فقه النوازل

بكر أبو زيد

هذا المجلد يحتوي على خمس رسائل في دراسة النوازل الآتية: 1- التقنين والإلزام. 2- المواضعة في الاصطلاح. 3- خطاب الضمان البنكي. 4- جهاز الإنعاش وعلامة الوفاة. 5 - طرق الإنجاب في الطب الحديث - طفل الأنابيب.

التقنين والإلزام

" 1 " التقنين والإلزام عرض ومناقشة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فلما كانت نازلة إلزام القضاة بقولٍ مقنن أو مذهب معين من النوازل* التي تستدعي بحثاً وتوجب اهتماماً؛ لأسباب متكاثرة يجمعها أمران: أولهما: لأنه على القضاء تدور المحافظة على حقوق العباد، ورعاية حرماتهم، ورد الظلامات بينهم، وعمران مدنيتهم؛ متى ما سار التقاضي على وحي السماء، وهدي الشريعة الغراء، الكامن في الوحيين الشريفين: كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إذْ أن حياة الأمة مرتبطة ثباتاً ونمواً وارتقاءاً، بقدر ما تحييه من العمل بالوحيين الشريفين. ويكون نقصها واختلال موازين الحياة فيها بقدر الفوت من ذلك. ثانيهما: ولأن فلكة التقاضي وفصل الخصام بعد فهم الواقع للخصومات، واستقطاب النظر فيها هو فهم الواجب في الواقع، وهو كامن في تطبيق أحكام الشريعة المطهرة على ذلكم الواقع في كل قضية بعينها.

_ (*) يراد بالنوازل: الوقائع والمسائل المستجدة والحادثة المشهورة بلسان العصر باسم: النظريات، والظواهر. وفي مقدمة كتاب " فقه النوازل " صنعت مقدمة رحيبة الجناب واسعة الأطراف كشفت فيها عن مسالك البحث العلمي في نوازل الأقضية والأحكام وأبنت سبب العدول عن لفظ " نظرية " ونحوها إلى لفظ " النوازل " وستتم طباعتها بإذن الله تعالى بعد تكامل حلقات الجزء الأول من هذا المشروع المبارك وبالله التوفيق.

وهذا من معاقد الإسلام؛ والحاكم بنقيضه أي على خلاف ما أنزل الرحمن موصوف بالفسق، والظلم، والكفران فلا تستقر لعبدٍ إذاً قدم في الإسلام إلا إذا عقد قلبه على تحكيم شرع الله ودينه في كل شئونه وعلاقاته. وما أحسن ما قاله الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في فاتحة كتابه " الصواعق المنزلة على الجهمية والمعطلة " إذ يقول: (1) (واعلم أنه لا يستقر للعبد قدم في الإسلام حتى يعقد قلبه على أن الدين كله لله، وأن الهدى هدى الله وأن الحق دائر مع الرسول وجوداً وعدماً، وأنه لا مطاع سواه، ولا متبوع غيره، وأن كلام غيره يعرض على كلامه؛ فإن وافقه قبلناه، لا لأنه قاله. بل لأنه أخبر به عن الله ورسوله، وإن خالفه رددناه، ولا يعرض كلامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على آراء القياسيين، ولا على عقول الفلاسفة والمتكلمين، ولا أذواق المتزهدين، بل تعرض هذه كلها على ما جاء به، عرض الدراهم المجهولة على أخبر الناقدين، فما حكم بصحته فهو منها المقبول، وما حكم برده فهو المردود) . فلما كانت هذه النازلة من الأهمية بهذه المنزلة لهجت ألسنة العلماء في بحثها، وتناولتها أقلام الكاتبين بين القبول والرد؛ باحثين: هل يجوز الإلزام بمذهب معين أو قول مقنن لمن يتولى القضاء الشرعي، أو بلسان العصر: لمن يتولى منصب الحاكمية؟؟ . وقد تكاثرت البحوث فيها تبعاً واستقلالاً، وقوةً وضعفاً. غير أنه قد صار من الضغث على إبالة؛ أن بعض الأبحاث المعاصرة في هذه النازلة إضافة إلى ضعف مادتها، أجرى عرض الخلاف على وجه ليس محلاً للخلاف: بمعنى هل يجوز التقنين أو لا يجوز؟ .

_ (1) انظر: مختصر الصواعق 1 / 33 المطبوع بمصر بمطبعة الإمام.

وهذا خطأ صرف، وعدم وقوف على حقائق مسائل العلم، ومواطن الخلاف. فإن التقنين حقيقته تأليف، والغلط وقع في النزوع عن مصطلحات الشريعة، إذ أطلق هذا اللفظ عليه، فصار من آثاره السالبة مع ذلك إبعاد الأفهام عن المعهود من الحقائق والمضامين في علوم الشريعة وأحكامها. ومهما كانت التسمية تقنيناً، أو تدويناً، أو تأليفاً، فإن هذا عَرْضٌ مغلوط، ودائرة الخلاف إنما هي منحصرة في الإلزام جوازاً أو منعاً. لهذا فقد رأيت بحثها وتقرير ما توصلت إليه فيها لتكون على طرف الثمام أمام أهل الإسلام مشاركة مني في النصيحة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأئمة المسلمين، وعامتهم. وقد أجريت الكلام فيما حررته مرتباً له في مطالب ثلاثة: المطلب الأول: وفيه عرض لتاريخ نشوء هذه الفكرة؛ وهي حمل القضاة على مذهب معين. المطلب الثاني: في بيان أوجه القول بها مع بيان المصالح المترتبة عليها، ثم إتباعها بمناقشتها. المطلب الثالث: في بيان وجوه المنع منها مع بيان المضار المترتبة على القول بها. ولعل في ترتيب القول في هذه النازلة على هذا النمط والسياق تقريباً للأفهام، ومزيداً من الوقوف بوضوح على القول الحق فيها. وهذه هي الطريقة التي سلكها شيخا الإسلام ابن تيميه وابن القيم رحمهما الله تعالى وأرشدا إليها، وبها أخذ أنصار الكتاب والسنة

المستضيؤون بنورهما إلى يومنا هذا. ومنه قول ابن تيميه في ذلك ما يلي (1) : (يجب أن يكون الخطاب في المسائل المشكلة بطريق ذكر كل قول، ومعارضة الآخر له، حتى يتبين الحق بطريقه لمن يريد الله هدايته، فإن الكلام بالتدريج مقاماً بعد مقام هو الذي يحصل به المقصود، وإلا فإذا هجم على القلب الجزم بمقالات لم تحكم أدلتها وطرقها، والجواب عما يعارضها كان إلى دفعها والتكذيب بها أقرب منه إلى التصديق بها) . ويتحدث ابن القيم رحمه الله تعالى بإنعام الله عليه في هذه الطريقة فيقول (2) : " ... ونحن نذكر مأخذ هذه الأقوال وما لكل قول وما عليه، وما هو الصواب من ذلك الذي دل عليه الكتاب والسنة، على طريقتنا التي منَّ الله بها وهو مرجو الإعانة والتوفيق ". وأسأل الله تعالى التوفيق والإعانة والسداد. آمين. المؤلف بكر بن عبد الله أبو زيد تحريراً في مدينة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام 1392 هـ، وأنا بها مجاور ثم تم تبييضه في مدينة الرياض عام 1401 هـ. وأنا بها نزيل.

_ (1) بواسطة طريق الوصول ص / 170 للشيخ عبد الرحمن السعدي. (2) كتاب الروح ص / 93.

إيقاظ

إيقاظ وإنه قبل الأخذ بهذا تنبغي الإشارة مقدماً إلى محل التجاذب في بيان من هو القاضي الذي يُلْزَم وما هي الأحكام التي يُلْزَم بها. وذلك ونظيره منحصر في الأقسام الآتية: 1- إن الحكم الثابت بنص قطعي الثبوت والدلالة من كتاب أو سنة أو إجماع؛ هو ملزم بنفسه ولا يحتاج إلى أمر خارج عنه. 2- إن القاضي المجتهد الذي توفرت فيه أدوات الاجتهاد ليس محل خلاف في أنه لا يجوز إلزامه في التقليد لأحكام مناطها الاجتهاد (لأن التقليد لا يصح للمجتهد فيما يرى خلافه بإجماع) كما حكاه ابن فرحون (1) . 3- إذاً فإن محل التجاذب في الإلزام بالأحكام المقننة هي الأحكام الاجتهادية التي تجاذبتها الأدلة الشرعية أو الإرجاع إلى قاعدة من القواعد المرعية. 4- وإن محل التجاذب في الشخص المُلْزَم: هو القاضي المقلِّد الذي لم تتوفر فيه أدوات الاجتهاد.

_ (1) تبصرة الحكام 1 / 57.

المطْلَبُ الأول: عَرْضُ تاريخِ نُشُوء هذِه الفِكْرَة

المطلب الأول: عرض تاريخ نشوء هذه الفكرة

المطْلَبُ الأوّل: عرَضُ تاريخِ نُشُوء هذه الفكرة وهي جمع القضاة على مذهب معين ومراحل العرض لتاريخ هذه الفكرة في هذا المطلب حسب الاستقراء والتتبع على ما يلي: 1- يرى بعض الباحثين أن مُبدي فكرة جمع الإمام الناس على رأي واحد في القضاء.. هو ابن المقفع. وابن المقفع: هو عبد الله بن المقفع الأديب المشهور. ترجمه جماعةٌ منهم: الحافظان؛ ابن كثير في تاريخه (1) ، وابن حجر في: " اللسان " (2) . ولم يذكرا في ترجمته ما يوحي بعدالته. بل قال ابن حجر: ونقل عن ابن مهدي أنه قال ... (ما رأيت كتاباً في زندقة إلا هو أصله) أي: ابن المقفع. وقال ابن حجر أيضاً (3) : في ترجمة صالح بن عبد القدوس صاحب الفلسفة والزندقة كما وصفه الحافظ ابن حجر بذلك: ... وقال الشريف أبو القاسم المراغي في كتاب " غريب الفوائد " كان كحماد الراوية وعَدَّ جماعةً

_ (1) البداية والنهاية 10 / 96. (2) لسان الميزان 3 / 366. (3) لسان الميزان 3 / 173.

منهم: ابن المقفع.. قال: (مشهورين بالزندقة والتهاون بأمر الدين) . انتهى. ثم قال الحافظ: (قلت وليس لهؤلاء رواية فيما أعلم) . وفكرته هذه هي في كلامه الذي وجهه إلى أمير المؤمنين المدوَّنِ في رسالته المعروفة باسم: " رسالة الصحابة " (1) . وهذه الرسالة بطولها في كتاب: " جمهرة رسائل العرب " (2) نقلاً منه لها عن كتاب " المنظوم والمنثور " لابن طيفور. وفيها ابتداءً من ص / 36 قول ابن المقفع: (ومما ينظر أمير المؤمنين من أمر هذين المصرين وغيرهما من الأمصار، والنواحي: اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمراً عظيماً في الدماء والفروج والأموال؛ فيستحل الدم والفرج بالحيرة، وهما يحرمان بالكوفة.. إلى أن قال: فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسنن المختلفة فترفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك، وأمضى في كل قضية أمره الذي يلهمه الله ويعزم عليه، ويَنْهى عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك كتاباً جامعاً عزماً؛ لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلفة الصوابَ بالخطأ: حكماً واحداً وصواباً. ورجونا أن يكون اجتماع السير قربة لإجماع الأمر برأي أمير

_ (1) المقصود بالصحابة هنا: صحابة الولاة والخلفاء لا صحابة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما هو شائع، واستعمال الكلمة بهذا المعنى معروف إذ ذاك نسبة إلى المتصلين بهؤلاء (انظر كتاب: عبد الله بن المقفع لجورج غريب ص: 58) . (2) جمهرة رسائل العرب 3 / 25 مؤلفه: محمد زكي صفوت.

المؤمنين، وعلى لسانه، ثم يكون ذلك من إمام آخر آخر الدهر إن شاء الله) . انتهى. 2- كما يروى في ذلك ما كان من الحوار، بين أبي جعفر المنصور المتوفى سنة 158 هـ وبين الإمام مالك بن أنس المتوفى سنة 179 هـ. كما ذكرها مسندة الحافظان: ابن عساكر (1) ، وابن عبد البر (2) . وأسانيدها لا تخلوا من مقال؛ ففي بعضها الواقدي صاحب المغازي محمد بن عمر بن واقد الأسلمي وهو متروك الحديث (3) ، حتى مال ابن جرير إلى كون القصة وقعت بين المهدي والإمام مالك لا مع أبي جعفر. ولما أراد أبو جعفر حمل الناس على رأي واحد قال له مالك كما في رواية ابن عساكر: (لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث وروايات وأخذ كل قوم منهم بما سبق إليهم وعملوا به ودانوا به، من اختلاف الناس وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم، فقال: لعمري لو طاوعني على ذلك لأمرت به) . انتهى. وفي الرواية الثانية من طريق خالد بن نزار أن مالكاً قال: ( ... فقلت يا أمير المؤمنين إن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفرقوا في البلدان واتبعهم الناس فرأى كل فريق أن أتبع متبعاً) . انتهى.

_ (1) كشف المغطا ص / 47. (2) الانتقاء ص / 41. وانظر ص / 38 - 39 من عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني. (3) كشف المغطا ص / 47.

وفي رواية ابن عبد البر أن مالكاً قال: (.. يا أمير المؤمنين قد رسخ في قلوب أهل كل بلد ما اعتقدوه وعملوا به، ورد العامة عن مثل هذا عسير) . انتهى. وفي اختصار علوم الحديث لابن كثير (1) ، قال: (وقد طلب المنصور الإمام مالك أن يجمع الناس على كتابه فلم يجبه إلى ذلك، وذلك من تمام علمه، واتصافه بالإنصاف. وقال: إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها) . انتهى. 3- ثم إنه نحواً من ذلك ما وقع بين المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور المتوفى سنة 169 هـ وبين مالك رحمه الله. كما رواها الحافظ ابن عساكر في " كشف المغطا " (2) والحافظ ابن عبد البر في " الانتقاء " (3) . 4- ويروى أيضاً أن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور المتوفى سنة 193 هـ وقع له مع الإمام مالك مثل ما وقع لأبيه وجده مع مالك رحمه الله تعالى كما رواها أبو نعيم في " الحلية " (4) وفيها: (قال مالك شاورني هارون الرشيد في ثلاث - ذكرها - ومنها: في أن يعلق الموطأ في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه، وفي أن ينقض منبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويجعله من جوهر وفضة.. فقال مالك: أما تعليق الموطأ في

_ (1) ص: 30 من اختصار علوم الحديث مع شرحه الباعث الحثيث للشيخ أحمد شاكر. (2) ص: 48. (3) ص: 40. (4) حلية الأولياء 6 / 332.

الكعبة، فإن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في الآفاق وكل عند نفسه مصيب..) إلخ. وفي إسنادها عند أبو نعيم: المقدام بن داود بن عيسى بن تليد الرعيني، أبو عمر البصري، قال فيه النسائي: ليس بثقة (1) . لكن قال الشوكاني في " القول المفيد " (2) : وقد تواترت الرواية عن الإمام مالك أن الرشيد قال له: (إنه يريد أن يحمل الناس على مذهبه، فنهاه عن ذلك. وهذا موجود في كل كتاب فيه ترجمة الإمام مالك، ولا يخلوا من ذلك إلا نادراً) . انتهى. وممن أشار إلى وقوع هذه القصة لمالك مع الرشيد: ابن القيم رحمه الله تعالى كما في كتابيه: " إعلام الموقعين " (3) ، و " الروح " (4) . 5- ثم يرى بعض الباحثين المعاصرين (5) ، أن هذه الفكرة بقيت معطلة بعيدة عن التنفيذ حتى اتجهت الحكومة العثمانية في أواخر القرن الثالث عشر الهجري قبل انقراضها بإخراج قانون للمعاملات يتلائم وروح العصر، مقيداً بالمذهب الحنفي دون التقيد بالرأي الراجح من المذهب الحنفي، فصدرت بذلك " مجلة الأحكام العدلية " متضمنةً جملةً من أحكام: البيوع، والدعاوى، والقضاء ... (وكان تاريخ صدور هذه المجلة في عام 1869 م) (6) .

_ (1) انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 4 / 175، ولسان الميزان لابن حجر 6 / 84. (2) القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد ص: 17. (3) 2 / 363 - 364. (4) ص: 266 - 267. (5) منهم: الأستاذ محمد سلام مدكور في كتابه: القضاء في الإسلام ص: 111. (6) انظر: تاريخ القانون لزهدي يكن ص: 286.

ثم ظهر بعد ذلك قانون مستمد من المذهب الحنفي وغيره من مسائل النكاح والفُرَق. ثم إن الخديوي إسماعيل رفض الأخذ بها على ما أشار به عليه مستشاره الفرنسي.. (وفعلاً فقد تطلع الخديوي إلى القوانين الغربية، ولما حدث هذا بدأ الإستياء على رجال الدين (1) ، وظهر أثره في نفوس طوائف الشعب، فقام الفقيه: قدري باشا بعمل مجموعة من القوانين من المذهب الحنفي، ولكن هذه القوانين لم يقدر لها أن تصبغ بصبغة رسمية) (2) . 6- ثم إنه في هذا القرن اتجهت بعض الحكومات التي تحكم الأنظمة الوضعية إلى وضع قانون للأحوال الشخصية (3) ، مستمد من المذاهب الأربعة وبعضها مستمد من المذهب الحنفي، ولم تثبت تلك على الوتيرة المختارة، بل بين كل حين وآخر يصدر لها مذكرة تفسيرية وأخرى إلغائية واستبدالها برأي آخر وهكذا. 7- والخلاصة من هذا العرض وغيره للمراحل التي مرت بها هذه الفكرة هي ما يلي:

_ (1) ليس في الإسلام طائفة تسمى برجال الدين، فهذا اصطلاح كنائسي. ولو عبر الكاتب برجال العلم لكان أولى. وقد حررت هذا في كتابي (معجم المناهي اللفظية) . (2) القضاء في الإسلام: يراد بهذا الاصطلاح أحكام النكاح وتوابعه.. وهو اصطلاح مرفوض شرعاً، وله سوالبه الكثيرة. وقد بسطته في كتابي (معجم المناهي اللفظية) . (3) الأحوال الشخصية: يراد بهذا الاصطلاح أحكام النكاح وتوابعه.. وهو اصطلاح مرفوض شرعاً، وله سوالبه الكثيرة. وقد بسطته في كتابي (معجم المناهي اللفظية) .

أ - إن هذه الفكرة لم تكن معهودة في صدر الخلافة الإسلامية حتى عام 144 هـ. ب - إن مبدى هذه الفكرة بعد هو عبد الله بن المقفع أحد الكتاب الأدباء على ما تقدم بيانه وبيان حاله. جـ - إن ثلاثة من خلفاء بني العباس وهم: أبو جعفر المنصور، وابنه المهدي، وحفيده هارون الرشيد، طلب كل واحد منهم - على ما يروى - من الإمام مالك تنفيذ هذه الفكرة فمانع إمامُ دار الهجرة كلَّ واحد منهم في تنفيذها بحمل الناس عليها. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (فكان هذا من تمام علمه واتصافه بالإنصاف) (1) . د - إنه لا يعرف للإمام مالك رحمه الله تعالى منازع في عصره من العلماء في رده ما دعاه إليه الخليفة. هـ - إنه بدليل الاستقراء والتتبع، لا يعرف لهذه المسألة بين العلماء والولاة ذكر ولا أثر منذ ذلك التاريخ حتى أواخر القرن الثالث عشر، وإلا فمتعصبة المذاهب منتشرون من بعد انقراض القرون المفضلة على ما في القول المفيد للشوكاني (2) . غير أن برهان الدين بن فرحون المالكي المتوفى سنة 799 هـ قال في: " تبصرة الحكام " (3) :

_ (1) اختصار علوم الحديث، ص: 30. (2) ص: 17. (3) تبصرة الحكام بحاشية فتاوى عليش: 1 / 57.

(وقال أبو بكر الطرطوشي: أخبرني القاضي أبو الوليد الباجي، أن الولاة كانوا بقرطبة إذا ولوا رجلاً شرطوا عليه في سجله ألا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده. قال الشيخ أبو بكر: وهذا جهل عظيم منهم. يُريد لأن الحق ليس في شيء معين، وإنما قال الشيخ أبو بكر هذا لوجود المجتهدين وأهل النظر في قضاة ذلك الزمان - وعد جماعة منهم - ثم قال: وهذا الذي ذكره الباجي ورد نحوه عن سحنون وذلك أنه ولى رجلاً القضاء، وكان الرجل ممن سمع بعض كلام أهل العراق، فشرط عليه سحنون ألا يقضي إلا بقول أهل المدينة ولا يتعدى ذلك. قال ابن راشد: وهذا يؤيد ما ذكره الباجي ويؤيد ما قاله الشيخ أبو بكر. فكيف يقول ذلك، والمالكية إذا تحاكموا فإنما يأتون ليحكم بينهم بمذهب مالك) . انتهى. إيقاظ: وأمام التعصب المذهبي، أخذ العلماء بتفنيد ذلك في تضاعيف مؤلفاتهم، وفي مؤلفات مستقلة، منهم: ابن عبد البر في " جامعه " والشاطبي في " الاعتصام " وابن القيم في " الإعلام " وشيخه في مواضع من كتبه. وأبو شامة في كتابه " المؤمل في الرد إلى الأمر الأول " والشوكاني في " القول المفيد " وشيخنا محمد الأمين الشنقيطي في كتابه " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن " والفلاني في " إيقاظ همم أولي الأبصار " وغيرها كثير. وإن هذه المؤلفات وما جرى مجراها هي في الجملة تفيد منع حمل الناس على مذهب معين أو قول مقنن. والله أعلم. و إنه لما صار التقنين في المجلة المذكورة صار دركةً أولى لحلول القانون الفرنسي.

ز - إنه لما صار تقنين الأحوال الشخصية - على حد اصطلاحهم - في أوائل هذا القرن، لم يستقر على ما حصل عليه الاتفاق. ح - إن موحد الجزيرة العربية بعد فرقتها إمام المسلمين الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود - رحمه الله - عرض أمر تلك الفكرة شورى على علماء المملكة منذ نصف قرن تقريباً، فاجتمع رأيه مع العلماء على ردها رحمة الله تعالى عليهم أجمعين (1) .

_ (1) انظر بيان ذلك في رسالة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن بسام عضو هيئة التمييز بالمنطقة الغربية - المسماة (تقنين الشريعة. أضراره ومفاسده) .

المطلب الثاني: في بيان أوجه القول بالإلزام مع بيان المصالح المترتبة عليه ثم اتباعها بمناقشتها

المطْلَبُ الثاني: في بَيَان أوجُه القول بالإلزام مَع بيَان المصالح المترتّبة عَليْه ثمَّ اتباعِها بمُناقشتها وإيضاح المطلب في فصولٍ ثلاثة

الفصل الأول في أوجه القول بالإلزام

الفصل الأول في أوجه القول بالإلزام وجه القائلون بالإلزام قولهم به بطائفة من الأدلة أهمها ما يلي: 1- استدلوا بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) الآية. قالوا: فإن ولي الأمر إذا أمر بما ليس فيه معصية، ولا يتعارض مع أحكام الشريعة، وجبت طاعته لهذه الآية، والإلزام بالتقنين ليس فيه معصية لا ظاهراً ولا ضمناً، ولا يتعارض مع الشريعة بوجه وهو مصلحة رآها الوالي فيجب الالتزام بما ألزم به. 2- والتقنين قد وجد ما يدل له من فعل السلف؛ حيث جمع عثمان رضي الله عنه الناس على مصحف واحد، وقراءة واحدة، وأحرق ما عداه من المصاحف، وفيها القراءات الشاذة والمتواترة. وذلك سداً منه لباب الخلاف فكذلك هنا. 3- قالوا: الأصل في الشريعة كما ذكره علماء الأصول: أن تكون معلومة أو في حكم المعلومة، لتكون ملزمة، أي فينبغي أن يكون ما هنا كذلك.

_ (1) الآية رقم 59 من سورة النساء.

4- ثم إن التقنين يكون باختيار جماعة من علماء العصر والإجماع ينعقد بقول الأكثر من أهل العصر في قول الجمهور والمخالفة شذوذ فهي مطروحة. إذاً فينبغي الإلزام به. 5- قالوا: ومع هذا فليس هناك دليل يقضي برده، فهو من المصالح المرسلة. وقد رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن. ومنها ما يأتي في الفصل بعده:

الفصل الثاني فيما يترتب على الإلزام من مصالح ويندفع به من مفاسد

الفصل الثاني فيما يترتب على الإلزام من مصَالح ويندفع به من مفاسد 6- وإنه يترتب على الإلزام بالأحكام المقننة مصالح ويندفع مفاسد والشريعة مبنية على جلب المصالح وتكثيرها ودفع المفاسد وتقليلها ومن ترتبات هذا الفصل ما يلي: أ - بالتقنين الملزم به تكون الأحكام الواجبة التطبيق محددة مبينةً معروفةً للقاضي والمتقاضي. وذلك أدعى إلى تحقيق العدالة والتيسير على الناس، وأكفل لتحقيق المساواة بينهم، وطمأنة نفوسهم بالنسبة للقضاة، فلم يكن بدٌّ من وضع الأحكام الشرعية القضائية على هذا المنوال. ب - إن عدم التدوين كان سبباً لتهرب بعض المدعين من المحاكم الشرعية إلى محاكم فرنسا، وأن أولئك المدعين قالوا: " إن العدل غير مضمون في تحكيم الشريعة الإسلامية ". ففي هذا تشويه لسمعة البلاد التي تحكم الشريعة، فيتعين إذاً التدوين الملزم لدفع هذه المفسدة. إذ المدعين لعدم ضمان العدل في المحاكم الشرعية عللوا ذلك بعدم وجود نصوص مدونة ومعروفة مسبقاً لدى الأطراف ليلتزموا بها على نحو ما هو معهود في جميع قوانين العالم.

جـ - إن استباط الأحكام الفقهية لتطبيق الحكم منها على واقع القضية يحتاج إلى مهارة علمية، وملكة قوية، ودراية تامة بالكتب ومنزلتها وتمييز قوي الروايات من ضعيفها، وهذه المرتبة وإن توفرت في البعض إلا أنه يقصر عن بلوغها الأكثر. د - ثم من المعلوم أن أكثر الفقهيات فيها خلاف لا بين المذاهب الدائرة فحسب، بل خلاف حتى في المذهب نفسه، فيكون هناك مجال للحكم في قضية على أحد القولين أو الأقوال، والحكم بقضية أخرى على القول الثاني أو أحد الأقوال، ومعنى هذا أن الحكم قد يكون بالتشهي وفي الإلزام بأحكام معينة دفع لذلك. هـ - إنَّهُ يكون قضيتان متماثلتان هذه عند قاضي بلد، والثانية عند قاضي بلد آخر، فيختلفان في الحكم فيها فينتج من هذا التباين، تظلم ووقيعة في عرض القاضي والقضاء. و إنه يقع تجاذب بين حاكم القضية ومدقق الحكم لا من حيث واقع القضية ولكن من حيث تطبيق الحكم الشرعي على واقعها. ففي هذا من الإضرار كما في سابقه. فسداً لباب التقول، وإشغال الجهات بالملاحاة والمراجعات إلى غير ذلك من دفع المفاسد وجلب المصالح يجب تقنين الأحكام والإلزام بالقضاء بها بحيث لا يجوز تخطيها ولا الحكم على خلاف موادها.

الفصل الثالث في مناقشة أوجه الإلزام على لسان الممانع

الفصل الثالث في مناقشة أوجه الإِلزام على لسان الممانع هذا وللمانعين من الإلزام مناقشات وإيرادات على هذه الأوجه، وتبيانها على ما يلي: أولاً: أما الاستدلال بالآية فإنه لا يتجه لما يلي: وهو أن الله سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحذف الفعل في طاعة أولي الأمر، لأن طاعتهم إنما تكون فيما فيه طاعة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاله غير واحد من علماء التفسير. وكما أن مرد التنازع في الأمر هو إلى الله وإلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في أخر هذه الآية، فكذلك الطاعة. وقد جاءت السنة المطهرة تحدد ذلك وتبينه من أن الطاعة لولي الأمر إنما تكون بالمعروف وفيما فيه معروف، وهو ما جاءت به الشريعة لا غير. ففي الصحيحين أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ". وهذه الجمل الشريفة من معتقد أهل السنة والجماعة كما عقدها الطحاوي في العقيدة فقال: (1) (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وأن جاروا، ولا ندعوا عليهم

_ (1) الطحاوية مع شرحها ص: 428.

ولا ننزع يداً من طاعتهم. ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضةً ما لم يأمروا بمعصية. وندعو لهم بالصلاح والمعافاة) . انتهى. لهذا فإن ولي الأمر إذا أمر وألزم بما فيه طاعة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كجباية الزكوات مثلاً - وجبت طاعته ولم تجز مخالفته إذ هذا معروف تجب طاعته فيه - ولو فرض أن ثمة تنازعاً لوجب رد أمر ذلك التنازع إلى أمر الله وأمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما وافقهما فهو الطاعة في المعروف لا يجوز خلافه. وفي موضع بحثنا هذا لو أمر الإمام وأوجب على القضاة الحكم بأحد القولين أو الأقوال في أحكام مناطها الاجتهاد. وذلك المأمور المتأهل يعتقد ديناً وشرعاً متحرياً الصواب أن الصحيح مقابل ما أُلزِمَ به. فهل يجوز فيمن سبيله كذلك الحكم بما أُلزم به وترك ما يعتقده؟ قال محمد بني إدريس الشافعي رحمه الله تعالى: (أجمع الناس على أنه من استبانت له سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليس له أن يدعها لقول غيره) . انتهى. وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة بيان لهذا عند ذكر احتجاج المانعين بهذه الآية. والله أعلم. ثانياً: أما أن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على قراءة واحدة وأحرق باقي القراءات ... إلخ، فلا بد أولاً من تصحيح الدليل، ثم يكون الدفع، فمن المعلوم أن القرآن كان مكتوباً على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكنه كان مفرقاً في العسب واللخاف. ثم إن أبا بكر رضي الله عنه جمعه في صحف، هذا أمر مشهورة أخباره في الصحاح وغيرها.

وقد ذكر الطحاوي في العقيدة (1) ، أن مذهب أهل السنة عدم الجدال في القرآن وذكر الشارح من معانيه ... إنا لا نحاول في القراءة الثابتة، بل نقرؤه بكل ما ثبت وصح، وذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند البخاري في قصة رجل قرأ آية كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ خلافها وفيه قال ابن مسعود فأخذت بيده فانطلقت به إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت فعرفت في وجهه الكراهية وقال: " كلاكما محسن لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا " قال الشارح: فنهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع صاحبه من الحق.. ولهذا قال حذيفة رضي الله عنه لعثمان رضي الله عنه: أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم قبلهم، فجمع الناس على حرف واحد اجتماعاً سائغا وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة ولم يكن في ذلك ترك لواجب، إذ كانت قراءة القران على سبعة أحرف جائزة لا واجبة رخصةً من الله تعالى وقد جعل الاختيار إليهم في أي حرف اختاروه) . انتهى. فتبين من هذا أن عثمان رضي الله عن إنما جمع الناس على حرف واحد لا على قراءة واحدة، والإجماع منعقد على جواز الأخذ بالقراءة بكل قناعة سبعية كما هو معلوم. قال أبو شامة (2) ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة.

_ (1) ص: 290. (2) انظر: فتح الباري لابن حجر: 9 /30.

وقال بعض المحققين: المراد بكون عثمان رضي الله عنه جمع الناس على حرف واحد هي وحدة جنسية لا نوعية، أي لا أنه أخذ حرفاً واحداً وترك بقية الحروف والله أعلم. وأما إحراق عثمان رضي الله عنه بقية المصاحف فقد قال الزركشي (1) : وفي الجملة: إنه أي عثمان رضي الله عنه إمام عدل غير معاند ولا طاعن في التنزيل، ولم يحرق إلا ما يجب إحراقه، ولهذا لم ينكر عليه أحد ذلك، بل رضوه وعدوه من مناقبه، حتى قال علي رضي الله عنه: لَوْ وَليت ما ولى عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل. انتهى. ومن هذا العرض الموجز لجمع عثمان رضي الله عنه ... يتبين التصحيح لما عمله عثمان رضي الله عنه، أما الاستدلال به فهو قياس مع وجود عدة فوارق منها ما يلي: 1- إن هذا الجمع الذي جمعه عثمان رضي الله عنه أجمع الصحابة رضي الله عنهم عليه فأمضوه، وأما الإلزام برأي أو مذهب معين فعامة أقوالهم وما وقع لهم من الحوادث والاختلاف فيها تفيد منع ذلك. وسيأتي بيان طرف من أقوالهم إن شاء الله تعالى في مقام أدلة المنع. 2- إن عامة القراءات الصحيحة التي لم تنسخ لا خلاف في وجوب العمل بها كالقراءة المعتبرة في المصحف، أما التقنين أو التدوين للأحكام الملزم بها - فلا يجوز عند من ألزم بها العمل بما عدا هذا القول الملزم به، والإجماع على خلاف ذلك. قال الخطيب البغدادي (2) :

_ (1) البرهان في علوم القرآن 1 / 240. (2) الفقيه والمتفقه 1 / 173.

(باب القول في أنه يجب اتباع ما سنه أئمة السلف من الإجماع والخلاف وأنه لا يجوز الخروج عنه.. إذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسألة على قولين، وانقرض العصر عليه لم يجز للتابعين أن يتفقوا على أحد القولين، فإن فعلوا ذلك لم يترك خلاف الصحابة. والدليل عليه: أن الصحابة أجمعت على جواز الأخذ بكل واحد من القولين، وعلى بطلان ما عدا ذلك، فإذا صار التابعون إلى القول بتحريم أحدهما لم يجز ذلك وكان خرقاً للإجماع) . انتهى. 3- إن المصحف الذي جمع عثمان الناس عليه هو صواب 100% لا خطأ فيه وحق لا شك فيه فمن أنكره أو شيئاً منه فهو كافر بإجماع المسلمين، وأما الأحكام الاجتهادية الملزم بها فلا شك في وجود خطأ فيها لأنها من اجتهاد غير معصوم والخطأ فيها متحتم كما هو معلوم. 4- إن هذا الذي جمع عثمان الناس عليه هو من جنس خصال الكفارة من أن الإنسان مخير في واحدة منها فاقتصر على قراءة بحرف واحد كمن اقتصر فيمن لزمه كفارة على خصلة واحدة منها. وهذا خلاف الإلزام هنا فهو في أحد القولين أو الأقوال في مسألة الحق فيها في أحد القولين أو الأقوال. وقد أفصح عن ذلك الحافظ ابن حجر فقال (1) : (والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. وما عدا ذلك من القراءات فمما كانت القراءة جوزت به توسعة على الناس وتسهيلاً عليهم فلما آل الحال إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان رضي الله عنه، وكفر بعضهم بعضاً، اختاروا

_ (1) فتح الباري 9 / 30.

الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته وتركوا الباقي. قال الطبري: وصار ما اتفق عليه الصحابة من الاقتصار كمن اقتصر مما خُير فيه على خصلة واحدة.. وقد قرر ذلك الطبري وأطنب فيه وَوَهَّى من خالفه) . انتهى. ثالثاً: أما أن الأصل في الشريعة أن تكون معلومة لتكون ملزمة.. إلخ. فإن صاحب " أضواء البيان " شيخنا محمد الأمين رحمه الله تعالى أورد ذلك في مذكرة له فقال في الجواب عنه: (هذا فيه إجمال مانع من فهم المراد منه، فيقال: ما هو المراد بهذا العلم؟ الأصل في الشريعة أن تكون معلومة به لتكون ملزمة عند علماء الأصول، فإن كان المراد به ما هو مشهور عندهم: من أن المطلوب بالتكليف قصد إيقاع الفعل المأمور به على وجه الامتثال. وأن ذلك يتوقف على العلم بما هو مكلف به، ودون العلم به لا يكون ملزماً به، لأن التكليف بالمجهول لا يصح، فهذا صحيح، ولكن لا علاقة بينه وبين موضوع البحث، لأن المكلف بالقضاء الحاكم وهو عالم أو في حكم العالم بما هو مكلف به من القضاء. وإن كان المراد أن الخصوم لا يلزمهم حكم الحاكم حتى يعلموا ما كلفهم به الحاكم بعد الحكم عليهم، فهذا صحيح أيضاً، ولكنه أجنبي من الموضوع. وإن كان المراد أن حكم الحاكم بالشريعة يشترط في إلزامه أن يكون ما يحكم به الحاكم معلوماً عند جميع الخصوم قبل التحاكم، فهذا من موضوع البحث ولكنا لم نفهم وجهه، ولم نسمع به عند أحد من أهل الأصل ولا غيرهم، ولذلك احتجنا لإيضاح المراد به، لأن اشتراط علم السواد الأعظم بتفاصيل الأحكام التي يحكم لهم وعليهم بها قبل التحاكم

في الإلزام بالحكم يحتاج إلى إيضاح وجهه بالدليل. وبإيضاح وجه هذا يتضح وَجْهُ أعظم الدواعي للتدوين مع العلم بأن بعض أهل العلم يمنع هذا النوع من التعليم، فلا يجيزون للقضاة الفتوى للناس في شيء من الأحكام التي من شأنها أن تعرض بين يدي الحكام لأجل التحاكم فيها معللين ذلك بأن معرفتهم لما عند الحكام قبل التحاكم عون لهم على الفجور والحيل، لأن الخصم إذا عرف ما يحكم به الحاكم للخصم وما يحكم به عليه، أعانه ذلك على التوصل إلى الحكم بالباطل والحيل، وهذا هو مذهب مالك ونقل عنه غير واحد أنه ممنوع. وقيل عنه: إنه مكروه، وسوى بعضهم بين المنع والكراهة. ولم نعلم أحداً روى عن مالك جواز هذا النوع من التعليم. ولم نعلم أحداً من أصحابه أجازه إلا ابن عبد الحكم. وحمل بعضهم قول خليل في " مختصره ": ولم يفت في خصومه على الكراهة مع اعترافه بأن ظاهر كلامه المنع. وهو الذي جزم به ابن عاصم الغرناطي في " تحفته " بقوله: ومنع الإِفتاء للحكام ... في كل ما يرجع للخصام وقال شارحه التاودي في شرحه المسمى " مجلي المعاصم لبنت فكر ابن عاصم " ما نصه: (أي منع إفتاء الحكام في كل ما من شأنه أن يرجع للخصام من أبواب المعاملات لما فيه من تعليم الخصوم وإعانتهم على الفجور لا في أبواب العبادات أو لمتفقه) . انتهى. وعبارة غيره: ولا يفتى في الخصومة، وهو لمالك وسحنون. وقال ابن عبد الحكم: لا بأس به، وبه العمل. وظاهر المصنف المنع، وأنه على

التحريم، ويحتمل الكراهة، وعليه حملوا قول خليل: ولم يفت في خصومة. وحصل الحطاب في المسألة ثلاثة أقوال: المنع، والكراهة، والجواز ... انتهى منه. وقال التسولي في شرحه للتحفة المسمى بالبهجة، ممزوجاً في قول ابن عاصم: في كل ما يرجع للخصام ما نصه: في كل ما: أي شيء يرجع للخصام فيه بين يديه من أبواب المعاملات، لأن الخصم إذا عرف مذهبهم تحيل للوصول إليه أو الانتقال عنه. انتهى محل الغرض منه بلفظه. وما ذكر بعد هذا من تفصيل فقد تبع فيه بعض المتأخرين وليس معروفاً في أصل المذهب، وإنما المعروف في مذهب مالك ما ذكرنا، وليس غرضنا مناقشة الأقوال في منع ذلك أو كراهته، أو جوازه، وإنما الغرض عندنا أن كل كلامهم على كل تقدير، مُصَرِّحٌ بأن ذلك النوع من التعليم لا مصلحة فيه البتة، فضلاً عن كون العلم بذلك قبل التحاكم شرطاً لكون الشريعة ملزمة) . انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وفي تحرير حكم إفتاء القاضي للناس يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (1) : (الفائدة السادسة والثلاثون: لا فرق بين القاضي وغيره في جواز الإفتاء بما تجوز الفتيا به، ووجوبها إذا تعينت، ولم يزل أمر السلف والخلف على هذا، فإن منصب الفتيا داخل في ضمن منصب القضاء عند الجمهور. فالقاضي مفتٍ ومثبتٌ ومنفذ لما أفتى به.

_ (1) إعلام الموقعين 4 / 220.

وذهب بعض الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد والشافعي إلى أنه يكره للقاضي أن يفتي في مسائل الأحكام المتعلقة به، دون الطهارة والصلاة والزكاة ونحوها، واحتج أرباب هذا القول بأن فتياه تصير كالحكم منه على الخصم، ولا يمكن نقضه وقت المحاكمة. قالوا: ولأنه قد يتغير اجتهاده وقت الحكومة أو تظهر له قرائن لم تظهر له عند الإفتاء فإن أصر على فتياه والحكم بموجبها حكم بخلاف ما يعتقد صحته. وإن حكم بخلافها طرق الخصم إلى تهمته والتشنيع عليه بأنه يحكم بخلاف ما يعتقده ويفتي به، ولهذا قال شريح: أنا أقضي لكم ولا أفتي، حكاه ابن المنذر، واختار كراهية الفتوى في مسائل الأحكام. وقال الشيخ أبو حامد الإسفرائيني: لأصحابنا في فتواه - أي القاضي - في مسائل الأحكام جوابان؛ أحدهما: أنه ليس له أن يفتي فيها، لأن لكلام الناس عليه مجالاً، ولأحد الخصمين عليه مقالاً. والثاني: له ذلك؛ لأنه أهل له) . انتهى. رابعاً: أما أن التقنين الملزم به يكون اختيار أحكامه باتفاق أكثر مجتهدي العصر فيكتسب الإجماع فيقال: إن الإجماع لا ينعقد بقول الأكثرين من أهل العصر في قول جمهور أهل العلم. قال ابن قدامه رحمه الله تعالى (1) : فصل: ولا ينعقد الإجماع بقول الأكثرين من أهل العصر في قول الجمهور، وقال محمد بن جرير وأبو بكر الرازي وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله تعالى. ووجهه: أن مخالفة الواحد شذوذ، وقد نهى عن الشذوذ، وقال عليه

_ (1) روضة الناظر، ص: 71.

السلام: " عليكم بالسواد الأعظم " (1) وقال: " الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد ". ولنا: أن العصمة إنما تثبت للأمة بكليتها وليس هذا إجماع الجميع، بل هو مختلف فيه، وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ} . وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} . انتهى. ويقال أيضاً: هذه مجالس أهل العلم وطلابه ينعقد الاجتماع فيها لدراسة بعض من مباحث العلم ومطالبه، ثم ينقضي الاجتماع وهم مختلفون غالباً فكيف يمكن اجتماع طائفة منهم على تدوين مئات المسائل، بل الالآف منها ويكون الرأي فيها واحداً بالإجماع منهم، وهذا متعذر بالإجماع في مجمع علمي يحمل ممثلوه الشروط والسمات التي تؤهلهم لذلك، مبعدين لعامل المجاملة وانطواء الضعيف تحت سلطان القوي والله المستعان (2) . خامساً: أما أنه ليس للمانعين دليل يقضي برد الإلزام. فسيأتي إن شاء

_ (1) هذا الحديث: عليكم بالسواد الأعظم. رواه ابن ماجه من حديث أنس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم " وفي الزوائد (.. في إسناده: أبو خلف الأعمى واسمه: حازم بن عطاء، وهو ضعيف. وقد جاء الحديث بطرق في كلها نظر، قاله شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي) . وقد رواه أحمد في مسنده موقوفاً من قول أبي أمامة رضي الله عنه 4 / 278 وموقوفاً أيضاً من قول عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه 4 / 382. (2) ووازن بهذا المبحث ما ذكره العلامة محمد سعيد الباني في كتابه (عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق، ص: 44 - 46 فهو مهم) .

الله تعالى في ذكر أدلة المانعين ما يفيد لهم المنع من عامة طرق الأدلة. أما حديث: ما رآه المسلمون حسناً.. الحديث. فإنه لا يثبت مرفوعاً إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال العجلوني (1) : رواه أحمد في كتاب " السنة " وليس في مسنده كما وُهم. انتهى. والعجلوني رحمه الله تعالى هو الواهم فإن الحديث في مسند أحمد أيضاً (2) . والذي عليه عامة حفاظ الأثر أن هذا الحديث إنما يصح موقوفاً من قول ابن مسعود رضي الله عنه. قال ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (وهو ثابت موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه) انتهى. وقال أيضاً (4) : (إن هذا الحديث ليس من كلام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما يضيفه في كلامه من لا علم له في الحديث، وإنما هو ثابت عن ابن مسعود قوله. ذكره الإِمام أحمد وغيره، موقوفاً، ثم ذكر الحديث) . انتهى. وإذا لم يصح مرفوعاً إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يصح الاستدلال به مرفوعاً. والله أعلم. سادساً: لما ذكر أنه بالتقنين تتحقق مصالح وتندفع مفاسد فمناقشتها على ترتيبها المتقدم على ما يلي: أ - أما عن الأولى.. فإنه من المعلوم لدى الخاص والعام أن دين

_ (1) كشف الخفاء: (2 / 245) ورقم الحديث: 2214. (2) المسند، 1 / 379. (3) إعلام الموقعين. (4) الفروسية، ص: 60.

الله دين الإسلام صالح لكل زمان ومكان وأنه مر على الإسلام عصور مختلفة وأطوار متباينة، منها عصور تطور واتساع حتى كانت الدولة العباسية تشمل القارات الثلاث وكانت أبواب الحكومات الفقهية كلها نافذة وأمرها راشد وهكذا في سائر عصوره وأدواره ومع ذلك فقد تحققت العدالة بتحكيم الشريعة، وانتشر اليسر وارتفع الحرج والعسر، وفي هذه الأجيال المختلفة المتعاقبة وأمام تلك الاختلافات والتطورات والزيادة والنقص لا يعرف عن واحد من الأئمة المعتبرين وجوب إلزام القضاة في أحكامهم بمذهب أو رأي معين، بل لما أدلى بها بعض الخلفاء العباسيين ولعله من تأثير بعض الأدباء فامتنع إمام دار الهجرة من الإجابة إليها وحاشاه أن يوقع الناس في ضيق على حد قولهم، وهو يجد له في الشريعة مدفعاً. وهذا التعليل هو ما أبداه ابن المقفع فلا يقال إنه احتجاج جديد أو مصلحة تجددت ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها. هذا وإن لنا من واقع غيرنا المشاهد دليلاً ونظراً وهو أن البلاد الغربية التي تسير أحكامها على أساس القانون الوضعي لم ترتفع شقة الخلاف فيها وهكذا في البلدان التي قننت فيها الأحوال الشخصية وحددت موادها وأحكامها لم يرتفع ذلك عنها وهذه مجلات المحاماة ودوائر النقض والإبرام تعاني من ذلك الشيء الكثير. فماذا صنع التقنين. إذاً فما طريق تحقيق تلك المصلحة لعل في الجواب عن الفقرة الرابعة بعدُ بياناً لهذا. ب - أما الجواب عن الفقرة (ب) فقد أورد هذا الاعتراض العلامة شيخنا محمد الأمين رحمه الله تعالى في جوابه على المذكرة الإيضاحية في ذلك وأجاب عليه وأنا أذكر هنا كلامه بطوله لنفاسته وغزارة مادته، قال رحمه الله: (فإنا لم نفهم من هذا الكلام شيئاً يشوه سمعة البلاد، لأنا نرى

أن المتبادر منه هو الثناء العظيم والمدح البليغ لهذه البلاد، لأنه لا شك أن مرادهم بالعدل الذي ليس بمضمون فيها هو التحاكم إلى الطاغوت كما أوضحوا ذلك بقولهم: على نحو ما هو معهود في جميع العالم، لأن المعهود في جميع العالم لا يخرج حرف واحد منه البتة عن حكم الطاغوت، وذلك الذي سموه عدلاً ونفوا ضمانه في هذه البلاد الذي هو التحاكم إلى الطاغوت هو عين الكفر وأعظم أنواع الظلم والجور والحيف. والحقائق لا تتغير بتغيير العناوين. والسعودية وكل مسلم قد أمرهم ربهم في كتابه بالكفر بما سماه أولئك عدلاً لما قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} . وقد جعل الله تعالى الكفر به شرطاً في الاستمساك بالعروة الوثقى، قال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . ومفهومه أن من لم يكفر بالطاغوت لم يستمسك بالعروة الوثقى وهو كذلك فأي تشويه للسمعة في كون الكفر والجور والحيف الذي عبروا عنه باسم العدل ليس مضموناً في المحاكم السعودية أعاذها الله من ذلك العدل، فنفيه عنها في الحقيقة مدح وثناء. وهو في الواقع حلقة من السلسلة المشهورة عند الأوربيين ومن سار في ركابهم من الطعن في هذه البلاد بسبب بقائها وحدها معلنة التمسك بنور السماء، كالرجعية والتأخر والجمود والوحشية وكبت الحرية ونحو ذلك. ولا شك أن من هذا النوع قول هؤلاء المتحاكمين إلى محاكم باريس (إن العدل غير مضمون في المحاكم السعودية) ومن المعلوم أنه ليس

مرادهم بالعدل معناه الحقيقي ولا مجرد التدوين، لأنهم لا يرون في شرع الإسلام إنصافاً أصلاً ولو كانوا يرونه فيه لاتبعوه، ولما سموا إقامة الحدود وحشية ولا سموا المنع من الفوضى الخلقية والعمالية والإباحية على ضوء الدين السماوي كبت حرية كما هو واضح، ولا يعقل كون التدوين وحده عدلاً بقطع النظر عن ما هو مدون كما لا يخفى، وبالجملة فإن العدل المذكور إنما لم يكن مضموناً في محاكم هذه البلاد، لأن الكفر به من أصول دينها. ومما يوضح أنهم ليس مرادهم بالعدل مجرد التدوين إيضاحاً لا لبس فيه أن كل إنسان يعتقد نظاماً من الأنظمة جوراً وظلماً لا يقتنع بمجرد حسن عبارات ذلك النظام وإيضاحها وسهولة منهجها وحسن ترتيبها وهذا ضروري، ولا شك معه أن العبرة بنفس المدون لا ينضبط، وحسن التدوين وعلى كل حال فمما لا مجال للشك فيه أن هؤلاء الذين فروا من المحاكم الإسلامية بدعوى أن العدل ليس مضموناً فيها، وذهبوا يطلبون العدل المضمون في محاكم باريس أنهم لا يريدون إلا النظام الوضعي الذي هو زبالات أذهان الكفرة، وقد أوضحوا ذلك غاية الإيضاح في قولهم: على نحو ما هو معهود في جميع العالم. ولهذا لم نفهم وجه كون كلامهم هذا تشويهاً لسمعة الإسلام أو المسلمين حتى يكون ذلك داعياً إلى معالجته بالتدوين، ورضي الله عن حسان بن ثابت في الرد على ذم الكفار للمسلمين: ما أبالي أنب بالحزن تيس ... أم لحاني عن ظهر غيب لئيم ومما لا مجال للشك فيه أيضاً أن الذين يعلنون التحاكم إلى وحي الله

الذي أنزله على رسوله متسببون بذلك في توجيه أنواع الشتائم وفنون الأذى من كل من يتحاكمون إلى الطاغوت وهم سكان المعمورة في جميع نواحيها إلا من شاء الله، فهم جديرون جداً بالاستعداد الكامل للصبر الجميل الذي لا تزعزعه عواصف الباطل ولهم بذلك أعظم الأجر عند الله وأحسن الأسوة في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في صبرهم على أذى المشركين واليهود كما قال تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ... وإن كان أولئك الباريزيون قالوا إن محاكم فرنسا أعدل من محاكم المسلمين، فللمسلمين أسوة حسنة في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه حين قال اليهود إن كفار مكة المكرمة أهدى منهم سبيلاً وأنزل الله في ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} . والواقع يشهد بكذب دعوى هؤلاء المتحاكمين إلى محاكم باريس كما يشهد به جميع من لم يكتم الحق في جميع نواحي المعمورة، لأن بلاد هذه المحاكم التي نفوا ضمان العدل عنها يوجد فيها من العدالة والطمأنينة الكاملة على حفظ الأنفس والعقول والأنساب والأموال والأعراض ما لا يوجد معشار عشره في باريس ولا في غيرها، وفي كل موسم حج تأتي وفود الحجيج من جميع أقطار الدنيا، وكثرة أعدادهم الهائلة لا يخفى، فيسعهم جميعاً العدل والإنصاف والرخاء والطمأنينة، وحفظ جميع ما يهمهم، وذلك كلّه بفضل الله ثم بعدالة هذا النظام السماوي الذي تسير عليه هذه البلاد التي زعم الباريزيون أن العدل أقرب في محاكم باريس منه في محاكمها. انتهى.

وقال الأستاذ علاَّل الفاسي، في معرض بيانه أن خوف المسلمين من انتقاد الأجانب والمثقفين - في تحكيم الشريعة - وهمٌ موروث. قال (1) : (وهي هزة يجب أن لا نفزع منها، بل يجب أن نعتبرها بمثابة خفقة القلب التي تحصل لمن يخرج وحده في الظلام أحياناً؛ عبارة عن ضعف الأعصاب وعدم الإرادة، سرعان ما تزول إذا تذكر الخائف أن الليل والنهار سيان بالنسبة لحركة الإنسان وسكونه، وأنه ليس هنالك كما يعلم هو يقيناً طارئ ولا تشكل من الكائنات، إن هي إلا أوهام وخزعبلات، وكما يشتد عزم ذلك الخائف. فيتحدى أوهامه، كذلك يجب أن يشتد عزم الذين يضعفون خوف الاتهام بالرجعية، فيعلمون أن ذلك مجرد خزعبلات موروثة عن الاستعمار ومن إيحاء رجاله) . انتهى. جـ - أما الفقرة الثالثة التي مفادها عدم بلوغ كثير من القضاة رتبة الاجتهاد ولو في مذهب إمامه فيقال ليعلم أولاً أن مذهب الجمهور منهم مالك والشافعي وأحمد والظاهرية وبعض الحنفية هو شرطية توفر الاجتهاد فيمن يولى للقضاء (2) وذلك بأن يكون عارفاً بالأصول التي ترجع الأحكام إليها لا أن يكون عالماً حكم كل قضية بعينها. انتهى. ثم أن أهل العلم قدروا حالة ضعف ذلك مثلاً فقرروا أن ما يشترط في القاضي من الاجتهاد والعدالة يجب تولية من وجدت فيه دون سواه. وهكذا يولي الأمثل فالأمثل ومن توفرت فيه الشروط على من دونه ولم يذكروا اللجوء إلى الإلزام برأي أو مذهب معين لا يجوز تعديه ولو كان

_ (1) انظر كتابه: دفاع عن الشريعة، ص: 255. (2) انظر: المغني 11 / 382، والمحلى 9 / 442.

ذلك في صالح البشر في أي زمان أو مكان وهو الأمر المهم الذي يتعلق بتحكيم الشريعة في دماء الناس وأموالهم لبيَّنه الله سبحانه المحيط علمه بكل شيء. بل من رأفته قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . وأمثالها كثير من الآيات، قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله (1) : وكذلك ما يشترط في القضاة والولاة يجب فعله بحسب الإمكان، بل وسائر العبادات من الصلاة والجهاد وغير ذلك، فكل ذلك واجب مع القدرة فأما مع العجز فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها إلى آخر كلامه رحمه الله. ثم إنه من واقع هذه البلاد إنه يتخرج في كل عام عدد غير قليل من كليات العلوم الشرعية التي فيها تدرس جملة العلوم الشرعية من الكتاب والسنة وعلومهما والفقه وأصوله مما لو طبق على ما ذكره الأئمة في شرطية الاجتهاد وبيانه لوجد ذلك مطابقاً أو مقارباً. وإنه وإن أصاب البعض قصور علمي فهو نتيجة للعجز البشري وما يكون في البعض فلا يسري حكمه على الكل. والعجز البشري أمر ملازم في غالب الناس معهود في تعلم سائر العلوم الإسلامية سوء كان الدارسون مسلمين أم غير مسلمين، وهذا مما يدل على أن كمال القوى والقدر لا يتصف بها إلا واهبها سبحانه، لكن الذي ينبغي بل يتحتم هو حسن الاختيار والاجتهاد فيه وتولية الاختيار إلى أهله المدركين الناصحين لله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأئمة المسلمين وعامتهم. وهكذا يكون علاج ذلك عن طريق السنة واقتفاء الأثر والترسم لما كان عليه الصدر الأول والتابعون لهم بإحسان، ثم يقال على سبيل التنزل: إذا جاز هذا في حق من ذكرت حاله فما العمل في من هو أهل للاجتهاد، فهل

_ (1) مجموع الفتاوى 28 / 388.

يلزم الجميع أم يجري التمييز بين من يلزم من غيره أم ماذا؟ .. ثم إن تطبيق الحكم الشرعي على الكثير الأغلب من الخصومات والقضايا يعد من أوائل المعلومات الشرعية بوجود نص قطعي على أنه متى وردت مشكلة قضائية وجب بذل الوسع والطاقة من البحث والاستشارة متحرياً الصواب ثم يكون إجراء الحكومة. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله ذلك فقال (1) : (ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة كان هو الواجب، وإن لم يمكن ذلك لضيق الوقت أو عجز الطالب أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه هذا أقوى الأقوال، وقد قيل ليس له التقليد بكل حال، وقيل له التقليد بكل حال والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وغيره) انتهى. د - وأما أن في الإلزام بمذهب معين دفعاً للحكم بالتشهي: فيقال إن من شرط تولية القاضي للقضاء العدالة عند جماهير العلماء، بل حكى اتفاق الأئمة عليه شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله (2) قال: وسئل بعض العلماء إذا لم يوجد من يولى القضاء إلا عالم فاسق أو جاهل فأيهما يقدم؟ فقال: إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد قدم الدين، وإن كانت الحاجة إلى العلم أكثر لخفاء الحكومات قدم العالم. وأكثر العلماء يقدمون الدين، فإن الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي أن يكون عدلاً أهلاً للشهادة، واختلفوا في اشتراط العلم وذكره) . انتهى. ومن المعلوم أن حكم القاضي في قضية هو في تلك فلا يعم حكمه فيها جميع العالمين. ومن المعلوم أن حكم الحاكم ينفذ ظاهراً لا باطناً،

_ (1) مجموع الفتاوى، 28 / 388. (2) مجموع الفتوى، 28 / 259.

لأن القاضي عرضة للخطأ وهو مأجور على كلا الحالين، وهذا سيد الأولين والآخرين يقول إنكم تختصمون إلي ... الحديث، فالقاضي إذا حكم في خصومة لديه بحكم اجتهادي على أحد القولين أو الأقوال. وفي قضية أخرى حكم بالقول الثاني فيها مُبيناً وجه عدوله عن القول الأول، فلا ينبغي علينا التثريب عليه، فإن حكمه الأول هو لتلك القضية فلا يسري على غيرها وحكمه في كلا القضيتين نافذ ظاهراً والله أعلم. قال الموفق رحمه الله (1) : (وروى أن عمر حكم في المشركة بإسقاط الإخوة من الأبوين ثم شرك بينهم بعد وقال تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي وقضى بالجد بقضايا مختلفة ولم يرد الأولى، ولأنه يؤدي إلى نقض الحكم بمثله، وهذا يؤدي إلى ألا يثبت الحكم أصلاً، لأن الحكم الثاني يخالف الذي قبله والثالث يخالف الثاني فلا يثبت حكمه) . انتهى. وقال البيهقي في سننه (2) باب من اجتهد من الحكام ثم تغير اجتهاده أو اجتهاد غيره فيما يسوغ فيه الاجتهاد ولم يرد ما قضى به، وذكر آثاراً منها أثر عمر المتقدم ذكره. هذا ما ينبغي أمام من صار فيه شيء من ذلك على فرض وقوعه، فإنه ظاهراً مجتهد في عين ذلك الحكم متحر للحق والله تعالى يتولى بواطن الأمور، والكل مؤمن حق الإيمان بالمراحل الإنسانية وما فيها من الوعد لمن أطاع والوعيد لمن عصى وحكم بالهوى، وفي الحديث الصحيح عن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة " وفيه " رجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في

_ (1) المغني 9 / 57. (2) السنن الكبرى 10 / 120.

النار ". الحديث رواه الأربعة والحاكم وصححه. ونحن نضرع إلى الله أن يوجد بين علماء المسلمين من هذه حاله وصفته قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله (1) : (فالمفتي والجندي والعامي إذا تكلموا بالشيء بحسب اجتهادهم اجتهاداً أو تقليداً - قاصدين لاتباع الرسول بمبلغ علمهم لا يستحقون العقوبة بإجماع المسلمين وإن كانوا قد أخطئوا خطأً مجمعاً عليه، وإذا قالوا إنا قلنا الحق واستدلوا بالأدلة الشرعية لم يكن لأحد من الحكام أن يلزمهم بمجرد قوله ولا يحكم بأن الذي قاله هو الحق دون قولهم.. كالمسائل التي تقع يتنازع فيها أهل المذاهب لا يقول أحد أنه يجب على صاحب مذهب أن يتبع مذهب غيره لكونه حاكماً فإن هذا ينقلب فقد يصير الآخر حاكماً فيحكم بأن قوله هو الصواب إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى. هـ - أما وجود قضيتين متماثلتين واختلاف حكمهما فيقال إنه يكون هناك قضيتان متماثلتان ظاهراً لا عند قاضيين فحسب، بل عند قاضٍ واحد فيختلف الحكم فيهما اختلافاً جوهرياً عكسياً فيبدوا لمن هو بعيد عن مجرى تلك الحكومتين أن هذا من الظلم لكن من تذوق القضاء وتروى بمعرفة ملابسات الخصومات وما يحيط بها أبدى التوقف عند ذلك. إذ لا تكون القضيتان متماثلتين من كل وجه، بل يكون توفر في هذه من الوجوه والدلائل ما يقضي بأن يكون حكمها على خلاف تلك القضية التي يظن مشابهتها بها من كل وجه. وخلاصة ما يظن منه وجود تضارب في القضاء هو منحصر في واحد من الوجوه الأربعة التالية: 1- قضيتان مماثلتان في الظاهر لكن أحاط بكل واحدة منهما ما

_ (1) مجموع الفتاوى، 25 / 379.

يوجب أن يكون الحكم على خلاف الظاهر فاختلفتا حكماً فهذا عين العدل. 2- قضيتان متماثلتان من كل وجه عند قاضي واحد فقضى فيهما بآن واحد بحكمين مختلفين فهذا ممتنع شرعاً وواقعاً. ولو فرض وقوعه فالعدالة تأخذ مجراها في الحاكم وحكمه. 3- قضيتان متماثلتان عند قاضي واحد وقضى فيهما بزمنين بحكمين مختلفين عن اجتهاد ونظر أوضحه في حكمه وبرهن عليه حيث اقتضى فيه الرجوع عن رأيه الأول إلى الرأي المقابل، فهذا سائغ شرعاً كما وقع في ذلك عدة قضايا لعمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم فلا تثريب إذاً. 4- قضيتان متماثلتان من كل وجه فقضى بهما قاضيان في بلدين مع الاختلاف في الحكم، فهذا لا مانع منه ما دام أن كل واحد أخذ برأي مأثور مجتهداً فيه متحرياً الحق، وهذا هو الذي منع الإمام مالك من العمل على خلافه وقال في مقاله ابن كثير وهذا من تمام علمه واتصافه بالإنصاف (1) . 1- أما أن يقع تجاذب بين القاضي وهيئة تمييز الأحكام: فيقال إن التجاذب في ذلك غالباً ما يكون في فهم واقع القضية، فهذا الأخذ والرد فيما لم يمحص حتى يجري تمحيصه وتصحيح المفاهيم فيه وهذا النوع هو الأغلب الأكثر ولا سلطان للبحث فيه هنا. وأما الاختلاف في الفهم للرأي المختار فقهاً في تطبيقه على قضية ما فإن ذلك الحكم أمام جهة النقض والإبرام على أنواع.

_ (1) الباعث الحثيث، ص: 30.

منها: أن يكون الحكم على وفق نص قطعي الثبوت والدلالة فهذا لا يجوز نقضه بحال. منها: أن يكون الحكم على خلاف ذلك فهذا يجب نقضه ولا يجوز إبرامه بحال. ومنها: أن يكون الحكم مسرحاً للاجتهاد فهذا لا يجوز نقضه إذ يؤدي نقضه إلى الدور والاضطراب وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد منهم الخطيب في الفقه والمتفقه (1) والآمدي في الأحكام (2) ، والقرافي في الإحكام (3) ، قال الآمدي المسألة الثامنة: اتفقوا على أن حكم الحاكم لا يجوز نقضه في المسائل الاجتهادية لمصلحة الحكم، فإنه لو جاز نقض حكمه إما بتغير اجتهاده أو بحكم حاكم آخر لأمكن نقض الحكم بالنقض، ونقض النقض إلى غير نهاية، ويلزم من ذلك اضطراب الأحكام وعدم الوقوف بحكم الحاكم وهو خلاف المصلحة التي نصب الحاكم لها إلى آخر كلامه رحمه الله. وقال الخطيب: ولأن في نقض الحكم فساداً لكونه ذريعة إلى تسليط الحكام بعضهم على بعض فلا يشاء حاكم يكون في قلبه على حاكم شيء إلا تعقب حكمه بنقض فلا يستقر حكمه، ولا يصح لأحد ملك، وفي ذلك فساد عظيم. انتهى. والله أعلم.

_ (1) جزء 2، ص: 65. (2) 4 / 203. (3) ص: 66، 67.

المطلب الثالث في أدلة المنع من الإلزام مع بيان المضار المترتبة على القول بالإلزام

المطْلَبُ الثَّالث في أدلة المنع من الإلزام مع بيان المضار المترتبة على القول بالإلزام والكلام في هذا المطلب يترتب في فصلين

الفصل الأول في أدلة المنع من الإلزام

الفصل الأول في أدلة المنع من الإلزام وهي من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقواعد الجوامع باختبار النتيجة وغيرها من القواعد المألوفة، والأصول المعروفة. ومنها ما يلي: أولاً: أن الله سبحانه وتعالى أمر عند التحاكم أن يحكم بالقسط فقال لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) : {فَإِنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} . والقسط: العدل، والمقسطون: العادلون، فإذا كان القول الملزم به قد ظهر للقاضي من وجهه الأدلة الشرعية، أن الصحيح مقابل ذلك القول الملزم به: صار القسط والعدل في أن يحكم وفق معتقده لا بما أُلزم به ولكل مجتهد أجر اجتهاده. ثانياً: إن الله سبحانه بين المرجع عند التنازع وهو الرد إلى الله تعالى وإلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) .

_ (1) الآية رقم 42 من سورة المائدة. (2) الآية رقم 56 من سورة النساء.

فالرد إلى الله: هو الرد إلى كتاب الله سبحانه، والرد إلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو الرد إليه في حياته وإلى سنته بعد مماته. قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى على هذه الآية (1) : (والله سبحانه قد أمر في كتابه عند التنازع بالرد إلى الله والرسول، ولم يأمر عند التنازع إلى شيء معين أصلاً) . انتهى. وقال تلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : (فمنعنا سبحانه من الرد إلى غيره وغير رسوله، وهذا يبطل التقليد، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ... } . وقوله: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا المُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} . ولا وليجة أعظم ممن جعل رجلاً بعينه مختاراً على كلام الله وكلام رسوله وكلام سائر الأمة - يقدمه على ذلك كله.) انتهى. وقال البيهقي رحمه الله تعالى في سننه (3) : (باب ما يقضي به القاضي ويفتي به المفتي فإنه غير جائز له أن يقلد أحداً من أهل دهره، ولا أن يحكم أو يفتي بالاستحسان) . ثم ساق رحمه الله الآية المتقدمة وقال: وقال الشافعي رحمه الله تعالى: فإن تنازعتم في شيء - والله أعلم - هم وأمراؤهم الذين أمروا بطاعتهم، فردوه إلى الله والرسول؛ يعني والله أعلم: إلى ما قاله الله والرسول. وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} وقال الشافعي: فلم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علموا: أن

_ (1) كتاب محنة ابن تيمية، ص: 10. (2) إعلام الموقعين، 2 / 170. (3) السنن الكبرى، 10 / 113.

السُّدى الذي لا يؤمر ولا ينهى. ومن أفتى أو حكم بما لم يؤمر به فقد أجاز لنفسه أن يكون من معاني السدى) . انتهى. وقال ابن حبان رحمه الله تعالى (1) : (الواجب على كل من ركب فيه العلم: أن يرعى أوقاته على حفظ السنن رجاء اللحوق بمن دعا لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ الله جل وعلا أمر باتباع سنته وعند التنازع الرجوع إلى ملته حيث قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . ثم نفى الإيمان عمن لم يحكمه فيما شجر بينهم فقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ولم يقل حتى يحكموا فلاناً وفلاناً فيما شجر بينهم. ولا قال: حرجاً مما قال فلانٌ وفلان. فالحكم بين الله عز وجل وبين خلقه: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقط. فلا يجب لمن أشعر الإيمان قَلْبَه أن يُقصر في حفظ السنن بما قدر عليه حتى يكون رجوعه عند التنازع إلى قول من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعلنا الله منهم بمنه) . انتهى. وينتظم ما ذكره هؤلاء الأجلة من العلماء ما بسطه ابن القيم في تفسير هذه الآية إذ يقول (2) : وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} فأمر باتباع المنزل منه خاصة: واعْلَم أن من اتبع غيره فقد اتبع من دونه أولياء. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ

_ (1) كتاب: المجروحين 1 / 5. (2) إعلام الموقعين 1 / 48 - 51.

بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} . فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلاماً بأن طاعة الرسول تجب استقلالاً من غير عَرْضِ ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجَبَتْ طاعته مطلقاً، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتابَ ومثلَه معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالاً، بل حذف الفعل وجعل طاعتَهم في ضمن طاعة الرسول، إيذاناً بأنهم إنما يُطاعون تبعاً لطاعة الرسول، فَمَنْ أمرَ منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومَنْ أمرَ بخلاف ما جاء به الرسول فلا سَمْع له ولا طاعة كما صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق ". وقال: " إنما الطاعة في المعروف " وقال في ولاة الأمر: " مَنْ أمركم منهم بمعصية الله فلا سَمْعَ له ولا طاعة " وقد أخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الذين أرادوا دخولَ النار لما أمرهم أميرُهم بدخولها: " إنهم لو دَخلوا لما خَرَجوا منها " مع أنهم إنما كانوا يدخلونها طاعة لأميرهم، وظناً أن ذلك واجب عليهم، ولكن لما قَصَّروا في الاجتهاد وبادَرُوا إلى طاعة مَنْ أمَرَ بمعصية الله وحَمَلوا عموم الأمر بالطاعة بما لم يُرِدْه الآمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما قد علم من بينه إرادةُ خلافِهِ، فقصَّروا في الاجتهاد وأقْدَمُوا على تعذيب أنفسهم وإهلاكها من غير تثبُّت وتبيُّن هل فلا طاعة لله ورسوله أم لا، فما الظن بمنْ أطاع غيرَه في صريح مخالفة ما بَعَث الله به رسولَه؟ ثم أمر تعالى برد ما تنازع فيه المؤمنون إلى الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأخبرهم أن ذلك خير لهم في العاجل وأحسن تأويلاً في العاقبة. وفد تضمن هذا أموراً: منها أن أهلَ الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام ولا يخرجون بذلك عن الإيمان، وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيماناً، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال،

بل كلهم على إثبات ما نطق الكتابُ والسنة كلمةً واحدة، من أولهم إلى آخرهم، لم يَسُوموها تأويلاً، ولم يُحَرِّفوها عن مواضعها تبديلاً، ولم يبدوا لشيء منها إبطالاً، ولا ضربوا لها أمثالاً، ولم يَدْفَعُوا في صدورها وأعجازها، ولهم يقل أحد منهم يجب صرْفها عن حقائقها وحملها على مجازها، بل تَلَقَّوها بالقَبُول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلها أمراً واحداً، وأجرَوْها على سَنن واحد، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدَع حيث جعلوها عِضين، وأقروا ببعضها وأنكروا بعضها من غير فُرْقان مبين، مع أن اللازم لهم فيما أنكروه كاللازم فيما أقروا به وأثبتوه. والمقصود أن أهل الإِيمان لا يُخْرِجُهم تنازعُهم في بعض مسائل الأحكام عن حقيقة الإيمان إذا رَدُّوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله كما شرطه الله عليهم بقوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ} ولا رَيْب أن الحكم المعلق على شرط ينتفي عند انتفائه. ومنها: أن قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} نكرة في سياق الشرط تعم كلَّ ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دِقّّه وجِلِّه، جَلِيَه وخَفِيه، ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله بيانُ حكم ما تَنَازعوا فيه لم يأمر بالردّ إليه، إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى مَنْ لا يوجَد عنده فَصْلُ النزاع. ومنها: أن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته. ومنها: أنه جعل هذا الرد من موجِبَاتِ الإيمان ولوازمه، فإذا انْتَفى هذا

الرد انتفى الإيمان، ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين، كل منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم أخبرهم أن هذا الرد خيرٌ لهم، وأن عاقبته أحْسنُ عاقبة، ثم أخبر سبحانه أن مَنْ تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد حكَّم الطاغوتَ وتحاكم إليه، والطاغوت: كُلُّ ما تجاوز به العبدُ حدَّه من معبود أو متبوع أو مُطَاعٍ، فطاغوتُ كل قوم مَنْ يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة الله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتَها وتأملت أحوالَ الناس معها رأيت أكثرهم (عَدَلُوا) من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته، وهؤلاء لم يسلكوا طريقَ الناجينَ الفائزين من هذه الأمة - وهم الصحابة ومن تبعهم - ولا قَصدُوا قَصْدَهم، بل خالفوهم في الطريق والقصد معاً. ثم أخبر تعالى عن هؤلاء بأنهم إذا قيل لهم تَعَالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول أعْرَضوا عن ذلك، ولم يستجيبوا للداعي، ورَضُوا بحكم غيره، ثم توعَّدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به الرسولُ وتحكيم غيره والتحاكم إليه كما قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} اعتذروا بأنهم إنما قصدوا الإحسان والتوفيق، أي بفعل ما يرضي الفريقين ويوفق بينهما كما يفعله من يروم التوفيق بين ما جاء به الرسول وبين ما خالفه، ويزعم أنه بذلك محسن قاصد الإصلاح والتوفيق، والإيمان إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ما جاء به الرسول وبين كل ما خالفه من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسة ورأي، فمحض الإِيمان في هذه الحرب

لا في التوفيق، وبالله التوفيق. ثم أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحَكِّمُوا رسولَه في كل ما شَجَر بينهم من الدقيق والجليل، ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحَرَجُ والضّيق عن قضائه وحكمه، ولم يكتف منهم أيضاً بذلك حتى يسلموا تسليماً، وينقادوا انقياداً. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله، ومَنْ تخير بعد ذلك فقد ضَلَّ ضلالاً مبيناً. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي لا تقولوا حتى يقول، ولا تأمروا حتى يأمر، ولا تُفتُوا حتى يفتي، ولا تقطعوا أمراً حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويُمْضِيه، روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: لا تقولوا خِلافَ الكتاب والسنة، وروى العوفي عنه قال: نُهُوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. والقول الجامع في معنى الآية لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو يفعل. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} فإذا كان رَفْعُ أصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به

ورفعها عليه؟ أليس هذا أولى أن يكون مُحْبِطاً لأعمالهم؟ . وقال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهباً إذا كانوا معه إلا باستئذانه فأولى أن يكون من لوازمه أن لا يذهبوا إلى قول ولا مذهب علمي إلا بعد استئذانه. اهـ. فترتب من هذا الدليل أن الرد إلى قول مقنن أو مذهب معين ملزم به هو رد إلى اجتهاد غير معصوم وبالتالي فلا يكون رداً محققاً إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكيف يتأتى الإلزام به؟ . ثالثاً: إن مبنى الشهادتين على تجريد الإخلاص لله تعالى وتجريد المتابعة لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي التقنين المُلْزم: توهين لتجريد توحيد الاتباع وخدش لحماه، إذ أن حكم القاضي على خلاف ما يعتقده تقديم لقول غير المعصوم على ما يعتقده عن المعصوم، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) ، ويقول سبحانه {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (2) . والقلب الذي يعقد حكماً على غير مراد الله ومراد رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بقلب سليم فهو على خطر عظيم إذا قدم على الله تعالى وهو كذلك. وفي ضوء هاتين الآيتين يوضح ابن القيم رحمه الله تعالى هذا المعنى فيقول (3) :

_ (1) الآية رقم 1 من سورة الحجرات. (2) الآية رقم 88 من سورة الشعراء. (3) إغاثة اللهفان 1 / 7 - 8.

.. وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم، والأمر الجامع: أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله. فسلم في محبة الله مع تحكيمه لرسوله، في خوفه ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والذل وإيثار مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل طريق. وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده. فالقلب السليم: هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى: إرادة، ومحبة، وتوكلاً، وإنابة، واخباتاً وخشية، ورجاء، وخلص عمله لله. فإن أحب أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله. ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيعقد قلبه معه عقداً محكماً على الائتمام والاقتداء به وحده، دون كل أحد في الأقوال والأعمال، من أقوال القلب: وهي العقائد، وأقوال اللسان: وهي الخبر عما في القلب. وأعمال القلب: وهي الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها. وأعمال الجوارح. فيكون الحاكم في ذلك كله دِقِّه وجلِّه: هو ما جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، أي لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر. قال بعض السلف: ما من فعلة - وإن صغرت - إلا ينشر لها ديوانان: لِمَ؟ وكيف؟ أي: لم فعلت؟ ... وكيف فعلت؟ . فالأول: سؤال عن علة الفعل وباعثه وداعيه: هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل، وغرض من أغراض الدنيا في محبة المدح من الناس أو

خوف ذمهم، أو استجلاب محبوب عاجل، أو دفع مكروه عاجل. أم الباعث على الفعل: القيام بحق العبودية، وطلب التودد والتقرب إلى الرب سبحانه وتعالى، وابتغاء الوسيلة إليه. ومحل هذا السؤال: أنه هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك، أم فعلته لحظك وهواك؟ والثاني: سؤال عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك التعبد، أي هل كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولي، أم كان عملاً لم أشرعه ولم أرضه؟ . فالأول سؤال عن الإخلاص، والثاني عن المتابعة، فإن الله سبحانه لا يقبل عملاً إلا بهما. فطريق التخلص من السؤال الأول: بتجريد الإخلاص. وطريق التخلص من السؤال الثاني: بتحقيق المتابعة، وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص، وهوىً يعارض الاتباع. فهذا حقيقة سلامة القلب الذي ضمنت له النجاة والسعادة. انتهى. رابعاً: أن الله سبحانه وتعالى قد قطع الخيرة في أمره وأمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال تعالى (1) : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . وعليه فإن التقنين الملزم به وهو من اجتهاد غير معصوم - فيه قطع للخيرة فيه. وهذا إلحاق مقدوح فيه بالقادح المسمى بفساد الاعتبار وهو

_ (1) الآية رقم 36 من سورة الأحزاب.

الإلحاق مع الفارق - فبطل الإلزام إذاً لوجود الخيرة فيه. وقد كشف عن هذا العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية فقال (1) : (فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليس لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل إذا أمر فأمره حتم، وإنما الخيرة في قول غيره إذا خفي أمره. وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته، فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتباع لا واجب الاتباع. فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه، بل غايته أنه يسوغ له اتباعه، ولو ترك الأخذ بقول غيره، لم يكن عاصياً لله ورسوله، فأين هذا ممن يجب على جميع المكلفين اتباعه ويحرم عليهم مخالفته، ويجب عليهم ترك كل قول لقوله، فلا حكم لأحد معه ولا قول لأحد معه كما لا تشريع لأحد معه، وكل من سواه فإنما يجب اتباعه على قوله: هذا أمر بما أمر به، ونهى عما نهى عنه، فكان مبلغاً محصناً ومخبراً لا منشئاً ومؤسساً، فمن أنشأ أقوالاً وأسس قواعد بحسب فهمه وتأويله، لم يجب على الأمة اتباعها ولا التحاكم إليها حتى تعرض على ما جاء به، فإن طابقته ووافقته وشهد لها بالصحة قبلت حينئذٍ، وإن خالفته وجب ردها واطراحها. وإن لم يتبين فيها أحد الأمرين جعلت موقوفة. وكان أحسن أحوالها: أن يجوز الحكم والاقتداء بها وتركه، وأما أنه يجب ويتعين فكلاَّ ولمَّا) . خامساً: ما رواه الأربعة والحاكم من حديث بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة. وفيه: رجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار " الحديث.

_ (1) زاد المعاد 1 / 4 - 5.

ففيه بيان الوعيد للقاضي إذا حكم على خلاف ما يعتقده حقاً لأنه عمل محرم. ولا خلاف في تحريمه عند أهل العلم. قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى: (ويجب على القاضي أن يعمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعاً) انتهى. وعلى هذا فالحاكم إذا استبان له رجحان مقابل قول ملزم به فحكم به على خلاف معتقده دخل في الوعيد. والله أعلم. وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى (1) : (قال الشافعي: وإذا قاس من له القياس واختلفوا وسع كلاً أن يقول بمبلغ اجتهاده فلم يسعه اتباع غيره فيما أداه إليه اجتهاده) . انتهى. سادساً: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعث معاذاً إلى اليمن، وسأله كيف يقضي قال: بكتاب الله، قال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فإن لم يكن في كتاب الله " قال: فبسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " فإن لم يكن في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قال: اجتهد رأيي ولا آلوا، قال: فضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: " الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله إلى ما يرضي رسول الله ". فلم يرد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً عن طريق الاجتهاد، بل أقره على سلوك طريق الاجتهاد. والاجتهاد يكون بالمقايسة الجليه، والرجوع إلى القواعد الشرعية، وهذا النوع الذي مناط الخلاف فيه: هو الاجتهاد الذي تقدم حكاية الإجماع فيه أنه لا يجوز نقضه بحال ويأتي أيضا حكاية الإجماع في منع الإلزام به. ماذا كان الأمر كذلك فإن الإلزام بمذهب معين فيه رد لشيء معين سوى الكتاب والسنة، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيد معاذاً بالرجوع إلى

_ (1) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2 / 60.

الاجتهاد بعدهما والتباين في هذا من الظهور بمكان، قال الخطابي في شرح السنن (1) : (وفيه دليل على أنه ليس للحاكم أن يقلد غيره فيما يريد أن يحكم به وإن كان المقلد أعلم منه وأفقه حتى يجتهد فيما يسعه منه، فإن وافق رأيه واجتهاده أمضاه وألا توقف عنه لأن التقليد خارج عن هذه الأقسام المذكورة في الحديث) . انتهى. سابعاً: إن هذا الحجر والإلزام بقول مقنن أو رأي معين لم يسبق الحمل عليه في صدر الإسلام ولا في القرون المفضلة، فلا يعلم من هدي الصحابة رضوان الله عليهم مع مشاركتهم في العلم والمشاورة مع بعضهم لبعض إلزام واحد منهم للآخر بقوله، بل المعروف المعهود بالنقل عنهم خلافه. قال أبو عمر بن عبد البر في جامعه (2) وعن عمر رضي الله عنه أنه لقي رجلاً فقال ما صنعت، فقال قضى عليّ وزيد بكذا فقال: لو كنت أنا لقضيت بكذا قال: فما يمنعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفعلت ولكني أردك إلى رأي والرأي مشترك، قال ابن عبد البر فلم ينقض ما قال علي وزيد وهذا كثير لا يحصى. انتهى. قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله (3) : (وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنه قد كان قبلكم في الأمم محدثون فإن يكن أحد في أمتي فعمر " وروى أنه ضرب الحق على لسانه وقلبه وقال: " لو لم أبعث فيكم لبعث عمر " ومع هذا فما كان يلزم أحداً بقوله ولا يحكم

_ (1) معالم السنن 5 / 212. (2) جامع بيان العلم وفضله 2 / 59. (3) مجموع الفتاوى 35 / 384.

في الأمور العامة، بل كان يشاور الصحابة ويراجع، فتارة يقول قولاً فترده عليه امرأة فيرجع إليها وذكر القصة. ثم قال وكان في مسائل النزاع مثل مسائل الفرائض والطلاق يرى رأياً ويرى علي بن أبي طاب رأياً ويرى عبد الله بن مسعود رأياً ويرى زيد بن ثابت رأياً، فلم يلزم أحداً أن يأخذ بقوله، بل كان منهم يفتي بقوله وعمر رضي الله عنه أمام الأمة كلها وأعلمهم وأدينهم وأفضلهم، فكيف يكون واحد من الحكام خيراً من عمر) . انتهى. وقال ابن القيم في الإعلام (1) في معرض رده على المقلدة، وأيضاً فإنا نعلم أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلاً منهم يقلده في جميع أقواله فلم يسقط منها شيئاً وأسقط أقوال غيره، فلم يأخذ منها شيئاً، ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين ولا تابعي التابعين إلخ ... وقال أيضاً (2) . وأما هدي الصحابة فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن منهم شخص واحد يقلد رجلاً واحداً في جميع أقواله ويخالف من عداه من الصحابة بحيث لا يرد من أقواله شيئاً ولا يقبل من أقوالهم شيئاً وهذا من أعظم البدع إلخ ... . وقال أيضا (3) : (ومن المعلوم بالضرورة أن الصحابة لم يكونوا يعرضون ما يسمعون من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أقوال علمائهم، بل لم يكن لعلمائهم

_ (1) إعلام الموقعين 2 / 189. (2) إعلام الموقعين 2 / 209. (3) إعلام الموقعين 2 / 211.

قول غير قوله ولم يكن أحد منهم يتوقف في قبول ما سمعه منه على موافقة موافق أو رأي ذي رأي أصلاً، وكان هذا هو الواجب الذي لا يتم الإيمان ألا به وهو بعينه الواجب علينا وعلى سائر المكلفين إلى يوم القيامة. ومعلوم أن هذا الواجب لم ينسخ بعد موته، ولا هو مختص بالصحابة فمن خرج عن ذلك فقد خرج عن نفس ما أوجبه الله ورسوله) . انتهى. وقال أيضاً في معرض رده على المقلدة (1) : (وأيضاً فإنا نعلم أنه لم يكن في عصر الصحابة رضي الله عنهم رجل واحد اتخذ رجلاً منهم يقلده في جميع أقواله فلم يسقط منها شيئاً، وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئاً. ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين ولا تابعي التابعين، فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالمقلدون لمتبوعهم في جميع ما قالوا يبيحون به الفروج والدماء والأموال، ويحرمونها ولا يدرون إذ ذلك صواب أم خطأ - على خطر عظيم، ولهم بين يدي الله موقف شديد يعلم فيه من قال على الله ما لا يعلم أنه لم يكن على شيء) . وقد أفاض ابن القيم رحمه الله تعالى في الرد على المقلدة من واحد وثمانين وجهاً في نحو تسعين صحيفة من كتاب: " إعلام الموقعين " (2) . وهي بجملتها تنسحب على مطلب إقامة الأدلة على المنع من إلزام القاضي بمذهب معين أو قول مقنن. ومما قاله في ذلك رحمه الله

_ (1) إعلام الموقعين 2 / 189. (2) 2 / 189 - 265.

تعالى (1) : (هل تقول إذا أفتيت أو حكمت بقول من قلدته: إن هذا هو دين الله الذي أرسل به رسوله وأنزل به كتابه وشرعه لعباده ولا دين له سواه؟ أو تقول: إن دين الله الذي شرعه لعباده خلافه؟ . أو تقول: لا أدري؟ . ولا بدَّ لك من قول من هذه الأقوال، ولا سبيل لك إلى الأول قطعاً، فإن دين الله الذي لا دين له سواه لا تسوغ مخالفته، وأقل درجات مخالِفه أن يكون من الآثمين. والثاني لا تدعيه، فليس لك ملجأ إلا الثالث فيالله العجب! كيف تستباح الفروج والدماء والأموال والحقوق وتحلل وتحرم بأمر أحسن أحواله وأفضلها: لا أدري؟ فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم (2) . اهـ. ثامناً: إنه وقعت نازلة في خلافة معاوية رضي الله عنه فكتب بها معاوية رضي الله عنه إلى عامله أسيد بن حضير، فمانعه أسيد فيها ووقف كل عند ما علمه. وذلك فيما رواه النسائي (3) ، والحاكم (4) ، وأحمد (5) ، بأسانيدهم عن ابن جريج قال: (ولقد أخبرني عكرمة بن خالد أن أسيد بن حضير

_ (1) إعلام الموقعين 2 / 191. (2) وانظر في هذا المبحث: إعلام الموقعين 4 / 377، وبدائع الفوائد 3 / 156. (3) سنن النسائي 2 / 233. (4) المستدرك 2 / 36. (5) المسند 4 / 226.

الأنصاري - ثم أحد بني حارثة - أخبره أنه كان عاملاً على اليمامة، وأن مروان كتب إليه، إن معاوية كتب إليه: أنه أيما رجل سرق منه سرقة فهو أحق بها حيث وجدها، ثم كتب بذلك مروان إليَّ. وكتبت إلى مروان أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بأنه إذا كان الذي ابتاعها (يعني السرقة) من الذي سرقها غير متهم، يخير سيدها، فإن شاء أخذ الذي سرق منه بثمنها، وإن شاء اتبع سارقه. ثم قضى بذلك أبو بكر وعمر وعثمان. فبعث مروان بكتابي إلى معاوية، وكتب معاوية إلى مروان: إنك لست أنت ولا أسيد تقضيان عليّ ولكن أقضي فيما وليت عليكما، فأنفذ لما أمرتك به. فبعث مروان بكتاب معاوية، فقلت: لا أقضي به ما وليت أي - بما قال معاوية) انتهى (1) . تاسعاً: وكما أن هذا هو هَدي السلف وعمل القرون المفضلة من عدم إلزام الناس بقول واحد وحملهم عليه، فقد صرح بحكاية الإجماع عليه غير واحد منهم شيخ الإسلام ابن تيميه في مواضع: كما في مجموع الفتاوى 35 / 357، 360، 365، 372، 373، وجلد 27 / 296 - 297. وجلد 30 / 79. وتلميذه العلامة ابن القيم في " إعلام الموقعين 2 / 217 ". قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لما سئل عمن ولي أمراً من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوز شركة الأبدان فهل يجوز له منع الناس؟ . فأجاب: ليس له منع الناس من مثل ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة، ولا إجماع، ولا

_ (1) السلسلة الصحيحة للألباني 2 / 164.

ما هو في معنى ذلك.. إلخ) (1) . وقال أيضاً (2) : (ولي الأمر إن عرف ما جاء به الكتاب والسنة حكم بين الناس به، وإن لم يعرفه وأمكنه أن يعلم ما يقول هذا، وما يقول هذا، حتى يعرف الحق حكم به، وإن لم يمكنه لا هذا ولا هذا ترك المسلمين على ما هم عليه كل يعبد الله حسب اجتهاده، وليس له أن يلزم أحداً بقبول قول غيره وأن كان حاكماً. وإذا خرج ولاة الأمور عن هذا فقد حكموا بغير ما أنزل الله ووقع بأسهم بينهم.. وهذا من أعظم أسباب تغير الدول، كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا. ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره، فيسلك مسلك من أيده الله ونصره، ويجتنب من خذله الله وأهانه.. إلخ) . وقال أيضاً رحمه الله تعالى (3) : (الأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة، ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك، وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة لا يحكمون في الأمور الكلية، وإذا حكموا بالمعينات فعليهم أن يحكموا بما في كتاب الله فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن لم يجدوا اجتهد الحاكم رأيه) . انتهى. وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في معرض نعيه على من قدم

_ (1) مجموع الفتاوى 30 / 79. (2) مجموع الفتاوى 35 / 387 - 388. (3) انظره بواسطة: طريق الوصول للشيخ عبد الرحمن السعدي ص: 209.

أقوال المتأخرين على أقوال الصحابة رضي الله عنهم، وألزم بها (1) . لا يدري ما عذره غداً عند الله إذا سَوَّى بين أقوال أولئك وفتاويهم وأقوال هؤلاء وفتاويهم، فكيف إذا رجحها عليها؟ فكيف إذا عيَّن الأخذ بها حكماً وإفتاء، وضع الأخذ بقول الصحابة، واستجاز عقوبة من خالف المتأخرين لها، وشهد عليه بالبدعة والضلالة ومخالفة أهل العلم وأنه يكيد الإسلام؟ تالله لقد أخذ بالمثل المشهور: " رمتني بدائها وانْسَلَّت " وسمى ورثة الرسول باسمه هو، وكساهم أثوابه، ورماهم بدائه، وكثير من هؤلاء يصرخ ويصيح ويقول ويعلن: أنه يجب على الأمة كلهم الأخذ بقول من قلدناه ديننا، ولا يجوز الأخذ بقول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة. هذا كلامٌ من أَخَذَ به وتقلَّده ولاه الله ما تولَّى. ويجزيه عليه يوم القيامة الجزاء الأوفى. والذي ندين الله به ضد هذا القول والرد عليه ... ) (2) . عاشراً: لا خلاف في أنه لا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب معين قال ابن قدامة رحمه الله تعالى (3) : (فصل: ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافاً لأن الله تعالى قال: {فَاحْكُمْ

_ (1) إعلام الموقعين 4 / 118 - 119. (2) وانظر أيضاً إعلام الموقعين 2 / 363. (3) المغني 9 / 106.

بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ} . والحق لا يتعين في مذهب، وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب، فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط، وفي فساد التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع) . انتهى. وحكى الخلاف بنحوه الماوردي الشافعي في " الأحكام السلطانية " (1) والقاضي أبو يعلى الحنبلي في " الأحكام السلطانية " (2) وقال: (ويجوز لمن يعتقد مذهب أحمد أن يقلد القضاء من يعتقد مذهب الشافعي لأن للقاضي أن يجتهد رأيه في قضائه، ولا يلزمه أن يقلد (*) في النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه) . انتهى. ومعنى هذا أن من وُلِّي على أن لا يحكم إلا بقول مقنن فإنه لا يجوز له تنفيذ هذا الشرط سواء بسواء، بل ذهب المحققون من أهل العلم إلى بطلان شرط الواقف إذا شرط وقفه على من أخذ بقول فقيه معين وفي بيان بطلان شرط الوقف وتولية القاضي على هذا الشرط يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (ومن هذا أن يشترط أنه لا يستحق الوقف إلا من ترك الواجب عليه، من طلب النصوص ومعرفتها، والتفقه في متونها، والتمسك بها إلى الأخذ بقول فقيه معين يترك لقوله قول من سواه، بل يترك النصوص لقوله، فهذا شرط من أبطل الشروط. وقد صرح أصحاب الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى بأن الإمام إذا

_ (1) ص: 78. (2) ص: 47. (3) إعلام الموقعين 4 / 185. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في الأصل: [ولا يلزمه أن يقلده] والتصويب من "الأحكام السلطانية" للماوردي

شرط على القاضي أن لا يقضي إلا بمذهب معين بطل الشرط ولم يجز له التزامه. وفي بطلان التولية قولان مبنيان على بطلان العقود بالشروط الفاسدة. وطَرْدُ هذا أن المفتي متى شرط عليه ألا يفتي إلا بمذهب معين بطل الشرط. وطرده أيضاً أن الواقف متى شرط على الفقيه أن لا ينظر ولا يشتغل إلا بمذهب معين بحيث يهجر كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفتاوي الصحابة ومذاهب العلماء، لم يصح هذا الشرط قطعاً. ولا يجب التزامه. بل ولا يسوغ) . وقال أيضاً في " جلاء الأفهام " (1) : (روى أبو داود في مراسيله عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رأى بيد بعض أصحابه قطعة من التوراة فقال: " كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتاباً غير كتابهم أنزل على غير نبيهم) . فأنزل الله عز وجل تصديق ذلك: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فهذا حال من أخذ دينه عن كتاب منزل على غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكيف بمن أخذه عن عقل فلان وفلان. وقدمه على كلام الله ورسوله؟) . وقال رحمه الله تعالى في معرض بيان الفروق الشرعية من كتابه الروح (2) :

_ (1) ص: 98. (2) ص: 276، 277.

والفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع والحكم المؤول الذي غايته أن يكون جائز الاتباع أن الحكم المنزل هو الذي أنزله الله على رسوله وحكم به بين عباده وهو حكمه الذي لا حكم له سواه. وأما الحكم المؤول فهو أقوال المجتهدين المختلفة التي لا يجب اتباعها ولا يكفر ولا يفسق من خالفها فإن أصحابها لم يقولوا هذا حكم الله ورسوله، بل قالوا اجتهدنا برأينا فمن شاء قبله ومن شاء لم يقبله، ولم يلزموا به الأمة قال أبو حنيفة هذا رأيي فمن جاءني بخير منه قبلناه. ولو كان هو عين حكم الله لما ساغ لأبي يوسف ومحمد وغيرهما مخالفته فيه، وكذلك مالك استشاره الرشيد أن يحمل الناس على ما في الموطأ، فمنعه من ذلك، وأنه قد تفرق أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البلاد وصار عند كل قوم علم غير ما عند الآخرين، وهذا الشافعي ينهى أصحابه عن تقليده ويوصيهم بترك قوله إذا جاء الحديث بخلافه، وهذا الإمام أحمد ينكر على من كتب فتاواه ودونها ويقول لا تقلدني ولا تقلد فلاناً ولا فلاناً وخذ من حيث أخذوا ولو علموا رضي الله عنهم أن أقوالهم يجب اتباعها لحرموا على أصحابهم مخالفتهم ولما ساغ لأصحابهم أن يفتوا بخلافهم في شيء، ولما كان أحدهم يقول القول ثم يفتي بخلافه فيروى عنه في المسألة القولان والثلاثة وأكثر من ذلك فالرأي والاجتهاد أحسن أحواله أن يسوغ اتباعه، والحكم المنزل لا يحل لمسلم أن يخالفه ولا يخرج عنه. وأما الحكم المبدل وهو الحكم بغير ما أنزل الله فلا يحل تنفيذه ولا العمل به ولا يسوغ اتباعه وصاحبه بين الكفر والفسوق والظلم. والمقصود التنبيه على بعض أحوال النفس المطمئنة واللوامة والأمارة وما تشترك فيه النفوس الثلاثة وما يتميز به بعضها من بعض وأفعال كل

واحدة منها واختلافها ومقاصدها ونياتها وفي ذلك تنبيه على ما وراءه، وهي نفس واحدة تكون أمارة تارة ولوامة أخرى ومطمئنة أخرى، وأكثر الناس الغالب عليهم الأمارة، وأما المطمئنة فهي أقل النفوس البشرية عدداً وأعظمها عند الله قدراً وهي التي يقال لها: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي} . والله سبحانه وتعالى المسؤول المرجو الإجابة أن يجعل نفوسنا مطمئنة إليه عاكفة بهمتها عليه راهبة منه راغبة فيما لديه وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأن لا يجعلنا ممن أغفل قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطاً ولا يجعلنا من الأخسرين أعمالاً: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} إنه سميع الدعاء وأهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل. انتهى. الحادي عشر: وهو أن التقنين أو المذهب الملزم به سواء كان بعمل واحد أو باختيار جماعة، لا بد أن يقع فيه خطأ، إذ العصمة لا تتحقق إلا للأنبياء فالإلزام بها إلزام بما يعتقد أنه بمجموعة ليس صواباً بل لا بد فيه من وقوع خطأ. وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى: أجمع المسلمون على أنه من استبانت له سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليس له أن يدعها لقول أحد سواه. وحصر ذلك بالدليل الأصولي العظيم: وهو دليل السبر والتقسيم أن يقال: إنه بالتقسيم لهذا تبين انحصاره في ثلاثة أوجه، وتبين بسبر أوصافه أن اثنين منها سلبيان وواحد إيجابي ولا بد فيقال: 1- إن أحكام التقنين الملزم به كلها صواب لا خطأ فيها. 2- إن أحكام التقنين الملزم به كلها خطأ لا صواب فيها.

3- إن أحكام التقنين الملزم به كلها فيها خطأ وصواب. أما الأول فمتعذر لأنه تأليف عالم أو علماء والعالم قد يزل ولا بد إذ ليس بمعصوم ومن ليس بمعصوم لا يلزم قبول كل ما يقوله. هذا بالإجماع. وأما الثاني: فلا يصح فهذان وجهان سلبيان. وأما الثالث: فهو الإيجابي، وهل هما متساويان أم أحدهما مغالب للآخر كل ذلك محتمل وقد علم أن العصمة غير متحققة لانقطاعها مع عالم النبوة والأنبياء، وما كتب الله العصمة لكتاب سوى كتابه {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} فلا بد إذاً من وجود خطأ في الأحكام الاجتهادية الملزم بها بالخطأ خلاف الحق وما هو خلاف الحق لا يجوز قبوله ومالا يجوز قبوله حرم الأخذ به وما حرم الأخذ به فيحرم الإلزام به من باب أولى فوجب منع فرضه إذاً. والله أعلم. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في أعلام الموقعين (1) بعد نقول كثيرة نقلها عن ابن عبد البر قلت: والمصنفون في السنة قد جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله وبيان زلة العالم ليبينوا فساد التقليد وأن العالم قد يزل إذ ليس بمعصوم فلا يجوز قبول كل ما يقول وينزل قوله منزلة قول المعصوم فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض وحرموه وذموا أهله. وهو أصل بلاء المقلدين وفتنتهم فإنهم يقلدون العالم فيما زل فيه وفيما لم يزل فيه وليس لهم تمييز بين ذلك. فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد، فيحللون ما حرَّم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويشرعون ما لم يشرع، ولا بد لهم من ذلك. وإذا كانت

_ (1) 2 / 172.

العصمة منتفية عمن قلدوه فالخطأ واقع فيه ولا بد - ثم ذكر حديثين عند البيهقي - منها حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث، زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم " قال: ومن المعلوم أن الخوف في زلة العالم تقليده، إذ لولا التقليد لم يخف من زلة العالم على غيره، فإذا عرف أنها زلة لم يجز له أن يتبعها باتفاق المسلمين.. ثم قال: قال أبو عمر: وإذا ثبت أن العالم يزل ويخطىء، لم يجز لأحد أن يفتي ويدين بقول لا يعرف وجهه) . انتهى باختصار والله أعلم. ومن أدلة المنع ما يأتي في الفصل بعده:

الفصل الثاني في معرفة ما يترتب على الإلزام

الفصل الثاني في معرفة ما يترتب على الإلزام الثاني عشر: ثم يقال إن من القواعد الشرعية المطبق عليها عند علماء الإسلام أن سد الذرائع الموصلة إلى المحرم واجب محتم. قال الناظم: سد الذرائع إلى المحرم ... حتم كفتحها إلى المنحتم وإنه بدراسة التقنين المُلزم في ماضيه، وبالنظر يوماً يترتب عليه في المستقبل يظهر أن هناك أشياء تترتب على الإلزام بقول مقنن أو مذهب معين البعض منها مغالب لكل مصلحة ذكرت مترتبة على التقنين الملزم به فكيف بها جميعها، وذلك لتسلط هذه المخاطر على روح الشريعة وجوهرها قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيميه رحمه الله تعالى (1) : إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد ويجب احتمال أدنى المفسدتين لدفع أكبرهما، وذلك بميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل من تعوز النصوص من يكون خبيراً بها ولدلالتها على الأحكام. انتهى. ومن المضار المترتبة على التقنين الملزم به ما يلي:

_ (1) بواسطة: طريق الوصول للشيخ عبد الرحمن السعدي، ص: 25.

1- بدراسة حال التقنين الملزم به في الزمن القريب فإنه لم يثبت على وتيرة واحدة، بل صار يدخله التغيير والتبديل والمد حيناً والجزر أحياناً حتى صار الحال إلى ما صار إليه، وهذه فلكة المغزل ومحور المسألة. 2- العمل به على خلاف الإجماع فقد حكى الشافعي رحمه الله قال: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليس له أن يدعها لقول أحد سواه. انتهى. فمن استبان له صحة حديث قيل بتضعيفه، أو عكسه، أو استنباط حكم فقهي من كتاب أو سنة، فإنه لا يستطيع الحكم به إذا خالف القول الملزم به، ففي هذا الإلزام إضعاف لحرمة الإجماع، ووقوع فيما انعقد عليه المنع (1) ؟ 3- إن في هذا الإلزام إعمالاً لأحد القولين أو أحد الأقوال، وحضراً لما سواها من الأقوال. والإجماع محكي على المنع من ذلك كما حكاه الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في كتابه " الفقيه والمتفقه " (2) . إذاً ففي هذا خرق لهذا الإجماع. 4- إذا رأى القاضي أن حكم المسألة مثلاً - وهو كذا كالشفعة رآها على الفور لعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ضرر ولا ضرار "، ثم صار في التقنين الملزم به: أن الشفعة على التراخي، لأنه لم يثبت حديث يفيد فوريتها، أو كان بالعكس. والقاضي لم يتبين له بدليل يجب الرجوع إليه ما يثنيه عن رأيه، ومعلوم أن خلاف الصواب هو الخطأ، والحق في واحد من الأقوال، فإن عدل عن رأيه لا لمرجع ولكن لأنه ملزم به صار حاكماً بغير

_ (1) انظر الصواعق المرسلة 1 / 33. (2) 1 / 173.

ما يراه صواباً. وبالتالي يكون الحكم بما لا يعتقده ديناً ولا شرعاً. وإن لم يعدل عن رأيه فماذا يكون؟ ومنه الوجه الآتي 5- إن هذا مطرد في فروع الشريعة وجزئياتها في حق كل من اعترض له شيء من ذلك، وفروعه لا تحصى كثرة. ومنه على سبيل المثال لا الحصر: الشهادة على العقود، قال ابن تيميه رحمه الله تعالى (1) : (الشهادة على العقود المحرمة على وجه الإعانة عليها حرام، وأما الشهادة في العقود المختلف فيها التي يسوغ فيها الخلاف فيجوز لمن اعتقد حلها) . ومنها دعاوي العقود كالأنكحة والبيوع وغيرها، فلا بد من ذكر شروط العقد المدعى به، وذلك من أجل الاختلاف فيها. وبمعرفة الحال يعرف القاضي كيف يحكم: إذ أن العقد ربما كان صحيحاً عند غيره باطلاً عنده، والقضاء على خلاف معتقده ممتنع شرعاً، وقد نص العلماء رحمهم الله على ذلك في أحكام تحرير الدعوى من كتاب القضاء. والله أعلم. 6- إن من تبين له الحق في أحد القولين أو الأقوال ثم تعداه إلى غيره لا لمرجح، فهو ظالم لنفسه ولمن تعدى إليه حكمه. قال ابن تيميه رحمه الله تعالى (2) : (والظالم يكون ظالماً بترك ما تبين له من الحق، واتباع ما تبين له أنه باطل، والكلام بلا علم. فإذا ظهر له الحق فعدل عنه كان ظالماً، وذلك مثل الألد في الخصام) . انتهى.

_ (1) بواسطة: طريق الوصول للشيخ عبد الرحمن السعدي، ص: 117. (2) وبواسطة: طريق الوصول للسعدي، ص: 117.

ومعلوم أن حال المُلْزَم لا تخرج عن ذلك والله أعلم. ويزيد هذا وضوحاً ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في الفائدة الخامسة عشرة من الفوائد والإرشادات للمفتي إذ يقول (1) : (ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله سبحانه أن يفتي السائل بمذهبه الذي يقلده، وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلاً، فتحمله الرياسة على أن يقتحم الفتوى بما يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه فيكون خائناً لله ولرسوله وللسائل وغاشاً له، والله لا يهدي كيد الخائنين، وحرم الجنة على من لقيه وهو غاشٌ للإسلام وأهله، والدين النصيحة والغش مضاد للدين كمضادة الكذب للصدق، والباطل للحق. وكثيراً ما ترد المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده فنحكي المذهب الراجح ونرجحه، ونقول: هذا هو الصواب. وهو أولى أن يؤخذ به وبالله التوفيق) . انتهى. 7- وفي حديث الصحيفة عند البخاري أن رجلاً قال لعلي رضي الله عنه: هل ترك لكم نبيكم شيئاً غير القرآن، قال: " لا، إلا ما في هذه الصحيفة أو فهماً يعطيه الله رجلاً في كتابه " فكان في هذا الإلزام منع لتجدد الفهم والاستنباط من كتاب الله، وأن من استبان له حكم من كتاب الله فليس له حق التعويل عليه إذا خالف القول الملزم به. 8- إن الحوادث متكاثرة والوقائع متجددة، فإذا وقع شيء من ذلك لدى قاضٍ ما فإذا؟ هل يكون إرجاء الحكم حتى يلقن الحكم من لجنة

_ (1) إعلام الموقعين 4 / 177.

الاختيار أم ماذا؟ . أم يسير على هدي الشريعة ودلها فيعمل رأيه في استظهار الحكم. 9- إن القاضي واحد من اثنين، مجتهد أو مقلد (والإجتهاد قابل للتجزيء والانقسام فيكون الرجل مجتهداً في مسألة أو صنف من العلم دون غيره) . كما قرره شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى (1) . فالمجتهد لا يمكن قبوله للإلزام بما يخالف اجتهاده للنص والإجماع على منعه من الإلزام. والمقلد لا يعتقد إلا تقليد إمامه الذي قلده وأخذ بمذهبه. وهو من أئمة القرون المفضلة والمُقَنَّنة ليست كذلك فلا يمكن أخذه بها. إذاً فإن المآل هو التخلي من المؤهلين للقضاء عن ولايتهم القضاء والله المستعان. 10- إن في التقنين الملزم به حجراً على الأحكام الاجتهادية، إذ يمنع مثلاً تغير الفتوى بتغير الزمان. ومن المعلوم أن من قواعد الشريعة: تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأحوال (2) . ومنه الوجه بعده: 11- إن من الأمور القضائية ما لا يحصى كثرة يرجع فيها القضاء إلى قاعدة الشريعة: في تحكيم العرف والعادة - للبلد التي فيها التقاضي. وبهذا قال العلماء: إنه لا يجوز للقاضي إجراء الخصومات فيما سيبله كذلك إلا بعد معرفة عادات الناس وأعرافهم. ومن المعلوم أيضاً أن العرف في بلد لا يكون مطرداً في بلد آخر بل قد يختلف ذلك باختلاف البلدان،

_ (1) بواسطة: طريق الوصول للسعدي ص: 189، وبسطه ابن القيم في إعلام الموقعين 4 / 216 - 217. (2) انظر: إعلام الموقعين 3 / 14 - 107 حيث بسط الكلام على هذه القاعدة.

فهذا أمر إذاً لا يمكن تقنين جزئياته والإلزام بها. ثم العرف أيضاً قد يتغير من زمان لآخر، لهذا فقد نص العلماء رحمهم الله تعالى على أن المسائل التي حصل فيها الكلام في مدوناتهم بناءً على العرف، أن الأصل فيها بناؤها على العرف، والتفصيل بناءً على عرف زمانهم آنذاك، فيتغير ذلك بتغيره، كما في أحكام إحياء الموات وغيره. وقد فصل أحكام العرف: ابن عابدين في رسالته: " نشر العَرف في بناء بعض الأحكام والتصرفات على العُرْف " (1) . والنتيجة، أن هذا مما لا يمكن تقنينه إلزاماً به بحال. وتقنينه بإرجاع كل قاض إلى عرف بلده تحصيل حاصل. إذاً فماذا صنع التقنين الملزم به في جل مادة مواده؟ . يقول الأستاذ علال الفاسي في كتابه " دفاع عن الشريعة " (2) : (فإذا اعتبرنا هذا الرأي الذي ساد في المذاهب الفقهية من علم وتقنية القانون الإيجابي، عرفنا سلامة الطرق الإسلامية التي اتبعت في الصدر الأول: وهي التدوين مع عدم اعتباره كقانون إيجابي، بل اعتبار مصادر التشريع التي استمد منها على أنها مجموعة مصادر ومبادئ أساسية ينكشف منها المجهول.. عن طريق الاجتهاد الذي ظل مفتوحاً أمام المفتي والقاضي. هذا الاجتهاد الذي يعتبر العرف، والظروف الاجتماعية، وتقلبات الحياة الإنسانية، ويراعى مصالح الفرد والجماعة) . انتهى. 12- إنه في البلدان التي يحكم فيها بالقوانين الوضعية والتي قيل فيها

_ (1) مطبوعة ضمن مجموع رسائل ابن عابدين. (2) ص: 264.

إنها ذات مواد يمكن الرجوع إليها بسهولة ويسر. لم تزل المواد التفسيرية ترد من حين لآخر على تلك المواد المؤصّلة، وذلك للخلاف القائم بين مفاهيم الحكام في تفسير النصوص وفي تطبيقها على القواعد العملية وعلى القضايا التي ترد إليهم إلى غير ذلك من أسباب ورود المواد التفسيرية وهو من لوازم العجز البشري الملازم لطبيعة الإنسان، وهذا شيء بحكم المستفيض المشهور. وأخباره مدونة في كثير من كتب الصعيدين الشرقي والغربي، إذاً فالقانون في المواد لم يخلص الناس قضاة ومتقاضين من ورطة الخلاف، وإمكان إيراد عدة مفاهيم على نص واحد يمكن الحكم في كل مرة بمفهوم منها. ونتيجة لهذا (فالفرنسيون ومن حذا حذوهم تركوا للمحاكم حق الاجتهاد في تفسير النصوص وفي تطبيقها على القواعد العملية وعلى القضايا التي تعرض عليهم) (1) : فما دام أن هذه الحقيقة المرة ماثلة أمامنا، فكيف نلجأ إليها، وبالتالي نستثمر مساوئها. فاللهم إنا نضرع إليك من أصابع التصنع. قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه تعالى (2) : (من خرج عن الطريق النبوي الشرعي المحمدي الذي عليه الكتاب والسنة احتاج أن يضع نظاماً آخر متناقضاً يرده العقل والدين. ولكن من كان مجتهداً في طاعة الله ورسوله، فإن الله يثيبه على اجتهاده، ويغفر له خطأه {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} . انتهى مختصراً.

_ (1) انظر مقدمة في إحياء علوم الدين للمحامي المحمصاني ص: 100. (2) بواسطة طريق الوصول للسعدي ص: 172.

13- إن مسائل الخلاف الفرعية لا يجوز إجماعاً أن يثرب فيها أحد على أحد إذا أخذ بأحد القولين أو الأجيال مجتهداً متحرياً الحق. ومعنى هذا الإلزام أن من حكم بقول سوى الملزم به فهو مخطئ غير مأجور ولا يحسب حكمه نافذاً. 14- إنه ليس هناك شخص ولا أشخاص يجب اتباعهم بعينهم في كل ما قالوا سوى نبينا ورسولنا خاتمة المعصومين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي هذا الإلزام جعل شخص آخر مماثل له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتفريق بين اتباع المعصوم وغير المعصوم واجب. 15- إن من شرط تولية القضاء الاجتهاد والتقنين الملزم به فيه منع للاجتهاد بالقول أو بقوة القول، بل يصبح القاضي أشبه بالآلة. 16- إن القاضي الذي توجد فيه روح الاجتهاد ولو في مسألة تعرض له في الإلزام تقييد لروحه وإذابة لعلومه. وبالتالي فيه قضاء على العلم وخدمة العلم وإحيائه. ومن المعلوم صحة التجزئة في الاجتهاد لدى المحققين من أهل العلم. 17- إن القاضي الذي توجد فيه روح البحث والتحري للحق والاجتهاد في تطبيق حكم شرعي يراه راجحاً على قضية ما، في الإلزام غض بعلمه وقسر لفهمه وبالتالي قضاء على علومه وعلمه. 18- إن الشكوى من قلة المجتهدين، لكن في هذا الإلزام قضاء على هذه القلة لقطع طريق العلم والحرمان من استقلال النظر. 19- إن في هذا الإلزام هجراً للمكتبة الإسلامية وتضييعاً لجهود علمائها ورجالها وسداً لطرق الدلائل والاستنباط لكن عدم الإلزام يقضي

على تلك الأشياء في مخدعها. 20- قالوا من الممكن أن الانحباس داخل جدار الإلزام يورث خلافات خارجية إذ أن هذا الملزم به لا يكون نافذاً ولا جارياً إلى على رقعة الولاية فإذا أحدثت عقود في ديار الإسلام الأخرى على وفق اجتهاد أو مذهب على خلاف ما صار به الإلزام فما العمل وما الحل؟ . إن هذا الإلزام لن يقتصر على القضاة فحسب، بل سينفذ إلى المفتين والمدرسين ومعاهد التعليم إذ لو كانت الفتوى على خلاف ذلك لحصل التباين وما على معاهد التعليم إلا فهم مواد التقنين الملزم به، وبدراسة الخلاف وأدلته ودعم لروح الاجتهاد وترويض للنفس عليه وهذا مع الإلزام برأي معين لا حاجة إليه. 22- إن القانون المصنوع المختلق الموضوع يتكون من صورة وحقيقة فصورته على هيئة مواد وذات أرقام وتغيرها بالمادة الأخرى وغير ذلك من عبارات اصطبغ بها وهي وإن كانت في أصلها معلومة.. إلا أنها أصبحت عند الإطلاق تنصرف إلى ذلك انصرافاً أولياً كانصراف كلمة (قانون) إلى تلك الأحكام الوضعية وإن كانت من قبل موجودة لدى بعض الفلاسفة كابن سيناء ولدى بعض فقهاء الإسلام كابن جزي. قالوا فكما أن الإلزام بأحكام مناطها الاجتهاد ممتنع بعامة وجوه الأدلة. فإنا كذلك نمانع في الأصل من هذه التسمية (تقنين) وعلى هذه الهيئة والشكل، لأنه يخشى من وجود الصورة والشكل أن ينفخ فيه روح أصله في الأجيال المتعاقبة وإن كان ذلك في حكم المستحيل إن شاء الله، إلا أنه يجب أخذ الحيطة والحذر، حتى نمشي عليها بيضاء نقية ونتركها لمن بعدنا كذلك إن شاء الله.

قال ابن تيميه رحمه الله تعالى (1) (ولا يحل امتحان الناس بأسماء ليست بالكتاب والسنة، فإن هذا خلاف ما أمر الله به ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو محدث للفتن والتفريق بين الأمة ... ) . وقد بسط ابن القيم رحمه الله تعالى ذلك في آداب المفتي من كتابه " إعلام الموقعين " (2) فقال: الفائدة التاسعة: ينبغي للمفتي أن يأتي بلفظ النص مهما أمكنه، فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام، فهو حكم مضمون له الصواب، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان، وقول الفقيه المعين ليس كذلك، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على منهاجهم يتحرون ذلك غاية التحري، حتى خلفت من بعدهم خُلُوف رَغِبوا عن النصوص، واشتقوا لهم ألفاظاً غير ألفاظ النصوص، فأوجب ذلك هجر النصوص، ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص من الحكم والدليل وحسن البيان، فتولد من هجران ألفاظ النصوص والإقبال على الألفاظ الحادثة وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، فألفاظ النصوص عصمة وحجة بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب، ولما كانت هي عصمة عهدة الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم أصح من علوم مَنْ بعدهم، وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ مَنْ بعدهم، ثم التابعون بالنسبة إلى مَنْ بعدهم كذلك، وهلم جرا، ولما استحكم هجران النصوص عند أكثر أهل الأهواء والبِدَع

_ (1) سياسة طريق الوصول للسعدي ص: 167. (2) 4 / 170 - 172.

كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض، وقد كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سُئلوا عن مسألة يقولون: قال الله كذا، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا، أو فعل [رسول] الله كذا، ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلاً قط، فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور، فلما طال العهد وبَعُد الناس من نور النبوة صار هذا عيباً عند المتأخرين أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه قال الله، وقال رسول الله. أما أصول دينهم فصرحوا في كتبهم أن قول الله ورسوله لا يفيدُ اليقينَ في مسائل أصول الدين، وإنما يحتج بكلام الله ورسوله فيها الحشوية والمجسِّمة والمشبهة، وأما فروعهم فقنعوا بتقليد من اختصر لهم بعض المختصرات التي لا يذكر فيها نص عن الله ولا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن الإمام الذي زعموا أنهم قلدوه بينهم، بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به وينقلون به الحقوق ويبيحون به الفروج والدماء والأموال على قول ذلك المصنف، وأجلهم عند نفسه وزعيمُهم عند بني جنسه مَنْ يستحضر لفظ الكتاب، ويقول: هكذا قال، وهذا لفظه، فالحلال ما أحله ذلك الكتاب، والحرام ما حرَّمه، والواجب ما أوجبه، والباطل ما أبطله، والصحيح ما صححه. هذا، وأنَّى لنا بهؤلاء في مثل هذه الأزمان، فقد دفعنا إلى أمر تضج منه الحقوق إلى الله ضجيجاً، وتعج منه الفروج والأموال والدماء إلى ربها عجيجاً، تبدل فيه (1) الأحكام، ويقلب فيه الحلال بالحرام، ويجعل المعروف فيه أعلى مراتب المنكرات، والذي لم يشرعه الله ورسوله من أفضل القربات، الحقُّ فيه غريبٌ، وأغرب منه من يعرفه، وأغرب منهما من يدعو إليه وينصح به نفسه والناس، قد فلق بهم فالق الإصباح صُبْحَه

_ (1) في نسخة " تستبدل فيه الأحكام، ويغلب - إلخ ".

عن غياهب الظلمات وأبان طريقه المستقيم من بين تلك الطرق الجائرات، وأراه بعين قلبه ما كان عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه مع ما عليه أكثر الخلق من البِدَع المضلات، رفع له علم الهداية فشمر إليه، ووضح له الصراط المستقيم فقام واستقام عليه، وطوبى له من وحيد على كثرة السكان، غريب على كثرة الجيران، بين أقوام رؤيتهم قذَى العيون، وشَجَى الحلوق، وكرب النفوس، وحُمَّى الأرواح وغم الصدور، ومرض القلوب، وإن أنصفتهم لم تقبل طبيعتهم الإنصاف، وإن طلبته منهم فأين الثريّا من يد الملتمس، قد انتكست قلوبهم، وعمي عليهم مطلوبهم، رَضُوا بالأماني، وابتلوا بالحظوظ، وحصلوا على الحرمان، وخاضوا بحار العلم لكن بالدعاوي الباطلة وشقائق الهذيان، ولا والله ما ابتلت من وَشَلِهِ أقدامُهم، ولا زكت به عقولهم وأحلامهم، ولا ابيضت به لياليهم وأشرقت بنوره أيامهم، ولا ضحكت بالهوى والحق من وجوه الدفاتر إذ بُلّتْ بمداده أقلامهم، أنْفَقُوا في غير نفائس الأنفاس، وأتعبوا أنفسهم وحيروا من خلفهم من الناس، ضيعوا الأصول، فحرموا الوصول، وأعرضوا عن الرسالة، فوقعوا في مَهَامه الحيرة وبيداء الضلالة. والمقصود أن العصمة مضمونة في ألفاظ النصوص ومعانيها في أتم بيان وأحسن تفسير، ومَنْ رام إدراك الهدى ودين الحق من غير مِشْكَاتها فهو عليه عسير غير يسير ". انتهى. هذا من حيث المحذور من تشابك المعاني، أما من حيث وضعها اللغوي فهي مشتقة من " القانون " وهو كلمة دخيلة كما في كتب اللغة من القاموس والمحيط وغيرهما. ولهذا فإن بعض من جهدوا في بحث هذه النازلة وسموها بلفظ

" التدوين " أو " تدوين الأحكام الشرعية " بدلاً من " التقنين ". وفيها يقول بعض المعاصرين في محاضرة له بذلك (1) : التدوين: كلمة سأستعملها بمعنى صياغة الأحكام الشرعية في عبارات إلزامية لأجل تنفيذها والعمل بموجبها، وقد استعمل بعض الزملاء في الأقطار العربية الأخرى كلمة " التقنين " بدلاً منها، ولكن فضلت عليها الكلمة العربية " التدوين " من فِعل: دون، تدويناً، ومدونة، لأن التقنين مشتق من القانون، وهو كلمة دخيلة كما تعلمون، أخذها العرب عن طريق السريانية من كلمة " كانون " اليونانية. انتهى. وقال أيضاً: في أوائل كتابه " فلسفة التشريع ". " إن كلمة " القانون " يونانية الأصل، دخلت إلى العربية عن طريق السريانية وكان استعمالها في الأصل بمعنى " المسطرة "، ثم صار بمعنى " القاعدة " وهي اليوم تستعمل في اللغات الأوروبية بمعنى " الشريعة الكنسية ".. انتهى. فصارت النتيجة أن التقنين الملزم كما هو ممتنع شرعاً فتسميته " تقنيناً " مرفوضة لغة وإنما هو تأليف أو تصنيف أو نحوهما من الألفاظ والإطلاقات الأصيلة المعهودة والله المستعان. ويتعلق بهذه وبعامة موضوع البحث كلام عظيم لشيخنا محمد الأمين رحمه الله وذكره في جوابه على المذكرة الإيضاحية أذكره هنا بنصه قال رحمه الله تعالى: (ومن المهمات التي من أجلها أردنا بيان المصالح

_ (1) هو الأستاذ صبحي المحمصاني في المحاضرة الخامسة من كتابه مقدمة في إحياء علم الشريعة.

والمفاسد في المذكرة أن المصلحة أو المفسدة إذا عين أصلها وبينت مرتبتها أمكن البحث فيها بتفصيل واضح يتضح معه الحق فتمكن المناقشة نفسها هل هي مصلحة أو مفسدة أو ليست بمصلحة ولا مفسدة، وبيان مرتبتها ونوعها يمكن الترجيح بينهما وبين ما عارضها من المفاسد أو المصالح، فلو شخصت المفسدة الناشئة عن اختلاف أحكام القضاة في المسألة الواحدة بين هل هي من جنس الضروريات أو الحاجيات وإن قيل أنها من جنس الضروريات بين النوع الذي ترجع إليه من الضروريات هل هو ديني أو نفسي أو عقلي أو نسبي أو مالي أو عرضي، وإن قيل إنها من جنس الحاجيات بينت الحاجة الداعية إليها بياناً واضحاً لكان ذلك معيناً على إعطاء البحث حقه من النظر والإمعان، لأن دفع مفسدة ذلك الخلاف بالتدوين قد يقال: إنه مستلزم مفسدة أعظم من مفسدة اختلاف القضاة في المسألة الواحدة ولو كانت من أوكد الضروريات، ولا خلاف بين العلماء في تخفيف الشر بارتكاب أخف الضررين فالمخالف قد يقول: إن هذا التدوين الذي يريدون به درء مفسدة اختلاف القضاة يستلزم مفسدة أعظم من ذلك، لأنه خطوة إيجابية إلى الانتقال عن النظام الشرعي إلى النظام الوضعي وإيضاح ذلك أن النظام الوضعي تتركب حقيقته من شيئين: أحدها: صورته التي هي شكله وهيئته في ترتيب مواده والحرص على تقريب معانيها وضبطها بالأرقام، والثانية: حقيقة روحه التي هي مشابكة لذلك الهيكل والصورة كمشابكة الروح للبدن، وتلك الروح هي حكم الطاغوت فصار التدوين مشتملاً على أحدهما والواحد نصف الاثنين ومما يظن ظناً قوياً ويخشى خشية شديدة أن وضع شكل وصورة النظام الوضعي بالتدوين وضع حجر أساس لنفتح روح هذا الهيكل الأصلية فيه، ولا شك أن الظروف الراهنة ومخايل الظروف المستقبلة تؤكد أن تيارات

الإلحاد الجارفة في أقطار المعمورة الناظرة إلى الإسلام بعين الحط والإزدراء يغلب على الظن ويخاف خوفاً شديداً أنها بقوة مغناطيسها الجذابة التي جذبت غير هذه البلاد من الأقطار من نظامها الإسلامي التي توارثته عشرات القرون إلى النظام الوضعي الذي شرعه الشيطان على ألسنة أوليائه ستجذب هذه البلاد يوماً ما إلى ما جذبت إليه غيرها من الأقطار التي فيها مئات العلماء كمصر لضعف الوازع الديني في الأغلبية الساحقة من شباب المسلمين وكون الثقافة المعاصرة من أعظم الأسباب للانتقال إلى القوانين الوضعية فجميع الملابسات العالمية معينة على الشر المحذور إلا ما شاء الله ولا سيما إن كنت هيئة كبار العلماء قد يقال أنها ابتدأت وضع الحجر الأساسي لذلك بالرضا بالانتقال عما توارثته الأمة جيلاً بعد جيل إلى وضع نظام شرعي ديني في مسلاخ نظام وضعي بشري شيطاني وليس هذا من الأمور الدنيوية البحتة التي تؤخذ عن الكفار لأنه أمر قد يقال: إنه ذريعة إلى أعظم فساد ديني مع أن اختلاف بعض القضاة في بعض المسائل المتماثلة أمر موجود من عهد الصحابة إلى اليوم ولم يستلزم مفسدة عظيمة، والقضاة المختلفون في المسألة الواحدة في هذه البلاد يلزم رفع اختلافهم إلى هيئة تمييز من أمثل من يوثق بعلمه وعدالته وربما رفع بعد ذلك إلى هيئة قضائية عليا، فالمفاسد اللازمة له في النظر الصادق قد تكون أقل شيئاً مما يقال، وقد يقول المخالف أيضاً: إن التدوين المذكور سن به فاعلوه التغيير لمن يأتي بعدهم لأنهم بتدوينهم ألفوا أقوال أهل العلم المخالفة لما دونوا وذلك يدعو لصرف النظر عن أصولها ومداركها الشرعية، فالذين يأتون بعدهم يوشك أن يقولوا: هؤلاء الذين دونوا تركوا أقوالاً قالها من هو أعلم منهم وأقدم زماناً، وسنفعل معهم مثل ما فعلوا مع غيرهم فسيكون ذلك طريقاً إلى التغيير والتعديل،

ويوشك أن ينهي ذلك إلى التبديل الكلي - نرجو الله أن لا يقدر ذلك - والأمتان اللتان دونتا بعض الأحكام الشرعية أعني الأتراك والمصريين انتهى أمرهما إلى التبديل الكلي، فهذه المفاسد التي قد يقول المخالف أنها يخشى أن تنشأ من التدوين هي أعظم المفاسد لأن فيها القضاء على أصل الدين ومثل هذا لا يصح أن يعارض شيء من المفاسد الأخرى أو المصالح.. انتهى.

خلاصة البحث

خلاصَة البَحْث وهي فيما يأتي: أولاً: الممانعة من تسمية هذا المشروع " تقنيناً " لما تقدم. ثانياً: الممانعة من ترتيبه على هيئة تحاكي القوانين الغربية في صياغتها إذ ينبغي لأهل الإسلام - دين العزة والأصالة - دفع عار الاستجداء. والاستغناء بما عندهم من أصالة في الشكل والمنهج والمضمون ففيه الغنى إضافة إلى أن لفظ " مادة " لهذا المعنى لا يساعد عليه الوضع اللغوي فليعلم. ثالثاً: إن إلزام القاضي بقول مقنن، أو مذهب معين ممتنع شرعاً وواقعاً. فموقعه من أحكام التكليف حسب الدلائل والوجوه الشرعية أنه: محرم شرعاً لا يجوز الإلزام به، ولا الالتزام به. رابعاً: إن تقريب الفقه الإسلامي للقضاة وغيرهم من أهل الإسلام على وجه يسهل الوقوف على أحكامه ودقائقه، ليس محلاً للتجاذب في هذه النازلة. وإن من رد العجز على الصدر: أن ألمح مرة أخرى إلى خلاصة هذا المبحث فأقول، إن هذه النازلة: 1- تسميتها " تقنيناً ".

2- صناعتها على صفة تحاكي القوانين الموضوعة المختلقة المصنوعة. 3- إصابة شاكلة كل داهي: الإلزام. إن هذه النازلة بهذا الشكل: مولود غريب ليس من أحشاء الأمة الإسلامية، غريب في لغتها، غريب في سيرها وأصالة منهجها، غريب في دينها ومعتقدها، فهو أجنبي عنها ومجلوب إليها فغريب جداً أن تحتضنه الأمة الإسلامية بمجرد فكرة الله أعلم بدوافعها وإنه يتعين على أهل الإسلام أن يحذروا من الانهزام ومعلوم أن من كان على الحق فهو أمة قوية لا تهزم وإن كان وحده. هذا: ولعمري فقد نزع المانعون من الإلزام بمنزع صحيح مؤيد بالدليل الصريح والنظر الرجيح. والله أعلم. وأخيراً أختم هذه الرسالة بما لهج ابن القيم رحمه الله تعالى بذكره في كتابه " أعلام الموقعين " (1) مما كان معاذ بن جبل رضي الله عنه كثيراً ما يقوله في خطبته كل يوم. قال ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول في خطبته كل يوم، قلما يخطئه أن يقول ذلك: الله حكم قسط، هلك المرتابون، إن ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر، فيوشك أحدهم أن يقول: قد قرأت القرآن فما

_ (1) إعلام الموقعين: 1 / 60، 104، 253 - 3 / 297 وقد ذكرها أبو نعيم في " حلية الأولياء " من ترجمة معاذ رضي الله عنه. (2) إعلام الموقعين: 3 / 297.

أظن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن كل بدعة ضلالة، وإياكم وزيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق، فتلقوا الحق عمن جاء به، فإن على الحق نوراً. قالوا: كيف زيغة الحكيم؟ قال: هي كلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون ما هذه فاحذروا زيغته، ولا تصدنكم عنه، فإنه يوشك أن يفيء ويراجع الحق، وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة فمن ابتغاهما وجدهما) . انتهى. وهنا ينتهي ما أردت تحريره في فقه هذه النازلة إلى أهل الإسلام والله تعالى خليفتي عليهم والسلام.

المواضعة في الاصطلاح على خلاف الشريعة وأفصح اللغى

" 2 " المواضعة في الاصطلاح على خلاف الشريعة وأفصح اللغى (دراسة ونقد)

المواضعة في الاصطلاح على خلاف الشريعة وأفصح اللغى الحمد لله الذي فتق لسان العرب بأفصح لسان، وأبلغ بيان وبه أنزل سبحانه القرآن واصطفى رسوله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خيار مضر بن نزار بن معد ابن عدنان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن قضية المواضعة في الاصطلاح للأمور الشرعية كانت جارية على السنن الأقوم من هدي الشريعة، وما زالت كذلك على تعاقب القرون، إلا أنه بقدر ما يصيب الأمة من ضعَةٍ وتحولٍ في حياتها، لقاء التيارات، والتموجات الفكرية التي تحل في الديار الإسلامية، يحصل قطار جديد من البلايا والأزمات الشديدة من الانهزام والضياع في جملة من الفتن أنى وليت وجهك. وكان من ولائدها في هذا المجال غلالة من العدوان على هذه المصطلحات ولو أن تبلها ببلالها، سواء من قبل أصالة اللفظ المصطلح عليه لغة، أم من قبل استبداله باصطلاح آخر وافد لوفادته وهكذا، لكنها تلاقي الدفع في نحورها وأعجازها من أهل العلم فتنطفي جذوتها، وتعود مردودةً على مختلقها، بضاعة مزجاةً ما لها في معاجم المسلمين من قرار. وفي العصور الحاضرة التي اختلت فيها مقاييس الحياة في جل الديار

الإسلامية، مُني المسلمون بعدة ويلات وفتن تتوالى من خلال ديارهم عاملة عملها في قوالب متعددة، فغاب الحكم بالإسلام عن سلطان الحاكمية في جل دياره وأقصى القضاء الشرعي عن كراسي القضاء في جل أحكامه. ونفذ الاستعمار الفكري في تعليم أولاد المسلمين وبَسَطَت عوامل الانحلال والتفسخ جرانها في ديار الإسلام نافذة إلى أفئدة الأمة على مسارب التبعية الماسخة للأمم الكافرة. وهكذا في جملة من الفتن الكاسرة في مجالات متكاثرة من حياة الأمة، وما فيه قوامها. وما زالت تتوالى مراغمتها على كل غريب عنها في دينها وأخلاقها ومسالكها، تمزيقاً للباس التقوى في شكله وحقيقته، فالله طليب الفَعَلةِ لذلك وهو حسيبهم. وكان من سوالب هذه البدوات الآثمة والحملات المسعورة غياب طائفة كبيرة من لغة الشريعة المسطرة في معلمة (1) فقهها، فحلت

_ (1) معلمة: هذا هو اللفظ الذي يعبر عن المراد منه بوضوح وسلامة مبنى، وقد لهج المعاصرون بلفظ " موسوعة " وهو اصطلاح قريب العهد في صدر القرن الثالث عشر. وقد وقع ذلك في قصة لطيفة على لسان أحد الأعجميين، كما في مجلة الأزهر: " لواء الإسلام 26 / 1158 " بعنوان: الأدب والعلوم. ومما جاء فيه ما نصه (لطاش كبرى زاده كتاب باسم: موضوعات العلوم ولما كانت إحدى مكتبات القسطنطينية، تدون فهرساً لمحتوياتها. أملى أحد موظفيها اسم هذا الكتاب على أحد موظفي المكتبة بلفظ " موضوعات " العلوم، لأن الأعاجم يلفظون: الضاد بقريب من لفظ: الظاء. فسمع الكاتب الضاد: سيناً. فكتب اسم الكتاب =

مصطلحات أجنبية عن دينها ولغتها في جوانب الحكم، والقضاء، والتعليم، ولغة الحياة العامة والسلوك. وغيرها متابعة بذلك سنة الإبعاد عن كتب الشريعة وفقهها بتحنيط لغتها، وبذلك يستحكم الانفصام بين المسلم وتراثه، ليكون رسماً لا معنى له، وصورة لا حقيقة له. وبهذا تجسدت أمام المصلحين: نازلة المواضعات الأثيمة على خلاف اللغة والشريعة، فصارت لكثرتها وشيوعها في مجالات: الحكم، والقضاء، والتعليم، والعلوم، والفنون كافة: تُمثل لباساً فضفاضاً نسجته أيدي العِداء فألبسته أمة الإسلام والعرب العرباء. فكيف لا تستحي أمة تركض لبناء مجدها وهي مصرة على الحنث العظيم إذ ترفل بلباس عدوها، متقمصة له في غاية ميادين حياتها راكبة أثباج لجج هائجة من الفتن. ألم يعلموا أن بناء الذات قبل بناء الذوات وأن التزام الداعية إلى ما يثني عقيدته عليه أساس متين للدعوة إليه. وإلا فماذا؟ والله يعلم ماذا يلحق بالمسلم الناصح من عميق الآلام عندما يسود شيء من هذا القتام، لكن هذا الاعتلاج لا يكفي بل لا بد من البيان عماذا يراد بنا ونحن نيام، من تجليل الأمة بهذا الرداء الأجنبي عنها

_ = " موسوعات العلوم ". وسمع ... إبراهيم اليازجي صاحب مجلة " الضياء " باسم هذا الكتاب وموضوعه فخيل إليه أن كلمة " موسوعات " تؤدي معنى " دائرة معارف " فأعلن ذلك في مجلته. وأخذ به: أحمد زكي باشا وغيره. فشاعت كلمة موسوعة. وموسوعات. لهذا النوع من الكتب. وهي تسمية مبنية على الخطأ كما رأيت. وكان العلامة أحمد تيمور باشا. والكرملي، وغيرهما يرون تسمية دائرة المعارف باسم: معلمة لأنه أصح، وأرشق، وأدل على المراد منه ... ) اهـ.

القاضي على إجلال شريعة ربها وخالقها. وقد قام علماء اللغة العربية في ذلك مقاماً حميداً شكر الله سعيهم فبذلوا جهوداً مكثفة في القديم والحديث، فأنشؤا سدوداً منيعة وحصوناً حصينة للغة القرآن عن عوادي الهجنة والدخيل، إذ أقاموا المجامع وهي كثر، وألفوا كتب الملاحن وهي أكثر. ودب يراعهم في الكفاح وسالت له سوابق أقلامهم، وانتشرت سوابح أفكارهم في نفي الدخيل، ونفض المقرف والهجين، وهكذا تجديداً لمعجزة حماية التنزيل. والتي تجلت متكاملة بجهود علماء الشريعة المشرفة في ذلك، فلهم القِدح المعلى، والمكان الأسنى فضموا إلى كفاح أولئك: فائق العناية في الاصطلاح الشرعي ومتانة التقعيد، والتأصيل، وعدم السماح لأي مصطلح دخيل بالدخول في اصطلاح التشريع، وإن كان في بعض المتأخرين من المعاصرين من خفض لها الجناح، ونفخ في بوقها وأناخ والله يغفر لنا ولهم. وإنه إلى ساعتي هذه لا أعلم كتاباً ألف في كشف هذه المداخلة، وصد تلك المحاولة في هذه النازلة من وجهة الشريعة الخالدة، فقيدت من ذلك نتفاً لكني لم أقف عليها إلا بعد أن سلكت إليها طرائق قدداً، من كتب الشريعة واللُّغى (1) . متجنباً تشقيق العبارة، وتكلف الكَلِم، وناسب إذاً أن يكون اسم البحث في هذه النازلة: نازلة المواضعة في الاصطلاح

_ (1) اللُّغَى: بألف مقصورة في آخرها، جمع لكلمة " لُغَة " فكما يقال: لغات، يقال: لُغَى أيضاً. وقد استفتح الفيروز آبادي قاموسه بقوله: (الحمد لله منطق البلغاء باللُّغَى) . قال شارحه الزبيدي (ويأتي جمع لغة على لغات، فيجب كسر التاء في حالة النصب) . اهـ. وتجمع أيضاً على: لغون.

على خلاف الشريعة وأفصح اللّغى. وقد أدرتها على مباحث توقفك رؤسها على ما وراءها وهي كالآتي: المبحث الأول: في مصادر الأسباب الإِسلامية والمصطلحات العلمية. المبحث الثاني: في ألقاب هذا الفن. المبحث الثالث: في حقيقة الاصطلاح: لغة واصطلاحاً. المبحث الرابع: في العلاقة بين المعنيين اللغوي والشرعي. المبحث الخامس: في أن المواضعات سنة لأهل كل فن. المبحث السادس: في الاجتهاد اللغوي. المبحث السابع: في تاريخ الأسباب الإسلامية والمصطلحات الشرعية. المبحث الثامن: في أنواع المصطلحات. المبحث التاسع: في طرق المواضعة. المبحث العاشر: في ضوابط المواضعة على الاصطلاح. المبحث الحادي عشر: في فوائد الاصطلاح العلمي. المبحث الثاني عشر: في اختلاف أهل الاصطلاح فيه وأسبابه. المبحث الثالث عشر: في كشف ضراوة المخالفين بتغييرهم لمصطلحات الشريعة. المبحث الرابع عشر: في العدوان على مصطلحات الشريعة. المبحث الخامس عشر: في ضرورة توحيد المصطلحات. المبحث السادس عشر: في تقسيم التشريع إلى أصول وفروع. المبحث السابع عشر: في ذكر أمثلة لتغيير المصطلحات.

ولا أدعي أني أخذت بمجامع هذه النازلة، وأنلت قارئها من مباحثها الطريفة والتالدة، فإنها واسعة المجال، متعددة الأغراض، مترامية الأطراف، لكني عنيت الاقتصاد، وتباعدت عن جلب الغدد (1) ، والحديث

_ (1) من الطريف، ما سطره ياقوت في معجم الأدباء 17 / 44 في ترجمة الليث بن المظفر أنه قال: وأخبرني المنذري أنه سأل ثعلباً عن كتاب العين، فقال: ذاك كتاب مليء " غُدَد "، قال: وهذا لفظ أبي العباس، وحقه عند النحويين ملآن غُدَداً، ولكن كان أبو العباس يخاطب العامة على قدر فهمهم. قلت: ليس هذا بعذر لأبي العباس فإنه لو قال: ملآن غُدداً لم يخف معنى الكلام على صغار العامة، فكيف وفي مجلسه الأئمة من أهل العلم، ثم سائله الذي أجابه ليس بتلك الصورة، وإنما عذره أنه كان لا يتكلف الإعراب في المفاوضة، وهي سنة جِلَّةُ العلماء. وأراد أن في جراب - كذا - العين، حروفاً كثيرة قد أزيلت عن صورها ومعانيها بالتصحيف والتغيير فهي تضر حافظها كما تضر الغدد آكلها) . اهـ. ثم ذكرها ياقوت في ترجمة المنذري محمد بن أبي جعفر المتوفى سنة 329 هـ. 18 / 99. وإلى الله الشكوى من تكاثر هذه الغُددِ الظاهرة في صنعة المفاليس بنفخ الكتب: " حشداً للنقول وصرفاً لكلام السلف عن وجهه المراد منه تبريراً لنحلةٍ فاسدة وآراء شاذة. وكم في هذا من قطع للسبيل على أهل العلم، وتمجيد للمبتدعة، وتبرير لكلامهم، وحشر لمقولاتهم في مصاف أهل السنة وهذا شأن من لم تتناوله العقيدة السلفية الراشدة بتهذيب. وما أجمل ما قاله ابن القيم رحمه الله تعالى في " مدارج السالكين ": (كلام المتقدمين قليل كثير البركة، وكلام المتأخرين كثير قليل البركة) اهـ. وكم رأينا من كتاب من كتب السلف في صفحات معدودات ثم ينشره متعالم - ليعيش على حسابه - في مئات من الصفحات لا أثر له فيها بإحسان، إذ لو قيل =

المعاد. والحر تكفيه الإشارة وإليه يساق الكلام. واللهُ المستعان. وكتب بكر بن عبد الله أبو زيد

_ = لكل تعليقة ارجعي إلى مكانك لما بقي له منها شيء، وما بقي لكاتبها إلا غلة يستثمرها، أو غدة يحتسب نشرها.

المبحث الأول في مصادر الأسباب الإسلامية والمصطلحات العلمية

المبحث الأول في مصادر الأسباب الإسلامية والمصطلحات العلمية تم الوقوف على أسماء جملة مباركة من المؤلفات والبحوث في لغة التشريع الواردة بنص من كتاب أو سنة أو في المواضعات الشرعية من علمائها، فقهية كانت أو غيرها. وسواء في محيط جمع مفرداتها وشرحها على اختلاف المذاهب الفقهية، ولعدد من العلوم كالطب والفلسفة والتصوف والكيمياء ونحوها. أم في دائرة دراسات عن الأسباب الإسلامية والمواضعات العلمية، في نشأتها، وقواعدها، وتوحيدها.. . ولعل أقدم كتاب عني بشرح لغة التشريع وإعطاء دراسة عنها هو: كتاب الزينة، لأبي حاتم أحمد بن حمدان الرازي، المتوفى سنة 322 هـ. وهو أحسن كتاب وقفت عليه في هذا الصدد. وإن في فواتح كتب أصول الفقه كالإحكام لابن حزم والإحكام للآمدي. وفي كتب غريب الكتاب والسنة وفي كتب اللغة: مباحث مهمة في هذا، لا سيما كتب الاشتقاق كالاشتقاق لابن دريد المتوفى سنة 321 هـ. والاشتقاق والتعريب لعبد القادر المغربي، وهما مطبوعان. وكتب التعريب مثل كتاب: التقريب لأصول التعريب للشيخ طاهر الجزائري وغيره، وفي مجلة (الأصالة) الجزائرية في عدديها 17، 18 لعام 1394 هـ، وقد خصصا لهذا الغرض.

ولكن الشأن هنا في هذا المبحث أن أجمع لطالب العلم المؤلفات المفردة والمباحث المدونة في خصوص لغة التشريع والأسباب الإسلامية، وما يدور في محيط الاصطلاح ولعلوم أخرى. ومن جلها جعلت مادة كتابي هذا، فإلى سياق ما تم الوقوف عليه منها: 1- الحدود: لجابر بن حيان م سنة 200 هـ، رسالة تقع في سبع عشرة صحيفة، عرض فيها لبعض المصطلحات الطبية، والكيماوية. 2- الزينة: لأبي حاتم أحمد بن حمدان الرازي م سنة 322 هـ. طبع باسم: كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية العربية. تحقيق: حسين ابن فضل الله الهمداني، في القاهرة عام 1957 م. وطبع منه جزئين في مجلد محتواهما (345) صفحة، شرح فيه نحواً من أربعمائة لفظ. وفي آخره قال: يتلوه الجز الثالث، وهذا ما لم أره. وفي كتاب: حركة التصحيح اللغوي في العصر الحديث، لمحمد ضاري حمادي قال ص: 280 عن هذا الكتاب: (وهو كتاب ضخم منه نسخة كاملة في مكتبة المتحف العراقي برقم 178. وقد أصدر: حسين بن فيض الله الهمداني، جزأين مطبوعين منه عام 1376 هـ. يمثلان القسم الأول من الكتاب) اهـ. ويذكر مقدم هذا الكتاب الأستاذ إبراهيم أنيس في تقديمه له: إن هذا هو أول كتاب في العربية يعالج دلالة اللفظ وتطورها، ويسوق النصوص والشواهد الصحيحة التي تؤيد ما يقول، ويرتبها بعض الأحيان ترتيباً تاريخياً يتبين للقارئ منه. والله أعلم وقد ذكر مؤلفه ص / 58 سبب تسميته له بكتاب الزينة فقال: وسميناه " كتاب الزينة " إذ كان من يعرف ذلك يتزين به في المحافل، ويكون منقبة له عند أهل المعرفة. اهـ.

3- كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق: للفارابي م سنة 339 هـ. تحقيق محسن مهدي. دار الشروق - بيروت عام 1968 م. 4- الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: لأبي منصور الأزهري م سنة 370 هـ. من مخطوطات دار الكتب بمصر برقم 351 / لغة. 5- مفاتيح العلوم: لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف الكاتب الخوارزمي م سنة 387 هـ. طبع مراراً. وهو يلي كتاب: الزينة في الأهمية. 6- الصاحبي: للعلامة المحدث اللغوي ابن فارس م سنة 395 هـ. طبع بتحقيق: أحمد صقر، طبع الحلبي بالقاهرة. وفيه باب في الأسباب الإسلامية ص: 86 - 87 وهذا الباب من أهم ما وقفت عليه في هذا. 7- بحر الجواهر: ذكره التهانوي في كشاف اصطلاحات الفنون 1 / 1، ولم ينسبه. 8- حدود الأمراض في الطب: ذكره التهانوي كذلك. 9- الحدود في الأصول: لسليمان بن خلف الباجي المالكي م سنة 474 هـ. وكتابه هذا في حدود ألفاظ أصول الفقه. 10- السامي في الأسامي: للميداني. م سنة 531 هـ. 11- طَلِبَةُ الطَّلَبة: لعمر بن محمد النسفي الحنفي م سنة 538 هـ. وهو في مصطلحات الفقه الحنفي. ومنه نسخة بدار الكتب المصرية برقم 496 / لغة. وهو مطبوع. 12- بيان كشف الألفاظ: لأبي حامد بدر الدين محمود بن زيد اللامشي الحنفي، نشر في مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي. إصدار جامعة أم القرى. العدد الأول عام 1398 هـ. ص (245 - 267) ،

تحقيق: محمد حسن مصطفى شلبي. وقد ذكر مؤلفها (128) لفظاً، وذكر المحقق أنها فصل من كتابه: أصول الفقه. 13- المغرب في ترتيب المعرب: للمطرزي الحنفي م سنة 610 هـ. مطبوع. 14- غاية المرام في علم الكلام: للآمدي م سنة 631 هـ. فيه مباحث اصطلاحية في مواضع منه. 15- النظم المستعذب في شرح غريب المهذب: لمحمد بن أحمد ابن بطال الركبي م سنة 633 هـ. طبع في مجلدين. بمصر عام 1379 هـ. 16- مصطلحات الصوفية: لابن عربي الحاتمي م سنة 638 هـ. طبع في آخر كتاب: التعريفات للجرجاني. ومثل هذا ألا يُفرح به، وإنما أذكره ونحوه استطراداً. 17- تهذيب الأسماء واللغات: للنووي الشافعي رحمه الله تعالى م سنة 676 هـ مطبوع. 18- المطلع على أبواب المقنع: لمحمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي. م سنة 709 هـ. طبع مراراً. 19- شرح اصطلاحات القوم: للقاشاني. م سنة 730 هـ. طبع بتحقيق محمد كمال إبراهيم جعفر. نشر مركز تحقيق التراث بمصر. ويقع في (168) صفحة وعقده في (27) باباً. 20- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: لأحمد بن محمد المقري الفيومي. م سنة 770 هـ، طبع عام 1398 هـ. في بيروت. 21- إعلام الموقعين 1 / 43، 90، 107: لابن قيم الجوزية. م سنة 751 هـ.

22- مدارج السالكين: لابن قيم الجوزية، م سنة 751 هـ، 1 / 139، (2 / 49، 78، 99، 151، 173، 306) . 23- الصواعق المرسلة: 1 / 284، 2 / 510 - 515: لابن قيم الجوزية. م سنة 751 هـ. 24- إغاثة اللهفان: لابن قيم الجوزية. م سنة 751 هـ. (1 / 31 - 32) . 25- الحدود: لابن عرفة المالكي. م سنة 803 هـ وشرحه للرصاع التونسي. مطبوع. في شرح مصطلحات المذهب المالكي. 26- كتاب شرح غريب ألفاظ المدونة: تأليف: الجُبِّي. لم تعرف ترجمته. تحقيق: محمد محفوظ. نشر: دار الغرب الإسلامية عام 1402 هـ. 27- غرر المقالة في شرح غريب الرسالة: المغراوي، مخطوط. كما في: ثبت مراجع تحقيق كتاب الجبِّي المذكور قبله. ص 140 منه. 28- التعريفات: للجرجاني. م سنة 816 هـ. مطبوع. 29- المزهر في علوم اللغة للسيوطي م سنة 911 هـ: 1 / 294 - 303. نقل فيه كلام ابن فارس في الصاحبي. 30- أنيس الفقهاء. لقاسم بن عبد الله القونوي الحنفي. ت سنة 978 هـ. مطبوع. 31- تحرير التنبيه. للنووي. ت سنة 676 هـ. طبع. 32- القاموس الفقهي. سعدي أبو جيب. مطبوع. 33- مجلة الأحكام الشرعية الحنبلية. للقاري. طبع. إذ جعل في

خاتمة كل باب تفسير مصطلحات ذلك الباب. 34- الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة: لأبي زكريا الأنصاري. م سنة 926 هـ وقد نشر محققاً في مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي. إصدار: جامعة أم القرى، العدد الخامس عام 1402 هـ - 1403 هـ، ص / 565 ص 579. 35- التوقيف على مهمات التعاريف: للمناوي. م سنة 1031 هـ، مخطوط بدار الكتب المصرية برقم 76 / لغة. ثم طبع عام 1410 هـ. 36- الكليات: لأبي البقاء الكفوي. م سنة 1094 هـ طبع في مجلد. ثم طبع في ستة مجلدات بدمشق عام 1981 م، وهو من المهمات في هذا الغرض. 37- كشاف اصطلاحات الفنون: للتهانوي. م سنة 1158 هـ، وقد طبع كاملاً في ستة مجلدات عام 1278. ثم صدر في بيروت. نشر مكتبة خياط، بلا تاريخ. 38- جامع العلوم الملقب: بدستور العلماء في اصطلاحات العلوم والفنون: لعبد رب النبي بن عبد رب الرسول الهندي. طبع حيدر أباد عام 1329 هـ - 1331 هـ. 39- السلطة العلمية: لأحمد زكي باشا. م سنة 1353 هـ. وانظر عنه: مجلة مجمع اللغة بمصر 11 / 145. 40- المصطلحات العلمية في اللغة العربية في القديم والحديث: للأمير مصطفى الشهابي، طبع بالقاهرة عام 1955 م. وانظر عنه: مجلة المجمع العلمي بدمشق عام 1932 م.

41- تاريخ آداب العرب: لمصطفى صادق الرافعي. في الباب الأول 1 / 211 - 212، الألفاظ الإسلامية. 42- مفردات فلسفية: لمحمد يوسف موسى في مجلة لواء الإسلام (الأزهر) جلد 1 / ص / 23، 223، 321، 709، 785، وجلد 9 / 900. 43- الإسلام بين العلماء والحكام: للمقتول ظلماً الشيخ عبد العزيز البدري رحمه الله تعالى. ص 61 - 64. 44- حكم الإسلام في الإشتراكية: له أيضاً، ص 122 - 149، نشر المكتبة العلمية بالمدينة النبوية. 45- منهاج الإسلام في الحكم: لمحمد أسد، ص 42 - 56 بعنوان: المصطلحات والسوابق التاريخية. 46- اصطلاحات كتاب العصر: مقال في مجلة المنار 1 / 14 - 19. 47- لغة القانون: لعدنان الخطيب. نشر: حلقة الدراسات العلمية بدمشق. وانظر عن: مجلة الأزهر 24 / 116. 48- معجم أسماء العلوم والفنون والمذاهب والتنظيم: لعبد العزيز بن عبد الله المغربي. 49- نحو وعي لغوي: لمازن المبارك. ص 108 - 124. 50- المصطلحات العلمية قبل النهضة الحديثة: لضاحي عبد الباقي. طبع عام 1979 م. 51- مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق: وفيها بحوث في

الاصطلاح منها ما يلي: أ - القضاء، والزكاة، والحج: ألفاظ عربية: لأحمد رضا. جلد 2 عام 1922 م. ب - اللغة العلمية: محمد جميل الخاني، جلد 4 عام 1924 م. ج - الأوضاع الجديدة والاصطلاحات الفنية: عز الدين التنوخي، جلد 13 عام 1936 م. د - أسماء لمسميات حديثة: أحمد رضا، جلد 16 عام 1941 م. هـ - تعريب الاصطلاحات العلمية: جميل صليبا، جلد 28 عام 1953 م. 52- مجلة مجمع اللغة العربية بمصر: أ - الاصطلاحات الفقهية: عبد الوهاب خلاف 7 / 235 - 241. ب - نشأة المصطلحات الفلسفية في الإسلام: إبراهيم بيومي مدكور 7 / 261 - 268. ب - توحيد المصطلحات: محمد رضا الشبيبي 8 / 131 - 135. د - القواعد العامة لوضع المصطلحات العلمية: محمد كامل حسين. 11 / 137 - 142. هـ - مدى حق العلماء في التصرف في اللغة: إبراهيم بيومي مدكور 11 / 143 - 151.

و - توحيد المصطلحات العلمية في البلاد العربية: للأمير مصطفى الشهابي 11 / 157 - 164. ز - في المصطلحات الإسلامية: محمد يوسف موسى 11 / 209 - 220. ح - اللغة والعلوم: محمد كامل حسين 12 / 17 - 30. ط - ملاحظات على وضع المصطلحات العلمية: للأمير مصطفى الشهابي 12 / 31 - 36. ي - العلم: دلالة اللفظ في اصطلاح الفلاسفة الإسلاميين وأقسام العلم عندهم: مصطفى نظيف 13 / 19 - 29. ك - مصطلحات العلوم في اللغة العربية، ودور المجمع فيها: عبد الفتاح الصعيدي 13 / 209 - 218. ل - مشكلة المصطلحات العلمية، والطريقة العلمية لحلها: عبد الحليم منتصر 13 / 203 - 207. م - تراثنا القديم من المصطلحات. مظانه، ومصادره: محمد رضا الشبيبي 14 / 53 - 73. ن - قضية اللغة في علم القانون: صبحي المحمصاني 19 / 65 - 69. س - لغة العلم: إبراهيم مدكور 20 / 5 - 8. ع - أثر المغرب في العلم واللغة: عبد الله كنون 21 / 21 - 29. ف - لغة العلم في الإسلام: إبراهيم مدكور 29 / 7 - 13، 30 / 16 - 20.

المبحث الثاني في ألقاب هذا الفن

المبحث الثاني في ألقاب هذا الفن عُني العلماء بموضوع معاني الألفاظ، ومن مبلغ عنايتهم به نرى المؤلفين منهم في " أحوال العلوم " يشيرون إليه في مباحث اللغة وعلومها كما فعل صاحب " مفتاح السعادة " إذ أشار إلى بعض الكتب المؤلفة في الاصطلاح في مبحث العلوم التي تتعلق بالألفاظ فقال في 1 / 125: (ومما يختص بلغة الفقهيات. فذكر كتابين هما: المغرب، وطَلِبة الطلبة) . ونتيجة أيضاً لهذه المواطآت الاصطلاحية، يرى الناظر في كتب الفنون عامة قولهم: تعريف هذا اللفظ: لغة وشرعاً أو: لغة واصطلاحاً. ولهذا يقول ابن فارس رحمه الله في كتابه: الصاحبي ص / 86: (لكل لفظ اسمان: لغوي، وصناعي، ويقصد بالصناعي الاصطلاحي) . وهذه المواطآت أو المواضعات الصناعية، اكتسبت بعد اسم " علم المصطلحات " لكثرتها وشيوعها، في كل علم وفن وبالتتبع حصل عدد من ألقاب هذا الفن على ما يلي: 1- الحدود. 2- التعريفات. 3- الاصطلاح أو المصطلحات.

4- لغة العلم. ويقولون لكل علم لغته: أي مصطلحاته. 5- لغة الفهم، ويقولون: اللغة لغتان: لغة التفاهم وهي اللغة العامة. ولغة الفهم: وهي لغة العلم. 6- السلطة العلمية. 7- علم الدلالة. 8- الأسباب الإسلامية، كما ذكره ابن فارس في: الصاحبي، فعقد باباً باسم: " باب في الأسباب الإسلامية ". وعنه السيوطي في: المزهر. وهذا في خصوص الألفاظ التوقيفية: أي التي ورد النص الشرعي بها. 9- الشرعيات. كثيراً ما ترى لدى علماء الشريعة في تعريف ألفاظها قولهم: وهو " شرعاً " أي في معناه الشرعي وهو إخراج للشيء عن المعنى اللغوي إلى الحقيقة الشرعية، وهي ما تلقى معناها عن الشارع، وإن لم يتلق عن الشارع: سمي اصطلاحاً، وعرفاً. وقد غلط جمع من المتأخرين في عدم الاعتداد بهذا التفريق. والذي يتعين هو: التزامه فيما ورد به النص من كتاب أو سنة فيقال فيه: تعريفه " شرعاً " ولا يقال: " اصطلاحاً "، لأن الاصطلاح والمواضعة عليه إنما تكون من جماعة، فالقول مثلاً في لفظ الصلاة تعريفها اصطلاحاً: هو كذا وكذا. اطلاق فاسد لغة وشرعاً. وإنما يقال: " تعريفها شرعاً ". والله أعلم. 10- الأسماء الشرعية. 11- المصطلحات الإسلامية. 12- الألفاظ الإسلامية. ويسمى هذا الفن في لغة الفرنجة " سيما

سيولوجيا " أو " سيمانتكس ". وسيما: بمعنى الإشارة والرمز، كما في مقدمة: محقق الزينة ص 15.

المبحث الثالث في حقيقة الاصطلاح لغة واصطلاحا

المبحث الثالث في حقيقة الاصطلاح لغة واصطلاحاً قال العلماء " لا مشاحة في الاصطلاح " والمشاحة: الضنة كما في مادة: شحح. من القاموس وشرحه. وقد ذكر الشارح هذه القاعدة ولم يعزها لأحد، وقال: (ومنه قول بعضهم: لا مشاحة في الاصطلاح) . ولم أقف على من قالها، ولا أول عصر قيلت فيه، وهي من الكَلِم الدارج في كلام أهل العلم وعلى ألسنتهم وهي في الشيوع نحو قولهم: لا إنكار في مسائل الخلاف. وقولهم: النادر لا حكم له. وقولهم: نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر. وهذا كثيراً ما يلهج به الأصوليون مرفوعاً ولا أصل له في المرفوع، وانظر القول عنه محققاً في: المعتبر للزركشي ص / 99 مع حاشية حمدي السلفي. وقولهم أيضاً: الناس مؤتمنون على أنسابهم. وهو لا أصل له مرفوعاً، ويؤثر عن الإمام مالك رحمه الله تعالى. وههنا فائدة يحسن تقييدها والوقوف عليها وهو أن هذا ليس معناه تصديق من يدعي نسباً قبلياً بلا برهان، ولو كان كذلك لاختلطت الأنساب، واتسعت

الدعوى، وعاش الناس في أمرٍ مريج، ولا يكون بين الوضيع والنسب الشريف إلا أن ينسب نفسه إليه. وهذا معنى لا يمكن أن يقبله العقلاء فضلاً عن تقريره. إذا تقرر هذا فمعنى قولهم " الناس مؤتمنون على أنسابهم " هو قبول ما ليس فيه جر مغنم أو دفع مذمةٍ ومنقصة في النسب كدعوى الاستلحاق لولد مجهول النسب. والله أعلم. وقاعدة الباب هنا ليست على عمومها، فلا مشاحة في الاصطلاح ما لم يخالف اللغة والشرع، وإلا فالحجر والمنع. ولهذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى في: مدارج السالكين 3 / 306: " والاصطلاحات لا مشاحة فيها إذا لم تتضمن مفسدة " اهـ. وهذا نظير قولهم (لا إنكار في مسائل الخلاف) إذ ليست على عمومها كما بسطه ابن القيم في الإعلام 3 / 300 - 301. يبقى ما حقيقة الاصطلاح: لغة واصطلاحاً. فهذا مما تواردت فيه الحقيقتان: اللغوية، والاصطلاحية. فهو لغة: مصدر اصطلح. وحقيقته (اتفاق طائفة مخصوصة على شيء مخصوص) كما في: المعجم الوسيط 1 / 522، ومتن اللغة 3 / 478. والكليات لأبي البقاء 1 / 201 / 202 ولكل علم اصطلاحه. أو يقال: (اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى) كما في التعريفات للجرجاني ص / 22. وتاج العروس 2 / 183 وغيرهما. فالحقيقان إذاً متواردتان. ونستطيع إذاً أن نكيف حقيقة الاصطلاح في ضوء ما ذكر أنه: (اللفظ المختار للدلالة على شيء معلوم ليتميز به عما سواه) .

ثم ليعلم أن من هذه الألفاظ الاصطلاحية مالا تثبت دلالته على وتيرة واحدة، بل يعتريها الاستبدال والسعة والضيق بحيث تتسع مدلولاتها أو تضيق، وتختص بمعنى ما - لكن هذا التغير في نطاق مقاييس اللغة والشرع. وهذا التطور أيضاً في الألفاظ المتلقاة بنص من الشارع غير وارد. ولهذا حصل التفريق في ألقابها فيقال فيما ورد به نص (حقيقته الشرعية) ولا يقال (حقيقته الاصطلاحية) . والله أعلم.

المبحث الرابع في العلاقة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي

المبحث الرابع في العلاقة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي نمت اللغة العربية في ربوعها فصيحة محكمة تسير مع حماتها بقدر سيرهم في حياتهم الفكرية والمدنية، فلما جاء الله بالإسلام ظهر للعيان حكمة اختيارها لغة للقرآن المنزل على قلب النبي العربي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وسط العرب الخلص لساناً ونسباً وداراً فتبدي من حكمة وضعها، وقواعد استعمالها ما يشهد بكونها اللغة الأم للغات العالم إذ سارت مع المسلمين في جميع الأعصار والأمصار لغة الدعوة والتبليغ، والفتح والبيان تسير معهم حيث ساروا وتنتقل معهم حيثما انتقلوا وحلوا.. يوم أن كانت على أيدي رجالها الحماة الكماة العارفين لقدرها المتشرفين بحملها لم تضق يوماً ما عما يرد إليها. ومن صادق البرهان أنها لما دخلت في أمم ذات علوم وحضارات وجدت في لغتها ما وسع حاجاتها وعلومها فصارت لسان كل علم من علومها الشرعية والعربية، والأدبية، والصناعية والسياسية.. وكل ما تريد احتضانه ونقله، فصار الاصطلاح لهذا من مظاهر ألفاظها المنتشر في تراثها ومن هنا جرى تقسيم اللفظ إلى: لغوي وشرعي، أو لغوي وديني وشرعي (1) . وجرى الخلاف سلفاً وخلفاً في العلاقة بين هذين القسمين اللفظ

_ (1) المستصفى للغزالي 1 / 326 - 327.

بمعناه اللغوي، واللفظ بمعناه الشرعي هل استعمال اللفظ في هذا المعنى الشرعي بطريق النقل لهذا اللفظ من معناه اللغوي إلى المعنى الشرعي الاصطلاحي أم بطريق تخصيص اللفظ ببعض ما وضع له لغة. وذلك كلفظ: الصلاة والزكاة والصيام، والحج. فالصلاة في اللغة مثلاً الدعاء. وفي الشرع: الركن الثاني من أركان الإسلام بأفعالها وأقوالها وأوقاتها ومن مشتملاتها: الدعاء. والذي عليه الأكثر أن هذا نقل لا تخصيص. والمهم أن هذه الألفاظ وما جرى مجراها بعد استعمالها في هذه الحقائق الشرعية أصبحت لا يفهم منها عند الإطلاق إلا المعنى الشرعي على ما اصطلح عليه المسلمون وفهموه منه، وأصبح المعنى اللغوي لا يفهم إلا بقرينة تدل عليه. وبناءً على هذا الشيوع للمعنى الشرعي في هذه الألفاظ، فإن من القواعد الجارية أن اللفظة ذات المعنى الشرعي إذا مرت في مساق كلامٍ ما فإنما تحمل عليه لا على اللغوي إلا بقرينة. والله أعلم.

المبحث الخامس في أن المواضعات سنة لأهل كل فن

المبحث الخامس في أن المواضعات سنة لأهل كل فن امتداداً لسنة التطور والارتقاء، فإن العلوم الإسلامية على اختلافها وتنوعها صاحب تقسيمها مصطلحات استقل بها كل علم واصطلح أهلوه عليها، وما زالت تنمو وتزداد حتى صار لها سمة الظهور، وبالغ الاهتمام في كل فن وعلم. كما تراه لدى: المفسرين، والمحدثين، والفقهاء، والأصوليين والكلاميين، وأرباب علوم الآلة واللسان، ونحوهم، مما تجد فنونهم مرتبة مشروحة في " أبجد العلوم " وغيره من كتب هذا الضرب المؤلفة في " أحوال العلوم " وهذا التعدد وسع دائرة الاصطلاح، وأثراها، وساهم في غزارتها وارتقائها. فالمواضعات إذاً تمتد بامتداد العلوم، وتتأثر بصفاتها من النمو، والدقة، والتنظيم، وقابلية الامتداد على بعد المدى. وهذا من أعظم الدلائل، وأصدق البراهين على ما امتازت به اللغة العربية من حيوية خالدة، وطاقة هائلة، تلتهم كل ما يرد إليها، ولا تضيق بورَّادها. وهو أيضاً من أصدق الأدلة على عظيم الجهود المبذولة في خدمة العلم، وتذليل صعابه، وتقريب بعيده، وجمع متفرقه من أهل العلم في كل عصر ومصر. والله أعلم.

المبحث السادس في الاجتهاد اللغوي

المبحث السادس في الاجتهاد اللغوي علم بالضرورة أن لغة كل أمة عنصر من عناصر تكوينها ورقيها وذلك بقدر التزامها واحتفائها بها، أو هبوطها وتدليها بقدر الفوت منها. وأن اللغة أيضاً تخضع لحياة الأمة ونموها وتتطور بتطورها، لكن متى وقع زمام ذلك في أيد أمينة تقودها بحزم وأناة، وإلا جلبت لها أمراضاً تنذر بموتها، وعيوباً تذهب بمحاسنها. ولهذا قرر حماتها، المخلصون لها، البارزون في حلائبها أن باب الاجتهاد اللغوي ما زال نافذاً، وأمره راشداً، وأن دعوى إغلاقه لا تُسمع إلا بدليل يساوي الدليل الذي انفتح به ذلكم الباب الراشد أولاً. فالاجتهاد إذاً مقيد بان يكون على يد أهله، موزوناً بمقاييس اللغة المأخوذة من موارد الكلام الفصيح، لا أن يفرض على الأمة بما لم يفه به فصحاؤها وبناتها أو تؤيده قواعد لغتها وسنن كلامها. وإلا كان الاجتهاد فيها سبيلاً إلى إفنائها وإحداث لغة أخرى. ولهذا وجب على حماتها وحدهم دون من سواهم تكميل حاجة الأمة بوضع مصطلحات لما يتجدد من العلوم والفنون مما تسعه مقاييسها، ومعاييرها الدقيقة.

ودراسة أي مصطلح علمي وافد بوضعه تحت مجهر اللغة والشريعة إعمالاً لوصل حاضر الأمة بماضيها، وكف أي دخيل عليها في لغتها وشريعتها.

المبحث السابع في تاريخ الأسباب الإسلامية ونشأة المصطلحات الشرعية

المبحث السابع في تاريخ الأسباب الإسلامية ونشأة المصطلحات الشرعية للأسماء شأن كبير في الإسلام، ولهذا قال الله سبحانه ممتناً على آدم عليه السلام: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . فالاسم بداية العلم، والعلم به مفتاح للعلم بالمسمى. وعصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو عصر التشريع بآية من القرآن الكريم أو سنة من حديثه الشريف، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحكم نبؤته ورسالته، وسلطانه في البيان كما في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، بين للصحابة رضي الله عنهم الحقائق الشرعية من الألفاظ اللغوية التشريعية بياناً شافياً بأقواله وأفعاله وتقريراته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كما في لفظ " الصلاة " في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} الآية، فليست الصلاة ما يعرفه العربي من معناها أنه مطلق " الدعاء " بل هي عبارة مخصوصة في أوقات مخصوصة تشتمل على أقوال وأفعال مخصوصة بيَّنها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غاية البيان وأدقه في قوله: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". وكذا في بيانه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للزكاة، والصيام، والحج، وجميع أحكام التشريع في الأمر والنهي في قوالبه الشرعية فسبحان من نقل أفهام العرب وهداها إلى هذه المعاني التشريعية المقصودة من تلك الألفاظ العربية التي أريد

بها غير ما وضعت له. وفي هذا يقول العلامة ابن فارس رحمه الله تعالى في كتابه الصاحبي ص 78 - 86 باب الأسباب الإسلامية ثم ساق ما نصه: (كانت العربُ في جاهليتها على إرْثٍ من إرْث آبائهم في لُغاتهم وآدابهم ونسائِكهم وقَرَابينهم. فلما جاءَ الله جلّ ثناؤه بالإسلام حالت أحْوَالٌ، ونُسِخَت دِيانات، وأُبطلت أمورٌ، ونُقِلت من اللغة ألفاظ عن مواضعَ إلى مواضع أخر بزيادات زِيدَت، وشرائع شُرِعت، وشرائط شُرِطت. فعَفّى الآخرُ الأوّلَ، وشُغل القوم - بعد المُغَاوَرَات والتِّجارات وتَطَّلُّب الأرباح والكَدْحِ للمعاش في رحلة الشِّتاء والصَّيف، وبعد الإغْرَام بالصَّيد والمُيَاسَرة - بتلاوة الكتاب العزيز الذي {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وبالتَّفقّه في دين الله عز وجل، وحفظ سنن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع اجتهادهم في مُجَاهَدَةِ أعداء الإسلام. فصار الذي نَشأَ عليه آباؤهم ونَشَؤُوا [هم] عليه كأن لم يكن، وحتى تكلَّموا في دقائق الفقه، وغوامض أبواب المواريث، وغيرها من علم الشريعة وتأويل الوحي بما دُوِّن وحُفِظ حتى الآن. فصاروا - بعد ما ذكرناه - إلى أن يُسئل إمامٌ من الأئمة وهو يخطب على منبره عن فريضة فَيُفْتي وَيحْسُبُ بثلاث كلمات. وذلك قول أمير المؤمنين عليٍّ صلوات الله عليه حين سُئل عن ابنتين وأبوين وامرأة (صار ثُمْنُها تُسْعاً) فسميت (المِنْبريَّة) . والى أن يقول هو صلوات الله عليه على منبره والمهاجرون والأنصار متوافرون: " سلوني فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم

في سهل أم في جبل؟ " وحتى قال صلوات الله عليه - وأشار إلى ابنيه - " يا قوم، استنبطوا مني ومِن هذين عِلْمَ ما مضى وما يكون! " وإلى أن يتكلم هو وغيره في دقائق العلوم بالمشهور من مسائلهم في الفَرْض وَحده، كالمُشْتَركَة، ومسألة المُباهَلَة والغَرَّاء، وأُمّ الفُروخ، وأمّ الأرَامل، ومسئلة الامتحان، ومسئلة ابن مسعود، والأكْدَرِيَّة. ومُخْتَصَرَةُ زَيْد، والخَرْقاء، وغيرها ممّا هو أغْمَضُ وأدقُّّ. فسبحان من نقل أولئك في الزمن القريب بتوفيقه عمّا ألفوه ونشؤوا عليه وغذُوا به، إلى مثل هذا الذي ذكرناه. وكل ذلك دليل على حقّ الإيمان، وصِحَّةِ نُبوةِ نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فكان مما جاء في الإسلام - ذكر المؤمن والمسلم والكافر والفاسق. وأنَّ العرب إنِّما عَرَفت المؤمن من الأمان والإيمان وهو التصديق. ثم زادت الشريعة شَرَائِطَ وأوصافاً بها سُمِّيَ المؤمن بالإطلاق مُؤْمِناً، وكذلك الإسلام والمسلم، إنَّما عَرَفت منه إسلامَ الشيء، ثم جاء في الشَّرع مِن أوصافه ما جاء. وكذلك كانت لا تعرِف من الكُفر إلا الغِطاء والسَّتْر. فأما المنافق فاسمٌ جاء به الإسلام لقوم أبْطَنُوا غير ما أظهروه، وكان الأصل من نَافِقَاءِ اليَرْبُوع. ولم يعرفوا في الفِسْق إلا قولهم: " فَفَسَقَتِ الرُّطَبَةُ " إذا خرجت من قِشْرِها، وجاء الشرع بأن الفِسق: الإفحاش في الخروج عن طاعة الله جل ثَناؤه. وما جاء في الشرع الصّلاة، وأصله في لغتهم: الدُّعاء. وقد كانوا عَرَفوا الركوعَ والسجودَ، وإن لم يكن على هذه الهيئة، فقالوا: أوْ دُرَّةٍ صَدَفِيةٍ غَوَّاصُها ... بَهِجٌ، مَتَى يَرَها يُهِلَّ وَيَسْجُد

وقال الأعشى: يُراوِحُ من صلوات المَلِيكِ ... طَوْراً سُجُوداً، وطَوْراً، جُؤراً والذي عرفوه منه أيضاً: ما أخبرنا به عليٌّ عن علي بن عبد العزيز، عن أبي عُبَيد قال: قال أبو عمرو: " أسْجدَ الرجلُ: طأطأ [رأسه] وانْحَنَى ". قال حُمَيْدُ بن ثَوْر: فُضُولُ أزِمِّتها أَسْجَدَتْ ... سُجُود النَّصارى لأَرْبَابِهَا وأنشد: فقُلْنَ له: أسْجِدْ لِلَيْلَى، فأسْجَدَا يعني البعير إذا طأطأ رأسه لِترْكَبَهُ. وهذا وإن كان كذا، فإن العرب لم تعرِفه بمثل ما أتَت به الشريعة من الأعدادِ، والمواقيت، والتَّحريم للصلاة، والتحليل منها. وكذلك الصِّيَامُ، أصله عندهم: الإمساكُ، ويقول شاعرهم: خيلٌ صيام، وأُخْرَى غيرُ صَائمةٍ ... تَحْتَ العَجَاج، وأخْرى تَعْلكُ الُّلجُمَا ثم زادت الشريعة النيَّةَ، وحَظَرَت الأكلَ والمُبَاشرَةَ، وغير ذلك من شرائع الصوم. وكذلك الحَجُّ، لم يكن عندهم فيه غير القصد، وسَبْوُ الجِرَاح. من ذلك قولهم: وأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولاً كثيرةً ... يَحجُّون سِبَّ الزِّبرِقانِ المُزَعْفَرَا

ثم زادت الشريعة ما زادته من شرائط الحج وشعائره. وكذلك الزَّكاة، لم تكن العرب تعرفها إلا من ناحية النَّماءِ وزاد الشرع ما زاره فيها مما لا وجه لإطالة الباب بذكره. وعلى هذا سائر ما تركنا ذِكرَه من العُمْرةِ والجهاد، وسائر أبواب الفقه. فالوجه في هذا إذا سُئِل الإِنسان عنه أن يقول: في الصلاة اسمان لُغويٌّ وشرعيٌّ، ويذكر ما كانت العرب تعرفه، ثم ما جاءَ الإسلام به. وهو قياسُ ما تركنا ذكرَه من سائر العلوم، كالنحو والعروض والشِّعر: كل ذلك له اسمان لُغوي وصِناعيُّ) اهـ. ويقول الرازي في كتاب الزينة 1 / 146 - 152 ما يلي: فالإسلام هو اسم لم يكن قبل مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكذلك أسماء كثيرة مثل " الآذان " و " الصلوات " و " الركوع " و " السجود " لم تعرفها العرب إلى على غير هذه الأصول، لأن الأفعال التي كانت هذه الأسماء لها لم تكن فيهم. وإنما سَنَّها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [60] وعلَّمها الله إيَّاه. فكانوا يعرفون " الصلوات " أنها الدعاء. قال الأعشى في صفة الخمر: فإن ذُبِحَتْ صلَّي عليها وزَمْزَمَا أي دعا لها. وعلى هَذا كانت سائر الأسامي. وقد كانت الصلاة والصيام وغير ذلك في اليهود والنصارى، وقد كانت اليهودية والنصرانية في العرب. ويقال إن المجوسية لم تكن فيهم على ما ذكره الرواة. ورووا أن أول من تمجَّسَ من العرب حَاجب بن زُرَارَة الدارمي هو وأهل بيته، ولم

يتمجَّس منهم أحد قبله قالوا: سَمَّى ابنته دُخْتِنُوس باسم ابنة كِسْرَى، وتَزَوَّجَها؛ فعُير بذلك. فقال: أو ليست لي حلالاً في ديني؟ ثم ندم على ذلك وأنْشَأ يقول: لَحا الله دِينَك من أَغْلَفٍ ... يُحلُّ البَنَاتِ لَنا والخَوَاتِ أَحَشْتُ على أسْرَتي سَوْءَةً ... وطَوَّقْتُ جِيليَ بالمُخْزِيَاتِ وأَبْقَيْتُ في عَقِبي سُبَّةً ... مَشَاتِمَ يَحْيَيْنَ بعد المَمَاتِ وروى عن أبي عمرو بن العلاء أن نَسْراً كان صنماً لبعض حِمْيَر، وكانوا فيما يزعمون مجوساً. وهم الذين [ذُكِروا] في كتاب الله عز وجل: {وَجَدْتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . ويقال: إن بقايا المجوس الذين كانوا باليمن والبحرين منهم. ونقول: إن الأعمال التي هي في شريعة الإسلام قد كان مثلها في اليهود والنصارى، ولكن لم يكونوا يُسَمُّونها بهذه الأسماء، لأن شرائعهم لم تكن بلسان العرب فلما جاء الله بالإسلام وبيَّن هذه الأسماء اقْتدَوا بأهل الإسلام، وصاروا عيالاً عليهم فيها، وقد عرفيا فضيلة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كانوا كاتِمين لما كانوا قد عرفوه، كافرين بنعمة الله عليهم حسداً وعناداً. هذا مع قبولهم وقبول سائر الأمم معهم آيات مُحْكَمَاتٍ وكلمات [61] بَيِّنَات أتى بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الشريعة لم تعرفها الأمم. فلمَّا وردت عليهم قبلوها قبولاً اضطرارياً مع إنكارهم نبَّوته عليه السلام، فجبلهم الله على المعرفة بأحكامها، وصرف قلوبهم إلى قبولها والاقتداء بها والإقرار بفضلها. فأول ذلك كلمة الإخلاص، وهو قول: " لا إله إلا الله "، هذه كلمة جعلها مركزاً لدين الإسلام وقطْباً له ولم تكن الأمم السالفة تقولها على هذا

اللفظ، وبهذا الاختصار، مع ما فيها من الحكمة البالغة، واشتمالها على نَفْي الكفر، وإثبات التوحيد، وإزالة الشرك، ووجوب الإيمان. فلما قالها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودعا الناس إليها، استعظمت العرب ذلك، لأنهم يُسَمُّون أصْنَامهم آلِهَة، فقال الله عز وجل حكاية عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ. وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ. بَلْ جَاءَ بِالحَقِّ وَصَدَّقَ المُرْسَلِينَ} يعني جاء بها وهي الحق. وهي تشتمل على هذه المعاني التي ذكرناها، وإلى ذلك دعا المُرسَلون، ولكن لم يوردها على هذا اللفظ بهذا الكمال والاختصار مشتملة على هذه المعاني. فلما قالها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَها أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس، وجامَعوه على الإقرار بها، وبايَنُوه على الكلمة المقرونة بها: " محمد رسول الله " فكانوا على الإقرار بالأولى مؤمنين بالله، وعلى إنكارهم الثانية مشركين. قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} . {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} : هي أية أنزلها الله على محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعلها فاتِحَة كتابه وفاتحة كل سورة، فصار ذلك قُدْوَة لجميع الأمم قد تَرَاضَوْا بها، واتبعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك، فجعلوها فاتحة كتبهم مُصَدَّرة في صَدْر [62] كل كتاب مُسْتَحْسَنَة عندهم. قد أقَرُّوا بفَضْلها حتى إن كل كتاب لم يفْتَتح بها هو عندهم ناقِصٌ مَبْتُور، مَسْلوبُ البَهَاء مَهجور ولم يكن ذلك لسائر الأمم ولا عرفوها إلا ما ذكره الله عزَّ وجلَّ في كتابه أن سليمان عليه السلام كتب بها إلى بلْقيس ولم يُدَوِّنها هذا التدوين، ولا زَيَّنُوا بها كُتبهم هذا التزيين، ولا عرفوا لها الفَضْل المُبِين، حتى جاءَ الله بالإسلام، وأحْكَمَها على لِسان رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَبِلتْهَا الأمم أحسن قبول، وصار فَصْلها في كتبهم أفضل فُصُول.

هذا إلى كلمات غيرها، مثل قوله: {الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} . وقد كان فيما قد تَقدَّم من الكتب المُنَزَّلة تحْميد وتمجيد، ولكن لم يكن على هذا الاختصار بهذا اللفظ، ولم يُدَوَّن هذا التدوين، وقوله: {لا حول ولا قُوَّة إلا بالله العلي العظيم} . وقوله: {تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ} . وقوله: {السلام عليكم} . لم تكن هذه التحيَّة للأمم الماضية، وهي تحية أهل الجنّة قال الله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} . وروى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " أُعْطِيت أمَّتي ثلاث خِصال لم يُعْطها أحد قبلهم، صُفُوف الصلاة، وتحيَّة أهل الجنَّة، وآمين، إلا ما كان من موسى وهارون، فقد روى أن موسى كان يدعو وهارون يُؤمِّن ". وقوله: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} . وقوله: {ما شَاءَ الله كان} . قال أبو عبيدة: حدَّثنا مَرْوان بن مُعاوية عن سُفْيان بن زياد، قال: سمعت [63] سعيد بن جبير يقول: ما أعطى {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} و {مَا شَاءَ الله كان} إلا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولو أوتيه أحد لأوتيه يعقوب حين يقول: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} فهذه الكلمة كلُّها ظهرت في الإسلام على لسان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلسان عربيٍّ، ولم تكن لسائر الأمم على هذا النظم العجيب والاختصار الحسن. فلما وردت عليهم اضطرُّوا إلى قبولها وتدوينها، والإقرار بفضلهم، ولفظوا بها عند وجوب الشكر، وطلب الصبر، وفي وقت الاتِّكال والتسليم لأمر الله عز وجل، وعند فاتحة كلامهم وخاتمته، وعند كلِّ حادِث نِعْمة، أو نازِل مُلمة. وإن كان الأنبياء الماضون صلوات الله عليهم أجمعين ومن دَرَج من الصالحين عرفوا معانيها، فإنهم لم يرْسموها لأممهم على هذا الرَّسْم على هذا الكمال والإحكام. وادَّخَرَها الله عز وجل لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفضيلاً له

وتشريفاً لمنزلته ورفعة لدرجته، وأبرزَها على لسانه، فَنَطَقَ بها باللسان العربي المُبين، وأحْكَمَهَا في كتابه، وجَعَلَها فَضَائِلَ له وَمَناقب لأمته، وألْهَمَ جميع الأمم الاقتداء به واتِّباعه عليه) . اهـ. وللرافعي في كتابه: " تاريخ الآداب ... " بحث نفيس عن المصطلحات في الجزء الأول منه. هذا هو مجمل الأسباب الإسلامية في عصر النبوة، وفي عصر الخلفاء الراشدين التزام الأثر الشريف، والحفاوة بمنهجه المنيف. فاللبنات الأساس، والمحاور التقعيدية للتعاريف والاصطلاحات من حيث المقاصد كامنة في دور التشريع إلا أنه لصفاء أذهان الصحابة رضي الله عنهم، وثاقب فهمهم وسلامة لغتهم، وسرعة طاعتهم وانقيادهم للخير، ومتابعتهم لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كانوا يحتاجون إلى الاستفصال في كثير من مواطن الإجمال، فلما شرع الله الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة و (الصلاة) عندهم الدعاء، عرفوا المراد من التشريع بسماع التنزيل، ومشاهدة التطبيق من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها بأعدادها وأقوالها وأفعالها، وتروكها فعرفوا الواجب من المسنون، والمحرم من المكروه، وهكذا في وقائع التشريع ولغته. ثم بعد انتقال العلم إلى الأمصار، وكثرة الداخلين في دين الإسلام على اختلاف الأجناس واللغات والبلدان أخذ حفاظ الشريعة يقربونها للناس، ويجمعون متفرق الأحكام في قواعد كلية، وتعريفات جامعة مانعة، فبدأت الصيغ العلمية للتعاريف مستوحاة من نور التشريع جارية على قواعد اللغة وسننها، وهم على اختلاف تعاريفهم لا تجدهم يختلفون في قاعدة التعريف ومحوره، وإنما من حيث بعض التعريفات، ودخولها في مشمول المعرف من عدمه، وبجانب هذا أخذوا أيضاً في قسمة هذه

التشريعات على أحكام خمسة حسب واقع نصوصها من الدلالة والمفهوم. وهذا ما دل عليه استقراؤهم بتقسيمها إلى تكليفي (1) وهو هذه، وإلى وضعي وهو ما يشمل: السبب والشرط، والمانع.

_ (1) فائدة: من المنتشر في كلام أهل العلم تسمية أوامر الدين تكليفاً. إذ دين الله تعالى: أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود. والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون النهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة. والتكليفي: ينقسم خمسة أقسام واجب ومندوب ... إلخ. والتكليف قسيم للوضعي وهو ما قُسِّم إلى سبب وشرط ومانع.. وهكذا. وابن القيم رحمه الله تعالى. وإن كان أطلق هذه العبارة " التكليف "، " الحكم التكليفي " في مدارج كلامه من بعض كتبه كالإعلام، وطريق الهجرتين لكنا نجده في مواضع من إغاثة اللهفان 1 / 31 - 32، ومدارج السالكين 1 / 91، وشفاء العليل ص: 475، لا يرتضي هذه التسمية ويقرر أن الله سبحانه لم يسم أوامره ووصاياه وشرائعه تكليفاً قط، بل سماها: روحاً ونوراً، وشفاء، وهدى ورحمة، وحياةً وعهداً، ووصية، ونحو ذلك وأنه لم تأت تسميتها تكليفاً إلا في مجال النفي كما في قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . وقوله: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} ويقرر أيضاً أن تسميتها تكليفاً في مجال الإثبات أنما كان هذا نتيجة لمذهب نفاة الحكمة والتعليل الذين يردون الأمر إلى محض المشيئة، وصرف الإرادة وأن القيام بالمأمورات ليس إلا لمجرد الأمر من غير أن تكون سبباً للنجاة في المعاش والمعاد، فليس للأمر صفة اقتضت حسن الأمر به كما أن النهي ليس النهي عنه لصفة اقتضت النهي عنه. لهذا سموا الأوامر تكليفاً أي قد كلفوا بها. فهذا الاصطلاح إذاً يكون في إطلاقه مجاراة لأهل البدع في أهوائهم واصطلاحاتهم. هذا ما يمكن على حد ما قرره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى. وهو بحاجة إلى مزيد من التأمل والبحث فنلفت إليه الأنظار. ولينظر المبحث السادس عشر. والله أعلم.

وهكذا أخذت تنمو وتتطور بتطور الأزمان والأفكار، ومهما حصل من التضاد الصوري في إبرازها اصطلاحاً فإن الحقيقة هي كما أنزل الله تعالى وبين رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصنعة الكلمات لا تخرج في صورتها عن لغة العرب وسننها في كلامها. فكانت خدمة جليلة من علماء الإسلام للإسلام، شكر الله سعيهم، وأعظم مثوبتهم وأجرهم. وقد صاحبت هذه اللغة (لغة العلم) التدوين تنمو بنموه وتتسع دائرتها بانتشاره، وقد بدأت التعاريف الاصطلاحية في القرن الثالث فما بعده، وذلك حسبما يظهر في كل باب من أبواب الفقه، وفي كل مبحث من مباحث أصوله وهكذا في سائر العلوم الشرعية. ومما تقدم يعلم أن لغة الشريعة لم تتكون دفعة واحدة، بل مرت بأدوار متعددة، وأن نشأتها مصاحبة للتنزيل. ثم أخذت في نطاق التوسع والنمو بتطور التفريع الفقهي في الفقهيات مثلاً ونموه، وهذا يدل على تقدم الذهن البشري في محيط الزمن، وأن الشريعة لا تضيق بواردها وقد أكسب هذا الارتقاء للمواضعات سمة الظهور في جميع العلوم، بل وأفردت بالتأليف والتدوين. وما زال العلماء على هذا النحو في المواضعات وهم يرمون من قوس واحدة في أصالة الاصطلاح وملاقاته للشريعة واللغة. وربما دخل بعد في اصطلاحهم ألفاظ غير عربية تلقيباً لبعض الواقعات، لأن وقوعها كان في أقاليم العجم ويظهر هذا في الفقهيات كالسفتجة (1) في كتاب البيوع،

_ (1) السفتجة: لفظ فارسي، والمراد به إقراض شخص مالاً لآخر ليسلمه المقترض في بلد آخر إلى إنسان آخر وغرضه أن يأمن خطر الطريق.

والكدك (1) في باب الإجارة. لكن تكاثر هذه الظاهرة يكون في مصطلحات العلوم الأخرى كالفلسفة والاجتماع، والكيمياء والطب، ونحوها، لأن هذه العلوم لما ترجمت بعض كتبها كان المترجمون من مستعربة الأعاجم، فهو لعجمتهم وضعف عربيتهم ترجموا كيفما اتفق لا كيفما يجب أن يكون، فعمت البلوى باستعمال هذه الدوال، وتداولها بين العلماء وفي مؤلفاتهم. ولهذا عيب على صاحب القاموس نقله لكثير من أسماء النبات والحيوان، والعقاقير بالأعجمية. لكن لا ترى هذا يزيل لقباً شرعياً اصطلح عليه وهكذا على هذا النهج والتدرج من التطور من التأليف والتفنن في الصياغة والتقريب، وتتابع النوازل والواقعات تكاثرت الاصطلاحات، والتعاريف حتى مثلت ظاهرة إغناء للعلوم الشرعية، بما تستحق أن تحمل بعد اسم (الاصطلاح الشرعي) . ومن هنا فإن الناهضين برد الاصطلاح إلى منحاه الشرعي لن يجدوا ضيقاً ولا حرجاً في إيجاد البديل له من الشريعة واللغة. والله المستعان.

_ (1) الكدك: هو ما يحدثه المستأجر في العين المستأجرة من بناء وغيره على وجه القرار.

المبحث الثامن في أنواع المصطلحات

المبحث الثامن في أنواع المصطلحات إن لغة العلم التي يلجأ أهل كل فن إلى المواضعة عليها تكون بحسبه، وبما تتم المواضعة عليه من أهل ذلك الفن. وقد حصل بالتتبع أن هذه المصطلحات تتنوع على ما يلي: أولاً: مصطلح الرمز بالحرف، كما هو لدى المحدثين في ألفاظ التصحيح والتضعيف، والعزو والتخريج. ومن قبلهم لدى علماء الجبر، والكيمياء والهندسة ونحوها. ثانياً: مصطلح الأرقام لدى من ذكر في النوع قبله ولدى المؤرخين والأخباريين في حروف أبي جاد. ثالثاً: المواضعات اللفظية صناعة: مفردةً كلفظ الصلاة والزكاة ونحوهما، أو مركبةً مثل: بسم الله الرحمن الرحيم، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم وفي بيانها بسط الرازي في: الزينة 1 / 149 - 151 القول فيها كما تقدم في المبحث السابع قبله.

المبحث التاسع في طرق المواضعة

المبحث التاسع في طرق المواضعة الوصول إلى المواضعة لتكوين المصطلح العلمي بواحد من طريقين: الأول: طريق النقل للكلمة من مدلولها الأصلي إلى مدلول جديد لها به صلة ليصبح المعنى المتواضع عليه حقيقة عرفية، وقد يُنسى من أجله المدلول القديم كالشأن في ألفاظ أركان الإسلام العملية الأربعة الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج. وأجل ألفاظ هذا الطريق ما علم نقله بأصل الشرع كهذه الألفاظ. وكلفظ: التوحيد، ونحو ذلك مما ورد إطلاقه بنص من القرآن أو السنة. فهذا هو أصل المواضعات الشرعية ولا خيار لأحد فيه بتغيير، أو تحريف، أو تبديل. ثم ما علم بلسان الصحابة رضي الله عنهم فهم أهل اللسان وأرباب الفصاحة والبيان، وأقرب الأمة للشرع علماً وعملاً. وذلك مثل المصطلحات التي مرت في كلام ابن فارس في: الصاحبي في المبحث الثاني المتقدم. فلمواضعاتهم حرمتها والتحول عنها من باب استبدال الأدنى بالذي هو

_ (1) مجلة مجمع اللغة العربية بمصر 7 / 268، 29 / 14، 33 / 14 - 22 لغة العلم لإبراهيم مدكور.

خير. وهكذا في تطورات الاصطلاح والحقائق الشرعية المسجلة بأقلام علماء الإسلام في شتى مراحله، وبنيت عليها مؤلفاتهم، وتأسست عليها تفريعاتهم. فاللجوء إليها، وإحياؤها، وإخراجها إلى سوق التداول العلمي: هو السنن القويم، والهدي المستقيم وهو من أقوى عوامل اتصال حاضر الأمة بماضيها، وثباتها على دينها. الثاني: طريق الوضع: ويراد به إيجاد لفظ جديد لأداء معنى خاص. وله عدة وسائل أهمها: النحت، وهو الكُبَّار من أقسام الاشتقاق: والاشتقاق هو أخذ كلمة أو أكثر مع تناسب بين المأخوذ والمأخوذ منه في اللفظ والمعنى. وأقسامه أربعة: صغير، وكبير، وكبار، وكبَّار. والمراد هنا: الكُبَّار؛ وهو: انتزاع كلمة من كلمتين أو أكثر مع تناسب بين المأخوذ والمأخوذ منه في اللفظ والمعنى وتسمى نحتاً (1) . وثَمَّةَ وسيلة أخرى وهي وسيلة: التعريب، وهو نوعان: تعريب الكلمة: وهو إدخال العرب في كلامها كلمةً أعجمية. وتعريب الأساليب: وهو إدخال العرب في أساليبها أسلوباً أعجمياً. وهذا الطريق محل خلاف كبير بين أهل اللغة. وفي مجلة مجمع اللغة العربية بمصر 1 / 199 - 202 قرار المجمع فيه. وبعد مقدمة تاريخية

_ (1) انظر في: التعريب والاشتقاق مجلة مجمع اللغة 7 / 200، 1 / 381 - 393. والاشتقاق لابن دريد. والاشتقاق والتعريب لعبد القادر المغربي.

استقرائية نافعة منها: أن التعريب سماعي لقلة ما ورد فيه في اللغة وهو لا يزيد على بضع مئات من الألفاظ قرر في آخره قوله: (ولذلك لم يجز التعريب) . وأصدر قراره المتضمن إجازة واستعمال بعض الأعجمي إذا عجز عن إيجاد مقابل له عربي فاضطر إلى استعماله اضطراراً وقال: (يجيز المجمع أن يستعمل بعض الألفاظ الأعجمية عند الضرورة على طريقة العرب في تعريبهم) اهـ. وهذا هو ما يسمى في علم اللغة الحديث بـ (الاقتراض) .

المبحث العاشر في ضوابط المواضعة على الاصطلاح

المبحث العاشر (1) في ضوابط المواضعة على الاصطلاح تقرر في مباحث العلوم المتعلقة بالألفاظ اللغوية أن أهم ظواهر اللغة تنقسم قسمين: الأول: الظواهر الصوتية. أي المتعلقة بالصوت. الثاني: الظواهر الدلالية. أي المتعلقة بدلالة الألفاظ. ومن الثاني المواضعات الاصطلاحية، وقد تقدم أنها باعتبار ألفاظها منقولة، وليعلم هنا أيضاً أنها باعتبار أحكامها معقولة. وفي خصوص الشرعيات منها يرى وضوح الدلالة الاصطلاحية وسهولتها وهذا من توفيق الله سبحانه تحقيقاً لحفظ الشريعة ويسرها. ويجد الناظر كذلك أن المعنى الواحد قد تتم المواضعة عليه باصطلاحين فأكثر، وهذا اختلاف صوري يدل على سعة لغة الضاد، وأنها كما قال بعضهم: إن لغة الضاد هي لغة التضاد بمعنى كثرة المترادف فيها وسبل الاشتقاق. ولهذا اشتهر قول بعضهم كما في تاج العروس 2 / 170 في مادة

_ (1) مجلة مجمع اللغة العربية 11 / 137 - 142، 148 - 150، 12 / 26 وكتاب: علم اللغة لعلي وافي ص: 265.

شحح (لا مشاحة في الاصطلاح) والمشاحة: الضِّنَّة، والنزاع. ويمكن تكييف ضوابط المواضعة الصناعية بأمرين هما: الأول: تنزيل المواضعات على مقاييس اللغة العربية وقواعدها لتحقيق سلامة المفردات، وصحة الدلالة، وباستقامة تأليف المركبات منها على وجه مقبول في لسان العرب ونسجها. الثاني: تنزيلها على مقاييس الشريعة وقواعدها حتى تثبت على قرارة اليقين منها. والله أعلم.

المبحث الحادي عشر في فوائد الاصطلاح العلمي

المبحث الحادي عشر في فوائد الاصطلاح العلمي لأهمية المصطلحات العلمية يمكن أن يقال: إن تاريخ العلوم تاريخ لمصطلحاتها، وأنه لا حياة لعلم بدونها، وعلمية الاصطلاح في العلوم كعلمية الاسم على المولود في إيضاح المقصود، وتحديد المفهوم. وقد علم أن مصطلحات كل علم توجد معه أو بعده بالضرورة، فيسعى العلماء حين وجود الشيء إلى تسميته فتتم على أساس من العلاقة بين اللغة والاصطلاح. فالمصطلحات إذاً ضرورة علمية، ووسيلة مهمة من وسائل التعليم ونقل المعلومات، وقد أصبحت لضرورتها تمثل جزءاً مهماً في المناهج العلمية، مساعدة على حسن الأداء، ودقة الدلالة وسرعة الاستحضار، وتقريب المسافة، وتوفير المجهود في الإلمام بالمتون. وفيها جمع أفكار المتعلمين على دلالات واضحة. وهي ملتقى للعلماء في تناقل أفكارهم ومداركهم. وعلى أساسها يقوم التأليف والنشر. وبالجملة فالاصطلاح عملة نافقة بواسطتها يبدأ التعليم، وينتشر العلم وتلتقي أفكار العلماء ويخطو التأليف والتدوين، وينتفع الخلف بمجهود من سلف. وإنه بقدر ما يتم من ثبات وحفاوة ودقة يكون توفر هذه المنافع وعلى النقيض عند كسر العملة، وكساد السكة، والله المستعان.

المبحث الثاني عشر اختلاف أهل الاصطلاح فيه وأسباب التحول عنه

المبحث الثاني عشر (1) اختلاف أهل الاصطلاح فيه وأسباب التحول عنه طبيعة أي علم من العلوم أو لغة من اللغات جريان الخلاف فيها، وقد اختلف أهل الاصطلاح في مصطلحاتهم، وما زال ينمو بنمو هذا الفن إلا أنه مهما بلغ فإنه قليل، ثم إن هذا القليل اختلافه اختلاف تنوع لا تضاد ثم قد يكون منه اختلاف من جهة التقسيم بالبسط أو الاختصار ومن أمثلة ذلك لدى الأصوليين، اختلافهم في مصطلح الدلالات فنجد الاختلاف بين المذهبين الحنفي والشافعي فيها: فالحنفية تُقَسِّمُها إلى دلالة لفظية، ودلالة غير لفظية وتوسعوا في التقسيم لكل منهما. فانقسمت دلالة اللفظ عندهم إلى: عبارة النص، وإشارة النص، ودلالة النص، واقتضاء النص. وهكذا. وأما الشافعية فالدلالة تنقسم إلى: منطوق، ومفهوم، والمنطوق إلى صريح، وغير صريح، والمفهوم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة وهكذا، أو في الفروع في ألقاب بحوثه ومسائله لدى الفقهاء مثلاً: عقد السَّلَم: سماه بعضهم عقد السلف.

_ (1) مجلة مجمع اللغة العربية 19 / 65 - 69 قضية اللغة في علم القانون لصبحي المحمصاني. والمجلة أيضاً 8 / 131 - 132: توحيد المصطلحات للشبيبي.

وعقد المضاربة: سمي عقد القراض. وعقد الإجارة: سمي عقد الكراء. وهكذا في تنوع الاختلاف في المصطلح الواحد، لكن هذا الاختلاف إما أن يكون مما سطر لدى الفقهاء بين مذهبين فأكثر، وقد يكون في المذهب نفسه. أو يكون اختلافه إقليمياً لعادة عرفية قولية أو فعلية. أو يكون تحت تأثير وطأة القوانين الوضعية في البلاد العربية الإسلامية. وقد أعمل هذا في بعض الرسائل الجامعية، والبحوث الطوعية، وفي سن القوانين والأنظمة في هذه البلدان. ولم تستطع التخلص من أوضارها إلا فيما ندر. أو يكون لمداخلة العجمة تحت وطأة السلطان الأعجمي كما هو الحال في الأنظمة المتأخرة في أخريات الدولة العثمانية حتى أصبح الدخيل على مصطلحات هذه البلاد يغالب الأصيل من لغتها العربية وحتى من لهجتها المحلية ولا يزال سريانها جارياً رغم محاولات الإصلاح بإحلال المصطلحات الأصلية محل المصطلحات الدخيلة إلى غير ذلك من أنواع الاختلاف سوء في تسمية المشروع نفسه، كتسميته بالقانون، أو المدونة أم المجلة، أم أسماء عناصره التي يتكون منها مثل: أحكام البيوع تسمى بالمعاملات، أو القانون المدني. أو الموجبات، أو مجلة الالتزامات أو في أسماء مفرداتها الفقهية وهي من الكثرة بمكان مثل حق الانتفاع، وحق الاستثمار والجنسية، والرعوية، والتابعية، وحافظة النفوس. إلى غير ذلك من أنواع الاختلاف. ومهما كانت جوانبه متعددة ومتنوعة فإنه بتنزيل المختلف فيه على اللغة

العربية بمقاييسها والشريعة بقواعدها يزول الاختلاف ويتوحد الاصطلاح وانظر المبحثين في (توحيد المصطلحات) و (العدوان على مصطلحات الشريعة) .

المبحث الثالث عشر في أن تغيير مصطلحات الشريعة من ضراوة المخالفين لها

المبحث الثالث عشر في أن تغيير مصطلحات الشريعة من ضراوة المخالفين لها قال الزبيدي في: تاج العروس 1 / 99 (من بَغُضَ اللسان العربي أداه بغضه إلى بغض القرآن وسنة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك كفر صراح، وهو الشقاء الباقي. نسأل الله العفو) . اهـ. إذاً فما يبغض لسان العرب إلا من يبغض جنسهم وعنصرهم وفي بغض جنسهم يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى في اقتضاء الصراط المستقيم (وقد حكي الإجماع على أن بغض جنس العرب كفر أو سبب يؤدي إلى الكفر) اهـ. وعليه فإن من ينابذ أسماء الشريعة ومصطلحاتها. مستبدلاً لها بمصطلحات وافدة من أمم الكفر والعدوان، فهو على خطر عظيم ولا يبرر صنيعه حسن نيته، فليتق الله أقوام خذلوا أمتهم: أمة القرآن، تحت شعارات زائفة من التطور والحضارة، والرقي، والتقدم، والمرونة، ومراعاة روح العصر، ومسايرة الركب، وأن هذه أسماء والأسماء لا تغير الحقائق، فهي قشور، والمقصود سلامة اللباب، إلى غير ذلك من شعارات التذويب، والتهالك، وما يزالون كذلك حتى يخرجون من اللباب كما خرجوا من القشور - على حد قولهم - نسأل الله العافية، وحسن العاقبة.

وإن هذا التغير في الظاهر والصورة والشكل هو عربون للفتنة في الحقيقة والمضمون. فعلى أهل الإسلام اليقظة والحذر. والسير على السَّنَنِ الأقوم، والمنهج الأرشد من هدي الشريعة ودلها في أمرها ونهيها، واعتبار مقاصدها، وليكونوا على حذر عظيم من مجارات أهل الأهواء والبدع، والوقوع في الفتن المرققة للدين والمنابذةِ لشريعة رب العالمين. وليعلموا أن للمخالفين ضراوة أشد من ضراوة السباع الكاسرة، وأنه يداخل أهل الإسلام أقوام ما هم منه دأبهم إدباب الفساد في جسم الإسلام النامي، ولا يحقرون من الوقيعة شيئاً. وأن من سَننهم جلب فاسد الاصطلاح والرمي به بين المسلمين، فيكسون الحق بلباس الباطل وهذا نصف الطريق، ثم ينخرون في الحقيقة بالتغيير، والتبديل والتحريف، والتأويل حتى تُضْحي قضايا الشرع من شرع منزل إلى شرع مبدل أو مؤول. وعليهم أن يفهموا جيداً أن العصمة بقدر ما هي في حقائق الشريعة فهي في ألفاظها ودوالِّها، ولهذا فإن العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى عقد الفائدة التاسعة من فوائد المفتي وإرشاداته في: " إعلام الموقعين " 4 / 170 - 172 إذا دعا المفتي إلى الاعتصام بلفظ الشارع ما أمكنه وأنا أسوقه بتمامه لنفاسته وهذا نصه: " الفائدة التاسعة: ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه؛ فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام، فهو حكم مضمون له الصواب، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان، وقول الفقيه المعين ليس كذلك، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على منهاجهم يتحرون ذلك غاية التحري، حتى خلفت من بعدهم خُلُوف رغِبوا عن النصوص،

واشتقوا لهم ألفاظاً غير ألفاظ النصوص، فأوجب ذلك هجر النصوص، ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص من الحكم والدليل وحسن البيان، فتولد من هجران ألفاظ النصوص والإقبال على الألفاظ الحادثة وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، فألفاظ النصوص عصمة وحجة بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب ولما كانت هي عهد (*) الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم أصَحَّ من علوم مَنْ بعدهم، وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ مَنْ بعدهم، ثم التابعون بالنسبة إلى مَنْ بعدهم كذلك، وهلم جرا، ولما استحكم هجران النصوص عند أَكثر أهل الأهواء والبِدَع كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض، وقد كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سئلوا عن مسألة يقولون: قال الله كذا، قال رسول الله كذا، أو فعل [رسول] الله كذا، ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلاً قط، فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور، فلما طال العهد وبَعُد الناس من نور النبوة صار هذا عيباً عند المتأخرين أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه قال الله، وقال رسول الله. أما أصول دينهم فصرحوا في كتبهم أن قول الله ورسوله لا يفيد اليقين في مسائل أصول الدين، وإنما يحتج بكلام الله ورسوله فيها الحشوية والمجسِّمة والمشبهة، وأما فروعهم فقنعوا بتقليد من اختصر لهم بعض المختصرات التي لا يذكر فيها نص عن الله ولا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن الإمام الذي زعموا أنهم قلدوه دينهم، بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به وينقلون به الحقوق ويبيحون به الفروج والدماء والأموال على قول ذلك المصنف، وأجلهم عند نفسه وزعيمُهم عند بني جنسه مَنْ يستحضر لفظ الكتاب، ويقول: هكذا قال، وهذا لفظه؛ فالحلال ما أحله ذلك الكتاب والحرام

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في "إعلام الموقعين" لابن القيم: [هي عصمة عهدة الصحابة]

ما حرمه، والواجب ما أوجبه، والباطل ما أبطله، والصحيح ما صححه. هذا، وأنى لنا بهؤلاء في مثل هذه الأزمان، فقد دفعنا إلى أمر تضج منه الحقوق إلى الله ضجيجاً، وتعج منه الفروج والأموال والدماء إلى ربها عجيجاً، تبدل فيه الأحكام ويقلب فيه الحلال بالحرام، ويجعل المعروف فيه أعلى مراتب المنكرات، والذي لم يشرعه الله ورسوله من أفضل القربات، الحقُّ فيه غريبٌ، وأغرب منه من يعرفه، وأغرب منهما من يدعو إليه وينصح به نفسَه والناس، قد فلق بهم فالق الإصباح صُبْحَه عن غياهب الظلمات وأبان طريقه المستقيم من بين تلك الطرق الجائرات، وأراه بعين قلبه ما كان عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه مع ما عليه أكثر الخلق من البدَع المضلات، رفع له علم الهداية فشمر إليه، ووضح له الصراط المستقيم فقام واستقام عليه، وطوبى له من وحيد على كثرة السكان، غريب على كثرة الجيران، بين أقوام رؤيتهم قذَى العيون، وشَجَى الحلوق، وكرب النفوس، وحُمَّى الأرواح وغم الصدور، ومرض القلوب، وإن أنصفتهم لم تقبل طبيعتهم الإنصاف، وإن طلبته منهم فأين الثريّا من يد الملتمس، قد انتكست قلوبهم، وعمي عليهم مطلوبهم، رَضُوا بالأماني، وابتلوا بالحظوظ، وحصلوا على الحرمان، وخاضوا بحار العلم لكن بالدعاوي الباطلة وشقائق الهذيان، ولا والله ما ابتلت من وَشَلِهِ أقدامهم، ولا زكت به عقولهم وأحلامهم، ولا ابيضت به لياليهم وأشرقت بنوره أيامهم، ولا ضحكت بالهدى والحق منه وجوه الدفاتر إذا بُلّت بمداده أقلامهم، أنْفَقُوا في غير شيء نفائس الأنفاس، واتبعوا أنفسهم وحيروا من خلفهم من الناس، ضيعوا الأصول، فحرموا الوصول، وأعرضوا عن الرسالة، فوقعوا في مَهَامه الحيرة وبيداء الضلالة. والمقصود أن العصمة مضمونة في ألفاظ النصوص ومعانيها في أتم

بيان وأحسن تفسير، ومَنْ رام إدراك الهدى ودين الحق من غير مِشْكَاتها فهو عليه عسير غير يسير ". ثم في مقابلة هؤلاء طائفة أخرى تسعى لتبديل الأحكام والحقائق الشرعية بجب الحقائق الفاسدة وتبريرها بالأسماء الشرعية ليسارع المسلمون إلى تقبلها، والوقوع في شركها كتسمية الربا (قرضاً) ، وتسميته (ضماناً) وتسميته (فائدة) ونحو ذلك. وهؤلاء لهم سلف في الماضين وقد حذر منهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكشف سوء فعلتهم بقوله عليه الصلاة والسلام " يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ". وفي بسط هذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في: " إعلام الموقعين 3 / 127 - 130 ". " وما مَثَلُ من وقف مع الظواهر والألفاظ ولم يُرَاعِ المقاصدَ والمعاني إلا كَمثَل رجل قيل له: لا تسلم على صاحب بِدْعةٍ، فَقبَّل يده ورجله ولم يسلم عليه، أو قيل له: اذهب فاملأ هذه الجرةَ، فذهب فملأها ثم تركها على الحوض وقال: لم تقل ايتني بها، وكمن قال لوكيله: بع هذه السلعة، فباعها بدرهم وهي تساوي مائة، ويلزم منْ وقف مع الظواهر أن يصحح هذا البيع ويلزم به الموكل، وإن نظر إلى المقاصد تناقض حيث ألقاها في غير موضع، وكمن أعطاه رجل ثوباً فقال: والله لا ألبسه لما [له] فيه من المنة، فباعه وأعطاه ثمنه فقبله، وكمن قال: والله لا أشرب هذا الشراب، فجعله عقيداً أو ثَرَدَ فيه خبزاً وأكله، ويلزم منْ وقف مع الظواهر والألفاظ أن لا يحد مَنْ فعل ذلك بالخمر، وقد أشار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أن من الأمة مَنْ يتناول المحرم ويسميه بغير اسمه فقال: " ليشربَنَّ ناسٌ من أمتي الخمر

يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير " رواه أحمد وأبو داود، وفي مسند الإِمام أحمد مرفوعاً: " يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها " وفيه عن عُبادة بن الصامت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يشرب ناسٌ من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه ". وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي أمامة يرفعه: " لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها " قال شيخنا رضي الله عنه: وقد جاء حديث آخر يوافق هذا مرفوعاً وموقوفاً من حديث ابن عباس: " يأتي على الناس زمانٌ يستحل فيه خمسة أسوياء بخمسة أشياء: يستحلون الخمر باسم يسمونها إياه والسحت بالهدية، والقتل بالرهبة، والزنا بالنكاح، والربا بالبيع) وهذا حق؛ فإن استحلال الربا باسم البيع ظاهر كالحيل الربوية التي صورتها صورة البيع وحقيقتها حقيقة الربا، ومعلوم أن الربا إنما حرم لحقيقته ومفسدته لا لصورته واسمه، فَهَبْ أن المرابي لم يسمه رباً وسماه بيعاً فذلك لا يخرج حقيقته وماهيته عن نفسها. وأما استحلال الخمر باسم آخر فكما استحلَّ من استحل المسكر من غير عصير العنب وقال: لا أسميه خمراً، وإنما هو نبيذ، وكما يستحلها طائفة من المُجَّان إذا مزجت ويقولون: خرجت عن اسم الخمر، كما يخرج الماء بمخالطة غيره له عن اسم الماء المطلق، وكما يستحلها من يستحلها إذا اتخذت عقيداً ويقول: هذه عقيد لا خمر، ومعلوم أن التحريم تابع للحقيقة والمفسدة لا للاسم والصورة، فإن إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة لا تزول بتبديل الأسماء والصورة عن ذلك، وهل هذا إلا من سوء الفهم وعدم الفقه عن الله ورسوله؟ وأما استحلال السحت

باسم الهدية - وهو أظهر من أن يذكر - كرشوة الحاكم والوالي وغيرها، فإن المرتشي ملعون هو والراشي، لما في ذلك من المفسدة، ومعلوم قطعاً أنهما لا يخرجان عن الحقيقة، وحقيقة الرشوة بمجرد اسم الهدية، وقد علمنا وعلم الله وملائكته ومن له اطلاع على الحيل أنها رِشْوَة. وأما استحلال القتل باسم الإرهاب الذي تسميه وُلاة الجور سياسة وهيبة وناموساً وحرمة للملك فهو أظهر من أن يذكر. وأما استحلال الزنا باسم النكاح فهو الزنا بالمرأة التي لا غَرَضَ له أن يقيم معها ولا أن تكون زوجته، وإنما غرضه أن يقضي منها وَطَرَه، أو يأخذ جُعْلاً على الفساد بها، ويتوصل إلى ذلك باسم النكاح وإظهار صورته، وقد علم الله ورسوله والملائكة والزوج والمرأة أنه محلل لا ناكح، وأنه ليس بزوج، وإنما هو تيس مستعار للضِّراب بمنزلة حمار العشريين. فيالله العجب! أي فرق في نفس الأمر بين الزنا وبين هذا؟ نعم هذا زنا بشهود من البشر، وذلك زنا بشهود من الكرام الكاتبين كما صرح به أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: لا يزالان زانيين وإن مكَثَا عشرين سنة إذا علم الله أنه إنما يريد أن يحللها، والمقصود أن هذا المحلل إذا قيل له: هذا زنا، قال: ليس بزنا، بل نكاح، كما أن المرابي إذا قيل له: هذا رباً، قال: بل هو بَيع، وكذلك كل من استحل محرماً بتغيير اسمه وصورته كمن يستحل الحشيشة باسم الراحة، ويستحل المعازف كالطنبور والعود والبربط باسم يسميها به، وكما يسمي بعضهم المغني بالحادي والمطرب والقوال، وكما يسمى الديوث بالمصلح والموفق والمحسن، ورأيت من يسجد لغير الله من الأحياء والأموات ويسمي ذلك وَضْعَ الرأس للشيخ، قال: ولا أقول هذا سجود، وهكذا الحيل سواء، فإن أصحابها يعمدون إلى الأحكام

فيعلقونها بمجرد اللفظ، ويزعمون أن الذي يستحلونه ليس بداخل في لفظ الشيء المحرم، مع القطع بأن معناه معنى الشيء المحرم، فإن الرجل إذا قال لمن له عليه ألف: اجعلها ألفاً ومائة إلى سنة بإدخال هذه الخرقة وإخراجها صورةً لا معنى، لم يكن فرق بين توسطها وعدمه، وكذلك إذا قال: مكنيني من نفسك أقْضِ منك وَطَراً يوماً أو ساعة بكذا وكذا، لم يكن فرق بين إدخال شاهدين في هذا أو عدم إدخالهما وقد تواطئا على قضاء وطر ساعة من زمان. ولو أوْجَبَ تبديلُ الأسماء والصور تبدلَ الأحكام والحقائق لفسدت الديانات، وبدلت الشرائع، واضمحل الإسلام، وأي شيء نَفَعَ المشركين تسميتهم أصنامَهم آلهةٌ وليس فيها شيء من صفات الإلهية وحقيقتها؟ وأي شيء نَفَعهم تسمية الإشراك بالله تقرباً إلى الله؟ وأي شيء نَفَع المعطلين لحقائق أسماء الله وصفاته تسميةُ ذلك تعظيماً واحتراماً؟ وأي شيء نفع نُفَاة القدر المخرجين لأشرف ما في مملكة الرب تعالى من طاعات أنبيائه ورسله وملائكته وعباده عن قدرته تسمية ذلك عدلاً؟ وأي شيء نَفَعهم نفيهم لصفات كماله تسمية ذلك توحيداً؟ وأي شيء نفع أعداء الرسل من الفلاسفة القائلين بأن الله لم يخلق السماوات والأرض في ستة أيام ولا يحيي الموتى ولا يبعث مَنْ في القبور ولا يعلم شيئاً من الموجودات ولا أرسل إلى الناس رسلاً يأمرونهم بطاعته تسمية ذلك حكمة؟ وأي شيء نفع أهل النفاق تسمية نفاقهم عقلاً معيشياً وقَدْحُهم في عقل من لم ينافق نفاقهم ويُدَاهن في دين الله؟ وأي شيء نفع المَكَسةَ تسمية ما يأخذونه ظلماً وعدواناً حقوقاً سلطانية وتسمية أوضاعهم الجائرة الظالمة المناقضة لشرع الله ودينه شرع الديوان؟ وأي شيء نفع أهل البدَعِ والضلال تسمية

شبههم الداحضة عند ربهم وعند أهل العلم والدين والإيمان عقليات وبراهين؟ وتسمية كثير من المتصوفة الخيالاتِ الفاسدةَ والشطحات حقائق؟ فهؤلاء كلهم حقيق أن يتلى عليهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} " انتهى والله أعلم.

المبحث الرابع عشر في العدوان على مصطلحات الشريعة

المبحث الرابع عشر في العدوان على مصطلحات الشريعة إن حفاوة الأمة والتزامها بمصطلحاتها عنوان لعزتها، ومفتاح لاستقلالها، وأداة بناءة في سبيل وحدتها وأصالتها، وحصانة لكيانها تقاوم عوامل الانحلال، والتفكك، والتحدي لكل وافد عليها في هذا المجال، من هجنة في اللسان، وإقراف في المعان، ومنابذة لشريعة الإسلام. وقد تكرر في التاريخ أكثر من مرة (1) : أن الأمة إذا ضعفت ودب فيها الوهن انطوت تحت سلطان الغالب ودانت له بالتبعية الماسخة منصهرة في قالبه وعاداته ابتغاء مرضاته، وهكذا قل في أمتنا اليوم فإنها لاستقبال كل

_ (1) كثر كلام المحدثين في مدى صحة هذا التعبير، وكقولهم: " زرتك أكثر من مرة ". وأجمع بحث رأيته هو مقال للشيخ العلامة عبد الرحمن تاج شيخ الأزهر رحمه الله تعالى بعنوان: " أكثر من واحد " في مجلة مجمع اللغة بمصر 28 / 16 - 22 بسط القول فيه، وأقام عليه أكثر من دليل، وأن هذا من أساليب القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس. فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث} الآية. ثم قال رحمه الله تعالى: (فإن قوله سبحانه فإن كانوا أكثر من ذلك: معناه الذي لا يصح خلافه هو: فإن كانوا أكثر من أخ واحد، أو أكثر من أخت واحدة ولا يجرؤ أحد أن يقول: إن معناه فإن كانوا أكثر من الاثنين الأخ والأخت معاً، وذلك أن كلمة " أو " في الآية هي للدلالة على أحد الشيئين، وليست للدلالة على الاثنين جميعاً) اهـ.

وافد أجنبي عنها أسرع إليه من قالة السوء إلى أهلها، بل تبدي التباهي وإظهار الفخار، وأن هذا من علائم التقدم والرقي ومن أسوء مظاهر التبعيات الماسخة في جو تلكم الأهواء الهادرة منابذة مصطلحات الشريعة، والإجهاز عليها بمصطلحات دخيلة مرفوضة لغة وشرعاً، وحساً ومعنى. وما علم المتهافتون عليها أن وأد مصطلحاتهم أقبح من وأد أمتعتهم وأموالهم. ولكن: وإذا الفساد عرا المزاج فإنه ... يجد الدواء لديه عين الداء وما ابتليت الأمة بشيء مثل ابتلائها بإهدار لغتها والزوال عن سننها والحيدة عن معانيها وفي مقدمتها مواضعاتها الشرعية، فاستبعدت أسماء الشريعة المطهرة، الواردة في التنزيل، وسنة النبي الكريم وعلى لسان صدور الأمة من الصحابة فمن بعدهم من أساطين العلماء ونجوم الهدى واستبدل بكل هذا لغة القانون المختلق المصنوع، وهي لغة إلى اللغو أقرب، بل يقصر عن وصف قصورها، وعجمتها، وسماجتها يراع كل بليغ: فبالله كيف تحولت تلك العقول من رفيع العزة والمكانة إلى حضيض الذلة والمهانة: أخذت بالحجة رأساً أزعراً ... وبالثنايا الواضحات الدردرا وفد أضحى من سوالب هذا العدوان غربة مصطلحات الشريعة في ديار الإسلام، واستحكام الانفصام بين المسلم وتراثه الأثيل. يقول أبو الأعلى المودودي في كتابه: تدوين الدستور الإسلامي ص / 9 - 10 في بيان أن غرابة المصطلحات الشرعية على أهل هذا العصر تُكوِّن عائقاً دون التدوين فقال تحت عنوان:

غرابة المصطلحات: (المشكلة الأولى جاءت من جهة اللغة، وبيان ذلك أن الناس عامةً في هذا الزمان، قليلاً ما يتفطنون لما ورد في القرآن وفي كتب الحديث والفقه من المصطلحات عن الأحكام، والمبادئ الدستورية، ذلك بأن نظام الإسلام السياسي قد تعطل فينا منذ أمدٍ غير يسير، فلا يكاد اليوم يسمع بتلك المصطلحات. ففي القرآن الكريم كثير من الكلمات نقرؤها كل يوم ولكن لا نكاد نعرف أنها من المصطلحات الدستورية، كالسلطان، والملك والحكم، والأمر، والولاية، فلا يدرك مغزى هذه الكلمات الدستوري الصحيح إلا قليل من الناس. ومن ثم نرى كثيراً من الرجال المثقفين يقضون عجباً ويسألوننا في حيرة إذا ذكرنا لهم الأحكام الدستورية في القرآن: أو في القرآن آية تتعلق بالدستور والواقع أنه لا داعي إلى العجب لحيرة مثل هؤلاء الأفراد، فإن القرآن ما نزلت فيه سورة سميت بالدستور ولا نزلت فيه آية بمصطلحات القرن العشرين) . اهـ. هذا في خصوص مصطلحات الشريعة في جانب واحد من جوانبها، وأما العدوان على جوانبها الأخرى خاصة في القضاء والإثبات وعلى المواضعات اللغوية وفي أسماء العلوم، والفنون الأخرى والصناعات، وأنواع التجارات.. فتضيق عليها دائرة الحصر، وتنتهي دونها أرقام الحاسبين. ومن مبلغ هذه التجاوزات والاعتداءات الأثيمة أن نفثة مولدة استشراقية تنال من الأمة فرداً فرداً في كل دار وفي كل قطر - سرت في عقولنا وتراثنا سريان الماء في العود حتى في علية الأمة من العلماء المفكرين، وهي ذلكم الاصطلاح الحادث (الجنس السامي) بدلاً من المواضعة الأصيلة

المحددة (الجنس العربي) . وهذا الاصطلاح (الجنس السامي) . لم يمض عليه من العمر سوى 200 عام تقريباً على لسان المستشرقين، منتزعين له من: سفر التكوين. فقالوا: (الشعوب السامية) وللغتها (اللغة السامية) . وقد سرى إلى الأمة بعد اختلاقه وهو لا يستند إلى علم أثيل ولا يلجأ فيه إلى ركن شديد. ولهذه المواضعة أبعادها الانتحارية لأخلاق الجنس العربي وعاداته ومقوماته، وأخيراً تسلط خفي على النبوة والرسالة وحكمة بعث الرسول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خصوص العرب لا من عمل الساميين وهي تسمية من حيث تاريخها مبنية أيضاً على المغالطة والمكابرة فقد ورد اسم العرب في: كتب اليونان والرومان، وأشعار العهد القديم قبل البعثة المحمدية بنحو من ألف ومائتي عام تقريباً. فهذه التسمية الحديثة الأعجمية الوافدة تحكم لا تمت إلى العلم والواقع بشيء. وهؤلاء وغيرهم يعلمون أن سام بن نوح (1) انحدر منه: العرب والروم،

_ (1) ههنا ضابط في النسب قيدته من تقرير شيخنا محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى حين قراءتي عليه في كتاب: القصد والأمم لابن عبد البر: عُرْفُ سامٍ وحامٌ سَبَقَا ... ويافثٌ صِيتٌ فكن محققاً فهذا يضبط ذرية ولد نوح فقوله: " عرف " العين للعرب، والراء للروم، والفاء للفرس، وهؤلاء ذرية سام بن نوح. وقوله: " سبقا " السين للسودان، والباء للبربر، والقاف للقبط. وهؤلاء ذرية: حام بن نوح. وقوله: " صيت " الصاد للصقالبة، والياء: يأجوج ومأجوج، والتاء للترك وهؤلاء ذرية يافث بن نوح.

والفرس، فهذه الأمم الثلاث هم الساميون فانظر إلى هذه التسمية (الجنس السامي) كيف يسوى فيها بين الماء والخشب، والتبر والتبن أيجعل الفرس كالعرب!! . فيقال إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأمة السامية، وأن القرآن نزل بلغة الساميين!! وأني لأدعو المسلمين بما دعا إليه الأستاذ محمد عزه دروزه في مقال له مهم نشر في مجلة الأزهر (لواء الإسلام) جلد 33 ص / 297 - 304 بعنوان (قولوا الجنس العربي لا السامي) : " وإني لأناشد علماءنا ومؤرخينا، وكتابنا أن يعيروا هذا الأمر عنايتهم، وأن يتبنوه، وأن يحلوا اسم الجنس العربي محل: اسم الساميين، في الإشارة إلى سكان جزيرة العرب ومن هاجر منها في القرون القديمة: فيساعدوا بذلك على توثيق الصلة بين تاريخ جنسنا القديم والحديث، وواقعنا الراهن بما هو الأولى والأصح ويحبطوا مكر الماكرين أعداء قومنا وبلادنا، ويبثوا في ناشئتنا على اختلافهم شعور الفخار بجنسهم العظيم الذي كان أول من حمل مشاعل الحضارة والهداية ثم ظل يحمل ليهتدي بها الناس في مشارق الأرض ومغاربها) . اهـ. وليس بعيداً عن هذا الاصطلاح الأثيم (الجنس السامي) ذلكم الزفير المتأجج من الدعوات القومية المفرقة من دعوتهم للمسلمين بالشعب. وهل الشعب إلا تشعب وفرقة، وتسميتهم لهم بالجمهور والمجتمع وما هو إلا تجمع يصدق على كل تجمع من أهل كل ملة ومن أي أمةٍ حتى من البهيم والبهائم وثالثة الأثافي (المواطن والمواطنون) فغاب أمام هذا (المسلمون، المؤمنون، المتقون) هو سماكم المسلمين من قبل، وفي هذا فهل من متيقظ للتخلص من هذا الحداء الذي لا يطرب الأمة بل يهينها ويضيع

ماهيتها وجوهرها؟ . وكم رأينا تلقيب جملة كبيرة من ديار الإسلام باسم (الشرق الأوسط) والمقصود به قاعدته منبع الرسالة لمحو علميتها عن الأسماع في إسلامها وعروبتها! إلى غير ذلك من الألقاب المضللة والمنتجة لعملية خصاء للذاكرة الإسلامية العربية. فيالله كم ضربوا بقرونهم صخرة العروبة والإسلام!! ألا إن هذا الغطاء الوافد على المصطلحات الإسلامية، يمثل في عدوانه على انتزاعها بذور الفلسفة والمنطق اليوناني في إفساد الفكر الإسلامي. وبذور الشعوبية البغيضة في مسخ العرب من مكانتهم، وبذور المذاهب المادية في الانقلاب على الدين وأنها هي البديل الحتمي، وبذور النزعات العرقية كالقومية العربية، والبعثية التي أغرقت في عصبيتها المنتنة. وقد انتهى بأكثرهم المطاف حتى خرجوا من العروبة والإسلام معاً. وما علم أولئك الأغمار أن هذا الضرب من العصبية قد أسقط النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رايته. وأنه الإسلام وحده. وهذا لا يعني إغفال شأن العرب والمحافظة على جنسهم، ونقاء نطفهم، وصفاء أنسابهم (فالعصبية ممقوتة والمحافظة مطلوبة) كما قرره الإمامان الحافظان ابن تيميه وابن حجر رحمهما الله تعالى في آخرين من أهل العلم، وإلى غير هذه البذور المهينة من بذور الحرب، والعداء، والإغارة، والتوهين الفكري في سلسلة متصلة ومتلاحقة يمسك بها الجزارون من طرف وذوو الفسالة (المنافقون) من طرف آخر. مستغلين مناخ الفرقة وانكسار الوحدة، وانفصام عرى العزة، بإدباب وميض نار الفتنة بين صفوف المسلمين من غير دخان، ودس كلمات تتفجر في عقل الأمة وفكرها من غير صوت. وكل جنود الإغارة هؤلاء ينزعون من قوس واحدة ويدقون على وتر واحد

هو القضاء على المسلمين بكل مقوماتهم. وبالجملة فهذه الظاهرة العدوانية، والحملة المسعورة تمثل شوكة في الظهر، ووصمة عار في الجبين، وثغرة ينال العدو ما كان يرجوه الغرب من التفات المسلمين إلى تغيير مجريات حياتهم على نحو ما هم عليه حقيقة وشكلاً، وبالتالي تفتيت الإسلام عن طريق تطويره محققاً غرضين له (1) : أحدهما: الانفصام بين المسلم وتراثه ليقطع تفكيره في شريعة الله. وإذا فقد المسلم قاعدته التي ينطلق منها أضحى محلاً قابلاً للأطماع، والتموجات الفكرية. ثانيهما: تفكيك الوحدة الإسلامية. وهل نشدان الوحدة اليوم وعلى هذه الحال إلا سعي وراء السراب؟؟ .

_ (1) الإسلام والحضارة العربية ص: 151.

المبحث الخامس عشر في ضرورة توحيد المصطلحات في الولايات الإسلامية

المبحث الخامس عشر (1) في ضرورة توحيد المصطلحات في الولايات الإسلامية يسعى بناة دار الإسلام إلى ترسيخ وحدة الأمة الإسلامية وبذل العوامل في سبيلها، وإنه لذلك ولقوة عوامل الاتصال بين العوالم الإسلامية وتعددها حتى أصبحت على اختلاف أقطارها وتباعد ديارها كالمدينة الواحدة: ينبغي بذل الخطى الجادة لتوحيد المصطلحات العلمية، وتداولها رسمياً ومدرسياً وتكثيف نشرها والدعوة إليها، وفي ذلك: شد لآصرة الوحدة الإسلامية. ودفع للبلبلة والالتباس. وإيناس لغربة الأبدان عند الارتحال بوحدة الأفكار واللسان في الاصطلاح. والحاكم في ذلك: لغة العرب، وقواعد الشريعة. وهذا التوحيد غير عسير في هذا العصر الذي تمهدت فيه من أسباب العلم ما لم يكن في غيره. ولنا في مجامع الفقه ومجامع لغة العرب: عظيم المأمول. ولكن بعد إرساء سلطان الحاكمية لشريعة الإسلام على كراسي القضاء بين العباد. أما إن عدم السعي لذلك فإنه نتيجة لمواطن الاختلاف في الاصطلاح يبقى عملة كاسدة غير متداولة وتتعرض للكساد من حين لآخر. وكم رأينا

_ (1) مجلة اللغة العربية بمصر 8 / 131 توحيد المصطلحات. لمحمد رضا الشبيبي، 11 / 157 - 162 توحيد المصطلحات العلمية في البلاد العربية لمصطفى الشهابي.

نتيجة لذلك مصطلحاً مات من حين استهل وليداً. وَحُمَادَى القول: إن الاصطلاح شعار للأمة فلا بد من توحيد شعارها تثبيتاً لقواعد وحدتها. وإنه يتعين السعي الحاث لذلك، والمصابرة في سبيله، وليعلم السالكون لهذه الجادة أنه سيصادفهم في الطريق كُدية (1) ، لكن التسلح بالتقوى يحيل تلكم الكدية بإذن الله كثيباً مهيلاً. ولنا بعد الله في ذوي العقول النيرة، والقرائح المتوقدة عظيم المأمول في تحقيق ذلك، وإخراجه من مراتع الأماني إلى تحقيق العزمات ولتجاوز الشكوى من البلوى إلى حمل لواء الإسلام والنزول به في ساحة الجلاد وبعثاً للإسلام في منهاجه المتكامل وتخلصاً من سقط المتاع العقلاني في كل ضروبه وأشكاله. ولاستنهاض ذوي الألباب يقول بشار معدود في الشعراء: إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمراً ثم نم وحتى لا نكون كما قال أبو تمام: من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولاً

_ (1) الكُدية: بالضم الأرض الصلبة، وفي مكة جبل مشهور باسم " كُدى " بضم الكاف. وآخر ممدود بفتح الكاف " كَداء ". وفي الهدي النبوي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل مكة من كَداء بالفتح، وخرج من طريق كُدى. بالضم، ولهذا أهل مكة يقولون: " ادخل وافتح واخرج وضم ".

المبحث السادس عشر في تقسيم التشريع إلى أصول وفروع

المبحث السادس عشر في تقسيم التشريع إلى أصول وفروع انتشر في كلام أهل العلم أن أحكام الشريعة منقسمة إلى أصول وفروع، ويقصدون بالأصول: ما يتعلق بالتوحيد وأمور الاعتقاد. وبالفروع: فقه أحكام أفعال العبيد، وشيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى كشف لنا في فتاويه 23 / 346 - 347 منشأ هذا التقسيم، وأنه من تَفَعُّلِ المعتزلة، ويقرر رحمه الله تعالى: أن الاعتقاد لموجب النصوص وما تمليه الشريعة في مساق واحد من حيث لزوم الاعتقاد، وداعي الامتثال، وأن التقسيم منقوض بعدم الحد الفاصل. وقد أنحى المقبلي في العلم الشامخ ص / 529 على من قال: الخلاف في الفروع سهل، وما جرى مجرى ذلك مما تجده منتشراً اليوم، بل تحول إلى مقولة هزيلة بحيث أوردوا قولهم (هذا قشور وذاك لباب) ويعنون بالقشور: المسائل الفقهية الدائرة في محيط الاستحباب أو الكراهة، ونحو ذلك من أمور التحسينات والحاجيات. ونجد ابن القيم رحمه الله تعالى في " الأعلام " 4 / يسوق العتاب على لسان السلف رحمهم الله تعالى، لسلف هؤلاء الذين إذا سُئل الواحد منهم عن حكم فقهي قال: هذا سهل، يقصد به تخفيف شأنه والله تعالى يقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} . وللإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا مبحث مطول مهم لم تر

العيون مثله (1) وذلك في " مختصر الصواعق المرسلة " 2 / 509 - 516 فيقول في مبحث حجية خبر الواحد ما نصه: (المقام الخامس: إن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها، ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها فما الفرق بين باب الطلب وباب الخبر بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة، فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلميات كما تحتج بها في الطلبيات العمليات، ولا سيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأنه شرع كذا وأوجبه ورضيه ديناً، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته، ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته.

_ (1) لطيفة بديعة عقدها الشيخ البنوري رحمه الله تعالى في كتابه: نفحة العنبر ص: 227 - 229 أن هذه اللفظة " لم تر العيون مثله " أول من قيلت فيه هو: عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله تعالى، قالها فيه أبو الفضل الفرات كما في: اجتماع الجيوش الإسلامية. ثم القشيري م سنة 465 هـ. ثم قيلت في حق الغزالي م سنة 505 هـ. ثم الموفق بن قدامة م سنة 682 هـ، قالها فيه ابن الحاجب المالكي، ثم ابن دقيق العيد سنة 702 هـ قالها فيه ابن سيد الناس، ثم شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى م سنة 728 هـ ثم المزي م سنة 742 هـ قالها فيه الذهبي، ثم الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى م سنة 852 هـ انتهى باختصار. وقالها الذهبي أيضاً في المعافي بن عمران م سنة 185 هـ كما في السير 9 / 80.

فأين سلف المفرقين بين البابين، نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه، بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ويحيلون على آراء المتكلمين، وقواعد المتكلفين، فهم الذين يعرف عنهم التفريق بين الأمرين، فإنهم قسموا الدين إلى مسائل علمية وعملية وسموها أصولاً وفروعاً وقالوا الحق في مسائل الأصول واحد، ومن خالفه فهو كافر أو فاسق. وأما مسائل الفروع فليس لله تعالى فيها حكم معين ولا يتصور فيها الخطأ وكل مجتهد مصيب لحكم الله تعالى الذي هو حكمه، وهذا التقسيم لو رجع إلى مجرد الاصطلاح لا يتميز به ما سموه أصولاً مما سموه فروعاً، فكيف وقد وضعوا عليه أحكاماً وضعوها بعقولهم وآرائهم (منها) التكفير بالخطأ في مسائل الأصول دون مسائل الفروع، وهذا من أبطل الباطل كما سنذكره (ومنها) إثبات الفروع بأخبار الآحاد دون الأصول وغير ذلك، وكل تقسيم لا يشهد له الكتاب والسنة وأصول الشرع بالاعتبار فهو تقسيم باطل يجب إلغاؤه. وهذا التقسيم أصل من أصول ضلال القوم فإنهم فرقوا بين ما سموه أصولاً وما سموه فروعاً، وسلبوا الفروع حكم الله المعين فيها، بل حكم الله فيها يختلف باختلاف آراء المجتهدين، وجعلوا ما سموه أصولاً من أخطأ فيه عندهم فهو كافر أو فاسق، وادعوا الإجماع على هذا التفريق، ولا يحفظ ما جعلوه إجماعاً عن إمام من أئمة المسلمين ولا عن أحد من الصحابة والتابعين، وهذا عادة أهل الكلام يحكون الإجماع على ما لم يقله أحد من أئمة المسلمين، بل أئمة الإسلام على خلافه، وقال الإمام

أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب، أما هذه دعوى الأصم وابن علية وأمثالها يريدون أن يبطلوا سنن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يدعونه من الإجماع. ومن المعلوم قطعاً بالنصوص وإجماع الصحابة والتابعين وهو الذي ذكره الأئمة الأربعة نصاً أن المجتهدين المتنازعين في الأحكام الشرعية ليسوا كلهم سواء، بل فيهم المصيب والمخطئ، فالكلام فيما سموه أصولاً وفيما سموه فروعاً، ينقسم إلى مطابق للحق في نفس الأمر وغير مطابق، كانقسام الاعتقاد في باب الخبر إلى مطابق وغير مطابق، فالقائل في الشيء حلال والقائل حرام في إصابة أحدهما وخطأ الآخر كالقائل إنه سبحانه يُرى، والقائل أنه لا يُرى في إصابة أحدهما وخطأ الآخر، والكذب على الله تعالى خطأ أو عمد في هذا كالكذب عليه عمداً أو خطأ في الآخر، فإن المخبر يخبر عن الله أنه أمر بكذا وأباحه، والآخر يخبر أنه نهى عنه وحرمه، فأحدهما مخطئ قطعاً. (فإن قيل) الفرق بينهما أنه يجوز أن يكون في نفس الأمر لا حلالاً ولا حراماً، بل هو حلال في حق من اعتقد حله، حرام في حق من اعتقد تحريمه. (قيل) هذا باطل من وجوه عديدة، وقد ذكرناها في كتاب المفتاح وغيره (منها) إنه خلاف نص القرآن والسنة وخلاف إجماع الصحابة وأئمة الإسلام (ومنها) أن يكون حكم الله تعالى تابعاً لآراء الرجال وظنونها. (ومنها) أن يكون الشيء الواحد حسناً قبيحاً مرضياً لله مسخوطاً له محبوباً له مبغوضاً. (ومنها) أنه ينفي حقيقة حكم الله في نفس الأمر. (ومنها) أن تكون الحقائق تبعاً للعقائد، فمن اعتقد بطلان الحكم المعين كان باطلاً، ومن اعتقد صحته كان صحيحاً، ومن اعتقد حله كان حلالاً، ومن اعتقد تحريمه كان

حراماً، وهذا القول كما قال فيه بعض العلماء: أوله سفسطة، وآخره زندقة، فإنه يتضمن بطلان حكم الله تعالى قبل وجود المجتهدين، وإن الله لم يشرع لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكماً أمره به ونهاه عنه. (ومنها) إن حكم الله يرجع إلى خبره وإرادته، فإذا أراد إيجاب الشيء وأخبر به صار واجباً، وإذا أراد تحريمه وأمر بذلك صار حراماً، فإنكار أن يكون لله حكم إنكار لخبره وإرادته وإلغاء لتعلقهما بأفعال المكلفين. (ومنها) إنه يرفع ثبوت الأجرين للمصيب، والأجر للمخطئ، فإنه لا خطأ في نفس الأمر عندهم، بل كل مجتهد مصيب لحكم الله تعالى في نفس الأمر. (ومنها) أنه يبطل أن يوافق أحد حكم الله تعالى، فليس لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى الملك " معنى، ولا لقوله: وإن سألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل فإنك لا تدري أتصيب حكم الله تعالى فيهم أم لا معنى، ولا لقوله: " إن سليمان سأل ربه حكماً يصادف حكمه فأعطاه إياه " معنى، ولا لقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} معنى، إذ كل منهما حكم بعين حكم الله تعالى عندهم، ولا لقوله: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " معنى. وأيضاً فهذا إجماع من الصحابة، قال الصديق في الكلالة: " أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله "، وقال عمر لكاتبه: " اكتب هذا ما رآه عمر، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر "، وقال في قضية قضاها: " والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأه "، ذكره أحمد. وقال علي لعمر في المرأة التي أرسل إليها فأجهضت ذا بطنها وقد

استشار عثمان وعبد الرحمن فقالا ليس عليك، إنما أنت مؤدب فقال له علي: إن كانا اجتهدا فقد أخطآ، وإن لم يجتهدا فقد غشاك: عليك الدية فرجع إلى رأيه، واعترف علي رضي الله عنه بخطئه في خبر صفين وندم على ذلك وكان مجتهداً فيه. وقال ابن مسعود في قصة بروع: " أقول فيها برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله "، وقال ابن عباس " أو لا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أبا الأب أباً، وقال: من شاء باهلته في العول "، وقالت عائشة لأم ولد زيد بن أرقم " أخبري زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أن يتوب "، وقال ابن عباس وقد ناظروه في مسألة متعة الحج واحتجوا عليه بأبي بكر وعمر: " أما تخشون أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقولون قال أبو بكر وعمر "، وكان ابن عمر يأمر بالتمتع فيقولون له إن أباك نهى عنه فقال: " أيهما أولى أن يتبع كتاب الله أو كلام عمر ". وقال عمران بن حصين " نزل بها القرآن وفعلناها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال رجل برأيه ما شاء "، يعرض بعمر، وقال ابن الزبير لابن عباس في متعة النساء " لئن فعلتها لأرجمنك فجرّب إن شئت ". وقال علي لابن عباس منكراً عليه إباحة الحمر الأهلية ومتعة النساء " أنك امرؤ تائه "، أي تهت عن القول الحق، وفسخ عمر بيع أمهات الأولاد وردهن حبالى من تستر، وفسخ حكم الصديق في استرقاق نساء أهل الردة وكان يضرب عن الركعتين بعد العصر وكان أبو طلحة وأبو أيوب وعائشة يصلونها، فتركها أبو طلحة وأبو أيوب مدة حياة عمر خوفاً منه، فلما مات عاوداها. وقال ابن مسعود لما طلب منه موافقة أبي موسى في مسألة بنت ابن

وأخت، فأعطى البنت النصف والأخت النصف: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، فجعل القول الآخر الذي جعله المصوبة صواباً عند الله ضلالاً، وهذا أكثر من أن يحيط به إلا الله تعالى. وأيضاً فالأحاديث والآيات الناهية عن الاختلاف في الدين المتضمنة لذمه كلها شهادة صريحة بأن الحق عند الله واحد، وما عداه فخطأ، ولو كانت تلك الأقوال كلها صواباً لم ينه الله ورسوله عن الصواب ولا ذمه. وأيضاً فقد أخبر الله تعالى أن الاختلاف ليس من عنده وما لم يكن من عنده فليس بالصواب، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} وهو وإن كان في اختلاف ألفاظه فهو يدل على أن ما اختلفت معانيه ليس من عند الله، إذ المعنى هو المقصود. وأيضاً فإذا اختلف المجتهدان فرأى أحدهما إباحة دم إنسان، والآخر تحريمه ورأى أحدهما تارك الصلاة كافرا مخلداً في النار، والآخر رآه مؤمناً من أهل الجنة، فلا يخلو إما أن يكون الكل حقاً وصواباً عند الله تعالى في نفس الأمر، أو الجميع خطأ عنده، أو الصواب والحق في واحد من القولين، والآخر خطأ، والأول والثاني ظاهر الإحالة وهما بالهوس أشبه منهما بالصواب، فكيف يكون إنسان واحد مؤمناً كافراً مخلداً في الجنة وفي النار. وكون المصيب واحداً هو الحق وهو منصوص الإمام أحمد ومالك والشافعي، كما حكاه أبو إسحاق في شرح اللمع له أن مذهب الشافعي أن المصيب واحد، وهذا قوله في القديم والجديد. قال القاضي أبو الطيب وليس عنده مسألة تدل على أن كل مجتهد مصيب، وأقوال الصحابة كلها صريحة أن الحق عند الله في واحد من الأقوال المختلفة وهو دين الله في نفس الأمر الذي لا دين له سواه.

وليس الغرض استقصاء هذه المسألة، بل المقصود أن الخطأ يقع فيما سموه فروعاً كما يقع فيما جعلوه أصولاً فنطالبهم بفرق صحيح بين ما يجوز إثباته بخبر الواحد من الدين وما لا يجوز، ولا يجدون إلى الفرق سبيلاً إلا بدعاوٍ باطلة، ثم نطالبهم بالفرق بين مسائل الأصول والفروع وما ضابط ذلك، ثم نطالبهم بالفرق بين ما يأثم أهو إثم كفر أو فسوق وما لا يأثم جاحده، ونطالبهم بالفرق بين ما المطلوب منه القطع اليقيني، وما يكتفي فيه بالظن ولا سبيل لهم إلى تقرير شيء من ذلك البتة. قال الجويني وقد تكلموا في الفرق بين الأصول والفروع فقالوا: الأصل ما فيه دليل قطعي والفرع بخلافه. قلت: وهذا يلزم منه الدور فإنه إذا قيل لا تثبت الأصول إلا بالدليل القطعي، ثم قيل والأصل ما عليه دليل قطعي كان ذلك دوراً ظاهراً. وأيضاً فإن كثيراً من المسائل العملية بل أكثرها عليها أدلة قطعية كوجوب الطهارة والصلاة والصيام والحج والزكاة ونقض الوضوء بالبول والغائط ووجوب الغسل بالاحتلام، وهكذا أكثر الشريعة أدلتها قطعية، وكثير من المسائل التي هي عندهم أصول أدلتها ظنية. وهكذا في أصول الدين وأصول الفقه أكثر من أن يذكر، كالقول بالمفهوم والقياس، وتقدمهما على العموم والأمر بعد الحظر ومسألة انقراض العصر، وقول الصحابي، والاحتجاج بالمراسيل وشرع من قبلنا، وأضعاف ذلك. وكذلك في أصول الدين كمسألة الحال وبقاء الرب تعالى وقدمه، هل هما ببقاء وقدم زائدين على الذات والوجود الواجب، هل هو نفس الماهية أو زائد عليها، وإثبات المعنى القائم بالنفس وغير ذلك، فعلى هذا الفرق

تكون هذه المسائل ونحوها فرعية وتلك المسائل العملية أصولية. (قال) وقيل: الأصل ما لا يجوز التعبد فيه إلا بأمر واحد معين والفرع بخلافه. (قلت) وهذا الفرق أفسد من الأول، فإن أكثر الفروع لا يجوز التعبد فيها إلا بالمشروع على لسان كل نبي، فلا يجوز التعبد بالسجود للأصنام وإباحة الفواحش وقتل النفوس والظلم في الأموال، وانتهاك الأعراض وشهادة الزور ونحو ذلك، وإن كان نفاة التحسين والتقبيح يجوزون التعبد بذلك، ويقولون يجوز أن تأتي الشرائع من عند الله تعالى بذلك، فقولهم من أبطل الباطل، وقد ذكرنا فساده من أكثر من ستين وجهاً في غير هذا الكتاب، وإنه مما يعلم بطلانه بالضرورة. (قال) وقيل: الأصل ما يجوز أن يعلم من غير تقديم ورود الشرع والفرع بخلافه، وهذا الفرق أيضاً في غاية الفساد، فإن أكثر المسائل التي يسمونها أصولاً لم تعلم إلا بعد ورود الشرع، كاقتضاء الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، وكون القياس حجة، بل أكثر مسائل أصول الدين لم تعلم إلا بالسمع، فجواز رؤية الرب تبارك وتعالى يوم القيامة واستواؤه على عرشه بخلاف مسألة علوه فوق المخلوقات بالذات فإنها فطرية ضرورية، وأكثر مسائل المعاد وتفصيله لا يعلم قبل ورود الشرع، ومسائل عذاب القبر ونعيمه وسجل الملكين وغير ذلك من مسائل الأصول التي لا تعلم قبل ورود الشرع. وقال القاضي أبو بكر بن الباقلاني: كل مسألة يحرم الخلاف فيها مع استقرار الشرع ويكون معتقد خلافها جاهلاً، فهي من الأصول، عقلية كانت أو شرعية، والفرع ما لا يحرم الخلاف فيه أو ما لا يأثم المخطئ

فيه، وهذا وأن كان أقرب مما قبله فهو باطل أيضاً، فإن كثيراً من مسائل الفروع قطعي وإن كان فيها خلاف، وإن كان لا يأثم المخطئ فيها لخفاء الدليل عليه وإن كان قطعياً فلا يلزم الاشتراك في القطعيات، وقد سلم القاضي ذلك فيما إذا خفي عليه النص. وقد ذكر بعضهم فرقاً آخر فقال الأصوليات هي المسائل العمليات، والفروعيات هي المسائل العملية المطلوب منها أمران: العلم والعمل، والمطلوب من العمليات العلم والعمل أيضاً، وهو حب القلب وبغضه وحبه للحق الذي دلت عليه وتضمنته، وبغضه الباطل الذي يخالفها، فليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع، فكل مسألة علمية فإنه يتبعها إيمان القلب وتصديقه وحبه وذلك عمل، بل هو أصل العمل، وهذا مما غفل عنه كثير من المتكلمين في مسائل الإيمان، حيث ظنوا أنه مجرد التصديق دون الأعمال، وهذا من أقبح الغلط وأعظمه، فإن كثيراً من الكفار كانوا جازمين بصدق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير شاكين فيه، غير أنه لم يقترن بذلك التصديق عمل القلب من حب ما جاء به والرضا به وإرادته والموالاة والمعاداة عليه. فلا تهمل هذا الموضع فإنه مهم جداً، به تعرف حقيقة الإيمان، فالمسائل العلمية عملية، والمسائل العملية علمية، فإن الشارع لم يكتف من المكلفين في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل. وفرّق آخرون بين الأصول والفروع بأن مسائل الأصول هي التي يكفر جاحدها، كالتوحيد والرسالة والمعاد وإثبات الصفات، ومسائل الفروع ما لا يكفر جاحدها، كوجوب قراءة الفاتحة في الصلاة واشتراط الطمأنينة

ووجوب مسح الرأس كله في الوضوء ونحو ذلك، وهذا الفرق غير مطرد ولا منعكس، فإن كثيراً من مسائل الفروع يكفر جاحدها، وكثير من مسائل الأصول لا يكفر جاحدها كما تقدم بيانه. وأيضاً فالتكفير حكم شرعي، فالكافر من كفره الله ورسوله، والكفر جحد ما علم أن الرسول جاء به، سواء كان من المسائل التي تسمونها علمية أو عملية، فمن جحد ما جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد معرفته بأنه جاء به فهو كافر في دق الدين وجله. وفرَّق آخرون بين الأصول والفروع بأن الأصول ما تتعلق بالخبر، والفروع ما تتعلق بالطلب، وهذا الفرق غير خارج عن الفروق المتقدمة، وهو فاسد أيضاً، فإن العبد مكلف بالتصديق بهذا وهذا، علماً وإيماناً وعملاً، وحباً ورضاً، وموالاة عليه ومعاداة كما تقدم. وفرَّق آخرون بينهما بأن مسائل الأصول هي ما لا يسوغ التقليد فيها، ومسائل الفروع يجوز التقليد فيها، وهذا مع أنه دور ممتنع فإنه يقال لهم: ما الذي يجوز فيه التقليد؟ فيقولون مسائل الفروع، والذي لا يجوز التقليد فيه مسائل الأصول، وهو أيضاً فاسد طرداً وعكساً، فإن كثيراً من مسائل الفروع لا يجوز التقليد فيها كوجوب الطهارة والصيام والصلاة والزكاة وتحريم الخمر والربا والفواحش والظلم، فإن من لم يعلم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء بذلك وشك فيه لم يعرف أنه رسول، كما أن من لم يعلم أنه جاء بالتوحيد وتصديق المرسلين وإثبات معاد الأبدان وإثبات الصفات والعلو والكلام، لم يعرف كونه مرسلاً فكثير من المسائل الخبرية والطلبية يجوز فيها التقليد للعاجز عن الاستدلال، كما أن كثيراً من المسائل العملية لا يجوز فيها التقليد.

فتقسيم الدين إلى ما يثبت بخبر الواحد وما لا يثبت به، تقسيم غير مطرد ولا منعكس ولا عليه دليل صحيح. اهـ.

المبحث السابع عشر في ذكر أمثلة لتغيير المصطلحات في الديار الإسلامية

المبحث السابع عشر في ذكر أمثلة لتغيير المصطلحات في الديار الإسلامية نتيجة لغياب الحكم بالإسلام عن سلطان الحاكمية في جل دياره ولقاء إقصاء القضاء الشرعي عن كراسي القضاء في جل أحكامه. وأثراً من آثار نفوذ الاستعمار الفكري إلى ديار الإسلام، ولغير ذلك من دواعي الفرقة والتفكك، وعوامل الانحلال والتفسخ، النافذة إلى أفئدة الأمة على مسارب التبعيات الماسخة للأمم الكافرة - تجسدت أمام المصلحين نازلة المواضعات الأثيمة على خلاف اللغة والشريعة. لان العلماء في لغة العرب شكر الله سعيهم قد بذلوا جهوداً مكثفة في القديم والحديث فأنشؤا سدوداً منيعة وحصوناً حصينة للغة القرآن عن عوادي الهجنة والدخيل، ويظهر ذلك في المجامع وهي كُثر، وفي كتب الملاحن وهي أكثر، فدب يراعهم وسالت سوابق أقلامهم وانتشرت سوابح أفكارهم في نقض الدخيل، ونفي المقرف والهجين فحمى الله سبحانه اللغة حماية لكتابه. وأما علماء الشريعة فلهم القِدح المعلى والمكان الأسنى فضموا إلى كفاح أولئك: فائق العناية في الاصطلاح الشرعي، ومتانة التقعيد والتأصيل، وعدم السماح لأي مصطلح دخيل بالدخول في اصطلاح التشريع، وإن كان في بعض المتأخرين من المعاصرين من خفض لها

الجناح، ونفخ في بوقها وأناخ. والله يغفر لنا ولهم. ومفردات هذا المبحث متكاثرة، فهي بحاجة إلى تتبع واستقراء، وترتيبها ترتيباً موضوعياً أو معجمياً، ومن ثم بيان منزلة كل مصطلح من لغة العرب ومن هدى الشريعة، فلعل الله أن يهيئ لهذا العمل الجليل من يخدمه ليُسْهِم عامله في صون الشريعة والذب عن سياجها، إسهاماً يشكره عليه الأولون والآخرون. وفي هذا المبحث قيدت عدة ألفاظ واصطلاحات هي لضرب المثال وليعلم المسلم إلى أي حد بلغ العدوان على لغة الشريعة فقلَّب العدوان لنا الأمور، وثلة أخرى من المسلمين نكثوا أيديهم مما عهد إليهم في دينهم وشريعة ربهم، وليأخذ طلاب العلم الحذر في عناوين رسائلهم ومؤلفاتهم وبحوثهم، والنابه من إذا ذكر تذكر، وإذا بصر استبصر، وحتى يقول لسان حال المسلم للعداء: أقول لمحرز لما التقينا ... تنكب لا يقطرك الزحام وما قيدته هنا هو في مواضع مختلفة، لكن يجمعها حضار الشريعة والتطهر من رجس المشابهة، وذلة المتابعة، فإلى الأخذ برأس القلم لسياقها: 1- الفقه المقارن: هذا اصطلاح حقوقي وافد يراد به مقارنة فقه شريعة رب الأرض والسماء بالفقه الوضعي المصنوع المختلق الموضوع من آراء البشر وأفكارهم.

وهو مع هذا لا يساعد عليه الوضع اللغوي للفظ " قارن " إذ المقارنة هي المصاحبة فليست على ما يريده منها الحقوقيون من أنها بمعنى " فاضل " التي تكون بمعنى وازن إذ الموازنة بين الأمرين الترجيح بينهما، أو بمعنى " وازن " لفظاً ومعنى. أو بمعنى " قايس " إذ المقايسة بين الأمرين التقدير بينهما. يقول الشاعر: عن المرء لا تسل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي وقد اشتق القدامى من مادة القَرَن " الاقتران " بمعنى الازدواج، فقالوا " اقترن فلان بفلانة " أي تزوجها، وسمي النكاح " القران " وزان الحِصان. وأصل ذلك في لغة العرب، أن العرب كانت تربط بين قرني الثورين بمسد تُسميه " قَرَنْ " على وزن بقر فسميا " قرنين " وسمى كل منهما قريناً للآخر. فلتهنأ الزوجة الراقية بلسان العصر من تسميتها " قرينة " فصاحبها ذلكم الثور! وعليه: فهذا الاصطلاح " الفقه المقارن " تنبغي منابذته وضعاً وشرعاً دفعاً للتوليد والمتابعة. انظر: مجلة اللغة العربية بمصر 1 / 138 - 169 مغامرات لغوية ص / 78 - 80 عبد الحق فاضل. المدخل للزرقا 2 / 955. أخطاء المنهج الغربي للجندي ص / 11 - 14. كتابي الحدود والتعزيرات ص / 11 - 14. 2- القانون: ليعلم أن هذه الكلمة " قانون " يونانية الأصل، وقيل فارسية، دخلت إلى العربية عن طريق السريانية، وكان معناها الأصلي " المسطرة " ثم أصبحت تعني " القاعدة الكلية " التي يتعرف منها أحكام جزئياتها. وهي

اليوم تستعمل في اللغات الأجنبية بمعنى " التشريع الكنسي " وهي في البلاد العربية تستعمل بمعنى " القاعدة " لكل شيء، ثم توسع في استعمالها في الاصطلاح القانوني بمعنى " جامع الأحكام القانونية " فهو عبارة عن مجموعة الأوامر والنواهي الواجب الالتزام بها في البلاد. والقوانين الوضعية متعددة بتعدد واضعها، ومنها ما هو قديم كقانون حمورابي، والقانون الروماني، ومنها ما هو حديث كالقانون الفرنسي والألماني، والبلجيكي، والإنجليزي، والأمريكي، والإيطالي، والسويسري.. وتسمى في اصطلاح المسلمين " القوانين الوضعية " تمييزاً للشريعة الإسلامية عنها إذ هي من عند الله تبارك وتعالى، أما القوانين فهي من وضع البشر واختلاقهم. وعليه فإن هذه اللفظة " قانون " وافدة على مصطلحاتنا، وقد انتزع بسببها " النص الشرعي " و " قول الله تعالى " وقول رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و " الشريعة " و" الشرع الإسلامي ". وانتشارها لدى بعض علماء المسلمين، وتسمية بعض مؤلفاتهم بها لا يبررها. وفي بحث للشيخ أبي شهبة رحمه الله تعالى بعنوان " فضل الشريعة الإسلامية على الشرائع السماوية السابقة، والقوانين الوضعية " قال فيها: (أما القوانين فهي من وضع البشر، ولفظ " القانون " أو " القوانين " عند الإطلاق ينصرف إليها، ولا يجوز أن يطلق عليها شرائع كما يفعل المسلمون، ورجال القانون اليوم في مؤلفاتهم ومحاضراتهم، وكذلك لا يجوز ولا ينبغي أن نطلق على التشريعات الإسلامية اسم " القوانين " مهما

كان من توافر حسن النية لما في هذا التعبير من اللبس والإبهام) . اهـ. انظر: مجلة مجمع اللغة العربية بمصر 19 / 67 - 68 وفلسفة التشريع في الإسلام للمحمصاني ص / 16 - 18 وتاج العروس للزبيدي 9 / 315، ولسان العرب 7 / 229، والقاموس 4 / 261، 269. وندوة محاضرات رابطة العالم الإسلامي لعام 1394 هـ ص / 17 - 32. وكتابي: التقنين والإلزام. 3- القانون المدني: أو: القانون التجاري. ويسمونه: أبا القوانين. ويعبر عن بعض أقسامه باسم: قانون الموجبات. مجلة الالتزامات. وهذا المركب بجزأيه " قانون مدني " لا مكان له في معاجم الشريعة، وقد رفع بوفادته اصطلاحها " كتاب البيوع ". وانظر: مجلة اللغة العربية بمصر 19 / 68. 4- قانون العقوبات: أو: قانون الجزاء. كما في العهد العثماني. أو: القانون الجنائي. كما في قوانين مصر القديمة. وأي من هذه المواضعات غريبة بجزئيها أو بفصل منها عن الاصطلاح الشرعي. فإن التراجم المعقودة لذلك في الشريعة على ما يلي: 1- كتاب الجنايات. 2- كتاب الجراح. ونحو ذلك مما تجده مبسوطاً في كتابي " الجناية على النفس وما

دونها ". وانظر: مجلة مجمع اللغة العربية 19 / 68. 5- إعدام المجرم: هذا من أساليب المحدثين في العقوبات الشرعية لقاء الجناية على النفس فيقولون: أعدم الجلاد المجرم. ويقول القاضي في حكمه: حكمت بعقوبة إعدام المجرم.. أي: قتله. والمسموع عن العرب: أعدم الرجل أي: افتقر، وأعدم فلاناً: منعه وأعدم الله فلاناً الشيء، جعله عادماً له. ولهذا فإن الوضع اللغوي لا يساعد على ذلكم الاصطلاح، إضافة إلى أنه أجنبي عن المواضعات المعهودة لدى الفقهاء نحو " القصاص من القاتل " " قتل المحارب " وهكذا. انظر: مجلة مجمع اللغة العربية بمصر 9 / 130: من ألفاظ الكتاب المحدثين لأحمد حسن الزيات. 6- الأحوال الشخصية: وهذا الاصطلاح يُعنى به أحكام النكاح والفرق وتوابعها. وقد اكتسب من الشيوع في العوالم كافة ما لم يكن لغيره. وله من المساوئ بقدر شيوعه. وقد ذكرتها في مقدمة كتاب: " الحدود والتقريرات " وبسطتها في كتاب " معجم المناهي ". وبالله التوفيق. 7- المحامي: كانت كلمة " أفوكاتو " في مصر تعني الوكيل في الخصومات، ثم استبدلها المجمعيون بلفظ " المدره " وهو في لغة العرب زعيم القوم المنافح

عن حقوقهم. ولكن لم يكتب لها الشيوع. ثم ماتت اللفظتان، وعاشت بعدهما كلمة " محامي " على إثر حلول القوانين الوضعية في الديار الإسلامية، ولن تجد لهذا اللفظ في فقه الشريعة أثراً، ولهذا فإن أحكام المحامين والمحاماة هي أحكام الوكالة والوكلاء. وعليه يعقد المحدثون والفقهاء " باب الوكالة " فلماذا نذهب بعيداً عن مواضعاتنا الشرعية، وفي مادة " حمى " من القاموس 4 / 322 (وحاميت عنه محاماةً وحماءً مَنَعْتُ عنه) اهـ. لكن لا تحس لها بأثر ولا إثارة في اصطلاح الفقهاء فإذا اعتمدنا هذا الاصطلاح أحيينا سنة الإبعاد عن فقه الشريعة ومصطلحاتها والله أعلم. مجلة مجمع اللغة بمصر 7 / 124. 8- نظرية الظروف الطارئة: تعني هذه النظرية إذا أبرم شخصان عقداً كعقد توريد، أو إجازة ثم حصل سبب قاهر لا يستطيع معه الوفاء بالتوريد، أو استغلال منفعة العين المؤجرة مثلاً، فهل هذا سبب يلغي لزوم هذا العقد تأسيساً على قواعد العدل، والإحسان، ونفي الضرر، أم يبقى ملزماً لأن العقد لازم شرعاً وقد وقع برضاهما؟ . ليعلم أن هذه المواضعة " الظروف الطارئة " اصطلاح كنسي وفرنسي في قضائهما الإداري دون المدني، وهي في اصطلاح القانون الدولي باسم " نظرية الظروف المتغيرة ". وفي القانون الإنكليزي باسم " نظرية استحالة تنفيذ الالتزام تحت ضغط الظروف الاقتصادية التي نشأت بسبب الحرب ". وفي القضاء الدستوري الأمريكي باسم " نظرية الحوادث المفاجئة ".

على أن هناك طرفاً مقابلاً من دول الغرب لم يأخذ بهذه النظرية، وهو الأكثر، وهذا الاصطلاح " الظروف الطارئة " لا وجود لمبناه في الفقه الشرعي لكن محتواه الدلالي موجود في الشريعة بصفة موسعة في عدة مظاهر هي على ما يلي: أولاً: قواعد نفي الضرر، ومنها: الضرر يزال. لا ضرر ولا ضرار. الضرورات تبيح المحظورات. الضرر الأشد يزال بالأخف. يدفع الضرر بقدر الإمكان، يحتمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام. وهكذا. ثانياً: في جملة كبيرة من الفروع الفقهية سواء كانت على سبيل رعاية مصالح المسلمين العامة كالتسعير، ونزع الملكية، ومنع الاحتكار، والحجر لاستصلاح الأديان والأبدان كالحجر على المفتي الماجن المتعالم، وعلى الطبيب الجاهل المتطبب، والمكاري المفلس، أو في سبيل رعاية مصلحة الفرد من المسلمين، كعقد الإجارة عند تعذر استيفاء المنفعة وذلك مثل الفَرَّان عد نزوح أهل المحلَّة، أو حدوث عيب في العين ونحو ذلك من الأسباب، والتي اتسع لها مذهب الحنفية أكثر من غيرهم. ثالثاً: وضع الجوائح: وهي ما تصيب الحبوب والثمار مما يتلفها أو يعيبها من برد أو نار ونحوهما للحديث الثابت في ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فهذه التطبيقات الفقهية سواء من باب التقعيد والتأصيل أم التفريع والتفصيل في غيرها في جملة من الفروع هي: أوسع شمولاً وأكثر إحاطة وأسبق حكماً من " نظرية الظروف الطارئة ". فالمواضعة على هذا الاصطلاح لدى المسلمين فيه منابذة للمصطلحات الشرعية التي يقف الناظر فيها على معانيها من غير عناء ولا تكلف، أما هذه المواضعة الوافدة ففيها سنة الإبعاد، والتبعية، وقطع فتية

المسلمين عن فقههم في شكله وحقيقته والله المستعان. 9- تكنولوجيا: أي (تِقْنِيَّة) على وزن (عِلْمِيَّة) وهي مصدر صناعي من (التَّقَنْ) بوزن (العَلَمْ) - والتقن: الرجل الذي يتقن عمله. وما شاع من نطقها بوزن كلمة (الأدبية) أو بوزن كلمة (التربية) فهو خطأ. مجلة المجمع العلمي العراقي الجزء الرابع المجلد / 33 لعام 1403 هـ. ص / 313. من ألفاظ الحضارة لمقرر المجمع محمد بهجت الأثري. 10- الأكاديمية: أي " المجمع العلمي " أو " الدراسات العليا " وقد عربها الكرملي بلفظ " المحفى " للمكان الذي يجتمع فيه الأحفياء، أو المتخصصون لكنها استثقلت فلم تنتشر. مجلة مجمع اللغة العربية بمصر 9 / 44. علم اللغة لوافي ص / 54. 11- الحرية: ونحوها " التسوية ". وهي في الشريعة (قواعد العدل والإِحسان) . انظر: الإسلام والحضارة الغربية ص / 29. 12- محبة الوطن: وهي (محبة الدين وحمايته) . الإسلام والحضارة الغربية ص / 29. 13- المجلس التشريعي: يراد به (أهل الحل والعقد) .

انظر: تدوين الدستور الإسلامي ص / 30 - 33. 14- المسؤولية التقصيرية: ويقابله في الشريعة " أحكام الضمان ". انظر: التعسف لسعيد الزهاوي ص / 256. 15- الإيتيمولوجيا: وهو: (علم أصول الكلمات) أي البحث في أصولها التي جاءت منها في لغة ما. تنبيه: لوجيا بمعنى (علم) وهي يونانية الأصل. انظر: مجلة مجمع اللغة بمصر 33 / 128. مغامرات لغوية لعبد الحق فضل ص / 203. علم اللغة لوافي ص / 10 - 11. 16- الستيليستيك: وهو (علم الأساليب) أي: أساليب اللغة واختلافها باختلاف فنونها من شعر ونثر. انظر: علم اللغة ص / 9 - 10، 15، 73 مهم. 17- علم الدياليسكتوجي: وهو: علم اللهجات. وموضوعه: دراسة الظواهر المتعلقة بانقسام اللغة إلى لهجات. وتفرع اللغات العامية من كل لهجة من لهجاتها. انظر: علم اللغة ص / 6.

18- علم الفونيتيك: وهو: علم الصوت. وموضوعه: الدلالة الصوتية للألفاظ. انظر: علم اللغة ص / 7، 33. 19- السيمنتيك: وهو: علم دلالة اللفظ. انظر: علم اللغة ص / 7، 33. 20- ليكسيكولوجيا: وهو: (علم المفردات) . انظر: علم اللغة ص / 7. 21- المورفولوجيا: وهو: (علم البنية) أي بنية الكلمة. انظر: علم اللغة ص / 7، 15، 71. 22- الفيلولوجيا: وهو: (علم آداب اللغة وتاريخها) . انظر: علم اللغة ص / 13 - 14. 23- الدياليكتولوجيا: وهو: (اللغة العامية) . علم اللغة ص / 66.

24- الجرامير: وهو: (قواعد اللغة) . علم اللغة ص / 9. 25- السوسيولوجيا: وهو: (علم الاجتماع) . علم اللغة ص / 27، 61. 26- السيكولوجيا: وهو: (علم النفس) . علم اللغة ص / 24، 26. 27- الفيزيولوجيا: وهو: (علم وظائف أعضاء الإنسان) . علم اللغة ص / 26، 32. 28- الأونوماستيك: وهو: (علم أصول الأعلام) أي: أعلام الأشخاص، والقبائل والأنهار. علم اللغة ص / 11. 29- البيولوجيا: وهو: (علم الحياة) . علم اللغة ص / 32.

30- الأنثروبولوجيا: وهو: (علم الإنسان) . علم اللغة ص / 32. 31- الجيولوجيا: وهو: (علم طبقات الأرض) أو (علم الأرض) . وأول من سمي ذلك بالجيولوجيا هو (دولوك) عام 1778 م. مجلة مجمع اللغة بمصر 14 / 166 - 172 بحث في كلمة: جيولوجيا. 32- بيداغوجيا: وهو: (علم التربية) . مجلة مجمع اللغة بمصر 33 / 128. 33- ديموغرافيا: وهو (علم السكان) . مجلة مجمع اللغة بمصر 33 / 128. 34- تيولوجيا: وهو: (علم تشكل الإنسان) . مجلة مجمع اللغة بمصر 33 / 128. 35- السنتكس: وهو: (علم تنظيم الكلمات) أي تقسيمها وأحوالها من تذكير وتأنيث ... .

ومن فصائله (علم النحو) من أبحاث (السنتكس التعليمي) لدى الفرنجة. علم اللغة ص / 8 - 9، 15. إلى غير ذلك من المواضعات الدخيلة مما نجد التنبيه عليها منتشراً في عدد من بحوث المعاصرين كقولهم (قاعة البحث) في مجلة مجمع اللغة العربية 1 / 106، 2 / 119، وقولهم (التعسف في استعمال الحق) وهذا الاصطلاح هو عين التعسف. وقولهم (البرلمان، ومجلس الشيوخ) كما في مجلة اللغة بمصر 1 / 114 - 119، 8 / 133، وقولهم (التأمين التعاوني) ونحوها مما أرجو أن يُهيء الله من يجمع هذه المصطلحات ويناقشها على ميزان اللغة والشرع. والله الموفق وصلَّى الله على نبينا محمد وسلم.

" 3 " خطاب الضمان حقيقته، وحكمه

خطاب الضمان

خطاب الضمان الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد: فإن من نوازل العصر وقضاياه جريان المعاملة بخطابات الضمان لدى البنوك الأهلية مع المستفيد شخص اعتباري أو طبيعي أو حُكْمِي وتجلية موقعها من الشريعة المطهرة يقتضي إعطاء التصور الكامل لطبيعة خطابات الضمان وخطواتها الإجرائية وأنواعها وما جرى مجرى ذلك من القوالب التي تسير عليها ثم تنزيل الفقه الشرعي عليها. فاقتضى الحال إدارة التقييد فيها في مبحثين: المبحث الأول: خطاب الضمان. تعريفه.. نوع الطرف المستفيد.. الغرض منه.. خطواته الإجرائية ... أنواعه. المبحث الثاني: الفقه الشرعي لخطاب الضمان. وبيان كل منها على ما يلي:

المبحث الأول خطاب الضمان

المبحث الأول خطاب الضمان (1) وفيه الفروع الآتية: 1- حقيقته: خطاب الضمان المصرفي: هو تعهد قطعي مقيد بزمن محدد غير قابل للرجوع يصدر من البنك بناء على طلب طرف آخر (عميل له) بدفع مبلغ معين لأمر جهة أخرى مستفيدة من هذا العميل لقاء قيام العميل بالدخول في مناقصة أو تنفيذ مشروع بأداء حسن ليكون استيفاء المستفيد من هذا التعهد (خطاب الضمان) متى تأخر أو قصر العميل في تنفيذ ما التزم به للمستفيد في مناقصة أو تنفيذ مشروع ونحوهما، ويرجع البنك بعد على العميل بما دفعه عنه للمستفيد. 2- أركانه: من هذا يتضح أن أركان خطاب الضمان أربعة وهي: 1- البنك: وهو الطرف (الضامن) . والضامن هو من التزم ما على غيره.

_ (1) صار الرجوع في هذا المبحث إلى مذكرة إيضاحية لمؤسسة النقد العربي السعودي موجهة لوزارة العدل برقم 4646 / م / 444 في 28 / 3 / 1404هـ، وكتاب المصارف لغريب الجمال، والبنك اللاربوي في الإسلام لمحمد باقر الصدر، الربا والمعاملات المصرفية للشيخ عمر المترك - رحمه الله تعالى -.

2- العميل: وهو الطرف (المضمون عنه) . 3- المستفيد: وهو الطرف (المضمون له) . وهو رب الحق الذي التزمه الضامن. 4- قيمة الضمان: وهو (المبلغ المضمون) . والمضمون به هو الحق الذي التزم الضامن. فإذا أطلق خطاب الضمان حوى هذه الأركان. 3- الشخص العميل (المضمون عنه) : يكون شخصية حكمية (اعتبارية) كالشركة أو المؤسسة ممثلة في (مديرها المسؤول) ، ويكون شخصاً طبيعياً. 4- المستفيد: (المضمون له) : عادة لا يكون إلا شخصية اعتبارية كمصلحة حكومية أو مؤسسة أو شركة معروفة ومن النادر أن يكون شخصاً طبيعياً. 5- أهدافه: لخطاب الضمان أهمية كبيرة في حماية المستفيد (المضمون له) حكومة أو شركة لضمان تنفيذ المشاريع أو تأمين المشتريات وفق شروطها ومواصفاتها وفي أوقاتها المحددة. ففيها توفير الضمان للمستفيد عن أي تقصير تنفيذي أو زمني من الطرف العميل إضافة إلى أن البنك لا يقبل في استقبال خطاب الضمان، وأن يكون طرفاً مع العميل لصالح المستفيد إلا إذا توفرت لديه القناعة بكفاءة العميل المالية والمعنوية. ففي هذا ضمان إضافي إلى سابقه أن لا يدخل في المشاريع والمناقصات إلا شخص قادر على الوفاء بما التزم به.

6- طريقة إصدار خطاب الضمان: يقدم طالب خطاب الضمان طلباً للبنك يحدد فيه مبلغ الضمان ومدته والجهة المستفيدة والغرض من الضمان، ويجب أن تكون لدى البنك قبل إصداره الضمان المذكور القناعة بأن كفاءة العميل المالية والمعنوية كفيلة بالوفاء بالتزامه فيما إذا طلب منه دفع قيمة الضمان أو تمديده، وإذا كان مبلغ الضمان كبيراً فإن البنك يطلب عادة تأمينات لقاء ذلك إما أن تكون رهناً عقارياً مسجلاً أو رهن أسهم في شركات بإيداع أوراق مالية لدى البنك يسهل تحويلها إلى نقد فيما لو طلب من البنك دفع قيمة مبلغ الكفالة مع خطاب من مودعها ما يتنازل عنها إذا اقتضى الأمر أو كفالة بنك خارجي معروف، وإضافة إلى كل ذلك فإن البنك يحتفظ عادة بتأمينات نقدية يودعها العميل بنسبة حوالي 25% من قيمة الضمان وقد تزيد هذه النسبة أو تقل تبعاً لمركز العميل المالي والمعنوي ولطبيعة المشروع الذي قدم الضمان من أجله، وبعد كل هذه الإجراءات يقوم البنك بإصدار الضمان. 7- أنواع خطابات الضمان: تجري المعاقدة عليها على أنواع: أولاً: خطاب الضمان الابتدائي: ويكون مقابل الدخول في مناقصات أو مشاريع ويكون مبلغ الضمان مساوياً لـ 1% من قيمة المناقصة أو أكثر، وساري المفعول لمدة معينة وعادة تكون لثلاثة أشهر، وهذا التعهد المصرفي (خطاب الضمان) يقدمه العميل للمستفيد من مصلحة حكومية أو غيرها. ليسوغ له الدخول في

المناقصة مثلاً فهو كتأمين ابتدائي يعطي المستفيد الاطمئنان على قدرة العميل على الدخول في المناقصة. ولا يسوغ إلغاء هذا الخطاب إلا بإعادته بصفة رسمية من الجهة المقدم إليها (المستفيد) . ثانياً: خطاب الضمان النهائي: وهذا يكون مقابل حسن التنفيذ وسلامة الأداء في العملية من مناقصة أو مشروع ونحو ذلك ويكون مبلغه بنسبة 5% من قيمة المشروع أو المناقصة وهو مغياً بمدة عام كامل مثلاً قابل للزيادة. وهذا التعهد البنكي (خطاب الضمان النهائي) يقدمه العميل للمستفيد من مصلحة حكومية أو غيرها ليستحق المستفيد الاستيفاء منه عند تخلف العميل عن الوفاء بما التزم به فهو كتأمين نهائي عند الحاجة إليه، ولا يكون إلغاؤه إلا بخطاب رسمي من الطرف المستفيد. ثالثاً: خطاب الضمان مقابل غطاء كامل لنفقات المشروع أو المناقصة: (أي مقابل سلفة يقدمها العميل إلى البنك على حساب المشروع مثلاً لصالح الطرف المستفيد والغاية منه كما في سابقه) ثانياً: - الخطاب النهائي -. رابعاً: خطاب الضمان: (ضمان المستندات) : وهناك نوع رابع من خطابات الضمان يقدمه المصرف لصالح شركات الشحن أو وكالات البواخر، في حالة وصول البضاعة المستوردة إلى الميناء المحدد وتأخر وصول مستندات الشحن الخاصة بالبضاعة إلى ذلك المصرف الذي جرى الاستيراد عن طريقه. فخشية من أن يلحق بالبضاعة

تلف من جراء تأخر بقائها في جمرك الميناء يكون الضمان المذكور تعهداً من المصرف بتسليم مستندات الشحن الخاصة بالبضاعة إلى وكلاء البواخر فور وصولها. واستناداً إلى هذا الضمان يتم فسح البضاعة للمستورد. ولإصدار مثل هذا الضمان يقدم العميل المستورد طلباً بذلك إلى المصرف ويسدد قيمة اعتماد الاستيراد بالكامل (وهي قيمة البضاعة المستوردة) ومن ثم يصدر المصرف خطاب الضمان ويسلمه إلى العميل فيقوم العميل بتسليمه إلى وكلاء الباخرة المعنيين. 8- مدى استفادة البنك من خطاب الضمان: هذا التعهد الذي ألزم البنك به نفسه مع العميل له بأن يدفع للطرف المستفيد من عميله المبلغ الصادر بموجبه خطاب الضمان ووفق ما فيه من شروط وإجراءات للبنك من وراء هذا مصلحة مادية وهي ما تسمى بالعمولة بمعنى أن البنك يستحق بالشرط على العميل نسبة مئوية معينة مقابل هذا التعهد وهذه الخدمة نحو 2% حسبما يتم الاتفاق عليه. (وبهذا ينتهي المبحث الأول الذي يعطي التصور الكامل لخطابات الضمان الجارية في المصارف مع عملائها أمام المستفيدين منهم) .

المبحث الثاني الفقه الشرعي لخطاب الضمان

المبحث الثاني الفقه الشرعي لخطاب الضمان قد علم بأصل الشرع جواز الضمان وهو: ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون في التزام الحقوق المستحقة، بمعنى التزام دين على آخر، وهو عقد إرفاق وإحسان جاء به الشرع مع ما فيه من توثيق للحقوق وحفظ لها. وخلاصة ما تقدم في المبحث الأول لطبيعة خطاب الضمان تنحصر في الفقرتين الأخيرتين منه وهما: 1- أنواعه. 2- عمولة البنك لقاءه. أما أنواعه الأربعة المتقدمة فلم يظهر في ماهيتها ما يخرج عن المنصوص عليه في أحكام الضمان شرعاً، وتوفر شروطه فالضامن البنك ممن يصح تبرعه، ولوجود رضى الضامن وكون الحق معلوماً حالاً أو مآلاً وأن أجله معلوم غير مجهول. سوى ما جاء في النوع الأول وهو خطاب الضمان الابتدائي. فإنه من باب ضمان ما سيجب وضمان ما لم يجب عقد معلق، وقد علم أن الضمان عقد التزام لازم فلا يعلق كغيره من العقود اللازمة، ولأن الضامن التزم ما لم يلزم الأصيل المضمون عنه وهو (العميل) بعد، لكن الجمهور من أهل العلم على جوازه وهو مذهب الأئمة الثلاثة - أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، والشافعي - في القديم والخلاف المذكور للشافعي في الجديد وما ذهب إليه الجمهور ألصق بأصول الشرع لا سيما

إباحة التعامل في الأصل ما لم يعتوره مانع من غرر ونحوه ولا يظهر في ضمان ما لم يجب بعد ما يمنع فيبقى على الأصل (1) . والله أعلم، ولهذا قال الحنابلة في تعريف الضمان: هو التزام ما وجب أو يجب على غيره مع بقائه عليه. أو: هو ضم الإنسان ذمته إلى ذمة غيره فيما يلزمه حالاً أو مآلاً (2) . وقالوا في ضمان ما يؤول إلى الوجوب (يصح الضمان بالحق الذي يؤول إلى الوجوب فيصح الضمان بما يثبت على فلان أو بما يقر به أو بما يخرج بعد الحساب عليه أو بما يداينه فلان) . أخذ العمولة عليه: أي أخذ (الأجرة) لا (الجعالة) فإن الجعالة: أن يجعل جائز التصرف شيئاً معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً أو مجهولاً من مدة معلومة أو مجهولة فلا يشترط العلم بالعمل ولا المدة ولا تعيين العامل للحاجة. فهي إذن: التزام مال في مقابلة عمل لا على وجه الإجارة فليس ما هنا مما هنالك إضافة إلى أن الجعالة: عقد جائز من الطرفين لكل من العاقدين فسخها بخلاف الإجارة فهي عقد لازم ابتداء. وإن كان وقع في عبارات بعضهم باسم الجعل على الضمان ففي هذا

_ (1) انظر: فتح القدير 5 / 402، حاشية ابن عابدين 5 / 301، الشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 333، وقوانين ابن جزي ص 353، روضة الطالبين للنووي 4 / 244، والغاية القصوى للبيضاوي 4 / 592، كشف المخدرات للبعلي ص 252، بداية المجتهد 2 / 298. (2) شرح منتهى الإرادات 2 / 108، 110.

تسامح في التعبير أو على سبيل النزول بمعنى: أنه إذا لم يجز الجعل فالإجارة من باب أولى، وإن كانت الجعالة في معنى الإجارة لكن الجعالة أوسع من باب الإجارة فالجعالة كما علمت في تعريفها فلا يشترط العلم بالعمل ولا المدة ويجوز فسخها من الطرفين بخلاف الإجارة فهي عقد على منفعة أو عين لازم من الطرفين لا يملك أحدهما فسخها. وعليه فإن جمهور أهل العلم على تقرير عدم الجواز لأخذ العوض على الضمان كما في مجمع الضمانات على مذهب الإمام أبي حنيفة للبغدادي ص / 282. والشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي 3 / 404. والشرح الصغير 3 / 242 والفروع لابن مفلح الحنبلي 4 / 207، وكشاف القناع 3 / 262. وغيرها مصرحة بالمنع وعدم الجواز، وجماع تعليلهم للمنع فيما يلي: 1- إنه يؤول إلى قرض جر نفعاً وجه ذلك: إنه في حال أداء الضامن للمضمون له يكون العوض مقابل هذا الدفع الذي هو بمثابة قرض في ذمة المضمون عنه. وفي خطاب الضمان: أقوى في بعض أحواله لأن المستفيد يستوفي عادة من البنك لا من العميل. 2- إن هذا العقد مبناه على الإرفاق والتوسعة والإحسان ففي أخذ العوض لقاءه دفع لمقصد الشارع منه. 3- إنه في بعض حالات الضمان يستوفي المضمون له من المضمون عنه فيكون أخذ الضامن للعوض بلا حق وهذا باطل، لأنه من أكل المال بالباطل. وفي خطاب الضمان الابتدائي أو المستندي مثلاً يستوفي المضمون له المستفيد من العميل لا من البنك.

وههنا تنبيهان: الأول: جرى في القواعد الفقهية قولهم: الأجر والضمان لا يجتمعان. وهذه القاعدة ليست مما نحن فيه من أحكام الضمان، لأن الضمان هنا يقصد به (ضمان المتلفات) . الثاني: جرى في القواعد الفقهية لهم قولهم: (ليس كل ما جاز فعله جاز إعطاء العوض عليه) بل فيه ما يجوز كالجعالة على رد الآبق. وما يمتنع كالعوض على الضمان واللهو المباح ونحو ذلك. كما جاء في فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية 30 / 215 - 216.

النتيجة مما تقدم تُعلم الحقيقتان الآتيتان: الأولى: إن خطاب الضمان من حيث الغطاء له من قبل العميل ثلاثة أحوال: 1- خطاب ضمان ليس له غطاء البتة: فهذا ينسحب عليه ما قرره جمهور العلماء من منع العوض على الضمان فهكذا في هذه الحالة من خطابات الضمان. 2- خطاب ضمان له غطاء كامل من العميل: فهذه الحالة والله أعلم لا يظهر في العوض عليها " أجرة المثل " ما يمنع في حق الضامن أو المضمون عنه، لأن هذا العوض (العمولة) مقابل الخدمات الإجرائية ففي حال دفع المصرف للمستفيد فهو من مال المضمون عنه، وفي حال عدم دفعه فهو مقابل حفظه لماله وخدماته لذلك. 3- خطاب ضمان قد صار الغطاء لنسبة منه: فهذه تنسحب عليها أحكام الحالتين قبلها فيجوز فيما قابل المغطى لا فيما لم يقابله - والله أعلم -. وأختم هذا المبحث برأي رشيد للعلامة الشيخ عمر بن عبد العزيز المترك في كتابه (الربا والمعاملات المصرفية) إذا قال - رحمه الله تعالى

وغفر له آمين - ص / 309: (والذي أرى أنه إذا كان الضمان مسبوقاً بتسليم جميع المبلغ المضمون للمصرف أو كان له غطاء كامل فلا يظهر في أخذ الجعالة عليه شيء، لأن العمولة التي يأخذها المصرف في هذه الحالة مقابل خدماته كالعمولة التي تؤخذ من قبله في عملية التحويل بالشيكات، لأن هذه العملية ليست مقابل عملية قرض ولا ما يؤول إلى قرض، لأن المصرف لا يدفع من ماله شيئاً، وإنما يدفع ما التزمه بموجب الضمان من مال المضمون عنه الموجود لديه، أما إذا كان خطاب الضمان غير مغطى فلا أرى جواز أخذ الجعالة عليه، لأن هذا الضمان قد يؤدي إلى قرض فيكون قرضاً جر فائدة، والربا أحق ما حميت مراتعه وسدت الطرائق المفضية إليه. لذا فإني أرى أن على طالب الضمان أن يضع لدى الجهة الضامنة له مبلغاً يساوي المبلغ المضمون وهذا إجراء متفق مع الأصول الائتمانية المتبعة في بعض المصارف حيث تطلب من العميل المضمون أن يحجز لديه مبلغاً مساوياً لقيمة خطاب الضمان، وهو ما يسمى بالغطاء الكامل يكون رهناً لكي يسدد منه فيما لو اضطر المصرف إلى تنفيذ التزامه ويفرج عنه عندما يتحرر المصرف من ضمانه. وفي هذا الإجراء من الفوائد مما لا يخفى منها: 1- عدم إفساح المجال لمن ليس لهم المقدرة على الوفاء بالتزاماتهم في الدخول في المناقصات والعطاءات. 2- إن فيه حداً من التعامل الجشع والتوسع في الأعمال بما ليس في استطاعة الإنسان القيام به مما يعود عليه بالضرر وتنعكس عليه آثاره السيئة

ذلك أن المناقص قد يقدم ضماناً مصرفياً بمبلغ ليس في استطاعته الوفاء به مما قد يضطره في النهاية إلى الخضوع لما تفرضه عليه المصارف من فوائد ربوية لقاء تسديده بمقتضى الضمان الذي التزمته) . اهـ. والله تعالى أعلم.

جهاز الإنعاش وعلامة الوفاة بين الأطباء والفقهاء

" 4 " جهاز الإنعاش وعلامة الوفاة بين الأطباء والفقهاء

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فهذا بحث في: نازلة الإنجاز الطبي الحديث في: حال المريض تحت جهاز الإنعاش وعلامات الوفاة بين الطب والفقه، ليس لي فيه فضل سوى الجمع والترتيب في مباحثه الخمسة وهي: المبحث الأول في: التصور لأجهزة الإنعاش. المبحث الثاني في: حقيقة الوفاة عند الأطباء، وعلاماتها. المبحث الثالث في: حقيقة الوفاة عند الفقهاء، وعلاماتها. المبحث الرابع في: حالات المريض تحت الإنعاش. المبحث الخامس في: التكييف الفقهي لهذه النازلة. وإلى بيانها والله الموفق.

المبحث الأول التصور لأجهزة الإنعاش

المبحث الأول التصور لأجهزة الإنعاش (1) أجهزة الإنعاش. أجهزة الإنعاش المعقدة. العناية المكثفة. العناية المركزة. إبقاء آلة الطبيب. كلها أسماء لمسمى واحد. ومن مفرداتها: جهاز التنفس الصناعي. جهاز مانع الذبذبات. جهاز التنظيم لضربات القلب. العقاقير. مجموعة الأطباء المدربة ومساعدوهم. حقيقة الإنعاش: إذا أصيب شخص بتوقف القلب أو التنفس نتيجة لإصابة الدماغ

_ (1) أجهزة الإنعاش للبار، ص: 4، 7. وكتاب: الحياة الإنسانية بداياتها ونهايتها، طبع المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية. المذكرة السعودية من وزارة الصحة في المملكة العربية السعودية، والتي تم إعدادها من عدد من الأطباء السعوديين.

بصدمة مثلاً، الذي به مركز التنفس، أو إصابته بأي عرض آخر كغرق أو خنق، أو مواد سامة، أو جلطة للقلب، أو اضطراب في النبض ... فإنه يترقب الأمل بإنعاش ما توقف من دقات قلبه أو تنفسه إذا أدخل في غرفة الإنعاش " العناية الطبية المكثفة " بوسائلها الحديثة كالمنفسة (جهاز التنفس) ونحوه.

المبحث الثاني علامة الموت عند الأطباء أو نازلة موت الدماغ

المبحث الثاني علامة الموت عند الأطباء أو نازلة موت الدماغ (1) وبحثها في الفقرات التالية: 1- تاريخها. 2- تكوين الدماغ. 3- المفهوم الطبي لموت الدماغ. 4- علامات موت الدماغ. وبيانها على ما يلي: 1- تاريخها: إن أول من نبه إلى موضوع موت الدماغ هو: المدرسة الفرنسية عام 1959 م فيما أسمته " مرحلة ما بعد الإغماء " ثم أعقبتها المدرسة الأمريكية عام 1968 م. وأخذت الأبحاث بعد تتسع وتنتشر مبينين عدة أبحاث وهي: تكوين الدماغ، ومفهوم موته، وعلاماته، والخلاف بين الأطباء في كون: موت الدماغ نهاية للحياة الإنسانية، إذ عقدت لهذا مؤتمرات وندوات ومنظمات.

_ (1) هذا المبحث مستخلص من: مبحث البار، ومن بحوث الأطباء في كتاب: الحياة الإنسانية.

2- تكوين الدماغ: يتكون الدماغ من أجزاء ثلاثة هي: المخ: وهو مركز التفكير، والذاكرة، والإحساس. المخيخ: ووظيفته توازن الجسم. جذع المخ: وهو المركز الأساس للتنفس والتحكم في القلب، والدورة الدموية. 3- مفهوم موت الدماغ: هو توقفه عن العمل تماماً وعدم قابليته للحياة. فإذا ما مات المخ أو: المخيخ من أجزاء الدماغ: أمكن للإنسان أن يحيا حياة غير عادية وهي: ما تسمى بالحياة النباتية. أما إذا مات " جذع الدماغ " فإن هذا هو الذي تصير به نهاية الحياة الإنسانية عند أكثر الأطباء على الصعيد الغربي. ويمكن حصر خلاف الأطباء في ذلك على رأيين: الأول: الاعتراف بموت جذع الدماغ: نهاية للحياة الإنسانية بدلاً من توقف القلب والدورة الدموية. الثاني: عدم الاعتراف بموت الدماغ: نهاية للحياة الإنسانية، فيكون الشخص محكوماً بموته على الرأي الأول دون الثاني. 4- علامات موت الدماغ " جذع المخ ": هي على ما يلي: أ - الإغماء الكامل.

ب - عدم الحركة. ج - عدم التنفس بعد إبعاد جهاز المنفسة. د - عدم وجود أي انفعالات منعكسة. هـ - عدم وجود أي نشاط كهربائي في رسم المخ بطريقة معروفة عند الأطباء. ويشير الطبيب أحمد شوقي إبراهيم إلى ظنية بعض هذه العلامات فيقول كما في كتاب الحياة الإنسانية ص / 376: (1- ما هي علامات موت المخ؟ ليس لدينا من العلم في ذلك إلا رسم المخ الكهربائي وهو قطعي في بعض الحالات، ولا يكون كذلك في بعض الحالات، كحالات التسمم بالأدوية المنومة مثلاً) . اهـ. وفيه أيضاً في مبحث فقهي للأستاذ / توفيق الواعي ص / 484 قال: (ركز القائلون بالموت إذا فقد المخ الحياة على فقدان الشعور. وهذا لا ينهض دليلاً على الموت وإلا كان المجنون والمغمى عليه والمشلول ميتاً، وهذا ما لم يقل به إنسان إلى اليوم) . اهـ.

المبحث الثالث في حقيقة الموت عند الفقهاء وعلاماته

المبحث الثالث في حقيقة الموت عند الفقهاء وعلاماته حقيقة الموت عند الفقهاء: الموت يراد به: الوفاة، المنية، المنون، الأجل، الحمام، السام، ونحوها كانقطاع الوتين، وانقطاع الأبهر. جميعها أسماء لمسمى واحد هو: مفارقة الروح البدن. وهذه هي حقيقة الوفاة عد الفقهاء وتكاد كلمتهم تتوارد على هذا، ولم يتم الوقوف على خلافه في كلامهم من أنه مفارقة الروح البدن، بل هو حقيقة شرعية لا يعلم فيها خلاف. والروح قال الله تعالى في شأنها: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} فأوقف العقل عند حده وأتي عن الروح بخبر لا يمكن نقضه، هذا على أحد التفسيرين للآية. ولهذا قال البعض لا يجوز الكلام في الروح، لأنه مما استأثر الله بعلمه كما في هذه الآية. والذي عليه الأكثرون الجواز فقالوا الروح جسم نوراني لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأخضر. قال الله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} وفي أخرى {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} . والنفخ لا يتحقق إلا في جسم لطيف كما في كتاب: أصول الدين للبزدوي ص / 222. وقد جاء حديث عظيم النفع جليل القدر وهو حديث: البراء بن عازب

رضي الله عنه الطويل المشهور بطوله في مسند أحمد رحمه الله تعالى، والذي جمع طرقه: الدارقطني في جزء مفرد، وبسط ابن القيم القول فيه سنداً ومتناً في كتاب " الروح ". قال البراء رضي الله عنه: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر إلى أن قال: ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شأن قبض روح المؤمن " فتخرج نفسه تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها ملك الموت ". الحديث. وأما الكافر فقال: " فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها " ... الحديث. وفي سورة الحاقة قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ} قال المفسرون: " الوتين: نياط القلب، أي لأهلكناه وهو: عرق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه، قاله ابن عباس وأكثر الناس ". اهـ من تفسير القرطبي 18 / 276 وذكر أقوالاً بمعناه. وفي باب مرض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووفاته من صحيح البخاري في كتاب المغازي 8 / 131. " قالت عائشة رضي الله عنها كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في مرضه الذي مات فيه: " يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم " اهـ. قال الحافظ ابن حجر في: الفتح 8 / 131: (قال أهل اللغة: الأبهر، عرق مستبطن بالظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه. وقال الخطابي: يقال أن القلب متصل به) . اهـ.

والأبهر في اصطلاح الطب الحديث باسم " الأورطي " وهو شريان يندفع منه الدم إلى الدماغ وبقية أعضاء الجسم كما في بحث: البار، ص / 8، وفي إحياء علم الدين للغزالي 4 / 493 نص مهم ترجمه بقوله: الباب السابع: في حقيقة الموت، وما يلقاه الميت في القبر إلى نفخة الصور، ثم قال: بيان حقيقة الموت: (اعلم أن للناس في حقيقة الموت ظنوناً كاذبة قد أخطئوا فيها - فذكرها وأبطلها ثم قال: وكل هذه ظنون فاسدة ومائلة عن الحق، بل الذي تشهد له طرق الاعتبار وتنطق به الآيات والأخبار أن الموت معناه: تغير حال فقط، وأن الروح باقية بعد مفارقة الجسد، إما معذبة وإما منعمة. ومعنى مفارقتها للجسد: انقطاع تصرفها عنه بخروج الجسد من طاعتها فإن الأعضاء آلات للروح تستعملها حتى إنها لتبطش باليد.. إلى قوله: والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها، وكل الأعضاء آلات والروح مستعملة لها - إلى أن قال: نعم لا يمكن كشف الغطاء عن كنه حقيقة الموت من لا يعرف الحياة) . اهـ. وعند قول الطحاوي في عقيدته ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين (قال شارحها ص / 446 في مبحث: هل تموت الروح أو لا؟) والصواب أن يقال: (موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها..) . اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية 4 / 223: (قد استفاضت الأحاديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الأرواح تقبض وتنعم وتعذب، ويقال لها اخرجي أيتها

الروح الطيبة) . اهـ. الخلاصة: فمن مجموع ما تقدم نستخلص ما يلي: 1- إن حقيقة الوفاة هي: مفارقة الروح البدن. 2- وأن حقيقة المفارقة: خلوص الأعضاء كلها عن الروح، بحيث لا يبقى جهاز من أجهزة البدن فيه صفة حياتية.

أمارات الوفاة عند الفقهاء ثبت في صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الروح إذا قبض أتبعه البصر ". وفي حديث شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيراً فإنه يؤمن على ما يقول أهل الميت " رواه أحمد. فشخوص بصر المحتضر علامة ظاهرة على قبض روحه ومفارقتها لجسده. والفقهاء رحمهم الله تعالى يذكرون العلامات والأمارات الظاهرة التي بموجبها يحكم بموت المحتضر كما في حاشية ابن عابدين 1 / 189، والفتاوى الهندية 1 / 154، ومختصر خليل 1 / 37، وروضة الطالبين 2 / 98، وشرح المنهاج 1 / 322، والمغني 2 / 452، ومنتهى الإرادات 1 / 323. وجماع ما ذكروه من العلامات هي (1) : 1- انقطاع النفس. 2- استرخاء القدمين مع عدم انتصابهما. 3- انفصال الكفين. 4- ميل الأنف.

_ (1) وانظر بحوثاً في كتاب: الحياة الإنسانية ص / 430، 475 - 476.

5- امتداد جلدة الوجه. 6- انخساف الصدغين. 7- تقلص خصيتيه إلى فوق مع تدلي الجلدة. 8- برودة البدن. وبالجملة فالحكم بالموت بانعدام جميع أمارات الحياة. والملحوظ في هذه الأمارات أنها أدلة وظواهر تدرك بالمشاهدة والحس ويشترك في معرفتها عموم الناس. تنبيه: ويضيف النووي في روضة الطالبين عن الرافعي 2 / 98 نصاً مهماً عند الشك فيقول: (فإن شك بأن لا يكون به علة، واحتمل أن يكون به سكتة، أو ظهرت أمارات فزع أو غيره، أخر إلى اليقين بتغير الرائحة أو غيره) . اهـ. الخلاصة الجامعة للأبحاث المتقدمة: 1- إن أجهزة الإنعاش: إنجاز طبي مهم في حياة الإنسان. 2- إن حقيقة الموت عند الفقهاء هي: مفارقة الروح البدن. 3- إن علامة الموت عند الأطباء هي: موت جذع الدماغ بتعطل جميع وظائفه وأخذه في التحلل، لا موت الدماغ كما هو رأي لبعضهم. 4- إن علامة الموت عند الفقهاء: توقف القلب والتنفس توقفا تاماً لا رجعة فيه. وهي كذلك عند الأطباء فيما لا يدخل تحت جهاز الإنعاش. 5- إن لهذه العلامات عند الفقهاء وعند الأطباء أمارات، وأن هذه من الجائز تخلفها عند الفقهاء وعند الأطباء.

واعلم أن الأطباء مع الفقهاء في الحكم على عامة الوفيات بالوفاة بمفارقة الروح البدن فالتقت الحقيقة الطبية مع الحقيقة الشرعية. والبحث لدى الأطباء بالحكم بنهاية الحياة الإنسانية بموت " جذع الدماغ " هو في الحالات التي تدخل تحت جهاز الإنعاش، لهذا فإن البحث يعني في حدود حالات ضيقة وهي: ما يدخل تحت جهاز الإنعاش " لا غير، فإلى بيانها:

المبحث الرابع حالات المريض تحت جهاز الإنعاش

المبحث الرابع حالات المريض تحت جهاز الإنعاش (1) قرر الباحثون من الأطباء والعلماء حصر أحوال المريض في غرفة الإنعاش في صور ثلاث: الصورة الأولى: عودة أجهزة المريض من التنفس، وانتظام ضربات القلب و ... إلى حالتها الطبيعية. وحينئذٍ يقرر الطبيب رفع الجهاز لتحقق السلامة وزوال الخطر. الصورة الثانية: التوقف التام للقلب والتنفس، وعدم القابلية لآلة الطبيب. وحينئذٍ يقرر الطبيب موت المريض تماماً بموت أجهزته من الدماغ والقلب، ومفارقة الحياة لهما. فحينئذٍ يقرر الطبيب رفع الجهاز لتحقق الوفاة. الصورة الثالثة: فيها قيام علامات موت الدماغ من الإغماء وعدم الحركة وعدم أي نشاط كهربائي في رسم المخ بآلة الطبيب، لكن بواسطة العناية المركزة وقيام أجهزتها عليه كجهاز التنفس، وجهاز ذبذبات القلب و ... لا يزال القلب ينبض، والنفس مستمر نبضاً وتنفساً صناعيين لا حقيقيين.

_ (1) البار، كتاب الحياة الإنسانية.

وحينئذٍ: يقرر الطبيب موت المريض بموت جذع الدماغ مركز الإمداد للقلب، وقرر أنه بمجرد رفع الآلة عن المريض يتوقف القلب والنفس تماماً.

المبحث الخامس التكييف الفقهي لهذه النازلة

المبحث الخامس التكييف الفقهي لهذه النازلة أما في الصورتين الأولى والثانية فلا ينبغي الخلاف برفع جهاز الإنعاش لسلامة المريض في الأولى، وتحقق موته في الثانية. وأما في الصورة الثالثة: فهي محل البحث والنظر في هذه النازلة وعليها ترد الأسئلة الثلاثة الآتية: 1- ما حكم رفع جهاز الإنعاش؟ 2- ما حكم نزع عضو منه كالقلب ونحوه - وهو تحت الإنعاش - لحي آخر؟ 3- هل تنسحب عليه أحكام الميت من التوارث وغيره. في هذه الصورة التي تحقق فيها موت جذع الدماغ، وقيام نبضات القلب والتنفس بقوة الأجهزة الآلية؟ هذه هي الأسئلة الثلاثة الواردة حالاً على هذه النازلة. ويعد التصور الطبي لها مستخلصاً من كلام الأطباء الباحثين لها، فإن التكييف الفقهي ببيان الحكم التكليفي لهذه الأسئلة الثلاثة هو فرع عن بيان الحكم الشرعي لحقيقة الوفاة عند الأطباء " موت جذع الدماغ " هل هذه الحقيقة مسلمة شرعاً أم لا؟ . وعليه: فبما أن هذه الحقيقة محل خلاف بين الأطباء، وأن علاماتها

أو جلها ظنية ولم تكتسب اليقين بعد، وأن قاعدة الشرع: أن اليقين لا يزول بالشك، ونظراً لوجود عدة وقائع يقرر قيها موت الدماغ، ثم تستمر الحياة كما في ص / 447، 453 من كتاب الحياة الإنسانية، وص / ... من بحث: البار، وأن الشرع يتطلع لإحياء النفوس وإنقاذها وأن أحكامه: لا تبنى على الشك، وأن الشرع يحافظ على البنية الإنسانية بجميع مقوماتها ومن أصوله المطهرة المحافظة على: الضروريات الخمس ومنها " المحافظة على النفس " ولهذا أطبق علماء الشرع على حرمة الجنين من حين نفخ الروح فيه. وبما أن الأصل في الإنسان الحياة والاستصحاب من مصادر الشرع التبعية إذ جاءت بمراعاته ما لم يقم دليل قاطع على خلافه ولهذا قالوا في التقعيد الأصل بقاء ما كان على ما هو عليه حتى يجزم بزواله. لهذه التسببات فإنه لا يظهر أن موت الدماغ في هذه الصورة الثالثة هو حقيقة الوفاة فتنسحب عليه أحكام الأموات، ولكن ليس ثمة ما يمنع من كون هذا الاكتشاف الطبي الباهر علامة وأمارة على الوفاة، ولهذا قال الأستاذ الشربيني في بحثه من كتاب: " الحياة الإنسانية ": (وقد أوضح بعض الباحثين أننا لسنا بصدد مفهومين للموت: أحدهما توقف الدماغ، والآخر توقف القلب والتنفس، بل هما مجموعتان من الأدلة والظواهر تنتهيان إلى نهاية واحدة هي محل الاعتبار وهي: موت جذع الدماغ في كل الأحوال، إذ أن ذلك هو ما يحدث أيضاً عند التوقف النهائي للقلب والتنفس خلال دقائق إن لم تكن ثوان) . اهـ. فكما لا يسوغ إعلان الوفاة بمجرد سكوت القلب كما حرره الرافعي في نقل النووي عنه المتقدم؛ لوجود الشك فكذلك لا يسوغ إعلان الوفاة

بموت الدماغ مع نبض القلب وتردد التنفس تحت الآلات. وكما أن مجرد توقف القلب ليس حقيقة للوفاة، بل هو من علاماته إذ من الجائز جداً توقف القلب ثم تعود الحياة بواسطة الإنعاش أو بدون بذل أي سبب، ومن هنا ندرك معنى ما ألف فيه بعض علماء الإسلام باسم: " من عاش بعد الموت " لابن أبي الدنيا وهو مطبوع. وما يذكره العلماء عرضاً في بعض التراجم من أن فلاناً عاش بعد الموت أو تكلم بعد الموت. وكذلك يقال أيضاً: إن موت الدماغ علامة وأمارة على الوفاة وليس هو كل الوفاة بدليل وجود حالات ووقائع متعددة يقرر الأطباء فيها موت الدماغ ثم يحيا ذلك الإنسان، فيعود الأمر إذاً إلى ما قرره العلماء الفقهاء من أن حقيقة الوفاة هي: مفارقة الروح البدن. وحينئذٍ تأتي كلمة الغزالي المهمة في معرفة ذلك فيقول: (باستعصاء الأعضاء على الروح) . أي: حتى لا يبقى جزء في الإنسان مشتبكة به الروح والله تعالى أعلم، وأن علامات الوفاة عند الأطباء والفقهاء كما تقدم ليس فيها نص شرعي لا يجوز تعديه، بل إذا ثبتت الحقيقة الطبية صار قبولها والحالة هذه. وبناء على تحرر هذه النتيجة يمكننا الوصول إلى الجواب فقهاً للأسئلة الثلاثة فيقال: إن رفع آلة الإنعاش في الصورة الثالثة هي: عن عضو ما زالت فيه حياة فجائز أن يحيا، وجائز أن يموت، وعلى كلا الحالين استواء الطرفين أو ترجح أحدهما على الآخر: 1- فإذا قرر الطبيب المختص المتجرد من أي غرض أن الشخص

ميؤس منه: جاز رفع آلة الطبيب لأنه لا يوقف علاجاً يرجى منه شفاء المريض، وإنما يوقف إجراء لا طائل من وراءه في شخص محتضر، بل يتوجه أنه لا ينبغي إبقاء آلة الطبيب والحالة هذه، لأنه يطيل عليه ما يؤلمه من حالة النزع والاحتضار. لكن لا يحكم بالوفاة التي ترتب عليها الأحكام الشرعية كالتوارث ونحوه، أو نزع عضو منه - بمجرد رفع الآلة، بل بيقين مفارقة الروح البدن عن جميع الأعضاء، والحكم في هذه الحالة من باب تبعض الأحكام وله نظائر في الشرع كثيرة. 2- أما إذا قرر الطبيب أن الشخص غير ميؤس منه أو استوى لديه الأمران، فالذي يتجه عدم رفع الآلة حتى يصل إلى حد اليأس أو يترقى إلى السلامة. وهذا إنما أذكره بحثاً والنازلة كما ترى بحاجة إلى مزيد من البحث والدرس، بعد استقرار الاكتشاف الطبي لموت الدماغ وأنه نهاية الحياة الإنسانية إذ يوجد عدد من دول العالم لم تعترف طبياً بهذه النتيجة من أن موت الدماغ " جذع الدماغ " نهاية الحياة الإنسانية. وأما موضوع التشريح للمسلم أو نزع عضو منه سواء لجثته بعد وفاته أم في هذه الصورة الثالثة فأنا متوقف فيه من أصله وسأفرد لها بحثاً بإذن الله تعالى. والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. تنبيه: وبعد هذا رأيت في: صحيفة الشرق الأوسط العدد 2932 في 4 / 7 / 1407 هـ ما نصه:

حقيقة خطيرة يكشفها خبراء بريطانيون إنهم يستأصلون القلوب والأكباد من الأحياء؟ ضحايا الحوادث الذين تستأصل قلوبهم وهي تنبض لزرعها في صدور آخرين لا يكونون قد ماتوا بالفعل!! هذا ما يعبر عنه قطاع متزايد من الأطباء البريطانيين.. هؤلاء الأطباء وغيرهم من فقهاء القانون والمعنيين بزراعة الأعضاء المنقولة يعبرون عن قلق مؤداه أن الشخص الذي يوقع على بطاقة يتبرع فيها بقلبه الذي ينبض (في حالة وقوع حادث له) إنما يفعل ذلك دون أن يعي يقيناً ما يقدم عليه. وحجتهم في ذلك أن الاختبارات المستخدمة لتقرير وقوع الوفاة من عدمه هي اختبارات تنطوي على عيوب أساسية بمعنى أنها تخطىء في اعتبارها المانح قد توفي فعلاً. المفترض في هذه الاختبارات أنها تتيح للطبيب التوصل إلى افتراض آخر من جانبه، هذا الافتراض الآخر يقول الطبيب أن الجسم (الذي سينزع منه القلب) ما يزال يؤدي وظائفه بمعاونة جهاز للإنعاش الاصطناعي، ولكن المريض أصيب بتلف في الدماغ للدرجة التي لا يتسنى بها للطبيب افتراض إمكانية التماثل للشفاء من الحالة - أي البقاء على قيد الحياة في وقت لاحق دون وجود جهاز الإنعاش الاصطناعي. يضاف إلى ذلك أن الشخص يكون قد فقد الإدراك والإحساس. هذا الافتراض، طبقاً لتقرير نشرته أمس صحيفة " صنداي تايمز " يحظى بأهمية قصوى في ما يتعلق ببرامج زراعة القلب والكبد، إذ يتعين أن تستأصل القلوب والأكباد فيما تواصل الدورة الدموية عملها في الجسم وإلا أصبحت الأعضاء المنقولة عديمة القيمة.

لكن الدكتور ديفيد واينبرايث ايفانز أخصائي القلب الذي ينتقد مفهوم الوفاة الدماغية، يقول في هذا الشأن أن الدليل القائم الآن يكشف بوضوح أن المانح لا يكون قد مات فعلاً، وأن الجراح يستبق الوفاة. وقد عرض الدكتور ايفانز ما لديه من دليل في هذا الصدد على شقيقه القاضي جون فيلد ايفانز، الذي علق بقوله: والحقيقة هي أن الجراحين يستأصلون بعض " قطع الغيار " في وقت لا يكون فيه الشخص قد مات بالمفهوم الذي نستطيع أنا وأنت فهمه. ويرتكز قلق المعنيين على جملة من الحقائق، من بينها أن " الجثة " التي تستأصل منها الأعضاء تصدر ردود فعل حادة حين يحدث الجراح أول قطع فيها، فمثلاً ترتفع إحدى ساقي " الجثة " في رد فعل دفاعي حين يغرز الجراح مشرطه لأول مرة فيها وتنقبض عضلات البطن بشدة وعلى نحو يعطل عملية الاستئصال ويتعين على الجراح أن يعطي " الجثة " العقاقير التي تحدث شللاً في العضلات. وثمة حقيقة ثانية تقول أن ضغط الدم ومعدل خفقان القلب في جثة المانح قد يرتفعان ارتفاعاً حاداً حين تبدأ عملية الاستئصال. وارتفاع الضغط ومعدل الخفقان يعطي للجراح مؤشراً مهماً إذا كان يجري عملية عادية لشخص حي.

طرق الإنجاب في الطب الحديث وحكمها الشرعي

" 5 " طرق الإنجاب في الطب الحديث وحكمها الشرعي

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده: أما بعد: فمن نوازل العصر وقضاياه المستجدة في أعقاب تطور الطب الحديث أمور جدت في علمي الأجنة والوراثة. ومنها ما يتعلق بالإنجاب سلباً أو إيجاباً نحو: 1- الإجهاض. 2- منع الحمل. 3- تحديد النسل. 4- الولادة مع العقم. وفيه: جدت طرق الإنجاب التي يجمعها حمل المرأة من غير طريق الوقاع. بما اكتسب اللقب: أ - طفل الأنابيب. ب - التلقيح الصناعي. والأول واحد من أساليبه، بل تطور " التلاعب العضوي " بالخلايا الإنسانية إلى طموحات أخرى تشتغل في: الحيوان والنبات، وبدأ تطبيقها على الإنسان في عدة مظاهر (1) : أ - بحث التحكم في جنس الجنين: ذكر أم أنثى؟ . ب - إشباع الرغبة بجهاز الكتروني.

_ (1) مستخلص من بحث الأستاذ أحمد شرف الدين في: كتاب الإنجاب ص: 136 - 142.

ج - تكاثر الخلايا الجسدية بتحويلها إلى خلايا جنينية. د - وجود إنسان مجتر بخلط خلاياه مع خلايا بهيمية. ومحل البحث هنا هو " طرق الإنجاب في الطب الحديث " وقد تكاثرت فيه الدراسات، وعقدت له الندوات والمؤتمرات، وبهر العالم وجود هذا النوع الجديد في الجنس البشري من حيث تغير طريق الحمل بغير طريق التواصل أو الالتقاء العضوي بين الزوجين، فثارت حوله أقاويل، وقامت أمامه شكوك وشبهات، وصار الناس منه في أمر مريج قبولاً ورداً. ففي الوقت الذي أبته مجموعة من الغرب وعللوه بغيرتهم على الجنس البشري والحفاظ عليه، وسلامته من مواليد يلحق بهم علامات استفهام في شرعية سبب الحمل؟؟ . تقبل آخرون لهذا ورأوا أنه سبيل لإغاثة العقيم البائس من نعمة الأولاد. وبعد أن دبت إلى المسلمين في ديار الغرب أو في ديارهم نازلهم علماء الشريعة بدراسة هذه النازلة، وتنزيل الحكم التكليفي الشرعي عليها كل بما وصل إليه علمه ومارسه دراسة وبحثاً. فألفت في ذلك رسائل وأعدت بحوث ودراسات، وصدرت فتاوى وقرارات مجمعية. ونهض فريق من الأطباء المسلمين فأعطوا التصور الكامل عن هذه الواقعة والطبيعة الطبية لها من حين الشروع فيها وحتى المرحلة الأخيرة بشتى أساليبها وصورها، بل منهم من جمع النظرة الشرعية الفقهية لدى العلماء. ولجميع أولاء الأجلة: فضل السبق لفتق الرتق في هذه النازلة وتجسيدها واقعاً وشرعاً، لكن لما كانت هذه الأبحاث متناثرة، والآراء فيها

متباينة أضحى من الضرورة بمكان تصنيف القول فيها واقعاً وحكماً بتصوير الواقعة وأساليبها لما هو معلوم من مبادئ العلم الأولية " الحكم فرع التصور " وهذا بحكم المفروغ منه. وتكييفها فقهاً بترتيب النتيجة على البحث لا لنصرة أي رأي بعينه. ولهذا فإن تصنيف البحث فيها على ما يلي: المبحث الأول: في بيان ما كتب في هذه النازلة. المبحث الثاني: قواعد شرعية أمام البحث. المبحث الثالث: المصطلحات الطبية في هذه النازلة. المبحث الرابع: تاريخها. المبحث الخامس: ولائدها. المبحث السادس: صورها. المبحث السابع: حكمها شرعاً. والله الموفق.

المبحث الأول بيان ما كتب في هذه النازلة تبعا أو استقلالا

المبحث الأول بيان ما كتب في هذه النازلة تبعاً أو استقلالاً حصل بالتتبع ما يلي: أولاً: الفتاوى: 1- فتاوى شيخ الأزهر محمود شلتوت ص / 326 - 329. 2- فتاوى حسنين مخلوف. 3- من حقيبة المفتي، لأحمد العسكري ص / 211. 4- نموذج من الفتوى، لعطية خميس 1 / 201. 5- فتاوى المنار. 6- فتاوى معاصرة، ليوسف القرضاوي ص / 490 - 495. 7- قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة وهي: القرار الرابع عام 1402، والقرار الخامس عام 1404 هـ، والقرار الثاني عام 1405 هـ. 8- فتوى شيخ الأزهر جاد الحق عام 1400 هـ باسم: " التلقيح الصناعي في الإنسان " 9 / 3213 - 3228 رقم الفتوى / 1225 من كتاب " الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية ". ثانياً: البحوث المستقلة أو في كتاب: 1- الجنين في الإسلام، محمد سلام مدكور. ص / 129 وما بعدها.

2- الإسلام عقيدة وشريعة لمحمود شلتوت ص / 204، 208. 3- البيان في تصحيح الإيمان لمحمد فؤاد عبد الباقي ص / 129. 4- الحلال والحرام، ليوسف القرضاوي / 162 - 163. ثالثاً: بحوث المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت، عام 1403 هـ فيها مجموع في كتاب مع أبحاث أخرى باسم: " الإنجاب في ضوء الإسلام ". وفيها ما يلي مع ما لحقها من مناقشات: 1- أطفال الأنابيب - الرحم الظئر، الطبيب حسان حتحوت ص / 188 - 236. 2- الإنجاب في ضوء الإسلام للشيخ إبراهيم القطان، ص / 365 - 374. 3- أطفال بالكتالوج. ص / 470 - 476. 4- أطفال الأنابيب " مشكلة أخلاقيات - أمهات بالوكالة.. " ص / 467 - 469. 5- طفل الأنابيب، للشيخ مصطفى الزرقا، ص / 477 - 487. 6- آراء في التلقيح الصناعي. للشيخ بدر المتولي ص / 483 - 487. 7- آراء في التلقيح الصناعي. للشيخ علي الطنطاوي ص / 488 - 490. 8- حكم الاستنجاب في الشريعة الإسلامية والقانون. لأحمد شرف الدين ص / 391 - 406 من مجموعة أبحاث المؤتمر العالمي الثالث عن الطب الإسلامي. وهذا البحث دقيق وبالغ الأهمية.

رابعاً: بحوث مجمع الفقه الإسلامي بجدة وفيه: 1- أطفال الأنابيب، للشيخ عبد الله البسام. 2- التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب، للطبيب محمد علي البار. 3- أطفال الأنابيب، للشيخ رجب التميمي. خامساً: المؤلفات المفردة: 4- " والحكم الإقناعي في إبطال التلقيح الصناعي "، وما يسمى بشتل الجنين، للشيخ عبد الله بن زيد آل محمود. هذا ما أمكن الوقوف عليه حين كتابة هذا البحث، وهناك أبحاث متناثرة في كتب: الإجهاض، وتحديد النسل، وعلاج العقم، وكتب الطب المعاصرة. والله الموفق.

المبحث الثاني قواعد شرعية أمام البحث

المبحث الثاني قواعد شرعية أمام البحث التمهيد بين يدي البيان للحكم التكليفي، والحكم الوضعي لهذه النازلة يعطي توطيناً للنفس بالوقوف على الحكم الشرعي بأمان من إبعاد النجعة في الرأي. ولهذا فهذه قواعد شرعية، ومواصفات علمية تنير السبيل في هذا البحث المهم الخطير. القاعدة الأولى: تواضع علم الناس وعملهم على أن عملية الإنجاب في سيرها الفطري والشرعي تبدأ من التقاء عضوي التناسل بين الزوجين فيعلق حيوان الزوج المنوي ببييضة زوجته أمشاجاً في رحمها في ذلكم القرار المكين، لتنمو خلال عدة مراحل حيث تتكاثر الخلايا، وينفخ فيها الروح حتى تنتهي عملية الحمل بولادة المولود (1) بإذن الله تعالى. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} . وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ

_ (1) الطب الإسلامي، مقال أحمد شرف الدين ص: 391.

مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} . وقال تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُّمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ. فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ} . وقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدَّثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق فقال: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح " متفق عليه. القاعدة الثانية: لكل مولود بأبيه صلة: تكوين ووراثة وأصل ذلك " الحيوان المنوي " فيه، وله بأمه صلتان. الأولى: صلة تكوين ووراثة، وأصلها " البييضة " منها. الثانية: صلة حمل وولادة وحضانة. وأصلها " الرحم " منها. فهذا هو المولود المتصل بأبويه شرعاً وطبعاً وعلى هذه الوصلة تترتب جميع الأحكام الشرعية التي رتبها الله تعالى على ذلك. فإذاً إن كان " الحيوان المنوي " من رجل غريب متبرع لزوجة رجل ما، فهذا أمر أصبح مقطوع الصلة عقلاً وواقعاً، وطبعاً وشرعاً. فالولد للفراش وللعاهر الحجر. وإذا كانت " البييضة " من امرأة غريبة متبرعة لزوجة رجل آخر لقحت

فيها، فحينئذٍ انفصمت إحدى الصلتين قطعاً وهي " البييضة " من الزوجة ذاتها، وهذا معلوم الانقطاع عقلاً وواقعاً، وطبعاً وشرعاً. وإذا كان مجموع الخلية الإنسانية " الحيوان المنوي " من الزوج و" البييضة " من الزوجة، لكن زرعا أو لقحا في رحم امرأة أجنبية متبرعة. فالصلة الثانية للأم وهي " الحمل والولادة " منفصمة قطعاً: عقلاً وواقعاً، وطبعاً وشرعاً. وعليه: فإذا انقطعت الصلتان من الزوجة فهي ليست أماً بأي حال من الأحوال. ولا قائل بالأمومة من المسلمين ولا من سائر البشر أجمعين. وإذا تحققت الصلتان كانت أماً طبعاً وواقعاً وشرعاً. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} . وبإجماع المسلمين الضروري من الدين أن القرار المكين رحم الأم الشرعية لا غير. قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى. مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} . والنطفة المحترمة من جميع الوجوه هي التي من الزوجين وهي محل الامتنان من الله على عباده. ولهذا قال سبحانه ممتناً على مريم عليها السلام: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} . وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} .

وقال تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} . وقال تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} . وقال تعالى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} . وقال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} . وقال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} . فالأم في هذه الآيات هي الأم الشرعية والأب المذكور في آيات كريمة وكثيرة من التنزيل هو: الأب الشرعي. فالأبوة والأمومة الشرعية هي مجموع الهيئة الحاصلة للمولود الذي وقع لقاحه وتكوينه بماء أبويه على فراش الزوجية فحملت به أمه في بطنها مستقراً في رحمها قراره المكين، فهذا هو المولود الذي يكتسب الأبوة والأمومة الشرعية ومتى اختلت واحدة من هذه الصلات الثلاث، فالحال كما علمت قبل في صدر هذه القاعدة مفصلاً. والله أعلم. القاعدة الثالثة: التدافع بين المضار والمنافع فحيث وقع التغلب فالحكم للغالب منهما حلاً وحرمة، وحيث استويا صار مجال نظر الفقيه. وعليه: فصور من التلقيح الصناعي تخضع لهذه القاعدة فيخرج عليها بالمقابلة بين سوالبه ومنافعه. وهذا ما ستراه بإذن الله تعالى في بعض صوره التي يمكن تخريجها على هذه القاعدة (1) .

_ (1) الطب الإسلامي 3 / 398.

القاعدة الرابعة: تفيد النصوص أن جسد الإنسان ومنافعه مملوكة له لكن ليس له حق التصرف في هذا الملك إلا في حدود الشرع، فتصرفه منوط بالمصلحة شرعاً. فكما أن نعمة النظر مملوكة له فليس له مد نظره إلى ما يحرم النظر إليه، وكما أن الشهوة مركبة فيه وشرع له إطفاؤها بماء الزوجية أو ملك اليمين حرم عليه إطفاؤها بماء الزنى واللواطة والاستمناء (جلد عميرة - الجلق) . وكما ملكه الشرع أن يطء لطلب الإنجاب من ماء الزوجية حرم عليه الإنجاب من غير ماء الزوجية ووعاء الحمل. فتدبر والله أعلم. القاعدة الخامسة: إن مواطن الحاجات والضرورات قد لا يفتى بها فتوى عامة، وإنما إذا ابتلي المكلف استعلم من تسوغ فتياه لدينه وعلمه. القاعدة السادسة: المتعين إخضاع الواقع لشريعة الله وعليه فلا يجوز العكس إجماعاً. القاعدة السابعة: حفظ النسب والعرض من مقاصد الشرع الأساس، وهما من الضروريات الخمس التي دارت عليها أحكام الشرع. فهذه الخلية الإنسانية من حين دفقها بل وقبل ذلك وفي جميع مراحل

تكوينها ونموها إلى استهلالها يجب أن تكون بيضاء نقية خالية من أي شيء يخدشها أو شكوك تحيط بها أو مخاطر تحف بها فهي بالغة الحساسية في التأثر بما يخل بكرامتها الإنسانية ذات محل للعقل وتحمل للحنيفية السمحة. ولهذا صار من قواطع الأحكام في الإسلام: تحريم الزنا، والقذف، وسد جميع الأبواب الموصلة إليهما. فكم من إشارة ستكون حول هذه المواليد الصناعية وكم من تساؤل واستفهام؟ وقد هيأ الزوجات مجالاً واسعاً للخدش بالقذف والتجريح؟ فماذا سيكون وضع أمةٍ مشكوك في أصل بنيتها وتكوينها. إن الشرع المطهر يوصد كل باب يوصل إلى ما هو أقل من هذا مما هو معلوم لكل من خبر الشريعة في مصادرها ومواردها. والله أعلم. إن هذه القاعدة سد منيع للتلاعب بالخلية الإنسانية والبنية الآدمية. فلنقل: ما حجم الاضطرابات والشكوك، وعوامل التجريح والخدش التي ستحدثها هذه النازلة في الآدميين، وما آثارها على النظام الاجتماعي وترابطه مكرماً بأسباب هندسة الطب للبشر وجعله ساحة للتجارب كالأمصال للبقر؟؟ . وما مدى صدمات المستقبل التي سيواجهها الإنسان. وما مدى أضراره العارضة الهادمة لبنيته. وما مدى سحق الطفل الأنبوبي والمولود الصناعي للمولود الطبيعي؟؟ وأخيراً ما مدى سحق هذا للأخلاق والفضائل والكرامة والتكريم من

الرب الرحيم بعباده بمسار هذا الآدمي في جوهر نظيف يحمل الشرع الحنيف. قال الله تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} . وعليه: فإن كل ما يقضى أو يغالب حفظ الأنساب والأعراض محرم شرعاً. القاعدة الثامنة: واجب حملة الشرع من أهل العلم تمحيص مكتسبات العلم الحديث على ضوء التنزيل منعاً للمسلمين من التلبس بشطحات وهفوات العلم الحديث (1) . وواجب أهل الإسلام عدم الإقدام إلا بعد الفتيا من علماء الشريعة المستضيئين بنورها. والتولي عن هذين الواجبين سقوط في الحضر. قال الله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} .

_ (1) الإنجاب ص: 141 - 142.

المبحث الثالث في تفسير مصطلحات طبية ونحوها

المبحث الثالث في تفسير مصطلحات طبية ونحوها يذكرها الباحثون في هذه النازلة الأمشاج: هي الأخلاط قال الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} . فيتكون من المائين نطفة الأمشاج هذه " الزيجوت " المتكونة من التحام نواة البييضة من الأنثى بنواة الحيوان المنوي من الرجل فيتحدان وعندئذٍ يحصل التلاقي والتلاقح وتنتقل إلى ما حدده الله بقوله: {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} وهو: رحم المرأة. وإذا ما تم هذا التلاقح بينهما بدأت هذه البييضة الملقحة تنقسم انقساماتها المعروفة المتتالية الخلية الأمشاج " الزيجوت " المكونة من التحام نواة البييضة بنواة الحيوان المنوي: تنقسم فتصبح الخلية خليتين.. والخليتان أربع.. والأربع ثمانياً. ثم تدخل فيما يعرف باسم مرحلة (التوتة) وذلك في اليوم الرابع منذ التلقيح، لأنها تشبه ثمرة التوتة المعروفة. ثم تتحول هذه التوتة إلى ما يعرف باسم: " الكرة الجرثومية " في الرحم. وفي هذه الأمشاج يقول الطبيب حسان حتحوت كما في كتاب

الإنجاب ص / 217: (الحيوان المنوي والبويضة كذراعي المقص كل منهما لا يقص فإذا اشتبكا كان المقص وكان مكوناً منهما معاً.. فإذا التحما كانت خلية واحدة هي بداية الحياة الإنسانية أول دور في تكوين الإنسان. وتنقسم بعد هذا إلى 2 - 4 - 8 - 16 - 32 - 64 - 128 وهكذا، وتبتدئ بالتدريج تكوين خلايا منها كبيرة قليلاً وصغيرة ومتوسطة وعلى مدى شهرين يتكون إنسان صغير ثم يأخذ في النمو ... ) انتهى باختصار. الاستدخال (1) : مصطلح فقهي قديم يعني: حقن ماء الرجل في قبل المرأة وقد رتبوا عليه أبحاثاً في حكمه، وحكم طلاق من استدخلت مني زوجها. الأم المستعارة: وهي التي نقل إلى رحمها البييضة اللقيحة. وتسمى أيضاً " مؤجرة البطن ". البييضة: وهي المعبر عنها لدى الأطباء بلفظ " البويضة " وتصغير بيضة في اللغة: بييضة (2) وهي هنا: مني الزوجة أو يقال: " خلية الأنثى ".

_ (1) شرح المنهاج 3 / 243، 3 / 291، 3 / 245، 3 / 347، 3 / 348. والطب الإسلامي 3 / 393، 397. والبار، ص: 16. (2) الإنجاب ص: 488.

الحاضنة: والشيخ ابن محمود في رسالته " الحكم الإقناعي " ص / 13 يرفض هذه التسمية ويقول: (إن هذا من باب قلب الحقائق فإنه لا حضانة إلا للطفل الصغير متى خرج إلى الوجود حياً، وما دام في بطن أمه فإنه يسمى حملاً، وأمه: حاملاً لا يقال حاضنة) . وهذا تفريع منه على أن الولد لصاحبة الرحم التي ولدته لا لصاحبة البييضة وأن حكمه حكم ولد الزنى " الولد للفراش ". والله أعلم. وتسمى أيضاً: " الأم المستعارة ". الجوين: هو ماء الرجل، أي " الحيوان المنوي " (1) . الخلية الإنسانية: هي ماء الرجل " المني " أو يقال " الحيوانات المنوية ". وخلية المرأة " البييضة ". قال الله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} . فإذا التقيا واختلطا سميا بالأمشاج ويقولون: الحيوان المنوي، والبييضة كذراعي المقص كل منهما لا يقص فإذا اشتبكا كان المقص، وكان مكوناً منهما معاً، وحينئذٍ تكون الأمشاج.

_ (1) الإنجاب ص: 488.

الرحم: هو القرار المكين المذكور في قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} وهو " الحوض الحقيقي " الذي تلتقي فيه الخليتان من ماء الزوجين وحينئذٍ تعلق في جدار الرحم وتصبح علقة عالقة. ثم تنمو بعد ذلك نمواً متدرجاً إلى مضغة ومن مضغة إلى عظام يكسوها اللحم ثم ينشئها الله خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (1) . الرحم الظِئر: الظئر بكسر الظاء المشالة بعدها همز هي: العاطفة على ولد غيرها، المرضعة له في الناس وغيرهم وجمعه " أظوار " و " آظار " كما في " تاج العروس " 12 / 460 مادة " ظئر ". ومن هنا قيل للبذرة الأنثوية " البييضة " من امرأة بعد تعرضها لمني الزوج مثلها حتى يلتحم بها، ثم إيداع ذلك في رحم امرأة أخرى، قيل لذلك " الرحم الظئر " (2) وهذا اكتسب بعد اسم: " شتل الجنين ". شتل الجنين: الشتل القطع و " شتل الجنين " هو واحد من المصطلحات للرحم الظئر. وحقيقته: أن يجامع رجل امرأته التي هي غير صالحة للحمل، ثم ينقل الماء منها إلى رحم امرأة ذات زوج بطريقة طبية فتحمله إلى نهاية وضعه (3) . وطريقة النقل هذه هي " الشتل ".

_ (1) البار. (2) الإنجاب ص: 189. (3) الحكم الإقناعي ص: 2، 6، 12، الطب الإسلامي 3 / 392، 404، مجلة العربي مفاد: الطبيب حسان حتحوت، وعنه ص: 488 فتاوى معاصرة.

ويعترض الشيخ ابن محمود في رسالته على تسميته " الجنين " وإنما يسمى " منياً " حتى تنفخ فيه الروح.. إلخ. وتسمى الحاملة به أيضاً " المضيفة ". قناة فالوب: القناة هنا هي الطريق الطبيعي التي تصل بين الرحم والمبيض. وسميت بذلك نسبة إلى عالم التشريح الإيطالي الذي اكتشفها (1) . وإذا اعترى القناة انسداد أو غياب صار سبباً لعدم قابلية الحمل (2) . ويحسن أن نسميها " قناة الرحم " كما يفيد ذلك إطلاق الطبيب محمد البار ص / 7 وتسمى " البوق " (3) . اللقيحة: هي البييضة الملقحة (4) . المضيفة: المرأة الأخرى التي ينقل إلى رحمها البييضة اللقيحة (5) وهي أيضاً " الحاضنة ".

_ (1) الزرقا، ص: 42. (2) الإنجاب ص: 189، والبار، ص: 6. (3) الإنجاب ص: 188. (4) الطب الإسلامي 3 / 391 أحمد شرف الدين. (5) الطب الإسلامي 3 / 391 مقال لأحمد شرف الدين.

مؤجرة البطن: وتسمى أيضاً: الأم بالوكالة: وتسمى أيضاً. أجنة بالوكالة (1) . المتبرعة: وهي التي تتبرع ببييضتها لامرأة أخرى ذات زوج (2) . المانحة: وتسمى " المتبرعة بها ": المانحة أيضاً. الميزان العصبي: هو البداية الأولى لتكوين الجهاز العصبي بعد اليوم الرابع عشر من التلقيح (3) .

_ (1) انظر في هذه الأسماء ص: 467، الإنجاب. (2) البار، ص: 15. (3) البار، ص: 5.

المبحث الرابع تاريخ نشوء هذه النازلة زمانا ومكانا

المبحث الرابع تاريخ نشوء هذه النازلة زماناً ومكاناً (1) أول مولود أنبوبي خرج إلى العالم هي: لويزا براون، التي ولدتها " ليزلي براون " وذلك في 10 نوفمبر عام 1977 م وذلك في بريطانيا على يد الطبيبين: استبتوا، وادواردز، إذ قاما بتلقيح بييضتها بماء زوجها فاشتهرت هذه الطفلة باسم " طفلة الأنبوب " وتفجر بركان خبرها في العالم، وشغل وسائل الإعلام، فصار حديث الساعة، ثم توالت مواليد أطفال الأنابيب إلى المئات في أنحاء العالم منهم مجموعة من التوائم. وفي أعقاب ذلك تولدت أيضاً مجموعة من القضايا والمشكلات الأخلاقية، وأثارت الشكوك والاشتباه، وصار العالم الغربي بين القبول والرفض حتى قال رائد هذه النازلة الطبيب " ادواردز " (أن هناك حاجة صارخة إلى وضع آداب وأخلاقيات هذا الميدان) . ثم خرجت بعد أول طفلة من الرحم الظئر لكن في أعقاب ولادتها دخلت قضيتها المحاكم الانجليزية ذلك لأن الأم بالوكالة أو الرحم الظئر رفضت تسليم الطفل لصاحبة البييضة بعد ولادتها على الرغم من أنها وقعت عقداً بتسليم الطفل بعد أن تلده لصاحبة البييضة. ثم تنوعت أساليب وصور: طفل الأنابيب و " التلقيح الصناعي ". وجدت

_ (1) انظر: البار، ص: 1، وكتاب: الإنجاب الصفحات: 194، 197، 199، 200، 201، 215، 217، 218، 226، 228، 230، 231، 467، 469.

بعد هذا قضايا مهمة في هذا المضمار إذ أخذ الطب الغربي بمهارة يضرب السبل فجعل " بني الإنسان " ساحة تجارب، ومعمل اختبار. فمما جد في ذلك: 1- بنك المني. 2- تجميد الأجنة. 3- زرع الخصية. 4- زرع الرحم. 5- إجارة البطون، ويسمين " مؤجرات البطون " أو " أمهات بالوكالة " أو " أجنة بالوكالة ". 6- الأم المتبرعة " أي ببييضتها ". 7- الأب المتبرع أي " بمنيه " المعروف قديماً في صعيد مصر باسم " الصدفة ". 8- تلقيح الاستبضاع. 9- زرع المبيض. 10- مواليد الكتالوج. 11- الحمل بعد الوفاة لزوجها. وهذه الواقعات مواليد. 12- طفل الأنابيب. 13- التلقيح الصناعي. 14- الرحم الظئر " الحاضنة "، والتي توسعت إلى " مؤجرات البطون " كما تقدم.

المبحث الخامس ولائدها

المبحث الخامس ولائدها في ولائد هذه النازلة التي تستحق البحث والدرس من أهل الصنعة والعلم لبيان الحكم الشرعي فيها للناس تكليفاً ووضعاً: وقد تقدم ذكر رؤوس المسائل لها في المبحث الرابع.

المبحث السادس في صور هذه النازلة

المبحث السادس في صور هذه النازلة ليعلم أن هذا الاصطلاح " طفل الأنابيب " أصبح لغة ميتة لأنه يمثل الآن واحدة من الصور وليس جميع الصور، ولأن الأنبوب أصبح البديل المستعمل " الطبق " فكان الأولى أن يتحول إلى هذا اللقب " طفل الطبق " كما تقدم في المبحث الثالث. فصار " طفل الأنبوب " واحدة من صور وأساليب ما أكتسب اسم " التلقيح الصناعي ". والذي يحسن التسمية به هو " طرق الإنجاب في الطب الحديث " أو " التلقيح خارج الجسد ". وهذه الأساليب والصور آخذة في سبيل التكاثر والانقسام. وقد نهج الباحثون في تقسيم هذه الصور والأساليب إلى قسمين بحكم السبب الجامع الذي تندرج تحته تلك الصور، لكن جرى الخلف في التقسيم على ما يلي (1) : القسم الأول: التلقيح الاصطناعي الداخلي، أو يقال: الإخصاب الداخلي، أو يقال: التلقيح الإخصابي الذاتي: وهو ما أخذ فيه ماء الرجل وحقن في

_ (1) الطب الإسلامي 3 / 393 - 394 مقال لأحمد شرف الدين. وهو مهم، وص: 350 كتاب الإنجاب.

محله المناسب داخل مهبل المرأة زوجة أو غيرها وفي هذا صورتان. القسم الثاني: التلقيح الاصطناعي الخارجي أو يقال: الإخصاب المعملي، حيث يتم الإخصاب في وسط معملي: وهو ما أخذ فيه الماءان من رجل وامرأة زوجين أو غيرهما وجعلا في أنبوب أو طبق اختبار ثم تزرع في مكانها المناسب من رحم المرأة. وفي هذا خمس صور. وفي الواقع أن هذا التقسيم هو باعتبار واحد هو: مكان الإخصاب، لكنه ينقسم أيضاً باعتبار الماء إلى قسمين: الأول: تلقيح ذاتي. أي بماء الزوجين ذاتهما في ذات رحم الزوجة. وهذا له صورتان واحدة داخلية وأخرى معملية. الثاني: التلقيح الأجنبي: وهو الذي يكون فيه أحد المائين أو كلاهما أجنبياً، وينقسم باعتبار الرحم الذي تزرع أو تستنبت فيه اللقيحة إلى ثلاثة أقسام: الأول: رحم الزوجة ذاتها. الثاني: رحم ضرتها. الثالث: امرأة أجنبية. وينقسم باعتبار الزوجية إلى قسمين: الأول: ما يتم بين زوجين، زوج وزوجته: منياً وبييضة ورحماً. الثاني: ما كان فيه طرف ثالث أجنبي، أو كان أجنبياً متمحضاً أو كان فيه طرفان أجنبيان. ثم هذان القسمان باعتبار الطريق على نوعين:

1- نوع داخلي. 2- ونوع خارجي معملي. ومن هذه الصور ما يجمع هذه التقاسيم أو بعضها فضلاً: ماء رجل وزوجة يلقح ماؤه ببييضة امرأة أجنبية ثم تنقل من وسطها المعملي إلى رحم زوجته أو أجنبية أخرى سوى صاحبة البييضة. فهذا تلقيح معملي أجنبي باعتبار البييضة، أجنبي باعتبار الرحم. هذا ما يمكن فيه تقسيم صور هذه النازلة التي حدثت حتى تاريخه ووصل إلينا علمها وأصبحت حقيقة تنتظر الفتيا بشأنها. وبعد هذا فإلى بيان هذه الصور والأساليب على ما يلي كما وردت محررة مبينة في قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة رقم 2 في عام 1404 هـ: للتلقيح الداخلي فيه أسلوبان، وللخارجي خمسة من الناحية الواقعية، بقطع النظر في حلها أو حرمتها شرعاً، وهي الأساليب التالية: في التلقيح الاصطناعي الداخلي: الأسلوب الأول: أن تؤخذ النطفة الذكرية من رجل متزوج وتحقن في الموقع المناسب داخل مهبل زوجته أو رحمها حتى تلتقي النطفة التقاء طبيعياً بالبييضة التي يفرزها مبيض زوجته، ويقع التلقيح بينهما ثم العلوق في جدار الرحم بإذن الله، كما في حالة الجماع، وهذا الأسلوب يلجأ إليه إذا كان في الزوج قصور لسبب ما عن إيصال مائه في المواقعة إلى الموضع المناسب.

الأسلوب الثاني: أن تؤخذ نطفة من رجل وتحقن في الموقع المناسب من زوجة رجل آخر حتى يقع التلقيح داخلياً ثم العلوق في الرحم كما في الأسلوب الأول، ويلجأ إلى هذا الأسلوب حين يكون الزوج عقيماً لا بذرة في مائه، فيأخذون النطفة الذكرية من غيره. في طريق التلقيح الخارجي: الأسلوب الثالث: أن تؤخذ نطفة من زوج وبويضة من مبيض زوجته فتوضعا في أنبوب اختبار طبي بشروط فيزيائية معينة حتى تلقح نطفة الزوج بييضة زوجته في وعاء الاختبار ثم بعد أن تأخذ اللقيحة بالانقسام والتكاثر تنقل في الوقت المناسب من أنبوب الاختبار إلى رحم الزوجة نفسها صاحبة بييضة لتعلق في جداره وتنمو وتتخلق ككل جنين. ثم في نهاية مدة الحمل الطبيعية تلده طفلاً أو طفلة. وهذا هو طفل الأنبوب الذي حققه الإنجاز العلمي الذي يسره الله، وولد به إلى اليوم عدد من الأولاد ذكوراً وإناثاً وتوائم تناقلت أخبارها الصحف العالمية ووسائل الإعلام المختلفة، ويلجأ إلى هذا الأسلوب الثالث عندما تكون الزوجة عقيماً بسبب انسداد القناة التي تصل بين مبيضها ورحمها (قناة فالوب) . الأسلوب الرابع: أن يجري تلقيح خارجي في أنبوب الاختبار بين نطفة مأخوذة من زوج، وبييضة مأخوذة من مبيض امرأة ليست زوجته (يسمونها متبرعة) ثم

تزرع اللقيحة في رحم زوجته. ويلجأون إلى هذا الأسلوب عندما يكون مبيض الزوجة مستأصلاً أو معطلاً، ولكن رحمها سليم قابل لعلوق اللقيحة فيه. الأسلوب الخامس: أن يجري تلقيح خارجي في أنبوب اختبار بين نطفة رجل وبييضة من امرأة ليست زوجة له (يسمونهما متبرعين) ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة أخرى متزوجة. ويلجأون إلى ذلك حينما تكون المرأة المتزوجة التي زرعت اللقيحة فيها عقيماً بسبب تعطل مبيضها لكن رحمها سليم وزوجها أيضاً عقيم ويريدان ولداً. الأسلوب السادس: أن يجري تلقيح خارجي في وعاء الاختبار بين بذرتي زوجين، ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة تتطوع بحملها. ويلجأون إلى ذلك حين تكون الزوجة غير قادرة على الحمل لسبب في رحمها، ولكن مبيضها سليم منتج، أو تكون غير راغبة في الحمل ترفهاً، فتتطوع امرأة أخرى بالحمل عنها. الأسلوب السابع: هو السادس نفسه إذا كانت المتطوعة بالحمل هي زوجة ثانية للزوج صاحب النطفة فتتطوع لها ضرتها لحمل اللقيحة عنها.

وهذا الأسلوب لا يجري في البلاد الأجنبية التي يمنع نظامها تعدد الزوجات، بل في البلاد التي تبيح هذا التعدد. هذه هي أساليب التلقيح الاصطناعي الذي حققه العلم لمعالجة أسباب عدم الحمل.

المبحث السابع في تنزيل الحكم الشرعي على هذه النازلة

المبحث السابع في تنزيل الحكم الشرعي على هذه النازلة بعد استيعاب التصور لما وصل إليه الطب من طرائق للإنجاب، وبيان تقاسيمها باعتبارات مختلفة فإن النظر الشرعي يختبر أوصاف المحل بمنظار الشرع المطهر حتى ينزل هذه الدخولات منزلتها. لمعرفة المحرم لذاته فهو تحريم غاية لا مجال لإباحته في أي حال. أو المحرم لما يحف به فهو تحريم وسيلة، وهل يباح بحال؟ أو لا يباح؟؟ والانفصال عن هذا في الفروع الآتية: الفرع الأول: ماءان أجنبيان في رحم امرأة متزوجة أو أحد المائين أجنبي. الفرع الثاني: الماء من الزوجين في رحم الزوجة ذات البييضة بعد وفاة زوجها. الفرع الثالث: الماء من الزوجين والرحم أجنبي من الزوجية. الفرع الرابع: الماء من الزوجين في رحم زوجة له أخرى بتلقيح داخلي أو خارجي. الفرع الخامس: الماء من الزوجين في رحم الزوجة ذات البييضة بتلقيح داخلي أو خارجي. وتأسيساً على هذا التفريع فإلى بيان ما يظهر فيها شرعاً:

حكم الفرع الأول: وهو ما كان فيه الماءين أجنبيان سواء في أجنبية الحيوان المنوي والبييضة أم أحدهما. فإذا حملت الزوجة من مائين أجنبيين أو من بييضتها وماء أجنبي فهو: حمل سفاح محرم لذاته في الشرع تحريم غاية لا وسيلة قولاً واحداً. والإِنجاب منه شر الثلاثة فهو " ولد زنا " وهذا ما لا نعلم فيه خلافاً بين من بحثوا هذه النازلة. وهذا ما توجبه الفطرة السليمة وتشهد به العقول القويمة، وقامت عليه دلائل الشريعة. وقد أبان الشيخ محمود شلتوت عن مجامع الاستدلال في هذا، في فتاويه ص / 328 - 329 بما يشفي ويكفي فيحسن الرجوع إليه فإنه مهم. حكم الفرع الثاني: تلقيح ماء الزوجة بعد انفصام عقد الزوجية بوفاة أو طلاق. حكم الفرع الثالث: الرحم أجنبي مستعار: فهذان الفرعان يشملهما حكم الفرع الأول وهو التحريم لعدم قيام الزوجية في الفرع الثاني، ولاختلال رحم الزوجية في الفرع الثالث الذي هو من دعائم الهيئة الشرعية المحصلة للأبوة والأمومة. وقد أثبتت الإحصائيات، والأخبار العالمية الموثقة وجود أعداد غير قليلة من القضايا والمنازعات على المواليد من هذه الطرق بين ذات الرحم وذات الماء. وبين ذات الرحم وصاحب الماء. وهكذا في سلسلة مشاكل

طويلة الحلقات في ذات البنية الآدمية. كما أثبتت وجود ربع مليون طفل لا يعرف لهم أب نتيجة التلقيح الصناعي. حكم الفرع الخامس: ما كان فيه الماء من الزوجين في رحم الزوجة ذاتها ذات البييضة حال قيام الزوجية بتلقيح داخلي أو خارجي، وهذا الفرع محل خلاف كبير بين علماء العصر على أقوال: الأول: التحريم فيهما. الثاني: الجواز فيهما بشروط. الثالث: الجواز في الداخلي دون الخارجي بشروط. الرابع: التوقف. الخامس: أنه من مواطن الضرورات فلا يفتى فيه بفتوى عامة. وعلى المكلف المبتلى سؤال من يثق بدينه وعلمه. هذا مع اتفاق الجميع على أن هذا الطريق يحف به عدد من المخاطر والمحاذير وبيانها على ما يلي: المخاطر والمحاذير: إن هذه المخاطر والمحاذير الشرعية هي واردة على جميع أنواع طرق الإنجاب، لكن لما كانت الأربعة الأولى منها محرمة لذاتها فهو من باب حرمة الغايات لا الوسائل اكتفى بذلك عن ذكرها معه. أما في هذا الفرع الخامس فإن هذه المحاذير اعتباراً وعدماً يتأسس عليها القول بالحكم

التكليفي جوازاً أو منعاً. ويمكن تكييف هذه المحاذير من خلال الأبحاث الصادرة في ذلك على ما يلي (1) : 1- ففي النسب: الاحتمال الكبير بحدوث الخطأ بأن تؤخذ عينة من شخص وتنسب لشخص آخر، فإذا استبدل عمداً أو خطأ ماء رجل أو بييضة امرأة بآخر تحقق: هدم المحافظة على النسب وحفظه من ضروريات الشرع. 2- وفي العرض: فإن هذا المولود الذي حصل بطريقة يكتنفها الإخلال سيعرض هذه البنية الأنسانية إلى توجيه الشكوك حولها، وتوسيع دائرة الكلام في الوسط الاجتماعي تصريحاً أو تعريضاً، والمحافظة على العرض من ضروريات الشرع. وليست هذه قضايا أعيان لا يحتمل وقوعها في المدينة الواحدة إلا لفرد أو فردين، بل لها صفة التكاثر والانتشار وتسبيبات يبديها المتاجرون لتحسين النسل وأمن التشويه، ونحو ذلك، وحينئذٍ على الصعيد بقوة الوضع: جنس موهوم النسب مقذوف العرض. وهذا ما يأباه دين الله وشرعه. 1- في مجموعة الضروريات الست التي جاء بها الشرع وهي:

_ (1) بحث خاص للطبيب محمد علي البار. قرار المجمع الفقهي بمكة المكرمة، كتاب: الإنجاب في ضوء الإسلام.

1- حفظ الدين. 2- حفظ النفس. 3- حفظ العقل. 4- حفظ النسب. 5- حفظ العرض. 6- حفظ المال. شرع الله أحكاماً للمحافظة عليها فللمحافظة على النسب شرع الله حد الزنا، وحرم كل وسيلة تؤدي إليه. وللمحافظة على العرض: شرع الله حد القذف، وحرم كل وسيلة تؤدي إليه. وكل هذا محافظة على كيان المسلم وسلامة بنيته ومعنويته وخلوصها من أي مؤثرعلى قوتها وشرفها حساً ومعنى. وعليه فإن طريق الإنجاب هذه فيها محاذير على النسب وأخرى على العرض، بل موجبات للشك في شرعيته أصلاً. 2- وقد أثبت الواقع الأثيم المطالبة بوجود بنوك المني " مراكز لحفظ المني ". وهذه سوق جديدة للمتاجرة بالنطف ووجود طراز جديد لاسترقاق بني الإنسان فأين هذا من تحططهم على الإسلام ببيع الرقيق. وعند قيام تلك فإن عامل الحصول على المال ونحن في عصر المادة والاستمتاع بالخلاق - سيدفع من لا خلاق له بالتغرير بالرجل العقيم بأن ماءه يصلح للإنجاب فيأتي محله بماء رجل آخر سليم من العقم.. وهذا ليس ببعيد أبداً فهو امتداد لإفساد قديم عرف بمصر باسم " الصدفة "،

وهي طريقة بدائية تقوم على أساس من التضليل ذلك أن المرأة التي تشتكي عدم الإنجاب تذهب إلى من نصبت نفسها للعلاج، فتمدها المتطببة بصدفة فيها " ماء رجل أجنبي " لتضعها في قبلها فتحمل على أساس أنه دواء، وترتب لها أن يواقعها زوجها بعد فستحملين بإذن الله تعالى. فحملت المرأة ففوجىء زوجها بهذا، لأنه يعلم أنه عقيم لا يولد له، فرفعت القضية للمحكمة وانكشفت القصة " قصة الصدفة " واتضح أن الولد من ماء أجنبي فهو منفي النسب من زوجها. فهذه القصة عملت عملها تحت ستار العلاج على شكل شعبي، واليوم تأتي نفس النتيجة على مستوى الطب الحديث بالتلاعب العضوي في الخلايا الإنسانية. بل في هذا تجسيد لطموحات أخرى أخذت تستغل في: الحيوان، والنبات، وبدأ تطبيقها على الإنسان في عدة مظاهر منها: 1- بحث التحكم في جنس الجنين يكون ذكراً أو أنثى. 2- إشباع الرغبة بجهاز الكتروني. 3- تكاثر الخلايا الجسدية بتحويلها إلى خلايا جنينية. 4- وجود إنسان مجتر بخلط خلاياه مع خلايا بهيمية. والنتيجة: إن هذه نتائج وخلفيات تالية لا يسوغ التمهيد لفتحها ودخولها على النوع الإنساني بصفة عامة ولا على المسلمين بصفة خاصة. وعليه: يتعين سد أي وسيلة إلى هذا، وأن هذا الطريق من طرق الإنجاب هو عتبة الدخول للخوض في هذه البلايا. 5- إن هذه الطرق موصلة إلى المواليد التوائم ومعلوم ما في هذا من

مضاعفة الخطر على المرأة في حملها ووضعها.. ذلك أن الطبيب عندما يشفط من مبيض المرأة مجموعة من البييضات قد تصل إلى اثني عشر بويضة يضعها في طبق الاختبار " أنبوب الاختبار " لتلقيحهن، والطبيب إذا أدخل بييضة واحدة فإن نسبة النجاح ضئيلة جداً لا تتجاوز 10%، ولهذا وللتطلع لنجاح اللقاح فإنه يدخل بييضتين فأكثر وقد يحصل بإذن الله تعالى نجاحهما، فتعيش الأم تحت الخوف والخطر. ومعلوم أن الإنسان لا يسوغ له التصرف في بدنه بما يلحقه الضرر والهلاك. 6- ومن وراء هذه المخاطر مشكلة أثارت ضجة كبرى في الغرب هي: أنه من مزاولة العملية المذكورة يبقى لدى الطبيب في المختبر مجموعة من البييضات الملقحة مجمدة " الأجنة المجمدة " تحسباً لفشل العملية ليقوم بإعادتها مرة ثانية وهكذا لكن في حال نجاحها ما مصير هذه " الأجنة المجمدة "؟ . فهو سبيل لنقلها إلى أجنبي عنها، وهذا ينسحب عليه الحرمة القطعية كما في النوع الأول من طرق الإنجاب، فقد وجد مجموعة من النساء يلقحن من ماء رجل واحد فكأنهن أبقار يلقحن من ثور واحد وهو سبيل لتنميتها في المختبر وإجراء تجارب طبية عليها، وفي هذا اعتداء على الحرمة الإنسانية. وهذا السبيل محل جدل عنيف بين الكفرة منعاً وجوازاً؟؟؟ . وهو سبيل إلا إتلافها حال نجاح العملية وهذا أمر مستبعد في عرف الأطباء لأنها عملية صعبة يتعسر الحصول عليها وتوفيرها يدر أرباحاً كبيرة، وخاصة في المستشفيات التجارية.

7- أثبت الطب ازدياد نسبة تشوهات الأجنة بطريقته الحديثة هذه، وذلك أن الطب الحديث اكتشف في: الطريق الطبيعي الشرعي للإنجاب وجود مقاومة للحيوانات المريضة والمصابة في صبغتها، وهذا ما يفتقده التلقيح الصناعي. 8- بل ثبت في الواقع الأثيم الظالم، وجود شركات لبيع الأرحام وتأجيرها، وشركات لبنوك المني وبيع مني العباقرة والفنانين.. وشركات لبيع الحيوانات المنوية والبييضات. وقد ثارت قضايا أمام القضاء بأنها مثلاً رغبت ماء رجل أبيض فولدت أسود أو بالعكس، أو أنها حصلت على ماء رجل مصاب بمرض جنسي، وهكذا مما يثبت أن الطب الغربي أخذ بتقدمه الجنوني إلى أعمال: الانهيار الأخلاقي والكيان الإنساني من أساس بنيته. والله سبحانه لم يمن على خلقه بخلقه لهم إلا بطريق الإنجاب الشرعي السليم من الشوائب في النسب والعرض. 9- إن في طريق الإنجاب هذه أبشع صورة للتعري وفحص السوءة أو السوأتين من رجل أجنبي عنها، بل وربما فريق عمل لها، وعمل الإنجاب لا يحتسب ضرورة يباح في سبيلها هذا التبذل والهبوط. هذه مجموعة من المخاطر والمحاذر التي تحصل فعلاً في هذه الطريق، ويرتقب حصولها فيكون سبباً ووسيلة إليها. وعليه: فيظهر أن من نزع إلى المنع من باب تحريم الوسائل وما تفضي إليه من هتك المحارم فإنه قد نزع بحجج وافرة، وما لبس المسلم

في حياته ولآخرته أحسن من لباس التقوى والعزة، وعيشة في محيط الكرامة الإنسانية وسلامة بنيتها ومقوماتها لتعيش في جو سليم من الوخز والهمس محافظاً على دينه وعلى نفسه، وكما يحافظ على ماله من الربا وغباره، يحافظ على نسبه وعرضه من آثاره الضارة عليهما بالشكوك والأوهام التي تصرع شرفه وعزته، وأخيراً تخل بتماسك أمته وحفظها وصيانتها. وقد علم من مدارك الشرع أن جملة من المحرمات تحريم وسائل قد تباح في مواطن الاضطرار والضرورة تقدر بقدرها وعليه: فإن المكلف إذا ابتلي بهذه فعليه أن يسأل من يثق بدينه وعلمه، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. بكر بن عبد الله أبو زيد 10 / 10 / 1406 هـ

التشريح الجثماني والنقل والتعويض الإنساني

" 6 " التشريح الجثماني والنقل والتعويض الإنساني

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: فإن الطبيب يعايش في الوقت الحاضر، أنواعاً من الممارسات الطبية الفاعلة على بدن الإنسان، في مفردات متعددة من العمليات يجمعها أوعية ثلاثة: 1- العمليات المجردة. 2- التشريح. 3- النقل والتعويض الإنساني. والعمليات المجردة كالزائدة الدودية، والفتق.. حكمها الجواز شرعاً بالإجماع، طرداً لقاعدة الشرع في أصل مشروعية الجواز، والذي قد يصل إلى (الوجوب) إذا توقفت عليه الحياة. والبحث إنما يكون في متعلقاتها من: التخدير والعلاج بها على البرء.. والنظر الشرعي هنا يتجاذب معها؟ الحوار في: 1- حرفة التشريح. 2- وصور النقل والتعويض الإنساني، في دم، أو عضو، أو أنسجة، أو شرايين.. قد عُقدت لهذا، أو لبعض مفرداته مؤتمرات: وأعدت له ندوات، وكتبت فيه أبحاث ومؤلفات، وصدرت به فتاوى، بين الإباحة والحظر، في

إطار التفصيل والضوابط والشروط. فصار لابد من تحرير النظر لتلتقي الحقيقة الشرعية مع الحقيقة الطبية، إذ الحكم فرع التصور، عسى أن ينتج من هذا: القولُ الصحيح، المبنيُّ على الدليل الصريح، والنظر الرجيح. ويجري البحث في هذين على سبيل تخريج النوازل على قواعدها، وإرجاع الفروع إلى أصولها، وإناطة الأحكام بعللها ومداركها. لتعلم بعد حين: أن البحث في حكم التشريح للتعلم والتعليم يستلزم البحث في حصر صور التشريح. وأن البحث في حكم القرنية، والترقيع، فرع البحث في أحكام النقل والتعويض الإنساني. وإن هذين الوعائين، بفروعهما المتكاثرة، والتي زادت في إنجاز الطب عن عشرة فروع، تلتقي في البحث والاستدلال، وتجاذب الخلاف واختلاف الأنظار، لأنها تنزع من قوس واحدة: (التصرف الفاعل في بدن الإنسان إدخالاً وإخراجاً) فهي مشتبكة، اشتباك الروح بالهيكل، وكما أن محلها بدن الإنسان، فهي تلتقي في المآخذ الشرعية من حيث الأصول والقواعد الكلية من جهة: بدن الإنسان في: طهارته، ورعاية حرمته وكرامته، وهل هو مالك لبدنه أم أمين ووصي عليه، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار، في إطار مقصد الشرع في (حفظ النفس) . والمهم في بيان أحكام هذه النوازل المستجدة تحرير النتيجة الحكمية

من القواعد التي تُخَرَّجُ عليها، وسلامة التخريج، وتثبيت مدرك الحكم والتعليل، فإنه متى صحت مع الباحث هذه المطالب سهل عليه بإذن الله تعالى ترتيب الحكم بأمان واطمئنان. وهذه رؤوس المُقَيَّدات فيها مع أبحاث تمهيدية لها: المبحث الأول: ما كتب فيها. المبحث الثاني: حكم التداوي في أصل الشرع. المبحث الثالث: التاريخ القديم لها. المبحث الرابع: حصر التصرفات الطبية الفاعلة على بدن الإنسان. المبحث الخامس: القواعد والأصول الشرعية التي تخرج عليها هذه النوازل الطبية جوازاً أو تحريماً. المبحث السادس: التخريج لهذه القضايا عليها: 1- العمليات المجردة. 2- التشريح. 3- النقل والتعويض الإنساني. المبحث السابع: الشروط العامة للنقل والتعويض. المبحث الثامن: حكم المعاوضات المالية على الدم والأعضاء. وهذا أوانها، والله الموفق والمعين.

المبحث الأول وفيه بيان ما كتب في هذه النازلة من

المبحث الأول وفيه بيان ما كتب في هذه النازلة من: 1- مؤلفات، ورسائل. 2- أبحاث وأجوبة في مؤلفات. 3- بحوث مجمعية، مؤتمرات، ندوات. 4- أبحاث ومقالات في: الدوريات. 5- الفتاوى. وهذا تقييدها: أولاً: المؤلفات والرسائل: 1- الأحكام الشرعية للأعمال الطبية. تأليف: أحمد شرف الدين. ص / 23 - 160 - طبع عام 1407 هـ بمصر. 2- نطاق الحماية الجنائية لعمليات زرع الأعضاء في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي. رسالة (دكتوراه) قدمت لكلية الشريعة بالجامعة الأزهرية فرع أسيوط.

تقع في (850) صفحة. 3- نقل الدم وأحكامه الشرعية. تأليف محمد صافي، نشر: مؤسسة الزعبي، حمص عام 1392 هـ. 4- شفاء التباريح والأدواء في حكم التشريح ونقل الأعضاء. للشيخ إبراهيم يعقوب - رحمه الله تعالى - طبع بدمشق عام 1407 هـ. نشر مكتبة الغزالي. وهو مهم في بابه لما حواه من النقول المتناثرة. 5- تعريف أهل الإسلام بأن نقل العضو حرام. لأبي الفضل عبد الله بن الصديق الغماري. رسالة في (28) صفحة طبعت عام 1407 هـ في دار مصر للطباعة. 6- تشريح جسم الإنسان لأغراض التعليم الطبي. بحث: قنديل شاكر شبير. نشر عام 1978 م في ليبيا. 7- زرع الأعضاء بين الحظر والإباحة. أحمد محمود سعيد. الطبعة الأولى عام 1406 هـ. نشر دار النهضة العربية بمصر. ثانياً: أبحاث وأجوبة في مؤلفات: 8- الفتاوى السعدية. للشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله تعالى. بحث فيه جواب عن سؤال 1 / 320 - 325. طبع عام 1388 هـ. 9- مجموعة بحوث فقهية. تأليف: عبد الكريم زيدان. ص / 163 - 164.

10- ردود على أباطيل، للشيخ: محمد الحامد - رحمه الله تعالى - ص / 125 - 126. 11- بحث في تفسير (معارف القرآن) . أردو. لمفتي باكستان: محمد شفيع (م سنة 1396 هـ) رحمه الله تعالى. ترجم جملة منه: محمد برهان الدين السنبهلي في مجلة البعث الإسلامي عدد / 1 المجلد / 32 لعام 1407 هـ. ص / 67 - 68. 12- من حقيبة المفتي. تأليف: أحمد العسكري. ص / 168، 212، 239. ثالثاً: بحوث مجمعية. مؤتمرات. ندوات. 13- 15- ثلاثة بحوث في: نزع القرنية من عين إنسان وزرعها في إنسان آخر، إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة: سماحة الشيخ / عبد العزيز بن باز. عام 1396 هـ و 1397 هـ. 16- قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية رقم / 66 في عام 1398 هـ بشأن نقل القرنية من عين إنسان إلى آخر. 17- قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية رقم / 99 لعام 1402 هـ بشأن نقل العضو من إنسان حي أو ميت إلى آخر. 18- بحث: زراعة الأعضاء الإنسانية في جسم الإنسان. إعداد: الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام. نشر في: مجلة المجمع الفقهي بمكة العدد / 1 عام 1408 هـ السنة الأولى. من ص / 13 - 22. 19- حكم العلاج بنقل دم الإنسان أو نقل أعضاء أو أجزاء منها. إعداد:

أحمد فهمي أبو سنة. نشر في مجلة المجمع الفقهي بمكة المكرمة ص / 23 - 26. العدد / 1 السنة / 1 عام 1408 هـ. بحث مقدم: للمجمع الفقهي بمكة. ونشر أيضاً في مجلة التضامن الإسلامي. 20- زراعة الأعضاء الإنسانية في جسم الإنسان. إعداد: محمد رشيد رضا قباني. نشر في مجلة المجمع الفقهي بمكة ص / 27 - 34. العدد / 1 السنة / 1 لعام 1408 هـ. 21 - قرار المجمع الفقهي بمكة - حرسها الله تعالى - في دورته الثامنة لعام 1405 هـ بشأن زراعة الأعضاء. 22- انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً. الطبيب: محمد علي البار. بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي بجدة، الدورة الرابعة عام 1408 هـ. 23- انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً. إعداد الشيخ خليل محي الدين الميس. لبنان. بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي بجدة عام 1408هـ. 24- انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً. للشيخ / محمد ابن عبد الرحمن، بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي بجدة. الدورة الرابعة عام 1408 هـ. 25- انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً. إعداد محمد سعيد رمضان البوطي. بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي بجدة عام 1408 هـ. 26- بحوث بشأن نقل الأعضاء. من محفوظات قسم الطب الإسلامي في

مركز الملك فهد للبحوث الطبية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة. 27- المؤتمر الإسلامي الدولي. انعقد في ماليزيا في شهر إبريل عام 1969 م. وبحث فيه: نقل قرنية العين، والأعضاء. بواسطة بحث رئاسة الإفتاء بالرياض: البحث الثالث لعام 1397 هـ ص / 22. 28- ندوة نقل الكُلَى. عقدها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة عام 1978 هـ. 29- ندوة المركز الطبي لنقل الكُلَى في الرياض. محرم عام 1408 هـ. رابعاً: أبحاث ومقالات في الدوريات. 30- تشريح الميت. فتوى: للشيخ يوسف الدجوي. نشرت في مجلة الأزهر عام 1355 هـ العدد / 7، 8. المجلد / 9. وفي مجلة نور الإسلام. المجلد السابع. وخلاصتها في: شفاء التباريح والأدواء. 31- حرمة التشريح. للشيخ محمد عبد الوهاب بحيري. نشر في مجلة نور الإسلام. وهو رد على مقال الشيخ الدجوي. 32- ورد على الدجوي أيضاً الشيخ العربي بو عياد الطنجي وخلاصته في: شفاء التباريح والأدواء. 33- استخدام أعضاء الإنسان في جسم غيره من الإنسان، والأخطار الناشئة عنه. بحث للشيخ أبي الأعلى المودودي. نشر في مجلة البعث الإسلامي ص / 53 - 55. العدد / 2 المجلد / 32 لعام 1407 هـ. 34- نقل الكُلَى وموقف الإسلام منها. إعداد عبد الرحمن النجار. نشر

في المجلة الجنائية القومية بالقاهرة عام 1978 م. العدد / 1. 35- حكم الشريعة الإسلامية في التداوي بالأشياء النجسة ودم الإنسان. بحث للشيخ برهان الدين السنبهلي. نشر في مجلة البعث الإسلامي ص / 62 - 73. العدد / 1 المجلد 32 رمضان لعام 1407 هـ. 36- حكم الشريعة الإسلامية في زرع الأعضاء الإنسانية. بحث: الشيخ محمد برهان الدين السنبهلي. نشر في مجلة البعث الإسلامي ص / 44 - 55. العدد / 2 المجلد / 32 عام 1407 هـ. 37- التصرف في أعضاء الإنسان. إعداد محمد فوزي فيض الله. نشر في مجلة الوعي الإسلامي. العدد / 276. لشهر ذي الحجة عام 1407 هـ. 38- الإنسان لا يملك جسده، فكيف يتبرع بأجزائه أو يبيعها، بحث للشيخ محمد متولي الشعراوي. نشر في مجلة اللواء الإسلامي. العدد / 226. لشهر جمادى الآخرة عام 1407 هـ. خامساً: الفتاوى. وتقدم بعضها، ومنها: 39- فتوى الشيخ محمد بخيت المطيعي. وخلاصتها في شفاء التباريح والأدواء. 40- فتوى مفتي مصر: الشيخ محمد حسنين مخلوف. في فتاويه 1 / 360. 41- فتوى الشيخ حسن مأمون في جواز نقل الدم، مفتي مصر سابقاً. رقم الفتوى / 1065.

42- فتوى الشيخ حسن مأمون. مصر. رقم / 1087 عام 1378 هـ. 43- فتوى الشيخ محمد خاطر. مصر. عام 1392 هـ بشأن علاج حروق الأحياء من جلد الميت بشرطه. 44- فتوى الشيخ أحمد هريدي. مصر. برقم 992 عام 1966 م بشأن سلخ القرنية من الميت للحي، بشرطه. 45- فتوى الشيخ جاد الحق علي جاد الحق. مصر. برقم / 1323 عام 1400هـ بشأن: نقل العضو من إنسان إلى آخر بشرطه. 46- فتوى مفتي سوريا: الشيخ محمد أبو اليسر عابدين. وخلاصتها في شفاء التباريح والأدواء. 47- فتوى لجنة الإفتاء في المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر. عام 1392 هـ. موجودة بنصها في البحث الثالث من أبحاث اللجنة الدائمة في رئاسة الإفتاء بالرياض. ص / 17 - 21. 48- فتوى من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت. رقم / 132 / 79 عام 1400 هـ بشأن نقل الأعضاء من حي أو ميت.

المبحث الثاني في حكم التداوي

المبحث الثاني في حكم التداوي قال العز بن عبد السلام (1) : " الطب كالشرع، وضع لجلب مصالح السلامة والعافية ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام ". وقد علم من الشرع بالضرورة مشروعية التداوي، وأن حكمه في الأصل الجواز، توفيراً لمقاصد الشرع في حفظ النوع الإنساني، المعروف في ضرورياته باسم " حفظ النفس ". وقد حُكي الإجماع على أن حكمه الجواز، لكن قيل إن أحكام التكليف تنسحب عليه، فمنه ما هو واجب، وهو ما يعلم حصول بقاء النفس به لا بغيره ... (2) . فهو يختلف حكماً باختلاف الغاية منه، ومنها (3) : 1- حفظ الصحة الموجودة.

_ (1) قواعد الأحكام 1 / 4. (2) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 5 / 106، وفهارسها: 37 / 92، الفتاوى الهندية 5 / 355، تحفة المحتاج 3 / 182. (3) زاد المعاد 3 / 111، والطب النبوي ص / 114.

2- إعادة الصحة المفقودة بقدر الإمكان. 3- إزالة العلة أو تقليلها بقدر الإمكان. 4- تحمل أدنى المفسدتين لإزالة أعظمهما. 5- تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعظمهما.

المبحث الثالث التاريخ القديم لعمليات النقل والتعويض

المبحث الثالث التاريخ القديم لعمليات النقل والتعويض لقاء تزاحم التطورات الطبية في العصر الحديث، وغرابتها في الإبداع، وبُعد الإنسان خاصة المسلم عن قراءة التاريخ ومآثر الأسلاف - ظن أن هذه من مولدات العصر، وأنها منقطعة الاتصال بالقرون الخوالي، والحال ليس كذلك بل إن تاريخها يرجع إلى ما قبل الإسلام، لدى: اليونان، والرومان، وسكان الأمريكيتين، والهند.. (1) لكن كانت بحكم ما يملكونه من وسائل وإمكانات في تلك العصور. وعليه فالذي حصل إنما هو تطور في التشريح، والترقيع. وامتداده من الإنسان إلى الإنسان. والذي يهمنا هنا هو ذكر الوقائع التي حصل الوقوف عليها في سالف عصور الإسلام منها: يد، ورجل، وأصابع، وشعر للرأس، ولحية، وأسنان، وشدها بالذهب إلى غير ذلك. وفي (مجلة المجمع العلمي العراقي) بحث حافل في هذه الوقائع، وبأكثر في " النظائر".

_ (1) انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً. للطبيب محمد علي البار ص / 2 - 4. بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي بجدة.

المبحث الرابع حصر التصرفات الطبية الفاعلة على بدن الإنسان

المبحث الرابع حصر التصرفات الطبية الفاعلة على بدن الإنسان من أعظم المطالب حصر المتفرق في ضوابط جامعة، وعبارات مترابطة تكون كالمتن، وما يلحقها كالشرح لها، فإن ذلك أدعى للفهم وجمع الذهن وعليه: اعلم أن التصرفات الطبية الفاعلة على بدن الإنسان، تنقسم بحكم التتبع والاستقراء إلى أقسام ثلاثة: 1- عمليات مجردة: كعملية الفتق، و (الزائدة الدودية) ونحوهما. وهذا لا يعلم في جوازه خلاف، طرداً لأصل مشروعية التداوي، وستعلم بَعْدُ مدى انسحاب أحكام التكليف الخمسة على التداوي. 2- عمليات (النقل والتعويض الإنساني) بين شخصين، أو في الشخص ذاته في نقولاتها الأربعة: نقل الدم، النقل الذاتي، النقل من حي إلى حي، النقل من ميت إلى حي. كزراعة الأعضاء ... 3- حرفة التشريح في واحد من أغراضه الثلاثة، لكشف الجريمة، أو لكشف المرض، أو للتعلم والتعليم. وهذان القسمان هما محل التجاذب، والنزاع بين أهل العلم في مفرداتهما بالجملة، فمنها ما هو محل نزاع قوي كنقل عضو من حي إلى حي، ومنها ما هو محل خلاف ضعيف كنقل دم من حي إلى حي، ومنها

ما هو متفق على تحريمه كنقل مضر بالحي إلى حي، ومنها ما ليس محل خلاف على جوازه كترقيع الشفة من بدن الحي ذاته. وتحرير النظر فيها تراه بعد تحرير التصور الطبي الواقعي لها وهذا أوانها.

المبحث الخامس القواعد والأصول الشرعية التي تخرج عليها هذه النوازل الطبية

المبحث الخامس القواعد والأصول الشرعية التي تخَُرَّجُ عليها هذه النوازل الطبية يمكن إجمال القول في تصنيف مهماتها إلى ما يلي: 1- طهارة الآدمي: القاعدة الفقهية أن (ما أُبين من حي فهو كميتته) . للحديث في ذلك، - ويأتي - أي: كميتته طهارة ونجاسةً فما أُبين من بهيمة الأنعام وهي حية فله حكم الميتة منها حتف أنفها (النجاسة) أي فهو نجس. وما أبين من السمك والجراد وهو حي فله حكم الميتة منها (الطهارة) أي: فهو طاهر. قالوا: والكافر نجس، فما أبين منه حياً أو ميتاً فهو نجس، لقوله تعالى {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ، وللأمر باغتساله إذا أسلم. والآدمي المسلم ميتته نجسة، فما أبين منه وهو حي فله حكم ميتته " النجاسة " فهو نجس. وبدليل تغسيله بعد موته. وعليه: فإن ترقيع المسلم بما هو نجس فيه إخلال بواجبات الشريعة كصحة الصلاة. لكن هذا التقعيد يرد عليه أمور: أولاً: أن تعلم أن أصل قول الفقهاء رحمهم الله تعالى ما أبين من

حي فهو كميتته) يذكرونه في بابي الطهارة، والصيد، ويريدون ما أبين من حيوان مأكول. وأصل هذا قد ورد مقيداً بالبهيمة في حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما، وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وحديث تميم الداري رضي الله عنه. وهذا الحديث له قصة وهي كما في رواية أبي واقد رضي الله عنه قال: (كان الناس في الجاهلية قبل الإسلام يجبُّونَ أسنمة الإبل ويقطعون إليات الغنم، فيأكلونها، ويحملون منها الوَدَك، فلما قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألوه عن ذلك، فقال: " ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت " رواه أحمد، وابن الجعد، وأبو يعلى، وأبو داود، والترمذي، والدارمي، والدارقطني، والطبراني، وابن عدي، والحاكم، والبيهقي. ترجم عليه أبو داود في الصيد بقوله: باب في صيد قُطِعَ منه قطعة. وترجم عليه الترمذي في الصيد بقوله: باب ما جاء: ما قطع من الحي فهو ميت. وترجم له البيهقي ترجمتين في الطهارة بقوله: باب المنع من الانتفاع بشعر الميتة، وفي الصيد بقوله: ما قطع من الحي فهو ميتة. وأما حديث ابن عمر فهو بلفظ: ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت، رواه ابن ماجه، والبزار، والدارقطني. وحديث أبي سعيد: " ما قطع من حي فهو ميت " رواه الحاكم.

ورواه أبو نعيم في الحلية وابن عدي في الكامل: كل شيء قطع من الحي فهو ميت. وحديث تميم الداري رضي الله عنه بلفظ: " ما أخذ من البهيمة وهي حية فهو ميت ". رواه الطبراني. وابن عدي. ورواه ابن ماجه بسنده عنه بلفظ: " يكون في آخر الزمان قوم يجبون أسنام الإبل، ويقطعون إليات الغنم، ألا فما قطع من حي فهو ميت ". وهذا اللفظ فيه: الهذلي وهو متروك. هذا الحديث مقيد بسببه ولفظه بالبهيمة، فلا يتجاوزها إلى غيرها والله أعلم. وقد قال المناوي في شرحه له 5 / 461: (فإن كان طاهراً فطاهر، أو نجساً فنجس، فيد الآدمي طاهرة، وإلية الخروف نجسة، ما خرج عن ذلك إلا نحو شعر المأكول وصوفه وريشه ووبره ومسك فأرته فإنه طاهر لعموم الاحتياج له) اهـ. ثانياً: وأما آية التوبة / 28 {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فقد علم أن النجاسة أنواع: نجاسة خبث وحدث، ونجاسة عينية وحكمية. والمراد بنجاسة المشركين في هذه الآية هي النجاسة الحكمية. وعلى هذا المحققون من المفسرين بدليل: أن سؤر اليهودي والنصراني طاهر، وآنيتهم التي يضعون فيها المائعات ويغمسون فيها أيديهم طاهرة، وقد أباح الله للمسلمين التزوج بالكتابيات ولم يوجب عليهم غسل الأيدي عند

ملامستهم أو غسل ما لامسوه وهكذا - (21 / 67 الفتاوى) . وأما غُسل الكافر عند إسلامه، فليس لنجاسته ولكن لما عسى أن يكون عليه من جنابة، وإعلاناً بغسل الكفر وحبه للإسلام. وأما تغسيل المسلم بعد وفاته فهو أمر تعبدي، لم يعلله أحد بالنجاسة، إذ لو كان نجساً ويطهر بالغسل لما صلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قتلى أحد وغيرهم من الشهداء، بلا غسل لهم. فغسل المسلم الميت، لأنه قادم على ربه فيكون في طهارة من الحدث متيقنة، والله أعلم. وبناء على ما تقدم، فلم يظهر دليل يفيد نجاسة بدن الآدمي مسلماً كان أو كافراً، فالكافر طاهر طهارة نسبية، والمسلم طاهر البدن طهارة كاملة، ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقيه في بعض طرق المدينة وهو جُنُب، قال: فانخنست منه، فذهبت فاغتسلت ثم جئت، فقال أين كنت يا أبا هريرة قال: كنت جنباً فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سبحان الله إن المؤمن لا ينجس ". وقال البخاري: قال ابن عباس: المسلم لا ينجس حياً أو ميتاً. 2- بدن الإنسان (1) : يتردد البحث في بدن الإنسان، قولاً، وتخريجاً على بعض القواعد الأصولية، والقواعد الفقهية الكلية - بعبارات كلها بمعنىً:

_ (1) بحوث دار الإفتاء بالرياض 1 / 25 - 26، 2 / 18 - 19، 3 / 2 - 4، 24. مجلة البعث الإسلامي جـ / 432 / 2 ص / 45 - 55. تعريف أهل الإسلام ص / 4، 13، 19.

فيقال: بدن الإنسان مملوك له أو لا.؟ ويقال: بدن الإنسان مملوك له أم هو أمين ووصي عليه.؟ ويقال: بدن الإنسان حق لله، أو حق للعبد، أو فيه الحقان وأي: الحقين أغلب.؟ ثم إذا قيل بملكية الآدمي لبدنه، وأحقيته له، فهل هي مثل تملكه للمال والمتاع، تدخل عليه مطلق التصرفات من بيع، وهبة، وتبرع وإسقاط، ونحو ذلك مما يدور في محيط المصلحة، وتحقيقها كالشأن في التصرف في الأموال لا يكون إلا بدائرة المصالح، فلو كان مبذراً سفيهاً، حُجر عليه، ومُنع من التصرف في ماله، وأُقيم عليه وصي لإدارة شؤونه على ضوء المصلحة. وإذا قيل بأنه حق لله تعالى، فهل حق الله سبحانه: هو الاستعباد. وحق العباد: الاستعمال والاستمتاع، والانتفاع؟ فكما أن له في حال الجناية عليه: حق الإسقاط وأخذ العوض، والمجازاة في العمد عليه، فله حق التصرف ابتداء في عضو ونحوه تبرعاً كما أن له بنص الشرع الخوض في معارك الجهاد الشرعي، وإلقاء نفسه حال المسايفة والمبارزة ومقاتلة المشرك لينال سلبه. كل هذا محل تجاذب ونظر، ولم ينفصل عن راقموه بكبير شأن، وإن كان أظهرها اجتماع الحقين: حق الله، وحق عبده، والأخذ بأحدهما يختلف باختلاف الأحوال والتصرفات ومعلوم أن ما اجتمع فيه الحقان فإن إسقاط العبد لحقه مشروط بعدم إسقاط حق الله تعالى، وحق الله تعالى هو الغاية من خلق الآدميين {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} فليس له حق التصرف في بدنه بما يضر في الغاية من خلقه ولا بما

يخدشها. والله أعلم. 3- قاعدة الشريعة في حفظ " الضروريات الخمس " والمعروفة أيضاً باسم: مقاصد الإسلام الخمسة وهي: حفظ الدين. فحفظ النفس. فحفظ العقل. فحفظ النسل " والعرض ". فحفظ المال. ومسائلها في الشرع معلومة. والقصد هنا ما يتعلق بثانيها رتبة " حفظ النفس " وعليه: فاعلم أن " حفظ النفس " بما أنه من مقاصد الشرع الكلية ومقاصده الضرورية، فقد أحاطته الشريعة بكل ما يمنع النيل من هذه الصيانة، والحفظ في إطارات كلية وجزئية، منها ما يلي: أ - أن حرمة دم المسلم أو أي عضو منه، وعصمته. ذلك مما عُلم من الدين بالضرورة، والنصوص بهذا متظاهرة فلا يجوز الاعتداء عليه بقتل، أو خدش فأكثر، ولا قتل نفسه ولا العبث ببدنه، والتصرف فيه بما يضره ولا ينفعه كالخصاء، والوسم، والوشم، ونحوه. سوى ما كان لموجب شرعي من حد أو قود في نفسه أو طرف، أو بتر عضو من مريض لمرضه حتى لا يسري إلى بدنه. ب - أن الشرع رتب التدابير الجزائية الرادعة عن الاعتداء عليه من قصاص، ودية، وكفارة، وإثم.

ج - أنه لا يباح شيء من بدنه بالإباحة، فكما يحرم على الإنسان: قتل نفسه، أو قطع عضو منه، فيحرم عليه إباحة شيء من ذلك لغيره. قال القرافي في " الفروق ": " وحرم الله القتل والجرح، صوناً لمهجته، وأعضائه، ومنافعها عليه، ولو رضي العبد بإسقاط حقه من ذلك، لم يعتبر رضاه، ولم ينفذ إسقاطه ". ونحوه في (الموافقات) للشاطبي، وفي (كشاف القناع) . د - وإلى أبعد من هذا ذهب بعض أهل العلم فقالوا بوجوب القصاص على من جرح ميتاً أو كسر عظمه، لعموم آيات القصاص. وممن قال بذلك ابن حزم رحمه الله تعالى (1) . هـ - حماية الشرع له قبل ولادته، فأوجبت الدية في الجناية على الجنين، مع الإثم (2) . و تحريم الإجهاض، فلو أجهضت أمه لوجبت عقوبتها بديته لورثته (3) . ز - النهي عن تمني الموت لضر نزل به، والأحاديث في هذا في الصحاح من حديث أنس، وأبي هريرة وغيرهما كحديث خباب رضي الله عنه " لا تتمنوا الموت " رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما. ح - حث المسلم على إنقاذ الأنفس من الهلكة، وأن ذلك من أعظم

_ (1) المحلى 11 / 39. المجموع 5 / 283، 303. (2) المغني 7 / 799، زاد المعاد 3 / 200. (3) المغني 7 / 816.

القربات، وأجل الطاعات، قال الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} . ومن أسباب الهلاك (المرض) فبذل السبب من المسلم لأخيه في إنقاذه من مرضه، إنقاذ له من الهلاك بأي سبب من علاج، أو تغذيته بدم مضطر إليه ... ط - تحريم التمثيل به تشفياً وانتقاماً، وإهانة وإيذاء، وإهداراً لحرمته وكرامته، وتغييراً لخلق الله كالتمثيل في الحروب والمعارك وكتغيير خلق الله مثل: خصاء الآدمي، والوسم، والوشم، والتنمص، والتفلج، ووصل شعر الرأس من آدمي بآخر. والنصوص في هذا متظاهرة من الكتاب والسنة، قال الله تعالى عن عدوه إبليس: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء: 119] . فهذه الآية: تشمل ما ذكر، وتشمل نقل عضو من عين ونحوها، حتى ولو كان لا يضر المنقول منه مطلقاً مثل نقل شعر من آدمي لوصله في رأس آخر. وقد كان نزول هذه الآية في " فقء عيون الأنعام، وشق آذانها " والعبرة بعموم ألألفاظ لا بخصوص الأسباب، ويشهد لهذا العموم، حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله تعالى. مالي لا ألعن ما لعن رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو في كتاب الله تعالى".

وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، قالت: جاءت امرأة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسول الله، إن لي ابنة عريساً أصابها حصبة، فتمزق شعرها أفأصله؟ فقال: " لعن الله الواصلة والمستوصلة ". فهذا يدل على أمرين: 1- أن العلاج بنقل عضو لا يجوز، للوعيد المذكور، فهو مثله. 2- أن من أصيب بداء من ذلك لا يجوز التعالج بتعويضه من بدن إنسان آخر. وهذا تغيير لخلق الله. ولهذا قال النووي رحمه الله تعالى في وجه الدلالة من هذه الأحاديث (1) : إن وصلت بشعر رجل أو امرأة، وسواء شعر المحرم والزوج، وغيرهما بلا خلاف، لعموم الأحاديث، ولأنه يحرم الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه، لكرامته، بل يدفن (2) شعره وظفره، وسائر أجزائه. اهـ. وفي تفسير هذه الآية تكلم القرطبي على حرمة خصاء الآدمي ونقل عن ابن عبد البر قوله: (لا يختلف فقهاء الحجاز، وفقهاء الكوفة، أن خصاء بني آدم لا يحل، ولا يجوز لأنه مُثْلَة، وتغيير لخلق الله تعالى وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود) اهـ. وقال النووي - رحمه الله تعالى - أيضاً: (ولا يجوز أن يقطع - أي الآدمي - لنفسه من معصوم غيره بلا خلاف، وليس للغير أن يقطع من

_ (1) المجموع للنووي: 2 / ص 23. (2) انظر في دفن ما تساقط من بدن الآدمي: تفسير القرطبي 2 / 102، المحلى 1 / 1118، مغني المحتاج 10 / 348 بحاشية الشربيني.

أعضائه شيئاً ليدفعه إلى المضطر بلا خلاف) اهـ. لكن هذا الوجه من الاستدلال في حرمة التمثيل على حرمة النقل والتعويض والتشريح فيه نظر لما يلي: وهو أن الأمور بمقاصدها، فالتمثيل المحرم هو المبني على التشفي والحقد والانتقام والإيذاء. لهذا جاز القصاص في النفس وما دونها: " العين بالعين، والسن بالسن، والبادئ أظلم " ولم يعد مثلة محرمة، فتلحق بالتمثيل المحرم، بل هذا عين العدل لأنه مبني على العقوبة بالمثل. وهكذا يمكن أن يقال في التشريح لجثة الميت لكشف الجريمة مثلاً لمصلحته ومصلحة وارثه، ومصلحة أمن الجماعة. وهكذا في النقل والتعويض الإنساني فهذا والله أعلم يعد من باب الإحسان والإيثار. فالصورة في قلع العين كما ترى واحدة، والنتيجة الحكمية مختلفة. فقلع العين كفعل العرنييْن مثلة محرمة، وقلع القرنية من العين لمصلحة حي لا يحتسب مثلة بل يحتسب إحساناً، وقلع العين قصاصاً يعتبر عدلاً. والله أعلم. ي - رعاية حرمة المسلم ميتاً كرعاية حرمته حياً. وقد جاءت النصوص بتحريم كسر عظم الميت والنهي عن إيذائه، والنهي عن وطء قبره.. عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " كسر عظم الميت ككسر عظم الحي " رواه أبو داود، وابن ماجه، والدارقطني، ولفظه: " كسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم ". ورواه ابن أبي شيبة بلفظ: " أذى المؤمن في موته كأذاه في حياته ".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر " رواه مسلم والأربعة. وجه الاستدلال: إذا كانت حرمة المسلم ميتاً مساوية لحرمته حياً فكيف تكون الجرأة بهتك حرمته، من تمزيق بدنه بتشريحه، وانتزاع عضو بل أعضاء منه. قال الحافظ ابن حجر: (يستفاد منه أن حرمة المؤمن بعد الموت باقية كما كانت في حياته) اهـ. ك - الحجر والمنع للمتطبب الجاهل رعاية للنوع البشري من العبث، وتضمينه (1) " من تطبب ولم يُعلم منه طب فهو ضامن " رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم. 4- الموازنة بين المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار. ثم هذه القاعدة العظيمة التي تعني الحفظ العام، والرعاية الشاملة لهذه المقاصد الخمسة بجزئياتها، تدور مفرداتها في قاعدة الشريعة الأخرى وهي: (الموازنة ... الخ) . فإن تغالبتا فالحكم للغالبة منهما، وإن تساوتا قُدّم الحظر درءاً للمفسدة. 5- اعتبار المصالح. ثم إن (المصلحة في الشرع) ، وهي مفسرة بما يعني: جلب المنفعة، ودفع المضرة، تحقيقاً لأي من المقاصد الخمسة المذكورة - هي بالاعتبار لا تخلو من واحدة من ثلاث:

_ (1) المغني 6 / 120 حاشية ابن عابدين 8 / 183. الطب النبوي ص / 109، بداية المجتهد 2 / 346.

1- مصلحة شهد الشرع باعتبارها، كالحدود. 2- مصلحة لم يشهد الشرع لها بالاعتبار، بل هي منحطة عن مصالحه المعتبرة. وهي ما شهد النص بإلغائها. كقول من قال من العلماء: بوجوب كفارة الصيام دون الإعتاق على من جامع من الملوك في نهار رمضان، وهو صائم. 3- وثالثة لم يشهد لها الشرع نصاً بأي من هذين الاعتبارين، وهذه تسمى (المصلحة المرسلة) . وسميت مرسلة لعدم ورود النص بها. 6- مراتب المصالح: ثم هذه المصالح المرسلة تدور بين رتب ثلاث: 1- مرتبة الضرورة. 2- مرتبة الحاجة. 3- مرتبة التحسين. فما يتطلبه بدن الآدمي الحي من بدن إنسان آخر لا يخلو أن يكون أمراً تحسينيا تجميلياً فهل تنتهك حرمة بدن الميت مثلاً لغرض تحسيني.؟ ومثله في غير الآدمي: يسير الذهب في الإناء كالضبة. وإما أن يكون حاجياً بمعنى أن يكون مكملاً لعمل كفائي في بدن الإنسان، دون منزلة الضرورة. فهل تنتهك حرمة الانتهاك لغرض حاجي..؟ ومثل الحاجة في غير الآدمي: يسير الفضة التابع كما في حديث أنس رضي الله عنه: " إن قدح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما انكسر شعب بالفضة "، وإما أن يكون ضرورياً بمعنى توقف حياته عليه. فهذا انتهاك حرمة بدن ميت بجانب العمل على حياة آدمي معصوم، فما الحكم.؟

7- قواعد دفع الضرر ورفع المشقة: 1- الضرر يزال. 2- والضرورات تبيح المحظورات. 3- ويرتكب أخف الضررين لدفع أعظمهما. 4- ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام. 5- والضرورة تقدر بقدرها. 6- والمشقة تجلب التيسير. 7- والأمر إذا ضاق اتسع. ثم الضرورات إذا حصلت، فإن: الضرر يزال، والضرورة تبيح المحظور، والمشقة تجلب التيسير. وتأسيساً على هذه القواعد المترابطة الآخذ بعضها بحجز بعض، جالت أنظار العلماء المتقدمين في عدد من الفروع الفقهية في غذاء الآدمي عند الاضطرار أو دوائه وأشياء أخرى كلها واردة على مقصد الشرع في ضرورة (حفظ النفس) - بين الجواز والمنع، والقبول والكراهة، أسوق رؤوس المسائل فيها دون التعرض لذكر الخلاف فضلاً عن تحريره، لأن هذا مما يطول، ولا يعنينا هنا تحرير الحكم البات في كل مسألة بعينها، أكثر مما يعنينا ذكرها وإن أنظار العلماء جالت فيها، وإن كان الأكثر على جواز أكثرها وقلَّ كتاب من كتب المذاهب المعتبرة إلا ويذكرها أو بعضها لعموم البلوى، وقد ذكر أكثرها: العز بن عبد السلام في (قواعد الأحكام 1 / 86 - 98) في مبحث: (ما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساد بعضه) .

وابن قدامه في (المغني 9 / 417 - 419، 11 / 78 - 80) وأتى على عامة النقول من المذاهب الأربعة اليعقوبي في: (شفاء التباريح والأدواء ص / 45 - 74) وإلى رؤوس المسائل فيها. 1- شق بطن المرأة الميتة التي في بطنها حمل متحرك يضطرب، وفي هذا إنقاذ لحياة معصوم، وهي مصلحة أعظم من مفسدة انتهاك حرمة الميت (1) . لكن هذا الشق يطابق وظيفة الأم الطبيعية، وقد توصل الطب الحديث إلى عمله في المرأة الحية، إذا تعسرت ولادتها، فهو عملية مجردة في محل واحد، هو: الميت متصلاً به حي أو حي متصل به ميت أو حي، ولا سبيل إلى إنقاذ الحي إلا بهتك حرمة وعائه (الحي المتلبس به) بخلاف المفارق كأخذ عضو من ميت إلى حي آخر فلا مماسة، فافترقا، فبطل إذاً التنظير والقياس للاستدلال بها في النقل من ميت إلى حي. والله أعلم.

_ (1) حاشية ابن عابدين 2 / 602، 628. الفتاوى الهندية 5 / 360، عيون المسائل للسمرقندي ص / 384. الأشباه والنظائر لابن نجيم ص / 88. شرح المواق على خليل 2 / 274. المدونة 1 / 190 - 191. فتاوى عليش 1 / 319، 320. شرح الدردير على خليل 1 / 192، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 192. الروضة للنووي 2 / 140، المجموع 5 / 301. مغني المحتاج 1 / 207. الإنصاف للمرداوي 2 / 556. الإقناع 1 / 235 - 236. الفروع وتصحيحه 1 / 961. المغني 2 / 413 - 415. المحلى 5 / 166، 167. قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 79، 86 - 98. شفاء التباريح ص / 45 - 74.

2- رمي من تترس به الكفار من أسارى المسلمين في الحرب (1) . 3- رمي الكفار بالمنجنيق إذا تترسوا بالحصون، وإن كان فيهم النساء والأطفال (1) . 4- أكل المضطر لحم آدمي ميت إذا لم يجد غيره مما يؤكل لسد رمقه (2) : قال الحنابلة لا يجوز، وقال الشافعية والحنفية يجوز، لأن حرمة الحي أعظم. 5- بقر بطن الميت إذا ابتلع دنانير للغير (3) . لكن هذا جاز شق بطنه لأنه هتك حرمة نفسه بتعديه على مال الغير كالسارق إذا سرق قطعت يده. والله أعلم. 6- استهام ركاب السفينة لإلقاء بعضهم في حال مشاهدة العطب تلافياً للغرق (4) .

_ (1) الأم 4 / 287، المغني 4 / 276 - 1277. الإنصاف 4 / 129. (2) شرح المواق على خليل 2 / 71، كتاب الجنائز، شرح الدردير على خليل 1 / 301، فتاوى عليش 1 / 596، وبداية المجتهد. الروضة للنووي 2/ 284 - 285. المغني 11 / 79. الإنصاف للمرداوي 10 / 276. والشرح الكبير 11 / 106، والمحلى 5 / 426. المجموع 9 / 33، 36. القواعد للعز بن عبد السلام 1 / 89. مغني المحتاج 1 / 359، 4 / 282 - 284. حاشية الباجوري على ابن قاسم 2 / 302. فتح الوهاب شرح منهج الطلاب 2 / 193. (3) قواعد الأحكام 1 / 97. المغني 2 / 414 - 415. المحلى 5 / 166 - 167 الأشباه والنظائر لابن نجيم ص / 88، 1 / 113، 2 / 360، الفتاوى الهندية، ومجلة البعث الإسلامي عدد / 2 مجلد / 32 لعام 1407 هـ ص / 49. المجموع 5 / 300. نهاية المحتاج للرملي 3 / 39. مغني المحتاج للشربيني 1 / 207. (4) قواعد الأحكام لابن عبد السلام 1 / 89.

7- وصل عظم الرجل بعظم أنثى وعكسه. قال عبد الحميد الشرواني في حاشيته على تحفة المحتاج شرح المنهاج (1) : " يجوز للذكر الوصل بعظم الأنثى وعكسه، ثم قال: وينبغي أن لا ينقض وضوءه، ووضوء غيره به، وإن كان طاهراً، ولم تحلّه الحياة، لأن العضو المبان لا ينقض الوضوء بمسه إلا إذا كان من الفرج وأطلق عليه اسمه " اهـ. 8- قال بعض أصحاب الشافعي: للمضطر إذا لم يجد شيئاً أن يأكل بعض أعضائه، لأن له أن يحفظ الجملة بقطع عضو كما لو وقعت فيه الأكَلَةُ (2) . 9- إذا لم يجد المضطر آدمياً، فإن كان معصوماً محقون الدم فليس له قتله ليسد به رمقه إجماعاً ولا إتلاف عضو منه مسلماً كان أو كافراً. وإن كان مباح الدم كالحربي والمرتد، فذكر القاضي أن له ذلك، وبه قال أصحاب الشافعي (3) .

_ (1) انظر: منهج الطالبين للنووي، وشرحه مغني المحتاج 1 / 190 - 192. المجموع 3 / 138، تحفة المحتاج 2 / 125 - 128 الفتاوى الهندية 5 / 254. (2) الإقناع 4 / 313. وغاية المنتهى 3 / 369. المغني 9 / 417. مغني المحتاج 4 / 285، قتل الوهاب شرح منهج الطلاب للشيخ زكريا الأنصاري 2 / 193 - 194. (3) المغني 9 / 417، 11 / 78 - 80. البدائع للكاساني 7 / 177. وغاية المنتهى 3 / 369. الأشباه والنظائر لابن نجيم ص / 124. رد المحتار 5 / 215، طبعة الهند عمدة القاري 8 / 296.

10- نبش القبر لمصلحة، وله وقائع متعددة (1) . 11- قطع اليد المتآكلة حتى لا تسري إلى البدن (2) . 12- شرب لبن الميتة للمضطر، وانتشار المحرمية به (3) . 13- إجراء العمليات الجراحية إن غلب على الظن نجاحها (4) . مثل بطّ القرحة بالكي، وقطع الأصبع الزائدة، وشق المثانة إذا كانت فيها حصاة. 14- تنبيه: في المغني وغيره ما نصه (5) " قال أبو بكر بن داود: أباح الشافعي أكل لحوم الأنبياء ... " اهـ. وقال الباجوري (6) : " وللمضطر أكل ميتة الآدمي إذا لم يجد ميتة غيره لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، إلا إن كان الميت نبياً فلا يجوز الأكل منه جزماً، لشرفه على غيره بالنبوة " اهـ. وقال التاج ابن السبكي في ترجمة المزني (7) ، بعد جزمه بأن

_ (1) القواعد لابن عبد السلام 1 / 96. تحفة المحتاج 3 / 205 - 206. حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم 1 / 268. المجموع 5 / 301 - 302 الإقناع 1 / 235 - 236. مغني المحتاج للشربيني 1 / 367 نهاية المحتاج للرملي 3 / 40. (2) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 87. المغني 11 / 78، 79. الفتاوى الهندية 5 / 360. (3) المغني 9 / 198 - 199. شفاء التباريح ص / 71 وفيه نقول عن الشافعية والحنفية. (4) شفاء التباريح ص / 72 عن: الدر المختار 5 / 479. الفتاوى الهندية 5 /360. (5) المغني 9 / 417. (6) حاشية الباجوري على شرح أبي القاسم 2 / 302. (7) طبقات الشافعية 2 /105 ط الحلبي.

الصحيح في المذهب أن المضطر يأكل لحم الآدمي الميت وقال التاج: " إبراهيم المروزي: إلا أن يكون الميت نبياً " اهـ. وقال النووي (1) : " قال الشيخ إبراهيم المروزي: إلا إذا كان الميت نبياً فلا يجوز الأكل منه بلا خلاف لكمال حرمته، ومزيته على غير الأنبياء " اهـ. وقال القرطبي (2) " ولا يأكل - أي المضطر - ابن آدم ولو مات، قاله علماؤنا، وبه قال أحمد وداود، احتج أحمد بقوله عليه السلام: " كسر عظم الميت ككسره حياً "، وقال الشافعي: يأكل لحم ابن آدم، ولا يجوز أن يقتل ذمّياً لأنه محترم الدم، ولا مسلماً، ولا أسيراً، لأنه مال الغير، فإن كان حربياً، أو زانياً محصناً: جاز قتله والأكل منه " اهـ. وهذا كله يدل على أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لم يقل بإباحة أكل لحوم الأنبياء، إضافة إلى أنه لا سند لذلك إليه، وعلى فرض أنه قال ذلك - وحاشاه من أن يقوله - يكون ذلك من قبيل ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في الاستقامة 1 / 219 عن ابن المبارك أنه قال: " رب رجل في الإسلام له قدم حسن وآثار صالحة كانت منه الهفوة، والزلة لا يقتدى به في هفوته وزلته " اهـ. 15- وقد بلغ الحال إلى اتخاذ أعضاء مصطنعة من الذهب والخشب. ونحوهما. وحصل بالتتبع عدد من الواقعات من عصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى القرن السادس. ومنه اتخاذ عرفجة رضي الله عنه أنفاً من فضة لما

_ (1) المجموع 9 / 36. (2) الجامع 2 / 211 - 212.

أصيبت أنفه يوم كلاب. والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رد عين قتادة بن النعمان لما أصيبت يوم بدر. ورد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عين أبي سفيان لما أصيبت يوم حنين. وهكذا في وقائع على تعاقب العصور. ومنها اتخاذ الزمخشري سنة 538 هـ رجْلاً من خشب. والله أعلم.

المبحث السادس تخريج وتنزيل الإجراءات الطبية المعاصرة على المدارك الشرعية

المبحث السادس تخريج وتنزيل الإجراءات الطبية المعاصرة على المدارك الشرعية وبعد هذا التطواف المبين لمدارك ومآخذ الأحكام التي فيها إجراءات على بدن الإنسان، وتنزيل الفروع الفقهية المعاصرة لمتقدمي الفقهاء عليها. وبعد أن أحاط الناظر خبراً بأنواع الأعمال الطبية الفاعلة على بدن الإنسان وأوعيتها الثلاثة العامة وهي: 1- إجراء العمليات. 2- التشريح. 3- النقل والتعويض الإنساني. وعلم أقسام كُلٍّ على سبيل التتبع والاستقراء، مما به يعلم " التصور الطبي للنازلة الطبية " حتى يمكن معرفة تقبل القواعد الشرعية لها جوازاً أو منعاً. بعد هذا كله نأخذ بها واحدة إثر الأخرى في أوعيتها العامة على ما يلي: أولاً: إجراء العمليات:

طرداً لمشروعية التداوي في الشرع، فإن إجراء العمليات الطبية الفاعلة على بدن الإنسان في عملية شق البطن لرتق فتق، أو قطع زائدة دودية ونحو ذلك مما فيه دفع مرض، والعادة جارية بنجاحه في عرف الطب الذي يعايشه الإنسان ... فهذا مما لا خلاف في جوازه إلحاقاً له بحكم الأصل. نعم الخلاف في بعض متعلقات العملية من التخدير بالبنج، والمشارطة على البرء ... وهذه ونحوها محررة أحكامها في المدونات الفقهية. والله أعلم. ثانياً: التشريح علم التشريح مرتكز أساس لحذق الطبيب، وطريق اكتسابه إما أن يكون عملياً أو نظرياً، ولا غنى للطبيب عن عملياً. والتشريح أيضاً هو الأساس في تشخيص الأمراض. والتشريح مفيد إلى حدٍ ما في تحديد سبب الوفاة هل هو باعتداء أو بدون اعتداء؟ وفي كشف الجريمة هل هي بمثقل أو محدد؟ وهل الوفاة بسبب الجناية أو ليست بسببها؟ . والتشريح أساس للطب في إطار " النقل والتعويض الإنساني ". ومن إفادات التشريح في بعض المسائل الفقهية: 1- أن بعض أهل العلم قرروا في: عين الأعور الدية كاملة. والعلة أن العين العوراء يرجع نورها للصحيحة. والتشريح يكشف عن تحديد هذا حتى يصحح القول بوجوب الدية كاملة، أو نصف الدية كالشأن فيمن له عينان سليمتان فجُني على إحداهما

ففيها نصف الدية (1) . 2- ومنه البحث في طهارة المني ونجاسته (2) . فقد علل القائلون بنجاسته وهم: المالكية، والحنفية، بأنه من مجرى البول. والشافعية قالوا بأن لكل منهما مجرى فهو طاهر. قال القاضي أبو الطيب: " وقد شق ذكر رجل فوجد كذلك ". فالحكم في قيام هذا التعليل أو إلغائه للتشريح. وبعد: فيرد السؤال المعاصر هل يُخَرَّجُ التشريح في صوره الثلاث أو في أحدها على الجواز أم المنع؟ . فيقال: أ - أما تشريح الميت لكشف الجريمة، فإنه متى استدعى الحال - لخفاء في الجريمة، وسبب الوفاة باعتداء وهل هذه الآلة المعتدى بها قاتلة، فمات بسببها أو لا - فإنه يتخرج القول بالجواز، صيانة للحكم عن الخطأ، وصيانة لحق الميت الآيل إلى وارثه، وصيانة لحق الجماعة من داء الاعتداء والاغتيال. وحقناً لدم المتهم من وجه، فتحقيق هذه المصالح غالبت ما يحيط بالتشريح من هتك لحرمة الميت، وقاعدة الشريعة ارتكاب أخف الضررين. والضرورات تبيح المحظورات. والله أعلم. وهذا الجواز - عند من قال به - في ضوء الشروط الآتية:

_ (1) الفروق 3 / 191. (2) المجموع 2 / 573.

1- أن يكون في الجناية متهم. 2- أن يكون علم التشريح لكشف الجريمة بلغ إلى درجة تفيد نتيجة الدليل، كالشأن في اكتشاف تزوير التوقيعات والخطوط. 3- قيام الضرورة للتشريح بأن تكون أدلة الجناية ضعيفة لا تقوى على الحكم بتقدير القاضي. 4- أن يكون حق الوارث قائماً لم يسقطه. 5- أن يكون التشريح بواسطة طبيب ماهر. 6- إذن القاضي الشرعي. 7- التأكد من موت من يراد تشريحه لكشف الجريمة: الموت المعتبر شرعاً. ب - أما التشريح لكشف المرض. ج - وأما التشريح للتعلم والتعليم. فحيث أن جثث الموتى من الوثنيين وغيرهم من الكفار ميسورة الشراء لهذين الغرضين برخص الأسعار، وأموال المسلمين نهاباً يبذل قسط منها في غير مصارفه الشرعية فهي غير منتظمة المصارف على رسم الشرع، ولذا لم أجرؤ على بحثهما. ثالثاً - النقل والتعويض الإنساني في أقسامه الأربعة يقصد بالنقل والتعويض الإنساني: نقل قطعة من جلد إلى مكان آخر من بدنه، أو نقل عضو، أو دم، من بدن إنسان متبرع به إلى بدن إنسان آخر، يقوم مقام ما هو تالف فيه أو مقام ما لا يقوم بكفايته، ولا يؤدي وظيفته بكفاءة.

وقد اشتهر بلقب: زراعة الأعضاء الإنسانية. غرس الأعضاء. انتفاع الإنسان بأعضاء الإنسان. ترقيع الأعضاء. والدم بخصوصه اشتهر بلقب: " نقل الدم "، و " التلقيح بالدم ". لكن هنا من النقولات ما لم يشمله هذان اللقبان وهو: النقل لغير دمٍ أو عضو كنقل قطعة من جلد، إذ لا يطلق عليها " عضو "، وأن يكون النقل إليه أو إلى إنسان آخر. ويمكن تقسيمها باعتبارين: أولاً: أقسامها باعتبار المنقول وهي ثلاثة: 1- نقل الدم. 2- نقل عضو. 3- نقل ما دون العضو كقطعة جلد، أو بعض شريان. ثانياً: أقسامها باعتبار طرفي النقل: 1- النقل الذاتي أي من بدن الإنسان إليه ذاته من مكان إلى آخر مثل ترقيع الشفة بقطعة من الفخذ، وترقيع الجفن بقطعة من الشفة. 2- النقل من حي إلى حي. 3- النقل من ميت إلى حي. وللترابط بين هذين التقسيمين بهذين الاعتبارين في ترتيب الحكم،

فإنه يمكن لنا حصر النقولات في أقسامها الأربعة الآتية: القسم الأول: نقل الدم من إنسان حي إلى آخر. ويقال: التبرع بالدم وهذا أوسعها انتشاراً. القسم الثاني: النقل الذاتي: من الإنسان إليه ذاته. وهذا يليه في الانتشار، خاصة في عمليات التجميل. القسم الثالث: النقل لعضو ونحوه من حي إلى حي، للعلاج. القسم الرابع: النقل لعضو ونحوه من إنسان ميت إلى حي، للعلاج. وقد وصل الطب إلى عدد من مفردات النقل منها: 1- نقل القرنية: وقد أقيم لها مراكز عالمية. والقرنية، هي الجزء الأمامي من جدار المقلة، وهي قرص صلب شفاف يغطي سواد العين وتمتاز عن معظم أنسجة العين، وأنسجة الجسم كلها بأنها شفافة للضوء. 2- نقل الكلى وزرعها. وقد أقيم مراكز عالمية لها. 3- العظام. 4- نقل شريان من الساق مثلاً للقلب. 5- توصيل الأمعاء المستأصلة. استئصال الأمعاء، وتوصيلها. 6- المفاصل. 7- البنكرياس وخلاياه. 8- نقل القلب وزرعه. 9- الكبد. 10- الرئتان. 11- العضو التناسلي، والغدد التناسلية.

النقل والتعويض بين رتب المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية يمكن تصنيف دواعي النقل والتعويض إلى ثلاث مراتب: 1- ما يقع في مرتبة الضرورة، والضرورة تكون فيما تتوقف حياة الإنسان عليه. 2- ما يقع في مرتبة الحاجة، كالقرنية. 3- ما يقع في مرتبة التحسينات، كسن وتسوية شفة ونحوها. تقسيمها باختلاف الدين النقل والتعويض ينقسم باعتبار اختلاف الملة إلى قسمين: النقل من مسلم إلى كافر، وعكسه، لا سيما إذا كان بين ولد مسلم ووالدته الكتابية. وللأطباء تقسيمات أخر باعتبار (1) : الذاتية: أي كونها من الجسم ذاته وإليه من منطقة إلى أخرى. والتماثل: كالنقل بين التوأمين. والتباين: كالنقل بين آدميين. والدخيلة: كالنقل من حيوان، أو مصنَّعة إلى آدمي. لكن هذه التقسيمات الطبية لا يترتب عليها اختلاف في الحكم الشرعي، سوى " الدخيلة " وستعلم ما فيها بعدُ إن شاء الله تعالى.

_ (1) بحث الطبيب، البار ص / 6.

وباعتبار عملية التعويض يقسمها الأطباء إلى تقسيم آخر إلى قسمين (1) : 1- الموضع السوي: بمعنى غرس أو زرع العضو في مكان التالف ذاتاً أو منفعة. وهذا في: القلب والرئتين والكبد والقرنية. 2- الموضع المختلف: بمعنى زرع العضو في غير محله التالف. مثاله: زرع الكلى في الحفرة الحرقفية بدلاً من موضعها في الخاصرة. النقل من ميت لحي يتصور من حيث الإذن وعدمه إلى الصور الآتية: 1- ميت أذن قبل وفاته. 2- ميت لم يعقب وارثاً. 3- ميت عقب وارثاً ولم يأذن الوارث. 4- ميت عقب ورثة فأذن بعضهم. 5- ميت عقب ورثة فأذنوا جميعهم. التخريج الشرعي للمنقولات أولاً: التخريج للتغذية بالدم في أعقاب الإنجاز الطبي الحديث بنقل الدم من إنسان إلى آخر تعويضاً له عن نقص في مادة الدم أو عن نزيف حصل له كالحال في بعض الحوادث، وحالات الولادة ولقاء إجراء العمليات وهكذا - حصل

_ (1) البار، ص / 7.

تقليب العلماء للنظر فيها وتخريجها على ما يمكن تخريجها عليه، والتنظير لها بفروع من بابها، وكيف الاعتذار في نظر المبيح عن حديث النهي عن التداوي بالمحرمات وكتبت في هذا أبحاث، ورسائل، وبعد تطواف كبير استقرت كلمة أهل العلم على الجواز في محيط الشروط والضوابط الآتية وهي: 1- قيام الضرورة وتحققها. 2- عدم وجود بديل له مباح. 3- غلبة الظن على نفع التغذية به. 4- تحقق عدم الخطر على المأخوذ منه. 5- توفر رضا المأخوذ منه وطواعيته. 6- أن يكون النقل بالتعويض بإجراء طبيب ماهر. 7- أن تكون التغذية به بقدر ما ينقذه فالضرورة تقدر بقدرها. والمدرك الفقهي لهذه المسألة، الذي ينفي الاضطراب ويقطع اختلاف الأقوال هو: أن نقل الدم من إنسان إلى آخر في إطار الشروط المذكورة ومن أهمها (الاضطرار) هو: (من باب الغذاء لا الدواء) فكمية الدم نقصت مادتها فيحتاج إلى تغذيتها (1) ، ولهذا فهو داخل في حكم المنصوص عليه بإباحة تناول المضطر في مخمصة من المحرمات لإنقاذ نفسه من الهلكة كما في آيات الاضطرار ومنها قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ} إلى قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

_ (1) انظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1 / 92 - 93.

ولو قيل هو من باب الدواء فيقال (1) : (إذا اضطررنا إليه فلم يحرم علينا حينئذ، بل هو حلال فهو لنا حينئذ شفاء) . هذا وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مواضع: أن دم الآدمي طاهر ما دام في جسده فإذا ظهر وبرز كان نجساً، ورد على من قال بنجاسته ما دام في جسد الآدمي بوجوه متعددة من أهمها (2) : عدم الدليل على تنجيسها والأصل الطهارة، وإن خاصية النجس وجوب مجانبته في الصلاة، وهذا مفقود فيها في البدن من الدماء وغيرها، ومنها: (أن الدماء المستخبثة في الأبدان وغيرها، هي أحد أركان الحيوان التي لا تقوم حياته إلا بها حتى سميت نفساً، فالحكم بأن الله يجعل أحد أركان عباده من الناس والدواب نوعاً نجساً في غاية البعد) . لكن بقي هنا أبحاث: الأول: أن الأصل هو التبرع به، وبيعه فيه إهدار لكرامة الإنسان وقيمته. وفي هذا بحث سيأتي إن شاء الله تعالى في آخر أبحاث هذه النازلة. الثاني: النقل والتعويض للدم بين مختلفي الديانة كمسلم وكافر، كحال من كانت أمه كتابية ووالده مسلم. الثالث: جمع الدم في (بنوك الدم) تحسباً لوجود المضطر ومفاجأة أحوال الاضطرار وتكاثرها، تقتضي ذلك. فهو تبرع من مالكه بشرطه من عدم التأثير على صحته ... لمضطر يحتاج إليه.

_ (1) المحلى 1 / 234. (2) الفتاوى 21 / 558 - 601.

وقد نص بعض أهل العلم على ما هو أقل من هذا في تزود المضطر مما أبيح له أكله ضرورة. قال البهوتي في (كشاف القناع) : (وللمضطر أن يتزود من المحرَّم إن خاف الحاجة إن لم يتزود) اهـ. ثانياً: التخريج الشرعي للنقل الذاتي النقل الذاتي من مكان من بدن الإنسان إلى مكان آخر منه ذاته هو في الحكم كإجراء عملية له كالفتق، والزائدة الدودية، وقطع العضو المتآكل، وهذا طرداً لقاعدة التداوي: " الجواز " في إطار شروط التداوي العامة. والله أعلم. ثالثاً: النقل من حي إلى حي النقل من حي إلى حي، لا يخلو من حيث التأثير على حياة المنقول منه وصحته من واحد من الأحوال الآتية: 1- لا تأثير له بأي ضرر مطلقاً كنقل قطعة من جلد ونحوه مما لا تتوقف حياته ولا صحته عليه. وهذا أمر افتراضي ولم نعلم في أبحاث الطب نقلاً من هذا النوع. 2- نقل يؤدي إلى ضرر جزئي محتمل لا خطر معه على صحته ولا حياته، مثل: نقل سن، أو نقل دم. فهذا افتراض لا نعلمه في أبحاث الطب سوى نقل الدم للتغذية به وقد تقدم بيانه. 3- نقل يؤدي إلى ضرر بالغ بتفويت أصل الانتفاع أو جلّه كقطع

كلية، أو يد، أو رجل ... والذي يظهر والله أعلم تحريمه وعدم جوازه، لأنه تهديد لحياة متيقنة بعملية ظنية موهومة أو إمداد بمصلحة مفوتة لمثلها بل أعظم منها. ولأن حق الله تعالى متعلق ببدن الإنسان قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} فمن يفتقد عضواً عاملاً في بدنه يرتفع عنه بمقدار عجزه عدد من تكاليف الشريعة {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ ... } . فكيف يفعل الإنسان هذا بنفسه وإرادته ويفوت تكاليف مما خلق من أجْلِها ليوفرها لغيره بسبيل مظنون، فالضرر لا يزال بمثله، فهذه المصلحة المظنونة بتفويت المتيقنة مما يشهد الشرع بإلغائها وعدم اعتبارها. 4- نقل يؤدي إلى الخطر على الحياة أو الصحة، أو يؤدي إلى الموت، كنزع القلب، والرئة ... فهذا قتل للنفس، وانتحار بطيء، والله تعالى يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وهو من أشد المحرمات في الشرع والفطرة. الرابع: النقل من ميت إلى حي اعلم أن المراد بالميت هنا هو من فارقت روحه بدنه بانقطاعها عن بدنه انقطاعاً تاماً من توقف دقات قلبه طبعياً، أو صناعياً، واستكمال أماراته. فهذه هي الوفاة التي تترتب عليها أحكام مفارقة الإنسان للدنيا من انقطاع أحكام التكليف، وخروج زوجته من عهدته، وماله لوارثه، وتغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه ... أما نصب (موت الدماغ، أو: جذع الدماغ) تحقيقاً لمدته مع نبض قلبه

ولو آليا فهذا في نفس الأمر ليس موتاً لكنه نذير وسير إلى الموت، فما زال له حكم الأحياء حتى يتم انفصال الروح عن البدن. ولذا: لا بد لنا هنا من تصور الأحوال حتى يكون بإذن الله تعالى تنزيل الحقيقة الشرعية على الحقيقة الواقعية الطبعية لكل مسألة بخصوصها، وهنا طرفان: ميت، وحي. أما الميت المأخوذ منه: فتصور الحال من حيث الإذن وعدمه إلى ما يلي: 1- ميت أذن قبل وفاته بانتزاع عضو منه لمعين أو لغير معين. 2- ميت لم يعقب وارثاً. 3- ميت عقب وارثاً ولم يأذن الوارث. 4- ميت عقب ورثة فأذن البعض. 5- ميت عقب ورثة فأذن جميعهم. أما الحي فلا تخلو مصلحته من مراتب المصالح الثلاث: 1- إما أن تكون ضرورية تتوقف حياته إلى ذلك العضو. 2- وإما أن تكون حاجية لا تتوقف حياته عليه كالحاجة إلى قرنية ونحوها. 3- وإما أن تكون تحسينية كترقيع شفة أو نحوها. وعليه: فإذا كانت المصلحة تحسينية فلا ينبغي الخلاف بعدم الجواز، سواء أذن الميت قبل وفاته أم لا، لأن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فلا يجوز انتهاك حرمته المحرمة لتوفير مصلحة تحسينية تجميلية، وفي هذا تعريض لجثة

الميت للانتهاك، وتسويغ العبث بها. وأما إن كانت مصلحة الحي حاجية، فإن حرمة الميت واجبة كحرمة الحي، وهتكها وقوع في محرم. فلا ينبغي خرق الحرمة والوقوع في الحرام لمصلحة مكملة للانتفاع. وأما إن كانت ضرورية، والضرورية هنا مفسرة بما تتوقف حياته عليه كالقلب، والكلى، والرئتين ونحوها من أصول الانتفاع الضرورية. فهنا يتخرج الجواز عند من قال به، لما يأتي: 1- بالموازنة بين المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار، فإن مصلحة الحي برعاية إنقاذ حياته أعظم من مصلحة الميت بانتهاك حرمة بدنه وقد فارقته الروح، وأذن به فتفوت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما. ولهذا نظائر في الفروع المتقدمة عند عدد من أهل العلم من التناول في حال الاضطرار من: لبن المرأة الميتة، ولحم الآدمي، وشق بطن المرأة الميتة الحامل إذا كان حملها يضطرب وقد علمت ما فيه، ونبش القبر لمصلحة حي، وبقر بطن ميت ابتلع مال حي وقد علمت ما فيه أيضاً ... إلخ. إلى آخر ما تقدم من فروع على قواعد الضرر من أنه يزال، وأن الضرورات تبيح المحظورات. والله أعلم. 2- وَشُرِطَ إذنه أو إذن ورثته، لأن رعاية كرامته حق مقرر له في الشرع لا ينتهك إلا بإذنه، فهو حق موروث كالحال في المطالبة من الوارث في - حدّ قاذفه - ولذا فإن الإذن هو إيثار منه أو من مالكه الوارث - لرعاية حرمة الحي على رعاية حرمته بعد موته في حدود ما أذن به. ولذا صح ولزم شرط الإذن منه قبل موته، أو من ورثته جميعهم.

أما إن فات هذا الشرط ولم يتحقق بإذنه، أو أذن جميع ورثته بأن أذن بعض دون بعض فلا يجوز انتزاع عضو منه بل المراغمة في هذا: هتك تعسفي للحق وحرمة الرعاية له. أما من لا وارث له إذا مات ببلد إسلام تحت ولاية سلطان مسلم يحكم الشرع ويقيم الحدود، وينفذ أحكام الإسلام فالسلطان ولي من لا ولي له فهو مقام الوارث له. وللمخالف أن يقول: وهذا الوجه غير وجيه، لأن (الكرامة) لا يجوز لمسلم أن يتنازل عنها، فكيف يتنازل وارث عن كرامة مورثه.

المبحث السابع في الشروط العامة

المبحث السابع في الشروط العامة اعلم أن من قال بالجواز في أي من مسائل (النقل والتعويض الإنساني) لم يقل ذلك بفتيا مطلقة، بل أحاطها بشروط شرعية يجب توفرها فمتى فقدت شرطاً فقدت الصفة الشرعية. وهذه الشروط منها شروط عامة لا بد من توفرها على صفة الثبات والدوام في أي مسألة قيل بجوازها، وشروط خاصة في بعض منها. وهذه الشروط منها ما يرجع إلى المنقول منه ومنها ما يرجع إلى المنقول إليه، ومنها ما يرجع إلى الواسطة. وهي على ما يلي: الشرط الأول: تحقيق قيام الضرورة بطريق اليقين، بأي دلالة يقوم بها اليقين كإخبار طبيب حاذق ولا يشترط كونه مسلماً، وما ورد من شرط إسلامه عند بعضهم فهو قيد اتفاقي. الشرط الثاني: تحقيق انحصار التداوي به، لعدم وجود بديل له يقوم مقامه، ويؤدي وظيفته بكفاءة. الشرط الثالث: أن تكون العملية بواسطة طبيب ماهر لا متعلم. الشرط الرابع: تحقق أمن الخطر على المنقول منه في حال انتقل من حي.

الشرط الخامس: غلبة الظن على نجاحها في المنقول إليه. الشرط السادس: عدم تجاوز القدر المضطر إليه. الشرط السابع: تحقق الموازنة بتقدير ظهور مصلحة المضطر المنقول إليه على المفسدة اللاحقة بالمنقول منه. الشرط الثامن: تحقق توفر شروط الرضا والطواعية والأهلية من المنقول منه. الشرط التاسع: توفر الشرط الثامن في المنقول إليه أو إذن وليه إن كان قاصر الأهلية. الشرط العاشر: توفر متطلبات العملية التي بلغها الطب. وإلا كان الطبيب مفرطاً يحمل جزاء تفريطه. والله أعلم.

المبحث الثامن في حكم بيع الآدمي لدم أو عضو منه

المبحث الثامن في حكم بيع الآدمي لدم أو عضو منه إذا علمت أن الأصل هو الحظر على الغير استعمال جزء من الإنسان أو دمه، حفظاً للنوع الإنساني، وصيانة لقيمته وكرامته، وسداً للطرق الموصلة إلى إهدارها. وإذا كان انتزاع دم من حي، أو عضو من ميت عند من قال به جائزاً عند الاضطرار، والضرورة المقدرة خوف هلاك حي أو عضو فيه تتوقف عليه حياته - مقدرة بقدرها لا يجوز تجاوزها، وهذا القدر المضطر إليه لا يعد إخلالاً بآدمية المنزوع منه، فاعلم أن الأصل لذلك البذل أيضاً يكون بطريق التبرع والهبة لمنفعة حي بسد ضرورته، لوجوب تلاحم النوع الإنساني على جسر من التعاون والإخاء، وشد بعضهم ببعض استيفاء لنوعهم، ورعاية لحرمتهم وحرمة مصالحهم. لكن يبقى هنا تساؤل عن حكم المعاوضة المالية عليها، وهل المعاوضة تتنافى مع هذا القصد والتأسيس الإنساني؟ وأن هذا استرقاق جزئي لآدميته في دم أو عضو، وامتهان لحرمته ليعود كالسلعة والبهيمة محلاً للتجارة في دم أو عضو أو تشريح لكامل جسده، ويزاد - على الخلاف المتقدم - أن الدم نجس، وما قطع من حي فهو كميتته نجس، والنجس لا يجوز بيعه، وأنه وإن جوز الانتفاع به تبرعاً لمضطر فلا يجوز بيعه لقاعدة: إن جواز الانتفاع لا يستلزم جواز البيع، وعليه: فبيعها محرم لا

يجوز، لكن إن لم يحصل عليه مضطر إلا بثمن فيجوز من باذل لدفع الضرر لا في حق آخذ. هذا ما يمكن أن يقال من وجهة مانع المعاوضة. أم أن المعاوضة تجوز في وجهة نظر المجيز من أن ذلك لا يناقض آدميته، بل يسيران في ركاب واحد فلا يُنقض على الآدمي آدميته وكرامته، كالشأن فيمن قتل قتيلاً فإن له سلبه بشرط الشرع، والشأن فيمن حج عن الغير بمال إذا أخذ ليحج، والشأن في الاحتفاظ بحقوق التأليف مع بيعها ونفع المسلمين بها، فهذه الأمور المتزامنة المتضامنة غير متضاربة فلا تفسد كرامةً قائمة ولا نيةً صالحة. وهل كما يجوز هذا البيع من الحي لدمه، والميت لعضو منه قبل موته - يجوز لوارثه.؟ كل هذه أمور وأحوال لا بد من تحرير الحكم فيها للترابط بينها، وهي بحاجة إلى نظر من حاز قصب السبق في الفقه والتفقه، وجميع ما ذكرته في هذه الرسالة من مواطن الخلاف أسوقه بحثاً ولم أجرؤ على الانفصال عنه برأي. منح الله الجميع الفقه في الدين. وصلى الله وسلم على نبينا ورسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. بكر بن عبد الله أبو زيد 5 / 5 / 1408 هـ

بيع المواعدة المرابحة في المصارف الإسلامية

" 7 " بيع المواعدة المرابحة في المصارف الإسلامية وحديث " لا تبع ما ليس عندك "

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فهذه مجموعة أبحاث في تصور، وحكم (بيع المواعدة) الجاري في المصارف الإسلامية باسم (بيع المرابحة للآمر بالشراء) في بعض صوره. وإنما اخترت تلقيبها باسم (بيع المواعدة) لأنها في جميع صورها مبنية على الوعد ملتزماً به كان أو غير ملتزم، ولئلا تختلط على البعض مع (بيع المرابحة) المحرر عند متقدمي الفقهاء رحمهم الله تعالى - في (بيوع الأمان) . وعلى أن صورتها تدخل تحت اسم (السلَم الحالّ) المنهي عنه في قصة حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه كما في (زاد المعاد) ويأتي نقله في المبحث السادس وسترى في (المبحث الثاني) موقعها الصحيح من مباحث الفقهاء. وهذه المجموعة من الأبحاث معقودة فيما يلي: 1- المبحث الأول: بيع المرابحة في اصطلاح متقدمي الفقهاء. 2- المبحث الثاني: في مدى لزوم الوفاء بالوعد. 3- المبحث الثالث: المؤلفات والبحوث فيها. 4- المبحث الرابع: صور بيع المرابحة في المصارف الإسلامية. 5- المبحث الخامس: سبب وجودها في المصارف الإسلامية.

6- المبحث السادس: حكمها. 7- المبحث السابع: في ضوابطها الشرعية. فإلى بيانها، والله ولي الهداية والتوفيق

المبحث الأول بيع المرابحة عند متقدمي الفقهاء

المبحث الأول بيع المرابحة عند متقدمي الفقهاء (1) يستقرئ بعض أهل العلم أنواع البيوع فيجعلها أربعة: 1- بيع المساومة، ويقال: المماكسة، أو المكايسة. 2- بيع المزايدة. 3- بيع المرابحة. 4- بيع الأمانة. ومنهم من يجعل بيع المرابحة منه، فتكون أقسامه ثلاثة: بيع المرابحة: وهو البيع بأزيد من رأس المال. بيع الوضيعة: وهو البيع بأنقص من رأس المال. بيع التولية: وهو البيع برأس المال سواء. وإنما سميت هذه (بيوع أمان) للإتمان بين الطرفين على صحة خبر رب السلعة بمقدار رأس المال. فبيع المرابحة مثلاً: حقيقته بيع السلعة بثمنها المعلوم بين المتعاقدين، بربح معلوم بينهما. ويسمى أيضاً (بيع السلم الحال) (2) .

_ (1) أبحاثها منتشرة عند الفقهاء في كتاب البيوع كما ستراه في المراجع اللاحقة. (2) زاد المعاد: 4 / 265.

فيقول رب السلعة: رأس مالي فيها مائة ريال، أبيعك إياها به وربح عشرة ريالات. وهذا هو معنى ما هو جارٍ على الألسنة من قولهم: اشتريت السلعة مرابحة، أو بعتها مرابحة. وركن هذا العقد: هو العلم بين المتعاقدين بمقدار الثمن ومقدار الربح، فحيث توفر العلم منها فهو بيع صحيح وإلا فباطل. وهذه الصورة من البيوع (بيع المرابحة) جائزة بلا خلاف بين أهل العلم، كما ذكره ابن قدامه (1) ، بل حكى ابن هبيرة (2) : الإجماع عليه، وكذا الكاساني (3) . والخلاف في الكراهة تنزيهاً، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وروي عن ابن عمر، وابن عباس - رضي الله عنهم - وعن الحسن، ومسروق وعكرمة، وعطاء بن يسار - رحمهم الله تعالى - وقد عللت الكراهة تنزيهاً بأن فيه جهالة، فيما إذا قال: بعتكه برأسماله مائة ريال، وربح درهم في كل عشرة، فالجهالة أن المشتري يحتاج إلى جمع الحساب ليعلم مقدار الربح، لكن هذه الجهالة مرتفعة لأنها تعلم بالحساب، بل لا ينبغي وصفها بالجهالة، وليس فيها تغرير ولا مخاطرة. وهذه العلة هي مستند ما يُحكى عن ابن راهويه - رحمه الله تعالى - من قوله بعدم الجواز.

_ (1) المغني: 4 / 259. (2) الإفصاح: 2 / 350. (3) بدائع الصنائع: 7 / 92.

وقد علمت ارتفاعها بالحساب، على أن من وراء ذلك الوقوف على صحة السند المروي. فصح الاتفاق إذاً حكماً على الجواز، وطرداً لقاعدة الشريعة من أن الأصل في المعاملات الجواز والحل حتى يقوم دليل على المنع. هذا هو بيع المرابحة المسطر في كتب أهل العلم تحت هذا اللقب في: أبواب البيوع، وفي مطاويه صور وفروع. وما زال الناس يتوارثون العمل به في معاملاتهم بأسواقهم من غير نكير. لكن هذه الصورة غير مرادة في هذه الرسالة، وإنما جاء الحديث عنها للاشتراك اللفظي مع (بيع المرابحة للآمر بالشراء) في صورته الحادثة المتعامل بها في المصارف الإسلامية، فلينظر: هل يشتركان في حكم الجواز؟ كما اشتركا في الاسم أم أن الحكم هو التحريم بإطلاق أم بتفصيل هذا ما ستراه - إن شاء الله تعالى - في أبحاث هذه الرسالة.

المبحث الثاني في مدى لزوم الوفاء بالوعد ديانة وقضاء

المبحث الثاني في مدى لزوم الوفاء بالوعد ديانة وقضاء (1)

_ (1) مباحثه مشتركة بين المفسرين، والمحدثين، والفقهاء، وكتب الرقائق، فانظر: تفسير قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} سورة المائدة / 1 وقوله تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً} تفسير القرطبي. أضواء البيان 4 / 322 - 328 مهم. أحكام القرآن للجصاص 2 / 363، وغيرها. تفسير القرطبي 1 / 248 - 8 / 31، 210، 211 - 6 / 33، 32 - 9 / 208 - 209 - 11 / 115 - 18 / 79، 80، 81. رسائل الإصلاح لمحمد خضر حسين 2 / 99 عارضة الأحوذي. وفتح الباري في السلفية 6 / 242 كتاب فرض الخمس 5 / 222 كتب الهبة 5 / 289 كتاب الشهادات 5 / 319. كتاب الشروط 5 / 359. وكتاب الوصايا منه. المقاصد الحسنة للسخاوي. الجامع الصغير للسيوطي. كشف الخفاء للعجلوني في أطراف الأحاديث: العدة دين. وأي الواعد دين ... إلخ. التمهيد لابن عبد البر 3 / 206 - 214 مهم. والمحلى 8 / 28. شرح المنهاج 2 / 260. الفروق للقرافي 4 / 21 - 25 الفرق رقم / 214. فتاوى عليش 1 / 254. كشاف القناع 6 / 284. المجلة بشرح الأتاسي 1 / 238. أعلام الموقعين 1 / 385 - 387. الغرر وأثره في العقود للصديق الضرير ص / 7 - 10. الأذكار للنووي ص / 270. الأدب المفرد. وللسخاوي رسالة باسم (التماس السعد في الوفاء بالوعد) كما في مادة (وعد) من (تاج العروس) ولغيره: القول السديد في خلف الوعيد للقاري. إخلاص الوداد في صدق الميعاد لمرعي الكرمي الحنبلي. القول السديد في عدم جواز خلف الوعيد للنابلسي. كما في حروفها =

بحث مدى لزم الوفاء بالوعد أساس في معرفة الحكم في هذه المعاملة. أجمع المسلمون على أن الوفاء بالوعد (العهد) محمود وأن إخلاف الوعد (العهد) وعدم الوفاء به مذموم. وقد أثنى الله تعالى على رسوله ونبيه إسماعيل أنه كان صادق الوعد فقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} وهو بدليل مخالفته يفيد أن إخلاف الوعد مذموم. وهذا المفهوم قد جاء مصرحاً به في آيات من الكتاب كما في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} . وقال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} . والسنة جاءت بهذا. ومنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف ... ) الحديث. هذا من حيث الوفاء بالوعد بصفة عامة. أما (الوعد المالي) فإن العلماء يجرون الخلاف في حكم الوفاء به (قضاء) (على أساس حقيقته الاصطلاحية التي تواضعوا عليها وهي كما قال ابن عرفة المالكي - رحمه الله تعالى - (1) : العدة: (إخبار عن إنشاء المُخبر معروفاً في المستقبل) . فهو (الوعد بالمعروف) وعلى هذا يدور كلامهم في حكم الإلزام كما حكى

_ = من (كشف الظنون) وذيليه. (1) الحدود لابن عرفة، وانظر: فتاوى عليش 1 / 254، الأذكار ص / 270. الأدب المفرد مع شرحه بيع المرابحة للشيخ الأشقر وهو مهم.

الشيخ عليش الخلاف بعد بيان الحقيقة المذكورة له. وعليه تجده مبحثاً مشتركاً بين: المفسرين، والمحدثين، والفقهاء، وكتب الرقائق وفضائل الأعمال، كما ساق البخاري رحمه الله تعالى بعض الأحاديث في (العدة) في كتابه (الأدب المفرد) والنووي في (الأذكار) . أما هذا النوع الجديد من (الوعد التجاري) الذي يريد به العمل مع المصرف: تداول سلعة بالثمن والربح ولما تحصل ملكيتها بعد فإن خلافهم في (الوعد) لا ينسحب على هذا بل هو يتنزل على حد حديث حكيم بن حزام وما في معناه " لا تبع ما ليس عندك ". وعلى مسألة البيع المعلق. فتحرر من هذا عقود المعاوضات، وهي التي يقصد بها تحصيل المنافع وإدرار الربح لا تدخل في المواعدة هذه وخلافهم فيها، إذ جميع الأمثلة التي يسوقها العلماء على إثر الخلاف في (لزوم الوفاء بالوعد من عدمه إنما هو فيما سبيله الإرفاق المعروف لا (الكسب التجاري) (1) . ولهذا فإن (عقد الاستصناع) - وهو: عقد على بيع عين موصوفة في الذمة مطلوب صنعها - يقرر من قال به أنه عقد لا وعد، فهو من عقود المعاوضات الخالية من الغرر (2) وبناء على جميع ما تقدم فإن أهل العلم يذكرون هذه الصورة من المبيع في " بيوع المعاوضات المحرمة " فيذكرونها في:

_ (1) تحرير هذا في: بيع المرابحة للأشقر ص / 32 - 33 مهم. (2) الغرر ص / 457 - 458.

1- بيع العينة. 2- وفي الحيل المحرمة. 3- وفي شرح حديث حكيم وغيره " لاتبع ما ليس عندك ". 4- وفي: بيوع الغرر. 5- وفي: تعليق العقود بالشروط. لهذا: فإن جماعة من الباحثين المعاصرين وهموا بإجراء البحث فيها تفريعاً على (حكم الوعد هل هو ملزم أم غير ملزم) فأوْهموا الدارسين لهذه المعاملة، والذي نعرفه نجا من هذا ممن كتب فيها بحثاً أو فتيا: 1- شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز في فتواه حيث خرّجها على حديث " لا تبع ما ليس عندك ". 2- وتلميذه الشيخ العلامة محمد الأشقر في رسالة (بيع المرابحة) . فإذا أخلف الواعد وعده، هل يلزم به قضاء وحكماً. الخلاف في هذا على أقوال ثلاثة: القول الأول: عدم الإلزام بالوفاء به مطلقاً. وهو مذهب الجمهور منهم: الثلاثة ورواية عن مالك، ومذهب داود، وابن حزم. وقد حكى عليه الإجماع: المهلب، وابن بطال، وابن عبد البر، وتعقبه الحافظ ابن حجر بوجود المخالف لكنه قليل. القول الثاني: الإلزام بالوفاء بالوعد مطلقاً. قال به: عمر بن عبد العزيز، وابن الأشوع الهمداني الكوفي، وابن شبرمة.

القول الثالث: إن أدخل الواعد بوعده في (ورطة) لزم الوفاء به وإلا فلا يلزم الوفاء به. وهو رواية عن مالك رحمه الله تعالى. ومثاله: من قال لرجل تزوج. فقال: ليس عندي ما أصدق به الزوجة. فقال: تزوج والتزم لها الصداق وأنا أدفع عنك، فتزوج على هذا الأساس فقد احتمل الوعد (ورطة) فيلزم الوفاء به. أدلة القول الأول: وهو قول الجمهور من عدم الإلزام بالرد قضاءً مطلقاً فقد استدل له بالإجماع على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء. حكاه: المهلب، وابن بطال، وابن عبد البر، قال المهلب (1) : " إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع، وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء) اهـ. وقال ابن بطال (2) : " لم يرو أحد من السلف وجوب القضاء بالعدة، أي مطلقاً، وإنما نقل عن مالك أنه يجب منه ما كان بسبب " اهـ. وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى تعقب الإجماع في ذلك فقال (3) : " ونقل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل، وقال ابن عبد البر وابن العربي: أجلُّ من قال به عمر بن عبد العزيز" اهـ.

_ (1) فتح الباري 5 / 290. (2) فتح الباري 5 / 222. (3) فتح الباري 5 / 290.

ووجه هذا القول من حيث النظر: أنه وعد بمعروف محض (1) ، ولا سبيل عليه بالإلزام في المعروف. والله أعلم واستدل له أيضاً بالهبة فإنها لا تتم عند الجمهور إلا بالقبض خلافاً للمالكية. وذلك يقتضي على مذهب الجمهور: عدم الحكم بها قضاء فيما لو رجع الواهب عنها قبل قبض الموهوب إياها. وعليه: فإذا كانت الهبة لا تلزم إلا بالقبض فكيف يلزم بالهبة لو وعده بها مجرد وعد إذا قال له: سوف أهبك إياها (2) . ولهذا استدل بهذا الفرع على وجوب الوفاء بالوعد: ابن قدامه في (المغني) والنووي في (الأذكار) وقال: (واستدل من لم يوجبه بأنه في معنى الهبة، والهبة لا تلزم إلا بالقبض عند الجمهور، وعند المالكية قبل القبض) اهـ. أدلة القول الثاني: الإلزام به - النصوص المتقدمة، ومنها أيضاً حديث " العدة دين " رواه عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً الطبراني في (الأوسط) ، والقضاعي وأبو نعيم، والبخاري في: الأدب المفرد والديلمي، والخرائطي في " مكارم الأخلاق " وأبو داود في " المراسيل "، وابن أبي الدنيا في (الصمت) ، وغيرهم

_ (1) أضواء البيان 4 / 325. (2) المغني 4 / 594. الأذكار للنووي ص / 270. ورسالة الشيخ الأشقر: بيع المرابحة ص / 25، 41.

جميعهم بألفاظ متقاربة وأسانيده لا تخلو من ضعف (1) . القول الثالث - القائل بالتفصيل - (2) : إن احتمل ورطة ألزم به قضاء وإلا فلا، فحجته عموم حديث رفع الضرر في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ضرر ولا ضرار ". قال شيخنا الأمين - رحمه الله تعالى- في (أضواء البيان) بعد أن ساق الخلاف محرراً: (الذي يظهر لي في هذه المسألة والله تعالى أعلم: أن إخلاف الوعد لا يجوز لكونه من علامات المنافقين، ولأن الله تعالى يقول {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} وظاهر عمومه يشمل إخلاف الوعد، ولكن الواعد إذا امتنع عن إنجاز الوعد لا يحكم عليه به ولا يلزم به جبراً بل يؤمر به ولا يجبر عليه، لأن أكثر علماء الأمة على أنه لا يجبر الوفاء به لأنه وعد بمعروف محض، والعلم عند الله تعالى اهـ.

_ (1) كشف الخفاء، وفيض القدير، وأضواء البيان 4 / 323 - 324، والمقاصد الحسنة للسخاوي وقد أفرد هذا الحديث بجزء كما ذكره في المقاصد. وفي تاج العروس للزبيدي في مادة (وعد) ذكر اسمها (التماس السعد في الوفاء بالوعد) . (2) فتح الباري: 5 / 222، 290.

المبحث الثالث البحوث والمؤلفات في هذه النازلة

المبحث الثالث البحوث والمؤلفات في هذه النازلة تم الوقوف على المؤلفات والأبحاث الآتية: 1- بيع المرابحة كما تجريه البنوك الإسلامية. تأليف: محمد بن سليمان الأشقر. طبع: عام 1404 هـ. نشر مكتبة الفلاح بالكويت. 2- فقه المرابحة في التطبيق الاقتصادي المعاصر. تأليف: عبد الحميد بن محمود البعلي. نشر مكتبة السلام العالمية بالقاهرة. 3- بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية. تأليف: يوسف القرضاوي. طبع دار القلم بالكويت عام 1405 هـ. 4- المرابحة: أصولها وأحكامها وتطبيقاتها في المصارف الإسلامية. تأليف: أحمد علي عبد الله. نشر: الدار السودانية. الخرطوم. عام 1407 هـ. 5- كشف الغطاء عن بيع المرابحة للآمر بالشراء. تأليف: رفيق المصري. 6- الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية ... الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية.

7- المرابحة في البنوك الإسلامية ومناقشة وضعها على ضوء الأدلة. تأليف: بدر بن عبد الله المطوع. نشر مطبعة الجذور بالكويت. 8- الاستثمار اللاربوي في نطاق عقد المرابحة. بحث: حسن بن عبد الله الأمين. 9- تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية. سامي حمود - الأردن. 10- الودائع المصرفية واستثمارها في الإسلام ص / 325 - 330. حسن عبد الله الأمين. السودان. وقد عقد لمناقشتها عدد من الندوات وفي عدد من مؤتمرات المصارف الإسلامية والمجامع وصدرت فيها عدة فتاوى. منها: 1- المؤتمر الدولي الثاني للاقتصاد الإسلامي المنعقد في: إسلام آباد في باكستان عام 1983 م. 2- مؤتمر المصرف الإسلامي الأول بدُبي عام 1399 هـ. 3- مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني بالكويت عام 1403 هـ. 4- المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية / عمان عام 1407 هـ. 5- فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز / السعودية. 6- فتوى الشيخ بدر المتولي عبد الباسط / الكويت.

المبحث الرابع صور بيع المواعدة

المبحث الرابع صور بيع المواعدة وفيه: الصورة الجارية في المصارف الإسلامية (بيع المرابحة للآمر بالشراء) . بالتتبع يمكن أن تكون صور بيع المواعدة، أو يقال صور بيع المرابحة للآمر بالشراء) كما يلي: الصورة الأولى: وتنبني على التواعد غير الملزم بين الطرفين مع عدم ذكر مسبق لمقدار الربح. وهي: أن يرغب العميل شراء سلعة بعينها فيذهب إلى المصرف ويقول: اشتروا هذه البضاعة لأنفسكم ولي رغبة بشرائها بثمن مؤجل أو معجل بربح، أو سأربحكم فيها. الصورة الثانية: وتنبني على التواعد غير الملزم بين الطرفين، مع ذكر مقدار ما سيبذله من ربح. وهي: أن يرغب العميل شراء سلعة معينة ذاتها أو جنسها، فيذهب إلى المصرف ويقول: اشتروا هذه السلعة لأنفسكم، ولي رغبة بشرائها بثمن مؤجل أو معجل، وسأربحكم زيادة عن رأس المال: ألف ريال مثلاً. الصورة الثالثة: وتنبني على المواعدة الملزمة بالاتفاق بين الطرفين،

مع ذكر مقدار الربح. وهي: أن يرغب العميل شراء سلعة معينة ذاتها أو جنسها المنضبطة عينها بالوصف، فيذهب إلى المصرف ويتفقان على أن يقوم المصرف ملتزماً بشراء البضاعة من عقار أو آلات أو نحو ذلك، ويلتزم العميل بشرائها من المصرف بعد ذلك، ويلتزم المصرف ببيعها للعميل بثمن اتفقا عليه مقداراً أو أجلاً أو ربحاً.

المبحث الخامس سبب وجودها

المبحث الخامس سبب وجودها تئن الديار الإسلامية من المعاملات الربوية الضاربة بجرانها في البنوك والمصارف الربوية، ومن دور المحاربة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكبر مركز يهز الاقتصاد ويخرب الديار، ويمتص روح الحياء والحياة، ويؤول بالأمة إلى جمع فقير غارم. وفي طليعة المعاملات التي يهرع إليها كثيرون (صريح الربا) المجلل بالاسم الكاذب (القرض بالفائدة) . وإن من مآثر المد الإسلامي المعاصر: حركة المصارف والبنوك الإسلامية، فكان حقيقاً عليها إيجاد المعاملات الإسلامية لرد الأمة في معاملاتها إلى دين الله وشرعه، وكف الدخيل عليها. فكما ولد المسلم من نكاح بعقد شرعي فَلْيَسِرْ في حياته وكسبه وما فيه قوام دينه ودنياه على جادة العقود الشرعية المتخلصة من الربا وضرره. فرفضاً لذلك الربا الصريح (القرض بفائدة) ، صار إيجاد المصارف الإسلامية لهذه المعاملة التي أطلق عليها اسم: بيع المرابحة، أو بيع المرابحة للآمر بالشراء، والذي يناسب أن يطلق عليها اسم: (بيع المواعدة) . لأن فيه وعداً من الطرفين: وعداً من العميل بالشراء من البنك،

ووعداً من البنك بشراء السلعة وبيعها عليه. والمواعدة في هذا البيع ملزمة أو غير ملزمة هي أساس الاختلاف فيه حِلاًّ وحرمة فصارت تسميته (بيع مواعدة) أولى، والأسماء قوالب للمعاني. فهل هذه المعاملة كالقرض بالفائدة في التحريم؟ أم تجوز مطلقاً أم فيها تفصيل؟ كما يوضحه المبحث التالي. والله أعلم.

المبحث السادس حكمها

المبحث السادس حكمها وَهِلَ جماعة من الباحثين في أبحاثهم فحسبوها من نوازل العصر وقضاياه، فصار الوقوع في أنواع من الغلط والوهم، سيأتي التنبيه عليها بَعْدُ - إن شاء الله تعالى - في هذا المبحث. والحال أن هذا الفرع الفقهي بصوره مدوَّن عند الفقهاء المتقدمين في مباحث الحيل، والبيوع، فهو عند: محمد بن الحسن الشيباني في كتاب (الحيل) ص / 79، ص / 127، ومالك في (الموطأ) ومعه (المنتقى للباجي) ص / 38 - 39، والشافعي في (الأم) 3 / 39، وابن القيم في (أعلام الموقعين) 4 / 39. وغيرها كثير. وهذه نصوصهم فيها: 1- الحنفية: ففي كتاب (الحيل) لمحمد بن الحسن الشيباني قال: (قلت: أرأيت رجلاً أمر رجلاً أن يشتري داراً بألف درهم، وأخبره أنه إن فعل اشتراها الآمر بألف درهم ومائة درهم، فأراد المأمور شراء الدار، ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يأخذها. فتبقى في يد المأمور، كيف الحيلة في ذلك.؟

قال: يشتري المأمور الدار على أنه بالخيار ثلاثة أيام، ويقبضها، ويجيء الآمر ويبدأ فيقول: قد أخذت منك هذه الدار بألف ومائة درهم. فيقول المأمور: هي لك بذلك، فيكون ذلك للآمر لازماً، ويكون استيجاباً من المأمور للمشتري أي ولا يقل المأمور مبتدئاً: بعتك إياها بألف ومائة، لأن خياره يسقط بذلك فيفقد حقه في إعادة البيت إلى بائعه، وإن لم يرغب الآمر في شرائها تمكن المأمور من ردها بشرط الخيار، يدفع عنه الضرر بذلك) اهـ. وفي الموطأ للإمام مالك رحمه الله تعالى في: باب بيعتين في بيعة: " أنه بلغه أن رجلاً قال لرجل: ابتع لي هذا البعير بنقد حتى أبتاعه منك إلى أجل فسأل عن ذلك عبد الله بن عمر فكرهه ونهى عنه " اهـ. والمسألة مبسوطة لدى المالكية كما في (1) المنتقى للباجي 5 / 38 - 39، والكافي لابن عبد البر. والمقدمات لابن رشد 2 / 537، وخليل في: المختصر، وشرَّاحه كافة. وهذا نص ابن رشد في (المقدمات) (2) : (فصل: والعينة على ثلاثة أوجُه: جائزة ومكروهة ومحظورة، فالجائزة أن يمر بالرجل من أهل العينة فيقول له: هل عندك سلعة أبتاعها منك فيقول له: لا، فيخبره أنه قد اشترى السلعة التي سأل عنها فيبيعها بما شاء من نقد أو نسيئة. والمكروهة: أن يقول له اشتر سلعة كذا وكذا فأنا أربحك فيها وأشتريها منك من غير أن يراوضه على الربح.

_ (1) انظر بيع المرابحة للأشقر ص / 34. (2) المقدمات: 2 / 537 - 539.

والمحظورة: الأولى: أن يراوضه على الربح فيقول له اشتر سلعة كذا وكذا بعشرة دراهم نقداً وأنا أبتاعها منك باثني عشر نقداً. والثانية: أن يقول له اشترها لي بعشرة نقداً وأنا أشتريها منك باثني عشر إلى أجل. والثالثة: عكسها وهي أن يقول له اشترها لي باثني عشر إلى أجل وأنا أشتريها منك بعشرة نقداً. والرابعة: أن يقول له اشترها لنفسك بعشرة نقداً وأنا أشتريها منك باثني عشر نقداً. والخامسة: أن يقول له اشترها لنفسك بعشرة نقداً وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل. والسادسة: عكسها وهي أن يقول له اشترها لنفسك أو اشتر ولا يزيد على ذلك باثني عشر إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقداً. فأما الأول وهو أن يقول اشترها لي بعشرة نقداً وأنا أشتريها منك باثني عشر نقداً فالمأمور أجير على شراء السلعة للآمر بدينارين، لأنه إنما اشتراها له. وقوله: (وأنا أشتريها منك) لغو لا معنى له، لأن العقدة له بأمره فإن كان النقد من عند الآمر أو من عند المأمور بغير شرط فذلك جائز وإن كان النقد من عند المأمور بشرط فهي إجارة فاسدة، لأنه إنما أعطاه الدينارين أن يبتاع له السلعة بالنقد من عنده الثمن عنه فهي إجارة وسلف ويكون للمأمور إجارة مثله إلا أن تكون أجرة مثله أكثر من الدينارين فلا يزاد عليهما على مذهب ابن القاسم في البيع والسلف إذا كان السلف من غير

البائع، وفاتت السلعة أن للبائع أقل من القيمة بالغة ما بلغت يلزم أن يكون للمأمور هاهنا أجرة مثله بالغة ما بلغت وإن كانت أكثر من الدينارين، والأصح أن لا تكون له أجرة، لأنا إن جعلنا الأجرة كانت للسلف فكان تتميماً للربى الذي عقدا فيه وهو قول سعيد بن المسيب: فهي ثلاثة أقوال فيما يكون له من الأجرة إذا نقد المأمور الثمن بشرط وهذا إذا عثر على الأمر يحدثانه ورد السلف إلى المأمور قبل أن ينتفع به الآمر وأما إن لم يعثر على الأمر حتى انتفع الآمر بالسلف قدوماً يرى أنهما كانا قصداً فلا يكون في المسألة إلا قولان: أحدهما: أن للمأمور أجرته بالغة ما بلغت. الثاني: أنه لا شيء له ولو عثر على الأمر قبل الابتياع وقبل أن ينقد المأمور الثمن لكان النقد من عند الآمر ولكان فيما يكون للأجير قولان: أحدهما: أن له إجارة مثله بالغة ما بلغت. الثاني: أن له الأقل من إجارة مثله أو الدينارين، وابن حبيب يرى أن المأمور إذا نقد فقد تقدم الحرام بينهما فتدبر ذلك. وأما الثانية وهو أن يقول اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقداً وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل فذلك حرام لا يحل ولا يجوز لأنه رجل ازداد في سلفه فإن وقع ذلك لزمت السلعة للآمر لأن الشراء كان له وإنما أسلفه المأمور ثمنها ليأخذ به منه أكثر منه إلى أجل، فيعطيه العشرة معجلة ويطرح عنه ما أربى، ويكون له جعل مثله بالغاً ما بلغ، في قول، والأقل من جُعْلِ مثلها أو الدينارين اللذين أربى بهما في قول، وفي قول سعيد بن المسيب لا أجرة له بحال لأن ذلك تتميم للربا كالمسألة المتقدمة قال في

سماع سحنون: وإن لم تفت السلعة فسخ البيع وهو بعيد. فقيل: معنى ذلك إذا علم البائع الأول بعلمهما. وأما الثالثة: هي أن يقول له اشترها لي باثني عشر إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقداً فذلك أيضاً حرام لا يجوز، ومكروهه أنه استأجر المأمور على أن يبتاع له السلعة بسلف عشرة دنانير تدفع إليه ينتفع بها إلى الأجل يردها إليه فيلزم الآمر السلعة باثني عشر إلى أجل ولا يتعجل المأمور منه العشرة النقد وإن كان قد دفعها إليه صرفها عليه ولم تترك عنده إلى الأجل وكان له جعْلُ مثله بالغاً ما بلغ في هذا الوجه باتفاق. وأما الرابعة: وهي أن يقول له اشتر سلعة كذا بعشرة نقداً وأنا أشتريها منك باثني عشر نقداً فاختلف في ذلك قول مالك فمرة أجازه إذا كانت البيعتان جميعاً بالنقد وانتقد، ومرة كرهه للمراوضة التي وقعت بينهما في السلعة قبل أن تصير في ملك المأمور. وأما الخامسة: وهي أن يقول اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقداً وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل فهذا لا يجوز، إلا أنه يختلف فيه إذا وقع، فروى سحنون عن ابن القاسم وحكاه عن مالك أن الآمر يكره الشراء باثني عشر إلى أجل لأن المشتري كان ضامناً لها لو تلفت في يده قبل أن يشتريها منه الآمر، ولو أراد أن لا يأخذها بعد اشتراء المأمور كان ذلك له، واستحب للمأمور أن يتورع فلا يأخذ من الآمر إلا ما نقد في ثمنها. وقال ابن حبيب: يفسخ البيع الثاني إن كانت السلعة قائمة وترد إلى المأمور فإن فاتت ردت إلى قيمتها معجلة يتم قبضها الآمر كما يصنع بالبيع الحرام لأنه كان على مواطأة بيعها قبل وجوبها للمأمور فدخله بيع ما ليس عندك.

وأما السادسة: وهي أن يقول له اشترها لنفسك باثني عشر إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقداً. فروى سحنون عن ابن القاسم أيضاً أن البيع لا يرد إذا فات ولا يكون على الآمر إلا العشرة، وأحب إليه أن لو أردفه الخمسة الباقية لأن العقدة الأولى كانت للمأمور ولو شاء المشتري لم يشتر، وقال ابن حبيب: يفسخ البيع الثاني على كل حال كما يصنع بالبيع الحرام للمواطأة التي كانت للبيع قبل وجوبها للمأمور فإن فاتت ردت إلى قيمتها يوم قبضها الثاني، وهو ظاهر رواية سحنون أن البيع يفسخ ما لم تفت السلعة وبالله سبحانه وتعالى التوفيق وهو الهادي إلي أقوم طريق. وقال الدردير (في الشرح الصغير 3 / 129) قالوا (1) : " العينة: وهي بيع من طلبت منه سلعة للشراء وليست عنده، لطالبها بعد شرائها - جائز، إلا أن يقول الطالب: اشترها بعشرة نقداً، وأنا آخذها منك باثني عشر إلى أجل فيمنع فيه من تهمة (سلف جر نفعاً) ، لأنه كأنه سلفه ثمن السلعة يأخذ عنها بعد الأجل اثني عشر " اهـ. وفي (الأم) للإمام الشافعي - رحمه الله تعالى: (إذا أرى الرجل الرجل: السلعة، فقال: اشترها وأربحك فيها كذا فاشتراها الرجل فالشراء جائز، والذي قال: أربحك فيها بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعاً وإن شاء تركه. وهكذا إن قال: اشتر لي متاعاً ووصفه له، أو متاعاً أي متاع شئت وأنا أربحك فيه فكل هذا سواء.

_ (1) بواسطة بيع المرابحة للأشقر ص / 37.

ويجوز البيع الأول، ويكون فيما أعطى من نفسه بالخيار. وسواء في هذا ما وصفت إن كان قال: ابتعه وأشتريه منك بنقد أو دين، يجوز البيع الأول، ويكون بالخيار في البيع الآخر، فإن جدّداه جاز. وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما فهو من قبيل شيئين: أحدهما: أنه تبايعاه قبل أن يملكه البائع. والثاني: أنه على مخاطرة أنك إن اشتريته على كذا أربحك فيه كذا. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في (أعلام الموقعين) : (المثال الموفي مائة - أي من أمثلة الحيل - رجل قال لغيره: اشتر هذه الدار أو هذه السلعة من فلان بكذا وكذا وأنا أربحك فيها كذا وكذا، فخاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يريدها ولا يتمكن من الرد. فالحيلة: أن يشتريها على أنه بالخيار ثلاثة أيام، أو أكثر ثم يقول للآمر: قد اشتريتها بما ذكرت، فإن أخذها منه وألا تمكن من ردها على البائع بالخيار، فإن لم يشترها الآمر إلا بالخيار فالحيلة: أن يشترط له خياراً أنقص من مدة الخيار، التي اشترطها هو على البائع، ليتسع له زمن الرد إن ردت عليه) اهـ. هذه جملة من نصوص العلماء في هذا الفرع الفقهي الذي تبنته المصارف الإسلامية للتعامل به مع العميل لها مستبعدة معاملة البنوك التجارية الربوية من معاملة صريح الربا (القرض بفائدة) . ومن هذه النقول يتضح الحكم في كل واحد من الصور الثلاث المتقدمة على ما يلي:

الصورة الأولى: التي تنبني على التواعد بين الطرفين - غير الملزم مع عدم ذكر مسبق لمقدار الربح وتراوض عليه - فالظاهر الجواز: عند الحنفية والمالكية والشافعية، كما تقدم نقله من كلام ابن رشد في المذهب المالكي. وذلك لأنه ليس في هذه الصورة التزام بإتمام الوعد بالعقد أو بالتعويض عن الضرر لو هلكت السلعة فلا ضمان على العميل فالبنك يخاطر لشراء السلعة لنفسه وهو على غير يقين من شراء العميل لها بربح، فلو عدل أحدهما عن رغبته فلا إلزام ولا يترتب عليه أي أثر فهذه الدرجة من المخاطرة هي التي جعلتها في حيز الجواز والله أعلم (1) . الصورة الثانية: التي تنبني على التواعد غير الملزم بين الطرفين مع ذكر مسبق لمقدار ما سيبذله من الربح ومراوضته عليه فقد تقدم في كلام ابن رشد أنها من العينة المحظورة لأنه رجل ازداد في سلفه وتقدم نقل كلام الشرح الصغير والله أعلم. الصورة الثالثة: التي تنبني على المواعدة والالتزام بالوفاء بها بالاتفاق بين الطرفين قبل حوزة المصرف للسلعة، واستقرارها في ملكه، مع ذكر مقدار الربح مسبقاً واشتراط أنها إن هلكت فهي من ضمان أحدهما بالتعيين - فهذه حكمها البطلان والتحريم فهي أخية القرض بفائدة، وذلك للأدلة الآتية: 1- أن حقيقتها عقد بيع على سلعة مقدرة التملك للمصرف بثمن مربح قبل أن يملك المصرف السلعة ملكاً حقيقياً وتستقر في ملكه.

_ (1) انظر: بيع المرابحة للأشقر ص / 47 مهم.

2- عموم الأحاديث النبوية التي نصت على النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده. منها حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني المبيع لما ليس عندي فأبيعه منه ثم أبتاعه من السوق، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تبع ما ليس عندك " رواه أصحاب السنن وقال الترمذي: حديث حسن. فسبب الحديث نص في بيع الإنسان ما لا يملك فحكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنهي عنه. قال ابن قدامه في (المغني) (1) : وعلته والله أعلم (الغرر في القدرة على التسليم وقت العقد) (2) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك ". رواه أصحاب السنن وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : " فاتفق لفظ الحديثين على نهيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيع ما ليس عنده فهذا هو المحفوظ من لفظه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يتضمن نوعاً من الغرر فإنه إذا باعه شيئاً معيناً وليس في ملكه ثم مضى ليشتريه ويسلمه له كان متردداً بين الحصول وعدمه فكان غرراً يشبه القمار فنهى عنه.

_ (1) 4 / 206. (2) الغرر وأثره في العقود ص / 319. (3) زاد المعاد 4 / 262.

وقد ظن بعض الناس: أنه إنما نهى عنه لكونه معدوماً فقال: لا يصح بيع المعدوم، وروى في ذلك حديثاً أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع المعدوم. وهذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب الحديث ولا له أصل " اهـ. وقال الخطابي رحمه الله تعالى (1) : قوله " لا تبع ما ليس عندك " يريد بيع العين دون بيع الصفة ألا ترى أنه أجاز السلم إلى الآجال، وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال، وإنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر، وذلك مثل أن يبيعه عبده الآبق، أو جمله الشارد. ويدخل في ذلك: كل شيء ليس بمضمون عليه، مثل أن يشتري سلعة فيبيعها قبل أن يقبضها ... اهـ. 3- عموم الأحاديث النبوية التي نصت على نهي الإنسان عن بيع ما اشتراه ما لم يقبضه (2) . وقد صحت الأحاديث في هذا من حديث ابن عمر، وابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهم وغيرهم رضي الله عن الجميع. منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه " رواه الستة إلا الترمذي. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نهى عن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما لم يقبض " رواه الترمذي وغيره.

_ (1) معالم السنن مع التهذيب 5 / 143. (2) زاد المعاد 4 / 262 - 265. تهذيب السنن 5 / 138 - 140.

وقد حكى: ابن المنذر، والخطابي، وابن القيم، وغيرهم: الإجماع على أن من اشترى طعاماً فليس له بيعه حتى يقبضه. وأما بيع ما يشتريه الإنسان قبل قبضه من غير الطعام من مكيل أو موزون أو عقار وغير ذلك ففيه خلاف على أقوال أربعة. والذي عليه المحققون هو: أنه لا يجوز بيع شيء من المبيعات قبل قبضه بحال وهو مذهب ابن عباس ومحمد بن الحسن، وإحدى الروايات عن أحمد، حكى ذلك ابن القيم واختاره فقال (1) : (وهذا القول هو القول الصحيح الذي نختاره) اهـ. ثم حرر ابن القيم رحمه الله تعالى الخلاف في علة المنع من بيع ما لم يقبض وقال (2) : (فالمأخذ الصحيح في هذه المسألة أن النهي معلل بعدم تمام الاستيلاء وعدم انقطاع علاقة البائع عنه، فإنه يطمع في الفسخ والامتناع عن الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه ... ) اهـ. ووجه الاستدلال من هذا في مسألتنا هذه: أن النصوص إذا كانت صريحة صحيحة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النهي عن بيع ما لم يقبض، وأنه على عمومه، وأن العلة عدم تمام الاستيلاء والاستقرار في ملك المشتري - فكيف يجوز للمصرف أن يبيع ما لم يملك أصلاً ويصافق ويربح فيه فملكه تقديري لا حقيقي، واستيلاؤه عليه تقديري لا حقيقي. فالمنع من هذا يكون من باب الأولى، والله أعلم.

_ (1) تهذيب السنن 5 / 132. (2) تهذيب السنن 5 / 136 - 137.

4- إن حقيقة هذا العقد: بيع نقد بنقد أكثر منه إلى أجل بينهما سلعة محللة فغايته (قرض بفائدة) . ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في بيع ما لم يقبض (1) : " أنه يكون قد باع دراهم بدراهم والطعام مرجى " رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه. قال الخطابي: (وهو غير جائز لأنه في التقدير بيع ذهب بذهب والطعام مؤجل غائب غير حاضر ... ) اهـ. والذي عليه المحققون هو شمول النهي عن بيع ما لم يقبض من طعام وغيره وإن ذكر الطعام خرج مخرج الغالب. والله أعلم (2) . 5- أن البيوعات المنهي عنها ترجع إلى قواعد ثلاث: 1- الربا. 2- الغرر. 3- أكل أموال الناس بالباطل. وقد روى الجماعة إلا البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الغرر. وفي معناه أحاديث أخر، وهذا الحديث ليس من باب إضافة الموصوف

_ (1) معالم السنن 5 / 139. بيع المرابحة للأشقر ص / 8. (2) الغرر وأثره في العقود ص / 329 - 330.

إلى صفته فيكون صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الذي هو غرر وإنما من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، فالمبيع نفسه هو الغرر كبيع الثمار قبل بدو صلاحها (وبيع ما لا يملكه) وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى (1) . ولهذا لما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى المعدوم وهي: معدوم موصوف في الذمة (السلم) وهو جائز اتفاقاً. ومعدوم تبع للموجود مثل بيع الثمار بعد بدو صلاحها وهو جائز اتفاقاً. ومثل بيع المقاهي والمطابخ على التحقيق قال، وأما الثالث (2) : (الثالث: معدوم لا يدري يحصل أو لا يحصل ولا ثقة لبائعه بحصوله بل يكون المشتري منه على خطر فهذا الذي منع الشارع بيعه لا لكونه معدماً بل لكونه غرراً فمنه صورة النهي التي تضمنها حديث حكيم بن حزام وابن عمر رضي الله عنهما، فإن البائع إذا باع ما ليس في ملكه ولا له قدرة على تسليمه ليذهب ويحصله ويسلمه إلى المشتري كان ذلك شبيهاً بالقمار والمخاطرة من غير حاجة بهما إلى هذا العقد ولا تتوقف مصلحتهما عليه) اهـ. وجهة نظر المخالف: يتضح مما تقدم أنه ليس من خلاف يؤثر عند أهل العلم في أن البيع في (الصورة الثالثة) باطل محرم. لكن لما أثيرت في العصر الحاضر،

_ (1) زاد المعاد 4 / 467. والغرر للضرير ص / 62 - 63. (2) زاد المعاد 4 / 263.

وكتب فيها من كتب وجرى الخلاف بين الكاتبين فيها بين الجواز والمنع. قرر المجيزون الجواز لعدة وجوه: وهي أن الوعد ملزم، وأن العين مرادة (حقيقية) في هذا العقد، والعقد حقيقي وليس صورياً، فالعميل يقصد الانتفاع بالعين ولا يريدها للتوصل إلى دراهم يحتاجها. وأن النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده: خاص فيما كان فيه البيع حالاً بتسليم العين المباعة أما إذا كانت العين المباعة مؤجلة إلى أجل محدود فلا، وينسحب عليها حكم بيوع الآجال. وأن النهي عن بيع المعدوم: هو ما كان المعدوم فيه مجهول الوجود في المستقبل أما العين هنا فهي محققة الوجود مستقبلاً حسب العادة (1) . وأنه في هذه الصورة لو تأخر العميل في أداء الثمن لم يفرض عليه أي زيادة في الثمن. وأنه على أقل الأحوال فإن الحاجة في التعامل داعية إليه كما دعت إلى السلم، والاستصناع - واغتفر ما يعتريها من الغرر تقديراً للحاجة، والحاجة هنا داعية، لاتساع رقعة التعامل وتضخم رؤوس الأموال، وحاجة المنشآت إلى دعمها بالآلات والمباني التي لا قوام لها إلا بها، فإذا لم تتم تلك المعاملة وقع المسلم في حرج ومشقة الفوات لمصالح يريد تحقيقها فإن لم تكن من هذا الباب، اضطر إلى (القرض بفائدة) ودينه يعصمه من هذا الربا المحرم، فليقرر هذا التعامل تحت وطأة الحاجة (الضرورة) والانتشال من المحرم وتحقيق مصالح المسلمين.

_ (1) الغرر وأثره في العقود ص / 358.

المبحث السابع في الضوابط الكلية

المبحث السابع في الضوابط الكلية الضوابط الكلية التي تجعل (بيع المواعدة) أي (المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية) في دائرة الجواز هي على ما يلي: 1- خلوها من الالتزام بإتمام البيع كتابة أو مشافهة. قبل الحصول على العين بالتملك والقبض. 2- خلوها من الالتزام بضمان هلاك (السلعة) أو تضررها من أحد الطرفين: العميل أو المصرف، بل هي على الأصل من ضمان المصرف. 3- أن لا يقع العقد المبيع بينهما إلا بعد قبض المصرف للسلعة واستقرارها في ملكه. والله أعلم.

حق التأليف تاريخا وحكما

" 8 " حق التأليف تاريخاً وحكماً

الحمد لله بجميع محامده على جميع آلائه ونعمه، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه ورسله، ورضي الله عن صحابته ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد - فإن نازلة الحقوق المعنوية مهمة في: حكم تملكها والتصرفات الواردة عليها مثل بيع الاسم التجاري والترخيص وحقوق الإنتاج العلمي أو (الإنتاج الذهني) ومن مفرداتها (نازلة حقوق التأليف) هل تملك وترد عليها التصرفات من بيع ونحوه أم لا؟ . وقد عقدت من أجل هذه مؤتمرات وألفت فيها مؤلفات، حتى صارت محلاً لعدد من البحوث الجامعية، لكنها من وجهة القانون الوضعي، وأما لدى علماء الشريعة ففيها مقالات، ومباحث وفي أعقاب ثورة الإنتاج الطباعي لقاء (ثورة الإنتاج الذهني) وإحياء مآثر الأسلاف كثرت في هذه المسألة التساؤلات وصارت قضايا وخصومات وأهل العلم فيها بين الحظر والإباحة والحرمة والجواز، ولكل وجهة هو موليها. فمن الضرورة تحرير النظر فيها لرفع التهارج أمام القضاء، ودفع التواثب والتغالب بين المؤلفين والباعة من الكتبيين والوراقين، وغيرهم من دور الطباعة والنشر ولأن هذه النازلة قد اشتهرت في الدلائل وتبارت فيها الأنظار، وظهر لدى بعض الباحثين عسر الاحتجاج كما سترى التنبيه عليه في هذا الكتاب، وهم مع نظرائهم متفاوتون على قدر القرائح والفهوم،

والشأن فيما ينتظمه الدليل، ويستقيم فيه النظر والتعليل. وهده قبلة الإنصاف وبها تتساقط الاحتمالات والأقاويل الضعاف، وهل هي من ذوات الدليل في التشريع أم أن الشريعة أرسلتها فلم تنط بها حكماً معيناً فتجول في دائرة (المصالح المرسلة) فيبقى تقدير التمايز بين المصالح المجلوبة والمفاسد المطرودة فيحصل القول الراجح ويهمل المرجوح. ولهذا قيدت خلاصة ما وقفت عليه بعد طول تتبع واستقراء، عاقداً له الأبحاث الآتية: المبحث الأول: في الطباعة، تاريخها وانتشارها. المبحث الثاني: حق التأليف في المجالات الدولية والحكومية والفردية. المبحث الثالث: التاريخ القديم لحق التأليف. المبحث الرابع: في عنوان هذه النازلة والتعريف به. المبحث الخامس: الحقوق الواردة على التأليف وبيان حكمها الشرعي. المبحث السادس: في حق النشر والتوزيع وحكمه شرعاً. والله الموفق

المبحث الأول في فن الطباعة تاريخ اختراعها، وتدرج انتشارها في الديار الإسلامية

المبحث الأول في فن الطباعة تاريخ اختراعها، وتدرج انتشارها في الديار الإسلامية كان النسخ قبل ظهور المطابع هو الأداة الوحيدة لتقييد العلم تخطه أيدي العلماء بأقلامهم على (الورق) بأنواعه في تطوراته من الصحف والقرطاس والرق وهي من ألفاظ القرآن الكريم، وهو الجلد - والمهرق - وهو: الصحيفة معرّب جمعه (مهارق) والكاغد - وهو اصطلاح فارسي - وكانت تستورده العرب من فارس، والورق هو الذي اكتسب الصفة بعد. قال حسان - رضي الله عنه: عرفت ديار زيد بالكثيب ... كخط الوحي بالورق القشيب وقد عني المتقدمون ومنهم ابن النديم في الفهرست بذكر أنواع الورق فعقد لها باباً، والقلقشندي في (صبح الأعشى) ، وفي (مجلة المجمع العلمي العراقي) لعام 1385 هـ بحث حافل. وبما أنه هو الوسيلة لتقييد العلم وتداوله محرراً فإن النسخ أصبح حرفة رائجة وسوقاً نافقة. فإن المؤلف بعد أن يبذل جهداً من الوقت والتفكير والكتابة والورق والمداد يقي كتابه لديه لَقىً ليس من وسيلة لإبرازه ونشره إلا عن طريق النسخ، ولهذا انتشر في طبقات العلماء في العصور كافة من

اشتهر بالنسخ من العلماء والطلاب والوراقين وخلق سواهم. وقد حفلت كتب التراجم بذكرهم وبأصحاب الخط المنسوب (أي الجميل) منهم. فكم رأى الناظر في التراجم قولهم: ونسخ ما لا يحصى كثرة، وقول بعضهم: وكان ينسخ بأجر، أو كان يحترف النسخ، أو: كان يتقوت به أو: كانت منه بلغته أو: يتبلغ من النسخ، أو: كان ذا حظ فيه. واهتم العلماء - وبخاصة المحدثين منهم - بأمر النسخ وضبطه لتلافي ما يقع من بلايا النسخ من أمور عظام من التصحيف والتحريف فأفردت من أجله مصنفات طوال، وقد قال بعضهم: " الناسخ ماسخ ". ونقل الشاعر أحاسيسهم فقال: وكم ناسخ أضحى لمعنى مغيراً ... وجاء بشيء لم يرده المصنف ولو شاهد هذا القائل ما يقع في الطبع لا سيما الطبعات التجارية أو التي ينشرها المتعالمون لرأى ذلك مضاعفاً. والمهم هنا ذكر أمثلة النسخ في عصور الإسلام، فهؤلاء كتاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أفردت بأخبارهم المصنفات من أكبرها: المصباح المضيء لابن حديدة، وقد أوصلهم العراقي في ألفيته إلى (42) كاتباً. ومن الصحابة رضي الله تعالى عنهم من اشتهر بكتابة المصاحف منهم: ناجية الطفاوي، ونافع بن ظريب النوفلي وكم كان ابتهاج المسلمين في جميع الأقطار بمصحف عثمان رضي الله عنه وانظر التراتيب الإدارية (1) . وكان لابن عمر كتب ينظر فيها قبل أن يخرج إلى الناس لكن إسناده

_ (1) 2 / 282 - 286.

غريب كما في: السير للذهبي (1) ، وفيها أن مالك بن دينار (م سنة 127 هـ) من أعيان كتبة المصاحف كان من ذلك بلغته (2) ، وفيها أيضاً (3) قال رباح بن عمرو القيسى سمعت مالك بن دينار يقول: دخل عليَّ جابر بن زيد وأنا أكتب فقال: يا مالك، مالك عمل إلا هذا تنقل كتاب الله، هذا والله الكسب الحلال، وفيها أن مطر الوراق (م سنة 129 هـ) كان يكتب المصاحف ويتقن ذلك (4) . وفي التهذيب قال (5) : كان يكتب المصاحف بالأجرة ويتقوت بأجرته وكان لا يأكل شيئاً من الطيبات من المتعقدة الصبر والمتقشفة الخشن. وقال جعفر بن سليمان: كان ينسخ المصحف في أربعة أشهر فيدع أجرته عند البقال فيأكله. اهـ. وفيها أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى (م سنة 231) لما سرقت ثيابه لم يقبل الصدقة فنسخ سماعه من ابن عيينة بدراهم اكتسى منها ثوبين (6) . وفي المنتظم (7) بأن محمد بن أحمد المعروف بابن أبي الشيخ (م سنة 433 هـ) يذكرون في ترجمته أنه كان يكتب الشيء الكثير من الحديث. وابن مقلة: الحسن بن علي (م سنة 338 هـ) كان أكتبَ من أخيه في

_ (1) 3 / 338. (2) 5 / 362. (3) 5 / 364. (4) 10 / 15. (5) السيرة 5 / 452. (6) 11 / 192. (7) 8 / 112.

قلم الدفاتر والنسخ وكان أبوهما كاتباً مليح الخط ثم ذكر ياقوت جمعاً من أولادهما شهروا بالنسخ ثم ذكر من خبر أبي عبد الله هذا ما يستظرف (1) . وهذا يحي الأرزني (م سنة 415 هـ) يكتب الفصيح لثعلب في كل يوم ويبيعه بنصف دينار ويشتري به قوته، ولا يبيت حتى ينفق ما معه منه (2) . وفي تاريخ ابن كثير أن العكبري الحنبلي (م سنة 428 هـ) كان يسترزق من الوراقة وهي النسخ (3) وابن الخاضبة المحدث الحافظ (م سنة 489 هـ) قال عنه أبو سعد السمان المعتزلي: نسخ ابن الخاضبة صحيح مسلم بالأجرة سبع مرات (4) . وفيها أيضاً (5) (أن أُبياً النرسي الحافظ المسند (م سنة 510 هـ) كان ينسخ بالأجرة يستعين على العيال. وفيها (6) أن الماوردي المحدث محمد بن الحسن البصري (م سنة 525 هـ) كان ينسخ للناس بالأجرة. وفي المنتظم (7) أن عبد الملك بن عبد الله (الكرخي م سنة 548 هـ) كان يكتب نسخاً من جامع الترمذي ويبيعها فيتقوت بها. وفي السير للذهبي (8) أن أحمد بن علي الداني (م سنة 609 هـ) كان ينسخ التيسير بأسبوع ويقتات بثمنه، وكان ورعاً.

_ (1) معجم الأدباء 9 / 30 - 31. (2) معجم الأدباء 19 / 34. (3) 12 / 45. (4) السير للذهبي 19 / 111. (5) 19 / 275. (6) 19 / 589. (7) 10 / 154. (8) 22 / 17.

وفيها (1) أن النشنبري (م سنة 548 هـ) كان ثقة صالحاً يتبلغ من النسخ. وفيها (2) أن ابن المجد الحافظ أحمد بن المحدث عيسى بن الموفق ابن قدامه (م سنة 643 هـ) كتب لنفسه وبالأجرة وأفاد الطلبة. وفي شذرات الذهب (3) أن محمد بن محمد الأعزازي (م سنة 968 هـ) يذكرون في ترجمته من نسخ الكتب المبسوطة ما يكاد يخرج عن طوق البشر وكتب نحو خمسين مصحفاً. ومن الغريب أن جوهرة التوحيد للقاني (م سنة 1041 هـ) كتب منها في يوم واحد خمسمائة نسخة (4) . وفيها (5) أن القشاش المغربي (م سنة 1031 هـ) كان في خزانته ألف نسخة من صحيح البخاري. وفي معجم الأدباء (6) أن المبارك بن المبارك الكرخي كان أوحد زمانه في حسن الخط على طريقة ابن البواب وكان ضنيناً بخطه جداً فلذلك قل وجوده. والأخبار من هذا النوع كثيرة جداً، وتجد طائفة منها في كتاب تحقيق النصوص ونشرها لعبد السلام هارون (7) .

_ (1) 23 / 242. (2) 23 / 118. (3) 8 / 354. (4) خلاصة الأثر للمحبي 1 / 6. (5) 1 / 141. (6) 17 / 56. (7) ص / 14 - 24.

وفي اللطف للثعالبي قال: (وكان بعضهم يقول: الوراق يأكل من دية عينيه) اهـ. وقد استمرت الحال على هذا حتى صار ظهور المطابع فاختفت حرفة النسخ أو كادت، وبقي تدوين أصل التأليف فحسب بقلم مؤلفه ثم دفعه للمطابع فتنشر منه مئات أو آلاف النسخ في أيام قلائل. فتضعف قيمة النسخة الخطية للمؤلف إن لم يكن لا قيمة لها. فلا بد إذن من خلاصة معتصرة عن تاريخ الطباعة التي على أعقابها تولدت نازلة (حقوق الطبع) مجسدة. وعليه (1) : فهذه إلمامة مختصرة عن تاريخ الطباعة وتدرج انتشارها حتى يحصل تمام التصور لنقطة الانطلاق التاريخي لنازلة الاحتفاظ بحقوق الطبع والتأليف والنشر. لأن ظهور هذه في أعقاب تلك، فلم يعهد قبل هذا البروز والانتشار ما يسمى بحقوق التأليف أو بحقوق الطبع والنشر والتوزيع، إذ قاعدة العلم قبول الشركة فيه، لكن في خصوص العلوم الشرعية يشترط في تحملها أن تكون عن طريق وسائل تحمل العلم كالإجازة والعرض والمناولة عند المحدثين. ولهذا فإن من تَسَوَّر العلم بغير طريقه الشرعي يلحقه الإدبار بوصفه (سارقاً) وكم يرى الناظر في التراجم والمؤلفات ما اكتسب بعد اسم (سرقة الكتب) ، أو: (استلال الكتب) أو: (السطو العلمي) . وعليه فبيان تاريخ الطباعة كما يلي:

_ (1) ما في هذا المبحث من تاريخ الطباعة مستخلص من كتاب مطبعة بولاق لأبي الفتوح رضوان طبع عام 1953 م. وكتاب تاريخ الطباعة في الشرق العربي تأليف: خليل، طبع دار المعارف بمصر عام 1958 م. ملحق تاريخ ابن خلدون لأحمد تيمور، ص / 265.

يقصد بفن الطباعة الذي أحدث انقلاباً في فكر الإنسان وحياته وهو في أول نشأته: (نقش الحروف المفردة على المعادن بشكل يجعلها تجمع فتصبح كلاماً يطبع على الورق ثم تُحَل ويعاد جمعها بصيغة أخرى فتطبع كلاماً آخر ... وهكذا. ثم توضع هذه الحروف المجموعة في آلات تطبع منها نسخ كثيرة في وقت قصير. الطباعة على هذا الأساس يرجع اختراعها تاريخاً إلى قبيل منتصف القرن الخامس عشر الميلادي وحصل خلاف في نسبة الاختراع هل هو إلى الهولنديين أم الألمان؟ لكن الذي عليه جلّ الكاتبين أن مخترع الطباعة هو (جوتمبرج) الألماني، وأن بعض المحاولات قد سبقته. وخلاصة تاريخ هذا الاختراع أن الألماني المذكور ولد بمدينة (مينز) عام 1400 م وكان يعمل في حرف صناعية بالمشاركة. وفي عام 1444 م اتفق مع (حنا فوست) العامل في مهنة الصياغة وقد أثرى منها. وبتعاون هذين وامتداداً لحرفة الصياغة صنعا أولها من الخشب بحجم كبير ثم صنعا حروفاً ذات حجم صغير من الخشب أيضاً ثم توصلا إلى صناعتها من الرصاص كما هو سائد الآن. وكان قد انضم إلى (جوتمبرج) صانع ألماني ماهر هو (بطرس شوفير) نكن سرعان ما انفصلا لخلاف حصل بينهما. واستمر (جوتمبرج) بعمله حتى افتتح مطبعة فكان أول كتاب طبع بحروف مستقلة تجمع وتفك هو (الإنجيل) إذ طبع باللغة اللاتينية عام 1455 م بمدينة مينز. ثم انتقل فن الطباعة إلى إيطاليا عام 1467 م، ثم إلى فرنسا عام 1469 م ولقيت محاربة من الكهنوت وكفروا صاحبها، وبعدها ظهرت أول مطبعة عام 1507 م في باريس، ثم انتقلت إلى أسبانيا وانتشرت بها بعد

مقاومة أيضاً. وفي نفس العام تقريباً انتقلت إلى إنجلترا ولقيت محاربة أيضاً وظهر أول كتاب بها عام 1477م مطبوعاً باللغة الإنجليزية. وقد بلغ من حماس النصارى لديانتهم تحويل الطباعة إلى اللغة العبرية وهي لغة الإنجيل والتوراة وفي الربع الأخير من القرن الخامس عشر الميلادي تم مع التوراة بالعبرية بإيطاليا، ثم اتجهت عنايتهم إلى نشر ديانتهم إلى العرب فكانت ثمة حروف باللغة العربية. وفي أوائل القرن السادس عشر الميلادي وعلى وجه التحديد في عام 1514 م طبع في إيطاليا أول كتاب في اللغة العربية وهو كتاب (صلاة السواعي) ويقع في 211 صفحة. ثم طبع الزبور عام 1516م باللغات المذكورة. وفي عام 1530 م طبع القرآن الكريم باللغة العربية لكن النسخ أعدمت خوفاً من أن تؤثر على عقائد المسيحيين. ثم أخذت الطباعة تنتشر انتشاراً ذريعاً في أوروبا وغيرها وبعد أن كان الطَّابَع الديني يتحكم بتوجيه المطابع في إنتاجها أصبحت تتحول إلى الناحية العلمية ولم يشارف القرن السادس عشر الميلادي على الانتهاء إلا وكانت المطابع العربية منتشرة في أوروبا وغيرها وهي علمية ليس من بينها من الكتب التي تخدم الديانات الأخرى المخالفة للإسلام إلا القليل. وكان من أوائل المطبوعات العربية في روما: نزهة المشتاق في ذكر الأمصار والآفاق لأبي عبد الله محمد المعروف بالشريف الإدريسي. وفي عام 1593 م نشرت أيضاً: قانون ابن سينا في الطب وفي عام 1616 م طبع

كتاب: قصة يوسف من القرآن الكريم مضبوطاً بالشكل الكامل وكان أول كتاب يطبع مشكولاً وهو من مخترعات مطبعة ليدن المشهورة في هولندا. وما كادت الطباعة تنتشر في أوروبا إلا وقد أخذت تنتقل إلى الشرق الأوسط وكان غرض الأوروبيين من انتشارها في الشرق الأوسط دسيسة دينية كغرضهم في أول نشرهم لكتبهم باللغات الشرقية، وكما كانت اللغة العبرية هي أول لغة شرقية نالت عناية الطابعين ثم تلتها اللغة العربية فقد كان دخول الطباعة بهاتف اللغتين إلى بلدان المشرق على هذا الترتيب اللغة العبرية ثم اللغة العربية. وأشهر مطابع اللغة العبرية كما يلي: مطبعة الأستانة العبرية في استانبول أنشأها رجل يهودي اسمه اسحق جرسون وكان ذلك في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي وكان أول كتاب طبع بها هو (ملخص تاريخ اليهود ليوسيفوس) عام 1490 م. ومطبعة دير فريحا العبرية جنوب طرابلس وكانت أول مطبعة دخلت بلاد الشام وذلك في أوائل القرن السابع عشر ثم بعد ذلك دخلت الطباعة العربية بلدان الشرق وانتشرت فيه، وقد كانت حلب أول مدينة شرقية تنشأ فيها مطبعة عربية في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي. ثم الآستانة في العشر الثاني من القرن الثامن عشر أي في 1129 هجرية إذ صدر الترخيص من السلطان أحمد الثالث لسعيد أفندي ابن السفير محمد أفندي حلبي ويتضمن الترخيص: الإذن بطبع جميع الكتب إلا التفسير، الحديث، والفقه، والكلام، بعد أن أصدر الشيخ عبد الله أفندي فتوى بجواز ذلك. وكان أول مطبوعاتها (صحاح الجوهري)

واستمرت هذه المطبعة إلى عام 1230 هـ تقريباً ولم تصدر سوى أربعة وتسعين كتاباً. وبعد أن صدرت الفتوى بعد ذلك بجواز طبع كتب التفسير ونحوها نهضت وانتشرت مطبوعاتها لكن جلّها باللغة التركية ثم أنشئت المطبعة العربية الثالثة في: دير مرحنا إحدى قرى لبنان عام 1732 م تقريباً. ثم الرابعة حوالي عام 1751 م في بيروت. ثم جاءت المطبعة الخامسة في الشرق الأوسط وهي أول مطبعة تدخل مصر قامَ بها نابليون أثناء حملته على مصر في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وكانت طبيعة منشوراتها سياسية لحملة نابليون على مصر لطبع المناشير والأوامر. ثم المطبعة الأهلية بالقاهرة سنة 1798 م. وفي عام 1235 هـ أي 1819 م أنشأ محمد علي، المطبعة الشهيرة باسم (مطبعة بولاق) على اختلاف موسع في تاريخ إنشائها. (وبولاق اسم حي من أحياء القاهرة) ، وفي حدود 1958 م تغير هذا الاسم فصارت باسم (المطبعة الأميرية) . وفي عام 1822 م أنشأ المراسلون الأمريكيون في مالطة (مطبعة مالطة) تحت نظارة أحمد فارس الشدياق ثم نقلها إلى بيروت عام 1834م، وفي فلسطين قامت مطبعة القدس عام 1846 م للنصارى الفرنسيين، وفي العراق قامت مطابع الجزيرة بالعراق عام 1856 م. ثم انتشر فن الطباعة في الشرق الأوسط وبلدانه: ففي الأردن أول مطبعة عام 1909م قامت في حيفا ثم في عمان عام 1922 م.

وفي اليمن عرفت الطباعة فيها منذ عام 1877 م في صنعاء بأمر السلطان عبد الحميد الثاني. وفي المملكة العربية السعودية كانت أول مطبعة في الحجاز عام 1300 هـ مطبعة تدار بالقدم في مكة حرسها الله تعالى ثم مطبعة أخرى في عام 1919 م. ولما استتب الأمر للملك عبد العزيز آل سعود أطلق على المطبعة اسم (مطبعة أم القرى) وفي عام 1937 م سميت (مطبعة الحكومة) ثم تتابع إنشاء المطابع في مدن المملكة بصفة متكاثرة وأرقى آلات الطباعة الحديثة المدهشة. وفي البحرين كانت أول مطبعة عام 1938م باسم " مطبعة البحرين ". وفي الكويت عام 1947 م أسست مطبعة المعرفة من قبل بعض مواطني الكويت ثم أنشأت مطبعة حكومية عام 1954 م. وفي قطر أسست أول مطبعة عام 1956 م باسم: مطابع العروبة. ومن هذا العرض الموجز نستخلص الحقائق التالية: أولاً: أن تاريخ الطباعة بدأ عام 1400 م في ألمانيا. ثانياً: أن الطباعة لاقت معارضات شديدة من رجال الدين النصراني حتى كان لها سلطان التحكم فيما تنتجه هذه المطابع. ثالثاً: أنه بعد انتشارها أصبحت تسير في منهج علمي وضَعُفَ التحكم الكنسي فيها أو زال. رابعاً: وأن أول بلد شرقي تدخلها الطباعة بالعبرية هو الآستانة بتركيا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي. وأول بلد شرقي تدخله الطباعة

بالعربية حلب في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي. خامساً: وأن غرض إدخال الطباعة في البلدان الشرقية كانت حملة تبشيرية نصرانية عن قرب لمناهضة الإسلام فيها. سادساً: وأنه لذلك وجد من علماء المسلمين في هذه الديار توقف وممانعة في طباعة القرآن الكريم والسنة النبوية وعلم الشريعة لذلك ولتفسيرات أخرى يجد الراغب خبرها في كتب تاريخ الطباعة. سابعاً: ثم صار انتشار الطباعة حتى أصبحت أساساً في الحياة الحضارية للأمم.

المبحث الثاني الاحتفاظ بحق المؤلف في المجالات الدولية والحكومية والفردية

المبحث الثاني الاحتفاظ بحق المؤلف في المجالات الدولية والحكومية والفردية لم يكن هذا المبحث معروفاً من قبل بهذه الصفة، وإنما صار وجوده بحدوث المطابع، وأخذ يتطور بتطورها وبحكم أوضاع الحياة المدنية والاقتصادية والثقافية الحديثة، فهو وليد تلك العوامل والوسائل، ولذا لم يكن محلاً للتأليف والبحث المستفيض. وبما أن المطابع إنما ولدت على الصعيد الغربي فإن مبدأ الاحتفاظ بحقوق الطبع إنما شب ونضج على الصعيد الغربي كذلك، ولهذا يجد الناظر البحث مستفيضاً على مستوى القوانين الغربية والدراسات الفردية، وله عقدت المؤتمرات وصدرت الاتفاقيات العالمية، ونال اهتمام القانونيين بصفة بالغة وصار مجالاً للأطروحات في هذا المجال ويمكن تسجيل ما تم الوقوف عليه في هذا على ما يلي: أولاً: المؤتمرات العالمية (1) : فأهم المؤتمرات التي عقدت عالمياً لحق المؤلف هي:

_ (1) مجلة عالم الكتب، العدد الرابع ربيع الثاني عام 1402 هـ وكتاب الحقوق على المصنفات لأبي اليزيد ص / 9.

1- مؤتمر برن بسويسرا في 9 سبتمبر عام 1886 م، وبلغ عدد الدول الأطراف الممثلة فيه (73) دولة كلها غربية سوى: تونس، والجزائر والمغرب، ولبنان، والهند. وهي أول اتفاقية دولية لحماية المصنفات الأدبية والفنية. وتقع في (38) مادة مع ملاحق لها. 2- مؤتمر باريس عام 1896 م. 3- مؤتمر برلين عام 1908 م. 4- مؤتمر روما عام 1928 م. م- مؤتمر بروكسل في بلجيكا في 26 يونيو عام 1948 م. 6- مؤتمر اليونسكو عقد في صيف عام 1952 م. 7- الاتفاقية العربية لحماية حق المؤلف، وعقد لها مؤتمر الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي وذلك في بغداد شهر محرم عام 1402 هـ وتتكون هذه الاتفاقية من (33) مادة. 8- المنظمة العالمية للملكية الفردية التي يشار إليها باللغة العربية بلفظ موجز هو (الويبو) ويرجع تاريخها إلى عام 1883 م وهي إحدى الوكالات المتخصصة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة. وقد انضمت المملكة العربية السعودية إلى العضوية في هذه المنظمة. ثانياً: القوانين الغربية المحلية (1) : يحرر بعض الكاتبين أن أول مشروع قانون لحقوق التأليف صدر عن

_ (1) مجلة عالم الكتب ص / 962 - 964 مقال بعنوان: ألف باء / حقوق التأليف عن كتاب باللغة الإنجليزية.

مجلس العموم في بريطانيا عام 1709 م، وفي الولايات المتحدة الأمريكية عام 1789 م وفي فرنسا عام 1791 م. ثالثاً: القوانين العربية المحلية (1) : حصل بالتتبع أن أقدمها هو: 1- قانون حق التأليف العثماني الصادر عام 1326 هـ /1910 م. ونشر مترجماً في مجلة القضاء التي تصدرها نقابة المحامين في بغداد في العددين (1، 2) عام 1948 م ويقع في (42) مادة وهو منشور بنصه في مجلة عالم الكتب ص / 657 - 658. 2- القانون المغربي الصادر عام 1916 م. ثم تتابعت الدول العربية من مصر عام 1954 م وليبيا عام 1968 م والعراق عام 1971 م بعد إلغاء القانون العثماني. والسودان عام 1974 م. وهذه القوانين متشابهة. ونقطة انطلاقها من القانون المصري الذي استمده من القانون الفرنسي. رابعاً: المؤلفات القانونية الفردية: التأليف في هذا المجال قد بلغ حد الكثرة سواء كان التتبع في مجموعات النظم أم الأفراد بالتأليف حتى صارت مجالاً فسيحاً للأطروحات العلمية في كليات الحقوق. ومن المناسب الإشارة إلى بعض منها: 1- الحقوق على المصنفات الأدبية والفنية والعلمية لأبي يزيد علي

_ (1) حقوق المؤلف المعنوية في القانون الوافي ص / 9 للقلاوي ومجلة عالم الكتب ص / 645 - 650.

المتيت ط / أولى عام 1967 م نشر منشأة المعارف بالإسكندرية. 2- حقوق المؤلف المعنوية في القانون العراقي - سهيل القلاوي - طبع جمهورية العراق عام 1978 م. 3- حقوق الإنتاج الذهني: أحمد سويلم العمري - طبع دار الكتاب العربي بمصر عام 1387 هـ. 4- حق المؤلف في القانون المصري: محمد فرج الصده - نشر معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة عام 1956 م. 5- الوسيط في شرح القانون المدني للسنهوري. حق الملكية. المجلد 8 / 282 - 461. 6- الحق الأدبي للمؤلف. النظرية العامة وتطبيقاتها - عبد الرشيد مأمون شديد ط / القاهرة دار النهضة العربية يقع في (629) صفحة. ومن هذا العرض يتبين لنا أن تاريخ حقوق التأليف في العصر الحديث على الصعيد الغربي عرف منذ قرنين من الزمان تقريباً. وهذه النظم العربية والغربية وإن كانت متفقة في الأصل على ضرورة الحماية لحقوق المؤلفين لصالحهم ولصالح الأمة أيضاً إلا أنها تختلف من بلد لآخر في بعض جزئيات النظام ومواده، وهذا الاختلاف تفرضه السلطة القضائية التي تتبناها أي حكومة تُصْدِرُ نظاماً في هذا. وهكذا شأن ما كان من عند غير الله يكون فيه الاختلاف. والله المستعان. خامساً: الجهود الفقهية الإسلامية في هذا المجال: بعد طول الكشف تحصل ما يلي:

1- في مجلة عالم الكتب بالرياض: وقد خصصت العدد الرابع من المجلد الثاني لعام 1402 هـ لموضوع حق المؤلف واستكتبت عدداً من العلماء فنشرت فيه مجموعة مهمة من الاتفاقيات والقوانين المحلية في بعض الدول العربية ومقالات تحمل دراسات تاريخية وفقهية وهذه على ما يلي: أ - الفارق بين المصنف والسارق للسيوطي " م سنة 911 هـ " تحقيق - قاسم السامرائي ص / 741 - 752. ب - سرقات الكتب وانتحالها في العصور الإسلامية: محمد ماهر حمادة ص / 707 - 712. ج - أمانة تحمّل العلم: عبد الفتاح الحلو ص / 703 - 706. وقد أحسن القائمون على تلك المجلة أيما إحسان في تخصيص هذا العدد لهذا المبحث المهم. 2- كتاب حق الابتكار في الفقه الإسلامي - فتحي الدريني - طبع مؤسسة الرسالة عام 1397 هـ. ومعه خمسة أبحاث جوابية لبعض المعاصرين منهم: أبو الحسن الندوي، وعماد الدين خليل، وعبد الحميد طهماز، ووهبه الزحيلي. وفي المقدمة (1) ذكر أن هذا الموضوع لم يتناوله أحد من متقدمي الفقهاء بسطاً إلا ما عثر عليه من مقتضبات للقرافي في الفروق 1 / 208

_ (1) ص / 7.

وما يليها ثم في ص / 55 حتى ص / 80 عقد عنواناً باسم (منشأ شبهة القرافي في طبيعة حق المؤلف والرد عليه) . فساق نص القرافي مختصراً للمقصود منه مع إخلال في الاختصار ص / 55 ثم أخذ يناقشه في نحو من ثلاثين صفحة. وقد ذهب بعبارة القرافي إلى غير المراد منها وحملها على ما لا تحتمله لا من قرب ولا من بعد ولذا ضرب وجوهاً من التعسف في تفسيرها وبيانها. وفي واقع الأمر أن كلمة القرافي من بدائه العلم، فقد علم سلفاً وخلفا أن الأفكار (الاجتهادات) لا تملك وليست حقاً لمبتكرها وإلا فما فائدة التفكير والاجتهاد والزراعة في ذلك والاستماع إليها. وهذا محل اتفاق بين أهل الملل ففي القوانين الوضعية في الوقت الذي تحمي فيه حق المؤلف على مؤلفاته تقول (إن حماية حقوق المؤلف لا تمنع أي شخص من استخدام الأفكار التي وردت في المقالة من أجل ما هدفت إليه) فهي من الأمور المعنوية المشاعة النفع ولهذا قرنها المؤلف بقوله (وأفعاله الدينية فهو دينه، لا يرث شيئاً من ذلك لأنه لم يرث مستنده وأصله) أي ليس في أمر مادي محسوس كتأليف، فالتأليف شيء والفكرة التي يحملها شيء آخر فالأول يورث والثاني لا يورث، ولهذا فإن القوانين التي تحمي حقوق المؤلفين تحمي التعبير عن الفكرة في ذات المؤلف أما الفكرة نفسها فلا سبيل إلى منع الاستفادة منها. وقد حُكي الاتفاق على أن الحقوق الشخصية الخالصة أي التي ليست بمال ولا تابعة للمال أنها لا تورث ولا تعتبر تركة للمورث وذلك كالوظيفة والوكالة والولاية لأن هذه الحقوق تثبت لمعنى في صاحبها والمعاني لا تورث.

3- حقوق التأليف والابتكار من وجهة نظر الفقه الإسلامي لعبد الله العماري القاضي بدولة قطر. نشر في مجلة الدوحة عدد " 94 " لشهر ذي الحجة عام 1403 هـ ص / 12 - 15. 4- مقدمة الدستور الإسلامي لتقي الدين النبهاني. ذكر عرضاً خفيفاً لهذه النازلة قرر فيه عدم مشروعية الاحتفاظ. 5- حكم الإسلام في حقوق التأليف والترجمة والتوزيع والنشر لأحمد الحجي الكردي المدرس بجامعة دمشق. مقال نشر في ص / 58 - 64 من مجلة هدي الإسلام المجلد 25 في العددين السابع والثامن عام 1401 هـ - الأردن. 6- حق التأليف في القوانين الوضعية المعاصرة وفي نظر الشرع الإسلامي لصلاح الدين الناهي، مقال نشر في ص / 37 - 57 من المجلة المذكورة رد به على الأستاذ / الكردي المذكور وهذا المقال قد فاق جميع من تقدم ذكره. 7- في كتاب المدخل لمصطفى الزرقا 213 - 222، إلمامة موجزة عنه. 8- وفي كتاب دراسات في الحديث النبوي للأعظمي ص / 379 كلمات تاريخية عنه. 9- وفي مجلة العربي عدد (148) لعام 1971 م مقال بعنوان: الكتاب العربي في هذا العصر الحديث ص / 20 - 26 لأبي النجا رئيس مجلس إدارة دار المعارف بالقاهرة. 10- وقبل هذه يوجد في كتب الشريعة الإسلامية نصوص وأبحاث

لتَقهّم التكييف الفقهي لهذه النازلة بفروعها من بيع الحق ووراثته وعقد التوزيع والترجمة ونحو ذلك.. وبيانها في المبحث بعد هذا. 11- وجهة نظر حول الحكم الشرعي لحق التصنيف والتأليف لمحمد برهان الدين السنبهلي من دار العلوم بالهند طبع في العدد الأول عام 1408 هـ من مجلة المجمع الفقهي بمكة - حرسها الله تعالى - ص / 153 - 162. ونشر قبل في مجلة البعث الإسلامي ص / 69 -80 عدد / 2 المجلد / 30 شوال عام 1405 هـ. 12- وفي كتاب: خلو الرجل للأستاذ مشهور حسن تعليق في هذا ص / 29 - 32. طبع دار الفيحاء / عمان عام 1407 هـ. 13- في (تكملة فتح الملهم بشرح صحيح مسلم) للشيخ محمد تقي عثماني 1 / 365 بحث في هذا. 14- ولوالده مفتي باكستان الشيخ محمد شفيع رحمه الله تعالى فتوى باسم (ثمرات التقطيف من ثمرات الصنعة والتأليف) . وقد وصلت إلى مصورتها مطبوعة باللغة الأردية فترجمها بعض إخواننا. ولندرتها أسوقها مترجمة كما يلي: السؤال: 1- يسجل المصنفون كتبهم لئلا ينشرها أحد غيرهم. هل هذا التسجيل جائز شرعاً أم لا.؟ 2- ما حكم البيع والشراء لحق التصنيف والاختراع.؟ الجواب:

لا يجوز المنع عن النشر والصنعة لمن يسجل تأليفه أو اختراعه لأن منع أحد عن التصرف في الأمر المباح لا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يتم التصرف في ملك الآخر بلا إذنه. والآخر: أن يؤدي هذا التصرف إلى إلحاق ضرر للفرد أو الجماعة. والمسألة التي نحن بصدد بحث عنها تفقد هذين الوجهين لأن الناشر أو الصانع لا يتصرف في ملك أحد بل يقوم بالكتابة وتوفير الأوراق ودفع أجرة الطباعة من عنده. هذا وأن ما ينقل منه إما أن يشتريه أو يحصل عليه من أي طريق مباح. وأما حق التصنيف: فليس بمال. ولا يصلح أن يكون ملكاً لأحد بل إن الحكومة الحاضرة كما أنها قررت أن يكون حقاً للأشياء الكثيرة التي ليست بقابلة أن تكون حقاً. فهكذا قررت أن يكون هذا الشيء حقاً أي حق التصنيف والاختراع (الإبداع) . والوجه الثاني مفقود كذلك لأن الناشر لا يمنع المصنف ولا أحداً عن النشر الذي هو سبب في إلحاق الضرر بل النشر يؤدي إلى حرمان المصنف أو المبتكر من الغلاء ولا يضر الناس على منفعتهم الشخصية - فهذا ليس بضرر بل تقليل للنفع والفرق ظاهر بين الضرر وتقليل النفع. وقد صرح شمس الأئمة في المبسوط - كتاب السير والجهاد - بأنه لا يجوز لأحد أن يكون سبباً في المضارة لأحد، ولكن لو نقص ربح فرد فهذا جائز. فلو كثر عدد المحلات التجارية في السوق وأدى ذلك إلى نقص الربح أو عدمه لشخص معين فعندئذ لا يقال إن التجار الآخرين ألحقوا به الضرر، فلذا ليس من ثم مبرر عقلي أو نقلي على الحجر ومنع الناس

من شيء. لعل منع المصنف أو المبتكر لأحد عن الطباعة والنشر إنما يحتمل أن يقرر نسبة الربح أكثر من العادة أو ألا تكون المنافع التجارية إلا له وأن لا يستفيد الآخرون من ربح هذه الصفقة التجارية وبهذا يتضرر الناس فهذا يؤدي إلى الحجر عليه فضلاً عن أن يمنع الآخرين. ولأن النفع الفردي الذي يكون سبباً لإضرار عامة الناس فالشرع لا يبيحه ولهذا الأمر نظائر وشواهد كثيرة واردة في الأحاديث الصحيحة نحو حديث الصحيحين من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تتلقى الركبان، وأن يبيع حاضر لباد. أي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منع أن تشترى الحبوب في القرى والمزارع قبل أن تصل إلى المدن وأن يكون رجل من أهل المدينة سمساراً في بيع البضائع لأن في ذلك تبقى الحبوب في سيطرة شخص واحد أو بعض أشخاص، وهذا موجب لإرضاء عامة الناس لما حددوا من الأسعار وبهذا يتم حرمان الناس من رخص الأسعار من قبل أهل القرى والبدو. وهذا يؤدي إلى إلحاق ضرر للناس. وحرفة السمسرة صارت سبباً مباشراً في غلاء الأسعار ولهذا ورد النهي عن ذلك في الحديث المذكور. وكذلك ورد النهي عن الاحتكار في الأحاديث الصحيحة. أي أن يتم شراء الحبوب واحتكارها حتى تباع عند الغلاء. فهذا كذلك سبب مباشر في إلحاق الضرر لعامة الناس رغم أن هذه التصرفات كلها تتم في ملك شخص معين ومع ذلك لم يبح له الشرع ذلك ... فكيف يسمح ويتحمل أمر تسجيل حق الطبع والابتكار ما ليس بملك له وأنه سبب ضرر للناس.

وهناك قاعدة وهي: (الضرر يزال) في كتاب الأشباه والنظائر حيث اتخذه الفقهاء مستنبطاً من الكتاب والسنة. وذكرت فيه شواهدها الكثيرة. فالحاصل أنه يتحمل أحياناً خسائر فردية لإزالة الضرر عن عامة الناس. فعند الحاجة يحق للحاكم تسعير السلع اللازمة حتى لا يسمح لأحد أن يبيع بسعر زائد على التسعيرة (الأشباه والنظائر) . فلذا إزالة الضرر الذي يعم الجميع والذي لا يلحق به الضرر لأحد، بل ولا حرمان من النفع. قد يكون هناك تقليل في نسبة الربح وهذا أيضاً موهوم فكيف تُبقي الشريعة الإسلامية مثل هذا الضرر الذي يعم الناس. ولو أمعن النظر لتبين أن العالم في قلق واضطراب بحيث لا سكون فيه لفقير ولا لغني وتظهر كل يوم آلاف من الطرق والوسائل المباحة وغير المباحة لكسب الأموال. فسببه الكبير هو السيطرة من قبل الحكومات الرأسمالية وأعوانها على طرق الكسب المباحة من قبل الشرع الإسلامي. أو أن الحكومة تملك كل شيء وتجبر الناس على أداء الضرائب، وأدى ذلك إلى نشأة الصراع بين العمال والأغنياء الرأسماليين. وبدأ جنون الرأسمالية الذي يخالف الفطرة (السليمة) وهذا صار سبباً لنشأة مصائب كثيرة. ولا شك أن هذا الاضطراب لن يزول ولا يحصل للناس أمن عام إذا لم يعتمد على نظام اقتصادي إسلامي سليم. وملاك هذا الأمر أن يتم تحرير المصالح العامة والمنافع من سيطرة الأفراد، ولا يسمح لأحد أن يرفع نظره الطامع إلى أجزاء مشتركة المنافع في الكون نحو البحر وما فيه من الخلق والجبال ومما ينبت فيها من الغابات والعيون الطبيعية بقدرة الله تبارك وتعالى، وما يتبعها من المنافع ينبغي تحريرها، فلا يحفظ حق النشر للمصنف أو المبتكر بل يتم إتاحة فرصة الانتفاع به لكل تاجر وهذا هو

النظام الاقتصادي السليم الذي يكفل الأمن للجميع. وخلاصة الأمر أن حق التصنيف والابتكار ليس بشيء قابل أن يكون ملكاً لأحد. فلو طبع أحد كتاباً أو نقله أو قلد صناعة بجهوده فالمنع عن ذلك ليس بأمر مباح. بل هذا من حقه. فلا يخفى أن هذا المنع ظلم لا ينبغي. التنبيه: 1- وقد يتأول في ذلك بعض الناس بأن من مصلحة التسجيل حفظ الكتاب عن الطباعة المحرفة والمشحونة بالأخطاء، فبهذا يفوت الهدف الأصيل الذي ألف الكتاب من أجله. فالجواب: أنه يحق للمصنف في مثل هذه الحالة أن يرفع دعواه ضد الطابع المحرف بأنه نسب إليّ شيئاً لم يصدر مني. فلذا يحكم عليه بالمنع من الطبع والنشر ويجبر " ويكره " على أن يحتاط في العودة إلى مثل ذلك. فإذاً الحجر والمخالفة من الإشاعة مطلقاً ليس من حق أحد أن يفعله شرعاً. والله أعلم. 2- لما ثبت أنه ليس من حق المصنف والمخترع أن يخصص التصنيف أو الابتكار لنفسه فلا يجوز شرعاً بيع هذا الحق وشراؤه ويشترط في المبتاع والمشترى أن يكون مالاً والحق المحض المجرد ليس بمال. ولو من صلاحيته أن يكون وسيلة إلى كسب المال ... والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهت الرسالة مترجمة

المبحث الثالث التاريخ القديم لملكية التأليف

المبحث الثالث التاريخ القديم لملكية التأليف (1) ما تقدم في الفصل قبل أن يعطي إلمامة مختصرة للوقوف على تاريخ الاحتفاظ بملكية الابتكار بوحدته الموضوعية المتكاملة. لكن تبقى الإشارة بكل ثبات إلى أن أصول ذلك المبدأ وجذوره تمتد في تاريخ الأمة الإسلامية إلى أعماق بعيدة وهي وإن لم تكن معروفة بهذا الاصطلاح الشائع في العصر الراهن إلا أننا نستطيع تكييفها بعدة مظاهر وهي وإن لم يكن لديهم ضوابط إجرائية لها وأخرى جزائية فمرد ذلك إلى أنهم يحتكمون إلى شريعة الله في كل أمورهم وشؤونهم ويعالجون كل قضية بعينها بحكم ما يحيط بها والأصل أن الوازع الديني كان يفرض سلطانه على النفوس فكان أقوى من أي مشروع زجري آخر. وما حدا بأمم الغرب إلى وضع قانون لذلك إلا انتشار آفة السرقة والسطو والانتحال والاختلاق لأنها تفقد صمام الأمان: العقيدة القويمة في دين الإسلام الخالد. ونستطيع بمسلك التتبع والاستقراء تكييف التدليل على ذلك بالمظاهر الآتية:

_ (1) مجلة عالم الكتب. المدخل للزرقا 3 / 21 - 22. دراسات في الحديث النبوي للأعظمي ص / 379.

أولاً: الأمانة العلمية: وهذا يعني العناية الفائقة بموجبات الثقة لأمانة تحمل العلم المتمثلة فيما يلي: 1- توثيق النصوص بالإسناد: وهذا يتجلى في تراث الإسلام العظيم في كتب السنة والأثر، الدائرة قبولاً ورداً على الإسناد الموثق بمعاييره الدقيقة المدونة في علم مصطلح الحديث. 2- تخريج النص بمعنى نسبة القول إلى قائله وذكر المصادر المعتمد عليها. ومن نظر في أيّ من كتب أهل الإسلام رأى معاناة الدقة في ذلك حتى بلغ بعضهم أنه إذا نقل النص وفيه تصحيف أو تحريف نقله بذلك ثم نوه عنه (كذا وجدته وهو تصحيف مثلاً صوابه كذا) . ثانياً: طرق التحمل والأداء عند المحدثين. منها الإجازة، والمناولة، والوجادة ... ونحوها. وهذه مبسوطة بحثاً في كتب الاصطلاح ومن غريب ما يسطر هنا أن الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى لحظ في آخر الرسالة للشافعي رحمه الله تعالى وجود إجازة بخط الناسخ وهو الربيع تلميذ الشافعي ولكنها ليست إجازة رواية كالمألوف في الإجازات ولكنها إجازة النسخ ونصها: (أجاز الربيع بن سليمان صاحب الشافعي نسخ كتاب الرسالة وهي ثلاثة أجزاء في ذي القعدة سنة خمس وستين ومائتين وكتب الربيع بخطه) (1) اهـ. ثالثاً: تحريم الكذب والتدليس:

_ (1) بواسطة تحقيق النصوص ونشرها عبد السلام هارون ص / 36.

ونصوص الكتاب والسنة وكتب سلف الأمة صريحة بتحريمه والتنديد بالكاذب ولعنه وزجره، ويروى في الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أترعون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه ليحذره الناس ". وكم من كتاب ألف في الوضع والوضاعين والكذب والكذابين لكشفهم وإسقاط حرمة أعراضهم بطرحهم من حساب مجتمعاتهم. رابعاً: تحريم السرقة والانتحال: المعروف باسم " قرصنة الكتب ". ومردّ هذا إلى قواعد الإسلام الكلية وأصوله التشريعية وجهود العلماء في كشف غارات السارقين وعبث الورّاقين وأن هذا مسلك من لم يتحمل أعباء العلم ولم يلجأ منه إلى ركن وثيق، فأراد أن ينتج قبل أن ينضج، لكنه احترق، لكشف العلماء لسرقته وانتحاله وسطوه واختلاقه. والحديث عن هذا يفوق الحصر في عدد من فنون العلم: فهذا أبو عبيد القاسم بن سلام (المتوفى سنة 238 هـ) يحذر من انتحال الشعر في مقدمة كتابه: (طبقات فحول الشعراء) . وقد ألفت كتب في كشف السرقات في مختلف الفنون منها ما يلي: في مجال الشعر: الوساطة بين المتنبي وخصومه للجرجاني (المتوفى سنة 392 هـ) وكتاب الصناعتين للعسكري (المتوفى سنة 395 هـ) والإبانة عن سرقات المتنبي للعميدي (م سنة 433 هـ) والحجة في سرقات ابن حجة للنواجي (المتوفى سنة 859 هـ) . وكتاب سرقات البحتري من أبي تمام (1) .

_ (1) معجم الأدباء لياقوت 7 / 74.

وكتاب السرقات الكبير (1) . وكتاب السرقات (2) . وكتاب السل والسرقة (3) . وكتاب سرقات الكتب من القرآن لابن كناسة (4) . وفي المجالات الأخرى: كتاب معين الحكام مستل من تبصرة الحكام لابن فرحون. وكُتُبُ الشمس ابن طولون استلها من كتب السيوطي وقد ألف بعض المعاصرين رسالة في ذلك باسم: الفلك المشحون. وللإمام ابن القيم رحمه الله تعالى (5) مقطع لطيف في مبحث الحيل المحرمة من كتابه أعلام الموقعين إذ يقول رحمه الله تعالى: (وكحيل اللصوص والسراق على أخذ أموال الناس وهم أنواع لا تحصى فمنهم السراق بأيديهم ومنهم السراق بأقلامهم ومنهم السراق بأمانتهم، ومنهم السراق بما يظهرونه من الدين والفقر والصلاح والزهد وهم في الباطن بخلافه، ومنهم السراق بمكرهم وخداعهم ونمشهم، وبالجملة فحيل هذا الضرب من الناس من أكثر الحيل) اهـ. إلى غير ذلك مما هو موضح ومبين في مؤلفات العلماء وأبحاثهم ولَدَيَّ كتاب في ذلك باسم (المؤلفات

_ (1) معجم الأدباء لياقوت 7 / 74 - 75. (2) معجم الأدباء لياقوت 7 / 191 - 192. (3) معجم الأدباء لياقوت 7 / 264 - 265. (4) السير للذهبي 9 / 509. (5) أعلام الموقعين 3 / 344.

المنحولة) جمعت فيه طائفة كبيرة على حروف المعجم يسر الله إتمامه وطبعه. ومن أراد الوقوف على بعض الأبحاث في هذا فلينظر بعض المقالات المسطرة في مجلة (عالم الكتب) العدد الرابع لعام 1402 هـ ففيها مقالان مهمان: أحدهما: للأستاذ / عبد الستار الحلوجي. والثاني: للأستاذ / محمد ماهر حمادة. وفيها نشر الأستاذ / قاسم السمرائي رسالة السيوطي باسم: (الفارق بين المصنف والسارق) وقد نال اهتمام الكاتبين في شتى المجالات العلمية الشرعية وعلوم الآلة وغيرها. ولها ألقاب متعددة عندهم منها ما ذكره ابن الأثير في (كفاية الطالب) (1) استخلصها من (حلية المحاضرة) للحاتمي وهي: السرقة، والنظر، والملاحظة، والإلمام، والتغاير، والاختلاس، والاصطراف، والإغارة، والغصب، والالتقاط، والتلفيق، والتوليد، ... وغيرها. مما شرح معانيها في مجال الشعر وسطو الشعراء.. والله أعلم. لطيفة: ومن لطيف الاستطراد في ذلك أن أحد الشعراء من السودانيين النزلاء المقيمين في جدة أنشد قصيدة له أعدها لحفل سيقام. وبينما هو يتغنى بها ليثقف أوزانها ويهذب ألفاظها، وإذا بأحد المجاورين له يسمعه ويكتب على حين غفلة منه حتى استوعبها كتابة فسجل اسمه في الحفل وسعى حتى قدمت قصيدته في البرنامج فلما ألقاها أصيب أخونا السوداني بالذهول فاعتذر عن إلقائها..

_ (1) ص / 109 - 127.

تنبيه: في ترجمة محمد بن إسحق (1) قال أبو داود سمعت أحمد يقول: (كان ابن اسحق يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس ويضعها في كتبه. قلت: هذا الفعل سائغ فهذا الصحيح للبخاري فيه تعليق كثير) اهـ. خامساً: التخليد " الإيداع ": الإيداع (2) يعني: (وضع نسخة من المصنف في المكتبات العامة أو دور المحفوظات للاحتفاظ بمجموعة منه أو الاحتفاظ به كإثبات لنسبة المصنف إلى مؤلفه ونشر المصنف بالفعل أو تاريخ نشره) . ويجوز أحياناً إيداع نسخ عن جميع المنشورات كشرط للتمتع بحقوق تأليف المصنف.. وبناء على اتفاقية (برن) يجب أن يكون التمتع بحق المؤلف وممارسة هذا الحق غير مشروطين بالإيداع، نظراً إلى أن الإيداع ليس إلا مجرد إجراء شكلي. وتعفي الدول الأطراف في الاتفاقية العالمية لحقوق المؤلف بالمثل من ضرورة الإيداع كأحد شروط حق المؤلف. ويشير الأستاذ / محمد ماهر حمادة بسبق المسلمين إلى ذلك فقال في خاتمة بحثه (3) : (لا نحب أن نختم بحثنا هذا دون التوقف لحظة عند الإيداع القانوني الذي افتتحنا مقالنا هذا به وأهميته في حسن ضبط عملية التأليف، وحفظ المؤلفين، وقطع دابر السرقة والتزوير، وإغناء مكتبات الدول الوطنية بالمؤلفات التي يؤلفها أبناء تلك البلاد، ذلك أن البلاد الإسلامية كما هو معلوم شهدت إبان ازدهار الحضارة الإسلامية في القرون

_ (1) السير للذهبي 7 / 46. (2) مجلة عالم الكتب ص / 589 - 590، 650، 707 - 708، 711. (3) مجلة عالم الكتب ص / 711 عدد / 4 عام 1402 هـ.

الأولى التي سبقت سقوط بغداد بيد المغول سنة 656 هـ حركة تأليف رائعة عزّ نظيرها في مختلف مجالات العلوم الإنسانية، وليس هنا المجال للكلام عن مثل هذه الأمور، ولكنا نحب أن ننوه أن المسلمين آنذاك عرفوا نظاماً يشبه نظام الإيداع القانوني المعروف الآن. وإن كنا نجهل الكثير عن طبيعته والضمانات التي يقدمها وحقوق المؤلفين وطرق حمايتهم. فهذه الأمور كثيرة بحاجة إلى من يبحثها ويجلي غوامضها، ولعل فيما نكتبه حافزاً للبعض لطرق هذا الموضوع المهم الغامض الشائك. فقد عرف المسلمون كما قلنا نظاماً يشبه الإيداع القانوني وأسموه (التخليد) فقد ازدهرت مكتبة دار العلم التي بناها ببغداد سنة 382 هـ الوزير البويهي: سابور بن أردشير ازدهاراً رائعاً وطار صيتها في الآفاق وارتفعت سمعتها حتى قصدها الأدباء والعلماء والشعراء من كل مكان وضربوا إليها آباط الإبل. ويعتبر أبو العلاء المعري الشاعر المشهور أشهر من قصد بغداد بخاصة لزيارة دار العلم هذه والتعرف على محتوياتها وعلى الأدباء والعلماء الذين كانوا يرتادونها ويرِدُ ذكرها في مؤلفاته. وقد كان يسر المؤلف - أي مؤلف كان - أن تقبل هذه الدار نسخة من كتابه كهدية وهذا هو ما نسميه نحن بالإيداع وكانوا يسمونه (التخليد) . يذكر ياقوت أثناء حديثه عن أحمد بن علي بن خيران الكاتب أنه.... سلم إلى أبي منصور بن الشيرازي رسول ابن النجار إلى مصر من بغداد جزئين من شعره ورسائله واستصحبهما إلى بغداد ليعرضهما على الشريف المرتضى أبي القاسم - المشرف على مكتبة دار العلم في بغداد آنذاك ... وغيره ممن يأنس به من رؤساء البلد، ويستشير في تخليدها دار العلم لينفذ بقية الديوان والرسائل، إن علم أن ما أنفذه منها قد ارتضي واستجيد) .

سادساً: الجزاءات: لم يحصل الوقوف على عقوبة في قضية عينية إلا أن تقعيد العلماء لمنع الانتحال وكشفهم قطاع الطريق في ذلك وأن قاعدة التشريع أن ما لا حد فيه فجزاؤه أمر تعزيري يقدر لكل حالة بقدرها، وإن من العقوبات التعزيرية التشهير والنقض بالمثل فنستطيع أن نكيف في ضوء ذلك أنهم يرون الاكتفاء بالتشهير بالمنتحل والنقض عليه بالمثل وهذا وحده كاف في الاحتفاظ بالحق الأدبي لحقوق المؤلف إذ أن التأليف في ذلك الوقت لم يكن تسويقه وانتشاره عن طريق المطابع التي تخرج آلاف النسخ بل كان الكتاب يخرج منه نسخ معدودة والعلم للجميع وكانت تسجل عليه الانتقالات للملكية ... والله أعلم. سابعاً: الاستنساخ: وقد تقدم في فاتحة البحث الأول في " تاريخ الطباعة " ولزيادة الفائدة تنظر البحوث المعاصرة الآتية: 1- الوراقة والوراقون: لحبيب الزيات في مجلة المشرق المجلد / 41 ص / 305. 2- الكاغد والورق: لكوركيس عواد. مجلة المجمع العلمي بدمشق المجلد / 23 ص / 409. 3- الورق والوراقون في الحضارة الإسلامية: مجلة المجمع العلمي العراقي المجلد / 12 ص / 82 لعام 1965 م. 4- الوراقة والوراقون: مجلة رسالة المكتبة العدد الأول ص / 10 - 12.

5 - تحقيق مخطوطات العلوم الشرعية: محي هلال سرحان ص / 200 - 202 بعنوان الوراقة والنَّساخة. ثامناً: بيعها: وهذا بيعها من غير نكير في عامة ديار الإسلام وعلى تطاول الأزمان ويقرره الفقهاء في البيوع وغيرها كما في مبحثي الاستطاعة وطواف الوداع من كتاب الحج. وكم رأينا أن فلاناً كان دلاّلاً للكتب. وفي السير للذهبي جمل وافرة من أخبار التعامل بها بيعاً وشراء فمنها: أن عبد الله بن المبارك العكبري (م سنة 528 هـ) باع ملكاً له واشترى كتاب الفنون وكتاب الفصول لابن عقيل، ووقفها على المسلمين (1) . وإسماعيل بن أحمد السمرقندي (م سنة 536 هـ) كان له بخت في بيع الكتب باع مرة الصحيحين بعشرين ديناراً (2) . وأبو المعالي الكتبي (م سنة 568 هـ) كان دلاّل الكتب في بغداد (3) . وهذه كتب قاضي الجماعة القرطبي (م سنة 402 هـ) بيعت كتبه بأربعين ألف دينار (4) . وابن الملقن (م سنة 804 هـ) قال ابن الحجر (5) : (وكان يقتني

_ (1) المنتظم 10 / 39. (2) السير للذهبي 20 / 30. (3) المنتظم 10 / 241. (4) العبر 3 / 78. (5) إنباء الغمر 5 / 42.

الكتب، بلغني أنه حضر في الطاعون العام بيع كتب شخص من المحدثين فكان وصيّه لا يبيع إلا بالنقد الحاضر، قال: فتوجهت إلى منزلي فأخذت كيساً من الدراهم ودخلت الحلقة فصببته فصرت لا أزيد في الكتاب شيئاً إلا فالربع له، فكان فيها اشتريت مسند الإمام أحمد بثلاثين درهماً) اهـ. وابن جماعة (م سنة 790 هـ) ذكر ابن حجر عنه في شراء الكتب عجباً (1) . والإمام ابن فارس (م سنة 395 هـ) رحمه الله تعالى كان يصنف كل ليلة جمعة كتاباً ويبيعه يوم الجمعة قبل الصلاة وتصدق بثمنه وكان هذا دأبه (2) . الحافظ البارع عبد الله بن محمد البغدادي كان وراقاً يورق على جده وعمه وغيرهما وكان يبيع أصل نفسه كل وقت (3) . والقيرواني حماس بن مروان الزاهد (م سنة 404 هـ) . قال أبو زيد في (معالم الإيمان) (4) أنه قال لورثته: (بيعوا من كتبي ما تكفنوني به) . المرسي محمد بن عبد الله الأندلسي ترجمه الذهبي. وذكر غرامه بالكتب وأن السلطان رسم ببيعها فبيعت في نحو من سنة وأحرزت ثمناً عظيماً (5) .

_ (1) إنباء الغمر 5 / 42. (2) طبقات ابن الصلاح 73 / أبواسطة مقدمة تحقيق كتاب: الجمل 1 / 14. (3) تذكرة الحفاظ 2 / 738. (4) 2 / 323. (5) السير 23 / 313.

وفي أيام المستنصر بالله (م سنة 640 هـ) بيعت الكتب بأغلى الأثمان لرغبته فيها ولوقفها (1) . والقاضي الفاضل عبد الرحيم بن الأشرف (م سنة 596 هـ) اقتنى من الكتب نحواً من مائة ألف كتاب قال ابن كثير: هذا شيء لم يفرح به أحد من الوزراء ولا العلماء ولا الملوك (2) . وهذه مكتبة ابن قيم الجوزية (م سنة 761 هـ) صار أولاده بعده يبيعونها زمناً طويلاً.. واشترى ابن السكيت مكتبة أبي حاتم السجستاني النحوي (م سنة 250 هـ) بأقل مما قوّمت به وهو: أربعة عشر ألف دينار (3) . وكانت كتب ابن منده الحافظ (م سنة 395 هـ) أربعين حملاً من الجمال (4) . وكان ابن حمدون الكاتب من المحبين للكتب وحصل من أصولها ما لم يحصل لغيره ثم أصابته فاقة فكان يخرجها فيبيعها وعيناه تذرفان بالدموع (5) . واشترى الشريف المرتضى من القالي الإمام النحوي كتاب الجمهرة لابن دريد بستين ديناراً فإذا عليها للقالي (6) .

_ (1) السير 23 / 157. (2) تاريخ ابن كثير 13 / 24. (3) الشذرات 2 / 121. (4) الشذرات 3 / 146. (5) معجم الأدباء 9 / 186. (6) السير 18 / 55.

أنست بها عشرين حولاً وبعتها ... لقد طال وجدي بعدها وحنيني وما كان ظني أنني سأبيعها ... ولو خلدتني في السجون ديوني ولكن لضعف وافتقار وصبية ... صغار عليهم تستهل شؤوني وقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... كرائم من رب بهن ضنين وكان يحيى بن أبي طي الحلبي المعاصر لياقوت الحموي وقال عنه: (كان يدّعي العلم والأدب والفقه والأصول على مذهب الإمامية وجعل التأليف حانوته ومنه قوته ومكسبه) (1) اهـ. ومحمد بن إبراهيم الشيرازي (م سنة 474 هـ) كان له حانوت ببغداد يبيع الكتب (2) . تاسعاً: وقفيتها: وهذا مما اعتنى الفقهاء بتقريره في كتاب الوقف من كتب الفقه. وكم رأينا على طررها والتسجيل لوقفيتها وفي كتب السير أخباراً كثاراً عن وقفيتها من الخلفاء والسلاطين والعلماء وسائر طبقات الناس منها: دار العلم: وقفها سابور عام 381 هـ وفيها عشرة آلاف مجلد (3) . خزانة الكتب: في فيروز آباد وقفها الوزير بهرام سنة 433 هـ (4) . والخطيب البغدادي (م سنة 463 هـ) وقف كتبه على المسلمين

_ (1) لسان الميزان 5 / 263. (2) لسان الميزان 5 / 26. (3) المنتظم 8 / 22. (4) المنتظم 8 / 111، وتاريخ ابن كثير 12 / 54.

وسلمها إلى الفضل (1) . ودار غرس النعمة في بغداد وقفها الصابي محمد بن هلال الملقب بغرس النعمة (م سنة 480 هـ) فيها نحو أربعمائة مجلد. وخبرها مطول في المنتظم. وخزانة الكتب بمرو لعبد الله بن أحمد البزاز (م سنة 539 هـ) اشترى كتباً كثيرة ووقفها على أهل الحديث (2) . خزائن المستنصر بالله صاحب الأندلس (م سنة 366 هـ) كان مشغوفاً بالكتب حتى ضاقت خزائنه عنها (3) . والتقي الفاسي (م سنة 869 هـ) وقف كتبه واشترط عدم إعارتها لمكي (4) . مقصورة ابن سنان لزيد بن الحسن الكندي الحنبلي ثم الحنفي (م سنة 613 هـ) ذكر ابن كثير أنه وقف كتبه وهي سبعمائة وواحد وستون مجلداً فجعلت في المقصورة المذكورة.. إلخ (5) . ومكتبة أبي شامة (م سنة 665 هـ) وقف كتبه بخزانة العادلية (6) .

_ (1) المنتظم 8 / 269. (2) المنتظم 10 / 113. (3) العبر 2 / 341. (4) الضوء اللامع 7 / 19. (5) تاريخ ابن كثير 13 / 70. (6) الشذرات 5 / 319.

وابن أبي حاتم وقف تصانيفه (1) . عاشراً: الوصية بها: ومنها جريان الوصية بها. وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " [متفق عليه] وفي رواية عند أحمد: وله ما يوصي فيه. وفي مستخرج الإسماعيلي: له مال. قال الحافظ بن حجر بعد سياقها في (الفتح 5 / 357) [فرواية (شيء) أشمل لأنها تعم ما يتمول وما لا يتمول كالمختصات] اهـ. وقال أيضاً 5 / 360: [واستدل بقوله (له شيء) أو له (مال) على صحة الوصية بالمنافع وهو قول الجمهور، ومنعه ابن أبي ليلى وابن شبرمة، وداود، واختاره ابن عبد البر] اهـ. الحادي عشر: إعارتها: في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ} الآية 161 من سورة آل عمران قال القرطبي (2) [ومن الغلول حبس الكتب عن أصحابها ويدخل غيرها في معناها. قال الزهري: إياك وغلول الكتب فقيل له: وما غلول الكتب قال: حبسها عن أصحابها] اهـ. والمؤلفون الجامعون في الاصطلاح وآداب الرواية يعقدون البحث لإعارة الكتب كما في الجامع للخطيب. وفيه أسند الخطيب كلمة الزهري المذكورة (3) .

_ (1) السير 13 / 265. (2) تفسير القرطبي 4 / 262. (3) الجامع للخطيب 1 / 240 -247.

وذكر آثاراً كثاراً في تأثيم السلف لمن استعار كتاباً ولم يرده على من أعاره إياه. كما ذكر جملة من الآثار في امتناع أقوام من الإعارة خشية الآفة عليها. وأن بعضهم ما كان يعير كتابه إلا بعد توثقته برهن. الثاني عشر: المصحف: للفقهاء أبحاث مهمة في حكام بيعه ورهنه والمبادلة به، وفي ذلك روايتان عن الإمام أحمد رضي الله عنه الجواز والمنع، كما في: المغني (1) وكتاب الروايتين لأبي يعلى (2) وفيه قال: (وكثير من الفقهاء يجيز بيعه) وانظر: شرح المحلى للمنهاج في الفقه الشافعي (3) وفي حكام إجارته وجهان عند الإمام أحمد رحمه الله تعالى كما في المغني (4) . وفي حكم إرث المصحف تنظر: حاشية ابن عابدين (5) . وبحثاً جامعاً في (الرسالة المفصلة في أحوال المتعلمين) للقابسي. (6) الثالث عشر: وفي إجازة الكتاب يقررون الجواز كما في: المبسوط للسرخسي (7) . وروضة القضاة للسمناني (8) . الرابع عشر: الأجرة على التحديث: في كتب الاصطلاح وآداب الرواية يذكر المؤلفون الجامعون منهم

_ (1) المغني 4 / 263. (2) الروايتين 2 / 371 - 372. (3) 2 / 157. (4) المغني 5 / 504. (5) 5 / 486. (6) ص / 96 - 125. (7) 16 / 36. (8) 2 / 438.

حكم أخذ الأجرة على التحديث كما في: علوم الحديث لابن الصلاح ص / 107. والكفاية للخطيب البغدادي ص / 241. والجامع له 1 / 356 - 358. وفتح المغيث للسخاوي وفي غيرها كثير ... ومحصّل كلامهم جريان الخلف فيها عند السلف على أقوال ثلاثة: 1- الجواز والترخص، وبه قال أبو نعيم الفضل بن دكين، وعلي بن عبد العزيز المكي، وغيرهما، ورجحه السخاوي في فتح المغيث. 2- المنع: وبه قال اسحق، وأحمد، وابن أبي حاتم وغيرهم.... 3- الكراهة في حق الموسر. وهذه هي نقطة الدفاع عن تضعيف الراوي بأخذ الأجرة على التحديث. وممن كان يأخذ الأجرة على التحديث من الرواة: أ - علي بن عبد العزيز البغوي (1) كما في التقييد لابن نقطة (2) . ب - الحارث بن أبي أسامة (3) . ج - أبو القاسم عد الله بن محمد البغوي (4) .

_ (1) الميزان 3 / 143. (2) 2 / 198 - 199. (3) الميزان 1 / 442 والسير 13 / 389. (4) اللسان 3 / 341.

د - أبو شعيب عبد الله بن الحسن الحراني (1) . هـ - الحسن بن سفيان. و ابن الأعرابي (2) . ز - هاشم بن عمار (3) . ح - عبد الله بن وهب المصري (م سنة 197) قال الذهبي بعد أن أثنى عليه وذكر قدره وجلالته: [وقد تمعقل بعض الأئمة على ابن وهب في أخذه للحديث وأنه كان يترخص في الأخذ، وسواء ترخص ورأى ذلك سائغاً أو تستر فمن يروي مائة ألف حديث ويندر المنكر في سعة ما روى فإليه المنتهى في الإتقان] اهـ. ط - أحمد بن عبد الرحمن بن وهب وهو ابن أخي عبد الله بن وهب. ففي السير (4) للذهبي قال رحمه الله تعالى: قال خالد بن سعد الأندلسي: سمعت سعيد بن عثمان الأعناقي، وسعد بن معاذ، ومحمد بن فطيس يحسنون الثناء على أحمد بن أخي ابن وهب، ويوثِّقونه، قال الأعناقي: قدمنا مصر، فوجدنا يونس أمره صعباً، ووجدنا أحمد أسهل، فجمعنا له دنانير، وأعطيناه، وقرأنا عليه " موطأ " عمه وجامعه. وسمعت ابن فطيس يقول: فصار في نفسي، فأردت أن أسأل محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، فقلت: أصلحك الله، العالم يأخذ

_ (1) السير 13 / 537. (2) اللسان 1 / 309. (3) الميزان 4 / 302. (4) السير 12 / 325.

على قراءة العلم، فشعر فيما ظهر لي أني إنما سألته عن ابن أخي ابن وهب، فقال لي: جائز، عافاك الله، حلال أن لا أقرأ لك ورقة إلا بدرهم ومن أخذني أن أقعد معه طول النهار وأترك ما يلزمني من أسبابي ونفقة عيالي. هذا الذي قاله ابن عبد الحكم متوجه في حق متسبب يفوته الكسب والاحتراف لتعوقه بالرواية. وقال علي بن بيان الرزاز الذي تفرد بجزء ابن عرفة بعلو، وكان يطلب على تسميعه ديناراً: أنتم إنما تطلبون مني العلو وألا فاسمعوا الجز من أصحابي ففي الدرب جماعة سمعوه مني، فإن كان الشيخ عسيراً ثقيلاً لا شغل له وهو غني فلا يعطى شيئاً ... والله الموفق. ي - عبد الله بن حسان التميمي: كان فيما زعموا إذا قعد احتوشه الناس فيحدثهم حديثاً بعشرة ثم بخمسة ثم بدرهمين ثم بدرهم ثم بأربعة دوانق ثم بثلاثة ثم بدانقين (1) . ك - أبو عمر الحوضي. ل - وكان شيخ القراء القلانسي (م سنة 521 هـ) يأخذ الذهب على إقراء العشرة (2) . م - وأبو النعيم الفضل بن دكين، في بيان يطول سياقه فلينظر (3) . ن - والدارقطني في قصة ساقها الذهبي في ترجمته من السير (4) .

_ (1) تهذيب التهذيب 5 / 186. (2) السير 10 / 152. (3) السير 16 / 456. (4) لسان الميزان 5 / 11.

س - والمبارك بن كامل الخفاف البغدادي (م سنة 543 هـ) قال ابن الجوزي (1) : (لو قيل إنه سمع من ثلاثة آلاف شيخ لما رد القائل إلا أنه كان قليل التحقيق فيما ينقل من السماعات مجازفة لكونه يأخذ على ذلك ثمناً وكان فقيراً كثير التزوج والأولاد) . ش - محمد بن سفيان الأسنوي (م سنة 331 هـ) كان يأخذ على السماع أجراً. وفي كل واحد من الأقوال المذكورة يذكرون قصصاً وحكايات يؤيد بها كل مذهبه. وقد قال السخاوي في فتح المغيث (2) الدليل المطلق للجواز القياس على القرآن فقد جوز أخذ الأجرة على تعليمه الجمهور ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: " أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله " اهـ. الخامس عشر: الجوائز على التأليف: وأما خبر الجوائز على التأليف وقبول العلماء لذلك من غير نكير فأمر يضيق عنه الحصر، وينظر على سبيل المثال: 1- شرح سيبويه لابن خروف (م سنة 606 هـ) قدمه إلى صاحب المغرب فأعطاه ألف دينار (3) . 2- غريب القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام (4) .

_ (1) لسان الميزان 5 / 180. (2) 1 / 326. (3) تاريخ ابن كثير 13 / 52. (4) معجم الأدباء 6 / 255.

3- الأغاني لأبي الفرج (1) . 4- الحيوان للجاحظ (2) . 5- الإصعاد إلى الاجتهاد للفيروز آبادي (3) . السادس عشر: كوائن تاريخية حول المؤلفات: يذكر نقلة السير جملة وقائع في هذا منها: 1- كائنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وقد تقدمت. 2- كائنة الإمام اللغوي ابن فارس رحمه الله تعالى وقد تقدمت. 3- كائنة عبد الصمد السليطي (4) (م سنة 482 هـ) إذ اشترى كتباً كانت نهباً فقال مسعود بن ناصر السجزي: أشهد أن كل كتاب بغدادي عند عبد الصمد السليطي كلها غارة ونهب من نهب نوبة البساسيري ببغداد لا ينتفع بها دنيا ولا دين. اهـ. [كيف بحال الذين ينهبون حقوق المؤلفين] . 4- كائنة أسد بن الفرات في مدونته الأسدية كما في معالم الإيمان وهي بأبسط في رياض النفوس. وفيها (5) :

_ (1) معجم الأدباء 13 / 97 - 98. (2) معجم الأدباء 16 / 106. (3) فهرس الفهارس 2 / 909 وهو مهم. (4) السير 19 / 90. (5) 1 / 261 - 262.

(لما عزم على الرحيل إلى أفريقيا قام عليه أهل مصر فسألوه في كتبه أن ينسخوها فأبى عليهم فقدموه إلى القاضي بمصر فقال لهم القاضي: وأي سبيل لكم عليه، رجل سأل رجلاً فأجابه وهو بين أظهركم فاسألوه كما سأله، فرغبوا إلى القاضي في سؤاله أن يقضي حاجتهم فسأله القاضي فأجابه إلى ذلك فنسخوها حتى فرغوا منها) اهـ. فهذا حكم قضائي بالحق للمؤلف لكن سحنوناً - لمكارم أخلاقه - قَبِل شفاعة القاضي. 5- كائنة السيوطي مع القسطلاني (م سنة 723 هـ) كما في: الشذرات قال (5) : (ويحكى أن الحافظ السيوطي (م سنة 911 هـ) كان يحط منه ويزعم أنه يأخذ من كتبه ويستمد منها، ولا ينسب النقل إليها، وأنه ادعى عليه بذلك بين يدي شيخ الإسلام زكريا فألزمه ببيان مدعاه فعدد مواضع قال: إنه نقل فيها عن البيهقي وقال: إن للبيهقي عدة مؤلفات فليذكر في أي مؤلفاته لنعلم أنه نقل عن البيهقي، ولكنه رأى في مؤلفاتي ذلك عن البيهقي، فنقله برمته، وكان الواجب عليه أن يقول: نقل السيوطي عن البيهقي. وحكى الشيخ جار الله بن فهد: أن الشيخ رحمه الله تعالى قصد إزالة ما في خاطر الجلال السيوطي فمشى من القاهرة إلى الروضة إلى باب السيوطي ودق الباب فقال له: من أنت؟ فقال: أنا القسطلاني جئت إليك حافياً مكشوف الرأس ليطب خاطرك عليّ، فقال له: قد طاب خاطري عليك. ولم يفتح له الباب ولم يقابله اهـ. 6- ومنها: كائنة الفراء مع الوراقين في كتابه: معاني القرآن كما في

_ (1) الشذرات 8 / 122 - 123.

تاريخ بغداد، وغير ذلك (1) : أنه لما فرغ من كتاب المعاني أخفاه الوراقون عن الناس ليكسبوا به فقالوا: لا نخرجه إلا لمن أراد أن ننسخه له على خمس أوراق بدرهم فشكى الناس إلى الفراء فدعا الوراقين فقال لهم ذلك، قالوا: إنما صحبناك لننتفع بك وكل ما صنفته فليس بالناس إليه من الحاجة ما بهم إلى هذا الكتاب، فدعنا نعِشْ منه، قال: فقاربوهم تنتفعوا وينفعوا فأبوا عليه فقال: سأريكم، وقال للناس: إنني مملٍ كتاب معان أتم شرحاً وأبسط قولاً من الذي أمليت، فجلس يُملي فأملى الحمد في مائة ورقة فجاء الوراقون إليه وقالوا: نحن نبلغ الناس ما يحبون فنسخوا كل عشرة أوراق بدرهم اهـ. 7- 8- ذكرها الخطيب البغدادي في: الجامع فقال بسنده (2) عن أبي زرعة الرازي قال: [ادعى رجل على رجل بالكوفة سماعاً منعه إياه، فتحاكما إلى حفص بن غياث - وكان على قضاء الكوفة - فقال حفص لصاحب الكتاب: أخرج إليه كتبك، فما كان من سماع هذا الرجل بخط يدك ألزمناك، وما كان بخطه أعفيناك منه. فقيل لأبي زرعة: ممن سمعته قال: من إسحق بن موسى الأنصاري، قال ابن خلاد: سألت أبا عبد الله الزبيري عن هذا، فقال: لا يجيء في هذا الباب حكم أحسن من هذا، لأن خط صاحب الكتاب دال على رضاه باستماع صاحبه معه. وقال غيره: ليس بشيء] . حدثت عن القاضي أبي الحسن علي بن الحسن الجراحي قال: حدثنا محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة بن الصلت، قال: [رأيت رجلاً

_ (1) 14 / 150. (2) 1 / 241 - 242.

قدم رجلاً إلى إسماعيل بن إسحق القاضي، فادعى عليه أن له سماعاً في الحديث في كتابه، وأنه قد أبى أن يعيره، فسأل إسماعيل المدعى عليه، فصدقه، فقال: في كتابي سماع، ولست أعيره، فأطرق إسماعيل ملياً، ثم رفع رأسه إلى المدعى عليه، فقال له: عافاك الله إن كان سماعه في كتابك بخطك فيلزمك أن تعيره وإن كان في سماعه في كتابك بخط غيرك، فأنت أعلم. قال: سماعه في كتابي بخطي، ولكنه يبطئ برده عليّ، فقال: أخوك في الدين أحب أن تعيره، وأقبل على الرجل فقال: إذا أعارك شيئاً فلا تبطئ به] .

المبحث الرابع التعريف بعنوان هذه النازلة

المبحث الرابع التعريف بعنوان هذه النازلة في هذا أمران: أحدهما: من حيث الدلالة وشمولها. الثاني: من جهة تركيبه اللغوي. أما مبحث دلالته: فإن هذا المبحث انطلق من قولهم (حقوق الطبع محفوظة للمؤلف) لكن أصبح لدينا عدة حقوق من هذا القبيل منها: هذه وهي ما تسمى بحقوق المؤلف الأدبية أو الأدبية والفنية أو الأدبية الفنية العلمية. ومنها: حق المخترع، وهو ما اصطلح على تسميته باسم: (الملكية الصناعية) وتتضمن الحق في المخترعات والمكتشفات الصناعية والتقنية والعلامات الفارقة (الامتياز ... وغيرها. وهي من مباحث القانون التجاري لدى القانونيين ومنها: الحق المتعلق بالرسالة وهو ما اصطلح عليه باسم: (ملكية الرسائل) ويقصد بها الأخبار الخاصة المرسلة إلى أشخاص معينين، وهذا من كل منتج لأثر مبتكر. فصار أمام هذا لا بد من المواضعة على اصطلاح يشمل الاحتفاظ بهذه الحقوق ومن المواضعات الجارية في هذا ما يلي:

1- حق الإنتاج الذهني: يقول صاحب الوسيط (1) : (ويجمع بين هذه الحقوق جميعاً أنها حقوق ذهنية، فهي نتاج الذهن ..... وابتكاره) اهـ. فمن هنا يصلح أن نطلق على مجموعها اصطلاح (حق الإنتاج الذهني) وقد ألف بعض المعاصرين كتاباً باسم: (حق الإنتاج الذهني) . 2- حق الابتكار: بينما نرى الأستاذ مصطفى الزرقا يرى أن يشملها اسم: (حقوق الابتكار) (2) . والابتكار يعني: أن يكون الإنتاج كالتأليف ذا قيمة، بمعنى أن تبرز مغالبة المؤلف في تأليفه. ويرجع تقدير الابتكار الذي بموجبه يحسب تأليفاً تحمى حقوقه لمؤلفه إلى القضاء، أما المصنف الذي يكون مجرد ترديد لمصنف سابق فهذا لا ينسحب عليه حكم الحماية لحقوق المؤلف (3) . ومنه جمع بعض المعاصرين أبحاثاً باسم: (حق الابتكار في الفقه الإسلامي) . 3- الملكية المعنوية:

_ (1) 8 / 276. (2) المدخل 3 / 21 - 22. وانظر: مجلة عالم الكتب ص / 592. (3) وانظر: الوسيط 8 / 292.

وفي كتاب (محاضرات في القانون المدني) لعبد المنعم فرج الصده طبع عام 1967 م. ذكر اندراج هذه تحت هذا الاسم فقال (1) : (تندرج تحت الملكية المعنوية أنواع متعددة من الحقوق المعنوية يمكن ردها إلى طائفتين، تشمل أولاهما: الحقوق التي اصطلح على تسميتها بالملكية الصناعية، وتشمل الثانية: حقوق المؤلفين، وهي التي اصطلح على تسميتها بالملكية الأدبية والفنية) اهـ. 4- الحقوق الواردة على أموال غير عادية. 5- الحقوق المتعلقة بالعملاء. (ذكرهما الصده في كتابه المذكور) . 6- الحقوق الفكرية: هي في: النظام التركي كما في مقال الأستاذ الناهي (2) . وكل واحدة من هذه المواضعات تفيد عند مبديها: الشمولية لمفردات الإنتاج المتحصل من ذوي المواهب المتفتحة والمدارك العميقة بما نستطيع أيضاً أن نسميه. 7- حق الإبداع: وإذا لحظنا أيضاً أن ركيزة الإنتاج هو (العلم) ساغ لنا المواضعة

_ (1) ص / 5. (2) مجلة الهدى الأردنية ص / 38.

باسم: الإنتاج العلمي. 8- حقوق الإنتاج العلمي: وقد يكون أكثر وضوحاً، وأوسع شمولاً لجمع أي إنتاج مصدره العلم النظري أو العملي مع غض النظر عن مستوى هذا الإنتاج في: الإبداع، والابتكار، وفي إعمال الذهن، وفي أغراض التأليف الثمانية، ولأننا وإن كنا في عصر تفجر المعلومات فنحن كذلك في عصر المحاكاة وغياب التقوى من كثير من القلوب. فهذا طالب يستغل جهل أستاذه في جامعة أوروبية باللغة العربية فيستل واحداً من المؤلفات العربية ويترجمه أطروحة من تأليفه وصنعه ويستحق على ذلك لقب (دكتور) . وعكسه فمن عبث المستشرقين الناطقين بالعربية أن يختار واحداً من كتب المسلمين ويترجمه إلى لغة أخرى وينسبه لنفسه محرفاً ومشوهاً لمعلوماته. ومع هذا يظهر الكل مطبوعاتهم بأن (حقوق الطبع محفوظة للمؤلف) (أيكذب ويقابل) ؟ فأي حرمة لك يا هذا؟؟ . فهذا لا نسميه إبداعاً ولا ابتكاراً ولا إنتاجاً علمياً، لكنه إنتاج علمي مقنع بدعوى كاذبة فالإضافة الوهمية والإنتاج العلمي يعاد إلى نصابه بنسبته إلى مؤلفه أصلاً. ويكون هذا الاحتفاظ بعد نذير عذاب لمدعيه. فصارت التسمية إذا بحق (الإنتاج العلمي) فيها شمول لجميع الحقوق. على أنني بعد هذا، وبعد أن تحررت مالية التأليف، ولكف إبعاد الأذهان عن مدارك الأحكام تبينت لي تسمية سهلة ميسورة المدرك وهي

أن يقال: ملكية التأليف. 9- ملكية التأليف: وهذا في خصوص التأليف وهو أهم أنواع الإنتاج فيقال: (ملكية التأليف محفوظة للمؤلف) أو (الناشر) . فهذا يعني: رقبة الملك (التأليف) وماله من حقوق مترتبة عليه شرعاً ... والله أعلم. الثاني: في تركيبه اللغوي: الجملة الجاري رسمها على المؤلفات كالآتي: (حقوق الطبع محفوظة للمؤلف) أو (الناشر) . وفي كتاب (كبوات اليراع) لأبي تراب بن أبي محمد عبد الحق قرر أن الصواب: (حقوق الطبع محفوظة على المؤلف) وهذا نصه بتمامه (1) : (يقولون: حقوق الطبع محفوظة للمؤلف. أو الناشر وهو غلط والصواب: حقوق الطبع محفوظة على المؤلف أو على الناشر ... قال مصطفى جواد: يقال: حفظ فلان عليه الشيء حفظاً فالشيء محفوظ عليه) . وفي شرح نهج البلاغة (ج 4 ص / 371) من كلام علي بن أبي طالب: فإن نسيت مقالتي حفظها غيرك. فإن الكلام كالشاردة يتقنها هذا ويخطئها هذا. هذا هو كلام الفصحاء، وكان زين العابدين علي بن الحسين يقول في دعائه اللهم احفظ علي سمعي وبصري إلى انتهاء أجلي كما أورده ابن أبي الحديد (ج 3 ص / 29) .

_ (1) ص / 390 - 391.

وفي سيرة ابن هشام والروض الأنف للسهيلي (ج 2 ص / 241) وتاريخ الطبري (ج 3 ص 96) . وكتب الحديث: لما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خيبر فكان ببعض الطريق قال من آخر الليل: " من رجل يحفظ علينا الفجر لعلنا ننام؟ " قال بلال: أنا يا رسول الله أحفظه عليك. وفي تاريخ اليعقوبي (ج 3 ص 127) قال محمد المهدي ابن أبي جعفر المنصور يعني أباه: وكان يحفظ عليكم ما لا تحفظون على أنفسكم. وفي لباب الآداب لأسامة بن منقذ (ص 141) والأغاني لأبي الفرج (ج 18 ص 10) واللفظ له: قال عمرو بن بانة لمحمد بن جعفر بن موسى الهادي: أنا أتحمل هذه الرسالة وكرامة على ما فيها حفظ لروحك عليك فإني لا آمن من أن يتمادى بك هذا الأمر. وفي اللباب (ص 70) قال أبو الحسن علي بن محمد الصغاني في كتاب الفرائد والقلائد: ومما يديم لك نصحهم ووفاءهم ويحفظ عليك ودهم وولاءهم قلة الطمع فيهم وحسن المقابلة لمساعيهم يعني العمال. وفي تاريخ الطبري (ج 5 ص 97) قال الحجاج بن علاط السلمي للعباس بن عبد المطلب: احفظ علي حديثي يا أبا الفضل فإني أخشى الطلب ثلاثاً. وفي معجم الأدباء لياقوت الحموي (ج 5 ص 351) جاء في رقعة لأبي الفتح ابن العميد: فإن لم يحفظ علينا النظام بإهداء المدام عدنا كبنات نعش، والسلام. وفي الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي (ج 2 ص 11) قال المقدسي محمد بن معشر: الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب

الأصحاء، والأنبياء يطبون للمرضى حتى لا يتزايد مرضهم وحتى يزول المرض بالعافية فقط. فأما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها ... وقال أبو حيان في (الإمتاع) (ج 2 ص 186) : ولما لم يرد من الإنسان أن يكون حماراً حفظ عليه ما هو إنسان ودرج إلى كمال الملك الذي هو شبيه به. وفي كتاب الأوراق للصولي قول أبي القاسم الأديب الشاعر: وكم ملك قد خصني بكرامة ... حفظت عليه أمره وهو ضائع ولا نود أن نطيل بذكر الشواهد أكثر مما فعلنا. وإنما نذكر أن لقولهم: حفظ له كذا معنى آخر. كقولك أحسنت إلى فلان فحفظ لي ذلك. أي ذكر الإحسان ورعى ذكراه فهو كالوفاء والجزاء. قال أبو تراب: اختلاق صلات الأفعال يجعل المعنى مختلفاً فما كان من هذا القبيل يجب التثبت فيه فالمحافظة مثلاً تعدى بعلى، قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} والاستحفاظ جاءت صلته بمن، قال تعالى: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} والاحتفاظ بعلى. قال العجير السلولي: بعيد من الشيء القليل احتفاظه ... عليك ومنزور الرضا حين يغضب ويقال: احتفظ بالشيء وتحفظ به أي عني بحفظه. وعليك بالتحفظ من الناس وهو التوقي وهو حفيظ عليه أي رقيب. وفي اللسان: الحفيظ من صفات الله عز وجل لا يعزب عن حفظه

الأشياء كلها مثقال ذرة في السماوات والأرض. وقد حفظ على خلقه وعباده ما يعملون من خير أو شر. وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} قال الزجاج - حفظه الله من الوقوع على الأرض إلا بإذنه، وقيل محفوظاً بالكواكب كما قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ. وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} ويقال: احتفظت بالشيء لنفسي واستحفظت فلاناً إذا سألته أن يحفظ لك. والحفيظ: المحافظ، ومنه قوله تعالي: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} . ماهية التأليف المقصود هنا التعريف بالتآليف المحمية، والتي لصاحبها الاحتفاظ بحقوقها وهي بالتتبع على نوعين (1) . الأول: المحررات: وهذه تعني أي تأليف مكتوب في أي من العلوم كالتفسير والحديث، والفقه وأصولها والتوحيد، وعلوم الآلة، والرياضيات، والتاريخ، والجغرافيا، والطب، والهندسة، وما جرى مجرى ذلك. الثاني: الشفويات: كالخطب، والمحاضرات، والمواعظ، والندوات، وما جرى مجرى ذلك مما يلقى شفاها. فلا يصح في القانون الوضعي تسجيل أي من هذه ونشره دون سابق إذن المؤلف. لكن العرف في كثير من البلدان الإسلامية أن هذا حق مشاع لكل مسلم تلقيه وتسجيله ونشره لتأصيل عامل الحسبة فيه. ولهذا فلا يدخل في ماهية التأليف في بحثنا هذا. والله أعلم.

_ (1) الوسيط 8 / 293 - 294 فقرة رقم / 171.

المؤلف يعتبر الشخص مؤلفاً إذا نشر المصنف المبتكر منسوباً إليه سواء بذكر اسمه على المصنف أو بأي طريقة أخرى ما لم يقم دليل على نفيه (1) . وهذه النسبة لا يسوغ لصاحبها التنازل عنها لينتحلها شخص آخر، فكما لا يجوز التنازل عن الإنتاج الذري كذلك لا يجوز التنازل عن الإنتاج العلمي. ومن لطيف حفاوة العلماء بمؤلفاتهم أنهم جعلوها بمنزلة أعلى وأغلى من نسل أصلابهم فقال بعضهم: ما نسل قلبي كنسل صلبي ... من قاس رد له قياسه (أي رد له قياسه في المحبة) . ولهذا فمن حقه الأدبي فيها أيضاً لا يصح التنازل عنه لأي جهة حكومية أو غيرها فرداً أو غير فرد بل تبقى له صفته الأدبية في التأليف، ولو فرض وجود اتفاق على شرط التنازل عن ذلك لما صح، نعم يصح الاتفاق على شرط إسقاط ما يتعلق بحقوقه المالية في المؤلف. هذا ملخص ما في الاتفاقيات الدولية وبعض القوانين العربية لحقوق المؤلفين. وبتنزيله على أصول الشريعة وقواعدها لا يظهر معارضته لها بشيء. وكيف يصح التنازل عن نسبة التأليف إلى مؤلفه مثلاً في علوم الشريعة التي تعتمد أبحاثها جلب الأدلة ومناقشتها والترجيح والاختيار، ولهذا يرى الناظر

_ (1) الوسيط 8 / 325 - 330.

في آداب التأليف عند المسلمين التنويه بلزوم التصريح باسم المؤلف وللوثوق به، وعند بعضهم أن المؤلف المجهول النسبة كالرواية عن مجهول الحال، أو العين والحال فالكل لا يحتج به استقلالاً. والله أعلم.

المبحث الخامس الحقوق الواردة على المؤلفات وحكمها

المبحث الخامس الحقوق الواردة على المؤلفات (1) وحكمها يرد عليها بالجملة حقان: الأول: حق خاص: وهو حق للمؤلف نفسه، ومن أتى من طريقه وهو ما اصطلح عليه بالحقوق الأدبية والمالية ... الخ. وهذا مخدوم بنظام الاحتفاظ بحقوق المؤلف ومن أتى من طريقه كالناشر، والوارث. الثاني: حق عام: وهو حق للأمة لحاجتها إلى ما فيه من علوم ومعارف سداً لحاجتها وتنمية لمواهبها. يبقى كيف السبيل إلى أن تكون الحقوق الخاصة لا تقضي على الحق العام وحتى يتم التوازن بين الحقين.؟ ومن المتعذر أن تملك الأفكار بل هي حق مشاع لكل منتفع وإلا فما فائدة التفكير والقراءة عنه وتفهمه لولا إعمال الأمة جهدها لإنزاله في ميدان التنمية والاستفادة. ولهذا ذكر القرافي رحمه الله تعالى في الفروق (2) أن الاجتهادات لا

_ (1) المبادئ الأولية لحقوق المؤلف ص / 38 - 41. (2) الفروق.

تملك. وعليه فإن الاحتفاظ من المؤلف بحقوق وحماية من بسط الله يده لهذه الحقوق ليس معنى هذا إهدار (الحق العام) وتعميم نفعه. بل هناك حقوق عامة ترد على المؤلفات وهي: (أ) حق الاقتباس. (ب) حق الترجمة. (ج) حق الدولة عند ممانعة المؤلف من نشر مؤلفه مع قيام الحاجة إليه. وبيانها على ما يلي: (أ) حق الاقتباس: إنارة المفاهيم والأفكار بالأسس السليمة وتقويم معوجها وإصلاح ما فسد منها وبعث الحيوية والنشاط فيها واستصلاحها وعمارتها وظهور الأثر العملي في ميدان العمل والتطبيق. هذه الإيجابيات من أعظم عوائد التأليف ومنافعه العملية والاقتباس واحد من هذه الآثار المباركة فهو ثمرة عملية وصلت إلى حد الإيجاب باعتبارها والاستشهاد بها واتخاذ الكاتب لها سنداً في موضوعه وبحثه فهو انتفاع شرعي لا يختلف فيه اثنان، وما زال المسلمون منذ أن عرف التأليف إلى يومنا هذا وهم يجرون على هذا المنوال في مؤلفاتهم دون نكير. وعليه فإن منع المؤلف لذلك يعد خرقاً للإجماع، فلا عبرة به حتى ولو سجله على طرة كتابه كما يفعله البعض - على ندرة الفعلة لذلك في عصرنا - يرون تسجيل الممانعة من الاقتباس سبباً يعطي دفعة لمزيد من التيقظ إلى قيمة الكتاب ومؤلفه. وما علم أولئك أن الأمور مرهونة بحقائقها ويعقلها العالمون وليعلموا كذلك أن المستقبل كشاف.

شرط الاقتباس: لكن الاقتباس مشروط بأداء أمانته وهو نقله بأمانة منسوباً إلى قائله دونما غموض أو تدليس أو إخلال، ومباحث هذه منتشرة في آداب التأليف وغيرها. والله أعلم. حق الترجمة (1) : الترجمة تعني نقل المؤلف من لغة إلى أخرى ويتصور عندنا في هذا أمران: الأول: في مدى أحقية صاحب الكتاب الأصل في المطالب بحماية حقه مقابل قيام غيره بترجمته إلى لغة أخرى.. وفي مجال الترجمة هذه نلحظ أموراً هي: 1- إن المترجم يعاني فيها من المشقة ما عاناه مؤلف الأصل. لتصل إلى غاية المطابقة لمعنى ما يحويه الكتاب مفرغاً للمعاني في مباني اللغة المترجم إليها مراعياً لخصائصها ومعانيها. 2- بهذا تستحق أن تسمى تأليفاً مبتكراً. 3- واجب إبراء العهدة بنشر العلم وإشاعة وإبلاغ الرسالة إلى العالمين بألسنتهم، وهذا في خصوص العلوم الشرعية. لهذه الاعتبارات فإنه ليس من حق المؤلف الأصل المطالبة بحماية حقه المالي في التأليف وعليه فيجوز للمترجم - بكسر الجيم - ترجمة كتاب ما إلى لغة أخرى من غير إذن مؤلفه لكن مع الاحتفاظ لمؤلفه الأصل بحقوق أدبية من نسبة مؤلفه إليه والمحافظة على مادته وعنوانه. وينسحب

_ (1) الدريني ص / 10، 11، 182، 191.

هذا الحكم على ترجمة الترجمة إلى لغة أخرى غير لغة الكتاب الأصلية ولغة ترجمته الثانية. والله أعلم. الثاني: مدى احتفاظ المترجم بحقوق الترجمة باعتبار ما يبذله المترجم من جهود مضنية في سبيل الترجمة تعد عملاً أثبت فيه جدارته وبروز عمله المبتكر فإن ترجمته تكون محمية ويكون لها من الآثار ما لمؤلف الأصل. والله أعلم. (ج) حق الولاية العامة: كم رأينا من تأليف مبارك نفع الله به أقواماً وهدى به آخرين، فانتشر بين المسلمين انتشار الشمس، ونرى طبعاته تصل إلى عشرين وثلاثين طبعة أو أكثر ومنها ما طبع منه ما لا يحصى من الطبعات لكن دون تدوين لرقم الطبعة، والغالب في هذا يدل مع جزالة ما فيه من علم على حسن نية مؤلفه وصدقها ولهذا كتب الله له القبول والانتشار. وقد جرت العادة أن من كانت نيته كذلك فهو لا يمانع من مزيد الانتفاع بمؤلفه حتى ولو لم ينل أي تعويض عنه. لكن لو فرض أن هذا الكتاب قل وجوده واحتيج إليه في معاهد التعليم أو لغرض نفعي آخر فمانع مؤلفه من طبعه فإنه يسوغ للدولة بيعه عليه وحفظ مستحقه في بيت مال المسلمين، كما في قواعد الملكية للمصالح العامة. وبهذا يجمع بين الحقين العام والخاص ويكون نزعه بحق. والله أعلم. الحق الثاني: الحق الخاص للمؤلف ومن أتى من طريقه، وهو نوعان: 1- حقوق أدبية.

2- حقوق مالية. وبيان كل منهما على ما يلي: " الحق الأدبي " (1) وشمل أيضا (الحق المعنوي) يشمل هذا الاصطلاح مسائل ترتبط بشخص المؤلف لأبوته على مؤلفاته، فهي بمثابة الامتيازات الشخصية للمؤلف على مؤلفه وهي على ما يلي: 1- أبوته على مصنفه باستمرار نسبته إليه، فليس له حق التنازل عن صفته التأليفية فيه لأي فرد أو جهة حكومية أو غيرها، كما أنه لا يسوغ للغير انتحاله والسطو عليه، فله ولورثته حق دفع الاعتداء عليه. 2- حق تقرير نشره بمعنى: التحكم في نشر مصنفه. 3- حق السمعة أي: له سلطة الرقابة بعد النشر لسحبه من التداول عندما يتضح له مثلاً رجوعه عما قرره فيه من رأي أو أداء، وعندئذ يلزم بتعويض ناشر ونحوه عما لحقه من خسائر لقاء ذلك السحب. 4- سلطة التصحيح لما فيه من تطبيعات عند إرادة الناشر إعادة نشره. 5- استمرار هذه الحقوق له مدة حياته فلا تسقط بالتقادم أو بالوفاة. 6- سلامة التصنيف وحصانته. 7- ومن جهة الدولة التي تملك الإذن بالطبع، لها حق أدبي وهو معرفة

_ (1) الوسيط 8 / 408 - 421، الحقوق على المصنفات لأبي اليزيد ص / 70 - 71، مجلة عالم الكتب ص / 592، المبادئ الأولية ص / 23 - 24.

ما إذا كان نشره سائغاً أو لا؟ . ومن هذا يتبين أن هذا الاصطلاح (الحقوق الأدبية) اصطلاح مضلل لا يعطي تلك المعاني الاعتبارية التي توجب الالتزام بها. الحق الأدبي في ميزان الشريعة: إن هذه الفقرات التي تعطي التأليف الحماية من العبث، والصيانة عن الدخيل عليه وتجعل للمؤلف حرمته والاحتفاظ بقيمته وجهده هي مما علم من الإسلام بالضرورة وتدل عليه بجلاء نصوص الشريعة وقواعدها وأصولها مما تجده مسطراً في (آداب المؤلفين) وكتب الاصطلاح ويتجلى هذا في عدة مظاهر: 1- مبحث الأمانة العلمية في الأداء والتوثيق. 2- طرق التحمل والأداء وآداب التلقي. 3- تحريم الكذب والتدليس. 4- تحريم السرقة والانتحال المعروف باسم (قرصنة الكتب) . 5- ذكر المصادر التي يعتمدها المؤلف في تأليفه. فهذا الحق الأدبي من بدائه العلم عندهم، وإن لم يلقبوه بذلك ويضعوا له سنناً وأنظمة تحفظية، لأنها أمور فطرية عندهم تقتضيها الديانة وتحمل الأمانة، وخرقها من نواقض الفطرة فضلاً عن أن تكون خرقاً لسنن الشريعة وهديها. ومن اللطيف ما عبر به بعض الكاتبين عن هذا الحق بقوله: (الحق الأخلاقي) (1) .

_ (1) مجلة عالم الكتب ص / 675، 694.

وإن هذه المظاهر القانونية والتنظيمية التي نراها اليوم في هذا الصدد وغيره للحماية والدفاع عن الحقوق - وإن كانت ضرورة ملحة - لكنها من مظاهر وجود التفلت الديني بضعف الوازع والسلطان الرادع الكامن في النفوس، ومنه انتشرت أمراض الإغارة والانتحال والسرقة والسطو فأوجدت للحد منها فالقضاء عليها إنما هو بمنهاج الله القويم: الإسلام وحده وتربية النفوس عليه. وفي مجلة عالم الكتب قال بعض الكاتبين (1) : (أما موقف الإسلام من هذه الأمور ومن هذه السرقات ومن نسبة الشيء إلى غير قائله فهذا ما لا نعرفه يقيناً، ولكن يخيل إليّ أن الإسلام الذي شرع من أجل حماية المجتمع من السرقة المادية بطريقة صريحة كل الصراحة وحاسمة لم يتطرق إلى مثل هذه الأمور بمثل تلك الموضوعية والوضوح، ولم يصل إلى علمنا أن عوقب أحد ممن اتهم بالسرقة، لأن إثبات ذلك صعب جداً، ولا سيما إذا احتيج إلى دليل حاسم كما هو الحال في السرقة المادية، ولكن ذلك لا يعني أن الإسلام يبيح السرقة من أي نوع أو يسكت عنها. ذلك أن الأخلاق في الإسلام هي لب الدين وهي العمود الفقري للشريعة الإسلامية، لذلك لا شك أن أي نوع من السرقة الأدبية هذه محرمة شرعاً. ولكن لم يعين لها عقوبة واضحة كما هو الحال في سرقة النقود مثلاً. ونعتقد أن القوم اكتفوا آنذاك بالتعزير بسوء السمعة والتشهير الذي يصيب الشخص السارق لمؤلفات الآخرين. ولكن هذا لا يمنع من إصدار تشريع يضمن حقوق التأليف ويفرض عقوبات رادعة للسارقين. وهذا يحتاج إلى تضافر جهود البلاد العربية والقيام بدراسات

_ (1) مجلة عالم الكتب ص / 711 - 712.

مكثفة لتراثنا الفقهي وللقوانين السارية في العالم حالياً. وتحديد السرقة الأدبية بوضوح تام حتى لا يكون هناك أي التباس وبعد ذلك تقوم هيئة موحدة في إصدار مثل هذا التشريع وتطبيقه في جميع أرجاء العالم العربي) . وصدر كلامه هذا مما لا يوافق عليه للإجمال فيه إذ أن هذه حقوق شرعية فحمايتها متوجبة شرعاً بالإرجاع إلى أصول الشرع وقواعده. فعلى المسلمين إعمال لائحة شرعية فيها الضمانات الشرعية والإدارية لحماية هذه الحقوق الأدبية الأخلاقية. والله أعلم. الحقوق المالية (1) وتسمى أيضاً (الحقوق الاقتصادية) وتسمى أيضاً باسم (الحقوق المادية) . وهي بمثابة الامتيازات المالية للمؤلف لقاء مؤلفه وهي حق عيني أصلي مالي منقول. وهي حق قسيم للحق الأدبي المعنوي الشخصي المتقدم. وهذا الحق هو: الخيط المتصل الذي ينعقد حوله نسيج الأنظمة لحقوق المؤلف. والحقوق المالية ذات فرعين: الأول: حق مالي في حياة المؤلف يفيد إعطاء المصنف دون سواه حق الاستئثار بمصنفه لاستغلاله بأي صورة من صور الاستغلال المشروعة

_ (1) الوسيط 8 / 360 - 408، المبادئ ص / 27، كتاب الحقوق على المصنفات ص / 79، الحقوق المعنوية ص / 52 - 55. ومجلة عالم الكتب.

بنفسه أو بغيره من قبله مدة معينة. فهذا الحق إذن يتميز بخصيصتين: 1- أنه حق لمؤلفه طيلة حياته، فعائداته المالية لمؤلفه وهذه العائدات تعتمد على درجة قبول الناس لهذا المؤلف ومدى انتفاعهم به. وعليه فلا يسوغ للغير دون إذن مؤلفه. 2- أنه حق مؤقت غير مؤبد فهو ينتهي بمدة معينة. فالقانون الفرنسي يعطيه مدة حياته وخمس سنين بعد وفاته، ثم عَدَّلها إلى عشر سنين، ثم إلى خمسين عاماً بعد وفاته، والقانون الألماني إلى سبعين سنة. وفي المصري لمدة خمسين عاماً من تاريخ وفاته. الثاني: الحق المالي بعد وفاة المؤلف: هو حق يعود لورثته شرعاً على قدر الفريضة الشرعية في الميراث فإن لم يكن له وارث فلشركائه في التأليف. والقوانين تختلف في تقدير المدة التي تكتسب الحماية كما في الفقرة (ب) قبل هذا. الفروق بين الحقين الأدبي والمالي هو: الأول: جواز تنازل المؤلف عن الحق المالي دون الأدبي. الثاني: الحقوق الأدبية حقوق مؤبدة أما المالية فهي مؤقتة على اختلاف القوانين في توقيتها. الحق المالي في ميزان الشريعة بعد أن تبينت طبيعة الحق الأدبي وأنه ينبغي أن لا يكون الاحتفاظ به وبذل الطرق لحمايته محل خلاف، وتبينت طبيعة الحق المالي وأنه حق عيني أصلي متمول، وما يتميز به هذا الحق، يبقى النظر في التكييف الفقهي لحق المؤلف المالي هل يجوز أخذ المؤلف للعوض على مؤلفه أم

لا يجوز؟؟ وبيان هذا المبحث الذي هو أساس النظر في هذه النازلة أن يقال: هذه النازلة بين الحرمة والجواز: دارت أقلام الكاتبين في بيان حكم النازلة في خصوص المؤلفات في العلوم الشرعية بين الحرمة والجواز والخلاف فيها من أثر الخلاف بين أهل العلم في أخذ العوض على تعليم القرآن وأمور الاعتقاد والحلال والحرام، إذ ذهب الأكثر إلى الجواز ومنهم الأئمة الثلاثة وبه قال متأخرو الحنفية معللين بالحاجة لعدم وجود متبرع به، وفريق إلى المنع ومنهم الحنفية. وبعض إلى الكراهة التنزيهية في رواية أحمد رحمه الله تعالى. وقد تجاذب الفريقان الاستدلال في هذه النازلة كلٌّ بما وسعه لكن فات الجميع تشخيص مأخذ الخلاف ومدرك الحكم فيه وتخريجه وإن كان البعض قد حام لكن ما نهل ولا علَّ، وبعض أغرب في الاستدلال وقصر عن ضرب المثال فصار ما تحصل مقتطفات في الاستدلال متناثرة وهكذا الشأن في كل جديدة ونازلة، فلهم فضل السبق وفتق الرتق وتذليل الصعب ليتعسعس في حماها من أنس من نفسه الرّشد، وأدلى بدلوه لكن بحبل من مسد ليصنف أدلة كل قول وما حوى، فيجلي ما سلم من المعارض والمصاب بالتوى. ويا ليتني كنت هذا، وأنى لي ولم أشتر من العلم إلا وشلاً؟ والعلوم قسم ومنح لكن وظيفتي هنا جمع أدلة القولين وقسمهما في الكفتين، عسى أن ينبري لها عالم حفظة فيحررها بنفس من غابت عنا أجسامهم وشهدت لهم آثارهم وكرائم أقلامهم بعلو شأنهم وسيلان أذهانهم. والله المستعان وحده دون سواه.

أدلة الجواز: أدلة المجيزين لأخذ العوض على القُرَب هي أدلة المجيزين لاعتياض المؤلف عن مؤلفه وهي مع ما يضاف إلى هذه من أدلة كما يلي: 1- إن هذا الحق (حق عيني أصلي مستحق بحكم التكوين والجبلة وما تولد عنها) . كالشأن في عامة حقوق المرء في تصرفاته التكوينية والجبلية ببدنه، وحواسه، ومشاعره، وما تولد عن ذلك مثل: نسله ونسل نعمه، وثمر بستانه، وهكذا. والتأليف هنا: حق مملوك لمؤلفه بحكم ملكه لرقبة تصرفه في فكره وتولد تأليفه منه. وإعمال الفكر في التأليف حق يستوي فيه المتأهلون له، لكن من سبق إلى الإنتاج بإعمال فكره وقلمه فهو من خالص حقوقه. ولو سبق إلى مخطوط من التراث فقام بتحقيقه وطبعه ونشره فله حق السبق من جهة وحق إنتاجه الذهني في تحقيقه من جهة أخرى. قال الله تعالى عن السيارة في قصة يوسف عليه السلام {قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} فقد بشر نفسه بأنه ملكه بالالتقاط. وفي الحديث " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به ". ولو سبق إلى مخطوط من التراث فقام بطبعه دون تحقيقه وإعمال فكره فيه فهو بهذا استحق الملك بالإحياء، وفي الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " من أحيا أرضاً ميتة فهي له "، وناله أيضا بطباعته فسبق غيره واختص بملكية الطبع وآثارها. ولو فرض أنه باعه لناشر ونحوه فالحق على ما شرطاه (إذ المسلمون على شروطهم) . فالتأليف إذاً (ملك محترم) تنسحب عليه تصرفات الملاك في أملاكهم وذوي الحقوق في حقوقهم من المعاوضات والانتقالات ببيع وارث ووقف وهبة ونحوها (وليس لعرق ظالم حق) .

وهذا لا يتنافى مع وجود حق لله تعالى في (المؤلفات في العلوم الشرعية) من واجب البلاغ إلى الأمة إذ الشرعية كاملة في (الكتاب والسنة) وفيهما العصمة. والوسائل إليهما من تأليف العلماء محل للخطأ والصواب على قدر القرائح والفهوم. والله أعلم. 2- حديث ابن عباس رضي الله عنهما الطويل في الرقية وفيه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ".. رواه البخاري وغيره. ويقال: إذا كان جواز العوض في القرآن ففي السنة من باب أولى، وإذا جاز على الوحيين ففيما تفرع عنهما من الاستنباط والفهوم وتقعيد القواعد وتأصيل الأصول فهو أولى بالجواز، فصارت دلالة هذا الحديث على جوار العوض عن التأليف أولى من مورد النص. والله أعلم. 3- حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه في قصة جعْل القرآن صداقاً وقال فيه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قد زوجتكها بما معك من القرآن ".. رواه الشيخان وغيرهما. فيقال إذا جاز تعليم القرآن عوضاً نستحل به الأبضاع، فمن باب أولى أخذ العوض عليه لتعليمه ونشره، وأولى منهما أخذ العوض على مؤلف يحمل المفاهيم من الكتاب والسنة، فصارت دلالة هذا الحديث على جواز العوض على التأليف أولى من مورد النص. والله أعلم. 4- إن التأليف عمل يد وفكر، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أطيب الكسب عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور " أخرجه أحمد وغيره عن رافع بن خديج. وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: " إن أطيب ما أكلتم من كسبكم فإن أولادكم من كسبكم " رواه أصحاب السنن وأحمد وغيرهم.

وفقه الحديث الأول - حديث رافع بن خديج - يدل على أن كل عمل الرجل بيده فهو من أطيب الكسب، فكل عمل مباح يعمله الرجل بيده فهو من أطيب الكسب. فإذا كان هذا في المباحات كالاحتطاب والبيع والشراء في الأقوات وتحصيلها، ونحو ذلك فما بالك بالمسنونات إذا صلحت فيها النية، ثم ما شأن عمل الرجل بيده في تحصيل فروض الكفاية؟ ثم ما منزلة عمل الرجل يده في فروض الأعيان كالجهاد العيني وما يرجع به الغازي من مغانم؟ فكل هذا من الكسب الطيب إذا صلحت النية في المشروع، فإذا كانت اليد تعمل في تحصيل المسنونات، وفروض الكفايات ألا يكون ذلك من أطيب الكسب، وأنفعه، وأكثره تعدياً؟؟ . وقد يقال إن المشروعات يجب أن تكون خالصة، والتأليف في علوم الوحيين يجب أن يخلص من نية الاكتساب أو نحوه. والجواب: أن النية مصححة العمل في قبوله والإثابة عليه، لا في حل المال المكتسب أو حرمته، فمن طلب العلم ثم أراد أن ينفع الأمة به، وقد يتقوى على ذلك بما يكسبه بعلمه، فنيته ليست فاسدة، والمال طيب، وأصل هذا قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ابن عباس في الرقية " إن أحق ما اتخذتم عليه أجراً كتاب الله ". وفي يوم القيامة أول من تسجر بهم النار ثلاثة: ومنهم قارئ القرآن فاسد النية. فالنية مفسدة للثواب إذا قارنت العمل من أصله، محبطة له، لكن الكسب مع صلاح النية كيف يقال أنه خبيث؟ والله أعلم. وفي الحديث الثاني ما في الأول، وزيادة: " إن أولادكم من كسبكم "،

فإن كان الولد الذي غذاه والده ونشَّأه ورعاه من كسبه وماله، أفلا يقال إن المصنفات من كسب مؤلفها؟ فهو الذي غذاها بفكره وقلبه، ورعاها حتى اكتملت، وهجر لأجلها العيش المستريح، والمكاسب الدنيوية. وهذا ليس من القياس وقد يقال، ولكنه من تنقيح المناط. وما أحسن ما قيل: المصنفات ذرية العلماء. 5- دلّ صنيع أهل العلم المتقدمين على أن مصنفاتهم ملك لهم أصلاً، وقد يخرجون هذا الملك إلى انتفاع الناس به، ولولا أنه ملك لهم لما استجازوا أخذ مقابل لثمنه. فهذا الحافظ أبو نعيم الأصبهاني بيع كتابه (الحلية) في حياته بنيسابور بأربعمائة دينار، وما هذه قيمة ورق ونسخ، وهذا الحافظ ابن حجر العسقلاني طلب ملوك الأطراف بوساطة علمائهم منه إرسال نسخة (من كتابه..) فبيع بنحو ثلاث مائة دينار ذكره السخاوي 2 / 38. وما ذلك قيمة ورق ونسخ، وأمثال هذا معروف مشهور كما تقدمت نظائره مبسوطة ولله الحمد. 6- الكتب المصنفة في العلوم الشرعية من الأموال، والمال في الأصل لصانعه أو مكتسبه، ولا يخصص هذا الأصل إلا بدليل صحيح صريح، فلا ينتقل عن الأصل إلا بناقل متيقن. 7- إن القاعدة الشرعية (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) يمكن إجراؤها في هذه النازلة باعتبار أن المفسدة الحاصلة من ترك الكتب الشرعية بلا حفظ لحق طبعها مفسدة في هذا الزمان، من جراء قلة أو عدم الوازع الديني ومراقبة الله في نشر علوم الشريعة، وبثها للناس.

والناس اليوم تلمذتهم للكتب أكثر من تلمذتهم للشيوخ، بل لا تلمذة إلا للكتب عند كثيرين فما لم تدرأ مفسدة شيوع حق النشر فيستحكم الناشرون في إفساد الكتب وترك تصحيحها وتصويبها والاعتناء بالآيات والأحاديث ونحو ذلك. وقد يسقطون ما يسقطون جهلاً، ويزيدون ما يريدون. وهذه الأمور منظورة معلومة والله المستعان. فدرء هذه المفسدة ينبغي مراعاته، والمصالح قد تكون مع شيوع حق النشر لا تُقدّم على درء هذه المفسدة، والله أعلم. 8- فقد أعطى طلبة العلم من بيت المال في البلدان الإسلامية ما يستغنون به، فإذا طلب العلم طالب فأخذ كسباً على تأليفه والحال هذه مما يسوغ، كما قالوا في أخذ المؤذن أجراً على إقامته، والإمام أجراً إذا لم يوجد من يسد الحاجة دون أجر فيفرض له من بيت المال. ومسألتنا بعكس هذه. 9- إذا كان المصنف ملك لمصنفه، وثبتت ملكيته فله أن يتصرف في ملكه بأنواع التصرفات الجائزة أو المشروعة كبيعه أو هبته أو وقفه أو نحو ذلك، والله أعلم. 10- إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومن فروع هذه القاعدة: أن ما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون. فإن قلنا بان التأليف في العلوم الشرعية من الواجبات أو المسنونات فتمكين المصنف من الانتفاع بكسبه إذا كان لن يصنف إلا بذلك مما لا يتم الأمر إلا به فهو تابع لحكمه.

فإذا كان المؤلف يرشد الناس ويعلمهم أمر دينهم وكان هذا التعليم مشروعاً، وانقطاعه للتأليف يفتقر إلى كسب، وتركه التأليف قد يؤدي إلى نقص وترك للمشروع فما يبقى للمؤلف نشاطه واستمراره من باب ما لا يتم المسنون إلا به، لا يتم المشروع إلا به. وإن كان في هذا نظر، يفتقر إلى إعمال فكر وإظهار فكر، وربما يظهر أشياء. 11- أن المؤلف بدرجة صانع وتأليفه بمنزلة المصنوع وكل صانع يملك مصنوعه فكذلك المؤلف يملك تأليفه وحقوقه. وجه ذلك: أن المؤلف بحكم تحصيله العلمي وابتكاره وإعمال جهوده بفكره، وبدنه، ووقته وربما ماله فيما يتطلبه ذلك من الرحلة وشراء المصادر والمراجع وأدوات الكتابة ... كل ذلك جعله بمنزلة صانع يملك صنعته فيملك مقتضاها وأثرها بما لها من حقوق وانتفاع شرعي ... 12- ومنها على أحد وجهي الخلاف في جواز أخذ الأجرة على التحديث وامتناع بعض المحدثين من الإذن بالرواية إلا لمن يبذل له العوض ولم يؤثر ذلك على صدقهم في الرواية أو تزيدهم فيها كما أن ذلك لم يكن مانعاً من انتشار علمهم وبثه وهذا من أسس المقاصد في حمل العلم. وعليه: فإذا جاز أخذ العوض على التحديث ففي التأليف في العلوم الشرعية المزيجة منها ومن كلام المؤلفين واستنباطهم وابتكاراتهم صار ذلك أولى بالجواز. 13- أنهم أجازوا أخذ الأجرة على نسخ المصحف، وعن ابن عباس

رضي الله عنهما أنه سئل عن أجرة كتابة المصاحف وقال: لا بأس إنما هم مصورون وإنما يأكلون من عمل أيديهم. ذكره التبريزي في " مشكاة المصابيح " (1) . واختلفوا أيضاً في حكم إجارة المصحف على قولين هما وجهان لدى الحنابلة أحدهما الجواز: فقرروا جواز العوض على انتساخ الكتاب، وانتساخه أعظم طريق للاستفادة منه ولولا الانتساخ لكانت المؤلفات لقىً عند مؤلفها. وقرروا وجوب المقابلة على النسخ على أصل مقروء، والمقابلة تقتضي أكثر من شخص ولم يقل أحد بمنع العوض للمقابل وهم قائلون بوجوب المقابلة على أصل فقط أو أكثر من أصل. فهذه ضروب من الجواز على أخذ العوض بشأن الوحيين وهما أصل العلم وأساسه وهو واجب النشر والتعليم فهلا يصح بعد هذا أن يقال بجواز أخذ العوض على التأليف وقد بذل فيه ما بذل؟؟؟ . 14- أن تجويز ذلك فيه دفع عظيم للبحث والتحقيق وترويج سوق العلم ونشره وبثه، وشحذ لهمم العلماء لنشر نتائج أفكارهم وإبداعهم وهذا من أهم وسائل تقدم الأمة وتصحيح منهجها. وفي المنع سلب لهذه ووسيلة ركود للحركة العلمية في مجال التأليف والإبداع. لا سيما مع تغير الزمان والأحوال وندرة المتبرع وشدة الحاجة وضعف الهمم وقصورها.

_ (1) بواسطة التراتيب الإدارية 2 / 282.

وهل جوائز الخلفاء والملوك والسلاطين والوجهاء للمؤلفين على مؤلفاتهم والمبدعين على إبداعهم إلا مظهر من مظاهر الدفع للهمم وقد جرى بذلك العمل من غير نكير وقاعدته من عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إجازة كعب رضي الله عنه بالبردة لقاء قصيدته العصماء التي دان فيها بالإسلام وفي عنه. فهي من طرق الكسب المباح من غير نكير. 15- أن حق التأليف هو من الحقوق المقررة لا المجردة، لأن الحق المجرد ما شرع لدفع الضرر كحق الشفعة فهو لا يقوم بمال ولا يستعاض عنه بالمال، أما المقرر فهو ما يثبت لمستحقه أصلاً وابتداء كحق الزوجة في القسم والمبيت، وحق القصاص لوليه وحق الزوج في استدامة عقد النكاح، وحق مالك الرقيق في استدامة ملكه. فهذه حقوق يجوز الاعتياض عليها. فكذلك حق التأليف. وفي مبحث النجش من البيوع جوزوا صرف بعض الناس عن المزايدة بعوض. 16- ما زال الناس منذ مولد التأليف وإلى أيامنا هذه يجرون على التأليف أنواع التصرفات من بيع وإعارة ووقف وهدية وعطية وهبة ونحو ذلك من غير نكير، فهل هذا إلا دليل ماليته؟ ولم نر في كلام الأورع أن هذا يؤثر على المؤلف في صلاح نيته. 17- في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى: ... الحديث رواه البخاري وغيره. فنحن نرى الغازي ينال من الغنائم ونرى طالب العلم في معاهده

النظامية وفيها المكافآت المالية، وهكذا من وجوه التعبد التي ترتب أموراً مالية فلا نقول بتأثير هذا على شوب نيته بل الظاهر السلامة، ووجود هذه الأعواض لا تقدح في النية، لكنهما رجلان: رجل نوى الغنيمة فله ما نوى كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقالاً فله ما نوى " (رواه أحمد والنسائي والدارمي ومدار سنده على حفيد عبادة وهو يحيى بن الوليد بن عبادة وهو مقبول) . وآخر نوى من غزاته الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ونصيبه من الغنائم حق له لا يجوز بخسه، فهو يطالب به ولو اعتدي عليه لكان المعتدي ظالماً آثماً. وانظر كيف أبطل في الشرع ما حرمته الجاهلية من الاتجار في الحج وكانوا يقولون للمتجر فيه (فلان راج وليس بالحاج) فأبطل الله ذلك بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} يعني في أيام الحج. فلم يؤثر طلب كسب المال على الحج وهو ركن من أركان الإسلام. وفي الغزو قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قتل قتيلاً فله سلبه " وهذا نص في أن تشريك النية لا يؤثر على صحة العبادة فقد ملك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للقاتل وهو قتل في سبيل الله. وهكذا في نظائرها. وعليه فالتأليف في العلوم الشرعية مثلاً كالطلب لها، يتعين أن تكون لله بنية صادقة خالصة ولا يقدح في نيته ما يأتي من الأعواض على مؤلفه ومطالبته وتأثيم المعتدي عليه كالشأن في الغازي وطالب العلم ونحوهما.. وإنما لكل امرئ ما نوى فهي بين العبد وربه وبيع المؤلف لمؤلفه

دليلاً على دخل في نيته كالشأن في الغازي وغنيمته. ولعظم شأن النية لا سيما في طلب العلوم الشرعية أسوق درراً نثرها الإمام الذهبي رحمه الله تعالى وذلك في كتابه سير أعلام النبلاء فقال (1) : (قال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وابن جريج لم طلبتم العلم؟ كلهم يقول: لنفسي. غير ابن جريج فإنه قال: طلبته للناس) قلت: ما أحسن الصدق واليوم تسأل الفقيه الغبي لمن طلبت العلم؟؟ فيبادر ويقول: طلبته لله ويكذب إنما طلبه للدنيا ويا قلة ما عرف منه. وفيه (2) وقال عبد الرازق: أنبأنا معمر قال: إن الرجل يطلب العلم لغير الله فيأبى عليه العلم حتى يكون لله. قلت: (نعم يطلبه أولاً والحامل له حب العلم وحب إزالة الجهل عنه وحب الوظائف ونحو ذلك، ولم يكن علم وجوب الإخلاص فيه ولا صدق النية فإذا علم حاسب نفسه وخاف من وبال قصده فتجيئه النية الصالحة كلها أو بعضها وقد يتوب من نيته الفاسدة ويندم، وعلامة ذلك أنه يقصر من الدعاوى وحب المناظرة ومن قصد التكثر بعلمه ويزري على نفسه، فإن تكثر بعلمه أو قال: أنا أعلم من فلان فبعداً له) . وفيه أيضاً (3) : قال عون بن عمارة: سمعت هشاماً الدستوائي يقول: والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد وجه

_ (1) السير 6 / 328. (2) السير 7 / 17. (3) السير 7 / 152.

الله عز وجل. قلت: والله ولا أنا فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أولاً [لا] (*) لله وحصلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد وغيره: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية ثم رزق الله النية بعد، وبعضهم يقول طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله فهذا أيضاً حسن ثم نشروه بنية صالحة. وقوم طلبوه بنية فاسدة لأجل الدنيا وليثنى عليهم فلهم ما نووا. قال عليه السلام: "من غزا ينوي عقالاً فله ما نوى " وترى هذا الضرب لم يستضيئوا بنور العلم ولا لهم وقع في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله تعالى. وقوم نالوا العلم وولوا به المناصب فظلموا وتركوا التقيد بالعلم وركبوا الكبائر والفواحش فتباً لهم فما هؤلاء بعلماء!! وبعضهم لم يتق الله في علمه بل ركب الحيل وأفتى بالرخص وروى الشاذ من الأخبار، وبعضهم اجترأ على الله ووضع الأحاديث فهتكه الله وذهب علمه وصار زاده إلى النار. وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئاً كبيراً وتضلعوا منه في الجملة فخلف من بعدهم خلف بان نقصهم في العلم والعمل، وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير أوهموا به أنهم علماء فضلاً ولم يدر في أذهانهم قط أنهم يتقربون به إلى الله لأنهم ما رأوا شيخاً يقتدى به في العلم فصاروا همجاً رعاعاً غاية المدرس منهم أن يحصل كتباً مثمنة يخزنها وينظر فيها يوماً فيصحف ما يورده ولا يقرره فنسأل الله النجاة والعفو. كما قال بعضهم: (ما أنا عالم ولا رأيت عالماً) . 18- لو كانت المؤلفات من قبيل السوائب واشتراك المسلمين في الماء

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: الزيادة بين المعكوفين من سير أعلام النبلاء

والكلأ والنار لنقل ذلك إلينا ودوّنه أهل العلم في مدوناتهم، لكن الأمر على العكس من ذلك، وهل طرق التحمل والأداء إلا واحدة من مظاهر الرعاية لحرمة المؤلفين في مؤلفاتهم؟ وهل طرق التناقل لها من بيع وشراء ووقف ونحوه إلا دليل على ملكيتها وماليتها؟ 19- ومن آثار حمايتها دفع تسلط الناشرين من مسلمين وكافرين عليها حتى لا تكون جواداً رابحاً يغامرون عليه من غير أي عوض. وهل لهذا نظير في الشريعة أن يعمل الإنسان عملاً يحرم عليه عوضه وينساب لغيره؟؟ 20- قاعدة القرب أن من تعبد ليأخذ عوضاً فهذا هو الذي لا يجوز أما من أخذ ليتعبد من جهته فهذا يجوز كما أصّل ذلك ابن تيمية رحمه الله تعالى في النيابة في الحج فإنه بعد إطالة النفس في أخذ العوض للنائب حصر المسألة بقوله: إن من حج ليأخذ فهذا لا يجوز أما من أخذ للحج فهذا الذي يجوز. وجه ذلك: أن من حج وقصد من النيابة في الحج التكسب والمعاوضة فهذا لا يجوز، أما من أخذ العوض ليحج بأن كان قصده الشوق إلى البيت الحرام والمواقف والمشاعر وحضور دعوة المسلمين لكن يريد ما يتبلغ به ويعينه فهذا يجوز. ومثله يقال في التأليف: إن من ألّف ليأخذ بأن جرد فيه القربة من تأليفه في علوم الشريعة وكان قصده اكتساب المال وجعل هذه الصفة وسيلة لجلب المال لا غير فهذا لا يجوز لما علم من أن النية الصالحة في التقرب بخدمة العلم أساس له، أما من أخذ ليؤلف بأن كانت المعاوضة غير مقصده الأساس ولكن مقصده التعبد به ونفع المسلمين وإنما أخذ

المعاوضة للتقوت والتعفف، فهذا الذي يجوز ولا يقدح في نيته كالشأن في حج النائب والغازي والإمامة ونحوها. وعليه فيمتنع على هذا القول الاعتداء على مؤلفات الغير بطبعها ونشرها من غير إذن مؤلفها ومن أتى من طريقه شرعاً. والله أعلم. القول بالمنع وأدلته: ومن الباحثين في هذه النازلة من ذهب إلى المنع والتحريم على المؤلف بأخذ العوض المالي تأليفه في العلوم الشرعية، وما يترتب من عقود، ومجامع الاستدلال على ما يلي: 1- أنه لا يجوز التعبد بعوض، والعلم عبادة ليس صناعة أو تجارة، فالتأليف في العلوم الشرعية: عبادة، وعليه فلا تجوز المعاوضة عليه (1) . 2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من كتم علماً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار". رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم. ووجه الاستدلال: أن حبس المؤلف لكتابه عن الطبع والتداول إلا بثمن باب من أبواب كتم العلم فيناله الوعيد، فيمتنع ذلك، والله أعلم (2) . 3- أن نوع حق المؤلف في تأليفه، أكثر ما يقال فيه: حق مجرد والحق المجرد لا يقوّم بمال، ولا يستعاض عنه بالمال كحق الشفعة،

_ (1) مجلة الهدي النبوي ص / 59. (2) مجلة الهدي النبوي ص / 59، وكتاب الدريني ص / 100.

فكذلك حق المؤلف لذلك (1) . 4- أن بذله للنشر والانتفاع بمعنى أن حق الطبع لكل مسلم، يحقق مقصداً من مقاصد الشريعة بتحقيق مصلحة: الانتشار والرواج وإغناء المكتبة الإسلامية ونشر العلم الشرعي (3) . هذا ما يمكن تصنيفه من مجامع الاستدلال للخلاف في هذه المسألة، والناظر يعرف الراجح من الموازنة بين أدلة القولين، ومسلك الورع تحقيقاً لخلوص النية وتجريدها مما يشوبها من الخلاف: وإن الأوْرَعَ الخروج من خلافهم فاستبن هو كما قرره شيخنا محمد الأمين الشنقيطي (م سنة 1393 هـ) رحمه الله تعالى في شأن التعليم بأجر، فكذلك في شأن التأليف فأقول: الأولى للعالم المسلم إذا لم تدعُه حاجة أن لا يأخذ عوضاً على مؤلفاته في أمور الشرع، وإن دعته حاجة أخذ بقدرها، ومن أغناه الله فالأولى له التعفف قي ذلك. وقد كان جماعة من العلماء المعاصرين لا يأخذون عوضاً عن مؤلفاتهم منهم شيخنا المذكور رحمه الله تعالى، وكان يزجر عن ذلك لمّا قلت له لو طبع أضواء البيان طبعة تجارية لكان أكثر لانتشاره، فقال لا أتاجر في البيان لكتاب الله تعالى، وما أظن أحداً يجترئ على كتابي فيبيعه فأدعو عليه إلا أن تصيبه الدعوة، هكذا شافهني وأنا بجانبه في المسجد النبوي الشريف. رحمه الله تعالى. ومنهم الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى كما في ترجمته. وقد أدركت عدداً من علماء نجد كذلك. والله تعالى أعلم.

_ (1) مجلة الهدي النبوي ص / 62 - 63، وكتاب الدريني ص / 52 - 54. (2) كتاب فتحي الدريني ص / 162.

المبحث السادس في حق النشر والتوزيع

المبحث السادس في حق النشر والتوزيع النشر والتوزيع في هذا المجال يلتقيان في النتيجة، ويتبين ذلك بعد التعريف بحقيقة كل منهما. فالنشر: هو وضع نسخ من الكتاب في متناول الجمهور لغرض البيع عادة. والتوزيع: هو عرض نسخ من الكتاب على عامة الجمهور، أو أية مجموعة منه بالوسائل التجارية المناسبة في الغالب. فالنشر والتوزيع يلتقيان في: حق تسويق الكتاب. وطبيعتهما تختلف باختلاف عقد الاتفاق بين المؤلف والناشر أو الموزع، وما يتفقان عليه من شروط كالتنازل عن حقوق الطبع المالية كلياً، والاتفاق على عدد معين من الكتاب، ولطبعة واحدة أو أكثر، ولمدة معينة تعطي الطرف المسَوِّق مهلة التسويق. وهكذا. ومن أحوال العقود التجارية بين المؤلفين وشركات التوزيع والنشر، نرى أن طبيعة العقد إما إجارة أو بيعاً. فالتوزيع: إجارة في حال اتفاق المؤلف مع الموزع على توزيع الكتاب بأجرة معينة على عدد معين.

والنشر: بيع، إذا باع المؤلف على الناشر عدداً معيناً من الكتاب وبأيلولته إلى ملكه يتصرف بتسويق ما في حوزته تصرف الملاك في أملاكهم. ومن الجائز تناوبهما. هذا من حيث تصوير عقد النشر والتوزيع. يبقى التكييف الفقهي. فنحن إذا نظرنا إلى أن العين المعقود عليها عين ذات تكلفة مالية للطباعة والشحن. والتخزين، والتسويق، وما يلزم لذلك. وعلمنا أن الأصل في العقود والشروط الإِباحة إلا ما دل الشرع على بطلانه. وأن مقاطع الحقوق عند الشروط، وأن المسلمين على شروطهم إلا شرط أحل حراماً أو حرم حلالاً: لم يحتمل لدينا أي تردد في جواز عقد التوزيع مثلاً في صورة الإِجارة، وأنه يلزم كلا العاقدين الوفاء به لخلوه من الغرر والمخاطرة. لكن ينبغي أن يمثل أمام المؤلف ملحظ شرعي وهو: وجود حق الله في المؤلفات الإسلامية، بحيث يكون الثمن الرائج للكتاب لا يلحق شططاً بالمشترين فيكون سبباً لمنع انتشار العلم وتحمله. أما في صورة عقد البيع: فطرد العقد الجواز على احتمال مخاطرة فيه لكنها ضعيفة لا تقوى على فساد العقد وبطلانه. ذلك أن الناشر أو الموزع: دخل في الشراء تطلعاً لروج الكتاب وَنَفَاقِه، وهذا أمر قد لا ينفع إلا بعد العرض والتوزيع، فكم من كتاب عرض ولم يكتب له الرواج فكان نصيبه الكساد، فلحق الضرر الموزع من دخوله العقد على مخاطرة وغرر - فتدفع بأن على الموزع التعرف على

موضوع الكتاب ومادته. ومدى حاجة القراء إلى موضوعه. إضافة إلى أن التوزيع أصبح اليوم عالمياً بحكم وسائل النقل حتى صار العالم كمدينة واحدة، ومع هذا فلا نجد أن الموزعين يستطيعون تغطية الأسواق بمنشوراتهم، وكم من كتاب بالغ الأهمية لم تتجاوز طبعته قطره لذلك. تحرر جوازه شرعاً، لوجود المقتضى وعدم المانع الشرعي. ثم ليعلم أن عقد البيع مع الناشر إنما هو عقد مقصور على ذات العين المباعة دون أن يكون له حق التصرف بحقوق المؤلف الأدبية الأخرى من: آراء المؤلف ونسبته إليه، والتصرف في عباراته وما إلى ذلك لأن هذه لا تباع ولا توهب. وبعد: فإن دور النشر: هي من أعظم الوسائل في هذا العصر لنشر العلم وتسويق كتبه نشراً للإبداع والابتكار وهي من أهم الوسائل لإعانة غير القادرين من المؤلفين على نشر مؤلفاتهم وبذل أثمان الطباعة. وهي التي يستطاع بوسائلها والتزاماتها تعميم الكتاب ونشره في أقاليم وممالك متعددة في وقت وجيز لا يستطيعه المؤلف لو طبعه على حسابه. وفي الوقت نفسه هي: زبون كاسر لأي مؤلف يتنازل عن حقوقه المادية، أو يتواضع معها بالاتفاق - لما يحققه لها من مكاسب مالية ودعائية - فهل نقول مع هذا بحرمان المؤلف الذي كدّ فكره وأجهد نفسه وأفنى وقته وعمره في مؤلفه، من عوض مالي لقاءه وأن يكون غنيمة باردة لدار النشر تطارح به في الأسواق.؟

إن السؤال بعد هذا يعود بالدور فكيف يحرم منه مؤلفه ويسوغ لدور النشر فعله.؟ بل إن عملية الممارسة بين المؤلف ودار النشر أدعى لضبط الناشر من استغلال الجشع والمطارحة به في الأسواق. ثم كيف نسوغ لدار النشر أن ترابح وتتاجر على حساب جهد جهيد من فكر الإنسان ونضوجه الذي هو أساس في كيانه الفكري وتكوينه في هذه الحياة.؟ بل هي التكوين الخالد إلى أن أمضى وأبلغ، وقد تكون دور النشر لكافر وظيفته جلب المال فنصفها له لقمة سائغة. والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

بيان مسألتين في أوائل الشهور العربية

" 9 " بيان مسألتين في أوائل الشهور العربية 1- حكم إثباتها بالحساب الفلكي. 2- حكم توحيد الرؤية. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فهذا بحث لمسألتين تتعلقان بأول الشهر القمري: المسألة الأولى: في حكم إثباته بالحساب. المسالة الثانية: في حكم توحيد الرؤية. وقد أدرت البحث في المسألة الأولى على ما يلي: المبحث الأول: في سياق النصوص. المبحث الثاني: في فقهها. المبحث الثالث: إجماع المسلمين على موجبها. المبحث الرابع: تفنيد الخلاف الحادث في هذه المسألة. المبحث الخامس: أدلة الخلاف الحادث. المبحث السادس: في نقضها. المبحث السابع: في ظنية الحساب. المبحث الثامن: في منابذته للشرع. فإلى بيانها:

المسألة الأولى: في حكم إثباته بالحساب

[المسألة الأولى: في حكم إثباته بالحساب] (*) المبحث الأول في سياق النصوص قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ} الآية. وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الآية. وشهود الشهر يكون بعد إهلاله كما في الآية الأولى. وقد علم أن ما ثبت من المؤقتات بشرع أو شرط فالهلال ميقات له كالصيام والحج، والإِيلاء، والعدة، ونحوها وإنما خص الحج بالذكر تمييزاً له، ولأنه علامة الحول كما أن الهلال علامة الشهر. وقال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} الآية. فالشهور معدودة اثنا عشر شهراً، والشهر هلالي بالاضطرار. فالسنة عددية اثنا عشر شهراً، والشهر معلق برؤية الهلال. وأصح المعلومات ما شوهد بالأبصار ولهذا سمي الهلال هلالاً لظهوره وبيانه. والشهر القمري يكون تارة (30) يوماً، وتارة (29) يوماً كما في النصوص النبوية الآتية. وعليه فالسنة القمرية (354) يوماً وبعض يوم خمس أو سدس. وإنما يقال أنها 360 يوماً جبراً للكسر على عادة العرب في جبر

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: أضفت هذا العنوان وليس في المطبوع

الكسور كما جعل الشرع: اليوم طبعياً من طلوع الشمس إلى غروبها. وجعل الأسبوع عددياً بسير الشمس. هذا وقد حدد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطريق الذي يعرف به الإهلال للشهر في جملة أحاديث حكي فيها التواتر واردة عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم: أبو هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وحذيفة، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وجابر، والبراء بن عازب، ورافع بن خديج، وطلق بن علي، وأبو بكرة، وسمرة، وعدي بن حاتم وعن رجال من الصحابة، وعن عطاء مرسلاً رضي الله عنهم أجمعين. وحديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما، وحديث ابن عباس في صحيح مسلم. وهو وحديث حذيفة في سنن أبي داود والنسائي وغيرهما. وبقية أحاديث الجماعة المذكورين رضي الله عنهم: خارج الكتب الستة كالموطأ، ومسندي أحمد والشافعي وغيرهما. وقد خرّج أحاديثهم بألفاظها وبيان من أخرجها: ابن الأثير في: جامع الأصول 6 / 265 - 271. والمتقي في: كنز العمال / 485 - 493. والألباني في: إرواء الغليل 4 / 2 - 14. وغيرهم من أصحاب الكتب الجوامع، وهذه جميعها من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وثبت من حديث عائشة رضي الله عنها من هديه الفعلي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذا بيان ألفاظ روايات حديث: أبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، وبقية أحاديث الآخرين ترجع إليهم:

1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً ". رواه الشيخان والنسائي. وفي لفظ: قال: قال أبو القاسم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا العدة ". وفي لفظ: فإن غمي عليكم فأكملوه ثلاثين. وفي لفظ عند النسائي: فاقدروا له ثلاثين. وفي لفظ عنده أيضاً: فاقدروا له. وفي لفظ عنده أيضاً: الشهر يكون تسعاً وعشرين، ويكون ثلاثين، فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأكملوا العدة. 2- حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له ". وفي لفظ لمسلم: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: " الشهر هكذا وهكذا " ثم عقد إبهامه في الثالثة، " فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته فإن غمَّ عليكم فاقدروا ثلاثين ". وفي لفظ: فاقدروا له. 3- حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر رمضان فقال: " لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ". رواه مالك، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.

وفي رواية للنسائي أن ابن عباس قال: عجبت ممن يتقدم الشهر، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ". وفي لفظ: صوموا لرؤيته ... الحديث. وفي لفظ: لا تصوموا قبل رمضان صوموا لرؤيته ... الحديث. وفي لفظ لأبي داود: لا تقدموا الشهر بصيام يوم أو يومين إلا ... ولا تصوموا حتى تروه، ثم صوموا حتى تروه ... الحديث. 4- أما هديه الفعلي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ففي حديث عائشة رضي الله عنها. قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ لغيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام. أخرجه أبو داود.

المبحث الثاني في فقه هذه النصوص

المبحث الثاني في فقه هذه النصوص فهذه النصوص الصحيحة تدل دلالة صريحة على أصول شرعية في أحكام الشهور وإثبات أوائلها على ما يلي: الأصل الأول: إن الشرع جعل علامة أول الشهر: الهلال لا غير. وأن ليس لأول الشهر حد عام ظاهر سواه. الثاني: أن جنس الشهر القمري الشرعي منحصر: أقله في (29) يوماً، وأكثره في (30) يوماً. وأنه لا يشرع بحال حتى يمضي (29) يوماً من شعبان ولا بد أن يصام في رمضان (29) يوماً لا يصام أقل منها بحال. الثالث: أن أول الشهر لا يعتبر إلا بيقين. وهذا مطرد من قاعدة الشريعة في العبادات المؤقتة: أنه لا يصح وقوعها إلا في وقتها بيقين تام. ولهذا ربط الله أسبابها بعلامات يقينية لا مدخل للعباد فيها بل هي سنن كونية ثابتة يستوي في معرفتها عموم الخلق: علماء، وعامة، وحاضرة، وبادية. وهذا من أجل أسباب اليسر ورفع الحرج في الشريعة. الرابع: أن الشرع علق الأحكام التعبدية الشهرية على الأهلة بطريقتي اليقين: الرؤية أو الإكمال. وذلك: 1- لسهولته، ويسر يقينيته.

2- ولأنه لا يدخله الخطأ. 3- ولأن كل نظام سواه الأصل فيه: الخطأ كالحساب فإنه مع عسره وندرة العارف به يدخله الخطأ كثيراً كما سيأتي. ولهذا فإن الوصف بالأمية هنا صفة مدح وكمال من وجوه: من جهة الاستغناء عن الكتابة والحساب بما هو أبين منه وأظهر وهو الهلال، ومن جهة أن الحساب والكتابة هنا يدخلهما غلط.. إلى آخر وجوه بسطها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (الفتاوى 25 / 174 - 176) . الخامس: أن اليقين في ذلك يتحقق بأمر محسوس: حقيقة أو حكماً، حقيقة محسوسة بالإهلال، وفي حكم المحسوسة بالإكمال أي: 1- الهلال بالرؤية البصرية. وهذا أمر محسوس حقيقة. 2- الإكمال لشعبان مثلاً - ثلاثين يوماً في حال تعذر الرؤية لغيم ونحوه. وهذا محسوس حكماً، يقيني في واقع الحال، لعصمة التشريع بخبره الصادق والذي هو من سنن الله الكونية: أن الشهر القمري لا ينقص عن (29) يوماً، ولا يزيد عن (30) يوماً. فالشرع أناط الحكم بأول الشهر بوجود الهلال حقيقة لا بوجوده تقديراً، وأن وجوده حقيقة بالرؤية البصرية بالإهلال، أو بالإكمال. وأنه بأمر لا مدخل للعباد فيه بل هو سنة كونية ثابتة. وصاحب الشرع أشعر بحصر السبب فيهما ولم ينصب سبباً سواهما. ووجه التيقن بالإكمال أيضاً هو: استصحاب الأصل، إذ الأصل بقاء الشهر وكماله فلا يترك هذا الأصل إلا ليقين بناء على أن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بمثله. قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: في الاستدلال من

حديث ابن عباس رضي الله عنهما (وفيه إعلام أن الأحكام لا تجب إلا بيقين لا شك فيه، وهذا أصل عظيم من الفقه أن لا يدع الإنسان ما هو عليه من الحال المتيقنة إلا بيقين من انتقالها، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوماً "، يقتضي استكمال شعبان قبل الصيام، واستكمال رمضان أيضاً..) اهـ. السادس: أن الأحاديث دلت بمجموعها على انحصار الوصول إلى اليقين المذكور بأحد الطريقين. فالصيام حكمٌ سببه: الرؤية للهلال أو الإكمال. فمنها ما يفيد بمنطوقه وجوب الصوم والفطر بعد الرؤية أو الإكمال كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ". ومنها: ما يفيد منطوقه تحريم الصوم والفطر قبل الرؤية والإكمال كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ". وأنه ليس في شيء من الأحاديث إناطة الحكم الشرعي بالحساب الفلكي. وتسمية الشهر به: شهراً بل تعليقه الحكم بأمر يقيني من رؤية أو إكمال يدل دلالة واضحة على نفي إناطة الحكم بأي سبب آخر ففي هذا فطم عن الاعتماد على الحساب في هذا الحكم. السابع: إن ترائي الهلال مشروع لهذه الأمة لضبط مواسم تعبدها فإن كانت العبادة واجبة كصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام، كان الترائي واجباً كفائياً، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وإن كانت مسنونة كان

الترائي مسنوناً إذ الوسائل لها أحكام الغايات، فإن تمت الرؤية وإلا فالمصير إلى الإكمال، والحمد لله على اليسر ورفع الحرج. قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: (وفيه - أي حديث ابن عباس - أن الله مقيد عباده في الصوم برؤية الهلال لرمضان، أو باستكمال شعبان ثلاثين يوماً، وفيه تأويل لقول الله عز وجل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة 185] إما شهوده ورؤيته أو العلم برؤيته) اهـ.

المبحث الثالث إجماع المسلمين على موجب هذه النصوص

المبحث الثالث إجماع المسلمين على موجب هذه النصوص موجب هذه الأحاديث أن التكليف يتبع العلم، وقد علقه الشارع بأمر محسوس يستوي فيه عموم البشر، ونهى الأمة عن الصوم إلا بأحد هذين الطريقين فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تصوموا حتى تروا الهلال ... " الحديث. وهذا من باب عموم النفي لا من باب نفي العموم، أي: لا يصوم أحد، حتى يرى، أو حتى يعلم أنه رؤي أو ثبت شرعاً أنه رؤي. فإذا انتفت الرؤية البصرية انتفى العلم بالإهلال، وإذا انتفى العلم به بحاسة البصر، فقد جعل الشرع المصير إلى تعليق الحكم بمناط يستوي فيه عموم البشر وهو إكمال شعبان مثلاً ثلاثين يوماً. ولا يعلم في شيء من النصوص تعليق المناط بغير هذين وهذا والله أعلم - لأن ما سواهما إما فاسد أو مظنون، أو فيه من التكلف والحرج والعناء، وصرف الحياة إلى ما لا نفع من ورائه بما لا تأتي بمثله الشريعة المطهرة. وهذا التقرير هو ما عرفه المسلمون في شتى عصورهم، وما زالت عباداتهم قائمة وأمورهم راشدة. ولا يعرف في هذا خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، بل حكى شيخ الإسلام ابن تيمية: اتفاقهم. وحكاه المهدي في البحر. ومذاهب الأئمة الأربعة متفقة على ذلك. قال مالك رحمه الله تعالى: إن من يصوم بالحساب لا يقتدى به. وقال ابن عرفة:

لا أعرفه لمالكي. بل قد حكى الإجماع على موجبه غير واحد من أهل العلم في القديم والحديث منهم: ابن المنذر في الإشراف، وسند من المالكية، والباجي، وابن رشد القرطبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن حجر، والسبكي، والعيني، وابن عابدين، والشوكاني، وصديق حسن خان في تفسيرهما لقوله تعالى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} الآية. وملا علي قاري. وقال أحمد شاكر: (واتفقت كلمتهم أو كادت تتفق على ذلك) . ونكتفي من النقول عنهم بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية إذ حكاه في مواضع من: الاقتضاء، ومجموع الفتاوى 25 / 132، 179، 207، فقال في 25 / 132: (إنا نعلم بالضرورة من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المتعلقة بالهلال بخبر الحاسب، أنه يرى أو لا يرى، لا يجوز. والنصوص المستفيضة بذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيرة. وقد أجمع المسلمون عليه. ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً، ولا خلاف حديث، إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا. وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو، أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم) اهـ.

المبحث الرابع تفنيد الخلاف الحادث في هذه المسألة

المبحث الرابع تفنيد الخلاف الحادث في هذه المسألة كم رأينا من فرع حكي فيه الخلاف ثم يتبين عند التحقيق عدم ثبوته عن المخالف وهذا كثير في مسائل فروعية. ومنه في الصيام. حكاية الخلاف في صوم يوم الشك حيث عزاه ابن قدامة وعنه ابن الجوزي رحمهما الله تعالى لنحو عشرة من الصحابة رضي الله عنهم ونحوهم من التابعين، ثم بين العراقي وغيره ضعف الرواية في ذلك عن عدد منهم، وفي غير الصيام ما يروى عن جماعة كثيرين من الصحابة والتابعين، أنهم خضبوا بالسواد. وقد أبان الحفاظ منهم ابن القيم في (الهدي) أن في الروايات عنهم ضعفاً وانقطاعاً وهكذا. وفي هذه المسألة: لا يعرف فيها خلاف صحابي بل حكي إجماعهم، وقد حكي الخلاف فيها عن: 1- الشافعي. 2- ابن سريج. 3- مطرف بن عبد الله بن الشخير. 4- محمد بن مقاتل. 5- ابن قتيبة. وقد استقرأ ابن تيمية رحمه الله تعالى: أن الخلاف الحادث في الجواز

مقيد بأمرين في: حال الإغمام وللحاسب فقط لا يتعداه إلى غيره كما تقدم قريباً. وسيتبين من التقييد الآتي: أنه حصل الغلط في هذا الخلاف على القائل به وفي نوعه، فابن سريج وابن خويز منداد غلطا في حكايتهما ذلك على الشافعي وأن ابن سريج الشافعي بنى قوله: على غلطه على إمامه. وأن بعض الشافعية غلط أيضاً ابن سريج في حكايته لقوله. وأن مطرف بن عبد الله لا يصح عنه، وأن محمد بن مقاتل الرازي صاحب محمد بن الحسن الشيباني ضعيف، وأن ابن قتيبة ليس من أهل هذا الفن وأن بعض أهل العلم غلط في حكايته نوع الخلاف حيث أطلق ولم يقيد. وعليه: فتبقى حكاية الإجماع قائمة، وإلا فعدم وجود المخالف في القرون المفضلة وبيان ذلك على ما يلي: 1- الغلط على الشافعي رحمه الله تعالى: قال ابن رشد في (بداية المجتهد) : حكى ابن سريج عن الشافعي أن من كان من مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر، ثم تبين له من جهة الاستدلال أن الهلال مرئي وقد غم، فإن له أن يعتقد الصوم ويجزئه اهـ. وحكاه أيضاً: ابن خويز منداد المالكي عن: الشافعي كما في التمهيد لابن عبد البر. وعنه العراقي في طرح التثريب. ولذا قال ابن تيمية (وحكاه بعض المالكية عن الشافعي) اهـ. تعقبه: أفاد العلماء من الشافعية وغيرهم أن هذا غلط على الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وأن هذا لا يعرف من قوله ولا مذهبه. وأن الصحيح عنه

خلافه. ومن الذين قرروا إنكار نسبته إلى الشافعي: ابن عبد البر، وابن العربي، والعراقي، والسبكي، والحافظ ابن حجر، والمطيعي في جماعة سواهم. وهؤلاء هم الذين ذكروا الخلاف الحادث وسموا القائلين به على ما يأتي. وتعقبوهم. ونص الشافعي المفيد لمذهبه على وفق ما قرره السلف وذهبوا إليه اتباعاً للنص - وهو ما في كتاب (أحكام القرآن للشافعي) جمع البيهقي رحمه الله تعالى. فثبت بهذا بطلان نسبة القول المذكور إلى الشافعي وغلط ابن سريج وابن خويز منداد فيما حكى عنهما من نسبة ذلك إلى الشافعي. وأما ابن خويز منداد فمع كونه رأساً في نصرة السنة جذعاً في أعين المبتدعة فقد كان يغلط في حكاية الفقهيات كما في ترجمته من ترتيب المدارك وغيره والله أعلم. 2- الأصل في خلاف ابن سريج: أبو العباس أحمد بن سريج الشافعي م سنة 306 هـ إمام الشافعية في وقته رحمه الله تعالى. رأى الأخذ بالحساب جوازاً في حق الحاسب خاصة إذا غم الشهر ولم يره الراؤون. والذي يتجلى أن ابن سريج مع جلالته - رتب ما ذهب إليه من تفسيره لرواية (فاقدروا له) أي بحساب المنازل خطاب لمن خصه الله بهذا العلم - رتبه على ما حكاه غلطاً على الشافعي رحمه الله تعالى. وعنه اشتهر القول بذلك، ومع اشتهاره اختلف عليه النقلة بين الجواز والوجوب وفي الإطلاق والتقييد، والذي يصححه علماء المذهب عنه: أنه قال بالجواز وقت الإغمام خاصاً بالحاسب نفسه لا يتعداه إلى سواه. ومن سواه يبقى على الأصل في حكم الرؤية وبسطه النووي في المجموع محرراً. وهذا الذي تحرر قولاً لابن سريج هو: عين ما حكاه هو غلطاً على

الشافعي فإذا ثبت مما تقدم قيل إن ابن سريج رحمه الله تعالى غلط على الشافعي في ذلك، فإنه إنما قال ما قال تقليداً منه لإمام المذهب عنده، وإذا بطلت نسبة القول به إلى الشافعي فهذا يفرغ ما بني عليه فلم يبق ذلك قولاً لابن سريج. وقد أنكر العلماء من الشافعية وغيرهم - على ابن سريج قوله ومنهم ابن تيمية كما تقدم نقله في آخر المبحث الثالث. ثم إن العلامة تقي الدين السبكي الشافعي رحمه الله تعالى ألف رسالته: (العلم المنشور في إثبات الشهور) انتصر فيها لرأي ابن سريج للجواز لا للوجوب مقيداً لذلك بشرطين: أن ينكشف الحساب جلياً من ماهر بالصنعة والعلم، وأن يكون الجواز في خصوص الصوم لا الفطر. ثم ألف الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي رحمه الله تعالى رسالته (إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة) . وساق اختيار السبكي ولم يتعقبه. ثم ألف الشيخ أحمد بن محمد شاكر رحمه الله تعالى رسالة باسم (أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعاً إثباتها بالحساب الفلكي؟) . ثم تعقبه كل من الشيخ أبو النصر مبشر الطرازي الحسيني برسالة سماها (بحث في توحيد أوائل الشهور العربية) . كما تعقبه الشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري ببحث سماه: (لو غيرك قالها يا أستاذ) . ثم رأيت لدى الشيخ إسماعيل خطاباً من الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى يعتذر فيه إلى الشيخ إسماعيل وأنه إنما نشر رسالته لإثارة البحث بين أهل العلم وإلا فليس له رأي بات في المسألة.

وكل هؤلاء الأجلة: السبكي، فالمطيعي، فأحمد شاكر رحمهم الله تعالى ينزعون من قوس واحدة من قول ابن سريج وقد علمت مدى العمدة في رأيه مذهبياً. وأن السبكي قرر الجواز بالشرطين المذكورين، أما الشيخ شاكر رحمه الله تعالى فقد وسع الخطو فصرح بالوجوب ص / 15، ثم ضعف تجاسره فأبداه بحثاً ص / 17، 29 والله أعلم. 3- مطرف بن عبد الله بن الشخير (م سنة 87 هـ) رحمه الله تعالى كان من كبار التابعين وساداتهم وقد نفى ابن عبد البر صحة الأثر عنه فقال: (روي عن مطرف بن الشخير وليس بصحيح عنه، ولو صح ما وجب اتباعه عليه لشذوذه فيه، ولمخالفة الحجة له) اهـ. ونقله عنه ابن حجر، والعراقي وغيرهما، وقال ابن تيمية 25 / 182. (إنّ هذا إن صح عنه فهي من زلات العلماء) اهـ. 4- ابن قتيبة: العلامة المشارك عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري م سنة 376 هـ رحمه الله تعالى. قال ابن عبد البر متعقباً له: (ليس هذا من شأن ابن قتيبة ولا هو ممن يعرج عليه في مثل هذا الباب) اهـ. 5- محمد بن مقاتل الرازي: صاحب محمد بن الحسن الشيباني، فهو مترجم لدى الحنفية ترجمة موجزة لا تفيد نباهته في العلم ولم أر من نص على تاريخ وفاته. وهو مضعف في الرواية عند النقاد قال الذهبي في (المغني في ضعفاء) : (محمد بن مقاتل الرازي، لا المروزي. عن وكيع. ضعيف) اهـ.

وفي الميزان قال: (حدث عن وكيع وطبقته، تكلم فيه ولم يترك) اهـ. والنقل عنه في هذا لم يتم الوقوف على سند له ليتم الكشف عنه والحنفية ينقلون قوله لنقضه، وينقلونه ممرضاً كقول القاري في شرح النخبة ص / 19 (وأما ما ذكره بعض علمائنا عن محمد بن مقاتل أنه كان يسأل المنجمين ويعتمد قولهم ... ) فذكره ثم ذكر من تعقبه كالسرخسي وغيره.

المبحث الخامس ما استدل به المتأخرون

المبحث الخامس ما استدل به المتأخرون استدل لهم بحديثين وقياسين: 1- أن رواية (فاقدروا له) معناه: قدروه بحساب المنازل، وأنه خطاب لمن خصه الله بهذا العلم. وأن قوله: (فأكملوا العدة) خطاب للعامة. 2- حديث: " إنا أمّة أميّة لا نكتب ونحسب الشهر هكذا وهكذا " الحديث. فالأمر باعتماد الرؤية وحدها جاء معللاً بعلة منصوصة وهي: أن الأمة لا تكتب ولا تحسب. والعلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً. فإذا وصلت الأمة إلى حال في معرفة هذا العلم باليقين في حساب أوائل الشهور وأمكن أن يثقوا به ثقتهم بالرؤية أو أقوى صار لهم الأخذ بالحساب في إثبات أوائل الشهور. 3- ليست حقيقة الرؤيا شرطاً في اللزوم لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بالحساب بإكمال العدة، أو بالاجتهاد بالأمارات أن اليوم من رمضان: وجب عليه الصوم وان لم ير الهلال ولا أخبره من رآه. 4- قياسه على إثبات أوقات الصلوات بالحساب.

المبحث السادس في نقضها

المبحث السادس في نقضها أولاً: نقض الاستدلال بلفظ (فاقدروا له) : واجب أهل العلم جمع ألفاظ الرواة، والجمع بينها ما أمكن، ولا تحمل على التعدد إلا عند التعذر بل قد يكون التعدد مؤثراً في صحة الرواية كما علم من قواعد الاصطلاح عند المحدثين. وعليه فألفاظ الرواة كما يلي: 1- فأتموا العدة ثلاثين. 2- فأتموا شعبان ثلاثين. 3- فأكملوا ثلاثين. 4- حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة. 5- فصوموا ثلاثين. 6- أحصوا عدة شعبان لرمضان. 7- فأكملوا العدة ثلاثين. عن حديث ابن عمر. 8- فأكملوا العدة ثلاثين فإنها ليست تغمى عليكم. أبو هريرة. 9- فعدوا ثلاثين. أبو هريرة. وابن عمر. 10- فأكملوا العدة. أبو هريرة. 11- فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً. أبو هريرة.

12- فصوموا ثلاثين يوماً. ابن عمر. 13- فعدوا له ثلاثين يوماً. ابن عمر. 14- فاقدروا له ثلاثين. أبو هريرة. وابن عمر. 15- فاقدروا له. أبو هريرة. وابن عمر. فهذه الروايات ثبتت من أحاديث الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجميعها متفقة لفظاً ومعنى، أو معنى على إكمال وإحصاء الشهر السابق ثلاثين يوماً لعدة الشهر اللاحق عند تعذر الرؤية. ولهذا فإن أهل الاصطلاح يذكرون هذا الحديث في مبحث المتابعات بالمعنى أو باللفظ والمعنى كما في: شرح نخبة الفكر القاري ص / 90 - 94. وهدا الثابت من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثابت من سنته الفعلية صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام. رواه أبو داود بسند صحيح. وجميع روايات الصحابة المذكورة رضي الله عنهم ليس فيها (فاقدروا له) إلا في بعض ألفاظ حديثي أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم. وقد تعددت ألفاظ روايتهما فجاء فيها مثل ألفاظ الجماعة سواء. ففي لفظهما أيضاً (فعدوا ثلاثين) وبلفظ (فأكملوا العدة ثلاثين) عن ابن عمر وبلفظ (فأكملوا العدة) عن أبي هريرة ونحوها من الروايات السابقة عنهما. ومنها الرواية عنهما بلفظ (فاقدروا له ثلاثين) . عند مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وعند النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فاتضح أن رواية فاقدروا له هي مثل رواية: فاقدروا له ثلاثين، وهما بمعنى: فأتموا العدة ثلاثين، وفي التنزيل {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}

أي تماماً. وهذا هو ما فهمه أهل الحديث الذين أخرجوا الحديث. حيث يوردون الرواية المفسرة بعد المجملة كما صنع: البخاري، ومالك، وبسطه الحافظ ابن عبد البر في: التمهيد 2 / 39 - 40، وابن حجر في: الفتح 4 / 120. وعليه فإن جميع موارد الروايات واحد وإن اختلفت ألفاظها فالإكمال، والإتمام والإحصاء، والتقدير، والعدة، هكذا وهكذا وهكذا: جميعها بمعنى واحد، وإن الذين رووا (فاقدروا له) جاء عنهم (فاقدروا له ثلاثين يوماً) وجاء عنهم أيضاً مثل ألفاظ الجماعة. والواجب في السنن جمع شملها ونفي الاختلاف والتضارب عنها، وأن الاختلاف في اللفظ لا يحمل على الاختلاف في المعنى إلا عند تعدد المخارج وتعذر الجمع. كما عليه العمل عند المحدثين وأهل الأصول. وحرره ابن حجر في (النكت) كما أن من طريقتهم التي لا اختلاف فيها بينهم حمل المجمل على المفسر، فمثلاً لفظ: فاقدروا له، يفسره لفظ (فأتموا العدة ثلاثين) إذ ليس بين المجمل والمفسر تعارض أصلاً. وهذا لائح الوضوح والبيان. وإن الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى قد اضطرب في هذا غاية الاضطراب من حمله تعدد المباني على تعدد المعاني في حديث واحد من رواية صحابي واحد. فهو يناقض ما ذهب إليه مع الجمهور طرداً للقاعدة المذكورة في حديث كيفية النهوض في الصلاة كما بينته في الأجزاء الحديثية: هل يكون بالاعتماد على الركبتين أم الأرض؟ وفي حديث الفطر يوم يفطر الناس. وأنه بمعنى الرواية الأخرى: الفطر يوم يفطر الإمام. كما بسطه في رسالته: توحيد أوائل الشهور العربية ص / 25 - 28.

فسبحان من صرف بصر الأستاذ مع جلالته إلى هذا التأويل الذي أوصله إلى التناقض. والله أعلم. ولهذا فإن السبكي في: العلم المنشور ص / 9 قد أنصف غاية الإنصاف إذ بين تفسير الرواية: فاقدروا له. بالرواية الأخرى: فأكملوا العدة ثلاثين يوماً. بل جاء في رواية أبي داود لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن ابن عمر كان لا يأخذ بهذا الحساب. فهذا تفسير منه لروايته: فاقدروا له، وأنها بمعنى الرواية الأخرى: فاقدروا له ثلاثين. وبعد كتابة جميع ما تقدم وجدت في: المستدرك للحاكم 1 / 423، والسنن الكبرى للبيهقي 4 / 204 بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله تعالى جعل الأهلة مواقيت فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له، أتموه ثلاثين " فهذه الرواية الصحيحة صريحة في تفسير المرفوع بالمرفوع ولم أر من أشار إليها في النقض فالحمد لله على التيسير. والله أعلم. ثانياً: نقض الاستدلال بمفهوم حديث " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " الحديث: فقد علم في اللسان أن بساط المقال كبساط الحال له تأثير في الأحكام كما علم في مسائل من الأيمان والنذور والطلاق وغيرها، فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هنا: " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " قرنه بقوله (الشهر كذا ... ) أي مرة 30 ومرة 29 فهو محض خبر من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته: أنها لا تحتاج في أمر الهلال إلى كتاب ولا حساب، إذ هو إما (30) يوماً أو (29) يوماً.

ومرد معرفته بالرؤية للهلال أو بالإكمال. كما في الأحاديث المتقدمة المشعرة بالحصر في هذين السبيلين لا بكتاب ولا بحساب. فهذا خبر منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتضمن نهياً عن الاعتماد على الكتاب والحساب في أمر الهلال، وفطم للأمة عن الاعتماد عليه، إذ أغناهم بنصب الرؤية أو الإكمال دليلاً على أوائل الشهور. ولهذا نظائر في النصوص الخبرية كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. فهذا خبر يفيد صفة المسلم متضمناً النهي عن إيذاء المسلم بلسان أو يد. وهذا الظاهر في خبرية النص هو الذي يتفق مع الحقائق الشرعية والدلائل النصية من الأحاديث السابقة. إذاً فيتعين إبقاء النص على ظاهره في الخبرية، ولا يصرف عنها إلى العلية إلا بدليل، وصرفه يؤدي إلى تعارض النصوص كما هو بين. وهذا معنى ما قرره المحققون من أهل العلم في توجيه هذا الحديث من أنه على ظاهره لا غير من عدم الاحتياج إلى الكتاب والحساب في أمر الهلال - قرر ذلك ابن تيمية في: الفتاوى 25 - وابن العربي في: عارضة الأحوذي، وابن حجر في: الفتح 4 / 122 وقال: ( ... فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك. بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً، ويوضحه قوله في الحديث الماضي " فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " ولم يقل فسلوا أهل الحساب. والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الخلاف والنزاع عنهم ... ) اهـ. وابن بطال قال كما في إرشاد أهل الملة:

(وقال ابن بطال وغيره معنى الحديث: إنا لم نكلف في معرفة مواقيت صومنا ولا عباداتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة إنما ربطت عباداتنا بأعلام واضحة وأمور ظاهرة يستوي في معرفة ذلك الحساب وغيرهم) اهـ. والسبكي كما في العلم المنشور ص / 9 قال: (وفي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هكذا وهكذا وهكذا، وإشارته تحقيق لاعتماد الأمر المحسوس الذي هو من أجلى الأمور، وفطم عن اعتماد الحساب في ذلك) اهـ. والذهبي في سير أعلام النبلاء 14 / 191 - 192 فقال في معرض بحث كتابة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضعف حديث " ما مات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قرأ وكتب " - قال: " ثم هو القائل: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب "، فصدق إخباره بذلك إذ الحكم للغالب، فنفى عنه وعن أمته الكتابة والحساب لندور ذلك فيهم وقلته وإلا فقد كان فيهم كتّاب الوحي وغير ذلك، وكان فهم من يحسب، وقال تعالى: {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ} . ومن علمهم الفرائض وهي تحتاج إلى حساب وعول، وهو عليه السلام فنفى عن الأمة الحساب فعلمنا أن المنفي كمال علم ذلك ودقائقه التي يقوم بها القبط والأوائل، فإن ذلك ما لم يحتاج إليه دين الإسلام ولله الحمد: فإن القبط عمقوا في الحساب والجبر، وأشياء تضيع الزمان وأرباب الهيئة تكلموا في سير النجوم والشمس والقمر والكسوف والقرآن، بأمور طويلة لم يأت الشرع بها، فلما ذكر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشهور ومعرفتها بين أن معرفتها ليست بالطرق التي يعرفها المنجم وأصحاب التقويم، وأن ذلك لا نعبأ به

في ديننا، ولا نحسب الشهر بذلك أبداً ثم بين أن الشهر بالرؤية فقط، فيكون تسعة وعشرين أو بتكملة ثلاثين، فلا نحتاج مع الثلاثين إلى تكلف رؤية اهـ. ثالثاً: نقض الاستدلال بالقياس على المحبوس بالمطمورة. فهذا القياس باطل من أصله لأن المقيس عليه هنا لم يثبت بنص ولا اتفاق ومن شرط القياس توفر ذلك. وهو مفقود هنا فهو ملغي من أصله. ثم هو على التسليم مقدوح فيه بعدة قوادح قياسية منها: فساد الاعتبار لمخالفة المقيس لصرائح النصوص المشعرة بالحصر في نصب الشارع الرؤية سبباً للحكم بأول الشهر. وأنه قياس مع الفارق إذ المحبوس معذور فيجب عليه الاجتهاد في دخول الوقت فإن انكشف له غلط قضى. والله أعلم. رابعاً: نقض قياسه على إثبات أوقات الصلوات بالحساب: فهذا القياس كسابقه باطل من أصله، لأن المقيس عليه مختلف فيه غير ثابت بنص ولا إجماع وثبوته بنص أو اتفاق الخصمين شرط للأصل المقيس عليه، وشرط ثالث أن يكون الحكم معقول المعنى كتحريم الخمر إلا إن كان تعبدياً كأوقات الصلوات وأعداد الركعات لأن ما لا يعقل معناه لا يمكن تعديته إلى محل آخر. وعلى التسليم فهو قياس مع الفارق. وقد بسطه القرافي في الفروق - الفرق الثاني بعد المائة ذلك أن المشرع أناط الصلاة بوجود العلامة لوقتها فنفس الوقت هو سبب الصلاة فمن علم السبب بأي طريق كان، لزمه حكمه فلذلك اعتبر الحساب المفيد للقطع في أوقات الصلوات. وأما

الأهلة فلم ينصب الشرع خروجها سبباً بل جعل السبب الرؤية لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صوموا لرؤيته "، ولم يقل لخروجه، فإن لم تكن رؤية رد إلى الإكمال الذي يباري الرؤية في الإهلال. ثم بسط وأورد ما للمعارض وأجاب عنه في بحث مطول. والله أعلم.

المبحث السابع في ظنية الحساب

المبحث السابع في ظنية الحساب وذلك للأمور الآتية: 1- أن قطعية الحساب لا تقبل إلا بنتائج فاشية تفيد العلم اليقيني بصدق نتيجته واطرادها، وإخبار العدول على رسم الشرع من ذوي البصارة به - بذلك، ويبسط طريقته بمحضر من أهل العلم لمعرفة مدى سلامة مقدماته شرعاً هذا لو جعل الشرع المصير إليه. والدافع أنه ليس لدينا دليل متوفر على هذا المنوال ليكسب إفادته اليقين إلا شهادة بعض الفلكيين لأنفسهم بأن حسابه يقيني. والأدلة المادية الآتية تقدح في مؤدى شهادتهم، وتقوي نفي نظائرهم في الفلك من عدم إفادته اليقين كما قررته اللجنة الشرعية الفلكية بالأزهر في قراراتها المطبوعة، إضافة إلى أن الشرع لا يعتبر صدق الخبر والشهادة إلا من مبرز في العدالة الشرعية. 2- قيام دليل مادي في ساحة المعاصرة على أن الحساب أمر تقديري اجتهادي يدخله الغلط - وذلك في النتائج الحسابية التي ينشرها الحاسبون في الصحف من تعذر ولادة شهر رمضان أو شهر الفطر مثلاً ليلة كذا، ثم تثبت رؤية الهلال بشهادة شرعية معدلة، أو رؤية فاشية في ذات الليلة التي قرروا استحالته فيها.

ومنه ما حدث في هلال الفطر شهر شوال من هذا العام 1406 هـ فإن الحاسبين أعلنوا النتيجة في الصحف باستحالة رؤية هلال شوال ليلة السبت (30) من شهر رمضان. فثبت شرعاً بعشرين شاهداً على أرض المملكة العربية السعودية في مناطق مختلفة في: عاليتها، وشمالها، وشرقها. ورؤي في أقطار أخرى من الديار الإسلامية. فهذا دليل مادي حاضر مشاهد على أن النتائج الفلكية المعاصرة في هذا ظنية وضعيفة ضعفاً غالباً، وهذا في ساعة المعاصرة التي ينادي فيها البعض إلى الاعتماد على الحساب ولا أرى هذا الدليل إلا إعلاناً على عدم صدق شهادة الفلكيين لأنفسهم بأن حسابهم قطعي. 3- ومن شواهد المعاصرة على ذلك أنا رأينا بعض البلدان الإسلامية تعلن الصوم والفطر بموجب الحساب الفلكي، والفارق بينها وبين البلدان التي تثبته بالرؤية يومان أو ثلاثة. فهل يكون في الدنيا فارق في الشهور القمرية الشرعية كهذه المدة؟ وهذا هو عين دخول الخلل في مواسم التعبد مما يقطع كل عاقل بفساده. وقد بسط ابن تيمية رحمه الله تعالى ما يدخل على المسلمين من التلاعب في شعائرهم من جنس ما يحصل من أهل الكتابين وغيرهم، إذ كانت الأحكام عندهم معلقة على الأهلة ثم جعلوها دائرة على السنة الشمسية على اصطلاحات لهم. ومن جنس النسيء الذي كان عند العرب على ضربين: الأول: تأخيرهم المحرم إلى صفر لحاجتهم إلى شن الغارات. والثاني: تأخير الحج عن وقته تحرياً منهم للسنة الشمسية. كما يعلم من تفسير قوله تعالى {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ

بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية. 4- ودليل آخر في ساحة المعاصرة وهو: التضارب الحاصل بالنتائج والتقاويم المنتشرة بحساب المعاصرين، فإنها متفاوتة مختلفة في إثبات أوائل الشهور وما زال اختلافها قائماً في الولاية الواحدة ومن ولاية إلى أخرى. فهذا دليل على دفع يقينيته أو ظنيته الغالبة. 5- أن الطب مثلاً في العصر الراهن بلغ من الدقة والترقي ما هو مشاهد لعموم الناس، ومع هذا فيقع لذوي البصارة فيه ومن دونهم من الخطأ والغلط ما يكون ضحيته نفس معصومة أو منفعة أو عضو محترم، هذا مع أن لوازمه مدركة بالحواس العاملة فيه من سمع وبصر ولمس ... فكيف بحال الحساب الفلكي الذي ما زال عملة نادرة ولم تكن نتيجة فاشية باليقين، ولوازمه غير محسوسة.؟ إذاً فكيف يسوغ التحول من المقطوع بدلالته بحكم الشرع إلى المظنون ومن المتيقن إلى المشكوك في نتيجته. 6- الحساب الفلكي المعاصر قائم على الرصد بالمراصد الصناعية الحديثة والمرصد كغيره من الآلات التي يؤثر على صلاحيته، نتائجها: أي خلل فني فيها قد لا يشعر به الراصد. هذا فيه ظنية من حيث الآلة. ورحم الله الشيخ أحمد شاكر إذ تحوط في بحثه من حيث الراصد فنص على الوثاقة. والله أعلم.

المبحث الثامن في منابذته للشرع

المبحث الثامن في منابذته للشرع وذلك من وجوه: أولاً: حقيقة الشهر عند الفلكيين هي المدة بين اجتماع الشمس والقمر مرتين بعد الاسترسال وقبل الاستهلال. وهذه المدة مقدرة عندهم بمقدار واحد وهو (29) يوماً، (12) ساعة، و (44) دقيقة. وتمثل هذه المدة دورة القمر حول الأرض أي دورته الاقترانية بالشمس بحيث يكون القمر واقعاً بين الأرض والشمس تماماً. وعند اللحظة التي يغادر القمر فيها وضع الاقتران أي ينفصل فيها القمر عن الدائرة الشعاعية ويستمر إلى أن يجتمع معها مرة ثانية حينئذ يبدأ الشهر القمري الفلكي، واعلم أن (الاقتران) عند الفلكيين هو ما يسمى بالمحاق عند المتقدمين، واعلم أنه في: حال الاقتران، لا يرى القمر وذلك لأن نصف القمر المضيء يكون في اتجاه الشمس. ونصفه المظلم يكون في اتجاه الأرض ولكن عندما يتحرك القمر بعيداً عن وضع الاقتران يتغير وضع القمر بالنسبة لسكان الأرض وتظهر حافة القمر لامعة والتي هي: قوس دقيق بشكل هلال. هذه هي حقيقة الشهر عند الفلكيين. وهذا مقداره عندهم.

أما حقيقته الشرعية: فهي الرؤية له عند الغروب أي أول ظهور القمر بعد السواد وهذا بالإجماع حكاه ابن رشد وغيره. ومقدار الشهر القمري الشرعي هو: لا يزيد عن (30) يوماً، ولا ينقص عن (29) يوماً. وعليه فهناك فروق بين الاعتبارات الشرعية والاعتبارات الفلكية في عدة أمور: 1- الشهر يبتدئ عند الفلكيين قبل البدء بالاعتبار الشرعي ونتيجة لذلك فهو ينتهي قبل. 2- الشهر مقدر بوحدة زمنية ثابتة عند الفلكيين هي (29) يوماً و (12) ساعة و (44) دقيقة. أما بالاعتبار الشرعي فهو إما (30) يوماً أو (29) يوماً. 3- أن الشهر يبتدئ باعتبار الشرع بطريق (الحس) والمشاهدة بالعين الباصرة أو بالإكمال بخروج الهلال حقيقة أما باعتبار الفلكيين فهو: بتقدير خروجه لا بخروجه فعلاً. 4- عند الفلكيين لا فرق أن يتم الاقتران والانفصال ليلاً أو نهاراً، فلو حصل الاقتران والانفصال قبيل الفجر فاليوم عندهم هو بعد الفجر مباشرة. ولو حصل أثناء النهار فإن الشهر يبتدئ في اللحظة التالية له. أما باعتبار الشرع فالمعتبر الرؤية بعد الغروب فلو رؤي نهاراً بعد الزوال فهو لليلة المقبلة ولا يصام ذلك النهار الذي رؤي فيه وهذا بلا نزاع بين أهل العلم بل حكي الإجماع عليه، أما إذا رؤي نهاراً قبل الزوال فالجمهور ومنهم الأربعة أنه لا عبرة بذلك ويكون لليلة المقبلة. والله أعلم. ثانياً: دلالة النصوص النصية على أن إثبات أول الشهر بالإهلال أو

الإكمال إذا لم ير الهلال وحال دون منظره قتام أو سحاب. ولو صار اللجوء إلى الحساب الفلكي وقرر الحاسب أن الشهر سيهل بمضي (29) يوماً لصار هذا ملغياً لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإكمال وقاضياً على موجب النص. ثالثاً: إن صاحب الشرع جعل رؤية الهلال خارجاً من شعاع الشمس هو السبب فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي فلا يثبت الحكم فألجأ الشرع إلى سبب شرعي آخر هو: إكمال العدة ثلاثين يوماً التي هي أقصى مدة للشهر القمري بنص الشرع. أما الحساب ففيه منابذة لهذا، إذ جعل تقدير خروج القمر من الشعاع سبباً للصوم، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته "، ولم يقل لتقدير خروجه عن شعاع الشمس. فطالما أن صاحب الشرع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشعر بحصر السبب: الإهمال أو الإكمال ولم ينصب صاحب الشرع الحساب لخروجه سبباً فلا يجب صوم ولا فطر. وهذا معنى ما قرره القرافي في الفروق. والله أعلم. رابعاً: أن الشرع وقَّت أول الشهر بأمر طبعي عام يدرك بالأبصار فلا يضل أحد عن دينه، ولا يشغله مراعاته عن شيء من مصالحه، ولا يدخل بسببه فيما لا يعنيه، ويكون طريقاً إلى التلبيس في دين الله. ويستوي في معرفته أهل الإسلام كافة على اختلاف طبقاتهم. وإثباته بالحساب الفلكي يفقد هذه المحاسن الشرعية كما هو بيِّن لمن تأمله. وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هذا أشد البسط في رسالته كما في: الفتاوى 25 / 134 - 136، 139 - 141. والله أعلم.

المسألة الثانية: في توحيد الرؤية

الخلاصة: إن طريق إثبات أول الشهر شرعاً: بالإهلال أو الإِكمال، وأن إجماع المسلمين منعقد على عدم الأخذ بالحساب في إثبات أوائل الشهور. وأن الخلاف الحاصل: حادث، ثم هو ليس على إطلاقه بل هو مقيد عند من قال به. ثم إنه وقعت في حكايته أغاليط، وأن كلمة المحققين والحفاظ على أن الخلاف الحادث في هذا شاذ تنكبه الأئمة. والله أعلم. المسألة الثانية: في توحيد الرؤية. أن هذه المسألة قد استهلكت من البحوث والدراسات الفردية والجماعية وعلى المستويات الرسمية ما لو جمع لصار في عدة مجلدات. ومنها بحثها في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة لمدة تزيد عن عشرين عاماً وهي تدرس من جلسة إلى أخرى حتى أصدرت الرابطة أخيراً قراراً لها في المجمع الفقهي المتضمن: أنه لا شك في اختلاف المطالع وأن المسألة من مباحث العلم الخلافية. وأن أحوال العالم الإسلامي كما هي معلومة على ما في كتاب (تبيان الأدلة في إثبات الأهلة) ص / 5، 50 - 52 وأن القول بعدم توحيد الرؤية هو مذهب الجمهور منهم الأئمة الثلاثة فلكل قوم رؤيتهم والخلاف للحنابلة واختار جماعة منهم مذهب الجمهور منهم شيخ الإسلام ابن تيمية. وأن حديث كريب مع ابن عباس رضي الله عنهم في صحيح مسلم وغيره يفيد عدم توحيد الرؤية ... ولهذا قرر المجمع على أن أهل كل بلد يتبعون ما يقرره أهل الفتوى فيهم. وأن على المسلمين السعي إلى أساس توحيدهم وجمع كلمتهم في تحكيم شريعة الله وإعلان الحكم بها قولاً وعملاً.

وبمثل هذا قررت: اللجنة الشرعية الفلكية بالأزهر برئاسة شيخ الأزهر محمود شلتوت عام 1379 هـ. وأنه لذلك ولوجود بحوث لدى المجمع كافية في هذه المسألة اقتصرت على هذه الإلمامة وهي خلاصة ما يظهر في هذا الموضوع. وأنه لا ينبغي التهويل والإرجاف في أن اختلاف أهل الأقطار الإسلامية في يومي الصوم والإفطار - مدعاة إلى تفككهم. وأن الواجب هو الالتفات إلى توثيق الأسس من حماية الاعتقاد من أسباب الزيغ والانحراف. وتحكيم الشرع المطهر بين المسلمين وتربية أجيالهم على تعاليمه. وتكثيف دراستها في المدارس النظامية. والله المستعان وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

دلالة البوصلة على القبلة

" 10 " دلالة البوصلة على القبلة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد. فهذا بحث في حكم ودلالة البوصلة على القبلة وبيان البحث فيها إعداداً وصياغة على ما يلي: س: هل البوصلة التي تشير إلى اتجاه الكعبة صحيحة؟؟ وإن كان كذلك نأمل توضيح ذلك - أي حجتها؟ ج: ليعلم أن الجمهور منهم الحنفية والحنابلة، وقول للشافعي والأظهر عند المالكية أنه يكفي البصير القادر استقبال جهة الكعبة باجتهاد وليس عليه إصابة عينها، فيكفيه غلبة الظن أن القبلة في الجهة التي أمامه (1) . لقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} . ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله به قال: " ما بين المشرق والمغرب قبلة " ... رواه الترمذي. ومنها: عمل الصحابة رضي الله عنهم لما سمعوا خبر تحويل القبلة في الصلاة استداروا إلى الكعبة أثناء الصلاة من غير طلب دلالة. ومنها: التوارث وهو أن الناس من عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنوا المساجد

_ (1) المراجع: المغني مع الشرح 1 / 489، الدسوقي 1 / 224، رد المحتار 1 / 287، نهاية المحتاج 1 / 407، 418، الموسوعة الفقهية 4 / 67، تفسير القرطبي بغية الأريب للبنوري ص / 47 - 62 وهو مهم.

في جميع بلاد الإسلام ولم يحضروا قط مهندساً ولا منجماً عند تسوية المحراب. ومنها: أن هذا هو الممكن الذي يرتبط به التكليف إذ الطاعة حسب الطاقة والحرج مرفوع عن هذه الأمة بالنص. ومنها: اتفاق المسلمين على الصف الطويل الذي يُعلم قطعاً أنه أضعاف عرض الكعبة زادها الله مجداً وشرفاً. ومنها: انعقاد الإجماع على صحة صلاة الاثنين المتباعدين يستقبلان قبلة واحدة. [حكاه البهوتي في (كشاف القناع) كما في بغية الأريب ص 56] . ثم ليعلم أن أهل العلم بحثوا مستفيضاً أدلة القبلة من مفسرين ومحدثين وفقهاء على اختلاف مذاهبهم وقد أفاض فيها جمع منهم: العيني في (البناية) 2 / 85 - 92، والبهوتي في (كشاف القناع) ، والبنوري في (بغية الأريب) ص / 31 - 47. وهي على أنواع: 1- أرضية كالجبال والقرى والأنهار. 2- هوائية كالرياح، وهي أضعف الدلائل. 3- سماوية ليلية: النجوم. 4- سماوية نهارية: الشمس. 5- آلية. والأصل في الاستقبال: أن يبنيه المصلي على اليقين إن تحصل له.

المبحث الأول: في حكم إعمال الآلات في الدلالة على القبلة

وإلا فإخبار من يعتمد قوله. وإلا فالاجتهاد بواحد من أدلة القبلة المذكورة كما في (كفاية الأخيار) 1 / 184 - 185. وأشهر مباحثهم فيها على ما يلي. 1- الاستدلال بمحاريب الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين - رحمهم الله - على تفصيل في ذلك (وأنها كانت بالتحري) . 2- بالنجوم وأهمها: القطب والجدي. 3- بالشمس والقمر. 4- بأخبار عارف من أهل البلد. 5- بالآليات المخترعة كالربع المجيب، والمقنطر والاسطرلاب. وهذه الأخيرة هي محل البحث إذ بها يعلم الجواب عن السؤال والبحث فيها يمكن تكييفه في مبحثين: المبحث الأول: في حكم إعمال الآلات في الدلالة على القبلة. المبحث الثاني: فيما تم الوقوف عليه في خصوص البوصلة. أولاً: حكم إعمال الآلات في الدلالة على القبلة: جرى الخلاف في حكم تعلم أدلة القبلة وخلافهم متردد بين الاستحباب والفرض الكفائي والوجوب العيني، وذلك في المذاهب الأربعة، وفي المذهب نفسه منها كما في مذهب الحنابلة مثلاً الاستحباب أو الوجوب كما في (الإقناع والمبدع) وغيرهما.. وقد حشد النقول العلامة البنوري في (بغية الأريب ص / 90 - 93) ومعلوم أن الطاعة بحسب الطاقة. وقد قرر فيه ص / 78 أنه يستفاد من كلام أهل العلم في حكم الاستدلال

بهذه الآلات على القبلة ما يلي: 1- أنه يجوز اعتبار الأدلة الهندسية في باب القبلة والاعتماد بقول الفلكي في محاريب غير الصحابة والتابعين عند الحنفية، وأما عند الشافعية فيجوز الاعتماد بها وإن كان في محاريبهم بل يجب عندهم. 2- أنه يسوغ العمل بالأدلة الهندسية ولا يجب. وفي ص / 90 - 93 نقل نقولاً جمّة عن المذاهب ثم استخلص منها ما يلي ص / 92 - 93: أقول فتحقق لنا من هذه الحقول المبثوثة التي انتقيناها مسائل: منها: أن الأدلة الهندسية معتبرة يسوغ بها العمل لاستخراج سمت القبلة ومعرفة مواقيت الصلاة وغيرها لكنها غير ملزمة. ومنها: أن من تيسر له استعمال تلك الأدلة الفلكية يعمل بها، ويقدمها على سائر أمارات القبلة فإنها تفيد القطعية للعارف بها، وإن لم تفد القطعية فتفيد ظناً أقوى مما تفيده سائر العلامات والأمارات ولابد. ومنها: أن من ترك العمل بتلك القواعد مع العلم بها والقدرة على استعمالها واكتفى بأمارات أخرى في تعيين جهة القبلة والمواقيت جاز، وصحت صلاته فإن الشرع لم يرد بها قط، ولم يوجبها، توسعة على الأمة ورحمة عليها. ومنها: أن معرفة أدلة القبلة من الشمس والقمر والنجوم المشهورة فرض كفاية عند الحنفية، أو واجبة عند إرادة السفر، وهو المختار من مذهب الشافعية من غير تردد كما صرح به الإمام النووي في شرح

المهذب، وعند الحنابلة مستحبة، وقيل عند السفر واجبة، فالمذاهب كلها متقاربة في الحقيقة. ومنها: أنه لا عذر لأحد في عدم معرفة جهة القبلة إذا كنت السماء مصحية فلو صلى رجل بالتحري والسماء مصحية غير مغيمة وخرجت عن الجهة بالكلية لم تصح صلاته وقال ظهير الدين المرغيناني تصح، والأوفق بالدليل هو الأول والأنسب بالسعة والرفق هو الثاني. وفي بغية الأريب ص / 46 بعد ذكر الأدلة التي بها تعرف القبلة وذكر منها بعض الطرق الهندسية قال: (وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم أبعد الخلق عن أمثال هذه التكلفات، وكفى لنا التأسي والاقتداء بهم فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ قد كفوا، وقد قصر دونهم قوم فجفوا، وطمح عنهم أقوام فضلوا وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم) . وقال الدهلوي - رحمه الله - في الحجة البالغة ص / 89 (ولم يكلفهم في معرفة استقبال القبلة وأوقات الصلاة والأعياد حفظ مسائل الهيئة والهندسة وأشار بقوله: القبلة ما بين المشرق والمغرب إذا استقبل الكعبة إلى وجه المسألة) . على أن العمل الصحيح بتلك الآلات المؤدي إلى سكينة صدر وشفاء قلب وثلج يقين منوط على مصادفة الآلات الصحيحة وكثيراً ما رأيناها يخالف بعضها بعضاً مخالفة بينة تورث قلقاً واضطراباً في الأمر وقد تعسر مصادفة الآلات الصحيحة على كل أحد ولا يتيسر إلا نادراً شاذاً فكيف تطمئن به النفوس، وكيف يبنى عليها أمر السمحة الحنيفية البيضاء التي

فيها العالم والعامي سواء وأن التكليف بها تكليف فوق الوسع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها فما ذلك إلا تحجر للرحمة الواسعة. وقال الشافعي رحمه الله تعالى في (الأم) (1) : (ومن كان في موضع لا يرى منه البيت أو خارجاً عن مكة فلا يحل له أن يدعي كلما أراد المكتوبة أن يجتهد في طلب صوب الكعبة بالدلائل من النجوم والشمس والقمر والجبال ومهب الريح وكل ما فيه دلالة القبلة) اهـ. ثم إني رأيت في القواعد للمقري عدة قواعد ذكرها وذكر التفريع عليها فيما نحن بصدده على مشروعية أعمال الآلات في الدلالة على القبلة وهي كما يلي (2) : قاعدة: قال القرافي: (كل ما أفضى إلى المطلوب فهو مطلوب كالعروض والأطوال والقطب والكواكب والنيرين والرياح لإفضائها إلى معرفة القبلة وفيه نظر) . والتحقيق: (كل ما لا يتوصل إلى المطلوب إلا به فهو مطلوب وهذا أخص من ذلك) القواعد للمقري 2 / 426. قاعدة: إذا أثبت الشرع حكماً منوطاً بقاعدة فقد نيط بما يقرب منها وإن لم يكن عينها (3) .

_ (1) 1 / 81. (2) 2 / 426. (3) القواعد للمقري 2 / 413 رقم / 133.

قاعدة: القدرة على اليقين بغير مشقة فادحة تمنع من الاجتهاد، وعلى الاجتهاد تمنع من التقليد، أي من الاتباع إلا بدليل عام، كالمحاريب القديمة.

المبحث الثاني فيما تم الوقوف عليه في خصوص البوصلة

المبحث الثاني فيما تم الوقوف عليه في خصوص البوصلة وتسمى (قطب نما) وتسمى في الهند (قبلة نما) وتسمى في بلاد العرب (الإبرة) في بغية الأريب ص / 93 ما نصه: (تنبيه: من كانت عنده ساعة يعرف بها وقت الصلاة أو آلة يعرف بها سمت القبلة من الآلات التي تسمى (بقطب نما) والتي تسمى (بقبلة نما) في بلاد الهند و (بيت الإبرة) في بلاد العرب ينبغي أن تكفي له عن معرفة أدلة القبلة ومواقيت الصلاة إذا كانت تلك الآلات صحيحة سليمة، وأفادت ظناً عنده في معرفة تلك الأمور فإن غلبة الظن كافية عندهم في أعمال الشرائع وإن لم أر من صرّح به، نعم، قواعدنا الفقهية لا تأباه وقد جرى به العرف وتعامل المسلمين من غير نكير العلماء على ذلك، والله أعلم وعلمه أتم وأحكم) . وقد صرح بها قبل من الشافعية الرملي في (نهاية المحتاج) 1 / 423 - 424. وصرح بها من الحنابلة ابن بدران في تعليقته على (أخصر المختصرات) ص / 22 فقال: (وأما بيت الإبرة المسمى بقبلة ناما فإنه يجوز العمل به إن تكررت

إصابته) اهـ. وقال في (كتاب الفريدة اللؤلؤية) ص / 268 في معرض احتجاجه بالتلغراف قال: (ولهذا نظائر قد اصطلح الناس عليها وعملوا بها في العبادات منها الآلة المسماة ببيت الإبرة التي مهما وضعتها انحرف أحد طرفي عقربها إلى الجنوب وانحرف الآخر نحو الشمال فتعين الجهات الأربع فتعرف بذلك جهة القبلة. وحيث جربت فكانت بعيدة من الخطأ كانت من جملة الأدلة التي يذكرها الفقهاء وعلماء الميقات في كتبهم) اهـ. وقال رشيد رضا في (الفتوى) رقم 720 مجلد 5 / 1985 - 1987 ما نصه: سَمْتُ القبلة، وأدلتها، وأقواها بيت الإبرة، والقطب الشمالي (1) . من صاحب الإمضاء مرسي سيف من اسريجة - منوفية مصر. حضرة الفضيلة السيد محمد رشيد رضا أطال الله حياته. السلام عليكم ورحمة الله. يا صاحب الفضيلة قال بعضنا إن البوصلة (بيت الإبرة) هي العلامة الوحيدة لقبلة الصلاة لأن عقربها لا يقف إلا مقابلاً لبناء الكعبة. فراجعه البعض الآخر قائلاً: إن البوصلة ما وضعت إلا لمعرفة الجهات الأربع (الشمال. الجنوب. الشرق. والغرب) وبها يهتدي الملاحون والطيارون إلى الجهات التي يقصدونها. وعلامة القبلة هي قطب السماء

_ (1) المنار جـ 28 (1927) ص / 657 - 658.

مستدلاً على ذلك بقول سادتنا العلماء في كتب الفقه (شعراً) . قطب السما اجعل حَذو أُذْنٍ يسرى ... بمصر والعراق حذو الأخرى والشأم خلفاً وأماماً باليمن ... مواجهاً تكن بذا مستقبلن * وفسر الحذو أن يجعل القطب قابلاً لثقب الأذن اليسرى. فقال البعض الأول: إن معنى الحذو أن يكون القطب خلف الأذن لا مقابلاً لها، وقال أيضاً: إن كتب الفقه محرفة، وكل واقف للصلاة في محراب الجامع الأزهر يجعل القطب خلف أذنه اليسرى لا مقابلاً لها، ثم قال: إنه لا يصح مخالفة محراب المساجد ولو تبين له بالدليل الشرعي أنه منحرف انحرافاً كبيراً، ثم قال: إنه لو قال كائناً من كان بخلاف ذلك يكون كاذباً ولا يصح الاقتداء به. لذا نرجو التكرم علينا بشرح أقوال الطرفين شرحاً وافياً حتى يتبين لنا الحق فنتبعه، وهل الذي يجعل القطب خلف أذنه بمصر عامداً معتمداً صلاته صحيحة أم لا؟ . الإجابة: إن بيت الإبرة تقف إبرته المشابهة لعقرب الساعة وأحد طرفيها متجه إلى جهة الشمال دائماً وهو الطرف الأخضر القصير والطرف الآخر متجه إلى جهة الجنوب، فيعرف بذلك الشرق والغرب وسائر الجهات غير الأصلية من الخطوط التي ترسم في قاعدتها فيستدل بها على القبلة من يعرف موقعها في كل قطر. والعلم الخاص بذلك علم تقويم البلدان، ولكن الفقهاء يذكرون ذلك في كتبهم، ومنهم من ألف في ذلك رسائل مخصوصة. ومن المعلوم المنصوص في الكتب إن الجنوب قبلة المدينة، والشام والشمال قبلة اليمن، وأما قبلة مصر فهي بين الجنوب والشرق ويقابلها العراق، فقبلتها بين الجنوب والغرب، ويعرف هذا وذاك بخطوط

بيت الإبرة. وأما نجم القطب الشمالي فهو أضبط الأدلة لمعرفة الجهات، لأنه ثابت لا يتغير موقعه في الشمال، فمن استدبره كان متوجهاً إلى الجنوب، لذلك يجعله أهل الشام وراء ظهورهم في صلاتهم إلخ. فعلم من ذلك أن أهل مصر يجعلونه خلف الأذن اليسرى، لأن قبلتهم بين الجنوب والشرق. وحذو الشيء وحذاؤه مقابله وتجاهه لا خلفه، وإنما يكون القطب حذاء ثقب الأذن اليسرى لمن كانت قبلته جهة الجنوب كأهل المدينة المنورة وأهل الشام، وكذلك قال الفقهاء في الكتب التي نعرفها، فصواب الشعر الذي ذكرتموه " خلف أذن يسرى " وإلا فهو خطأ. وأما المحاريب في البلاد الإسلامية، فالمتواتر منها معتمد لا يحتاج فيه إلى اجتهاد، وليس لأحد فيها رأي، ومنها محراب الجامع الأزهر، ولا يعتد بقول من يخالف ذلك، ولا قول من يقول إن كتب الفقه محرفة - هكذا على الإطلاق -، فكثير من كتب الفقه في غاية الضبط والإتقان وما يقع في بعضها من تحريف النساخ أو المطابع فيعرفه الفقهاء، ومنها الأصول المصححة على مصنفيها أو خطوطهم، والمتلقاة بالإجازة والتلقين أحدهما أو كليهما: والله أعلم. انتهى وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

§1/1