¬5) التعريفات، للجرجاني، (ص 193)، العرف والعادة في رأي الفقهاء، د. أحمد فهمي أبو سنة، (ص 8).

وقد بالغ ابن القيم في التحذير من إهمال العرف عند الفتيا، فقال: "فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعُرْفه فتجني عليه وعلى الشريعة، وتنسب إليها ما هي بريئة منه، وتُلزم الحالف والمقر والناذر والعاقد ما لم يُلزمه الله ورسوله به" (¬1). ويقول الإمام القرافي: "إن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت وتبطل معها إذا بطلت، كالنقود في المعاملات، والعيوب في الأعراض، ونحو ذلك، فلو تغيرت العادة في النقد والسكَّة إلى سكَّة أخرى يحمل الثمن في البيع على السكَّة التي تجددت العادة بها، دون ما قبلها، وعلى هذا القانون تراعى الفتاوي على طول الأيام، فمهما تجدد العرف فاعتبِرْهُ، ومهما سقط فأسقطْه ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاء رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجْرِه على عرف بلدك، واسأل عن عرف بلده وأجْرِهِ عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين" (¬2). ويقول -رحمه الله- في مكان آخر: "إن إجراء هذه الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة، إلى ما تقتضيه العادة المتجددة" ثم شرع يفصل: "أَلا ترى أنهم لما جعلوا أن المعاملات إذا أُطلق فيها الثمن يُحمل على غالب النقود، فإذا كانت العادة نقدًا معيَّنًا حملنا الإطلاق عليه، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عيَّنا ما انتقلت العادة إليه وألغينا الأول لانتقال العادة منه" (¬3). وقد سبق التنبيه على أن عبارة: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان" في لفظها وصياغتها قدرٌ من التساهل؛ لذلك لا يصح حملها على ظاهر ألفاظها، فإن الذي يتغير ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 53 - 54). (¬2) الفروق، للقرافي، (1/ 314) باختصار. (¬3) الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام، للقرافي، (ص 218 - 219).

تاسعا: قول الصحابي

ليس هو الحكم الشرعي، وإنما هو الفُتيا، وأن التغير لا يعلق بتغير الزمان، وإنما بتغير العوائد والأعراف، وإنما عبر بالزمان؛ لأنه كالوعاء لهذه الأعراف والعادات. وهناك فرق كبير بين الحكم الشرعي، وبين الفُتيا، فالحكم الشرعي هو "خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييرًا أو وضعًا"، وهذا لا يمكن أن يتغير ولا أن يتبدل؛ لأن القول بإمكانية تغييره مساوٍ للقول بإمكانية تغير خطاب الله تعالى، وهذا لا يملكه أحد من البشر، كما أنه يعد نسخًا ولا نسخ بعد تمام الرسالة ووفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. تاسعًا: قول الصحابي: قول الصحابي الموقوف عليه له حالتان: الأولى: أن يكون مما لا مجال فيه للرأي، وهذا له حكم المرفوع كما هو متقرر في علم أصول الحديث (¬1). الثانية: أن يكون مما للرأي فيه مجال. فإن انتشر في الصحابة ولم يظهر له مخالف ولم يعرف نصٌّ يعارضه فهو حجة عند الأكثر. ويطلق عليه الإجماع السكوتي أو الإقراري، وعليه: فإن هذا القول يُقَدَّمُ على القياس، ويخص به النص، على خلاف بين العلماء في تخصيصه للنصوص. وإن لم ينتشر، فقيل: حجة على التابعي ومن بعده؛ لأن الصحابي حضر التنزيل فعرف التأويل لمشاهدته لقرائن الأحوال. وقيل: ليس بحجة على المجتهد التابعي -مثلًا- لأن كليهما مجتهد يجوز في حقه أن يخطئ وأن يصيب. ¬

_ (¬1) نزهة النظر شرح نخبة الفكر، للحافظ ابن حجر العسقلاني، ومعه: النكت على نزهة النظر، لعلي حسن عبد الحميد الحلبي، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1413 هـ - 1992 م، (ص 141 - 142).

والأول أرجح، وقد ذكر ابن تيمية أن جمهور العلماء يحتجون به (¬1). وعن أحمد -رحمه الله- لا يُخرج عن قول الخلفاء الأربعة. فقولهم عنده حجة، وليس بإجماع؛ لحديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" (¬2)، وحديث: "اقتدوا باللَّذين من بعدي: أبي بكر وعمر" (¬3). وأما إذا تخالفت أقوال الصحابة فإن قول أحدهم ليس بحجة على مثله، وهذا موضع اتفاق (¬4)، ومن نقل عنه قبول قول الخلفاء الراشدين أو قول أبي بكر وعمر فإن مراده بالنسبة للمقلِّد لا للمجتهد (¬5). وقد اشتهر الإمام أحمد -رحمه الله- بالاعتداد بفتوى الصحابي وقوله، وقد عُدَّ هذا من أصول فقهه -رحمه الله-. كما ذكر ذلك ابن القيم -رحمه الله- فقال: "الأصل الثاني من أصول فتاوي الإمام أحمد، ما أفتى به الصحابة؛ فإنه إذا وَجَدَ لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يَعْدُها إلى غيرها، ولم يقل: إن ذلك إجماع، بل من ورعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئًا يدفعه، أو نحو هذا، وإذا وجد الإمام أحمد هذا النوع عن الصحابة لم يُقَدِّمْ عليه عملًا ولا رأيًا ولا قياسًا، وإذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن ¬

_ (¬1) المسودة في أصول الفقه، لآل تيمية، (335 - 338)، الإحكام، للآمدي، (4/ 155 - 161)، مذكرة أصول الفقه للشنقيطي، (ص 256 - 257). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) أخرجه: الترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: مناقب أبي بكر وعمر، (3662، 3663)، وابن ماجه، المقدمة، باب: في فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (97)، من حديث حذيفة -رضي الله عنه-. قال الترمذي: "حديث حسن". (¬4) شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 422). (¬5) مذكرة أصول الفقه، للشنقيطي، (ص 257).

أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيه ولم يجزم بقول" (¬1). وانتصر ابن القيم لهذا المنهج فقال: "لا يسع المفتي أو الحاكم عند الله أن يفتي ويحكم بقول فلان وفلان من المتأخرين من مقلدي الأئمة ويأخذ برأيه وترجيحه، ويترك الفتوى والحكم بقول البخاري وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، بل يرى تقديم قول المتأخرين من أتباع من قلده على فتوى أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود -رضي الله عنهم-. فلا يُدرى ما عذره غدًا عند الله إذا سوَّى بين أقوال أولئك وفتاويهم، وأقوال هؤلاء وفتاويهم فكيف إذا رجَّحها عليها؟! فكيف إذا عَيَّنَ الأخذ بها حكمًا وإفتاءً، ومنعَ الأخذ بأقوال الصحابة؟!! " (¬2). ولأهمية هذا المسلك يخاطب ابن القيم المفتين بقوله: "أيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر إذا أفتى بفتوى، وأفتى من قلدتموه بغيرها؟ ولا سيما من قال من زعمائكم: إنه يجب تقليد من قلَّده دينًا، ولا يجوز تقليد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، اللهم إنا نشهدك أن أنفسنا لا تطيب بذلك، ونعوذ بك أن نطيب به نفسًا" (¬3). وهو في هذا المسلك يتبع شيخه ابن تيمية -رحمه الله- الذي قال: "وقد تأمَّلت من هذا الباب ما شاء الله فرأيت الصحابةَ أفقهَ الأمة وأعلمَها، واعتبر هذا بمسائل الأيمان، والنذر، والعتق، والطلاق، وغير ذلك، ومسائل تعليق الطلاق بالشروط، ونحو ذلك. وقد بينتُ أن المنقول فيها عن الصحابة هو أصحُّ الأقوال قضاءً وقياسًا، وعليه يدلُّ الكتاب والسنة، وعليه يدور القياس الجلي، وكل قول سوى ذلك تناقض في القياس مخالف للنصوص، ولم أجد أجود الأقوال فيها إلا الأقوال المنقولة عن الصحابة، وإلى ساعتي هذه ما علمتُ قولًا ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 30). (¬2) المرجع السابق، (4/ 118 - 119) باختصار. (¬3) المرجع السابق، (4/ 145).

قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه، إلا وكان القياس معه" (¬1). هذا هو مذهب ابن تيمية في أقوال الصحابة، وهو إذ يجعل قول الصحابي أصلًا من أصول الاستدلال، إنما يترسم خُطَى إمامه أحمد بن حنبل -رحمه الله-، وذلك عن اجتهاد لا تقليد. قال ابن تيمية -رحمه الله-: "قال أبو داود: قال أحمد بن حنبل: ما أجبتُ في مسألة إلا بحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وجدتُ في ذلك السبيل إليه، أو عن الصحابة، أو عن التابعين، فإذا وجدتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أعدل إلى غيره، فإذا لم أجد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين، فإذا لم أجد عن الخلفاء، فعن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأكابر فالأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا لم أجد، فعن التابعين، وعن تابعي التابعين، وما بلغني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث بعمل له ثواب إلا عملت به رجاءَ ذلك الثواب، ولو مرة واحدة" (¬2). "وتظهر أهمية هذا الأصل للمفتي في أن العلم بفتاوي الصحابة وأقضيتهم علمًا جامعًا تمدُّ الفقيه بعناصر الفقه الكاملة، وتعطيه أحكامًا لأشتات من الحوادث في الأقاليم المختلفة؛ حيث إن الصحابة بعد فتح الأمصار رأوا أحداثًا وحضارات مختلفة لم تكن في بلاد العرب، فاستنبطوا أحكام هذه الحوادث من المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى ذلك تكون أقضية الصحابة وفتاويهم، وكذلك أقضية كبار التابعين، صورًا ناقلة لأشكال الحضارات والمدنيات التي تواردت على العقل الإسلامي، فالإمام أحمد بهذا الأصل وجد ألوانًا من الحوادث تغنيه في الفتوى عن الفرض والتقدير الذي وسع الفقه الحنفي بما فيه من إيجابيات وسلبيات، وهذا لا يعني أن المفتي لا بدَّ أن يجمد على آثار الصحابة، وكبار التابعين، فلا يخرج منها، وإنما العلم ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (20/ 582). (¬2) المسودة، لآل تيمية، (ص 336)، أصول الفقه وابن تيمية، د. صالح المنصور، دار النصر، القاهرة، ط 1، 1400 هـ - 1980 م، (1/ 355 - 356).

عاشرا: سد الذرائع

الجامع بها يُسهم في إيجاد الأحكام المنصوص عليها، ويُوَسِّعُ من باب القياس، ومن خلال هذه الأقضية والفتاوي المروية يجد الشبيه بالواقعة المسؤول عنها، ويحسن التنظير بين المسائل" (¬1). عاشرًا: سد الذرائع: الذرائع -لغة-: هي الوسائل (¬2)، ومعناها الاصطلاحي لا يبعد عن معناها اللغوي، فكل طريق وسبب وسيلة لمحرم فهو ذريعة إليه، وكذا كل طريق وسبب لواجب فهو ذريعة إليه. فالذرائع كما تُسَدُّ إلى الحرام تُفْتَحُ إلى الحلال؛ لأنها في الحالة الأولى، تدفع مفسدة وفي الثانية تجلب مصلحة (¬3). ولذلك يقول القرافي: "اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح فإن الذريعة هي وسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة" (¬4). وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد: وهي الطرق المفضية للمصالح والمفاسد في أنفسها. ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم أو تحليل غير أنها أخفض رتبةً من المقاصد في حكمها، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما هو متوسط متوسطة (¬5). والقول بالذرائع أكثر منه الإمامان مالك وأحمد -رحمهما الله-، وقد كان دونهما في الأخذ به الإمامان أبو حنيفة والشافعي -رحمهما الله-، ولكنهما لم يرفضاه جملة ولم يعتبراه ¬

_ (¬1) منهج الإفتاء عند ابن القيم، د. أسامة الأشقر، (ص 131). (¬2) لسان العرب، لابن منظور، (5/ 37). (¬3) شرح تنقيح الفصول، للقرافي، (ص 353)، مقاصد الشريعة، لعلال الفاسي، (ص 162 - 163). (¬4) الفروق، للقرافي، (2/ 451). (¬5) شرح تنقيح الفصول، للقرافي، (ص 353).

أصلًا قائمًا بذاته، بل كان داخلًا في الأصول المقررة عندهما كالقياس والاستحسان، ولكن ابن حزم -رحمه الله- يستنكر الاجتهاد عن طريق الذرائع؛ لأن ذلك من أبواب الرأي، والرأي عنده مستنكر كله (¬1). وعليه فقد فرَّع الفقهاء فروعًا تحت هذا الأصل، فمن ذلك: تحريم بيع السلاح زمن الفتنة (¬2). وتحريم بيع العنب لمن يعصره خمرًا (¬3). كراهة تزويج الكتابيات الحرائر عملًا بمذهب عمر -رضي الله عنه- وموافقة الصحابة، لما رأى انصرافًا عن المسلمات ورغبة في غيرهن لجمالهن، ويتأكد المنع إذا ترتب عليه تبعية الأبناء لأمهم في دينها (¬4). ولما رأى عمر -رضي الله عنه- اجتراءَ الرجال على التطليق بلفظ الثلاث أوقعه عليهم ثلاثًا، ووافقه على ذلك الصحابة سدًّا لهذا الباب، وتأديبًا على الطلاق بلفظ يخالف السنة (¬5). وقد أفتى الصاحبان من الحنفية بتضمين الصناع والأجير المشترك ما تلف بيده من الأموال وفاقًا للمالكية، وخلافًا لأبي حنيفة؛ وذلك لما وقع التهاون في أموال الناس (¬6). وقال ابن النجار: "وتسد الذرائع -وهي ما ظاهره مباح ويُتوصل منه إلى محرم- ومعنى سدِّها: المنع من فعلها لتحريمه، وأباحه أبو حنيفة والشافعي" (¬7). والمجتهد ينظر إلى الذرائع بحسب قوة إفضائها إلى الواجب أو المحظور؛ فما كانت مفسدته ¬

_ (¬1) ابن حزم حياته وعصره آراؤه وفقهه، لمحمد أبي زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، (ص 424). (¬2) شرح منتهى الإرادات، للبهوتي، (1/ 157)، الكافي، لابن عبد البر، (2/ 677)، مواهب الجليل، للحطاب، (6/ 50)، البحر الرائق، لابن نجيم، (5/ 154). (¬3) شرح منتهى الإرادات، للبهوتي، (1/ 157)، الكافي، لابن عبد البر، (2/ 677)، مواهب الجليل، للحطاب، (6/ 50). (¬4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، (2/ 267)، المهذب، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، (2/ 44)، المغني لابن قدامة، (9/ 546). (¬5) سبق تخريجه. (¬6) بدائع الصنائع، للكاساني، (4/ 211)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، (4/ 29). (¬7) شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 434).

حادي عشر: شرع من قبلنا

راجحة وإفضاؤه قريبًا بكثرة أو غلبة فمنعها وتحريمها متجه (¬1). وفي بلاد الأقليات يحتاج إلى هذه القاعدة سدًّا للذريعة، وأحيانًا فتحًا لها؛ لتحصيل مصالح أو لدفع مفاسد قد لا تتأتَّى إلا من خلال إعمال هذه القاعدة. حادي عشر: شرع مَنْ قبلنا: يقصد بشرع من قبلنا: الأحكام التي سنَّها الله تعالى لعباده على ألسنة الرسل المتقدمين على نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ فيدخل في ذلك الشرائع الكتابية من يهودية ونصرانية، وغيرها من الشرائع (¬2). وقد اختلف في شرع من قبلنا من حيث حجيته إلى ثلاثة أقسام؛ واسطةٍ وطرفين، طرف يكون فيه شرعًا لنا إجماعًا، وآخر لا يكون شرعًا لنا إجماعًا، وواسطة اختلفوا فيها (¬3). فأما الأول: فما هو شرع لنا إجماعًا، وهو ما ثبت في شرعنا، وعليه فالحجة قائمة على مشروعيته من شريعتنا أولًا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]. وأما الثاني: فما ليس بشرع لنا إجماعًا وهو أمران: أولهما: ما ثبت في شرعنا النهي عنه، أو نسخه ورفعه؛ كالآصار والأغلال التي كانت على من سبقنا من الأمم؛ قال تعالى {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]؛ قال الله تعالى: قدْ فَعَلْتُ (¬4). ثانيهما: ما لم يثبت أنه كان شرعًا لمن قبلنا؛ كالمتلقَّى من الإسرائيليات؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 136)، الموافقات، للشاطبي، (2/ 359) وما بعدها. (¬2) المسودة، لآل تيمية، (ص 193). (¬3) أضواء البيان، للشنقيطي، (6/ 86)، الوجيز في أصول الفقه، د. عبد الكريم زيدان، دار الرسالة، بيروت، (ص 263 - 264). (¬4) أخرجه: مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان أنه -سبحانه وتعالى- لم يكلف إلا ما يطاق، (126)، من حيث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

نهانا عن تصديقهم وتكذبيهم فيها (¬1)، وما نهانا - صلى الله عليه وسلم - عن التصديق به لا يكون مشروعًا بالإجماع (¬2). وأما الثالث فهو محل الخلاف: وهو ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لمن قبلنا، ولم يبين لنا في شرعنا أنه مشروع لنا، أم غير مشروع، وقد جرى الخلاف في هذه المسألة على قولين: أولهما: شرع من قبلنا شرع لنا: وهو مذهب جمهور الحنفية، وقول الشافعي، وأحمد في أصح الروايتين، وعليها أكثر أصحابه (¬3). وعزاه ابن تيمية إلى جماهير السلف والأئمة (¬4). الثاني: شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا: وهو قول كثير من الشافعية؛ كالغزالي والرازي والآمدي، ورواية عن أحمد (¬5). واستدلَّ كل فريق بأدلة من الكتاب، والسنة، والنظر العقلي. وعلى ترجيح القول الأول الذي قال به الأكثر فإن الخلاف فيما يبدو لا يترتب عليه كبير أثر في العمل؛ لأن المثبتين له يشترطون كونه ثابتًا بكتاب الله، أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو داود، كتاب العلم، باب: رواية حديث أهل الكتاب، (3644)، والإمام أحمد في "مسنده"، (4/ 136)، وغيرهما، من حديث أبي نملة الأنصاري -رضي الله عنه- قال: بينما هو جالس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعنده رجل من اليهود، مر بجنازة، فقال: يا محمد؛ هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الله أعلم! فقال اليهودي: إنها تتكلم! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم؛ وقولوا: آمنا بالله ورسله، فإن كان باطلًا لم تصدقوه، وإن كان حقًّا لم تكذبوه". وصححه ابن حبان (14/ 151). (¬2) أضواء البيان، للشنقيطي، (6/ 86). (¬3) أصول السرخسي، (2/ 104)، أحكام القرآن، لابن العربي، (1/ 38)، التمهيد، للإسنوي، (441)، الإبهاج، لابن السبكي، (2/ 276)، روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 160 - 161)، المسودة، لآل تيمية، (ص 193). (¬4) دقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية، جمع وتحقيق: د. محمد السيد الجليند، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، ط 2، 1404 هـ - 1984 م، (2/ 55). (¬5) التبصرة في أصول الفقه، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، تحقيق: د. محمد حسن هيتو، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1980 م، (ص 285)، المستصفى، للغزالي، (1/ 165)، الإحكام، للآمدي، (4/ 147)، روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 161).

يرد عليهم أن تلك الشرائع السابقة قد اعتراها تحريف أو تبديل. وبالجملة فما من حكم من أحكام الشرائع السابقة قصَّهُ الله تعالى علينا، أو بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنا إلا وفي شريعتنا ما يدلُّ على نسخه أو بقائه في حقنا (¬1). ومما يرجح القول الأول أن في الأخذ به إثراءً للفقه الإسلامي وتأهيلًا لاستيعاب الوقائع والنوازل، وتنوعًا لمدارك الأحكام في الفقه، ولقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - خير الصيام وأفضله لبعض أصحابه، وبيَّن أنه صيام داود -عليه السلام- (¬2)، كما قصَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة سليمان مع المرأتين اللتين اختصمتا إلى سليمان بعد أبيه -عليهما السلام- (¬3)، والقصة من جملة شريعة مَنْ سبقنا، ومع هذا فإن شراح الحديث استنبطوا من تلك القصة فوائدَ، حتى إن ابن القيم ذكر خمسًا من السنن في ذلك الحديث (¬4). ومما يجدر التنبيه إليه: أن بعض المقيمين بديار الأقليات بالغرب دعا إلى مراجعة نقدية للفقه الموروث، مطالبًا بتنقية الفقه مما علق به وأُدخل فيه مما ليس منه عند التحقيق. ويضرب لما أراد مثلًا فيقول معلقًا على قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ¬

_ (¬1) الوجيز في أصول الفقه، لعبد الكريم زيدان، (ص 265). (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب التهجد، باب: مَن نام عند السحر، (1131)، ومسلم، كتاب الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوَّت به حقَّا أو. . .، (1159)، من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص -رضي الله عنهما- أخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود -عليه السلام-، وأحب الصيام إلى الله صيام داود: وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، ويصوم يومًا ويفطر يومًا". (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30]. . .، (3427)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب: بيان اختلاف المجتهدين، (1720)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما؛ فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك! فتحاكمتا إلى داود؛ فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود -عليهما السلام- فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما! فقالت الصغرى: لا، يرحمك الله! هو ابنها! فقضى به للصغرى". وهذا لفظ مسلم. (¬4) الطرق الحكمية، لابن القيم، (ص 8 - 10).

[المائدة: 45]: "إذا ببعض الفقهاء يذهبون إلى الأخذ بمنطوق الآية بناءً على قاعدة: شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يَرِدْ ناسخ، أو على عموم النص لنا ولهم، أو على غيرها من أصول، مع نسيان مفهوم الهيمنة القرآنية، والتصديق، ونسخ شرعة الآصار والأغلال؛ فقرروا القصاص في الجروح، فوقعوا وأوقعوا الأمة معهم في حرج كبير" (¬1). ولا شك في أن هذا الكلام ينطوي على مفاسدَ ظاهرةٍ؛ فإن فقهاءَنا حين قرروا ذلك الحكمَ قرروه استنادًا إلى آيات وأحاديث عدَّة، فبخلاف الآية المذكورة: قول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقد حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقصاص في كسر ثنية جارية كسرت ثنيتها الرُّبَيِّعُ -رضي الله عنها-، وقال: "كتاب الله القصاص" (¬2). أي: حكم كتاب الله وجوب القصاص في السن (¬3). وقد نقل الإجماعَ غيرُ واحد من الأئمة على إعمال الآية المذكورة في شريعتنا؛ كابن تيمية (¬4) وابن كثير (¬5) وابن عبد البر (¬6). على أن الفقهاء حين قالوا بوجوب القصاص في الجروح قالوا بذلك بشروط ثلاثة: ¬

_ (¬1) مقاصد الشريعة، لطه جابر العلواني، دار الهادي، بيروت، ط 1، 1421 هـ - 2001 م، (ص 46). (¬2) أخرجه: البخاري، كتاب الصلح، باب: الصلح في الدية، (2703)، من حديث أنس -رضي الله عنه- أنَّ الربيع -وهي ابنة النضر- كسرت ثنية جارية، فطلبوا الأرش وطلبوا العفو؛ فأبوا! فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرهم بالقصاص؛ فقال أنس ابن النضر: أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله؟! لا -والذي بعثك بالحق- لا تكسر ثنيتها! فقال: "يا أنس كتابَ الله القصاص"؛ فرضي القوم. . . الحديث. وهو في مسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها، (1675)، من حديث أنس -رضي الله عنه- أيضًا، بنحو هذه القصة، إلا أنَّ بينهما اختلافًا، راجعه في "جامع الأصول"، (10/ 270) -مع تعليق الإمام ابن الأثير -رحمه الله- عليه-. (¬3) شرح صحيح مسلم، للنووي، (11/ 163). (¬4) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (14/ 76). (¬5) تفسير ابن كثير، (3/ 121). (¬6) الاستذكار، لابن عبد البر، (8/ 167، 183، 187)، المغني، لابن قدامة، (11/ 530 - 531).

المطلب الخامس: الاستنباط بالرد إلى مقاصد الشريعة

التعمد، والتكافؤ بين الجاني والمجني عليه، وإمكان الاستيفاء من غير حيف ولا زيادة (¬1). فإن لم يؤمن الحيف انتقل إلى البدل، وهذه الوسطية في شريعتنا في مقابل الإلزام بالقصاص دون العفو في شريعة التوراة، والعفو دون قصاص في شريعة الإنجيل. وأما في شريعتنا فالعدل في محله، والعفو في موضعه، والحمد لله. المطلب الخامس: الاستنباط بالرد إلى مقاصد الشريعة: سبق أن الأقرب في معنى القصد والمقصد أنه بمعنى الأَمِّ وإتيان الشيء والاعتماد (¬2). وعليه: فإن مقاصد الشريعة هي المعاني التي اعتمدت عليها الشريعة وسعت إلى تحقيقها، وعمدت إلى المحافظة عليها، وسلكت في ذلك سبيلًا مستقيمًا. وهي اصطلاحًا: المعاني والحِكَمُ الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها؛ بحيث لا تختصُّ ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة (¬3). وقد يراد بالمقاصد: الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد (¬4). وعلى رأس هذه المقاصد: الكليات الخمس، والمصالح الضرورية التي تعتبر أصولًا للشريعة وأهدافًا عامة لها، بل اتفقت الشرائع على حفظها وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، ويلحق بها العرض. ويلحق بها: المصالح الحاجية، وهي التي لا بدَّ منها لقضاء الحاجات؛ كتشريع أحكام ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة، (11/ 531 - 532). (¬2) لسان العرب، لابن منظور، (11/ 179) وما بعدها، القاموس المحيط، للفيروز آبادي، (1/ 324)، المصباح المنير، للفيومي، (2/ 504)، معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (5/ 95). (¬3) مقاصد الشريعة، للطاهر ابن عاشور، (ص 51). (¬4) مقاصد الشريعة، للطاهر ابن عاشور، (ص 51)، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، للريسوني، (ص 7)، مقاصد الشريعة ومكارمها، لعلال الفاسي، (ص 7)، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالم، (ص 79).

البيع، والنكاح، وسائر المعاملات، وتشتمل على الرخص، وكل ما فيه تيسير وتوسعة؛ لتمكين المكلَّفِ من القيام بما كُلِّفَ به دون مشقة. ويلحق بها كذلك: المصالح التحسينية، وهي كل ما يعود إلى العادات الحسنة والأخلاق الفاضلة، والمظهر الكريم والذوق السليم، مما يجعل الأُمَّةَ أُمَّةً مرغوبًا في الانتماء إليها، والعيش في أحضانها. فهذه المصالح العظيمة والمقاصد التي قصد الشارع إلى تحقيقها؛ كجلب المصالح، ودرء المفاسد، وحفظ النظام العام، والحرص على عمارة الأرض، ودفع الحرج عن المكلفين، وقاعدة المشقة تجلب التيسير، وقاعدة العدل والإحسان ونحوها، لا بدَّ من إحاطة المفتي بها، والتمرس على تطبيقها والتعمق فيها، وأن يربط بين الدليل الجزئي من آية وحديث، وبين الكليات العامة والمقاصد الشرعية. وإذا لم يراعِ المجتهد مقاصد الشريعة زلَّ؛ ولذا قال الشاطبي -رحمه الله-: "فزلة العالم أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشرع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه" (¬1). وما الأقوال الشاذة المهجورة والتخبط في الفُتيا والاضطراب في الترجيح إلا نتاج لإهمال مراعاة مقاصد الشريعة، والتجافي عن هذا الأصل الأصيل والركن الركين من أركان الفُتيا، ذلكم أن الاجتهاد لن ينضج، ولن يقوم إلا بمراعاة المقاصد فتتسع المدارك ويستوعب الناظر نوازل الحياة بكل تقلباتها وتشعباتها. قال الشاطبي -رحمه الله-: "ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 170).

وجزئياتها المرتبة عليها. . . فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضًا، كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة، وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليلٍ ما أيًّا كان عفوًا وأخذًا أوليًّا، وإن كان ثَمَّ ما يعارضه من كلي أو جزئي، فكأن العضو الواحد لا يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكمًا حقيقيًّا" (¬1). وقال كذلك: "حتى لتجد أحدهم آخذًا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها، ولا رسوخ في فهم مقاصدها، ولا راجعًا رجوع الافتقار إليها، ولا مسلِّمًا لما روي عنهم في فهمها ولا راجعًا إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في أمرها، ويعين على هذا الجهل بمقاصد الشريعة، وتوهم بلوغ درجة الاجتهاد باستعجال نتيجة الطلب، فإن العاقل قلما يخاطر بنفسه في اقتحام المهالك مع العلم بأنه محظور" (¬2). إن على المفتي والمجتهد أن يربط الدليل الجزئي بالمقاصد الكلية العامة، فإن قصر في أحدهما حصل له من النقص والخطأ بقدر ما قصر فيه، وعليه: فإن المجتهد محتاج غاية الحاجة إلى المقاصد عند استنباط الأحكام، وفهم النصوص، والتعرف على أسرار التشريع؛ لإلحاق النوازل والمستجدات بما يشبهها من وقائع سابقة، وأقوال للأئمة المتقدمين، وكذلك فإن مقاصد الشريعة تعدُّ من وسائل الترجيح بين الأقوال والأدلة التي ظاهرها التعارض، وذاك -لعمر الله- باب من العلم لا يحسنه إلا من وفقه الله، وألهمه رشده. وكذلك إن دعته الحاجة إلى استعمال القياس أو الاستصلاح أو الاستحسان أو العرف فإنه لا يستغني عن مقاصد الشريعة. ¬

_ (¬1) الاعتصام، للشاطبي، (1/ 244 - 245). (¬2) الموافقات، للشاطبي، (4/ 174 - 175) باختصار، الاعتصام، للشاطبي، (2/ 173) بتصرف.

فإذا كان العلم القطعي حاصلًا بأن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها؛ كان لزامًا على المجتهد والمفتي في النوازل مراعاة هذا الأصل العظيم والمقصد الرئيس من مقاصد الشريعة، فيستحيل أن تأمر الشريعة بما فيه مفسدة، أو تنهى عما تحققت مصلحته، قال البيضاوي -رحمه الله-: "إن الاستقراء دلَّ على أن الله سبحانه شرع أحكامه لمصالح العباد" (¬1). وقال ابن القيم -رحمه الله-: "القرآن وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مملوءان من تعليل الأحكام والمصالح وتعليل الخلق بها، والتنبيه على وجوه الحِكم التي لأجلها شرع الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة" (¬2). ولا ريب أن مراعاة المصالح سمة ملازمة لكل أحكام الشرع، فما من حُكم إلا وقد قرر لرعاية مصلحة، أو درء مفسدة، وإخلاء العالم من الشرور والآثام، مما يدلُّ على أن الشريعة الغراء تستهدف تحقيق مقصد عام، هو إسعاد الفرد والجماعة، وحفظ نظام المجتمع، وتعمير الدنيا وإصلاحها بما يوصل البشرية إلى أرقى درجات الكمال البشري. وإذا كانت مقاصد الشريعة بهذا الشمول والهيمنة على أحكام الشريعة والملازمة لها- كانت معرفتها أمرًا ضروريًّا لمن يتصدر للفُتيا والاجتهاد. وقد اعتنى غير واحد من المحققين بمقاصد الشريعة، وأكثرَ من الحديث حولها وتقريرها، إما في تصنيف مستقلٍّ، أو ضمن كتب وأبحاث وفتاوي، وممن أكثر من الكلام عليه والإشارة إليه إمام الحرمين أبو المعالي الجويني -رحمه الله- (¬3) والإمام الغزالي -رحمه الله- (¬4) ¬

_ (¬1) نهاية السول شرح منهاج الأصول، للإسنوي، (4/ 91). (¬2) مفتاح دار السعادة، لابن القيم، (2/ 363). (¬3) البرهان، للجويني، (2/ 810 - 811، 911، 923). (¬4) المستصفى، للغزالي، (ص 173 - 180)، شفاء الغليل، للغزالي، (ص 161) وما بعدها.

والعز ابن عبد السلام في كتابه الفذ "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" وكذلك كتابه "مختصر الفوائد في أحكام المقاصد" ولعله أول من بسط الكلام فيه. وتلاه تلميذه القرافي (¬1)، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فهو ممن امتلأت كتبه بمباحث هذا العلم (¬2) وقد ألف الدكتور يوسف أحمد محمد البدري كتابًا مفيدًا بعنوان: "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية" وهو من الأهمية بمكان لما لشيخ الإسلام -رحمه الله- من قدم راسخة في العلم وبروز واضح في هذا الباب. وكذلك تلميذه العلامة ابن القيم (¬3) -رحمه الله- لا سيما في كتابه العظيم "إعلام الموقعين عن رب العالمين" في هذا الباب. وأما أول من أبرز قواعده وأظهره كَفَنٍّ مستقلٍّ وأصلَّه وقرره، فهو العلامة الشاطبي -رحمه الله- في "الموافقات" فهو -بحقٍّ- مؤسس هذا العلم، وكتابه مرجع الباحثين ومهيع المفتين المجتهدين (¬4). ثم تتابع الناس في التأليف في هذا الباب، والاهتمام به وتقريره وتوسيع مباحثه. ولذا يقول العلامة الشاطبي -رحمه الله-مبينًا اشتراط فهم مقاصد الشريعة للمجتهد-: "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها. ¬

_ (¬1) الفروق، للقرافي، (2/ 450) (2/ 569 - 570)، شرح تنقيح الفصول، للقرافي، (ص 303 - 306). (¬2) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (11/ 354)، (20/ 583)، (32/ 234) وغيرها، القواعد النورانية، لابن تيمية، (ص 91، 21، 117، 134 - 135) وغيرها. (¬3) مفتاح دار السعادة، لابن القيم، (2/ 362) وما بعدها، إعلام الموقعين، لابن القيم، في مواضع كثيرة جدًّا. (¬4) نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، للريسوني، (ص 93)، الشاطبي ومقاصد الشريعة، للعبيدي، دار قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط 1، 1412 هـ - 1992 م، (ص 131 - 138).

طرق معرفة مقاصد الشريعة

والثاني: التمكن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها" (¬1). ثم قال: "فإذا بلغ الإنسان مبلغًا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزيله منزلة الخليفة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في التعليم والفُتيا والحكم بما أراه الله" (¬2). ولم ينفرد الشاطبي -رحمه الله- بهذا الشرط للمجتهد، فقد ذكر غير واحد من الأصوليين كالموفق ابن قدامة -رحمه الله- في روضة الناظر حيث قال حين تكلم عن القدر اللغوي الذي يتعلق بفهم الكتاب والسنة: "ويستولي به على مواقع الخطاب، ودرك دقائق المقاصد فيه" (¬3). وذكر التاج السبكي -رحمه الله- من شروط الاجتهاد: "الاطلاع على مقاصد الشريعة، والخوض في بحارها" (¬4). ونقل السيوطي عن الغزالي -رحمهما الله- قوله: "مقاصد الشرع قبلة المجتهدين من توجَّه جهةً منها أصاب الحق" (¬5). وقال ابن عاشور -رحمه الله-: "وحقُّ العالم فهمُ المقاصد، والعلماء -كما قلنا- متفاوتون على قدر القرائح والفهوم" (¬6). طرق معرفة مقاصد الشريعة: هناك طرق كثيرة يتعرف بها المجتهد على مقاصد الشريعة، منها: 1 - الاستقراء: وذلك بتتبع نصوص الشريعة وأحكامها ومعرفة عللها. ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 105 - 106). (¬2) المرجع السابق، (4/ 106 - 107). (¬3) روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 353). (¬4) الإبهاج، لابن السبكي، (3/ 206). (¬5) الرد على من أخلد إلى الأرض، للسيوطي، (ص 182). (¬6) مقاصد الشريعة، لابن عاشور، (ص 18).

شروط المقاصد

فإذا استقرأ عللًا كثيرة متماثلة في كونها ضابطًا لحكمة متحدة استخلص منها حكمة واحدة يجزم بأنها مقصد الشارع (¬1). 2 - معرفة علل الأمر والنهي، وهذا وإن كان له علاقة قوية بالذي قبله غير أنه يُعْنَى بجانب كيفية التعرف على علل الأمر والنهي، وهي المعروفة بمسالك العلة. 3 - مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي ونعني بالابتدائي ما أُمر به أو نهي عنه ابتداءً؛ لا لكونه وسيلة إلى غيره، أو جيء به تبعًا وتأكيدًا للأمر الأول، ولم يقصد بالقصد الأول. ونعني بالتصريحي ما دلَّ على الأمر والنهي بصيغة صريحة، لا بصيغة ضمنية (¬2). 4 - التعبير عن المصالح والمفاسد بلفظ الخير والشر أو النفع والضر، وما أشبه ذلك. كما قال العز ابن عبد السلام -رحمه الله-: "ويعبر عن المصالح والمفاسد بالخير والشر، والنفع والضر، والحسنات والسيئات؛ لأن المصالح كلها خيور حسنات، والمفاسد بأسرها شرور مضرات سيئات، وقد غلب في القرآن استعمال الحسنات في المصالح، والسيئات في المفاسد" (¬3). إلى غيرها من الطرق الموصلة لأنواع المقاصد الشرعية. شروط المقاصد: إنه قد تخفى المقاصد على بعض المجتهدين، أو تختلط عليهم ببعض القواعد الجزئية، أو يدخل على بعضهم الهوى أثناء تقديرها وتحصيلها؛ ولهذا جعل بعض العلماء للمقاصد المعتبرة التي قررها الشارع صفاتٍ ثابتةً وشروطًا محددة ترجع إلى أمور، هي: 1 - أن يكون المقصد وصفًا ثابتًا أو قاطعًا، أي: مجزومًا بتحققه أو مظنونًا به ظنًّا قريبًا من الجزم، فالأوهام والتخيلات لا يصح أن تكون مقاصد شرعية؛ لأنه تقعيد ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص 191). (¬2) الموافقات، للشاطبي، (2/ 393 - 394). (¬3) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 7).

تبنى عليه الفروع والأحكام، ومن شأن التقعيد أن يكون قطعيًّا. 2 - أن يكون ظاهرًا بحيث لا يختلف العلماء في تشخيص معناه، ولا يلتبس عليهم إدراكه، فالمقصد مثلًا من مشروعية النكاح حفظ النسل، وهذا معنى ظاهر جلي أثبتته مجموعة من الأدلة. 3 - أن يكون مطَّردًا، ويدخل في هذا ثلاثة أمور: أ - أن يكون كليًّا. ب - عامًّا. جـ - أبديًّا (¬1). وبمراعاة هذه الضوابط تتضح المقاصد في ذهن الناظر والمجتهد، وتتجلَّى له عند بحثه وتتبعه لعلل الأحكام وحكم التشريع، من أجل التعرف على ما لم يُنَصَّ عليه من أحكام النوازل والوقائع المختلفة. ويبقى التنبيه على أن الخطأ والخلط في تعيين المقاصد ينجم عنه أخطار عظيمة؛ ولهذا قال العلامة الطاهر ابن عاشور -رحمه الله-: "على الباحث في مقاصد الشريعة أن يطيل التأمل، ويجيد التثبت في إثبات مقصد شرعي، وإيَّاه والتساهلَ والتسرعَ في ذلك؛ لأن تعيين مقصد شرعي كلي أو جزئي أمر تتفرع عنه أدلة وأحكام كثيرة في الاستنباط ففي الخطأ فيه خطر عظيم، فعليه أن لا يعين مقصدًا شرعيًّا إلا بعد استقراء تصرفات الشريعة في النوع الذي يريد انتزاع المقصد الشرعي منه، وبعد اقتفاء آثار أئمة الفقه؛ ليستضيء بأفهامهم وما حصل لهم من ممارسة قواعد الشرع، فإن هو فعل ذلك اكتسب قوة استنباط يفهم بها مقصود الشارع" (¬2). وقد أكد العلامة ابن عاشور على ضرورة معرفة الفقيه والمجتهد لمقاصد الشريعة: ¬

_ (¬1) مقاصد الشريعة، لابن عاشور، (ص 52). (¬2) المرجع السابق، (ص 40).

"فالفقيه بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذه الأنحاء كلها، أما النحو الرابع فاحتياجه فيها ظاهر، وهو الكفيل بدوام أحكام الشريعة الإسلامية للعصور والأجيال التي أتت بعد عصر الشارع، والتي تأتي إلى انقضاء الدنيا، وفي هذا النحو أثبت مالك -رحمه الله- تعالى حجية المصالح المرسلة، وفيه أيضًا قال الأئمة بمراعاة الكليات الشرعية الضرورية، وألحقوا بها الحاجية والتحسينية، وسَمُّوُا الجميع بالمناسب، وهو مقرر في مسالك العلة من علم أصول الفقه" (¬1). وقد سبق الحديث عن المصلحة المرسلة وأثرها في استنباط أحكام النوازل. أما اعتماد المقاصد الشرعية لحل المشكلات في العصر الحديث فلا بدَّ من وجود مقاصد قطعية يعتمدها المجتهدون على خلافاتهم في القضايا التي لا نصَّ فيها ولا إجماع، وكيف نصل إلى الاستدلال على تعيين مقصد ما من تلك المقاصد استدلالًا يجعله بعد استنباطه محلَّ وفاق بين المتفقهين، سواء في ذلك من استنبطه، ومن بلَّغه، فيكون ذلك بابًا لحصول الوفاق في مدارك المجتهدين، أو التوفيق بين المختلفين من المقلدين (¬2). كما أنه "من شروط المجتهد الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة" (¬3). "فعلينا أن نَرسِمَ طرائق الاستدلال على مقاصد الشريعة بما بلغنا إليه بالتأمل وبالرجوع إلى كلام أساطين العلماء، ويجب أن يكون الرائد الأعظم في هذا المسلك هو الإنصاف ونبذ التعصب لبادئ الرأي، أو لسابق الاجتهاد، أو لقول إمام" (¬4). وفي فقه الأقليات تطبيقات للمقاصد الشرعية وأثرها في استنباط الأحكام من ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص 15 - 16). (¬2) المرجع السابق، (ص 189). (¬3) الإبهاج، لابن السبكي، (1/ 8). (¬4) مقاصد الشريعة، لابن عاشور، (ص 19).

الأهمية بمكان، من ذلك: المرأة تسلم وزوجها نصراني: فمذهب الجمهور فسخ النكاح؛ إما فورًا، أو بعد انقضاء العدة، والدليل آية الممتحنة: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]. وهناك روايات عن أميري المؤمنين عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- يقرانهما على النكاح، ويرى ابن تيمية بقاءَ النكاح ما لم يُفسخ على ألَّا يقربها. والدليل قضية زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث ردَّها لأبي العاص بالعقد الأول على الصحيح. وآية الممتحنة تتعلق بحالة خاصة في نساء خرجن فرارًا بدينهن من دار الحرب. وخصوص السبب قد يمنع عموم الحكم عند بعض علماء أصول الفقه، نص عليه المازري في شرح البرهان وغيره، فيكون النكاح نكاحًا جائزًا غير لازم. والواقع: نساء يسلمن في الغرب تحت أزواج غير مسلمين، وأحيانًا يكونون كبارًا في السن، وقد يتبع الرجل زوجته في الإسلام، فإذا فرض عليهما الفراق فقد ترتدُّ، كما وَرَدَ في سؤال من أمريكا بهذا المعنى. والجديد: هو تواصل العالم وانتشار الإسلام بحمد الله تعالى وبخاصة بين النساء. المقصد الشرعي: التيسير والتبشير، وعدم التنفير، والمحافظة على الدين مقصد أعلى. وقد تنبه لهذا المقصد ابن تيمية -رحمه الله- عندما قال: إنه يكفي تنفيرًا أن تعلم أنها ستفارق زوجها إذا أسلمت. النتيجة: اختيار جواز بقائها مع زوجها، بشرط ألا يقربها حتى يسلم. وهناك قضايا جديدة كالاشتراك في الأعمال السياسية في الغرب وغير ذلك.

المطلب السادس: الاستنباط بالرد إلى القواعد الفقهية وضوابطه

المطلب السادس: الاستنباط بالرد إلى القواعد الفقهية وضوابطه: مضى الحديث عن تعريف القواعد والضوابط الفقهية وأهميتها، والعلاقة بينهما وبين القواعد الأصولية، وفيما يأتي بيان لحجية القواعد الفقهية، وذكر لأقسامها وأهميتها في استنباط واستخراج أحكام النوازل. حجية القواعد الفقهية: وَرَدَ عن بعض أهل العلم ما يُشعر بحجية القواعد، واستقلالها باستنباط الأحكام منها على أساس كونها دليلًا شرعيًّا، وهذا المنحى قد يسلم فيما لو كانت القاعدة نَصَّ آيةٍ، أو حديثٍ صحيح، أو مبنية على ما لا يحصى من أدلة الكتاب والسنة، ولو من غير نصهما؛ كالقواعد الخمس الكبرى. وهذا بطبيعة الحال لا يتأتَّى في القواعد الصغرى، أو الخلافية من باب أولى، وعليه فلا مجال للقول بحجيتها مطلقًا. وعلى هذا يتنزل قول ابن نجيم: "إنه لا يجوز الفتوى بما تقتضيه القواعد والضوابط؛ لأنها ليست كلية، بل أغلبية" (¬1). أما إذا نزلت نازلة ليس لها دليل شرعي بعينها، ولم يوجد نص فقهي بحكمها، ووجدت القاعدة الفقهية التي تشملها، فحينئذ يمكن الاستناد إليها، والرجوع في الفتوى والقضاء إلى حكمها، اللهم إلا إذا قطع أو ظن وجود فرق واضح بين ما اشتملت عليه القاعدة، وهذه المسألة النازلة (¬2). ¬

_ (¬1) غمز عيون البصائر، للحموي، (1/ 37). (¬2) أحكام النوازل، لمسفر القحطاني، (ص 463)، القواعد الفقهية، للندوي، (ص 295)، موسوعة القواعد الفقهية، للبورنو، (1/ 48).

أولا: باعتبار شموليتها وسعتها

هذا، وقد صرح الإمام القرافي -رحمه الله- بنقض حكم القاضي إذا خالف قاعدة من القواعد السالمة عن المعارض (¬1). وجاء عن الإمام ابن عرفة -رحمه الله- لما سئل: "هل يجوز أن يقال في طريق من الطرق: هذا مذهب مالك؟ فأجاب بأن من له معرفة بقواعد المذهب، ومشهور أقواله، والترجيح والقياس يجوز له ذلك بعد بذل جهده في تذكره في قواعد المذهب، ومن لم يكن كذلك لا يجوز له ذلك" (¬2). والناظر في فتاوى كثير من فقهاء المذاهب الأربعة يلحظ كثرة استشهادهم واستدلالهم بالقواعد الفقهية في إثبات بعض الأحكام الفقهية، مما يدل على أهمية الرجوع إليها، واعتبارها بعد النظر في الأدلة الشرعية المعتبرة. ولعل كتب التخريج الفقهي قائمة في كثير من الأحيان على ردِّ الفروع إلى القواعد الفقهية، ولكي يتحقق الاستدلال المعتبر بالقاعدة الفقهية لا بدَّ من توفر شروط صحة القاعدة وضوابط تطبيقها على الواقعة المستجدة. ويمكن أن تقسم هذه القواعد باعتبارات مختلفة إلى عدة تقسيمات: أولًا: باعتبار شموليتها وسعتها: تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: القواعد الكلية الخمس الكبرى (¬3) التي تشمل مسائلَ كثيرةً جدًّا من جميع الأبواب تقريبًا، وهي: الأمور بمقاصدها، المشقة تجلب التيسير، الضرر يزال، العادة محكمة، اليقين لا ¬

_ (¬1) الفروق، للقرافي، (4/ 1167)، شرح تنقيح الفصول، للقرافي، (ص 347). (¬2) مواهب الجليل، للحطاب، (1/ 53). (¬3) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 7)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 14).

ثانيا: باعتبار الاتفاق والاختلاف، وهي بهذا الاعتبار تنقسم إلى قسمين

يزول بالشك، وهذه كلية وشاملة، وقد قيل: إن الفقه مبني عليها. القسم الثاني: القواعد التي تشتمل على مسائلَ كثيرةٍ من أبواب متعددة، لكنها أقل من سابقتها، فهي كما قال السيوطي وابن نجيم -رحمهما الله-: "قواعد كلية يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية" (¬1). وقد أوصلها السيوطي إلى أربعين، وابن نجيم إلى تسع عشرة قاعدة، ولعله اقتصر على مذهب الحنفية. مثل: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام، لا عبرة بالظن البين خطؤه (¬2). القسم الثالث: القواعد المشتملة على مسائل متعلقة بأبواب محدودة، وقد أطلق عليها ابن السبكي اسم: القواعد الخاصة (¬3)، وهي قريبة من الضابط، كما سبق. ومن أمثلتها: كل ميتة نجسة إلا السمك والجراد، الدفع أقوى من الرفع (¬4). ثانيًا: باعتبار الاتفاق والاختلاف، وهي بهذا الاعتبار تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: القواعد والضوابط المتفق عليها، وهي نوعان: الأول: القواعد المتفق عليها بين جميع المذاهب، وهي الخمس الكبرى. الثاني: القواعد المتفق عليها بين أكثر المذاهب، كالقواعد التسع عشرة التي ذكرها ابن نجيم. القسم الثاني: القواعد والضوابط التي اختلف فيها، وهي نوعان كذلك: الأول: القواعد المختلف فيها بين المذاهب المختلفة، ومن أمثلتها: ما بقي من القواعد ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 101)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 114). (¬2) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 101، 105، 157)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 115، 121، 188). (¬3) الأشباه والنظائر، لابن السبكي، (1/ 200). (¬4) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 138، 431)، المنثور، للزركشي، (2/ 155).

ثالثا: أقسام القواعد من حيث الاستقلال والتبعية

الأربعين التي ذكرها السيوطي بعد إخراج التسع عشرة المذكورة عند ابن نجيم، ففيها خلاف بين الحنفية والشافعية. الثاني: القواعد المختلف فيها بين المذهب الواحد، والغالب فيها أن تصاغ بصورة استفهام، ككثير من القواعد التي ذكرها ابن رجب، وكذلك القواعد التي ذكرها السيوطي في الكتاب الثالث من "الأشباه والنظائر" (¬1) ومن أمثلتها: من عليه فرض هل له أن يتنفل قبل أدائه بجنسه أم لا؟ (¬2). ثالثًا: أقسام القواعد من حيث الاستقلال والتبعية: وتنقسم وفق هذا الاعتبار إلى قسمين: القسم الأول: القواعد المستقلة أو الأصلية: وهي القواعد التي ليست قيدًا أو شرطًا في قاعدة أخرى، ولا متفرعة عن غيرها، ومن أمثلتها: القواعد الخمس الكبرى، وغيرها، مثل: إعمال الكلام أولى من إهماله، الخراج بالضمان، من استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه (¬3). القسم الثاني: القواعد التابعة: أي: التي تخدم غيرها من القواعد، إما لكونها متفرعة من قاعدة أكبر منها، فهي تمثل جانبًا من جوانب تلك القاعدة الكبيرة، أو تطبيقًا لها في مجالات معينة، كقاعدة: "الأصل براءة الذمة" و"الأصل في المياه الطهارة" و"الأصل في الصفات العارضة العدم" فهذه كلها تابعه لقاعدة: "اليقين لا يزول بالشك" (¬4). ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 162) وما بعدها. (¬2) قواعد ابن رجب، (ص 13). (¬3) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 128، 135، 152)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 150، 175، 184). (¬4) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 53، 69)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 64، 71).

رابعا: أقسام القواعد من حيث مصادرها

وإما لكونها قيدًا أو شرطًا في غيرها، أو استئناءً منها: ومن أمثلة ذلك: "الضرورة تقدر بقدرها" و"الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف" و"الضرر لا يزال بالضرر" فهذه الثلاثة قيود وشروط في قاعدة "الضرر يزال"، ومن القواعد المستثناة من غيرها قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" (¬1) التي تستثني حالات الضرورة من المحظورات الشرعية. رابعًا: أقسام القواعد من حيث مصادرها: وهي قسمان: قواعد منصوصة، وقواعد مستنبطة. فالمنصوصة هي التي جاء بشأنها نص شرعي إما بلفظها كقاعدة "الأعمال بالنيات" (¬2) وقاعدة "الخراج بالضمان" (¬3) فإنهما نصان نبويان. وإما بالاستنباط من النص كقاعدة "اليقين لا يزول بالشك" فمصدرها حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" (¬4). وأما القواعد المستنبطة فهي التي خرجها العلماء من استقراء الأحكام الجزئية ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 84، 86، 87)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 95، 96، 98). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخراج بالضمان"، أخرجه: أبو داود، كتاب الإجارة، باب: فيمن اشترى عبدًا فاستعمله ثم وجد به عيبًا، (3508، 3509، 3510)، والترمذي، كتاب البيوع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله، ثم يجد به عيبًا، (1285، 1286)، والنسائي، كتاب البيوع، باب: الخراج بالضمان، (4490)، وابن ماجه، كتاب التجارات، باب: الخراج بالضمان، (2243)، من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (11/ 298، 299)، والحاكم (2/ 15). (¬4) أخرجه: مسلم، كتاب الحيض، باب: الدليل على أن من تيقن الطهارة، ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، (362).

أهمية القواعد الفقهية في استنباط أحكام النوازل

وتتبعها في مورادها المختلفة، ومنها: الأصل عند أبي حنيفة أن ما غيَّر الفرض في أوله غيَّره في آخره، فقد استنبطها الكرخي من المسائل الاثني عشرية للإمام أبي حنيفة (¬1) (¬2). أهمية القواعد الفقهية في استنباط أحكام النوازل: إن صناعة التقعيد الفقهي فن جليل من فنون الفقه، وفي هذا لا تغيب كلمة السيوطي -رحمه الله- في أشباهه حيث قال -عن أهمية القواعد الفقهية-: "اعلم أن فن الأشباه والنظائر فن عظيم، به يطلع على حقائق الفقه ومداركه، ومآخذه وأسراره، ويتمهر في فهمه واستحضاره، ويقتدر على الإلحاق والتخريج، ومعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة، والحوادث والوقائع التي لا تنقضي على مَرِّ الزمان" (¬3). وما من شك في أن تقعيد الفقه على النحو المعروف الآن إنما هو بمثابة الضمانة لاستمرار فاعلية الشريعة وتأكيد صلاحيتها. وتجربة الأقليات الإسلامية اليوم تتميز بوجودها على أراضٍ شتى، وتحت أنظمة شتى، بما يفضي إلى تنوع الحاجات وإلحاحها وقربها من منزلة الضرورات؛ وذلك لمشقات بالغة لا تخفى في كل مجال من مجالات الحياة تقريبًا. وهذا يستدعي بحثًا فيما يسعف من أصول جامعة، وقواعد حاكمة يستعملها علماءُ نَصَحَةٌ للأقليات، أمناءُ على أحكام الشريعة ومقاصدها، وعاةٌ لخصائص الزمان والمكان والحال؛ ليقدموا حلولًا مستقيمة، تفي بحاجات أهل الإسلام فيما استحدث في هذا الزمان وَجَدَّ مما لا عهد للمتقدمين به. ¬

_ (¬1) تأسيس النظر، لأبي زيد عبيد الله بن عمر بن عيسى الدبوسي الحنفي، تحقيق: مصطفى محمد القباني، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، (ص 11 - 14). (¬2) القواعد الفقهية، للباحسين، (ص 118 - 132)، القواعد الفقهية، للندوي، (ص 313 - 314). (¬3) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 6).

ويؤكد على ما ذكر أن إعمال القواعد الفقهية في حياة الأقليات وُجدت له تطبيقات كثيرة، وتحققت من خلال النظر في نوازل الأقليات بمنظار القواعد الفقهية مصالح عديدة. فعلى سبيل المثال: عملت قواعد رفع الضرر، ودفع المشقات والحرج عملها في التيسير على أصحاب الحاجات التي تنزل منزلة الضرورات، وكذا الظروف الطارئة، وعموم البلوى، وعسر الاحتراز، ونحو ذلك. وقد طبق المعاصرون من الفقهاء هذه القواعد في مسائل تتعلق بالجمع بين الصلوات، وإجراء عقود التأمينات، وإباحة بعض الأعمال والعقود، عند الاحتياج في بلاد الأقليات. كما طبقوا قواعد الأعراف والعادات في أحكام تتعلق بالزي واللباس، والهيئات، وفي إجراء بعض المعاملات التي فيها تخصيص للعمومات دون مصادمة للنصوص، وكما أُجري ذلك في العقود أُقِرَّ أيضًا في الأنكحة. كما أعملوا قواعد درء المفاسد وجلب المصالح، في تخفيف الشرور ودفع المفاسد فأباحوا أنواعًا من الأعمال السياسية في بلاد الأقلية، ومنعوا من بعض التصرفات المباحة إذا ترتب عليها تعريض الأقليات لمفاسد عظيمة في المآلات. وراعوا قواعد السياسة الشرعية في قيام جماعة المسلمين مقام القاضي، وتحقق ولاية أهل الحل والعقد في تلك البلاد على الأقليات، فأجازوا ما يقع من ولاية المراكز في التزويج والتطليق والخلع عند الاقتضاء. ولا تخلو الفروع من خلاف فقهي، وجدل علمي بين أهل الاختصاص على ما سيظهر بمشيئة الله عند ذكر بعض نوازل الأقليات في الباب الثالث.

المطلب السابع: الاستنباط بالرد إلى التخريج الفقهي وضوابطه

المطلب السابع: الاستنباط بالرد إلى التخريج الفقهي وضوابطه: التخريج في معناه اللغوي يعود إلى أصلين: الأول: النفاذ عن الشيء وتجاوزه، وهو الأكثر استعمالًا. وهو بمعنى الاستنباط، وإخراج الشيء: إظهاره بعد خفاء، وخارج كل شيء: ظاهره. الثاني: اختلاف لونين (¬1). والتخريج في معناه الاصطلاحي له إطلاقات متعددة، منها: الأول: استخراج أصول الأئمة المجتهدين من فروعهم الفقهية، وذلك بالاستقراء والتتبع، وهو ما يعرف بتخريج الأصول من الفروع، وهذا أثمر بناء القواعد الأصولية للأئمة. الثاني: ردُّ الفروع الفقهية إلى القواعد الأصولية، وهو ما يسمى بتخريج الفروع على الأصول؛ لينتهي إلى ردِّ الفروع الفقهية غير المنصوصة عن إمام إلى أصول مذهبه. الثالث: استنباط أحكام غير منصوصة عن الإمام بالنظر فيما هو منصوص، وهو ما يسمى بتخريج الفروع على الفروع؛ لينتهي إلى الإفتاء في غير المنصوص بما يشبهه من المنصوص فيه عن الأئمة، وهو الأشيع استعمالًا في لغة الفقهاء، وعبارات المجتهدين من المفتين (¬2). الرابع: التعليل، أو ما يسمى بتخريج المناط، وهذا يعود إلى استخراج العلل والتي تبنى على أساسها الأحكام. والتخريج بالنظر إلى حقيقته عند الفقهاء والأصوليين يعتبر عملًا فقهيًّا يهدف إلى الدوران في فلك المذهب وأئمته. يقول عن ذلك ابن فرحون من المالكية: "هو عبارة عما تدلُّ أصول المذهب على ¬

_ (¬1) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (2/ 175). (¬2) التخريج عند الفقهاء والأصوليين، د. يعقوب الباحسين، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1414 هـ، (ص 11 - 12).

والتخريج بمعناه الثالث له عند المالكية عدة أقسام

وجوده، ولم ينصوا عليه، فتارة يُخرَّج من المشهور، وتارة من الشاذ" (¬1). والتخريج بمعناه الثالث له عند المالكية عدة أقسام: الأول: استخراج حكم واقعة ليس فيها حكم منصوص من مسألة منصوصة. مثاله: يقول ابن الجلاب: "ومن نذر اعتكاف يوم بعينه فَمَرِضَهُ؛ فإنها تتخرج على روايتين: إحداهما: أن عليه القضاء، والأخرى: ليس عليه القضاء، وهذه مخرجة على الصيام، فإنه إذا نذر صوم يوم بعينه فَمَرِضَهُ، أو خافت المرأة، قال ابن عبد الحكم (¬2): "لا قضاء عليه إلَّا أن يكون نوى القضاء، وقال ابن القاسم: عليه القضاء إلَّا أن يكون نوى ألَّا قضاء عليه" (¬3). الثاني: أن يكون في المسألة حكم منصوص فيخرج فيها من مسألة أخرى قول بخلافه. مثاله: قوله: "وفيها: لا يغسل أنثييه من المذي، إلا أن يخشى إصابتها". وقوله: "والجسد في النضح كالثوب على الأصح". فالقول الأول: أنه يغسل جسده إذا شك في إصابته النجاسة، وهذا مخرج من قول منصوص في المدونة، وهو أنه: "ليس على الرجل غسل أنثييه من المذي عند وضوئه منه، إلا أن يخشى أن يكون قد أصاب أنثييه منه شيء" (¬4). ¬

_ (¬1) كشف النقاب الحاجب من مصطلح ابن الحاجب، لإبراهيم بن علي بن فرحون، تحقيق: د. عبد السلام الشريف، وحمزة أبي فارس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1990 م، (ص 99). (¬2) أبو محمد، عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث، الإمام الفقيه، المصري المالكي، صاحب مالك، مفتي الديار المصرية، سمع الليث بن سعد، ومالك بن أنس، ومفضل بن فضالة، وحدث عنه بنوه الأئمة محمد، وسعد، وعبد الرحمن، وعبد الحكم، وأبو محمد الدارمي، ولد سنة 155 هـ، وتوفي سنة 214 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 151)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، (10/ 220). (¬3) التفريع، لأبي القاسم عبيد الله بن الحسين بن الحسن بن الجلاب البصري، تحقيق: حسين بن سالم الدهماني، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1408 هـ - 1987 م، (1/ 313). (¬4) المدونة الكبرى، رواية سحنون بن سعيد، (1/ 121).

حكم الاستنباط بالتخريج

أما القول الثاني: فإنه لا يغسل جسده، بل ينضحه. الثالث: أن يكون للمسألة حكم منصوص وحكم مُخَرَّجٌ، وذلك بأن يوجد للمسألة حكم منصوص، ويوجد نص في مثلها على خلاف ذلك الحكم، وليس بينهما فارق، فيُخَرِّجُون حكمًا على أحد النصين للمسألة الأخرى. وهذا التقسيم المنقول عن المالكية يوجد مثله، أو بعضه عند بقية المذاهب. فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: وأما التخريج فهو نقل مسألة إلى ما يشبهها، والتسوية بينهما فيه (¬1). ومن أمثلة استعمالاته عند الحنابلة: قول المرداوي عند شرحه لعبارة: "ومن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا فصلى فيه" قال:. . . وقيل: لا تصح فيه مطلقًا، بل يصلي عريانًا، وهو تخريج للمجد في شرحه. . . وعند عبارة: "وأعاد على المنصوص" قال: ويتخرج أن لا يعيد" (¬2). وقال الشيخ السقاف الشافعي (¬3): "التخريج أن ينقل فقهاء المذهب الحكم من نص إمامهم في صورة إلى صورة مشابهة" (¬4). وبناءً على ما سبق فإن أهل المذاهب الفقهية قد تعارفوا على هذا اللون من التخريج الفروعي على الفروع الفقهية المنصوصة من أئمة مذاهبهم. حكم الاستنباط بالتخريج: تَقَدَّمَ أنه ذهب عامة المنتسبين إلى المذاهب الأربعة إلى الأخذ بالتخريج على قول ¬

_ (¬1) المسودة، لآل تيمية، (ص 533). (¬2) الإنصاف، للمرداوي، (1/ 460). (¬3) علوي بن أحمد بن عبد الرحمن السقاف الشافعي المكي، نقيب السادة العلويين بمكة، وأحد علمائها، من مصنفاته: ترشيح المستفيدين، والفوائد المكية، والقول الجامع النجيح في أحكام صلاة التسابيح، ولد سنة 1255 هـ، وتوفي سنة 1335 هـ الأعلام، للزركلي، (4/ 249)، ومعجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (6/ 295). (¬4) الفوائد المكية، لعلوي السقاف ضمن سبعة كتب مفيدة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، (ص 42 - 43)، حاشية البجيرمي على منهج الطلاب، (2/ 372).

إمام المذهب إذا لم يوجد عنه في المسألة نص، وأنهم يجوزون الإفتاء بذلك، وينسبون هذا القول المستنبط بالإلحاق والقياس إلى مذهبهم تخريجًا على المنقول عن إمامهم. وهذا عملهم جارٍ على هذا النسق من قرون عديدة، قال ابن الصلاح عنه: "عليه العمل، وإليه مفزع المفتين من مُدَدٍ مديدة" (¬1). وقال ابن أمير الحاج -عن أصحاب الوجوه والتخريج-: "والذي أظنه قيام الإجماع على جواز فتيا هؤلاء، وأنت ترى من علماء المذاهب ممن وصل إلى هذه المرتبة، هل منعهم أحدٌ الفتوى، أو منعوا هم أنفسهم عنها" (¬2). ومع هذا فقد وُجِدَ من الفقهاء من ينكر هذا العمل بدرجات متفاوتة. فمحققو الحنفية ينصون على أن ما في المتون والشروح مقدَّم على ما في الفتاوي؛ وذلك لأن مسائل المتون والشروح هي المنقولة عن أئمة الحنفية الثلاثة أو بعضهم بخلاف الفتاوي؛ فإن الإفتاء "مبني على وقائع تحدث لهم، ويسألون عنها، وهم من أهل التخريج، فيجيب كل منهم بحسب ما يظهر له، تخريجًا على قواعد المذهب، إن لم يجد نصًّا، ولذا ترى في كثير منها اختلافًا، ومعلوم أن المنقول عن الأئمة الثلاثة، ليس كالمنقول عمن بعدهم من المشايخ" (¬3). وأبو بكر بن العربي يذهب إلى أنها لا تزيد عن أمور يتفقه بها الفقيه، وعند العمل يعول في حكم النازلة على الأدلة الأصلية! يقول -رحمه الله-في تفسير قوله تعالى-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] "ولذلك قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إن المفتي بالتقليد إذا خالف نَصَّ الرواية في نص ¬

_ (¬1) أدب الفتوى، لابن الصلاح، (ص 44). (¬2) التقرير والتحبير، لابن أمير الحاج، (3/ 464). (¬3) حاشية ابن عابدين، (9/ 357).

النازلة عمن قلَّده أنه مذموم، داخل في الآية؛ لأنه يقيس ويجتهد في غير محل الاجتهاد، وإنما الاجتهاد في قول الله، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لا في قول بشر بعدهما، ومن قال من المقلدين: هذه المسألة تخرج من قول مالك في موضع كذا، فهو داخل في الآية! فإن قيل: فأنت تقولها، وكثير من العلماء قبلك، قلنا: نعم نحن نقول ذلك في تفريع مذهب مالك على أحد القولين في التزام المذهب بالتخريج، لا على أنها فتوى نازلة تحمل عليها المسائل، حتى إذا جاء سائل عرضت المسألة على الدليل الأصلي، لا على التخريج المذهبي، وحينئذٍ يقال له: الجواب كذا فاعمل عليه" (¬1). وقريب من هذا منقول عن البيهقي في رسالته إلى أبي محمد الجويني (¬2). وابن القيم يرى أن المتأخرين لدى التخريج يتصرفون في نصوص الأئمة، فيبنونها على ما لم يخطر لأصحابها ببال، ولا جرى لهم في مقال، ويلزمهم من ذلك لوازم لم يقل بها الأئمة، فيفضي هذا إلى أن أحدهم "يروج بين الناس بجاه الأئمة، ويفتي ويحكم به، والإمام لم يقله قط، بل قد يكون قد نص على خلافه" (¬3). وبناءً على ما سبق جرى الخلاف في جواز نسبة القول المخَرَّجِ إلى إمام المذهب على ثلاثة أقوال: القول الأول: صحة نسبة الأقوال المخرجة إليه. وهذا مذهب متأخري الحنفية، وبعض المالكية، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة (¬4). القول الثاني: لا ينسب القول المخرج إلى إمام المذهب؛ لأنه ربما روجع فيه فذكر فرقًا، ولا ينسب إلى ساكت قول، وهذا مذهب بعض الحنفية، وبعض المالكية، وهو الأصح عند الشافعية، وبه قال بعض الحنابلة (¬5). ¬

_ (¬1) أحكام القرآن، لابن العربي، (3/ 200 - 201). (¬2) نص الرسالة في طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (5/ 77 - 90). (¬3) الطرق الحكمية، لابن القيم، (2/ 609). (¬4) أدب الفتوى، لابن الصلاح، (ص 44)، صفة الفتوى، لابن حمدان، (ص 88)، المسودة، لآل تيمية، (ص 524). (¬5) القواعد، للمقري، (1/ 348 - 349)، المجموع، للنووي، (ص 66)، مغني المحتاج، للخطيب الشربيني، =

ضوابط الاستنباط بالتخريج

القول الثالث: إنْ نصَّ الإمام على علة، أو أومأ إليها كان مذهبًا له، وإلا فلا، إلا أن تشهد أقواله وأفعاله أو أحواله للعلة المستنبطة بالصحة والتعيين، وهذا ما رجحه ابن حمدان، وهو اختيار الطوفي من الحنابلة، واحتجوا بجواز إبداء الفرق لو عرضت المسألة على الإمام (¬1). ضوابط الاستنباط بالتخريج: أيًّا ما كان الترجيح بين المذاهب في حجية التخريج فإن هذا العمل الفقهي مما جرى عليه عمل الفقهاء قديمًا وحديثًا، وهو مما أثرى الفقه عمومًا، وأدى إلى تمهر الفقهاء، وتحصيل ملكة الفقه خصوصًا، وإيضاح الجادة للمبتدئين، وشحذ همة المتقدمين، وهذا يدعو ويحمل على ضبط هذه الأعمال الفقهية، والتنبيه على ما تطلب مراعاته عند النظر والاستنباط من أقوال أئمة الفقهاء، فإنه بحسب الانضباط بهذه الضوابط والتقيد بها يقترب القول من الصواب، وهو الغاية المنشودة. وفيما يلي أهم تلك الضوابط: 1 - الإحاطة بمذهب الأمام قبل التخريج: وذلك لأن نسبة المُخَرِّجِ إلى إمامه كنسبة الإمام إلى صاحب الشرع في اتباع نصوصه والتخريج على مقاصده، فكما أن الإمام لا يجوز له أن يقيس مع قيام الفارق؛ لأن الفارق مبطل للقياس، والقياس الباطل لا يجوز الاعتماد عليه، فكذلك المخرج أيضًا، لا يجوز له أن يُخَرِّجَ على مقاصد إمامه فرعًا على فرعٍ نصَّ عليه إمامه مع قيام الفارق بينهما (¬2) فلا بدَّ من أن يكون شديد الاستحضار لنصوص مذهبه وأصوله ¬

_ = (1/ 21)، صفة الفتوى، لابن حمدان، (ص 88) المدخل، لابن بدران، (ص 137). (¬1) صفة الفتوى، لابن حمدان، (ص 88)، المدخل، لابن بدران، (ص 135). (¬2) الفروق، للقرافي، (2/ 543 - 544)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 176).

وقواعده، وإلا لم يجز له ذلك العمل الفقهي النوعي، وهذا الضابط لئلَّا يُخَرِّجَ على قول الإمام في مسألة وقد نصَّ الإمام على حكمها، وربما كان نصه عليها مخالفًا لقوله المخرج، وقد قال القرافي: "ومعلوم أن التخريج قد يوافق إرادة صاحب الأصل، وقد يخالفها، حتى لو عرض عليه المخرج على أصله لأنكره، وهذا معلوم بالضرورة" (¬1) فبداهة الأمور تقتضي أن لا تخريج في مسألة نصَّ الإمام على خلاف ما انتهى إليه عمل المخرج! ومن أمثلة ذلك: ما رُوي عن الإمام أحمد أن كل من ذكر شيئًا يعرض به للرب -عز وجل- فعليه القتل مسلمًا كان أو كافرًا (¬2). وما نُقل عنه أنه حكم بقتل من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - من يهود، ومن سمع المؤذن يؤذن فقال له: كذبت؛ لأنه شتم (¬3)، وبهذا ينتقض العهد، ويجب القتل، إلا أن القاضي أبا يعلى خَرَّجَ رواية أخرى عن أحمد، وهي أنه لا ينتقض العهد إلا إذا امتنع عن بذل الجزية، وجريان أحكامنا عليهم، محتجًّا على ذلك بقول أحمد في المشرك إذا قذف مسلمًا: يُضرب، وكذلك قال في الرجل من أهل الكتاب يقذف العبد المسلم: ينكل به، يضرب ما يراه الحاكم. قال القاضي: وظاهر هذا أنه لم يجعله ناقضًا للعهد بقذف المسلمين، مع ما فيه من إدخال الضرر عليه بهتك عرضه، وقد أنكر ابن القيم هذا القول وشَنَّعَ عليه، وأخبر أن أحمد لم يختلف قوله في انتقاض العهد بسب الله تعالى، وسب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يختلف قوله في عدم الانتقاض بقذف المسلم، وأن إلحاق سب الله وسب رسوله بسب المسلم في عدم النقض من أفسد التخريج وأبطله. قال -رحمه الله-: "وإذا كان المسلم يقتل بسب الله -عز وجل-، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والزنى بعد ¬

_ (¬1) الذخيرة، للقرافي، (1/ 35). (¬2) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (3/ 1367). (¬3) المرجع السابق، (3/ 1367).

2 - ألا يخالف نصا شرعيا

الإحصان، ولا يقتل بالقذف، فكذلك الذمي، فالذي نصَّ عليه الإمام أحمد في الموضعين هو محض الفقه، والتخريج باطل نصًّا وقياسًا واعتبارًا" (¬1). 2 - ألا يخالف نصًّا شرعيًّا: إذ لا اجتهاد مع النص، فلا يصح أن يتعارض عمله الفقهي مع نص من كتاب، أو سنة، أو إجماع معتبر. يقول الدهلوي -رحمه الله-: "ومن كان من أهل التخريج ينبغي له أن يحصل من السنن ما يحترز به من مخالفة التصريح الصحيح، ومن القول برأيه فيما فيه حديث، أو أثر بقدر الطاقة، ولا ينبغي أن يردَّ حديثًا أو أثرًا تطابق عليه كلام القوم لقاعدة استخرجها هو وأصحابه" (¬2). وهذا يؤكد على أهمية وأولوية النظر في النصوص وإعطائها حقَّها ومستحقَّها من البحث والتفتيش. وإذا كان المخَرِّجُ يُعمل عقله في القياس على قول إمامه، أو الإلحاق بلازم القول المنقول عن إمامه وغير ذلك، أفلا يُعمل عقله في القياس على ما نصَّ الشارع على حكمه أو بلازم قوله. 3 - ألا يترتب على التخريج الفقهي ممنوع شرعي: كأن يخالف بذلك مقاصد الشريعة وأصولها ومعاقدها الكلية، فإنها ثابتة يقينة، والتخريجات بكل حال ظنية، فلا تُعَارِضُ التخريجاتُ الظنيةُ القاصدَ القطعيةَ. كما لا يصح بحال أن يتخذ التخريجات سبيلًا لتتبع الرخص، أو التماجن في الفتيا؛ ذلك أن من ممنوعات الإفتاء بمذاهب المجتهدين أن يكتفي المفتي في فتياه بأن يوافق قولًا، أو وجهًا في ¬

_ (¬1) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (3/ 1369). (¬2) الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف، لولي الله الدهلوي، مراجعة وتعليق: عبد الفتاح أبي غدة، دار النفائس، بيروت، ط 3، 1403 هـ - 1983 م، (ص 62 - 63).

4 - التحقق بأهلية التخريج الفقهي

المذهب، من غير نظر في مرجحات الأقوال، وإلا فقد "جهل وخرق الإجماع" (¬1). 4 - التحقق بأهلية التخريج الفقهي: فلا بدَّ أن يجمع الفقيه المخرج إلى معرفته التامة بمذهب إمامه وقواعده علمًا كثيرًا بأصول الفقه عمومًا وبالقياس خصوصًا. "فلا يجوز التخريج حينئذٍ إلا لمن هو عالم بتفاصيل أحوال الأقيسة، والعلل، ومراتب المصالح، وشروط القواعد. . . وهذا لا يعرفه إلا من يعرف أصول الفقه معرفة حسنة" (¬2). ويتعين على من لا يشتغل بأصول الفقه ألا يخرج فرعًا أو نازلة على أصول مذهبه ومنقولاته وإن كثرت محفوظاته (¬3). . . وعلى المخرج أن يتمهر بملكة الاقتدار على معرفة المآخذ، وربط الفروع بأصول المذهب. يقول ابن أمير الحاج -عن بيان شروط قبول إفتاء غير المجتهد بمذهب مجتهد تخريجًا على أصوله-: "إن كان غير المجتهد مطلعًا على مبانيه -أي: مآخذ أحكام المجتهد- أهلاً للنظر فيها. . . جاز وإلا لو لم يكن كذلك لا يجوز" (¬4). وينبغي أن يكون ذا دراية بالعوارض الطارئة على الحكم، والفروق الفقهية بين الفروع؛ إذ إن "شرط التخريج ألا يوجد بين المسألتين فَرْقٌ" (¬5). "فإذا بذل جهده فيما يعرفه، ووجد ما يجوز أن يعتبره إمامه فارقًا أو مانعًا أو شرطًا، وهو ليس في الحادثة التي يروم تخريجها حرم عليه التخريج، وإن لم يجد شيئًا بعد بذل الجهد وتمام المعرفة جاز له التخريج" (¬6). ¬

_ (¬1) أدب الفتوى، لابن الصلاح، (ص 87)، المسودة، لآل تيمية، (ص 537). (¬2) الفروق، للقرافي، (2/ 544 - 545). (¬3) المرجع السابق، (2/ 545). (¬4) التقرير والتحبير، لابن أمير الحاج، (3/ 462). (¬5) المسودة، لآل تيمية، (ص 548). (¬6) الفروق، للقرافي، (2/ 545)، شرح محتصر الروضة، للطوفي، (3/ 641).

وجه الرد إلى التخريج الفقهي في التعرف على حكم النوازل

ولا غنى بالتخريج أن يكون عن مصادر المذهب المعتمدة، والمشتملة على أقوال أئمته الحافظة لفقه إمامه. فإن كان الفقيه بذلك متأهلًا، وبهذه المسئولية مضطلعًا، مستوثقًا في ذلك كله بأوثق العرى فقد جاز له التخريج عند مجوزيه، وإلا يكن كذلك صاحَبَهُ الخطأ في ركابه، وماشاه الخلل في أحكامه، وفاته التسديد في فتاويه، واتفقت الكلمة على منعه، واتجه القول بردعه. وجه الرد إلى التخريج الفقهي في التعرف على حكم النوازل: لا امتراءَ في أن علم التخريج الفقهي قد أفاد منه العلماء فوائد عديدة، ومارسوا أعماله فجنوا ثمرات نافعة، ومن ذلك: 1 - تحرير أصول الأئمة، والمفاضلة بينها، وترجيح أقواها، وإعمالها في مجالها. 2 - تسهيل سبيل الاستنباط، وتقريب طريق درك الأحكام في المسائل لمستجدة. 3 - إعذار أهل العلم الأقدمين والمعاصرين فيما جرى فيه خلافهم في النوازل السابقة والواقعة لاختلاف أصولهم، وأن هذه الخلافات راجعة إلى أصول علمية، ومناهج فقهية في استنباطات معتبرة وإن كانت مختلفة. 4 - الإفادة من الذخيرة الفقهية المذهبية، واستنطاقها بشكل منهجي صحيح في إفتاء أهل العصر الحاضر في مسائل شائكة، يدق مأخذها، وقد يعجز الفقيه المعاصر عن الاستقلال باستنباط أحكامها. 5 - في الاعتماد على الذخيرة الفقهية المذهبية حفظ لها، ومحافظة على اتصالها، واستمرار عطائها. وبالجملة فإن الرد إلى التخريج الفقهي مصدر ثري في إيجاد حلول شرعية، وأحكام فقهية لمسائل النوازل عامة، وما يتعلق بالأقليات على وجه الخصوص، ومع الانفتاح على درس المذاهب والبحث في أمهاتها أمكن -بحمد الله- حَلُّ كثير من مشكلات الوجود الإسلامي خارج دياره.

الباب الثالث من أحكام نوازل الأقليات

البَابُ الثَالِثُ من أحكام نوازل الأقليات الفصل الأول: من نوازل العبادات. الفصل الثاني: من نوازل المعاملات. الفصل الثالث: من نوازل النكاح. الفصل الرابع: من نوازل الطلاق. الفصل الخامس: من نوازل السياسة الشرعية.

الفصل الأول من نوازل العبادات

الفَصلُ الْأَوَّلُ من نوازل العبادات المبحث الأول: من نوازل الطهارة: أثر الاستحالة في التطهير. المبحث الثاني: من نوازل الصلاة: أوقات الصلوات لأهل القطبين والمناطق الشمالية. المبحث الثالث: من نوازل الزكاة: حكم دفع الزكاة لغير المسلمين ببلاد الأقليات.

المبحث الأول من نوازل الطهارة: أثر الاستحالة في التطهير

المبحث الأول من نوازل الطهارة: أثر الاستحالة في التطهير تَمْهيد الاستحالة لغة: تغير الشيء من حال إلى حال، ومن وصف إلى وصف، كما تطلق أيضًا على عدم الإمكان (¬1). الاستحالة اصطلاحًا: انقلاب حقيقة إلى حقيقة أخرى (¬2)، وقد يعبر عنها بانقلاب العين (¬3)، وبعبارة أوضح هي: تغير العين النجسة، وانقلاب حقيقتها إلى حقيقة أخرى، كانقلاب الخمر خلًّا، والخنزير ملحًا، والسرجين رمادًا (¬4). وذلك لأن المادة قد تنقلب إلى مادة أخرى، مغايرة للمادة الأولى في خواصها الطبيعية والكيميائية. ويحصل هذا الانقلاب بدخول المادة في تفاعل كيميائي، أو بالاحتراق، ونحو ذلك، وليس بتغير الوصف الطبيعي (الفيزيائي) كصيرورة اللبن جبنًا أو البُرِّ طحينًا، أو الطحين خبزًا، ونحو ذلك. وعليه: فإن الاستحالة في الاصطلاح الفقهي يعبر عنها بأنها: تغير حقيقة المادة النجسة، أو المحرم تناولها وانقلاب عينها إلى مادة مباينةٍ لها في الاسم والخصائص والصفات (¬5). ¬

_ (¬1) مختار الصحاح، للرازي، (ص 163 - 164)، المصباح المنير، للفيومي، (1/ 157). (¬2) الفتاوي الهندية، (1/ 44). (¬3) البحر الرائق، لابن نجيم، (1/ 239)، فتح القدير، لابن الهمام، (1/ 200). (¬4) حاشية ابن عابدين، (1/ 534). (¬5) ندوة الرؤية الإسلامية لبعض المشاكل الطبية، بالدار البيضاء، 1418 هـ، نقلًا عن فقه النوازل، د. محمد ابن حسين الجيزاني، (4/ 263 - 264).

تصوير المسألة وتكييفها

وهذا التعريف ليس بعيدًا عن معنى التفاعل الكميائي وحقيقته. تصوير المسألة وتكييفها: في غير بلاد المسلمين كثيرًا ما تستعمل العين النجسة كالخمر أو الميتة أو الخنزير في صناعات مختلفة فإذا استحالت إلى أعيان أخرى هل تطهر؟ وهل يمكن الانتفاع بتلك الأعيان الجديدة؟ وهذا أمر له تطبيقات كثيرة في بلاد غير المسلمين؛ بل في بلاد المسلمين أيضًا حيث قد تصنع المنظفات الصناعية والصابون من شحوم حيوانات غير مذكاة، أو لا تُحِلُّهَا الذكاة أصلًا، فإذا دخلت هذه الشحوم والدهون في تفاعل كيميائي نتج عنه صناعة الصابون أو مساحيق التجميل، ونحو ذلك من موادَّ لا تظهر فيها خواص المواد الأولى، وكذلك يستعمل الجيلاتين المستخْلَصُ من بعض أجزاء الخنزير في صناعة بعض المواد الغذائية والدوائية في الغرب. ولقد اختلف الفقهاء في أثر الاستحالة على المواد النجسة على قولين: الأول بالطهارة، والثاني بعدمها، وذلك على نحو ما يأتي: القول الأول: نجس العين يطهر بالاستحالة: وهو قول الحنفية، وعليه الفتيا (¬1)، والمالكية (¬2)، ورواية عن أحمد (¬3)، والظاهرية (¬4)، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬5)، وهو مذهب كثير من المعاصرين (¬6)، واستدلوا بالكتاب، والسنة، والمعقول، والاستقراء. ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير، لابن الهمام، (1/ 200)، البحر الرائق، لابن نجيم، (1/ 239). (¬2) مواهب الجليل، للحطاب، (1/ 138)، الذخيرة، للقرافي، (1/ 189)، حاشية الدسوقي، (1/ 52). (¬3) المغني، لابن قدامة، (1/ 97)، الإنصاف، للمرداوي، (1/ 318). (¬4) المحلى، لابن حزم، (1/ 138). (¬5) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (21/ 478 - 482). (¬6) بحوث في قضايا فقهية معاصرة، محمد تقي العثماني، دار القلم، دمشق، ط 1، 1419 هـ، (ص 341 - 342).

أولا: القرآن الكريم

أولًا: القرآن الكريم: ا- قول الله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. وجه الدلالة: هذه الأشياء بعد استحالتها وزوال أوصاف النجاسة عنها أصبحت من الطيبات، فهي طاهرة. ثانيًا: السنة المطهرة: واستدلوا من السنة بما يفيد جواز الانتفاع بالخمر إذا صارت خلًّا من غير عمدٍ إلى تخليلها، ومن ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم الإدام الخل" (¬1) وعليه: فقد "اتفقوا على أن الخمر إذا انقلبت بفعل الله بدون قصد صاحبها، وصارت خلًّا أنها تطهر" (¬2). ثالثًا: القياس: وذلك بالقياس على الخمر إذا تخللت بنفسها (¬3)، وبالقياس على طهارة فأرة المسك (¬4)، وعلى طهارة جلود الميتة إذا دُبِغَتْ فإنها تطهر (¬5). رابعًا: الاستقراء: قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "الاستقراء دلَّنا أن كل ما بدأ الله بتحويله وتبديله من جنس إلى جنس، مثل: جَعْلِ الخمرِ خلَّا، والدمِ منيًّا، والعلقةِ مضغةً، ولحمِ الجلَّالةِ الخبيثِ طيبًا، وكذلك بيضُها ولبنُها، والزرعُ المسقيُّ بالنجس إذا سقي بالماء الطاهر، وغير ذلك، فإنه يزول حكم التنجيس، ويزول حقيقة الجنس واسمه التابع للحقيقة، وهذا ضروري لا يمكن المنازعة فيه، فإن جميع الأجسام المخلوقة في الأرض، فإن الله ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب: فضيلة الخل والتأدُّم به، (2052)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (21/ 481). (¬3) المغني، لابن قدامة، (1/ 97)، والمبدع، لابن مفلح، (1/ 57). (¬4) المنتقى شرح الموطأ، للباجي، (1/ 323)، مواهب الجليل، للحطاب، (1/ 138). (¬5) المغني، لابن قدامة، (1/ 97)، الشرح الكبير، لابن قدامة، (1/ 293 - 294).

القول الثاني: نجس العين لا يطهر بالاستحالة

يحولها من حال إلى حال، ويبدلها خلقًا بعد خلق، ولا التفات إلى موادِّها وعناصرِها. وأما ما استحال بسببِ كسبِ الإنسان: كإحراق الرَّوث حتى يصير رمادًا، ووضع الخنزير في الملاحة حتى يصير ملحًا، ففيه خلاف مشهور، وللقول بالتطهير اتجاه وظهور" (¬1). القول الثاني: نجس العين لا يطهر بالاستحالة: وبه قال أبو يوسف من الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4) في ظاهر المذهب. وهذه بعض النقول عنهم: الحنفية: قال ابن الهمام -رحمه الله-: "السرجين والعذرة تحترق فتصير رمادًا تطهر عنده خلافًا لأبي يوسف" (¬5). الشافعية: قال الشيرازي -رحمه الله-: "ولا يطهر من النجاسات بالاستحالة إلا شيئان: أحدهما: جلد الميتة إذا دُبغَ، والثاني: الخمر". إلى أن قال -رحمه الله-: "وإن أُحْرِقَ السرجين أو العذرة فصار رمادًا لم يطهر؛ لأن نجاستها لعينها، ويخالف الخمر؛ لأن نجاستها لمعنًى معقولٍ، وقد زال" (¬6). وقال النووي -رحمه الله-: "مذهبنا أنه لا يطهر السرجين، والعذرة، وعظام الميتة، وسائر الأعيان النجسة بالإحراق بالنار، وكذا لو وقعت هذه الأشياء في مملحة، أو وقع ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (21/ 601). (¬2) شرح فتح القدير، لابن الهمام، (1/ 200)، البحر الرائق، لابن نجيم، (1/ 239). (¬3) نهاية المحتاج، للرملي، (1/ 247)، روضة الطالبين، للنووي، (1/ 27). (¬4) الإقناع لطالب الانتفاع، لأبي النجا شرف الدين موسى بن أحمد الحجاوي، تحقيق: عبد اللطيف محمد موسى السبكي، دار المعرفة، بيروت، (1/ 60)، شرح منتهى الإرادات، للبهوتي، (1/ 209). (¬5) شرح فتح القدير، لابن الهمام، (1/ 200). (¬6) المجموع، للنووي، (2/ 574)، بتصرف يسير.

الحنابلة

كلب ونحوه وانقلبت ملحًا، ولا يطهر شيء من ذلك عندنا" (¬1). الحنابلة: قال ابن قدامة -رحمه الله-: "ظاهر المذهب أنه لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا الخمرة إذا انقلبت بنفسها خلًّا، وما عداه لا يطهر كالنجاسات إذا احترقت وصارت رمادًا، والخنزير إذا وقع في الملاحة وصار ملحًا. والدخان المترقي من وقود النجاسة والبخار المتصاعد من الماء النجس إذا اجتمعت منه نداوة على جسم صقيل، ثم قطر فهو نجس" (¬2). وقد علَّق المرداويُّ (¬3) -رحمه الله- على كلام ابن قدامة في المقنع بقوله: "هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب ونصروه" (¬4). واستدلَّ أصحاب هذا القول لقولهم بما أوردوه من تعليلات في النقول المتقدمة، وهو اعتماد على الاستصحاب، حيث حكم بنجاسة أمثال العذرة والسرجين والخنزير نجاسة عينية، وما حكم بنجاسة عينه لا يزول حكمه، ولو استحال إلى مادة أخرى ما دامت عينه باقية. قال ابن قدامة -رحمه الله-: "ولا تطهر النجاسة بالاستحالة، فلو أحرق السرجين النجس فصار رمادًا، أو وقع كلب في ملاحة فصار ملحًا، لم تطهر؛ لأنها نجاسة لم تحصل بالاستحالة، فلم تطهر بها، كالدم إذا صار قيحًا أو صديدًا" (¬5). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (2/ 579). (¬2) المغني، لابن قدامة، (1/ 97). (¬3) أبو الحسن، علاء الدين، علي بن سليمان بن أحمد بن محمد، المرداوي، السعدي ثم الصالحي الحنبلي الشيخ الإمام شيخ المذهب وإمامه ومصححه ومنقحه، بل شيخ الإسلام على الإطلاق، انتهت إليه رياسة المذهب، وصنف كتبًا كثيرة أعظمها: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، جعله على المقنع، والتنقيح المشبع في تحرير المقنع، وهو مختصر الإنصاف، والتحرير في أصول الفقه، ولد سنة 817 هـ، وتوفي 885 هـ. شذرات الذهب، لابن العماد، (9/ 510)، السحب الوابلة، لابن حميد، (2/ 739). (¬4) الإنصاف، للمرداوي، (1/ 318). (¬5) المغني، لابن قدامة، (2/ 503).

الترجيح

الترجيح: يظهر رجحان القول الأول؛ لأن انقلاب العين يترتب عليه انقلاب الصفات جملةً، ويبطل حكمها، قال ابن حزم: "إذا استحالت صفات عين النجس أو الحرام، فبطل عنه الاسم الذي به وَرَدَ ذلك الحكمُ فيه، وانتقل إلى اسمٍ آخرَ واردٍ على حلال طاهر، فليس هو ذلك النجس، ولا الحرام؛ بل قد صار شيئاً آخرَ ذا حُكْمٍ آخرَ" (¬1)، وقد صدرت توصية عن الندوة الفقهية. الطبية الثامنة، للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، المنعقدة بالكويت في الفترة من 22 - 24/ 5/ 1995 تنصُّ على أن الاستحالة التي تعني انقلاب العين إلى عين أخرى تغايرها في صفاتها تُحَوِّلُ الموادَّ النجسة أو المتنجسة إلى موادَّ طاهرةٍ وتُحَوِّلُ الموادَّ المحرمة إلى موادَّ مباحةٍ شرعًا. تطبيق على مياه الصرف الصحي إذا زالَ تَغَيُّرُهَا: اتَّفَقَ الفقهاء على أن الماء المتنجسَ إذا بلغ قلتينِ فأكثَر، فأضيفَ إليه ماءٌ طاهر، فزال عنه التغيُّرُ في صفاته الثلاثة (اللون، والطعم، والريح) فإنه يطهر بذلك (¬2)، واختلفوا فيما عدا ذلك. تصوير المسألة: في بعض البلاد المتقدمة -سواء أكانت إفريقيَّةً كجنوب إفريقيا، أو كانت بلادًا غربيَّةً أوروبية- تلجأ الدولة للاستفادة من مياه الصرف الصحي المتنجسة؛ وذلك بمعالجتها بطرق فنية متنوعة كالتهوية، والترسيب، والترشيح، والمعالجة الكيميائية، والبيولوجية، بحيث ترتفع أوصاف النجاسة عن الماء، فيزولُ التغيُّرُ بالنجاسة، فهل ¬

_ (¬1) المحلى، لابن حزم، (1/ 138). (¬2) المغني، (1/ 35)، المجموع، للنووي، (1/ 183)، المبسوط، (1/ 90)، موسوعة الإجماع، (2/ 1089)، فقه القضايا المعاصرة في العبادات، د. عبد الله بكر أبو زيد، رسالة دكتوراه مخطوطة، بالمعهد العالي للقضاء 1426 هـ، (ص 115).

أولا: قرار المجمع الفقهي

يعتبر ذلك كافيًا للقول بطهارة هذه المياه، وهل تجزئ الطهارة بها في إزالة خبثٍ ورفعِ حدثٍ؟ عُرِضَتْ هذه المسألة على المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة في مكة في شهر رجب عام 1409 هـ، ونُشِرَ الجوابُ بمجلة المجمع، كما وَرَدَ سؤال من جنوب إفريقيا إلى هيئة كبار العلماء بالسعودية عن نفس الموضوع. وفيما يلي نص القرارين: أولاً: قرار المجمع الفقهي: ". . . نظر في السؤال عن حكم ماء المجاري بعد تنقيته، هل يجوز رفع الحدث بالوضوء والغسل به؟ وهل تجوز إزالة النجاسة به؟ وبعد مراجعة المختصين بالتنقية بالطرق الكيماوية، وما قرَّروه من أن التنقية تتمُّ بإزالة النجاسة منه على مراحلَ أربعٍ، وهي: الترسيب، والتهوية، وقتل الجراثيم، وتعقيمه بالكلور، بحيث لا يبقى للنجاسة أثرٌ في طعمه، ولونه، وريحه، وهم مسلمون عدولٌ موثوقٌ بصدقهم وأمانتهم. قرر المجمع ما يأتي: أن ماء المجاري إذا نُقِّيَ بالطرق المذكورة، أو ما يماثلها، ولم يَبْقَ للنجاسة أثرٌ في طعمه، ولا في لونه، ولا في ريحه صار طهورًا، يجوز رفع الحدث، وإزالة النجاسة به، بناءً على القاعدة الفقهية التي تُقَرِّرُ: أن الماء الكثير الذي وقعت فيه النجاسة يطهر بزوال هذه النجاسة منه، إذا لم يَبْقَ لها أثرٌ فيه، والله أعلم". وقد توقَّفَ في هذا القرار عضوُ المجمعِ الشيخُ صالح الفوزان، وخالف د. بكر أبو زيد -رحمه الله- وكتب عليه وجهة النظر الآتية: "الحمد لله، وبعد: فإن المجاري في الأصل مُعَدَّةٌ لصرف ما يضرُّ الناس في الدين والبدن طلبًا للطهارة ودفعًا لتلوث البيئة. وبحكم الوسائل الحديثة لاستصلاح ومعالجة مشمولها لتحويله إلى مياه عذبة منقاة صالحة للاستعمالات المشروعة والمباحة، مثل: التطهر بها، وشربها، وسقي الحرث

منها، بحكم ذلك صار السبر للعلل والأوصاف القاضية للمنع في كلِّ أو بعضِ الاستعمالات، فتحصَّلَ أن مياه المجاري قبل التنقية مُعَلَّةٌ بأمور: الأول: الفضلات النجسة باللون والطعم والرائحة. الثاني: فضلات الأمراض المعدية، وكافة الأدواء والجراثيم (البكتيريا). الثالث: علة الاستخباث والاستقذار لما تتحول إليه باعتبار أصلها، ولما يتولد عنها في ذات المجاري من الدواب والحشرات المستقذرة طبعًا وشرعًا. ولذا صار النظر بعد التنقية في مدى زوال تلكم العلل، وعليه: فإن استحالتها من النجاسة بزوال طعمها ولونها وريحها، لا يعني ذلك زوالَ ما فيها من العلل والجراثيم الضارَّةِ، والجهات الزراعية توالي الإعلامَ بعدم سقي ما يؤكل نتاجُهُ من الخضار بدون طبخ فكيف بِشُرْبِهَا مباشرةً، ومن مقاصد الإسلام: المحافظةُ على الأجسام؛ ولذا لا يُوْرَدُ ممرضٌ على مصحٍّ، والمنع لاستصلاح الأبدان كالمنع لاستصلاح الأديان. ولو زالت هذه العلل لبقيت علةُ الاستقذار والاستخباث باعتبار الأصل لماءٍ يُعْتَصَرُ من البول والغائط فَيُستعمل في الشرعيَّات والعادات على قدم التساوي. وقد عُلِمَ من مذهب الشافعية، والمعتمَدِ لدى الحنبلية أن الاستحالة هنا لا تؤول إلى الطهارة مُسْتَدِلِّينَ بحديث النهي عن ركوب الجلَّالة وحليبِها (¬1) رواه أصحاب السننِ وغيرُهم ولعللٍ أخرى. مع العلم أن الخلاف الجاري بين متقدمي العلماء في التَّحَوُّلِ من نجس إلى طاهر هو ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو داود، كتاب الأطعمة، باب: النهي عن أكل الجلالة وألبانها، (3787)، والترمذي، كتاب الأطعمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها، (1824)، وابن ماجه، كتاب الذبائح، باب: النهي عن لحوم الجلالة، (3189)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها، أو يشرب من ألبانها"، وليس عند الترمذي وابن ماجه: (الركوب). قال الترمذي: "حديث حسن غريب". وفي الباب: عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهم-.

هيئة كبار العلماء في المملكة

في قضايا أعيانٍ، وعلى سبيل القطع لم يُفَرِّعُوا حكمَ التحول على ما هو موجود حاليًا في المجاري من ذلك الزَّخَمِ الهائل من النجاسات والقاذورات وفضلات المصحَّات والمستشفيات، وحال المسلمين لم تصل بهم إلى هذا الحدِّ من الاضطرار لتنقية الرجيع للتطهرِ به وشُرْبِهِ، ولا عبرةَ بتسويغه في البلاد الكافرة؛ لفساد طبائعهم بالكفر، وهناك البديل بتنقية مياه البحار. والله أعلم" (¬1). وكذلك أصدرت هيئة كبار العلماء في المملكة قرارها رقم (64)، وتاريخ 25/ 10/ 1398 هـ بطهارة مياه الصرف الصحي المنقَّاةِ وجواز التطهر بها، وهذا نصه: ". . . بناءً على ما ذكره أهل العلم من أن الماء الكثير المتغيِّرَ بنجاسة يطهر إذا زال تغيُّرُهُ بنفسِهِ، أو بإضافة ماءٍ طهور إليه، أو زال تغيُّرُهُ بطولِ مكثٍ، أو تأثيرِ الشمسِ ومرورِ الرياحِ عليه، أو نحو ذلك لزوال الحكم بزوال عِلَّتِهِ. وحيث إن المياه المتنجسةَ يمكن التخلُّصُ من نجاستها بعدةِ وسائلَ، وحيث إن تنقيتَهَا وتخليصَهَا مما طرأ عليها من النجاسات بواسطة الطرق الفنية الحديثة لأعمال التنقية يُعْتَبَرُ من أحسن وسائل الترشيح والتطهير، حيث يبذل الكثير من الأسباب المادية لتخليص هذه المياه من النجاسات، كما يَشهد بذلك ويُقَرِّرُهُ الخبراء المختصون بذلك ممن لا يتطرق الشكُّ إليهم في عملهم وخبرتهم وتجاربهم. لذلك فإن المجلس يرى طهارتها بعد تنقيتها التنقيةَ الكاملة بحيث تعود إلى خِلْقَتِهَا الأولى، لا يُرى فيها تغيُّرٌ بنجاسة من طعمٍ، ولا لونٍ، ولا ريحٍ، ويجوز استعمالها في إزالة الأحداث والأخباث، وتحصُلُ الطهارة بها منها، كما يجوز شُرْبُهَا إلَّا إذا كانت هناك أضرار صحية تنشأ عن استعمالها فيمتنع ذلك؛ محافظةً على النفس، وتفاديًا للضرر، لا لنجاستها. والمجلس إذ يقرر ذلك يَسْتَحْسِنُ الاستغناءَ عنها في استعمالها للشرب متى وُجِدَ إلى ¬

_ (¬1) قرارات المجمع، (ص 91 - 93).

الترجيح

ذلك سبيلٌ؛ احتياطًا للصحة واتقاءً للضرر، وتنزهًا عمَّا تستقذره النفوس وتنفرُ منه الطباع (¬1)، وبذلك أيضًا أفتتِ اللجنةُ الدائمة للإفتاء بالمملكة" (¬2). والحاصل أن الاتفاق واقعٌ على أن الماء الكثير المتنجس إذا زال تغيُّرُهُ بنفسه أو بالمكاثرة، أو طرح ما يُطَهِّرُهُ فيه فإنه يَطْهُرُ، ثم الخلافُ جارٍ في: هل يُجْزِئُ في طهارة شرعية به يزول الخبث، ويرتفع الحدث، فالجمهور على أنه طاهر مطهِّر لغيره. وخالف في ذلك الدكتور بكر أبو زيد -رحمه الله- واعْتَبَرَ هذا الماءَ المنقَّى في حكم القليلِ؛ لأن تنقية مياه الصرف تتم بتكريرِهِ وإضافَةِ موادَّ منقيِّةٍ يسيرةٍ إليه، وانتهى إلى أن هذا النوع من المياه يُسَمَّى بطاهرٍ غيرِ مطهِّرٍ، ولا يجوز التطهُّرُ بها لعلَّةِ الاستخباثِ والاستقذارِ (¬3). الترجيح: لا يَبْلُغُ الأمرُ بهذا الماء أن يُمْنَعَ التطهُّرُ به إذا لم يوجد غيرُهُ، ولا يصلح أن يعتبر الواجد له كالفاقد للماء الطهور يعدل عنه إلى التيمم، فهو طاهر مطهِّر، ويُكْرَهُ التطهُّرُ به ولا يَحْرُمُ، فهو أشبه بماء سُخِّنَ بالنجاسة، وماءٍ مستعملٍ في طُهْرٍ لا يرفع حدثًا كتجديدِ وضوءٍ، وغسلة ثانية أو ثالثة، وماءِ بئرٍ بمقبرةٍ، ونحو ذلك، مما هو معلوم من مذهب الحنابلة (¬4). فالكراهية هنا من طريق الورع، ورعايةً للخلاف، ومع الحاجة إليه يتعيَّنُ استعمالُهُ وترتفع الكراهة. وقد سُئِلَ مالكٌ -رحمه الله-، عن جباب (جمعُ: جُبٍّ، وهو البئر الواسع)، تُحْفَرُ فتسقط فيها الميتة فتغير لونه وريحه، ثم يطيب الماء بعد ذلك؟ فأجاب: أنه لا بأس به (¬5). وعليه: فإن المسلم الذي قد يعيش في بلاد يُعادُ فيها استعمالُ مياه الصرف الصحي، لا يَحْرُمُ عليه أن ينتفع بها، حيث لا مضرَّةَ عليه في دينه ولا بدنه، وإن كان الأولى تركه. ومتى حَكَمَ الأطباءُ وعلماءُ الأمراض بأنه لا ضررَ مِنْ شُرْبِهِ وتعاطيه جازَ ذلك. والله أعلم. ¬

_ (¬1) أبحاث هيئة كبار العلماء، (6/ 214 - 217). (¬2) فتاوي اللجنة الدائمة، (5/ 79 - 80). (¬3) فقه القضايا المعاصرة في العبادات، د. عبد الله بكر أبو زيد، (ص 26). (¬4) شرح منتهى الإرادات، للبهوتي، (1/ 26 - 27)، كشاف القناع، للبهوتي، (1/ 23). (¬5) مواهب الجليل، للحطاب، (1/ 119).

المبحث الثاني من نوازل الصلاة: أوقات الصلوات لأهل القطبين والمناطق الشمالية

المبحث الثاني من نوازل الصلاة: أوقات الصلوات لأهل القطبين والمناطق الشمالية تصوير المسألة وتكييفها: الصلاة هي الركن الثاني بعد الشهادتين، وهي عبادة اليوم والليلة، ترتبط بجريان الشمس وحركة الليل والنهار. وأداؤها في أوقاتها واجب مفروض، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، والسهو عن أوقاتها والإخلال بمواقيتها كبيرة مذمومة، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5]. ولقد حددت المواقيت مرتبطةً بالشمس وضوئها؛ فوقت الفجر يبدأ من ظهور أولِ نورٍ لها، ويمتدُّ إلى ظهورِ أول قرصِهَا لدى الشروق، ووقت الظهر يبدأ من زوالها عن كبد السماء، ووقت العصر يبدأ حين يصير ظلُّ كلِّ شيء مثله أو مثليه، ووقت المغرب يبدأ من غروب كامل قرص الشمس، ووقت العشاء يبدأ من غياب الشفق الأحمر، وهو آخر علامة لغياب نور الشمس عن المكان بالكامل. ولمَّا كان نزول الوحي وبزوغ شمس الرسالة في جزيرة العرب -وهي منطقة معتدلة متوسطة تظهر فيها علامات المواقيت بوضوح- لم تقع ثمَّةَ نازلةٌ في هذا الخصوصِ، وبقي الحال كذلك حتى شمل الإسلام منطقة واسعة شاسعة من إندونيسيا إلى موريتانيا، فلما تحقَّقَ موعودُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلغ ملك أمته وسلطان دينه ما بلغ الليل والنهار، لم يَخْلُ مكان -بحمد الله- تظهر عليه شمس النهار، إلَّا ودخله الإسلام، وَوُجِدَ فيه من يتعبد لله بإقامة الصلوات الخمس كلَّ يوم وليلة. عند هذا الحدِّ ثارت مشكلة معاصرة، ونازلة مستجدة حين فُقدت المواقيت

الشرعية، وغابت علاماتها في بعض دول وبلاد نائية نحو القطبين، حيث قد يطول النهار جدًّا على حساب الليل، والعكس يتكرر أيضًا، حتى نصل إلى ستة أشهر من ليلٍ مستمر في القطب الشمالي، وستة أشهر مثلها من نهار مستمر في القطب الجنوبي، كما أن دولًا أوروبية كثيرة تُفْقَدُ فيها أوقات كوقت العشاء، فلا تتميز علاماته، فلا يظهر غياب الشفق الأحمر حتى يخالطه بياض الصبح، فلا يظهر بدء وقتها ولا خروجه؟ ومثل هذا يعتبر نازلةً من نوازل تلك الأقليات المسلمة التي تعيش في تلك الديار، ولم يَصِلْنَا كلامٌ لفقيه من الصحابة أو التابعين أو الأئمة الفقهاء المتبوعين في هذه المسألة، إلا عند متأخري الفقهاء، ثم عند العاصرين. والمقصود إيجاد حلول فقهية لمشكلات تلك البلاد ذات الطبيعة الجغرافية التي لا تتوافر فيها جميع المواقيت الشرعية للصلوات الخمس، ولا سيما آخر وقت المغرب، ووقت العشاء دخولًا وخروجًا، وأول وقت الفجر. وهذا بيان عن تصوير المسألة: أما تكييفها الشرعي: فتعود هذه المسألة إلى باب المواقيت، وحكم من لم يجد وقتًا لأداء الصلوات الخمس، وهل تَسقط الصلوات التي لم يوجد وقت لأدائها؟ وذلك لأن الوقت سبب الوجوب، فإذا عدم السبب -وهو الوقت- هل يعدم المسبَّب وهو الوجوب؟! (¬1) وقد عبَّر بعض الفقهاء عن هذه الحالة بتعابيرَ مختلفةٍ ومتباينة، كقولهم: - حكم البلاد التي لا يغيب فيها الشفق. - حكم البلاد التي يُفقد فيها وقت العشاء. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين، (2/ 18 - 23)، بلغة السالك لأقرب المسالك، لأحمد الصاوي، تحقيق: محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415 هـ - 1995 م، (1/ 155).

- حكم البلاد التي ينعدم فيها الليل، بأن يطلع الفجر عند غيبوبة الشمس (¬1). والسبب في بعض هذه النوازل المستجدة تلك الظواهر الطبيعية من تهيؤ الشمس للغروب وميلانها جهة الغرب، ثم لا تلبث أن ترتفع قبل أن تغرب فعليًّا؛ مما يعني أن الغروب لا يتم، وكذا الشفق الأحمر أو الأبيض لا يظهر ولا يختفي! كذا يترتب على عدم غروبها -بالبداهة- عدمُ ظهور علامة الفجر؛ لأن نور الفجر إنما هو أثر أشعة الشمس التي توشك أن تطلع. تحرير محل النزاع: باستثناء مذهب الحنفية لم ينازع أحدٌ من الفقهاء في استمرار وجوب الصلاة حالَ فقدان علامات أوقاتها. لكنَّ نزاعًا وقع في المذهب الحنفي حاصلُهُ ذهابُ بعض الحنفية إلى سقوط الوجوب الشرعي الذي أُنيطَ بسببٍ فلكي عادي، وهو ظهور الشفق أو غيابه مثلًا، فإذا فُقدت العلامة سقط الوجوب عندهم. وهذا الرأي عمدتُهُ -بعد قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]- قواعدُ الأصول المتعلقة بالسبب، وأنه يلزم مِنْ فقدِهِ فقدُ المسبَّب (¬2)، وأن مَنْ فَقَدَ بعض أعضاء الوضوء كاليدين فإنه لا يجب عليه شيء نحو العضو المفقود. ومع أن ابن عابدين اعتبر هذا الرأيَ أحدَ رأيين مصحَّحَين في المذهب، إلا أنه رجح عدم سقوط الواجب؛ لتأيده بقول مجتهد آخر، ومما أضعف هذا الرأيَ أنه يُفضي إلى إسقاط ¬

_ (¬1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير لأقرب المسالك، لأحمد بن محمد الصاوي المالكي، (1/ 225)، حاشية قليوبي على شرح المنهاج، لشهاب الدين أحمد بن أحمد بن سلامة القليوبي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط 3، 1375 هـ - 1956 م، (1/ 114)، حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب، لسليمان بن محمد ابن عمر البجيرمي، المكتبة الإسلامية، (1/ 151)، حاشية ابن عابدين، (2/ 18). (¬2) شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (1/ 445)، البحر المحيط، للزركشي، (1/ 306).

وجوب صلاتين في اليوم والليلة، والإجماع منعقد على وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة. وفي الحديث: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد" (¬1). وفي الحديث الآخر: ". . . فَأَعْلِمْهُمْ أن الله تعالى افترض عليهم خمسَ صلوات في كل يوم وليلة" (¬2). وحديث: "هي خمس، وهي خمسون، لا يبدَّلُ القولُ لديَّ" (¬3). فإذا اعتُبِر سببُ الوجوب الخاص بإحدى الصلوات هو دخول وقتها، فإن دخول اليوم والليلة وخروجهما هو سبب أيضًا لوجوب الصلوات الخمس في اليوم والليلة. على أن نصوص الشريعة لم تنصَّ على أسباب أو شروط، كما نصَّت على عدد الصلوات الخمس، وليس هنا نصٌّ يدلُّ على إسقاط صلاة واحدة فضلاً عن صلاتين بحال من الأحوال، إلا لحائض أو نفساء، ولم تستثنِ الشريعة بعد ذلك أحدًا من أهل التكليف، وهذا بخلاف أدائها قبل مغيب الشفق أو بعده؛ فإنها موضع نزاع ومراجعة بين الفقهاء، كما سيأتي. ولم يُذْكَرْ عن فقهاء الحنفية القدماء كلامٌ في تحديد أوقات العشاء والفجر، حيث تغيب العلامات الشرعية، مما فتح الباب للاجتهاد واسعًا أمام المعاصرين منهم، وذلك بعد استقرار الرأي على وجوب الصلاة اعتمادًا للآراء في المذاهب الأخرى. ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو داود، كتاب الصلاة، باب: فيمن لم يوتر، (1420)، والنسائي، كتاب الصلاة، باب: المحافظة على الصلوات الخمس، (461)، من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-. وصححه ابن عبد البر في التمهيد، (23/ 288). (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب: وجوب الزكاة، (1395)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام مطوَّلًا من حديث ابن عباس -رضي الله عنه-. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب: كيف فرضت الصلاة، (349)، ومسلم، كتاب الايمان، باب: الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماوات وفرض الصلوات، (163) من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

سبب الخلاف: بعد تسليم وجوب الصلوات الخمس في اليوم والليلة على كل مسلم ومسلمة بالأدلة المتواترة، بل بما عُلِمَ من دين الإسلام بالضرورة، فإن فقدان علامات بعض الصلوات لا يؤدي إلى إسقاطها وعدم وجوبها. وبعد تسليم أن وقت صلاتي العشاء والفجر لا يكون إلا خلال الليل الذي يبدأ بغروب الشمس وينتهي بشروقها، فإن سبب الخلاف ومرجعه يعود إلى نصٍّ واحد، هو حديث الدَّجَّال المشهور، وهو حديث طويل، فيه أن الصحابة سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مدة لبثه في الأرض، فقال: "أربعون يومًا، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم"، قلنا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذلك اليوم الذي كسنةٍ تكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: "لا، اقدروا له قدره. . ." (¬1). وعليه، فقد جرى الخلاف حول معنى قوله: "فاقدروا له قدره" وهل المقصود كمال العدد في اليوم الذي كأسبوع، فَتُصَلَّى خمسٌ وثلاثون صلاةً، وهكذا يزيد العدد في اليوم الذي كشهر، ثم في اليوم الذي كسنة، ويُصَلَّى في سائر الأيام خمسُ صلوات. ثم هل يجري قياسٌ في العبادات؟ وهل يجري فيها تعليل؟ وهل يمكن تحديد علامات جديدة عوضًا عن الغائبة؟ وهل يُعتبر هذا إيقافًا للعمل بنصٍّ من النصوص بالاجتهاد، وهل لقواعد: المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتَّسَعَ، ورعاية المآلات، ونحوها -دخل في هذا المجال من نوازل الأقليات؟ لكلِّ ما سبق وَقَعَ الخلاف بين المعاصرين في هذه المسألة المهمة، وهي تنقسم إلى حالتين نتناولهما في المطلبين التاليين: ¬

_ (¬1) أخرجه: مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال وصفته وما معه، (2937)، من حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه-.

المطلب الأول: في حال استمرار الليل أو النهار أربعا وعشرين ساعة فأكثر، بحسب اختلاف فصول السنة، وفي حال فقد العلامات لبعض الأوقات خلال السنة

المطلب الأول: في حال استمرار الليل أو النهار أربعًا وعشرين ساعة فأكثر، بحسب اختلاف فصول السنة، وفي حال فَقْدِ العلامات لبعض الأوقات خلال السنة: القول الأول: التقدير النسبي بوقت أقرب البلاد، وذلك بأن ينظر من يريد معرفة وقت العشاء -مثلًا- في بلد كهذه إلى أقرب البلاد التي تظهر فيها العلامات، فإذا مضى بعد غروب الشمس زمنٌ يغيب الشفق في مثله في أقرب تلك البلاد إليهم فقد دخل وقت العشاء. وهذا قول الشافعية، وأصله للشيخ أبي حامد الإسفراييني (¬1) حيث سُئِلَ عن بلاد البلغار كيف يصلون؟ فإنه ذكر أن الشمس لا تغرب عندهم إلا بمقدار ما بين المغرب والعشاء، ثم تطلع، فقال: يعتبر صومهم وصلاتهم بأقرب البلاد إليهم (¬2)، وهو الراجح من مذهب الحنفية بعد الخلاف (¬3). وهو منقول عن النووي (¬4)، والرملي (¬5)، وابن حجر الهيتمي (¬6)، وغيرهم من الشافعية. واستدلَّ الشافعية لمبدأ التقدير بحديث الدجال السابق وفيه: ". . . اقدروا له قدره" (¬7). وقد أوضح الأمرَ الشيخُ زكريا الأنصاريُّ، فقال: ومن لا عِشاء لهم بأن يكونوا ¬

_ (¬1) أبو حامد، أحمد بن أبي طاهر محمد بن أحمد الإسفراييني، شيخ الشافعية ببغداد، انتهت إليه رئاسة الدين والدنيا، وله تعليقة في الفقه في نحو من خمسين مجلدًا، ولد سنة 344 هـ، وتوفي سنة 406 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (17/ 193)، وطبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (4/ 61). (¬2) حاشية البجيرمي على الخطيب، (2/ 24). (¬3) حاشية ابن عابدين، (2/ 18 - 19). (¬4) المجموع، للنووي، (3/ 41)، حاشية القليوبي على المنهاج، (1/ 114). (¬5) نهاية المحتاج شرح المنهاج، للرملي، (1/ 369). (¬6) تحفة المحتاج، للهيتمي، (1/ 424). (¬7) سبق تخريجه.

1 - هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بنواحٍ لا يغيب فيها شفقهم يُقَدِّرُونَ قَدْرَ ما يغيب فيه الشفق بأقرب البلاد إليهم (¬1). وهذا الرأي قد أفتت به عدة مجامع فقهية معتبرة، من ذلك: 1 - هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية: حيث جاء في قرار مجلسها رقم (61) بتاريخ 12/ 4/ 1398 هـ، بخصوص هذا الشأن ما يلي: ". . . ثانيًا: مَنْ كان يقيم في بلاد لا تغيب عنها الشمس صيفًا، ولا تطلع فيها الشمس شتاءً، أو في بلاد يستمر نهارها إلى ستة أشهر، ويستمر ليلها ستة أشهر مثلاً، وجب عليهم أن يصلوا الصلواتِ الخمسَ في كل أربع وعشرين ساعة، وأن يُقَدِّرُوا لها أوقاتها، ويحددوها معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم، تتمايز فيها أوقات الصلوات الفروضة بعضها من بعض. . .". واسْتُدِلَّ لهذا بأحاديثِ فرضِ الصلواتِ الخمسِ مع حديث الدجال، ثم جاء تعقيبًا: ". . . فلم يَعْتَبِرِ اليومَ الذي كسنة يومًا واحدًا يكفي فيه خمسُ صلوات، بل أَوجب فيه خمسَ صلوات في كل أربع وعشرين ساعة، وأَمَرَهُمْ أن يوزعوها على أوقاتها؛ اعتبارًا بالأبعاد الزمنية التي بين أوقاتها في اليوم العادي في بلادهم، فيجب على المسلمين في البلاد المسئول عن تحديد أوقات الصلوات فيها أن يحددوا أوقات صلاتهم، معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم، يتميز فيها الليل من النهار، وتُعْرَفُ فيها أوقات الصلواتِ الخمسِ بعلاماتها الشرعية في كل أربع وعشرين ساعة" (¬2). 2 - المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة: في دورته الخامسة بتاريخ 4/ 2/ 1982 م - 10/ 4/ 1402 هـ، وجاء فيه: "فيما ¬

_ (¬1) أسنى المطالب في شرح روض الطالب، لزكريا الأنصاري، تحقيق: د. محمد محمد تامر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1422 هـ - 2000 م، (1/ 117). (¬2) قرار هيئة كبار العلماء، رقم (6)، بتاريخ 12/ 4/ 1398 هـ.

3 - إدارة الإفتاء بالكويت

يتعلق بمواقيت الصلاة للبلاد التي يستمرُّ ظهورُ الشمسِ فيها سِتَّةَ أشهرٍ، وغيابُهَا سِتَّةَ أشهرٍ، وبعد مُدَارسةِ ما كتبه الفقهاء قديمًا وحديثًا في الموضوع، قرر ما يلي: أولًا: تلك التي يستمر فيها الليل أو النهار أربعًا وعشرين ساعة فأكثر بحسب اختلاف فصول السنة، ففي هذه الحال تُقَدَّرُ مواقيت الصلاة وغيرها في تلك الجهات حسب أقرب الجهات إليها مما يكون فيها ليل ونهار متمايزان في ظرف أربع وعشرين ساعة (¬1). وفي دورة المجمع الفقهي التاسعة في 12 - 19/ 7/ 1406 هـ، قَسَّمَ القرارُ المناطقَ ذات الدرجات العالية في خطوط العرض إلى ثلاث مناطق: الأولى: ما يقع بين خطي عرض 45 درجة و 48 درجة شمالًا وجنوبًا، وتتميز فيها العلامات الظاهرية للأوقات في الأربع وعشرين ساعة طالت الأوقات أو قصرت. الثانية: ما يقع بين خطي عرض 48 درجة و 66 درجة شمالًا وجنوبًا، وتنعدم فيها بعض العلامات الفلكية للأوقات في عدد من أيام السنة، كأنْ لا يغيب الشفق الذي به يبتدئ وقت العشاء ويمتد نهاية وقت المغرب حتى يتداخل مع الفجر. الثالثة: وتقع فوق خط عرض 66 درجة شمالًا وجنوبًا إلى القطبين، وتنعدم فيها العلامات الظاهرية للأوقات في فترة طويلة من السنة نهارًا أو ليلًا. وانتهى القرار في المنطقتين إلى التقدير النسبيِّ إلى أقرب مكان تُمَيَّزُ فيه علاماتُ وقتي العشاء والفجر في المنطقة الثانية، وكذا في المنطقة الثالثة بالنسبة لجميع الأوقات والصلوات. 3 - إدارة الإفتاء بالكويت: وقد جاء في فتواها: ". . . البلاد التي تغيب فيها العلامات المميزة لوقت العشاء ووقت الفجر يأخذ أهلُهَا بالتقدير على أساس القياس النسبيِّ لأقرب منطقة إليهم يظل ¬

_ (¬1) قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في الدورة الخامسة للمجمع، بتاريخ 4/ 2/ 1982 م.

القول الثاني: التقدير المطابق لتوقيت أقرب البلاد،

فيها التمايز صحيحًا طوال أيام السنة، وذلك موافق للشافعية، والراجح من مذهب الحنفية، وهو الذي تؤيده ظواهر النصوص. . . " (¬1). القول الثاني: التقدير المطابق لتوقيت أقرب البلاد، وذلك بأن يتابع البلد الأقرب والذي تتحقق فيه العلامات الشرعية في نفس مواقيته، فوقت العشاء -مثلاً- في المناطق التي لا يغيب فيها الشفق يكون عند غياب شفق أقرب مكان لهم، فإذا غاب في تلك البلد فقد وجبت العشاء على أهل تلك الدار التي لا يغيب فيها الشفق، ولو كان هذا بعد الفجر، وتعتبر الصلاة عند تأديتها في هذا الوقت أداءً، وليست قضاءً (¬2). وهذا مذهب المالكية، بعد التصريح بأنه لا نصَّ لديهم في هذا الموضوع (¬3). وإن كان بعض المالكية نحا منحى الشافعية في هذه المسألة كالإمام القرافي (¬4). وللحنابلة قول يدل على قرب ما عندهم من هذا المذهب، حيث أَوردوا في مسائل أوقات الصلوات مسألةَ التقدير لأيام الدجال، فنصُّوا على أنه يُقَدَّرُ الزمن المعتاد، أي: يُقَدَّرُ الوقتُ بزمنٍ يساوي الزمنَ الذي كان في الأيام المعتادة، فلا يُنْظَرُ للزوال بالنسبة للظهر، ولا لمصير ظلِّ الشيء مثله بالنسبة للعصر، وهكذا (¬5). "ويؤخذ من هذا أن أمر التقدير وارد عندهم؛ وأنه باستصحاب الزمن المعتاد في الوقت الذي لم يطرأ فيه الفقد، فبالنسبة للأوقات التي طرأ عليها الوضع غير المعتاد يُقَدَّرُ الزمنُ المعتاد. ¬

_ (¬1) مجموعة الفتاوي الشرعية الصادرة عن قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، ط 1، 1417 هـ - 1996 م، فتوى رقم (111). (¬2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير لأقرب المسالك، (1/ 225 - 226). (¬3) حاشية الدسوقي، (1/ 179). (¬4) حاشية الصاوي على الشرح الصغير لأقرب المسالك، (1/ 226). (¬5) شرح منتهى الإرادات، للبهوتي، (1/ 287 - 288).

أما إذا كان هناك بلدٌ جميعُ الأوقات فيه مشتملةٌ على هذا الفوات؛ فإن الاستصحاب يكون للبلد الأقرب الذي فيه أوقات معتادة لجميع الصلوات. وواضح أن التقدير هنا أشبهُ ما يكون بالتقدير على طريقة المالكية، وهو متابعة البلد الأقرب في نفس مواقيته، وليس هو التقدير النسبي الذي ذهب إليه الشافعية" (¬1). وعبارة الحنابلة: "ويُقَدَّرُ للصلاة أيامَ الدجال قَدْر المعتادِ من نحو ليل أو شتاء، ويتجه، وكذا حج وزكاة وصوم" (¬2). ولم يوجد ما ينقل عنهم في مسألةِ فاقدِ وقتِ العشاء. وهذا الرأي قد اعتمدته ندوة الأهلة والمواقيت والتقنيات الفلكية في توصياتها ومقترحاتها، والتي انعقدت بالكويت 1409 هـ - 1989 م. حيث جاء في التوصيات: "4 - في البلاد التي لا تتمايز فيها الأوقات كالعشاء والفجر؛ لعدم غيبوبة الشفق، أو عدم غروب الشمس، أو عدم طلوع الفجر، يُؤخَذُ لتحديد أوقات الصلوات التي اختفت علاماتها بمبدأ "التقدير المطابِق" بأن يجري على تلك البلاد توقيتُ أقربِ بلدٍ تتمايز فيه تلك الأوقات، مع مراعاة كون البلد الأقرب على نفس خطِّ الطول، وهذا المبدأ مستمَدُّ من مذهب المالكية، وهو يحقِّقُ اليسرَ ورفعَ الحرجِ" (¬3). ولا شك أن هذا الاختيار أيسرُ وأضبطُ من الاختيار السابق، وهو التقدير النسبي. ¬

_ (¬1) الحلول الشرعية للمناطق الفاقدة لبعض أوقات الصلاة، د. عبد الستار أبو غدة، مجلة المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث عدد (6)، (ص 385). (¬2) مطالب أولي النهى، لمصطفى الرحيباني، (1/ 315 - 316)، الإقناع، للحجاوي، (1/ 84). (¬3) توصيات ومقترحات ندوة الأهلة والمواقيت والتقنيات الفلكية، الكويت، 1409 هـ - 1989 م، عن بحث الحلول الشرعية للمناطق الفاقدة لبعض أوقات الصلاة، (ص 310).

القول الثالث: عند غياب جميع العلامات في جميع الأوقات يقدر للأوقات

القول الثالث: عند غياب جميع العلامات في جميع الأوقات يُقَدَّرُ للأوقات، أما عند غياب العلامات المميزة لوقت العشاء لعدم غيبوبة الشفق فتصلَّى في وقت الصبح، ولا يَسقطُ وجوبُهَا. وذلك لتيقن غياب الشفق، بغلبة نور الصباح، وهذا منقول عن بعض الحنفية، وقال بعضهم كالبرهان الكبير (¬1): تُصلَّى بنية القضاء، ومنهم من قال: بل بنية الأداء؛ لأنه لا يقال قضاء إلا لصلاة لها وقت معلوم تؤدَّى بعد خروجه (¬2). قال ابن عابدين: "إن القائلين عندنا بالوجوب صرَّحوا بأنها قضاء، وبفقد وقت الأداء، وأيضًا لو فُرِضَ أن فجرهم يطلع بقدر ما يغيب الشفق في أقرب البلاد إليهم لزم اتحاد وقتي العشاء والصبح في حَقِّهم، أو أن الصبح لا يدخل بطلوع الفجر، إن قلنا: إن الوقت للعشاء فقط، لزم أن تكون العشاء نهارية لا يدخل وقتها إلا بعد طلوع الفجر، وقد يؤدي -أيضًا- إلى أن الصبح إنما يدخل وقته بعد طلوع شمسهم، وكل ذلك لا يُعقل في معنى التقدير" (¬3). وعليه فقد مال إلى القول بوجوبها ابنُ الهمام الحنفي، والبرهانُ الكبير، وأبنُ أمير الحاج، وابنُ عابدين، والعينيُّ (¬4)، وغيرُهم (¬5). ¬

_ (¬1) أبو محمد، عبد العزيز بن عمر بن مازه، المعروف ببرهان الأئمة، والصدر الماضي، الجواهر المضية، لمحيي الدين القرشي، (2/ 437)، الفوائد البهية، للكنوي، (ص 98). (¬2) حاشية ابن عابدين، (1/ 18)، فتح القدير، لابن الهمام، (1/ 224)، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، للزيعلي، (1/ 81 - 82)، الفتاوى الهندية، لجماعة من علماء الهند، (1/ 58). (¬3) حاشية ابن عابدين، (1/ 19). (¬4) محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين بن يوسف، بدر الدين العيني، قاضي القضاة، الحنفي العلَّامة، من تصانيفه: شرح البخاري، شرح الشواهد الكبير والصغير، شرح معاني الآثار، شرح الكنز، شرح المجمع، ولد سنة 762 هـ، وتوفي سنة 855 هـ. بغية الوعاة، للسيوطي، (2/ 572)، والأعلام، للزركلي، (7/ 163). (¬5) تبيين الحقائق، للزيلعي، (1/ 81)، فتح القدير، لابن الهمام، (1/ 224)، حاشية ابن عابدين، (2/ 18) وما بعدها.

القول الرابع: التقدير بناء على آخر يوم غابت فيه العلامات.

وإن خالفهم البقالي (¬1)، والزيلعي (¬2)، والشرنبلالي، (¬3) والمرغيناني (¬4). القول الرابع: التقدير بناءً على آخر يوم غابت فيه العلامات. وذلك في البلاد التي لا يغيب فيها شفق الغروب حتى يطلع الفجر، بحيث لا يتميز شفق الشروق عن شفق الغروب، يُقَدَّرُ وقتُ العشاء الآخرة، والإمساكُ في الصوم، ووقتُ صلاة الفجر بحسب آخر فترة يتميز فيها الشفقان. أي: يتمُّ اعتمادُ توقيتِ آخرِ يومٍ ظهرت فيه علامتا العشاء والفجر، ويظل هذا التوقيت معتمَدًا حتى تظهر العلامات من جديد. ومن الجهات التي اعتمدت هذا الرأي: المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، في دورته الخامسة المنعقدة سنة 1982 م. حيث جاء في القرار: ". . . الثانية: البلاد التي لا يغيب فيها شفق الغروب حتى يطلع الفجر بحيث لا يتميز شفق الشروق من شفق الغروب، ففي هذه الجهات ويُقَدَّرُ وقتُ العشاء الآخرة، والإمساكُ في الصوم، ووقتُ صلاة الفجر بحسب آخر فترة يتمايز فيها الشفقان" (¬5). ¬

_ (¬1) أبو الفضل، محمد بن محمد بن أبي القاسم البقالي، زين المشايخ، الخوارزمي، عالم بالأدب، مفسر، فقيه حنفي، من تصانيفه: أذكار الصلاة، أسرار الكذب، الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، الإعجاب في علم الإعراب، ولد سنة 490 هـ، وتوفي سنة 562 هـ. الفوائد البهية، للكنوي، (ص 161)، والأعلام، للزركلي، (6/ 335). (¬2) أبو محمد فخر الدين عثمان بن علي بن مِحجن، الزيلعي، الحنفي الفقيه، كان فاضلًا فى مذهبه، من أهم مصنفاته: تبيينُ الحقائق شرح كنز الدقائق، وبركة الكلام على أحاديث الأحكام، توفي سنة 743 هـ. الدرر الكامنة، لابن حجر، (2/ 446)، والأعلام، للزركلي، (4/ 210). (¬3) أبو الإخلاص حسن بن عمار بن علي بن يوسف، الوفائي المصري، الشرنبلالي، فقيه حنفي، مكثر من التصنيف، من مصنفاته: مراقي الفلاح بإمداد الفتاح شروح نور الإيضاح في الفروع له، نور الإيضاح ونجاة الأرواح مقدمة في الفروع، شرح منظومة ابن وهبان، وغير ذلك، ولد سنة 994 هـ، وتوفي سنة 1069 هـ. الأعلام، للزركلي، (2/ 208)، ومعجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (3/ 265). (¬4) أبو الحسن برهان الدين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل، الإمام الفرغاني، المرغيناني الفقيه الحنفي، العلَّامة المحقق، عالم ما وراء النهر، من مصنفاته: الهداية، والبداية في المذهب، ولد سنة 530 هـ، وتوفي سنة 593 هـ، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (21/ 232)، والجواهر المضية، لمحيي الدين القرشي، (2/ 627). (¬5) فقه النوازل، د. محمد حسين الجيزاني، (2/ 156).

القول الخامس: بخصوص وقت العشاء: إعمال تقديرات معاصرة.

القول الخامس: بخصوص وقت العشاء: إعمال تقديرات معاصرة. وهي عِدَّةُ اجتهادات وآراء شخصية لأصحابها، منهم: فلكيون، ومنهم: فقهاء، ومن ذلك: 1 - قسمة الليل إلى نصفين؛ الأول: يمتد من غروب الشمس إلى منتصف الليل، وهو وقت موسَّعٌ للمغرب، ويكون منتصفُ الليل وقتًا لصلاة العشاء، وهو يمتدُّ لزمنٍ يسعها، ثم يبدأ وقت صلاة الفجر، ويمتد حتى شروقِ الشمسِ. وهو رأي للدكتور حسين كمال الدين (¬1). 2 - يُعْتَبَرُ وقتُ العشاء بعد ساعة وعشرين دقيقة من غروب الشمس تيسيرًا، ويعتمَدُ لوقت الفجر آخرُ يوم ظهرت فيه علامة الفجر احتياطًا. وهذا ما اعتُمد في التقويم التركي (¬2). 3 - تحديد الفَرْقِ بين المغرب والعشاء، والفجر والشروق، بساعة ونصف لجميع فصول السنة، ولجميع بلاد العالم! وهو رأي للدكتور محمد حميد الله (¬3). 4 - قسمة الليل إلى سبعة أسباع، أو ستة أسداس، بحيث يبتدئ وقت العشاء بعد نهاية الجزء الأول، ويبتدئ الفجر مع بداية الجزء الأخير. وهو رأي الشيخ جمال مناع (¬4). 5 - اعتماد توقيت مكة أو المدينة، فهما مهبط الوحي، ومن جملة البلاد المعتدلة (¬5). ¬

_ (¬1) وقد عرض رأيه في كتابه، جدول مواقيت الصلاة لجميع بقاع العالم، وبخصوص المناطق التي تختفي فيها بعض الأوقات فحسب، مواقيت الفجر والعشاء في المناطق الفاقدة للعلامات الشرعية، فيصل مولوي، (ص 350). (¬2) مواقيت الفجر والعشاء في المناطق الفاقدة للعلامات، لفيصل مولوي، (ص 351). (¬3) المرجع السابق، (ص 351). (¬4) مواقيت الفجر والعشاء في المناطق الفاقدة للعلامات الشرعية، فيصل مولوي، (ص 352). (¬5) فتاوي الشيخ محمد رشيد رضا، (6/ 2577 - 2578).

القول السادس: تحديد علامة شرعية جديدة.

القول السادس: تحديد علامة شرعية جديدة. وذلك ما يحدده الفلكيون باسم الشفق المدني، وينضبط عندما يكون قرص الشمس واقعًا تحت الأفق بـ 12 درجة، بينما العلامة الشرعية في البلاد المعتدلة عندما يكون قرص الشمس تحت الأفق بـ 18 درجة. فوقت العشاء يُحَدَّدُ عند الدرجة 12 بعد الغروب. ووقت الفجر يُحَدَّدُ عند الدرجة 12 قبل الشروق. وهذا الرأي أَخذ به اتحادُ المنظمات الإسلامية في فرنسا، وهو رأي الفلكي صالح العجيري، وهو ما مال إليه الشيخ فيصل مولوي (¬1). ويرتكز هذا الاجتهادُ على تحديد علامة جديدة، فإذا كان الوقت يرتبط بالشفق الذي لا يتأتَّى إلا بعد الغروب، وقد تعذر حصولُهُ، فَيُنْتَقَلُ إلى علامة أخرى تتعلَّقُ بحركة الشمس بعد الغروب، وهو ما يسمى بالشفق المدني الذي يظهر عند الدرجة 12 بدلًا من الدرجة 18. فإذا فُقِدَتِ العلاماتُ أُعْمِلَ الاجتهادُ في إدراك الوقت. والصلوات من العبادات، والعبادات الأصل فيها التوقيف، أو هي معلَّلَةٌ بالنص، ولا يمنع هذا أن الأصل الشرعي العام هو تعليل الشريعة بمصالح العباد، وقد ذهب الحنفية إلى أن الأصلَ التعليلُ حتى يتعذر. والعبادات لا تخرج عندهم عن هذا الأصل في أحكامها العامة، وقد مال أبو حنيفة إلى أن نصوص الزكاة معلَّلَةٌ بالمالية الصالحة لإقامة حقِّ الفقير (¬2). وإلى شيء من هذا المعنى مال الشافعي أيضًا. قال الزنجاني (¬3): "معتَقَدُ الشافعي أن الزكاة مئونة مالية، وجبت للفقراء على ¬

_ (¬1) مواقيت الفجر والعشاء في المناطق الفاقدة للعلامات الشرعية، فيصل مولوي، (ص 352). (¬2) نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، للريسوني، (ص 189). (¬3) أبو المناقب، محمود بن أحمد بن محمود، الزنجاني، العلامة شيخ الشافعية، تفقه وبرع في المذهب والأصول والخلاف، له تصانيف كثيرة، منها: تخريج الفروع على الأصول، وتفسير القرآن، توفي سنة 656 هـ. سير أعلام =

الأغنياء بقرابة الإسلام، على سبيل المواساة، ومعنى العبادة تَبَعٌ فيها، وإنما أثبته الشرع ترغيبًا في أدائها" (¬1). وفيما يتعلق بالاجتهاد في وضع علامة جديدة راعى القائلون بهذا تحقيقَ مقاصدِ النومِ والراحة بعد العشاء، وانسجامَ الأمرِ مع مصالح الناس في معاشهم، ورفعَ الحرجِ والعنت عنهم، وإرادةَ التخفيف أو التيسير عليهم. وعليه: فقد ذهبوا إلى أن الناس اعتادوا في البلاد التي لا يغيب فيها الشفق الأحمر؛ لعدم وصول الشمس تحت الأفق إلى درجة 18 - أن يقيسوا حركتها بالتوقف عند الدرجة 12، فهو ما يُعْرَفُ بالشفق المدني، وهو الذي يمكن اعتبارُهُ العلامةَ الفلكية التالية بعد غياب الشفق الأحمر، ويكون اعتماده لدخول وقت العشاء حين تُفْقَدُ العلامةُ السابقة أمرًا معتبرًا من الناحية الشرعية. كما يذهب القائلون بهذا الرأي إلى اعتماده طوالَ السنة في الأوقات التي تُفْقَدُ فيها العلاماتُ وفي غيرها، ولا مانعَ لديهم من تعطيل العمل بالنص؛ منعًا لضرر أكبر، كما جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة، رفعًا للحرج عن أمته. وقد أَوقفَ عمرُ سهمَ المؤلفة قلوبهم لَمَّا عزَّ المسلمون، وعَطَّل حدَّ السرقة عامَ الرمادة، ومَنَعَ قسمةَ الأراضي المفتتحةَ عنوةً بين المقاتلين بالعراق والشام. وعليه: فقد رأوا أن التحديد بهذه العلامة الجديدة من شأنه أن يُنَظِّمَ أوقات المسلمين على مدار السنة، وهو رافع للحرج عنهم (¬2). ¬

_ = النبلاء، للذهبي، (23/ 345)، وطبقات الشافعية الكبرى، (8/ 368). (¬1) تخريج الفروع على الأصول، للزنجاني، (ص 110). (¬2) مواقيت الفجر والعشاء في المناطق الفاقدة للعلامة، لفيصل مولوي، (ص 376 - 383).

القول السابع: مع القول بالتقدير النسبي عند اختفاء العلامات فى جميع الصلوات يقال بجواز الجمع بين المغرب والعشاء عند اختفاء العلامات في بعض الاوقات.

القول السابع: مع القول بالتقدير النسبي عند اختفاء العلامات فى جميع الصلوات يقال بجواز الجمع بين المغرب والعشاء عند اختفاء العلامات في بعض الاوقات. وقد وَرَدَ عند الحنابلة في الأسباب المبيحة للجمع بين الصلاتين: العجز عن معرفة الوقت (¬1). وانتصر له الشيخ عبد الله الجديع (¬2). وبه صدر قرار المجلس الأوروبي للإفتاء في دورته الثالثة (¬3). واستدل لهذا القول بالقرآن الكريم، والسنة، والمعقول. فأمَّا القرآن الكريم: فلقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]. وجه الدلالة: غسق الليل أُشير به إلى المغرب والعشاء، فالليل هو وقت المغرب والعشاء (¬4). وإذا كانت السُّنة قد فَرَّقَتْ بين وقتي المغرب والعشاء، وعلى هذا عَمَلُ المسلمين قديمًا وحديثًا، إلا أنه عند العذر والحاجة يُعْمَلُ بمواقيت القرآن، وهي مواقيتُ ثلاثةٌ: 1 - الفجر، وهو وقت صلاة الصبح. 2 - والزوال إلى الليل، وهو وقت الظهر والعصر. 3 - الليل، وهو وقت المغرب والعشاء. ¬

_ (¬1) الفروع، لابن مفلح، (3/ 104). (¬2) بيان حكم صلاة العشاء في بريطانيا حين يفتقد وقتها، لعبد الله الجديع، (ص 319). (¬3) قرارت وفتاوي المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، المجموعتان الأولى والثانية، دار التوزيع والنشر، القاهرة، (ص 109). (¬4) المحرر الوجيز، لابن عطية، (3/ 477).

وعليه: فعند الحاجة والاضطرار يصير وقت المغرب مع العشاء وقتًا واحدًا. وقد روى عبد الرزاق الصنعاني عن معمر بن راشد أنه قال: سمعت أن الصلاة جُمِعَتْ؛ لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]. فغسق الليل: المغرب والعشاء (¬1). وأمَّا السنة النبوية: فمن الأحاديث: ما ثبت من جواز الجمع بين المغرب والعشاء في السفر (¬2) وعند شدة المطر (¬3)، وهذا يدل على أن الوقت بين المغرب والعشاء حال العذر هَدَرٌ، فيجوز الجمع تقديمَّا أو تأخيرًا، ويصير الوقتان وقتًا واحدًا. وقد ثبت -أيضًا- أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر، قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: لِمَ فعلَ ذلك؟ قال: كي لا يُحرج أمته. وفي رواية أخرى -عند مسلم وغيره-: "ولا سفر"، بَدَلَ: "ولا مطر" (¬4). وهو جمع لا داعي إليه إلا رفع الحرج عند الحاجة أو المشقة البالغة. وهذا يدل على جواز هذا الجمع للحاجة إليه. المناقشة والترجيح: يترجح قول من قال بالتقدير النسبي حالَ فَقْدِ العلامات باستمرار الليل أو النهار أربعًا وعشرين ساعة فأكثر، وهو قول الأكثر من المتقدمين والمتأخرين. يقول الشيخ محمد رشيد رضا: "أَرأيتَ هل يُكَلِّفُ اللهُ تعالى من يقيم في جهة القطبين، وما ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرزاق، (2/ 551). (¬2) أخرجه البخاري، أبواب تقصير الصلاة، باب: الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، (1108)، من حديث أنس -رضي الله عنه-. (¬3) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر، (705)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬4) سبق تخريجه.

يقرب منها أن يصلي في يومه -وهو سَنَةٌ أو عِدَّةُ أشهرٍ- خمسَ صلواتٍ فقط. كلَّا إن الآيات الكبرى على كون هذا القرآن من عند الله المحيط علمه بكل شيء، ما نراه فيه من الاكتفاء بالخطاب العام الذي لا يتقيد بزمانِ مَنْ جاء به ولا مكانه. فأطلقَ الأمرَ بالصلاة، والرسولُ بَيَّنَ أوقاتها بما يناسب حال البلاد المعتدلة، التي هي القسم الأعظم في الأرض، حتى إذا وصل الإسلام إلى أهل تلك البلاد التي أشرنا إليها يمكنهم أن يقدروا للصلوات باجتهادهم، والقياس على ما بَيَّنَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَمْرِ اللهِ المطلقِ، فَيُقَدِّرُوا لها قَدْرَهَا (¬1). على أنه إذا وقع اختيار تقدير المواقيت بأقرب البلاد، فينبغي أن يُتَّفَقَ على البلد التي سيُعْتَبَر بها التقدير، وألَّا يُخْتَلَفَ عليها ضبطًا للمواقيت، ومنعًا للشقاق والفتنة. ولا شك أن هذا الاختيار أولى مِنْ اختيارٍ يمثل رأيًا اجتهاديًّا محضًا لا يقوم على نصٍّ، أو يرتبط بدليل نقليٍّ، كما وُجِدَ هذا في عدد من الأقوال التي تتضمن رأيًا محضًا، أو تتضمن إبطالًا للعلامة الشرعية حالَ وجودِهَا. وأمَّا مَا يتعلَّقُ بوقت العشاء عند فَقْدِ العلامة الشرعية الدَّالَّةِ عليه فإن كلا الرأيين الرابع والسابع سائغٌ مقبولٌ فيما يظهر، بحيث يُخَيَّرُ المسلم المقيم في تلك الديار بين أن يَعْتَبِرَ دخولَ وقت العشاء بآخر فترة يمكن فيها التمييزُ بين الشفقين؛ شفقِ العشاء، وشفقِ الفجر. وعند الحاجة أو المشقة له أن يجمعَ بين الصلاتين. ولا يسوغُ بحال أن يسقط عنه فَرْضُهَا، كما قال بعض الحنفية؛ فإنه مخالف لما انعقد عليه الإجماع من وجوبِ خمسِ صلواتٍ في اليوم والليلة! وصلاتها بعدَ تيقنِ دخولِ الصبحِ إخراجٌ لها عن وقتها مع إمكان أن تُصَلَّى باعتبارِ آخرِ وقتِ التمييزِ بينها وبين وقتِ الفجر، أو جمعها مع المغرب. ¬

_ (¬1) فتاوي الشيخ محمد رشيد رضا، (6/ 2577 - 2578).

المطلب الثاني: في حال قصر الليل أو النهار قصرا مفرطا مع بقاء العلامات الفلكية الشرعية للأوقات جميعا وتميزها

على أن التقدير الذي وَرَدَ في حديث الدجال إنما يجري العملُ به بالنسبة لمرور الأيام والليالي في يوم واحد به أيام، فتكون كحال جريان أربع وعشرين ساعة فأكثر نهارًا أو ليلًا. ولا يَرِدُ على القول بجواز الجمع أن هذا قد يطول ربما لأشهر؛ وذلك لأن الرخصة باقيةٌ ما بقي العذر فإذا زال العذر بطلت الرخصة، والقاعدة تقول: ما جاز لعذر بطل بزواله، فتنزل منزلةَ القصر في السفر والجمع في المرض، والفطر للحامل والمرضع، ولو طال الوقت. ولا شك أن العذر شديد في هذه الحالة مبيح للجَمْعِ، كما يباح الجَمْعُ في المطر، وأشد. على أن حديث ابن عباس يفتح بابًا للسعة في هذه الحالة، والله أعلم. المطلب الثاني: في حال قِصَر الليل أو النهار قِصَرًا مفرطًا مع بقاء العلامات الفلكية الشرعية للأوقات جميعًا وتميزها: القول الأول: يتعين على أهل ذلك الإقليم أن يؤدُّوا الصلوات جميعًا فى أوقاتها المقدًرة لها شرعًا، ولا يجوز الجمع إلا لعذر شرعي: وهو قول جماهير أهل العلم سلفًا وخلفًا. وبه أفتت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية (¬1)، والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي (¬2)، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية (¬3). القول الثاني: يجوز الجمع بين المغرب والعشاء صيفًا، والظهر والعصر شتاءً؛ لقصر الليل والنهار، وصعوبة أداء الصلاتين في وقتها: وهو قولٌ لأعضاء المجلس الأوروبي للإفتاء، وبه صدر قرار المجلس رقم (3/ 3) ¬

_ (¬1) قرار رقم، (61) في 12/ 4/ 1398 هـ، فقه النوازل، د. محمد الجيزاني، (2/ 152). (¬2) قرار المجمع في 10/ 4/ 1402 هـ، 4/ 2/ 1982 م، فقه النوازل، د. محمد الجيزاني، (2/ 156 - 158)، قرار المجمع في رجب 1406 هـ، فقه النوازل، د. محمد الجيزاني، (2/ 159 - 161). (¬3) فتاوي اللجنة الدائمة، (6/ 143)، (6/ 132 - 138).

الأدلة والمناقشات

في دورته الثالثة في صفر 1420 هـ - مايو 1999 م، بألمانيا، وجرى تأكيده في الدورة الحادية عشرة للمجلس، مع اجتهادات أخرى، مثل: تحديدِ فارقٍ زمنيٍّ ثابتٍ بين وقْتَي المغرب والعشاء، والفجر والشروق بقدر ساعة ونصف. الأدلة والمناقشات: أدلة القول الأول: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع. أولًا: القرآن الكريم: قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]. وجه الدلالة: دلَّت الآية السابقة على مواقيت الصلوات، وارتباط أدائها بتلك الأسباب للأحكام الشرعية. وقال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. وجه الدلالة: نَصَّت الآية السابقة على وجوب أداء الصلاة في مواقيتها المفروضة شرعًا. ثانيًا: السنة المطهرة: عن بريدة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً سأله عن وقت الصلاة، فقال له: "صَلِّ معنا هذين"، يعني: يومين، فلما زالت الشمس أمَرَ بلالًا، فأذَّن، ثم أَمَرَهُ فأقامَ الظُّهْرَ، ثم أَمَرَهُ فأقامَ العصرَ والشمسُ مرتفعة بيضاء نقية، ثم أَمَرَهُ فأقامَ المغربَ حين غابت الشمس، ثم أَمَرَهُ فأقامَ العشاءَ حين غاب الشفق، ثم أَمَرَهُ فأقامَ الفجرَ حين طلع الفجر. فلمَّا أن كان اليوم الثاني أَمَرَهُ فَأَبْرَدَ بالظهر فأبرد بها، فأنعم أن يبرد بها، وصلى العصرَ والشمسُ مرتفعة أخَّرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها. ثم قال: "أين السائل

الإجماع

عن وقت الصلاة؟ "، فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قال: "وقت صلاتكم بين ما رأيتم" (¬1). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظِلُّ الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفرَّ الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يَغِبِ الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسكْ عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني الشيطان" (¬2). وجه الدلالة: دلَّت الأحاديث على تحديد الأوقات المفروضة للصلوات الخمس قولًا وفعلًا، ولم تُفَرِّقْ بين طولِ النهار أو الليل أو قِصَرِهِمَا، ما دامت تلك الأوقاتُ متمايزةً بالعلامات التي بَيَّنَهَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. الإجماع: وعلى وجوب أداء الصلوات في وقتها المفروض شرعًا وَقَعَ الإجماعُ في الجملة (¬3)، وقد تواترت المواقيت بالسُّنَّة العملية بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. فلا يجوز الجَمْعُ إلا مِنْ عُذْرٍ مُرَخِّصٍ أو حاجةٍ معتبرَةٍ شرعًا. أدلة القول الثاني: القرآن، والسنة، والقواعد. أولًا: القرآن الكريم: عمومات القرآن الكريم القاضية برفع الحرج عن الأمة. قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، كتاب المساجد، باب: أوقات الصلوات الخمس، (163)، من حديث عبد الله بن بريدة -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب المساجد، باب: أوقات الصلاة الخمس، (612)، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-. (¬3) مراتب الإجماع، لابن حزم، (ص 48)، الاستذكار، لابن عبد البر، (1/ 244)، المغني، لابن قدامة، (2/ 8).

ثانيا: السنة المطهرة

وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]. ونحو ذلك من الآيات، وهي كثيرة. ثانيًا: السنة المطهرة: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جَمْعًا، والمغرب والعشاء جَمْعًا، في غير خوف ولا سفر (¬1). وفي رواية: جَمَعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف، ولا مطر. قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألَّا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ (¬2). وفي رواية عبد الله بن شقيق (¬3)، قال: خَطَبَنَا ابنُ عباس يومًا بعد العصر، حتى غربت الشمس، وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة! الصلاة! قال: فجاءه رجل من بني تميم، لا يفتر، ولا ينثني: الصلاة! الصلاة! فقال ابن عباس: أَتُعَلِّمُني بالسُّنَّةِ؟ لا أمَّ لك! ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جَمَعَ بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيتُ أبا هريرة، فسألتُه، فصدَّقَ مقالَتَهُ (¬4). وجه الدلالة: "وهذا التعليل من حَبْرِ الأمةِ ابنِ عباس يعني: أنه أراد أن يوسِّعَ على الأُمَّةِ ويُيَسِّرَ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) أبو عبد الرحمن، عبد الله بن شقيق العقيلي البصري، روى عن عمر، وابنه، وابن عباس، وعلي، وعثمان، وروى عنه أيوب السختياني، وبديل بن ميسرة العقيلي، وحميد الطويل، توفي سنة 108 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (5/ 81)، وتهذيب الكمال، للمزي (15/ 89). (¬4) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر، (705)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

المناقشة والترجيح

عليها، ولا يوقعَهَا في الحرج والضيق، فما جَعَلَ الله في هذا الدِّين من حرج، بل يريدُ بعباده اليسرَ، ولا يريدُ بهم العسرَ. والحديث واضح صريح على مشروعية الجَمْعِ للحاجة" (¬1). قال ابن المنذر: ولا معنى لحَمْلِ الأمر فيه على عذر من الأعذار؛ لأن ابن عباس قد أخبر بالعلَّةِ فيه، وهو قوله: "أرادَ ألَّا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ". وحُكي عن ابن سيرين: أنه كان لا يرى بأسًا أن يجمع بين الصلاتين، إذا كانت حاجة أو شيء، ما لم يَتَّخِذْهُ عادةً (¬2). وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: "وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث، فجوَّزوا الجَمْعَ في الحضر؛ للحاجة مطلقًا، لكن بشرط ألا يتخذَ ذلك عادةً، وممن قال به: ابن سيرين، وربيعة، وأشهب، وابن المنذر، والقفال الكبير، وحكاه الخطابي عن جماعة من أهل الحديث" (¬3). وبناءً على ما تقدَّم فقد أفتى المجلس الأوروبي بجواز الجمع بين المغرب والعشاء صيفًا حين يتأخر وقت العشاء إلى منتصف الليل، وجواز الجمع بين الظهر والعصر شتاءً؛ لقصر النهار وصعوبة أداء كل صلاة في وقتها للعاملين في مؤسساتهم! إلَّا بمشقة وحرج. مع التنبيه على ألا يلجأ المسلم إلى الجمع من غير حاجة، وعلى ألا يَتَّخِذَهُ له عادة (¬4). المناقشة والترجيح: لا شك أن كلا القولين يُسَلِّمُ بأهمية أداء الصلاة في وقتها، ويؤكد على التزامها من غير تفريط في أوقاتها. ¬

_ (¬1) في فقه الأقليات المسلمة، د. يوسف القرضاوي، (ص 78). (¬2) التمهيد، لابن عبد البر، (12/ 215). (¬3) فتح الباري، لابن حجر، (2/ 42). (¬4) قرارات وفتاوي المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، المجموعتان الأولى والثانية، (ص 109).

وأن كلا القولين يفتح باب السعة بالجمع؛ للحاجة الطارئة والمشقة غير العادية؛ إعمالًا لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- الذي عَلَّلَ فيه الجَمْعَ برفع الحرج عن الأمة. وإنما يدقُّ الأمر حين يقال: هل يسوغُ أن يتخذَ الإنسان ذلك الجمعَ عادةً له ما دام عذرُهُ قائمًا بضيقِ وقتِ ما بين الظهر والعصر، أو تباعُدِ ما بين المغرب والعشاء، وتأخُّرِ العشاء إلى منتصف الليل، مع ما يحتاج إليه المسلم من الاستيقاظ مبكرًا لأداء صلاة الفجر، وممارسة عمله اليومي. والذي يظهر أنه لا يجوز اتخاذُ ذلك عادةً، ولا استدامَةُ الجَمْعِ مُدَّةَ شهورِ الصيف، أو الشتاء بإطلاقٍ؛ وذلك لاعتبارات، منها: - أن هذا الحديث لا يقول به أكثر الفقهاء، ولا يعملون به، كما قاله الخطابي (¬1). - أن تطبيقه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو حياة الصحابة كان في مَرَّةٍ أو نحوِهَا، ولم يُعْرَفِ اطِّرادُهُ في حياة السلف، مع كثرة ما عَرَضَ لهم من حاجات. - أن من أباحه اشترط ألَّا يكونَ عادةً، والعادة ما يعود ويتكرر، وما نحن فيه وضع ثابت متكرر -ولا شك- كلَّ عامٍ في أشهر الصيف والشتاء، وهو ما يدخل في بضعة أشهر. وعليه: فإن كان قول من قال بالجواز على ألَّا يُتَّخَذَ عادةً يعني به مرةً أو نحوَها؛ لحاجةٍ طرأت، أو مشقَّةٍ غير عادية حصلت، بخلاف تَقَارُبِ الوقتِ، أو تباعُدِهِ -فالأمرُ يسيرٌ. وأخيرًا، فإن الراجح قولُ جماهير أهل العلم سلفًا وخلفًا من وجوب التزام الصلاة في مواقيتها الشرعية، متى تميَّزَتْ علاماتها الشرعية وتحدَّدَتْ. وللترخيص بحديث ابن عباس مجالٌ حيث طرأتْ حاجهٌ أو مشقَّةٌ غيرُ عاديةٍ. وعلى المسلم في بلاد الأقليات أن يحفظَ صلواتِهِ، وأن يجاهد ويصابر في المرابطة على أدائها في أوقاتها، والله تعالى وليُّ الصالحين. ¬

_ (¬1) معالم السنن، للخطابي، (1/ 265).

المبحث الثالث من نوازل الزكاة: حكم دفع الزكاة لغير المسلمين ببلاد الأقليات

المبحث الثالث من نوازل الزكاة: حكم دفع الزكاة لغير المسلمين ببلاد الأقليات تصوير المسألة وتكييفها: الزكاة ثالث أركان الإسلام بعد الشهادتين والصلاة، وهي عبادة مالية، فرضها الله على الأغنياء لِتُرَدَّ على الفقراء؛ تحقيقًا للتكافل بين المسلمين، وإشاعةً للتراحم بين طبقات المجتمع المسلم وفئاته. وما من شك أن الزكاة كما شرعت لسدِّ خلَّة الفقراء؛ فإنها شرعت لتقوية شوكة الإسلام وإعزازه، والدفع عنه في نحور أعدائه؛ ولذا جاء ضمن مصارف الزكاة الثمانية سهمُ المؤلفة قلوبهم، وهم أقسام، منهم المسلمون، ومنهم الكفار. وأغنياء المسلمين ببلاد الأقليات اليوم منهم من يسأل عن حكم إعطاء الزكاة لكافرٍ ابتداءً، وهذا لا يمثل نازلة، وإنما يدقُّ المأخذ حين يكون السؤال: هل يجوز بذل الزكاة لدفع شرِّ الكفار في بلاد الأقليات، أو لكسب قلوبهم بالإحسان، أو لتحقيق مصلحة دينية، أو اجتماعية، أو سياسية للأقليات المسلمة في تلك الديار؟ ومن المعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر تألَّف قومًا على الإسلام؛ كالأقرع بن حابس، وصفوان ابن أمية، وعيينة بن حصن؛ فأعطى كلًّا مائةً من الإبل، فلما قوي المسلمون في عهد عمر -رضي الله عنه- أوقف هذا السهم، ولما جاءه الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن منعهما العطاء، وقال لهما: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتآلفكما والإسلام يومئذٍ ذليلُ، وإن الله -عز وجل- قد أعز الإسلام، فاذهبا فاجهدا جهدكما لا أرعى الله عليكما إن رعيتما"! (¬1). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

تحرير محل النزاع

فهل سهم المؤلفة قلوبهم باقٍ بعد أن أوقف عمر -رضي الله عنه- العملَ به، فَيُعْطَى منه الكفار ولو في سبيل دعوتهم إلى الله إذا رُجِيَ إسلامهم؟ أم أنه قد نُسِخَ، أو وقع إجماع على زوال هذا المصرف؟ وهل يتأتَّى دفعها في تلك الديار للتأليف على الإسلام من غير وجود إمامٍ شرعيٍّ مُمَكَّنٍ، وهو الذي يُنَاطُ به -في الأصل- القيام بجمع الزكاة وتفريقها، والنظر في دفعها إلى غير المسلمين تأليفًا على الإسلام؟ وتحقيقًا لمصالح أهل ولايته. ومن غير شك فإن هذه المسألة التي تُطْرَحُ اليوم -في سياق ما تسعى الأقليات المسلمة لتحقيقه من ترسيخ وجودها، وتقوية شوكتها، وإقامة دينها في غير بلاد المسلمين، والتي لا تدخل تحت سلطان الشريعة، وفي ظِلِّ ظروف بالغة التعقيد -لهي قضية جديرة بالبحث والدرس. وتكييف هذه المسألة راجع إلى فقه الزكاة ومصارفها، وحكم دفعها لغير المسلمين، ومصرف المؤلفة قلوبهم على وجه الدقة، وتتعلق أيضًا بقيام أهل الحَلِّ والعقد عند الاقتضاء مقامَ الإمام، أو نائبه، وتحقيق المصلحة عند التصرف في أمر الرعية أو الأقلية. تحرير محل النزاع: اتفق الفقهاء على عدم جواز أو إجزاء دفع الزكاة لكافر من غير المؤلفة قلوبهم (¬1). قال ابن المنذر -رحمه الله-: "أجمع أهل العلم على أن لا يجزئ أن يُعْطَى زكاةَ المال أحدُ من أهل الذمة" (¬2). وخالف في هذا الحكم ابنُ سيرين، والزهريُّ، وزفر من الحنفية فأجازوا دفعها للكافر الذمي غير الحربي (¬3). ¬

_ (¬1) الإجماع، لمحمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، تحقيق: فؤاد عبد المنعم أحمد، دار المسلم، ط 1، 1425 هـ - 2004 م، (ص 47)، موسوعة الإجماع، لسعدي أبي جيب، (2/ 519)، الفتاوي الهندية، (1/ 207). (¬2) الإشراف على مذاهب العلماء، لأبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، تحقيق: د. أبي حماد صغير أحمد الأنصاري، مكتبة مكة الثقافية، الإمارات العربية المتحدة، ط 1، 1425 هـ - 2004 م، (3/ 75، 80، 99). (¬3) المجموع، للنووي، (6/ 228)، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي، =

وعمدةُ أدلةِ الجماهيرِ حديثُ معاذ -رضي الله عنه- لمَّا بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فقال له: ". . . ادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فَأَعْلِمْهُمْ أنَّ الله افترض عليهم خمسَ صلواتٍ في اليوم والليلة؛ فإن هم أطاعوا لذلك، فَأَعْلِمْهُمْ أن الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وتُرَدُّ على فقرائهم" (¬1). فالمقصود بها فقراء المسلمين لا غير، ولم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أعطى أحدًا من أهل الذمة شيئًا من الزكاة بوصف الفقر، ولم يثبت أن أحدًا من الصحابة قد أعطى منها يهوديًّا مع كثرة اليهود بالمدينة، أو قراباتهم من أهل الشرك بالجزيرة، لا في زمن الهدنة ولا في غيرها. وكلُّ ما عساه أن يُنْقَلَ في هذا الصدد محمولٌ على أنه من الصدقةِ المستحبةِ، لا الزكاةِ الواجبةِ، وذلك نحو قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] وقد وقع الإجماع على جواز التصدق على الكافر، وإعطائه من صدقة التطوع، وشرط بعض الفقهاء ألَّا يكون في إعطاء الحربي تقويةٌ له على قتال أهل الإسلام (¬2). واتفقوا -أيضًا- على أن الأَوْلَى في صدقات التطوع أن تكون لأهل الإسلام، إلَّا أن يدعوَ إلى الصدقة على غير المسملين داعٍ معتبرٌ رجحانُهُ. قال السرخسي -رحمه الله-: "لأنهم يتقوون (يعني: المسلمين) على الطاعة وعبادة الرحمن، والذمي يتقوى بها على عبادة الشيطان" (¬3). ¬

_ = المطبعة الأميرية، القاهرة، ط 1، 1315 هـ، (1/ 300). (¬1) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب: وجوب الزكاة، (1395)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام مطوَّلًا (19) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬2) المبسوط، للسرخسي، (3/ 111)، المغني، لابن قدامة، (4/ 114)، المجموع، للنووي، (6/ 240)، الفتاوي الهندية، (1/ 207). (¬3) المبسوط، للسرخسي، (3/ 111).

بعد التسليم بأن سهم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة الثمانية والمنصوص عليه بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. اختلف العلماء في بقاء هذا المصرف من مصارف الزكاة أو عدم بقائه بعد أن أوقفه عمر -رضي الله عنه- وهذا هو محل الخلاف في المسألة. فقد ادُّعِيَ الإجماعُ على سقوط هذا السهم بما قاله عمر -رضي الله عنه- للأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، ومنعه لهما منه، وقد فعله بمحضر من الصحابة من غير نكير عليه منهم. وقد عُورِضَتْ دعوى الإجماع بأنه لا يسلم؛ لأنه لا يُنْسَخُ، ولا يُنْسَخُ به، ولو سلم لكان في عيينة والأقرع فحسب؛ لعدم حاجة أهل الإسلام إليهما بعد العزة والتمكين. ولا يمتنع أن يكون بالمسلمين في ديار الأقليات حاجة تدعو إلى تألُّفِ الكفار بأموال الزكاة، وإيقاف العمل بهذا السهم ليس نسخًا للحكم، وإنما هو تخلُّفٌ له؛ لعدم وجود علته ومقتضيه. ومما ينبغي أن يُعْلَمَ أن المؤلفة قلوبهم صنفان: مسلمون، وكافرون. فأمَّا المسلمون فصنفانِ أيضًا: صنفٌ كانت نياتهم على الإسلام ضعيفة فتألفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - تقويةً لنياتهم. وصنف كانت نياتهم حسنة فَأُعطوا تألُّفًّا لعشائرهم من المشركين. وأما المشركون فصنفان كذلك: صنف يقصدون المسلمين بأذى فتألفهم دفعًا لأذاهم؛ مثل عامر بن الطفيل. وصنف كان لهم ميل إلى الإسلام تألفهم بالعطية؛ ليؤمنوا، كصفوان بن أمية (¬1). فهم "رؤساء قومهم من كافر يرجى إسلامُه، أو كفُّ شرّهِ، ومسلم يرجى لعطيته قوةُ إيمانِهِ، أو يرجى إسلامُ نظيرِهِ، أو نصحُهُ في الجهاد، أو الدفعُ عن المسلمين، أو كَفُّ ¬

_ (¬1) زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي، (3/ 457).

القول الأول: لا يجوز إعطاء الكفار تأليفا لقلوبهم بعد أن منعهم عمر -رضي الله عنه-، وحكم الآية منسوخ.

شرِّهِ؛ كالخوارج ونحوهم، أو قوة على جباية الزكاة ممن لا يعطيها" (¬1). من خلال ما سبق يتبين أن محل النزاع هو بقاء هذا المصرف من مصارف الزكاة -وهو مصرف المؤلفة قلوبهم- أو عدم بقائه وبالتالي عدم إعطاء المؤلفة قلوبهم من الكفار وغيرهم من الزكاة. الأقوال في المسألة وأصحابها: القول الأول: لا يجوز إعطاء الكفار تأليفًا لقلوبهم بعد أن منعهم عمر -رضي الله عنه-، وحكم الآية منسوخ. وهو قول الجمهور من الحنفية (¬2) والشافعية (¬3)، وهو مشهور مذهب المالكية (¬4)، ورواية عن أحمد بن حنبل -رحمه الله- (¬5). القول الثاني: بقاء سهم المؤلفة قلوبهم، ويجوز ويجزئ صرفُ الزكاة إليهم عند الحاجة إلى ذلك. وهو مذهب الحنابلة (¬6) وبعض المالكية (¬7)، وبه قال الطبري وغيره (¬8). قال المرداوي: "الصحيح من المذهب: أن سهم المؤلفة قلوبهم باقٍ وعليه الأصحاب" (¬9). ¬

_ (¬1) الإقناع، للحجاوي، (1/ 294). (¬2) تحفة الفقهاء، لأبي بكر علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 هـ - 1984 م، (1/ 299)، بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 44)، البحر الرائق، لابن نجيم، (2/ 258). (¬3) روضة الطالبين، للنووي، (2/ 313 - 314)، أسنى المطالب، لزكريا الأنصاري، (1/ 395)، مغني المحتاج، للخطيب الشربيني، (3/ 109). (¬4) منح الجليل، لعليش، (2/ 88)، حاشية الدسوقي، (1/ 495)، الكافي، لابن عبد البر، (1/ 325). (¬5) الإنصاف، للمرداوي، (3/ 228)، الكافي، لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، الجيزة، ط 1، 1417 هـ - 1997 م، (2/ 198). (¬6) الإقناع، للحجاوي، (1/ 294)، شرح منتهى الإرادات، للبهوتي، (2/ 314)، الإنصاف، للمرداوي، (3/ 228). (¬7) جامع الأمهات، لابن الحاجب، (ص 164)، الشرح الكبير، للدردير، (1/ 495)، حاشية الخرشي، (2/ 515). (¬8) تفسير الطبري، (11/ 520 - 521). (¬9) الإنصاف، للمرداوي، (3/ 228).

الأدلة والمناقشات

وفي حاشية الخرشي: "ومؤلَّفٌ كافرٌ لِيُسْلِمَ وحكمُهُ باقٍ" الصنف الرابع من الأصناف الثمانية في المؤلفة قلوبهم وهم كفار، يُعْطَون لِيُتَأَلَّفُوا على الإسلام، والصحيح أن حكم ذلك باقٍ" (¬1). الأدلة والمناقشات: أدلة القول الأول: من الإجماع، والمعقول: 1 - من الإجماع: قالوا: أجمع الصحابة على سقوط سهم المؤلفة قلوبهم؛ فقد وَرَدَ في سنن البيهقي: جاء عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فقالا: يا خليفة رسول الله، إن عندنا أرضًا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيتَ أن تُقْطِعَنَاهَا لعلَّنَا نزرعها ونحرثها. فذكر الحديث في الإقطاع وإشهاد عمر -رضي الله عنه- ومحوه إياه. قال: فقال عمر -رضي الله عنه-: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتألَّفُكُمَا والإسلام يومئذٍ ذليل، وإن الله قد أعزَّ الإسلام، فاذهبا فاجهدا جهدَكما لا أرعى الله عليكما إن رعيتما" (¬2). وجه الدلالة: قال الكاساني (¬3): "لم ينكر أبو بكر قوله وفعله، وبلغ ذلك الصحابة فلم ينكروا فيكون إجماعًا منهم على ذلك" (¬4). 2 - من المعقول: ثبت باتفاق الأمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يعطيهم ليتألَّفَهم على الإسلام؛ ولهذا سمَّاهم ¬

_ (¬1) حاشية الخرشي على مختصر خليل، (2/ 515). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) علاء الدين أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني، الحنفي، ملك العلماء، من مصنفاته: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، السلطان المبين في أصول الدين، تفقه على علاء الدين السمرقندي، وتوفي سنة 587 هـ. الجواهر المضية، لمحيي الدين القرشي، (4/ 25)، والأعلام، للزركلي، (2/ 70). (¬4) بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 45).

أدلة القول الثاني: القرآن الكريم، والسنة المطهرة

الله المؤلفة قلوبهم، والإسلام يومئذٍ في ضعفٍ وأهله في قلَّةٍ، وأولئك كثير ذوو قوة وعدد، واليوم بحمد الله عَزَّ الإسلام، وكثرَ أهله، واشتدَّتْ دعائمه، ورسخ بنيانه، وصار أهل الشرك أذلاءَ، والحكم متى ثبت معقولًا بمعنًى خاصٍّ ينتهي بذهاب ذلك المعنى (¬1). أدلة القول الثاني: القرآن الكريم، والسنة المطهرة: أولًا: القرآن الكريم: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. وجه الدلالة: ذكر الله تعالى المؤلفة قلوبهم ضمن مَنْ تُصْرَفُ لهم الزكاة؛ قال ابن الجوزي: "والمؤلفة قلوبهم هم قوم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتألفهم على الإسلام بما يعطيهم، وكانوا ذوي شرف، وهم صنفان: مسلمون وكافرون. . . وأما المشركون فصنفان: صنف يقصدون المسلمين بالأذى، فتألفهم دفعًا لأذاهم، مثل: عامر بن الطفيل، وصنف لهم ميل إلى الإسلام، فتألفهم بالعطية؛ ليؤمنوا، كصفوان بن أمية" (¬2). ثانيًا: السنة المطهرة: ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى المؤلفة قلوبهم من الصدقات، ومن ذلك: ما جاء عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: بعث علي -رضي الله عنه- وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس الحنظلي، وعيينة بن حصن ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (2/ 45). (¬2) زاد المسير، لابن الجوزي، (3/ 457).

المناقشة والترجيح

الفزاري، وعلقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، وزيد الخير الطائي، ثم أحد بني نبهان. قال: فغضبتْ قريش، فقالوا: يعطي صناديد نجد ويدعنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم" (¬1). وجه الدلالة: الحديث نصٌّ في جواز إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة. المناقشة والترجيح: نوقشت أدلة القول الأول بما يلي: إن عمر -رضي الله عنه- لم يَقُلْ بسقوط سهم المؤلفة قلوبهم، وإنما رأى اجتهاداً أنه لا حاجة لإعطائهم، والحكم يدور مع عِلَّتِهِ وجودًا وعدمًا (¬2). وإذا كان المسلمون زمنَ عمرَ والخلافة الراشدة وما بعدها بحيث لا يحتاجون إلى قوةِ أو عددِ المؤلفةِ قلوبهم فلا يسلم هذا في كل وقت، والمسلمون في بلاد الأقليات اليوم قد ضعفت شوكتهم، وهانوا لدى أعداء دينهم، وأصبحت الدولة لغيرهم، وهم بحاجة لمن يَدْفَعُ عنهم، أو يُسْلِمُ من أهل تلك الديار من الكفار، ولا سيما أهل الفكر والحذق والقوة. ونوقشت أدلة القول الثاني بما يلي: الحكم الذي تضمنته الآية الكريمة بإعطاء المؤلفة قلوبهم قد نُسِخَ، والناسخ أحد ثلاثة: 1 - إجماع الصحابة على عدم إعطاء المؤلفة قلوبهم (¬3). 2 - السنة، وهو حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، وفيه -عن الزكاة-: "تؤخذ من أغنيائهم وتُرَدُّ على فقرائهم"؛ فالضمير في "فقرائهم" للمسلمين؛ فلا تُدْفَعُ إلى من كان من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب: بعث علي بن أبي طالب عليه السلام، (4351)، ومسلم، كتاب ذكر الخوارج وصفاتهم، (1064) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. (¬2) المغني، لابن قدامة، (9/ 317)، مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (33/ 94). (¬3) بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 45).

المؤلفة قلوبهم كافرًا أو غنيًّا، وتُدْفَعُ إلى من كان منهم مسلمًا فقيرًا بوصف الفقر؛ فالنسخ للعموم أو لخصوص الجهة (¬1). 3 - القرآن الكريم: فقد روى الطبري في تفسيره: "قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: -وأتاه عيينة بن حصن- {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] أي: ليس اليوم مؤلفة" (¬2). وأُجِيبَ: بأن دعوى الإجماع غير صحيحة ولا مُسَلَّمة. قال الزهري: "لا أعلم شيئًا نَسَخَ حكمَ المؤلَّفِ" (¬3). وقال أبو عبيد: "وهذا هو القول عندي؛ لأن الآية محكمة، لا نعلم لها ناسخًا من كتاب، ولا سنة" (¬4). وقال ابن قدامة: "فأما الإجماع فلا يُنْسَخُ ولا يُنْسَخُ به" (¬5). وفي شرح الكوكب المنير: "ولا يُنْسَخُ حكمٌ به -أي: بالإجماع-؛ لأنه إذا وُجِدَ إجماعٌ على خلاف نصٍّ فيكون قد تضمَّنَ ناسخًا، لا أنه هو الناسخ، ولأن الإجماع معصوم من مخالفة دليل شرعي لا معارِضَ له، ولا مزيلَ عن دلالته، فتعيَّنَ إذا وجدناه خالف شيئًا أن ذلك إما غير صحيح إن أمكن ذلك، أو أنه مؤول، أو نُسِخَ بناسخٍ؛ لأن إجماعهم حقٌّ؛ فالإجماع دليلٌ على النسخ، لا رافعٌ للحكم" (¬6). فلا يتأتَّى نَسْخٌ بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -، وهو لا يكون إلا بالنصِّ المعصوم، والإجماع لا يتأتَّى إلا بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا يصلحُ الإجماعُ أن يكون ناسخًا. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين، (3/ 288). (¬2) تفسير الطبري، (11/ 522). (¬3) زاد المسير، لابن الجوزي، (3/ 457). (¬4) كتاب الأموال، لأبي عبيد القاسم بن سلام، تحقيق: محمد خليل هراس، دار الفكر، بيروت، (ص 722). (¬5) روضة الناظر، لابن قدامة، (ص 87). (¬6) شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (3/ 570).

الترجيح

أما حديث معاذ فهو عامٌّ، يقرِّرُ أن الأصلَ صَرْفُ الزكاة إلى فقراء المسلمين، وقد بينت الآية الكريمة استثناءً من ذلك، وهو إعطاء الكفار رجاءَ إسلامِهم، ونفعهم لديننا. وصفوة القول: أن عمر -رضي الله عنه- لم يعطِّلْ نصًّا، ولم يَنْسَخْ شرعًا؛ فإن الزكاة تُعْطَى لمن يوجد من الأصناف الثمانية، فإن لم يوجد صنف سقط سهمه، ولم يَجُزْ أن يقال: إن ذلك تعطيل لكتاب الله، أو نَسْخٌ له (¬1). الترجيح: يترجح -والله أعلم- قولُ من قال ببقاء هذا السهم للمؤلفة قلوبهم؛ سواء أكانوا من المسلمين، أم من الكفار؛ وذلك لأمور، منها: 1 - قوة أدلة المجوزين وسلامتها من المعارضة الراجحة، وقوله وفعله - صلى الله عليه وسلم - يؤيد قول المبيحين. 2 - ضعف القول بالنسخ، ولا يُعْلَمُ أن صحابيًّا يَنْسَخُ قولُه أو فعلُه نصًّا من كتاب الله تعالى، أو حكمًا قطعيًّا من أحكامه. 3 - ولا شك أن إعطاء المؤلفة قلوبهم فيه دَفْعٌ عن المستضعفين ببلاد الأقليات، وإقامةٌ لدينهم وتقويةٌ لشوكتهم، كما هو وسيلةٌ دعويةٌ ناجحةٌ. 4 - قال أبو بكر بن العربي المالكي -رحمه الله-: "والذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أُعطوا سهمَهُم، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيه؛ فإن الصحيح قد روي فيه "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ" (¬2) (¬3). وعليه: فمتى احتاج أهلُ أقليَّةٍ تحقيقَ مصلحة اجتماعية أو سياسية أو دينية لأهلِ دينِهم فدفعوا من زكاة أموالهم تأليفًا على الإسلام أو دفعًا عنه فلا حرج عليهم في ذلك. ¬

_ (¬1) فقه الزكاة، للقرضاوي، (2/ 601). (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا (146) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬3) أحكام القرآن، لابن العربي، (2/ 530).

وإذا كان أَمْرُ الزكاة في جمعها وتفريقها موكولًا إلى الإمام الشرعي فإن هذه الفريضة لا تزول ولا تسقط بغيابه، وإنما يقوم أهلُ الحَلِّ والعقد في تلك الديار مقامَ الإمام أو نائبه، فينفذون ما استطاعوا من الأحكام، وتقومُ المراكز والجمعيات والهيئات الإسلامية في تلك البلاد بعلمائها وقادتها مقامَ الإمام في النظر لمصلحة المسلمين والدفع عن المستضعفين، ولا شك أن التصرف على الأقلية منوط بالمصلحة. وجاء في قرار المجلس الأوربي للإفتاء في دورته الثالثة: "تدارسَ المجلسُ هذا الموضوع، وانتهى إلى مشروعية تحصيل هذه المؤسسات للزكاة من أصحابها وصرفها في مصارفها الثمانية، أو من وُجِدَ منهم، لا سيما أن المسلمين مأمورون بتنظيم حياتهم، ولو كانوا ثلاثة، كما جاء في الحديث النبوي: "إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمِّروا أحدكم" (¬1)، وأن ذلك من التعاون على البر والتقوى، كما أنه إحياءٌ لركن من أركان الإسلام، لا يتوقف على وجود الخليفة؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬2)؛ فإذا لم نستطع إقامة الخلافة واستطعنا أداء ما يخصُّنَا من فرائضَ وواجباتٍ فعلينا أن نؤديَهَا كما أَمَرَ الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وسقوط بعض الواجبات عنا للعذر لا يكون سببًا في إسقاط الكلِّ، وقد كان المسلمون في العهد المكي يُؤْتُونَ الزكاة التي وصف الله بها المؤمنين والمحسنين في كتابه الكريم في السور المكية، وذلك قبل قيام دولة المدينة، ونعني بها الزكاة المطلقة قبل ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب: باب في القوم يسافرون يُؤَمِّرُونَ أحدَهم، (2608)، والطبراني في الأوسط، (8/ 99) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (1322). (¬2) سبق تخريجه.

تحديد الأنصبة والمقادير" (¬1). وبالجملة فإن الراجح جواز دفع شيء من الزكاة في مصرف المؤلفة قلوبهم عند الاقتضاء. وإذا جاز هذا من أموال الزكاة المفروضة فجوازه في الصدقة المندوبة من باب الأولى. قال ابن قدامة: "وكل من حرم عليه صدقةُ الفرض من الأغنياء، وقرابة المتصدق، والكافر وغيرهم يجوز دَفْعُ صدقةِ التطوع إليهم، ولهم أَخْذُهَا" (¬2). وقد قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. وقال سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]. والأسير: "الحربي من أهل دار الحرب يُؤْخَذُ قهرًا بالغلبة، أو من أهل القبلة يُؤْخَذُ فيحبس بحقٍّ" (¬3). قال القرطبي: "ويكون إطعام الأسير الشرك قربةً إلى الله تعالى غير أنه من صدقة التطوع؛ فأما المفروضة فلا" (¬4). ¬

_ (¬1) قرارات وفتاوي المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، المجموعتان الأولى والثانية، (ص 25). (¬2) المغني، لابن قدامة، (4/ 114). (¬3) تفسير الطبري، (23/ 543). (¬4) تفسير القرطبي، (19/ 129).

الفصل الثاني من نوازل المعاملات

الفَصلُ الثَانِي من نوازل المعاملات المبحث الأول: حكم التمويل البنكي لشراء المساكن فى المجتمعات الغربية. المبحث الثاني: أحكام عقود التأمين خارج ديار الإسلام.

المبحث الأول حكم التمويل البنكي لشراء المساكن في المجتمعات الغربية

المبحث الأول حكم التمويل البنكي لشراء المساكن في المجتمعات الغربية تصوير وتكييف المسألة: التعامل بالربا مُجمع على تحريمه في كل شريعة منزلة، ومع هذا فقد وُجِدَ مَنْ يستبيحه ظلمًا وعدوانًا، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 160 - 161]. ولما استباح اليهود أخذ الربا من غير اليهود قالوا: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]. وقد ظلت القوانين في البلاد النصرانية تُحَرِّمُ الربا حتى جاءت الثورة الفرنسية عام 1789 م، فأباحت ما يسمى بالفائدة على القروض في حدود معينة، ثم انتقلت هذه الإباحة إلى تقنين نابليون الصادر في 1804 م، ليستمرَّ الأمر إلى يومنا هذا. وعليه: فإن بلاد الأقليات اليوم قد قَنَّنَتِ التعاملَ بالربا وشرَّعته دينًا وقانونًا مُتَّبَعًا، مع ما فيه من استغلال فاحش لذوي الحاجات، وخرقٍ واضح للتكافل في المجتمعات، وعرقلةٍ جلية لمسيرة التنمية ومحاصرة لمجالات الاستثمار، وتسببٍ مباشر في الكوارث الاقتصادية الهائلة والأزمات المالية الخانقة، وما الأزمة المالية التي عَمَّتْ مؤخَّرًا الغربَ الأوروبي والأمريكي بأسره إلا دليل واضح على صحة هذه الآثار الوخيمة لربا البنوك والمصارف المعاصرة. والمسلم الذي تَحْمِلُهُ ظروفه على الإقامة ببلاد غير المسلمين، وكذا الذي أسلم من أهل تلك الدار مأمورٌ باجتناب الربا كثيرِهِ وقليلِهِ، منهيٌّ عن الوقوع في ظاهرِهِ وخفيِّهِ.

ولا شك أن المسكن حاجة أساسية لكل إنسان، وتوفيره بشكل مناسب يحقق الأمان والاطمئنان. وقد شاعت في المجتمعات الغربية اليوم ظاهرة شراء البيوت عن طريق التمويل البنكي، وذلك بأن يتقدَّمَ طالب الشراء إلى أحد البنوك ليقرضه قيمة البيت فيسددها، ثم يتقاضى البنك منه هذا القرضَ أقساطًا شهرية يتقاضى عنها فوائدَ ربوبية؛ بحيث إنه قد يتضاعف المبلغ في نهاية المدة إلى ثلاثة أضعاف أو أكثر بحسب مدة القرض. ومع كون هذه المعاملة من قبيل أكلِ الربا أضعافًا مضاعفةً إلَّا أن كثيرًا من الناس يرون فيها حلًّا سريعًا لمشكلة تأمين سكَنٍ أُسَرِيِّ مريحٍ، وتوفيرًا لقيمة الإيجارات التي تكون باهظة مع مرور الزمن. على أن القسط الذي قد يدفع شهريًا للبنك يعادل تقريبًا الإيجار السنوي الذي يدفع في حالة استئجار البيت، مع جملة مزايا اقتصادية ومالية متنوعة. والواقع الغربي لا يُدَاوِرُ في كون هذه المعاملة من الربا، ولا يتعسف تخريجاتٍ أو يتمحَّلُ تمحُّلاتٍ لِيُسِيغَها عند الجمهور؛ وإنما قد يقع هذا من بعض من قد يفتي للأقليات! ومن ذلك: قول د. غريب الجمال في كتابه: "المصارف والأعمال المصرفية في الشريعة الإسلامية": "وبالنسبة للمسلمين الذين يودعون أموالهم في المصارف -أي: الغربية الربوية- ويتركون أو يعيدون إليها ما استحقُّوه من فوائدَ، فإنه لا تَرَدُّدَ في الحكم بجواز أخذ هؤلاء المسلمين لتلك الفوائد، بل قد يكون أخذُهُمْ لها واجبًا إذا تيقن أنه يَلحق بالمسلمين ضرر في حالة تركها" (¬1). وقد سوَّغ بعض الفقهاء المعاصرين العملَ بهذه العقود وفقَ قيودٍ وضوابطَ وضعوها؛ اعتمادًا على ما ذهب إليه أبو حنيفة -رحمه الله- من جواز أخذ الربا من الحربيِّ في دار الحرب. ¬

_ (¬1) المصارف والأعمال المصرفية، د. غريب الجمال، (ص 435).

تحرير محل النزاع

يقول الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- في "الفتاوي": "ونقول لهم من جهة أخرى: إذا أقام المسلم في غير دار الإسلام، فهل يدَّعونَ أن الله يأمره بأن يدفع لأهلها كلَّ ما يوجبه عليه قانونُ حكومتها من مال الربا وغيره -ولا مندوحة له عن ذلك- ويحرم عليه أن يأخذ منهم ما يعطونه إياه بحكم ذلك القانون من ربا وغيره برضاهم واختيارهم!! أعني: هل يعتقدون أن الله تعالى يوجب على المسلم أن يكون عليه الغُرْمُ من حيث يكون لغيره الغُنْمُ!! أي: يوجب عليه أن يكون مظلومًا مغبونًا". (¬1) وقال الشيخ مصطفى الزرقا -رحمه الله-: "لا بأس بأخذ قرض من البنك لقاءَ فائدةٍ لأجلِ شراءِ بيتٍ نتيجتُهُ تملُّكُ البيتِ في نهاية تسديد القرض مع فائدته". (¬2) وتكييف هذه المسألة يتعلق من جهة ببحث المسألة من حيث انطباق حكم الربا عليها، ثم بحث أثر الحاجة العامة، أو الحاجة الشديدة في الترخيص في المحرمات القطعية، ومدى جواز استصدار فتيا عامة للأقليات في هذا الشأن بالإباحة أو الحِلِّ. وتُعتبر هذه النازلة من أكثر النوازل حضورًا في لقاءات العلماء بالغرب، ومراكز الفتيا لديهم هناك. تحرير محل النزاع: أولًا: انعقد الإجماع على حرمة ربا القروض والديون. قال ابن قدامة: "وكل قرض شُرِطَ فيه أن يزيده فهذا حرام بغير خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المُسْلِفَ إذا اشترط على المستسلف زيادةً أو هديةً فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا" (¬3). ¬

_ (¬1) فتاوي الشيخ محمد رشيد رضا، (5/ 1977). (¬2) فتاوى الشيخ الزرقا، (ص 620 - 626). (¬3) المغني، لابن قدامة، (6/ 436).

وقال الشوكاني: "وأما إذا كانت الزيادة مشروطة في العقد فتحرم اتفاقًا" (¬1). ثانيًا: وقد اتفقوا -أيضًا- على حرمة الربا مطلقًا بين المسلم وغيره في دار الإسلام؛ بل إن الفقهاء نصُّوا على منع المستأمَنين والذميين من التعامل بالربا فيما بينهم في دار الإسلام باتِّفاق. يقول السرخسي: "فإن دخل تجارُ أهلِ الحرب دارَ الإسلام بأمان، فاشترى أحدهم من صاحبه درهمًا بدرهمين، لم أُجِزْ من ذلك إلا ما أُجيزه بين أهل الإسلام، وكذلك أهل الذمة إذا فعلوا ذلك؛ لأن مال كل واحد منهم معصوم متقوم ولا يتملكه صاحبه إلا بجهة العقد، وحرمة الربا ثابتة في حقِّهم، وهو مستثنًى من العهد؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى نصارى نجران: "إلا من أربى؛ فليس بيننا وبينه عهد" (¬2) وكتب إلى مجوس هجر: "إمَّا أن تَدَعُوا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله" فالتعرض لهم في ذلك بالمنع لا يكون غدرًا بالأمان؛ وهذا لأنه ثبت عندنا أنهم نُهُوا عن الربا، قال تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْه} [النساء: 161] فمباشرتهم ذلك لا تكون عن تدين؛ بل لفسق في الاعتقاد والتعاطي، فَيُمْنَعُون من ذلك، كما يُمْنَعُ المسلم" (¬3). ثالثًا: اتفق الفقهاء -أيضًا- على أنه إذا دخل المسلم في دار الحرب بأمان من أهلها فلا يجوز له أن يعطي الربا فيها للحربي. ¬

_ (¬1) نيل الأوطار، للشوكاني، (5/ 276). (¬2) أخرجه: ابن أبي شيبة في "مصنفه"، (14/ 550) من حديث الشعبي مرسلًا، قال: "كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران -وهم نصارى-: أن من بايع منكم بالربا فلا ذمة له"، والإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "الأموال"، (503)، من حديث أبى المليح الهذلي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صالح أهل نجران وكتب لهم كتابًا. . . فذكر الحديث، وفيه: "على أن لا يأكلوا الربا، فمن أكل الربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة. . . " الحديث. والحديث بلفظ: "إلا مَن أربى. . . " قال عنه الزيلعي في "نصب الراية": "غريب"، وقال الحافظ ابن حجر في "الدراية"، (2/ 64): "لم أجده بهذا اللفظ". (¬3) المبسوط، للسرخسي، (14/ 58).

والخلاف بينهم جارٍ فيما يأخذه المسلم من الحربي من الربا في دار الحرب بعدما دخلَها بأمان، فالجمهور على حرمته، ولأبي حنيفة وبعض الفقهاء قول بالجواز. رابعًا: فيما يتعلق بخصوص النازلة فإن القائلين بجواز هذا التعامل قد أقروا بانطباق حَدِّ القرض الربوي عليه. وجاء في البيان الختامي لرابطة علماء الشريعة الذي عقد بالولايات المتحدة الأمريكية ما يلي: "إن الطريقة المتاحة حاليًا لتملك السكن عن طريق التسهيلات البنكية بسداد الثمن إلى البائع وتقسيطه على المشتري هو في الأصل من الربا، ولا يجوز للمسلم الإقدام عليه إذا وجد بديلًا شرعيًّا يسدُّ حاجته، كالتعاقد مع شركة تقدِّمُ تمويلًا على أساس بيع الأجل، أو المرابحة، أو المشاركة المتناقصة، أو غيرها" (¬1). ومثل هذا الكلام صدر عن البيان الختامي للدورة الثانية للمجلس الأوروبي للإفتاء (¬2). إلا أن كِلَا البيانين وَرَدَ فيه تسويغ هذا العمل بناءً على مرتكزات فقهية وواقعية. فأمَّا بيان رابطة علماء الشريعة فقد جاء في مسوغات إباحة هذا التعاقد: "إذا لم يوجد أحد البدائل المشروعة، وأراد المسلم أن يتملك بيتًا بطريقة التسهيلات البنكية، فقد ذهب أكثر المشاركين إلى جواز التملك للمسكن عن طريق التسهيلات البنكية؛ للحاجة التي تُنَزَّلُ منزلةَ الضرورة، أي: لا بد أن يتوافر هذان السببان: - أن يكون المسلم خارجَ دارِ الإسلام. - وأن تتحقق فيه الحاجة لعامة المقيمين في خارج البلاد الإسلامية؛ لدفع المفاسد الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والدينية، وتحقيق المصالح التي تقتضيها ¬

_ (¬1) وقفات هادئة مع فتوى إباحة القروض الربوية لتمويل شراء المساكن في المجتمعات الغربية، د. صلاح الصاوي، دار الأندلس الخضراء، جدة، (ص 15 - 16). (¬2) قرارات وفتاوي المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، المجموعتان الأولى والثانية، (ص 148) وما بعدها.

سبب الخلاف

المحافظة على الدين والشخصية الإسلامية على أن يقتصر على بيت للسكن الذي يحتاج إليه، وليس للتجارة، أو الاستثمار. . . " (¬1). وجاء في بيان المجلس الأوروبي للإفتاء: "وإذا لم يكن هذا ولا ذاك مُيَسَّرًا في الوقت الحاضر، فإن المجلس -في ضوء الأدلة والقواعد والاعتبارات الشرعية- لا يرى بأسًا من اللجوء إلى هذه الوسيلة، وهي القرض الربوي لشراء بيت يحتاج إليه المسلم لسكناه هو وأسرته، بشرط ألا يكون لديه بيت آخر يغنيه، وأن يكون هو مسكنه الأساسي، وألا يكون عنده من فائض المال ما يُمَكِّنُهُ من شرائه بغير هذه الوسيلة" (¬2). وعليه: فإن النزاع دائرٌ حول حِلِّ الاقتراض الربوي من البنوك للحاجة إليه في شراء المساكن للمقيمين ببلاد الغرب، وذلك بعد التسليم بحرمة الاقتراض الربوي من غير اضطرار إليه. وبعبارة أدق: فإن النزاع هو في جواز إصدار فتيا عامة، وليست خاصة بمستفتٍ بعينه بِحِلِّ الاقتراض الربوي من البنوك الغربية؛ تلبيةً لحاجة المسلمين المقيمين بتلك الديار. سبب الخلاف: ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "لا ربا بين المسلم والحربيِّ في دار الحرب" (¬3). وهو ما اسْتُفِيدَ منه جوازُ التعامل مع الحربي في دار الحرب بالربا، والعقود الفاسدة؛ حيث إن الأصلَ في أموال الحربيين الحِلُّ. وكذا ما تَقَعَّدَ عند الفقهاء والأصوليين من تنزيل الحاجاتِ منزلةَ الضروراتِ في إباحة المحظورات. ¬

_ (¬1) المصدر السابق، (ص 15 - 16). (¬2) قرارات وفتاوي المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، المجموعتان الأولى والثانية، (ص 148). (¬3) سبق تخريجه.

الأقوال وأصحابها

وعليه: فإن المعاملة جائزة من حيث الأصل عند مَنْ أَخَذَ بالرواية الآنفة، وهي محرمة من حيث الأصل عند مَنْ أَخَذَ بالتقعيد الفقهي أو الأصولي. وما ذهب إليه الأولون لا يمتدُّ الجوازُ فيه ليشملَ دارَ الإسلام، بينما ما ذهب إليه الآخرون يمتدُّ ليشمل دارَ الحرب ودارَ الإسلام على حدٍّ سواء. الأقوال وأصحابها: القول الأول: يجوزُ الاقتراض بالربا لشراء المساكن عند الحاجة، وتَعَذُر البديل الشرعي للمسلمين المقيمين ببلاد الغرب: وهو قول الشيخ محمد رشيد رضا (¬1) -رحمه الله- وأفتت به الهيئة العامة للفتوى بالكويت (لجنة الأمور العامة) المكونة من الشيخ بدر المتولي عبد الباسط -رحمه الله-، والدكتور محمد سليمان الأشقر -رحمه الله-، والدكتور محمد فوزي فيض الله، والدكتور خالد المذكور، والدكتور عبد الستار أبي غدة (¬2). وأفتى به أيضًا الشيخ مصطفى الزرقا -رحمه الله- (¬3)، والشيخ الدكتور يوسف القرضاوي (¬4). وبه أفتى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في دورته الرابعة المنعقدة في مدينة دبلن بجمهورية أيرلندا في شهر رجب سنة 1420 هـ الموافق أكتوبر سنة 1999 م. وكذا رابطة علماء الشريعة في أمريكا الشمالية في بيان المؤتمر المنعقد في الفترة من 10 - 13 من شعبان سنة 1420 هـ، الموافق 19 - 22 من نوفمبر سنة 1999 م. وهو قول مبنيٌّ على جواز أخذ المسلم الربا من الحربيِّ في دار الحرب إذا دخلها بغير أمان. ¬

_ (¬1) فتاوي الشيخ محمد رشيد رضا، (5/ 1974 - 1978). (¬2) فتاوى الهيئة العامة للفتوى بالكويت، فتوى رقم 42 (ع/ 85). (¬3) فتاوي الشيخ مصطفى زرقا، (ص 614 - 626). (¬4) في فقه الأقليات، د. يوسف القرضاوي، (ص 154) وما بعدها.

القول الثاني: يحرم على المسلمين ببلاد الغرب الاقتراض بالربا لشراء المساكن عند الحاجة.

وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن الشيبانيِّ، والثوريِّ والنخعيِّ، وعبد الملك بن حبيب، ورواية عن أحمد (¬1)، ونقل عنه أنه قال: "لا يحرم الربا في دار الحرب"، وقيل: إنه قول ابن تيمية (¬2). قال الزيلعي: "لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب" (¬3). وقال المجد ابن تيمية: "الربا محرَّمٌ في دار الإسلام والحرب، إلا بين مسلم وحربيٍّ لا أمان بينهما" (¬4). وقال ابن مفلح -بعد أن ذكر إباحة التعامل بالربا بين المسلم والحربي معللًا-: "لأن أموالهم مباحة، وإنما حظَرَهَا الأمانُ في دار الإسلام، فما لم يكن كذلك كان مباحًا" (¬5). القول الثاني: يَحْرُمُ على المسلمين ببلاد الغرب الاقتراض بالربا لشراء المساكن عند الحاجة. وهو قول أكثر العلماء، وصدرت به فتاوي عدة مجامع فقهية، كما في فتوى مجمع الفقه الإسلاميِّ التابع لمنظمة المؤتمر الإسلاميِّ بجدة في المؤتمر السادس سنة 1410 هـ الموافق 1990 م (¬6)، وفتوى مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، في دورة مؤتمره الثاني بكوبنهاجن بالدانمرك، من 4 - 7 جمادى الأولى 1425 هـ الموافق 22 - 25 يونيو 2004 م (¬7). الأدلة والمناقشات: ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين، (7/ 422)، بدائع الصنائع، للكاساني، (7/ 132)، المبدع، لابن مفلح، (4/ 157). (¬2) الإنصاف، للمرداوي، (5/ 41 - 42)، الفروع، لابن مفلح، (6/ 292). (¬3) تبيين الحقائق، للزيلعي، (4/ 97). (¬4) المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لمجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد ابن تيمية الحراني، مكتبة المعارف، الرياض، ط 2، 1404 هـ - 1984 م، (1/ 318). (¬5) المبدع، لابن مفلح، (4/ 157). (¬6) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السادس، (1/ 187). (¬7) قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني للمجمع، (ص 100 - 102).

أدلة القول الأول: من السنة، والقواعد، والمعقول

أدلة القول الأول: من السنة، والقواعد، والمعقول: أولًا: السنة المطهرة: 1 - ما روى مكحول مرسلًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب" (¬1). وجه الدلالة: دلت الرواية على رفع الحرمة عند التعامل بالربا في دار الحرب خاصة (¬2). 2 - حديث جابر -رضي الله عنه- في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطبة الوداع، وفيه: ". . . وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا؛ ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله" (¬3). وجه الدلالة: وهو يدل على أن العباس بعدما أسلم رجع إلى مكة -وكانت وقتئذٍ دارَ حربٍ- وكان يُرْبِي فيها بعد نزول التحريم إلى زمن الفتح، فدلَّ على أنه لا ربا بين السلم والحربي في دار الحرب، ولو لم يكن ذلك لوجب أن يكون ربا العباس موضوعًا من يومِ أسلمَ (¬4). قال الطحاوي: ففي ذلك ما قد دلَّ على أن الربا كان حلالًا فيما بين المسلمين والمشركين بمكة، لما كانت دارَ حربٍ، وهو حينئذٍ حرام بين المسلمين في دار الإسلام، وفي ذلك ما قد دلَّ على إباحة الربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب (¬5). قال السرخسي: "هذا الحديث يدلُّ على جواز الربا في دار الحرب بين المسلم ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) المبسوط، للسرخسي، (14/ 56)، شرح كتاب السير الكبير، للسرخسي، (4/ 235). (¬3) أخرجه: مسلم، كتاب الحج، باب: حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، (1218) من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-. (¬4) المبسوط، للسرخسي، (14/ 57)، الجوهر النقي، لابن التركماني، (9/ 106). (¬5) شرح مشكل الآثار، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، (8/ 248).

ثانيا: القواعد

والحربي" (¬1). 3 - حديث ركانة، وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيه بأعلى مكةَ فقال له ركانة: هل تصارعني؟ فصارعه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ شاةً، ثم عاوده، فأسلم الرجل وردَّ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنمه تكرُّمًا عليه (¬2). 4 - ما نُقِلَ من مقامرة الصديق للمشركين قبل الهجرة على نصر الروم على الفرس، وأقرَّهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك (¬3). وجه الدلالة: وهما يدلان على جواز أكل أموال الحربيين بأي وجه كان، بشرط تحقُّقِ رضاهم به (¬4). ثانيًا: القواعد: 1 - قاعدة: تنزيلُ الحاجةِ منزلةَ الضرورةِ (¬5): لا شك أن الحاجة إلى السكن حاجة ماسة، وإباحة هذه المعاملة يرفع حرجًا كبيرًا، ويقضى حاجة عامة، ويدفع مفاسدَ واقعةً ومتوقعة. 2 - قاعدة: ما حُرِّمَ سدًّا للذريعة أُبِيحَ للحاجة (¬6)، أمَّا ما حُرِّمَ لذاته فلا تُحِلُّهُ إلَّا الضروراتُ: ¬

_ (¬1) المبسوط، للسرخسي، (14/ 57). (¬2) أخرجه الإمام أبو داود سليمان بن الأشعث في كتابه "المراسيل"، بتحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1408 هـ (308)، من حديث سعيد بن جبير مرسلاً، ومن طريقه: البيهقي في "الكبرى"، (10/ 18)، وقال: "وهو مرسل جيد، وقد رُوي بإسناد آخر موصولًا، إلا أنه ضعيف. والله أعلم" اهـ وأخرجه محتصرًا مقتصرًا على المصارعة -بدون قصة الشياه- أبو داود، كتاب اللباس، باب: في العمائم، (4078)، والترمذي، كتاب اللباس، باب: العمائم على القلانس، (1784)، من حديث أبي جعفر بن محمد بن علي بن ركانة. (¬3) أخرجه: أحمد، (1/ 304) الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة الروم، (3193)، من حديث نيار بن مكرم الأسلمي -رضي الله عنه- وقال: "حديث صحيح حسن غريب". (¬4) المبسوط، للسرخسي، (14/ 57)، البحر الرائق، لابن نجيم، (6/ 147)، شرح فتح القدير، لابن الهمام، (7/ 38). (¬5) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 88)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 100). (¬6) إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 161)، زاد المعاد، لابن القيم، (3/ 488).

ثالثا: المعقول

والمحرم لذاته هو أكل الربا، أما إيكالُهُ أو كتابتُهُ ونحوه فهو محرَّمٌ سدًّا للذريعة؛ لذا تبيحه الحاجةُ. 3 - قاعدة: النظر إلى المآلات، ومراعاة نتائج التصرفات (¬1): لا شك أن هناك مصلحةً كبيرةً في تملك البيوت، وتحصيل منافع مالية واجتماعية كبيرة، لتخفيض الضرائب، وتقوية المراكز المالية للمسلمين، وتخير المناطق الجيدة في السكنى، والقرب من المساجد والمراكز الإسلامية، وغير ذلك. 4 - قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات (¬2): هذه الحال القائمة في بلاد الأقليات تُمَثِّلُ ضرورةً ملجِئةً تستوجب إباحة إعطاء الربا في ديار غير المسلمين؛ حيث إن كثيرًا من هؤلاء يقيمون في الغرب بصفة اضطرارية، ولا يستطيعون العودة إلى بلادهم في ظلِّ ما قد يجدونه من اضطهاد، أو تضييق. ثالثًا: المعقول: 1 - الأقليات تمرُّ بظروف استثنائية وطارئة، ويحتاجون إلى التجمع وبناء كيان يحفظ دينهم وهويتهم، وهو أمر يستوجب ترخيصًا وتيسيرًا. 2 - المسلم إذا لم يتعامل بهذه العقود الفاسدة في ديار الكفر؛ فإن ذلك سيؤدي إلى أن يكون التزامه بدينه سببًا لضعفه اقتصاديًّا وخسارته ماليًّا، والمفروض أن الإسلام يقوي المسلمَ ولا يُضْعِفُهُ، وينفعُهُ ولا يضرُّهُ، وقد احتج بعض علماء السلف على جواز توريث المسلم من غير المسلم من غير عكس بحديث: "الإسلام يعلو ولا يُعلى" (¬3). ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (4/ 194). (¬2) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 84)، والمنشور في القواعد الفقهية، للزركشي، (2/ 317). (¬3) أخرجه: الدارقطني في "سننه" كتاب، النكاح، باب: المهر، (4/ 371)، والبيهقي في "السنن الكبرى" كتاب اللقطة، باب: ذكر بعض من صار مسلمًا، (6/ 205) من حديث عائذ بن عمرو -رضي الله عنه-. قال الحافظ في التلخيص الحبير (4/ 231): "إسناده ضعيف جدًّا".

والمسلم إذا لم يتعامل بهذه العقود التي يتراضونها بينهم، سَيُضطر إلى أن يعطي ما يُطْلَبُ منه، ولا يأخذُ مقابِلَهُ، فهو ينفذ هذه القوانين والعقود فيما يكون عليه من مغارِمَ، ولا ينفِّذُها فيما يكون له من مغانِمَ، فعليه الغُرْمُ دائمًا، وليس له الغُنْمُ، وبهذا يظلُّ المسلم أبدًا مظلومًا ماليًّا بسبب التزامه بدينه، ولا ريبَ أن الإسلام لا يَقْصِدُ إلى بخسِ المسلم ولا يرضى له بالدُّونِ. 3 - أن السلم غير مكلَّفٍ بإقامة أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام في مجتمع لا يدين بالإسلام؛ لأن هذا ليس في وسعه، ولا يكلِّفُ الله نفسًا إلا وسعها، والربا من الأمور التي تتعلق بهوية المجتمع وثقافته وتوجُّهِهِ الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ؛ وإنما يُطَالَبُ المسلم بإقامة الأحكام التي تخصُّهُ فردًا، مثل: أحكام العبادات، والأطعمة، واللباس، والأحوال الشخصية، ونحوها. 4 - أن تَحَمُّلَ تبعاتِ الدعوة في بلاد الغرب يتطلب صفاءَ الذهنِ والاستقرارَ النفسيَّ، وهذا لا يتأتَّى -في الغالب- إلا إذا اختار المرء لنفسه مسكنًا، واختار موقعًا مناسبًا له، وهذا لا يُتَاحُ عند البحث عن مسكنٍ للأجرة غالبًا. فمستوى الخدمات -عمومًا- في أماكن التملك أفضل بكثير من أماكن الأجرة. ثم إن تملك المساكن يعطي حريةً أكبر للأسرة المسلمة في إقامة شعائرها بحرية، وفي التحرك والضيافة، وخاصة مع كثرة الأولاد، والذين يحتاجون إلى أماكن للعبهم وحركاتهم، التي إن لم يتوفر لها مكان مناسب فإنها تضايق الجيران، وتسبب نظرة مسيئة إلى المسلمين، قد تنتهي إلى شكاوى أمنية تُزَعْزِعُ الاستقرارَ وتلجئُ المسلمَ إلى البحث مجددًا عن مسكنٍ آخرَ يؤجره، وتترتب عليه في الغالب نفسُ الإشكالات، وهو أمر يفضي إلى الترخيص نظرًا لشدته. 5 - أموال الحربيين في ديارهم مباحةٌ لمن حازها من المسلمين، ما لم يكن هناك غدر أو خيانة؛

مناقشة أدلة القول الأول

لأن المسلم إذا دخل دارهم بأمان لا يكون خائنًا أبدًا، أما إذا أخذ مالهم برضاهم ولو بصورة العقود الفاسدة المحرمة -كالربا- فلا مانع منه؛ جريًا على أصل إباحتها. 6 - بالقياس على قسمة الإرث في الجاهلية وإمضائها ولو خالفت حكم الإسلام؛ لحديث: "أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية" (¬1). مناقشة أدلة القول الأول: أولًا: مناقشة أدلة السنة: 1 - مرسل مكحول: هذا المرسل ضعيف متفق على رَدِّهِ بين أهل العلم بالحديث والفقه معًا؛ قال الشافعي -رحمه الله-: "وما احتج به أبو يوسف لأبي حنيفة ليس بثابت فلا حجة فيه" (¬2). وقال الزيلعي الحنفي -رحمه الله- (¬3): "غريب" (¬4)، أي: لا أصل له. وقال النووي -رحمه الله-: "مرسل ضعيف فلا حجة فيه، ولو صح لتأولناه على أن معناه: لا يباح الربا في دار الحرب؛ جمعًا بين الأدلة" (¬5). وقال العيني -رحمه الله- في البناية: "هذا حديث غريب ليس له أصل مسند" (¬6). وقال ابن قدامة -رحمه الله-: "وخبرهم مرسل لا نعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك، ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة، وانعقد الاجماع ¬

_ (¬1) أخرجه: الإمام مالك في "الموطأ" (1433) من حديث ثور بن زيد الديلي مرسلًا. (¬2) الأم، للشافعي، (9/ 249). (¬3) أبو محمد، جمال الدين، عبد الله بن يوسف بن محمد، الزيلعي، الفقيه الحنفي، فقيه، عالم بالحديث، من مصنفاته: تخريج أحاديث الكشاف للزمخشري، ونصب الراية لأحاديث الهداية، توفي سنة 762 هـ. الدرر الكامنة، لابن حجر، (2/ 310)، والأعلام، للزركلي، (4/ 147). (¬4) نصب الراية، للزيلعي، (4/ 44). (¬5) المجموع، للنووي، (9/ 392). (¬6) البناية، للعيني، (7/ 385).

على تحريمه بخبر مجهول لم يَرِدْ في صحيح ولا مسندٍ ولا كتابٍ موثوقٍ به" (¬1). وعلى فرض ثبوته؛ فإنه يحتمل النهي، كقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال إذا كان صحيحًا؛ فكيف إذا كان ضعيفًا لا تقوم به الحجة وكان محتملًا؟ وكيف يُقَدَّمُ على الأدلة القطعية، ولا يجمع بينهما؟ قال السبكي: "واعتضد هذا الاحتمال بالعمومات" (¬2). 2 - حديث ربا العباس: وأما استشهادهم بعدم رَدِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لربا العباس إلا يوم فتح مكة رغم أنه كان مسلمًا من قبلُ بمكةَ، وكان تحريم الربا يومَ خيبر، ولم يرد ما كان منه ربا؛ لأن مكة كانت دار حرب إلى أن صارت دار إسلام بفتحها؛ ففيه نظر، بل هو ضعيف؛ وذلك لأمور (¬3): أ - لو سُلِّمَ أن العباس كان يتعامل بالربا في مكة؛ لأنها كانت دار حرب، فكيف يُفسَّر استمراره على التعامل به بعد فتح مكة وصيرورتها دارَ إسلام منذ السنة الثامنة من الهجرة وحتى خطبة الوداع في السنة العاشرة؟! ب - أنه يحتمل أن يكون المراد ما كان له من ربا قبل تحريم الربا، أو قبل إسلام العباس؛ إذ ليس هناك ما يدل على استمراره في التعامل إلى ما بعد إسلامه. ج - أنها واقعةُ عينٍ لا عمومَ لها؛ ولعل ذلك لأمورٍ خاصة بإقامة العباس بمكة، وهي دارُ كفرٍ يومئذٍ، وقد أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمِّهِ العباسِ -رضي الله عنه- ما هو أعظم من ذلك ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة، (6/ 99). (¬2) تكملة المجموع، لتقي الدين السبكي، (11/ 229). (¬3) أحكام التعامل بالربا بين المسلمين وغير المسلمين في ظل العلاقات الدولية المعاصرة، د. نزيه حماد، دار الوفاء، جدة، ط 1، 1407 هـ، (ص 28 - 32).

كإظهار الشرك في مكة أمام المشركين. د - ولو سلم استمرار العباس على التعامل بالربا؛ فقد لا يكون عالمًا بالتحريم؛ لإقامته بمكة بعيدًا عن مهبط الوحي بالمدينة. هـ - أن يكون الربا الذي كان العباس يتعامل به هو ربا الفضل، وليس ربا النسيئة الذي استفاض تحريمه؛ إذ إن ربا الفضل حُرِّمَ بالسُّنة، ولم يكن تحريمه شائعًا بين الصحابة كلِّهم، بل إن ابن عباس -رضي الله عنهما- حبر الأمة والذي كان من ألصق الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرى تحريمه. و- أن يكون تحريم الربا لم يكن قد استقرَّ يومئذٍ حتى نزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]، وذلك بعد إسلام ثقيف سنة تِسعٍ من الهجرة، أي: قبيل حجة الوداع، فكان تعامل العباس -رضي الله عنه- قبل إحكام تحريم الربا، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن تحريم الربا كان على سبيل التدرج، وأنَّ آخر آيات تحريمه نزولًا آياتُ سورةِ البقرة، وهي التي نصَّت نصًّا قاطعًا على تحريم كل زيادة على رأس المال، بل وَرَدَ أن هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن الكريم، كما خرجه البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- (¬1) وابن ماجه عن عمر -رضي الله عنه- (¬2). ثم إنه لم يُنْقَلْ قطُّ عن أحدٍ من الصحابة -رضي الله عنهم- التعاملُ بالربا في بلاد الكفار، ولو فَهِمَ أحدٌ منهم ذلك لَنُقِلَ؛ فدلَّ عدمُ النقل على عدم دلالة هذا الحديث على الجواز. 3 - وأما استدلالهم بمصارعته - صلى الله عليه وسلم - لركانة وبمراهنة أبي بكر -رضي الله عنه- للمشركين على ظهور الروم على فارس، وإقرار النبي -رضي الله عنه- لذلك؛ فعنه أجوبة: ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب التفسير، باب: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}، حديث، (4544). (¬2) أخرجه: ابن ماجه، كتاب التجارات، باب: التغليظ في الربا، (2276)، والإمام أحمد في "مسنده"، (1/ 36، 49)، وغيرهما. وصححه الشيخ الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه"، (1860).

ثانيا: مناقشة أدلة القواعد

أ - أنَّ هذا كان في أول الأمر، ثم نُسِخَ بتحريم الميسر، وقد جاء في بعض طرق الحديث: "لا سبق إلا في خفٍّ أو نصل أو حافر" (¬1). ب - أنَّ هذا من الرهان الجائز الذي فيه مصلحة ظهور الإسلام وأدلته وبراهينه؛ بل هو أولى بالجواز من الرهان على الخيل والإبل والنصل. ج - عدم التسليم بإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا التعامل، ففي بعض روايات الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه أبو بكرٍ بالمال أَمَرَهُ أن يتصدق به (¬2)، وقد استدل بظاهر هذا على أنه لو كان طيبًا لما أمره بالتصدق به. ثانيًا: مناقشة أدلة القواعد: وهي قواعد: الضرورات تبيح المحظورات، وتنزيل الحاجة منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، وما حُرِّمَ سدًّا للذريعة أُبِيحَ للحاجة (¬3). 1 - قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات: يقال في الرد على الاستدلال بهذه القاعدة: أ - إنه لا يُسَلَّمُ تحقُّقُ الضرورة إلى الشراء، وإنما تحقق الضرورة إلى الحيازة بالسكنى، وهذا يتحقق بالإيجار؛ إذ ليس في الشرع أو الواقع ما يجعل التملك ضرورة، وأكثر الناس يستأجرون ولا يتملكون! فالضرورة تتحقق بفقد المسكن، وليس بعدم شرائه وتملكه (¬4). ويمكن اعتبار قاعدة الضرورات تبيح المحظورات في هذه المسألة إذا لم يكن المقيم ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، (2/ 474)، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب: في الدابة تعرقب في الحرب (2574)، والترمذي، كتاب الجهاد، باب: الرهان والسبق (1700)، والنسائي، كتاب الخيل، باب: السبق (3585) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وقال الترمذي: "حديث حسن". (¬2) شرح السير الكبير، للسرخسي، (4/ 184). (¬3) إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 161)، الموافقات، للشاطبي، (4/ 194)، الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 84)، والمنثور في القواعد الفقهية، للزركشي، (2/ 317). (¬4) شراء البيوت للسكن من البنوك بالفائدة، د. محمد رأفت عثمان بحث ضمن كتاب: قضايا فقهية معاصرة، المؤلف من قبل لجنة من أساتذة كلية الشريعة بالقاهرة، الجزء الثاني، (ص 14 - 17).

بتلك الديار قادرًا على حيازة سكن إلا بالتملك، ثم لم يجد وسيلة للتملك إلا بالاقتراض الربوي، هنا، وهنا فقط يصح القول بالاضطرار؛ إذ الضرورة شدة وضيق في المرتبة القصوى، وأما الحاجة فمشقتها متوسطة. ب- أنَّ قاعدة الضرورات تبيح المحظورات وإن كانت مقررة مُسَلَّمة؛ إلا أن لتطبيقها شروطًا، منها: 1 - أن تتحقَّقَ الضرورة بالفعل، أو تُتَوَقَّعَ بالظن الغالب، ولا يكونَ ذلك مجرد دعوى، وُيرْجَعَ في ذلك إلى أهل العلم والبصيرة ممن لا يتبعون الهوى. قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]. فاشْتُرِطَ عدمُ الأخذِ بحكمِ الضرورة في غير حال الضرورة، وعدم تعدي قدرها؛ إذ الضرورة تُقَدَّرُ بقدرها باتفاق أهل العلم. 2 - عدم وجود البدائل المباحة إطلاقًا مع استفراغ الوسع في تحصيلها. 3 - ألا يصبح المباح للضرورة أصلًا وقاعدةً؛ بل هو استثناء يزول بزوال الضرورة. 4 - أن تكون متفقة مع مقاصد الشارع فتزال ضرورة حفظ الدين، ثم حفظ النفس، ثم العقل، ثم النسل، ثم المال. ويُنْظَرُ في المصلحة المترتبة على الأخذ بالضرورة، فإن كانت ملغاة فلا عبرة بها. 5 - ألا تؤدي إزالة ضرورة ما إلى وقوع ضرر أكبر منها، فيشترط ألا يكون المحظورُ أعظمَ من الضرورة؛ وإلَّا تعيَّنَ درءُ المفسدة الأعلى باحتمال الأدنى (¬1). ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 87)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 98)، قواعد الأحكام، لابن عبد السلام، (1/ 130)، المستصفى، للغزالي، (ص 175 - 176)، الموافقات، للشاطبي، (3/ 209)، نظرية الضرورة الشرعية، للدكتور وهبة الزحيلي، (ص 237)، فوائد البنوك هي الربا الحرام دراسة فقهية في ضوء القرآن والسنة والواقع مع مناقشة مفصلة لفتوى فضيلة المفتي عن شهادات الاستثمار، د. يوسف القرضاوي، دار الصحوة، ط 3، 1415 هـ - 1994 م، (ص 110 - 111).

2 - قاعدة: تنزيل الحاجة منزلة الضرورة

وجُلُّ هذه الشروط لا ينطبق على النازلة محل البحث. 2 - قاعدة: تنزيل الحاجة منزلة الضرورة: سبق عند الحديث التأصيلي دراسةٌ لهذه القاعدة، وبيانٌ بأن وضعَهَا قاعدةً فقهية أحدثَ ارتباكًا عند بعض الباحثين؛ حيث أباحوا بالحاجة دون استفصال، ودون نظر في شروط الاستصلاح، أو الاستحسان. ولم يتنبهوا إلى أن الحاجة لا تؤثر فيما ثبت النهي عنه بأدلة قوية، بحيث تعتبر في مرتبة قوية من مراتب النهي، فلا تؤثر في تحليل الخمر والميتة والدم، وإنما تؤثر في عموم ضعيف كثرت أفراده وتناوله التخصيص، وفي مرتبة المنهيات التي لا توصف بأنها في أعلى درجات المنهيات. فالمحرمات القطعية لا تبيحها إلا الضرورةُ الشرعية الخاصة. ومرتبة الربا أشد من مرتبة الغرر في البيوع، أو الميسر ونحوه. والفقهاء لم يمثلوا لقاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة بمحرمات قطعية كالزنا والربا والقتل، ونحو ذلك، مما عُلِمَ تحريمه بالضرورة من دين الإسلام، وإنما في الغالب يمثلون لها بعقود مشروعة، ويرون أنَّ مشروعيتها كانت على خلاف القياس رعايةً لجانب الحاجة كالإجارة والجعالة والسَّلَمِ والاستصناع، مع أنَّ بعض أهل العلم نازع في كون هذه العقود على خلاف القياس ابتداءً (¬1). وقد تحفَّظَ الشيخ ابن بيه -وهو من القائلين بالجواز- على إطلاق القول بأن الحاجة وحدها تكفي في إباحة هذا التعامل، حيث قال: "والحقيقة: أن الحاجة لا تكفي في إباحة الربا، وإنما تعتمد الفتوى على قول العلماء القائلين بهذا مرجحًا بأصلٍ عامٍّ ¬

_ (¬1) ومنهم ابن تيمية وغيره، وقفات هادئة، د. صلاح الصاوي، (ص 60).

شهد الشرع باعتباره، وهو الحاجة والتيسير" (¬1). ومن هنا جاءت فروق بين الضرورة والحاجة في المشقة، ورتبة النهي، والدليل الذي يرفع حكمه بالضرورة، أو الحاجة (¬2). وقد تُستعمَلُ قاعدة الحاجات هذه ها هنا أيضًا فتحدث شيئًا من التوسعة التي إن فاتت حصل عنتٌ ومشقة ظاهرانِ بالغانِ، فَيُرَخَّصُ للإنسان في شيء من التوسع من غير ترفهٍ، ولا تنعُّمٍ، ولا خروجٍ عن حدِّ الحاجة التي يؤدي تركها إلى ضرر في الحال، أو المآل، وهذا المعنى قرره إمام الحرمين الجويني: بجلاءٍ، فقال: "لسنا نعني بالحاجة تَشَوُّفَ الناس إلى الطعام وتشوُّقَهَا إليه فربَّ مشتهٍ لشيء لا يضره الانكفافُ عنه، فلا معتبر بالتشهي والتشوق، فالمرعيُّ إذن دفع الضرار، واستمرار الناس على ما يُقيم قُواهم". ثم قرر -رحمه الله- "أن الناس يأخذون ما لو تركوه لتضرروا في الحال، أو في المآل، والضرار الذي ذكرناه في أدراج الكلام عنينا به: ما يُتَوَقَّعُ معه فسادُ البنية أو ضعف يصدُّ عن التصرف والتقلب في أمور المعاش". ثم قال: "فإن قيل: هلَّا جعلتم المعتبرَ في الفصل ما ينتفِعُ به المتناول؟ " "قلنا: هذا سؤال عمَّ عن مسالك المراشد؛ فإنا إذا أقمنا الحاجة العامة في حقِّ الناس كافَّةً مقامَ الضرورة في حقِّ الواحد في استباحة ما هو محرَّمٌ عند فرض الاختيار؛ فمن الحال أن يسوغَ الازدياد من الحرام انتفاعًا وتَرَفُّهًا وتَنَعُّمًا، فهذا منتهى البيان في هذا الشأن" (¬3). وفرضُ المسألة كما ذكره: أن يَعُمَّ الحرامُ الأرضَ وتفسد المكاسب كلها، ولا يجد ¬

_ (¬1) صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 238). (¬2) سبق تفصيل لذلك في المبحث الرابع من الفصل الثالث من الباب الثاني. (¬3) غياث الأمم، للجويني، (ص 346).

الناس إلى طلب الحلال سبيلًا، فهل يقف الناس حينئذٍ عند حدود سدِّ الرمق ودفع غائلة الموت، أم لهم أن يأخذوا منه قدرَ الحاجة؟ وبيَّن أن الثاني هو الذي لا مفرَّ منه. ثم تحدَّثَ: عن المساكن بصفة خاصة، وقرَّرَ أنَّ مسكن الرجل من أظهر ما تمسُّ إليه حاجته، ولا غناء به عنه، لكنه لم يترك الباب مشرعًا، بل بين أن الترخص في استباحة المحرم لتحصيله له شروط وضوابط، فقال: "وهذا الفصل مفروضٌ فيه إذا عَمَّ التحريم ولم يجد أهل الأصقاع والبقاع متحَوَّلًا عن ديارهم إلى مواضعَ مباحةٍ ولم يستمكنوا من إحياءِ مواتٍ وإنشاءِ مساكنَ سوى ما هم ساكنوها" (¬1). ثم قال: "ثم يتعين الاكتفاء بقدر الحاجة ويحرم ما يتعلق بالترف والتنعم" (¬2). ثم يؤكد ما سبق ذكره قائلًا: "ومما يتعلق بتتمة البيان في ذلك أنَّ جميع ما ذكرناه فيه إذا عمَّتِ المحرماتُ وانحسرتِ الطرقُ إلى الحلال، فأمَّا إذا تمكَّنَ الناس من تحصيل ما يَحِلُّ فيتعين عليهم تركُ الحرام واحتمالُ الكل في كسب ما يَحِلُّ، وهذا إذا كان ما يتمكنون منه مغنيًا كافيًا، دارئًا للضرورات، سادًّا للحاجة، فأمَّا إذا كان لا يسدُّ الحاجة العامة، ولكنه يأخذ مأخذًا أو يسدُّ مسدًّا فيجب الاعتناء بتحصيله، ثم بقية الحاجة تُتَدَارَكُ بما لا يَحِلُّ على التفصيل المتقدِّمِ. فإن قيل: ما ذكرتموه فيه إذا طبقت المحرمات طبق الأرض، واستوعب الحرامُ طبقاتِ الأنام، فما القول فيه إذا اختصَّ ذلك بناحيةٍ من النواحي؟ قلنا: إن تمكَّنَ أهلُهَا من الانتقال إلى مواضعَ يقتدرون فيها على تحصيلِ الحلال تعيَّنَ ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص 350). (¬2) المرجع السابق، (ص 350).

ذلك، فإن تعذَّرَ ذلك عليهم وهم جَمٌّ غفيرٌ وعددٌ كبيرٌ، ولو اقتصروا على سدِّ الرمق وانتظروا انقضاء أوقات الضرورات لانقطعوا عن مطالبهم، فالقول فيهم كالقول في الناس كافَّةً فليأخذوا أقدارَ حاجاتِهِمْ كما فصلناها. . . (¬1). وقال: "ثم المحجور عليه المفلس يترك عليه دست ثوب يليق بمنصبه، ويكتفي بأقل المنازل مع رعاية منصبه؛ فالوجه أن نقول: إذا عمَّ التحريم اكتفى كلٌّ بما يترك عليه من الثياب لو حجر عليه". وقَدَّرَ -رحمه الله- سؤالًا، وهو: "لم لا يترك على المفلس مسكنه، ويتعين عليه أن يكتفي بأقل المنازل مع رعاية منصبه؟ ثم قال: قلنا: سبب ذلك أنَّه في الغالب يجد كنًّا بأجرة نزرة فليكتفِ بذلك" (¬2). فأين هذا من الترفُّهِ لتحصيل ميزات المسكن المملوك عن المستأجر، كما هو واقع الأمر في هذه النازلة؟! ثم إنه لا بد من التمييز بين مرتبة الحاجيات، والتحسينات في تحقيق المصالح؛ فإن الحاجة هي ما يؤدي فواتُهَا إلى العنت والمشقة، وهي كما يقول العلامة الشاطبي: "ما يُفْتَقَرُ إليه من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوات المطلوب، فإذا لم تُرَاعَ دخل على المكلفين على الجملة الحرجُ والمشقةُ؛ ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة" (¬3). وأما مرتبة التحسينات فهي -كما يقول الشاطبي-: "الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنُّبِ الأحوال المدنسات التي تأنفها ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص 351). (¬2) المرجع السابق، (ص 349 - 350). (¬3) الموافقات، للشاطبي، (2/ 10 - 11).

3 - قاعدة: ما حرم سدا للذريعة أبيح للحاجة

العقول الراجحات" (¬1). وغالبُ ما ذكره المبيحون من مزايا ومنافع التملك الربوي للبيوت لا يصلح مبررًا للترخص؛ إذ هو من مراتب التحسينات، وهي لا تنزل منزلةَ الضرورات في إباحة المحظورات باتفاقٍ. - وحول التفريق بين تحقُّقِ الحاجة أو الضرورة على مستوى الفرد، وتحقُّقِهَا على مستوى الجماعة، فقد تتحققُ الحاجة على المستوى الفردي؛ لانعدام البديل المشروع الذي تندفع به هذه الحاجة، ولكن يَعْسُرُ تبني نفس المقولة على مستوى الجماعة إذا كان في مقدورهم السعيُ للخروج من حالة الضرورة، أو الحاجة؛ لكنهم يتقاعسون عن ذلك ويتخاذلون، وحينئذٍ قد يُرَخَّصُ للآحاد لا للمجموع، وقد تقرَّرَ عند أهل العلم أنه قد يُرَخَّصُ في الشيء بالجزئية ويُمْنَعُ منه بالكلية؛ إذ إن الحاجة غير متحقِّقَةٍ في حقِّ المجموع، ففضولُ الأموالِ مكتنزَةٌ، والحريةُ الاقتصاديةُ متاحةٌ، والعقولُ التي تدير ذلك بكفايةٍ متوافرةٌ، فما الذي يَحُولُ بين هذا المجموعِ وبين المبادرةِ إلى إنهاء هذه الحالةِ الرَّدِيَّةِ لإنشاء مؤسسات تديرُ هذا الأمرَ في إطار من الربانية، ومن خلال مرجعية الشريعة؟! فلو اقتصرَ الترخيص على المستوى الفردي إذا تحقَّقَت الحاجةُ لكانَ له حظٌّ من النظر، أمَّا أن يُطْلَقَ القولُ بترخيص ذلك لعمومِ الجاليات؛ فهذا يُضَاعِفُ الخطأ ويسدُّ البابَ أمامَ مَنْ يسعى للإصلاح؛ إذ النفوس بطبعها مائلةٌ إلى الدَّعَةِ والرُّخْصَةِ. 3 - قاعدة: ما حُرِّمَ سدًّا للذريعة أُبِيحَ للحاجة: ويجاب عنها بأجوبة، منها: أ - أنَّ ما حرم للذريعة في مسألة الربا هو ربا الفَضْل، وليس ربا النسيئة، فربا النسيئة هو الربا الجليُّ وهو المقصود أصالةً، ورِبَا الفضل رِبًا خفيٌّ تحريمُهُ، وهو من باب تحريم الوسائلِ وسدِّ ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (2/ 11).

4 - قاعدة: النظر إلى المآلات، وتحقيق المصالح الراجحة، ودفع المفاسد، وما يرتبط بذلك من المعقول

الذرائع، كما قرَّرَهُ غيُر واحدٍ من أهل العلم، ومنهم العلَّامَةُ ابنُ القيمِ في إعلام الموقعين (¬1). وعليه: فإنَّ الذي تُبِيحُهُ الحاجةُ بشرطِهَا هو ربا الفضلِ، أما ربا النسيئةِ وهو ربا الجاهلية فلا تُبيحه حاجةٌ، وعندما اجتمع مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة عام 1385 هـ، قرَّرَ "أنَّ الإقراضَ بالربا محرَّمٌ لا تبيحه حاجةٌ ولا ضرورةٌ، والاقتراض بالربا محرَّمٌ كذلك، ولا يرتفعُ إثمُهُ إلَّا إذا دعتْ إليه الضرورةُ، وكلُّ امرئٍ متروكٌ لدينه في تقدير ضرورتِهِ". والفرق بين الإقراض والاقتراض ظاهر؛ إذ الأولُ لا ضرورةَ فيه قطُّ، وإنما هو الجشعُ والشَّرَهُ وحبُّ المال، وأما الثاني فَتُتَصَوَّرُ في مثله الضرورةُ. ومسألتنا من قبيل ربا النسيئة، ولم يَقُلْ أحدٌ من أهل العلم: إنه تبيحه الحاجة. ب - أنَّ النصوص في الباب لم تُفَرِّقْ بين المقرِض والمقترِض في التحريم، بل لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: "هم سواء" (¬2). 4 - قاعدة: النظر إلى المآلات، وتحقيق المصالح الراجحة، ودفع المفاسد، وما يرتبط بذلك من المعقول: وعلى هذه القاعدة، وما قيل في المعقول الذي يدلُّ على رجحان الجواز أجوبةٌ، منها: أ - المصلحة هي ما دلَّتْ عليه الشريعة، وما سوى ذلك مما لا يحقق مقصود الشارع في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال فليس مصلحةً، وإن وُجِدَ فيه شيء من المصالح كالخمر والميسر {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]؛ فمردُّ المصلحة المعتبرة هو الشرع، وليس الهوى والعقل المجرد. ثم إنَّ مصلحة الدين مقدَّمة على ما سواها من المصالح؛ ولذا شُرِعَ الجهادُ، وإن ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 155) وما بعدها. (¬2) أخرجه: مسلم، كتاب المساقاة، باب: لعن آكل الربا ومؤكله (1598) من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.

ثالثا: مناقشة أدلة المعقول

أزهقتْ فيه الأرواحُ؛ حفظًا للدينِ. وليست المصلحة ماديةً محضةً ولا قاصرةً على أمور الحياة الدنيا، بل تمتدُّ لتشمل الدنيا والآخرة {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17]. فمهما ذُكِرَ من مصالحَ متوهمةٍ في الاقتراض الربوي، فيجب أن يُفْهَمَ في ضوء المقررات الشرعية، وأنه لا عبرةَ بهذه المصالح التي أهدرتها الشريعة؛ إذ هي مصالحُ ملغاةٌ بالنصِّ والإجماعِ. وقد لا يبدو كبير فِرْقٍ بين إباحة الربا من أجل ما زعموه مصالحَ، وبين ما يذكره العلمانيون من إباحة الفطر والخمورِ والإباحيةِ لتنشيطِ السياحةِ وتقويةِ الاقتصادِ!! ب - كثير مما ذكر من المصالح فيه مبالغاتٌ من الناحية العملية، يعرِفُ ذلك مَنْ له اتصالٌ وخبرة بهذه البلاد؛ فلا فرقَّ بين المسكن المستأجرِ والتمليكِ إلا في أمور تتعلق بالرفاهيةِ، وعددِ أفرادِ الأسرة، وأما بقيةُ الاعتبارات المذكورة فلا فرقَ بينهما في الواقع. ولا يظهر الفارق بينهما في الناحية الاقتصادية، إلا بعد نحو ربعِ قرنٍ من الزمان بعد أن تُسَدَّدَ أقساطُ التملك مع ما يشوبها من صعوباتٍ ومخاطر. ولا وجهَ لجعل تملك المساكن من مفردات خيرية الأمة، وتهيئة المسلم لها، وقد بيَّنَ الله تعالى عناصرَ الخيرية بقوله جَلَّ ذِكْرُهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. ثالثًا: مناقشة أدلة المعقول: 1 - ما ذكروه من أنَّ الإسلام يزيد المسلم ولا ينقصه، ويقويه ولا يضعفه. . . إلخ. ويناقش بما يلي: أ - التزام الأوامر الشرعية يزيد المؤمن إيمانًا، ومخالفتها تنتقص إيمانه وتضعفه ولا بد، والأصل في المسلم أن يتقيَ الله حيثما كان؛ ليجعل الله له من كل هَمٍّ فرجًا، وأن يوقنَ بقوله

تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]، وأن من ترَكَ شيئًا لله عَوَّضَهُ الله خيرًا منه. ب - والابتلاء سنة الله في الأولين والآخرين والتضحية سبيل قاصد لإقامة الدين. وَلَعَمْرُ الله، لو نظر المسلمون الأوائل هذه النظرة لَمَا هاجروا وتركوا أوطانهم وأموالهم وأهليهم، وبذلوا مهجهم وأرواحهم، ولمات الإسلام في مهده، وهؤلاء ما نقصهم الإسلام إذ نقصت أموالهم، بل زادهم وزكَّاهم وطهَّرهم وأعزَّهم. ج - إذا قيل بجواز ارتكاب المحارم بمثل هذا الوهم، فإنه يفضي إلى انحلال المسلم من الدين جملة، فالتاجر سيخشى كساد تجارته إنْ تَرَكَ الربا والغشَّ والغررَ، وهكذا كلُّ صاحبِ صنعةٍ محرَّمَةٍ. وقد تَوَجَّسَ بعضُ الناس خِيفةً من تحريم قربانِ المشركين المسجدَ الحرامَ لِمَا توهموه بعقولهم من أنه سيؤدي إلى بوار التجارات، وكساد السلع، فقال سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة: 28]. 2 - ما ذكروه من أنَّ المسلم غيرُ مكلَّفٍ بإقامة أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العامِّ في مجتمعٍ كافرٍ، وإنما يُطَالَبُ بإقامة الأحكام الشخصية. . . إلخ. ويناقش بما يلي: أ - إنَّ هذا الكلام بهذا الإطلاق لا يستقيم، وَيلزم عليه من اللوازم الباطلة ما يدل على بطلانه؛ إذ فيه فتحُ الباب لهؤلاء المسلمين المغتربين للتفلت من جميع أحكام المعاملات المدنية والسياسية والمالية بدعوى أنها خارج حدود الوسع والطاقة، فلا يقف الأمر عند حد الضرورات ولا الحاجات؛ بل يصبح الأصل فيه هو الحِل ما دام قد خرج عن إطار التكليف، فلا شيء -حينئذٍ- إنْ فُتِحَ بابُ الربا في عامة المعاملات التي يتعامل بها التجار؛ إذ هو -كما قيل- جزء من ثقافة المجتمع وهويته، ولا يلزم المسلم تغييره، ولا إقامة أحكام

الله تعالى في الجوانب المتعلقة به. وما الفرق بين المطعوم والمشروب من ناحية، والمسكون من ناحية أخرى، والحال أنَّ الجميع من الضرورات الحيوية، فلماذا يَحِلُّ الربا في المسكون دون أخويه؟ ولماذا يتعين تطبيق الشرع في المطعوم والمشروب دون المسكون؟ أليست إباحة الخمر ولحم الخنزير جزءًا من هُوية مجتمعات الكفر وثقافتها؟ فما الفرق بينهما؟ فإن لزمه إقامة الدين فيما يخصه من ذلك؛ فإن الأمر كذلك فيما يخصُّه من مساكن، ولا وجه للتفريق. ولا ريبَ أنَّ الأفاضل القائلين بهذا القول لا يقولون بلوازمه؛ ولكنَّ بطلانَ اللازم دليل على بطلان الملزوم. ب - كثير من أحكام الأحوال الشخصية ليس بوسع المسلم إقامتها في ديار الكفر، كالتعدد، ومسائل القوامة، والطلاق، وإلزام الزوجة والأولاد بشرائع الدين، وما يلحق بذلك، ومسائل الميراث، ونحوها، وأما الأحكام المالية فإن إقامتها في هذه البلاد أيسر بكثير، ومساحة الحرية فيها أكثر عن كثير من دول الإسلام (¬1). ج - هذا التعميم يقطع الطريق أمام الدعاة والمصلحين الذين يسعون جهدهم في المحافظة على هُوية المسلمين هنالك عَبْرَ إنشاء المؤسسات المالية والسياسية وغيرها مما تمسُّ إليه حاجة المسلمين، فما الذي يحملهم على بذل هذا الجهد، ويحمل الناس على التجاوب معهم إن كان هذا الأمر خارج إطار التكليف ابتداءً؟! 3 - وما أُسِّسَتْ عليه الفتيا من إباحة الربا بدار الحرب فيه نظرٌ من وجوه: أ - القائلون بالجواز لا يرتضون تسمية تلك الديار بديار حرب وينكرونه، ومنهم ¬

_ (¬1) وقفات هادئة، د. صلاح الصاوي، (ص 70).

من لا يقبل تسميتها بدار كفر أيضًا!! وإن كانت دار الكفر أعمَّ من دار الحرب. فما وجه تسميتها بدار حرب الآن وإجراء أحكام تلك الدار عليها؟ ولو تتبعنا خصائص دار الحرب ومقوماتها في كلام الفقهاء لوجدنا أنها تتحقق عند اجتماع وصفين: أحدهما: أن تكون الغلبة فيها والسلطة والمنعة لأحكام الكفر. والثاني: أن تكون في حالة حرب واقعة أو متوقعة مع دار الإسلام. وعلى ذلك، فإنْ تحقَّقَ فيها الوصفُ الأول وحده حُكِمَ عليها بأنها دار كفر، دون أن تسمى (دار حرب) أو أن تُجْرَى عليها أحكامها. قال القاضي أبو يعلى: "كل دار كانت الغلبة فيها لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام فهي دار كفر" (¬1). فإذا انضم إليه الوصف الثاني صارت "دار حرب" وسرت عليها أحكامها، واشتراط هذا الوصف مستفادٌ من حال دار الحرب، وموقف أهلها من المسلمين في نصوص الفقهاء (¬2). والوصف بدار الحرب إنْ تحقَّقَ في بعض دول الغرب اليوم فقدْ لا يتحقق في جميعها، وعليه فلا تعتبر كثير من تلك الدول التي تحكم بالقوانين الوضعية دارَ حربٍ لانتفاء الحرب الواقعة، أو المتوقعة بينها وبين دول المسلمين. ويمكن تسميتها بدار عهد أو صلح أو هدنة. ولا شك أن بلادًا كاليابان أو الصين أو سويسرا أو النمسا يصعب وصفها بأنها ¬

_ (¬1) المعتمد في أصول الدين، لأبي يعلى، (ص 276). (¬2) أحكام التعامل بالربا، د. نزيه حماد، (ص 33).

ديار حرب، وإنما هي إلى الصلح أقرب. قال ابن القيم -رحمه الله-: "الكفار: إمَّا أهل حرب، وإما أهل عهد. وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان. وقد عقد الفقهاء لكل صنف بابًا، فقالوا: باب الهدنة، باب الأمان، باب عقد الذمة. ولفظ الذمة والعهد يتناول هؤلاء كلَّهم في الأصل، وكذلك لفظ الصلح" (¬1). ثم شرع: في بيان معنى الذمة والصلح إلى أن قال: "وأما أهل الهدنة: فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، سواء كان الصلح على مال أو غير مال. لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، لكنْ عليهم الكفُّ عن محاربة المسلمين، وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة" (¬2). ب - أن مناط مذهب أبي حنيفة مفقودٌ جملةً في هذه الصورة؛ فإن القائلين بجواز الربا يمنعون ما قاله الحنفية من اعتبار أموال أهل تلك الدار مباحةً لمن قدر عليها، فمن دخل تلك البلاد بأمان من أهلها وبتأشيرة تكون أموالهم بالنسبة له غيرَ معصومة، في حين أن ماله هو معصوم بالنسبة إليهم! فلا يصح إذن الأخذ بهذا المذهب، أو الاستناد إلى ذلك المبدأ، وإلا لزمت لوازم لا يقدر أحد على حمل تبعاتها. ج - وأخيرًا فإن مذهب الحنفية هو جواز التعامل بالربا مع المسلم الذي أسلم في دار الحرب ولم يهاجر، شأنه في ذلك شأن الحربي؛ قال الكاساني: في "بدائع الصنائع": "ومنها: أن يكون البدلان متقوَّمينِ شرعًا، وهو أن يكونا مضمونين حقًّا للعبد، ¬

_ (¬1) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 873). (¬2) المرجع السابق، (2/ 874).

فإن كان أحدهما غير مضمون حقًّا للعبد لا يجري فيه الربا، وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل المسلم دار الحرب فبايع رجلًا أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا درهمًا بدرهمين أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في دار الإسلام؛ أنه يجوز عند أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز؛ لأن العصمة وإن كانت ثابتة فالتقوم ليس بثابت عنده" (¬1). وقال في الدر المختار: "وحكم من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر كحربي، فللمسلم الربا معه خلافًا لهما؛ لأن ماله غير معصوم، فلو هاجر إلينا ثم عاد إليهم فلا ربا اتفاقًا (¬2). فهل يلتزم بهذا هؤلاء المبيحون، فيحل للمسلم أن يتعامل بالربا وغيره من العقود الفاسدة مع إخوانه المسلمين الجدد في تلك الديار؟! وكذلك فإن مقتضى مذهب الحنفية -وقد صرحوا به- جواز تعامل المسلمين الجدد في هذه البلاد بالربا أخذًا وإعطاءً، ما داموا لم يهاجروا، سواءً أكان ذلك مع نظرائهم من المسلمين الجدد، أم مع الحربيين؛ وذلك لارتباط العصمة عندهم بالدار ابتداءً. قال ابن عابدين: "ويُعْلَمُ مما ذكره المصنف مع تعليله أن من أسلما ثَمَّةَ ولم يهاجِرَا لا يتحقق الربا بينهما أيضًا" (¬3). لا شك أن هذا مما لا يقول به من قال بالجواز ابتداءً، ولا يستطيع تحمل تبعة الفتيا به. 4 - أن مذهب الحنفية -أيضًا- جواز بيع الخمر والميتة ولحم الخنزير للكفار ما دامت وسيلة للحصول على أموالهم التي هي مباحة في الأصل؛ إذ إنهم لا ينظرون إلى فساد العقد في ذاته، وإنما هو -عندهم- وسيلة للحصول على أموال القوم غير ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع، للكاساني، (5/ 192). (¬2) الدر المختار، للحصكفي، (5/ 186). (¬3) حاشية ابن عابدين، (7/ 423).

المعصومة ولا المتقوَّمة ابتداءً، وما هذه العقود إلا وسائل يتحيل بها ويتجنب الوقوع في الغدر حال الحصول على أموالهم. قال السرخسي: "وإن بايعهم المستأمن إليهم الدرهمَ بالدرهمين نقدًا أو نسيئة، أو بايعهم في الخمر والميتة والخنزير؛ فلا بأس بذلك في قول أبي حنيفة ومحمد؛ ولا يجوز شيء من ذلك في قول أبي يوسف؛ لأن المسلم ملتزمٌ أحكامَ الإسلام حيثما يكون، ومِنْ حُكْمِ الإسلامِ حرمةُ هذا النوع من المعاملة" (¬1). وقال الكمال ابن الهمام: "فلو باع مسلم دخل إليه -أي: إلى دار الحرب- مستأمنًا درهمًا بدرهمين حَلَّ، وكذا إذا باع منهم ميتةً أو خنزيرًا أو قامرهم أو أخذ المال؛ يَحِلُّ كل ذلك عند أبي حنيفة ومحمد خلافًا لأبي يوسف" (¬2). فهل يلتزم المبيحون هذه اللوازمَ الخطيرةَ في هذه المجتمعات؟! ثم إن كلام المبيحين من أهل المذاهب المتبوعة إنما هو عن أخذ الربا من الحربي، لا إعطائه له، ويُحْمَلُ مطلقُ كلامهم في هذا المقام على مقيده؛ ولهذا علل صاحب المبدع من الحنابلة القولَ المرويَ عن أحمد بأنه لا ربا في دار الحرب بقوله: "لأن أموالهم مباحة، وإنما حظرها الأمان في دار الإسلام، فما لم يكن كذلك كان مباحًا" (¬3). وفرضُ المسألة المعاصرة إعطاءُ الربا للحربي، وليس أخذه منه. وتحرير مذهب الحنفية في ذلك أن الربا عندهم لا يقع ابتداءً بين المسلم والحربي في دار الحرب؛ لأن الربا إسم لفضل يستفاد بالعقد، والزيادة التي ينالها المسلم من الحربي لا ينالهها بمقتضى العقد الربوي، بل بمقتضى الإباحة الأصلية لأموال الحربيين، فالعقد ¬

_ (¬1) المبسوط، للسرخسي، (10/ 95). (¬2) فتح القدير، لابن الهمام، (7/ 38). (¬3) المبدع، لابن مفلح، (4/ 157).

الذي يعتمده المسلم مع الحربي لا يفيده تملك الزيادة الربوية، بل يفيده الرضا من الحربي الذي يحله من قيد الأمان ويعيد أموال الحربي إلى أصلها من الحل، فأخذ المسلم للزيادة حينئذٍ كالاستيلاء على الكلأ والمباحات. والذي يدلُّ على أن مذهب الحنفية إباحة ذلك في أخذ المسلم، لا إعطائه؛ هو نصوص معتمَدَاتِ كتبهم، ومنها: ما قاله الكاساني: في "بدائع الصنائع": "مال الحربي ليس بمعصوم، بل هو مباح في نفسه؛ إلا أن المسلم المستأمن مُنِعَ من تملكه من غير رضاه؛ لما فيه من الغدر والخيانة، فإذا بذله باختياره ورضاه فقد زال هذا المعنى، فكان الأخذ استيلاءً على مال مباح غير مملوك، وأنه مشروع مفيد للملك كالاستيلاء على الحطب والحشيش" (¬1). فالخلاصة الواضحة أن مذهب الحنفية لا يصلح مستندًا لهذه الفتيا! (¬2) 5 - وأما الاستدلال بحديث: "أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية" (¬3): وقياس المعاملة بالربا على قسمة الميراث التي خالفت حكم الإسلام؛ فالجواب عليه: أنه يحتمل أن يكون المعنى: أن ما تم بين المشركين من عقود قبل الإسلام لا تنقض ولا يُتَعَرَّضُ لها، فهو خارج عن محل النزاع، ويدل على هذا الاحتمال حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا: "كُلُّ قَسْمٍ قُسِمَ في الجاهلية فهو على ما قُسِمَ، وكل قَسْمٍ أدركه الإسلام فهو على قَسْمِ الإسلامِ" (¬4)، فهذه جملة استدلالات الحنفية، وهي ضعيفة كما تبين، لا ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع، للكاساني، (5/ 192). (¬2) وقفات هادئة، د. صلاح الصاوي، (ص 45 - 48). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) أخرجه أبو داود، كتاب الفرائض، باب: فيمن أسلم على ميراث، (2914)، وابن ماجه، كتاب الرهون، =

أدلة أصحاب القول الثاني

تقوى على تخصيص عموم النصوصِ المحرِّمةِ للربا والمتوعِّدةِ عليه أشدَّ الوعيد. أدلة أصحاب القول الثاني: من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والإجماع، والمعقول، والقياس: أولًا: القرآن الكريم: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275]. وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]. وجه الدلالة: دَلَّتِ الآياتُ الكريمة على حرمة الربا مطلقًا، من غير تقييدٍ بكثيرٍ فاحشٍ، ولا قليلٍ يسيرٍ، ومن غير تعلُّقٍ بدار أو دولة. وأنه من كبائر الذنوب التي تمحق البركة وتستوجب العقوبةَ، والحربَ من الله تعالى. ثانيًا: السنة المطهرة: ما ثبت عن جابر -رضي الله عنه- قال: لَعَنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - آكلَ الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: "هم سواء" (¬1). ¬

_ = باب: قسمة الماء، (2485). وصححه الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"، (9/ 521). (¬1) سبق تخريجه.

ثالثا: الإجماع

وجه الدلالة: الحديث يدلُّ دلالةً واضحة على أن الربا محرَّمٌ، ومن كبائر الذنوب؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ مَنْ تعامَلَ به، واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، ولا يكون إلا على فِعْلِ محرَّمٍ (¬1). وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مِثْلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الوَرِقَ بالوَرِقِ إلا مِثْلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجزٍ" (¬2). ثالثًا: الإجماع: قد أجمعت الأمة الإسلامية على تحريم التعامل بالربا، وأنه من كبائر الذنوب (¬3)، قال النووي: "وأجمع المسلمون على تحريم الربا في هذه الأعيان الستة المنصوص عليها، واختلفوا فيما سواها" (¬4). وقد اتفق العلماء على تحريم التعامل بالربا بين المسلمين في دار الإسلام، أو في دار الحرب (¬5). كما قرَّرَ الجمهور حرمة التعامل بالربا بين المسلم والحربي مطلقًا، أخذًا أو إعطاءً في دار الإسلام، أو الحرب، بأمان، أو بدون أمان، وهو قول المالكية والشافعية، والحنابلة في صحيح مذهبهم. ¬

_ (¬1) اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية، د. عبد العزيز مبروك الأحمدي، طبعة الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط 1، 1424 هـ، (ص 206). (¬2) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب: بيع الفضة بالفضة، (2177)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب: الربا، (1584). (¬3) الاختيار لتعليل المختار، للموصلي، (2/ 30)، بلغة السالك لأقرب المسالك، للصاوي، (3/ 24)، تفسير القرطبي، (3/ 348)، المجموع، للنووي، (9/ 391)، كفاية الأخيار، للحصني، (ص 239)، مجموع الفتاوي، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (29/ 418). (¬4) المجموع، للنووي، (9/ 391). (¬5) بدائع الصنائع، للكاساني، (5/ 192 - 193)، فتح القدير، لابن الهمام، (7/ 38)، المقدمات الممهدات، لابن رشد، (2/ 5)، بلغة السالك، للصاوي، (3/ 24)، المجموع، للنووي، (9/ 391)، المغني، لابن قدامة، (6/ 99)، المبدع، لابن مفلح، (4/ 157).

رابعا: المعقول

قال النووي: "ولا فرق في تحريمه -أي: الربا- بين دار الإسلام ودار الحرب، فما كان حرامًا في دار الإسلام كان حرامًا في دار الحرب، سواء جرى بين مسلمَينِ، أو مسلم وحربي، وسواء دخلها المسلم بأمان، أم بغيره" (¬1). وقال المرداوي: "والصحيح من المذهب أن الربا محرَّمٌ بين الحربي والمسلم مطلقًا" (¬2). وقال البهوتي (¬3): "ويحرم الربا بين المسلم والحربي في دار الإسلام، ودار الحرب، ولو لم يكن بينهما أمان" (¬4). وجاء في قرار مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة عام 1385 هـ: "والإقراض بالربا محرَّم لا تبيحه حاجة، ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرَّمٌ كذلك، ولا يرتفع إثمُهُ إلا إذا دعت إليه الضرورةُ" (¬5). رابعًا: المعقول: 1 - أن ما كان محرَّمًا في دار الإسلام فهو محرم في دار الحرب، كالخمر وسائر المعاصي، فالمسلم مخاطَبٌ بالشريعة الإسلامية وأحكامها في جميع الأماكن، من غير فرق بين دار إسلامٍ، أو دار حرب؛ فالربا محرَّمٌ كله في جميع الديار (¬6). ¬

_ (¬1) المجموع، للنووي، (9/ 391). (¬2) الإنصاف، للمروادي، (5/ 41). (¬3) أبو السعادات، منصور بن يونس بن صلاح الدين بن حسن بن إدريس، البهوتي، الحنبلي، شيخ الحنابلة بمصر في عصره، كان عالمًا عاملًا ورعًا متبحرًا في العلوم الدينية، صارفًا أوقاته في تحرير المسائل الفقهية، من مصنفاته: الروض المربع، وكشاف القناع، وعمدة الطالب، ولد سنة 1000 هـ، وتوفي سنة 1051 هـ. السحب الوابلة، لابن حميد، (3/ 1131)، والأعلام، للزركلي، (7/ 307). (¬4) كشاف القناع، للبهوتي، (3/ 271). (¬5) فقه النوازل، د. الجيزاني، (3/ 136). (¬6) المبسوط، للسرخسي، (14/ 57)، المجموع، للنووي، (9/ 391 - 392)، المغني، لابن قدامة، (6/ 99)، المبدع، لابن مفلح، (4/ 157).

خامسا: القياس

2 - أن الربا من العقود الفاسدة التي لا تجوز في الإسلام، فلم يصحَّ في دار الحرب كالنكاح الفاسد (¬1). 3 - أن حرمة الربا كما هي ثابتة في حقِّ المسلمين ثابتة في حقِّ الكفار؛ لأنهم مخاطَبون بالمحرمات في الصحيح من الأقوال، قال تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] فاشتراطه في البيع يوجب فساده، كما إذا تبايع المسلم والحربي المستأمن في دار الإسلام (¬2). 4 - أن المسلم إذا دخل دار الحرب بأمان فقد وجب عليه الوفاء بالعهد، وحَرُمَتْ عليه خيانة أهلها، وتعامله معهم بالربا فيه خيانة لهم، وأكلٌ لأموالهم، وقد أخذ عليه بأن لا يخون عهدهم، ولا يتعرض لمالهم، ولا لشيء مِنْ أَمْرِهِمْ (¬3). خامسًا: القياس: وهو القياس على المستأمن الحربي في دارنا. فالحربي إذا دخل دار الإسلام بأمانٍ وتعامل معه المسلم بالربا لا يجوز باتفاق الفقهاء، فكذلك لا يجوز للمسلم التعامل معه بالربا في دار الحرب (¬4). مناقشة أدلة القول الثاني: أولًا: الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية: رَدَّ الحنفية فقالوا: بالنسبة لعموم الآيات والأحاديث الواردة في تحريم الربا إنما هو في المال ¬

_ (¬1) المجموع، للنووي، (9/ 392). (¬2) أحكام القرآن، لابن العربي، (1/ 647)، تفسير القرطبي، (6/ 12)، تبيين الحقائق، للزيلعي، (4/ 97)، فتح القدير، لابن الهمام، (7/ 38). (¬3) سير الأوزاعي، للشافعي، مطبوع مع الأم، (9/ 249)، أحكام القرآن، لابن العربي، (1/ 649). (¬4) فتح القدير، لابن الهمام، (7/ 38)، حاشية ابن عابدين، (7/ 422)، الاختيار لتعليل المختار، لعبد الله ابن محمود بن مودود الموصلي الحنفي، تعليق: الشيخ محمود أبي دقيقة، دار الكتب العلمية، بيروت، (2/ 33).

المحرم والمعصوم، أما المال المباح كأموال الكفار في دار الحرب، فيجوز أن تؤخذ بأي طريقٍ غيرِ طريق الغدر، فالربا إذا كان برضًا منهم فهو مباح معهم، ويبقى العموم في المال المحظور (¬1). وأجيب: بأن الآيات والأحاديث الواردة في تحريم الربا عامة في أي مكان، في دار الإسلام، أو في دار الحرب، ولم يَرِدْ ما يُخَصِّصُ هذا العمومَ إلا حديثُ مكحولٍ، وهو مرسَلٌ ضعيفٌ، لا يقوى على التخصيص، وفي هذا يقول ابن قدامة: ولا يجوز تَرْكُ ما وَرَدَ بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة وانعقد الإجماع على تحريمه بخبرٍ مجهولٍ لم يَرِدْ في صحيحٍ ولا مسندٍ ولا كتابٍ موثوقٍ بِهِ (¬2). وأيضًا هذا المرسل على فرض صحته فهو محمول على تحريم الربا في دار الحرب (¬3). أما بالنسبة لقولهم بأن الربا محرَّم في دار الحرب، كما هو محرم في دار الإسلام، يقال لهم: هذا بالنسبة للمسلمين فيما بينهم وبين الحربيين إذا كانوا مستأمنين في دار الإسلام، أما الحربيون في دارهم فتباح أموالهم؛ لعدم التزامهم بأحكام الإسلام، وأموالهم مباحة لا عصمةَ لها، أما في دار الإسلام فهي معصومة بسبب الأمان (¬4). وأجيب: بأن النصوص الواردة في تحريم الربا عامة من غير فَرْقٍ بين مكان وآخر، ومسلم وحربي، وأموال الحربيين لا تكون مباحةً للمسلم، وبخاصة إذا دخل دارهم بأمان فيجب عليه الوفاء بالعهد، وعدم الغدر بهم، وأكل أموالهم بالباطل، ولا تباح له إلا ¬

_ (¬1) فتح القدير، لابن الهمام، (7/ 39). (¬2) المغني، لابن قدامة، (6/ 99). (¬3) المغني، لابن قدامة، (6/ 99)، المبدع، لابن مفلح، (4/ 157). (¬4) الرد على سير الأوزاعي، (ص 96).

ثانيا: القياس

بطريق الاغتنام إذا أعلنوا الحرب على المسلمين (¬1). وحتى لو جاز للحربي التعامل بالربا فإنه محرَّمٌ على المسلم الملتزم بأحكام الإسلام في كل مكان أن يتعامل به. ثانيًا: القياس: أما القياس: فهو قياس مع الفارق: لأن الحربي المستأمن في دار الإسلام ملتزم بأحكام الإسلام وماله معصوم بسبب الأمان، أما الحربي غير المستأمن فلا عصمة لماله؛ لأنه لم يلتزم لأحكام الإسلام. وأجيب: بأننا لا ننكر أن الحربي المستأمن ملتزم لأحكام الإسلام، وماله معصوم بالأمان، وعلى العكس الحربي غير المستأمن، لكن القياس ليس من هذه الناحية، بل القياس من ناحية التحريم، فالربا كما هو محرم مع الحربي في دار الإسلام، محرم معه في دار الحرب؛ لعموم النصوص الواردة في التحريم من الكتاب والسنة، ولم يرد ما يخصص هذا العموم. الترجيح: بعد عرض القولين بأدلتهما، والمناقشات التي جَرَتْ بين الفريقين، يتضح رجحان قول الجمهور سلفًا وخلفًا بحرمة التعامل بالربا مطلقًا في دار الإسلام وغيرها، وبين المسلم وغير المسلم مطلقًا، وأنه لا يجوز شراء المساكن في الغرب بالقروض الربوية، إلا لمن بلغ مبلغ الضرورة الشرعية التي تبيح المحرمات القطعية، وهذا من شأنه ألا يختص بدار دون دار، ولا يتعلق بالمسلم دون غيره، فَكُلُّ مَنْ سُدَّتْ أمامَهُ أبوابُ السكنى، ولم يجد بديلًا مشروعًا أو فيه شبهة، وتحققت ضرورته فقد جاز له الاقتراض الربوي ¬

_ (¬1) أحكام القرآن، لابن العربي، (1/ 649).

المحرم بما يدفع ضرورته فحسب؛ إذ الضرورة تُقَدَّرُ بقدرها. وأسباب ترجيح هذا القول كالتالي: 1 - ظهور أدلة الجمهور وقوتها في مقابل ضعف أدلة الحنفية ووهائها أمام الإيرادات الصحيحة عليها، مع مخالفتها للنصوص الصريحة. 2 - ولأن الربا محرم في كل مكان، كما دلت النصوص على ذلك، فلا يصير حرامًا في مكان دون آخر، وإباحة أموال الحربيين عن طريق الغنيمة يختلف عن أخذها بالعقود الفاسدة كعقد الربا. 3 - القول بتحريم الربا بين المسلمين وإباحة التعامل به مع الحربي فيه تشبُّهٌ باليهود الذين يحرِّمون الربا في علاقة اليهودي باليهودي، ويبيحونه في علاقته بالأميين، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75]. وقد جاء في سفر التثنية، في الإصحاح الثالث والعشرين: "للأجنبي تقرضُ بربا، ولكن لأخيك لا تقرضْ بربا؛ لكي يباركك الرب إلهك". فالإسلام ليس فيه ازدواجية، ولا تطفيف، ولا تناقض، وليس كأنظمة البشر التي تكيل بمكيالين، بل بمكاييلَ مختلفةٍ. على أن هذا المنحى الذي نحى إليه المبيحون يفتح الباب أمام سلسلة من التَّرَخُّصَاتِ التي لن تنتهي، كما سبق التنبيه عليه. 4 - لا بد أن يُحَرَّرَ مفهومُ الحاجاتِ ويُضْبَطَ بضوابطَ واضحةٍ؛ وإلا فُتِحَ بابُ شرٍّ مستطيرٍ يؤدي إلى خلعِ الرِّبقةِ، والتفلتِ من قيودِ التكليفِ، بما يُتَوَهَّمُ أنه من قبيل المصالح، أو الحاجات، وهو في حقيقته لا يعدو أن يكون من جنس الأهواء والشهوات. وأخيرًا فإن البدائل الشرعية يجب توفيرها للأقليات الإسلامية إذا أُرِيدَ لهذه

الأقليات أن تحيا وأن تستمِرَّ في دورها وجهادها في الدعوة إلى دين الله تعالى. ومَنْ عَجَزَ عن شراء تلك المساكن بطرق شرعية ففي الاستئجار مندوحةٌ عن الوقوع في شَرَكِ الربا المحرم، وليس مجردُ شيوع الحاجة سببًا في الترخيص بارتكاب كبيرة من أكبر الكبائر، حتى تُعَمَّمَ به الفتيا في ديار الأقليات. ومن غير شكٍّ فإن هذه المجالس العلمية الموقرة بشيوخها الكبار مدعُوَّةٌ لمراجعة هذه الفتيا العامة في ضوء دراسة الواقع، وما يكتنفه من ملابسات (¬1)، وما يراد للأقليات من تأسيس فقهي لأحكامهم بعيدًا عن فقه الظروف الاستثنائية، والحالات الطارئة، بما يجمع بين إقامة الدين في حياة الأقليات، وتَحَقُّقِ السعة واليسر في سائر المعاملات، والله الموفق لكل خير والهادي إلى سواء السبيل. وتتميمًا للفائدة نسوق قرارَي مجمعِ الفقه الإسلامي، ومجمعِ فقهاء الشريعة في أمريكا في تحريم هذه المعاملة ببلاد الغرب. "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه. قرار رقم (52/ 1 / 6): بشأن: التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها. إن مجلس الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمرِهِ السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م. ¬

_ (¬1) أعلن كل من: الدكتور محمد فؤاد البرازي من الدانمرك، والدكتور صهيب حسن عبد الغفار من لندن اعتراضهما على فتوى وقرار المجلس الأوروبي للإفتاء، ونشر ذلك في صحيفة الشرق الأوسط، مع أسباب اعتراضهما على الفتوى، وقد عَقَّبَ عليهما في ذات الصحيفة الدكتور يوسف القرضاوي، في فقه الأقليات المسلمة، د. يوسف القرضاوي، (ص 179).

بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها"، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. قرر: 1 - أن المسكن من الحاجات الأساسية للإنسان، وينبغي أن يوفر بالطرق المشروعة بمال حلال، وإن الطريقة التي تسلكها البنوك العقارية والإسكانية ونحوها، من الإقراض بفائدة قَلَّتْ أو كَثُرَتْ، هي طريقة محرمة شرعًا؛ لما فيها من التعامل بالربا. 2 - هناك طرق مشروعة يُسْتَغْنَى بها عن الطريق المحرمة لتوفير المسكن بالتملك -فضلًا عن إمكانية توفيره بالإيجار-، منها: أ - أن تقدِّمَ الدولة للراغبين في تملك مساكنَ قروضًا مخصصة لإنشاء المساكن، تستوفيها بأقساطٍ ملائمةٍ بدون فائدة، سواء أكانت الفائدة صريحة، أم تحت ستار اعتبارها: (رسم خدمة) على أنه إذا دعت الحاجة إلى تحصيل نفقاتٍ لتقديم عمليات القروض ومتابعتها وجب أن يُقْتَصَرَ فيها على التكاليف الفعلية لعملية القرض على النحو المبين في الفقرة (أ) من القرار رقم (1) للدورة الثالثة لهذا المجمع. ب - أن تتولى الدول القادرة على إنشاء المساكن إنشاءَها، وبَيعَهَا للراغبين في تملُّكِ مساكنَ بالأجل والأقساط بالضوابط الشرعية المبينة في القرار (53/ 2/ 6) لهذه الدورة. جـ - أن يتولى المستثمرون -من الأفراد أو الشركات- بناءَ مساكنَ تُباعُ بالأجل. د - أن تُمَلَّكَ المساكن عن طريق عقد الاستصناع -على أساس اعتبارِهِ لازمًا- وبذلك يتم شراء المسكن قبل بنائه، بحسب الوصفِ الدقيقِ المزيلِ للجهالة المؤديةِ للنزاعِ، دونَ وجوبِ تعجيلِ جميعِ الثمنِ، بل يجوزُ تأجيلُهُ بأقساطٍ يُتَّفَقُ عليها، مع مراعاة الشروط والأحوال المقرَّرَةِ لعقد الاستصناع لدى الفقهاء الذين ميزوه عن عقد السَّلَمِ. ويوصي: بمواصلة النظر لإيجاد طرقٍ أخرى مشروعةٍ توفر تملُّكَ المساكن للراغبين في

ذلك." انتهى قرار مجمع الفقه الإسلامي" (¬1). وأمَّا مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا فقد جاء نص قراره كالآتي: "الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإن مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا المنعقد في دورة مؤتمرِهِ الثاني بمدينة كوبنهاجن بدولة الدنمارك من 4 - 7 من شهر جمادى الأولى عام 1425 هـ، الموافق 22 - 25 من شهر يونيو عام 2004 م. بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة من السادة أعضاء المجمع وخبرائه بخصوص موضوع: "شراء البيوت عن طريق التمويل الربوي" والمناقشات المستفيضة التي دارت حوله. قرر المجمع ما يلي: أولًا: التأكيد على ما أكَّدَتْ عليه الأدلة الشرعية القاطعة من حرمة الربا بنوعيه فضلًا ونسيئةً، وأن فوائد البنوك هي الربا الحرام، وهو ما قررته جميع دور الإفتاء والمجامع الفقهية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. ثانيًا: التأكيد على أن الاقتراض بالربا لا تُحِلُّهُ في الأصل إلا الضروراتُ المعتبرَةُ شرعًا، شأنه شأن سائر المحرمات القطعية في الشريعة، وبشروطها التي نصَّ عليها أهل العلم، بأن تكون واقعةً لا منتظَرَةً بحيث يتحقَّقُ أو يَغلبُ على الظن وجودُ خطرٍ حقيقي على الدين، أو النفس، أو العقل، أو النسل، أو المال، وأن تكون ملجِئةً بحيث يخافُ المضطرُ هلاكَ نفسه، أو قطعَ عضوٍ من أعضائه، أو تعطُّلَ منفعَتِهِ إنْ تَرَكَ المحظورَ، وأنْ لا يَجِدَ المضطر طريقًا آخرَ غيرَ المحظورِ، وعلى من تلبَّسَ بحالة من حالات الضرورة أنْ يلجأَ إلى ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السادس، (1/ 187).

مَنْ يثقُ في دينه وعلمه من أهل الفتوى في تقدير ضرورته. ثالثًا: أن الحاجة تنزل منزلةَ الضرورة في إباحة المحظور متى توافرتْ شرائطُ تطبيقها، وتتمثلُ هذه الشروط فيما يلي: 1 - تحقُّقُ الحاجة بمفهومها الشرعي، وهي دفع الضرر، والضعف الذي يصدُّ عن التصرف والتقلب في أمور المعاش، واستمرار الناس على ما يقيم قواهم، وليس مجرد التشوف إلى الشيء، أو مجرد الرغبة في الانتفاع والترفه والتنعم. 2 - انعدام البدائل المشروعة، وذلك بأن يعمَّ الحرام، وتنحسمَ الطرق إلى الحلال، وإلا تعيَّنَ بذلُ الجهد في كسب ما يَحِلُّ، ومن بين هذه البدائل: الاستئجار، متى اندفعت به الحاجة. 3 - الاكتفاء بمقدار الحاجة، وتحريم ما يتعلق بالترفه والتنعم، أو محض التوسع. 4 - انعدام القدرة على التحول إلى مواضعَ أخرى يتسنى فيها الحصولُ على البديل المشروع. رابعًا: وبناءً على ما سبق فإن الأصل في العاجز عن تملك مسكن بطريق مشروع لا ربا فيه، ولا ريبة، أن يقنع بالاستئجار، ففيه مندوحة عن الوقوع فيما حرَّمه الله ورسوله من الربا. خامسًا: إذا مَثَّلَ الاستئجارُ حرجًا بالغًا ومشقَّةً ظاهرةً بالنسبة لبعض الناس، لاعتباراتٍ تتعلق بعددِ أفراد الأسرة، وعدمِ وجود مسكن مستأجر يكفيهم، أو لخروجِ أجرته عن وُسْعِ ربِّ الأسرة وطاقته، أو لغير ذلك من الظروف القاهرة، جاز لهم الترخص في تملك مسكن بهذا الطريق في ضوء الضوابط السابقة، بعد الرجوع إلى أهل العلم لتحديد مقدار هذه الحاجة، ومدى توافر شرائطها الشرعية؛ وذلك للتحقق من مدى صلاحيتها بأن تنزل منزلةَ الضرورة في إباحة هذا المحظور. سادسًا: التأكيد على ما أكَّدَتْ عليه كلُّ المجامع الإسلامية الرسمية والأهلية من ضرورة العمل على توفير البدائل الإسلامية لمشكلة تمويل المساكن: إمَّا من خلال إنشاء مؤسسات إسلامية، وهو الأَولى، باعتباره الأرضَى للربِّ جلَّ وعلا، والأنفع لدينه ولعباده، أو مِنْ خلال

إقناع البنوك الغربية بالتعديل في عقودها التي تجريها مع الجاليات الإسلامية بما يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، إلى أن يتوافر البديل الإسلامي المنشود، وهو أمر ميسور في هذه المجتمعات. سابعًا: مناشدة القادرين في العالم الإسلامي أن يتبنوا مشروعًا استثماريًّا يجمع الله لهم فيه بين الكسب في الدنيا، والأجر في الآخرة؛ لتوفيرِ مساكنَ للراغبين في ذلك من المسلمين المقيمين في المجتمعات الغربية، وذلك بصيغة من الصيغ الشرعية المعروفة مشاركةً، أو مرابحةً، أو استصناعًا، أو تأجيرًا منتهيًا بالتمليك بضوابطه الشرعية، أو نحوه، وألَّا يُغالوا في تقدير أرباحهم، حتى لا يكونوا فتنةً تَصُدُّ الناسَ عن التعامل ابتداءً مع المؤسسات الإسلامية، وتحمِلُهم على إساءة الظن بالتطبيق الإسلامي، كلما دُعِيَ إليه أو لاحتْ بوادِرُهُ. والله تعالى أعلى وأعلم" (¬1). ¬

_ (¬1) قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني للمجمع، (ص 100 - 102).

المبحث الثاني أحكام عقود التأمين خارج ديار الإسلام

المبحث الثاني أحكام عقود التأمين خارج ديار الإسلام تَمْهيد قبل الدخول إلى تصوير المسألة وتكييفها، وهي حكم إجراء عقود التأمين ببلاد الأقليات، ولا سيما في الدول الغربية يحسن أولًا التقديم بلمحة مختصرة عن التأمين وحقيقته وأركانه. المطلب الأول: تعريف التأمين: التأمين لغة: مصدر: أمَّن يؤمِّن تأمينًا، وأصله من أمن -بكسر الميم- أمنًا، وأمانًا وأمانةً وأمنةً، أي: اطمأن ولم يَخَفْ، فهو آمن، وأمين، وأمن البلد اطمأن فيه أهله، وأَمِنَهُ عليه، أي: وثق به، قال تعالى: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 64]، أي: هل أثق بكم. . .، وجاء: أَمُن -بضم الميم- أمانة، أي: كان أمينًا، وآمن يؤمن إيمانًا، أي: صدقه، قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]، أي: مصدِّقٍ. ويقال: أمَّن على دعائه، أي: قال: آمينَ (¬1)، وعلى الشيء: دفع مالًا منجَّمًا لينال هو أو ورثته قدرًا من المال متفقًا عليه، أو تعويضًا عما فقد، يقال: أمَّن على حياته، أو على داره، أو سيارته (مج) إشارة إلى أن هذا المعنى الأخير جديد، أقره مجمع اللغة العربية (¬2). التأمين شرعًا: وردت مادة التأمين في كتاب الله تعالى في مواضع تفيد تحقيق الأمن والاطمئنان، ومن ذلك: قوله تعالى: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4]، {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]. ¬

_ (¬1) لسان العرب، لابن منظور، (1/ 223)، القاموس المحيط، للفيروز آبادي، (4/ 194). (¬2) المعجم الوسيط، (1/ 28).

تعريف التأمين كنظام أو نظرية

التأمين اصطلاحًا: عادةً ما يعرف التأمين موصوفًا أو مضافًا، فيقال: التأمين التجاري، أو تأمين إصابة العمل. وإذا كان محل التأمين موجودًا يخشى عليه الفوات فيعدَّى بـ (على) فيقال: التأمين على الحياة؛ وذلك لأن من معاني (على) الاستعلاء حقيقةً أو مجازًا. وإذا كان محل التأمين غير موجود، ويؤمل، أو يخشى حصوله فيعدَّى بـ (اللام)؛ وذلك لإفادة الاستحقاق. فيقال: التأمين للشيخوخة، أو لحدوث الحريق، ونحوه. ثم إن التأمين يعرف كنظام، ويعرف كعقد، أو تصرف قانوني (¬1). تعريف التأمين كنظام أو نظرية: بهذا الاعتبار هو: تعاون منظم تنظيمًا دقيقًا بين عدد كبير من الناس، معرَّضين جميعًا لخطر واحد، حتى إذا تحقق الخطر بالنسبة إلى بعضهم تعاون الجميع على مواجهته بتضحية قليلة يبذلها كل منهم يتلافون بها أضرارًا جسيمة تحيق بمن نزل الخطر به منهم لولا هذا التعاون (¬2). تعريف التأمين كعقد أو تطبيق: " هو عقد يلتزم المؤمِّنُ بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمَّنِ له، أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغًا من المال، أو إيرادًا مرتبًا، أو أي عوض مالي آخر، في حالة وقوع الحادث، أو تحقق الخطر المبين بالعقد، وذلك في نظير قسط، أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمَّنُ له للمؤمِّنِ" (¬3). ¬

_ (¬1) وهذا ملحوظ عند عدد من المعاصرين، منهم: د. السنهوري، د. عيسى عبده، د. حسين حامد حسان. (¬2) الوسيط، لعبد الرزاق السنهوري، (2/ 1087). (¬3) المرجع السابق، (2/ 1084).

المطلب الثاني: أقسام التأمين

ومن التعريفات المختارة للجمع بين أنواع التأمين المختلفة من الناحية العَقْدية أنه: "نظام مالي يلتزم فيه المؤمَّن بدفع مال أو إيراد مرتب، أو أي عوض مالي آخر للمستفيد عند وقوع الحادث المرغوب فيه، أو غير المرغوب فيه، مدة معينة مقابل دفع المستأمن قسط التأمين بصفة دورية أو دفعة واحدة" (¬1). وهو تعريف يتناول التأمين الاجتماعي، كما يشمل سائر الأنواع التجارية والتبادلية، وتظهر فيه أركان التأمين الأربعة، وهي: المؤمِّن، والمؤمَّن عليه، والخطر، ومبلغ التأمين. المطلب الثاني: أقسام التأمين: ينقسم التأمين باعتبارات متعددة وحيثيات متنوعة، وفيما يلي بعض هذه التقسيمات: أولًا: ينقسم من حيث المجالات إلى: 1 - التأمينِ البحريِّ. 2 - التأمينِ البريِّ. 3 - التأمينِ الجويِّ. ثانيًا: ينقسم من حيث قوة التطبيق إلى: 1 - التأمينِ الاختياريِّ. 2 - التأمينِ الإجباريِّ. ثالثًا: ينقسم من حيث العموم والخصوص إلى: 1 - التأمينِ العامِّ. 2 - التأمينِ الخاصِّ. ¬

_ (¬1) التأمين الاجتماعي في ضوء الشريعة الإسلامية، د. عبد اللطيف آل محمود، دار النفائس، بيروت ط 1، 1414 هـ، (ص 35).

رابعا: ينقسم من حيث محله وموضوعه إلى

رابعًا: ينقسم من حيث محله وموضوعه إلى: 1 - التأمينِ على الأشخاص؛ وتحته أنواعٌ: أ - التأمينُ على الحياة. ب - التأمينُ للمرض. ج - التأمينُ للإصابات. د - التأمينُ للزواج. هـ - التأمينُ للأولاد. 2 - التأمينِ على الأشياء. 3 - التأمينِ للمسئولية. خامسًا: ينقسم من حيث مردوده إلى: 1 - تأمينٍ تعويضيٍّ. 2 - تأمينٍ غيرِ تعويضيٍّ. 3 - تأمينٍ مزدوجٍ. سادسًا: ينقسم من حيث قصد إنشائه إلى: 1 - تأمينٍ تجاريٍّ. 2 - تأمينٍ غيرِ تجاري؛ وتحت غيرِ التجاريِّ أنواعٌ، منها: أ - التأمينُ التبادليُّ. ب - التأمينُ الذاتيُّ. ج - التأمينُ التعاونيُّ. د - التأمينُ التبادليُّ التعاونيُّ. هـ - التأمينُ الاجتماعيُّ. سابعًا: ينقسم من حيث المنتفع به إلى: 1 - التأمينِ لمصلحةِ النفسِ. 2 - التأمينِ لمصلحةِ الغيرِ. 3 - التأمينِ المشترَكِ (¬1). ¬

_ (¬1) الوسيط، لعبد الرزاق السنهوري، (2/ 1096)، (2/ 1156) التأمين د. غريب الجمال، (40/ 117)، التأمين الاجتماعي، د. عبد اللطيف آل محمود، (ص 39 - 48).

المطلب الثالث: خصائص عقد التأمين المعاصر

المطلب الثالث: خصائص عقد التأمين المعاصر: أولًا: عقدُ التأمينِ التجاريِّ: أكثر الدراسات تتناول خصائص عقد التأمين التجاري دون التبادلي أو الاجتماعي؛ وذلك لأنه النوع الذي تنظمه القوانين، وإدراك خصائص التأمين التجاري يعطي فكرة عن طبيعة العقد عمومًا. 1 - فهو عقدٌ رضائيٌّ ينعقد بإيجاب وقبول وبرضا الطرفين. 2 - وهو عقد ملزم للجانبين، حيث يلتزم المؤمِّن بالتعويض عند وقوع الخطر ويلتزم المستأمن بدفع الأقساط. 3 - وهو عقد معاوضة؛ لأن كلا الطرفين يدفع مقابلًا لما يدفعه الآخر. 4 - وهو عقد احتماليٌّ لا يستطيع كلا العاقدين أن يحدد وقت تمام العقد القدرَ الذي يعطى، ولا يتحدد إلا في المستقبل تبعًا لحدوث أمرٍ غيرِ محقَّقِ الحصولِ، أو غيرِ معروفٍ وقتَ حصولِهِ لو كان محقَّقًا. 5 - وهو عقدُ إذعانٍ وخضوع حيث يُعِدُّ شروطَهُ أحدُ العاقدين، وليس أمام الآخر إلا أن يقبل أو يرفض، فلا تفاوض بينهما. 6 - وهو عقد مستمر مع الزمن؛ فالزمن عنصر جوهري فيه؛ لأنه بمروره تُسْتَحَقُّ الأقساط المتتابعة إلى أجل، أو آجال متتابعة (¬1). وعليه فإن القوانين الوضعية لم تختلف في تكييف التأمين التجاري بأنه عقد مدني زمني قائم على التراضي، والمعاوضة، كما أنها اتفقت على أنه عقد احتمالي قائم على ¬

_ (¬1) أحكام التأمين في القانون والقضاء، د. أحمد شرف الدين، جامعة الكويت، ط 1، 1403 هـ، (ص 106 - 114)، عقد التأمين، د. عبد الرزاق فرج، (ص 120 - 121)، التأمين بين الحل والتحريم، د. عيسى عبده، دار الاعتصام، ط 1، (ص 8)، التأمين وأحكامه، د. سليمان الثنيان، دار ابن حزم، ط 1، 1424 هـ، (ص 91 - 95).

ثانيا: التأمين الاجتماعي

الغرر؛ ولذلك خصص القانون المدني المصري الباب الرابع لعقود الغرر؛ فذكر في فصله الأول المقامرة، والرهان، وفي فصله الثالث: عقد التأمين. وهذا التأمين له أنواع كثيرة تشمل التأمين من الأضرار، والتأمين على الأشخاص، وأنه من خلال هذين النوعين يشمل كافة مجالات الحياة العادية والنادرة (¬1). ثانيًا: التأمينُ الاجتماعيُّ: والتأمينُ الاجتماعيُّ هو تأمينٌ إجباريٌّ تقوم به أو تشرف عليه وتعينه الدولة، ضد أخطار معينة، يتعرض لها أصحاب الحرف ونحوهم (¬2). يتفق التأمين الاجتماعي مع التجاري في أكثر الخصائص الجوهرية، ويتميز عنه بأمور، أهمها: 1 - أنه وظيفة اجتماعية، بمعنى أن الحاجة الاجتماعية تقتضيه. 2 - أنه تأمينٌ إجباريٌّ لمن يشملهم النظام. 3 - أنه تأمين مغلق، أي: أنه محدود من حيث نوعية المؤمن لهم، فهو لا يضم تحت لوائه إلا من يدخلون في حسبة النظام، وهم من فئة الناس الذين يكسبون معاشهم بأيديهم. وهو محدود من جهة نوع الحظر المؤمن ضده، مثل: إصابات العمل، والعجز، والبطالة، ونحو ذلك. 4 - أقساطه منخفضة القيمة، ولا يختص المؤمَّنُ له وحده بتسديدها، بل إنه قد يسهم صاحب العمل أو الدولة، أو هما معًا، في تسديد هذه الأقساط (¬3). ثالثًا: التأمينُ التبادليُّ: وهو اتحاد غير مقيد يقوم به المؤمن لهم أنفسهم، فيتعهدون بدفع اشتراكات دورية، ¬

_ (¬1) بحث حكم التعامل أو العمل في شركات التأمين خارج ديار الإسلام، د. علي محيي الدين القره داغي، ضمن بحوث الدورة الثامنة عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء في 1429 هـ، 2008 م. (¬2) التأمين وأحكامه، د. سلمان الثنيان، (ص 81). (¬3) التأمين وأحكامه، د. سليمان الثنيان، (ص 96، 97) التأمين الاجتماعي، د. عبد اللطيف آل محمود، (ص 70 - 73).

المطلب الرابع: حكم التأمين داخل ديار الإسلام

وفق جدول متفق عليه؛ لتغطية الخسائر التي يتعرض لها بعضهم في الحالات المعينة المحتمل حدوثها في المستقبل، وتوزع هذه الخسائر على جميع الأعضاء دوريًّا (¬1). التأمينُ التبادليُّ يتفق أيضاً مع التجاري في عامة الخصائص، إلا أن الهيئة القائمة على كل منهما مختلفة، فبينما يقوم التأمين التجاري على شركات مساهمة تبحث عن الربح المباشر فحسب، تقوم جماعات متعاونة على التأمين التبادلي، بقصد تخفيض القسط إلى أقل قدر ممكن، وعليه: فإنه لا يسعى في هذا النوع إلى الربح المباشر، وإنما إلى خفض الأقساط المدفوعة (¬2). ويختلف التأمينُ الاجتماعيُّ عن التبادليِّ التعاونيِّ في أن الأخير عقد مالي بين الأفراد، اختياري في كل أحواله، ومن الأنظمة الخاصة فهو أقلُّ اتساعًا، ويموله أعضاؤه فحسب (¬3). المطلب الرابع: حكمُ التأمين داخلَ ديار الإسلام: لا تكاد توجد نازلة معاصرة حظيت بما حظي به التأمين من عناية واهتمام، والمسألة في أصلها قد تعرَّض لها المتأخرون من الفقهاء. ومن أبرز الجهات التي عُنِيَتْ ببحثه ودرسه في الواقع المعاصر: - المحكمةُ الشرعيَّةُ الكبرى بمصر: حيث أصدرت في 1906 م حكمًا بأن دعوى المطالبة بمبلغ التأمين على الحياة دعوى غير صحيحة شرعًا؛ لاشتمالها على ما لا تجوز المطالبة به شرعًا. وأيدت المحكمة العليا الشرعية في الاستئناف بصحة القرار الصادر من المحكمة ¬

_ (¬1) التأمين والشرع الإسلامي، لمحمد مصلح الدين، (ص 189). (¬2) التأمين وأحكامه، د. سليمان الثنيان، (ص 98 - 99). (¬3) التأمين الاجتماعي، د. عبد اللطيف آل محمود، (ص 78).

الكبرى، ورفض الاستئناف (¬1). وفي نفس العام 1906 م أخرج مفتي الديار المصرية الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي رسالته في أحكام السوكورتاه، والتي قرر فيها فساد عقد التأمين، وأن سبب فساده يعود إلى الغرر والخطر، وما فيه من معنى القمار. وكذا صدر قرار المجلس الأعلى للأوقاف برفض التأمين على الأعيان الموقوفة، ومن هؤلاء العلماء: الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر، والشيخ حسونة النواوي شيخ الأزهر، والشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، والشيخ بكري الصدفي مفتي الديار المصرية، والشيخ محمد نجاتي الحنفي مفتي ديوان الأوقاف (¬2). وفي 15 يناير 1925 م أفتى الشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي الديار المصرية بأن عمل شركات التأمين على الوجه المبين في السؤال غير مطابق لأحكام الشريعة الإسلامية (¬3). وفي 24/ 4/ 1968 م أصدرت لجنة الفتوى بالأزهر الشريف برئاسة الشيخ محمد عبد اللطيف السبكي الحنبلي فتواه المفصلة بحرمة التأمين التجاري بكل أنواعه (¬4). وفي خلال ذلك بدأ يتطرق الخلاف، وتظهر فتاوي هنا وهناك بالجواز لبعض أنواعه، ورأى كثيرون أهمية درسه جماعيًّا والإفتاء فيه مجمعيًّا. وعقدت لدرسه مجامع علمية، وندوات ومؤتمرات علمية، وقد تمخضت هذه المداولات العلمية عن ثلاثة أراء: ¬

_ (¬1) مجلة الأحكام الشرعية، السنة السادسة، (ص 83) وما بعدها. (¬2) مجلة المحاماة الشرعية، السنة الثالثة، (ص 597). (¬3) بحث التأمينات، للشيخ محمد أحمد فرج السنهوري، ضمن بحوث اقتصادية وتشريعية للمؤتمر السابع بمجمع البحوث الإسلامية عام 1972 م، (ص 163 - 164). (¬4) التأمين الإسلامي دراسة تأصيلية فقهية، د. علي محيي الدين القرة داغي، دار البشائر، بيروت، ط 2، 1426 هـ، (ص 151).

تحرير محل النزاع

الرأي الأول: حرمة عقود التأمينِ جميعها (¬1). الرأي الثاني: أنها مباحة شرعًا بشرط خلوها عن الربا (¬2). الرأي الثالث: تحريم بعض العقود كالتأمين التجاري، وإباحة بعضها كالتأمينِ التعاونيِّ (¬3). ومن أهم المجامع العلمية التي درست الموضوع ما يلي: 1 - أسبوع الفقه الإسلامي ومهرجان ابن تيمية المنعقد بدمشق من 16 - 21 شوال 1380 هـ. 2 - المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية في عام 1385 هـ - 1965 م. 3 - ندوة التشريع الإسلامي المنعقدة بدعوة الجامعة الليبية في الفترة من 23 - 28 ربيع أول 1392 هـ - 1972 م. 4 - المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي الذي دعت إليه جامعة الملك عبد العزيز بجدة، والمنعقد بمكة من 21 - 26 صفر 1396 هـ. 5 - مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في دورته العاشرة المنعقدة بالرياض في 4/ 4/ 1397 هـ. 6 - مجمع الفقه الإسلامي في دورته الأولى في 10 شعبان 1398 هـ. 7 - مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمرِ الإسلاميِّ في دورة انعقاد مؤتمرِهِ الثاني بجدَّة من 10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ. تحرير محل النزاع: فكرة التأمين ضد المخاطر ليست مرفوضة في ذاتها، وبالنفس حاجة فطرية للبحث ¬

_ (¬1) ومنهم من ذكرنا من العلماء آنفًا. (¬2) ومنهم: الشيخ علي الخفيف في بحثه: التأمين، وهو منشور في مجلة الأزهر ح 8 سنة 37، 1966 م، (ص 480)، والشيخ مصطفى الزرقا في رسالة: عقد التأمين وموقف الشريعة منه، دمشق، ط 1، 1962 م، (ص 29)، والشيخ عبد الوهاب خلاف، صحيفة لواء الإسلام، رجب 1954 م، وغيرهم. (¬3) وعلى هذا جمهور المعاصرين والمجامع العلمية.

قرار المجمع الفقهي الإسلامي بشأن التأمين

عن الأمن والأمان، والأصل أن يتحقق هذا المطلب من غير مخالفة للشرع المطهر. فإذا اشتمل هذا العقد على غرر منهي عنه، أو جهالة فاحشة لا تغتفر، أو تضمَّن قمارًا، أو رهانًا، أو اشتمل على الربا بنوعيه؛ ربا الفضل، أو ربا النساء؛ فإن ذلك كله يعدُّ أكلًا للأموال بطريقة محرمة، فلا يجوز ابتداءً (¬1). وقد ادُّعي كل ذلك في عقد التأمين التجاري بصورته الراهنة. فإذا أمكن تنقية أو استبدال ما كان سببًا لتطرق التحريم إليه، فقد تمهد السبيل للقول بجوازه. قرار المجمعِ الفقهيِّ الإسلاميِّ بشأن التأمين: تَقَدَّم أن المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الأولى بمكة المكرمة بمقر رابطة العالم الإسلاميِّ وبتاريخ 10 شعبان 1398 هـ، نظر في موضوع التأمين بأنواعه، بعد مدارسة علمية للبحوث المقدمة في الموضوع، وتداول الرأي بين علمائه قرر بالإجماع -عدا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا- تحريم التأمينِ التجاريِّ بجميع أنواعه، سواء أكان على النفس، أو البضائع التجارية، أو غير ذلك، وانتهى إلى جواز التأمينِ التعاونيِّ بالإجماع. وفيما يلي نص القرار بطوله لتضمنه أدلة القائلين بالمنع، ومناقشة أدلة القائلين بالجواز، والرد عليها بما يغني عن طرح المسألة طرحًا جديدًا. نص القرار: " أما بعد: فإن مجمعَ الفقهِ الإسلاميِّ قد نظر في موضوع التأمين بأنواعه المختلفة بعد ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك، وبعد ما اطلع أيضاً على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة المنعقدة بمدينة الرياض ¬

_ (¬1) التأمين الإسلامي، د. علي محيي الدين القره داغي، (ص 161).

تقرير اللجنة المكلفة بإعداد قرار مجلس المجمع حول التأمين

بتاريخ 4/ 4/ 1397 هـ من التحريم للتأمين بأنواعه. وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر المجلس بالأكثرية: تحريم التأمين بجميع أنواعه، سواء كان على النفس، أو البضائع التجارية، أو غير ذلك من الأموال. كما قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء من جواز التأمين التعاوني بدلًا من التأمين التجاري المحرم، والمنوه عنه آنفًا، وعهد بصياغة القرار إلى لجنة خاصة. تقرير اللجنة المكلفة بإعداد قرار مجلس المجمع حول التأمين: بناءً على قرار مجلس المجمع المتخذ بجلسة الأربعاء 14 شعبان 1398 هـ، المتضمن تكليف كل من أصحاب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد محمود الصواف، والشيخ محمد ابن عبد الله السبيل بصياغة قرار مجلس المجمع حول التأمين بشتى أنواعه وأشكاله. وعليه فقد حضرت اللجنة المشار إليها، وبعد المداولة أقرت ما يلي: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فإن المجمعَ الفقهيَّ الإسلاميَّ في دورته الأولى المنعقدة في 10 شعبان 1398 هـ، بمكة المكرمة بمقر رابطة العالمِ الإسلاميِّ نظر في موضوع التأمين بأنواعه، بعد ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك، وبعد ما اطلع أيضاً على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة بمدينة الرياض، بتاريخ 4/ 4/ 1397 هـ، بقرار رقم (55) من التحريم للتأمين التجاري بأنواعه. وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر مجلس المجمعِ الفقهيِّ بالإجماع -عدا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا- تحريم التأمينِ التجاريِّ بجميع أنواعه، سواء كان على النفس، أو البضائع التجارية، أو غير ذلك؛ للأدلة الآتية: الأول: عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية المشتملة على الغرر

الفاحش؛ لأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي، أو يأخذ، فقد يدفع قسطًا، أو قسطين، ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم به المؤمِّن، وقد لا تقع الكارثة أصلًا، فيدفع جميع الأقساط، ولا يأخذ شيئًا، وكذلك المؤمَّن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي ويأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده، وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن بيع الغرر (¬1). الثاني: عقد التأمين التجاري ضرب من ضروب المقامرة؛ لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية، ومن الغرم بلا جناية أو تسبب فيه، ومن الغُنم بلا مقابل أو بمقابل غير مكافئ فإن المستأمن قد يدفع قسطًا من التأمين، ثم يقع الحادث، فيغرم المؤمِّن كلَّ مبلغ التأمين، وقد لا يقع الخطر، ومع ذلك يغنم المؤمِّن أقساط التأمين بلا مقابل، وإذا استحكمت فيه الجهالة كان قمارًا، ودخل في عموم النهي عن الميسر في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]، والآية بعدها. الثالث: عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنساء، فإن الشركة إذا دفعت للمستأمِن، أو لورثته، أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها، فهو ربا فضل، والمؤمِّن يدفع ذلك للمستأمِن بعد مدة، فيكون ربا نساء، وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نساء فقط، وكلاهما محرم بالنص والإجماع. الرابع: عقد التأمين التجاري من الرهان المحرم؛ لأن كلًّا منهما فيه جهالة وغرر ومقامرة، ولم يبح الشرع من الرهان إلَّا ما فيه نصرة للإسلام، وظهور لأعلامه بالحجة والسنان، وقد حصر النبي - صلى الله عليه وسلم - رخصة الرهان بعوض في ثلاثة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا سبق إلا في خُفٍّ، أو حافرٍ، أو نصلٍ" (¬2) وليس التأمين من ذلك، ولا شبيهًا به فكان محرمًا. ¬

_ (¬1) أخرجه: مسلم، كتاب البيوع، باب: بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر، (1513)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) سبق تخريجه.

الخامس: عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، والأخذ بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرم؛ لدخوله في عموم النهي في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. السادس: في عقد التأمين التجاري الإلزام بما لا يلزم شرعًا، فإن المؤمِّن لم يحدث الخطر منه، ولم يتسبب في حدوثه، وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمِن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفعه المستأمِن له، والمؤمِّن لم يبذل عملًا للمستأمِن فكان حرامًا. وأما ما استدل به المبيحون للتأمين التجاري مطلقًا، أو في بعض أنواعه فالجواب عنه ما يلي: 1 - الاستدلال بالاستصلاح غير صحيح؛ فإن المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام: - قسم شهد الشرع باعتباره فهو حجة. - وقسم سكت عنه الشرع فلم يشهد له بإلغاء ولا اعتبار فهو مصلحة مرسلة، وهذا محل اجتهاد المجتهدين. - والقسم الثالث ما شهد الشرع بإلغائه. وعقود التأمين التجاري فيها جهالة وغرر وقمار وربا، فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه؛ لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة. 2 - الإباحة الأصلية لا تصلح دليلًا هنا؛ لأن عقود التأمين التجاري قامت الأدلة على مناقضتها لأدلة الكتاب والسنة، والعمل بالإباحة الأصلية مشروط بعدم الناقل عنها، وقد وجد فبطل الاستدلال بها. 3 - "الضرورات تبيح المحظورات" لا يصح الاستدلال به هنا؛ فإن ما أباحه الله من طرق كسب الطيبات أكثر أضعافًا مضاعفة مما حرَّمه عليهم، فليس هناك ضرورة

معتبرة شرعًا تُلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين. 4 - لا يصح الاستدلال بالعرف؛ فإن العرف ليس من أدلة تشريع الأحكام، وإنما يبنى عليه في تطبيق الأحكام، وفهم المراد من ألفاظ النصوص، ومن عبارات الناس في أيمانهم وتداعيهم وإخبارهم وسائر ما يحتاج إلى تحديد المقصود منه من الأفعال والأقوال، فلا تأثير له فيما تبين أمره وتعين المقصود منه، وقد دَلَّتِ الأدلة دلالةً واضحة على منع التأمين، فلا اعتبار به معها. 5 - الاستدلال بأن عقود التأمين التجاري من عقود المضاربة، أو في معناه غير صحيح؛ فإن رأس المال في المضاربة لم يخرج عن ملك صاحبه، وما يدفعه المستأمِن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسبما يقضي به نظام التأمين، وأن رأس مال المضاربة يستحقه ورثة مالكه عند موته، وفي التأمين قد يستحق الورثة -نظامًا- مبلغَ التأمين، ولو لم يدفع مورِّثُهم إلَّا قسطًا واحدًا، وقد لا يستحقون شيئًا إذا جعل المستفيد سوى المستأمِن وورثته، وأن الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسبًا مئوية بخلاف التأمين فربح رأس المال وخسارته للشركة، وليس للمستأمِن إلا مبلغ التأمين، أو مبلغ غير محدد. 6 - قياس عقود التأمين على ولاء الوالاة -عند من يقول به- غير صحيح؛ فإنه قياس مع الفارق، ومن الفروق بينهما أن عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة، بخلاف عقد ولاء الموالاة، فالقصد الأول فيه التآخي في الإسلام والتناصر، والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال، وما يكون من كسب مادي، فالقصد إليه بالتبع. 7 - قياس عقد التأمين التجاري على الوعد الملزِم -عند من يقول به- لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق، ومن الفروق: أن الوعد بقرض، أو إعارة، أو تحمل خسارة -مثلًا- من باب المعروف المحض،

فكان الوفاء به واجبًا، أو من مكارم الأخلاق، بخلاف عقود التأمين، فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح المادي، فلا يغتفر فيها ما يغتفر في التبرعات من الجهالة والغرر. 8 - قياس عقود التأمين التجاري على ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب -قياس غير صحيح؛ لأنه قياس مع الفارق أيضًا، ومن الفروق: أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض بخلاف التأمين؛ فإنه عقد معاوضة تجارية يقصد منها أولًا الكسب المادي، فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه، والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع ما دام تابعًا غير مقصود إليه. 9 - قياس عقود التأمين التجاري على ضمان خطر الطريق لا يصح؛ فإنه قياس مع الفارق، كما سبق في الدليل قبله. 10 - قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد غير صحيح؛ فإنه قياس مع الفارق أيضًا؛ لأن ما يعطى في التقاعد حق التزم به ولي الأمر باعتباره مسئولًا عن رعيته، وراعى في صرفه ما قام به الموظف من خدمة الأمة، ووضع له نظامًا راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظر إلى مظنة الحاجة فيهم، فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمِنين، والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة؛ لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر حقًّا الْتُزِمَ به من حكومات مسئولة عن رعيتها، وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه، وتعاونًا معه جزاء تعاونه ببدنه، وفكره وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة. 11 - قياس نظام التأمين التجاري وعقوده على نظام العاقلة لا يصح؛ فإنه قياس مع

الفارق، ومن الفروق: أن الأصل في تحمل العاقلةِ الديةَ الخطأ وشبه العمد ما بينهم وبين القاتل خطأً أو شبهَ عمدٍ من الرحم والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون وإسداء المعروف، ولو دون مقابل، وعقود التأمين التجارية استغلالية تقوم على معاوضات مالية محضة لا تَّمُتُّ إلى عاطفة الإحسان، وبواعث المعروف بصلة. 12 - قياس عقود التأمين التجاري على عقود الحراسة غير صحيح؛ لأنه قياس مع الفارق أيضًا، ومن الفروق: أن الأمان ليس محلًّا للعقد في المسألتين، وإنما محله في التأمين الأقساط ومبلغ التأمين، وفي الحراسة الأجرة وعمل الحارس، أمَّا الأمان فغاية ونتيجة، وإلا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس. 13 - قياس التأمين على الإيداع لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق أيضًا، فإن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه، بخلاف التأمين؛ فإن ما يدفعه المستأمِن لا يقابله عمل من المؤمِّن يعود إلى المستأمِن بمنفعة، إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة، وشرط العوض عن الضمان لا يصح، بل هو مفسد للعقد، وإن جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جُهِلَ فيها مبلغ التأمين، أو زمنه، فاختلف عن عقد الإيداع بأجر. 14 - قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البزِّ مع الحاكَةِ لا يصح، والفرق بينهما أن المقيس عليه من التأمين التعاوني وهو تعاون محض، والمقيس تأمين تجاري وهو معاوضات تجارية فلا يصح القياس". انتهى قرار المجمع. وكذا انتهى قرارُ مجمعِ الفقهِ الإسلاميِّ الدوليِّ إلى "أن عقدَ التأمينِ التجاريِّ ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركاتُ التأمينِ التجاريِّ عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد؛ ولذا فهو حرام شرعًا" (¬1). ¬

_ (¬1) مجلة المجمع، العدد الثاني، (2/ 545).

وأما التأمين التعاوني فله صورتان

وأمَّا التأمينُ التعاونيُّ فله صورتان: الصورة الأولى: تتمثل في صورة تعاون مجموعة من الأشخاص من ذوي حرفة واحدة يتعرضون لنوع من المخاطر؛ فيتعاونون فيما بينهم على التعويض عن أي خطر يقع على أحدهم من اشتراكاتهم. فهذه الصورة إذا لم يخالطها أمر غير مشروع من الربا ونحوه فهي حلال، وقد صدر بذلك قرار من مجمعِ البحوثِ الإسلاميَّةِ في مؤتمرِهِ الثاني بالقاهرة عام 1385 هـ، ومن المجامع الفقهية الأخرى. الصورة الثانية: التأمينُ التعاونيُّ المُرَكَّبُ، وهي أن تقوم شركة متخصصة بأعمال التأمين التعاوني، يكون جميع المستأمِنين (حَمَلَةُ الوثائقِ) مساهمين في هذه الشركة، وتتكون منهم الجمعية العمومية، ثم مجلس الإدارة. فالأموال تُجمع من المساهمين، وتُصرف في إدارة الشركة، وفي تعويض كل من يقع عليه الضرر، أو يعطى للمستفيد حسب الاتفاق، والباقي يبقى في رصيد الشركة، وقد يُوَزَّعُ منه شيء عليهم. وهذا النوع منتشر في بعض بلاد الغرب وبخاصة في الدول الإسكندنافية. حكمُ التأمينِ التعاونيِّ: أنه حلال من حيث المبدأ؛ لأن الأموال منهم وإليهم، وأن العلاقة بين المساهمين تقوم على التعاون والتبرع، وليس التجارة، والاسترباح من عمليات التأمين، إلا إذا صاحبت هذه الشركات محرمات، مثل: التعامل بالربا. ومن التأمينِ التعاونيِّ: نظامُ المعاشاتِ والضمانِ الاجتماعيِّ، وتأمينُ الجمعياتِ التعاونيةِ. وقد قرر مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف في مؤتمرِهِ الثاني عام 1385 هـ، بخصوصه ما يلي:

1 - التأمين الذي تقوم به جمعيات تعاونية يشترك فيها جميع المستأمِنين لتؤدي لأعضائها ما يحتاجون إليه من معونات وخدمات أمرٌ مشروعٌ، وهو من التعاون على البِرِّ. 2 - نظامُ المعاشاتِ الحكوميُّ، وما يشبهه من نظام الضمانِ الجماعيِّ المتبع في بعض الدول، ونظام التأمينات الاجتماعية المتبع في دول أخرى كل هذا من الأعمال الجائزة. وهذا ما صدر به قرار رقم 9 (9/ 2) من مجمع الفقه الإسلاميِّ الدوليِّ التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ومن المجمع الفقهيِّ الإسلاميِّ التابع لرابطة العالم الإسلاميِّ، وهيئة كبار العلماء (¬1). ¬

_ (¬1) التأمين الإسلامي، لعلي القره داغي، (ص 197)، وما بعدها.

المطلب الخامس: حكم التأمين خارج ديار الإسلام

المطلب الخامس: حكم التأمين خارج ديار الإسلام: تصوير المسألة وتكييفها: عقد التأمين عقد مستحدث قد ظهر في العصور المتأخرة وجرى تقنين العمل به في أوروبا وأمريكا، وعنهما انتقل إلى البلاد الإسلامية والعربية في القرن الثامن عشر الميلادي، ثم عَمَّت وانتشرت في مختلف البلاد الإسلامية في القرن العشرين، وفرضت المسألة نفسها على العلماء والفقهاء لبيان رأي الشرع فيها، والاجتهاد في تكييفها، وتحديد صفتها باعتبارها من المستجدات التي لم يَرِدْ فيها نص شرعي، ولم يصل إليها اجتهاد الأئمة السابقين في صيغتها الجديدة (¬1). وما من شك أن المسلم في كل زمان ومكان مأمور بطلب مرضاة ربه، ومعرفة أحكام دينه في مستجدات عصره، وأنه بكل حال متعبد بالوسيلة والغاية معًا. وإذا ثبت لدى المسلم حرمة التأمينِ التجاريِّ بصوره المختلفة، فإنه سيمتنع عنه، ويولي وجهه شطر البدائل الشرعية من التأمين التعاونيِّ التكافليِّ بأنواعه المختلفة، والتي تتضمن تأمينًا على الأشخاص والأشياء، والمسئولية والتبعة. والمسلم الذي يعيش ببلاد الأقليات -ولا سيما في العالم الغربي- يعيش في عصر وزمان ومكان أصبح التأمين فيه "موضة" أو "تقليعة" العصر (¬2). تأصيل الموقف من التأمين خارجَ ديارِ الإسلامِ: لقد استقرَّ القول بتحريم التأمينِ التجاريِّ في المجامع الفقهية المنعقدة خاصة لبحثه، ¬

_ (¬1) موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة والاقتصاد الإسلامي، د. علي أحمد السالوس، مكتبة دار القرآن، بلبيس، دار الثقافة، الدوحة، ط 7، (ص 370 - 371). (¬2) التأمين وصوره المنتشرة في المجتمع الأمريكي، د. محمد الزحيلي، ضمن بحوث المؤتمر الثالث لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، والمنعقد في نيجريا، جمادى الآخرة 1426 هـ، (ص 578).

أو المجامع الدولية، وأمَّا ما يتعلق بجريانه في بلاد الغرب وخارج ديار الإسلام فقد تَصَدَّى لبيانِ حُكْمِهِ طائفة من العلماء وتناولته بعض المجامع المعنية بالإفتاء في الشأن الغربي وبخصوص الأقليات؛ كالمجلس الأوروبيِّ للإفتاء والبحوث، ومجمعِ فقهاءِ الشريعةِ بأمريكا. وقبل عرض هذه القرارات وما تضمنته من توجهات فقهية، ينبغي التنبيه على خصوصية تتعلق بتلك المجتمعات التي ترعى الإنسان وتدفع عنه الضرر المادي وتحميه منه بوسائلَ فعَّالةٍ. فلو أن فردًا أو جمعية أو هيئة إسلامية قامت -مثلًا- بإنشاء مدرسة أو افتتاح حضانة للأطفال فوقع تقصير ما أدى إلى إصابة طفل أو تلميذ، فرفع وليه دعوى قضائية تعويضية فسوف يكون التعويض باهظًا بما يكفي لإغلاق هذه المدرسة، أو المنشأة التي تحتاجها الأقلية في بلاد الغربة، فإن لم تكن تلك المنشأة مرتبطة بعقد تأمين يقيها أو يحميها؛ فإنها لن تلبث أن تواجه مشاكل لا طاقة لها بها. فالعلاجُ الطبيُّ من خلال شركات التأمينِ الصحيِّ، سواء أكان ذلك من خلال الدولة، أو من خلال شركات تأمين صحي عملاقة. وهنالك التأمين على الحياة، وتأمين التقاعد، وتأمين الممتلكات عقارية أو منقولة، في أنواع كثيرة يصعب حصرها ويطول استقصاؤها. ومن هذه الأنواع: ما هو تجاريٌّ اختياريٌّ. ومنها: ما هو تجاريٌّ إجباريٌّ، يشمل المقيم والمتجنس، بل والسائح أحيانًا في بعض المجالات. وهناك أنواع من التأمين ليست إجبارية، ولكن الحاجة تمسُّ إليها. كما أن هناك عقودًا شرعيةً صحيحةً يُشْتَرَطُ للدخول فيها تأمينٌ معين بشكل لا يتأتَّى العقد إلا مع هذا الدخول والاشتراك، فوجود التأمين تبعيٌّ لا أصليٌّ، كما في عقود شراء السيارات، أو الأجهزة الكهربية، والتأمين على البضائع لدى شرائها، وطلب

أولا: سلمت الفتاوي المجمعية بمراعاة قرارات المجامع الفقهية في التأمين في ديار الإسلام، وجواز التأمين التعاوني، ومن ذلك

شحنها إلى المشتري، ونحو هذا. فهل هذه المسائل في المنع سواء، بناءً على حرمة التأمين التجاري، أم هنالك باب للترخيص بالحاجةِ الماسةِ، وتقديرِ ظروفِ الحياة التي يعيشها المسلم في ديار الغرب اليوم؟ لا شك أن هذه المسألة تبحث في أثر الحاجة العامة في الترخيص، وكذا رعاية قواعد الضرورات وأثرها في إباحة المحرمات. وعليه: فإن كثيرًا من هذه الجهات ببلاد الأقليات الإسلامية تبدو محتاجة -بشكل ماسٍّ ومباشر- للتأمين التجاري في بلاد الغرب بشكل خاص، ومع ندرة الشركات الإسلامية للتأمين يتحقق تنزيل الحاجة منزلة الضرورة في إباحة ما يحرم تحريمَ الوسائلِ، لا المقاصدِ، وما كانت حرمته ظنية لا قطعية، ونحو ذلك كما سبق بيانه. وفيما يلي تأصيل للحكم الشرعيِّ في التأمينِ خارجَ ديارِ الإسلامِ من خلال مدارسة قرارات المجامع الفقهية والبحوث العلمية للمشايخ المعاصرين: أولًا: سلَّمت الفتاوي المجمعية بمراعاة قرارات المجامع الفقهية في التأمين في ديار الإسلام، وجواز التأمينِ التعاونيِّ، ومن ذلك: 1 - قرار المجلس الأوروبي للإفتاء: وفيه: ". . . مع مراعاة ما ورد في قرارات بعض المجامع الفقهية من حرمة التأمين التجاري الذي يقوم على أساس الأقساط الثابتة، دون أن يكون للمستأمن الحق في أرباح الشركة، أو التحمل لخسائرها، ومشروعية التأمين التعاوني الذي يقوم على أساس التعاون المنظم بين المستأمنين، واختصاصهم بالفائض -إن وجد- مع اقتصار دور الشركة على إدارة محفظة التأمين واستثمار موجوداتها" (¬1). ¬

_ (¬1) قرار المجلس بشأن التأمين وإعادة التأمين، عن كتاب قرارات وفتاوي المجلس الأوروبي للإفتاء، المجموعتان الأولى والثانية، (ص 154).

ثانيا: لم تمل المجامع الفقهية المعاصرة إلى الأخذ بجواز عقود التأمين التجاري خارج ديار الإسلام؛

2 - قرار مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا: وفيه: "إن التأمينَ التجاريَّ الذي يقوم على وجود شركة تأمين تقوم بتحصيلِ الأقساطِ ودفعِ التعويضاتِ وأيلولَةِ الفائضِ التأمينيِّ (الأقساط المحصلة - التعويضات) وعائد استثماره لِمُلَّاكِ الشركة ينطوي على شبهات شرعية عديدة، منها: الغرر، وأكل أموال الناس بالباطل، والربا، فضلًا عن أن هذه الشركات تستثمر أموالها بطرق محرمة شرعًا، كالإيداع في البنوك بفوائدَ، والإقراض للغير بفوائدَ، وهذا ما دعا جمهورَ الفقهاء المعاصرين إلى القول بعدم جواز التأمينِ التجاريِّ شرعًا. إن التأمينَ التكافليَّ الذي تتولاه شركات التأمين الإسلامية القائمة والتي تتزايد وتنتشر من الأمور المتفق على إباحتها شرعًا؛ لقيامها على التكافل والتبرع، ويوصي المجمع بتشجيع هذه الشركات والتعامل معها، والعمل بكل السبل على شيوع انتشارها" (¬1). وما قررته المجامع الفقهية قرره العلماء المعاصرون في بحوث ودراسات منفردة كثيرة. ثانيًا: لم تَمِلِ المجامعُ الفقهية المعاصرة إلى الأخذ بجواز عقود التأمين التجاري خارج ديار الإسلام؛ استنادًا إلى ما ذكر في المذهب الحنفي من جواز أخذ مال الكافر الحربي بعقد فاسد ولو بالربا، مع ما سبق من استناد بعضهم إليه في مسألة الاقتراض بالربا لشراء المساكن خارج ديار الإسلام مع التعويل أيضًا على تنزيل الحاجة منزلة الضرورة. على أن مسألة التأمين قد بحثها الفقيه الحنفي ابن عابدين في غير دار الإسلام، ويعتبر بذلك من أقدم الفقهاء مناقشةً لها وبيانًا لحكمها؛ حيث قال في حاشيته: "وبما قررنا -من عدم جواز أخذ مال الكافر الحربي بعقد فاسد، وجوازه في دار الحرب برضاه، ولو بربا- يظهر جواب ما كثر السؤال عنه في زمننا، وهو أنه: ¬

_ (¬1) قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني للمجمع، (ص 89).

جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركبًا من حربي يدفعون له أجرته، ويدفعون أيضًا مالًا معلومًا لرجل حربي مقيم في بلاده، ويسمى ذلك المال (سوكرة) على أنه مهما هلك من المال الذي في المركب بحرق أو غرق أو نهب أو غيره، فذلك الرجل ضامن له بمقابلة ما يأخذه منهم، وله وكيل عنه مستأمَن في دار يقيم في بلاد السواحل الإسلامية بإذن السلطان يقبض من التجار مال (السوكرة)، وإذا هلك من مالهم في البحر شيء يؤدي ذلك المستأمَن للتجار بدله تمامًا". ثم قال: "والذي يظهر لي أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله؛ لأن هذا التزام ما لم يلزم. . . ". ثم بعد مناقشةٍ جادَّةٍ لعدة أفكار حول هذا الموضوع قال: "فاغنمه فإنك لا تجده في غير هذا الكتاب" (¬1). وقد ناقش ابن عابدين بعض الشبهات التي أثيرت، فقال: "فإن قلتَ: إن المودع إذا أخذ أجرة على الوديعة يضمنها إذا هلكت؟ قلتُ: مسألتنا ليست من هذا القبيل؛ لأن المال ليس في يد صاحب السوكرة، بل في يد صاحب المركب، وإن كان صاحب السوكرة هو صاحب المركب يكون أجيرًا مشتركًا قد أخذ أجرة على الحفظ وعلى الحمل، وكل من المودع والأجير المشترك لا يضمن ما لا يمكن الاحتراز عنه كالموت والغرق، ونحو ذلك. فإن قلتَ: سيأتي قبيل "باب كفالة الرجلين" قال لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، فسلك وأخذ ماله، لم يضمن. ولو قال: إن كان مخوفًا وأخذ مالك فأنا ضامن، ضمن. وعلله الشارح هناك بأنه ضمن الغارُّ صفة السلامة للمغرور نصًّا، أي: بخلاف ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين، (6/ 280).

الأولى؛ فإنه لم ينصَّ على الضمان بقوله: فأنا ضامن. وفي جامع الفصولين: الأصل أن المغرور إنما يرجع على الغارِّ لو حصل الغرور في ضمن المعاوضة، أو ضَمِنَ الغارُّ صفةَ السلامة للمغرور، فصار كقول الطحَّان لرب البُرِّ: اجعله في الدلو، فجعله فيه، فذهب من النقب إلى الماء، وكان الطحَّان عالمًا به يضمن؛ إذ غرَّه في ضمن العقد وهو يقتضي السلامة. قلتُ: لا بد في مسألة التغرير من أن يكون الغارُّ عالمًا بالخطر، كما يدلُّ عليه مسألة الطحان المذكورة، وأن يكون المغرور غيرَ عالمٍ؛ إذ لا شك أن رب البُرِّ لو كان عالمًا بنقب الدلو يكون هو المضيع لماله باختياره، ولفظ المغرور ينبئ عن ذلك لغةً؛ لما في القاموس: غرَّه غرًّا وغرورًا فهو مغرور وغرير، خدعه وأطمعه بالباطل فاغتَرَّ هو. ولا يخفى أن صاحب السوكرة لا يقصد تغرير التجار، ولا يعلم حصول الغرق هل يكون أم لا. وأما الخطر من اللصوص والقطاع فهو معلوم له وللتجار؛ لأنهم لا يعطون مال السوكرة إلا عند شدة الخوف طمعًا في أخذ بدل الهالك، فلم تكن مسألتنا من هذا القبيل أيضًا. نعم قد يكون للتاجر شريك حربي في بلاد الحرب، فيعقد شريكه هذا العقد مع صاحب السوكرة في بلادهم، ويأخذ منه بدل الهالك، ويرسله إلى التاجر. فالظاهر أن هذا يحلُّ للتاجر أخذه؛ لأن العقد الفاسد جرى بين حربيين في بلاد الحرب، وقد وصل إليه مالهم برضاهم، فلا مانع من أخذه. وقد يكون التاجر في بلادهم فيعقد معهم هناك، ويقبض البدل في بلادنا، أو بالعكس. ولا شك أنه في الأولى إن حصل بينهما خصام في بلادنا لا يُقْضَى للتاجر بالبدل، وإن لم يحصل خصام ودفع له البدل وكيله المستأمن هنا يحلُّ له أخذه؛ لأن العقد الذي صدر في بلادهم لا حكم له، فيكون قد أخذ مال حربي برضاه. وأما في صورة العكس -بأن كان العقد في بلادنا والقبض في بلادهم- فالظاهر أنه لا يحل أخذه ولو برضى الحربي؛ لابتنائه على العقد الفاسد الصادر في بلاد الإسلام،

ثالثا: وقع الاتفاق على رعاية الضرورات والحاجات الملجئة والإجبار على التأمين في بلاد الغرب

فيعتبر حكمه، هذا ما ظهر لي في تحرير هذه المسألة" (¬1). وخلاصة ما يدل عليه كلام ابن عابدين: أن عقد التأمين بصورته الراهنة باطلٌ، لكنه إذا وقع في ديار غير الإسلام فإنه يجوز للمسلم أن يأخذ بدل الهالك من الكافر الحربي إذا رضي بناءً على رضاه، وليس على كون العقد صحيحًا، وهذا رأي أبي حنيفة ومحمد في أموال الحربيين في دار الحرب. "ولا شك أن هذه التفرقة بين بلاد الإسلام وغير الإسلام في أحكام المال غير مُسَلَّمَةٍ خالف فيها أبو حنيفة جماهيرَ الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وأبي يوسف، وبعض فقهاء الحنفية. . . الذين أوجبوا على المسلم الالتزام بأحكام الإسلام حيثما كان" (¬2). وعدم تعويل المجلس الأوروبي للإفتاء على هذا التقرير الحنفي يدلُّ على أن المقدم لديهم في فتيا إباحة القروض الربوية للإسكان هو إعمال قواعد الحاجة والتيسير عند المشقات، وبهذا صرح الشيخ القرضاوي في تعقيبه على اعتراض د. البرازي، د. صهيب على الفتيا المذكورة (¬3). ثالثًا: وقع الاتفاق على رعاية الضرورات والحاجات الملجئة والإجبار على التأمين في بلاد الغرب مع التوصية بالسعي الحثيث لإيجاد البدائل الشرعية لهذه المعاملة، وعن هذا عبرت المجامع الفقهية في قراراتها وفتاوي وبحوث العلماء المشاركين فيها: جاء في قرار المجلسِ الأوروبيِّ للإفتاء ما يلي: ". . . فإن هناك حالات وبيئات تقتضي إيجاد حلول لمعالجة الأوضاع الخاصة، وتلبية متطلباتها، ولا سيما حالة المسلمين في أوروبا حيث يسود التأمين التجاري، ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين، (6/ 281 - 282). (¬2) التأمين الإسلامي، د. علي القره داغي، (ص 148). (¬3) في فقه الأقليات، د. يوسف القرضاوي، (ص 179 - 181).

وتشتد الحاجة إلى الاستفادة منه؛ لدرء الأخطار التي يكثر تعرضهم لها في حياتهم المعيشية بكل صورها، وعدم توافر البديلِ الإسلاميِّ (التأمينِ التكافليِّ) وتعسر إيجاده في الوقت الحاضر، فإن المجلس يفتي بجواز التأمينِ التجاريِّ في الحالات التالية وما يماثلها: 1 - حالات الإلزام القانوني، مثل: التأمين ضد الغير على السيارات والآليات والمعدات، والعمال والموظفين (الضمان الاجتماعيُّ، أو التقاعد)، وبعض حالات التأمين الصحي، أو الدراسي بنحوها". 2 - حالات الحاجة إلى التأمين لدفع الحرج والمشقة الشديدة، حيث يُغتفر معها الغرر القائم في نظام التأمينِ التجاريِّ. ومن أمثلة ذلك: 1 - التأمين على المؤسسات الإسلامية: كالمساجد، والمراكز، والمدارس، ونحوها. 2 - التأمين على السيارات والآليات والمعدات والمنازل والمؤسسات المهنية والتجارية؛ درءًا للمخاطر غير المقدور على تغطيتها، كالحريق، والسرقة، وتعطل المرافق المختلفة. 3 - التأمين الصحي تفاديًا للتكاليف الباهظة التي قد يتعرض لها المستأمِن وأفراد عائلته، وذلك إما في غياب التغطية الصحية المجانية، أو بطئها، أو تدني مستواها الفني. ثانيًا: إرجاء موضوع التأمين على الحياة بجميع صوره لدورة قادمة لاستكمال دراسته. ثالثًا: يوصي المجلس أصحاب المال والفكر بالسعي الحثيث لإقامة المؤسسات المالية الإسلامية كالبنوك الإسلامية، وشركات التأمين التكافلي الإسلامي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا (¬1) (¬2). ¬

_ (¬1) خالف عضو المجلس الدكتور محمد فؤاد البرازي هذا القرار بقوله: "أرى جواز التأمين على ما يلزم به القانون، إضافة إلى التأمين التعاوني في حال وجوده" ومنع ما سوى ذلك. (¬2) قرارات وفتاوي المجلس الأوروبي، (ص 154 - 155).

وجاء في قرار مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا ما يلي: ". . . ثالثًا: من حيث عقود التأمين خارجَ ديارِ الإسلامِ: 1 - تجري ممارسة التأمين خارجَ ديارِ الإسلامِ بأسلوب التأمينِ التجاريِّ الذي يرى جمهور الفقهاء المعاصرين عدمَ جوازِهِ شرعًا. 2 - وقد بدأت بعض شركات التأمينِ التجاريِّ تأخذ ببعض أساليب الممارسات التأمينية التي تتبعها شركات التأمين الإسلامية، وخاصة في إصدار وثائق تأمين مع الاشتراك في الأرباح، وإصدار وثائق تأمين مع استرداد المستأمِنِ لما دفعه من أقساط طالما لم يحصل على تعويضات. 3 - مراعاةً لخصوصية حال المسلمين المقيمين خارج ديار الإسلام في ضرورة التزامهم بقوانين الدولة التي يقيمون فيها، وما تقضي به من التأمينِ الإجباريِّ خاصة في تأمينات المسئولية وللحاجة الماسة إلى التأمين على الممتلكات خاصة في حالة التجارة الدولية -يرى المجمع الترخص في تأمين المسلمين المقيمين خارج ديار الإسلام لدى شركات التأمين التجارية في هذه البلاد تيسيرًا على المقيمين بها، ورفعًا للحرج عنهم، وذلك في الأحوال التالية: أ - التأمين الإجباري الذي تُلزِم به النظم والقوانين. ب - ما تشتد إليه الحاجة من أنواع التأمين الأخرى؛ نظرًا لضخامة المسئولية أو التبعات التي تترتب عند وقوع المخاطر وعجز إمكانات الأفراد عن مواجهتها، كالتأمين الصحي ونحوه. على أن يتجه المترخصون قدرَ الإمكان إلى الشركات التي تطبق بعض أساليب التأمين التي تقترب من التأمين التكافلي الذي تباشره شركات التأمين الإسلامية. 4 - يوصي المجلس -للخروج من دائرة التعامل مع شركات التأمين التجارية، وتلبية

لحاجات المسلمين ومطالبهم، وسعيًا نحو الالتزام الكامل بالأحكام الشرعية والإسهام في نشر أحكام وقيم الإسلام- أن تُوَجَّهَ الجهودُ إلى ما يلي: أ - العمل على إنشاء شركات تأمين إسلامية في البلاد التي يقيم بها عدد كبير من المسلمين. ب - إنشاء مكاتب تمثيل لشركات التأمين الإسلامية القائمة في بعض البلاد الإسلامية في مراكز تجمعات المسلمين في الدول غير الإسلامية، وهذا أمر ممكن في ظل اتفاقيات "الجات" الدولية. والله تعالى أعلى وأعلم" (¬1). وإلى هذا مال عدد من العلماء المعاصرين منهم د. علي محيي الدين القره داغي، فقال: "في حالة عدم وجود شركات التكافلِ، أو التأمينِ الإسلاميِّ في البلاد غير الإسلامية فإنه يجوز التعامل مع التأمينِ التجاريِّ في حالتي الضرورة، والحاجة العامة التي تنزل منزلةَ الضرورة، وحتى لا يكون كلامنا عامًّا، فإنني أعتقد أنه يدخل فيهما ما يأتي: 1 - حالة وجود قانون ملزم بأي نوع من أنواع التأمين، صادر من الدولة التي يعيش فيها المسلم، أو يغادر إليها لأجل الرزق، أو العلم، أو نحو ذلك. 2 - حالة ما إذا توقفت على التأمين التجاري: التجارة الخاصة أو العامة. ولذلك أفتت -حسب علمي- جميعُ هيئات الفتوى والرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية داخل العالم الإسلامي بجواز التأمين التجاري في حالة عدم وجود التأمينِ الإسلاميِّ للاعتمادات الخارجية التي تخص الاستيراد والتصدير من الخارج وإليه (¬2). وإلى نفس النتيجة انتهى د. محمد عبد الحليم عمر (¬3). ¬

_ (¬1) قرارات وتوصيات المجمع في المؤتمر الثاني، (ص 89 - 90). (¬2) قرارات وتوصيات المؤتمر الثالث لمجمع فقهاء الشريعة، بحث بعنوان: حكم التأمين الصحي وبعض صوره في المجتمع الأمريكي، د. علي محيي الدين القره داغي، (ص 521). (¬3) بحث التأمين وصوره المنتشرة في المجتمع الأمريكي، د. محمد عبد الحليم عمر، (ص 545 - 546).

الحالة الأولى: أن يكون عقد التأمين تابعا غير مقصود أصالة

وعليه: فإن المقيمين في تلك المجتمعات يجوز لهم الدخول في هذه العقود التأمينية في حالات يمكن تفصيلها على هذا النحو: الحالة الأولى: أن يكون عقد التأمين تابعًا غيرَ مقصودٍ أصالةً: ويُمَثَّلُ له بما يلي: 1 - التأمين الذي تقدمه الشركات لموظفيها على أنه مزية من المزايا التي تعطيها للموظفين. فهذا التأمين جزء من مستحقات متعددة للموظف، ولم يقع عقد الإجارة (الوظيفة) عليه أصالةً. 2 - التأمين على السلع عند شرائها -كالسيارات والأجهزة الكهربائية-، سواء أُفرد بمبلغ مستقلٍّ عن قيمة السلعة، أو لم يُفْرَدْ، بشرط أن يكون التأمين في صفقة واحدة مع شرائه للجهاز. 3 - التأمين على السيارة المستأجرة إذا أمَّن المستأجر على السيارة في عقد الإجارة نفسه، ولو زادت قيمة الأجرة بسبب التأمين. 4 - التأمين على البضائع عند شحنها إذا كانت الشركة الناقلة تقدم خدمة التأمين مع عقد الشحن نفسه. ففي جميع ذلك يجوز الدخول في التأمين، وأخذ العوض عند استحقاقه. وذلك استنادًا على أمرين: أولهما: حادثة بريرة التي اشترط بائعها شرطًا باطلًا، وهو أن يكون الولاء له؛ لذلك ألغى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الشرط، وأبقى العقد صحيحًا، وقال: "ما بال ناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله ليس له،

وإن شرط مائة شرط. . . " (¬1). وثانيهما: قاعدة الأصالة والتبعية التي يدل عليها حديث ابن عمر -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ابتاع عبدًا وله مال، فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع" (¬2). ولهذه الأسباب كانت هيئات الفتوى والرقابة الشرعية تفتي بجواز التأمينِ التجاريِّ للاعتمادات المستندية الخارجية في حالة عدم وجود شركات للتأمينِ التعاونيِّ، أو عدم قدرتها على تحقيق المطلوب. وقد يرد على هذه الأمثلة اعتراضات: الأول: أن الغرر المغتفر هو التابع الذي لا يمكن فصله عن أصله، كما في الثمرة على النخل، أما هنا فالتأمين يمكن فصله عن أصله، فلا يُعَدُّ تابعًا. والجواب: أنه لا يلزم أن يكون التابع مرتبطًا بأصله لا ينفك عنه، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: "من ابتاع نخلًا بعد أن تؤبر، فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع" (¬3)؛ إذ الأصل فصل الثمرة عن النخلة بدون شرط، ومع ذلك جاز بيعها تبعًا لأصلها بالشرط. وهذا يدلُّ على أنه لو اشترط المشتري تأمين السلعة على البائع فهو شرط صحيح إذا كان هذا الشرط مقترنًا بالعقد. والثاني: أن التأمين في الأمثلة المذكورة له وقع في الثمن بخلاف الحمل في البطن، والثمرة في النخل، ونحو ذلك، مما يذكره الفقهاء من صور الغرر المغتفر فإن التابع ليس له ثمن. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب المكاتب، باب: ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطًا ليس في كتاب الله، (2561)، ومسلم، كتاب العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق، (1504)، من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب المساقاة، باب: الرجل يكون له ممر أو شِرب في حائط أو في نخل، (2379)، ومسلم، كتاب البيوع، باب: من باع نخلاً عليها ثمر، (1543). (¬3) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب: من باع نخلًا قد أبرت أو أرضًا مزروعة أو بإجارة، (2204)، ومسلم، كتاب البيوع، باب: من باع نخلًا عليها ثمر، (1543).

الحالة الثانية: إذا مست الحاجة إلى التأمين

والجواب: بعدم التسليم بأن التابع في الأمثلة التي يذكرها الفقهاء ليس له ثمن، بل إن له تأثيرًا في قيمة أصله فالناقة الحامل -بلا شك- أغلى ثمنًا من غيرها؛ ولهذا كان تغليظ الدية في القتل العمد بإيجاب أربعين خلفةً -أي: ناقةً حاملًا- على الجاني. وفي بيع النخل بثمره للمشتري أن يشترط الثمرة، أو لا يشترط، ولا شك أن الثمن يختلف بوجود هذا الشرط من عدمه. والثالث: أن التأمين بذاته محرم بخلاف الحمل والثمرة واللبن ونحوها؛ فإنها مباحة في ذاتها. والجواب: أنه لا فرق بين التأمين وهذه الأشياء المذكورة في هذا الجانب، فالكل إذا أُفْرِدَ بالعقد صار بيعه محرَّمًا (¬1). الحالة الثانية: إذا مسَّتِ الحاجة إلى التأمين: وُيشترط أن تكون الحاجة حقيقية معتبرة، وألَّا يوجد ما يدفعها من بديل شرعي، وينبغي أن تكون الحاجة ليست باليسيرة حتى يتأتى ترخيص. قال النووي: "فرع: الأصل أن بيع الغرر باطل لهذا الحديث، والمراد ما كان فيه غرر ظاهر يمكن الاحتراز منه، فأمَّا ما تدعوا إليه الحاجة، ولا يمكن الاحتراز عنه كأساس الدار، وشراء الحامل مع احتمال أن الحمل واحد أو أكثر، وذكر أو أنثى، وكامل الأعضاء أو ناقصها، وكشراء الشاة في ضرعها لبن، ونحو ذلك فهذا يصح بيعه بالإجماع. ونقل العلماء الإجماع أيضًا في أشياء غررها حقير؛ منها: أن الأُمَّة أجمعت على صحة بيع الجبة المحشوة، وإن لم يُرَ حشوُها، ولو باع حشوَها منفردًا لم يصح، وأجمعوا على جواز إجارة الدار وغيرها شهرًا، مع أنه قد يكون ثلاثين يومًا، وقد يكون تسعة وعشرين، وأجمعوا على جواز دخول الحمام بأجرة، وعلى جواز الشرب من ماء السقاء ¬

_ (¬1) بحث التأمين في أمريكا، د. يوسف الشبيلي، ضمن بحوث المؤتمر الثالث لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، (ص 613 - 614).

بعوض، مع اختلاف أحوال الناس في استعمال الماء، أو مكثهم في الحمام. قال العلماء: مدار البطلان بسبب الغرر، والصحة مع وجوده على ما ذكرناه؛ وهو أنه إذا دعت الحاجة إلى ارتكاب الغرر، ولا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة، أو كان الغرر حقيرًا. . . جاز البيع، وإلَّا فلا. وقد يختلف العلماء في بعض المسائل، كبيع العين الغائبة، وبيع الحنطة في سنبلها، ويكون اختلافهم مبنيًّا على هذه القاعدة، فبعضهم يرى الغرر يسيرًا لا يؤثر، وبعضهم يراه مؤثرًا. والله سبحانه وتعالى أعلم" (¬1). ولهذا؛ فإن هذه الفتوى مبنية على قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة في صورتي الغرر المغتفر في الأصل، وهو ما خَفَّ ودَعَتِ إليه حاجة، وفي صورة المحرم أصلًا، واشتدت وطأة الحاجة، ولم يمكن الاحتراز في حالة التأمين التجاري في أوروبا؛ لفرضه بالقانون، ولمسيس الحاجة المنزلة منزلة الضرورة إليه (¬2). قال الشافعي -رحمه الله-: "وليس يحلُّ بالحاجة محرمٌ إلَّا في الضرورات" (¬3). وقد ذهب بعض العلماء إلى أن مثل هذه الصورة وإن أبيحت إلا أنها مكروهة، وأن الأَولى تجنبُ التعامل مع التأمين التجاري مطلقًا. يقول الدكتور محمد الزحيلي: - يجوز التعامل مع التأمين التجاري عند الضرورة الشرعية التي تهدد دينه ونفسه وعقله ونسله وماله؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات. - يجوز التعامل -مع الكراهة- مع التأمين التجاري عند الحاجة التي تنزل منزلة ¬

_ (¬1) المجموع، للنووي، (9/ 258). (¬2) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، لابن بيه، (ص 392 - 393). (¬3) الأم، للشافعي، (4/ 52).

الضرورة، لرفع المشقة والضيق الذي يلحق المسلم، والأَولى له تحمُّلُ هذا، واجتنابُ التعامل مع التأمين التجاري لمجرد الحاجة (¬1). - كما ذهب الدكتور محمد فؤاد البرازي إلى أنه لا يحلُّ من هذه العقود إلا ما كان إجباريًّا بحكم القانون في تلك الديار، إضافةً إلى التأمين التعاوني في حال وجوده، ومنع ما سوى ذلك (¬2). وتختلف الحاجة باختلاف الأحوال والأشخاص والأمكنة والأزمنة، فما يحتاجه صاحب المركبة العامة غير ما يحتاجه صاحب المركبة الخاصة، والحاجة إلى تأمين المسكن في البلاد التي تكثر فيها الكوارث تختلف عن البلاد التي يندر فيها ذلك. ومن الأمثلة التي تدخل في هذه الحال: 1 - التأمين الطبي في البلاد التي تكون تكلفة العلاج فيها باهظة، ولا يتحملها المقيم بدون تأمين. 2 - تأمين المركبة إذا كان نظام البلد الذي يقيم فيه الشخص يُلزِم بذلك. ويجب أن يُقْتَصرَ في ذلك على الحد الذي تندفع به الحاجة، وهو الحد الأدنى الذي يُلزِم به نظامُ البلد. 3 - تأمين المساكن والمراكز الإسلامية والمدارس الإسلامية ضد الحوادث والسرقات والحريق إذا كانت الحاجة تقتضي مثل ذلك. وبالجملة فإن مسيس الحاجة مع انعدام البديل الشرعي وغلبة الحرام، وتعذر التحول إلى مواطن يتسنى فيها البديل المباح -كل ذلك يبيح الترخص في المحرمات المتوسطة النهي وما كان من جنس الوسائل المفضية إلى المقاصد، وما كان النهي فيه ¬

_ (¬1) بحث التأمين وصوره المنتشرة في المجتمع الأمريكي ما يحل منه وما يحرم، ضمن بحوث المؤتمر الثالث لمجمع فقهاء الشرعة بأمريكا، (ص 588). (¬2) قرارات وفتاوي المجلس الأوروبي للإفتاء، (ص 155).

بواسطة عمومات دخلها التخصيص كثيرًا. فإن وقع الترخص بذلك مع الاكتفاء بمقدار الحاجة، ومَنْعِ ما يزيد عنها، أو ما يدخل في محض التوسع أو الترفه -فإن الله تعالى هو المسئول أن يعفو عن المكلف، وقد قال سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286]. وقد سبق قول إمام الحرمين الجويني -رحمه الله-في غياث الأمم-: "إن الحرام إذا طبق الزمان وأهله، ولم يجدوا إلى طلب الحلال سبيلًا، فلهم أن يأخذوا منه قدر الحاجة، ولا تُشترط الضرورة التي نرعاها في إحلال الميتة في حقوق آحاد الناس، بل الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر" (¬1). ثم ضَبَطَ ذلك بضابط جليًّ حين قال: "فالمرعي إذن رفع الضرار واستمرار الناس على ما يقيم قواهم" (¬2). وقال العز ابن عبد السلام -رحمة الله تعالى-، في قواعد الأحكام في مصالح الأنام: "لو عم الحرام الأرض بحيث لا يوجد فيها حلال جاز أن يستعمل من ذلك ما تدعو إليه الحاجة، ولا يقف تحليل ذلك على الضرورات؛ لأنه لو وقف عليها لأدى إلى ضعف العباد، واستيلاء أهل الكفر والعناد على بلاد الإسلام، ولانقطع الناس عن الحرف والصنائع والأسباب التي تقوم بمصالح الأنام، ولا يتبسط في هذه الأموال كما يتبسط في المال الحلال، بل يُقْتَصَرُ على ما تمس إليه الحاجة، دون أكل الطيبات، وشرب المستلذات، ولبس الناعمات التي بمنازل التتمات، فاظفر بهذا التحقيق فإنه نفيس، وضعه نصب عينيك لتَرُدَّ إليه أشباهه من كل مقيس" (¬3). ¬

_ (¬1) غياث الأمم، للجويني، (ص 344 - 345). (¬2) المرجع السابق، (ص 346). (¬3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعز ابن عبد السلام، (2/ 313 - 314).

الحالة الثالثة: إذا كان التأمين تعاونيا تكافليا

الحالة الثالثة: إذا كان التأمين تعاونيًّا تكافليًّا: لأن الغرر الذي في العقد مغتفر؛ لكونه من عقود التبرعات، والتأمين التعاوني يختلف في أهدافه وآثاره عن التأمين التجاري، فالتعاوني يهدف إلى تحقيق التكافل والتعاون فيما بين المستأمنين، وهو بهذا يحقق مقصدًا من مقاصد الشريعة الإسلامية، بخلاف التأمين التجاري فإن الهدف منه الاسترباح والمعاوضة؛ فلذا كان محرَّمًا. ومن صور التأمينِ التعاونيِّ المعاصرة: 1 - التأمينُ الاجتماعيُّ الذي تقدمه الحكومات والهيئات العامة للمواطنين. 2 - البرامج التقاعدية والادخارية التي تستثمر فيها الأموال المدخرة في وسائل استثمارية مباحة، وبطريقة مشروعة. 3 - التأمينُ الطبيُّ الذي ترعاه الدولة وتتقاضى رسومًا ربما تكون في كثير من الأحيان رمزية. 4 - الجمعيات التعاونية، والتأمين المعمول به في النقابات المهنية ونحوها. ومن تتمة القول فإن الأصل الجاري هو حرمة العمل في شركات التأمين التجاري، ويستثنى من ذلك: حالة الضرورة أو الحاجة الملحة بأن لا يجد الشخص في مجال تخصصه أي عمل، أو أي عمل مناسب يستطيع أن يعيش هو وعياله عليه عيشَ الكفاف سوى العمل بشركات التأمين التجاري ففي هذه الحالة يجوز؛ لأن ما يتعلق بالغرر يجوز الاستثناء منه بالحاجة العامة، أو الحاجة الملحة، في حين أن ما يتعلق بالربا لا يجوز الاستثناء منه إلا بالضرورة، وهذه قاعدة أصَّلها شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال -في التفرقة بين حرمة الربا، وحرمة الغرر-: "وأما الربا فتحريمه في القرآن أشد" -أي: من الغرر- ثم ذكر الأدلة على ذلك من المنقول والمعقول، ثم قال: "ومفسدة الغرر أقل من الربا؛ فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه". ثم ذكر أدلة على جواز الاستثناء من الغرر للحاجة بالسنة النبوية المشرفة، وضرب لذلك أمثلة منها: بيع العرايا (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (29/ 23 - 26).

الخاتمة

ويقول أيضًا: "وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل، فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض، وإن لم يجز غيره بعوض، وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة، فهو باطل، وإن كان فيه منفعة -وهو ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله"، زاد في رواية: "فإنهن من الحق" (¬1) - صار هذا اللهو حقًّا. ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض، وأكل مال بالباطل؛ لأن الغرر فيها يسير كما تَقَدَّمَ، والحاجة إليها ماسة، والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر. والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم، فكيف إذا كانت المفسدة منتفية؟! ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح، أباح الشرع ذلك، وقاله جمهور العلماء كما سنقرر قاعدته إن شاء الله تعالى" (¬2). الخاتمة: لا شك أن الأمن نعمة إلهية، وحاجة إنسانية، وهو مطلب شرعي؛ فإن من بات آمنًا في سربه معافًى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا (¬3)، ولا شك أن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب: في الرمي، (2513)، والترمذي، كتاب فضائل الجهاد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله، (1637)، والنسائي، كتاب الخيل، باب: تأديب الرجل فرسه (3578)، وابن ماجه، كتاب الجهاد، باب: الرمي في سبيل الله، (2811)، من حديث عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله -عز وجل- يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله. وارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إليَّ من أن تركبوا. ليس من اللهو إلا ثلاث. . . " فذكره. وصححه الحاكم في "مستدركه"، (2/ 95). (¬2) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (29/ 48 - 49). (¬3) ففي الحديث: "من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا"؛ أخرجه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (2346)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب: القناعة، (4141)، من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري -رضي الله عنه-، وحسنه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع"، (6042).

تأمين حاجات النفس والعيال أمرٌ تعبَّدَ الله به المكلَّف، وفي الحديث "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول" (¬1)، ومن الاحتياط للمستقبل أن يدع المرء ورثته أغنياء، وهو خيرٌ من أن يدعهم عالة يتكففون الناس (¬2). والتعاون على التكافل والتأمين ضد المخاطر قيمة إسلامية مرعية، فما آمن حقَّ الإيمان من بات شبعانَ وجاره جائع (¬3)، والمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا (¬4). إن الراجح حرمة التأمين التجاري بكل أشكاله وأنواعه إلَّا ما وقع الاضطرار إليه، أو مسَّتِ الحاجة الشديدة إليه، ولا سيما في خارج بلاد الإسلام، وللأقليات المسلمة، حتى ترتفعَ حاجتها وتسدَّ خلتها. وعلى من يسعى لينتقل بفقه الأقليات من حالة الترخيص إلى فقه التأسيس أن يُعنَى بطرح البدائل الشرعية وإقامة التأمين التعاوني على أسس قويمة، وعلى الله تعالى قصد السبيل، وهو الهادي والموفق لكل خير. ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو داود، كتاب الزكاة، باب: في صلة الرحم، (1692)، والإمام أحمد، (2/ 160)، من حديث عبد الله ابن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- مرفوعًا. وقال الحاكم في المستدرك، (4/ 500): هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬2) ففي الحديث: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. . . " أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب: رثاء النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن خولة، (1295)، ومسلم، كتاب الوصية، باب: الوصية بالثلث، (1628)، من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- في قصة عيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - له في مرضٍ أوشكَ فيه على الموت. (¬3) ففي الحديث: "ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه"؛ أخرجه: البخاري في "الأدب المفرد"، (112)، والبيهقي في "السنن الكبرى"، (10/ 3) -والزيادة الأخيرة له-، والطبراني في "الكبير"، (12/ 154)، وغيرهم، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. وصححه الحاكم، (4/ 167). ورُوي من حديثَي: أنس بن مالك، وأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنهما-. (¬4) ففي الحديث: "إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، (481)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، (2585) من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.

الفصل الثالث من نوازل النكاح

الفَصلُ الثَالِثُ من نوازل النكاح المبحث الأول: حكم الزواج من غير المسلمات في غير دار الإسلام. المبحث الثاني: حكم الزواج الصوري بقصد الحصول على الإقامة أو الجنسية فى غير دار الإسلام. المبحث الثالث: حكم بقاء من أسلمت تحت زوجها الكافر.

المبحث الأول حكم الزواج من غير المسلمات في غير دار الإسلام

المبحث الأول حكم الزواج من غير المسلمات في غير دار الإسلام تصوير وتكييف المسألة: الإقامة بديار غير المسلمين سواء أكانت طارئة كالمبتعثين للدراسة، أم دائمة كمن ألجئ للحياة هنالك، أو كان ممن أسلم من أهل تلك الديار -يترتب عليها أمور تتعلق بأبواب من الفقه كثيرة. فإذا أراد المسلم أن يتزوج بامرأة هنالك من غير أهل الإسلام فهل يسوغ له ذلك مطلقًا اعتمادًا على ما هو شائع من حل نكاح الكتابيات من غير قيد أو شرط؟! وهل يُكتفَى بمن دينها الرسمي اليهودية أو النصرانية من غير أن تكون متدينة بذلك فعلًا، وإذا كانت ممن يحارب أهلها الإسلام؛ فهل يُؤَثِّرُ كونها حربية، أو من قوم محاربين في حل نكاحها؟ وما هي الضوابط والمحاذير الشرعية التي يجب على المسلم أن ينضبط بها، وأن ينتبه لها عند إقدامه على هذا النكاح؟ خاصة مع شيوع الإلحاد والنحل الباطلة في العالم بأسره عامة، وفي بلاد الأقليات على وجه الخصوص؛ بل ومع وجوده في بعض أبناء الجيل الثاني والثالث من أبناء المسلمين. وكيف يُنظَر إلى تجربة الأقليات المسلمة في غير ديار الإسلام في هذا الجانب؟ وما تأثيره على الأسرة المسلمة وتركيبتها الاجتماعية؟ وبالنظر إلى السياقات الواقعية المعاصرة هل يتجه القول بمنع هذا الزواج في بلاد الأقليات مطلقًا؛ سدًّا للذريعة، ودرءًا للمفسدة المُقَدَّم على جلب المنفعة؟ وما أثر الضرورة أو الحاجة الملحَّة في إباحة هذا الزواج؟

وما أثر الإقامة بدار الحرب أو الكفر على هذا الزواج، وما يترتب عليه من قوامة على الزوجة، وولاية على الأولاد، ومسئولية عنهم في الدنيا والآخرة؟ وهذه المسألة على هذا النحو -كما تتناولها آيات وأحاديث في بيان حكمها -قد تعلقت بها اجتهادات فقهية من لدن الصحابة فمن بعدهم ضِمْنَ إطار من الدراسة الواقعية، ونظر في الأعراف الجارية، وتأمُّل في قواعد أصولية وفقهية ومقاصدية تتعلق بالحاجة أحيانًا وبالضرورة أحيانًا أخرى، وتتصل بمآلات الأفعال ونتائج التصرفات من جهة ثالثة. ومعلوم أن فقه مسائل النكاح والطلاق في بلاد الأقليات مما له تعلق بالولايات، وإذا كان المسلم يعيش في مجتمعات لا تحكم بالإسلام فلا بد أن يكون في مجتمع الأقليات المصغر هذا الاحتكام، وهذا الخضوع للشرع؛ الذي لا بد منه لتنضبط أمور الأسرة وفقَ فقه دقيق وفهم عميق، ونظر مجرِّب، وعلم ببواطن الأمور. ولقد فرَّق بعض الأئمة المحققين بين فقه الشيء وعلمه؛ فقال الونشريسي في كتابه الولايات: "الفرْق بين علم القضاء وفقه القضاء فرْق ما بين الأخص والأعم؛ ففقه القضاء أعم؛ لأنه الفقه في الأحكام الكلية، وعلم القضاء: هو العلم بتلك الأحكام الكلية مع العلم بكيفية تنزيلها على النوازل الواقعة، وهو الفرْق أيضًا بين علم الفتيا وفقه الفتيا؛ ففقه الفتيا: هو العلم بالأحكام الكلية، وعلمها: هو العلم بتلك الأحكام مع تنزيلها على النوازل" (¬1). ولا شك أن هناك خللًا لا تخطئه عين متأمل في باب الفتيا في النوازل الأسرية ببلاد الأقليات الإسلامية وهو ما يستوجب بحثًا متأنيًا في هذه النازلة التي تمثل بابًا للدخول إلى نوازل أخرى أكبر وأخطر. ¬

_ (¬1) كتاب الولايات ومناصب الحكومة الإسلامية والخطط الشرعية، لأحمد بن يحيى الونشريسي، تعليق: محمد الأمين بلغيث، مطبعة لافوميك، الجزائر، (ص 45).

وإذا كانت هذه النازلة مما تناوله الأقدمون فإن ما طرأ عليها اليوم من إقامة أهل الإسلام بديار غير المسلمين إقامة طويلة دائمة أو مؤقتة، ومع ما في هذا العصر وتلك الديار من مستجدات اجتماعية وسياسية؛ كل ذلك يجعل هذه النازلة تبدو جديدة في سياقاتها المعاصرة، وتعلقاتها الحاضرة، وتعقيداتها المتشابكة. بيان المقصود بـ "غير المسلمات": قبل الخوض في تحرير محل النزاع في هذه المسألة وخوض غمار بحثها يحسن أولًا توضيح المقصود بـ "غير المسلمات"، وذلك على النحو التالي: إن مصطلح غير المسلمين أو غير المسلمات يشمل كل من لم يَدِنْ بدين الحق. فالناس أحد رجلين: مؤمن وكافر. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2]. وقال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة: 253]. فالإيمان والكفر نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان باتفاق المسلمين؛ قال ابن تيمية -رحمه الله-: "الكفر عدم الإيمان باتفاق المسلمين، سواء اعتقد بنقيضه وتكلم به، أو لم يعتقد شيئًا ولم يتكلم" (¬1). وقال السبكي -رحمه الله-: هو "جحد الربوبية أو الوحدانية أو الرسالة أو قول أو فعل حَكَمَ الشارع بأنه كفر، وإن لم يكن جحدًا" (¬2). والناس إما موحدون حنفاء أو مشركون؛ قال الله تعالى في الحديث القدسي: "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمَتْ ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (20/ 86). (¬2) فتاوي السبكي، (2/ 586).

عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا" (¬1). و"الشرك أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك" (¬2). و"الكفر" و"الشرك" إذا افترقا تواردا على معنى واحد، وصار كل كافر مشركًا والعكس صحيح، وإذا اجتمعا كان الكفر أعم من الشرك. "الفرق بين الكفر والشرك أن الكفر خصال كثيرة، على ما ذكرنا، وكل خصلة منها تضاد خصلة من الإيمان، والشرك خصلة واحدة، وهو إيجاد ألوهية مع الله، أو دون الله، واشتقاقه ينبئ عن هذا المعنى" (¬3). فالمشرك: من أقرَّ بربوبية الله تعالى، ولكنه مع ذلك لا يفرده بالعبادة، بل يشرك معه غيره. والقدر المشترك بين الكفر والشرك هو الجحود، أي: إنكار شيء مع علمه به؛ إذ كل من الكافر والمشرك منكر لوحدانية الله ولا يعترف بها، منكر للحق ويأبى مجرَّدَ سماعه، على نحو ما حكاه الله تعالى في كتابه عنهم في قوله تعالى: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 7]. وبناءً على ما سبق فإن غير المسلمين يشمل الكفار والمشركين معًا. ويدخل تحت الكفار والمشركين أصناف وأنواع كثيرة؛ كعبدة الأصنام والأوثان، وعبدة الكواكب والشيطان، وعبدة النار من المجوس، وعبدة البقر من الهندوسيين والبوذيين، والسيخ، والجينية، وكل هؤلاء يقال عنهم وثنيون، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، (2865)، من حديث عياض بن حمار -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب: قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، (4477)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده، (86) من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. (¬3) الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري، تحقيق: محمد إبراهيم سليم، دار العلم والثقافة، القاهرة، (ص 230).

كما يدخل فيهم منكرو وجود الله الذين ينسبون الخلق لغير خالق، وهم في القديم: دهريون، وفي الحديث: ملحدون وشيوعيون. كما يدخل فيهم أيضًا الباطنيون الذين أبطنوا اعتقادات وأعمالًا كفرية وشركية، ومنهم قرامطة وإسماعيلية، وغير ذلك. كما يدخل البهائيون والقاديانيون الذين أجمع علماء المسلمين في العصر الحديث على كفرهم (¬1). وأما أهل الكتاب فقد: اختلف الفقهاء في تحديدهم بعد اتفاقهم على أنهم من غير المسلمين، وأنهم يدخلون في عموم الكافرين؛ وذلك على مذهبين: الأول: للحنفية ولأبي يعلى من الحنابلة. وأهل الكتاب عندهم: "كل من يعتقد دينًا سماويًّا وله كتاب منزل كصحف إبراهيم وشيث وزبور داود؛" (¬2)؛ فيصدق تعريفهم لأهل الكتاب على اليهود والنصارى، ومن تمسك بالزبور وصحف إبراهيم وشيث. الثاني: للشافعية وأكثر الحنابلة. وأهل الكتاب عندهم: اليهود والنصارى دون غيرهم، فلا يدخل فيهم المتمسك بالزبور وغيره كصحف إبراهيم وإدريس وشيث (¬3). والرأي الذي يقويه الدليل هو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة ومن وافقهم؛ ذلك أن القرآن يقول: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156]؛ فقد ¬

_ (¬1) للتعريف بالفرق السابقة جميعًا: تراجع الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، إشراف د. مانع بن حماد الجهني، دار الندوة العالمية للشباب، ط 3، 1418 هـ. (¬2) تبيين الحقائق، للزيلعي، (2/ 110). (¬3) مغني المحتاج، للشربيني، (3/ 187)، المغني، لابن قدامة، (9/ 546 - 547).

خصَّ الله تعالى الكتاب بطائفتين وهم اليهود والنصارى، فلا يصدق على غيرهم أنهم أهل الكتاب وإلا لزم الكذب في كتاب الله وهو محال؛ كذلك لأن ما نزل على غير الطائفتين إنما هو بمثابة مواعظ وأمثال لا أحكام فيها؛ فلم يثبت لها حكم الكتب المشتملة على الأحكام (¬1). أما بالنسبة للمجوس فعلى القول بأن الأشبه أنه كان لهم كتاب، ولكنه رُفع فأصبحوا لا كتاب بأيديهم الآن، فإن الصحف التي أُنزلت على إبراهيم -عليه السلام- رُفِعت إلى السماء لأحداث أحدثها المجوس (¬2)، فالأولى -ومن باب الاحتياط- أن لا نعتبرهم من أهل الكتاب؛ لوجود المغايرة فيما يتعلق بالأحكام التي تخص كلًّا منهما، وإن كان لسبق تدينهم بكتاب واعترافهم بالنبوة اعتبار في الأحكام يميزهم عن المشركين الوثنيين. ولذلك أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى وجود صلة دون الاندماج بين المجوس وأهل الكتاب حيث قال: "سُنُّوا بهم سُنَّةَ أهل الكتاب" (¬3). بل لم يثبت أن للمجوس كتابًا، ونقل جواب أحمد على سؤال: أيصح أن للمجوس كتابًا؟ فقال: "هذا باطل" (¬4). وأهل الكتاب من اليهود والنصارى فِرَقٌ ومذاهب (¬5)، والحكم في شأنها حكم اليهود والنصارى ما لم تختلف عنهما اختلافًا جوهريًّا، حتى وإن اختلفت في الفروع، ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة، (9/ 546)، تكملة المجموع، لمحمد نجيب المطيعي، (16/ 233)، الملل والنحل، للشهرستاني، (1/ 260) وما بعدها. (¬2) المهذب، للشيرازي، (2/ 250). (¬3) أخرجه البيهقي، (9/ 189) من حديث محمد بن علي بن الحسين مرسلًا. (¬4) المغني، لابن قدامة، (9/ 548). (¬5) افترق اليهود على خمس فرق رئيسة، وهي: السامرة والصدوقية والعنانية والربانية والعيسوية، ومن هذه الفرق افترقوا على فرق كثيرة لا حصر لها، أما النصارى فقد افترقوا على ثلاث فرق كبيرة: الملكانية والنسطورية واليعقوبية، وتشعبت منها اثنتان وسبعون فرقة. الفصل في الملل والنحل، لابن حزم، (1/ 82) وما بعدها، والملل والنحل، للشهرستاني، (1/ 256) وما بعدها.

وعليه: اعتبر العلماء الفرقة السامرية من اليهود (¬1). وأما الصابئون: فالخلاف في شأنهم بيِّن، وتضاربت النقول والأقوال حولهم؛ فروي عن الإمام أحمد أنهم من جنس النصارى، وفي رواية أخرى عنه أنهم يشبهون اليهود، وحدد صاحب المغني (¬2) رأيه في الصابئين بأنهم ليسوا من أهل الكتاب حيث خالفوا اليهود والنصارى في أصل الدين، بل أَدْخَلَ الشهرستاني (¬3) الصابئين في عداد المستبدين بالرأي مطلقًا المنكرين للنبوات، ولا يقولون بشرائع وأحكام أمرية، بل يضعون حدودًا عقلية مثل الفلاسفة والبراهمة. ومما لا يُختلَفُ فيه أن اليهود والنصارى قد خرجوا عن أصل دينهم وشريعتهم؛ حيث حرفوا التوراة والإنجيل، كما نُسخت شريعتهم بشريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وعليه: هل يعتبر اليهود والنصارى حاليًا أهل الكتاب؟ هناك قولان متقابلان في المسألة: القول الأول: للشافعية (¬4) الذين ذهبوا إلى أن أهل الكتاب إنما هم اليهود والنصارى ومن دخل دينهم قبل التبديل والنسخ، وشرطوا أن يكونوا إسرائيليين، أي: من أبناء يعقوب -عليه السلام- واعتبروا جميع الذين دخلوا في دين موسى حين دعاهم أو الذين دخلوا منهم بعد ذلك في دين عيسى حين دعاهم، كانوا على دين حق دخلوا فيه قبل التبديل، فهم أهل الكتاب، وألحق بأهل الكتاب من تهوَّد أو تنصَّر بعد ذلك وقبل بعثة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث لم يقم النسخ وإن حدث تبديل وتحريف إلا أن ذلك لم يكن ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة، (9/ 546)، مغني المحتاج، للشربيني، (3/ 189)، المصباح المنير، للفيومي، (1/ 288). (¬2) المغني، لابن قدامة، (9/ 546 - 547). (¬3) الملل والنحل، للشهرستاني، (2/ 307). (¬4) تكملة المجموع، للمطيعي، (16/ 233)، مغني المحتاج، للخطيب الشربيني، (3/ 187 - 188).

مخرجًا عن دائرة الإيمان إلى الكفر حتى يأتي النسخ بالشريعة الإسلامية التي جاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. القول الثاني: للجمهور، فهم يرون أن الذين تهوَّدوا أو تنصَّروا بعد بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُعَدون كذلك من أهل الكتاب باعتبار أصل العقيدة، ولا تأثير على حل ذبائحهم وحل نسائهم للمسلمين بسبب التحريف والتبديل والنسخ، ولكونهم منكرين لنبوة رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا كافرين، وباعتقادهم بالتثليت أصبحوا مشركين، وهذا باعتبار ما ابتدعوا وما صاروا إليه لا باعتبار أصل الدين. ويترجح القول الثاني بما يلي: 1 - لم يخاطب القرآن أهل الكتاب إلا الموجودين وقت نزوله، وهم اليهود والنصارى بعد أن حدث التبديل والنسخ؛ فالمقصود بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء: 44]، جاء بيانه في الآية التي تليها مباشرة أن المقصود بالذين أوتوا الكتاب هنا هم اليهود، فقال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46]، ومِنْ لبيان الجنس هنا، مما يفيد أن الذين هادوا هم أهل الكتاب. 2 - قد استفاض أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتحوا الشام والعراق ومصر كانوا يأكلون من ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وذلك بعد التبديل بالطبع، وعلى هذا عمل أهل الإسلام من بعد (¬1). وبعد هذا البيان فإن المقصود بغير المسلمات صنفان: ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير، (3/ 42)، تفسير القرطبي، (6/ 78)، فتح الباري، لابن حجر، (9/ 636)، بداية المجتهد، لابن رشد، (1/ 450).

المطلب الأول: حكم زواج المسلم من المشركة

1 - المشركات 2 - الكتابيات. وفيما يأتي بيان لحكم نكاح كلٍّ. المطلب الأول: حكم زواج المسلم من المشركة: الأقوال وقائلوها: القول الأول: حرمة نكاح المشركات مطلقًا، سواء كُنَّ من مشركات العرب عابدات الأوثان أو كُنَّ ملحدات عربيات أو عجميات، أو كُنَّ من مشركات غير العرب كالهندوسيات والبوذيات، والكونفوشيوسيات، والمجوسيات وما شابههن، أو كُنَّ مرتدات عن الإسلام بعد دخول صحيح فيه، وقد نقل على هذا الإجماع (¬1). القول الثاني: للشيخ رشيد رضا بحل نكاح مشركات غير العرب، وحرمة ما عداهن (¬2). القول الثالث: لأبي ثور والظاهرية والشيعة الإمامية بحل نكاح الحرة المجوسية (¬3). الأدلة والمناقشات: استدل أصحاب القول الأول بالقرآن الكريم، والإجماع. أولًا: القرآن الكريم: 1 - قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]. وجه الدلالة: ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 270)، المبسوط، للسرخسي، (4/ 211)، مختصر خليل، مطبوع مع مواهب الجليل، (5/ 133)، الكافي، لابن عبد البر، (2/ 543)، حاشية قليوبي على شرح المنهاج، (3/ 250 - 251)، مغني المحتاج، للشربيني، (3/ 187)، الإنصاف، للمرداوي، (8/ 136)، المغني، لابن قدامة، (9/ 548). (¬2) مجلة المنار، لمحمد رشيد رضا، (12/ 260) وما بعدها. (¬3) المغني، لابن قدامة، (9/ 547)، فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 230)، تفسير القرطبي، (3/ 70 - 71)، المحلى، لابن حزم، (9/ 448).

ذكر الله تعالى تحريم نكاح المشركات في سورة البقرة، ثم نسخ منها نساء أهل الكتاب فأحلهن في سورة المائدة (¬1). يقول الطبري: وأولى الأقوال بالصواب ما قاله قتادة من أن الله -تعالى ذِكْرُه- عنى بقوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]. من لم تكن من أهل الكتاب من المشركات، وأن الآية عامٌّ ظاهرها خاصٌّ باطنها، لم ينسخ منها شيء، وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها (¬2). 2 - قال تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. وجه الدلالة: أفادت الآية الكريمة حرمة نكاح المشركات عبدة الأوثان؛ ومن كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها فليست له امرأة، فقد انقطعت عصمتها لاختلاف الدارين، وكان الكفار يتزوجون المسلمات، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك في هذه الآية، فطلق عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه- حينئذٍ امرأتين بمكة مشركتين (¬3). 3 - قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]. وجه الدلالة: دلت الآية على أن كل من ارتد عن الإسلام حُكِمَ بكفره وجَرَتْ عليه أحكام الكفار المرتدين، سواء اتخذت دينًا غير الإسلام، أم ألحدت عن الأديان جميعًا، وهذه ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي، (3/ 67)، المغني، لابن قدامة، (9/ 548). (¬2) تفسير الطبري، (3/ 714 - 715). (¬3) تفسير القرطبي، (18/ 65)، المغني، لابن قدامة، (9/ 548).

الآية تشمل البهائية والشيوعية والقاديانية، وهي بهذا تصير مشركة وكافرة وينفسخ نكاحها فور رِدَّتِها ولا يجوز أن تقوم حياة زوجية بين مسلم ومرتدة، أو بين مرتد ومسلمة لا ابتداءً ولا بقاءً (¬1). ثانيًا: الإجماع: جاء في موسوعة الإجماع: "اتفقوا على أن من عدا اليهود والنصارى من أهل الحرب يُسَمَّون مشركين" (¬2). وقال ابن قدامة -رحمه الله-: "أجمع أهل العلم أن سائر الكفار غير أهل الكتاب تحرم نساؤهم" (¬3). وقال الكمال ابن الهمام -رحمه الله-: "ولا يجوز تزوج الوثنيات، وهو بالإجماع والنص" (¬4). وقال ابن رشد -رحمه الله-: "اتفقوا على أنه لا يجوز للمسلم أن ينكح الوثنية" (¬5). وقال أبو زهرة -رحمه الله-: "ولقد اتفق الفقهاء على أن عبدة الأوثان مشركون، لا تنكح نساؤهم" (¬6). وعليه: فإذا تزوج المسلم بمشركة من مشركات العرب أو العجم، فالنكاح باطل ومفسوخ، ويؤدَّب المسلم الذي فعل ذلك إلَّا أن يكون جاهلاً فيعذر. أدلة القول الثاني ومناقشته: الأصل أن لا يلتفت إلى هذه الأقوال بعد سبقها بإجماع صحيح منعقد، وتنزلًا مع ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع، للكاساني (5/ 137 - 138)، مواهب الجليل، للحطاب، (2/ 337)، الشرح الصغير، للدردير، (2/ 420)، مغني المحتاج، للخطيب الشربيني، (3/ 190)، المغني، لابن قدامة، (9/ 548)، في فقه الأقليات المسلمة، د. يوسف القرضاوي، (93 - 95). (¬2) موسوعة الإجماع، لسعدي أبي جيب، (2/ 1011). (¬3) المغني، لابن قدامة، (9/ 548). (¬4) فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 231). (¬5) بداية المجتهد، لابن رشد، (2/ 44). (¬6) الأحوال الشخصية، لأبي زهرة، (ص 114).

المخالف فيما ظنه من الحكم نورد أدلته، ثم الرد عليها. استدل الشيخ رشيد رضا -رحمه الله- بعدة أدلة، فقال: أولاً: إن العلماء لم يجمعوا على أن لفظ (المشركين، والذين أشركوا) يتناول جميع الذين كفروا بديننا ولم يدخلوا في ديننا، ولا جميع من عدا اليهود والنصارى. ثانيًا: إن المشركات اللاتي حرَّمَ الله نكاحهن في آية البقرة: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، هن مشركات العرب، وهو المختار، وقد رجحه شيخ المفسرين [الطبري]، وعليه فلا تشمل الآية مَنْ عدا مشركات العرب. ثالثًا: إن وثنيي الصين واليابان وأمثالهم أهل كتب مشتملة على التوحيد إلى الآن، وقد قصَّ علينا القرآن أن جميع الأمم بُعث فيها رسل، وأن كتبهم سماوية طرأ عليها التحريف، كما طرأ على كتب اليهود والنصارى. رابعًا: إن الأصل في النكاح الحل لا الحرمة، بدليل قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، بعد أن بين لنا محرمات النكاح، فما عداهن يبقين على الأصل وهو الحل، ولا دليل على تحريم نكاح نسائهم، فليس لأحد أن يحرمه إلا بنص مخصص لعمومها. خامسًا: إن مسلمي الصين قد أكثروا من نكاح وثنيات الصين اللاتي من الكونفوشيوسية، وقد أسلم منهن الكثيرات (¬1). مناقشة الأدلة والرد عليها: أولًا: قوله: إن العلماء لم يجمعوا على أن لفظ المشركين يتناول الذين كفروا عدا أهل الكتاب غير مسلَّم. فقد تقدَّم من سياق الإجماع عدم تقييد الوثنيات بقيد معين، وقد قال ابن قدامة: ¬

_ (¬1) مجلة المنار، رشيد رضا، (12/ 260) وما بعدها.

"أجمع أهل العلم أن سائر الكفار غير أهل الكتاب تحرم نساؤهم" (¬1)، وقال أبو عبيد: "أما الوثنيات فنكاحهن حرام عند المسلمين جميعًا، لم ينسخ تحريمهن كتاب ولا سنة علمناها" (¬2). وأما ما فهمه الشيخ رشيد -رحمه الله- من أن قتادة فسَّرَ قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] بمشركات العرب اللاتي ليس لهن كتاب يقرأنه ورجحه الطبري- فغير مستقيم فليس مراده من ذلك أن من عدا مشركات العرب غير داخلات في التحريم، بل إن مراده أن الكتابيات مستثنيات من حكم تلك الآية. والدليل على ذلك: 1 - أن هناك رواية عن قتادة -رحمه الله- أنه قال: "المشركات من ليس من أهل الكتاب" (¬3). 2 - أن ابن عطية أورد في تفسيره عن قتادة أنه قال في الآية: "لفظ الآية العموم في كل كافرة والمراد بها الخصوص، أي: في غير الكتابيات" (¬4). 3 - إن الطبري -رحمه الله- لما ذهب إلى ترجيح قول قتادة صرح بحرمة كل مشركة من عبدة الأوثان على كل مسلم عند قوله على إنكاح الزاني، فقال: ". . . وذلك لقيام الحجة على أن الزاني من المسلمين حرام عليه كل مشركة من عبدة الأوثان" (¬5). 4 - لو كان قتادة يعني بقوله ذلك أن من عدا مشركات العرب حلال لقال بحل المجوسية وشاع عنه، بل المنقول عنه عكس ذلك. ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة، (9/ 548). (¬2) الناسخ والمنسوخ، لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، تحقيق: محمد بن صالح المديفر، مكتبة الرشد، الرياض، (ص 94). (¬3) تفسير الطبري، (3/ 713). (¬4) المحرر الوجيز، لابن عطية، (2/ 245). (¬5) المرجع السابق، (17/ 160).

وقد سئل أحمد عن آية البقرة {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221]، فقال: "مشركات العرب الذين يعبدون الأصنام" (¬1)، وبالرغم من ذلك فقد نقل أهل مذهبه عنه حرمة نكاح غير الكتابية. فعلم من مجموع ذلك أن الإجماع لم يخالف فيه أحد، وأن ما استنبطه الشيخ رشيد غير سديد. ثانيًا: وأما قوله: الأصل في النكاح الحل: فالجواب: أن قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] يفيد بأن الأصل الحرمة لا الحل، وهو قول الجماهير، وأما أنه لا دليل على تحريم نكاحهن، فقد تقدم الإجماع على ذلك. وهن داخلات في عموم قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221]، ولا مخصص لها إِلا آية المائدة، حيث أفادت حل اليهوديات والنصرانيات، دون غيرهن. ثالثًا: وأما قوله: إن وثنيي الصين وغيرهم أهل كتب مشتملة على التوحيد. فالجواب أن كونفوشيوس لم يكن نبيًّا، بل كان فليسوفًا مغرقًا في البحث والتأمل؛ ولذا فإن أتباعه لا يعتقدون بجنة ولا نار، ولا بالبعث أصلًا، وهذه الأمور من أصول الرسالات السماوية جمعاء، وذلك مما يعمق القول بأرضية أصولها. ثم إن توحيدهم المزعوم هو نفسه توحيد مشركي العرب، الذين قال الله عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25]. لقد أخبرنا سبحانه أنه أرسل لكل قوم هاديًا، ولكنه تعالى لم يعلمنا بأنه أنزل على ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير، (1/ 584).

كل رسول كتابًا من عنده، فالأمر في ذلك لا يعرف إِلا عن طريق النص، لا عن طريق الظن والتخمين، ولا نص هنا على أنهم أهل كتب سماوية. وقد أبان الشيخ أبو زهرة ذلك بقوله: "كل أولئك لم يكن لهم كتاب منزل معروف، ولم يعرف لهم نبي مبعوث ذكره القرآن، ولو كانوا قد حرفوا الكلم من بعده عن مواضعه" (¬1). رابعًا: وأما أن مسلمي الصين قد أكثروا من نكاح الوثنيات وقد أسلم منهن الكثيرات. فالجواب أن هذه لا تصلح دليلًا على الحل والحرمة؛ لأن حق التحليل والتحريم لله وحده، لا دخل للواقع أو غيره في ذلك. وأن العرف لو كان مخالفًا للنصوص فلا عبرة به لفساده؛ لأن الأصل أن يضبط العرف بالنص، لا العكس. لأن الآية -وهي نص في المسألة- قد بينت متى تحل بقوله: {حَتَّى يُؤْمِنَّ} و {حَتَّى} هنا تفيد الغاية، فلا تحل له ابتداءً حتى تدخل في الإسلام. الترجيح: بعد هذا العرض والرد، فقد ظهر الحق، وعليه فلا يحل لمسلم أن ينكح وثنية -أيًّا كان مذهبها- فإن نكحها باعتقاده أن ذلك حلال على سبيل الجهل في بلاد الأقليات فإنه يفسخ نكاحه فورًا للعلم بالحكم، ويلحق به النسب، وتثبت به حرمة المصاهرة باتفاق العلماء. (¬2) (¬3) أدلة القول الثالث ومناقشته: ¬

_ (¬1) محاضرات في عقد الزواج وآثاره، لمحمد أبي زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، (ص 143). (¬2) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (32/ 178 - 180). (¬3) فقه الأقليات المسلمة، خالد عبد القادر، (403 - 406)، الأحكام الفقهية لما يعرض للمسلم المقيم في دار الكفر، د. يوسف بن عبد اللطيف حمد الجبر، رسالة دكتوراه، العهد العالي للقضاء بالسعودية، (ص 984 - 985).

تقدم نقل الإجماع على أن نكاح الحرة المجوسية لا يحل إلا أن أبا ثور وابن حزم قالا بحلها، واستدل الجمهور لمذهبهم بالقرآن الكريم، والإجماع، والمعقول. أولًا: القرآن الكريم: 1 - قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. وجه الدلالة من الآيتين: نهى الله تعالى عن نكاح المشركات والإمساك بعصمة الكافرات، وهذا عام، وقد خرج منه الكتابيات بدليل قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] ويبقى مَنْ عداهن على العموم، وهذا يشمل المجوسيات (¬1). 2 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17] وجه الدلالة: ذكر الله تعالى الملل الست، وبين أنه يفصل بينهم يوم القيمة، ولما ذكر الملل التي فيها سعيد في الآخرة قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، فلم يذكر المجوس ولا المشركين، ولو كان في هاتين الملتين سعيد في الآخرة كما في الصابئين واليهود والنصارى لذكرهم، فدل على أنهم ليسوا من أهل الملل الناجية، ¬

_ (¬1) نهاية المحتاج، للرملي، (6/ 290) بتصرف.

وإذا كانوا كذلك لم تحلَّ مناكحتهم (¬1). ثانيًا: الإجماع: أجمع الصحابة على تحريم مناكحة المجوس، ولا يعلم لهم مخالف في زمنهم، ولا في زمن التابعين (¬2). المناقشة: إن الصحابة لم يُجمعوا على ذلك، بدليل أن حذيفة -رضي الله عنه- تزوج منهم؛ فقد ذكر معبد الجهني قال: رأيت امرأة حذيفة مجوسية. (¬3) وأُجيب بأن ذلك لم يصحَّ عن حذيفة. قال البيهقي: "فهذا غير ثابت، والمحفوظ عن حذيفة أنه نكح يهودية" (¬4)، وقال أحمد: "والقول بأنه تزوج يهودية أوثق" (¬5). وما روي عن عطاء وطاوس وابن دينار من حل المجوسية لم يصح، وإنما المروي عنهم جواز التسري بالمجوسية، لا نكاح الحرة، وهو خارج محل النزاع (¬6). أدلة المجيزين ومناقشتها: أولًا: القرآن الكريم: قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (32/ 187 - 188) بتصرف. (¬2) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 817). (¬3) السنن الكبرى، للبيهقي، (7/ 281) باب ما جاء في تحريم حرائر أهل الشرك دون أهل الكتاب وتحريم المؤمنات على الكفار. (¬4) السنن الكبرى، للبيهقي، (7/ 281). (¬5) المغني، لابن قدامة، (7/ 502)، إرواء الغليل، للألباني، (6/ 301). (¬6) مصنف ابن أبي شيبة، (4/ 179)، المدونة، رواية سحنون بن سعيد، (2/ 219 - 220).

حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. وجه الدلالة: استثنى الله -عز وجل- أهل الكتاب خاصة بإعفائهم من القتل بغرم الجزية مع الصَّغَار من جملة سائر المشركين الذين لا يحل إعفاؤهم إلَّا أن يسلموا. وقد صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر (¬1). ومن الباطل الممتنع أن يخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَمْرَ ربه وإلا لبين لنا أنهم غير أهل كتاب فكنا ندري حينئذٍ أنه فعل ذلك بوحي (¬2). وإذا ثبت أنهم من أهل الكتاب جاز نكاح نسائهم؛ لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5]. ونوقش من وجهين: 1 - المجوس ليسوا أهل كتاب بدليل قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 155، 156] والطائفتان هما اليهود والنصارى، ولو كان المجوس من أهل الكتاب لكان أهل الكتاب ثلاث طوائف؛ فيؤدي إلى الخلف في خبره -عز وجل- وذلك محال (¬3). وإذا كانوا ليسوا أهل كتاب لم تحلَّ مناكحتهم كالمشركين. ويجاب: بأن هذا القول -أي: نزول الكتاب على طائفتين- من إنشاء المشركين ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الجزية، باب: الجزية والموادعة مع أهل الحرب، (3156) من حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-. (¬2) المحلى، لابن حزم، (9/ 448). (¬3) بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 271).

فليس فيه دليل على ما ذكرتم (¬1). ويُرَدُّ عليه: بأن الله تعالى حكى عنهم القول ولم يعقبه بالإنكار عليهم وتكذيبهم، والحكيم إذا حكى عن منكر غيَّره (¬2). 2 - فَرْقٌ بين قبول الجزية منهم ونكاح نسائهم، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - حقن دماءهم عند دفع الجزية لتشبههم بأهل الكتاب في بعض الأمور، والدماء تعصم بالشبهات، أما الفروج فلا تحل بالشبهات (¬3). وفي روضة الطالبين: "الصنف الثالث: مَنْ لا كتاب لهم لكن لهم شبهة كتاب وهم المجوس. وهل كان لهم كتاب؟ فيه قولان، أشبههما: نعم. وعلى القولين لا تحل مناكحتهم" (¬4). وفي المغني: "وليس للمجوس كتاب، ولا تحل ذبائحهم، ولا نكاح نسائهم؛ نصَّ عليه أحمد" (¬5). ثانيًا: السنة المطهرة: أن عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- ذكر المجوس، فقال: ما أدري كيف أصنع في أَمْرِهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لَسَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سُنُّوا بهم سُنَّةَ أهل الكتاب" (¬6). وجه الدلالة: أَمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعاملة المجوس مثل أهل الكتاب فتحل مناكحتهم، كما تحل ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (2/ 271) بتصرف. (¬2) المرجع السابق، (2/ 271). (¬3) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (32/ 189 - 190) بتصرف. (¬4) روضة الطالبين، للنووي، (7/ 135). (¬5) المغني، لابن قدامة، (9/ 547). (¬6) سبق تخريجه.

مناكحة اليهود والنصارى. المناقشة: 1 - الحديث ضعيف. قال ابن حجر: هذا منقطع مع ثقة رجاله (¬1). 2 - ولو صح فهو محمول على معاملتهم مثل أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط، كما فعل ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفهمه الصحابة من بعده (¬2). يؤيد ذلك ما رواه عبد الرحمن بن عوف أنه شهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر (¬3). ولا يجوز تعديه إلا بنص، أو خبر آخر صريح، ولم يرد مثل ذلك. ويؤيد هذا الفهم تكملة الرواية التي لم يتصل سندها "غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحم"، وهي حجة باتفاق؛ كما قال ابن تيمية (¬4). ولا يخفى أن في قوله: "سنوا بهم. . . " ما يشعر بأنهم ليسوا بأهل كتاب. ثالثًا: قول الصحابي: عن علي -رضى الله عنه- قال: "أنا أعلم الناس بالمجوس كان لهم علم يعلمونه، وكتاب يدرسونه، وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته، أو أخته، فاطَّلع عليه بعض أهل مملكته، فلما صحا جاؤوا يقيمون عليه الحد، فامتنع منهم، فدعا أهل مملكته، فلما أتوه قال: تعلمون دينًا خيرًا من دين آدم، وقد كان يُنْكِحُ بنيه من بناته، وأنا على دين آدم ما يرغب بكم عن دينه، قال: فبايعوه، وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم، فأصبحوا وقد أُسري على كتابهم، فَرُفِعَ من بين أظهرهم، وذهب العلم الذي في صدورهم. فهم أهل ¬

_ (¬1) فتح الباري، لابن حجر، (6/ 261). (¬2) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (32/ 189) بتصرف. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) مجموع الفتاوي، (32/ 189).

كتاب، وقد أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر -رضى الله عنهما- منهم الجزية" (¬1). وجه الدلالة: دل كلام علي -رضى الله عنه- على أن المجوس لهم كتاب قد رُفِعَ ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فدل على أنهم يعاملون معاملة أهل الكتاب، ومن ذلك نكاح نسائهم. المناقشة من الوجهين: الأول: هذا الأثر ضعيف؛ فقد سئل الإمام أحمد: أيصح عن علي أن للمجوس كتابًا. فقال: هذا باطل واستعظمه جدًّا (¬2). كما ضعفه القرطبي (¬3). ويجاب: بأن هذا الأثر قد حسَّنه ابن حجر (¬4). ويُرَدُّ: بأن في سنده سعيد بن مرزبان أبا سعد البقال الكوفي، وهو ضعيف، مدلس، وقد تركوه، قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج بحديثه، والحديث ليس له متابع ولا شاهد (¬5). الثاني: على فرض صحته فإنه إنما يدل على أنه كان لهم كتاب فَرُفِعَ لا أنه الآن بأيديهم كتاب، وحينئذ فلا يصح أن يدخلوا في لفظ (أهل الكتاب)؛ إذ ليس بأيديهم كتاب لا مبدل ولا غير مبدل، ولا منسوخ ولا غير منسوخ، ولكن إذا كان لهم كتاب ¬

_ (¬1) أخرجه: الإمام الشافعي في "مسنده" (817). قال ابن عبد البر في "التمهيد" (2/ 120): "أكثر أهل العلم لا يصححون هذا الأثر". (¬2) المغني، لابن قدامة، (9/ 548). (¬3) تفسير القرطبي، (8/ 111). (¬4) فتح الباري، لابن حجر، (6/ 261). (¬5) مجمع الزوائد، للهيثمي، (6/ 12)، تقريب التهذيب، لابن حجر، (ص 241)، ميزان الاعتدال، للذهبي، (2/ 157).

المطلب الثاني: حكم زواج المسلم من الكتابية

ثم رفع بقي لهم شبهة كتاب، وهذا القدر يؤثر في حقن دمائهم بالجزية، وأما الفروج والذبائح فحلها مخصوص بأهل الكتاب (¬1). بل لقد صح عن عمر أن المجوس ليسوا بأهل كتاب (¬2). وبالرغم من أن الرواية السابقة قد جاءت عن علي، فقد جاء عنه أيضًا النص في تحريم نكاح النساء المجوسيات، فقال: "أَخَذَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخراج منهم -أي: المجوس- لأجل كتابهم، وحرم مناكحتهم وذبائحهم لشركهم" (¬3). المناقشة: هذا الأثر ضعيف، وقد تقدم الكلام عنه. الترجيح: يحرم نكاح المجوسيات وعبدة النار ومن في حكمهن؛ لضعف أدلة القائلين بهذا، وصحة انعقاد الإجماع على الحرمة، ودخولهن في عموم المشركات، وعدم ثبوت كتاب موجود بين أيديهم تصح نسبته لنبي من أنبياء الله تعالى (¬4). المطلب الثاني: حكم زواج المسلم من الكتابية: الكتابية قد تكون ذمية مقيمة في بلاد الإسلام، أو هي من أهلها، وقد تكون معاهدة مستأمنة من أهل دار الحرب، أو حربية. وثمة اختلاف بين الفقهاء في حكم هذه الحالات، والذي سوف يسير عليه البحث هو دراسة حكم نكاح الكتابية الحربية في دار الحرب؛ لأنها أشد الصور وأبعدها ثم نتنزل إلى ما هو أدون. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (32/ 189). (¬2) فتح الباري، لابن حجر، (6/ 261). (¬3) الخراج، لأبي يوسف، (ص 130). (¬4) الأحكام الفقهية لما يعرض للمسلم المقيم في دار الكفر، ليوسف الجبر، (970 - 975)، فقه الأقليات المسلمة، خالد عبد القادر، (407 - 410).

تحرير محل النزاع: تقرَّر فيما سبق أن الكتابي هو كل من تدين بدين أهل الكتاب، سواء كان أبوه أو جده دخل في دينهم أو لم يدخل، وسواء كان دخوله قبل النسخ والتبديل أو بعده، وهذا مذهب جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك، وهو المنصوص عن أحمد، وهو -قبل ذلك- القول الثابت عن الصحابة، ومع وجود يهود المدينة من العرب وغيرهم لم يفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكل طعامهم أو حل ذبائحهم ونسائهم، وهكذا فعل الصحابة لما دخلوا البلاد النصرانية فاتحين كالشام ومصر وغيرهما (¬1). وعليه فإن الكتابي هو مَنْ تَدَيَّنَ باليهودية أو النصرانية أو بنحلة أو ملة أو فِرْقة تنتسب إليهما. ومن كانت لأبوين أحدهما كتابي والآخر وثني فاختارت دين الكتابي منهما فإنها كتابية تُقَرُّ على دينها. وهذا مذهب الجمهور خلافًا للشافعية، وقول عند الحنابلة، وقد ذهب ابن قدامة وابن تيمية والمرداوي من الحنابلة إلى قول الجمهور ورجحوه (¬2). وقد اتفقوا في الجملة على جواز نكاح الكتابية بدار الحرب إذا خشي العنت وغلبت عليه شهوته؛ لأن التحرز عن الزنا فرض ولا يتوصل إليه إلا بالنكاح (¬3). واتفقوا أيضًا على أولوية المسلمة في النكاح بالإجماع؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فاظفر بذات الدين تربت يداك" (¬4). ¬

_ (¬1) دقائق التفسير، لابن تيمية، (3/ 19 - 20) بتصرف. (¬2) بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 271)، مغني المحتاج، للشربيني، (3/ 189)، حاشية قليوبي على شرح المنهاج، (3/ 252)، المغني، لابن قدامة، (9/ 549)، دقائق التفسير، لابن تيمية، (3/ 18)، الأنكحة الفاسدة والمنهي عنها في الشريعة الإسلامية، د. أمير عبد العزيز، مكتبة الأقصى، عمان، ط 1، (1/ 323). (¬3) شرح السير الكبير، (5/ 101)، تحفة المحتاج، للهيتمي، (7/ 322)، مطالب أولي النهى، (5/ 7). (¬4) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب: الأكفاء في الدين، (5090)، ومسلم، كتاب الرضاع، باب: استحباب =

واختلفوا في حكم نكاح الحرة الحربية في دار الحرب، وفيما يلى نُوردُ الأقوالَ وقائليها: القول الأول: يحرم نكاح الكتابية الحربية في دار الحرب: وهو قول ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "نكاح الكتابيات الحربيات لا يحل في بلادهن" (¬1). وقول عمر وابنه -رضي الله عنهما-، وهو قول النخعي والثوري ومجاهد والحكم (¬2). وهو إحدى الروايتين عند الحنابلة؛ قال المرداوي: "قيل: يحرم نكاح الحربية مطلقًا، وقيل: يجوز في دار الإسلام، لا في دار الحرب، وإن اضطر، وهو منصوص كلام أحمد" (¬3). وقال صاحب المحرر: "لا يحل لمسلم نكاح كافرة إلا حرائر أهل الكتاب غير الحربيات، وفي الحربيات وجهان" (¬4). وقال الخرقي: "ولا يتزوج بأرض العدو إلا أن تغلب عليه الشهوة فيتزوج مسلمة، ويعزل بها، ولا يتزوج منهم" (¬5). وقد أشار ابن تيمية إلى أن الذي يُفهم من كلام الإمام أحمد هو حرمة نكاح الحربيات بدار الحرب (¬6). وهو رواية عند الحنفية نَصَرَها ابن عابدين فقال: "إطلاقهم الكراهة في الحربية يفيد أما تحريمية. . . على أن التعليل يفيد ذلك، ففي الفتح: ويجوز تزوج الكتابيات، والأَولى ألَّا يُفعل، وتكره الكتابية الحربية إجماعًا، لافتتاح باب الفتنة من إمكان التعلق ¬

_ = نكاح ذات الدين، (1466)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬1) أخرجه أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن، (2/ 17) بسند صحيح، رجاله ثقات. (¬2) تفسير الطبري، (8/ 146)، نهاية المحتاج، للرملي، (6/ 290)، الإشراف، لابن المنذر، (5/ 93). (¬3) الإنصاف، للمرداوي، (8/ 135). (¬4) المحرر، لمجد الدين ابن تيمية، (2/ 21). (¬5) مختصر الخرقي، لأبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي، دار الصحابة للتراث، (ص 141). (¬6) الفتاوي الكبرى، لابن تيمية، (5/ 460).

المستدعي للمقام معها في دار الحرب، وتعريض الولد على التخلق بأخلاق أهل الكفر، وعلى الرق بأن تُسبى وهي حبلى فيولد رقيقًا، وإن كان مسلمًا". اهـ. فقوله: الأَولى ألَّا يُفعل يفيد أن الكراهة تنزيهية في غير الحربية، وما بعده يفيد كراهة التحريم في الحربية؛ فتأمَّل" (¬1)، وهو ما رجحه أبو بكر الرازي الحنفي، فقال: فينبغي أن يكون نكاح الحربيات محظورًا؛ لأن قوله تعالى: {يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] إنما يقع على أهل الحرب؛ لأنهم في حدٍّ غير حدنا (¬2). وهو قول القرطبي من المالكية (¬3) وقوَّاه القاسمي (¬4) وانتصر له طائفة من المعاصرين، منهم: ابن باديس وغيره من علماء الجزائر، ود. يوسف القرضاوي، وعبد المتعال الجابري. قال الشيخ: أحمد بن محمد حماني (¬5): "فإن كانت الكتابية لا تنالها أحكامنا لم يجز التزوج بها خشيةً على أولاد المسلمين من أن تغلب عليهم، ولهذا أفتى الشيخ عبد الحميد بن باديس (¬6) -رحمة الله عليه- بحرمة تزوج المسلمين من الفرنسيات اليهوديات والنصرانيات؛ لأن القوانين الفرنسية تعتبر أولادهن فرنسيين متجنسين لا تنالهم أحكام الشريعة الإسلامية في الزواج والطلاق والإرث وغير ذلك" (¬7). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين، (4/ 134). (¬2) أحكام القرآن، لأبي بكر الرازي الحنفي، (3/ 326). (¬3) تفسير القرطبي، (3/ 69). (¬4) محاسن التأويل، للقاسمي، (6/ 1872). (¬5) أحمد بن محمد بن مسعود حماني، من علماء الجزائر ولد 1915 م، تقلد منصب رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، كان مفتيًا للجزائر، توفي -رحمه الله- 1998 م، ترجمته في فتاوي حماني، (2/ 601 - 602). (¬6) عبد الحميد بن محمد المصطفى بن باديس القسنطيني ترجع أصوله إلى المعز بن باديس مؤسسة الدولة الصنهاجية، توفي 1940 م. نوابغ العرب، مجموعة من الباحثين دار العودة بيروت الجزء (14). (¬7) فتاوي الشيخ حماني، وزارة الشئون الدينية، الجزائر، 1993 م، (2/ 143). آثار ابن باديس، (3/ 309).

ومعلوم أنهما كانا يَريان حرمة التجنس بالجنسية الفرنسية وغيرها من الجنسيات الغربية، ويعدان هذا العملَ ردةً عن الإسلام (¬1). وقال الشيخ القرضاوي: ". . . وبناءً على هذا لا يجوز لمسلم في عصرنا أن يتزوج يهودية، ما دامت الحرب قائمة بيننا وبين إسرائيل، ولا قيمة لما يقال من التفرقة بين اليهودية والصهيونية، فالواقع أن كل يهودي صهيوني؛ لأن المكونات العقلية والنفسية للصهيونية إنما مصدرها التوراة وملحقاتها وشروحها والتلمود. . . وكل امرأة يهودية إنما هي جندية -بروحها- في جيش إسرائيل! " (¬2). وقال الجابري: "ونحن حين نتأمل أعمال الكفار اليوم نجدها كلها حربًا للمسلمين، أو قائمة على أساس خصومة محاربة؛ ولذا وجب أن لا نتزوج غير المسلمات أبدًا، مهما اختلفت نحلتهم وملتهم. فها نحن نرى الوثنيين الهنود يشنونها حروبَ إبادة للمسلمين في بلادهم، كما يشنونها غارات شعواء، ويديرونها مؤامرات خبيثة ضد مسلمي باكستان وكشمير، كما أنها استعمرت حيدر آباد الإسلامية، وطردت النظام المسلم. وكل مسيحي العالم: أمريكا وانجلترا وفرنسا وهولندا وأسبانيا والبرتغال وبلجيكا واليونان وروما، بل والحبشة، وإسرائيل، وغيرهم -لهم في حروب المسلمين من الخناجر المسمومة والملطخة بدماء المسلمين ما يندى له جبين الحر والحرية" (¬3). القول الثاني: يكره نكاح الكتابية الحربية في دار الحرب، وهو قول علي -رضي الله عنه-، ¬

_ (¬1) الهجرة إلى بلاد غير المسلمين، عماد بن عامر، دار ابن حزم، ط 1، 1425 هـ - 2004 م، (ص 244 - 245). (¬2) في فقه الأقليات المسلمة، د. يوسف القرضاوي، (ص 99 - 100)، الحلال والحرام في ميزان الإسلام، د. يوسف القرضاوي، (ص 153). (¬3) جريمة الزواج بغير المسلمات، أ. عبد المتعال الجابري، (ص 101).

وعطاء والحسن وطائفة من السلف (¬1) والشافعية، إلا في حالتين: الأولى: إذا خشي المسلم على نفسه العنت ولم يجد مسلمة. الثانية: أن يرجو إسلامها فيُسن. جاء في حاشية القليوبي (¬2) تعليقًا على قول الماتن: ("لكن تكره" كتابية "حربية"). قال: "إن لم يَرْجُ إسلامَها، ووجد مسلمة، ولم يَخَفِ العنتَ وإلَّا فلا كراهة، بل يُسن في الأَولى" (¬3). وهو مذهب الحنفية والمالكية. جاء في المبسوط: "بلغنا عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه سئل عن مناكحة أهل الحرب من أهل الكتاب فكره ذلك، وبه نأخذ. فنقول: يجوز للمسلم أن يتزوج كتابية في دار الحرب، ولكنه يُكره" (¬4). وفي حاشية الخرشي: ("إلا الحرة الكتابية بِكُره وتَأَكَّدَ بدار الحرب" يعني: أن كُرْهَ تزويج الحرة الكتابية في دار الحرب أشد مِنْ كُرْهِ تزويجها في بلد الإسلام) (¬5). والقول الثاني عند الحنابلة: يُكره إن دخل دار الحرب وحده بأمان كالتاجر ونحوه. قال ابن قدامة في المغني: "وأمَّا الذي يدخل إليهم بأمان كالتاجر ونحوه -فهو الذي أراد الخرقي إن شاء الله تعالى -فلا ينبغي له أن يتزوج" (¬6). ¬

_ (¬1) تكملة المجموع، للمطيعي، (16/ 232). (¬2) أبو العباس، شهاب الدين، أحمد بن أحمد بن سلامة، القليوبي، مشارك في كثير من العلوم، وله تصانيف كثيرة، منها: حاشية على شرح المنهاج للجلال المحلي، وحاشية على شرح التحرير لشيخ الإسلام، وحاشية على شرح أبي شجاع لابن قاسم الغزي، وغير ذلك، توفي سنة 1069 هـ الأعلام، للزركلي، (1/ 92)، معجم المؤلفين، (1/ 148). (¬3) حاشية قليوبي على شرح المنهاج، (3/ 250). (¬4) المبسوط، للسرخسي، (5/ 50). (¬5) حاشية الخرشي على مختصر خليل، (4/ 243) باختصار. (¬6) المغني، لابن قدامة، (13/ 149).

وبالجملة فإن كل من كره نكاح الكتابية في دار الإسلام يكره نكاحها في دار الكفر أو يحرمه. قال ابن عابدين: "وتكره الكتابية الحربية إجماعًا" (¬1). الأدلة والمناقشة: أدلة القول الأول: من القرآن الكريم، وآثار الصحابة، والمعقول: أولًا: القرآن الكريم: 1 - قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. وجه الدلالة: أَمَرَ الله تعالى بقتالى الكفار من أهل الكتاب الحربيين الذين لا يؤدون الجزية، والأمر بقتالهم يوجب عدم محبتهم ومودتهم، فعلى هذا لا يحل التزوج من نسائهم الحربيات؛ لأن الزواج مودة ومحبة (¬2). وذهب بعض الباحثين إلى عدم حل نكاحهن جميعًا، سواء في دار الحرب أو الإسلام؛ لأنهن لا يدفعن الجزية (¬3). وعليه: "فإن المسلم ممنوع أن يتزوج بدار الحرب كما نص عليه فقهاء المسلمين، مخافةَ أن يميل إليهم، أو يكثِّر سوادهم بأولاده، أو يسيطروا عليهم، أو يُغَيِّروا ميولهم واتجاهاتهم الفكرية، وهذا متحقق فيمن تزوج في هذه الدول من الجاليات الإسلامية؛ لأنهم -أي: أهل هذه الدولى الكتابية- في حكم الحربيين للمسلمين؛ إذ لا سيطرة ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين، (4/ 134). (¬2) أحكام القرآن، للجصاص، (3/ 326). (¬3) جريمة الزواج بغير المسلمات، عبد المتعال الجابري، (ص 103).

للمسلمين عليهم، وهم جادُّون ومجتهدون بغزوهم الثقافي المادي البحت للمسلمين بشتى الأساليب، بالتبشير وبذل الأموال والاشتراك في المنظمات، ومحاولة التقريب بين النصارى والمؤمنين، وإذابة الشخصية الإسلامية بالشخصية النصرانية، وإزالة الفروق بين المسلمين والكتابيين، ومحاولاتهم لتشكيك المسلمين في إسلامهم. ومن كانت هذه صفاتهم ألا يعتبرون محاربين؟! لأن الحرب الحقيقية هي المركزة ضد العقيدة (الحرب الثقافية والغزو الفكري)، أما الحرب العسكرية (حرب الأبدان) فهي فروع ونتيجة لغزو العقيدة، وهذا هو واقع العالم اليوم، فعلى المسلمين المقيمين بالغرب ألا يتزوجوا بكتابية؛ حيث إنهم لا يستطيعون إقامة الحكم الشرعي في الزواج، فإن كانت إقامة المسلم غير شرعية بينهم فليرجع إلى بلاد المسلمين فيتزوج منهم، وإن كان قد أسلم ابتداءً -وهو من أهل هذه الدول- فَلْيَدْعُ زوجته إلى الإسلام، ثم يبقى على زواجه؛ لأنهما دخلا بعقد معتقدين صحته. ثم إن استطاع الهجرة إلى بلاد المسلمين فليفعل" (¬1). 2 - قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. وجه الدلالة: أباح الله تعالى نكاح أهل الكتاب للمسلمين، والمراد بهن في هذه الآية الذميات دون الحربيات؛ لأنهن يلتزمن بأحكام الإسلام، ويدفعن الجزية، ويتمكن المسلمون من الركون إليهن، وتطمئن النفوس إلى نكاحهن في الجملة (¬2). 3 - قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]. ¬

_ (¬1) مجلة أضواء الشريعة، الصادرة عن كلية الشريعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، عدد 9، (ص 363). (¬2) أحكام القرآن، للجصاص، (3/ 326).

وجه الدلالة: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالى نفى عن المؤمنين بالله حقًّا محبةَ ومودةَ أعداءِ الله الذين عصوا ربهم، ونصبوا أشد العداوة والبغضاء لعباده المسلمين، وبما أن هذه الصفات المذكورة متحققة في الكتابية الحربية تكون مندرجة تحت ما نفاه الله عن عباده المؤمنين، من محبة ومودة أعدائه. فبهذا لا يحل التزوج بالحربية؛ لأن الزواج مودة ومحبة (¬1). والزواج يوجب المودة، يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. يؤيد ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9]. وهل هناك تولٍّ لهؤلاء أكثر من أن يزوج إليهم، وتصبح الواحدة من نسائهم جزءًا من أسرته، بل العمود الفقري في الأسرة؟ (¬2) 4 - قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26]. وجه الدلالة: بيَّن تعالى في هذه الآية أن الخبيثة للخبيث، والعكس، والكتابية الحربية خبيثة، فلا تكون للمسلم الطيب؛ لأن الطيبين للطيبات (¬3). ثانيًا: آثار الصحابة: 1 - عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه سئل عن نكاح الكتابية الحربية، فقال: من نساء أهل الكتاب من يحل لنا، ومنهم من لا يحل لنا، ثم قرأ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا ¬

_ (¬1) أحكام القرآن، للجصاص، (3/ 326)، روح المعاني، للآلوسي، (6/ 66). (¬2) في فقه الأقليات، د. يوسف القرضاوي، (ص 99). (¬3) محاسن التأويل، للقاسمي، (6/ 1873).

بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. قال: فمن أعطَى الجزيةَ حَلَّ لنا نساؤه، ومن لم يُعْطِ الجزيةَ لم يحلَّ لنا نساؤه (¬1) (¬2). وجه الدلالة: أن ابن عباس -رضي الله عنهما- حرَّم الزواج بالكتابية في دار الحرب، مستندًا في ذلك إلى كتاب الله -عز وجل-، فالتي تدفع الجزية هي التي تحلُّ، وهي الذمية، أما الحربية التي لا تدفع الجزية فلا تحلُّ. قال القاسمي: "وهذا الاستدلال دقيق جدًّا فَلْيُتَأَمَّلْ" (¬3). ونوقش: ناقش ابن العربي دليل ابن عباس بقوله: والمراد بالآية: إنما من تقبل منه الجزية، وعلى ذلك، تجوز مناكحة الحربية، وذِكر الجزية إنما هو في القتال، لا في النكاح (¬4)، فالأمر بالقتال ليس علة لفساد نكاحها، فحيث لا علاقة بين دفع الجزية وحل الزواج، فلا علاقة بين عدم دفعها وحرمته، فلا دلالة في الآية إذًا على تحريم الكتابية الحربية أو حلها (¬5). وأجيب بأنه: لرأي ابن عباس وجاهته ورجحانه لمن يتأمل، فقد جعل الله المصاهرة من أقوى ¬

_ (¬1) أخرجه: ابن جرير الطبري في "تفسيره" (8/ 146). (¬2) أحكام القرآن، للجصاص، (3/ 326)، تفسير القرطبي، (3/ 69)، محاسن التأويل، للقاسمي، (6/ 1872)، البحر المحيط، لأبي حيان، (3/ 448). (¬3) محاسن التأويل، للقاسمي، (6/ 1872). (¬4) أحكام القرآن، لابن العربي، (2/ 46). (¬5) العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين في الشريعة الإسلامية واليهودية والمسيحية، د. بدران أبو العينين، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1984 م، (ص 65).

الروابط بين البشر، وهي تلي رابطة النسب والدم؛ ولهذا قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54]. فكيف تتحقق هذه الرابطة بين المسلمين، وبين قوم يحادونهم ويحاربونهم، وكيف يسوغ للمسلم أن يصهر إليهم، فيصبح منهم أجداد أولاده وجداتهم وأخوالهم وخالاتهم؟ فضلًا عن أن تكون زوجه وربة داره وأم أولاد منهم؟ وكيف يُؤمَن أن تطلع على عورات المسلمين وتخبر بها قومها؟ (¬1)، وعن علي -رضى الله عنه- بنحوه. وقد ذُكر هذا القول لإبراهيم النخعي فأعجبه (¬2) وعن قتادة قال: لا تنكح امرأة من أهل الكتاب إلا في عهد (¬3). وعن ابن جريج قال: بلغني ألَّا تنكح امرأة من أهل الكتاب إلَّا في عهد (¬4). ثالثًا: المعقول: 1 - المسلم الذي يتزوج الكتابية الحربية، يكون مقيمًا معها في دار الحرب، مع أنه مأمور بكتاب الله وبسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة، قال تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97]. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" (¬5)، والبراءة لا تكون إلا على فعل محرم فالتزوج بالكتابية الحربية محرم؛ لأنه يفضي إلى الإقامة ¬

_ (¬1) في فقه الأقليات، د. يوسف القرضاوي، (ص 99). (¬2) تفسير الطبري، (8/ 146). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، (5/ 294) بسند صحيح، عن قتادة -رحمه الله-. (¬4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، (6/ 85)، عن ابن جريج بلاغًا، فإسناده منقطع. (¬5) أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب: النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، (2645)، والترمذي، كتاب الجهاد والسير، باب: ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين، (1604)، وقال: "سمعت محمدًا يقول: الصحيح حديث قيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل".

معها في دار الحرب، وفي هذا مخالفة لأمر الله، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة منها، وتكثير لسواد الكفار، وتقليل لعدد المسلمين (¬1)، والمسلم الذي يفعل هذا الزواج يُخشى عليه من موالاة أعداء الله ورسوله والمسلمين، وقد نهى الله تعالى عن موالاتهم، فقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]. 2 - المسلم بفعله هذا يعرض نفسه وولده لمخاطرَ سيئةٍ لا يستطيع الإفلات منها، فربما أثَّرت عليه وعلى ولده فتخلقوا بأخلاقها، وشَبُّوا على عاداتها وعادات قومها الفاسدة، وأخطر من هذا ربما مالوا إلى دينها وارتدوا عن الإسلام. 3 - الأصل في حل المباحات ألَّا يترتب عليها ضرر محقق ولا فتنة غالبة، فإذا أفضى استعمالها إلى شيء من ذلك فقد حرمت؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" (¬2) فيجب دفع الضرر عن النفس، ودفع الأضرار عن الغير. وإذا كان المسلمون في بلد ما يمثلون أقلية محدودة، مثل بعض الجاليات في أوروبا وأمريكا، وبعض الأقليات في آسيا وأفريقيا، فمنطق الشريعة وروحها يقتضي تحريم زواج الرجال المسلمين من غير المسلمات، وإلا كانت النتيجة ألَّا يجد بنات المسلمين -أو عدد كبير منهن- رجلًا مسلمًا يتقدم للزواج منهن، وحينئذ تتعرض المرأة المسلمة لأحد أمور ثلاث: 1 - إما الزواج من غير مسلم، وهذا باطل في الإسلام. 2 - وإما الانحراف، والسير في طريق الرذيلة، وهذا من كبائر الإثم. 3 - وإما عيشة الحرمان الدائم من حياة الزوجية والأمومة. ¬

_ (¬1) فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 229). (¬2) سبق تخريجه.

وكل هذا مما لا يرضاه الإسلام؛ وهو نتيجة حتمية لزواج الرجال المسلمين من غير المسلمات، مع منع المسلمة من التزوج بغير المسلم. وهذا الضرر هو الذي خافه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حين بلغه أن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- تزوج -وهو بالمدائن- امرأة يهودية، فكتب إليه عمر مرة أخرى: أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا حتى تخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون، فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن، وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين (¬1). ومن ناحية أخرى يُخشى أن يتساهل بعض الناس في شرط الإحصان -العفاف- الذي قيد به القرآن حل الزوج منهن، حتى يتعاطوا زواج الفاجرات، والمومسات، وكلتاهما مفسدة ينبغي أن تمُنع قبل وقوعها؛ عملًا بسد الذرائع، ولعل هذا نفسه ما جعل عمر يعزم على طلحة ابن عبيد الله إلَّا طلَّقَ امرأة كتابية تزوجها، وكانت بنت عظيم يهود (¬2). 4 - وتشتد المصيبة حين يولد لهما أطفال، فهم يشبون -غالبًا- على ما تريد الأم، لا على ما يريد الأب إن كانت له إرادة، فهم أدنى إليها، وألصق بها، وأعمق تأثُّرًا بها، وخصوصًا إذا وُلدوا في أرضها وبين قومها، وهنا ينشأ هؤلاء الأولاد على دين الأم، وعلى احترام قيمها ومفاهيمها وتقاليدها، وحتى لو بقوا على دين الأب، فإنما يبقون عليه اسمًا وصورة، لا حقيقةً وفعلًا، ومعنى هذا أننا نخسر هؤلاء الناشئة دينيًا وقوميًّا إن لم نخسر أباءهم أيضًا. ومن أجل هذه المفسدة، نرى كثيرًا من الدول تُحَرِّم على سفرائها وكذلك ضباط ¬

_ (¬1) شريعة الإسلام خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان، د. يوسف القرضاوي، (ص 39). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، (7/ 177)، وفي إسناده عامر بن عبد الرحمن بن نسطاس، وهو مجهول الحال.

جيشها أن يتزوجوا أجنبيات؛ بناءً على مصالحَ واعتباراتٍ وطنية وقومية (¬1). 5 - ولا شك أن المتزوج بالحربية في دار الكفر أو الحرب اليوم سيخضع لأحكام دولتها في شئون النكاح والطلاق رضي أو سخط، والواقع يشهد أن أطفالًا وُلدوا لآباء مسلمين قد تحولوا كفارًا بسب أمهاتهم اللائي طُلِّقْنَ من الأزواج فاسْتَحْقَقْنَ نصفَ مال الزوج وجميع الذرية بالحضانة، وعليه فلا بد من نظرة تقويمية لواقع هذا الزواج وآثاره على الذرية. حدَّثَ أحد الباحثين المقيمين في الغرب فقال: "صديق لي تزوج بامرأة ألمانية نصرانية، ولم يكن حسن الالتزام بدينه، وكانت هي أيضًا بعيدة عن دينها، ويَسَّر الله لهذا الرجل أن تَعَرَّف على المسلمين الملتزمين وعلى المسجد حتى أصبح من رواده، وأصبح داعية للإسلام، وكان له من زوجته خمسة أولاد لا تتجاوز أعمارهم السبع سنوات، وصار يُحضرهم معه إلى المسجد ويُعلمهم الإسلام، وبدأت العداوة تكبر في صدر امرأته حتى اشتعل صدرُها ببغض هذا الدين، ودفعها هذا البغض إلى الاقتراب من الكنيسة والدفاع عنها، وكانت تثور في البيت المجادلات الدينية، والتي لم تنتهِ إلا بطلب المرأة الطلاق، وصدر الحكم بالطلاق، وكانت الأم قد أَطلعتِ القاضي على سبب العداوة بينها وبين زوجها، الذي انقلب إلى رجل متعصب بزعمها، ويريد أن يربي أولاده على الإسلام ويأخذهم إلى المسجد، فمال القاضي إليها وحكم لها بحضانة الأطفال الخمسة، ولم يعد يسمح للأب أن يزور أولاده إلا مرة واحدة في الأسبوع، وحرصت الأم بعد ذلك على غرس الكفر في نفوس الأطفال فصارت تصحبهم إلى الكنيسة بعد أن كانت الكنيسة لا تعني شيئًا لها، تطبخ لهم الخنزير وتنفرهم من الإسلام، وكان الأب في غضون زيارة الأولاد له يحرص على تعليمهم ¬

_ (¬1) في فقه الأقليات، د. يوسف القرضاوي، (ص 102 - 103).

الصلاة وتحبيبهم بها، فلما علمت الأم بذلك أخبرت القاضي، الذي قام بإنذار الأب بحرمانه من زيارة أطفاله له، إذا حدَّثهم عن الإسلام أو الصلاة، أو حتى صلى إحدى الصلوات أمامهم، وهذا غيض من فيض مما يجري في بلاد الغرب، من حرب الإسلام وأهله والاعتداء على أبناء المسلمين لإبعادهم عن دينهم، ومنذ أيام قلائل اتصل بي أحد الأخوة، وأخبرني أن صديقًا له من المسلمين العرب توفي وله زوجة ألمانية، فأراد أهله وأصدقاؤه دفنه في مقبرة المسلمين، فرفضت زوجته وأصرَّت على أن يُدفن في مقابر النصارى، فذهب بعض الأخوة يترجونها للسماح بدفنه في مقابر المسلمين، فلم تَقبل ودُفن في مقابر النصارى، فالزوجة في القانون الألماني هي التي تأخذ هذا القرار، وليس لأهله أو أسرته حق في التدخل بهذا الشأن؛ لذلك يجب على المسلم أن لا يُقْدِمَ على الزواج من كتابية في بلاد الغرب، إلا إذا استوثق لعرضه ودينه ودين أولاده، وإلا فهو مضيِّع للأمانة التي حمَّلَهُ الله إياها، وسيُسأل عن ذلك يوم القيامة (¬1). وبناءً عليه: فإن غلبة الظن حاصلة في زواج كهذا بعدم الاستقرار في هذا الزواج وضياع الذرية دينيًّا وتربويًّا. ويقول الشيخ محمد رشيد رضا: "أحلَّ الله العفائف من أهل الكتاب، وهو جائز بالنص، وأنه لا يحرم إلا لسبب آخر يدخل في باب سدِّ الذرائع كأن يستلزم شيئًا من المفاسد المحرمة وأشدها أن يتبع الأولاد كلهم أو بعضهم الأمَ في دينها، إما بحكم قوانين تلك البلاد، وإما لكون المرأة أرقى من زوجها علمًا وعقلًا وتأثيرًا بحيث تغلبه على أولاده فتربيهم على دينها" (¬2). ¬

_ (¬1) أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في الغرب، د. سالم الرافعي، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1423 هـ - 2002 م، (ص 418 - 419). (¬2) الفتاوي، لمحمد رشيد رضا، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط 1، 1390 هـ، (4/ 1596).

ويقول الشيخ شلتوت -رحمه الله-: "فإذا انسلخ الرجل المسلم عن حقه في القوامة وألقى بمقاليد نفسه وأسرته وأبنائه إلى زوجته الكتابية فتصرَّفت فيه وفي أبنائه بمقتضى عقيدتها وعاداتها، ووضع نفسه تحت رايتها ومشورتها؛ فإن ذلك نكسٌ للقضية وقلبٌ للحكمة التي أحل الله لأجلها التزويج بالكتابيات، فقد تُنشئهم على الكفر وعادات الشرك، مما لا يقره الإسلام ولا يرضاه، أو يعتبر الرضا به والسكوت عليه كفرًا أو خروجًا من الملة؛ فإن الإسلام يرى أن المسلم إذا شذَّ عن مركزه الطبيعي في الأسرة وألقى بمقاليد أمره بين يدي زوجته غير المسلمة وجب منعه من التزويج بها" (¬1). فمثل هؤلاء ليسوا من المسلمين إلا في الجنسية السياسية ففتنتهم بالكفر أكبر من فتنتهم بالنساء (¬2). أدلة القائلين بالكراهة ومناقشتها من القرآن الكريم، والمعقول: أولًا: القرآن الكريم: قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. وجه الدلالة: الآية عامة في إباحة نساء أهل الكتاب للمسلمين، ولم تُفرق بين أن يكون الزواج بها في دار الإسلام، أو في دار الحرب، فاختلاف الدار لا أثر له في إباحة الزواج أو تحريمه. "وظاهر الآية يقتضي جواز نكاح الجميع، الذميات والحربيات؛ لشمول الاسم لهن" (¬3). وقال القاسمي -رحمه الله-: "استدلَّ بعموم الآية من جَوَّزَ نكاح الحربيات الكتابيات" (¬4). ¬

_ (¬1) الفتاوي، دراسة لمشكلات المسلم المعاصر في حياته اليومية العامة، لمحمود شلتوت، دار الشروق، القاهرة، ط 18، 1424 هـ - 2004 م، (ص 240). (¬2) تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا، (6/ 196). (¬3) أحكام القرآن، للجصاص، (2/ 326). (¬4) محاسن التأويل، للقاسمي، (6/ 1872).

ثانيًا: المعقول: إن نكاح الكتابية المقيمة في دار الحرب، يفضي إلى أمور سيئةٍ تستوجب كراهة زواجها، منها: 1 - أن زوجها مقيم معها في دار الحرب، وهذا فيه تكثير لسواد الكفار، وقد تبرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن أقام مع المشركين ولم يهاجر إلى ديار المسلمين. 2 - أن الكتابية التي في دار الحرب لم تخضع لأحكام الإسلام، بخلاف التي في دار الإسلام، وهذا مما يقوي سلطتها على زوجها، وشدة تأثيرها عليه، فيميل إلى حبها ومودتها، فتفتنه عن دينه، وتُخَلِّقُه بأخلاقها، وتُعَوِّدُه على عاداتها الفاسدة. 3 - أن الكتابية في دار الحرب تشرب الخمر وتأكل الخنزير وغيرهما من المحرمات، عيانًا بيانًا، والدين المحيط بها هو الكفر، فميلها إلى دين أهلها وقومها هو الأقرب، بل ربما أثَّرت على زوجها، فمال معها، بخلاف الكتابية في دار الإسلام؛ فإنها تشرب الخمر وتأكل الخنزير خفية ولا يُسمح لها بالتظاهر به، والدين المحيط بها هو الإسلام بعزته وآدابه السامية، فميلها إلى دين زوجها هو الأقرب. 4 - تنشئة أولاده فلذات كبده، على دينها الخبيث، وخلقها وعاداتها السيئة؛ لأنها هي الأقرب لهم من أبيهم، فعطفها وحنانها له تأثير كبير على سلوكهم وأخلاقهم، ولكون الدين المحيط بهم هو الكفر، والخلق والعادات المحيطة بهم هي خلق وعادات الكفار، فهذا أيضًا له الأثر البالغ في ميل أبنائه إلى دين أمهم وأخلاقها. 5 - تعريض الولد للاسترقاق؛ لأنها ربما تكون حاملًا منه، فتنشب الحرب بين المسلمين والكفار، وينتصر المسلمون على عدوهم، وتؤسر الأم، فلا تُصَدَّقُ بأن هذا الحمل من مسلم، فيترتب على ذلك أن يولد الولد رقيقًا مملوكًا، لمن وقعت الأم في أسره. فلهذه المفاسد وغيرها كثير، كان النكاح بالكتابية في دار الحرب أشد كراهة منه

في دار الإسلام (¬1). مناقشة أدلة القائلين بالكراهة: الدليل من القرآن الكريم: بالنسبة لاستدلالهم بعموم قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. يقال لهم: بأن الآية خاصة بنكاح الكتابيات في دار الإسلام، وهن الذميات؛ لأنهن يدفعن الجزية، ويلتزمن بالأحكام الإسلامية العامة، فرجاء إسلامهن هو الأقرب، كما فهم ذلك ابن عباس -رضي الله عنهما-. والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عندما أباح نكاحهن للمسلمين، ليس فقط لقضاء العشرة الزوجية معهن، بل الأهم من ذلك هو ميلهن إلى دين أزواجهن وهو الإسلام. أما الكتابية الحربية، فخرجت من عموم الآية؛ لأنها لم تَجْرِ عليها الأحكام الإسلامية، ولم تدفع الجزية، فالهدف الذي من أجله أباح الله نكاحها للمسلمين قد لا يحصل، بل ربما حصل العكس، وهو تأثيرها على زوجها المسلم وأولاده، فيميلون إلى دينها ودين قومها، وهو الكفر. وأجيب عن ذلك: بأنه لا دليل على تخصيص الآية بالذميات، فالآية عامة في إباحة الزواج بالكتابيات حربيات أو ذميات، وهذا هو ما فهمه أكثر أهل العلم (¬2). ¬

_ (¬1) المبسوط، للسرخسي، (5/ 50)، فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 229)، تبيين الحقائق، للزيلعي، (2/ 109)، المدونة، رواية سحنون بن سعيد، (2/ 218 - 219)، تفسير القرطبي، (3/ 69)، المهذب، للشيرازي، (2/ 44)، مغني المحتاج، للشربيني، (3/ 187)، حاشية قليوبي على شرح المنهاج، (3/ 250)، كشاف القناع، (5/ 84)، شرح منتهى الإرادات، للبهوتي، (5/ 173). (¬2) أحكام القرآن، للجصاص، (2/ 326)، البحر المحيط، لأبي حيان، (3/ 448)، محاسن التأويل، =

ويُرَدُّ على ذلك: بأن الآثار المروية عن بعض الصحابة في تحريم الزواج بالكتابيات في دار الحرب، وما سبق ذكره من المخاطر والمفاسد التي تعود على المسلمين بزواجهم من الكتابيات الحربيات، قد يُخَصِّصُ العموم، فتخرج الكتابية الحربية من هذا، وتبقى الآية خاصة بالذمية. مناقشة دليل المعقول: أما الرَّد على ما استدلوا به من المعقول على أن كراهة الزواج بهن كراهة تنزيهية. فيمكن أن يجاب عن ذلك: بأن حمل هذه المفاسد والمخاطر التي تعود على المسلم بزواجه من الحربية على الكراهة التحريمية هو الأَولى؛ لأن المسلم الذي يتزوج بالحربية، سيبقى مقيمًا معها في دار الحرب، والله سبحانه وتعالى أمر المسلمين بالهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، بقوله: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97]. فبقاء المسلم مع زوجته الحربية في دارها فيه مخالفة لأمر الله بالهجرة، ومخالفة المسلم أَمْرَ ربه محرَّم، وبهذا يكون الزواج بالكتابية الحربية محرُّمًا؛ لأن ما أدى إلى الحرام فهو حرام، والزواج بالكتابية الحربية يؤدي إلى الإقامة في دار الحرب وتكثير سواد الكفار، وهذا محرم. ولأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تبرأ من المسلم الذي يقيم بين المشركين، والبراءة لا تكون إلا على فعل محرَّم، وهو الإقامة مع المشركين في دارهم عندما يتزوج المسلم بالكتابية الحربية (¬1). الترجيح: مع قوة أدلة القائلين بالكراهة فحسب، إلا أن الواقع اليوم بمتغيراته ومستجداته، ¬

_ = للقاسمي، (6/ 1872). (¬1) اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية، د. عبد العزيز مبروك الأحمدي، (ص 249 - 251).

يشهد بمفاسدَ عظيمةٍ لا يمكن بحال أن تكون الشريعة ناظرة إليها بمنظار الكراهة، ولا شك أن هذا من موارد تغير الفتيا في المسائل الاجتهادية. وإذا كان بعض العلماء منع حتى من نكاح المسلمة في دار الحرب (¬1)، وإذا فعل فلا ينبغي له أن ينجب حفظًا للذرية، وحماية لها من الكفر ومخاطره، فإن نكاح الكتابية الحربية أولى بالمنع، بل بالتحريم. مع التسليم بأن من خَشِيَ على نفسه الوقوع في الزنا جاز له أن يتزوج من الكتابية في دار الحرب مع توقي الإنجاب ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، والله المستعان. حكم نكاح الكتابية الذمية: اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: الجواز مع الكراهة: وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، وهو رأي الحنابلة إلا أنهم عبروا عنه بأنه خلاف الأَولى. قال مالك: أَكْرَهُ نساء أهل الذمة اليهودية والنصرانية، وما أُحرمه (¬2). جاء في الدر المختار: ("وصح نكاح كتابية" وإن كُرِهَ تنزيهًا) (¬3). وفي مختصر خليل: "والكافرة إلا الحرة الكتابية بِكُرْهٍ" (¬4)، أي: يحرم نكاح الكافرة إلا الحرة الكتابية فهو جائز مع الكراهة. وفي روضة الطالبين: "الكفار ثلاثة أصناف، أحدها: الكتابيون فيجوز للمسلم ¬

_ (¬1) مذهب الشافعية وقول الإمام أحمد بكراهة أن يتزوج المسلم من المسلمة بدار الكفر وبين ظهراني أهل الحرب، وقال أحمد: أكره أن يتزوج الرجل في دار الحرب، أو يتسرى من أجل ولده أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 809)، نهاية المحتاج، للرملي، (6/ 290). (¬2) المدونة، رواية سحنون بن سعيد، (2/ 219). (¬3) الدر المختار، للحصكفي، مع حاشية ابن عابدين، (4/ 125 - 134). (¬4) مختصر خليل مع مواهب الجليل، (5/ 133).

مناكحتهم، سواء كانت الكتابية ذمية أو حربية، لكن تكره الحربية، وكذا الذمية على الصحيح" (¬1). وفي المبدع: ("إلا حرائر أهل الكتاب" فإنها تحلُّ بغير خلاف نعلمه. . . والأَولى تركه) (¬2). القول الثاني: الجواز من غير كراهة: وهو مذهب ابن القاسم المالكي، والظاهرية. جاء في حاشية الخرشي عن نكاح الكافرة ("إلا الحرة الكتابية بِكُرْهٍ" وعلى قول ابن القاسم يجوز بلا كراهة) (¬3). وفي المحلَّى: (وجائز للمسلم نكاح الكتابية) (¬4). القول الثالث: لا يجوز نكاح الحرة الكتابية مطلقًا ذمية كانت أو حربية: وهو رأي ابن عمر -رضي الله عنهما-، ولم ينقل عن غيره. فقد كان ابن عمر -رضي الله عنهما- لا يجوِّز ذلك، ويقول: "الكتابية مشركة" (¬5). قال الباجي: ولا أعلم أحدًا منعه غير عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- (¬6). أدلة كل رأي: أولًا: استدل الجمهور بالكتاب، وآثار الصحابة، والمعقول: 1 - القرآن الكريم: ¬

_ (¬1) روضة الطالبين، للنووي، (7/ 135). (¬2) المبدع شرح المقنع، لابن مفلح، (7/ 70 - 71) باختصار. (¬3) حاشية الخرشي على مختصر خليل، (4/ 242). (¬4) المحلى، لابن حزم، (9/ 445). (¬5) أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب: قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}، (5285). (¬6) المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد الباجي، (5/ 130).

استدلوا على حل نكاح الكتابيات بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. وجه الدلالة: نصت الآية الكريمة على حل نكاح المحصنات من أهل الكتاب، والمراد بهن العفيفات (¬1). 2 - آثار الصحابة: عن جابر -رضي الله عنه- وسئل عن نكاح المسلمِ اليهوديةَ والنصرانيةَ، قال: "تزوجناهن زمان الفتح بالكوفة مع سعد بن أبي وقاص، ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرًا، فلما رجعنا طلقناهن، وقال: لا يرثن مسلمًا ولا يرثونهن، ونساؤهم لنا حل، ونساؤنا حرام عليهم" (¬2). وجه الدلالة: يجوز ارتكاب المكروه للحاجة إليه وهو نكاح الكتابيات حال عدم وجدان المسلمات؛ ولهذا حين رجعوا طلقوهن، مع نصهم على حلهن فأفاد هذا الكراهة (¬3). 3 - المعقول: واستدلوا على كراهة نكاح الكتابيات من المعقول بما يلي: أ - ربما كانت سببًا في فتنته عن دينه، وتحوُّله عن ملته (¬4). ب - ربما تفسد دين أولاده، وتغذيهم بدينها، وتطعمهم الحرام، وتسقيهم الخمر (¬5). ¬

_ (¬1) أحكام القرآن، لأبي بكر الجصاص، (3/ 324)، أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 794). (¬2) أخرجه البيهقي، كتاب النكاح، باب: ما جاء في تحريم حرائر أهل الشرك دون أهل الكتاب، وتحريم المؤمنات على الكفار، (7/ 172) بسند حسن لأجل عبد المجيد بن عبد العزيز، قال عنه الحافظ في التقريب: "صدوق يخطئ". (¬3) السنن الكبرى، للبيهقي، (7/ 172). (¬4) المغني، لابن قدامة، (9/ 546) بتصرف. (¬5) المدونة، رواية سحنون، (2/ 219).

ثانيًا: استدل المجوزون بالكتاب، وبعمل الصحابة: فمن الكتاب قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. وجه الدلالة: ظاهر الآية يدل على جواز نكاح الكتابيات من غير كراهة (¬1). وقد تزوج عثمان بن عفان نائلة بنت الفرافصة الكلبية على نسائه، وهي نصرانية فأسلمت عنده (¬2). ثالثًا: استدل ابن عمر -رضي الله عنه- بالكتاب، ومنه: 1 - قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]. وجه الدلالة: نهى الله تعالى عن نكاح المشركات، والكتابية مشركة؛ لأنها تقول: عيسى ربها (¬3)، فهي ناسخة لآية المائدة. 2 - قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. وجه الدلالة: دلت الآية على حرمة إبقاء الكافرة في عصمة المسلم، وهذا يقتضي حرمة الابتداء، والكتابية كافرة، فدل على حرمة نكاحها. وقد أمَرَ عمرُ حذيفةَ -رضي الله عنهما- بطلاق يهودية تزوجها، وكتب إليه أن يفارقها (¬4). ¬

_ (¬1) المبسوط، للسرخسي، (4/ 210). (¬2) أخرجه البيهقي، كتاب النكاح، باب: ما جاء في تحريم حرائر أهل الشرك دون أهل الكتاب، وتحريم المؤمنات على الكفار، (7/ 172) وفي إسناده عمر مولى غفرة، قال عنه الحافظ في التقريب: "ضعيف كثير الإرسال". (¬3) أحكام القرآن، للجصاص، (3/ 326). (¬4) أخرجه البيهقي، كتاب النكاح، باب ما جاء في تحريم حرائر أهل الشرك دون أهل الكتاب، وتحريم المؤمنات على الكفار، (7/ 172) قال الحافظ في التلخيص الحبير، (3/ 357): "سند لا بأس به".

3 - كما قالوا: إن آية البقرة ناسخة لآية المائدة. المناقشة: أولًا: مناقشة أدلة أصحاب القول الأول: لا نسلم بأن المحصنات هنا العفيفات، بل المراد بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب في الآية اللاتي أسلمن من أهل الكتاب (¬1)، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 199]، وقوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113، 114]، فالمراد من كان من أهل الكتاب فأسلم (¬2). ويجاب عن ذلك بما يلي: 1 - إطلاق لفظ أهل الكتاب ينصرف إلى الطائفتين من اليهود والنصارى دون المسلمين، ودون سائر الكفار، ولا يطلق أحد على المسلمين أنهم أهل الكتاب، كما لا يطلق عليهم أنهم يهود أو نصارى، والله تعالى حين قال: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [آل عمران: 199]، فإنه لم يطلق الاسم عليهم إلا مقيدًا بذكر الإيمان عقيبه. وكذلك قال: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]، فذكر إيمانهم بعد وصفهم بأنهم أهل الكتاب، فليس في القرآن إطلاق أهل الكتاب من غير تقييد إلا ويُراد به اليهود ¬

_ (¬1) المبسوط، للسرخسي، (4/ 210). (¬2) أحكام القرآن، للجصاص، (3/ 325).

والنصارى، وغير جائز لنا الانصراف عن الظاهر إلى غيره إلا بدلالة، وليس من دلالة توجب صرفه عن ظاهره (¬1). 2 - لو كان المراد بالكتابية مَنْ أسلمت منهن لم يكن لتخصيصها بالذكر معنى؛ فإن غير الكتابية إذا أسلمت حل نكاحها (¬2). يوضح ذلك أنه قد ذكر المؤمنات في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة: 5]، فانتظم ذلك سائرَ المؤمنات ممن كن مشركات، أو كتابيات فأسلمن، وممن نشأ منهن على الإسلام فغير جائز أن يعطف عليه مؤمنات كُنَّ كتابيات (¬3). 3 - معلوم أنه لم يُرِدْ بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، طعام المؤمنين الذين كانوا من أهل الكتاب، وأن المراد به اليهود والنصارى، كذلك: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] هو على الكتابيات دون المؤمنات (¬4). مناقشة أصحاب القول الثالث: 1 - إن لفظة المشركين أو المشركات عند إطلاقها إنما تتناول عبدة الأوثان والمجوس، ولا تتناول أهل الكتاب، بدليل قوله سبحانه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 6]، وقوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 105]، وسائر آي القرآن يفصل بينهما، وظاهر العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف ¬

_ (¬1) أحكام القرآن، للجصاص، (3/ 325 - 326). (¬2) المبسوط، للسرخسي، (4/ 210). (¬3) أحكام القرآن، للجصاص، (3/ 325). (¬4) الذخيرة، للقرافي، (4/ 323)، الحاوي، لأبي الحسن علي بن محمد الشهير بالماوردي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1414 هـ - 1994 م، (9/ 222).

عليه، فدل على أن لفظة المشركين بإطلاقها غير متناولة لأهل الكتاب (¬1). ويجاب: بأن الله تعالى وصف أهل الكتاب بالشرك، فقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] (¬2). ويرد على هذا الجواب: بأن أهل الكتاب ليس في أصل دينهم شرك، فإن الله إنما بعث الرسل بالتوحيد، فكل من آمن بالرسل والكتب لم يكن في أصل دينهم شرك، ولكن النصارى ابتدعوا الشرك، كما قال سبحانه: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، فحيث وصفهم بأنهم أشركوا فلأجل ما ابتدعوه من الشرك الذي لم يأمر الله به، ووجب تمييزهم عن المشركين؛ لأن أصل دينهم اتباع الكتب المنزلة التي جاءت بالتوحيد، لا بالشرك، كما أن الله سبحانه لم يخبر عن أهل الكتاب أنهم مشركون بالاسم، بل قال {عَمَّا يُشْرِكُونَ} بالفعل، وفي آية البقرة {الْمُشْرِكَاتِ} بالاسم، والاسم أوكد من الفعل (¬3). 2 - آية البقرة عامة في حرمة نكاح جميع المشركات، ويخصصها قوله سبحانه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5]، فتكون الأُولى مرتبة على الثانية؛ لأنه متى أمكننا استعمال الآيتين على معنى ترتيب العام على الخاص وجب استعمالهما (¬4). 3 - أو يقال: إن آية المائدة في حل نساء أهل الكتاب ناسخة لآية البقرة في تحريم المشركات؛ لأن ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي، (3/ 69)، المغني، لابن قدامة، (9/ 545 - 546). (¬2) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (32/ 179). (¬3) المرجع السابق، (32/ 179). (¬4) أحكام القرآن، للجصاص، (3/ 325).

المائدة نزلت بعد البقرة باتفاق العلماء، والآية المتأخرة تنسخ الآية المتقدمة إذا تعارضتا (¬1). وقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. نوقش بأن: 1 - المقصود بالكوافر في الآية المشركات؛ فإن الآية نزلت في قصة الحديبية، ولم يكن للمسلمين زوجات من أهل الكتاب إذ ذاك (¬2). 2 - الآية عامة في كل كافرة، وتخصصها آية المائدة: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5]، والخاص يجب تقديمه (¬3). الترجيح: الراجح -والله أعلم- ما ذهب إليه الحنابلة من القول بحل نكاح الكتابيات، ولكنه خلاف الأَولى؛ لما يلي: الآية الكريمة: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5]، دلت على حل نكاحهن، ولفظ الحل هنا لا يدل على الكراهة، ولو كان لبينه الله سبحانه أو رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإذا لم يَرِدْ فالأصل هو الجواز. ولكن يقال بأن نكاح الكتابية خلافُ الأَولى؛ لما ذكره الفقهاء من الخشية على دين الأولاد، بل دين الزوج المسلم. ولا يقال: إن ذلك كافٍ في القول بالكراهة؛ إذ يقابله مصلحة عظمى، وهو إسلام الكتابية المرجو باقتران المسلم بها، والمعروف أن المرأة تتبع دِينَ الرجل، على أن الكراهة إنما يصار إليها حين يوجد نص يدل عليها، أما ولم يوجد نص، فإن التعبير بمخالفة ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (32/ 180). (¬2) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 797). (¬3) المغني، لابن قدامة، (9/ 546).

الأَولى أَولى. وأخيرًا: فإن قيل: لماذا أباح الله سبحانه لنا الكتابيات دون المشركات؟ فالجواب: لقد أباح الله سبحانه لنا الكتابيات دون المشركات؛ لأن الكتابية تؤمن بالألوهية، وتقر بمبدأ الرسالات السماوية، وتؤمن بالبعث والنشور، فهي تلتقي مع المسلم في ذلك وفي لب الفضائل الاجتماعية، فدوام العشرة متوقَّع فكان هذا الجواز بغرض تألُّفِهم ليعرفوا حقيقة الدين الذي هو أصل دينهم، وإزالة الجفوة والبدع التي دخلت عليهم من باب الدين، والتي تحجبهم عن محاسن الإسلام، فكان في نكاح المسلم إياها رجاء إسلامها؛ لأنها متى تنبهت إلى حقيقة الأمر رُجي إسلامها، وإن لم تسلم فإنها تعيش ضمن الإسلام من حيث آدابه الاجتماعية وتقاليده العريقة. فينبغي لكل مسلم يريد الزواج منهن أن يكون مظهرًا لهذه الحكمة وسالكًا سبيلها وبذلك يكون قدوة صالحة لامرأته وأهلها في الصلاح والتقوى ومكارم الأخلاق، فإن لم يَرَ نفسه أهلًا لذلك فلا يقدم عليه. والمشركة بخلاف الكتابية فهي لا تلتقي مع المسلم في عقائده، ولُبِّ فضائله الاجتماعية فتبقى العداوة والمنافرة التي تخالف مقاصد النكاح، والكاساني يوضح الفرق إذ يقول: "إن الأصل أنه لا يجوز للمسلم أن ينكح الكافرة؛ لأن ازدواج الكافرة والمخالطة معها مع قيام العداوة الدينية لا يحصِّلُ السكن والمودة الذي هو قوام مقاصد النكاح. إلا أنه جُوِّزَ نكاحُ الكتابية لرجاء إسلامها؛ لأنها آمنت بكتب الأنبياء والرسل في الجملة، وإنما نقضت الجملة بالتفصيل بناءً على أنها أُخبِرت عن الأمر على خلاف حقيقته، فالظاهر أنها متى نُبِّهت على حقيقة الأمر تنبهت، وتأتي بالإيمان على التفصيل، والزوج يدعوها إلى الإسلام وينبهها على حقيقة الأمر، فكان في نكاح المسلم إياها

رجاء إسلامها، فَجُوِّزَ نكاحها لهذه الغاية الحميدة، بخلاف المشركة فإنها في اختيارها الشرك ما ثبت أمرها على الحجة، بل على التقليد من غير أن ينتهي ذلك الخبر ممن يجب قبول قوله واتباعه وهو الرسول عليه الصلاة والسلام. فالظاهر أنها لا تنظر في الحجة (وهي الإخبار بحقيقة العقيدة الحقَّةِ)، ولا تلتفت إليها عند الدعوة، فيبقى ازدواج الكافرة (أي: المشركة) مع قيام العداوة الدينية المانعة عن السكن والمودة، والازدواج خاليًا عن العاقبة الحميدة فلم يجز نكاحها" (¬1). من هنا فليعلم ناكح الكتابية أن الغاية من جواز نكاحها هو رجاءُ إسلامها، بمعنى أنها تتأثر ولا تُؤَثِّرُ، قابلة غير فاعلة، فلينتبه للأمر ولا يجعله منكوسًا. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 270).

المبحث الثاني حكم الزواج الصوري بقصد الحصول على الإقامة أو الجنسية في غير دار الإسلام

المبحث الثاني حكم الزواج الصوري بقصد الحصول على الإقامة أو الجنسية في غير دار الإسلام تصوير المسألة وتكييفها: لا شك أن الزواج في الإسلام عقد له مقاصده العظيمة، وغاياته النبيلة، فهو للعفة سبيل، ولامتداد التناسل طريق، والرجل قد يرغب في المرأة لجمالها، ولمالها، ولحسبها، ونسبها، وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على زواجها لدينها. فهل إذا تزوج المسلم لتحصيل منفعة أخرى، أو لمقصد دنيوي آخرَ؛ كأن يُحَصِّلَ به المسلمُ في بلاد الأقليات إقامة أو رخصة بالبقاء هنالك يكون هذا العقد ممنوعًا منه ديانةً، وهل يصحُّ قضاءً؟ وهل يختلف الحكمُ إذا كانت الزوجة في هذا العقد تجهل ولا تعلم بنية الزوج؟ وإذا كان هذا الزواج صوريًّا بغيةَ استكمال الإجراءات من غير أن تكون نية لطرفي هذا العقد في استباحة استمتاع كلٍّ منهما بالآخر، فهل يأثم أيٌّ منهما؟ وهل يسوغ للمسلمة التي تريد القرار هنالك أن تلجأ إلى زواج مع غير مسلم على هذا النحو فقط، وإذا صنع مسلم راغب في الإقامة هذا العقد مع كافرة، هل تترتب عليه مسئوليته تجاهها، وتجاه تصرفاتها، ولو أتت بأولاد من غيره سفاحًا، هل ينسبون إليه بسبب ما بينهما من الصلة القانونية؟ لا شك أن هذا الزواج المدني لأجل الإقامة، أو لأجل الحصول على مصلحة معينة في بلاد الأقليات نازلةٌ مستجدةٌ تُبحث أحكامُها في باب الأنكحة، وما يطرأ عليها مما يفسدها أو يبطلها، وما يترتب على الحكم بفسادها.

تحرير محل النزاع

كما أن لها تعلُّقًا بأحكام الولايات في بلاد الأقليات، ولها تشعبات متعددة في أبواب الأحوال الشخصية. تحرير محل النزاع: اتفق العلماء على أن من تزوَّج بمسلمة من بلاد الأقليات من غير أن يقصد إلى طلاقها بعد مدة، أو يضمر ذلك في نفسه، فتحصَّلَ من وراء هذا النكاح على إقامة، أو ما يُسَوِّغُ له البقاءَ في تلك الدار لمصلحة اقتضتْ تلك الإقامة فإن نكاحَهُ صحيح لا شبهة فيه، قضاءً وديانةً، إلَّا ما نُقِلَ من كراهة بعض الفقهاء لهذا النكاح إن كان بدار حرب. كما اتفقوا على أن التصريح بتأقيت العقد من قِبَلِ الزوجين مبطل للعقد ومفسد له، وأن تضمين العقد شرطًا بالأجل مفسد له وملحِقٌ له بنكاح المتعة (¬1). وذهب الجمهور -خلافًا للأوزاعي- إلى أن من تزوج بامرأة وأضمر طلاقها بعد مدة، ولم يصرح لها بذلك، ولم تفهم هي مراد الرجل، ولم تطلع على قصده بأي طريق أن النكاح صحيح جائز (¬2). ثم وقع الخلاف بعد ذلك في صور، منها: ما وَرَدَ على هيئة سؤال إلى المجلس الأوروبي للإفتاء، ونصه ما يلي: "ما هو الحكم الشرعي فيما يُسمَّى بزواج المصلحة، وصورة هذا الزواج متعددة فيما يبدو لي، ومنها -على سبيل المثال-: يتفق رجل وامرأة على عقد زواج مقابلَ مبلغٍ من المالِ يدفعُهُ إليها، وقد يكون هذا ¬

_ (¬1) المبسوط، للسرخسي، (5/ 153)، مواهب الجليل، للحطاب، (5/ 85)، مغني المحتاج، للخطيب الشربيني، (3/ 142)، المغني، لابن قدامة، (9/ 488). (¬2) شرح فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 249)، البحر الرائق، لابن نجيم، (3/ 116)، الشرح الكبير، للدردير، (2/ 239)، منح الجليل، لمحمد عليش، (3/ 304)، الحاوي، للماوردي، (9/ 333)، أسنى المطالب، لزكريا الأنصاري، (3/ 156)، المغني، لابن قدامة، (10/ 48 - 49).

المبلغ مقطوعًا، أو موزعًا على سنوات -حسبَ الاتفاق- وذلك في مقابل أن تذهب معه إلى مصلحة شرطة الأجانب عند تجديد الإقامة كلَّ سنة، إلى أن يحصل على الإقامة الرَّسمية، ومن ثم يُفْسَخُ العقد، وفي تلك الأثناء إمَّا أن يعيش الرجل مع هذه المرأة عيشةَ الزوجين؛ بمعنى: أن يضمهما بيت واحد يتعاشران فيه معاشرة الأزواج، إلا أنهما يتفقان على فسخ العقد عند حصول الزوج على الإقامة الرسمية، وهذا الاتفاق لا يُصَرَّحُ به طبعًا عند الجهة العاقدة؛ لأن القانون لا يسمح بذلك. وفي بعض الصور: لا يعيش الرجل مع المرأة التي عَقَدَ عليها أمام السلطات، ولا يخالطها ولا تخالطه، بل يتفقان أن تذهب معه عند تجديد الإقامة كلَّ سنة كي تقول للسلطات: إنها مرتبطة به كزوج، وتأخذ المبلغ المتفق عليه، ويذهب بعد ذلك كل واحد إلى حال سبيله. مع العلم بأن هذا اللون من ألوان الزواج قد يُقْدِمُ عليه الرجل لأجل أن يحصل هو على الإقامة، وبالمقابل قد تفعله المرأة مع الرجل لتحصل هي على الإقامة، ويمكن أن يكون أحدهما غيرَ مسلمٍ، ويمكن أن يكون الاثنان مسلمين! وفي كل الأحوال فإنه من خلال هذه المدة تكون الزوجة محسوبة على زوجها من الناحية القانونية، ويكون هو محسوبًا عليها من الناحية القانونية كذلك، ولو افترضنا أن هذه المرأة قد عاشرت رجلًا آخر، وأنجبت منه، فإن المولود يسجل باسم هذا الزوج المؤقت، ولو جاء هو يطالبها بحقِّ المعاشرة الزوجية؛ فإنها لا تستطيع أن تمتنع عن ذلك قانونًا، وخاصة إذا كانت هي المحتاجة إلى الإقامة. وهذا العقد بصورتيه المذكورتين إنما يتم في البلدية كسائر العقود المدنية في هذا البلد. وقد يكون عقدًا شرعيًّا بشروطه الشرعية المعتبرة، ولكن الجانبين لا يُصَرِّحان بذلك الاتفاق في صلب العقد، وإنما هو اتفاق بينهما بحضور بعض أفراد العائلتين

الصورتان الأولى والثانية

(عائلة الزوج، وعائلة الزوجة). وهنالك صورة أخرى من صور الزواج في بلاد الغرب أُورِدُهَا كما يلي: يتزوج الرجل المرأة بصداق، ولكنه مضمر في نفسه، ويصرح لأصدقائه وأقاربه أن غرضه ليس الزواج، وإنما هو الحصول على الإقامة، فمتى حصل على الإقامة، طلق زوجته هذه، وهو لا يستطيع أن يصرِّح بهذا أمام المرأة؛ خوفًا من أن تطرده قبل الحصول على الإقامة" (¬1). وفيما يلي بيان للإجابة عن هذه الأسئلة والتي يمكن من خلالها مدارسة هذه النازلة في بلاد الغرب خاصة. الصورتان الأولى والثانية: انتهى المجلس الأوروبي للإفتاء بتحريم الصورتين الأولى والثانية، وجاء في فتياه ما يلي: "الجواب: الصورة الأولى: حرام، يأثمان عليه، وذلك بسبب منافاة هذا العقد لمقصد الشريعة في الزواج؛ إذ هو عقد صوري مقصود به أمر آخر غير الزواج. فهو لو استوفى شروط العقد؛ فإنه لا يحل لهذا المعنى، وكذلك لأجل أن قانون البلاد لا يسمح به، يتأكد المنع بمجيء هذه الصورة مخالفة لقانون البلد، والقانون هنا متفق مع المقصد الشرعي. كما أن هذه الصورة لا تخلو من شَبَهٍ بنكاح المتعة الذي حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم -كما في حديث سبرة بن معبد أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "يا أيها الناس: إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان ¬

_ (¬1) فتاوي وقرارات المجلس الأوروبي للإفتاء، (ص 55 - 57).

عنده منهن شيء، فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا" (¬1) - من جهة التوقيت الذي فيه إلى فترة الحصول على الإقامة، ثم يُفْسَخُ العقد بعد ذلك كما عبر السائل. والصورة الثانية: مثل الأولى في التحريم، وفيها قضية مقطوع بحرمتها، وهي زواج المسلمة بغير المسلم؛ فإن مجرد العقد فاسد، سواء للغاية المذكورة في السؤال، أو لمجرد الزواج" (¬2). وقد اتفق مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا مع المجلس الأوروبي في هذا المأخذ، فكان مما وَرَدَ في قرارات المجمع في دورته الثانية بالدانمرك: "قرر المجمع: الزواج الصوري: هو الزواج الذي لا يَقْصِدُ به أطرافه حقيقة الزواج الذي شرعه الله ورسوله، فلا يتقيدون بأركانه وشرائطه، ولا يحرصون على انتفاء موانعه، بل يتفق أطرافه على عدم المعاشرة صراحةً أو ضمنًا، فهو لا يعدو أن يكون إجراءً إداريًّا لتحصيل بعض المصالح، أو دفع بعض المفاسد، فهو أشبه بنكاح التحليل، لا يُراد به النكاح حقيقة؛ بل لتحليل المرأة لمطلقها ثلاثًا. والزواج الصوري على هذا النحو محرم في باب الديانة لعدم توجه الإرادة إليه، ولخروجه بهذا العقد عن مقاصدِهِ الشرعية، ولما يتضمنه من الشروط النافية لمقصوده، فلا يحل الإقدام عليه. أما حكمه ظاهرًا فإنه يتوقف على مدى ثبوت الصورية أمام القضاء، فإن أقر الطرفان بصورية العقد، أو تيقن القاضي بذلك من خلال ما احتفَّ به من ملابسات وقرائن قضى ببطلانه، أمَّا إذا لم تثبتْ فإنه يحكم بصحته قضاءً متى تحقَّقَتْ أركان ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، كتاب النكاح، باب: نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ. . .، (1406). (¬2) فتاوي وقرارات المجلس الأوروبي للإفتاء، (ص 57).

الزواج وانتفتْ موانعه. وإذا مسَّتِ الحاجةُ إلى تحصيل بعض المصالح التي لا يتسنى تحصيلها إلا من خلال الزواج فإن السبيل إلى ذلك هو الزواج الحقيقي الذي تتجه إليه الإرادة حقيقة، فَتُسْتوفى فيه أركانه وشرائطه، وتَنْتفي موانعه، ويُجْرَى على وفاق الشريعة المطهرة، فلا يصرح فيه بالتوقيت، ولا يعبث فيه أحد بغاياته ومقاصده" (¬1). وقد وَرَدَ سؤالٌ إلى اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية، هذا نصه: "هل يُسْمَحُ بالزواج من أمريكية مسيحية للحصول على (البطاقة الخضراء) عن طريقها دون معاشرتها، أو الانفراد بها (على الورق فقط) نيتي هي الزواج على النحو المذكور حتى أستطيع زيارة بلد الزوجة ومساعدة والِدَيَّ اللذَينِ يعيشان في وطني الأصلي، والعمل بالشهادة التي أحملها (برمجة كمبيوتر) وجزاكم الله خيرًا. الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: لقد عرضنا هذا السؤال على سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز فأجاب ليس هذا من مقصود النكاح في الشريعة الإسلامية أن يتزوج بغرض الحصول على حق الإقامة، ثم يطلق، والذي يظهر لي عدم الجواز. انتهى" (¬2) وقد وجه مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا قراره هذا وعلله باشتمال الزواج الصوري على مفاسدَ كثيرةٍ، منها: • ما تَقدَّم من العبث بمقاصد النكاح واتخاذ آيات الله هزوًا. ¬

_ (¬1) قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني للمجمع المنعقد بالدانمرك، (ص 67 - 68). (¬2) فتاوي الإسلام سؤال وجواب قام بجمعها أبو يوسف القحطاني، بإشراف الشيخ محمد صالح المنجد، رقم (2886)، وفتاوي اللجنة الدائمة، (18/ 446 - 449)، والفتاوي بأرقام، (12087، 17030، 21140، 19540).

• ما تَقدَّم من فساده غالبًا؛ لعدم توفر أركانه أو شروط صحته. • اشتماله أحيانًا على شروط فاسدة تُنافي مقصود العقد. • التصريح بالتوقيت في بعض صوره فيكون نكاح متعة. • التصريح بنية الطلاق في بعض صوره فيكون نكاحًا بنية الطلاق، وهو نكاح باطل عند بعض الفقهاء، وصحيح عند بعضهم، لكنه مع صحته قد يَلحق صاحبَهُ الإثمُ من جهة ما فيه من غشٍّ وخداع، أو من جهة ما يؤدي إليه في بلاد غير المسلمين من تشويه سمعة الإسلام والمسلمين. • ما فيه من الشَّبَهِ بنكاح التحليل، حيث إنه نكاح دلسة لا نكاح رغبة. • دخوله تحت باب التزوير والاحتيال على القوانين، وفي ذلك تشويه لسمعة الإسلام والمسلمين، وتوصل إلى أكل أموال الناس بالباطل إذا ترتب على هذا الزواج الصوري الحصول على امتيازات مالية. فلأجل هذه الفاسد حَكَمَ المجمع بتحريم الزواج الصوري، لكنه فَصَّلَ في صحته أو بطلانه، وأَرشد إلى البديل الحلال. ومع التسليم بشيء غير قليل من هذه الأسباب والتعليلات إلا أن ثمة مناقشات قد وَرَدَتْ على هذا الحكم، وفيما يلي بعض المناقشات والتعليقات حول تلك الصورتين اللتين شملتهما الفتيا المحرِّمة. أولًا: يُسَلِّمُ الجميع بحرمة الزواجِ وبطلانه وعدم انعقاده، بل وكفر من استباحت الزواج من غير مسلم، كتابيًّا كان أو غيرَ كتابي، إذا كانت عالمة عامدة لا شبهة عندها. حيث انعقد الإجماع على حرمة زواج المسلمة بغير المسلم، فإن هي أقامت هذا التعاقد فإنها تتعرض لجملة مفاسد، منها: أنها لا تستطيع الامتناع عنه إن هو راودها؛ إذ هي زوجة بحكم القانون.

وما من شك أنها أضعف طرفي هذه العلاقة من جهة كونها امرأةَّ، ومن جهة عدم قانونية إقامتها بتلك البلاد إلَّا عن طريق تلك الإقامة المبنية على عقد زواجها المدني الباطل شرعًا بالإجماع، وقال تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 221]، قال تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] وعليه فلا اختلاف بين أهل العلم على حكم هذه الصورة، قال القرطبي: "وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه" (¬1)، وفي موسوعة الإجماع: "الإجماع على تحريم نكاح الكافر للمرأة المسلمة" (¬2)، وبهذا أفتى المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي (¬3). ثانيًا: يُتفق مع هذه الفتيا في حَقِّ زواج المسلم من الحربية في دار الحرب، فإن الراجح هو حرمة هذا الزواج ولو قصد إليه الزوج، وفساده إذا وقع، فإن المختار في هذا السياق الزماني والأحوال المعاصرة حرمة نكاح الحربية من أهل الكتاب والإقامة بها في دار الحرب، وقد نصَّ كثير من أهل العلم على ذلك. ونصُّوا على دُورِ حربٍ في زمانهم، ولا يبعد القول بزيادة عدد هذه الدور بزيادة عدد الدول المحاربة للإسلام فعلًا وفي مواقع كثيرة، بنفسها وبغيرها. وإلا فماذا تفعل الجيوش الأمريكية والبريطانية اليوم بديارنا في العراق وأفغانستان، ومن الذي يظاهر الكيان الصهيوني على أرض فلسطين المباركة؟! ثالثًا: على قول من يجيز نكاح الكتابية الحربية في دار الحرب مع الكراهة الشديدة فإنه يشترط أن تكون متدينة بدين أهل الكتاب، ولو كان محرَّفًا، لا أن تكون وثنية، أو لا دينية ملحدة، وعليه فالإجماع منعقد أيضًا على حرمة نكاح المشركة البوذية، أو الهندوسية، أو ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي، (3/ 72). (¬2) موسوعة الإجماع، لسعدي أبي جيب، (2/ 1196). (¬3) مجلة المجمع، العدد الثالث، (2/ 1399).

اللادينية الملحدة، ومن لا ينتسبون إلى اليهودية أو النصرانية بحال من الأحوال. رابعًا: صورة الزواج المدني الذي تتولاه المحاكم خارج ديار الإسلام، واستنادًا إلى قوانين تلك الديار الوضعية لا ينعقد به نكاح شرعًا؛ وذلك لأمور اجتمعت فيه، بحيث لم يقل فقيه واحد بصحة العقد مع اجتماع تلك المخالفات في عقد واحد، وهذه المخالفات هي: 1 - خلو العقد عن الولي، على اعتبار أن المرأة إذا بلغت سنَّ الرشد فإنها تزوج نفسها. 2 - يُكتفَى في هذا العقد المدني بشاهد غير مسلم. 3 - يخلو هذا العقد عن المهر فلا يشار إليه أصلًا. 4 - لا يتضمن تلفظًا بإيجاب أو قبول، وإنما هي أوراق تكتب وإجراءات تعمل. 5 - لا يتضمن مثل هذا العقد إشهارًا، أو إعلانًا في طريقة إجرائه. ومعلوم أن الجمهورَ يمنعون صحةَ الزواج إذا خلا عن ولي خلافًا للحنفية (¬1). وأنهم لا يجيزون نكاح السرِّ أو نكاحًا خلا عن الشهود واتُّفِقَ على كتمِهِ (¬2) وأنهم أجمعوا على أن شهادة غير المسلمين على عقد نكاح المسلمين غير مقبولة، وأجاز أبو حنيفة وأبو يوسف شهادة الكتابيين على زواج مسلم من كتابية (¬3). كما اتفقوا على أن المهر شرط من شروط العقد، وليس لها ولا لزوجها التراضي على تركه والتواطؤ على إسقاطه إلا بعد تحققه وثبوته، وعليه فلا يوجد من يبيح أو يصحح عقدًا اشتمل على هذه المفاسد مجتمعة دفعة واحدة في عقد واحد. وعليه: فإذا اجتمعت تلك المفاسد في مثل هذه العقود فإنها فاسدة باطلة، لا أثر ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 247)، البحر الرائق، لابن نجيم، (3/ 117). (¬2) بداية المجتهد، لابن رشد، (2/ 17)، موسوعة الإجماع، لسعدي أبي جيب، (2/ 1187). (¬3) المبسوط، للسرخسي، (5/ 33)، البحر الرائق، لابن نجيم، (3/ 97).

ينعقد أو يترتب عليها، ويكون ضربًا من العبث أو التلاعب. وهذا التوثيق المدني أو العقد المدني لا يوجب للعقد تصحيحًا من الناحية الشرعية. وعليه: فمن اقتصر عليه سواء لتحصيل الإقامة أو لغير ذلك من المقاصد المقبولة شرعًا فإنه لا ينعقد شرعًا، ولا يستباح به ما كان محرَّمًا قبله. وعليه: فمن احتاج إلى هذا التوثيق فلا بد من أن يجري العقد بعد ذلك بصيغة شرعية تتضمن أركان العقد وواجباته وشروطه، ولا شك أن التوثيق لا صلة له بصحة العقد. خامسًا: كثيرًا ما يتضمن هذا العقد تأقيتًا عند إبرامه وعقده، فينقلب مباشرة إلى نكاح مؤقت فيكون متعة باطلة، فإذا تأقت عقد النكاح بطل عند أهل السنة بالإجماع. وقال القاضي عياض: "وقع الإجماع على تحريمها من جميع العلماء" (¬1). وقال المازري: "انعقد الإجماع على تحريمه" (¬2). وفي البحر الرائق: "إجماع الصحابة على حرمته، وما نقل عن ابن عباس من إباحتها فقد صح رجوعه" (¬3). وقال ابن بطال: "وأجمعوا على أنه متى وقع الآن أُبطل، سواء قبل الدخول أم بعده" (¬4). وفي موسوعة الإجماع: "الإجماع على تحريم نكاح المتعة" (¬5). وبناءً على ذلك فكل نكاح كان إلى أجل مؤقت فهو شبيه بنكاح المتعة، سواء أكان المقصود منه تحصيل المتعة أو شيئًا آخر كحلِّ المطلقة ثلاثًا لزوجها الأول، أو تحصيل منفعة دنيوية، وهو محرم وباطل بالإجماع بعد الكتاب والسنة. ¬

_ (¬1) شرح صحيح مسلم، للنووي، (9/ 181) بتصرف. (¬2) المرجع السابق، (9/ 179). (¬3) البحر الرائق، لابن نجيم، (3/ 115) باختصار. (¬4) فتح الباري، لابن حجر، (9/ 173). (¬5) موسوعة الإجماع، لسعدي أبي جيب، (2/ 1207).

سادسًا: إذا استجمع العقد المدني أسباب الصحة وكانت المرأة ممن يصلح نكاحها من أهل الكتاب بالشروط المعتبرة، ولم تكن من أهل دار الحرب، وخلت عن سائر الموانع، ثم أراد رجل مسلم أن يتزوجها بعد اتفاقٍ قبل العقد على مقصوده من تحصيل الإقامة بتلك البلد للحاجة المشروعة والمعتبرة شرعًا، فتواطآ على هذا الشرط قبل العقد، ثم خلا العقد عند إبرامه عن هذا الشرط فما حكم النكاح؟ تقدَّم أن جهتين كبيرتين أفتتا ببطلان هذا العقد وفساده وأنهما بَنَتَا الحرمةَ والفسادَ على أمورٍ ذُكِرَتْ آنفًا. ومن تلك العلل: أن النكاح لم يشرع لتحصيلِ مقاصدَ كهذه التي ذُكِرَتْ من طلب الإقامة ونحوها، وأن الزواج إنما شرع للبقاء والديمومة، وهذا الصوري ينافي ذلك. وقد يُنَاقَشُ هذا القول بأن "بطلان هذا العقد ليس صحيحًا؛ فالزواج في الإسلام ليس مقصودًا منه الديمومة والبقاء، وإنما له قصود مختلفة، ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "تنكح المرأة لأربع خصال؛ لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها. . . " (¬1). وقد ذكر الشاطبي قصودًا كثيرة قائمة من الحديث؛ كالتناسل القائم من حديث: "تزوجوا الولود الودود" (¬2)، والقيام على مصالح الزواج القائم من حديث جابر (¬3). ولهذا. . . فلا عبرة بقصد الطلاق عند النكاح؛ لتحقق هذه القصود أو بعضها بالنكاح، وفي هذا قال الشاطبي: ¬

_ (¬1) سبق تخربِحه. (¬2) أخرجه: أبو داود، كتاب النكاح، باب: من تزوج الولود، (2050)، والنسائي، كتاب النكاح، باب: كراهية تزويج العقيم، من حديث معقل بن يسار -رضي الله عنه- مرفوعًا. وقال الحاكم في المستدرك، (2/ 162): هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذا السياق، ووافقه الذهبي. (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب البيوع، باب: شراء الحمير والدواب. . .، (2097)، ومسلم، كتاب الرضاع، باب: استحباب نكاح البكر، (715).

"الأسباب -من حيث هي أسباب شرعية لمسببات- إنما شُرعت لتحصيل مسبباتها، وهي المصالح المجتلبة، أو المفاسد المستدفعة. والمسببات بالنظر إلى أسبابها ضربان: أحدهما: ما شرعت الأسباب لها إمَّا بالقصد الأول، وهي مُتعلق المقاصد الأصلية، أو المقاصد الأُوَل أيضًا، وإما بالقصد الثاني، وهي متعلق المقاصد التابعة، وكلا الضربين مبين في كتاب المقاصد. والثاني: ما سوى ذلك، مما يُعْلَمُ أو يُظَنُّ أن الأسباب لم تُشرع لها، أو لا يعلم ولا يظن أما شُرِعَتْ لها، أو لم تُشرع لها؛ فتجيء الأقسام ثلاثة: أحدها: ما يُعلم أو يُظن أن السبب شرع لأجله؛ فَتَسَبُّبُ المتسبِبِ فيه صحيح؛ لأنه أتى من بابه، وتوسل إليه بما أَذِنَ الشارع في التوسل به إلى ما أذن أيضًا في التوسل إليه؛ لأنا فرضنا أن الشارع قصد بالنكاح -مثلًا- التناسل أولًا، ثم يتبعه اتخاذ السكن، ومصاهرة أهل المرأة لشرفهم أو دينهم، أو نحو ذلك، أو الخدمة، أو القيام على مصالحه، أو التمتع بما أحل الله من النساء، أو التجمل بمال المرأة، أو الرغبة في جمالها، أو الغبطة بدينها، أو التعفف عما حرم الله، أو نحو ذلك، حسبما دلت عليه الشريعة. . . فصار إِذَنْ ما قصده هذا المتسبب مقصود الشارع على الجملة، وهذا كافٍ، وقد تبين في كتاب المقاصد: أن القصد المطابق لقصد الشارع هو الصحيح، فلا سبيل إلى القول بفساد هذا التسبُّبِ" (¬1). "وفي مذهب مالك من هذا كثير جدًّا؛ ففي (المدونة) فيمن نكح وفي نفسه أن يفارق: أنه ليس من نكاح المتعة، فإذا تزوج المرأة ليمين لزمته أن يتزوجَ على امرأته، فقد فرضوا ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (1/ 243 - 244).

المسألة، وقال مالك: إن النكاح حلال، فإن شاء أن يقيم عليه أقام، وإن شاء أن يفارق فارق، وقال ابن القاسم: وهو مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم مما علمنا أو سمعنا. قال: وهو عندنا نكاح ثابت: الذي يتزوج يريد أن يَبَرَّ في يمينه، وهو بمنزلة من يتزوج المرأة للذة يريد أن يصيب منها، لا يريد حبسها، ولا ينوي ذلك، على ذلك نيته وإضماره في تزويجها، فأمرُهما واحد، فإن شاءا أن يقيما أقاما؛ لأن أصل النكاح حلال. ذكر هذا في (المبسوطة). وفي (الكافي) في الذي يقدم البلدة، فيتزوج المرأة ومِن نيته أن يطلقها بعد السفر: أن قول الجمهور جوازه. وذكر ابن العربي مبالغة مالك في منع نكاح المتعة، وأنه لا يجيزه بالنية؛ كأن يتزوجها بقصد الإقامة معها مدة، وإن لم يلفظ بذلك، ثم قال: وأجازه سائر العلماء، ومثَّلَ بنكاح المسافرين، قال: وعندي أن النية لا تؤثر في ذلك، فإنا لو ألزمناه أن ينوي بقلبه النكاح الأبدي. . . لكان نكاحًا نصرانيًّا، فإذا سلِم لفظه لم تضره نيته، ألا ترى أن الرجل يتزوج على حسن العشرة، ورجاء الأدمة، فإن وجدها وإلَّا فارق، كذلك يتزوج على تحصيل العصمة فإن اغتبط ارتبط، وإن كره فارق، وهذا كلامه في كتاب (الناسخ والمنسوخ). وحكى اللخمي (¬1) عن مالك: فمن نكح لغربة أو لهوى؛ ليقضي إربه ويفارق فلا بأس. فهذه مسائل دلَّتْ على خلاف ما تقدَّم في القاعدة المستدل عليها، وأشدها مسألة حل اليمين؛ لأنه لم يقصد النكاح رغبة فيها، وإنما قصد أن يَبَرَّ في يمينه، ولم يشرع النكاح لمثل هذا. ونظائر ذلك كثيرة، وجميعها صحيح مع القصد المخالف لقصد الشارع، وما ذلك ¬

_ (¬1) أبو الحسن، علي بن محمد الربعي، اللخمي، كان فقيهًا فاضلًا دَيِّنًا مفتيًا متفننًا، ذا حظ من الأدب والحديث، جيد النظر، حسن الفقه، جيد الفهم، توفي سنة 478 هـ ترتيب المدارك، للقاضي عياض، (8/ 109)، الأعلام، للزركلي، (4/ 328).

إلَّا لأنه قاصد للنكاح أولًا، ثم الفراق ثانيًا، وهما قصدان غير متلازمين، وإلَّا فإن جعلتهما متلازمين في المسألة الأولى بحيث يؤثر أحدهما في الآخر فليكن كذلك في هذه المسائل، وحينئذٍ يبطل جميع ما تقدم. فعلى الجملة: يلزم إما بطلان هذا كله، وإما بطلان ما تقدم" (¬1). قال الشيخ عليش (¬2): "حقيقة نكاح المتعة الذي يفسخ مطلقًا النكاح الذي ذكر الأجل عند عقده للولي أو للمرأة أو لهما معًا، وأما إن لم يذكر ذلك، ولم يشترط، وقصده الزوج في نفسه وفهمت المرأة ووليها منه ذلك -فإنه يجوز، قاله الإمام مالك -رضي الله عنه-، وهي فائدة جليلة تنفع المتغرب. . . وصدر الشارح في شروحه وشامله بفساده أيضًا، ثم حكى عن الإمام الصحة فإن لم تفهم المرأة ما أراد الزوج صح اتفاقًا" (¬3) (¬4). وعند الشافعية: "وإن قدم رجل بلدًا، وأَحَبَّ أن ينكح امرأة ونيته ونيتها أن لا يمسكها إلا مقامه بالبلد، أو يومًا، أو اثنين، أو ثلاثة كانت على هذا نيته دون نيتها، أو نيتها دون نيته، أو نيتهما معًا دون نية الولي، غير أنهما إذا عقدا النكاح مطلقًا لا شرط فيه، فالنكاح ثابت، ولا تفسد النية من النكاح شيئًا؛ لأن النية حديث نفس، وقد وُضع عن الناس ما حدثوا به أنفسهم" (¬5). وعند الحنابلة: "وإن تزوجها بغير شرط إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر، أو إذا ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي، (1/ 247 - 248). (¬2) أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن محمد، عليش، فقيه من أعيان المالكية، من مصنفاته: فتح الجليل على شرح ابن عقيل، فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك، منح الجليل على مختصر خليل، وغير ذلك، ولد سنة 1217 هـ، وتوفي سنة 1299 هـ. الأعلام، للزركلي، (6/ 19)، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (9/ 12). (¬3) منح الجليل، لعليش، (3/ 304). (¬4) صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 430 - 432). (¬5) الأم، للشافعي، (6/ 206).

الترجيح

انقضت حاجته في هذا البلد، فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم، وأنه لا بأس به، ولا تضر نيته" (¬1). وفي فتح الباري: "فلو نوى عند العقد أن يفارق بعد مدة صح نكاحه إلا الأوزاعي فأبطله" (¬2). وعليه: فإن حجة من أباح أنه عقد مطلق عن الشرط الفاسد فإذا وقع مستوفيًا لشرائطه فقد صح، وقد يظهر للزوجين استدامة العشرة بينهما، فيصح ولو كان قبل العقد تصريح بالتأقيت، جاء في الأم: "ولو كانت بينهما مراوضة فوعدها إن نكحها أن لا يمسكها إلا أيامًا، أو إلا مقامه بالبلد، أو إلا قدر ما يصيبها كان ذلك بيمين، أو غير يمين فسواء، وأكره له المراوضة على هذا، ونظرت إلى العقد فإن كان العقد مطلقًا لا شرط فيه فهو ثابت؛ لأنه انعقد لكل واحد منهما على صاحبه ما للزوجين، وإن انعقد على الشرط فسد وكان كنكاح المتعة" (¬3). الترجيح: الذي يظهر من خلال عرض المسألة على ما سبق أن هذا الذي يسمى بالزواج الصوري بقصد الحصول على الجنسية أو الإقامة في غير دار الإسلام قد يصح، وذلك بقيد الاستكمال لشروطه والتحقق لأركانه، والتنبه لمحاذيره وضوابطه، ومنها: 1 - أن يكون هذا العاقد ممن تحل له تلك الإقامة الدائمة، أو المؤقتة بتلك الديار، أو ممن يباح له التجنس بجنسيتها. 2 - إذا كانت المرأة غير مسلمة فيشترط فيها ما يلي: ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة، (10/ 48 - 49). (¬2) فتح الباري، لابن حجر، (9/ 173). (¬3) الأم، للشافعي، (6/ 206).

• أن تكون متدينة بدين أهل الكتاب، وإلا اعتُبِرَتْ مشركة كافرة. • ألَّا تكون من أهل دار الحرب، وإلا استباح بالعقد من تحرم عليه. • أن تكون عفيفة ليست بعاهرة، ولا ذات أخدان، وإلا جاءته بأبناء سفاح ونسبتهم إليه بالقانون، وكان ديُّوثًا. والأَولى أن تكون تلك الزوجة من أهل دار الإسلام، أو من أهل دار الكفر إذا دخلت في الإسلام حديثًا. 3 - أن يخلو العقد عن كل سبب يُبطله أو يُفسده، من الخلو عن الولي، أو الشهود، أو التصريح بالتأقيت، ونحوه. فإذا خلا العقد المدني عن ذلك، أو بعضه، فليصحح بطريقة شرعية. فإن تخلَّف شيء من هذه الشروط فلا مفرَّ من القول بالحرمة، والنهي عن هذا العقد؛ للمفاسد التي ذكرت وسدًّا لذريعة الفساد والإفساد والتلاعب بالعقود والأنكحة الشرعية، فإن تحققت الشروط وغابت آدابٌ ومقاصدُ، فالقول متجه بصحة العقد قضاءً، مع الإثم أو الحرمة ديانةً، فلا يصار إليه إلا اضطرارًا، والضرورات تقدر بقدرها. الصورة الثالثة: جاء في فتيا المجلس الأوروبي للإفتاء: "وأما الصورة الثالثة: فالعقد وإن كانت صورته صحيحة، ولكن الزوج آثم بغشه المرأة؛ وذلك لإضماره نية الطلاق من حين العقد، والزواج في الإسلام يعني الديمومة والبقاء والاستقرار للحياة الزوجية، والطلاق طارئ بعد العقد؛ ولهذا السبب حُرِّمَ الزواجُ المؤقت واعتُبِرَ فاسدًا. كذلك فإن الإيجاب والقبول في الزواج شرطان أساسيان فيه، والمرأة حين قَبِلته زوجًا فإنما كان مقصودها حقيقة الزواج، ولو علمت أنه قَبِلَهَا زوجةً مؤقتةً يُطَلِّقُهَا متى شاء لرفضت ذلك، فإذا كان عازمًا الطلاقَ عند العقد أثَّرَ ذلك في صحة العقد؛ لأن

المرأة بنت قبولَها على غير ما أراد" (¬1). وأما ما صدر عن مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا فلم تَبْدُ فيه إشارة إلى هذه الصورة، وكأن المجمع لا يرى تفصيلًا في مشروعية هذه الصورة، فيلحقها بغيرها في الحرمة. وهذه الصورة قد سبق ما يدل على مشروعيتها بشروطها وصحتها قضاءً وديانةً، وغاية ما قد يقال فيها هو الكراهة من باب الديانة لا غير، وليس الكراهة التحريمية كما مال إليها بعض الباحثين (¬2). قال مالك: "ليس هذا من الجميل، ولا من أخلاق الناس" (¬3) وعند الشافعية كراهة ذلك؛ لأنه لو صرَّحَ لبطل النكاح (¬4) والقول بأن هذا غشٌّ محرم مردود بأنه قد لا يفعل وقد يمسكها بعد قضاء حاجاته، وقد يُتَوَفَّى عنها قبل ذلك، وقد تُتَوَفَّى هي عنه قبل الطلاق، قال ابن رشد الجد: "إذ قد ينكح الرجل المرأة وفي نيته أن يفارقها، ثم يبدو له فلا يفارقها، وينكحها ونيته ألا يفارقها ثم يبدو له فيفارقها" (¬5). وقد يَرِدُ على فتوى المجمعين أنها مخالفة لقاعدة النظر إلى المآلات، ونتائج التصرفات، فقد يلجأ الشاب إلى ممارسات أو معاملات أشد فسادًا وأبعد عن المشروعية كما أن له آثارًا سلبية على المرأة أيضًا. يقول الشيخ عبد الله بن بَيَّه: "هذه الفتوى بالإضافة إلى ضعف مستندها، فإنها مخالفة لقاعدة النظر إلى المآلات، من جهة أن الشاب الذي يُمْنَعُ من هذا النوع الأخير ¬

_ (¬1) قرارات وفتاوي المجلس الأوروبي، المجموعتان الأولى والثانية، (ص 57 - 58). (¬2) فقه الأقليات المسلمة، لخالد عبد القادر، دار الإيمان، طرابلس، ط 1، 1419 هـ - 1998 م، (ص 451). (¬3) البيان والتحصيل، لابن رشد، (4/ 309)، المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد الباجي، (5/ 142). (¬4) تحفة المحتاج، للهيتمي، (7/ 312). (¬5) البيان والتحصيل، لابن رشد، (4/ 309).

من الزواج قد يؤول به الأمر إلى ارتكاب المحرمات بدون بردعة (¬1)، أما المآل الآخر: فهو كسر نفس المرأة، وبخاصة المسلمات الجدد، فينبغي أن ينبه إليه بتوجيه الشاب إلى إدامة الزواج، وحسب الإمكان، وتمتيع المرأة بتقديم تعويض مالي كما هو المشروع بدلًا من تحريم الحلال. ثم إن الزواج إذا وقع بشروطه فإنه زواج صحيح، حتى ولو نوى عدم الاستمتاع بها، قال الشاطبي في الموافقات: "إن متعاطي السبب إذا أتى به بكمال شروطه، وانتفاء موانعه، ثم قصد لئلَّا يقع مسببه فقد قصد محالًا، وتكلَّف رفع ما ليس له رفعه، ومنع ما لم يجعل له منعه، فمن عقد نكاحًا على ما وُضع له في الشرع، أو بيعًا، أو شيئًا من العقود، ثم قصد ألا يستبيح بذلك العقد ما عقد عليه فقد وقع قصده عبثًا، ووقع المسبب الذي أوقع سببه، وكذلك إذا أوقع طلاقًا، أو عتقًا، قاصدًا به مقتضاه في الشرع، ثم قصد ألَّا يكون مقتضى ذلك، فهو قصد باطل، ومثله في العبادات: إذا صلَّى أو صام أو حجَّ كما أُمِرَ، ثم قصد في نفسه أن ما أَوقع من العبادة لا يصح له، أو لا ينعقد قربةً، وما أشبه ذلك فهو لغو" (¬2) (¬3). وقد يُجاب عن ذلك بأن مفسدة التخوض في هذه الفروج بلا حِلٍّ أو برهان أعظم، وأن كسر نفس المرأة أهون من تضييع دينها، أو إهدار عفتها أو العبث بكرامتها. لكن الذي ينصح به المسلم في تلك البلاد أن يحفظ صورة الإسلام وأهله بيضاءَ ناصعةً، وألا يكون سببًا في الإساءة إلى سمعة أهل الإسلام ببلاد الأقليات. وعليه: فلينوِ الدوامَ في هذه الأنكحة، فإن بدا له أمرٌ فَلْيسَرِّحْ بإحسان، والله وحده المستعان. ¬

_ (¬1) كذا بالأصل. (¬2) الموافقات، للشاطبي، (1/ 214). (¬3) صناعة الفتوى، لابن بيه، (ص 132 - 133).

المبحث الثالث حكم بقاء من أسلمت تحت زوجها الكافر

المبحث الثالث حكم بقاء من أسلمت تحت زوجها الكافر تصوير المسألة وتكييفها: بانتشار الدعوة إلى الله في أرجاء الدنيا تزايدَ دخولُ الناس في الإسلام رغبةً ومحبة، والنساء في هذا المجال أكثرُ استجابةً من الرجال، وقد يُسلم الرجل وتبقى زوجه على مِلَّتِها، وقد تُسلم المرأة ويبقى زوجها على مِلَّتِه. والأمر من جهة الرجل قد يبدو أيسرَ وأقلَّ مؤنةً؛ فإنه إذا كانت زوجته كتابية فله أن يُمسكها ولا يؤثِّر إسلامه في استدامة عقد نكاحه؛ إذ يجوز للمسلم أن يتزوج من الكتابية ابتداءً إذا كانت ذمية، وليست حربية. كما أن الزوج هو الطرف الأقوى في العلاقة الزوجية، وهو قادر على فكِّ الارتباط، إلا أنه أيضًا يترتب على الطلاق بالنسبة له مفاسدُ يحسن استحضارها، ومنها: أن زوجته الباقية على ملتها من الوثنية أو غيرها من ملل الشرك ستذهب بنصف ثروته، وبأولاده الصغار كحاضنة لهم، وذلك بموجب قوانين تلك البلاد غير المسلمة، وفي هذا من المشقة المالية والمعنوية ما فيه، ولا سيما وأنه يتطلع إلى المحافظة على ذريته، وأن يكونوا معه على الإسلام. أما في حقِّ المرأة إذا أسلمتْ فإن الوضع يشتدُّ حراجةً فهي مأمورة بمفارقة غير المسلم مطلقًا، وجماهير أهل العلم يُبطلون عقد النكاح بمجرد إسلامها قبل زوجها. وإذا كانت لا عائلَ لها إلا ذلك الرجل، فإنها تتعرض لمحنة مالية ومعنوية كبيرة، ولا سيما أن بلاد الأقليات لا يتمتع المسلمون فيها بقدرات مالية مميزة تمكِّنهم من إيواء هؤلاء النسوة وإعاشتهن.

وربما كان لها أولاد من ذلك الرجل هي متعلقة بهم، ولا تريد أن تفارقهم، كما تريد أن تقوم بواجب دعوتهم إلى الله، وتنشئتهم على الإسلام. بل تتطلع أيضًا إلى دعوة ذلك الرجل الذي كانت زوجة له، لعله يدخل في دين الله، فتلتئم بذلك أسرتها، ويجتمع شملها مع زوجها وأولادها وتسعد في دنياها وأخراها. تحرير محل النزاع: 1 - وقع الإجماع على حرمة نكاح المشركات مطلقًا (¬1). 2 - وقع الإجماع على حرمة نكاح الكافر للمسلمة مطلقًا (¬2). 3 - وقع الإجماع على أنهما إذا أسلما معًا فهما على نكاحهما الأول، ما لم يكن بينهما نسب، أو رضاع مطلقًا (¬3). قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "أجمع العلماء على أن الزوجين إذا أسلما معًا في حالة واحدة، أن لهما المقام على نكاحهما، ما لم يكن بينهما نسب ولا رضاع" (¬4)، وقد أسلم خَلْقٌ في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ونساؤهم، وأُقِرُّوا على أنكحتهم، ولم يسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شروط النكاح، ولا عن كيفيته، وهذا أمرٌ عُلِمَ بالتواتر والضرورة، فكان يقينًا (¬5). 4 - وقع الإجماع على أنه إذا أسلم الزوج وكانت زوجه كتابية أنهما على نكاحهما الأول (¬6). ¬

_ (¬1) الأم، للشافعي، (6/ 14)، البحر الرائق، لابن نجيم، (3/ 110)، تفسير القرطبي، (3/ 71)، المغني، لابن قدامة، (9/ 548)، موسوعة الإجماع، لسعدي أبي جيب، (2/ 1144)، الفتاوي، للشيخ شلتوت، (276)، مجلة المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، (2/ 1399). (¬2) قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية، لمحمد بن أحمد بن جُزي الغرناطي المالكي، تحقيق: عبد الرحمن حسن محمود، دار عالم الفكر، القاهرة، ط 1، 1406 هـ -1985 م، (ص 195)، الأم، للشافعي، (6/ 14)، الإقناع، للحجاوي، (3/ 186)، المبسوط، للسرخسي، (5/ 45). (¬3) بدائع الصنائع، للكاساني، (7/ 136)، بداية المجتهد، لابن رشد، (2/ 48)، تحفة المحتاج، للهيتمي، (7/ 329)، المغني، لابن قدامة، (10/ 7)، التمهيد، لابن عبد البر، (12/ 23). (¬4) التمهيد، لابن عبد البر، (12/ 23). (¬5) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 641). (¬6) التمهيد، لابن عبد البر، (12/ 23)، أحكام أهل الذمّة، لابن القيم، (2/ 640)، المغني، لابن قدامة، (10/ 32).

5 - وقع الإجماع على أنه بمجرد إسلام المرأة فقد حرم الجماع بينهما إذا كان الزوج وثنيًّا ووجب التفريقُ الحسيُّ. قال الشافعي -رحمه الله تعالى- في كتاب الأم: "الناس لا يختلفون في أنه ليس له أن يطأها في تلك الحال إذا كانت وثنية" (¬1)، وقال البيهقي في السنن الكبرى: "باب الزوجين الوثنيين يسلم أحدهما فالجماع ممنوع حتى يسلم المتخلف منهما؛ لقول الله -عز وجل-: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، وقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] " (¬2). وقال القرطبي -رحمه الله-: "وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه؛ لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام" (¬3). وإن مما يجدر ذكره هنا -قبل الدخول في سرد مذاهب الفقهاء- رحمهم الله -في أثر إسلام أحد الزوجين، وبقاء الآخر مصرًّا على كفره- أنهم جميعًا -بعد نزول آية الممتحنة- يتفقون على أنه بإسلام أحد الزوجين وبقاء الآخر على الكفر تتوقف الحياة الزوجية بين الزوج الكافر والزوجة المؤمنة، وتتوقف الحياة الزوجية بين الزوج المؤمن والزوجة الوثنية الكافرة، فلا جماع ولا انكشاف ولا إنجاب، ولا أي شيء من المسِّ، ولا أي شيء من دواعي الجماع بينهما، ولا يحقُّ للكافر الوثني أن يعود إلى الحياة الزوجية ما دام على كفره، وإنما يحقُّ أن يعود إلى الحياة الزوجية إذا أسلم فرضِيَ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا ورسولًا (¬4). قال ابن عبد البر: "لم يختلف العلماء أن الكافرة إذا أسلمت ثم انقضت عدتها أنه لا ¬

_ (¬1) الأم، للشافعي، (6/ 396). (¬2) السنن الكبرى، للبيهقي، (7/ 185). (¬3) تفسير القرطبي، (3/ 72). (¬4) بحث: أثر إسلام أحد الزوجين في النكاح، د. محمد عبد القادر أبو فارس، ضمن بحوث المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد الثاني، (ص 327)، ذو القعدة 1423 هـ - يناير 2003 م.

سبيل لزوجها إليها، إذا كان لم يسلم في عدتها، إلا شيء رُوِيَ عن إبراهيم النخعي شَذَّ فيه عن جماعة العلماء، ولم يتبعه عليه أحد من الفقهاء، إلا بعض أهل الظاهر" (¬1). قال د. محمد عبد القادر أبو فارس: "لم يَرِدْ نقلٌ صحيح عن عالم أو فقيه أو مفسر في جواز استمرار المؤمنة زوجةً لكافرٍ مصرٍّ على كفره، والاستمتاع بها ومجامعتها والإنجاب منها، وهي مؤمنة وهو كافر، ولم يَرِدْ نصٌّ أو نقلٌ صحيح عن فقيه أو عالم أو مفسر على جواز استمرار الحياة الزوجية بين مؤمن وكافرة تصرُّ على كفرها ووثنيتها، فتستمر المعاشرة والتكشف والجماع والإنجاب، وإن كانت الزوجة كافرة ومصرة على كفرها وقد عرض الإسلام عليها، بل الجميع يوقفون الحياة الزوجية ويمنعون العشرة بينهما بمجرد إسلام أحدهما، ولا تحل العشرة الزوجية إلا بإسلام الآخر" (¬2). وبعد اتفاقهم على ما سبق فقد اختلفوا في إبطال العقد، وكيف يتم، ومتى يتم؟ وقد نقل بعض المعاصرين ثلاثة عشر قولًا في ذلك (¬3) أصلها عند ابن القيم في تسعة (¬4) أقوال، وهي تعود إلى ثلاثة أقوال رئيسة (¬5). وفيما يلي ذِكْرُ هذه الأقوال الثّلاثة عشر ثم رَدُّها إلى الأقوال الثلاثة الرئيسة: 1 - يبطل عقد النكاح بينهما بمجرد إسلام أحدهما قبل الآخر. وهذا مذهب الحسن البصري في رواية، وعطاء بن أبي رباح في رواية، وعكرمة (¬6)، ¬

_ (¬1) التمهيد، لابن عبد البر، (12/ 23). (¬2) أثر إسلام أحد الزوجين، د. أبو فارس، (ص 319). (¬3) بحث: إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه، د. عبد الله الجديع، ضمن بحوث المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد الثاني، 2003 م، (ص 149 - 151). (¬4) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 641) وما بعدها. (¬5) بحث: إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه، لفيصل مولوي، ضمن بحوث المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد الثاني، 2003 م، (ص 265). (¬6) عكرمة مولى ابن عباس، القرشي مولاهم، المدني، البربري الأصل، العلامة، الحافظ، المفسر، حدَّث عن =

وقتادة السدوسي، وعمر بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (¬1)، وعبد الله بن شبرمة (¬2) في رواية، وأبي ثور (¬3)، وهو رواية عن أحمد بن حنبل، تبعه عليها بعض أصحابه، ومذهب أبي محمد بن حزم، كذلك هو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة إذا كانت الزوجة غيرَ مدخولٍ بها، وهو مذهب سفيان الثوري إذا كان الزوجان في دار الحرب خاصة. 2 - يبطل عقد النكاح بينهما إذا سبق الزوجُ الزوجةَ بالإسلام، ولم تُسلم معه في نفس المجلس، وقد عرض عليها الإسلام، وليست كتابية، وهذا مذهب المالكية، وابن قيم الجوزية. 3 - يبطل عقد النكاح بينهما إذا أسلم الزوج، ولم تُسْلِمِ الزوجة بعده في مدة يسيرة، وهذا مذهب بعض المالكية، كابن القاسم. 4 - يبطل عقد النكاح بينهما إذا أسلم أحدهما قبل الآخر، ولم يُسلم الآخر منهما في عدة الزوجة، وهذا مذهب مجاهد المكي في الرواية الصحيحة عنه، وهو رواية عن الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، وعمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن شبرمة، كذلك هو مذهب الأوزاعي والليث بن سعد، والمالكية في الزوجة تُسلم أولًا، ¬

_ = ابن عباس، وعائشة، وأبي هريرة، وابن عمر، توفي سنة 105 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (7/ 7)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 12). (¬1) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، القرشي العدوي المدني، مولى عمر بن الخطاب، وكان كثير الحديث ضعيفًا جدًّا، روى عن أبيه زيد بن أسلم، وأبي حازم سلمة بن دينار، وصفوان بن سليم، ومحمد بن المنكدر، توفي سنة 182 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (5/ 413)، تهذيب الكمال، للمزي، (17/ 114). (¬2) عبد الله بن شبرمة، الضبي، الإمام العلامة، فقيه العراق، قاضي الكوفة، حدَّث عن أنس بن مالك، وأبي الطفيل عامر بن واثلة، وأبي وائل شقيق، وعامر الشعبي، توفي سنة 144 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (6/ 350)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (6/ 347). (¬3) أبو ثور، إبراهيم بن خالد، الكلبي، الإمام الحافظ الحجة المجتهد، البغدادي الفقيه، مفتي العراق، أخذ الفقه عن الشافعي، سمع من سفيان بن عيينة، وعبيدة بن حميد، وأبي معاوية الضرير، ولد في حدود سنة 170 هـ، وتوفي سنة 240 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 92)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (12/ 72).

والشافعية، والحنابلة، وإسحاق بن راهويه. 5 - يبطل عقد النكاح بينهما إذا انتقل المسلم منهما من دار الحرب إلى دار الإسلام، وهذا مذهب الحنفية خاصة. 6 - يبطل عقد النكاح بينهما ساعةَ إسلامِ أحدِهِمَا، وذلك إذا كانا غيرَ كتابيين، أما إذا كانا كتابيين فيفرَّق بينهما، وهذا مذهب عطاء بن أبي رباح في رواية عنه، وظاهرُ المنقولِ عن طاوس (¬1) ومجاهد وسعيد بن جبير في بعض الروايات. 7 - يبطل عقد النكاح بينهما إذا أسلم أحدهما في دار الحرب، وحاضت الزوجة ثلاث حيض، ولم يُسلم الآخر منهما، وهذا مذهب الحنفية خاصة. 8 - يبطل عقد النكاح بينهما إذا أسلم أحدهما، ودُعِيَ الآخر إلى الإسلام فأبى أن يُسلم، وهذا قول عمر بن عبد العزيز في رواية، والزهري من وجه ضعيف. 9 - لا يبطل عقد النكاح بينهما مطلقًا إلا بقضاء القاضي، وهذا مقتضى قول طاوس اليماني، وسعيد بن جبير، والحكم بن عتيبة (¬2)، وإحدى الروايات عن عمر بن عبد العزيز، وفي رواية ضعيفة عن الزهري، وهو ظاهرُ قولِ عبد الله بن عباس، كما كان يرى للزوجة المسلمة إبطالَهُ باختيارها، وترك زوجها الكافر. 10 - لا يبطل عقد النكاح بينهما إذا كانا جميعًا في دار الإسلام إلا بقضاء القاضي، وهذا مذهب الحنفية، وسفيان الثوري. ¬

_ (¬1) طاووس بن كيسان، اليماني، الخولاني، الفقيه القدوة، عالم اليمن، الفارسي، ثم اليمني، الحافظ، روى عن جابر، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، توفي سنة 106 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (4/ 500)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 38). (¬2) الحكم بن عتيبة الكندي، مولاهم الكوفي، الإمام الكبير، عالم أهل الكوفة، كان الحكم ثقة ثبتًا فقيهًا من كبار أصحاب إبراهيم، وكان صاحب سنة واتباع، ولد نحو سنة 46 هـ، وتوفي سنة 115 هـ. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، (3/ 123)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 208).

11 - لا يبطل عقد النكاح بينهما إلا بقضاء القاضي، أو بانتهاء العدة، وهذا مذهب الزهري في رواية. 12 - ينتقل عقد النكاح بينهما إذا أسلم أحدهما دون الآخر إلى عقد جائز، ويكون النكاح موقوفًا، فإن أسلم الآخر منهما استمرَّ النكاح، ولها أن تنكح زوجًا غيره، وهذا رواية مضعفة عن أحمد بن حنبل، ومذهب داود بن علي الظاهري، وشيخ الإسلام ابن تيمية، كذلك هو مذهب ابن القيم في حالة سبق الزوجة بالإسلام. 13 - ينتقل عقد النكاح بينهما إلى عقد جائز، يبيح للزوجة مفارقة الزوج إن شاءت، كما يبيح مكثها معه كزوجة إن شاءت، ما داما في موضعِ تمكينٍ، كدارِ إسلامٍ، وعليه تدل الرواية الصحيحة المحفوظة عن أمير المؤمنين عمر، والرواية عن أمير المؤمنين علي، وهو مذهب عامر الشعبي (¬1) وإبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان (¬2). وهذه الأقوال يمكن رَدُّهَا -كما سبق- إلى ثلاثة أقوال رئيسة على النحو التالي: الأول: بطلان عقد النكاح السابق بين المسلمة وغير المسلم، والخلاف ضمن هذا القول على وقت البطلان فقط، وهو يشمل الأقوال من اإلى 8، والقول الحادي عشر أيضًا، وهو أنه لا يبطل عقد النكاح إلا بقضاء القاضي، أو بانتهاء العدة، فهو يتوافق في النهاية مع من يقول ببطلان العقد بانتهاء العدة. الثاني: لا يبطل عقد النكاح السابق إلا بقضاء القاضي مطلقًا، أو في دار الإسلام ¬

_ (¬1) عامر بن شراحيل بن عبد الشعبي، الإمام، علامة العصر، حدَّث عن سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأبي موسى الأشعري، توفي سنة 104 هـ. الطبقات الكبرى، لابن سعد، (6/ 246)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (4/ 294). (¬2) حماد بن أبي سليمان بن مسلم الكوفي، الأشعري، العلامة الإمام، فقيه العراق، روى عن أنس بن مالك، وتفقه بإبراهيم النخعي، وهو أنبل أصحابه وأفقههم، روى عنه تلميذه الإمام أبو حنيفة، وابنه إسماعيل بن حماد، والحكم ابن عتيبة، توفي سنة 120 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 83)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (5/ 231).

فقط، هذا هو القول التاسع والعاشر والحادي عشر أيضًا. الثالث: ينتقل العقد السابق من عقدٍ لازمٍ إلى عقدٍ جائزٍ، يُجيزُ لها أن تفارِقَهُ وتنكحَ زوجًا غيره إن شاءتْ، ولا يجوز له أن يطأها مطلقًا في دار الحرب، أو في دار الإسلام، وفقَ القول الثاني عشر -قول ابن القيم- ويجوز الوطء بينهما ما دامت في دار الإسلام، وفقَ القول الثالث عشر -قول عمر وعلي- والذي تبناه -فيما بعد- عامر الشعبي، وإبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان. وبفحص هذه الأقوال نجد أنه باعتماد القول بالتفريق والإبطال لما بينهما من العقد، فقد اخْتُلِفَ في مسائلَ، هي: 1 - نوع الإبطال الذي يلحق عقد النكاح: القول الأول: هو فسخ يجب بعد انقضاء العدة، وهو رأي الأئمة الأربعة. القول الثاني: هو طلاق. القول الثالث: يبقى النكاح مع عدم المسيس حتى يحكم القاضي بالتفريق. القول الرابع: يكون موقوفًا. بحيث يتحول العقد إلى عقد جائز من جهة الزوجة، فلها أن تبقى معه من غير مسيس، ولها أن تفارقه وتنكح زوجًا غيره. 2 - كيفية الرد والاستئناف: القول الأول: على القول بأنه فسخ بعد انقضاء العدة يكون الردُّ بعقد ومهر جديدين. القول الثاني: يرجع الزوج إليها من غير احتياج إلى عقد جديد إذا أسلم قبل انقضاء عدتها. القول الثالث: يرجع بعقد جديد، لكن بصداقها القديم. القول الرابع: يستمر على النكاح القديم، ولو بعد انقضاء العدة، ولو طالت المدة!

3 - المدة التي يمكن للمتأخر فيها الرد إلى الحياة الزوجية: القول الأول: إذا أسلم المتأخر خلال عدتها استأنف حياته الزوجية، وإذا أسلم بعدها فلا سبيل له عليها، وهو مذهب الأئمة الأربعة. القول الثاني: لا حدَّ للمدة التي يجوز فيها الردُّ، ما دامت لم تَنْكِحْ زوجًا غيره، وهو قول ابن تيمية وابن القيم. الأدلة والمناقشات: أدلة القول الأول: من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وفتاوي الصحابة وفعلهم، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وأتباع مذاهبهم، وطوائف كثيرة من السلف والخلف (¬1). وخلاصته: بطلانُ عقد النكاح إمَّا بانقضاء العِدَّةِ، كما هو مذهب الأغلبية، أو بقضاء القاضي، كما هو مذهب الزهري في رواية. واستدلوا لمذهبهم بالكتاب، والسنة، وآثار الصحابة. أولًا: القرآن الكريم: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]. ¬

_ (¬1) حاشية قليوبي على شرح المنهاج، (3/ 254)، زاد المحتاج بشرح المنهاج، لعبد الله بن الشيخ حسن الكوهجي، تحقيق: عبد الله الأنصاري، المكتبة العصرية، بيروت، 1988 م، (3/ 239 - 240)، المدونة الكبرى، رواية سحنون بن سعيد، (2/ 212)، الكافي، لابن عبد البر، (2/ 549 - 550)، كشاف القناع، للبهوتي، (5/ 118)، المحرر، للمجد ابن تيمية، (2/ 28)، بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 336)، الدر المختار، للحصكفي، (3/ 188 - 189).

وجه الدلالة: نصت هذه الآية نصًّا صريحًا على عدم إرجاع المؤمنات المهاجرات إلى الكفار، وحرَّمَتْ بقاء المؤمناتِ زوجاتٍ للكافر، وأمرتْ كلَّ مؤمن يتزوج كافرة أن يفارقها، بقوله تعالى في الآية: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]. قال ابن العربي -في قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]-: "بَيَّنَ أن العلة عدم الحل بالإسلام، وليس اختلاف الدارين" (¬1) والذي أوجب فُرْقَةَ المسلمة من زوجها هو إسلامها. يقول الشوكاني: "إن عبارة: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] تعليل للنهي عن إرجاعهن، وفيه دليل على أن المؤمنة لا تحل لكافر، وأن إسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها لا مجرد هجرتها، والتكرير لتأكيد الحرمة، أو الأول لبيان زوال النكاح، والثاني لامتناع النكاج الجديد" (¬2). 2 - قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. قال ابن كثير -رحمه الله-: "قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] تحريم من الله -عز وجل-، على عباده المؤمنين نكاحَ المشركات، والاستمرارَ معهن" (¬3). وقال ابن العربي -في قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]-: "هذا بيان لامتناع نكاح المشركة من جملة الكوافر، وهو تفسيره والمراد به. قال أهل التفسير: أَمَرَ الله تعالى كلَّ مَنْ كان له زوجة مشركة أن يُطَلِّقَهَا، وقد كان الكفار يتزوَّجون المسلمات، والمسلمون يتزوَّجون المشركات، ثم نَسَخَ الله ذلك في هذه الآية وغيرها، ¬

_ (¬1) أحكام القرآن، لابن العربي، (4/ 230). (¬2) فتح القدير، للشوكاني، (5/ 286). (¬3) تفسير ابن كثير، (8/ 94).

وكان ذلك نسخ الإقرار على الأفعال بالأقوال" (¬1). 3 - قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221]. دلت هذه الآية على حكمين: الأول: تحريم زواج المسلم من المشركة حتى ولو أعجبته، طالما بقيت على شركها. الثاني: تحريم زواج المسلمة من المشرك حتى ولو أعجبها وأَعجبَ أهلها، طالما بقي على شركه. وعلة التحريم في الحالتين هي الشرك باعتباره الوصفَ المؤثرَ (¬2). موقع آية الممتحنة من آية البقرة: " آية البقرة تمنع النكاح إطلاقًا بين المسلمين والمشركات، وبين المشركين والمسلمات، وقد جاء الإذن بعد ذلك (بآية المائدة) بزواج المسلمين من الكتابيات، وبقي المنع يشمل الباقي من النساء الكافرات أو المشركات، أما زواج المسلمة من غير المسلم فقد بقي ممنوعًا عملًا بعموم آية البقرة، وانعقد على ذلك الإجماع، كما هو معروف. وجاءت آية الممتحنة تتناول عقود الزواج السابقة على الإسلام، ويهمنا في هذا البحث المرأة إذا أسلمت وبقي زوجها على دينه، وتركت بلادها -دار الكفر- والتحقت بدار الإسلام والهجرة، لقد نصت الآية بوضوح {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] وبينت علة ذلك، وهي عدم الحلية بين المؤمنات والكافرين. ¬

_ (¬1) أحكام القرآن، لابن العربي، (4/ 231). (¬2) إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه، فيصل مولوي، (ص 249).

إذًا: آية البقرة منعت ابتداءً النكاح بين المسلمة والكافر. وآية الممتحنة أكَّدت هذا المنع بالنسبة للعقود السابقة، وللعقود الجديدة {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} [الممتحنة: 10]-ولو بموجب عقود سابقة- {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] بموجب عقود جديدة. وإذا كانت آية الممتحنة نزلت بمناسبة هجرة بعض المسلمات إلى المدينة، وجاء النهي عن إرجاعهن إلى الكفار، فإن تعليل هذا النهي لم يأتِ مبنيًّا على ظرف معين يقع فيه الإيذاء، أو التعذيب، أو الضغط على المرأة المسلمة من زوجها الكافر، وإنما جاء النهي معللًا (بعدم الحلية)، وهذا أمر لا علاقة له باختلاف الدَّار، ولا بالتعرض للأذى المحتَمَلِ. فآية البقرة تمنع إنشاء عقود جديدة. وآية الممتحنة تمنع استمرار العقود القديمة" (¬1). ثانيًا: السنة المطهرة: 1 - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَدِّ ابنتَهُ زينبَ على أبي العاص بن الربيع بمهرٍ جديد ونكاح جديد (¬2). 2 - عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: رَدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بعد ست سنين بالنكاح الأول ولم يُحْدِثْ نكاحًا (¬3). ¬

_ (¬1) إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه، فيصل مولوي، (257). (¬2) أخرجه الترمذي، كتاب النكاح، باب: ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما، (1142)، وابن ماجة، كتاب النكاح، باب: الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر، (2010)، وقال الترمذي: "هذا حديث فيه مقال". (¬3) أخرجه أبو داود، كتاب الطلاق، باب: إلى متى تُرَدُّ عليه امرأته إذا أسلم بعدها، (2240)، والترمذي، كتاب النكاح، باب: ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما، (1143)، وقال: "ليس بإسناده بأس، ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث، ولعله قد جاء هذا من قبل داود بن حصين من قبل حفظه".

درجة الحديث الأول: قال الترمذي -رحمه الله-بعد رواية الحديث-: هذا حديث في إسناده مقال، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها، ثم أسلم زوجها وهي في العدة أن زوجها أحقُّ بها ما كانت في العدة، وهو قول مالك بن أنس، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحق (¬1). وفي نيل الأوطار: وفي إسناده حجاج بن أرطاة، وهو معروف بالتدليس، وأيضًا لم يسمعه من عمرو بن شعيب، كما قال أبو عبيد، وإنما حمله عن العرزمي وهو ضعيف، وقد ضعَّفَ هذا الحديثَ جماعةٌ من أهل العلم (¬2). درجة الحديث الثاني: قال الترمذي -رحمه الله-قبل أن يرويه-: وفي الحديث الآخر أيضًا مقال. وقال -بعد أن رواه-: هذا حديث ليس بإسناده بأسٌ، ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث، ولعله قد جاء هذا من قِبَلِ داود بن الحصين من قِبَلِ حفظه. فعبارة الترمذي واضحة أنه لم يصححِ الحديثَ، بل ذَكَرَ ضعفَ ضبطِ داودَ بنِ الحصين وحفظه، وقد رَدَّ كثير من العلماء رواية داود بن الحصين وبخاصة إذا روى عن عكرمة، وتجنبوا روايته (¬3). وجه الدلالة من الحديثين: 1 - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حبس ابنته زينب عن أبي العاص بعد غزوة بدر والمنِّ عليه، ¬

_ (¬1) سنن الترمذي، (3/ 447). (¬2) فتح الباري، لابن حجر، (9/ 423)، نيل الأوطار، للشوكاني، (6/ 194)، ويراجع ميزان الاعتدال في نقد الرجال، لشمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، ومعه ذيل ميزان الاعتدال، لأبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي، تحقيق: علي محمد عوض، وعادل أحمد عبد الموجود، وعبد الفتاح أبي سنة، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1416 هـ - 1995 م، (2/ 197). (¬3) المرجع السابق، (3/ 6 - 7).

على أن يبعث زينب، وجاء بها زيد بن حارثة وظلَّتْ عند أبيها. 2 - عند هجرتها وحياتها في المدينة انقطعتِ العشرةُ الزوجية بينها وبين أبي العاص. 3 - بقيت العِشرة الزوجية منقطعة حتى أسلم أبو العاص، فأعادها الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - إليه بعد إسلامه، فبعضُهُمْ يقولُ: وكانت في عدتها بعد نزول آية الممتحنة: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] فأعادها إليه، وهي في عدتها، ومنهم من يقول: أعادها إليه بعد عدتها بعقد جديد ومهر جديد. 4 - ولفظُ: رَدَّ الرسولُ زينبَ على أبي العاص يدلُّ بوضوح على ما تقدَّمَ من انقطاع العشرة الزوجية والخلوة وسائر أسباب الجماع ودواعيه (¬1). ثالثًا: فعل الصحابة -رضي الله عنهم- وفتاويهم: 1 - ثبت أن عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- كان له زوجتان مشركتان (¬2) قبل نزول هذه الآية، فلما نزلت قام بفراقهما، وهما: قريبة وأم كلثوم الخزاعية. 2 - أن عياض بن غنم -رضي الله عنه- كانت تحته أم الحكم بنت أبي سفيان، وكانت مشركة فطلَّقَهَا فتزوجها عبد الله بن عثمان الثقفي (¬3)، وكانت أروى بنت ربيعة بن عبد المطلب مشركة تحت طلحة بن عبيد الله، فطلَّقَهَا (¬4). 3 - صح عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قضى في المرأة التي تسلم ويصر زوجها على الكفر أن يفرق بينهما. وذلك أن رجلًا من بني تغلب يقال له عباد بن النعمان كان تحته امرأة من بني تميم، ¬

_ (¬1) أثر إسلام أحد الزوجين، د. محمد أبو فارس، (ص 322). (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب: الشروط فى الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، (2731). (¬3) أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب نكاح من أسلم من المشركات وعدتهن، (5287). (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم، (10/ 3350)، قال الحافظ في فتح الباري، (9/ 419): "سنده حسن".

فأسلمت فدعاه عمر، فقال: إما أن تُسْلِمَ، وإما أن أنزعها منك، فأبى أن يُسْلِمَ فنزعها منه (¬1). 4 - وعن جابر بن عبد الله بن حرام -رضي الله عنهما- أنه قال -لما سئل عن نكاحِ المسلمِ اليهوديةَ والنصرانيةَ-: "لا يَرِثْنَ مسلمًا ولا يَرِثُهُنَّ، ونساء أهل الكتاب لنا حِلٌّ ونساؤنا عليهم حرام" (¬2). وعبارة: "نساؤنا عليهم حرام" عبارة عامة تشمل العقد والوطء، فيحرم على المسلمة أن تنكح كافرًا كتابيًّا، ويحرم عليها أن تمكِّنَهُ من الوطء كذلك، والعبرة -كما هو معلوم- بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. 5 - وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرمت عليه" (¬3). وعنه أيضًا -رضي الله عنه- في اليهودية أو النصرانية تكون تحت اليهودي أو النصراني فَتُسْلِمُ، فقال: "يُفَرَّقُ بينهما، الإسلامُ يعلُو ولا يُعْلَى عليه" (¬4)، وسنده صحيح (¬5). وقد أفتى بهذا من التابعين عطاءُ بن أبي رباح، ومجاهد، والحسن، والحكم بن عتيبة، وسعيد ابن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، وطاوس، وقتادة وغيرهم (¬6). القول الثاني: وخلاصته: لا يبطل عقد النكاح إلا بقضاء القاضي مطلقًا، أو في دار الإسلام فقط، وهو خلاصة القول التاسع والعاشر والحادي عشر أيضًا، وهو ظاهر قول ابن عباس، كما كان يرى للزوجة المسلمة إبطاله باختيارها، وترك زوجها الكافر. وهو مقتضى قول طاوس، وسعيد بن جبير، وسفيان الثوري، والزهري في رواية ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (5/ 91). (¬2) السنن الكبرى، للبيهقي، (7/ 172)، المحلى، لابن حزم، (7/ 312). (¬3) أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب: إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي أو الحربي، (5287). (¬4) شرح معاني الآثار، للطحاوي، (3/ 257). (¬5) فتح الباري، لابن حجر، (9/ 421). (¬6) مصنف ابن أبي شيبة، (5/ 90 - 91)، المحلى، لابن حزم، (7/ 312)، فتح الباري، لابن حجر، (9/ 421).

عنه، وهو مذهب الحنفية (¬1). ومذهب الحنفية: أن المرأة إذا أسلمت وهاجرت من دار كفر إلى دار الإسلام، فإن اختلاف الدارين يفرق بينها وبين زوجها، بمجرد صيرورتها في دار الإسلام. وتفصيل ما أُجْمِلَ من مذهبهم في هذه القضية على المسائل التالية: المسألة الأولى: أن يكون الزوجان من أهل دار الإسلام بالذمة، فإذا أسلم الزوج وزوجته ليست كتابية عرض عليها الإسلام، فإن أبت فَرَّقَ بينهما القاضي. وكذلك إذا أسلمت الزوجة، فيعرض الإسلام على الزوج فإن أسلم وإلا فَرَّقَ بينهما القاضي (¬2). وبناءً عليه فإنه ما لم يفرق بينهما القاضي فهي امرأته (¬3). المسألة الثانية: أن يكون الزوجان من أهل دار الحرب، فإذا أسلم أحدهما ولم يهاجر، فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض إن كانت من ذوات الحيض، أو تمضي ثلاثة أشهر، فإذا مضت هذه المدة ولم يُسْلِمِ الآخرُ منهما وقعت الفُرْقَةُ بينهما (¬4). وليست هذه بعدَّةٍ لشمولها غيرَ المدخول بها؛ إذ لا يفرقون بينهما (¬5). المسألة الثالثة: أن يكون الزوجان من أهل دار الحرب، فَيُسْلِمُ أحدهما، ثم يخرج إلى دار الإسلام، فهنا تقع الفُرْقَةُ لاختلاف الدار (¬6). ¬

_ (¬1) مصنف ابن أبي شيبة، (5/ 91 - 92)، أحكام القرآن، للجصاص، (5/ 330 - 331)، بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 336)، فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 419)، حاشية ابن عابدين، (4/ 354 - 355، 359). (¬2) حاشية ابن عابدين، (4/ 354 - 355، 359). (¬3) فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 419)، حاشية ابن عابدين، (4/ 359). (¬4) أحكام القرآن، للجصاص، (5/ 330)، شرح معاني الآثار، للطحاوي، (3/ 258). (¬5) فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 419)، حاشية ابن عابدين، (4/ 363). (¬6) شرح معاني الآثار، للطحاوي، (3/ 259)، أحكام القرآن، للجصاص، (3/ 430).

أدلة القول الثاني: أما ما يتعلق بالمسألة الأولى، فبعد اتفاق الحنفية مع الجمهور في إبطال النكاح، وإيجاب الفُرْقة، واستدلالهم لذلك بأدلتهم، استدلوا الاشتراط القاضي بأدلة، منها: 1 - قضاء عمر بالفُرْقَةِ: حيث كان رجل من بني تغلب نصراني، تحته امرأة نصرانية فأسلمَتْ فَرُفِعَتْ إلى عمرَ، فقال له: إن أسلمتَ وإلَّا فرَّقْتُ بينكما، فقال له: لم أَدَعْ هذا إلا استحياءً من العرب أن يقولوا: إنه أسلم على بُضْعِ امرأة، قال: ففرَّقَ عمر بينهما (¬1). وجه الدلالة: لو أن الفُرْقَةَ تقع بمجرد الإسلام لم يكن للتفريق الصادر عن عمر -رضي الله عنه- معنًى، وقد وقع بمحضر الصحابة فكان إجماعًا (¬2). 2 - القياس والمعقول من وجهين: أ - لا يجوز أن يكون مجرد الإسلام مبطلًا للنكاح؛ لأن الإسلام إنما عرف عاصمًا للأملاك، فكيف يكون مبطلًا لها، وإذا كان قد صحح ابتداءً عقد النكاح بين كافر وكافرة فالإبقاء عليه عند إسلام أحدهما أسهل وأولى (¬3). ب - إن إضافة انقطاع النكاح للإسلام لا نظير له في الشرع، ولا أصل يلحق به قياسًا بجامع صحيح معتبر، ولا يوجد نقلٌ سمعي يفيده، فكان مضافًا إلى قضاء القاضي (¬4). وأما في حالة أن يكون الزوجان من أهل دار الحرب، وعدم وجدان القاضي أو ولي الأمر، وهي المسألة الثانية في مذهبهم فيقام شرط البينونة في الطلاق الرجعي مقام القاضي، ¬

_ (¬1) مصنف ابن أبي شيبة، (5/ 90 - 91)، الحجة على أهل المدينة، لمحمد بن الحسن الشيباني، تحقيق: مهدي حسن الكيلاني القادري، دار عالم الكتب، بيروت، (4/ 6 - 7)، التاريخ الكبير، للبخاري، (4/ 212). (¬2) بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 337). (¬3) المرجع السابق، (2/ 337). (¬4) فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 419).

وإقامة الشرط مقام العلة عند تعذر اعتبار العلة جائز، فنزل انقضاء ثلاث حيضات مقام تفريق القاضي (¬1). على أن الحنفية لا يعتبرونها عدة، وإنما سببًا أو شرطًا لوقوع الفُرْقَةِ. وأما المسألة الثالثة: وهي اعتبار اختلاف الدار موجبًا لوقوع الفُرْقَةِ في حال كون الزوجين من أهل دار الحرب، فَيُسلم أحدهما، ثم يخرج إلى دار الإسلام، فهنا تقع الفرقة، لاختلاف الدار (¬2). وقد وَرَدَ ما يفيد هذا الاعتبار عند المالكية أيضًا (¬3). ومعنى اختلاف الدارين الذي تتحقق به الفُرْقَةُ عند الحنفية ومن معهم هو أن يكون أحد الزوجين من أهل دار الإسلام حقيقةً أو حكمًا، بالإسلام أو الذمة، والآخر من أهل دار الكفر -أي: كافرًا حربيًّا- كأن يُسلم أحد الزوجين في دار الكفر، ثم يهاجر إلى دار الإسلام، أو يخرج أحد الزوجين من دار الكفر إلى دار الإسلام، ذميًّا، أو مستأمنًا، ثم يُسلم أو يعقد عقد الذمة، أو يخرج المسلم من دار الإسلام إلى دار الكفر مرتدًّا عن دينه، أو يخرج الذمي من دار الإسلام إلى دار الكفر ناقضًا للعهد، ففي جميع هذه الأحوال تجب الفرقة بين الزوجين؛ لتباين الدارين بينهما. أما إذا كان الزوجان مسلمين، فخرج أحدهما إلى دار الكفر بأمان أو بغيره، فلا تقع الفُرْقَةُ؛ لأنهما من أهل دار واحدة، وإن كان أحدهما مقيمًا في دار الكفر، والآخر في دار الإسلام، فاختلاف الدار لا أثر له بالنسبة للزوجين المسلمين (¬4). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 338)، فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 422). (¬2) أحكام القرآن، للجصاص، (5/ 330)، شرح معاني الآثار، للطحاوي، (3/ 259). (¬3) أحكام القرآن، لابن العربي، (4/ 230)، تفسير القرطبي، (18/ 63 - 64). (¬4) المبسوط، للسرخسي، (5/ 51)، تبيين الحقائق، للزيلعي، (2/ 176).

وقد استدلوا لمذهبهم بأدلة من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والمأثور، والمعقول، والقياس. أولًا: القرآن الكريم: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]. وجه الدلالة: دلت الآية على وقوع الفرقة بين الزوجين متى اختلفت الدار بينهما من وجوه عديدة: أ - دلَّ قوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ. . .} [الممتحنة: 10] على أنَّ الفرقة تقع بين الزوجة التي أسلمت بدار الكفر، ثم هاجرت إلى دار الإسلام، وبين زوجها الذي تركته بدار الكفر كافرًا، فإن الأمر بعدم إرجاعها إلى زوجها الكافر في دار الكفر، دليل على انقطاع العصمة بينهما بسبب اختلاف الدار بينهما. ب - ودلَّ قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] على وقوع الفُرْقَةِ بين الزوجين، متى اختلفت الدار بينهما؛ لأن عدم الحل إنما يكون عند رفع النكاح وزواله. ج - ودلَّ قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] على وقوع الفُرْقَةِ بسبب اختلاف الدار؛ لأن الأمر بِرَدِّ مهر الزوجة المسلمة المهاجرة إلى دار الإسلام على زوجها الكافر المقيم بدار الكفر دليلٌ على انقطاع عصمة الزوجية بينهما؛ لأن الزوجية لو كانت باقية لما استحق الزوج رَدَّ المهر إليه؛ لأنه لا يجوز أن يستحق البضع وبدلَهُ. د - ودلَّ قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] على وقوع الفُرْقَةِ بين الزوجين، بسببِ اختلافِ الدارِ؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أحلَّ المسلماتِ المهاجراتِ إلى دارِ الإسلامِ للمؤمنين من غيرِ شرطٍ، إلا إعطاؤهُنَّ المهورَ، وهذا دليلٌ على عدم بقاء زواجِهِنَّ الأولِ؛ لأنه لو كان النكاح الأول باقيًا، لما جاز للمؤمنين نكاح المهاجرات بإسلامهن.

هـ - ودلَّ أيضًا قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] على وجوب الفُرْقَةِ بين الزوجين، بسبب اختلاف الدار بينهما؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى نهى المؤمنين أن يُمْسِكُوا بعصمِ الكوافر فالكافر الذي أسلم في دار الكفر، ثم هاجر إلى دار الإسلام، وترك زوجته الكافرة في دار الكفر، يفرَّق بينهما؛ لأن اختلاف الدار أوجبَ انقطاعَ العصمة بينهما، والمراد بالعصمة هنا: النكاح، فقد انقطع النكاح بينهما؛ لاختلاف الدار بينهما (¬1). ثانيًا: السنة المطهرة: استدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رَدَّ ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد، ونكاح جديد (¬2). وجه الدلالة: دلَّ الحديث على أن تباين الدارين يوجب الفرقة بين الزوجين؛ لأن العقد الجديد كان بالمدينة. ثالثًا: المأثور: ما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه لما أراد أن يهاجر إلى المدينة، نادى بمكة: "من أراد أن يرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي" (¬3). رابعًا: المعقول، وذلك من أربعة أوجه: الوجه الأول: ¬

_ (¬1) أحكام القرآن، للجصاص، (5/ 330)، المبسوط، للسرخسي، (5/ 51)، الجوهر النقي مع سنن البيهقي، (7/ 188). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) أخرجه: ابن الأثير في أسد الغابة، (3/ 648، 649)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. وضعفه الألباني في دفاع عن الحديث النبوي، (ص 52 - 53).

أن تباين الدارين مُفَوِّتٌ لمقاصد النكاح؛ لأنه مع اختلاف الدار لا يتمكن الزوجان من الانتفاع بالنكاح عادةً، فلم يكن لبقائه فائدة فيزول؛ إذ يكون الزوجان بحال يتعذر معها انتظام التعاون المنشود، كالمسلم إذا ارتدَّ عن الإسلام، ولحق بدار الحرب، فإنه يزول ملكه عن أمواله، وتعتق أمهات أولاده، فكذلك إذا اختلفت الدار بين الزوجين، زالت الفائدة من النكاح (¬1). الوجه الثاني: ولأن أهل دار الحرب كالموتى في حق أهل دار الإسلام؛ ولهذا لو التحق بهم المرتد جَرَتْ عليه أحكام الموتى، فكما لا تتحقق عصمة النكاح بين الحي والميت، فكذلك لا تتحقق عند تباين الدارين حقيقةً وحكمًا (¬2). الوجه الثالث: ولأن الدار اختلفت بين الزوجين حقيقةً وحكمًا، فوجب أن تقع الفرقة بينهما، كالحربية إذا دخلت دار الإسلام بأمان، ثم أسلمت، فإن الفرقة تقع بينها وبين زوجها الذي في دار الحرب في الحال (¬3). الوجه الرابع: ولأن اختلاف الدارين يؤثر في انقطاع العصمة، كما يؤثر في المنع من الميراث، ألا ترى أن الذمي لو مات في دار الإسلام وخلَّفَ مالًا وله ورثة من أهل الحرب في دار الحرب، لم يستحقوا من إرثه شيئًا، وجُعِلَ مالُهُ في بيت المال؛ لاختلاف الدارين، ولو كان ورثته ذميين في دار الإسلام لكانوا هم أحقَّ بتركتِهِ من جماعة المسلمين؛ لأنه لم تختلف الدار بينهم؛ لأن الجميع من أهل دار الإسلام (¬4). ¬

_ (¬1) المبسوط، للسرخسي، (5/ 51). (¬2) بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 338). (¬3) أحكام القرآن، للجصاص، (5/ 330 - 331). (¬4) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 736).

خامسًا: القياس: أن الفُرْقَةَ تقع بين الزوجين في الحال إذا ثبت أن بينهما رضاعًا أو نسبًا. فكذلك إذا اختلفت الدار فُرِّقَ بينهما في الحال (¬1). القول الثالث: وخلاصة هذا القول: أن العقد ينتقل من عقد لازم إلى جائز، يجيز للمرأة أن تفارق وتنكح زوجًا آخر إن شاءت، ويكون العقد موقوفًا، ولا يَحِلُّ له أن يطأها مطلقًا، لا في دار حرب أو إسلام، وهذا مذهب ابن القيم وشيخه رَحِمَهُمَا اللهُ. ويجوز الوطء بينهما ما دامت في دار الإسلام، ولم يكن زوجها محاربًا لدينها؛ وفقًا لما رُوِيَ عن عمر وعلي، وبه قال الشعبي والنخعي وحماد بن أبي سليمان (¬2) وانتصر له الجديع، ورأى أنه أعظم في تأليف القلوب، وألصق بما قامت عليه الدعوة النبوية (¬3). أدلة القول الثالث: من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والأصول، والمعقول، وحاصلها ما يلي: أولًا: القرآن الكريم: 1 - آية سورة الممتحنة: وجه الدلالة: آية الممتحنة لم تَقُلْ: إن عقد النكاح قد انقطع بين المهاجرة وزوجها الكافر المحارب، إنما أباحت لها النكاح، وجاءت قصة زينب فأثبتت استمرارَ العقد القديم، ¬

_ (¬1) فتح القدير، لابن الهمام، (3/ 424). (¬2) مصنف ابن أبي شيبة، (5/ 92)، مصنف عبد الرزاق، (6/ 84)، (7/ 175). (¬3) إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه، د. عبد الله الجديع، (ص 184).

ونفيُ الحِلِّ لا يعني إبطال العقد السابق؛ لأنه لم يبطل عقد زواج زينب، وإنما يعني: منع تمكين العدو الكافر المحارب من المسلمة. 2 - قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. وجه الدلالة: لو أفادت هذه الآيةُ انقطاعَ الزواجِ ما احتاجَ عمرُ إلى أن يطلق زوجتيه اللتين كانتا بمكة مشركتين. ثانيًا: السنة المطهرة: قصة زينب وغيرها في السنة النبوية، وقد تقدمت. وجه الدلالة: ما جرى عليه العمل بعد الهجرة، فبقاء طائفة من المؤمنين بمكةَ أمرٌ مقطوع به؛ لقوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء: 98]، ولقوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ} [الفتح: 25]، ومن المحتمل أن يكون بين هؤلاء امرأة مسلمة مع زوج كافر، أو رجل مسلم مع زوجة كافرة، بل ما يؤكد وقوع ذلك قصة أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية زوجة العباس بن عبد المطلب، وقد أسلمت قبله وبقيت عنده، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كنت أنا وأمي من المستضعفين، أنا من الولدان، وأمي من النساء" (¬1)، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إنه لم يكن مع أبيه على دين قومه"، وعلَّق الذهبي على ذلك بقوله: "فهذا يُؤْذِنُ بأنهما أسلما قبل العباس وعجزا عن الهجرة" (¬2)، وكذلك قصة زينب بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومُكْثها تحت ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلى عليه؟، (1357)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- موقوفًا. (¬2) سير أعلام النبلاء، للذهبي، (2/ 315).

زوجها أبي العاص بن الربيع، وهي مسلمة وهو يومئذ كافر، هاتان القصتان دلَّتا أنه بعد الهجرة استمرَّ العمل على أن اختلاف الدين لم يكن يفرِّقُ بين المرأة وزوجها، وأنه لم تأتِ الشريعة بما يضادُّ ذلك قبل آية الممتحنة. ثالثًا: الأدلة الأصولية: شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يَرِدْ في شرعنا ما ينسخه، واختلاف الدين لم يوجب على نوح ولوط مفارقة زوجتيهما الكافرتين، ولم يوجب على آسية مفارقة زوجها فرعون. رابعًا: المعقول: 1 - إن أنكحة الكفار فيما بينهم صحيحة، ولا تبطل إذا أسلم الزوجان، إلا إذا كانت المرأة لا تحل لزوجها حسب أحكامنا الشرعية، ولا يؤمر الزوجان بتجديد النكاح. وهذا ما جرى عليه العمل بين المسلمين قبل الهجرة، فهو دليل على أن تغيير الدين لم يكن مؤثِّرًا في صحة عقد النكاح السابق. 2 - إن التفريق بمجرده لا يحقق مصلحة، بل هو مفسدة، ولا يناسب التبشير بدين الإسلام، وقد قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن المرأة إذا علمت، أو الزوج أنه بمجرد إسلامه يزول النكاح، ويفارق من يحبُّ، ولم يَبْقَ له عليها سبيلٌ إلا برضاها ورضا وليها ومهر جديد، نَفَرَ عن الدخول في الإسلام، بخلاف ما إذا علم كل منهما أنه متى أسلم فالنكاح بحاله، ولا فراق بينهما إلَّا أن يختار هو المفارقة، كان في ذلك من الترغيب في الإسلام ومحبته ما هو أدعى إلى الدخول فيه" (¬1). مناقشة الأدلة: أولًا: مذهب الجمهور: ¬

_ (¬1) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 694).

1 - نوقشت دلالة قوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] بأن الآية لا تدلُّ على بطلان عقد النكاح، وإنما تدل على النهي عن رَدِّ المسلمات المهاجرات إلى أزواجهن الكفار، فأين في هذا ما يقتضي أما لا تنتظر زوجها حتى يصير مسلمًا مهاجرًا إلى الله ورسوله، ثم تُرَدُّ إليه؟ (¬1). 2 - ونوقشت دلالة قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، بأنها لا تدلُّ على البطلان؛ لأن عمر وغيره عمدوا إلى تطليق نسائهم المشركات بمكة امتثالًا لها، ولم ينفسخ عقد النكاح بينهم وبينهن بمجرد نزولها، فهو طلاق وليس بفسخ. 3 - كما نوقشت قصةُ زينبَ وردُّها إلى زوجها بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُحْدِثْ شيئًا حين رَدَّهَا، أي: لا نكاحًا ولا صداقًا، وإنما رَدَّهَا إليه بنفس النكاح الأول، ويدلُّ هذا على أنه لم ينفسخ نكاحها لا بإسلامها ولا بهجرتها. وأجاب الجمهور عن دلالة آية الممتحنة مع آية البقرة على فسخ النكاح، وتحريم بقاء المسلمة في عصمة زوجها الكافر بما يلي: 1 - التحريم يمنع العقد والوطء معًا وليس الوطء فحسب، كما أن التحريم يعني: المنع حالًا واستقبالًا وإذا كان ما سبق عمله في الماضي قائمًا في الحاضر فإنه يطلب منعه والتوقف عنه فورًا. قال تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221]، فإذا استمرَّ النكاح السابق دون إسلام المشرك كان هذا مخالفة صريحة للنص، إلا أن يقوم دليل التخصيص أو التقييد، ولقد تقرَّرَ عند الأصوليين أن النهي يقتضي الفورَ والدوامَ والتكرارَ (¬2). ¬

_ (¬1) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 686). (¬2) التمهيد في أصول الفقه، لأبي الخطاب الكلوذاني، (1/ 363 - 364).

2 - علة التحريم هي اختلاف الدين، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وهذه العلة موجودة في العقود السابقة على التحريم، والأصل في التحريم أن يشمل العقودَ الجديدة، ومَنْعَ استدامة العقود القديمة. 3 - قاعدة: يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء (¬1)، أو البقاء أسهل من الابتداء (¬2)، محلها حيث لا توجد مخالفات تتعلق بصلب العقد، فإذا كان الأمر متعلقًا بصلب العقد ومحله وهو الزوجة فلا محل لها، كما لو ثبت بينهما رضاع أو نسب فلا بد من التفريق ولا ترد هذه القاعدة، وعليه: فآية البقرة تمنع ابتداءَ عقودٍ جديدةٍ، وآية الممتحنة تمنع امتدادَ عقودٍ سابقةٍ. 4 - بعد التسليم بوجود خلاف قديم ومتقدم يظهر أنه بعد وفاة حماد بن أبي سليمان الذي كان يروي قول النخعي ويفتي به بعد الشعبي لم يسمع هذا القول بعد ذلك، فالإجماع يُسلَّم بعد زمن حماد، لا سيما وأن سائر المذاهب السنية الأربعة والظاهرية مع الشيعة الزيدية لم يُرْوَ عنهم إلا إبطال النكاح والتفريق، باستثناء ابن تيمية -رحمه الله- وابن القيم -رحمه الله- والشيعة الجعفرية، فإنهم اعتبروا العقد موقوفًا، ولا يَحِلُّ به الوطءُ. فكان المنع من الوطء والتفريق موطنَ إجماع صحيح منعقد. ثانيًا: مذهب الحنفية ومن معهم: 1 - مناقشة أدلتهم من القرآن: استدلالهم بآية سورة الممتحنة يجاب عنه بأن الذي أوجب الفرقة بين المسلمة المهاجرة إلى دار الإسلام وزوجها الكافر في دار الكفر هو إسلامها، لا هجرتها، أي: هو ¬

_ (¬1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر، (1/ 94). (¬2) درر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر، (1/ 95).

اختلاف دينِها عن دينِه، لا دارِها عن دارِه. وفي هذا يقول ابن العربي: "الذي أوجب فُرْقَةَ المسلمة من زوجها هو إسلامُها، لا هجرتُها؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- قد قال: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] فبيَّنَ أن العلة عدم الحِلِّ بالإسلام، وليس باختلاف الدارين" (¬1)، ووافقه القرطبي حيث قال: "هذا أدلُّ دليلٍ على أن الذي أوجب فُرْقَةَ المسلمة من زوجها إسلامُها، لا هجرتُهَا. . . وقال ابن عبد البر: لا فَرْقَ بين الدارين، لا في الكتاب والسنة، ولا في القياس، وإنما المراعَى في ذلك الدينانِ، فباختلافهما يقع الحكم وباجتماعهما، لا بالدار، والله المستعان" (¬2). وقال ابن القيم: "قال الجمهور: لا حجة لكم في شيء من ذلك؛ فإن قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} [الممتحنة: 10] إنما هو في حال الكفر؛ ولهذا قال: {وَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] ثم قال: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] وأما قوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] فقد تنازع الناس فيه، فقالت طائفة: هذا منسوخ، وإنما كان ذلك في الوقت الذي كان يجب فيه رَدُّ المهر إلى الزوج الكافر إذا أسلمت امرأته، وأما من لم يَرَهُ منسوخًا فلم يجب عنده رَدُّ المهر لاختلاف الدارين، بل لاختلاف الدين، ورغبة المرأة عن التربص بإسلامه؛ فإنها إذا حاضت حيضة ملكت نفسها، فإن شاءت تزوجت وحينئذٍ تَرُدُّ عليه مهرَهُ، وإن شاءت أقامت وانتظرت إسلامه. وأما قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] فإنما ذلك بعد انقضاء عدتها ورغبتها عن زوجها، وعن التربص بإسلامه، كما قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230] والمراد بعد انقضاء عدتها ورضاها، وأما قوله: {وَلَا ¬

_ (¬1) أحكام القرآن، لابن العربي، (4/ 230). (¬2) تفسير القرطبي، (18/ 63 - 64).

تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] فهذا لا يدلُّ على وقوع الفرقة باختلاف الدار، وإنما يدلُّ على أن المسلم ممنوعٌ من نكاح الكافرة المشركة، ونحن لا نقول ببقاء النكاح مع شركها، بل نقول: إنه موقوفٌ فإن أسلمتْ في عدتها أو بعدها فهي امرأته" (¬1). وأجاب الحنفية عن ذلك: بأن الآية الكريمة واردة في بيان حكم المؤمنات المهاجرات من دار الحرب إلى دار الإسلام، مفارقات أزواجهن المشركين في دار الحرب، والحكم الذي وردت به الآية هو وقوعُ الفُرْقَةِ بينَ المؤمنة المهاجرة إلى دار الإسلام، وبين زوجها الكافر في دار الحرب، وإباحة نكاحها لمن شاءت من المسلمين، فدلالة الآية على وقوع الفرقة باختلاف الدارين واضحة (¬2). وقوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] نصٌّ في وقوع الفُرْقَةِ بين الزوجين باختلاف الدار؛ لأن الزوجية لو كانت باقية بينهما لكان هو أحق بها (¬3). وأجيب عن ذلك: بأن الآية الكريمة لا دلالةَ فيها على وجوب الفُرْقَةِ بين الزوجين في الحال عند اختلاف الدار بينهما، بل غاية ما تدلُّ عليه، هو أن الذي يوجب الفُرْقَةَ بين المسلمة وزوجها الكافر هو إسلامُها لا هجرتُها؛ لأن الله تعالى يقول: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] فبين أن العلة عدم الحل بالإسلام، وليس باختلاف الدارين (¬4). وكذلك قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] لا دلالةَ فيها على ¬

_ (¬1) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 731 - 732). (¬2) أحكام القرآن، للجصاص، (3/ 430)، أحكام القرآن، لابن العربي، (4/ 230)، تفسير القرطبي، (18/ 63 - 64). (¬3) الجوهر النقي، لابن التركماني، (7/ 189). (¬4) أحكام القرآن، لابن العربي، (4/ 230)، تفسير القرطبي، (18/ 63).

وجوب الفُرْقة بينهما عند اختلاف الدار، بل غاية ما تدلُّ عليه الآية -كما قال ابن القيم-: أن المسلم لا يجوز له أن يتزوج المشركة، وإذا أسلم لا يبقى النكاح بينهما إلا إذا أسلمت أثناء العدة، أما إذا لم تُسْلِمْ، فَيُفَرَّق بينهما؛ لاختلاف الدين بينهما (¬1). 2 - مناقشة أدلتهم من السنة: الحديث الذي استدلوا به، ضعيف الإسناد (¬2)، فقد قال الإمام أحمد عن هذا الحديث: إنه ضعيفٌ أو واهٍ، ولم يسمعه الحجاج (¬3) من عمرو بن شعيب إنما سمعه من محمد ابن عبيد العرزمي (¬4)، والعرزمي حديثه لا يساوي شيئًا، والحديث الصحيح: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّهما على النكاح الأول" (¬5)، وقال الترمذي: "في إسناده مقال" (¬6)، وقال الدارقطني: "هذا الحديث لا يثبت، وحجاج لا يُحْتَجُّ به، والصواب حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رَدَّها بالنكاج الأول" (¬7). وعلى فرض صحته، فهو معارَض بحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- الذي سبق بيانه، وهو أصح منه. قال البيهقي: "بلغني عن أبي عيسى الترمذي أنه قال: سألت عنه البخاري ¬

_ (¬1) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 732). (¬2) لأن فيه الحجاج بن أرطأة، قال عنه ابن حجر: "كثير الخطأ والتدليس"، تقريب التهذيب، (1/ 152). (¬3) هو الحجاج بن أرطأة بن ثور بن هبيرة النخعي الكوفي، قاضٍ من أهل الكوفة، صدوق كثير الخطأ والتدليس، توفي بخراسان أو بالري سنة 145 هـ. تقريب التهذيب، (1/ 152)، وتاريخ بغداد، (8/ 230)، وميزان الاعتدال، (1/ 213). (¬4) هو محمد بن عبيد الله بن أبي سليمان العرزمي الفزاري الكوفي، أبو عبد الرحمن، كان يحفظ الحديث ويرويه، وليس بثقة، ضاعت كتبه فحدَّث من حفظه، فأتى بمناكير، ولد سنة 77 هـ، وتوفي سنة 155 هـ، تقريب التهذيب، (2/ 187)، والأعلام، (6/ 258). (¬5) مسند الإمام أحمد، (1/ 351). (¬6) سنن الترمذي، (3/ 447). (¬7) سنن الدراقطني، (4/ 374).

-رحمه الله- فقال: حديث ابن عباس أصح في هذا من حديث عمرو بْن شعيب" (¬1). وأجيب عن ذلك: بأن حديث عمرو بن شعيب، وإن كان ضعيفًا إلا أنه يتقوَّى بغيره من الأدلة التي أَوجبت الفُرْقَةَ بين المسلمة المهاجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، وزوجها الكافر المقيم بدار الحرب. قال ابن التركماني: "الحديث عندنا صحيح" (¬2). وقال ابن عبد البر: "وحديث عمرو بن شعيب تُعَضِّدُهُ الأصول" (¬3)، وقد صرَّح فيه بوقوع عقد جديد، والأخذ بالصريح أولى من الأخذ بالمحتمل، ويؤيده مخالفةُ ابن عباس -رضي الله عنهما- لما رواه، كما حكى ذلك عنه البخاري أنه قال: "إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرمت عليه" (¬4). وقال الترمذي: "قال يزيد بن هارون: حديث ابن عباس أجود إسنادًا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب" (¬5). وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وإن كان أصح منه، لكنه منسوخ كما قال ابن عبد البر: "وهذا الخبر -يعني: خبرَ ابن عباس- وإن صح فهو متروك منسوخ عند الجميع؛ لأنهم لا يجيزون رجوعه إليها بعد خروجها من عادتها، وإسلام زينب كان قبل أن ينزل كثير من الفرائض" (¬6). ¬

_ (¬1) السنن الكبرى، للبيهقي، (7/ 188). (¬2) الجوهر النقي مع السنن الكبرى، (7/ 189). (¬3) التمهيد، لابن عبد البر، (12/ 24). (¬4) سبق تخريجه. (¬5) سنن الترمذي، (3/ 449). (¬6) التمهيد، لابن عبد البر، (12/ 20 - 21).

وعلى فرض أن الحديث ليس منسوخًا، يمكن الجمعُ بين الحديثين، بأن معنى حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رَدَّهَا عليه بالنكاح الأول، يريد على مثل النكاح الأول من الصداق وغيره، ولم يُحْدِثْ زيادةً على ذلك من شرطٍ ولا غيرِهِ (¬1). وأجيب عن ذلك: بأن حديث عمرو بن شعيب لا يقوى على معارضة حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-؛ لأنه أصح فيقدم عند التعارض. وقولهم: بأن حديث عمرو بن شعيب، وإن كان ضعيفًا، فإن الآية تؤيده وتشهد له، فهذا غير مسلَّم؛ لأن الآية لا دلالة فيها على وجوب وقوع الفرقة بين الزوجين في الحال، عند اختلاف الدار بينهما. وبهذا يضعف استدلال الحنفية بهذا الحديث. 3 - مناقشة أدلتهم من المأثور: أثرُ عمر -رضي الله عنه- الذي استدلوا به، لا وجود له إلا في كتبهم، وليس موجودًا، في كتب السنن والآثار المشهورة، وهذا مما يُضْعِفُ الاستدلالَ به. وعلى فرض وجوده، فلا دلالةَ لهم فيه؛ لأن عمر -رضي الله عنه- عندما قال: من أراد أن تَبِيْنَ امرأته منه فليهاجِرْ، قصد بذلك أنها تبين منه بالإسلام، لا باختلاف الدار؛ لأن اختلاف الدار لا أثر له في الفُرْقَةِ، وإنما الأثر لاختلاف الدين. 4 - مناقشة أدلتهم من المعقول: الرد على الوجه الأول: قولهم بأن تباين الدارين مُفَوِّتٌ لمقاصدِ النكاحِ، هذا غير صحيح؛ لأن اختلاف ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (12/ 24)، نيل الأوطار، للشوكاني، (6/ 195).

الدار إنما يؤثِّر في انقطاع الولاية وعدم السيادة، وهما لا يوجبان انقطاعَ الزواج، وليس لهما تأثيرٌ في الفُرْقَةِ؛ ولهذا لو أسلمت المرأة في دار الكفر، ويقي زوجها الكافر مستأمنًا بدار الإسلام، لا تقع الفُرْقَةُ بينهما بمثل هذا التباين، ولا تقع الفُرْقَةُ بينهما إلا باختلاف الدِّينِ. وكذلك لو دخل المسلم دار الكفر بأمان لا تقع الفُرْقة بينه وبين زوجته المسلمة التي في دار الإسلام، وأيضًا لو كان لانقطاع الولاية تأثير على الزواج لوقعت الفُرْقة بين الزوجينِ الذَينِ أحدهما في دار البغي، والآخر في دار العدل، وليس كذلك (¬1). الرد على الوجه الثاني: قولهم بأن أهل دار الحرب كالموتى في حقِّ أهل دار الإسلام، هذا غير صحيح؛ لأن هناك فرقًا بين الموت، واختلاف الدار، فالموت قاطع للأملاك، ومن بينها: عصمة النكاح، أما اختلاف الدار فهو غير قاطع للأملاك، وبهذا يكون لا أثر له في انقطاع العصمة بين الزوجين. الرد على الوجه الثالث: قولهم بأن الدار اختلفت بين الزوجين حقيقةً وحكمًا، فوجب أن تقع الفرقة بينهما، كالحربية إذا دخلت دار الإسلام بأمان، ثم أسلمت، فإن الفرقة تقع بينها وبين زوجها الذي في دار الحرب في الحال. قال ابن القيم -رحمه الله-في الرد عليه-: "هذا مُنْتَقَضٌ بانتقالِ المسلم إلى دار الحرب، ودخول الحربية إلى دار الإسلام ودخول الحربي بأمان لتجارة أو رسالة، فإن الفرقة لا تقعُ، وأمَّا الحربية إذا دخلت دار الإسلام وأسلمت؛ فالموجِبُ للفُرْقة هناك اختلاف الدِّين دون اختلاف الدارين، ألا ترى أنه لو وُجِدَ في دار واحدة كان الحكم كذلك" (¬2). ¬

_ (¬1) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (2/ 729 - 730). (¬2) المرجع السابق، (2/ 732).

الرد على الوجه الرابع: قولهم بأن اختلاف الدارين يقطع الميراث؛ فالذمي إذا مات في دار الإسلام، وخلف مالًا وله ورثة في دار الحرب، لم يستحقوا من ماله شيئًا؛ لاختلاف الدارين بينهم، فكذلك يقطع عصمة النكاح. قال ابن القيم -في الرد عليه-: "انقطاع الإرث بينهما لم يرجع إلى اختلاف الدارين، لكن رجع إلى قطع الموالاة والنصرة؛ ولهذا لو كان ذميًّا في دار الإسلام فَدَخَلَ قريبُهُ الحربيُّ مستأمنًا ليقيم مدة ويرجع إلى دار الحرب لم يتوارثا، وإن كانت الدار واحدة" (¬1). أما قياسهم الفُرْقَةَ بين الزوجين عند اختلاف الدارين بينهما على الفُرْقَةِ بينهما بنسب أو رضاع فهو قياس مع الفارق، وغير معتبر؛ لأن الفُرْقَةَ بين الزوجين بنسب أو رضاع قد تكون في دار واحدة بخلاف الفُرْقَةِ باختلاف الدارين؛ فإنها لا تكون في دار واحدة. ثالثًا: الرد على أصحاب القول الثالث: الدليل الأول: آية سورة الممتحنة: هذه الآية لم تَقُلْ صراحة بفسخ عقد النكاح، ولكنها قررت عدمَ الحِلِّيَّةِ، وهذا يقتضي فسخَ العقد، وقررت إباحة الزواج للمسلمة المهاجرة من زوج آخر، وهذا يقتضي فسخَ العقد الأول، وقصة زينب أثبتتْ أن العقدَ لا يزالُ موجودًا، ولكنَّ التفريقَ الحسيَّ عن زوجها كان قائمًا؛ ولذلك رَدَّهَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى زوجها بعد إسلامِهِ، فالعقد موجود، لكن التفريقَ الحسيَّ واجبٌ ريثما يتمُّ فسخُهُ، أو يُسْلِمُ الزوجُ. الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]: إن تطليق عمر لزوجتيه المشركتين المقيمتين بمكة يدلُّ على أن الأمر الإلهي ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (1/ 371).

بالطلاق ليس طلاقًا مباشرًا، بل لا بد أن يُنَفِّذَ المسلمُ هذا الأمرَ ويُطَلِّقَ، فإنْ لم يفعلْ فقد وقع في المحذور، ومثل هذا الحكم ينطبقُ على المرأة المرتبطة بعقد سابقٍ حين تُسلم ويبقى زوجها على دِينِهِ. الدليل الثالث: من السنة المطهرة: قولهم بأن العمل بعد الهجرة استمرَّ على أن اختلاف الدِّينِ لم يكن يُفَرِّقُ بين المرأة وزوجها، بدليلِ بقاءِ المستضعفاتِ في مكة مع أزواجِهِنَّ، ومنهن أُمُّ الفضل زوجةُ العباسِ، وزينبُ بنتُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - زوجةُ أبي العاص بن الربيع. فيجاب عنه على النحو التالي: 1 - أما أُمُّ الفضل لبابةُ بنتُ الحارث زوجةُ العباس بن عبد المطلب، فقد أسلمتْ قَبْلَ العباس، وكان ابنها عبد الله بن عباس مسلمًا تبعًا لها، وهو من الوِلْدَانِ، وقد صح عنه أنه قال: "كنت أنا وأمي من المستضعفين، أنا من الوِلْدَانِ، وهي من النساء"، وقد علَّقَ عليه الذهبي بقوله: فهذا يُؤْذِنُ بأنهما أسلما قبل العباس وعجزا عن الهجرة (¬1). وهذا يعني: أن أُمَّ الفضل كانت مع العباس مسلمةً وهو كافر، قبل أن ينزلَ حكمُ وجوبِ التفريق بين الزوجين باختلاف الدِّين، فلا حرج عليها، وإن كانت قد بقيتْ عنده بعد نزول هذا الحكم ومعرفتها به؛ إذ ربما نزل الحكم ولم تَعْرِفْ به؛ لأنها ليست في دار الإسلام، فهي معذورة؛ لأنها كانت مستضعفة، والإعذار هنا حكمٌ عامٌّ مبنيٌّ على رفع الحرج في هذا الدِّين. 2 - أما زينب بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - زوجة أبي العاص بن الربيع، فقد هاجرت بعد رجوع زوجِها من أَسْرِهِ ببدر، وكان ذلك يقينًا قبل نزول آية البقرة، وآية الممتحنة، فعندما ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء، للذهبي، (2/ 315).

كانت مع زوجها في مكة لم يكن حكمُ التفريق بسبب اختلاف الدِّينِ قد نزل، وعندما نزل هذا الحكم كانت مفارِقةً لزوجها، وإن بقي العقدُ معلَّقًا موقوفًا، وإذا كانت رواية ابن إسحاق عن أَسْرِ أبي العاص وإجارَتهِ من قِبَلِ زوجَتِهِ زينبَ، وقبولِ رسولِ الله هذا الجوارَ، وقولِهِ لها: "أي بُنَيَّةُ، أكرمي مثواهُ، ولا يخلصَنَّ إليكِ، فإنك لا تَحِلِّينَ له". رواية ضعيفة وفق تحقيق الشيخ الجديع، إلَّا أنها هنا لم تنشئ حكمًا جديدًا حتى نحتاج إلى توثيقها، بل هي تأكيد للحكم الثابت بالنص: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]؛ ولأنه حتى ولو لم تَرِدْ هذه الروايةُ أصلًا فإن مفارقةَ زينب لزوجها بعد بدر وانقطاعَ الحياة الزوجية بينهما فعلًا ونزول آيتي البقرة والمتحنة قبل ذلك يجعلُ التفريقَ بين زينب وأبي العاص أمرًا ظاهرًا، وإن لم يتمَّ بعد فسخ العقد نهائيًّا، وعلى من يريد القول بأن جوارَ زينبَ لأبي العاص وإطلاقَ أَسْرِهِ أدَّى إلى عودة العلاقة الزوجية بينهما أثناءَ وجوده في المدينة وهو على كفرِهِ- أن يثبت ذلك؛ لأنه ادِّعاء خلاف الظاهر، والصحيح أنه لم تَرِدْ أية روايةٍ -ولو ضعيفة- تتحدث عن هذا الأمر، فتبقى رواية: لا يخلصَنَّ إليكِ؛ فإنكِ لا تَحِلِّينَ له، مقبولةً، ولو كانت ضعيفة؛ لأنها متوافقة مع النصوص، ومع الواقع، وهي لم تشرع حكمًا جديدًا، ولكنها تأكيد لحكم ثابت. إن قصة زينب تؤكد -إذًا- أن اختلاف الدِّين فَرَّقَ بينها وبين زوجِهَا، ولو حصل ذلك بعد سنواتٍ طويلةٍ من حياتهما المشتركة، ويزيد ذلك تأكيدًا ما ثبت من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَدَّ زينب إلى زوجها أبي العاص بعد إسلامه بالنكاح الأول، فلماذا الرَّدُّ إذا لم تكنِ الفُرْقَةُ حاصلةً؟ 3 - ليس مقبولًا القولُ بأن العمل استمرَّ بعد الهجرة على أن اختلاف الدِّين لم يكن يُفَرِّقُ بين المرأة وزوجها، استدلالًا بالقصتين السابقتين، وقد بيَّنَا أن أُمَّ لبابة

معذورةٌ؛ لأنها كانت من المستضعَفات بمكة، وأن زينب كانت مفارِقة لزوجها. بينما نجد أن كثيرًا من الروايات الصحيحة، تؤكد أن العمل بعد الهجرة -وخاصة بعد نزول آيتي البقرة والممتحنة - على أن اختلاف الدِّينِ يُفَرِّقُ بين المرأة وزوجها، وحسبنا من هذه الروايات ما ثبت عن ابن عباس: "كان المشركون على منزلتين من النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، كانوا مشركينَ أهلَ حربٍ يقاتِلُهم ويقاتلونه، فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تُخْطَبْ حتى تحيضَ وتطهرَ، فإذا طهرتْ حَلَّ لها النكاح، فإنْ هاجَرَ زوجُهَا قبل أن تنكح رُدَّتْ إليه" (¬1). الدليل الرابع: من الأدلة الأصولية: قولهم شرعُ مَنْ قَبْلَنَا شرعٌ لنا ما لم يَرِدْ في شرعنا ما يَنسخُهُ، مردود بثبوت الناسخ، وهوَ آيةُ سورةِ البقرةِ: وما دام أن النسخ صحَّ بهذه الآية الواضحة القاطعة، ثم أجمع عليه المسلمون بعد ذلك فقدْ سقط الاستدلال بقصة امرأتي نوح ولوط وآسية زوجة فرعون، مع الإشارة إلى أن زوجة فرعون كانت مكرَهة، وبالتالي فإن اعتبارَ الإكراهِ حالةٌ تبيحُ للزوجة المسلمة أن تظلَّ مع زوجها الكافر هي حالةٌ موجودةٌ عندنا لدى النساء المستضعَفات بمكة، وقد عَذَرَهُنَّ الله تعالى. الدليل الخامس: من المعقول: القول بأن أنكحة الكفار فيما بينهم صحيحة بإطلاق طالما هم على الكفر -مسلَّم، لكنها ليست صحيحة إذا أسلم الزوجان أو أحدهما، بل هي أنواع: ¬

_ (¬1) أخرجه: البخاري، كتاب الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلى عليه؟، (1357)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- موقوفًا، فقه الإمام البخاري، د. محمد أبو فارس، دار الفرقان، عمان، (2/ 577).

النوع الأول: أن لا يكون في أنكحة الكفار، إذا أسلموا أو أسلم أحد الزوجين، أيُّ سببٍ من أسباب الفساد لو أردنا إجراءَهَا الآنَ، فهذِهِ تستمِرُّ على الصحة بلا خلافٍ. النوع الثاني: أن يكون في أنكحة الكفار، إذا أسلموا أو أسلم أحد الزوجين -سببُ فسادٍ يرجعُ إلى حرمة المحلِّ، أي: أن هذه المرأة لا يحلُّ لها الزواجُ من هذا الرجل لو أردنا إجراءَ عقدِهَا الآن، كأن تكونَ محرَّمَةً عليه بالقرابةِ أو بالمصاهرَةِ أو بالرَّضاع، أو أن يكون للزوج -عندما أسلم- أكثرُ من أربعِ زوجاتٍ، أو أن تكون ممن لا يحلُّ للرَّجلِ أن يجمع بينها وبين زوجةٍ ثانيةٍ، ففي هذه الحالةِ يجبُ فسخُ النكاحِ بينَ الرَّجُلِ والمرأة المحرَّمَةِ عليه، وبينه وبين ما يزيدُ عن الأربع زوجات، وبينه وبين إحدى الزوجتين التي لا يجوز الجمعُ بينهما، وبالتالي يجب التفريقُ بين الزوجين إذا أسلما أو أسلم أحدهما، وكل ذلك ثابتٌ بالسنة الصحيحة، ولا خلافَ عليه. النوع الثالث: أن يكون في أنكحة الكفار سببُ فسادٍ، ولكنه لا يرجع إلى حرمة المحلِّ، كأن يكون العقد قد تمَّ بغير شهود، أو بدون إذن الولي، بحيث إننا لو أردنا عقدَ الزواج الان يمكننا أن نستدرِكَ هذه الأسبابَ فنأتي بالشهودِ، أو نحصل على موافقة الولي، ففي مثل هذه الحالة تعتبر عقود الكفار صحيحة. الدليل السادس: من المعقول: وهو أن العمل بين المسلمين قبل الهجرة كان على صحة العقود السابقة للإسلام وبقائها بعد الإسلام، مما يدلُّ على أن تغيير الدِّينِ لم يكنْ مؤثرًا في صحة عقود النكاح السابقة. وأجيب: هذا صحيح، ولكنه ليس دليلًا في موضع النزاع؛ لأن الذين يقولون بإبطال العقود السابقة بسبب اختلاف الدِّين، أو الذين يقولون بوجوب التفريق بين الزوجين إذا أسلمت المرأة وبقي زوجها على دِينِهِ، يستندون إلى آيتي البقرة والممتحنة؛ إذ هي التي

تبين الحكم الشرعي في هذه المسألة، ومن المعروف أن القرآن الكريم نزل منجمًا، وأن الأحكام الشرعية وردتْ أيضًا بالتدريج، ولا يخالف أيٌّ من العلماء في أن تحريم زواج المسلمة من غير المسلم شُرِعَ بعد الهجرة مع نزول آية البقرة، ولا يقول أحد: إن تحريم بقاء المسلمة مع زوج غير مسلم كان قبل نزول آية الممتحنة. نعم، إن تغيير الدِّينِ لم يكن قبلَ الهجرة مؤثِّرًا على صحة عقودِ النكاح السابقة؛ لأنه لم يكنْ قد وَرَدَ الدليلُ المخالفُ لذلك، وأصبح مؤثِّرًا ومؤدِّيًا إلى التفريق بين الزوجين بعد نزول آية الممتحنة، كما ذكرنا. الدليل السابع: من المعقول: وهو أن التفريق لا يحقق مصلحة، بل هو مفسدة؛ لأنه يُنَفِّرُ من الدخول في الإسلام. أقول: 1 - معلوم أن الشرع إذا أَمَرَ بشيء فهو مصلحة، وإذا نهى عن شيء فهو مفسدة، ولو لم يدركْ ذلك الناسُ بعقولهم؛ لأن المصلحة أو المفسدة تتبع النصَّ الشرعيَّ، إن وُجِدَ، وإذا ظَنَّ الناسُ وجودَ مصلحة في مخالفة النصِّ فهي مصلحة متوَهَّمة، وليست حقيقية. وعليه: فإن تفريق المرأة المسلمة عن زوجها غير المسلم هو المصلحة؛ لأنه أَمْرُ الله، وهو لا يُنَفِّرُ من الدخول في الإسلام أكثر من تفريق المرأة المسلمة إذا كانت محرَّمَةً على زوجها الكافر بسبب القرابة، أو المصاهرة، أو الرضاع، أو غير ذلك، وهذه زينب فَرَّقَهَا الإسلام عن زوجها أبي العاص ولم يَنْفِرْ، بل دخل في دين الله حين قُدِّرَتْ له الهداية. الترجيح: بعد عرض الأدلة ومناقشتها يتبين: أن أَولى الأقوال وأرجحَها وأوسطَها قولُ ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى. وخلاصته: أن المرأة إذا أسلمتْ فلها أن تقيم مع زوجها متربصةً به الإسلام، على

ألَّا تُمَكِّنَهُ من نفسها، ويكون عقدها هنا موقوفًا فإن اختارت الفُرْقَةَ وأن تنكح غيره فلها ذلك، وإن أحبت البقاءَ من غير وطءٍ فالأمْرُ إليها. وهو قولٌ يَجمعُ بين رعاية المرأة وترغيبها في الإسلام، ورعاية الرجل والأسرة وترغيبهم أيضًا في الإسلام. ولا شك أن في هذا القول إعمالًا لقوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] إلا أن هذا القول يُفَارِقُ الجمهورَ فيما لو دخل الزوجُ إلى الإسلام بعد العِدَّةِ فإنه لا يعود إليها إلا بعقدٍ ومهرٍ جديدين، عند الجمهور، وأما شيخ الإسلام، وابن القيم فيعيدانه إليها بنفسِ العقدِ الأول، وهو قولٌ يستفيد من واقعة زينب وزوجها -رضي الله عنهما-. وقد نص المجلس الأوربي للإفتاء على أرجحية هذا القول وتبنَّاهُ، مقدِّمًا إيَّاهُ على قول الجمهورِ، فجاء في بيانه الختامي في دورته العادية الثامنة: القرار (3/ 8) في موضوع: إسلام المرأة وبقاء زوجها على دِينِهِ، ما يلي: بعد اطلاع المجلس على البحوث والدراسات المختلفة في توجهاتها، والتي تناولت الموضوع بتعميق وتفصيل في دورات ثلاث متتالية، واستعراض الآراء الفقهية وأدلتها، مع ربطها بقواعد الفقه وأصوله، ومقاصد الشرع، ومع مراعاة الظروف الخاصة التي تعيشها المسلمات الجديدات في الغرب حين بقاء أزواجهن على أديانهم؛ فإن المجلس يؤكد أنه يحرم على المسلمة أن تتزوج ابتداءً من غير المسلم، وعلى هذا إجماع الأمة سلفًا وخلفًا، أما إذا كان الزواج قبل إسلامها فقد قرر المجلس في ذلك ما يلي: أولًا: إذا أسلم الزوجان معًا ولم تكن الزوجة ممن يحرم عليه الزواج بها ابتداءً كالمحرمة عليه حرمةً مؤبدةً بنسب أو رضاع فهما على نكاحهما. ثانيًا: إذا أسلم الزوج وحده، ولم يكن بينهما سببٌ من أسباب التّحريم، وكانت

الزوجة من أهل الكتاب فهما على نكاحهما. ثالثًا: إذا أسلمتِ الزوجةُ وبقي الزوج على دينه فيرى المجلس: أ - إن كان إسلامُهَا قبل الدخولِ بها فتجبُ الفُرْقَةُ حالًا. ب - إن كان إسلامها بعد الدخولِ، وأسلم الزوج قَبْلَ انقضاءِ عِدَّتِهَا، فهما على نكاحِهِمَا. جـ - إن كان إسلامها بعد الدخول، وانقضتِ العدةُ، فلها أن تنتظرَ إسلامَهُ، ولو طالتِ المدةُ، فإن أَسْلَمَ فهما على نكاحهما الأول، دون حاجة إلى تجديد له. د - إذا اختارت الزوجة نكاحَ غيرِ زوجها بعد انقضاء العدة، فيلزمُهَا طلبُ فسخِ النكاح عن طريق القضاء. رابعًا: لا يجوز للزوجة -عند المذاهب الأربعة- بعد انقضاء عدتها البقاءُ عند زوجها، أو تمكينُهُ من نفسها. ويرى بعضُ العلماء أنه يَجُوزُ لها أن تمكثَ مع زوجها بكامل الحقوق والواجبات الزوجية، إذا كان لا يضيرها في دينها، وتطمعُ في إسلامه؛ وذلك لعدم تنفير النساء من الدخول في الإسلام إذا عَلِمْنَ أنهن سيفارِقْنَ أزواجهن ويتركْنَ أُسَرَهُنَّ، ويستندون في ذلك إلى قضاءِ أميرِ المؤمنين عمر بن الخطاب في تخيير المرأة في الحيرة التي أسلمتْ ولم يُسْلِمْ زوجها: "إن شاءتْ فارقته، وإن شاءتْ قَرَّتْ عنده"، وهي رواية ثابتة عن يزيد بْن عبد الله الخطمي، كما يستندون إلى رأي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إذا أسلمتِ النصرانيةُ امرأةُ اليهودي أو النصراني كان أحقَّ ببضعها؛ لأن له عهدًا، وهي أيضًا رواية ثابتة. وثبت مثل هذا القول عن إبراهيم النخعي، والشعبي، وحماد بن أبي سليمان (¬1). وهو بيانٌ يعكس وجودَ آراء متعارضة داخل المجلس، وتساهلًا مع القول ¬

_ (¬1) المجلة العلمية للمجلس الأوربي، العدد، (2)، (445 - 446).

الضعيف الذي يبدو واهيَ الاعتبار، في حين جاء بيان مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا متحفظًا ومتوافقًا مع مذهب الجمهور، من غير إشارة إلى مذهب شيخ الإسلام إلَّا عند تسبيب قرار المجمع وتوجيهه، حيث نَصَّ على وجاهة مذهب ابن تيمية وابن القيم من غير أن يتبناه المجمع، مع مسيس حاجة مسلمات الغرب إليه. ومن غير التفاتٍ إلى القول القائل باستدامة الحياة والعشرة، بشرط أن تطمع في إسلامه وألَّا يؤذيَهَا في دينها؛ وذلك لضعفه الظاهر. وهذا القرار جاء متوافقًا مع قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في هذا الشأن، حيث جاء فيه: "بمجرد إسلامِ المرأةِ، وإباءِ الزوجِ الإسلامَ ينفسخ نكاحُهُمَا، فلا تَحِلُّ معاشرتُهُ لها، ولكنها تنتظر مدة العدة، فإن أَسْلَمَ خلالها عادت إليه، بعقدهما السابقِ، أمَّا إذا انقضت عدتها ولم يُسْلِمْ فقد انقطع ما بينهما، فإنْ أَسْلَمَ بعد ذلك، ورغبا في العودة إلى زواجهما عادا بعقد جديد، ولا تأثير لما يُسَمَّى بحسن المعاشرة في إباحة استمرار الزواج" (¬1). ويلاحَظُ أن القرار لم يحدد أو يطلب قضاءَ قاضٍ ليحكمَ بالبطلان أو الفسخ، في حين أن اتفاق المجلسين الآخرين على الرجوع إلى القضاءِ؛ ليتحقق إنهاءُ العقد السابق، وهو موقفٌ مستوحًى من مذهب الحنفية. وذلك لأن انفساخ العقد يحتاج إلى توثيق قضائي على الأقل، وكذا فإن رأي ابن القيم وشيخه ابن تيمية، وهو أن الزواج موقوف حتى تنكح زوجًا غيره -على وجاهته- ضعيفُ التطبيقِ في العصر الحاضر؛ إذ لا يُسْمَحُ للمرأة -قضاءً- بالزواجُ من رجل آخر إلا بعد فسخ عقد زواجها السابق، وليس مقبولًا في قوانين جميع الدول، ¬

_ (¬1) قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني، مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، (ص 116).

ومنها: قوانينُ الدول الإسلامية المستمَدَّةُ من الأحكام الشرعية، أن يُباحَ للمرأة عقدُ زواجٍ ثانٍ، وهي لا تزالُ على عصمة زوجها الأول، بحجة أن الزواج الأول ينحلُّ حين يُعْقَدُ الزواجُ الثاني، فإذا كان من حَقِّهَا بعد انتهاء العدَّةِ أن تنكح زوجًا آخرَ، فإن هذا الحق لا تستطيع ممارسته قانونيًّا إلا بعد فسخِ عقدِهَا السابقِ، فيكون هذا الفسخُ واجبًا على أقلِّ تقديرٍ لتمكينها من ممارسة حقِّهَا الشرعيِّ بالزواج من آخرَ. أما طريقةُ فسخِ العقد فهي رفعُ الأمر إلى القضاء في جميع الحالات، ففي دار الإسلام يُعْرَضُ الإسلامُ على الزوج فإنْ أَبَى فَيُفَرِّقُ القاضي بينه وبين زوجتِهِ. وفي غير دار الإسلام تَطْلُبُ الزوجةُ التفريقَ لأي سببٍ يَنْسَجِمُ مع قوانين بلادها، وعادةً تحكمُ المحاكم بالتفريق، ولو بعد زمن طويل، وإن كان في مذهب الحنفية أن الزوجة إذا أسلمتْ في دار الحرب أو في دار الإسلام تَبِيْنُ عن زوجها إذا لم يُسْلِمْ عند انتهاءِ فترةِ العدةِ، كما سبق بيانه، والله أعلم.

الفصل الرابع من نوازل الطلاق

الفْصَلُ الرَّابِعُ من نوازل الطلاق المبحث الأول: حكم الطلاق الذي يوقعه القاضي غير المسلم فى بلاد الأقليات المبحث الثاني: ولاية المراكز الإسلامية في التطليق والتفريق

المبحث الأول حكم الطلاق الذي يوقعه القاضي غير المسلم في بلاد الأقليات

المبحث الأول حكم الطلاق الذي يوقعه القاضي غير المسلم في بلاد الأقليات تصوير النازلة وتكييفها: الطلاق من محاسن الشريعة المحمدية، به تنحلُّ عقدة النكاح، ويرتفع الحِلُّ الذي كان بين الزوجين عندما يكون الطلاق هو آخر العلاج والدواء، وكما يقع التفريق بالطلاق فإنه يقع بالفسخ أيضًا، والفسخ قد يكون بتراضٍ بين الزوجين، وهذا هو الخلع، أو يكون بواسطة القاضي لسبب يَحْمِلُ عليه. والأصل في الإسلام أن الطلاق بيد الزوج بما جعل الله للرجال من القوامة، والقدرة على تحمل المسئولية. ولا يعني هذا أن الإسلام أخلى المرأة من أن يكون لها حقٌّ في التطليق، أو إيقاع الفُرْقة، فقد جعل لها هذا الحقَّ في حالات، منها: - أن تشترط المرأة ذلك في صلب عقدها، فيوافق زوجها، كما هو معروف عند الحنفية (¬1). - أو أن يقول لها زوجها بعد الزواج أمرك بيدك، أو طلقي نفسك إن شئت، ونحو ذلك، كما هو معروف عند الجمهور (¬2). - كما أثبت الإسلام لها أن تطلب من القاضي التفريق حين تكون بالزوج عيوب مَرَضِيَّة تمنع الحياة المستقرة معه، أو إذا غاب غيبة طويلة تتضرر بها المرأة، أو إذا ثبت أنه ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين، (2/ 485). (¬2) المهذب، للشيرازي، (3/ 8)، المغني، لابن قدامة، (8/ 288).

يؤذيها بدنيًّا بما لا تحتمله، ولا يليق بأمثالها، كما هو معروف عند المالكية (¬1). وبالجملة فإن هناك أسبابًا كثيرة تَحْمِلُ على التفريق القضائي تندرج جميعًا تحت اسم "الضرر"، وقد نهى الله تعالى الأزواج عن مضارة الزوجات، فقال سبحانه: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، كما قررت السنة أن "لا ضرر ولا ضرار" (¬2). وبناءً على ما تقدم فإن المرأة إذا لم تجد مع زوجها حلًّا لمشكلات مزمنة، ولم تفلح محاولات الصلح، أو إذا كان الزوج مستبدًّا بالضرر والإضرار بها؛ فإن لها أن ترفع أمرها بطلب إلى القاضي في بلاد الإسلام فينظر في قضيتها، بما يرفع الظلم عنها. ولكن كيف يكون الأمر إذا كانت تعيش في بلاد الأقليات، حيث تُفْقَدُ الرايةُ الإسلامية، وتغيب الأحكام الشرعية، وتحل محلها القوانين الوضعية؟ وهل إذا توجهت إلى القضاء غير المسلم لا تكون آثمة، باحتكامها إلى غير شريعة دينها، وبالتقاضي أمام غير مسلم، وبالاختصام إلى قوانين لا صلة لها بدينها؟ وإذا قضى القاضي غير المسلم بطلاقِهَا، أو فَسْخِ نكاحِهَا، هل يُعْتَدُّ -والحال هذه- بحكمه؟ وهل يلزمها -كما يلزم غيرها- ديانًة، فتحل للأزواج بعد صدور هذا الحكم مباشرة، كما لو كانت في بلاد إسلام، وديار إيمان؟ وماذا لو تعارض الحكم الشرعي والقانون الوضعي في هذا الأمر المهم من العلاقات بين الرجل والمرأة؟ ولقد أتى الفقهاء جميعًا على ذكر شرط الإسلام فيمن يتولى القضاء: ذلك أن الله -عز وجل- يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]. ¬

_ (¬1) المدونة الكبرى، رواية سحنون بن سعيد، (2/ 267). (¬2) سبق تخريجه.

قال القرطبي -في معنى (السبيل) في هذه الآية-: "أي حجة عقلية ولا شرعية يستظهرون بها على المسلمين إلا أبطلها الله وَدُحِضَتْ" (¬1). فالقضاء مبناه على أداء الشهادة على المسلم، وقد منعها الله سبحانه وتعالى من الكافر على المسلم، والقضاء والشهادة ولاية، فإذا كان الكافر لا يملك أدنى الولايات على المسلم -وهي أداء الشهادة- فلا يكون له أعلاها وهي القضاء (¬2). قال الماوردي: "ولا يجوز أن يُقَلَّدَ القضاء إلَّا من تكاملت فيه شروطه التي يصحُّ معها تقليده وينفذ بها حكمه، وهي سبعة. . . الرابع: الإسلام؛ لكونه شرطًا في جواز الشهادة، مع قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] " (¬3). إن الحال في بلاد الغرب جِدُّ مختلفٍ عنه في بلاد الشرق المسلم، ولا سيما في هذا الشأن الخاص بالأسرة وأمن المجتمعات. وكما أن المرأة قد تتضرر من هذا الوضع، فإن الرجل قد يتضرر بما هو مثل ذلك وأشد، والسبب أن صدور حكم بالطلاق من ذلك القضاء يعني -غالبًا-: اقتسام ثروته مع مطلقته، والتكليف بالإنفاق عليها مدةَ حياتِهَا، ورعايتها مع الأبناء بشكل مجحف ومكلِّف، لدرجة قد تدفع الرجل إلى قبول الضيم في شرفه، بدلًا من طلاق زوجته؛ لئلا يغرم ما لا يقدر عليه! أو يتحمل من النفقات ما لا طاقة له به! ومن عجبٍ أن عددًا ممن خلبتهم الشقراء الحسناء فأقبلوا عليها بالزواج دفعوا أموالهم ودين أولادهم ثمنًا لهذا الزواج الذي آل يومًا من الأيام إلى الفراق! وتبعته التبعات والحسرات! وفيما يلي بعض صور من هذه النازلة: ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي، (5/ 420). (¬2) بدائع الصنائع، للكاساني، (7/ 3)، المغني، لابن قدامة، (14/ 12، 14). (¬3) الأحكام السلطانية، للماوردي، (ص 88 - 89).

1 - قد ترفع الزوجة دعوى على زوجها إلى المحكمة غير الإسلامية، وإلى القاضي غير المسلم طالبةً الطلاقَ من زوجها، لا لضرر لَحِقَهَا، ولا لعيب في ذلك الزوج، ولا لأي مسوغٍ من المسوغات، وإنّما لرغبة مفارقة ذلك الزوج، وتبديل حياتها -كما قالت إحداهن- يعني: لنزوة ألمَّت بتلك المرأة فاستجابت لها، أو لخديعة من أحد الرجال، أو تخبيب من أحد الفتَّانين فوقعت في شراكها. وبما أن القانون الهولندي قد منح المرأة حقَّ طلبِ الطلاق من المحكمة، على قدم المساواة مع الرجل، دون البحث عن المبرر أو السبب الذي دفعها إلى ذلك؛ فإن المحكمة غالبًا ما تحكم لها بما تريد، فتطلق المرأة من زوجها، سواء رضي الزوج أو لم يرضَ، قَبِلَ أو لم يقبلْ. وهو قانون يطبق على كل مقيم في هذه الدولة، ما دام قد رضي الإقامة بها، سواء رغب في الاحتكام إلى قوانينها، أم لم يرغب، دون مراعاة لدين هذا الشخص أو ذاك، ولا اعتبار لهذه الثقافة، أو تلك (¬1). 2 - أن امرأة رفعت ضد زوجها دعوى طلب الطلاق من المحكمة الهولندية، وحصلت عليه بالفعل، لكنَّ الطلاق الشرعي -أو المغربي كما يُطلق عليه أبناء الجالية المغربية- لم يتمَّ، فاعتمدت المرأة على الطلاق الهولندي، وتزوَّجت على أساسه من رجل آخر زواجًا مدنيًّا في البلدية، وولدت منه وَلَدَينِ، وبما أن الطلاق المغربي ما زال لم يتمَّ رفعت على الزوج دعوى النفقة فبقي الزوج الأول معلقًا، لا يستطيع الزواج بامرأة ثانية حتى يُشْعِرَ الأولى برغبته في الزواج من ثانية، ويَأذنَ له القاضي بذلك، وعليه أن ينتظرَ المحكمة المغربية لإصدار حكمها (¬2). ¬

_ (¬1) فقه الأسرة المسلمة في المهاجر، د. محمد العمراني، (2/ 230). (¬2) المرجع السابق، (2/ 231).

3 - أن المتداعِيَيْنِ في دعوى طلب إثبات طلاق سابق صادر عن محكمة دينية أمريكية قد جرى عقد زواجهما في عمان وسافرا إلى أمريكا، ثم سُجِنَ الزوج وتقدمت الزوجة بدعوى أمام محكمة (سيركت) في مقاطعة (كوك - إلينوي) بطلب فسخ الزواج، فصدر الحكم بها غيابيًّا بحقه؛ نظرًا لوجوده في السجن، وتم تبليغه، وقد مُنِحَ الطرفانِ طلاقًا وفسخ كافة الروابط الزوجية، ويعد الحكم تزوجت بزوج آخر، وأنجبت. منه وَلَدَيْنِ، وأجاب الزوج الأول أن المدعية زوجته، وأنه لم يطلقها قط، وأن الطلاق الذي حصل من المحكمة الأمريكية ليس طلاقًا شرعيًّا؛ كونه لم يتلفظ بالطلاق، وطلبَ فسخَ عقدِ زواجِها من زوجها الثاني، وَرَدَّ دعوى الطلاقِ؛ كونها ما زالت زوجته شرعًا (¬1). 4 - مسلم أردني تجنس بالجنسية الأمريكية، وكان تزوج مسلمة وأنجب منها، ثم تم الطلاق بطلبها بحكم محكمة في أمريكا، ثم تزوج بأخرى بناءً على هذا الطلاق، وأنجب منها ومات، فعند تسجيل حصر إرثه من قبل أولاده من الثانية طلب منهم القاضي وثيقة طلاق الأولى، فأبرزوا حكم المحكمة الأمريكية المصدَّق والمكتَسِب للدرجة القطعية، وشهادة تنفيذية له من الأحوال المدنية الأردنية، فرفض القاضي قبوله؛ لأنه حكم أجنبي، ولا ولاية لغير المسلم على المسلم، وَوَرَّثَهَا كزوجة له؛ لعدم صحة طلاق المحكمة الأمريكية، فقالوا: إنها وقتَ وفاةِ أبينا كانت متزوجة بغيره وأنجبت منه، ولا زالت تعيش معه إلى الآن، فقال: زواجها باطل؛ لعدم صحة طلاقها بحكم المحكمة الأمريكية؛ لأنه لا ولاية لغير المسلم على المسلم، وبعد تكرر المراجعات جرى عليها حل إداري (¬2). ¬

_ (¬1) القرار الاستئنافي رقم، (657/ 2007 - 68046)، محكمة استئناف عمان الشرعية. (¬2) القرار الاستئنافي رقم، (1657/ 2007) محكمة استئناف عمان الشرعية.

تحرير محل النزاع

تحرير محل النزاع: غيرُ خافٍ على المسلم أن الحاكم الحكيم هو العليم الخبير، وأن للشريعة الإسلامية سلطانًا تُردُّ إليه الخصومات، ويصدر عن أحكامها في المهمات والملمات، وأن الحجة العليا والمرجعية العظمى في حسِّ كل مسلم وعقله وعقيدته ودولته هي للشرع المطهر المعصوم. وقد دَلَّتْ على ذلك النصوصُ القطعيةُ كتابًا وسنة، وتحقَّقَ عليه الإجماع الصحيح الصريح، قال سبحانه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، وقال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]، وقال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]. وفي الحديث: "إن الله هو الحَكَمُ، وإليه الحُكْمُ" (¬1). والإجماع منقول على هذا المعنى، فقد قال ابن حزم -رحمه الله- "لا خلاف بين اثنين من المسلمين أن من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأتِ بالنص عليه وحيٌ في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك، خارج عن الإسلام" (¬2). وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وقد جاء القرآن وصح الإجماع بأن دين الإسلام نَسَخَ كلَّ دين كان قبله، وأن من التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل، ولم يتَّبِعِ القرآن فإنه كافر" (¬3). وقال محدِّثُ الديار المصرية في العصر الحديث الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله-: "إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس هي كفر بواح، لا خفاءَ فيه ولا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب: في تغيير الاسم القبيح، (4955)، والنسائي، كتاب آداب القضاة، باب: إذا حكموا رجلًا فقضى بينهم، (5387)، من حديث شريح بن هانئ عن أبيه هانئ أنه لما وفد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم فدعاه رسول الله -رحمه الله- فقال. . . فذكره، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "فلم تكنى أبا الحكم؟. . . " الحديث. وصححه ابن حبان، (2/ 257)، والحاكم، (1/ 24). (¬2) الإحكام، لابن حزم، (5/ 173). (¬3) أحكام أهل الذمة، لابن القيم، (1/ 533).

مداورةَ، ولا عذرَ لأحد ممن ينتسب إلى الإسلام -كائنًا من كان- في العمل بها، أو الخضوع لها، أو إقراراها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه" (¬1) وقال الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر -رحمه الله-: "فصل الدولة عن الدين هدمٌ لمعظم الدين، ولا يُقْدِمُ عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين" (¬2). ويقول الشيخ عبد القادر عودة -رحمه الله-: "ومن الأمثلة الظاهرة على الكفر بالامتناع في عصرنا الحاضر: الامتناعُ عن الحكم بالشريعة الإسلامية، وتطبيق القوانين الوضعية بدلًا منها. . . ولا خلاف بين الفقهاء والعلماء في أن كلَّ تشريع مخالف للشريعة الإسلامية باطلٌ لا تجب له الطاعة، وأن كل ما يخالف الشريعة محرَّمٌ على المسلمين، ولو أمرت به أو أباحته السلطة الحاكمة أيًّا كانت" (¬3). وأخيرًا يقول الشيخ القرضاوي: "بل إن العلماني الذي يرفض مبدأ تحكيم الشريعة من الأساس ليس له من الإسلام إلا اسمه، وهو مرتدٌّ عن الإسلام بيقين، يجب أن يُستتاب، وتُزاح عنه الشبهة، وتُقام عليه الحجة، وإلا حكم القضاء عليه بالرِّدَّة، وجُرِّدَ من انتمائه إلى الإسلام، أو سُحبت منه الجنسية الإسلامية، وفُرِّقَ بينه وبين زوجه وولده، وجَرَتْ عليه أحكام المرتدين المارقين، في الحياة وبعد الوفاة" (¬4). وعليه: فإن المسلم ليس في فسحة من دينه إذا تحاكم إلى غير ما أنزل الله، رضًا واختيارًا، فإن هذا نفاق لا يجتمع مع الإيمان. وبالجملة فإن كل ما أُحْدِثَ من الأقوال والأفعال ومناهج الحكم على خلاف ¬

_ (¬1) عمدة التفسير، لأحمد شاكر، (1/ 697). (¬2) تحكيم الشريعة ودعاوى الخصوم، د. صلاح الصاوي، (ص 13). (¬3) التشريع الجنائي الإسلامي، لعبد القادر عودة، (2/ 708). (¬4) الإسلام والعلمانية وجهًا لوجه، د. يوسف الفرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 7، 1997 م، (67).

الشريعة فهو رَدٌّ، لا حرمةَ له، ولا أثَرَ يترتب عليه، إلا ما دعت إليه الضرورة. "والإنسان متى حلَّلَ الحرام المجمع عليه، أو حرَّمَ الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافرًا مرتدًّا باتفاق الفقهاء" (¬1). وكلُّ مسلمٍ مأمورٌ بالاحتكام إلى الشرع المطهر في كل زمان ومكان، وفي داخل ديار الإسلام وخارجها، لا يُعْفَى من هذا أحدٌ، ولا يَسقط التكليفُ به عن أحدٍ. وعليه: فإن الأصل هو حرمة التحاكم إلى القضاء الوضعي عند وجود البديل الشرعي القادر على استخلاص الحقوق وردِّ المظالم، وقد استفاضتِ النصوصُ في ذلك، وانعقد عليه إجماع أهل العلم، فإذا انعدم القضاء الشرعي، وأمكن تحكيم أهل العلم وحملة الشريعة كان هذا هو المتعين، وينبغي النزول على أحكامهم، والتسليم لهم في مسائل الاجتهاد؛ فإن قضاء القاضي وحُكْمَ المحَكِّم يرفع الخلاف، وقد ذكر أهل العلم أنه إذا خلا الزمان من السلطان الشرعي فإن الأمور موكولةٌ إلى العلماء، ويصبح علماءُ البلاد ولاةَ العباد، وينبغي على الجاليات الإسلامية المقيمة في المجتمعات الغربية أن تُوَفِّرَ الآلياتِ التي تتيح للمتخاصِمِينَ أن يتحاكموا إلى الشريعة، وأن تُوَفِّرَ لهم مَنْ يفصل في خصوماتهم بناءً على أحكامها، والميسور من ذلك لا يسقط بالمعسور. وإذا كان من المحكم العام الذي لا اختلاف عليه أنه لا يجوز التحاكم إلى القانون الوضعي، فكذلك -وبنفس الدرجة- لا يجوز الاحتكام إلى غير المسلم في شئون أهل الإسلام. "وهذه المسألة في كتب الفروع محسومة، فغير المسلم ليس أهلًا للحكم في شئون المسلمين، لا قاضيًا ولا حكمًا؛ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] والآية وردت بصورة الخبر، ويُرَادُ به الأمرُ، كما يقول الشاطبي، وسَلْبُ ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (3/ 267).

ضوابط التحاكم إلى غير الشريعة

أهلية القضاء والحكم عن غير المسلم أمرٌ لا خلاف فيه، فيما أعلم. ومع ذلك فإن أوضاع المسلمين في ديار غير المسلمين -حيث لا يُسْمَحُ بإنشاءِ محاكمَ إسلاميةٍ يتحاكمون أمامها، وتخضع منازعتهم بالكلية لقوانين قضاة البلد الذي يقيمون به- تجعل حالهم مندرجًا ضمن الضرورات التي لها أحكامها، والتي تتخذ من المصالح معيارًا للحكم، والإمكان والاستطاعة أساسًا للتكليف؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] " (¬1). ضوابط التحاكم إلى غير الشريعة: فإذا لم يتيسر ذلك؛ لعدم نزول الخصم على حكم حَمَلَةِ الشريعةِ، وكان لا يردعه إلا سلطانٌ ذُو شوكةٍ، فإن التحاكم إلى القضاء الوضعي في هذه الحالة لاستخلاص حقٍّ أو دَفْعِ مظلمةٍ رخصةٌ، لا تثريبَ على من يلجأ إليها عندما تتعين سبيلًا إلى تحصيل الحق؛ لأن النصوص الواردة في نفاق وكفر من أعرض عن التحاكم إلى الشرع إنما كانت في واقعٍ تهيَّأتْ فيه أسبابُ التحاكم إلى الشرع المطهر، وأعرض فيه من أعرض عن ذلك طائعًا مختارًا؛ لتفضيله التحاكم إلى القانون الوضعي على التحاكم إلى القانون الشرعي. دلَّ على ذلك الجوازِ قولُه تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬2)، وحديث: كنا إذا بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة يقول لنا: "فيما استطعتم" (¬3). ¬

_ (¬1) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، لابن بيه، (ص 276). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) أخرجه: البخاري، كتاب الأحكام، باب: كيف يبايع الإمام الناس (7202) ومسلم، كتاب الإمارة، باب: البيعة على السمع والطاعة فيما استطاع (1867) من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.

ويتقيد هذا اللجوءُ إلى القانون الوضعي بمقيِّداتٍ حاكمةٍ وقواعدَ ضابطةٍ، منها: 1 - تعذر استخلاص الحق أو الوصول إليه إلَّا بهذه الطريقة فحسب. 2 - الاقتصار على المطالبة بالحق فحسب وأخذه عند الحكم به من غير زيادة. 3 - كراهة القلب للاحتكام إلى غير القضاء الشرعي. 4 - بقاء هذا الترخص في دائرة الضرورة بالمعنى العام، والذى يشمل الضرورة والحاجة. وأمَّا ما يدلُّ على القيد الأول: تعذر استخلاص الحقوق أو دفع المظالم عن طريق القضاء الشرعي، فهو أنه إذا أمكن استخلاص الحق أو دفع المظلمة عن طريق القضاء الشرعي لم تكن هناك ضرورة تُلجئ إلى التحاكم إلى القانون الوضعي الّذي حكمُهُ التحريمُ -كما تقدَّم- لغير الضرورة. وأما ما يدلُّ على القيد الثاني: معرفةُ حكم الشرع في النازلة وعدم المطالبة بزيادة، فهو أن المطالبة بزيادة على حكم الشرع ظلم، والظلم حرام، دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44]، ومن أدلة السنة: الحديث القدسي: "إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّمًا فلا تظالموا" (¬1)، ومن دلائل ذلك: أن المسلم يجب عليه في حالة سلوك الوسيلة المباحة -وهي التحاكم إلى الشرع- ألَّا يأخذ مالَ غيرِهِ وإن حكمَ لَهُ به الحاكم الشرعي؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعلَّ بعضَكُمْ أن يكون أبلغ من بعض، فأحسبُ أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيتُ له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذْهَا أو ليتركْهَا" (¬2)، فمن باب أولى لا يبيح له حكم الحاكم غير الشرعي أن يظلم غيره. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه.

ومن دلائل ذلك أيضًا: القاعدةُ الفقهية: "الضرورة تُقَدَّرُ بقدرها" ودلائلها المعروفة؛ ولأن الضرورة أباحت سلوك وسيلة محرمة لاستخلاص الحق ورفع الظلم، ولم تُبِحْ سلوكَها لظلم الآخرين وأخذ ما ليس بحق. ومن أدلة القيد الثالث -وهو كراهة القلب للتحاكم إلى القانون الوضعي-: قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]. ومنها: حديث: ". . . فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (¬1)، وحديث: "ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع"؛ قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا ما صلوا" (¬2). وأما ما يدل على القيد الرابع فهو قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]، وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145]، وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115]، كما يُستفاد ذلك من القاعدة الفقهية: "الضرورات تبيح المحظورات". كما يدل على ذلك أيضًا قصةُ لجوءِ الصحابة -رضي الله عنهم- للمثول أمام النجاشيِّ الكافرِ -يومئذٍ- مرتين بسبب مطالبة كفار قريش بهم، وللذود عن حقهم في إبطال مزاعم قريش الباطلة فيهم. ومن قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بشأن ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه.

الطلاق في النظام الغربي

الرواية التي كتبها المدعو سلمان رشدي: "القرار الثالث: يعلن المجلس أنه يجب ملاحقة هذا الشخص، بدعوى قضائية جزائية تُقَدَّمُ عليه، وعلى دار النشر التي نشرت له هذه الرواية، في المحاكم المختصة في بريطانيا، وأن تتولى رفعَ هذه الدعوى عليه منظمةُ المؤتمر الإسلامي التي تمثل الدولَ الإسلاميةَ، وأن تُوَكِّلَ في هذه الدعوى أقوى المحامين المتمرِّسين في القضايا الجنائية أمام محاكم الجزاء البريطانية" (¬1). وواضح من القرار تجويزُهُمْ التحاكمَ إلى المحاكم البريطانية في تلك النازلة. الطلاق في النظام الغربي: وقبل الدخول إلى حكم النازلة يحسن التعرف إلى الطلاق في النظام الغربي وما يحيط به من إجراءات وملابسات، وذلك في نقاط محددة للاختصار: • الطلاق المدني الذي توقعه المحاكم في الغرب الأوروبي كالزواج المدني لا يَستند إلى قوانين دينية، وليس للدين فيه اعتبار، وإنما هو عقد مدني، لا يقع فيه الطلاق، أو الفراق إلا بقرار من المحكمة. • والطلاق حق مشترك بين الرجل والمرأة في الغرب فكما هو بيد الرجل أن يطلبه، كذا هو بيد المرأة. • ولا يستطيع الرجل أن يستقل بإيقاعه حتى يحكم به القاضي، ولو تكلم به الرجل فلا اعتبار لوقوعه أو قانونيته لديهم حتى يصدر بذلك قرار المحكمة. • ليس للقاضي أن يسأل طالب الطلاق عن سببه، أو الدافع لطلبه، فيكفيه أن يقرَّ بأن حياته الزوجية قد باءت بالفشل. والسبب في هذا أن أكثر ما يهدم الأسرة والبيوت هو الخيانة الزوجية، والتي غدت عند الغرب نوعًا من الحرية الشخصية ¬

_ (¬1) قرارات المجمع الفقهي التابع للرابطة، الملاحق، (ص 252).

التي لا ينبغي استنكارها أو تقييدها!! • تطول إجراءات الطلاق المدني لاشتراط القانون فترةَ انفصالٍ جسدي لسبق الطلاق تتراوح من سنة إلى ثلاث سنوات، وهو يعني: استقلالًا في السكن والمعيشة. • يلزم لتقديم هذا الطلب توكيلُ محامٍ بحيث إنَّ صاحبَ الطلب لا يتمكن من تقديمه بنفسه. • يتعين لديهم قبل الطلاق الاتفاقُ على حضانة الأطفال، وكيفية زيارتهم، وتقسيم أثاث البيت، ومصير سكن الزوجية، ومَنْ تجب له النفقة، وما هي قيمتها. • وقوع الطلاق يوجب النفقة بين الرجل والمرأة، بل يوجبها للمحتاج منهما في فترة الانفصال الجسدي. • تقدير النفقة بحسب مستوى المعيشة الذي كان عليه الزوجان من خلال الدخول الحقيقية للطرفين. • قيمة النفقة هي نصف مجموع ما يأتي الطرفينِ مِنْ مالٍ، فيما يعرف بمبدأ المناصفة، بحيث يتساويانِ في الدخول ويتقاسمانها بالسوية. • تُحسب النفقة على الأطفال قبل النفقة على المطلِّق، أو المطلَّقة. • في ظروف معينة يأخذ المطلِّق أربعةَ أسباعِ الدخلِ فيما تأخذ المطلَّقةُ ثلاثةَ أسباعِهِ، والسبب في ذلك ترك الأزواج للعمل بعدَ الطلاق، حيث يتحول ما يدخل إليه من مالٍ إلى مطلقته. وكثيرًا ما وقع جرَّاء ذلك جرائمُ وانتحارٌ مِنْ قِبَلِ الطرف الذي يَدْفَعُ. • ولا تنتهي النفقة إلَّا إذا عمل المنفَقِ عليه، فوصل دخله الشهري إلى مستوى المنفِقِ، وإذا تزوَّج المنفَقُ عليه سقطت نفقتُهُ ووجبَ على الزوج الثاني، في حين تبقى

حكم الطلاق الصادر عن غير مسلم

نفقة الأطفال، كما تبطل إذا مات مستحقُّ النفقة (¬1). وبناءً على ما سبق فإن المسلم إذا دخل في علاقة زواج مع امرأة غير مسلمة فإن الحكم بينهما -والحال هذه- قوانينُ بلادِها. فإذا وقع بينهما خلاف استأثرت المرأة بنصف ثروته -على كفرها- وأخذتْ جميع أولاده، وعاشت تخادنُ الرجالَ، وهو ينفق عليهم نصف دخلِهِ، وعاش يرى ابنته تذهب إلى الكنيسة، بل وتلبس الصليب، وتعاشر الرجال ولا يستطيع إلا أن يبارك هذا العهر، فلا عجب أَنِ انتحرَ بعضهم، وفقد بعضُهُمْ عقلَهُ!! حكم الطلاق الصادر عن غير مسلم: بادئ ذي بدء نقول: إن هناك بعض الدول تسمح قوانينها بأن يخضع المقيمُ فيها للقوانين المعمول بها في بلده الأصلي بغضِ النظر عن موافقتها للشريعة من عدمها. فالمسلم المقيم مثلًا في أوروبا يمكن أن يخضع لقانون البلد الذي يقيم فيه، ويمكن أن يخضع لقانونه الشخصي في بلده الأصلي، إذا كان قانون البلد الذي يقيم فيه يسمح بذلك، وقد يكون قانون بلده الأصلي منسجمًا مع الأحكام الشرعية، أو معارِضًا لها، فالقوانين الأوروبية عندما يسمح بعضها بتطبيق القانون الشخصي للمقيم على أرضها إنما تعني: القانون المعمول به اليوم في الدولة التي يحمل جنسيتها، سواء أكان موافقًا أم مخالفًا للأحكام الإسلامية. على أنه ثمة حالاتٌ متنوعةٌ في هذا الشأن، ومن ذلك: الحالة الأولى: أن يكون الزوجان من رعايا دولة إسلامية، وقد تم عقد زواجهما في دولة إسلامية، ولا يؤثِّر في ذلك أن تكون الزوجة كتابية، وهما يقيمان في إحدى الدول ¬

_ (¬1) أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في الغرب، د. سالم الرافعي، (ص 597 - 614).

الأوروبية، ووقع بينهما خلاف يمكن أن يؤدِّي إلى الطلاق في هذه الحالة. - يجب على الزوجين أن يرفعا خلافهما إلى محكمة البلد الذي جرى عقد زواجهما فيه؛ لأنه من الناحية الشرعية فإن قوانين بلادنا الإسلامية في نطاق الأحوال الشخصية تبقى في عمومها مستمدة من الأحكام الشرعية، وإن وقعت في بعضِهَا مخالفاتٌ، ولكنها تظلُّ أقربَ إلى الشريعة بما لا يقاس من قوانين البلاد الأوروبية، ومن حيث منطق القانون الدولي الخاص فإن القانون الذي تأسس عليه الزواج ينبغي أن يكون هو القانون الذي ينظر في آثار الزواج وانحلاله. - إذا رفع الزوجانِ أو أحدُهما خلافَهما إلى محكمة البلد الذي يُقيمان فيه؛ لأن ذلك أيسر عليهما، أو لأن قانون هذا البلد يُعطي أحدَهما امتيازًا لا يجده في قانون بلده، فقد وقع الخطأ الأول، ويتحمل إثمَهُ الشرعيَّ مَنْ بادر إليه، وهنا نقول: - قد يجيز البلدُ الرجوعَ في مثل هذا الخلافِ إلى القانون الذي أنشأ الزواجَ، ففي هذه الحالة يجب على الزوجين أن يُطالِبَا المحكمةَ بتطبيقِ أحكام القانون الذي تزوجا بموجبه، فإن لم يفعلا ذلك وقع الخطأ الثاني، ويتحمل مسئوليتَهُ الشرعيةَ مَنْ لم يطلب ذلك من المحكمة. - إذا كان قانون البلد يَفرِضُ على محاكمها تطبيقَ أحكامِهِ، ويَمنعها من تطبيق قانونٍ آخرَ فسنكون أمام حكم قضائي صادر عن قضاء دولة غير إسلامية يخصُّ أشخاصًا مسلمين. وهذا الحكم القضائي مُلزِم من الناحية الواقعية والقانونية، غير أن الطرف الذي طالب به يكون آثمًا شرعًا ويجب على الطرفين -حتى بعد صدور الحكم القضائي، إذا أرادا التوبة- أن يتفقا على التحكيم بمقتضى الأحكام الشرعية. الحالة الثانية: أن يكون أحد الزوجين من رعايا دولة إسلامية وهو مقيم في دولة أوروبية ولم يحصل على جنسيتها بعد، ويكون الزوج الآخر من رعايا دولة أوروبية. فإذا كان عقد الزوج قد تم وفق قانون الدولة المسلمة، وجب أن يرفع الخلاف إلى

قرار المجلس الأوروبي للإفتاء

محاكم هذه الدولة، وإذا رُفِعَ إلى محاكم الدولة الأوروبية يجب مطالبتها بتطبيق أحكام القانون الذي بُنِيَ الزواج عليه، ولو كان الغالب في هذه الحالة أن تُطَبِّقَ المحاكمُ الأوروبية قوانينَهَا الخاصة باعتبار أحد الزوجين من جنسيتها، وهي تفترض أن قوانينها تحمي حقوقه، فنكون أمام حكم قضائي صادر عن دولة غير إسلامية، ويُلْزِمُ مسلمًا. أما إذا كان عقد الزواج قد تم وفق قانون الدولة الأوروبية، والخلاف بين الزوجين حصل في أرضها فلا بدَّ أن تحكم في محاكمها وفق قوانينها، فنكون أمام حكم قضائي أوروبي يتناول إنسانًا مسلمًا (¬1). وأما الحالة الثالثة: فهي محلُّ الإشكال فيما لو كان الزوجان من دولة أوروبية، فلا بُدَّ أن يعقد زواجهما وفق قانون تلك الدولة، حتى يصبح رسميًّا تترتب عليه آثاره القانونية، فإذا دَبَّ خلاف بينهما وانتهى الأمر إلى الارتفاع إلى القضاء في تلك البلاد بعد تعذُّرِ الوفاق والصلح والتحكيم الشرعيِّ الوديِّ، فوقع حكم بالطلاق من قاضٍ غيرِ مسلمٍ على زوجين مسلمين، فما الحكم؟ صدر بهذا الشأن قرار من المجلس الأوروبي للإفتاء، وفيما يلي نصه: قرار المجلس الأوروبي للإفتاء: " الأصل أن المسلم لا يرجع في قضائه إلا إلى قاضٍ مسلم، أو من يقوم مقامه، غير أنه بسبب غياب قضاء إسلامي حتى الآن يتحاكم إليه المسلمون في غير البلاد الإسلامية، فإنه تحين على المسلم الذي أَجْرَى عقدَ زواجه وفق قوانين هذه البلاد، تنفيذُ قرارِ القاضي غير المسلم بالطلاق؛ لأن هذا المسلم لمَّا عَقَدَ زواجه وفق هذا القانونِ غيرِ الإسلاميِّ، فقد ¬

_ (¬1) بحث: حكم الطلاق الصادر عن قاضٍ غير مسلم، الشيخ فيصل مولوي، المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد الأول، 1423 هـ، (ص 170).

رضي -ضمنًا- بنتائجه، ومنها: أن هذا العقد لا يحلُّ عروتَهُ إلا القاضي، وهو ما يمكن اعتباره تفويضًا من الزوج جائزًا له شرعًا عند الجمهور، ولو لم يصرح بذلك؛ لأن القاعدة الفقهية تقول: المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، وتنفيذ أحكام القضاء -ولو كان غير إسلامي- جائز من باب جلب المصالح ودفع المفاسد، وحسمًا للفوضى، كما أفاده كلام غير واحد من حُذَّاقِ العلماء؛ كالعز ابن عبد السلام، وابن تيمية، والشاطبي" (¬1). وقد استند هذا القرار إلى أن الزوج بعقده للنكاح في ظل قوانين هذا البلد التي تسمح للقاضي غير المسلم بإيقاع الطلاق كأنه وَكَّلَ القاضي غيرَ المسلم بحلِّ العصمة بدلًا منه، وهي وكالة ممتدة طيلةَ بقاءِ النكاحِ بين الزوجين. وفي هذا التخريج مِنَ البُعْدِ ما لا يخفى؛ فالأعمُّ -كما يقول العلماء- لا إشعارَ له بأخص معيَّنٍ، فعقدُ النكاح في تلك البلاد قد يكون صاحبه ذاهلًا وغافلًا عن مسألة الطلاق، فضلًا عن أن يكون عاقدًا توكيلًا، فكلُّ ما احتاج إلى إذن فإنه يحتاج إلى تصريح، كما تقول القاعدة؛ أخذًا من الحديث: "الثيب تعرب عن نفسها، والبكر رضاها صمتها" (¬2) (¬3). كما أن هذا القرار يرى أن ثبوتَ النكاح إنما تم من جهة القضاء، فكذا التفريق، والحق أن النكاح المدني لا يعتدُّ به حتى يستكمل أركان العقد الشرعي وشروطه، فإذا انعقد العقد شرعًا، فلا مانع من توثيق العقد الشرعي توثيقًا مدنيًّا؛ وذلك لضمان ¬

_ (¬1) القرار، (3/ 5) بالدورة الخامسة، 1421 هـ، مايو 2000 م. (¬2) أخرجه ابن ماجة، كتاب النكاح، باب: استئمار البكر والثيب، (1872)، والإمام أحمد في "مسنده"، (4/ 192)، وغيرهما، من حديث عدي الكندي -رضي الله عنه-. وصححه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع"، (3084). (¬3) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، لابن بيه، (ص 276 - 277).

ويناقش هذا

الحقوق في المستقبل، لا أنه جهة يستمد منها المسلمُ الشرعيةَ. وعليه: فإن حَلَّ عقدِ النكاح أولًا، وصحتَهُ، وتَرَتُّبَ آثارِهِ عليه إنما يَستندُ إلى العقد الشرعي لا غير. كما أنه اعتبر عقدَ النكاح المذكور بمنزلة التفويض من الزوج، وهو جائز عند الجمهور، ولو لم يُصرِّح به؛ لأن "المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا". . . إلخ. ويُنَاقَشُ هَذَا: بأنه ليس بمنزلة التفويض؛ لأن الزوج عند التفويض لا يَسقط حقُّه في التطليق، فالطلاق حقٌّ من حقوق الزوج، فله أن يطلق زوجته بنفسه، وله أن يفوضها في تطليق نفسها، وله أن يوكِّلَ غيرَهُ في التطليق، وكلٌّ من التفويض والتوكيل لا يُسقِطُ حقَّهُ، ولا يمنعه من استعماله متى شاء (¬1)، بينما الزوج هنا لا حقَّ له في ذلك، كما جاء في القرار: "إن هذا العقد لا يحلُّ عروتَهُ إلا القاضي". وقولهم: "كالمشروط شرطًا" لا يعني كلَّ شرط على الإطلاق، وإنما شرطٌ يوافِقُ الحقَّ؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك" (¬2)، وحرمان الزوج من ذلك يخالفه؛ لأنه إسقاط لحقٍّ قرره الكتابُ، وأكدته السنةُ للزوج؛ لأن الطلاق حَلُّ عقدةِ النكاح فلا يملكه من ليست بيده، وقد قال تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الطلاق لمن أخذ بالساق"، وقصة الحديث أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن سيدي زوجني أمته، وهو يريد أن يفرق بيني وبينها؛ قال: فصعد رسول ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة، (10/ 381)، تكملة المجموع، للمطيعي، (17/ 109). (¬2) أي: ما وافق منها كتاب الله وإلا فهو باطل. أخرجه الحاكم في "مستدركه"، (2/ 49)، وعنه البيهقي في "الكبرى"، كتاب الصداق، باب: الشروط في النكاح، (7/ 249)، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-. ورُوي من أحاديث أم المؤمنين عائشة، وأبي هريرة، وأنس بن مالك -رضي الله عنهم-.

فالاحتكام قد يكون

الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر، فقال: "يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته، ثم يريد أن يفرق بينهما، إنما الطلاق لمن أخذ بالساق" (¬1)، ومعنى الحديث: أن الطلاق حقُّ الزوج، الذي له أن يأخذ بساق المرأة لا حقَّ غيرِهِ، لكن أباح الشرع أن يُطَلِّقَ القاضي نيابةً عن الزوج، إذا كان الزوج عاجزًا عن الطلاق، أو ممتنعًا منه، وكان في بقاء عصمة الزوجية ضررٌ أو ضرارٌ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضررَ ولا ضرارَ" (¬2). فللقاضي المسلم في بعض الأحوال أن يطلق على الزوج للإعسار في النفقة، أو الغيبة المنقطعة، أو الأسر والسجن، ونحو ذلك. قال في الفتح: "والوطءُ والإسكانُ وغيرُهما من حقوق الزوج إذا شُرِطَ عليه إسقاطُ شيءٍ منها كان شرطًا ليس في كتاب الله فَيَبْطُلُ" (¬3)؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله -عز وجل- فهو باطل، وإن كان مائة شرط" (¬4). ولأن الاحتكام المذكور والرضى به ليس متَّفَقًا على جوازه، وإنما له صور كثيرة يتردَّدُ حكمُها بين الكفر والفسق وبين الجوازِ للضرورة. فالاحتكام قد يكون: كفرًا: إذا كان عن رضًا وقبولٍ؛ لأن حقيقة الإيمان هي التصديق والانقياد، ومن لم ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة، كتاب الطلاق، باب: طلاق العبد، (2081)، والبيهقي في "الكبرى"، كتاب الخلع والطلاق، باب: طلاق العبد بغير إذن سيده، (7/ 360)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، وحسنه الشيخ الألباني في "الإرواء"، (2041). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) فتح الباري، لابن حجر، (9/ 219). (¬4) أخرجه البخاري، كتاب المكاتب، باب: ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطًا ليس في كتاب الله، (2561)، ومسلم، كتاب العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق، (1504) -واللفظ له- من حديث أم المؤمنين عائشة في قصة بريرة المشهورة -رضي الله عنهما-.

يَحْصُلْ في قلبه التصديقُ والانقيادُ فهو غير مسلم (¬1). قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّساء: 65]. قال ابن كثير -رحمه الله-: "يُقسم -تعالى- بنفسه الكريمة المقدسة ألَّا يُؤْمِنَ أحدٌ حتى يُحَكِّمَ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأمور. . . " (¬2). كما يقول -رحمه الله-: "فمن ترك الشرعَ المحكمَ المنزلَ على محمد بن عبد الله خاتمِ الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كَفَرَ، فكيف بمن تحاكم إلى اليَاسَا (¬3)، وقدَّمَهَا عليه؟ مَنْ فَعَلَ ذلك كَفَرَ بإجماع المسلمين" (¬4). أو فسقًا: قال ابن تيمية -في شرح قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} [التوبة: 31]-: "إن هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم يكونون على وجهين. . . فذكر الأولَ وحكمَهُ، ثم قال: الثاني: أن يكون اعتقادُهُمْ وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتًا (¬5)، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب" (¬6). أو جائزًا للاضطرار: "ولا يلزم من هذا أن كلَّ مَنْ تحاكَمَ إلى المحاكم التي تحكم بالقوانين الوضعية لا بُدَّ أن يكون كافرًا، بل قد يُضطر المسلم لتخليص حقوقِهِ ونحو ذلك إلى التحاكم ¬

_ (¬1) تحكيم الشريعة وصلته بالدين، د. صلاح الصاوي، (ص 13). (¬2) تفسير ابن كثير، (2/ 349). (¬3) اسم كتاب جنكيز خان الذي وضعه ليكون قانونًا يتبعه اتباعه وأولاده من بعده. (¬4) البداية والنهاية، للإمام ابن كثير، (17/ 162 - 163). (¬5) كذا بالأصل ولعله تصحيف من النساخ والأظهر أن العبارة هي "بتحريم الحرام وتحليل الحلال". صيانة مجموع الفتاوي، لناصر بن حمد الفهد، أضواء السلف، الرياض، ط 1، 1423 هـ - 2003 م، (ص 59). (¬6) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (7/ 70).

إليها مع عدم رضاه عنها، فلا يكون كافرًا، بل يكون حكمُهُ حكمَ المضطرِ" (¬1). وحتى لا يتعرضَ المضطر للإثم لا بُدَّ أن ينضبطَ بضوابِطِهِ، قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]. وعليه: فإن اللجوء إلى القضاء الوضعيِّ لاستصدارِ حكمٍ بالطلاق من الجهة القانونية لا يكفي للحكم بانحلالِ عقدةِ النكاح وحصولِ الطلاق والفراقِ حتى يُطَلِّقَ الزوجُ بعبارته؛ ذلك أن الطلاق تصرُّفٌ قوليٌّ يُنَاطُ بالزوج؛ لأنه الذي بيده عقدة النكاح. أوْ لا يتأتَّى أن يطلق الزوج بعبارته لامتناعِهِ أو لغير ذلك من الأسباب، وعندئذٍ يتأتَّى البحث عن جهة شرعية تُنَزَّلُ منزلةَ القاضي المسلم في الحكم بالتفريق، على أن ثمةَ حالاتٍ لا يُحتاجُ معها إلى بحث عن جهة تقوم هذا المقامَ، وهذه الحالات كالتالي: 1 - إذا تقدَّم الرجل إلى المحكمة بطلب الطلاق، وصدر الحكم، فإن الطلاق يقع؛ لأن طلبه توكيلٌ، ولا يتحمل من الأعباءِ الماليةِ إلَّا مؤخرَ المهرِ، والنفقةِ أثناءَ العدةِ، والمتعة. فإن فَرَضَتْ عليه المحكمةُ أقلَّ من الواجب الشرعي، فعليهِ أن يُكْمِلَهُ وإنْ فَرَضَتْ عليه أكثر من الواجب الشرعي، فعلى المرأةِ ألَّا تأخذَهُ إلَّا إذا رضي زوجُهَا، وإلَّا أثمتْ بأكلِها الحرامَ (¬2). 2 - وإذا كانت المرأة هي الراغبة في الطلاق والطالبة للتفريق بسوءِ معاملتها بما لا يليقُ بمثلها، وصدر الحكم به في المحكمة وَقَعَ الطلاقُ؛ لأنه موافقٌ للشرع، قال ابن رشد -رحمه الله-: "والسلطان يُطلق بالضرر عند مالكٍ إذا تَبَيَّنَ" (¬3). ¬

_ (¬1) ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة، لعبد الله القرني، (ص 134). (¬2) فقه الأسرة المسلمة ونوازلها في الغرب، عبد الرحمن البرزنجي، دار المحدثين، القاهرة، ط 1، 2008 م، (ص 354 - 355)، أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في الغرب، د. سالم الرافعي، (ص 619). (¬3) بداية المجتهد، لابن رشد، (2/ 99).

على أن هذه الحالة الثانية فيها المحذورُ المذكورُ آنفًا، وإنْ وافقَ حكمُ القاضي الكافرِ مذهبًا لفقهاءِ المسلمين؛ إذ العلةُ في المنع ليست الموافقةَ أو المخالفةَ، وإنما أصلُ الولاية، والتي لا تكون لكافر على مسلم أو مسلمة. وهذه الحالة تفارِقُ سابقتَهَا من حيث إن الزوج يقع الطلاق بإذنِهِ وطلبِهِ، ويمكن أن يُشْفِعَهُ بالتلفظ به بعد صدورِهِ لتوثيقه وتأكيده شرعًا. 3 - وإن كانت الكراهية منهما معًا، فإنْ طَلَبَ الزوج التفريق وَقَعَ؛ لأنه توكيل، وعليه تبعاته، وإن طلبت الزوجة الفُرْقَةَ وصدر الحكم، وَوَقَّعَ عليه الزوج وَقَعَ؛ -لأنه إجازةٌ "والإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة" (¬1) -، وعليها تبعاته. وبكلِّ حالٍ فإنه إذا صدر الطلاق ممن يملكه بصيغة شرعية صحيحة، فَلَا مانعَ من توثيقه مدنيًّا أمامَ المحاكمِ المختصَّةِ لحفظ الحقوق؛ إذ لا محذورَ شرعًا في التوثيق بمجرده، بل هو مطلوبٌ لتفادي التبعاتِ والمسئولياتِ التي قد تَنشأ عن بقاء هذا العقدِ قانويًا مع انحلالِهِ شرعًا. وبناءً على ما سبق فإنه يبقى الأمرُ -في حالة امتناع الزوج عن التطليق مع حكم المحكمة غير المسلمة به- غيرَ معتبرٍ لافتقاد حقيقة الطلاق شرعًا، فإذا امتنع الزوج أو تعذر الوصول إليه فالمصير إلى من يقوم مقامَ القاضي في ديار الأقليات؛ لاستصدار حكم شرعي بالطلاق، وهذا ما سيتناوله المبحث الآتي بإذن الله. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 231).

المبحث الثاني ولاية المراكز الإسلامية في التطليق والتفريق

المبحث الثاني ولاية المراكز الإسلامية في التطليق والتفريق توصيف المسألة وتكييفها: لم يرتضِ عامة الفقهاء المعاصرين -استنادًا إلى ما أصَّله المتقدمون، وثبت في محكمات الشريعة- وقوع الطلاق بين المسلمين بعبارة قاضٍ غير مسلم وفقًا لأحكامٍ علمانَّيةٍ لا تَمُتُّ إلى دين الإسلام بصلة. واحتاجوا إلى مخرج لبحث كيفية إجراء هذه الأحكام التي تفتقر إلى ولاية القضاء في إصدارها وإلزام الكافة بها. كما أنه نظرًا لاغتراب كثير من المسلمين في بلاد الأقليات؛ فإنه توجد نوازل أخرى في باب الأحوال الشخصية عند التزويج، كما هي عند التفريق؛ إذ إن جمهور العلماء على أن المسلمة لا تُزَوِّجُ نفسها، وأنها تحتاج إلى وليها في هذا الشأن المهم، فإذا فقدت المرأة أولياء من العصبات في بلاد الإسلام رفعتْ أَمْرَها إلى القضاء فتزوجت بولاية السلطان؛ إذ "السلطان وليُّ من لا وليَّ له" (¬1) (¬2). وفي بلاد الأقليات توجد مسلمات لا أولياء لهن من عصباتهن؛ لاختلاف الدين، ولا قضاء يَستند إلى الإسلام في أحكامه، ولا تُنظر قضيتها لو رُفعت؛ لأن عقد الزواج هناك مدني يقوم على أن تُزوج المرأةُ نفسَهَا من غير حاجة إلى وليٍّ، فكيف السبيل لحل هذه ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب: في الولي، (2083)، والترمذي، كتاب النكاح، باب: ما جاء لا نكاح إلا بولي، (1102)، وابن ماجة، كتاب النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي، (1879) من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا. وقال الترمذي عقبه: "حديث حسن". وروي من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا. (¬2) المراكز الإسلامية في أمريكا الشمالية نشأتها -أنشطتها والأحكام الفقهية المتعلقة بها، د. معمر موفق الغلاييني، دار عمار، الأردن، ط 1، 1430 هـ، (ص 252 - 260).

المعضلة، وإذا غاب الإمام أو فُقِدَ قام أهل الحل والعقد بالأمر نيابةً عنه، أو إلى أن يُقام غيرُه. ومما يستأنس به للدلالة على معنى قيام النقباء والوكلاء عن الأمة ما أخرجه البخاري عن مروان ابن الحكم والمسور بن مخرمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال -حين أذن له المسلمون في عتق سبي هوازن-: "إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أَمْرَكم". فرجع الناس فكلَّمَهُمْ عرفاؤهم فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه أن الناس قد طيبوا وأذنوا (¬1). وهو يدل على مشروعية إنابة البعض عن الكل؛ فالعلاقة إذن وكالة صريحة أو ضمنية بينهم وبين الأمة (¬2). فأهل الحل والعقد هم وكلاء الأمة ونوابها في عقد الأمور الكبيرة العظيمة وحلها، وهذا العمل الجليل يعقد لهم ولاية ونفوذًا للكلمة في عموم الأمة. فإن خلا المكان عن إمام أو نائبه لموت أو فَقْدٍ حسيٍّ بالأسر أو نحوه، أو فَقْدٍ شرعيٍّ بالكفر، أو بترك تحكيم الشريعة واستبدالها- آل الأمر إلى أهل الحل والعقد، وعادت الولاية العامة إليهم. قال الجويني: "فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطان ذي نجدة واستقلال وكفاية ودراية، فالأمور موكلة إلى العلماء، وحقٌّ على الخلائق -على اختلاف طبقاتهم- أن يرجعوا إلى علمائهم، وَيصْدُروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك فقد هُدُوا إلى سواء السبيل، وصار علماءُ البلاد ولاةَ العباد، فإن عسر جمعهم على واحد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب الوكالة، باب: إذا وهب شيئًا لوكيل أو شفيع قوم جاز. . .، (2307، 2308) من حديث المسور بن مخرمة -رضي الله عنه-. (¬2) النظريات السياسية، د. محمد ضياء الدين الريس، (ص 222).

تحرير محل النزاع

استبدَّ أهلُ كلِّ صقع وناحية باتباع عالمهم" (¬1). فإن لم يكن ثمة أمراء فقد وجبتْ طاعة العلماء والزعماء فإن لم تجتمع كلمة هؤلاء، أو تعذر اجتماعهم هل يتأتى القول بقيام آحادهم في بلادهم وأصقاعهم مقام القاضي في أمور الولايات التي تتعلق بالأحوال الشخصية في بلاد الأقلية؟ وبفرض قبول الرجال والنساء الأزواج والزوجات بهذا الحلِّ، هل يترتب على اعتماده مشكلات مع الجهات الرسمية في تلك البلاد؟ وهل لأهل الحل والعقد في تلك البلاد من القوة التنفيذية ما يضمن تنفيذَ أحكامهم وإنفاذَ قراراتهم؟ وهل يمكن اعتبار المراكز الإسلامية والجمعيات والهيئات الدينية في تلك البلاد مرجعية شرعية معتبرة لإقامة هذه الولايات وإلزام المتخاصمين بالأحكام في الفروج والأموال، ونحو ذلك؟ وما هي ضوابط هذا الأمر ومحاذيره التي يجب رعايتها؟ لا شك أن هذه النازلة كما تتعلق بالأحوال الشخصية ترتبط أيضًا بباب الولايات والقضاء خاصة من أبواب السياسة الشرعية. تحرير محل النزاع: بعد التسليم بأن: • التزويج والتطليق والخلع عقود وتصرفات شرعية، لا تصح إلا إذا جَرَتْ وفق الشريعة، واستنادًا لمرجعيتها، وكل ما أُبْرِمَ على خلاف ذلك فهو رَدٌّ، لا يُعْبَأُ به ولا يُلتفت إليه. • والزواج في المجتمعات الغربية يتم على مرحلتين: - الزواج المدني لإثبات الحقوق أمام القضاء، وهو يتم أمام الجهات القانونية ¬

_ (¬1) غياث الأمم، للجويني، (ص 282).

الأقوال ومناقشتها

المتخصصة، ووفقًا للقانون المعمول به في بلاد الأقليات سواء في أوروبا أو أمريكا أو غيرها، ويكون وحده هو الحكم عند النزاع. - والزواج الشرعي الذي ينشئ العلاقة الزوجية بين الطرفين، ويصبح كل منهما حلالًا للآخر، وهو يجري غالبًا في المراكز الإسلامية والمساجد وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية. - الأصل أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى لدى المسلم هو الشرع لا غير، وأن أحكام الشريعة هي وحدها التي تُرَدُّ إليها الأمور عند التنازع، سواء في مجال العلاقات الأسرية أو في غيرها من العلاقات، وما اللجوء إلى التوثيق الرسمي أمام القضاء الغربي إلا لتحصيل مصالح أساسية لا يتسنى تحصيلها إلا بهذا الطريق. - وعلى هذا فعقد الزواج إنما يبتدئ بالعقد الذي يجري وفقًا لأحكام الشريعة، سواء تم في المركز الإسلامي، أو في محيط الأسرة، ومثله الطلاق والخلع، ونحوه. ولكن التطليق وفسخ النكاح لسبب يقتضيهما غالبًا ما يقع بحكم جبري، يحكم به قاضٍ شرعي، يستند في شرعيته إلى ولاية شرعية قائمة، فإن عدمت تلك الولاية فهل للمراكز الإسلامية وعلمائها قدر من ولاية القضاء بما تُصانُ به مصالح الأنام، وتستقر معه الأحكام؟ وبعد منع إنفاذ أحكام الكفار على المسلمين؛ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] هل تنفذ أحكام هذه المراكز في بلاد الأقليات؟ الأقوال ومناقشتها: القول الأول: سبق أن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث قد أصدر قراره بإنفاذ الأحكام الصادرة عن المحاكم الغربية بشأن التطليق للضرر والفسخ، ونحو ذلك، وقد أُورِدَتْ

القول الثاني

على هذا الحكم إيراداتٌ كثيرة في دقته وفي تخريجه وتعليله، وقد وافق بعض الباحثين (¬1) على ما انتهى إليه نظر المجلس جلبًا للمصالح، ودفعًا للمفاسد، وحسمًا للفوضى، وفي المبحث السابق نوقش هذا القول بما تضعف معه النتيجة التي انتهى إليها. القول الثاني: وهو لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا ومن وافقه من الباحثين، وبه صدر قرار المجمع في دورة مؤتمره الثاني بالدانمرك من 4 - 7 جمادى الأولى 1425 هـ، 22 - 25 يونيو 2004 م، وجاء فيه: "لجوء المرأة إلى القضاء لإنهاء الزواج من الناحية القانونية لا يترتب عليه وحده إنهاء الزواج من الناحية الشرعية، فإذا حصلت المرأة على الطلاق المدني فإنها تتوجه به إلى المراكز الإسلامية ليتولى المؤهلون في هذه القضايا من أهل العلم إتمام الأمر من الناحية الشرعية، ولا وجه للاحتجاج بالضرورة للاعتداد بالتطليق المدني في هذه الحالة؛ لتوافر المراكز الإسلامية وسهولة الرجوع إليها في مختلف المناطق" (¬2). وفي تعليل هذا القرار وتوجيهه قيل: إن الأصل أن يكون للمسلمين قاضٍ مسلمٌ يحكم بينهم بشرع الله، ومن سلطة هذا القاضي التفريق للضرر بين الزوجين وتطليق الزوجة من زوجها في تلك الحالات التي يبيح له الشرع فيها ذلك؛ ونظرًا لانعدام القاضي المسلم المعين من قبل السلطان ¬

_ (¬1) حجية الأحكام الصادرة بالطلاق من قبل المحاكم الغربية بحق الأقليات الإسلامية، د. محمد عبد الجواد النتشة، بحث مقدم إلى ندوة: "فقه الأقليات في ضوء مقاصد الشريعة: تميز واندماج" المنعقدة في كوالالمبور خلال الفترة من 9 - 11/ 11/ 2009 م، فسخ نكاح المسلمات من قبل المراكز الإسلامية في بلاد غير إسلامية، لأحمد تقي العثماني، ضمن بحوث مجلة المجمع الفقهي الإسلامي، التابع لرابطة العالم الإسلامي في الفترة 21 - 26 شوال 1422 هـ - يناير 2002 م، المجلد الأول، الجزء الثاني، (ص 389 - 391). (¬2) قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني للمجمع، (ص 75).

المسلم في البلدان غير الإسلامية، فإن المراكز الإسلامية تقوم مقام القاضي المسلم؛ إذ لا سبيل إلى تحكيم شرع الله في البلدان غير الإسلامية في أحكام الطلاق والنكاح والإرث ونحوها مما لا يستطيعه المسلمون إلا بذلك. قال ابن قدامة -رحمه الله-: "القضاء من فروض الكفايات؛ لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه فكان واجبًا عليهم كالجهاد والإمامة. قال أحمد: لا بد للناس من حاكم، أتذهبُ حقوق الناس؟ " (¬1). ثم أردف القرار تتميمًا: "اللجوء إلى القضاء الوضعي لإنهاء الزواج من الناحية القانونية لا يترتب عليه وحده إنهاء الزواج من الناحية الشرعية، إلا إذا صدر الطلاق من الزوج، أو من المحكَّم من قِبَلِ المركز الإسلامي أو الجالية الإسلامية" (¬2). وذلك بناءً على أن الأصل في المسلم ألا يتحاكم لغير شرع الله تعالى؛ لقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] ولذلك فلا يُعْتَدُّ بالطلاق إلا إذا كان صادرًا من الزوج؛ لأنه الذي أخذ بالساق، وفي الحديث النبوي: "إنما الطلاق لمن أخذ بالساق" (¬3)، أو من حاكم شرعي، وهو هنا المركز الإسلامي، كما تقدم، وأما القضاء الوضعي فحكمه لا يعتدُّ به شرعًا؛ ولذلك فتطليق القاضي الوضعي ليس بنافذ، وتظل المرأة شرعًا في عصمة زوجها حتى يصدر الطلاق منه، أو من حاكم شرعي، وإنما يباح اللجوء إلى القضاء الوضعي لمجرد الحصول على وثائق رسمية لتسهيل المعاملات المباحة، ولتسهيل الحصول على الحقوق الشرعية، ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة، (14/ 5 - 6). (¬2) قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني للمجمع، (ص 74 - 76). (¬3) سبق تخريجه.

وإباحة اللجوء إلى القضاء هنا مستندها القاعدة الفقهية التي ذكرها ابن نجيم وغيره: أن الحاجة العامة أو الخاصة تنزل منزلة الضرورة، والمراد بمنزلة الضرورة أنها تؤثِّر في الأحكام فتبيح ارتكابَ المحظور، أو تَرْكَ الواجب وغير ذلك، مما يستثنى من القواعد الأصلية (¬1). وقد ذهب إلى هذا أو قريب منه الشيخ ابن بيَّه فقال: "ومع ما تقدم -أي: من استبعاده لمأخذ قرار المجلس الأوروبي للإفتاء في هذا الشأن- فإن القول بإنفاذ الطلاق لا يبعد، وذلك بإيجاب طلاق الزوجة على الزوج، وعلى جماعة المسلمين أن يحكموا بهذا الطلاق حتى لا تظل الزوجة على معصية، كما قدمنا عن المالكية في الزوجة الناشز؛ درءًا للمفسدة وتوسيعًا لمفهوم إنفاذ أحكام قضاة الجور المسلمين المُولَّيْنَ من طرف الكفار؛ ليشمل القضاة الكفار درءًا للمفسدة التي أشار إليها العز ابن عبد السلام في الحالة الأولى حيث قال: "ولو استولى الكفار على إقليم عظيم، فولَّوُا القضاءَ لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة؛ فالذي يظهر: إنفاذ ذلك كله جلبًا للمصالح العامة، ودفعًا للمفاسد الشاملة؛ إذ يبعد عن رحمة الشارع ورعايته لمصالح عباده تعطيلُ المصالح العامة، وتحمُّلُ المفاسد الشاملة؛ لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها ممن هو أهل لها، وفي ذلك احتمال بعيد" (¬2). وحيث يقول أيضًا -في الشهادة، وهي صنو القضاء-: "بل لو تعذرت العدالة في جميع الناس لما جاز تعطيل المصالح المذكورة، بل قدمنا أمثل الفسقة، فأمثلَهم وأصلَحَهم للقيام بذلك فأصلَحَهم؛ بناءً على أنَّا إذا أُمِرْنا بأمر أتينا بما قدرنا عليه، ويسقط عنا ما عجزنا عنه، ولا شك أن حفظ البعض أولى من تضييع الكل، وقد قال شعيب -عليه السلام-: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88]، وقال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، فعلَّق تحصيل مصالح التقوى على الاستطاعة، فكذلك المصالح ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 100)، الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 88). (¬2) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 121 - 122).

كلها" (¬1) (¬2). وقال ابن عابدين: "وأما في بلاد عليها ولاة كفار: فيجوز للمسلمين إقامة الجمع والأعياد، ويصير القاضي قاضيًا بتراضي المسلمين" (¬3). وقال -قبل ذلك-: "ويتفرع على كونها دار حرب: أن الحدود والقود لا يجري فيها" (¬4). فيفهم من كلامه: أن من تراضى عليه المسلمون يمكن أن يحكم بينهم فيما سوى الحدود والدماء. وقد تقرر فيما سبق (¬5) قاعدة: "قيام أهل الحل والعقد مقام الإمام"، وقاعدة: "إقامة جماعة المسلمين مقام القاضي"، باعتبارها مستند تخويل المراكز الإسلامية صلاحيةَ البتِّ في قضايا التنازع بين الزوجين، وبخاصة في دعوى الضرر، وإيقاع الطلاق والخلع؛ ولما تقدم فإنه يجوز للمراكز الإسلامية -وما في حكمها مما يعتبر مرجعًا لجماعة المسلمين- أن تقرر تطليق المرأة التي قد صدر لها حكم من محكمة غير إسلامية، أو لم يصدر لها حكم، ورفع الزوجان أَمْرَهما إليها. إلا أن عليها في كل الأحوال أن تُراجِعَ كل حالة لإثبات المقتضي وعدم المانع شرعًا، وأن تحاول الصلح ما وجدتْ إليه سبيلًا، وأن تستعين ببعض الفقهاء ما أمكن، وأن تسأل العلماء حتى تطمئن إلى سلامة إجراءاتها (¬6). ومما يُستدل به على مشروعية هذا العمل: ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (2/ 80). (¬2) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، لابن بيه، (ص 277). (¬3) حاشية ابن عابدين، (6/ 289). (¬4) المرجع السابق، (6/ 288)، صناعة الفتوى وفقه الأقليات، لابن بيه، (ص 275 - 276). (¬5) المبحث التاسع من الفصل الثالث من الباب الثاني. (¬6) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، لابن بيه، (ص 279).

1 - دفع الحاجة ورفع الحرج، ولا شك أن ترك تزويج المرأة المسلمة الصالحة للزواج الراغبة فيه أَمْرٌ تترتب عليه مفاسد عظيمة، وبخاصة في المجتمعات الغربية، والمجتمعات التي تتساوى معها في عدم تحكيم شرع الله، وقد تنزلق المرأة بسبب ذلك في هاوية الفاحشة، وهذا أَمْرٌ فيه مضرة عليها في دينها وفي دنياها، وإن فرض أما استطاعت الصبر عن التزوج -مع الرغبة فيه- فلن يحصل ذلك إلا بحرج شديد. قال الجويني -رحمه الله-: "فأما القول في المناكحات فإنَّا نعلم أنه لا بد منها، كما أنه لا بد من الأقوات، فإن بها بقاء النوع، كما بالأقوات بقاء النفوس، والنكاح هو المغني عن السفاح. . . والمناكح في حق عامة الناس في حكم ما لا بد منه" (¬1). ومن المعلوم أن مثل هذه الحاجة ليست نادرة، بل هي في ديار الغرب ومجتمعات الأقليات المسلمة من الأمور الشائعة، فهي حاجة عامة، وقد ذكر العلماء أن الحاجة العامة تتنزل منزلة الضرورة الخاصة في حقِّ آحاد الناس (¬2). 2 - تزويج المركزِ المسلمةَ التي ليس لها ولي في مثل هذا المجتمع يدفع ضررًا راجحًا يلحق بها في حال عدم التزويج، ورفعُ الضرر أصلٌ عظيم في الشريعة المطهرة استُفِيدَ من أدلة عديدة أفادت بمجموعها القطعَ بثبوت هذا الأصل؛ ومن ذلك: قوله تعالى -في شأن الزوجات-: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231]، وقوله: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "لا ضرر ولا ضرار" (¬3). ¬

_ (¬1) غياث الأمم، للجويني، (ص 369)، وانظر: تفسير القرطبي، (3/ 76). (¬2) حكم تولي المراكز والجمعيات الإسلامية عقود تزويج المسلمين وفسخ أنكحتهم، د. حمزة بن حسين الفعر، ضمن بحوث مجلة المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي 2004 م، (ص 414). (¬3) سبق تخريجه.

3 - الآيات التي تدل على أن المؤمنين أولياء لبعضهم، ومن ذلك: قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55]، وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]. وهاتان الآياتان تثبتان ولاية المؤمن، والولاية جنس تدخل تحته كلُّ ولاية تبيح التصرف في شئون الآخر في النفس أو المال أو غير ذلك. وولاية المسلم على المرأة المسلمة في المكان الذي ليس فيه ولي قريب ولا سلطان مما يدخل تحت هذا اللفظ. وقد نقل القرطبي -رحمه الله- في تفسيره عن ابن خويز منداد (¬1) -رحمه الله- أنه قد روى عن الإمام مالك -رحمه الله- في بعض أقواله في تفسير الأولياء من هم؟ قوله: "كل من وضع المرأة في منصب حسن فهو وليها، سواء أكان من العصبة، أم من ذوي الأرحام، أم الأجانب، أم الإمام، أم الوصي" (¬2). ونقل القرطبي -أيضًا- عن إسماعيل بن إسحاق (¬3) قوله: "لما أمر الله سبحانه بالنكاح جعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض، فقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] والمؤمنون في الجملة هكذا يرث بعضهم بعضًا، فلو أن رجلًا ¬

_ (¬1) أبو بكر، ابن خويز منداد، محمد بن أحمد بن عبد الله، تفقه على الأبهري، من مصنفاته: كتاب كبير في الخلاف، وكتاب في أصول الفقه، وفي أحكام القرآن، وعنده شواذ عن مالك، طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 168) وسماه بابن الكواز، وتابعه عليه في معجم المؤلفين، ترتيب المدارك، للقاضي عياض، (7/ 77). (¬2) تفسير القرطبي، (3/ 75). (¬3) أبو إسحاق، إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل، ابن محدث البصرة حماد بن زيد بن درهم الأزدي، مولاهم البصري، المالكي، قاضي بغداد، وصاحب التصانيف، الإمام العلامة، الحافظ، شيخ الإسلام، من مصنفاته: فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، والاحتجاج بالقرآن في مجلدات، وأحكام القرآن، ولد سنة 199 هـ، وتوفي سنة 282 هـ، (ص 164)، سير أعلام النبلاء، للذهبي، (13/ 339).

مات ولا وارث له لكان ميراثه لجماعة المسلمين، ولو جنى جناية لعقل عنه المسلمون، ثم تكون ولايةٌ أقرب من ولايةٍ، وقرابةٌ أقرب من قرابةٍ، وإذا كانت المرأة بموضعٍ لا سلطان فيه، ولا ولي لها، فإنها تصير أمرها إلى من يوثق به من جيرانها، فيزوجها، ويكون هو وليها في هذه الحال؛ لأن الناس لا بد لهم من التزويج، وإنما يعملون فيه بأحسن ما يمكن، وعلى هذا قال مالك -في المرأة الضعيفة الحال-: إنه يزوجها من تسند أمرها إليه؛ لأنها ممن تضعف عن السلطان، فأشبهت من لا سلطان بحضرتها، فرجعت في الجملة إلى أن المسلمين أولياؤها" (¬1). وإذا تحقق أن لأهل الحل والعقد وجماعة المركز الإسلامي حقًّا في التطليق فإنه يثبت به حق التزويج أيضًا عند المالكية؛ جاء في المعيار المعرب للونشريسي: "إذا لم يكن بالبلد قاضٍ زوَّج صالحو البلد من أراد التزويج. وسئل أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي (¬2) عن امرأة أرادت التزويج، وهي ثيب ولا حاكم بالبلد، وأولياؤها غيب، ترفع أمرها إلى فقهاء البلد فيأمروا من يزوجها، وكيف إن لم يكن بالبلد عالم ولا قاضٍ أترفع أمرها إلى عدول البلد في البكر والثيب؟ فأجاب: إذا لم يكن في البلد قاضٍ فيجتمع صالحو البلد ويأمرون بتزويجها. كل بلد لا سلطان فيه فعدول البلد وأهل العلم يقومون مقامه في إقامة الأحكام. . . وسئل أيضًا عن بلد لا قاضي فيه ولا سلطان أيجوز فعل عدوله في بيوعهم ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (3/ 76). (¬2) أبو جعفر، أحمد بن نصر الداودي، الأسدي، من أئمة المالكية بالمغرب، والمتسمين في العلم، المجيدين للتأليف، من مصنفاته: كتاب القاضي في شرح الموطأ، والواعي في الفقه، والنصيحة في شرح البخاري، توفي سنة 402 هـ ترتيب المدارك، للقاضي عياض، (7/ 102)، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (2/ 194).

وأشريتهم ونكاحهم؟ فأجاب: بأن العدول يقومون مقامَ القاضي والوالي في المكان الذي لا إمامَ فيه ولا قاضي، قال أبو عمران الفاسي: أحكام الجماعة الذين تمتد إليهم الأمور عند عدم السلطان نافذ منها كلُّ ما جرى على الصواب والسداد، في كل ما يجوز فيه حكم السلطان، وكذلك كل ما حكم في عمال المنازل من الصواب ينفذ" (¬1). وبهذا المعنى صدرت فتاوي متعددة في مذهب الشافعية، ومن ذلك: ما جاء في فتاوي ابن حجر الهيتمي الشافعي أنه سئل عن امرأة لا ولي لها ولَّتْ أمرها رجلًا فزوَّجَهَا فهل يصح نكاحها أم لا؟ فأجاب: "يصح نكاحها إذا ولَّتْ أمرها رجلًا؛ لأن يونس بن عبد الأعلى (¬2) روى عن الشافعي -رضي الله عنه- أنه قال: إذا كان في الرفقة امرأة لا ولي لها فولَّت أمرها رجلًا فزوَّجها جاز، واختاره الشيخ محيي الدين النووي -رحمه الله-، قال ابن مأمون -وكان رجلًا مشهورًا من جلة أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه-: سمعت المزني يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا كانت المرأة في جوار قوم ليس لها زوج، ولا هي في عدة من زوج، ولا لها ولي حاضر، فولَّتْ أمرها رجلًا من صالحي جيرانها فزوَّجها تزويجًا صحيحًا فالنكاح جائز. قال: المزني: فقلت للشافعي: فإنا نحفظ عنك في كتابك أن النكاح باطل، فقال ¬

_ (¬1) المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل أفريقية والأندلس والمغرب، لأبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي، خرجه جماعة من الفقهاء بإشراف د. محمد حجي، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، المملكة المغربية، 1401 هـ - 1981 م، (10/ 102 - 103). (¬2) أبو موسى، يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة بن حفص بن حيان، الإمام الكبير، الصدفي المصري الفقيه، المقرئ، وسمع الحديث من سفيان بن عيينة، وابن وهب، والشافعي وأخذ عنه الفقه، وروى عنه مسلم، والنسائي، وابن ماجة، وأبو عوانة، وانتهت إليه رياسة العلم بديار مصر، ولد سنة 170 هـ، وتوفي سنة 264 هـ. طبقات الفقهاء، للشيرازي، (ص 99)، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (2/ 170).

الشافعي: إن الأمر إذا ضاق اتسع. . . قال الإمام الأزرق (¬1): وحكم المواضع التي لا حاكم فيها، ولا يمتد إليها أمر الحكام من الرفقة فيما يظهر لي: جواز تولي أمرها إلى عدل" (¬2). وجاء أيضًا في فتاوي الرملي بأنه سئل عما لو حَكَّمَتِ امرأةٌ لا ولي لها إلا الحاكمُ عدلًا في تزويجها وليس بمجتهد، فهل يجوز له تزويجها؟ فأجاب بأنه لا يجوز تزويجه إيَّاها إلا عند فَقْدِ القاضي؛ إذ الضرورة تتقدَّرُ بقدرها، وهذا يفيد جواز تزويج العدل للمرأة التي لا ولي لها عند فَقْدِ القاضي (¬3). وقريب من هذا ما عند الحنابلة من فتاوي، ومنها: ما ذكره ابن قدامة -رحمه الله- في المرأة التي لا يُوجد لها "ولي، ولا ذو سلطان أنه يُزوِّجُهَا رجلٌ عدلٌ بإذنها، فإنه قال في دهقان قرية: يزوِّجُ من لا ولي لها إذا احتاط لها في المهر والكفء، إذا لم يكن في الرستاق قاضٍ" (¬4). وجاء في مجموع فتاوي ابن تيمية -رحمه الله- أنه سئل عن أعراب نازلين على البحر وأهل البادية، وليس عندهم ولا قريبًا منهم حاكم، فهل يصح عقد أئمة القرى لهم مطلقًا لمن لها ولي ولمن ليس لها ولي؟ فأجاب بأن من كان لها ولي من النسب، فهو وليها الذي يزوجها، وإن كانت معتقة فمعتقها هو الولي. ¬

_ (¬1) أبو الحسن، موفق الدين، ونور الدين، علي بن أبي بكر بن خليفة، اليماني الشافعي، عرف بابن الأزرق، من مصنفاته: نفائس الأحكام، ومختصر المهمات للإسنوي، والتحقيق الوافي بالإيضاح الشافي في نحو ثلاثة أسفار، توفي سنة 809 هـ. الضوء اللامع، للسخاوي، (5/ 200)، الأعلام، للزركلي، (4/ 266). (¬2) الفتاوي الفقهية الكبرى، لابن حجر الهيتمي، (4/ 88). (¬3) انظرها في: الجزء الثالث من حاشية الفتاوي، لابن حجر الهيتمي، (3/ 157). (¬4) المغني، لابن قدامة، (9/ 362).

"وأما من لا ولي لها فإن كان في القرية أو الحلة نائب حاكم زوَّجَهَا هو وأمير الأعراب ورئيس القرية، وإذا كان فيهم إمام مطاع زوَّجَهَا -أيضًا- بإذنها" (¬1). وأما المذهب الحنفي فمعلوم أنه لا يشترط الولي في الراجح المفتى به عندهم (¬2). إلا أن المشكلة لديهم في أمر الطلاق، أو الفسخ، وليس في المذهب الحنفي تأصيل لهذه النازلة. ولا شك أن ما أصَّله المالكية يفتح بابًا للسعة، وإعماله ليس بجديد على الأمة، فقد مَسَّتِ الحاجة بذلك في الديار الهندية في زمن الاستعمار البريطاني؛ حيث إن الاستعمار كان قد قضى على المحاكم الشرعية بتاتًا، ونصب قضاة من غير المسلمين لفصل قضايا المسلمين، حتّى في أحوالهم الشخصية، وكانت أغلبية سكان الهند من المسلمين على مذهب الحنفية، وبالرغم من ذلك فإن فقهاء الحنفية أفتوا في هذا الباب بمذهب المالكية. وقد ألف الشيخ أشرف التهانوي (¬3) كتابًا اسمه: الحيلة الناجزة للحليلة العاجزة، وفيه جرى على مذهب المالكية، ووافقه عليه جميع علماء الهند، وموافقتهم مثبتة في ذلك الكتاب (¬4). وبمثل ما عمل مشايخ الهند أفتى فضيلة شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق -رحمه الله-وهو حنفي المذهب- في معرض جوابه على سؤال وجهه إليه مدير معهد علوم الشريعة الإسلامية بجنوب أفريقيا حول مدى شرعية أن يتولى قاضٍ غيرُ مسلمٍ ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (32/ 35 - 34 - 35). (¬2) بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 247)، البحر الرائق، لابن نجيم، (3/ 117). (¬3) أشرف علي بن عبد الحق الحنفي التهانوي، عالم فقيه واعظ معروف بالفضل والأثر، كان مرجعًا في التربية والإرشاد، من مؤلفاته: بيان القرآن، وتحذير الإخوان من تزوير الشيطان، ولد سنة 1280 هـ وتوفي سنة 1362 هـ. نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر، لعبد الحي ابن فخر الدين الحسيني، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1420 هـ - 1999 م، (8/ 1187). (¬4) فسخ نكاح المسلمات من قبل المراكز الإسلامية في البلاد غير الإسلامية، لأحمد تقي العثماني، (ص 394 - 395).

القضاءَ في شئون الأحوال الشخصية للمسلمين، ومدى صلاحية حكمه في أي قضية ذات علاقة بالشريعة الإسلامية، فقال: "والمسلمون إذا كانوا أقلية في بلد غير إسلامي يرجعون إلى تعاليم الإسلام بتوجيه من علماء المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم وأحوالهم الشخصية، وكل ما يعرض لهم من أمور دينهم، وإذا عَيَّنَ الحاكمُ غيرُ المسلم قاضيًا غيرَ مسلمٍ أو محاميًا في شئون الأحوال الشخصية الإسلامية، أو من يقوم بإدارة أموالهم لم يجز هذا في قول عامة الفقهاء؛ حيث لا يصح أن يتقلد القضاءَ إلا المسلمُ المؤهَّلُ لذلك بالشروط المقررة لمثله. . . " إلى أن قال: "ومن ثَمَّ لا يحل للمسلمين التحاكمُ إلى قاضٍ غير مسلم إلا عند الضرورة، وعلى الأقلية الإسلامية في هذه الحال العملُ على الخلاص؛ إما باستقلال، أو بهجرة، أو بالتحاكم إلى محكمين مسلمين علماء ويرضاهم المتخاصمون، لا سيما في مسائل الحلال والحرام، ومنها: أمور الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ونسب وميراث، وهذا خير لدينهم ولدنياهم من التحاكم إلى قاضٍ غير مسلم عَيَّنَهُ الحاكم" (¬1). وفي مشروعية هذا التحكيم وإلزامية ما يصدر عنه من أحكام صدر قرار مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا الآتي: "إذا كان للقائم على المركز الإسلامي صفة الحكم سواء باتفاق الطرفين، أو لاصطلاح الجالية المسلمة عليه فإنه يعتد بما يجريه من التفريق بسبب الضرر، أو الشقاق، أو سوء العشرة أو لعدم النفقة أو الغيبة أو السجن أو الأسر، ونحوه بعد استيفاء الإجراءات القانونية التي تقيه من الوقوع تحت طائلة القانون". "وعلى المحكمين اتباع الخطوات الشرعية اللازمة في مثل هذه الحالات، كالاستماع إلى ¬

_ (¬1) بحوث وفتاوي إسلامية، لشيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق، (2/ 317 - 318).

طرفي الخصوم، وضرب أجل للغائب منهما، وتجنب التسرع في الحكم، وإقامة العدل بينهما ما أمكن" (¬1). واستند قرار المجمع إلى النصوص الشرعية التي أباحت الخلع، مثل: قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. ومثل: حديث امرأة ثابت بن قيس أنها جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، ما أنقم على ثابت في دِينٍ ولا خلق إلا أني أخاف الكفر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتردين عليه حديقته"؟ قالت: نعم فردَّتها عليه، وأمره ففارقها (¬2). وإلى ما قرره الفقهاء من أن الخلع إما أن يكون بين الزوجين بتراضيهما، وإما بأن يخلع المرأة من زوجها حاكمٌ، أو من يقوم مقامه وهو المراكز الإسلامية، وذلك في حالة التنازع بين الزوجين، ففي مغني المحتاج: "وإن أبى الفيئة والطلاق، فالأظهر الجديد أن القاضي إذا رفعته إليه يطلق عليه طلقةً نيابةً عنه؛ لأنه لا سبيل إلى دوام إضرارها، ولا إجباره على الفيئة؛ لأنها لا تدخل تحت الإجبار، والطلاق يقبل النيابة فناب الحاكم عنه، عند الامتناع كما يزوِّج عن العاضل، ويستوفي الحق من المماطل، فيقول: أوقعت على فلانة عن فلان طلقةً، كما حكي عن الإملاء، أو حكمتُ عليه في زوجته بطلقةٍ، فإن قال: أنت طالق ولم يقل عن فلان، لم يقع" (¬3). وعلى القائمين على الأمر في هذه المراكز أن يقدروا الأمر قدره، وأن يستوفوا الإجراءات التي يتعين استيفاؤها؛ لتصح أحكامهم، من الاستماع إلى كلا الطرفين، وعدم القضاء في أي واقعة بناء على سماع من طرف واحد فيها، وإبلاع أطراف النزاع ¬

_ (¬1) قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني للمجمع، (ص 77). (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب: الخلع وكيف الطلاق فيه، (5273) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا. (¬3) مغني المحتاج، للخطيب الشربيني، (3/ 351).

بموعد نظر الخصومة، وضرب أجل للغائب، ولمن أراد أن يُعِدَّ دفاعه، أو يستدعي شهوده، إلى غير ذلك من الإجراءات المعهودة في نظر الدعاوي أمام المحاكم الشرعية وتبقى نقطة أخيرة في تنظيم إجراءات تلك المراكز، وأسلوب نظر تلك القضايا، وهذا مما قد تتعدد فيه الاجتهادات وتتفاوت فيه التقديرات، ويختلف باختلاف الأماكن والبيئات. ولا بأس هنا أن نشير إلى بعض ما ذكره فقهاء المالكية من تحديدات وتقييدات في نقاط محددة: أولًا: عدد الجماعة الذين يُفَوَّضُ إليهم النظر في هذه القضايا: ذهب بعض المالكية كالشيخ محمد عليش -رحمه الله- إلى أن أقلَّ العدد ثلاثة. فقال: "وتعبير المصنف كغيره بجماعة يقتضي أن الواحد لا يكفي، وكذا الاثنين" (¬1). إلا أن الدردير في شرحه الكبير قال: "وأراد بجماعة المسلمين اثنين عدلين فأكثر" (¬2). وعليه فإن الأحوط ألا يقلَّ العدد عن ثلاثة خروجًا من الخلاف، وكما هو ظاهرُ لفظِ الجماعة، ولأن النقص في العدالة يُجْبَرُ بتكثير العدد، كما أن الثقة بالعدد الأكثر أكبر، واستبداد الواحد بالقضاء ربما أفضى إلى شيء من التهمة، ولا شك أن أعمال المحاكم الشرعية المعاصرة والوضعية معًا فيها هذه اللجنة الثلاثية. صفات المحكمين: من بداهة الأمر أن يكون هؤلاء المحكمون من أصحاب الكفاية والدراية في المسائل الشرعية والفقهية خاصة، فلو كانت هذه اللجنة تحكم في أمور النكاح والطلاق ونحوهما فلا غنى بها أن يكون القائمون عليها والمشاركون في عضويتها من أهل العلم بأسباب المفاسخات، والطرائق الشرعية للإثبات، وما يرتبط بذلك من إجراءات، ¬

_ (¬1) منح الجليل، لعليش، (4/ 318). (¬2) الشرح الكبير، للدردير، (2/ 153).

الترجيح

وعند النقص أو الخلل فإن عليهم أن يشاوروا العلماء. ولا شك أن وسائل الاتصالات اليوم قد تعددت وطرائق التواصل المباشر قد تنوعت بما يفيد الأقليات، ويعينها في حَلِّ النوازل والمشكلات وذلك بالتواصل المباشر مع العلماء حول العالم. وقد نص المجمع الفقهي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته المنعقدة بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، من 1 - 6 ذي القعدة 1415 هـ بشأن التحكيم ما يلي: "أولًا: التحكيم اتفاق طرفي خصومة معينة على تولية من يفصل في منازعة بينهما بحكم ملزم يطبق الشريعة الإسلامية، وهو مشروع سواء أكان بين الأفراد أو في مجال المنازعات الدولية. ثانيًا: يشترط في الحكم بحسب الأصل توافر شروط القضاء" (¬1). حجية الحكم عند صدوره: يقع الحكم حجةً نافذةً إذا صدر بإجماع أعضاء اللجنة، وهو ظاهرُ عباراتِ المالكية، وقياس قولهم في الحَكَمينِ، كما جاء في المدونة: "قلت: فلو أنهما اختلفا فطلَّق أحدُهما ولم يُطَلِّقِ الآخرُ؟ قال: إِذًا لا يكون هناك فراق؛ لأن إلى كل واحد منهما ما إلى صاحبه باجتماعهما عليه" (¬2). وقال الباجي: "ولو حكَّما جماعةً فاتفقوا على حكم نفَّذوه وقضوا به جاز، قاله ابن كنانة في المجموعة، ووجه ذلك أنهما إذا رضيا بحكمِ رجلينِ، أو رجال فلا يلزمُهُمَا حكم بعضهم دون بعض" (¬3). الترجيح: ¬

_ (¬1) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي، دار ابن القيم، دمشق، 1418 هـ (ص 207)، قرار رقم، (91)، ومجلة المجمع، العدد التاسع، (4/ 5). (¬2) المدونة، لمالك رواية سحنون، (2/ 268). (¬3) المنتقى، لأبي الوليد الباجي، (7/ 217).

يترجح قول من قال بأن الطلاق المدني لا يرتب بمفرده حصول الطلاق شرعًا، وأن على المرأة المسلمة أن ترفع أمرها في بلاد الأقليات إلى المراكز الإسلامية لينظروا قضيتها، ويحققوا في إمكان إيقاع الطلاق شرعًا، وما يترتب عليه من آثار، وقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" (¬1). وأخيرًا فإن مسلمي الأقليات ينبغي لهم أن ينصتوا إلى هذه النصائح المهمة في هذا الباب: أولًا: يجب على المسلم والمسلمة أن يعقدا زواجهما وفقَ الأحكام الشرعية ما أمكن ذلك؛ لأنه وإن كان عقد الزواج وفقَ القوانين الأوربية يُعْتَبَرُ جائزًا من حيث إنه عقد، إذا جرى ضمن الضوابط الشرعية، إلا أن الزوجين بعد ذلك يخضعانِ إلى هذه القوانين في كل ما يتعلق بآثار الزواج، ومنها: الطلاق والإرث، ولا يجوز للمسلم أن يتحاكم إلى غير شرع الله برضاه. وبناءً على ذلك فإن من واجب المسلم أن يعقد زواجه في دولته المسلمة طالما كان ذلك ممكنًا ما دام قانون دولته مستمَدًّا من الأحكام الشرعية ولو كانت فيه بعض المخالفات. ثانيًا: المسلم والمسلمة من أصحاب الجنسية الأوروبية، سواء كانوا من أهل البلاد الأصليين فأسلموا، أو من المسلمين الذين تجنسوا بجنسية أوروبية، فليس أمامهم إلا أن يعقدوا زواجهم مدنيًّا حسب قوانين بلادهم. ثم يجرى عقد زواج شرعي بعد العقد المدني أو قبله، لكن هذا العقد الشرعي ليس له أي مفعول أمام القضاء الأوروبي بالنسبة لآثار الزواج، وإن كان يعطي الزوجين اطمئنانًا أكثر إلى مشروعية المعاشرة الزوجية". وإن كانا غير ملزمين بذلك؛ لأنهما لا يحملان الجنسية، بل هما مقيمان هناك، ويتمتعان بجنسية دولة إسلامية، فقد يلحقهما إثم من الإقدام على عقد الزواج وفقَ قانون أوروبي. وفي هذه الحالة نكون أمام واقعة جديدة، وهي: ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

ثالثًا: عندما يعقد زوجان مسلمان زواجهما وفقَ قانون وضعي غير مسلم، يجب عليهما أن يتفقا على إخضاع هذا الزواج بآثاره للأحكام الشرعية ما أمكنهما ذلك. ومن الواجب أن يكون مثل هذا الاتفاق رسميًّا إذا سمح القانون بذلك، وإلا يكفي أن يكون خطيًّا في هذه الحالة، وحين يقع خلاف بينهما يختاران حَكَمًا من العلماء، أو من المسلمين القادرين على القيام بهذه المهمة، وهذا الحكم يحاول الإصلاح ما أمكن، فإن تعذَّرَ عليه ذلك حَكَمَ بالتفريق بينهما شرعًا، ويصبح تنفيذُ هذا الحكم الشرعي وفقَ الإجراءات القضائية للقوانين الأوروبية أمرًا مشروعًا، وهو السبيل الوحيد لتنفيذ الحكم الشرعي إذا أراده الطرفان. وأخيرًا فقد أباح الله تعالى للمرأة أن تبعث حكمًا من أهلها، ويبعث الرجل حكمًا من أهله، أو من غير أهلهِمَا على ما صححه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، ولتأخذ برأي من يَعْتَبِرُ أن للحكمين التفريقَ إذا اجتمعا عليه، وهم جمع من فقهاء المالكية مع الإمام مالك، وهو أحد قولي الإمام أحمد، ورجحه ابن تيمية، وقبل ذلك هو قول جمع من الصحابة -رضي الله عنهم- (¬1). فإذا حكما بالتفريق جازَ لهما عندئذٍ أن يعْتَبِرَا أن الفراق قد وقع حقيقةً، وجاز لها أن تنكح زوجًا غيره بعد انتهاء عدتها (¬2). والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي، (5/ 174 - 179)، مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (32/ 25 - 26)، شرح السنة، لحسين ابن مسعود البغوي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، ومحمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، دمشق، ط 2، 1403 هـ - 1983 م، (9/ 190 - 191). (¬2) من أحكام الأحوال الشخصية للأقليات المسلمة، د. خالد عبد القادر، ضمن بحوث مؤتمر الأقليات المسلمة، ماليزيا 2009 م.

الفصل الخامس من نوازل السياسة الشرعية

الفْصَلُ الخَامِسُ من نوازل السياسة الشرعية المبحث الأول: حكم التجنس بجنسية دولة غير مسلمة. المبحث الثاني: حكم المشاركة السياسية في الدول غير المسلمة.

المبحث الأول حكم التجنس بجنسية دولة غير مسلمة

المبحث الأول حكم التجنس بجنسية دولة غير مسلمة لمحة عن نشأة فكرة الجنسية وتطورها: عاش البشر منذ القدم على هيئة جماعات، تبدأ من الأسرة التي تتكون من الأب وزوجه وأبنائه، وباجتماع الأسر المتحدة في قرابة الدم تتكون القبيلة، ومن اجتماع القبائل واتحادها نشأت الأمة. وقديمًا كان انتماء الشخص إلى قبيلته وولاؤه كُلُّه لها، فإليها ينتسب، وفيها يندمج، وفي كيانها تذوب شخصيته، وهو معها ظالمةً أو مظلومةً. ويمثل هذا الولاءَ قولُ الشاعر العربي قديمًا: وَمَا أَنَا إِلَّا مِنْ غُزَيَّةَ إِنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غُزَيَّةُ أَرْشُدِ وظل الحال على ذلك من التعصب المقيت، والتحزب البغيض، والتفاخر بالأحساب والعصبية الجاهلية إلى أن أشرقت شمس الرسالة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام والتحية، فغدت الرابطة بين المسلمين إنما هي بالانتساب لهذا الدين مهما تباعدت الأقطار واختلفت الألسن، قال -سبحانه وتعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" (¬1). وجاءت النصوص متواترةً تُقَرِّرُ هذا الأصلَ الأصيلَ والركنَ الركينَ، وتنهى أشدَّ النهي عن كل تعصب وحمية جاهلية، حتى رَسَخَ هذا النظام القويم في النفوس واستقرَّ؛ ولذا قال العربي المسلمُ بعد تبرُّئِهِ من العصبية الجاهلية: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب: لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يُسلمه، (2442)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، (2580) من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.

المطلب الأول: تعريف الجنسية لغة وقانونا

أَبِي الإِسْلَامُ لَا أَبَ لِي سِوَاهُ ... إِذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيْمِ فصار الدين -بحمد الله- هو الرابط الذي يربط بين الأفراد والجماعات المنتمية إليه، وهو العروة الوثقى التي يلجأ إليها الخلق، والقاسم المشترك بين المسلمين في شتى بقاع الأرض، ويتعين أن يكون الولاء والعَدَاء، والحب والبغض عليه وحده، لا على العِرق أو الجنس؛ فوطن الإسلام هو العالم أجمع، والأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين دون من سواهم. فالأرض أو المادة لا يكوِّنانِ الجماعة الواحدة، وإنما رباط العقيدة وأُخُوَّةُ الإسلام هما ما يجمع بين الناس من مختلف الألوان والأجناس، ومن أقاصي البقاع ودانيها، ويربطان فيما بينهم بنوع من الوحدة أمتنَ وأنبلَ من وحدة اللون والدم والتضاريس. وعليه فإن انتساب الفرد إلى ما هو أكبرُ أمرٌ قديم في تاريخ الإنسانِ إلَّا أن الناظر في تاريخ الأمم وأحوالِ البشر يظهر له أن التجنس باعتبارِهِ انتماءً من الشخص إلى دولة معينة إنما هو أمر حادثٌ لم يظهر إلَّا في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي لظروف جَدَّتْ على البشرية ما كانت موجودة فيما مضى من عمرها، حيث نظمت لأول مرة بمقتضى نصٍّ تشريعيٍّ بشريٍّ تمثَّل في التقنين المدني الفرنسي الصادر عام 1804 م (¬1). وعليه، فإن انتماء الشخص إلى دولة ما بالجنسية إنما هو اصطلاح قانوني حديث، يعود إلى القرن التاسع عشر الميلادي. المطلب الأول: تعريف الجنسية لغةً وقانونًا: أولًا: مفهوم الجنسية والتجنس لغة: الجنسية مصدر صناعي مأخوذ من الجنس، وهو الضرب من كل شيء، قال ابن فارس -رحمه الله-: ¬

_ (¬1) أحكام القانون الدولي الخاص في التشريع المغريى، دار توبقال للتوزيع والنشر، الرباط، ط 4، 1992 م، (ص 29).

ثانيا: مفهوم الجنسية والتجنس قانونا

الجنس "الضرب من الشيء. قال الخليل: كل ضرب جنس، وهو من الناس والطير والأشياء جملة" (¬1). فالناس جنس، والإبل جنس، والبقر جنس. والتجنس والتجنيس: تَفَعُّلٌ وتفعيلٌ للجنس، أي: طلب له. ويقال: هذا يجانس هذا، أي: يشاكله. وعليه، فإن كل طائفة من الناس يتشاكلون في أمر ما فَهُمْ جنسٌ فيه، كجنس العرب، وجنس العجم، وجنس المؤمنين، وجنس المشركين، وجنس العلماء، وجنس العسكر. . . وهكذا، وعلى هذا المعنى مضى علماء اللغة (¬2). وقد جاء الجنس بمعنى القوم، ففي الأحكام السلطانية: "فالذي يجمعهم عند فقدِ النسب أمران: إمَّا أجناس وإمَّا بلاد، فالمتميزون بالأجناس كالترك، والهند، ثم يتميَّزَ الترك أجناسًا والهند أجناسًا" (¬3). وقد عرف بعض اللغويين المعاصرين الجنسية بأنها: الصفة التي تلحق بالشخص من جهة انتسابه لشعب أو أمة، مثل: فلان مصري أو عربي (¬4). ثانيًا: مفهوم الجنسية والتجنس قانونًا: ذهب بعض القانونيين إلى تعريفها قانونًا بأنها: رابطة قانونية وسياسية، تفيد اندماج الفرد في عنصر السكان بوصفه من العناصر المكونة للدولة (¬5). ¬

_ (¬1) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، (1/ 486)، كتاب العين، للخليل، (6/ 55)، المصباح المنير، للفيومي، (1/ 111). (¬2) لسان العرب، لابن منظور، (2/ 383)، القاموس المحيط، للفيروزآبادي، (2/ 203). (¬3) الأحكام السلطانية، للماوردي، (ص 269). (¬4) المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية (1/ 140). (¬5) أصول القانون الدولي الخاص، د. محمد كمال فهمي، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية، ط 2، 1992 م، (ص 71).

أو هي: رابطة بين الفرد والدولة، تحدد مواطني الدولة الذين يشكلون أفرادها من الوطنيين المتمتعين بجنسيتها، والذين يكونون وحدة اجتماعية لها مميزاتها الطبيعية والبشرية (¬1). والجنسية ترتبط بما ذهب إليه "روسو" من أن إنشاء الدولة يقوم على عقد بين الأفراد وبينها (¬2)، وهي النظرية المعروفة بالعقد الاجتماعي، فهي علاقة تعاقدية بين الدولة والفرد من خلال رابطة قانونية وسياسية، فالقانون ينظم أمورها وعلاقاتها وشروطها، ويحدد ما يترتب على وجودها أو فقدها، وهي سياسية؛ لقيامها على اعتبارات متصلة بالدولة كوحدة سياسية يتحدد على أساسها عنصر الشعب، وتتولى الدولة إنشاءها وتنظيم أحكامها (¬3). وعرفتها محكمة العدل الدولية بأنها: رابطة قانونية قائمة أساسًا على رابطة اجتماعية وتضامن فعَّال في المعيشة والمصالح والمشاعر مع التلازم بين الحقوق والواجبات (¬4). وأما التجنس: فهو طلب انتساب إنسان افى جنسية دولة من الدول، وموافقتها على قبوله في عداد رعاياها، مع خضوعه لقوانين تلك الدولة التي تجَنَّسَ بجنسيتها، وقبوله لها طوعًا، والتزام الدفاع عنها في حالة الحرب (¬5). وعليه، فإن التجنس يقوم على أساس الحماية من جانب الدولة، والخضوع التام من جانب الفرد لجميع قوانين الدولة التي انتسب إليها هذا المتجنس. ويستند اكتساب الجنسية إلى استقرار الأجنبي في دولة غير دولته، واندماجه في ¬

_ (¬1) الجنسية في قوانين دول المغرب العربي الكبير، معهد البحوث والدراسات العربية، (ص 130). (¬2) القانون الدولي الخاص، أحمد مسلم، مكتبة النهضة العربية، ط 1، 1956 م، (ص 82). (¬3) الجنسية في التشريعات العربية المقارنة، فؤاد عبد المنعم رياض، معهد البحوث والدراسات العربية، 1975 م، (1/ 5). (¬4) التنظيمات الدولية، لبول روتييه، دار المعرفة، (ص 146). (¬5) شرح أحكام الجنسية في القانون الأردني، جابر إبراهيم الراوي، دار مجدلاوي، عمان، ط 1، 1993 م، (ص 23).

المطلب الثاني: تصوير النازلة وتكييفها

مجتمع تلك الدولة (¬1). المطلب الثاني: تصوير النازلة وتكييفها: التجنس بجنسية دولة غير مسلمة، يعني: أن يَطلبَ مسلم إلى دولة لا تحكم بالإسلام، وأكثر أهلها غير مسلمين أن تقبل به في عداد رعاياها، وعن هذا القبول تنشأ من الحقوق والواجبات ما يلزم كلا طرفي هذا العقد المستحدث. إن أهم أثر يترتب على التجنس هو كسب صفة الوطني، والتي تستوجب التمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها الوطني الأصلي، والالتزام بكافة الواجبات التي يلتزم بها، ولعل من أهم هذه الحقوق والواجبات ما يلي: أولًا: الحقوق: يكون المتجنس مساويًا في الحقوق للوطني في الجملة، وإن اسْتُثْنِيَتْ بعض الأمور كالتقدم لوظائفَ حَسَّاسةٍ، ومن بين هذه الحقوق: 1 - الحصول على حق المواطنة. 2 - التمتع بالإقامة الدائمة. 3 - تكفل الدولة الحماية الدبلوماسية للمنتسب إليها، وتتولى القنصليات رعاية أحواله الشخصية خارج البلد. 4 - التمتع بالحقوق السياسية كحق الانتخاب، وبممارسة الحريات الأساسية. ثانيًا: الواجبات، ومن أهمها: 1 - خضوع المتجنس لقوانين الدولة والاحتكام إليها. ¬

_ (¬1) الجنسية والتجنس وأحكامها في الفقه الإسلامي، د. سميح عواد الحسن، دار النوادر، دمشق، ط 1، 1429 هـ - 2008 م، (ص 236 - 237).

2 - المشاركة في جيشها والتزام الدفاع عنها في حالة الحرب. 3 - تمثيل الدولة خارجيًّا. 4 - مشاركته في بناء صرح الدولة (¬1). والتجنس مسألة حادثة، ونازلة لم تكن على عهد السلف والأئمة؛ لأنه نادرًا ما كان يحتاج المسلم للإقامة الدائمة في غير ديار المسلمين؛ لوجود الخلافة الإسلامية التي يأوي إليها المسلمُ، ويتفيأُ ظلالَهَا، ولانعدام الحدود بين الدول الإسلامية، فأينما تيمم المسلم في بلاد الإسلام فهو في بلاده لا يُحِسُّ بغربة ولا وحشة، وكانت العزة الإسلامية التي يتمتع بها المسلم تمنعه من هذا، فهو ليس بحاجة للإقامة في بلاد الكفر، فضلًا عن التجنس بجنسياتها، ذلك أن التجنس بجنسية الدول الكافرة مُوَطِّئٌ للإقامة في بلاد الكفر، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على خلل أو ضعف حلَّ بالمسلمين، والخلل العظيم في هويتهم؛ إذ المهزوم والضعيف هو الذي يريد أن يُشَابِهَ المنتصرَ والقوي فيقتدي به. ومَنْ نظر في التاريخ وَجَدَ أن هذا أمر مطَّرد، فوقتَ أن كانت الدولة للمسلمين كان المشركون حريصين على تعلم لغتهم، والعيش في بلادهم؛ ليتمتعوا بالأمن والعدل ورغد العيش الذي كانت بلادهم قفرًا منه، وبلاد الأندلس شاهدةٌ! ثم إنه بعد سقوط الخلافة الإسلامية وانتشار الغزو الصليبي لبلاد الإسلام، أو ما سُمي -زورًا- بالاستعمار، فَتَحَتْ دولُ الكفار أوائل القرن الميلادي المنصرم بابَ التجنس لمن يرغب من المسلمين المقيمين، وفقًا لشروطهم! ومسألة التجنس من حيث الحكم ترتبط ارتباطًا أوليًّا بمسألة الإقامة بتلك البلاد، وهي مسألة بحثها العلماء قديمًا. ¬

_ (¬1) الأحكام السياسية للأقليات المسلمة، لسليمان محمد توبولياك، (ص 78 - 79)، الهجرة إلى بلاد غير المسلمين، لعماد عامر، (ص 276 - 277).

ولا شك أن التجنس إقامةٌ وزيادةٌ، بل من شروطه الإقامةُ لمدة معلومةٍ، ويمكن أن يقال: إن الإقامة على ضربين: مؤقتة، ودائمة، والدائمة تعرف بالاستيطان عند الفقهاء الأقدمين، وبالجنسية في عرف علماء القانون. وإقامة الأقلية المسلمة في ديار الأكثرية غير المسلمة، قد ذهب المالكية والظاهرية (¬1) إلى حرمتها في دار غير المسلمين، سواء خشي الفتنة أم لم يخشها، وذهب الجمهور (¬2) إلى الإباحة لن قدر على إظهار دينه، وأمن الفتنة، بل ذهب الشافعية إلى أنه إن قدر على إظهار دينه صارت البلد به دارَ إسلام، ونقل ابن حجر عن الماوردي قوله: "إذا قدر المسلم على إظهار دينه في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامةُ فيها أفضلُ من الرحلة منها؛ لما يرتجى من دخول غيره في الإسلام" (¬3). وقد أصدر مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا قرارًا يتبنى فيه التأكيد على جواز ومشروعية، بل ووجوب الإقامة في بعض الأحوال، وجاء فيه: "الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإن مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بولاية سوكوتو بدولة نيجيريا في الفترة من 15 - 19 جمادى الآخرة 1426 هـ - الموافق 21 - 25 يوليو 2005 م. بعد اطلاعه على الأبحاث الفقهية المقدمة من السادة أعضاء المجمع وخبرائه بخصوص موضوع: "الإقامة خارج ديار الإسلام"، والمناقشات المستفيضة التي دارت حوله. قرر المجمع ما يلي: - الأصل أن يقيم المسلم داخل ديار الإسلام؛ تجنبًا للفتنة في الدين، وتحقيقًا ¬

_ (¬1) المحلى، لابن حزم، (11/ 200)، المقدمات الممهدات، لابن رشد، (2/ 153). (¬2) المبسوط، للسرخسي، (10/ 6)، روضة الطالبين، للنووي، (10/ 282)، المغني، لابن قدامة، (13/ 151). (¬3) فتح الباري، لابن حجر، (7/ 229).

للتناصر بين المؤمنين، وأنه لا تحل له مفارقتها إلا بنية حسنة؛ كطلب العلم، أو الفرار بالدين، أو الدعوة إلى الله -عز وجل-، أو السعي للرزق ونحوه، مع استصحاب قصدِ العودة متى امتهد له سبيل إلى ذلك، قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55، 56]. - تفاوت حكم الإقامة خارج ديار الإسلام بالنسبة للجاليات الإسلامية بحسب الأحوال: فتشرع لمن كان قادرًا على إظهار دينه، وآمنًا من أن يفتن هو أو من يعول في إسلامه، مع مراعاة ما جاء في الفقرة الأولى من هذا القرار، قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100]، وقال تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56]، وما رواه البخاري من حديث عائشة -رضي الله عنه-: "فالمؤمن يعبد ربه حيث شاء" (¬1)؛ لإقرار النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - العباسَ ونعيمَ النحام -رضي الله عنهما- في مقامهما في مكة، وكانت حينئذ دارَ شرك. كما في السنن الكبرى للبيهقي (¬2). - وتجب في حق من تعينت إقامته لتعليم الإسلام، ورعاية أبنائه، ودفع شبهات خصومه. - وتحرم في حق من غلب على ظنه أن يُفْتَنَ هو أو من يعول في دينه، وحيل بينه وبين إقامة شعائر رَبِّهِ ما دام قادرًا على العودة إلى ديار الإسلام آمنًا فيها على نفسه، ولم يكن من المستضعفين الذين استثناهم الله في كتابه؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب: شهد الفتح، (4312) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) السنن الكبرى، للبيهقي، (9/ 15).

فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97 - 99] وعلى هذه الحالة المذكورة يُحْمَلُ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" (¬1). - على مسلمي البلاد غير الإسلامية التشبث بالإقامة في تلك البلاد، وإظهار ما يمكنهم إظهارُه من شعائر الإسلام، والصبر على ما يُصيبهم من بلاءٍ، باعتبارهم النواةَ الأساسيةَ الأقدرَ على توطين الإسلام في هذه المجتمعات، ويطبق هذا الحكم من باب أولى على من احتُلَتْ ديارهم من المسلمين فإنه يتعين في حقهم الثباتُ؛ دفعًا للصائل، ودرءًا للحرابة، وكفًّا للعدوان. - قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن أعرابيًّا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الهجرة؟ فقال: "ويحك إن شأن الهجرة شديد، فهل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فهل تؤدي صدقتها؟ قال: نعم، قال: فاعمل من وراء البحار؛ فإن الله -عز وجل- لن يَتِرَكَ من عملك شيئًا" (¬2). - يوصي المجمعُ مَن أقام مِن المسلمين خارج ديار الإسلام بتبني منهج الاعتدال والوسطية، وفتح باب الحوار الهادئ مع القائمين على الأمر في هذه المجتمعات لحلِّ ما ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو داود، كتاب الجهاد، باب: النهي عن قتل مَن اعتصم بالسجود، والترمذي، كتاب السير، باب: ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين، (1604)، والنسائي، كتاب القسامة، باب: القود بغير حديدة، (4780) من حديث جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع وزياداته، برقم، (1461). (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب: زكاة الإبل، (1452)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام، (1865) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعًا.

المطلب الثالث: أحكام التجنس

يتعرضون له من إشكالات. - كما يوصيهم بالعمل الجاد لإقامة المؤسسات الإسلامية في مختلف المجالات، ودعم القائم منها، وتقليد مسئوليتها لأهل الكفاية والديانة؛ للحفاظ على هويتهم الإسلامية ووحدتهم الدينية. - كما يوصي المجمع المخلصين من دول العالم الإسلامي برعاية الجاليات الإسلامية، والعمل على تهيئة المناخ المناسب لعودة المهاجرين إلى أوطانهم، والعقول المهاجرة على وجه الخصوص إلى بلادها، والحرص على إيقاف نزيف الهجرة، وذلك عن طريق إنشاء المؤسسات الاقتصادية، والمراكز العلمية، والمحاضن الاجتماعية، وتوفير الضمانات التامة لهم؛ حتى يسهموا في تقدم أمتهم، ونهضة شعوبهم. - كما يوصي المجمعُ الدولَ الإسلامية بعقد اتفاقات مع دول المهجر ليهيئوا الأمن لجالياتهم، إلى أن يعودوا إلى أوطانهم" (¬1). المطلب الثالث: أحكام التجنس: بناءً على ما سبق فإن التجنس فرع عن الإقامة، ويعرض لحكمه ما يعرض للإقامة من عوارض التحريم: عند الخوف على نفسه أو على أولاده من الخروج من الدين، إذا وجد بلدًا لا فتنة فيه. أو الكراهة: إذا كان لا يخاف الكفر، إلا أنه يشاهد المناكر ولا ينكرها، ويجد بلدًا أقلَّ مناكِرَ. أو الجواز: عند التساوي. أو الوجوب: عندما توجد مصلحة قوية للإسلام والمسلمين في بقائه، أو تحصل مفسدة في انتقاله. ¬

_ (¬1) قرارات وتوصيات المؤتمر الثالث لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، (ص 61 - 63).

الأقوال وقائلوها

أو الاستحباب: عندما يقوم بالدعوة إلى الدين مع وجود غيره من الدعاة. وهي أمور تحتاج إلى تحقيق المناط والنظر في المآلات (¬1). ولا شك أن هناك أسبابًا أخرى لدوران حكم التجنس بين الأحكام الخمسة، وهي أسباب تتعلق بالمسلم نفسه، فكثيرًا ما تقتضي مصلحة أحد المسلمين أن يرحل عن ديار الإسلام إلى غيرها، إما طلبًا للعمل، أو للعلم، أو العلاج، وغير ذلك، فيريد أن يوثق إقامته في تلك الديار، ويعمق مصلحته بها فيطلب التجنس. أو قد تُجْبِرُهُ الظروف الصعبة إلى أن يحتميَ بدار من دور الكفر، ويلتجئَ إليها هربًا من ظلم أو اضطهاد، وتستلزم إقامته في تلك الديار أن يكون حاملًا لجنسيتها التي تجسد انتماءه إلى تلك الوحدة الاجتماعية التي تمثلها تلك الدولة على حد قولهم. أو قد يكون الفرد المسلم في دولة كافرة ينتسب إليها وإن لم يكن من أهلها بالأصالة، بمعنى: أن يكون قد ولد ونشأ فيها هو وأجداده منذ عقود عدة. أو قد يكون ممن أسلموا من أهلها المخالفين في أصل الدين. وعليه، فيتجه تقسيم التجنس إلى قسمين: تجنسٌّ اضطراريٌّ، وآخرُ اختياريٌّ. الأقوال وقائلوها: التجنس بجنسية الدول غير المسلمة مسألة حادثة، وقد اختلف فيها فقهاء العصر على أربعة أقوال: القول الأول: قول أكثر الفقهاء المعاصرين، وهو المنع. وممن قال به الشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ علي محفوظ، والشيخ محمد عبد الباقي الزرقاني، والشيخ إدريس الشريف محفوظ -مفتي لبنان- والشيخ يوسف ¬

_ (¬1) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، لابن بيه، (ص 284 - 285).

القول الثاني

الدجوي، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والعلامة عبد الحميد بن باديس، والعلامة البشير الإبراهيمي، وكل أعضاء جمعية العلماء المسلمين بالجزائر، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ محمد السبيل، والدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، والدكتور البوطي، وآخرون يطول سردهم (¬1). القول الثاني: قول بعض فقهاء العصر، وهو الجواز، وممن قال به: الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور وهبة الزحيلي، والشيخ الشاذلي النيفر، والشيخ فيصل مولوي، وغيرهم؛ بشرط المحافظة على الدين، والتمسك به، وعدم الذوبان في المجتمع الكافر (¬2). القول الثالث: جواز التجنس عند الضرورة، كما لو كان مضطهدًا في دينه ببلده المسلم، ولم يقبله أحد سوى الحكومة الكافرة. وهو رأي بعض أعضاء مجمع الفقه الإسلامي، وهم الحاج عبد الرحيم باه، والشيخ محمد بن عبد اللطيف آل سعد، والشيخ محمد المختار السلامي مفتي تونس، وغيرهم (¬3). ¬

_ (¬1) فتاوي محمد رشيد رضا، دار الكتاب الجديد، ط 1، 1390 هـ، (5/ 1748)، حكم التجنس بجنسية دولة غير إسلامية، لمحمد السبيل، مجلة المجمع الفقهي، (ص 35 - 53)، ابن باديس حياته وآثاره، جمع ودراسة د. عمار طالبي، دار المغرب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1983 م، (3/ 308 - 309)، قضايا فقهية معاصرة (القسم الأول)، لمحمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الفارابي، دمشق، ط 5، 1414 هـ - 1994 م، (ص 201)، فتاوي اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، جمع وترتيب أحمد بن عبد الرزاق الدويش، دار المؤيد، (23/ 494 - 495)، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، رابطة العالم الإسلامي، العدد الرابع، السنة الثانية، 1410 هـ، (ص 150 - 154)، تبديل الجنسية ردة وخيانة، لمحمد بن عبد الكريم الجزائري، ط 2، 1993 م، (ص 196)، فتاوي الشيخ علي الطنطاوي، جمع وترتيب مجاهد ديرانية، دار المنارة، جدة، ط 3، (ص 163)، الأحكام السياسية للأقليات الإسلامية، سليمان توبولياك، (ص 82)، الهجرة إلى بلاد غير المسلمين، عماد عامر، (ص 278)، مجلة البحوث الإسلامية، العدد 32 - 1412 هـ. (¬2) قضايا فقهية معاصرة، لمحمد العثماني، (ص 329)، فقه الأقليات المسلمة، لخالد عبد القادر، (ص 607 - 608)، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة الثالثة، العدد الثالث 1987 م. (¬3) مجلة المجمع الفقهي الإسلامي 1987 م، (ص 195)، العدد الثالث، (2/ 1103 - 1113، 1119، 1152، 1157).

القول الرابع

القول الرابع: التفصيل في المسألة؛ فالناس في طلب الجنسية على ثلاثة أقسام: الأول: التجنس بجنسية الدولة الكافرة من غير مسوغ شرعي، بل تفضيلًا للدولة الكافرة وإعجابًا بها وبشعبها وحكمها، وهذه ردة عن الإسلام عياذًا بالله. الثاني: التجنس للأقليات المسلمة التي هي من أصل سكان تلك البلاد؛ فهو مشروع، وعليهم نشر الإسلام في بلادهم، وتبييت النية للهجرة، لو قامت دولة الإسلام، واحتاجت إليهم. الثالث: تجنس الأقليات المسلمة التي لم تكن من أهل البلد وأقامت به، ويعتريه الحالات التالية: أ - أن يترك المسلم بلده بسبب الاضطرار والاضطهاد، ويلجأ لهذه الدولة، فهو جائز بشرط الاضطرار الحقيقي للجوء، وأن يتحقق الأمن للمسلم وأهله في بلاد الكفر، وأن يستطيع إقامة دينه هناك، وأن ينوي الرجوع لبلاد الإسلام متى تيسر ذلك، وأن ينكر المنكر ولو بقلبه، مع عدم الذوبان في مجتمعات الكفر. ب - أن يترك المسلم بلده قاصدًا بلاد الكفر لأجل القوت؛ فلو بقي في بلاده لهلك هو وأهله، فله أن يتجنس إذا لم يستطع البقاء بغير جنسيته. جـ - التجنس لمصلحة الإسلام والمسلمين ونشر الدعوة، وهو جائز. د - التجنس لمجرد أغراض دنيوية بلا ضرورة، ولا مصلحة للإسلام وأهله، وهو محرم، وليس بردَّةٍ أو كفر (¬1). ¬

_ (¬1) وهذا التفصيل رجحته عدة رسائل جامعية، منها: الجنسية والتجنس، لسميح عواد الحسن، (ص 271 - 278)، الأحكام السياسية للأقليات المسلمة، لسليمان توبولياك، (ص 79) وما بعدها، الأقليات الإسلامية وما يتعلق بها من أحكام في العبادة والإمارة والجهاد، لمحمد درويش سلامة، ضمن رسائل كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة أم القرى، الأحكام الفقهية لما يعرض للمسلم المقيم في دار الكفر، د. يوسف الجبر، (ص 597)، الأحكام الشرعية للنوازل السياسية، د. عطية عدلان، دار اليسر، القاهرة، ط 1، 1431 هـ - 2010 م، (2/ 727) وما بعدها.

الأدلة والمناقشات

الأدلة والمناقشات: أدلة القول الأول: استدل القائلون بالمنع على مذهبهم بالقرآن، والسنة، ومقاصد الشريعة، والمعقول: أولًا: القرآن الكريم: 1 - قال تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]. 2 - وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 23 - 24]. وجه الدلالة: في هاتين الآيتين النهي عن اتخاذ ذوي القربى أولياءَ إن كانوا كفارًا، فكيف باتخاذ الأباعد أولياءَ وأصحابًا، وإظهار الموافقة لما هم عليهم والرضا به؟! وعليه فإن الحصول على الجنسية وسيلة إلى موالاة الكفار، وموافقتهم على دينهم الباطل، وهو محرم (¬1). 3 - وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]. 4 - وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ ¬

_ (¬1) فتاوي اللجنة الدائمة، (2/ 69).

أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144]. وجه الدلالة: قال القرطبي: "ومن يتولهم منكم، أي: يعضدهم على المسلمين، فإنه منهم، بين الله تعالى أن حكمه كحكمهم؛ لأنه قد خالف الله ورسوله، كما خالفوا، ووجبت معاداته، كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار، كما وجبت لهم، فصار منهم، أي: من أصحابهم" (¬1). وكما هو معروف أن الذي تجنس بجنسية الدولة غير الإسلامية يجب عليه أن يغير تبعية الدولة الإسلامية إلى دولة غير إسلامية، وهي من أهم صفات الولاء، وولاء الكفار كفر في الإسلام إذا كان رضاء بهم؛ ولذلك استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن التجنس بلا ضرورة، قصدًا لتفضيل تلك الجنسية على الجنسية الإسلامية كفر وردة (¬2). 5 - قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. قال الشوكاني -رحمه الله-: "وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر منه الجلود، وترجف له الأفئدة، فإنه سبحانه أقسم أولًا بنفسه مؤكدًا لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله، حتى تحصل لهم غاية، هي تحكيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، فضم إلى التحكيم أمرًا آخر هو عدم وجود حرج، أي حرج في صدورهم" (¬3). ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي، (6/ 217) بتصرف واختصار. (¬2) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الاستفسارات المقدمة من المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الدورة الثالثة، 1987 م، (2/ 1152)، فتاوي الشيخ رشيد رضا، (5/ 1759). (¬3) فتح القدير، للشوكاني، (1/ 484).

وقال الشيخ رشيد رضا -رحمه الله-: "إذ لا يقبل اجتماع الإيمان الصحيح برسالة الرسول مع إيثار غيره على الحكم الذي جاء به عن الله تعالى، ولا مع كراهة حكمه والامتعاض منه، ولا مع رده وعدم التسليم له بالفعل" (¬1). فالآية تنفي الإيمان عن الذين لم يحكموا الرسول، أي: شرع الله فيما بينهم، ولم يرضوا بحكمه، ولم يسلموا له، والذي يتقبل جنسيةً أجنبيةً اختيارًا منه يقبل ويرضى ويفضل على شريعةِ الله شريعةَ غيره من البشر، فلا يكون مؤمنًا بالله ورسوله، ومن ثم فإن من يقبل التجنس بجنسية غر المسلمين ينطبق عليه حكم الآية. كما أن التجنس بجنسية بلاد تُحِلُّ قوانينها الحرام المجمع عليه، وتُحَرِّمُ الحلال المجمع عليه وتبدل الشرع المجمع عليه يتضمن إقرارهم على تحليل الحرام، وتحريم الحلال، وإنكار ما علم من الدين بالضرورة، قال تعالى -في حق من استحل النسيء-: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 37]. وفي قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31]. وبيَّنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم عبادَتَهُمْ لهم بقوله: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟ " قلت: بلى، قال: "فتلك عبادتهم". 6 - وقال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]. وجه الدلالة: قال القرطبي -رحمه الله-: "وفي هذه الآية دليل على وجوب هجران الأرض التي ¬

_ (¬1) فتاوي الشيخ رشيد رضا، (5/ 1757).

يُعْمَلُ فيها بالمعاصي، وقال سعيد بن جبير: إذا عُمِلَ بالمعاصي في أرض فاخرج منها" (¬1). وقال الشوكاني -رحمه الله-: "وقد اسْتُدِلَّ بهذه الآية على أن الهجرة واجبة على كل من كان بدار الشرك، أو بدار يُعْمَلُ فيها بمعاصي الله جهارًا إذا كان قادرًا على الهجرة، ولم يكن من المستضعفين؛ لما في هذه الآية الكريمة من العموم، وإن كان السبب خاصًّا، كما تقدم، وظاهرُهَا عدمُ الفرق بين مكان ومكان وزمان وزمان" (¬2). وقال الآلوسي -رحمه الله- (¬3): " {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} بترك الهجرة، واختيار مجاورة الكفار الموجبة للإخلال بأمور الدين، أو بنفاقهم وتقاعدهم عن نصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإعانتهم الكفرة" (¬4). وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام لمن استطاع ذلك، ووعيدًا شديدًا للذين يتركون الهجرة، ويقبلون أن يعيشوا مستضعفين أذلاء. فإذا كانت الآية تمنع من الإقامة في دار الكفر على هذا النمط، وتتوعد بوعيدٍ شديدٍ الذين يقبلونه، فالنهي عن الانتقال من دار الإسلام إلى دار الكفر والبقاء هناك من باب أولى؛ لأن الإقامة الدائمة في البلد المعطي الجنسيةَ هي أهم آثار الجنسية. 7 - وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي، (5/ 346). (¬2) فتح القدير، للشوكاني، (1/ 505). (¬3) أبو الثناء، شهاب الدين، محمود بن عبد الله الحسيني الآلوسي الكبير، مفسر، محدث، أديب، من المجددين، من أهل بغداد، من مصنفاته: روح المعاني، نشوة الشمول في السفر إلى إسلامبول، ونشوة المدام في العود إلى دار السلام، ولد سنة 1217 هـ، وتوفي سنة 1270 هـ. الأعلام، للزركلي، (7/ 176)، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (12/ 175). (¬4) روح المعاني، للألوسي، (5/ 125).

ثانيا: السنة المطهرة

يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 139 - 140]. 8 - وقال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 80 - 81]. وقال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113] وجه الدلالة: الآيات تدلُّ على حرمة اتخاذ الكافرين أولياءَ، والجنسية موالاة، وتتضمن ركونًا إليهم، ورضًا بما هم عليه من الكفر، ودخولًا في طاعتهم. وفي هذا المعنى آيات كثيرة. ثانيًا: السنة المطهرة: 1 - عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن جامع المشرك وسَكَن معه فإنَّه مثله" (¬1). 2 - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا بريء مِن كل مسلمٍ يقيمُ بين أظْهُر المشركين" قالوا: يا رسول الله، ولم؟ قال: "لا تراءَى نَارَاهُما" (¬2). 3 - وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقبل الله -عز وجل- ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب: في الإقامة بأرض الشرك من حديث سمرة بن جندب -رضي الله عنه- وحسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم، (2330). (¬2) سبق تخريجه.

من مشرك بعد ما أسلم عملًا، أو يفارق المشركين إلى المسلمين " (¬1). 4 - وعن جرير -رضي الله عنه- قال: "بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، وعلى فراق المشرك" (¬2). 5 - وعن بريدة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بعث أميرًا على سريةٍ أو جيشٍ أوصاه بأمور، فذكرها ومنها: "ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين" (¬3). وجه الدلالة: قد استفاضت النصوص الشرعية السابقة في التحذير من موالاة الكافرين، ومحبتهم ومودتهم والرضا عنهم، وعن منكراتهم، وأوضحت أن ذلك مناقض لأصل الإسلام، وهادم لعقيدة الولاء والبراء، والحب والبغض في الله، التي لا يصح إسلام عبدٍ إلا بها. ولما كان التجنس يلزم منه -لا محالة- ولاءُ المرء للدولة التي يحمل جنسيتها وخضوعه لنظامها وقوانينها، ويصير المتجنس واحدًا من المواطنين له ما لهم وعليه ما عليهم، وتجري عليه أحكام ملتهم في الأحوال الشخصية والمواريث، وعدم تدخله في شئون أولاده، إذا بلغوا السن القانونية عندهم، سواء الذكور والإناث، لما كان الأمر كذلك كان طلب التجنس بجنسية الدول الكافرة من غير إكراه عليها؛ بل طلبًا من المتجنس أو موافقة على قبولها صورةً من صور الردة عن الإسلام عياذًا بالله العظيم، وخروجًا عن سبيل المؤمنين، ودخولًا في معية الكافرين الذين حذرنا الله تعالى منهم، ومن اتباع سبيلهم، والمقام بين أظهرهم، ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي، كتاب الزكاة، باب: من سأل بوجه الله -عز وجل- (2568)، وابن ماجه، كتاب الحدود، باب: المرتد عن دينه (2536) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده -رضي الله عنه-، مرفوعًا. (¬2) أخرجه بهذا اللفظ النسائي، كتاب البيعة، باب: البيعة على فراق المشرك، (4715)، وأحمد، (4/ 358) عن جرير -رضي الله عنه- مرفوعًا. وهو في الصحيحين بدون: "وعلى فراق المشرك". (¬3) أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب: تأمير الإمام الأمراءَ على البعوث، (1731) من حديث بريدة ابن الحصيب -رضي الله عنه-.

ثالثا: المقاصد الشرعية، والمعقول

وموالاتهم والركون إليهم، كما أشارت النصوص السابقة. وفي الأحاديث دليل ظاهر على تحريم مُسَاكَنَةِ الكفار، ووجوب مفارقتهم (¬1)؛ حيث تبرأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الذين يقيمون بين أظهر المشركين، فكيف يكون حال الذين يفارقون دار الإسلام وُيضحون بكل غالٍ ونفيسٍ من أجل أن يحصلوا على جنسية الدولة غير الإسلامية، لا شكَّ أن ذلك أخطرُ وأخوفُ. ومن هذه الأدلة يتضح أن حكم التجنس حرام في جميع الأحوال والظروف، وذلك الفعل يُعَرِّضُ صاحبَهُ إلى غضب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو معصية كبيرة تمسُّ الدين والإيمان، ويدفع الإنسان إلى خسارة الدنيا والآخرة (¬2). ثم إن هذا التجنس قد يكون كفرًا وردة إذا كان حبًّا في التشبه بأهل الكفر، وإيثارًا للحكم الأجنبي على الحكم الإسلامي (¬3). ثالثًا: المقاصد الشرعية، والمعقول: التجنس يترتب عليه واجبات ملزمة على رأسها: المشاركة في جيش الدولة المانحة للجنسية والدفاع عنها، ولو كانت حربها ضد المسلمين، وهذا من أعظم الموالاة للمشركين، والنصوص المذكورة آنفًا طافحة بتكفير مَنْ فعل هذا، وقد سمى الله من أظهر الموالاة للمشركين -كذبًا وخوفًا من الدوائر- منافقًا، كما في قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} [الحشر: 11]، فكيف بمن أظهر ذلك لهم صادقًا، ودخل في طاعتهم ¬

_ (¬1) نيل الأوطار، للشوكاني، (8/ 33)، تحفة الأحوذي، لمحمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت، (5/ 190). (¬2) مجلة الفقه الإسلامي، (2/ 1131)، وعلى هذا تُحْمَلُ بعض الفتاوي التي لم يُفَرِّقْ أصحابها فيها بين حال وحال، ينظر -على سبيل المثال-: فتاوي الشيخ رشيد رضا، (5/ 1755). (¬3) مجلة الفقه الإسلامي، (2/ 1156)، فتاوي رشيد رضا، (5/ 1759).

وانتسب إليها جهرًا؟! (¬1). وكيفَ يجوز لمسلم أن ينتظم في جيش يحارب المسلمينَ، وهو يعلم أن ذلك يترتب عليه أن يقتل أخاه المسلم بيده؟ لقد بَيَّنَ الله في كتابه أن المؤمنين أشداء على الكفار رحماء بينهم، وأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين؛ فكيف تنقلب الصورة بجعْلِ سيفِ المسلم مسلولًا على أخيه المسلم، وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حمل علينا السلاح، فليس منا" (¬2). وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَزوالُ الدنيا أهونُ على الله من قتل رجل مسلم" (¬3). إن للتجنس آثارًا غايةً في السوء على النشءِ والذرية من انحلال وتسيب، وانطماس للهوية، وانتكاس للفطر، ونبذ لأحكام الدين، وإعراض عنه، وموالاة للمشركين، ومعاداة للمؤمنين؛ إذ قد نُشِّؤوا لا يعرفون إلا الكفر، ورضعوا من لبانه، وخالطت مناهجُه لحومَهم ودماءَهم فتنجست بنجاسة الشرك -عياذًا بالله العظيم- ولا يُنازعُ في كون هذا واقعَ المتجنسين، أو أغلبهم إلا مكابِرٌ تسقط مكالمته. يقول الونشريسي: "فالواجب على كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر السعي في حفظ رأس الإيمان بالبعد والفرار عن مُسَاكَنَةِ أعداء حبيب الرحمن. . .؛ لأن مُسَاكَنَةَ الكفار من غير أهل الذمة والصَّغَارِ لا تجوز، ولا تباح ساعةً من نهار؛ لما تنتجه من الأدناس والأوضار، والمفاسد الدينية والدنيوية طولَ الأعمار" (¬4). ¬

_ (¬1) حكم التجنس بجنسية دولة غير إسلامية، محمد يسري، مجلة البيان، عدد، (245)، (ص 10). (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب: قول الله تعالى: "ومن أحياها. . . " (6874)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من حمل علينا السلاح، (98) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا. (¬3) أخرجه الترمذي، كتاب الديات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في تشديد قتل المؤمن، (1395)، والنسائي، كاب تحريم الدم، باب: تعظيم الدم (3987) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- مرفوعًا. وروي من حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه- مرفوعًا. وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع وزياداته، برقم، (5077). (¬4) المعيار المعرب، للونشريسي، (2/ 138).

إن التجنس إقامةٌ ببلاد الكفر وزيادة، والأدلة واضحة في تحريم المقام بدار الكفر مع عدم استطاعة إظهار شعائر الدين، يقول ابن رشد: "فإذا وجب -بالكتاب والسنة وإجماع الأمة -على من أسلم ببلاد الحرب أن يُهَاجِرَ ويلحق بدار المسلمين. . . فكيف يباح لأحد الدخول إلى بلاد حيث تجري عليه أحكامهم" (¬1). قالوا: ولا عذر لهؤلاء المتجنسين؛ لأنهم ليسوا بِمُكْرَهِينَ حتى نقول ما قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]؛ بل هم مختارون راضون، وليس ما ينتظرونه وراءَ التجنس من حطام الدنيا، وحظوظ العاجلة بمسوغ لهذا التجنس، بل يجب أن يفر المرء بدينه متى استطاع، وإن ذهبت دنياه، اقرأ إن شئت قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]. وقد أوجب الله الهجرة من دار الكفر إن خاف المسلم على نفسه الفتنة، وتَوَعَّدَ الله سبحانه أولئك الذين يَبْقَونَ في أوطانهم بين الفتنة وهم قادرون على الهجرة، فقال جلَّ مِنْ قائلٍ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]. وتَوَعَّدَسبحانه مَنْ يعبدُهُ على حرف، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج: 11]. ¬

_ (¬1) المقدمات الممهدات، لابن رشد، (2/ 153).

أدلة القول الثاني

وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ. [العنكبوت: 10]. أدلة القول الثاني: استدل القائلون بالجواز -بشرط المحافظة على الدين والتمسك به، وعدم الذوبان في المجتمع الكافر- بأدلة من المقاصد الشرعية، والقواعد الكلية، والمعقول: أولًا: الأدلة من المقاصد والمعقول: 1 - قالوا بأننا نرجح مع الجمهور الرأي القائل بجواز الإقامة ببلاد غير المسلمين، وأدلتهم راجحة على أدلة مخالفيهم، ثم إن الجواز هناك مقيد بما إذا استطاع المرء إقامة دينه، وأَمِنَ الفتنة على نفسه ومن يعول. والتجنس لا يزيد على الإقامة إلا بمجرد الانتساب إلى الدولة، وهو في الوقت ذاته يكسب المتجنس قوةً وتمكنًا في المجتمع، ويجعل الإقامةَ مدعومةً بما يدفع الفتنة، ويمكن المسلم من إظهار دينه؛ الأمر الذي يترتب عليه تأكيد شرعية الإقامة (¬1). وعليه، فإنه يمكن تخريج هذه المسألة على قول من أباح الإقامة ببلاد غير المسلمين. قال الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي: ما دمنا قد قلنا بجواز الإقامة في دار الكفر، فإنه يتفرع عنه جواز التجنس؛ لأنه ما هو إلا لتنظيم العلاقة؛ فهي تسهل لهم الأمور، وتسهل أيضًا الاستفادة من خدماتهم (¬2). 2 - الشريعة الإسلامية إنما جاءت لحفظ الكليات الخمس: الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وكل ما كان سبيلًا لحفظ هذه الضروريات فهو مشروع، والتجنس بجنسيات هذه الدول يوفر للإنسان حياة كريمة وطمأنينة وأمنًا وتمتعًا ¬

_ (¬1) قضايا فقهية معاصرة، لمحمد تقي العثماني، (ص 329 - 331). (¬2) نقلاً عن فقه الأقليات المسلمة، لخالد عبد القادر، (ص 608)، في مقابلة خاصة مع الزحيلي.

بحقوق وحريات تنعدم غالبًا في الدول الإسلامية في واقعنا المعاصر، بل إنها تيسر له التعبد والدعوة ونشر العلم بما لا نظير له في الدول الإسلامية؛ لأن دول الغرب قائمة على العلمانية، وعلى الليبرالية المطلقة، وعلى الحريات العامة التي تقوم الشعوب على حراستها والاستمساك بها، ولا تستطيع الأنظمة المساس بهذه الحريات العامة؛ ومن ثم يكون التجنس في ظل هذه الأوضاع محقِّقًا لكثير من المصالح الإسلامية، فإذا كان التجنس وسيلة لتحقيق هذه المصالح المشروعة فهو إذًا مشروع. ومن حرَّم التجنس من أهل العلم إنما حرَّمه خوفًا من الذوبان في الشخصية الغربية، أما إذا كانت الجنسية تعطي المتجنسَ قوةً وصلابة وقدرة على المطالبة بالحقوق وإبداء رأيه، والتصويت في الانتخابات لمن يخدم قضيته دون أن يتنازل عن دينه، ويعايش من حوله بالمعروف، ويحسن معاملتهم، كما قال جل وعلا: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. فإذا صار الوضع كذلك فلا مانع من التجنس؛ لوجود المصلحة المتحققة التي تربو بكثير على المفسدة المتوقعة (¬1). ويقول د. القرضاوي: "المسلم الذي يحتاج للسفر إلى بلاد غير إسلامية تعطيه الجنسيةُ قوةً ومنعةً، فلا يحقُّ للسلطات طرده، ويكون له الحق في الانتخاب، مما يعطي قوةً للمسلمين في هذه البلاد، حيث يخطبُ المرشحون وُدَّهم؛ ولذا فحملُ الجنسية ليس في ذاته شرًّا ولا خيرًا، وإنما يأخذ الحكم حسب ما يترتب على أخذ هذه الجنسية من النفع للمسلمين، أو الإضرار بهم، مثل أخذ الفلسطينيين خاصة الجنسيةَ الإسرائيليةَ، ¬

_ (¬1) الأحكام الشرعية للنوازل السياسية، د. عطية عدلان، (2/ 722 - 723).

فإن هذا يعد اعترافًا ضمنيًّا بدولة إسرائيل، ولكن أخذ الجنسية من دول الغرب بغرض تقوية شوكة المسلمين هناك، فلا حرمة في هذا" (¬1). 3 - بعد التسليم بوجود بعض المفاسد، إلا أنه ينبغي أن يُسَلَّمَ بأن المصالح المترتبة أعظمُ وأهم، ومعلومٌ أنه يُرْتَكَبُ أخفُّ الضررين، ويُدْفَعُ الضررُ الأشدُّ بالضررِ الأخفِّ، ويُتَحَمَّلُ الضررُ الأخفُّ لجلب مصلحةٍ تفويتُهَا أشدُّ. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإنها تُرَجِّحُ خيرَ الخيرين، وتَدْفَعُ شرَّ الشرين، وتُحَصِّلُ أعظمَ المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفعُ أعظمَ المفسدتين باحتمال أدناهما" (¬2). وقد جاء في جواب أسئلة المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن: "ولو تجنس مسلم بهذه الجنسية لدعوة أهلها إلى الإسلام، أو تبليغ الأحكام الشرعية إلى المسلمين المقيمين بها، فإنه يثاب على ذلك، فضلًا عن كونه جائزًا" (¬3). 4 - في أمر المسلمين هناك بالخروج من تلك البلاد، وترك جنسياتها إضعاف للإسلام هناك؛ بحيث لا ترجى له رجعة، كما حدث في الأندلس وصقلية؛ إذ أُخرج منها المسلمون وحلَّ النصارى محلهم، أما أن يثبت وضع المسلمين هناك ويقوى، فهو السبيل لدعوتهم ونشر الدين بينهم، وتحقيق مقاصد فقه الأقليات المسلمة. 5 - أنه أحيانًا يضطر المسلم إلى التجنس بجنسية تلك الدول محافظةً على حياته، كأن يكون فارًّا من بلده الأصلي، أو لم يُمْنَحْ جنسية دولة إسلامية تحميه وتمكنه من ¬

_ (¬1) فتاوي فقهية مباشرة، موقع إسلام أون لاين 1/ 8/ 2000 م، فقه الأقليات المسلمة، لخالد عبد القادر، (ص 607). (¬2) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (20/ 48). (¬3) الفتوى للحاج عبد الرحمن باه والقاضي تقي الدين العثماني، ينظر: بحوث في قضايا فقهية معاصرة، لمحمد تقي الدين العثماني، (ص 329 - 331)، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة 3، العدد 3، سنة 1987 م، (2/ 1130).

أدلة القول الثالث

العيش فيها كاللاجئين الفلسطينيين، وقد لا يُسْمَحُ له بالمقام في بلاد الكفر إلا بالتجنس، وكذا لو انعدم مصدر قُوتِهِ وقوتِ عياله في بلاد المسلمين، والقاعدة الفقهية الكلية: أن الضرر يُزال، وأن الضرورات تبيح المحظورات. ولا شك أن كل من يُحًرِّمُ الحصولَ على الجنسية يبيح ذلك لدى الاضطرار. "نخرج من هذا إلى أن التجنس بجنسية دولة غير مسلمة جائز، بشرط ألا يترتب عليه ذوبان وفقدان الشخصية الإسلامية، وضياع الدين، وألا يترتب عليه -أيضًا- فعل أو قول محرم، فإن ترتب عليه شيء من ذلك فيحرم، وكل إنسان على نفسه حجة بينة شاهدة بما يصدر عنه من الأعمال يوم القيامة" (¬1). 1 - أدلة القول الثالث: استدلَّ القائلون بالجواز عند الضرورة فقط، بما استدل به المانعون في القول الأول، فأدلتهم أدلة للفريق الثالث، إلا أنهم استثنوا الضرورات، وما في حكمها من الحاجات، بالأدلة التي يُسْتَنَدُ إليها عند إباحة المحرمات لدى الاضطرار. بحيث يدخل في هذا من كان مضطرًا إلى ذلك بأصل وجوده ونشأته في تلك البلاد، ومن كان مضطهدًا في بلده، كأن تكون صادرة ضده أحكام ظالمة، أو لا جنسية له، ونحو ذلك. وقد أفتى الشيخ علي الطنطاوي عندما سئل عن ذلك، فقال: "لا يجوز لمسلم أن يتجنس بجنسية دولة كافرة؛ لأن ذلك يوجب عليه الالتزام بقوانينها وأوامرها، إلا إذا اضطر إلى ذلك اضطرارًا، ولم يقل أو يعمل ما يخالف الشرع" (¬2). 2 - أدلة القول الرابع: استدلوا فيما أباحوه من صور التجنس بأدلة المجوزين للضرورة والحاجة، وفيما حرَّموا بأدلة المانعين. ¬

_ (¬1) فقه الأقليات المسلمة، لخالد عبد القادر، (ص 608). (¬2) الفتاوي، للشيخ علي الطنطاوي، (ص 163).

مناقشة الأدلة

مناقشة الأدلة: أولًا: مناقشة أدلة القائلين بالمنع: 1 - أما استدلالكم بالنصوص القطعية المحرِّمةِ للموالاة والتحاكم لغير الله ورسوله فمسلَّمٌ ولا نزاعَ فيه بين أهل الإسلام، وكلامنا في تجنس لا يَلْزَمُ منه حبُّهم ولا نصرتهم، ولا رضا القلب بمنكراتهم، أو مشاركتهم فيها، والمتجنِّس مأمور بأن يكون ولاؤه لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن يُظهرَ دينَهُ ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وأن يتحاكمَ لشريعة الله، ويمكن أن يوصي بذلك في ميراثه إذا مات، على أن أكثر الدول الإسلامية لا تُحَكِّمُ شريعةَ الله، وفيها من الربا والظلم ما لا يخفى، كما أن كثيرًا ممن يقيم بالبلاد الإسلامية لهم ولاءاتهم للغربيين عقلًا وروحًا، فما الفرق إذن؟! وأجيب: بأن مجرد التجنس هو إعلان من المرء بخضوعه لأحكام الكفر وقبوله الولاء للكفر وأهله، سواء خضع بالفعل أو لا، فالجنسية "تعبير صريح قاطع عن ولائه للدولة التي يحمل جنسيتها وعن خضوعه لنظامها" (¬1). ثم إنه لن يَسْلَمَ من الوقوع في الحرام أو المشاركة فيه؛ لأن صبغة المجتمع هكذا بخلاف دول المسلمين؛ فيمكن للمرء أن يجد مندوحةً وأن يتعامل معاملات شرعية مع إخوانه المسلمين؛ إذ لا تجبره قوانين بلاده على الربا في الغالب، وسيجد من يعينه على ذلك. وعليه، فإن استقراء واقع المتجنسين يدل على غلبة المفسدة على المصلحة في هذا الشأن. وأن التجنس في هذه البلاد يُعْتَبَرُ بدايةً راجحة للانفصال التدريجي عن جماعة المسلمين بكل ما تعنيه هذه الكلمة، ولا سيما بالنسبة للجيل القادم من الأبناء الذين ¬

_ (¬1) قضايا فقهية معاصرة، للبوطي، (ص 199).

ينشأون في محاضن هذه المجتمعات، ومشاربها العلمانية الجامحة، فيرتدُّ في الأعمِّ الأغلبِ عن الإسلام. وقد نوقش هذا: بأن ما طرأ على العمل الإسلامي ومؤسساته في الغرب من تطور ورسوخ ينهض دليلًا على نقيض ذلك، وإيًّا كان الأمر ففي الحالة التي يغلب على الظن فيها أن تؤول الأمور إلى ذلك، فهذه التي يُسْتَصْحَبُ فيها بعينها أصلُ المنع، ولكنه لا ينسحب بالضرورة على جميع الحالات (¬1). 2 - وأما القول بأن التجنس يؤدي إلى إنكار ما عُلم من الدين بالضرورة وهو كفر؛ فلا يَلْزَمُ من التجنس هذا اللازمُ؛ بل لو تلبَّسَ المتجنِّس ببعض المحرمات؛ فلا يلزم منه استحلالُهَا بقلبه، وأهل السنة مجمعون على عدم تكفير المسلم بذنب ما لم يستحلَّهُ. وأجيبَ: بأن النصوص اعتبَرت من رضي بالتحاكم إلى قوانين الكفر كافرًا؛ لأنه لا يُعْقَلُ أن يتحاكم إليها طوعًا مع اعتقاده أحكامَ الإسلام؛ بل هو عين التناقض، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 60]. ونوقش بأن: كثيرًا ممن تجنسوا بجنسية هذه البلاد بَقَوا على وفائهم لدينهم وأمتهم، وقد استفادوا من هذا التجنس قوةً وظَّفوها في الدعوة إلى الله تعالى، وإقامة المؤسسات ¬

_ (¬1) تأملات في مسيرة العمل الإسلامي، د. صلاح الصاوي. منشور بموقعه الشخصي الإلكتروني. www.assawy.com

والمراكز التي تُوَطِّنُ الدعوةَ وتجعلُهَا قارَّةً بدلًا من كونها مارَّةً أو مهاجرة، وتوطِّئُ لها مهادًا، وتُرْكِزُ لها لواءً في هذه المجتمعات، وعلى أيدي هؤلاء دخل كثير من الناس في دين الله. وأجيبَ: بأن هذا يتأتى للمقيم إقامةً طويلةً أو دائمةً من غير احتياج إلى مفسدة الدخول في عقد الجنسية باشتراطاته وإلزاماته. 3 - وأمَّا القول بأن التجنس يُؤَثِّرُ على الذرية فَمُحْتَمَلٌ، والاحتمالُ يُسْقِطُ الاستدلالَ، ونحن نرى كثيرًا من أبناء الجاليات المسلمة متمسكًا بدينه وقيمه خاصَّةً في ظل التربية الإسلامية. وأجيبَ: بأن هذه مكابرةٌ وتعسفٌ، والذي اعتبروه احتمالًا هو الواقع إلا في قليل من الناس؛ فأغلب الأُسَرِ المسلمة تشكو انحلالَ الأخلاقِ والتفلُّتَ من الدِّينِ؛ بل منهم من يرتدُّ أولادُهُ أو تأخذُهُمْ أمهاتهم قَسْرًا بحكم قوانين تلك البلاد، وينسبونهم إلى الكفر، ولا يستطيعُ الوالد أن يُحَرِّكَ ساكنًا، وكذا لا يستطيع أن يربيَ أولادَهُ أو يأطرَهُمْ على الحق لو أَبَوا عليه، حتى لو وصل الأمر إلى الزنا وشرب الخمر -عياذًا بالله- فليس لولي البنت أو الابن أن يمنع ذلك، فضلًا عن أن يُعَاقِبَ عليه، بل لو فعل لعُوقِبَ وأُجْبِرَ على تأمين مكان مستقلٍّ لبناته وأبنائه للزنا والفجور -عياذًا بالله- فهل هناك أعظم من هذا فسادًا وانحلالًا؟! 4 - وأما محذور المشاركة في جيوش الدول الكافرة. فأجيب عنه: بأنَّ الخدمة في جيوشِ كثيرٍ من تلك الدول اختياريةٌ، ولو فُرِضَ أن المسلم أُكْرِهَ على ذلك فهو مأمورٌ بأنْ يَفِرَّ أو يمتنعَ، ولو أُزْهِقَتْ روحُهُ. وأجيب:

ثانيا: مناقشة أدلة القائلين بالجواز

بأنه كان في مندوحة عن هذا البلاءِ، فلماذا يرمي نفسَهُ في غمارِهِ، ولماذا يذلُّ نفسَهُ؟ وقد تقدَّمَ قولُهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]، فلم يعذر هؤلاء الذين بَقَوا في مكة مستضعفينَ، وأُكْرِهُوا على مقاتلة إخوانهم المسلمين يومَ بدرٍ، فكيف بِمَنْ قَبِلَ بمحض إرادته الانضواءَ تحت لواء أعداء الله؟! ولا يصح أن يقال: إن التعهد الذي يبذله المتجنس لا يعدو أن يكون إجراءً شكليًّا، فهو موضعُ نظرٍ، بل غلطٌ لا محالةَ؛ لأنه عهد وميثاق، والقوم يعنون ما يفعلون، ولو علموا أن طالب التجنس يخادعهم، ويبيت عدم الالتزام بنظمهم لما قبلوا منحه الجنسية بحال من الأحوال، ومن ناحية أخرى فإن المواثيق والعهود في الإسلام لا يجوز فيها المعارِيض فضلًا عن الكذب، واليمين على ما استحلفك عليه صاحبُكَ، ولا سيما أنه ليس في الأمر إكراهٌ ولا شبهةُ إكراهٍ. ثانيًا: مناقشة أدلة القائلين بالجواز: ناقش المانعون أدلةَ القائلين بالجواز على النحو التالي: 1 - الاستدلال بحفظ الشريعة للكليات الخمس، وبأن التجنس وسيلة لذلك استدلالٌ في غير موضعه؛ لأن حفظ الشريعة للكليات الخمس يكون بطرق مشروعة، لا بفعل المحرمات وترك الواجبات، ثم إن مصلحة حفظ الدين مقدَّمة على كل مصلحة سواها، والتجنس هادم للدين وحالِقٌ للديانة؛ فأين هي المصلحة، وأين هو حفظ الكليات؟! 2 - وأما التسوية بين التجنس والإقامة، فلا يسلَّم أصلًا جواز الإقامة مع المحاذير المذكورة، والتي لا انفكاك عنها إلا بالمكابرة، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]. ولو سلم جوازُ الإقامة فالتجنس محظور؛ لأنه مختلِفٌ عنها؛ إذ يلزم منه التزامات

الترجيح

وحقوق على المتجنِّس، كما سبق، ولا كذلك المقيم، ولو طالت إقامته. 3 - وأما الاستدلال بجلب المصالح، ودرء المفاسد؛ فإن مصلحة الرخاء والدعة ليست مقدَّمةً على مصلحة الحفاظ على الدين، أَفَتُجْعَلُ فتنةُ الناس كعذاب الله؟ أَفَتُسَاوَى هذه المصالحُ بالوالاة والتحاكم لغير الله، وإهلاك الذُّرية؟ ولو سلم الأمر من ذلك مع تحصيل تلك المصالح؛ فالضرورة تُقَدَّرُ بقدرها، والضرورة مندفعةٌ بالإقامة، ولا حاجةَ للتجنس الذي تَلْزَمُ به هذه المحنُ والبلايا. 4 - أما الاستدلال بالضرورة، وكذلك أصحاب القول الثالث؛ فلا بُدَّ أولًا من تَحَقُّقِ الضرورةِ المعتَبرَةِ شرعًا، لا المتوهمةِ ولا الحاجيةِ ولا التحسينيةِ، كرغد العيش والرفاهية، وهو حال كثير من المتجنسين الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة. ولو فُرِضَ تَحَقُّقُ الضرورةِ بشروطها المعتَبَرَةِ فلا بُدَّ أن تُقَدَّرَ بقدرها، وأَلَّا تُزَالَ بضررٍ مثلها، أو أشدَّ، وللإنسان حِيَلٌ كثيرةٌ ليتخلص من ضرورته، دون اللجوء للتجنس، فإن زالت الضرورة بما دون التجنس من أنواع الإقامةِ الممتدَّةِ لم يَبْقَ هنا للتجنس مُسَوِّغٌ. الترجيح: لا شك أن نازلة كهذه لا يصلح فيها إطلاقاتٌ، أو تعميماتٌ، كما في قول المانعين المحرمين مطلقًا، أو قول المبيحين مطلقًا. والإباحة عند الاضطرار والاحتياج من غير وقوع في المنكرات الكبار أليقُ بهذا المقام. ولو قيل: إن الأصلَ المنعُ من التجنس، ويباح عند الحاجة الماسة التي تَتَنَزَّلُ منزلةَ الضرورة لكان هذا إنصافًا. ويعيب القولَ الأولَ إشكالاتٌ في الطرح، أخطرُها: التعميمُ، والتشددُ في النظر إلى اللوازم، والاعتقادُ بدوامها أبدًا، وعدمُ التفريق بين واقع يَتَنَزَّلُ عليه الدليلُ بلا تأويلٍ، وواقعٍ آخرَ قد يقضي النظرُ بدخوله تحت دليلٍ آخرَ يجعلُ الحكمَ مختلفًا.

وعلى سبيل المثال: هناك بعض الحالات التاريخية اعْتُبِرَ فيها الحصول على الجنسية بمثابة مغادرة الإسلام، والارتباط بالأجنبي المحتل، كما حدث في تونس والجزائر، حيث كانت الحكومة الفرنسية المستعمِرة تشجع المسلمين هناك على الحصول على الجنسية الفرنسية؛ لأسباب سياسية وقانونية من خلال ضمِّ تلك البلدان إلى الدولة الفرنسية، باعتبارهم مواطنين فرنسيين. وكانت السلطات الفرنسية تُجَنِّدُ اليهودَ الجزائريين لتكثيرِ عدد الفرنسيين، وللاعتماد عليهم في إدارة البلاد، والهيمنة على تجارتها. ولما كانت حركة الجهاد الإسلامي موجهةً ضد الاحتلال الأجنبي ومن يتعاون معه، جرى اعتبارُ مَنْ يتجنس بالجنسية الفرنسية ملتحقًا بخدمة الكفار، ومرتدًّا عن الدين الإسلامي. وفي هذه الأثناء سأل بعضُ التونسيين علماءَ الأزهر حولَ: "تجنس رجل مسلم بجنسية أُمَّةٍ غيرِ مسلمة اختيارًا منه، والتزم أن تجري عليه قوانينها بَدَلَ أحكام الشريعة الغراء" فأجاب الشيخ يوسف الدجوي -من هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف- بما يلي: "إن التجنس بالجنسية الفرنسية والتزام ما عليه الفرنسيون في كل شيء حتى الأنكحة والمواريث والطلاق ومحاربة المسلمين والانضمام إلى صفوفهم معناه: الانسلاخُ من جميع شراع الإسلام، ومبايعةُ أعدائه. . . وأمَّا حليف الفرنسيين الخارج من صفوف المسمين طوعًا واختيارًا مستبدِلًا لشريعةٍ بشريعةٍ، وأُمَّةٍ بأُمَّةٍ، مقدِّمًا ذلك على اتباع الرسول بلا قاسرٍ ولا ضرورةٍ، فلا بُدَّ أن يكون في اعتقاده خللٌ، وفي إيمانه دَخَلٌ. . . فلسنا نشك في أن هؤلاء المتجنسين بالجنسية الفرنسية على أبواب الكفر، وقد سلكوا أقرب طريق إليه" (¬1). فهل يصح أن نسحب حكم هذه الصورة على جميع الصور التي تختلف معها ¬

_ (¬1) التجنس بجنسية دولة غير إسلامية، محمد عبد الله السبيل، مجلة المجمع الفقهي الإسلامي، العدد الرابع، 1989 م، (ص 150).

اختلافًا يستدعي تَغَيُّرَ الحكم لِتَغَيُّر الواقعِ الذي يَتَنَزَّلُ عليه؟ إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وإن اختلاف الصور الواقعية يتطلبُ اختلافَ الأحكام الشرعية. والتزامُ حكمٍ واحد لا يتغيَّرُ مهما تَغَيَّرَ الواقع جمودٌ يأباه الفقه السليم، وتعطيلُ الأحكام الشرعية يرفضُهُ الفهمُ القويم. وعليه، فليس من السائغ إطلاقُ القول بالرِّدَّةِ على هذا العمل، وقد سبق القولُ بضرورة التفريقِ في هذا البابِ بين الحكم الأصلي للتجنس في صورته المطلقة المعتادة، وبين حكمه في ضوء ما احْتَفَّ به من قرائنَ وملابساتٍ في واقع الجاليات الإسلامية المقيمة خارج بلاد الإسلام، فإذا تجرَّدَ التجنسُ عن هذا المضمون السابق، وأصبح لا يعدو لدى المتجنسِ أن يكون وسيلةً لترتيب شئونهِ، وتوطينِ وجودِهِ ودفعتْ إليه ضروراتٌ ملجِئَةٌ، أو حاجات ماسَّة، مع بقاءِ صاحبِهِ حفيظًا على ولائه وبرائه، مقيمًا على عهده مع الله ورسوله، فإنه يصبح من موارد الاجتهاد، ولا يبعد القول بمشروعيته في هذا الإطار، فإن القبول التامَّ لشرائع الكافرين، والرضا بها ظاهرًا وباطنًا هو المقصود عند الحديث عن الإيمان والكفر في هذا الباب، أما مجرد الخضوع أو القبول الظاهري لهذه الشرائع تحقيقًا لمصلحة من المصالح، أو إمضاءً لأمر من الأمور، مع بقاء القلب على اطمئنانه بالإيمان، والتزامه بشرائع المسلمين فهو متعلِّقٌ بالفروع. ويتردد أمرُهُ بين الحِلِّ والحرمة أو الكراهة بحسب الأحوال، ولكنه لا يبلغ مبلغَ الكفر في الأعمِّ الأغلبِ، وفي دساتيرِ القومِ نصوصٌ على حرية المعتقدات الدينية، وحماية التصرفات التي تصدر بناءً عليها، وهي في هذا المقام قد تصلح لتقييد ما يَرِدُ في عقد التجنس من بنودٍ مخالِفَةٍ للشريعة. وعلى الجانب الآخر نجد قول المجيزين للتجنس لا تنقصه المرونة والمراعاة للواقع، ولكن يعيبه الخضوعُ المستمِرُّ لضغط الواقع، وهو مسلك في غاية الخطورة؛ لأنه يُفضي إلى ما بعده!!

ولكي تتضحَ خطورةُ هذا المسلكِ نستعرضُ بعض المعالجات التي قدَّمها بعض المجيزين للتجنس لمشكلة ترتبت على التجنس والمواطنة، وهي مشكلة الالتحاق بجيوش الدول الكافرة المانحة للجنسية. فبسبب من هذه الجنسية واشتراطاتها أفتى بعض العلماء بأن على المسلم الملتَحِقِ بجيوش تلك الدول غير المسلمة أن يقاتل المسلمَ في جيش دولة إسلامية، كما وقع في الحرب الأمريكية على أفغانستان، وإلا كان ولاؤه لدولته محلَّ شكٍّ! مع ما يترتب على ذلك من أضرار عديدة! وإمَّا أنه مغتفرٌ بجانب الأضرار العامة التي تلحق بجموع المسلمين في الجيش الأمريكي، بل في الولايات المتحدة بوجه عام، إذا أصبحوا مشكوكًا في ولائهم لبلدهم التي يحملون جنسيته، ويتمتعون فيه بحقوق المواطنة، وعليهم أن يؤدوا واجباته (¬1). وقد سئل الشيخ فيصل مولوي: هل إذا قَاتَلَ المسلمُ الأمريكيُّ المسلمَ الأفغانيَّ وقَتَلَهُ يدخل النار؟ فأجاب: إذا قتل المسلمُ أخاه المسلمَ بدون تأويلٍ، وبدون أي سبب قاهرٍ فقتلَهُ دخل النار بلا جدال، كما ذكرت ذلك الأحاديث الصحيحة. أما إذا قاتل المسلمُ أخاه المسلمَ بسبب تأويلٍ معيَّن فَأَمْرُهم جميعًا إلى الله، وحكمه العدل لا يعرفه إلا هو، وقد حصل القتالُ بين فئتين من المسلمين من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بناءً على خلافٍ، أو تأويلٍ لأسباب معينة، ولا نستطيع أن نحكم على أيٍّ منهم بدخول النار، لكننا نَكِلُ أَمْرَهُم إلى الله، ونسأله المغفرة لنا ولهم. ¬

_ (¬1) حملت هذه الفتوى توقيع الشيخ يوسف القرضاوي، بالإضافة إلى المستشار طارق البشري، والدكتور محمد سليم العوا، والدكتور هيثم الخياط، والأستاذ فهمي هويدي، وهي منشورة في موقع إسلام أون لاين. نت، ونشرت في جريدة الشعب بتاريخ 19/ 10/ 2001 م، وينظر -أيضًا-: مقال الأستاذ فهمي هويدي في جريدة الشروق الأوسط يوم 31 أكتوبر 2001 م.

وبناءً على ذلك لا نستطيع أن نقول: إن المسلمَ الأمريكيَّ إذا قتل أخاه المسلمَ الأفغانيَّ، أو أن المسلمَ الأفغانيَّ إذا قتل أخاه المسلمَ الأمريكيَّ أنه في النار، بل نقول: إن الظروف الصعبة جعلتهما معًا في موضع صعب، نسأل الله لهم المغفرة والرحمة (¬1). ولا يمكن في مثل هذه الحالات إعطاءُ فتوى عامَّةً لجميع الجنود المسلمين الأمريكان؛ سواء بتغليب الانتماء الديني؛ إذ قد يترتب على ذلك ضرر أكبر، أو بتغليب الانتماء الوطني، والذي قد يترتب عليه ضرر أكبر أيضًا، والضرران متقاربان جدًّا، وهما تعريض الإنسان المسلم لقتل أخيه المسلم، أو لقتل نفسه. إذن لا بد من البحث عن حَلٍّ ثالث بين الأمرين، وهذا الحل الثالث قد يختلف بين جنديٍّ وآخرَ، بحسب ظروفه وقوة إيمانه، والله أعلم (¬2). ومثل هذه المآلات تدعو إلى مراجعة أهل الفتيا المرخِّصَةِ لمزيد من التقييد والإحكام. وأخيرًا فإن الذي يظهر بعد عرضِ أدلةِ المختلفين وردِّها إلى الكتاب والسنة والمقاصدِ المرعِيَّةِ المعتَبَرَةِ أن القول بالتفريق بين التجنس وأنواعه، والتفصيل في أحكامه هو الأرجح دليلًا، والأهدى سبيلًا في هذه النازلة. فَمَنْ تجنس رغبةً في الكفر وأهله، وتحسينًا لدينهم وملَّتِهم ورضًا بأحكامهم وشرائعهم فهو منهم، لا يختلفُ في رِدَّتِهِ عالمانِ، ولا ينتطحُ في كفره عنزانِ. وأمَّا مَنْ أقبل على مفاسدهِ وعانقَ مآثمَهُ لمجرد التوسعِ في شهواتِهِ، والرغبة في ملذاته، فهو مرتكب لكبيرة من الكبائر، وعلى خطر في دينه عظيم، ويصح فيه أنه استحب الحياة الدنيا على الآخرة، وقد قال سبحانه: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ ¬

_ (¬1) الموقع الشخصي للشيخ فيصل مولوي على الشبكة العنكبوتية. www.mawlawi.net. (¬2) موقع إسلام أون لاين، جانب الفتوى مباشرة، الشيخ فيصل مولوي.

مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]. وهاتان صورتان مما يسمى بالتجنس الاختياري، وكلتاهما حرام لا يجوز لمسلم الإقدام عليهما. ولكنَّ الكلامَ في ثلاث صور استئنائية أخرى، هي: 1 - الجنسية الاضطرارية غير الاختيارية: وهي التي تمنح ابتداءً للأقليات المسلمة التي هي من سكان تلك البلاد أصلًا؛ فهذه الجنسية لا خيارَ فيها، وهؤلاء (الأقليات) تثبت لهم الجنسية بمجرد ولادتهم، ولا خيارَ لهم في ذلك؛ فهم مُكْرَهون عليها ولا إثمَ على مُكْرَهٍ، ولا تستقيم لهم حياة بدون جنسية، فهي في حقهم ضرورة، لكن مع ذلك لا بُدَّ أن يلتزموا بأحكام الإسلام جُهْدَهُمْ، وأن يُظْهِروا دينَهُمْ قدرَ طاقتهم، وإلا وجب عليهم التحولُ ولَزِمَتْهُمُ الهجرةُ، والهجرةُ لا تنقطع حتى تنقطعَ التوبةُ، ولا تنقطع التوبةُ حتى تَطْلُعَ الشمس من مغربها. ومَنِ اختارَ البقاء أو ضاقت به السبل، فليعملْ على إظهار دينه ما استطاع، أو لِيَعْزِمْ على الهجرةِ لبلاد المسلمين متى أمكنه ذلك، و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وبكل حال فإنه لا يمكن -لاعتباراتٍ واقعيةٍ - إلزامُ مسلمي تلك الديار بالتحوُّلِ جميعًا إلى ديار الإسلام. 2 - من اضطر إلى التجنس بسبب اضطهاده في بلده الأصلي، وبسبب التضييق عليه في نفسه، أو عِرْضه، أو قُوتِهِ، أو كان لا يحمل جنسية أصلًا، ومُنِعَ من الإقامة إلا بالتجنس؛ فهؤلاء إن لم يمكنهم دفع ضرورتهم بالإقامة فقط، وكان لا بُدَّ من التجنس، وتَعَيَّنَ لدفع ضرورَتِهم الواقعةِ المعتَبَرَةِ؛ فلهُمُ التجنسُ من باب: "الضرورات تبيح المحظورات"، قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، وقد أباح الشرع النطق بكلمة الكفر حال الإكراه مع طمأنينة القلب بالإيمان. قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ

بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، وقال سبحانه: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]. ولكن لا بُدَّ أن تُقَدَّرَ الضرورة بقدرها بعد تَحَقُّقِ كونِهَا ضرورةً ملجِئَةً وتَعَيَّنَ التجنسُ مزيلًا لها، بشرط أن لا تذوبَ شخصيته في شخصية الكفار، وأن يأمنَ على نفسه وأهله وأولاده الفتنةَ، وأن يستشعرَ انتماءَهُ للإسلام وأهلِهِ، وينويَ الرجوع إلى بلاد المسلمين متى زالَ عذره، وأن ينكر المنكرات بقلبه، إن لم يمكنه ذلك بيده ولسانه، وأن يتخيرَ البلد الذي يستطيع فيه إظهارَ دينه بلا غضاضة عليه، وأن لا تكون بلاد الإسلام بحاجة إليه. 3 - أن يتجنس المسلم لتحقيقِ مصالحَ كليَّةٍ كبرى للإسلام وأهله، كالدعوة إلى الله، وتحصيل علوم ضرورية يحتاجها المسلمون، ولا يمكن تحصيلها بدون ذلك، مع أمنِهِ على نفسه ودينه وأهله وولده، وانتفاء المفاسد التي ذكرناها آنفًا في حقِّهِ، أو في حقِّ أهله؛ فهذا باب يَسُوغُ فيه النظرُ والاجتهاد والموازنة بين المصالح والمفاسد {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]، والله عند قلب المرء ولسانه، ولا يخفى عليه شيء من أمره. والله تعالى أعلم. وهذه الصورة من التجنس قد تلحق بالتجنس الاختياري ظاهرًا، ولكنها من الاضطراري حقيقةً وحكمًا، في حين أن الصورتين الأُولَيَينِ من التجنس الاضطراري من غير خلاف والله أعلم!

المبحث الثاني حكم المشاركة السياسية في الدول غير المسلمة

المبحث الثاني حكم المشاركة السياسية في الدول غير المسلمة المطلب الأول: تعريف السياسة لغة واصطلاحًا: السياسة لغة: مصدر ساس يسوس سياسة، وهي فعل السائس، وهي القيام على الرعية بما يصلحها (¬1)، وفي الحديث: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء" (¬2). فهي دائرة على تدبير الأمور في الاصطلاح اللغوي. وأما اصطلاحًا: فهي تدبير شئون الجماعة من الناس بما يحقق مصلحتهم. وقد عرَّفها المقريزي بأنها: "القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال" (¬3). وعرَّفها ابن عقيل الحنبلي بقوله: "ما كان فعلًا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول - صلى الله عليه وسلم -" (¬4). أو هي: "فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يَرِدْ بذلك الفعل دليل جزئي (¬5). وقد أطلق عليها مصطلح الأحكام السلطانية (¬6)، أو السياسة الشرعية (¬7). ومصطلح السياسة الشرعية هو الأكثر شيوعًا اليوم، وباسمه كتب كثيرًا في القديم والحديث. ¬

_ (¬1) لسان العرب، لابن منظور، (6/ 429 - 430)، القاموس المحيط، للفيروزآبادي، (2/ 220). (¬2) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، (3455)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب: وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول الأول، (1842) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا. (¬3) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزية، لتقي الدين أبي العباس أحمد بن علي المقريزي، دار صادر، بيروت، (2/ 220). (¬4) الطرق الحكمية، لابن القيم، (1/ 29). (¬5) البحر الرائق، لابن نجيم، (5/ 11). (¬6) وقد ألف كل من أبي يعلى الحنبلي، والماوردي الشافعي كتابًا حمل هذا الاسم. (¬7) ولابن تيمية كتاب باسم "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية" كما أن لتلميذه ابن القيم كتابًا باسم "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية".

وفي العصر الحديث عرَّفها الشيخ عبد الرحمن تاج شيخ الأزهر بقوله: "هي الأحكام التي تنظم مرافق الدولة، وتُدَبَّرُ بها شئون الأمة، المتفقة مع روح الشريعة، النازلة على أصولها الكلية، المحققة لمقاصدها، ولو لم يرد عليها شيء من النصوص التفصيلية الجزئية الواردة في الكتاب والسنة" (¬1). والسياسة الشرعية هي سياسة باعتبار القائمين عليها، وتدبير أمور الناس بما يصلحهم، وهي شرعية باعتبارها تطبيقات لأحكام الشرع فيما ورد فيه نصٌّ، أو هي تطبيق لأحكام شرعية مبناها الاجتهاد، وهي المستندة إلى عمومات النصوص، وقواعد الشرع ومبادئه العامة. فالكتاب والسنة هما المرجعان الأساسيان للسياسة، سواء بنصوصهما الدالة على أحكام تفصيلية، أو بما اشتملا عليه من قواعد عامة، وأحكام كلية، أو بما رسما من مناهج وخطط للاجتهاد. وأساس السياسة الشرعية وغايتها: هو تحصيل المصلحة المعتبرة شرعًا، ولا تكون كذلك إلا إذا حافظت على مقصود الشارع في تشريع الأحكام، وإذا كانت المصلحة أمرًا عتباريًّا يختلف باختلاف مشارب الناس، وعاداتهم وأعرافهم، فإن المعتبر من ذلك كله ما ورد الشرع برعايته والاعتداد به. على أن الأحكام السياسية على ضربين؛ يسمي ابن القيم -رحمه الله- النوع الأول: بالشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، بينما يسمي الثاني: بالسياسات الجزئية بحسب المصلحة وتختلف باختلاف الأزمنة، فهي إذن تتقيد بها زمانًا ومكانًا وظرفًا (¬2)، ومسائل هذا النوع كثيرة، منها: إيقاف عمر -رضي الله عنه- حد السرقة عامَ الرمادة، ¬

_ (¬1) السياسة الشرعية، لعبد الرحمن تاج، مطبعة دار التأليف، مصر، ط 1، 1993 م، (ص 10). (¬2) الطرق الحكمية، لابن القيم، (ص 47).

وإيقاف سهم المؤلفة قلوبهم، وأمر عثمان -رضي الله عنه- إمساك ضوال الإبل، وغير ذلك. أما النوع الثاني من المسائل التي لم تأتِ بشأنها نصوص شرعية، فإن الفقه فيها يكون عن طريق الاجتهاد بشروطه، وضوابطه ومرتكزاته، وإن كان الاجتهاد في كلا النوعين مطلوبًا أن يراعي تحقيق المصالح ودرء المفاسد. المقصود بالمشاركة السياسية في الدول غير الإسلامية: يقصد بالمشاركة السياسية في الدول غير الإسلامية تلك الأعمال والأنشطة التي تتعلق بالسياسة المعاصرة في بلد الأقليات، والتي يشارك فيها المسلمون بدءًا من تكوين الأحزاب السياسية، والالتحاق بها، مرورًا بالترشح والترشيح في الانتخابات البرلمانية، وانتهاء بالتحالفات، وإقامة التكتلات، وعمل المناورات السياسية (¬1). وذلك كله بغيةَ تقويةِ الوجود الإسلامي وحمايته في بلاد الأقليات وتوطين الأمة المهاجرة، أو المقيمة هناك، والمحافظة على مكتسباتها، ومساعدتها على حَلِّ مشكلاتها، وتحقيق مقاصد الوجود الإسلامي فوقَ كلِّ أرض وتحتَ كلِّ سماء (¬2). ولا شك أن العمل السياسي في أصله مشروع؛ فلقد تحدث القرآن الكريم كثيرًا عن تدبير شأن الناس، وأنزلت فيه أحكام كثيرة تتعلق بالحكم ونظامه، والعلاقات الدولية وغير ذلك، كما أن السنة المطهرة ملأى باحاديث تناولت المعاهداتِ الدوليةَ والعلاقاتِ الخارجيةَ ونظمَ الحكمِ الداخلية، وكثيرًا من التفصيلات الدقيقة. ولذا فإن الدين يحكم على السياسة ويضبطها بضوابط المشروعية والأخلاقية، ¬

_ (¬1) المشاركة السياسية للمسلمين في البلاد غير الإسلامية، د. نور الدين الخادمي، دار وحي القلم، ط 1، 2004 م، (ص 9 - 11). (¬2) مسلمو أوروبا والمشاركة السياسية ملامح الواقع وخيارات التطوير، حسام شاكر، بحث ضمن المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد 10 - 11، الجزء الثاني، 2007 م، (ص 270 - 271).

ويحقق مقاصدها النبيلة بالوسائل المشروعة والصحيحة. ولذا وُجِدَ من علماء الإسلام من يُعَرِّفُ السياسة الشرعية بأنها: "تدبير الشئون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار؛ بما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية" (¬1). ويُعَرَّفُ علمُ السياسة الشرعية بأنه: علمٌ يُبْحَثُ فيه عمَّا تُدَبَّرُ به شئون الدولة الإسلامية من القوانين والنظم التي تتفق وأصولَ الإسلام، وإن لم يقم على كل تدبير دليلٌ خاصٌّ (¬2). وللسياسة عدةُ تعريفاتٍ في القواميس والكتابات الغربية؛ لكنَّ الاتجاهات الحديثة أو الجديدة تتجه نحو التركيز على اعتبارِ علمِ السياسة علمَ السلطةِ؛ حيث يُعَرَّفُ على أنه: "علم الدولة، أو هو فرع من تلك العلوم الاجتماعية التي تعالج نظرية وتنظيم وحكم الدول، وكذا الممارسات العملية اللازمة لتحقيق ذلك" (¬3). ويشهد علم السياسة في الغرب تطورًا كبيرًا، كما يشمل اختصاصات دقيقة تتعلق بنظام الحكم الداخلي بمختلف تفاصيله، والسياسة الخارجية، وكل ما يتعلق بها، كما يرتبط علم السياسة ارتباطًا وثيقًا بجملة من العلوم الأخرى؛ حيث ظهر ما يسمى بعلم الاجتماع السياسي، والاقتصاد السياسي، والجغرافيا السياسية، وغيرها (¬4). ورغم تشابه أبواب ومجالات البحث في السياسة الوضعية والسياسة الشرعية، إلا أنهما من حيث المقاصد والأصول مختلفان؛ فالأولى اجتهاداتٌ بشرية صرفة، تخضع ¬

_ (¬1) السياسة الشرعية، لعبد الوهاب خلاف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1418 هـ - 1997 م، (ص 17). (¬2) السياسة الشرعية، لعبد الوهاب خلاف، (ص 7). (¬3) علم السياسة، محمد نصر مهنا، دار غريب الحديث، القاهرة، (ص 19). (¬4) فقه السياسة الشرعية للأقليات المسلمة، لفلة زردومي، رسالة ماجستير بقسم الشريعة، كلية العلوم الاجتماعية والعلوم الإسلامية، جامعة العقيد الحاج لخضر، باتنة، الجزائر، 1427 هـ - 2006 م، (ص 23).

المطلب الثاني: حكم المشاركة السياسية في الدول غير الإسلامية

للمصالح والأهواء التي لا يضبطها أيُّ ضابط، ولا تحتكم إلى دين، ولا إلى أخلاق، بينما تستنير السياسة الشرعية بالشرع الإلهي، "فهي شرعية المنطلقات، شرعية الغايات، شرعية المناهج" (¬1). المطلب الثاني: حكم المشاركة السياسية في الدول غير الإسلامية: تصوير وتكييف النازلة: تعتبر الأقليات المسلمة في بعض بلدان أوروبا وأمريكا أقليةً ذات حضور فاعل ومكثَّف، وقد زادت أحداث عالمية كثيرة من الاهتمام بهذه الأقليات، ومع كون تلك الأقليات تعيش في بلدان علمانية ديموقراطية إلا أن كثيرًا من حقوقها مهضومة، وامتيازاتها مسلوبة، ومع تزايد أعداد المسلمين سواء بالدخول في الإسلام من أهل تلك البلاد، أو من ناحية الهجرة والتوطن والإقامة الطويلة، فقد غدت الحاجة ملحة بأن يوجد من المسلمين من يتكلم باسمهم، وينادي بحقوقهم ويقف خلف مطالبهم. وإذا كان المسلمون هنالك يكتوون بنار المخالفات الصارخة للإسلام في تلك المجتمعات، فهل من حرج عليهم في أن يستفيدوا من بعض ما تكفله تلك الدولُ لرعاياها ومواطنيها من حقوق وامتيازات، لا تتأتى إلا بالمشاركة الفاعلة في إدارة شئون تلك البلاد؟ فما حكم التسجيل للانتخابات، والتصويت فيها، والمشاركة في الأحزاب، والانخراط في أنشطتها؟ وهل يسوغ أن يكون من المسلمين من يشارك في مؤسسات الرئاسة في تلك البلاد؟ وما ضوابط ذلك؟ ¬

_ (¬1) السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1421 هـ - 2000 م، (ص 26).

وهل يدخل تدبير شئون الأقليات المسلمة في تلك البلاد خاصة، وتمكينها من صيانة حقوقها ورعاية مؤسساتها ورفع الظلم أو تخفيفه عنها -في مفهوم السياسة الشرعية؟ مع العلم أن المشاركة السياسية في تلك البلاد لن تخلوَ من مخالفات ضرورةَ أن المظلة التي تظلل تلك البلاد في جملتها أحكامُ غيرِ المسلمين يَحْكُمُ بها غيرُ مسلمين، وأن جمهور تلك البلاد وسوادَهَا الأعظم من غير المسلمين أيضًا، حتى لو قُدِّرَ أن عدد المسلمين في الهند أو الصين يُعَدُّ بعشرات الملايين فهم أقلية وسط مئات الملايين من غير المسلمين. وإذا جاز للأقليات المسلمة أن تشارك في الأنظمة السياسية، فما هو الموقف من تلك المخالفات السياسية، بل والعقدية التي قد تقع في هذا المجال، وما هي الضوابط الحاكمة لهذه الممارسة؟ ومن المسلَّم به أن هذه القضية من قضايا السياسة الشرعية، والتي تدور حول تقدير الموازنة بين المصالح والمنافع من جهة، والمفاسد والمضار من جهة أخرى. وهو باب يتعلق بالولايات الشرعية، وبقواعد التزاحم والتدافع بين المصالح والمفاسد، ويدور في فلك اختيار خير الخيرين، ودفع شر الشرَّين. كما يتناوله فقهُ الاستحسان الأصولي، وقواعد الحاجة والضرورة، والمصالح المرسلة؛ كل ذلك في تداخل وتمازج يتطلب فصلًا بين الأحكام وتقريرًا لها، كما ينظر للمآلات رعايةً لها. ولا شك أن هذه النازلة على جِدَّتها لها أصولٌ وسوابقٌ يمكن الردُّ إليها والتخريجُ عليها بعد استثارة السوابق الفقهية والفتاوي النوازلية عبر تراثنا الفقهي التليد. ولا يخفى على مطلع أن فقهاءنا الأقدمين قد بحثوا مسائل في الولاء والبراء، ومسائل في الاستعانة بغير المسلم، والتعامل معه، وتوليته، والتولي له، وانقسم العلماء الأقدمون إلى فريقين: مبيح وحاظر.

تحرير محل النزاع

وعليه فلا غرو أن يختلف المعاصرون -أيضًا- في هذه المسائل المطروحة ونحوها إلى فريقين: مجيز ومانع. تحرير محل النزاع: • وإذا كان مفهوم العمل السياسي في الشرق يكاد يقتصر على السعي لنصرة الدين من خلال المشاركة في مؤسسات صناعة القرار السياسي -كالأحزاب السياسية، والمجالس النيابية، ونحوها- فإن مفهومه في الغرب يتسع لكل سعي في نصرة الدين من خلال القنوات الرسمية بصفة عامة؛ فيتسع بذلك لكثير من الأنشطة الدعوية التي اتفق الناس كافة على مشروعيتها؛ فلم يُخْتَلَفْ فيها، ولم يُخْتَلَفْ عليها. • فالعمل السياسي في الغرب منه ما هو متفق عليه، ومنه ما هو مختلف فيه؛ فما كان من جنس أعمال الاحتساب العام كالإنكار على ما يقع من الظلم والعسف، وتعمد الإساءة إلى الإسلام والمسلمين، وإعلان هذا النكير بمختلف وسائل التعبير المتاحة في هذه المجتمعات- فإن مثل هذا ينبغي أن يكون في أصله من المحكم الذي لا يُخْتَلَفُ فيه ولا يُختَلَفُ عليه، ولا يدخل ابتداءً في محل النزاع، أمَّا مَا كان من جنس العمل السياسي بمفهومه الخاص (المشاركة في مؤسسات صنع القرار السياسي كالأحزاب النيابية ونحوه) فهذا هو موضع النظر؛ لاختلاط المصالح بالمفاسد في مثل هذه الأعمال. وقد تقدَّمَ أن المقصود بالعمل السياسي في هذا المقام هو المشاركة في صنع القرار السياسي من خلال الأحزاب السياسية والمجالس النيابية، وغيرها من المؤسسات السياسية والدستورية للدولة، مع ما يستتبعه ذلك من التحالفات المؤقتة مع بعض القوى السياسية الأخرى، أو استعمال بعض الآليات الديموقراطية المتاحة، كالتظاهر، والعصيان المدني، وتكوين جماعات الضغط ونحوه؛ وذلك بغيةَ تحصيل بعض المصالح الشرعية للأقليات الإسلامية، كحماية حقوقها السياسية والمدنية، ونحوه، وتعطيل أو

تقليل بعض المظالم الواقعة عليها، ونصرة قضايا الأمة العادلة، وكسب التأييد الدولي لها. ومما يخرج عن اعتباره من محل النزاع قولٌ لا يُلْتَفَتُ إليه يتضمن إطلاق القول بتكفير مَنْ دخل في هذا العمل إيًّا كان مقصوده ونيته، وهو من الإطلاقات الفاحشة التي ترد على أصحابها؛ فإن البرلمانيين في ظل العلمانية أنواع: • فمنهم من بقي على أصل إيمانه بالله ورسوله، محبًّا للشريعة ومنحازًا لفسطاطها، وكان له نوع تأوُّلٍ في دخوله إلى هذه المواقع، أو بقائه فيها كتحصيل بعض المصالح، أو دفع بعض المفاسد، فهذا له حكم أمثاله من أهل الإسلام، وأمرُهُ إلى الله. • ومنهم من انحاز إلى العلمانية، وأعلن انتماءه لها، وتبنيه لمقرراتها، فهذا له حكم أمثاله من العلمانيين العقديين. • ومنهم المغيبون عن حقيقة ما يجري في العالم من الصراعات الفكرية والسياسية من العامة وأشباه العامة، ولا أربَ لهم في سعيهِمْ إلى هذه المواقع، إلا ما يكون لطلاب الدنيا عادةً عند تطلعهم إلى المناصب والألقاب، مع بقاء انتسابهم إلى الإسلام في الجملة، وإقرارهم بشرائعه على الجملة، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من جهلاء أهل الإسلام، ممن خلطوا عملًا صالحًا وآخرَ سيئًا، وهم في خطر المشيئة يوم القيامة، إلا إذا أُقيمت عليهم الحجة الرسالية التي يَكْفُرُ معاندُهَا (¬1). وغني عن البيان أن العمل السياسي لا يُحِلُّ حرامًا ولا يُحَرِّمُ حلالًا؛ فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، وجميع الأعمال في ذلك سواء، وعلى هذا فالأصل العام أن يتقيد العمل السياسي بمرجعية الشريعة، وأن ينضبط بضوابط المصلحة الشرعية، وأن يراقبَ مشروعيتَهُ ثلةٌ من الفقهاء والخبراء، ممن يُحْسِنونَ الفهم ¬

_ (¬1) توصيات ندوة المشاركة السياسية بمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، (ص 441).

ومن الضوابط المتفق عليها في هذا المقام

عن الله ورسوله، ويضعون الأمور في نصابها، فلا يغلقون باب الاستصلاح بالكلية، فيفوِّتون كثيرًا من المصالح الشرعية، ولا يفتحونه على مصراعيه بغير ضابط فَيُدْخِلونَ في دين الله ما ليس منه، وإذا كانت الأمة قد اصطلحت على هيئات رقابة شرعية داخل المصارف الإسلامية؛ لمراقبة مشروعية عقودها، فإن العمل السياسي أحوجُ منها لمثل هذه الرقابة، وينبغي أن يسلم القائمون عليها قيادَهُمْ لها، وأن يجعلوها حجة بينهم وبين الله -عز وجل-، وجُنَّةً يتقون بها سخطَهُ وعذابَهُ! ومن الضوابط المتَّفَقِ عليها في هذا المقام: • دراسة الجدوى، والتحرير الدقيق لما يتضمنه هذا العملُ من المصالح أو المفاسد، والتأكدُ من غلبة المصلحة، ومراجعةُ هذه الموازنات بصورة دورية ومتجددة، فإن المصالح والمفاسد في مثل هذه المسائل في حركة دائبة ومستمرة. • أن لا يقتضي هذا العملُ مظاهرةً على المؤمنين، أو اتخاذَ عَدُوِّهِمْ بطانةً من دونهم. • أن لا يُفضي إلى تشرذمِ فصائل العمل الإسلامي، بما يجرُّهُ الخلاف حولَهُ من تهارج وتفرُّقٍ مذموم. • التوازن بين الاشتغال بهذا العلم، والاشتغال بسائر الأعمال الدعوية الأخرى، فالعمل السياسي ليس بديلًا عن الأعمال الدعوية أو التربوية، فلا ينبغي أن يكون الاشتغال به على حساب تراجع أو تهميش هذه الأعمال (¬1). الأقوالُ وقائِلُوها: القول الأول: الجواز، سواءً أكان الأصل هو الجواز، أم كان الأصل الحرمة، وقيل بالجواز استثناءً، أو للمصلحة، أو لغير ذلك من الأدلة: ¬

_ (¬1) قرارات وتوصيات المؤتمر الرابع لمجمع فقهاء الشريعة بالقاهرة في رجب 1427 هـ، 2006 م، دار الإسلام للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 1، 1428 هـ - 2007 م، (ص 436 - 438).

وهم جمهور علماء العصر، ومنهم: - فضيلة شيخ الأزهر الأسبق جاد الحق علي جاد الحق -رحمه الله- (¬1). - فضيلة مفتي الديار المصرية الأسبق الشيخ الدكتور نصر فريد واصل (¬2). - فضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم زيدان (¬3). - فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي (¬4). - فضيلة الدكتور صلاح الصاوي (¬5). - فضيلة الدكتور صلاح سلطان (¬6). - فضيلة الدكتور علي الصوا (¬7). - فضيلة الدكتور محمد الشحات الجندي (¬8). - فضيلة الشيخ فيصل مولوي (¬9). ¬

_ (¬1) مجلة الأزهر عدد ديسمبر - يناير، (ص 918). (¬2) بحث: مشاركة المسلم في الانتخابات مع غير السلم من الناحية التشريعية والفقهية في الشريعة الإسلامية بمجلة رابطة العالم الإسلامي، المجلد الأول، الجزء الثاني، 1422 هـ، (ص 481 - 483). (¬3) بحث: الديموقراطية ومشاركة المسلم في الانتخابات، د. عبد الكريم زيدان، ضمن بحوث فقهية معاصرة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1424 هـ - 2004 م، (60 - 124). (¬4) الدين والسياسة، تأصيل ورد شبهات، د. يوسف القرضاوي، مطبوعات المجلس الأوروبي للإفتاء، ط 1، 1428 هـ. (¬5) رؤية فقهية حول المشاركة السياسية للمسلمين في المجتمع الأمريكي، د. صلاح الصاوي، ضمن كتاب فقه النوازل بالجامعة الأمريكية المفتوحة. (¬6) مشاركة المسلمين في الانتخابات الأمريكية، د. صلاح سلطان، دار سلطان للنشر، والمركز الأمريكي للأبحاث الإسلامية، ط 2، 1429 هـ، (ص 51 - 91). (¬7) مشاركة المسلم الأمريكي في الحياة السياسية، د. على الصوا، (ص 366 - 367). (¬8) قضايا الجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية، د. محمد الشحات الجندي، سلسلة قضايا إسلامية صادرة عن وزارة الأوقاف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ط 1، 1429 هـ، (ص 37 - 47). (¬9) التأصيل الشرعي للعمل السياسي للمسلمين في أوروبا، فيصل مولوي، المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، العدد 10 - 11، 1428 هـ، 2007 م، (2/ 47 - 50).

القول الثاني: المنع من هذه المشاركة، وتحريمها من الأصل مطلقا

وبهذا صدر قرار المجلس الأوروبي للإفتاء، رقم (5/ 16) في الدورة السادسة عشرة للمجلس باستنبول بتركيا، عام 1427 هـ 2006 م (¬1). وبه أيضًا صدرت نتائج وتوصيات دورة المشاركة السياسية، المنعقدة في 2006 م بمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا (¬2). القولُ الثاني: المنعُ من هذه المشاركةِ، وتحريمُها من الأصل مطلقًا: وممن قال بهذا الرأي: الباحث عبد المنعم عبد الغفور في رسالته للدكتوراه بجامعة أم القرى، والتي بعنوان: المسائل العقدية المتعلقة بالأقليات الإسلامية (¬3). والأستاذ محمد قطب (¬4)، وهو قول حزب التحرير (¬5). في آخرين ممن منعوا من أصل الإقامة بدار الكفر ابتداءً، ومنعوا من التجنس بجنسيتها مطلقا (¬6). الأدلة والمناقشات: أدلة القول الأول: من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والقواعد الفقهية والمقاصدية: أولًا: القرآن الكريم: 1 - قوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]. ¬

_ (¬1) البيان الختامي، مجلة المجلس الأوروبي للإفتاء العدد 10 - 11، 1428 هـ، 2007 م، (2/ 305 - 306). (¬2) قرارات مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، المؤتمر الرابع، 1427 هـ، (ص 433 - 451). (¬3) المسائل العقدية المتعلقة بالأقليات الإسلامية، لعبد المنعم عبد الغفور حيدر، رسالة دكتوراه مخطوطة بكلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى، 1426 هـ، (ص 300) وما بعدها. (¬4) واقعنا المعاصر، لمحمد قطب، مؤسسة المدينة، جدة، ط 2، 1408 هـ - 1987 م، (ص 509). (¬5) الدعوة إلى الإسلام، أحمد المحمود، من منشورات حزب التحرير الإسلامي دار الأمة للطباعة والنشر، بيروت، (2/ 294). (¬6) الجنسية والتجنس، د. سميح عواد الحسن، (ص 245 - 262).

وجه الدلالة: نهى الله تعالى عن كتمان الشهادة، وهو نهي يُحْمَلُ على التحريم بقرائنَ عديدةٍ، منها: الوعيد {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، خاصة إذا خاف الشاهد ضياع الحق، واستدل بقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد" (¬1). وأكد الإمام الطبري أن النهي للتحريم؛ لعدة قرائن، منها: الوعيد، ومواضع النهي حيث يخشى ضياع الحق، وبيَّن أن كتمان الحق يؤدي إلى إثم القلب، فيكون سببًا في مسخه، فيكون منافقًا ويُطْبَعُ عليه (¬2). 2 - قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]. وجه الدلالة: "إذا علم الشاهد أن الحق يذهب ويتلف بتأخره عن الشهادة فواجب عليه القيام بها لأنها قلادة في العنق، وأمانة تقتضي الأداء" (¬3)، ويذكر القرطبي أنه ليس معنى الآية أن واجب أداء الشهادة عند الدعوة إليها فقط، ولا تجب إلا إذا دعي ويرد على من فهم ذلك من الآية بقوله: "والصحيح أن أداءها فرض وإدن لم يسألها إذا خاف على الحق ضياعه أو فوته. . . والله تعالى يقول: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] " (¬4). وينتهي إلى أن من وجبت عليه شهادة فلم يُؤَدِّهَا فهي جرحة في الشاهد والشهادة، وهو فاسق بامتناعه عن القيام بما وجب عليه من غير عذر، وهذا الفسق يسلب أهليته في الشهادة مطلقًا في عقود الزواج، أو الطلاق، أو أهلية القضاء والولايات العامة (¬5). ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن، (3/ 415). (¬2) تفسير الطبري، (5/ 126 - 127). (¬3) تفسير ابن عطية، (1/ 383)، بتصرف. (¬4) تفسير القرطبي، (3/ 399). (¬5) تفسير القرطبي، (3/ 399 - 400).

3 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]. وجه الدلالة: في الآية أمر جلي بإقامة العدل وتجريد الشهادة لله، ولا يميل الإنسان بهواه إلى انتخاب، أو ترشيح نفسه، أو والديه أو الأقربين، واعتبر هذا من الالتواء والإعراض عن العدل والحق، وأن الله تعالى يعلم الأسباب الخفية في الاختيار، والانتخاب، والشهادة، وتفسير الآية -كما يذكر السيوطي-: أنه لا تجوز المحاباة للغني؛ كسبًا لرضاه، أو الفقير رحمةً له، بل يجب إقامة العدل في كل حال (¬1)، وهو ما يجب أن يتحلى به المسلم في تصويته دائمًا (¬2). 4 - قوله تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 55 - 56]. وجه الدلالة: قال الألوسي: "فيها دليل على جواز طلب الولاية، إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل، وإجراء أحكام الشريعة، وإن كان من يد الكافر أو الجائر، وربما يجب عليه الطلب إذا توقفت على ولايته إقامةُ واجبٍ مثلًا، وكان متعيِّنًا لذلك" (¬3). ¬

_ (¬1) تفسير الجلالين، جلال الدين محمد بن أحمد المحلي، وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار الحديث، ط 1، (ص 125). (¬2) مشاركة المسلمين في الانتخابات الأمريكية، د. صلاح سلطان، (ص 55). (¬3) روح المعاني، للآلوسي، (13/ 5) بتصرف يسير.

ثانيا: السنة المطهرة

وقد شارك يوسف -فعلًا- في الحكم في مجتمع مشرك، لا يقوم الحكم فيه على قواعد الإسلام، وإنه حين طلب هذه الولاية علل طلبه بأنه يتمتع بصفات تؤهله لتحمل المسئولية، فوصف نفسه بأنه: حفيظ عليم. ويقول الدكتور عمر الأشقر: "بناءً على ذلك كله، يظهر لنا جواز المشاركة في الحكم غير الإسلامي، من خلال عرض قصة يوسف -عليه السلام-، إذا كان يترتب على ذلك مصلحة كبرى، أو دفع شرٍّ مستطيرٍ، ولو لم يكن بإمكان المشارك أن يُغَيِّرَ في الأوضاع تغييرًا جِذريًّا" (¬1). ثانيًا: السنة المطهرة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالًا فأذَّنَ في الناس أنه: "لا يدخل الجنة إلا نفسٌ مسلمة، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجلِ الفاجرِ" (¬2). وجه الدلالة: لا يُمْتَنَعُ عن ترشيح بعض الفجرة أو الكفرة في الانتخابات فقد يُقَدِّمُ منافعَ جليلةً للجالية الإسلامية هناك. فالتقدُّمُ لانتخاب هذا الفاجر لا حرج فيه شرعًا، إذا غلب على الظن أنه يخدم ما رُشِّحَ له بقوة وأمانة. ويظهر من هذه الآيات والأحاديث "وجوب الانتخاب والتقدُّم للتصويتِ في الانتخاباتِ التي يكون من حقِّ المسلم المشاركةُ فيها، وأن التخلف عن ذلك فيه إثمُ مخالفةِ الشرعِ وتركِ الواجبِ، حتى لو كان المرشَّحُ فاجرًا، ما دام صالحًا لما يُرَشَّحُ له، ¬

_ (¬1) حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، د. عمر الأشقر، دار النفائس، عمان، 1992 م، (ص 32). (¬2) أخرجه البخاري، كتاب القدر، باب: العمل بالخواتيم، (6606)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه. . .، (111) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا.

ويُرْجَى نفعُهُ للمجتمع عامَّةً والمسلمين خاصَّةً" (¬1). وقد استدل هذا الفريق على جواز تولي الولاية العامة قي ظل حكومة غير إسلامية، أو حكومة لا تحكم بشريعة الله بموقف النجاشي فقد ظلَّ حاكمًا على نظام يحكم بغير شريعة الله بعد إسلامه، ومع ذلك اعتبره النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا صالحًا، وصلى عليه بعد موته، ولم يُخَطِّئْهُ في فعله، ومما يشهد بإسلامه: حديث البخاري الذي فيه أنه -عليه السلام- حين بلغه وفاة النجاشي قال: "مات اليوم رجل صالح فقوموا فصلُّوا على أخيكم أصحمةَ" (¬2). وجميع الروايات التي ذكرها البخاري حول موت النجاشي، ونعي النبي - صلى الله عليه وسلم - له، والصلاة عليه، ومنحه وصف الصلاح، تؤكد أنه كان مسلمًا، مع أنه كان ملكًا لأمة كافرة، يحكمها وفق ما اعتادته من نظام وأعراف، وقد وصفه ابن حجر بأنه "كان ردءًا للمسلمين نافعًا" (¬3). وقد ساق الدكتور عمر الأشقر مجموعة من الأدلة على أن النجاشي -رضي الله عنه- لم يحكم في قومه بشريعة الإسلام، منها: قوله في رسالته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - "فإني لا أملك إلا نفسي"، ومنها: أن قومه قد خرجوا عليه يريدون خلعه، فنصره الله على خصمه، وكان حجته على قومه أنه لم يُغَيِّرْ، ولم يُبَدِّلْ مما عرفوه عنه، مع أنه اعتقد بالإسلام باطنًا، وبعث يعلم رسول الله بمعتقده (¬4). قال ابن تيمية -رحمه الله-: "والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيرًا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيًا، بل وإمامًا، وفي ¬

_ (¬1) مشاركة المسلمين في الانتخابات الأمريكية، د. صلاح سلطان، (ص 57 - 58). (¬2) أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب: موت النجاشي، (3877)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب: في التكبير على الجنائز، (952) من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- مرفوعًا. (¬3) الإصابة، لابن حجر، (1/ 205). (¬4) حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، د. عمر الأشقر، (ص 74 - 75).

ثالثا: القواعد الفقهية والأصولية

نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها، فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. . . فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة، وإن كانوا لم يلتزموا بشرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها" (¬1). ثالثًا: القواعد الفقهية والأصولية: 1 - ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (¬2): وفي بلاد الأقليات لا يتم حفظ مكتسباتها، ودرء المفاسد عنها، إلا بحضورٍ فاعلٍ ومشاركةٍ قويةٍ، والغياب عن هذه الأنشطة يُفَوِّتُ مصالحَ كثيرةً مالية واجتماعية وسياسية. 2 - تحقيق أكمل المصلحتين، ودرء أعظم المفسدتين عند التعارض (¬3): وبإعمال هذه القاعدة نجد أن المشاركة السياسية المنضبطة، وما يترتب عليها من صيانة حقوق الأقليات، ورفع الظلم عنها، يمثل مصلحة راجحة، ينغمر فيها ما قد يتعرض له المشارك من مفاسد. 3 - اعتبار الذرائع، والنظر في المآلات (¬4): وقد سبق أن عمرَ أَمَرَ حذيفةَ بطلاق زوجته اليهودية لما خشي أن ينصرف الناس عن النساء المسلمات فيكون من ذلك فتنة لهن. ولا شك أن المشاركة تؤول عاقبتها إلى تقوية شوكة المسلمين، وحفظ مصالحهم، وعلى من يشارك أن يتقي الله في المفاسد والمناكر التي تعترض سبيله. 4 - الأمور بمقاصدها (¬5): ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (19/ 218 - 219). (¬2) الأشباه والنظائر، لابن السبكي، (2/ 88)، الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 125). (¬3) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 87)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص 98)، الموافقات، للشاطبي، (1/ 350). (¬4) الموافقات، للشاطبي، (4/ 194). (¬5) الأشباه والنظائر، لابن السبكي، (1/ 54)، الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 8).

رابعا: المعقول، والقياس

وذلك لأن المشارك في هذا العمل من مسلمي الأقليات ليس ممن يريد علوًّا في الأرض ولا فسادًا، وإنما هو ساعٍ في الإصلاح، وتحقيق العدل، ورفع المظالم، فلا يستوي ومن يبتغي بذلك دنيا أو يبيعُ دِينَهُ بها. وعليه فإن قواعد الفقه والأصول تشهد لهذا العمل بالجواز، وتحكم عليه بالقبول. رابعًا: المعقول، والقياس: القياس على وجوب فداء أسرى المسلمين: في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَطْعِمُوا الجائعَ، وعُودُوا المريضَ، وفُكُّوا العانِيَ" (¬1). وقد ذكر الإمام مالك أن على الناس أن يُفْدُوا الأسارى، ولو استغرق ذلك جميعَ أموالهم (¬2). وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "لأن أستنقِذَ رجلًا من المسلمين من أيدي الكفار أحبُّ إليَّ من جزيرة العرب" (¬3). وقد نص على وجوب فداء الأسرى من بيت مال المسلمين طائفة من فقهاء المذاهب، منهم ابن قدامة المقدسي (¬4)، وابن تيمية (¬5)، والبهوتي (¬6)، والرملي (¬7) (¬8)، والسيوطي (¬9)، ¬

_ (¬1) أخرجه البخارث كتاب المرضي، باب: وجوب عيادة المريض، (5649) من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- مرفوعًا. (¬2) تفسير القرطبي، (5/ 279). (¬3) الخراج، لأبي يوسف، (ص 196). (¬4) المغني، لابن قدامة، (13/ 135). (¬5) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (29/ 183، 184). (¬6) كشاف القناع، للبهوتي، (3/ 139). (¬7) نهاية المحتاج، للرملي، (8/ 108). (¬8) محمد بن أحمد بن حمزة، شمس الدين الرملي، فقيه الديار المصرية في عصره، ومرجعها في الفتوى، يقال له: الشافعي الصغير من مصنفاته: غاية البيان في شرح زبد ابن رسلان، نهاية المحتاج حاشية على شرح التحرير لشيخ الإسلام، فتح الجواد بشرح منظومة ابن العماد، ولد سنة 919 هـ، وتوفي سنة 1004 هـ. الأعلام، للزركلي، (6/ 7)، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (8/ 255). (¬9) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص 87).

بعض الفتاوي والاجتهادات المعاصرة الصادرة في هذا الشأن

وابن رجب (¬1)، وابن سلمون المالكي (¬2) (¬3)، وذهبت طائفة أخرى إلى الاستحباب منهم العز ابن عبد السلام وغيره. وبناءً على وجوب فداء الأسير لو كان واحدًا، أو الأسرى إذا تَعَدَّدُوا، ويُبْذَلُ لذلك المالُ لمن يأخذه وينتفع به في معصية، لكن هذه المعصية غير مقصودة؛ ولذا قال العز ابن عبد السلام: "قد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان لا من جهة كونها معصية، بل من جهة كونها وسيلة إلى مصلحة. وله أمثلة، منها: ما يبذل في افتكاك الأسارى فإنه حرام على آخذيه مباح -بل مندوب- لباذليه" (¬4). وإذا كان هناك قول بوجوب بذل المال فداء للأسرى فيقاس عليه صحةُ بذل المال للحملة الانتخابيةِ لبعض المرشحين الذين يرفعونَ القيودَ عن المسلمين للعلة الجامعة، وهي دفع الفتنة والابتلاء عن المسلمين، ولا يكون القصد أن يُعَانَ أيُّ مرشحٍ لاتخاذ قرارات تخالف الشريعة، بل مؤازرة قضايا المسلمين، ورد الشرِّ عنهم. بعض الفتاوي والاجتهادات المعاصرة الصادرة في هذا الشأن: أولًا: فتيا شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق -رحمه الله-: " ما دام المسلم مقيمًا في غير دار الإسلام، فالأجدر به والواجب عليه ألا يشترك، أو ينضم إلى فرقة سياسية حيث لا يأمن على حرية تصرفاته، وقد تضطره السياسة الحزبية ¬

_ (¬1) القواعد، لابن رجب، (ص 144). (¬2) العقد المنظم للحكام، لابن سلمون الكتاني المالكي، (2/ 185، 186). (¬3) أبو محمد، عبد الله بن علي بن عبد الله بن علي بن سلمون، الكتاني، فاضل أندلسي، من مصنفاته: الشافي في تحرير ما وقع من الخلاف بين التبصرة والكافي، والعقد المنظم للحكام فيما يجري بين أيديهم من العقود والأحكام، ولد سنة 699 هـ، وتوفي سنة 741 هـ. الأعلام، للزركلي، (4/ 106)، معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، (6/ 90). (¬4) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 176).

ثانيا: فتوى مؤتمر علماء الشريعة في أمريكا الشمالية، نوفمبر 1999 م، ديترويت، ميتشجان

-غير المسلمة- إلى الالتزام بمبادئِهَا، وحتمًا هي مبادئ تخالف الإسلامَ في الأغلب، ويُخْشَى منها عليه. أما إذا كان المسلم قويَّ الشخصية، قويَّ الإيمان، صاحبَ نفوذٍ ورأي، وكان في انضمامه إلى الفرقة السياسية نفعٌ للأقلية المسلمة بالدفاع عنها، وتوصيلِ النفع لها، فلا مانعَ من الانضمام مع الحذر واليقظة" (¬1). ويمكن بيان شروط الانضمام، وهي: 1 - أن يكون المسلم قوي الشخصية، قوي الإيمان. 2 - أن يكون صاحب نفوذ بحيث يُؤَثِّرُ، ولا يتأثَرُ. 3 - ألا يلتزم بمبادئ الحزب التي تخالف الأحكام الشرعية، القولية منها، والفعلية. 4 - ألا يترتب عليه موالاة. 5 - أن يكون في انضمامه نفعٌ لجماعته المسلمة. 6 - ألا تكون تلك الفرقة شيوعية، أو إباحية، وما شابه ذلك. وقد سئل فضيلته عن الانضمام إلى الشيوعية والاشتراكية، فأجاب: "لا يجوز لمسلم أن يضم نفسه بالانتساب إلى واحد من هذه المذاهب ونحوها، فمن استبدل عقيدة أو مذهبًا آخرَ فقد باء بغضب الله" (¬2). ثانيًا: فتوى مؤتمر علماء الشريعة في أمريكا الشمالية، نوفمبر 1999 م، ديترويت، ميتشجان: حيث حضره أكثر من ستين عالمًا، وكان على رأسهم: فضيلة الشيخ الدكتور يوسف ¬

_ (¬1) مجلة الأزهر عدد ديسمبر - يناير (ص 618). (¬2) مجلة الأزهر عدد ديسمبر - يناير (ص 619).

ثالثا: فتوى المجلس الأوروبي للإفتاء

القرضاوي، ومعه جمع من العلماء، منهم: د. جمال بدوي، ود. وهبة الزحيلي، ود. عبد الحكيم جاكسون، ود. عبد الستار أبو غدة، ود. عبد الله النجار، ود. مزمل الصديقي. وقد انتهى أصحاب الفضيلة العلماء إلى القرار التالي: "الأصل مشروعية المشاركة السياسية في جميع المجالات التي يتحقق بدخولها نفع عام للمواطنين والمقيمين بمن فيهم من المسلمين، مثل: الانتخاب، والترشيح للمجالس، والحكومات المحلية، وممثلي الشعب، والإدارات التنفيذية، والمؤسسات الإغاثية والدولية؛ لما في ذلك من حماية مصالح المسلمين في الداخل، وتوضيح صورة الإسلام الحضارية بطرق وممارسات عملية، ودعم القضايا الإسلامية والإنسانية العادلة" (¬1). ثالثًا: فتوى المجلس الأوروبي للإفتاء: حيث صدرت الفتوى من المجلس بضرورة مشاركة المسلمين في الغرب في الانتخابات؛ حرصًا على الدفاع عن حقوقهم، وتقديم مشروعهم الحضاري الإصلاحي إلى مجتمعهم الذي يعيشون فيه سواء في أوروبا أو أمريكا أو غيرها. وفيما يلي نص القرار: "قرار (5/ 16) المشاركة السياسية أحكامها وضوابطها: بعد تدارس البحوث المقدمة المتعلقة بهذا الموضوع، قرر المجلس ما يلي: أولًا: هدف المشاركة السياسية هو صيانة الحقوق والحريات والدفاع عن القيم الخلقية والروحية، وعن وجود المسلمين في ذلك البلد ومصالحهم المشروعة. ثانيًا: الأصل مشروعية المشاركة السياسية للمسلمين في أوروبا، وهي تتردد بين الإباحة والندب والوجوب، وهذا مما يدلُّ عليه قولُهُ تعالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ¬

_ (¬1) مشاركة المسلمين في الانتخابات الأمريكية، د. صلاح سلطان، (ص 67).

أدلة المانعين: من القرآن، والقواعد المقاصدية، والمعقول

وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، كما أنه يعتبر من مقتضيات المواطنة. ثالثًا: المشاركة السياسية تشمل الانخراط في مؤسسات المجتمع المدني والالتحاق بالأحزاب، وتكوين التوجهات، والمشاركة في الانتخابات تصويتًا وترشيحًا. رابعًا: من أهم ضوابط المشاركة السياسية: الالتزام بالأخلاق الإسلامية، كالصدق والعدل والوفاء والأمانة، واحترام التعددية، والرأي المخالف، والتنافس النزيه مع المعارضين، وتجنب العنف. خامسًا: من أهم ضوابط المشاركة السياسية: التصويت في الانتخابات، بشرط الالتزام بالقواعد الشرعية، والأخلاقية، والقانونية، ومنها: وضوحُ المقاصدِ في خدمة مصالح المجتمع، والبعد عن التزوير أو التشهير، والتجرد من الأهواء الشخصية. سادسًا: جواز بذل المال للحملة الانتخابية، حتى لو كان المرشح غيرَ مسلمٍ، ما دام أقدرَ على تحقيق الصالح العام. سابعًا: مشروعية المشاركة تنطبق على المرأة المسلمة، كالرجل" (¬1). أدلة المانعين: من القرآن، والقواعد المقاصدية، والمعقول: أولًا: القرآن الكريم: 1 - النصوص القاضية على من لم يحكم بما أنزل الله بالكفر، والفسوق، والظلم، كقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]. وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]. وجه الدلالة: الحكم بالشرع المستبدل والوضعي أمرٌ رتَّب الله تعالى عليه أحكامًا بالكفر أو ¬

_ (¬1) مجلة المجلس الأوروبي للإفتاء عدد 10 - 11، 1428 هـ، 2007 م، (ص 305 - 306).

الظلم أو الفسق، والمشاركة في ذلك يُخشى منها على المسلم ببلاد الأقليات. 2 - النصوص التي تجعل الحكم لله وحده، كقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40]، مع النهي عن الاحتكام إلى شريعة غير شريعة الله، وجعل ذلك منافيًا للإيمان، كقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وجه الدلالة: "ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فمن استحلَّ أن يحكم بين الناس بما يراه عدلًا دون اتباع لما أنزل الله فهو كافر" (¬1). 3 - الآيات التي تنهى عن الركون إلى الظالمين، أو اتخاذهم أولياء، كقوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]. وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]. وجه الدلالة: "هذه النصوص وأمثالها تدل على عدم جواز المشاركة في الحكم بغير ما أنزل الله، وأن ذلك هو الأصل؛ لأنه لا يجوز ترك حكم الله إلى حكم غيره، وإنَّ من يفعل ذلك يكون مُؤْثِرًا لحكم الجاهلية على حكم الله" (¬2)، ويقول د. سليمان توبولياك: "وبناء على ¬

_ (¬1) منهاج السنة النبوية، لأبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، ط 1، 1406 - 1986، (5/ 130). (¬2) المشاركة في الوزارة، د. محمد عبد القادر أبو فارس، (ص 39).

هذه الأدلة استنتج أن الأصل عدم جواز المشاركة في مثل هذه النظم، سواء في دار الكفر، أو في دار الإسلام" (¬1). ويورد د. صلاح الصاوي قولهم: إن هذه المشاركة في الانتخابات تُضفي الشرعية على الأحزاب والمؤسسات الكفرية، عندما تدعم بعضًا منها على آخر (¬2). ويثير د. عبد الكريم زيدان هذه النقطة من زاوية قريبة بأن هناك من يعترض على المشاركة؛ لأنها تدعم إلديمقراطية، وهي نظام غير إسلامي فلا تجوز المشاركة فيه مما يوحي بتسويغه (¬3). 4 - إن طاعة الحكام الظالمين فيما يشرعون مخالفين أمرَ الله تعني: اتخاذ المطيع لهم أربابًا من دون الله، وهو ممنوع، كقوله تعالى -في شأن أهل الكتاب-: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة: 31]. وجه الدلالة: قد بيَّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم أن معنى هذا الاتخاذ هو: طاعتهم في تحليلهم ما حرَّم الله وتحريم ما أحلَّ الله (¬4). إن دلالة النصوص السابقة -وغيرُها كثيرٌ في كتاب الله- واضحةٌ قاطعةٌ في أن الناسَ -والحكامُ في أولهم- مأمورون بالاحتكام إلى شرع الله، ومنهيون عن التحاكم إلى الطاغوت، وأن الواجب عليهم اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أمر أو نهى، وأن من لم ¬

_ (¬1) الأحكام السياسية للأقليات المسلمة، لسليمان توبولياك، (ص 100). (¬2) رؤية فقهية حول المشاركة السياسية للمسلمين في المجتمع الأمريكي، د. صلاح الصاوي، (ص 20 - 21). (¬3) بحوث فقهية معاصرة، د. عبد الكريم زيدان، (ص 96). (¬4) أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب: ومن سورة التوبة، (3095) من حديث عدي بن حاتم -رضي الله عنه- مرفوعًا قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث".

ثانيا: الأدلة من القواعد المقاصدية، والمعقول

يرضَ بحكم الله وحكمِ رسولِهِ لا يكون مؤمنًا. يقول د. عمر الأشقر: "من أجل هذه النصوص التي سقناها -وقد سقتُهَا آنفًا- قلنا: إن الأصل عدم جواز المشاركة" (¬1). "والمشاركة في أنظمة الكفر تعني: أن الداعي لها يقبل بوجود تشريع بشري إلى جانب التشريع الإلهي، وبالتالي يقبلُ بمشرع للأحكام غير الشرعية إلى جانب المشرع للأحكام الشرعية، وتعني كذلك: القبول بتعدد مصادر التشريع، إلى أن يقول: إن عدم جواز الإشراك بالله يقتضي عدم جواز المشاركة في حكمه". "ومن هنا فإن الشرع -بِكُلِّيَّتِهِ- يدلُّ على عدم جواز المشاركة في الأنظمة الجاهلية" (¬2). ثانيًا: الأدلة من القواعد المقاصدية، والمعقول: الأدلة المقاصدية والعقلية: 1 - إن المشاركة السياسية وتوليها من الظالمين أو الكافرين اعتداء على حق الله في أن يكون له الحكم والأمر، وهذه مفسدة تتعلق بالدين، وحفظه من الضروريات. 2 - الركون إلى الذين ظلموا يوقع أهله في مغبة الوعيد، وفي هذا تضييع لمصالح الآخرة، وفي تولي الوزارة ركون إليهم، وكل ذلك منهي عنه. 3 - إن في تولي المناصب السياسية ونحوها تزكية لفعل الظالمين، بتقلد أعمالهم، وهي تصبغ على حكمهم المشروعية، وقد قصدوا من توليتهم المخلصين تزيين حكمهم. 4 - إن في مشاركة الظالمين في إدارتهم السياسية فقدانًا لثقة الجماهير بأهل الفضل والدعوة؛ لأنهم حين يشاركون مغتصبي حقِّ الله تعالى في تنفيذ شرعه وحده دون ¬

_ (¬1) حكم المشاركة في الوزارات، د. عمر الأشقر، (ص 33). (¬2) الدعوة إلى الإسلام، أحمد المحمود، (ص 294).

المناقشة

سواه، يضعهم الناس مع الأنظمة في خندق الكراهية. 5 - وقد تكون المشاركة مصيدة الهدف إلى الإيقاع بالمخاصمين تمهيدًا لتصفية وجودهم (¬1). 6 - وإذا كانت الإقامة في بلاد الكفر لا تجوز فالمشاركة السياسية تَحْرُمُ من باب أولى. المناقشة: أَوْرَدَ المانعون مناقشاتٍ على أدلة المبيحين، وتولى المبيحون الرَّدَ عليها وبيان تهافتها، وقبل إيرادها ينبغي أن نذكر بأمور، منها: 1 - لا يختلف فقيهان قديمًا أو حديثًا على وجوب تحكيم شريعة الله، وأن هذا الخطاب عام موجه للشعوب والحكام على حدٍّ سواء، وإن تفاوتت درجة تنفيذه بحسب موقع كل فرد، ومن لوازم هذا الاتفاقِ: الاتفاقُ على وجوب اتباع حكم الله ورسوله إذا قضى الله ورسوله أمرًا، ولا خيرة لمؤمن في هذا أبدًا. كما أنهم لا يختلفون في حرمة التحاكم إلى شريعةٍ غيرِ شريعةِ الله التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكلهم يقول بتأثيم من يفعل ذلك إن لم يكن معتقدًا، أو تكفيره إن اعتقد عدم صلاحية هذه الشريعة، أو فضل غيرها عليها. 2 - لا يختلف جميع الفقهاء سلفًا وخلفًا في أن موالاة الكفار والركون إلى الظالمين حرام. 3 - المانعون من المشاركة والمجيزون لها للمصلحة متفقون على أن المشاركة تُعَدُّ حكمًا بغير ما أنزل الله، وتحاكمًا إلى غير شرع الله، وركونًا للظالمين وموالاة للكافرين، بدليل أنهم استدلوا بالأدلة نفسها، وأن المانعين اعتبروا قول المجيزين قولًا بالرأي في مقابلة النص، وإعمالًا للمصلحة بدلًا من إعمال النص، كما أن المجيزين حين خرجوا عن الأصل -وهو تحريم المشاركة إلى القول بجوازها بدليل المصلحة- ¬

_ (¬1) المشاركة في الوزارة، د. أبو فارس، (ص 20)، المشاركة في الوزارة، د. عمر الأشقر، (ص 22).

نزعوا عن القوس نفسه، وإلا لما احتاجوا إلى جعل المشاركة جائزةً استثناءً. وفيما يلي رَدٌّ تفصيليٌّ على حجج المانعين: 1 - مناقشة القول بأن المشاركة السياسية إنما هي مشاركة في عمل محرَّمٍ يقوم على التحاكم إلى غير ما أنزل الله: هذا يعارض القاعدة الشرعية: "الأمور بمقاصدها"، فإذا كان القصد من المشاركة في الانتخابات أمرين: المشاركة العملية في إصلاح البلد الذي يعيش فيه المسلمون، ثم في الوقت نفسه حماية حقوقهم ومصالحهم، فإن هذا قد يتحقق بالمشاركة السياسية المنضبطة بالضوابط الشرعية. ويؤكد هذا قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -عن حلف الفضول في الجاهلية-: "لو دُعيتُ لمثله في الإسلام لأجبتُ" (¬1) وهذا لا يعني إقرارًا على كل ما يفعله غير المسلمين في الحلف، بل هو مشاركة تعني: محاولة فعل الخير من منبر قوي. 2 - مناقشة القول بأن الإقامة إذا كلانت ممنوعة فإن المشاركة السياسية ستحرم من باب أولى: - عدم جواز الإقامة في غير بلاد الإسلام، قال به عدد غير قليل من العلماء، منهم: د. محمد عبد القادر أبو فارس، والشيخ محمد عبد الله بن سبيل، والشيخ يوسف الدجوي، والشيخ علي محفوظ، والشيخ محمد الزرقاني من علماء الأزهر، والشيخ الشريف محفوظ مفتي بيروت سابقًا، وطائفة من أهل العلم. - ويقابل هذه الفتاوي من يرى جواز أو وجوب الإقامة في بلاد الغرب، ومنهم: فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ فيصل مولوي، ¬

_ (¬1) أخرجه: البزار، (3/ 235)، من حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- مرفوعًا. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": رواه البزار، وفيه ضرار بن صرد؛ وهو ضعيف، وله طريق آخر. وروى من حديث جبير بن مطعم -رضي الله عنه-.

والدكتور عبد الكريم زيدان، والباحثون في فقه الأقليات، والدكتورة شريفة آل سعيد، وعمار منذر قحف، وسليمان توبولياك (¬1). - وبالجملة فإن من خاف على دينه أو على أولاده إذا وجد بلدًا لا فتنة فيه فإن عليه أن يغادر تلك البلاد، أما من لم يكن كذلك فلا وجوب، وقد يستحب أو يجب لمن تقوم به مصالح المسلمين هناك، أو تترتب على مغادرته مفاسد (¬2). - وإذا كان المسلم من أهل تلك الدار فقد لا يجد مكانًا يهاجر إليه ويستقبله في كل الظروف والأوقات. 3 - مناقشة فكرة إضفاء الشرعية على تلك الأنظمة غير الإسلامية بمجرد المشاركة في الانتخابات ونحوها: - لو طردنا هذا الاعتراض لقلنا: إن كل تعامل مع أهل الكفر بصلح أو هدنة أو عقد أو نحوه يتضمن إقرارًا لهم بالشرعية، ولدياناتهم بالصحة، وهو غلط بين، فلم تزل أمة الإسلام عبر تاريخها كله تتعامل مع الخصوم حربًا وسلمًا، وترسل لهم الرسل والكتب، وتبرم معهم العهود والعقود، من غير أن يعني ذلك إقرارًا لهم بالشرعية، ولا لدياناتهم بالصحة (¬3). - والحق أن النظم الغربية قائمة سواء شارك المسلمون فيها أم لا؟ ولا يحتاجون إلى إضفاء الشرعية من الأقلية المسلمة فيها، ولهم مئات السنين وشرعيتهم وفقَ دستورهم وقوانينهم قائمة، وإضفاء الشرعية الإسلامية لا يمكن أن يعطى لو شارك المسلمون أجمعون؛ لأنهم أقلية صاحبة رسالة، أقصى ما تثمره هذه المشاركة الآن أمران: أ - المشاركة العملية الجادة في إصلاح البلد الذي يعيشون فيه وفق أطر التعاون في ¬

_ (¬1) المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد 10 - 11، (2/ 303 - 304). (¬2) صناعة الفتوى وفقه الأقليات، لابن بيه، (ص 285). (¬3) رؤية فقهية حول المشاركة السياسية للمسلمين في المجتمع الأمريكي، د. صلاح الصاوي، (ص 20).

الترجيح

الوجوه التي تشترك فيها الأديان والأخلاق الإنسانية العامة. ب - الحفاظ على حقوق الأقليات القانونية التي يمنحها القانون لكل مواطن بصرف النظر عن جنسيته، وألا يُعَامَلَ المسلمون معاملةً خاصة، كما جرى بعد أحداث سبتمبر في بعض التصرفات، وإصدار بعض قوانين الهجرة، والتنصت والتوقيف والحجز. الترجيح: ظاهر أن الأدلة التي ساقها المانعون ليست في محل الخلاف، وأن هذه المشاركة السياسية ليست عند المبيحين تسويغًا للحكم بغير ما أنزل الله، بقدر ما هي إنكار للمنكرات وتحقيق للمصالح التي تمس إليها حاجة الأقليات. وما يترتب على هذا من مفاسدَ فإنها تُحْتَمَلُ لتحصيل المصلحة الأعلى، وتحقيق النفع الأولى. وفي هذا الإطار يفهم قول العز ابن عبد السلام: "ولو استولى الكفار على إقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك جليًا للمصالح العامة، ودفعًا للمفاسد الشاملة، إذ يبعد عن رحمة الشارع ورعايته لمصالح عباده، تعطيل المصالح العامة، وتحمل المفاسد الشاملة لفوات الكمال في من يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها" (¬1). كما أن الشيخ محمد رشيد رضا في جوابه على سؤال مضمونه: "هل يجوز للمسلم المستَخْدَمِ عند الإنجليز الحكمُ بالقوانين الإنجليزية، وفيها الحكم بغير ما أنزل الله؟ " فأجاب بالجواز، وقال: "وعلى من قامَ أن يخدمَ المسلمين بقدر طاقته ويقويَ أحكام الإسلام بقدر استطاعته، ولا وسيلة لتقوية نفوذ الإسلام وحفظ مصلحة المسلمين مثل تقلد أعمال الحكومة" إلى أن يقول: "والظاهر أن ترك أمثاله من أهل الخبرة للقضاء وغيره من أعمال الحكومة تأثمًا من العمل بقوانينها، يضيع على المسلمين معظم ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام، للعز ابن عبد السلام، (1/ 121 - 122).

مصالحهم في دينهم ودنياهم، وما نكب المسلمون في الهند ونحوها، وتأخروا إلا بسبب الحرمان من أعمال الخدمة" (¬1). وعند القول بالجواز فلا بد من الانضباط بالحذر من مزالق هذا العمل والانضباط بضوابطه. ومن هذه المحاذير: • شَقُّ الصف الإسلامي، وتفجيرُ الفتنِ بين فضائله لتباين الاجتهادات حول هذه القضية ابتداءً من ناحية، أو لتباين الاجتهادات حول بعض تطبيقاتها وآلياتها من ناحية أخرى. • التورط في إدانة الفصائل الأخرى العاملة للإسلام، ودمغها بالجمود أو الإرهاب عندما لا تتجاوب مع الطرح السياسي الذي تقدمه التجمعات التي تتحمس لهذا العمل. • التورط في بعض المواقف الفقهية أو التصريحات الإعلامية التي لا تتفق مع أصول الشريعة والتي تستفز أهل البصيرة من المؤيدين لهذا العمل أو المعارضين له على حد سواء. • الاستدراج إلى تنازلات لا تُقَابَلُ بمصالح راجحة، والتنازل إذا بدأ فليس له حد ينتهي إليه، والمعصوم من عصمه الله تعالى! • لا يجوز لأهل الإسلام -في خضم هذا العمل- أن ينصروا كافرًا على مسلم إلا من ظلم، ولا يعينوه على مسلم إلا بالحق. • لا يليق بالفئات المسلمة في تلك الديار أن تجعل ولاءها مرتبطًا بنزعات إقليمية أو عصبيات قومية، وإنما الولاء للإسلام فحسب. لا يصلح لمن تجشموا أمر المشاركة السياسية في بلاد الأقليات أن يكونوا متفرقين، أو أن يعيشوا أوزاعًا متخالفين، بل لا بد أن يكونوا متحدين ومتفقين، ليتحقق من وراء ذلك تعظيم المصالح وتكثير المنافع وتقليل المفاسد. والله تعالى وحده هو الهادي والموفق لما فيه صلاح هذه الأقليات. ¬

_ (¬1) مجلة المنار، لمحمد رشيد رضا (7/ 561).

الخاتمة

الخَاتِمَةُ

الخَاتِمَةُ الحمد لله أولًا وآخرًا، والشكر لله ظاهرًا وباطنًا، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله، وآله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد: فقد اجتمعت في رحلة هذا البحث باقة مباركة من نتائجه، أسوقها فيما يلي: 1 - الشريعة الإسلامية الغراء هي وحدها الصالحة والمصلحة لأهل كل زمانٍ مضى أو سيأتي، ولكل مكانٍ اقترب أو نأى عن ديار الإسلام. 2 - إن وجود الأقليات الإسلامية اليوم لا ينبغي النظر إليه على أنه مجموعة مشكلات معقدة التركيب، بقدر ما ينبغي أن ينظر إليها على أنها سفارات إسلامية تعرف بحقائق الإسلام، وتتبنى قضايا أمتها، وتتفاعل مع حواضر الإسلام المختلفة بطريقة إيجابية. 3 - حتى تقوم الأقليات الإسلامية بواجبها نحو نفسها ودينها وأمتها فلا مناص من توحدها قطريًّا، وتنظيمها عمليًّا، وضبط مرجعيتها شرعيًّا، وإيجاد ما يسمى بـ "فقه الأقليات المسلمة". 4 - لا تزال الحاجة ماسَّةً لإحكام بنيان منهج النظر في نوازل الأقليات المسلمة، وتأصيل القواعد الأصولية المقاصدية والفقهية التي ترد إليها مسائل الأقليات المسلمة في عالم اليوم، وذلك من خلال مجالس عالمية، ومقررات مجمعية. 5 - "فقه النوازل" هو العلم الذي يبحث في الأحكام الشرعية للوقائع المستجدة والمسائل الحادثة، مما لم يَرِدْ بخصوصها نصٌّ ولم يسبق فيها اجتهاد، والعلاقة بينه وبين علم الفقه العموم والخصوص.

6 - "فقه نوازل الأقليات المسلمة" هو ذلك الفرع العلمي الذي يبحث في المسائل والوقائع المستجدة للأقليات المسلمة خارج ديار الإسلام. 7 - وُجدت الأقليات المسلمة في العالم نتيجةَ الهجرة الاختيارية والاضطرارية، وهي تبلغ في تعدادها اليوم أربعمائة مليون مسلم أو تزيد، وهي تواجه مشكلاتٍ متعددةً، وتحتاج إلى أنواع من الدعم متنوعة. 8 - التأصيل لفقه نوازل الأقليات تمسُّ الحاجة إليه لإقامة الدين بين الأقليات، وحفظ مصالحها في مجتمعاتها، وضبط مرجعيتها الشرعية، وتجديد الدين بعامة. 9 - الاجتهاد في الكشف عن حكم نوازل الأقليات المسلمة فرض كفاية، وقد يتعين على المجتهدين المقيمين في تلك البلاد، وعمل المجتهدين في هذا المضمار أقرب إلى الاجتهاد الإبداعي منه إلى الاجتهاد الانتقائي. 10 - من مقاصد فقه نوازل الأقليات المسلمة: إقامة الدين، وتبليغ رسالة الإسلام، والتيسير، ورفع الحرج، والتأصيل لفقه الجماعة في حياة الأقليات، وتجاوز فقه الترخيص إلى فقه العزائم والتأسيس. 11 - أمكن رَدُّ فقه نوازل الأقليات المسلمة إلى ثمان مجموعات من القواعد الأصولية المقاصدية والفقهية، تتعلق: بالاجتهاد، والرخص، والمشقات، والضرورات، والحاجات، والمقاصد، والتعارض، والترجيح بين المصالح والمفاسد، والمآلات، والعرف، والولاية والسياسة الشرعية. 12 - لا مناص عند تأصيل فقه نوازل الأقليات المسلمة من الاحتكام إلى الأصول القطعيات، والنظر بعين الاعتبار إلى الموروث من الفقهيات، بعد التقيد بالنصوص في الشرعيات مع استصحاب مقاصد فقه الأقليات. 13 - تمس الحاجة إلى معالجة نوازل الأقليات معالجة جماعية لتكثير الصواب وتقليل

الخطأ من غير أن يلزم المجتهد برأي الأغلبية، أو تشترط موافقة المذاهب الأربعة الفقهية. 14 - تكتنف حياة الأقليات المسلمة اليوم ضرورات وحاجات وصعوبات ومشقات، وتبني منهج التيسير المنضبط متفق مع روح الدين، والأخذ بالرخص الشرعية من شأنه أن يفتح بابًا للالتزام بأحكام الشرع والمحافظة عليها. 15 - ليس من التيسير تتبع رخص المذاهب بالتشهي ولا زلات العلماء، والتساهل في الفتيا محرم ممنوع، فإن وُجِدَ ما يدعو إلى التيسير، وغلب على الظن حصول المقصود منه، ولم يترتب على الأخذ بالأيسر مصادمة للشريعة، واستند التيسير إلى دليل تفصيلي، ولم تترتب مفسدة عاجلة أو آجلة -جازت الفتيا به وصحَّتْ. 16 - مما يقيم صرحَ الدعوة إلى الله في بلاد الأقليات الإسلامية وخارج ديار أهل الإسلام خاصَّةً قاعدةُ: الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وقاعدةُ: التوبة النصوح تَجُبُّ ما قبلها. 17 - قبل العمل بحكم الضرورة في حياة الأقليات يجب الأخذ بالبدائل المباحة والمتاحة، ويُقْتَصَرُ على القدر والوقت الذي به يرتفع الضرر في أثناء العمل بحكمها، مع السعي إلى رفعها وبذل الجهد في التخلص من ورطتها. 18 - يتعين على المفتي في نوازل الأقليات المسلمة رعاية المآلات، مع النظر إلى نتائج التصرفات ومقاصد المكلفين، وأعراف أهل الزمان والمكان. 19 - قد تتغير الفتيا بتغير الأعراف شريطةَ ألَّا يكون تغير العرف مصادمًا للشرع، بل محقِّقًا لمقاصده، وأن يكون الناظر في التغير من المجتهدين المعتبرين. 20 - يقوم أهل الحلِّ والعَقْدِ ببلاد الأقليات الإسلامية مقامَ الإمام أو نائبه فيما يملكون إقامته من واجبات الدين، وبما يحقق المصالح ويدفع المفاسد. 21 - التزام مذهب فقهي واحد للمجتهد في نوازل الأقليات ليس بلازم، ويمكن اعتبار المذاهب الاجتهادية المتعددة كالأقوال في المذهب الواحد.

ولا يضر المجتهدَ التلفيقُ بين المذاهب إذا اتَّبَعَ القولَ لدليلِهِ، وجَانَبَ اتباعَ الهوى، ولم يخرق إجماعًا صحيحًا. 22 - يقف منهج الوسطية والاعتدال في استنباط أحكام نوازل الأقليات المسلمة بين طرفين مذمومين، التشديد والإفراط، والتساهل والتفريط. 23 - من الضوابط في استنباط حكم النازلة، تحقُّقُ وقوعِها، وجوازُ النظر في حكمها، وتقوى الله، وصدقُ اللجأ إليه، وتفهُّمُها وتصوُّرُها تصوُّرًا صحيحًا، والتأني واستشارةُ أهل الخبرة، والتحرُّرُ من ضغط الواقع الفاسد، مع مراعاة الحال والزمان وملابسات النازلة. 24 - على مستنْبِطِ أحكام النوازل أن يعتني بحسن تصوُّرِهَا، ثم بتكييفها، ثم بالتطبيق لاستخراج حكمها، مع مراعاة مقاصد الشريعة ومصالحها وقواعدها الكلية، والموازنة بين المصالح والمفاسد، فإن أشكل عليه أمرٌ توقَّفَ حتى يزول الإشكال. 25 - من نوازل الطهارة: انقلابُ الأعيان النجسة، أو المتنجسة إلى أعيان أخرى يطهرها على الراجح من قولَي أهل العلم، وهو أمر له تطبيقات كثيرة في مياه الشرب، والأغذية والأدوية في بلاد الأقليات خاصة. 26 - من نوازل الصلاة: في بعض بلاد الأقليات حين يقصر الليل أو النهار قِصَرًا مفرطًا مع بقاء العلامات الفلكية الشرعية للأوقات جميعًا وتميزها -يتعين على أهل تلك البلاد أداءُ الصلوات جميعًا في أوقاتها المُقَدَّرة ولا يسوغ الجمع إلا لعذر. 27 - في حالة فَقْدِ العلامات الفلكية الشرعية للأوقات باستمرار الليل أو النهار لمدة تزيد على أربع وعشرين ساعة يُلْجَأُ إلى التقدير النسبي، أو التقدير

المطابق لتوقيت أقرب بلد تتحقق فيه العلامات الشرعية. 28 - من نوازل الزكاة: يجوز إعمال سهم المؤلفة قلوبهم في بلاد الأقليات إذا مَسَّتْ إلى ذلك حاجةٌ شرعية معتبرة يُقَدِّرُهَا أهل الحل والعقد في تلك الديار. 29 - من نوازل المعاملات: يَحْرم على عموم الأقليات الإسلامية الاقتراضُ بالربا لشراء المساكن، لمجرد وجود الحاجة إلى ذلك، ولا يباح إلا لمن تحققت ضرورته بالشروط المعتبرة. 30 - من نوازل المعاملات: يجوز للأقليات الإسلامية إجراءُ عقود التأمين التجاري للضرورة الملجئة، أو الحاجة الماسَّة، مع السعي لإيجاد البدائل الشرعية الصحيحة. 31 - من نوازل النكاح: تَرَجَّحَ المنعُ من زواج الكتابيات الحربيات إلا لمن خشي على نفسه الوقوع في العنت مع توقي الإنجاب ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. واختلف في الذمية الكتابية، وتَرَجَّحَ قولُ من أباح نكاحها وإن كان خلافَ الأَولى. 32 - من نوازل النكاح: قد يصحُّ النكاح بقصد الحصول على أوراق رسمية، بشروط في العاقد والمعقود عليها، مع خلو العقد عن كل سبب يُبطله أو يُفسده، فإن تخلَّفَ شيء منها فلا مفرَّ من القول بالحرمة والنهي عن هذا العقد. 33 - من نوازل النكاح: إذا أسلمت المرأة تحت زوجها الكافر، جاز لها -إن شاءت- أن تقيم معه متربصةً به الإسلامَ، على ألَّا تُمَكِّنَهُ من نفسها، ويكون عقدها موقوفًا، فإن اختارت الفُرقةَ فلها ذلك.

34 - من نوازل الطلاق: في حال طلب المرأة الطلاق وامتناع الزوج عنه، فإن طلاق القاضي غير المسلم لا يقع ولا يعتدُّ به شرعًا، وللمرأة أن ترفع أمرها إلى من يقوم مقام القاضي في بلاد الأقليات، وعندئذٍ يقع طلاقه عند امتناع الزوج. 35 - من نوازل السياسة الشرعية: لا يباح التجنُّسُ بجنسية دولة غير مسلمة إلا لسكان تلك البلاد الأصليين من المسلمين، ومن كان مضطرًا لذلك من الوافدين، ومن كانت حاجته بمنزلة المضطرين. 36 - من نوازل السياسة الشرعية: المشاركةُ السياسية للمقيمين في بلاد الأقليات جائزةٌ متى ما حَقَّقَتِ المصالحَ الشرعية المعتبرة، وانضبطت بالضوابط الحاكمة لأمر هذه المشاركات، ولم تتضمن مفاسدَ ترجح على تلك المصالح. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمينَ

المراجع

المَرَاجِعُ

أولا: التفسير وعلوم القرآن

المَرَاجِعُ أولًا: التفسير وعلوم القرآن: 1 - أحكام القرآن، لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص، تحقيق: محمد الصادق قمحاوي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1412 هـ - 1992 م. 2 - أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة، 1424 هـ - 2003 م. 3 - البحر المحيط، لمحمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي، تحقيق: مجموعة من الباحثين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1993 م. 4 - تفسير التحرير والتنوير، لمحمد الطاهر ابن عاشور، الدار التونسية، تونس، 1984 م. 5 - تفسير الجلالين، جلال الدين محمد بن أحمد المحلي، وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى. 6 - تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، دار طيبة، الرياض، الطبعة الثانية، 1420 هـ - 1999 م. 7 - التفسير الكبير، لأبي عبد الله محمد بن عمر بن الحسن فخر الدين الرازي، دار الفكر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1401 هـ - 1981 م. 8 - تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990 م. 9 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر، دار هجر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2001 م. 10 - الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية.

ثانيا: السنة وعلوم الحديث

11 - حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 12 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، بالتعاون مع مركز هجر، دار هجر، القاهرة، 1424 هـ - 2003 م. 13 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لمحمود شكري الآلوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 14 - زاد المسير في علم التفسير، لأبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1404 هـ. 15 - عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير، للشيخ أحمد محمد شاكر، دار الوفاء، المنصورة، الطبعة الثانية، 1426 هـ - 2005 م. 16 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، دار الوفاء، المنصورة. 17 - محاسن التأويل، لمحمد جمال الدين القاسمي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1376 هـ - 1957 م. 18 - معالم التنزيل، لأبي محمد الحسين بن مسعود البغوي، تحقيق: محمد النمر، وعثمان ضميرية، وسليمان الحرش، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1409 هـ - 1989 م. ثانيًا: السنة وعلوم الحديث: 19 - الأباطيل والمناكير، لأبي عبد الله الحسين بن إبراهيم الجورقاني، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2004 م. 20 - الأحاديث المختارة أو المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، لضياء الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن الحنبلي المقدسي، تحقيق: د. عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، دار خضر، بيروت،

الطبعة الثالثة، 1420 هـ - 2000 م. 21 - أخلاق العلماء، لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري، تحقيق: إسماعيل بن محمد الأنصاري، نشر وتوزيع: رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، 1398 هـ - 1978 م. 22 - الأدب المفرد، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الثالثة، 1409 هـ. 23 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1405 هـ - 1985 م. 24 - الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لعمر بن علي بن أحمد بن الملقن، تحقيق: عبد العزيز بن أحمد بن محمد المشيقح، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م. 25 - إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم، لأبي عبد الله محمد بن خلفة الأبي، دار الكتب العلمية، بيروت. 26 - البحر الزخار المعروف بمسند البزار، لأبي بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق العتكي البزار، تحقيق: د. محفوظ الرحمن زين الله، مؤسسة علوم القرآن ببيروت ومكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1409 هـ - 1988 م. 27 - البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير، لأبي حفص سراج الدين عمر بن علي ابن الملقن، تحقيق: مصطفى أبي الغيط، وعبد الله بن سليمان، وياسر ابن كمال، دار الهجرة، الرياض، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م. 28 - بذل الماعون في فضل الطاعون، أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: أحمد عصام عبد القادر الكاتب، دار العاصمة، الرياض. 29 - بيان الوهم والإيهام الواقعَينِ في كتاب الأحكام، لأبي الحسن علي بن محمد ابن القطان الفاسي، تحقيق: د. الحسين آيت سعيد، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م.

30 - التاريخ الصغير، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م. 31 - التاريخ الكبير، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية، بحيدر آباد الدكن، الهند. 32 - تاريخ مدينة دمشق، لأبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر، تحقيق: محب الدين أبي سعيد عمر بن غرامة العمروي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1998 م. 33 - تحفة الأحوذي، لمحمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت. 34 - الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، لعبد العظيم بن عبد القوي المنذري، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1417 هـ. 35 - تعظيم قدر الصلاة، لأبي عبد الله محمد بن نصر المروزي، تحقيق: عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1406 هـ. 36 - التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، اعتنى به: أبو عاصم حسن بن عباس بن قطب، مؤسسة قرطبة، مصر، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1995 م. 37 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، تحقيق: مجموعة من المحققين، مؤسسة قرطبة، مصر (مصورة عن الطبعة المغربية، 1387 هـ). 38 - جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، لمجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري، تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط، مكتبة الحلواني، ومطبعة الملاح، ومكتبة دار البيان، الطبعة الأولى، من عام 1389 هـ - 1969 م إلى 1392 هـ - 1972 م، بيروت.

39 - جامع العلوم والحكم، لأبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1412 هـ - 1991 م. 40 - جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف بن عبد الله النمري القرطبي المعروف بابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م. 41 - الجامع في شرح الأربعين، محمد يسري، دار اليسر، القاهرة، الطبعة الثانية، 1427 هـ - 2006 م. 42 - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، تحقيق: د. محمد عجاج الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت. 43 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1405 هـ. 44 - الدراية في تخريج أحاديث الهداية، لأحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: السيد عبد الله هاشم اليماني المدني، دار المعرفة، بيروت. 45 - دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية ببيروت، ودار الريان للتراث بالقاهرة، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1988 م. 46 - رياض الصالحين، لمحيي الدين يحيى بن شرف النووي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1399 هـ - 1979 م. 47 - الزهد، لأحمد بن حنبل، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403 هـ - 1983 م. 48 - سلسلة الأحاديث الضعيفة وأثرها السيء على الأمة، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى، 1412 هـ - 1992 م.

49 - السلسلة الصحيحة، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، 1415 هـ. 50 - السنة، لأبي عبد الله محمد بن نصر المروزي، تحقيق: سالم أحمد السلفي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ. 51 - سنن ابن ماجه، لمحمد بن يزيد أبي عبد الله القزويني، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت. 52 - سنن أبي داود، لسليمان بن الأشعث أبي داود السجستاني، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت. 53 - سنن البيهقي الكبرى، لأحمد بن الحسين أبي بكر البيهقي، مجلس دائرة المعارف النظامية، الهند - حيدرآباد، الطبعة الأولى، 1344 هـ. 54 - سنن الترمذي (الجامع الصحيح)، لمحمد بن عيسى بن سورة الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرين، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 55 - سنن الدارقطني، لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني، تحقيق: مجموعة من المحققين، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2004 م. 56 - سنن الدرامي (مسند الدارمي)، لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، تحقيق: حسين سليم أسد الداراني، دار المغني للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م. 57 - سنن النسائي الكبرى، لأحمد بن شعيب النسائي، تحقيق: د. عبد الغفار سليمان البنداري، وسيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1991 م، بيروت، لبنان. 58 - سنن سعيد بن منصور، تحقيق: د. سعد بن عبد الله بن عبد العزيز آل حميد، دار الصميعي، الرياض، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1993 م. 59 - السيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق: مصطفى السقا، وعبد الحفيظ شلبي، وإبراهيم

الإبياري، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة. 60 - شرح الزرقاني على موطأ مالك، لمحمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني، دار الكتب العلمية، بيروت. 61 - شرح السنة، لحسين بن مسعود البغوي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، ومحمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، دمشق، الطبعة الثانية، 1403 هـ - 1983 م. 62 - شرح مشكل الآثار، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ. 63 - شعب الإيمان، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1410 هـ. 64 - صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، للأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1414 هـ - 1993 م. 65 - صحيح ابن خزيمة، لمحمد بن إسحاق بن خزيمة أبي بكر النيسابوري، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1390 هـ - 1970 م. 66 - صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1400 هـ. 67 - صحيح الجامع الصغير وزياداته (الفتح الكبير)، لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1408 هـ - 1988 م. 68 - صحيح سنن ابن ماجه، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى للطبعة الجديدة، 1417 هـ - 1997 م. 69 - صحيح سنن أبي داود، لمحمد ناصر الدين الألباني، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، الكويت، الطبعة الأولى، 1423 هـ - 2002 م.

70 - صحيح سنن التزمذي، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى للطبعة الجديدة، 1420 هـ - 2000 م. 71 - صحيح سنن النسائي، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى للطبعة الجديدة، 1419 هـ - 1998 م. 72 - صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 73 - الطبقات الكبرى، لمحمد بن سعد، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 1986 م. 74 - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، لأبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، تحقيق: خليل الميس، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403 هـ. 75 - العلم، لأبي خيثمة زهير بن حرب، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403 هـ - 1983 م. 76 - عمل اليوم والليلة، لابن السني، تحقيق: بشر محمد عيون، مكتبة دار البيان، دمشق، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م. 77 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، دار المعرفة، بيروت (مصورة عن طبعة المطبعة السلفية ومكتبتها بالقاهرة، مصر) 1379 هـ. 78 - الكامل في ضعفاء الرجال، لأبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، تحقيق: د. سهيل زكار، قرأها ودققها على المخطوطات: يحيى مختار غزاوي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1409 هـ - 1998 م. 79 - كتاب الموضوعات، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، تحقيق: د. نور الدين بن شكري، أضواء السلف، الرياض، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م.

80 - كشف الأستار عن زوائد البزار على الكتب الستة، لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1399 هـ - 1979 م. 81 - الكفاية في علم الرواية، لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي عبد الله السورقي، وإبراهيم حمدي المدني، المكتبة العلمية، المدينة المنورة. 82 - كنز العمال في سنن الأقوال والأعمال، لعلاء الدين علي بن حسام الدين المتقي الهندي، تحقيق: بكري حياني، وصفوت السقا، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الخامسة، 1401 هـ - 1981 م. 83 - المجتبى من السنن، لأحمد بن شعيب النسائي، ترقيم: عبد الفتاح أبي غدة، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، الطبعة الثانية، 1406 هـ - 1986 م. 84 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، بتحرير الحافظين الجليلين: العراقي وابن حجر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1498 هـ - 1988 م (مصورة عن طبعة القدسي بمصر). 85 - المدخل إلى السنن الكبرى، لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، تحقيق: محمد ضياء الدين الأعظمي، أضواء السلف، الرياض، الطبعة الثانية، 1420 هـ. 86 - المستدرك على الصحيحين، لمحمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، دار المعرفة - بيروت (مصورة عن الطبعة الهندية). 87 - مسند ابن أبي شيبة، لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تحقيق: عادل بن يوسف العزازي، وأحمد فريد المزيدي، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م. 88 - مسند أبي يعلى الموصلي، أحمد بن علي بن المثنى التميمي الموصلي، تحقيق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، بيروت، الطبعة الثانية، 1410 هـ - 1989 م. 89 - مسند الشافعي، لمحمد بن إدريس الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت.

90 - مسند الشهاب، لأبي عبد الله القضاعي محمد بن سلامة بن جعفر، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1407 هـ - 1986 م. 91 - المسند، للإمام أحمد بن حنبل الشيباني، مؤسسة قرطبة (مصورة عن الطبعة الميمنية)، القاهرة، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، مصر. 92 - مصنف عبد الرزَّاق، لعبد الرزَّاق بن همام الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403 هـ. 93 - المصنف في الأحاديث والآثار، لعبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي، تحقيق: مختار أحمد الندوي، الدار السلفية، الهند، الطبعة الأولى، 1403 هـ. 54 - معالم السنن، لأبي سليمان محمد بن محمد الخطابي، تصحيح محمد راغب الطباخ، في مطبعته بحلب، الطبعة الأولى، 1351 هـ - 1932 م. 95 - المعجم الأوسط، لسليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق: طارق بن عوض الله، وعبد المحسن إبراهيم، دار الحرمين، القاهرة، 1415 هـ. 96 - معجم الصحابة، لأبي القاسم عبد الله بن محمد البغوي، تحقيق: محمد الأمين بن محمد الجكني، مكتبة دار البيان، الكويت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م. 97 - المعجم الكبير، لسليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، العراق، الطبعة الثانية، 1404 هـ - 1983 م. 98 - معرفة السنن والآثار، لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي، دار الوعي بحلب، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1991 م. 99 - المعرفة والتاريخ، لأبي يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي، تحقيق: د. أكرم ضياء العمري، مكتبة الدار بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1410 هـ. 100 - المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار، لأبي الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي، اعتنى به: أبو محمد أشرف عبد المقصود،

ثالثا: اللغة والمعاجم

مكتبة طبرية، الرياض، الطبعة الأولى، 1415 هـ - 1995 م. 101 - المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1392 هـ. 102 - المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م. 103 - منتهى الآمال في شرح حديث "إنما الأعمال"، للسيوطي، تحقيق: محمد عطية، طبعة دار ابن حزم، بيروت. 104 - موطأ الإمام مالك، رواية: يحيى الليثي، لمالك بن أنس أبي عبد الله الأصبحي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، القاهرة. 105 - الناسخ والمنسوخ، لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، تحقيق: محمد بن صالح المديفر، مكتبة الرشد، الرياض. 106 - نصب الراية لأحاديث الهداية، لجمال الدين عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي، تحقيق: محمد عوامة، مؤسسة الريان ببيروت، ودار القبلة للثقافة الإسلامية بجدة، السعودية، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م. ثالثًا: اللغة والمعاجم: 107 - إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، لمصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1425 هـ - 2005 م. 108 - تاج العروس، لمحمد بن محمد بن عبد الرزاق الزبيدي، تحقيق: مجموعة من المحققين، وزارة الإرشاد والأنباء، الكويت، الطبعة الثانية مصورة، 1415 هـ - 1994 م. 109 - تهذيب اللغة، لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري، تحقيق: عبد السلام هارون، الدار المصرية للتأليف والترجمة. 110 - شرح المعلقات السبع، لأبي عبد الله الحسين بن أحمد الزوزني، الدار العالمية، 1993 م.

111 - شرح ديوان الحماسة، لأبي زكريا يحيى بن علي التبريزي الشهير بالخطيب، عالم الكتب، بيروت. 112 - (الصحاح) تاج اللغة وصحاح العربية، لإسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، 1990 م. 113 - الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري، تحقيق: محمد إبراهيم سليم، دار العلم والثقافة، القاهرة. 114 - فقه اللغة وأسرار العربية، لأبي منصور الثعالبي، ضبط ياسين الأيوبي، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، الطبعة الثانية، 1420 هـ - 2000 م. 115 - القاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، نسخة مصورة عن الطبعة الثالثة للمطبعة الأميرية سنة 1301 هـ. 116 - كتاب العين، للخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: د. مهدي المخزومي، ود. إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال. 117 - الكليات، لأيوب بن موسى الكفوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1419 هـ - 1998 م. 118 - لسان العرب، لمحمد بن مكرم بن منظور، تحقيق: أمين عبد الوهاب، ومحمد العبيدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1419 هـ - 1999 م. 119 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، لأحمد بن محمد الفيومي، المكتبة العلمية، بيروت. 120 - المعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية، دار الدعوة، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1425 هـ - 2004 م. 121 - معجم لغة الفقهاء، د. محمد رواس قلعه جي، د. حامد صادق قنيبي، دار النفائس، الأردن، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م. 122 - معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1399 هـ - 1979 م.

رابعا: الفقه المذهبي

رابعًا: الفقه المذهبي: 1 - الفقه الحنفي: 123 - أبو حنيفة، حياته وعصره، آراؤه وفقهه، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، الطبعة الثانية. 124 - الاختيار لتعليل المختار، لعبد الله بن محمود بن مودود الموصلي الحنفي، تعليق: الشيخ محمود أبي دقيقة، دار الكتب العلمية، بيروت. 125 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لزين الدين ابن إبراهيم بن نجيم، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2002 م. 126 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1406 هـ - 1986 م. 127 - تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي، المطبعة الكبرى الأميرية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1313 هـ. 128 - تحفة الفقهاء، لأبي بكر علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 هـ - 1984 م. 129 - الحجة على أهل المدينة، لمحمد بن الحسن الشيباني، تحقيق: مهدي حسن الكيلاني القادري، دار عالم الكتب، بيروت، 1403 هـ. 130 - رد المختار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، لمحمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن عابدين الدمشقي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد عوض، دار عالم الكتب، الرياض، 1423 هـ - 2003 م. 131 - شرح السير الكبير، لشمس الدين محمد بن أحمد السرخسي، تحقيق: محمد حسن إسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م. 132 - شرح فتح القدير، لكمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام، دار الفكر، بيروت، لبنان.

2 - الفقه المالكي

133 - الفتاوي الهندية، للشيخ نظام وجماعة من علماء الهند، تحقيق: عبد اللطيف حسن عبد الرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م. 134 - المبسوط، لشمس الدين محمد بن أبي سهل السرخي، دار المعرفة، بيروت، 1409 هـ - 1989 م. 135 - مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، لعبد الرحمن بن محمد بن سليمان الكليبولي، المدعو بشيخي زاده، دار الكتب العلمية، بيروت، 1419 هـ. 136 - الهداية شرح بداية المبتدي، لأبي الحسن علي بن أبي بكر المرغيناني، مطبوع مع البناية في شرح الهداية، لأبي محمد محمود بن أحمد العيني، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1411 هـ - 1990 م. 2 - الفقه المالكي: 137 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الشهير بابن رشد الحفيد، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1395 هـ - 1975 م. 138 - بلغة السالك لأقرب المسالك، لأحمد الصاوي، تحقيق: محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415 هـ - 1995 م. 139 - البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، تحقيق: د. محمد حجي وآخرين، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1408 هـ - 1988 م. 140 - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، لشمس الدين محمد عرفة الدسوقي، دار الفكر، بيروت. 141 - حاشية العدوي، للشيخ علي الصعيدي العدوي، مطبوع بهامش، كفاية الطالب الرباني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، تحقيق: أحمد حمدي إمام، مطبعة المدني، القاهرة، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م. 142 - الذخيرة، لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: د. محمد حجي، دار الغرب

الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1994 م. 143 - الشرح الكبير، لأبي البركات أحمد الدردير، دار الفكر، بيروت. 144 - شرح المواق على مختصر خليل، مطبوع بهامش مواهب الجليل، تحقيق: زكريا عميرات، دار عالم الكتب، 1423 هـ - 2003 م. 145 - شرح مختصر خليل، للخرشي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، ضبطه وخرج آياته وأحاديثه زكريا عميرات. 146 - القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، لأبي بكر محمد ابن ولد كريم، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1992 م. 147 - قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية، لمحمد بن أحمد بن جُزي الغرناطي المالكي، تحقيق: عبد الرحمن حسن محمود، دار عالم الفكر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1985 م. 148 - الكافي في فقه أهل المدينة، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، تحقيق: محمد بن محمد أحيد ولد ماديك، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، الطبعة الثانية، 1400 هـ - 1985 م. 149 - المدونة، لمالك بن أنس رواية سحنون بن سعيد، تحقيق: زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت. 150 - المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل أفريقية والأندلس والمغرب، لأبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي، خرجه جماعة من الفقهاء، بإشراف: د. محمد حجي، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، المملكة المغربية، 1401 هـ - 1981 م. 151 - المقدمات المهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (الجد)، تحقيق: د. محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1998 م.

3 - الفقه الشافعي

152 - مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، لأبي عبد الله محمد بن محمد المغربي المعروف بالحطاب الرعيني، تحقيق: زكريا عميرات، دار عالم الكتب، 1423 هـ - 2003 م. 3 - الفقه الشافعي: 153 - الأحكام السلطانية والولايات الدينية، لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، تحقيق: د. أحمد مبارك البغدادي، دار ابن قتيبة، الكويت، الطبعة الأولى، 1409 هـ - 1989 م. 154 - أسنى المطالب، لزكريا الأنصاري، تحقيق: د. محمد محمد تامر، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 2000 م. 155 - الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق: د. رفعت فوزي عبد المطلب، دار الوفاء، المنصورة، الطبعة الثانية، 1425 هـ - 2004 م. 156 - حاشية البجيرمي على الخطيب، لسليمان بن محمد بن عمر البجيرمي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1996 م. 157 - حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب، لسليمان بن محمد بن عمر البجيرمي، المكتبة الإسلامية، ديار بكر، تركيا. 158 - حاشية قليوبي على شرح المنهاج، لشهاب الدين أحمد بن أحمد بن سلامة القليوبي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1375 هـ - 1956 م. 159 - الحاوي، لأبي الحسن علي بن محمد الشهير بالماوردي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م. 160 - حواشي الشرواني وابن قاسم على تحفة المحتاج، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1357 هـ - 1938 م. 161 - روضة الطالبين وعمدة المفتين، لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، طبع بإشراف زهير الشاويش المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1405 هـ. 162 - زاد المحتاج بشرح المنهاج، لعبد الله بن الشيخ حسن الكوهجي، تحقيق: عبد الله

4 - الفقه الحنبلي

الأنصاري، المكتبة العصرية، بيروت، 1988 م. 163 - مختصر المزني، في فروع الشافعية، لأبي إبراهيم إسماعيل بن ييحى المزني، تحقيق: محمد عبد القادر شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1998 م. 164 - مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، لمحمد بن محمد الشربيني، دار الفكر، بيروت. 165 - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، لشمس الدين محمد بن شهاب الدين الرملي، دار الفكر، بيروت، 1404 هـ - 1984 م. 4 - الفقه الحنبلي: 166 - الأحكام السلطانية، للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن الفراء، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1421 هـ - 2000 م. 167 - الإقناع لطالب الانتفاع، لأبي النجا شرف الدين موسى بن أحمد الحجاوي، تحقيق: عبد اللطيف محمد موسى السبكي، دار المعرفة، بيروت. 168 - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 169 - حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع، لعبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي، الطبعة الأولى، 1312 هـ - 1392 م. 170 - زاد المستقنع في اختصار المقنع، لأبي النجا موسى بن أحمد الحجاوي، تحقيق: عبد الرحمن العسكر، مدار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م. 171 - الشرح الكبير، لشمس الدين عبد الرحمن بن محمد بن قدامة المعروف بأبي عمر، دار الكتاب العربي. 172 - شرح عمدة الفقه، كتاب الصلاة، لأحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، تحقيق: خالد بن علي بن محمد المشيقح، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م.

5 - الفقه المقارن والعام

173 - شرح منتهى الإرادات في الجمع بين المقنع والتنقيع وزيادات، لمنصور بن يونس البهوتي، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م. 174 - الفروع، لشمس الدين محمد بن مفلح، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م. 175 - الفواكه العديدة في المسائل المفيدة، لأحمد بن محمد بن منقور، تحقيق: زهير الشاويش، شركة الطباعة العربية السعودية، الطبعة الخامسة، 1407 هـ - 1987 م. 176 - الكافي، لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، الجيزة، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م. 177 - كشاف القناع عن متن الإقناع، لمنصور بن يونس البهوتي، تحقيق: هلال مصيلحي، دار الفكر، بيروت، 1402 هـ. 178 - المبدع شرح المقنع، لبرهان الدين إبراهيم بن مفلح، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت. 179 - المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لمجد الدين أبي البركات عبد السلام ابن عبد الله بن الخضر بن محمد ابن تيمية الحراني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الثانية، 1404 هـ - 1984 م. 180 - مختصر الخرقي، لأبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي، دار الصحابة للتراث. 5 - الفقه المقارن والعام: 181 - الإجماع، لمحمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، تحقيق: فؤاد عبد المنعم أحمد، دار المسلم، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م. 182 - أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في الغرب، د. سالم عبد الغني الرافعي، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 1423 هـ - 2002 م.

183 - أحكام التعامل بالربا بين المسلمين وغير المسلمين في ظل العلاقات الدولية المعاصرة، د. نزيه حماد، دار الوفاء، جدة، الطبعة الأولى، 1407 هـ. 184 - الأحكام السياسية للأقليات المسلمة في الفقه الإسلامي، سليمان محمد توبولياك، دار النفائس، دار البيارق، عمَّان، الأردن، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م. 185 - الأحكام الشرعية للنوازل السياسية، د. عطية عدلان، دار اليسر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1431 هـ - 2010 م. 186 - الأحكام الفقهية لما يعرض للمسلم المقيم في دار الكفر، رسالة دكتوراه، غير مطبوعة، د. يوسف بن عبد اللطيف الجبر، المعهد العالي للقضاء، الرياض. 187 - الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، لأحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: د. عبد الفتاح أبي غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الثانية، 1416 هـ. 188 - أحكام النجاسات في الفقه الإسلامي، عبد المجيد محمود صلاحين، دار المجتمع، جدة، 1412 هـ. 189 - أحكام أهل الذمة، لابن القيم، تحقيق: يوسف بن أحمد البكري، وشاكر بن توفيق العاروري، رمادي للنشر، الدمام، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م. 190 - اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية، أ. د. عبد العزيز مبروك الأحمدي، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1424 هـ. 191 - الإشراف على مذاهب العلماء، لأبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، تحقيق: د. أبي حماد صغير أحمد الأنصاري، مكتبة مكة الثقافية، الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م. 192 - الأقليات الإسلامية وما يتعلق بها من أحكام في العبادة والإمارة والجهاد، لمحمد درويش سلامة، رسالة غير مطبوعة ضمن رسائل كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة أم القرى.

193 - الأمنية في إدراك النية، لأبي العباس أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: د. مساعد بن قاسم الفالح، مكتبة الحرمين، الرياض، ط 1، 1408 هـ - 1988 م. 194 - الأنكحة الفاسدة والمنهي عنها في الشريعة الإسلامية، د. أمير عبد العزيز، مكتبة الأقصى، عمَّان، الطبعة الأولى. 195 - إيثار الإنصاف في مسائل الخلاف، لسبط ابن الجوزي، دار السلام، القاهرة، الطبعة الأولى، 1408 هـ. 196 - بحوث فقهية معاصرة، د. عبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2004 م. 197 - بحوث في قضايا فقهية معاصرة، محمد تقي العثماني، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1419 هـ. 198 - التأمين الاجتماعي في ضوء الشريعة الإسلامية، د. عبد اللطيف آل محمود، دار النفائس، بيروت الطبعة الأولى، 1414 هـ. 199 - التأمين الإسلامي دراسة تأصيلية فقهية، د. علي محيي الدين القره داغي، دار البشائر، بيروت، الطبعة الثانية، 1426 هـ. 200 - التأمين بين الحل والتحريم، د. عيسى عبده، دار الاعتصام، الطبعة الأولى. 201 - التأمين وأحكامه، د. سليمان الثنيان، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1424 هـ. 202 - تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، لبرهان الدين أبي الوفاء إبراهيم بن فرحون، تحقيق: جمال مرعشلي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1416 هـ - 1995 م. 203 - التشريع الجنائي الإسلامي، لعبد القادر عودة، دار الكتاب العربي، بيروت. 204 - التعزير في الشريعة الإسلامية، لعبد العزيز عامر، مطبعة مصطفى البابي، القاهرة، 1377 هـ، 1957 م. 205 - تمام المنة في التعليق على فقه السنة، لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتبة الإسلامية بعمَّان ودار الراية بالرياض، الطبعة الثالثة، 1409 هـ.

206 - الجامع في فقه النوازل، د. صالح بن عبد الله بن حميد، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م. 207 - جامع مسائل الأحكام مما نزل بالمفتين والحكام، لأبي القاسم ابن أحمد القيرواني البرزلي، اختصرها الونشريسي صاحب المعيار، واعتمدها كمصدر لكتابه، تحقيق: محمد الحبيب الهيلة، في بيروت، سنة 1999 م. 208 - الجنسية والتجنس وأحكامها في الفقه الإسلامي، د. سميح عواد الحسن، دار النوادر، دمشق، الطبعة الأولى، 1429 هـ - 2008 م. 209 - حكم الإقامة ببلاد الكفار، لعبد العزيز بن الصديق الغماري، طنجة المغرب، الطبعة الثانية، 1416 هـ - 1996 م. 210 - حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، د. عمر الأشقر، دار النفائس، عمَّان، 1992 م. 211 - رؤية فقهية حول المشاركة السياسية للمسلمين في المجتمع الأمريكي، د. صلاح الصاوي، ضمن كتاب فقه النوازل بالجامعة الأمريكية المفتوحة. 212 - الرد على سير الأوزاعي، لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، تصحيح وتعليق: أبي الوفاء الأفغاني، لجنة إحياء المعارف النعمانية، حيدر آباد، الطبعة الأولى. 213 - السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لابن تيمية، تحقيق: علي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1429 هـ. 214 - السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م. 215 - السياسة الشرعية، لعبد الرحمن تاج، مطبعة دار التأليف، مصر، الطبعة الأولى، 1993 م. 216 - السياسة الشرعية، لعبد الوهاب خلاف، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م. 217 - الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لابن القيم، تحقيق: نايف بن أحمد الحمد، دار

عالم الفوائد، الطبعة الأولى، 1428 هـ. 218 - عقد التأمين وموقف الشريعة منه، لمصطفى الزرقا، دمشق، الطبعة الأولى، 1962 م. 219 - العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين في الشريعة الإسلامية واليهودية والمسيحية، د. بدران أبو العينين، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1984 م. 220 - غياث الأمم في التياث الظلم، للإمام أبي المعالي الجويني، تحقيق: د. مصطفى حلمي، ود. فؤاد عبد المنعم، دار الدعوة، الإسكندرية. 221 - فتاوي ابن رشد، أو نوازل ابن رشد، أو أجوبة ابن رشد، لأبي الوليد محمد بن أحمد القرطبي، جمعها تلميذاه: أبو الحسن ابن الوزان، وأبو مروان ابن مسرة، تحقيق: د. المختار التليلي التونسي، بيروت، 1987 م. 222 - الفتاوي الحديثية، لشهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي، دار الفكر، بيروت. 223 - فتاوي الشاطبي، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي الشاطبي، طبعت بتحقيق: محمد أبي الأجفان، في تونس سنة 1989 م. 224 - فتاوي الشيخ حماني، وزارة الشئون الدينية، الجزائر، 1993 م. 225 - الفتاوي الكبرى، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، ومصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1987 م. 226 - فتاوي اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، جمع وترتيب: أحمد بن عبد الرزاق الدويش، دار المؤيد. 227 - فتاوي كبار علماء الأزهر الشريف حول ربا المصارف والبنوك، دار اليسر، القاهرة، الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م. 228 - الفتاوي، لرشيد رضا، دار الكتاب الجديد، بيروت، الطبعة الأولى، 1390 هـ - 1970 م. 229 - الفتاوي، دراسة لمشكلات المسلم المعاصر في حياته اليومية العامة، لمحمود شلتوت،

دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثامنة عشرة، 1424 هـ - 2004 م. 230 - فقه الأسرة المسلمة ونوازلها في الغرب، عبد الرحمن البرزنجي، دار المحدثين، القاهرة، الطبعة الأولى، 2008 م. 231 - فقه الأقليات المسلمة، خالد عبد القادر، دار الإيمان، طرابلس، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1998 م. 232 - فقه الجاليات الإسلامية في المعاملات المالية والمعاملات الاجتماعية، رسالة دكتوراة مخطوطة بالجامعة الأمريكية المفتوحة، د. شريفة سالم السعيد، بإشراف د. محمد أحمد القضاة، نوقشت 2001 م. 233 - فقه السياسة الشرعية للأقليات المسلمة، لفلة زردومي، رسالة ماجستير غير مطبوعة بقسم الشريعة، كلية العلوم الاجتماعية والعلوم الإسلامية، جامعة العقيد الحاج لخضر، باتنة، الجزائر، 1427 هـ - 2006 م. 234 - فقه القضايا المعاصرة في العبادات، د. عبد الله بكر أبو زيد، رسالة دكتوراه، بالمعهد العالي للقضاء 1426 هـ، غير مطبوعة. 235 - فقه المستجدات في العبادات، طاهر يوسف صديق الصديقي، دار النفائس، عمَّان، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2005 م. 236 - فقه النوازل، د. محمد بن حسين الجيزاني، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م. 237 - فقه النوازل، د. بكر بن عبد الله أبو زيد، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1423 هـ. 238 - فقه عمر بن الخطاب موازنًا بفقه أشهر المجتهدين، رويعي بن راجح الرحيلي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1403 هـ. 239 - فوائد البنوك هي الربا الحرام -دراسة فقهية في ضوء القرآن والسنة والواقع مع مناقشة مفصلة لفتوى فضيلة المفتي عن شهادات الاستثمار، د. يوسف القرضاوي،

دار الصحوة، الطبعة الثالثة، 1415 هـ - 1994 م. 240 - في فقه الأقليات المسلمة، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2001 م. 241 - قرارت وفتاوي المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، المجموعتان الأولى والثانية، دار التوزيع والنشر، القاهرة. 242 - قضايا فقهية معاصرة، تأليف لجنة من أساتذة كلية الشريعة بالقاهرة، الجزء الثاني. 243 - قضايا فقهية معاصرة، لمحمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الفارابي، دمشق، الطبعة الخامسة، 1414 هـ - 1994 م. 244 - كتاب الأموال، لأبي عبيد القاسم ابن سلام، تحقيق: محمد خليل هراس، دار الفكر، بيروت. 245 - كتاب الفتاوي، لعز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، تحقيق: عبد الرحمن بن عبد الفتاح، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م. 246 - كتاب الولايات ومناصب الحكومة الإسلامية والخطط الشرعية، لأحمد بن يحيى الونشريسي، تعليق: محمد الأمين بلغيث، مطبعة لافوميك، الجزائر. 247 - مجموع فتاوي شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة المنورة، 1425 هـ - 2004 م. 248 - مجموعة الفتاوي الشرعية الصادرة عن قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1996 م. 249 - محاضرات في عقد الزواج وآثاره، لمحمد أبي زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة. 250 - المحلى، لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، تحقيق: أحمد محمد شاكر، الطباعة المنبرية،1352 هـ.

251 - مراتب الإجماع، لأبي محمد علي بن حزم، عناية: حسن إسبر، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1998 م. 252 - المراكز الإسلامية في أمريكا الشمالية -نشأتها أنشطتها والأحكام الفقهية المتعلقة بها، د. معمر موفق الغلاييني، دار عمار، الأردن، الطبعة الأولى، 1430 هـ. 253 - المشاركة السياسية للمسلمين في البلاد غير الإسلامية، د. نور الدين الخادمي، دار وحي القلم، الطبعة الأولى، 2004 م. 254 - مشاركة المسلمين في الانتخابات الأمريكية، وجوبها وضوابطها الشرعية، د. صلاح الدين سلطان، سلطان للنشر، الولايات المتحدة الأمريكية، الطبعة الأولى، 1425 هـ، 2004 م. 255 - معين الحكام في نوازل القضايا والأحكام، لابن عبد الرفيع التونسي، طبع محققًا في جزأين ببيروت، بتحقيق: د. محمد بن قاسم بن عياد، 1989 م. 256 - المغني، لعبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد الله التركي، ود. عبد الفتاح محمد الحلو، دار عالم الكتب، الرياض، 1417 هـ - 1997 م. 257 - الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، طبعت تباعًا في مطابع عدة، على سنوات متفرقة. 258 - موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة والاقتصاد الإسلامي، د. علي أحمد السالوس، مكتبة دار القرآن، بلبيس، دار الثقافة، الدوحة، الطبعة السابعة، 2002 م. 259 - نظرات في النوازل الفقهية، د. محمد حجي، منشورات الجمعية الغربية للتأليف والنشر والترجمة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م. 260 - نهاية الإحكام في بيان ما للنية من أحكام، لأحمد بك الحسيني، وقد حقق بكلية الشريعة، بالرياض، عام 1401 هـ، للباحث مساعد بن قاسم الفالح. 261 - النية وأثرها في الأحكام الشرعية، د. صالح السدلان، مكتبة الخريجي، الرياض، 1403 هـ. 262 - الهجرة إلى بلاد غير المسلمين، عماد بن عامر، دار ابن حزم، بيروت الطبعة الأولى،

خامسا: قواعد الفقه

1425 هـ - 2004 م. 263 - وقفات هادئة مع فتوى إباحة القروض الربوية لتمويل شراء المساكن في المجتمعات الغربية، د. صلاح الصاوي، دار الأندلس الخضراء، جدة. خامسًا: قواعد الفقه: 264 - الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403 هـ - 1983 م. 265 - الأشباه والنظائر، لأبي حفص سراج الدين عمر بن علي المعروف بابن الملقن، تحقيق: حمد بن عبد العزيز الخضيري، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية بكراتشي، باكستان، الطبعة الأولى، 1417 هـ. 266 - الأشباه والنظائر، لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد عوض، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1991 م. 267 - الأشباه والنظائر، لزين الدين بن إبراهيم المعروف بابن نجيم، تحقيق: محمد مطيع الحافظ، دار الفكر، بيروت، تصوير 1986 م، عن الطبعة الأولى 1403 هـ - 1983 م. 268 - الأشباه والنظائر، لمحمد بن عمر بن المرحل المعروف بابن الوكيل، تحقيق: د. عادل ابن عبد الله الشويخ، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1413 - 1993 م. 269 - إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام أبي عبد الله مالك، لأحمد بن يحيى الونشريسي، تحقيق: الصادق بن عبد الرحمن الغرياني، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 1427 هـ. 270 - تقرير القواعد وتحرير الفوائد، لأبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1391 هـ - 1971 م. 271 - الحاجة الشرعية حدودها وقواعدها، لأحمد كافي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1424 هـ. 272 - خاتمة مجامع الحقائق، للخادمي، المطبعة العامرة، استانبول، 1308 هـ.

273 - درر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر، تحقيق وتعريب: المحامي فهمي الحسيني، دار الكتب العلمية، بيروت. 274 - شرح الخاتمة، لسليمان القرق أغاجي، مطبعة الحاج مرحم البوسنوي، استانبول، 1499 هـ. 275 - شرح القواعد الفقهية، لأحمد الزرقا، تحقيق: مصطفى أحمد الزرقا، دار القلم، دمشق، الطبعة الخامسة، 1419 هـ - 1998 م. 276 - شرح المجلة، لسليم رستم باز، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة. 277 - شرح المجلة، للأتاسي، طبعة المكتبة الحبيبية، كانسي رود، باكستان. 278 - عموم البلوى دراسة نظرية تطبيقية، مسلم بن محمد الدوسري، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م. 279 - غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر، لأحمد بن محمد الحموي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م. 280 - الفوائد في اختصار المقاصد أو القواعد الصغرى، لعز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي، تحقيق: إياد خالد الطباع، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، سوريا، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1996 م. 281 - قاعدة العادة محكمة، د. يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2004 م. 282 - قاعدة المشقة تجلب التيسير، د. يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين، مكتبة الرشد، الطبعة الثانية، 1426 هـ - 2005 م. 283 - قاعدة سد الذرائع وأثرها في الفقه الإسلامي، د. محمود حامد عثمان، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1996 م. 283 - قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، لأبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، تحقيق:

د. نزيه حماد، وعثمان ضميرية، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2005 م. 285 - القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م. 286 - القواعد الفقهية الكبرى وما تفرع عنها، د. صالح بن غانم السدلان، دار بلنسية، الرياض، الطبعة الثانية، 1420 هـ - 1999 م. 287 - القواعد الفقهية النورانية، لتقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، 1399 هـ. 288 - القواعد الفقهية، د. نجاح أبو العنين، طبعة الجامعة الأمريكية المفتوحة، 2004 م. 289 - القواعد الفقهية، لعلي أحمد الندوي، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م. 290 - القواعد، لأبي عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري، تحقيق: أحمد بن عبد الله بن حميد، جامعة أم القرى، مكة المكرمة. 291 - المدخل الفقهي -القواعد الكلية، لأحمد الحجي الكردي، دار المعارف للطباعة، 1399 هـ. 292 - المقاصد الشرعية في القواعد الفقهية، د. عبد العزيز محمد عزام، دار البيان، القاهرة، 2001 م. 293 - منافح الدقائق شرح مجامع الحقائق، للسيد مصطفى بن السيد محمد الكوز الحصاري، طبعة دمشق. 294 - المنثور في القواعد الفقهية، لبدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي أبي عبد الله، تحقيق: د. تيسير فائق أحمد محمود، طبعة وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، الطبعة الثانية، 1405 هـ. 295 - نظرية الضرورة الشرعية، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، الطبعة الرابعة، 1418 هـ - 1997 م. 296 - الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، د. محمد صدقي بن أحمد البورنو، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الثانية 1410 هـ - 1990 م.

سادسا: أصول الفقه ومقاصد الشريعة

سادسًا: أصول الفقه ومقاصد الشريعة: 297 - الإبهاج في شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول، لعلي بن عبد الكافي السبكي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1404 هـ. 298 - أثر الاضطرار في إباحة فعل المحرمات الشرعية، لجمال نادر الفرا، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1414 هـ -1993 م. 299 - أثر العرف في التشريع الإسلامي، د. السيد صالح عوض، دار الكتاب الجامعي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1981 م. 300 - الاجتهاد الفقهي الحديث، بحث د. وهبة الزحيلي، منشور ضمن كتاب الاجتهاد الفقهي أي دور وأي جديد، تنسيق محمد الروكي، نشر كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات، رقم 53، الطبعة الأولى، 1996 م. 301 - الاجتهاد في الإسلام، لمحمد مصطفى المراغي، دار الاجتهاد، القاهرة، 1379 هـ - 1919 م. 302 - الاجتهاد في التشريع الإسلامي، محمد سلام مدكور، دار النهضة العربية، القاهرة، ط 1، 1404 هـ - 1984 م. 303 - الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، دار القلم، الكويت، الطبعة الثالثة، 1420 هـ - 1999 م. 304 - الاجتهاد في العصر الحاضر ومدى الحاجة إليه، خالد عبد العليم، رسالة ماجستير غير مطبوعة بالجامعة الأمريكية المفتوحة. 305 - الاجتهاد في فهم النص معالم وضوابط، د. قطب سانو، رسالة دكتوراه غير مطبوعة، قدمت إلى كلية القانون في الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا، 1996 م. 306 - الاجتهاد وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، لحسن العلمي، ضمن كتاب الاجتهاد الفقهي، أي دور وأي جديد، تنسيق محمد الروكي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1996 م.

307 - الاجتهاد وضوابطه عند الإمام الشاطبي، د. عمار بن عبد الله بن ناصح علوان، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م. 308 - الإحكام في أصول الأحكام، لأبي محمد، علي بن أحمد بن حزم الأندلسي، دار الآفاق الجديدة، بيروت. 309 - الاحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين علي بن محمد الآمدي، تحقيق: د. سيد الجميلي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1404 هـ. 310 - أدب الفتوى وشروط المفتي وصفة المستفتي وأحكامه وكيفية الفتوى والاستفتاء، لأبي عمرو عثمان بن الصلاح الشهرزوري، تحقيق: رفعت فوزي عبد المطلب، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1992 م. 311 - آراء المعتزلة الأصولية، لعلي بن سعد الضويحي، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1415 هـ - 1995 م. 312 - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، لمحمد بن علي الشوكاني، تحقيق: أبي حفص سامي بن العربي، دار الفضيلة، الرياض، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 200 م. 313 - أصول السرخسي، لأبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1993 م. 314 - أصول الفقه الإسلامي، د. زكريا أحمد البري، دار الطباعة الحديثة، نشر دار النهضة، القاهرة، 1986 م. 315 - أصول الفقه الاسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م. 316 - أصول الفقه، لشمس الدين محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي، تحقيق: فهد بن محمد السدحان، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م.

317 - أصول الفقه، لمحمد أبي زهرة، دار الكتاب العربي، القاهرة. 318 - اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، عبد الرحمن السنوسي، دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى، 1424 هـ. 319 - الاعتصام، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي، ت: محمد رشيد رضا، الناشر: دار المعرفة، 1402 هـ - 1982 م. 320 - إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973 م. 321 - الإفتاء عند الأصوليين، د. محمد أكرم، رسالة مخطوطة مقدمة للحصول على درجة الدكتوراة، قسم أصول الفقه، كلية الشريعة والقانون، جامعة الأزهر. 322 - الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف، لولي الله الدهلوي، دار النفائس، بيروت، 1403 هـ - 1983 م. 323 - أنوار البروق في أنواء الفروق، لأحمد بن إدريس الصنهاجي القرافي، تحقيق: د. على جمعة محمد، د. محمد أحمد سراج، دار السلام، القاهرة، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م. 324 - البرهان في أصول الفقه، لأبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني، تحقيق: د. عبد العظيم الديب، دار الأنصار، القاهرة. 325 - تاريخ الفتوح في الإسلام وأحكامها الشرعية، للينة الحمصي، دار الرشيد، دمشق، الطبعة الأولى، 1996 م. 326 - تأصيل فقه الأولويات دراسة مقاصدية تحليلية، د. محمد همام ملحم، دار العلوم، عمَّان، الأردن، الطبعة الأولى، 2007 م. 327 - التحسين والتقبيح العقليان وأثرهما في مسائل أصول الفقه، د. عايض الشهراني، دار كنور إشبيليا، الرياض، الطبعة الأولى، 1429 هـ. 328 - تخريج الفروع على الأصول، للزنجاني، مؤسسة الرسالة، بيروت الطبعة الثانية، 1398 هـ.

329 - تعليل الأحكام عرض وتحليل لطريقة التعليل وتطوراتها في عصور الاجتهاد والتقليد، لمحمد مصطفى شلبي، دار النهضة العربية، بيروت، ط 2، 1401 هـ - 1981 م. 330 - تغير الأحكام في الشريعة الإسلامية، د. إسماعيل كوكسال، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2000 م. 331 - تغير الأحكام في الشريعة الإسلامية، محمد أردوغان، منشورات وقف كلية الإلهيات، بجامعة مرمرا، اسطنبول، الطبعة الثانية، 1994 م. 332 - تغير الأحكام، د. سها سليم مكداش، دار البشائر الإسلامية، الطبعة الأولى، 1428 هـ. 333 - تغير الظروف وأثره في تغير الأحكام، د. محمد قاسم المنسي، دار السلام، القاهرة، الطبعة الأولى، 1430 هـ. 334 - تغير الفتوى بتغير الحال في الشريعة الإسلامية، لسيد إبراهيم درويش، رسالة دكتوراه مخطوطة بكلية الشريعة والقانون، جامعة الأزهر، القاهرة، 1406 هـ - 1986 م. 335 - تغير الفتوى، د. محمد عمر بازمول، دار الهجرة، السعودية، الطبعة الأولى، 1415 هـ. 336 - التقرير والتحبير شرح التحرير، لمحمد بن محمد بن أمير الحاج، دار الفكر، 1417 هـ - 1996 م. 337 - التمهيد في أصول الفقه، لأبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني، تحقيق: مفيد محمد أبي عمشة، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1985 م. 338 - التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، لأبي محمد عبد الرحيم بن الحسن الإسنوي تحقيق: د. محمد حسن هيتو، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1400 هـ. 339 - تيسير التحرير، لمحمد أمين المعروف بأمير بادشاه، مطبعة الحلبي، 1351 هـ. 340 - تيسير علم أصول الفقه، لعبد الله بن يوسف الجديع، توزيع مؤسسة الريان، بيروت، الطبعة الثالثة، 1425 هـ - 2004 م. 341 - الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية، د. عابد بن محمد السفياني، دار الفرقان، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1988 م.

342 - حجة الله البالغة، لشاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي، تحقيق: السيد سابق، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م. 343 - حجية السنة، للشيخ عبد الغني عبد الخالق، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، الولايات المتحدة الأمريكية، ط معادة، 1415 هـ - 1995 م. 344 - حقيقة الضرورة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة، د. محمد حسين الجيزاني، دار المنهاج، الرياض، الطبعة الأولى، 1428 هـ. 345 - الحكم الشرعي بين أصالة الثبات والصلاحية، د. عبد الجليل زهير ضمرة، دار النفائس، الأردن، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2006 م. 346 - الحيل في الشريعة الإسلامية، د. محمد عبد الوهاب بحيري، مطبعة السعادة، القاهرة. 347 - دراسات في الاجتهاد وفهم النص، د. عبد المجيد محمد السوسوه، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م. 348 - الرخص الشرعية، أحكامها وضوابطها، د. وهبة الزحيلي، دار الخير، دمشق، الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1993 م. 349 - الرد على من أخلد إلى الأرض، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: خليل عيسى، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1413 هـ. 350 - الرسالة، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق: أحمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت. 351 - رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ضوابطه وتطبيقاته، د. صالح بن عبد الله بن حميد، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، الكتاب الثلاثون، الطبعة الأولى، 1403 هـ. 352 - روضة الناظر وجنة المناظر، لعبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد العزيز عبد الرحمن، نشر جامعة الملك عبد العزيز، الرياض، الطبعة الرابعة، 1408 هـ - 1987 م. 353 - سبل الاستفادة من النوازل والفتاوي والعمل الفقهي، د. وهبة الزحيلي، دار المكتبي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م.

354 - شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه، لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني، تحقيق: زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت، 1416 هـ - 1996 م. 355 - شرح العضد على مختصر ابن الحاجب، لعضد الدين عبد الرحمن الإيجي، تحقيق: محمد حسن محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1424 هـ - 2004 م. 356 - شرح الكوكب المنير، لمحمد بن النجار الفتوحي الحنبلي، تحقيق: د. محمد الزحيلي، د. نزيه حماد، مكتبة العبيكان، الطبعة الثانية، 1418 هـ - 1997 م. 357 - شرح اللمع، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، تحقيق: عبد المجيد التركي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1988 م. 358 - شرح المحلي على جمع الجوامع، لابن السبكي، مع حاشية البناني، دار الفكر، 1982 م - 1402 هـ. 359 - شرح تنقيح الفصول، لشهاب الدين القرافي، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، الطبعة الثانية، 1414 هـ. 360 - شرح جمع الجوامع، لجلال الدين محمد بن أحمد المحلي، ومعه حاشية العطار، دار الكتب العلمية، بيروت. 361 - شرح عقود رسم المفتي، لابن عابدين، طبع ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين، الآستانة، محمد هاشم القطبي. 362 - شرح مختصر الروضة، لنجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي، تحقيق: د. عبد الله ابن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م. 363 - صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لأحمد بن حمدان الحنبلي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1397 هـ. 364 - صناعة الفتوى وفقه الأقليات، د. عبد الله ابن الشيخ المحفوظ ابن بيَّه، دار المنهاج، جدة، الطبعة الأولى، 1428 هـ - 2007 م. 365 - الضروري في أصول الفقه، لأبي الوليد محمد بن رشد الحفيد، تحقيق: جمال الدين

العلوي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1994 م. 366 - الضوابط الشرعية للإفتاء عند الأصوليين، د. عبد الحي عزب عبد العال، مطبعة الغد، القاهرة، 1420 هـ - 2000 م. 367 - ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، د. محمد سعيد رمضان البوطي، المكتبة الأموية، دمشق، الطبعة الأولى، 1386 هـ - 1966 م. 368 - ضوابط تيسير الفتوى، والرد على المتساهلين فيها، د. محمد سعد بن أحمد اليوبي، دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى، 1426 هـ. 369 - طرق الكشف عن مقاصد الشارع، د. نعمان جغيم، دار النفائس، الأردن، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2002 م. 370 - العرف والعادة في رأي الفقهاء، للشيخ أحمد فهمي أبي سنة، الطبعة الثانية، 1412 هـ - 1992 م. 371 - علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه، د. عبد الله بن بيَّه، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، الطبعة الثانية 1427 هـ - 2006 م. 372 - علم أصول الفقه، لأحمد إبراهيم، دار الأنصار، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1979 م. 373 - علم أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف، مكتبة الدعوة الإسلامية، القاهرة، الطبعة الثامنة. 374 - علم المقاصد الشرعية، د. نور الدين الخادمي، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1421 هـ. 375 - عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق، لمحمد سعيد الحسيني، عناية: حسن السماحي سويدان، دار القادري، دمشق، الطبعة الثانية، 1418 هـ - 1997 م. 376 - الفتوى أهميتها وضوابطها وآثارها، محمد يسري، طبع جائزة نايف بن عبد العزيز آل سعود، الطبعة الأولى، 1428 هـ - 2007 م. 377 - الفتوى بين الانضباط والتسيب، د. يوسف القرضاوي، دار الصحوة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1408 هـ - 1988 م.

378 - الفتوى في الإسلام، لمحمد جمال الدين القاسمي، تحقيق: محمد عبد الحكيم القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م. 379 - الفتيا ومناهج الإفتاء، د. محمد سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، الطبعة الثالثة، 1413 هـ - 1993 م. 380 - الفصول في الأصول، لأحمد بن علي الرازي الجصاص، تحقيق: د. عجيل جاسم النشمي، مطبوعات وزارة الأوقاف الكويتية، الطبعة الأولى، 1405 هـ. 381 - فواتح الرحموت ضرح مسلم الثبوت، لعبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري اللكنوي، تحقيق: عبد الله محمود، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1423 هـ - 2002 م. 382 - القواعد الأصولية عند ابن تيمية، د. محمد التمبكي الهاشمي، الطبعة الأولى، دار الرشد، 1429 هـ. 383 - القواعد الأصولية عند الإمام الشاطبي من خلال كتابه الموافقات، د. الجيلالي المريني، دار ابن القيم، الدمام، دار ابن عفان، القاهرة، الطبعة الأولى، 1425 هـ - 2004 م. 384 - قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، عرض ودراسة وتحليل: د. عبد الرحمن الكيلاني، دار الفكر، دمشق، 1421 هـ. 385 - كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، لعلاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري، تحقيق: عبد الله محمود محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م. 386 - اللمع في أصول الفقه، لأبي إسحق إبراهيم بن علي الشيرازي، تحقيق: محيي الدين ديب مستو، ويوسف علي بديوي، دار الكلم الطيب، ودار ابن كثير، دمشق، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1995 م. 387 - مباحث الحكم عند الأصوليين، محمد سلام مدكور، المطبعة العالمية، مصر، 1963 م.

388 - محاضرات في تاريخ الفقه الإسلامي، د. محمد يوسف موسى، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1955 م. 389 - محاضرات في مصادر الفقه الإسلامي (الكتاب والسنة)، لمحمد أبي زهرة، مطابع دار الكتاب العربي، القاهرة، 1375 هـ. 390 - المحصول في أصول الفقه، للقاضي أبي بكر بن العربي المالكي، تحقيق: حسين علي البدري، دار البيارق، الأردن، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م. 391 - المحصول في علم الأصول، لأبي عبد الله محمد بن عمر، فخر الدين الرازي، تحقيق: طه جابر فياض العلواني، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، الطبعة الأولى، 1400 هـ. 392 - المختصر في أصول الفقه، لعلاء الدين علي بن محمد المعروف بابن اللحام، تحقيق: د. محمد مظهر بقا، جامعة الملك عبد العزيز، مكة المكرمة، الكتاب التاسع، 1400 هـ - 1980 م. 393 - مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل، لأبي عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر المعروف بابن الحاجب، تحقيق: د. نذير حمادو، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1427 هـ - 2006 م. 394 - مدى تغير الأحكام بتغير الجهات الأربع (الزمان والمكان والأشخاص والأحوال)، د. عبد الله ربيع، وزارة الأوقاف، الإدارة العامة لبحوث الدعوة. 395 - المدخل الفقهي العام، للشيخ مصطفى أحمد الزرقا، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1998 م. 396 - المدخل إلى فقه النوازل، أ. د. حسين مطاوع الترتوري، مؤسسة الاعتصام. 397 - المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، د. عبد الكريم زيدان، دار عمر بن الخطاب، الإسكندرية. 398 - مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1991 م.

399 - مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر، لمحمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1426 هـ. 400 - المستصفى في علم الأصول، لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1413 هـ. 401 - المسودة في أصول الفقه، لآل تيمية، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني، القاهرة. 402 - مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، لعبد الوهاب خلاف، دار القلم، الكويت، الطبعة السادسة، 1414 هـ - 1993 م. 403 - المصلحة في التشريع الإسلامي، د. مصطفى زيد، عناية وتعليق: محمد يسري، دار اليسر، القاهرة. 404 - معالم وضوابط الاجتهاد عند شيخ الإسلام ابن تيمية، د. علاء الدين حسين رحال، دار النفائس، الأردن، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2002 م. 405 - المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري، تحقيق: مجموعة من الباحثين، المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، 1384 هـ - 1964 م. 406 - المغني في أصول الفقه، لجلال الدين أبي محمد عمر بن محمد بن عمر الخبازي، تحقيق: محمد مظهر بقا، مركز البحث العلمي إحياء التراث بجامعة أم القرى، الطبعة الأولى، 1403 هـ. 407 - مقاصد الشريعة الإسلامية، لمحمد الطاهر ابن عاشور، الشركة التونسية للتوزيع، قرطاج، الطبعة الثالثة، 1988 م. 408 - مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، د. محمد سعد اليوبي، دار الهجرة، الرياض، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1998 م. 409 - مقاصد الشريعة ومكارمها، لعلال الفاسي، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الخامسة، 1993 م.

410 - المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1415 هـ - 1994 م. 411 - مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالين، د. عمر سليمان الأشقر، مكتبة الفلاح، الكويت، الطبعة الأولى، 1401 هـ - 1981 م. 412 - المنخول من تعليقات الأصول، لأبي حامد الغزالي، تحقيق: محمد حسن هيتو، دار الفكر دمشق، الطبعة الثانية، 1400 هـ - 1980 م. 413 - منهج الإفتاء عند الإمام ابن قيم الجوزية دراسة وموازنة، د. أسامة عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، الطبعة الأولى، 1423 هـ - 2004 م. 414 - منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة، د. مسفر بن علي القحطاني، دار الأندلس الخضراء، جدة، الطبعة الأولى، 1424 هـ - 2003 م. 415 - الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، ومعه تعليقات: الشيخ عبد الله دراز، عناية: محمد عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت. 416 - ميثاق الإفتاء المعاصر، محمد يسري، دار اليسر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1431 هـ - 2010 م. 417 - نشر البنود على مراقي السعود، لعبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي، مطبعة فضالة، المغرب. 418 - نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، لابن عابدين، ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين. 419 - نظرات في أصول الفقه، د. عمر الأشقر، دار النفائس، الأردن، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1999 م. 420 - نظرية التقعيد الأصولي، د. أيمن عبد الحميد البدارين، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 1427 هـ - 2006 م. 421 - نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، لأحمد الريسوني، الدار العالمية للكتاب الإسلامي،

سابعا: كتب التاريخ والسير

الطبعة الثانية، 1412 هـ - 1992 م. 422 - نهاية السول شرح منهاج الأصول، لجمال الدين عبد الرحيم الإسنوي، مصورة عالم الكتب عن جمعية نشر الكتب العربية، القاهرة، 1343 هـ. سابعًا: كتب التاريخ والسير: 423 - البداية والنهاية، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م. 424 - زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، تحقيق: شعيب، وعبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 5، 1407 هـ. 425 - سير أعلام النبلاء، لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق: مجموعة من كبار الباحثين، مؤسسة الرسالة، بيروت. 426 - ضحى الإسلام، لأحمد أمين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997 م. ثامنًا: كتب الرجال والتراجم والطبقات: 427 - الإصابة في تمييز الصحابة، لأبي الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1412 هـ. 428 - الأعلام، لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشرة، 2002 م. 429 - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، لمحمد بن علي الشوكاني، مطبعة السعادة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1348 هـ. 430 - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، دار الفكر، الطبعة الثانية، 1399 هـ - 1979 م. 431 - تذكرة الحفاظ، لشمس الدين الذهبي، دار الكتب العلمية، بيروت. 432 - ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض بن موسى

اليحصبي البستي، تحقيق: مجموعة من الباحثين، وزارة الأوقاف المغربية، الطبعة الثانية، 1403 هـ - 1983 م. 433 - تقريب التهذيب، للحافط أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: محمد عوامة، دار الرشيد، حلب، الطبعة الثالثة، 1411 هـ - 1991 م. 434 - الجواهر المضية في طبقات الحنفية، لمحيي الدين أبي محمد عبد القادر بن محمد القرشي، تحقيق: د. عبد الفتاح الحلو، دار هجر، الطبعة الثانية، 1413 هـ - 1993 م. 435 - الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، لإبراهيم بن نور الدين المعروف بابن فرحون المالكي، تحقيق: محمد الأحمدي أبي النور، دار التراث، القاهرة. 436 - السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، لمحمد بن عبد الله بن حميد النجدي، تحقيق: د. بكر أبو زيد، د. عبد الرحمن العثيمين، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1996 م. 437 - شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، لمحمد بن محمد بن مخلوف، المطبعة السلفية، القاهرة، 1349 هـ. 438 - شذرات الذهب، لعبد الحي بن أحمد بن محمد العكري المشهور بابن العماد، تحقيق: محمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م. 439 - طبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي، تحقيق: د. محمود محمد الطناحي، د. عبد الفتاح الحلو، دار هجر، الطبعة الثانية، 1413 هـ. 440 - طبقات الشافعية، لتقي الدين ابن قاضي شهبة، عناية: د. الحافظ عبد العليم خان، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد، الطبعة الأولى، 1399 هـ - 1979 م. 441 - طبقات الفقهاء، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، دار الرائد العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1990 م. 442 - طبقات المفسرين، لأحمد بن محمد الأدنروي، تحقيق: سليمان بن صالح الخزي، مكتبة

تاسعا: مراجع عامة ومتنوعة

العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1997 م. 443 - طبقات النسابين، د. بكر بن عبد الله أبو زيد، دار الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م. 444 - الفوائد البهية في تراجم الحنفية، لأبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي، دار المعرفة، بيروت. 445 - الفوائد البهية في تراجم فقهاء الحنفية، لمحمد بن عبد الحي اللكلنوي الهندي الحنفي، المتوفى (1304 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت. 446 - الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، لشمس الدين الذهبي، تحقيق: محمد عوامة، وأحمد محمد نمر الخطيب، دار القبلة للثقافة الإسلامية ومؤسسة علوم القرآن، الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1992 م. 447 - المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، لبرهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح، تحقيق: عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة الرشد، 1410 هـ - 1990 م. 448 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال، لشمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، ومعه ذيل ميزان الاعتدال، لأبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي، تحقيق: علي محمد عوض، وعادل أحمد عبد الموجود، وعبد الفتاح أبي سنة، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1995 م. 449 - نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر، لعبد الحي ابن فخر الدين الحسيني، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 1999 م. 450 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت. تاسعًا: مراجع عامة ومتنوعة: 451 - الآداب الشرعية والمنح المرعية، لشمس الدين محمد بن مفلح، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، وعمر القيام، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1419 هـ - 1999 م.

452 - أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، دار أولي النهى، الرياض، الطبعة الثانية، 1412 هـ - 1992 م. 453 - إبطال الحيل، لأبي عبد الله عبيد الله بن محمد العكبري المعروف بابن بطة، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة. 454 - ابن باديس حياته وآثاره، جمع ودراسة: د. عمار طالبي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1983 م. 455 - الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2005 م. 456 - أحكام أهل الذمة، لابن القيم، تحقيق: يوسف بن أحمد البكري، وشاكر بن توفيق العاروري، رمادي للنشر، الدمام، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م. 457 - أحكام التأمين في القانون والقضاء، د. أحمد شرف الدين، جامعة الكويت، الطبعة الأولى، 1403 هـ. 458 - أحكام القانون الدولي الخاص في التشريع المغربي، دار توبقال للتوزيع والنشر، الرباط، الطبعة الرابعة، 1992 م. 459 - إحياء علوم الدين، لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي، دار المعرفة، بيروت. 460 - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، لأبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني، تحقيق: د. محمد يوسف مويس، د. علي عبد المنعم عبد الحميد، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1369 هـ - 1950 م. 461 - أزمه الحوار الديني، لجمال سلطان، دار الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1410 هـ - 1990 م. 462 - أزمة كوسوفا بين الذاكرة والأزمة الراهنة، د. نادية مصطفى، ضمن بحوث تقرير أمتي في العالم، عام 1999 م. 463 - أسباب اختلاف الفقهاء، لعلي الخفيف، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الثانية،

1416 هـ - 1996 م. 464 - الاستقامة، لابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1403 هـ. 465 - الإسلام في الصين، فهمي هويدي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت. 466 - الإسلام والأقليات -الماضي والحاضر والمستقبل، د. محمد عمارة، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1423 هـ - 2003 م. 467 - الإسلام والعلمانية وجهًا لوجه، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة السابعة، 1997 م. 468 - أصول القانون الدولي الخاص، د. محمد كمال فهمي، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية، الطبعة الثانية، 1992 م. 469 - إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1395 هـ - 1975 م. 470 - الأقليات الإسلامية في العالم، د. محمد علي ضناوي، مؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1413 هـ. 471 - الأقليات الإسلامية في العالم اليوم، د. علي الكتاني، مكتبة المنار، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1988 م. 472 - الأقليات الإسلامية في جنوب الباسفيكي، أحمد السيد تقي الدين، مطبعة الأزهر، 1990 م. 473 - أمتنا بين قرنين، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، 1423 هـ - 2002 م. 474 - الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة،

لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، عالم الكتب، بيروت 1402 هـ - 1982 م. 475 - أهل الحل والعقد صفاتهم ووظائفهم، د. عبد الله الطريقي، دار الفضيلة، الرياض، الطبعة الثانية، 1425 هـ. 476 - أوضاع الأقليات والجاليات الإسلامية في العالم، د. مجدي الداغر، دار الوفاء، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2006 م. 477 - تبديل الجنسية ردة وخيانة، لمحمد بن عبد الكريم الجزائري، الطبعة الثانية، 1993 م. 478 - تحكيم الشريعة ودعاوى الخصوم، د. صلاح الصاوي، دار الإعلام الدولي، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م. 479 - التعالم وأثره على الفكر والكتاب، ضمن المجموعة العلمية للدكتور بكر أبي زيد، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1416 هـ. 480 - التعامل مع مجتمع غير مسلم من خلال الانتماء الصادق إلى الإسلام، د. عدنان علي النحوي، دار النحوي للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1417 هـ. 481 - التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم داخل دولة واحدة، سورحمن هدايات، ترجمة: محمد عبد الرحمن مندور، دار السلام، القاهرة، الطبعة الأولى، 2001 م. 482 - التعريفات، للجرجاني، تحقيق: إبراهيم الإبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1405 هـ. 483 - تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، لمحمد بن الطيب الباقلاني، تحقيق: عماد الدين أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1407 هـ - 1978 م. 484 - جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر، تحقيق: حسن أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م. 485 - جماعة المسلمين مفهومها وكيفية لزومها، د. صلاح الصاوي، دار الصفوة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1409 هـ.

486 - الجنسية في الشريعات العربية المقارنة، فؤاد عبد المنعم رياض، معهد البحوث والدراسات العربية، 1975 م. 487 - الحكم الشرعي بين العقل والنقل، د. الصادق الغرياني، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1989 م. 488 - حوار حول مشكلات حضارية، للدكتور محمد سعيد البوطي، الدار المتحدة، دمشق الطبعة الثالثة 1410 هـ. 489 - خصائص الشريعة الإسلامية، د. عمر الأشقر، مكتبة الفلاح، الكويت، ط 1، 1382 هـ. 490 - خلاصة التشريع الإسلامي، لعبد الوهاب خلاف، دار القلم، الكويت. 491 - درء تعارض العقل والنقل، لتقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، الطبعة الثانية، 1411 هـ - 1991 م. 492 - الدين والسياسة، تأصيلٌ وَرَدُّ شبهات، د. يوسف القرضاوي، مطبوعات المجلس الأوروبي للإفتاء، الطبعة الأولى، 1428 هـ. 493 - الدعوة إلى الإسلام، أحمد المحمود، من منشورات حزب التحرير الإسلامي دار الأمة للطباعة والنشر، بيروت. 494 - شرح أحكام الجنسية في القانون الأردني، جابر إبراهيم الراوي، دار مجدلاوي، عمَّان، الطبعة الأولى، 1993 م. 495 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لأبي القاسم هبة الله بن الحسن الطبري اللالكائي، تحقيق: أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي، دار طيبة، الرياض، الطبعة الرابعة، 1416 هـ - 1995 م. 496 - شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، خرَّج أحاديثه: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1398 هـ.

497 - شريعة الإسلام خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان، د. يوسف القرضاوي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1393 هـ، 1973 م. 498 - صفحات من تاريخ جمهورية البوسنة والهرسك، عبد الله مبشر الطرازي، كلية الآداب، جدة، 1413 هـ - 1992 م. 499 - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لشمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، تحقيق: علي محمد الدخيل، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الثالثة، 1418 هـ - 1998 م. 500 - صيد الخاطر، لابن الجوزي، تحقيق: د. سيد الجميلي، دار ابن زيدون، بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م. 501 - الطرائف الأدبية، لعبد العزيز الميمني، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1937 م. 502 - العالم الإسلامي اليوم، د. عادل طه يونس، مكتبة ابن سينا، القاهرة، 1990 م. 503 - العالم الإسلامي اليوم، محمود شاكر، دار الصحوة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م. 504 - العالم الإسلامي، محمود شاكر، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403 هـ. 505 - علم السياسة، محمد نصر مهنا، دار غريب الحديث، القاهرة. 506 - العلمانية، نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي، دار الهجرة. 507 - فتاوي الشيخ علي الطنطاوي، جمع وترتيب: مجاهد ديرانية، دار المنارة، جدة، الطبعة الثالثة. 508 - فقه النوازل وقيمته التشريعية والفكرية، د. حسن الفيلالي، بحث مقدم لشعبة الدراسات الإسلامية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامع سيدي محمد بن عبد الله، فاس، 1404 هـ، وبحثه في ملتقى القيروان مركز علمي مالكي بين المشرق والمغرب حتى نهاية القرن الخامس للهجرة، عام 1414 هـ.

509 - الفقيه والمتفقه، أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، تحقيق: عادل بن يوسف العزازي، دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى، 1417 هـ - 1996 م. 510 - فلسفة التشريع الإسلامي، صبحي المحمصاني، دار العلم للملايين، بيروت، 1380 هـ - 1961 م، الطبعة الثالثة. 511 - في فقه الأقليات المسلمة، د. طه جابر العلواني، نهضة مصر، 2000 م. 512 - القانون الدولي الخاص، أحمد مسلم، مكتبة النهضة العربية، الطبعة الأولى، 1956 م. 513 - قضايا إسلامية معاصرة، د. عبد الشافي غنيم، د. رأفت غنيمي، عالم الكتب، بيروت، 1980 م. 514 - قضايا الجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية، د. محمد الشحات الجندي، سلسلة قضايا إسلامية صادرة عن وزارة الأوقاف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، الطبعة الأولى، 1429 هـ. 515 - كتاب الشريعة، لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري، تحقيق: د. عبد الله بن عمر الدميجي، دار الوطن، الرياض، الطبعة الثانية، 1420 هـ - 1999 م. 516 - كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، لمحمد علي التهانوي، تحقيق: د. علي دحروج، مكتبة لبنان، بيروت، الطبعة الأولى، 1996 م. 517 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لمصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 518 - محنة الأقليات المسلمة في العالم، الأستاذ محمد عبد الله السمان، الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر الشريف. 519 - محنة الأقليات المسلمة في أوروبا، د. محمود عبد الرازق، القاهرة، مطبعة أولاد عبد العال 1996 م. 520 - مختصر الصواعق المرسلة، لابن القيم، اختصره الشيخ محمد الموصلي، دار الكتب

العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1405 هـ. 521 - مختصر كتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول، لعبد الرحمن بن أبي شامة، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية. 522 - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لمحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1393 هـ - 1973 م. 523 - المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لعبد القادر بن بدران الدمشقي، تحقيق: د. عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1401 هـ - 1981 م. 524 - المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل، د. بكر أبو زيد، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1417 هـ. 525 - المسائل العقدية المتعلقة بالأقليات الإسلامية، لعبد المنعم عبد الغفور حيدر، رسالة دكتوراه مخطوطة بكلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى، 1426 هـ. 526 - مسلمو أوروبا والمشاركة السياسية ملامح الواقع وخيارات التطوير، حسام شاكر، بحث ضمن المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد 10 - 11، الجزء الثاني، 2007 م. 527 - المسلمون تحت سيطرة الشيوعية، الأستاذ محمود شاكر، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1402 هـ. 528 - المسلمون في تايلاند، رسالة ماجستير، حسن عبد القادر، قسم الثقافة الإسلامية، كلية التربية جامعة الملك سعود، الرياض. 529 - مشكلات الدعوة إلى الإسلام في مجتمع الأقليات المسلمة في أوروبا وعلاجها، د. توفيق السديري، رسالة دكتوراه مخطوطة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 530 - معالم في أصول الدعوة، محمد يسري، دار اليسر، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1429 هـ - 2008 م.

531 - معجم العلوم السياسية الميسر، لأحمد سويلم العمري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985 م. 532 - معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، مكتبة المثنى ودار إحياء التراث العربي، بيروت. 533 - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن القيم، تحقيق: علي حسن عبد الحميد الحلبي، دار ابن عفان، الطبعة الأولى، 1416 هـ - 1996 م. 534 - مفتاح السعادة ومصباح السيادة، لطاش كبري زاده، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م. 535 - مفهوم الفقه الإسلامي، لنظام الدين عبد الحميد، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1404 هـ - 1984 م. 536 - المقدمة، لعبد الرحمن بن خلدون، دار القلم، لبنان، الطبعة الخامسة، 1984 م. 537 - ملحمة البوسنة والهرسك الجريمة الكبرى، د. عدنان علي رضا النحوي، دار النحوي للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1993 م. 538 - الملل والنحل، لمحمد بن عبد الكريم بن أبي بكر الشهرستاني، تحقيق: أمير علي مهنا، وعلي حسن فاعور، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1414 هـ - 1993 م 539 - منهاج السنة النبوية، لأبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م. 540 - منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة، لعثمان علي حسن، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الثانية، 1413 هـ - 1993 م. 541 - منهج التشريع الإسلامي وحكمته، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، الطبعة الثانية. 542 - مواطنون لا ذميون، الأستاذ فهمي هويدي، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1420 هـ - 1999 م.

عاشرا: مجلات ودوريات ومؤتمرات

543 - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزية، لتقي الدين أبي العباس أحمد بن علي المقريزي، دار صادر، بيروت. 544 - الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، إشراف: د. مانع بن حماد الجهني، دار الندوة العالمية للشباب، الطبعة الثالثة، 1418 هـ. 545 - موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، للشيخ مصطفى صبري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1401 هـ - 1981 م. 546 - نحو ثورة في الفكر الديني، د. محمد النويهي، دار الآداب، بيروت، الطبعة الثانية، 1983 م. 547 - نحو فقه جديد للأقليات، د. جمال الدين عطية، دار السلام، القاهرة، الطبعة الثانية، 1428 هـ - 2007 م. 548 - نظرية الحكم القضائي في الشريعة والقانون، د. عبد الناصر موسى أبو البصل، دار النفائس، الأردن، الطبعة الأولى، 1420 هـ. 549 - نوازل التاريخ والمستقبل، د. عبد الكريم غرايبة، مكتبة الرأي، المؤسسة الصحفية الأردنية. 550 - هموم الأقليات المسلمة في العالم -رصد تاريخي وتوثيقي لأوضاع الأقليات المسلمة وجهود المملكة في خدمتها، د. عبد المحسن بن سعد الداود، الهيئة العامة للكتاب، الرياض، 1413 هـ - 1992 م. 551 - واقعنا المعاصر، لمحمد قطب، مؤسسة المدينة، جدة، الطبعة الثانية، 1408 هـ - 1987 م. 552 - الوجيز في جغرافية العالم الإسلامي، د. محمد محمود الرياني، دار عالم الكتب، الرياض. 553 - يوميات هرتزل، تحرير رفائيل باتاني، ترجمة: هاري زون، مطبعة هرتزل، نيويورك 1960 م. عاشرًا: مجلات ودوريات ومؤتمرات: 554 - أثر إسلام أحد الزوجين في النكاح، د. محمد عبد القادر أبو فارس، ضمن بحوث المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد الثاني ذو القعدة 1423 هـ - يناير 2003 م.

555 - أثر الفتاوي والنوازل في إثراء الفقه الإسلامي، مقال لمحمد فاروق نبهان، مجلة الفيصل، عدد 276، جمادى الآخرة 1420 هـ. 556 - الاجتهاد في النوازل، د. محمد حسين الجيزاني، بحث في مجلة العدل، عدد رقم 19، رجب 1424 هـ. 557 - الاجتهاد، بحث للشيخ الفاضل ابن عاشور، مطبوع في كتاب المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامي بالقاهرة. 558 - أساليب التبشير النصراني بين الأقليات المسلمة في بريطانيا، عطاء الله صديقي، ضمن بحوث مؤتمر الأقليات الإسلامية في العالم ظروفها المعاصرة، آلامها وآمالها، دار الندوة العالمية، 1420 هـ - 1999 م. 559 - استحالة النجاسات، د. محمد محمود الهواري، أعمال الندوة الفقهية الطبية المنعقدة بالكويت في الفترة من 22 - 24/ 5/ 1995 م. 560 - الأسرة المسلمة في أوروبا بين تأثيرات البيئة الاجتماعية والعادات الموروثة، د. أحمد جاء بالله، بحث في المؤتمر الدولي للوسطية، الطبعة الأولى، 1427 هـ - 2006 م. 561 - إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه، د. عبد الله الجديع، ضمن بحوث المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد الثاني، 2003 م. 562 - إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه، لفيصل مولوي، ضمن بحوث المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد الثاني، 2003 م. 563 - الإسلام في الهند، مقال بمجلة منار الإسلام، العدد السابع، 1994 م. 564 - الأصول الشرعية للعلاقات بين المسلمين وغيرهم في المجتمعات غير المسلمة، د. محمد أبو الفتح البيانوني، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد السادس، محرم 1413 هـ. 565 - أضواء على التربية والتعليم لدى الأقلية المسلمة في الولايات المتحدة الأمريكية،

د. كمال كامل عبد الحميد، ضمن بحوث مؤتمر الأقليات المسلمة في العالم ظروفها المعاصرة، آلامها وآمالها، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر، 1420 هـ - 1999 م. 566 - الأعمال والوظائف، وأثر الظروف المعيشية في الغرب في حلها وحرمتها، د. محمد عثمان شبير، بحث مقدم إلى الدورة الرابعة لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا بالقاهرة 2006 م. 567 - الأقليات الإسلامية في الغرب، د. محمد بشاري، بحث بمجلة المجمع الفقهي الإسلامي، العدد السادس، الجزء الرابع، الطبعة الأولى، 1246 هـ - 2005 م. 568 - الأقليات الإسلامية، المشكلات الثقافية والاجتماعية، د. جمال الدين محمد محمود، مطبوع ضمن بحوث: الأقليات المسلمة في العالم، ظروفها المعاصرة، آلامها، وآمالها، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر، 1420 هـ. 569 - الأقليات المسلمة في آسيا وأستراليا، سيد عبد المجيد بكر، العدد 23، مجلة دعوة الحق، صادرة عن رابطة العالم الإسلامي، نوفمبر 1983 م. 570 - انهيار الاتحاد السوفيتي، مجلة مستقبل العالم الإسلامي، مالطا، العدد الخامس 1992 م. 571 - الأهلية وعوارضها، بحث للشيخ أحمد إبراهيم، مجلة القانون الاقتصادية عدد 3 السنة الأولى 1931 م. 572 - البلدان الإسلامية والأقليات الإسلامية في العالم المعاصر، غلاب محمد السيد، حسن عبد القادر، محمود شاكر، من مطبوعات المؤتمر الجغرافي الإسلامي الأول، صفر سنة 1399 هـ - يناير سنة 1979 م. 573 - تأثير الثقافة السوفيتية على الأقلية المسلمة بالاتحاد السوفيتي، د. عبد الرحمن النقيب، ضمن بحوث مؤتمر الأقليات الإسلامية في العالم ظروفها المعاصرة، آلامها وآمالها، دار الندوة العالمية، 1420 هـ - 1999 م. 574 - التأصيل الشرعي للعمل السياسي للمسلمين في أوروبا، فيصل مولوي، المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، العدد 10 - 11، 1428 هـ، 2007 م.

575 - التأمينات، للشيخ محمد أحمد فرج السنهوري، ضمن بحوث اقتصادية وتشريعية للمؤتمر السابع بمجمع البحوث الإسلامية عام 1972 م. 576 - التأمين في أمريكا، د. يوسف الشبيلي، ضمن بحوث المؤتمر الثالث لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، 1426 هـ. 577 - التأمين وصوره المنتشرة في المجتمع الأمريكي، د. محمد الزحيلي، ضمن بحوث المؤتمر الثالث لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، والمنعقد في نيجريا، جمادى الآخرة 1426 هـ. 578 - تداعيات أحداث (11 سبتمبر) على النظام العالمي، جميل مطر، معهد البحوث والدراسات العربية، جامعة الدول العربية، عدد أكتوبر 2002 م. 579 - تغير الفتوى وضوابطه وتطبيقاته، بحث د. عبد الله الغطيمل، من مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد (35)، 1418 هـ. 580 - التمييز في الأجور والوظائف وآفاق المستقبل للشباب المسلم في كندا، داود حسن حمداني، ضمن بحوث الأقليات المسلمة في العالم ظروفها المعاصرة، آلامها، وآمالها، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر، 1420 هـ - 1999 م. 581 - ثبات الأحكام الشرعية وضوابط تغير الفتوى، لمحمد شاكر الشريف، بحث على موقع "صيد الفوائد". 582 - التنظير والتأصيل لفقه الأقليات الإسلامية، أ. محمد المختار ولد امباله، مقال بمجلة الأحمدية، العدد السابع عشر، جمادى الأولى، 1425 هـ. 583 - جريدة الحياة، لندن 22/ 4/ 1999 م. 584 - جريدة الرياض، 14 رجب 1430 هـ - 7 يوليو 2009 م. 585 - جريدة الشرق الأوسط، لندن في 23/ 7/ 1997 م. 586 - جريدة الشرق الأوسط، العدد 1866 في 4/ 4/ 1404 هـ. 587 - جريدة الشرق الأوسط، لندن، بتاريخ 9/ 5/ 1999 م.

588 - جريدة الشرق القطرية، في 18/ 11/ 1992 م. 589 - جريدة العربي، القاهرة في 14/ 12/ 1998 م. 590 - جريدة اللواء الإسلامي القاهرية، العدد (15)، في جمادى الأولى 1407 هـ. 591 - جريدة اللواء اللبنانية، في 15/ 11/ 1989 م. 592 - جريدة المسلمون الدولية، 30 رجب 1405 هـ. 593 - جريدة لوموند 1998 م. 594 - حجية الأحكام الصادرة بالطلاق من قبل المحاكم الغربية بحق الأقليات الإسلامية، د. محمد عبد الجواد النتشة، بحث مقدم إلى ندوة: "فقه الأقليات في ضوء مقاصد الشريعة: تميز واندماج" المنعقدة في كوالالمبور خلال الفترة من 9 - 11/ 11/ 2009 م. 595 - حكم التأمين الصحي وبعض صوره في المجتمع الأمريكي، د. علي محيي الدين القره داغي، ضمن بحوث المؤتمر الثالث لمجمع فقهاء الشريعة. 596 - حكم التجنس بجنسية دولة غير إسلامية، محمد يسري، مجلة البيان، عدد، (245). 597 - حكم التجنس بجنسية دولة غير إسلامية، لحمد السبيل، مجلة المجمع الفقهي العدد الرابع، 1989 م. 598 - حكم التعامل أو العمل في شركات التأمين خارج ديار الإسلام، د. علي محيي الدين القره داغي، ضمن بحوث الدورة الثامنة عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء في 1429 هـ، 2008 م. 599 - حكم تولي المراكز والجمعيات الإسلامية عقود تزويج المسلمين وفسخ أنكحتهم، د. حمزة بن حسين الفعر، ضمن بحوث مجلة المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي 2004 م. 600 - حكم الطلاق الصادر عن قاضٍ غير مسلم، الشيخ فيصل مولوي، ضمن بحوث المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد الأول، 1423 هـ.

601 - الحلول الشرعية للمناطق الفاقدة لبعض أوقات الصلاة، د. عبد الستار أبو غدة، مجلة المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث عدد (6). 602 - خريطة العالم الإسلامي، محمد محمود، دراسات مجلة كلية التربية، جامعة الملك سعود، 1982 م. 603 - دراسات إسلامية وعربية، د. مجاهد مصطفى بهجت، العدد الثاني، بغداد، 1982 م. 604 - دراسة إحصائية عن الأقليات الإسلامية في العالم، د. محمد محمود محمدين، ضمن بحوث مؤتمر الأقليات المسلمة في العالم ظروفها المعاصرة، آلامها، وآمالها، دار الندوة العالمية، 1420 هـ - 1999 م. 605 - شبهات حول التشريع الإسلامي، د. محمد نبيل غنايم، مجلة كلية الشريعة، جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، عدد 14، 1403 هـ. 606 - الضوابط المنهجية لفقه الأقليات المسلمة، د. صلاح سلطان، بحث للمجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد الرابع. 607 - العجز الدولي في كشمير، أليف الدين الترابي، مجلة كشمير، عدد سبتمبر (1998 م). 608 - فسخ نكاح المسلمات من قبل المراكز الإسلامية في بلاد غير إسلامية، لأحمد تقي العثماني، ضمن بحوث مجلة المجمع الفقهي الاسلامي، التابع لرابطة العالم الإسلامي في الفترة 21 - 26 شوال 1422 هـ - يناير 2002 م، المجلد الأول، الجزء الثاني. 609 - فقه الأقليات المسلمة بين فقه الاندماج (المواطنة) وفقه العزلة، د. نادية محمود مصطفى، المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد 10 - 11، الجزء الثاني مايو (2007 م). 610 - فقه الموازنات والترجيح، عموم البلوى، بحث للدكتور وهبة الزحيلي، مقدم إلى الدورة الرابعة لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، القاهرة 2006 م. 611 - فقه الواقع: دراسة أصولية فقهية، د. حسين الترتوري، من مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 34، عام 1418 هـ.

612 - قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، كوبنهاجن، الدنمارك، 1425 هـ - 2000 م. 613 - قرارات وتوصيات المؤتمر الرابع لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، القاهرة في رجب 1427 هـ، 2006 م، دار الإسلام للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 1428 هـ - 2007 م. 614 - قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي، دار ابن القيم، دمشق، 1418 هـ. 615 - اللاجئون نظرة إسلامية، فضل الله ديلموت، مؤتمر الأقليات الإسلامية في العالم. 616 - مجلة أضواء الشريعة، الصادرة عن كلية الشريعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، عدد 9. 617 - مجلة العربي، الكويت، العدد 223، يونيو 1977 م. 618 - المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء، العدد 10 - 11، الجزء الثاني. 619 - مجلة المجتمع الكويتية، عدد (1321). 620 - مجلة المجمع الأوروبي للإفتاء والبحوث، ربيع الثاني، العدد 3، 1424 هـ. 621 - مجلة النور، الكويت، عدد 71، 1989 م. 622 - مجلة لواء الإسلام، العدد الثالث، السنة الثالثة والأربعون، غرة ذي القعدة، 1408 هـ. 623 - مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي، الدورة السادسة عشرة، العدد السادس عشر، 1426 هـ - 2005 م، الطبعة الأولى، 1428 هـ - 2007 م. 624 - مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة الثالثة، العدد الثالث، سنة 1987 م. 625 - المدخل إلى فقه النوازل، د. عبد الناصر أبو البصل، مجلة أبحاث اليرموك، المجلد الأول، سنة 1997 م. 626 - مرونة الشريعة الإسلامية وتطبيقها، الحبيب بالخوجة، مجلة الأمة، ربيع الأول 1406 هـ. 627 - مسئولية المسلمين المواطنين في دول غير إسلامية، راشد دورياو، ضمن بحوث مؤتمر الأقليات المسلمة في العالم ظروفها المعاصرة، آلامها، وآمالها، دار الندوة العالمية

للطباعة والنشر، 1420 هـ - 1999 م. 628 - مسائل في الفقه: النوازل وكيف يجب التعامل معها، مجلة الدراسات الفقهية المعاصرة، العدد 64، 1425 هـ. 629 - المسلمون في الاتحاد السوفيتي، شانتال لمربيه كلجكي، ألكسندر بينفسن، ترجمة: إحسان حقي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1977 م. 630 - المسلمون في تراقيا الغربية -اليونان، للأستاذ خالد أرن، ضمن بحوث الأقليات المسلمة في العالم ظروفها المعاصرة، آلامها، وآمالها، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر، 1420 هـ - 1999 م. 631 - المشاركة الإسلامية في التحول الاقتصادي الهندي، طاهر بيج، منشور ضمن بحوث مؤتمر الأقليات المسلمة في العالم ظروفها المعاصرة، آلامها، وآمالها، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، 1420 هـ - 1999 م. 632 - مشاركة المسلم في الانتخابات مع غير المسلم من الناحية التشريعية والفقهية في الشريعة الإسلامية، بحث بمجلة رابطة العالم الإسلامي، المجلد الأول، الجزء الثاني، 1422 هـ. 633 - معاملة غير المسلمين، ومعاملة الأقليات المسلمة، للشيخ محمد مختار السلامي، بحث مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السادس الجزء الرابع الطبعة الأولى 1426 هـ - 2005 م. 634 - الملل والنحل والأعراف، فادي سلامة، مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، التقرير السنوي الخامس 1998 م، دار الأمين للنشر والتوزيع، القاهرة. 635 - من أحكام الأحوال الشخصية للأقليات المسلمة، د. خالد عبد القادر، ضمن بحوث مؤتمر الأقليات المسلمة، ماليزيا 2009 م. 636 - منهج معالجة القضايا المعاصرة في ضوء الفقه الإسلامي، بحث د. محمد رواس قلعه جي، مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية، دبي، العدد الخامس، 1413 هـ - 1992 م. 637 - نحو منهج أصولي لفقه الأقليات، د. عبد المجيد النجار، المجلة العلمية للمجلس

حادي عشر: مراجع أجنبية ومواقع إلكترونية

الأوروبي للإفتاء والبحوث، العدد الثالث، ربيع ثاني 1424 هـ، فبراير 2003 م. 638 - نحو منهجية رشيدة للتعامل مع مسائل الأقليات المسلمة، بحث للدكتور قطب سانو، بمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي، الدورة السادسة عشرة، عام 2005 م، دبي. 639 - ندوة الرؤية الإسلامية لبعض المشاكل الطبية، بالدار البيضاء، 1418 هـ. 640 - الوسطية بين واجب المواطنة في أوروبا وحفظ الهوية الإسلامية، د. صهيب حسن، بحث في المؤتمر الدولي للوسطية، الطبعة الأولى، 1427 هـ - 2006 م. 641 - الوضع الراهن للمسلمين السوفيت، د. نادر دولت، ضمن بحوث مؤتمر الأقليات المسلمة في العالم ظروفها المعاصرة، آلامها وآمالها، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر، 1420 هـ - 1999 م. حادي عشر: مراجع أجنبية ومواقع إلكترونية: 642 - CIA World Fact Book, www.cia.gov 643 - www.alukah.net 644 - www.assawy.com 645 - www.islamtoday.net 646 - www.mawlawi.net 647 - www.saaid.net 648 - Barret: World Christian Encyclopwdia - 1982 649 - The World Of Islam,The Weekly News magazine Time.16 April, - 1979

§1/1