فقه المعاملات

عبد العزيز محمد عزام

المقدمات

المقدمات: مقدمة المؤلف: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونتوب إليه ونستغره ونسأله الهداية والتوفيق، نصلي ونسلم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فهذه لمحات من فقه المعاملات، تناولنا فيها هذه الأحام بأسلوب سهل، وعبارة واضحة منتقاه، وترتيب دقيق حتى يسهل علي كل مطلع أن يعرف هذه الأحكام بسهولة ويسر، ويقف على دقة هذا الفقه، ومدى سعته، وشموله وتنظيمه لعلاقة الفرد بخالقه، وعلاقته بالمجتمع الإنساني بأسره.. ولا غرو فإن الفقه الإسلامي يشتمل على الكثير من النظم، والنظريات الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية مما لا نجده في أي تشريع أخر. وسوف نقتصر في بيان هذه الأحكام على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، مع الإشارة إلى المذاهب الأخرى في المسائل الخلافية تتميما للفائدة، وحتى يجد فيها القارئ الكريم بغيته وغايته. والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم. إنه نعم المولى ونعم النصير. المؤلف.

مقدمة الكتاب

مقدمة الكتاب: مدخل لدراسة الفقه على مذهب الإمام الشافعي: كثيرا ما يقع خلاف بين الأئمة فقهاء المذهب بل وفقهاء المذهب الواحد، إذ تختلف آراؤهم في المسألة الواحد تبعا لقوة الدليل الذي يؤيد هذا الرأي، أو ذاك.. وهذا أمر واضح يدركه كل من يتصدى لدراسة الفقه، أو يحاول أن يعالج بعض قضاياه من ينابيعها الأولى، ولهذا الاختلاف أسباب كثيرة من أبرزها، وأهمها تفاوت الفقهاء في فهم النصوص التي تستنبط منها الأحكام، أو أن بعضهم كان يفتي بحكم، ولا يعلم النص الذي يعارض ما ذهب إليه في حين أن غيره قد أخذ بهذا النص -وأفتى بمقتضاه، ومن هنا جاء الاختلاف. ولذلك رأينا بعض الأئمة المجتهدين كالإمام الشافعي، حين قدم من العراق إلى مصر قد رجع عن كثير من آرائه التي دونها في العراق، وما ذلك إلا؛ لأنه قد ظهر له من الأدلة: ما كان خافيا عليه. وإذا كان الخلاف يطول، ويترد في معظم مسائل الفقه وفروعه، فلا بد لدراس الفقه "في المذاهب عامة، وفي دراسة مذهبه بصفة خاصة" أن يعرف أوجه الخلاف ومراتبها، واتجاهاتها وذلك بفهم المصطلحات الفقهية، فإن معرفتها أمر له وجاهته، وأهميته في معرفة توجيه الخلاف، ونسبة الآراء إلى أصحابها، وبذلك تتضح السبل، وتتحدد المعالم، ويسير الدارس في دراسته على بصيرة من أمره، فلا يجهد ولا يتعب ولا يضل، ولا يشقى، والإمام النووي في كتابه المنهاج، وهو يحكي الخلاف في المذهب يعبر عنها تارة بالأظهر أو المشهور، وتارة أخرى بالأصح أو الصحيح، وطورا بالمذهب أو النص، وأزيد المسألة وضوحا فأقول:

إن الخلاف في المذهب إما أن يكون في الأقوال، أو الأوجه، أو الطريق وهو إما أن يكون قويا أو ضعيفا، وقوة الخلاف تتبع قوة الدليل، وضعف الخلاف ناتج عن ضعف الدليل أيضًا. فالأقوال للإمام الشافعي والأوجه والطرق للأصحاب، وهم تلاميذ الإمام الذين أخذوا عنه قواعد المذهب، وتعمقوا في فهمه، وأصبحت لهم اجتهادات، يتفقون فيها مع إمامهم، وقد يختلفون. فإن كان الخلاف في الأقوال قويا عبر عنه بالأظهر، وهنا يوحي بأن المسألة فيها رأيان: أظهر وظاهر، والأظهر أقوى من الظاهر، فإن ضعف الخلاف عبر عنه بالمشهور، ويقابله رأي غريب لغرابة الدليل الذي يؤيده. وأما الأوجه: فهي مسائل استنبطها الأصحاب من كلام الإمام أي أنها أقوال مخرجة للأصحاب، فهي أشبه بمسائل قياسية، وأما الطرق: فهي عبارة عن اختلاف الأصحاب في نقل آراء المذهب التي خلفها المتقدمون، وذلك بأن يحكي أحدهم في المسألة: قولين أو وجهين، أو أكثر فيقطع أخر بواحد، فالاختلاف في الطرق إنما هو في حكاية الآراء. فإن كان الخلاف في الأوجه عبر عنه بالأصح أو الصحيح، والأصح أقوى من الصحيح، وإن كان طرقا عبر عنه بالمذهب، ومعناه الرأي الراجح في الأوجه، أو الأقوال المحكية عن الخلاف. وقد اختار المصنف التعبير بالأظهر، أو المشهور في جانب الإمام دون الأصح، أو الصحيح تأدبا مع الإمام، وذلك؛ لأن التعبير بالأصح أو الصحيح مشعر بفساد ما يقابله، وليس من الأدب أن توصف أقوال الإمام بالفساد، فالمسألة: مجرد إصلاح لا فرق بينهما من حيث المعنى.

وأما النص فهو نص الشافعي، والمراد به الرأي الراجح عنده، ويقابله وجه ضعيف أو قول مخرج من نص له نظير المسألة لا يعمل به، وإذا قال: وقيل كذا فهو وجه ضعيف والأصح أو الصحيح خلافه، وإن قال: وفي قول كذا فالراجح خلافه، وإذا أطلق لفظ الإمام فالمراد به الإمام النووي، وإذا قال: في الجديد فالقديم بخلافه، أو قال في القديم فالجديد بخلافه، والمذهب المعمول به إلا أن ينص في مسألة: فيعمل بها في المذهب القديم، وذلك كامتداد مغيب الشفق الأحمر. والمشور من رواة المذهب القديم أربعة: الكرابيس، والزعفراني، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل، رضي الله عنهم. والمشهور منهم بمصر: المزني، والبويطي، والربيع المرادي، والربيع الجيزي.

في البيع

في البيع مدخل ... الفصل الأول: في البيع. تعريفه: البيع لغة: نقل الملك في العين بعقد المعاوضة، يقال: باع الشيء إذا أخرجه من ملكه، وباعه إذا اشتراه وأدخله في ملكه، وهو من أسماء الأضداد التي تطلق على الشيء، ونقيضه كالقرء، فإنه يطلق على الحيض وعلى الطهر، وكذا شرى إذا أخذ وشرى إذا باع. قال الله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} أي باعوه، وذلك؛ لأن كل واحد من المتبايعين يأخذ عوضا، ويعطي عوضا، فهو بائع لما أعطى ومشتر لما أخذ، فصلح الأسمان لهما جميعا1، قال ابن قتيبة وغيره: يقال: بعت الشيء بمعنى بعته وشريته، والشيء مبيع ومبيوع مثل مخيط ومخيوط. ويقال للبائع والمشتري بيعان -بتشديد الياء، وأباع الشيء عرضه للبيع والابتياع: الاشتراء2. وأما معناه شرعا، فيعرف بتعريفات متعددة، من أحسنها ما ذكره الشيخ قليوبي في حاشيته بأنه عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين، أو منفعة على التأبيد لا على وجه القربة، فخرج بالمعاوضة الهبة، ونحوها إذ لا معاوضة فيها، وبالمالية، عقد النكاح؛ لأنه وإن كان فيه معاوضة إلا أنها ليس معاوضة مالية، وإنما هي حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر، وخرج بملك العين،

_ 1 لكن لغة قريش استعمال باع إذا أخرج البيع عن ملكه، واشترى إذا أدخله فيه، وهو الجاري استعماله الآن، راجع البهجة في شرح التحفة لأبي الحسن علي بن عبد السلام التسولي "ج2 ص2" 2 راجع المختار من صحاح اللغة لمحمد محيي الدين بن عبد الحميد - محمد عبد اللطيف السبكي.

ومنفعته على التأبيد الإجارة؛ لأن الملك في الإجارة ينصب على المنفعة دون العين، فالمستأجر لعين من الأعيان كالسيارة، أو المنزل مثلا لا يملك تملك عينها، وإنما الانتفاع بالعين في مقابلة دفع الأجرة، كما أن المنفعة في الإجارة مؤقتة؛ لأن من شروطها التأقيت، والمراد بالمنفعة المؤبدة في التعريف: بيع حق الممر للماء إذا كان الماء لا يصل إلى محله إلا بواسطة ملك غيره1، وخرج بقوله: لا على وجه القربة: الوقف. فإنه تمليك منفعة مباحة على التأبيد للموقوف عليه، ولكن على وجه القربة. وقد يعرف البيع بأنه تمليك عين مالية، أو منفعة على التأبيد بثمن مالي، وهذا التعريف للبيع الذي هو قسيم الشراء، وقسيم الشيء ما كان مباينا له، واندرج معه تحت أصل كلي، فيكون العقد مكونا من شقين أحدهما البيع الذي يسمى من يأتي به بائعا، ويعرف بأنه تمليك بعوض على وجه مخصوص، ويقابله الشراء الذي هو الشق الآخر الذي يسمى من يأتي به مشتريا، ويعرف بأنه تملك بعوض كذلك، والتعبير بالتمليك والتملك بالنظر للمعنى الشرعي، فإن الربا لا يقبل التمليك والتملك؛ لأنه محظور التعامل فيه شرعا، والتمليك دخول الملك في يد المشتري، وهو لا يحصل بمجرد الإيجاب من البائع بل بقبول المشتري، فلعل المراد بالتمليك ما يحصل به النقل من جانب البائع، وأما قول بعضهم البيع مقابلة مال بمال على وجه مخصوص، ففيه مسامحة تجعل البيع هو المقابلة إذ العقد ليس هو المقابلة، لكنه مستلزمها إلا أن يقال: عقد ذو مقابلة أي يستلزم المقابلة. ولذلك عبر بعضهم عنه بقوله، وشرعا عقد يتضمن مقابلة مال بمال على وجه مخصوص.

_ 1 راجع حاشية المدابغي على الإقناع "ج2 ص2".

وقد يجاب عن هذا الاعتاراض بأنه عقد ذو مقابلة، فهو على حذف مضاف. وقد يطلق العقد على الانعقاد، أو الملك الناشيء عن العقد، كما في قوله فسخت البيع: إذا العقد الواقع لا يمكن فسخه، وإنما المراد فسخ ما ترتب عليه، ويستفاد من كلام الشارح أن للبيع إطلاقات ثلاثة، فهو يطلق على التمليك ويطلق على العقد، وعلى مطلق مقابلة شيء بشيء، وأخيرًا يطلق على الشراء الذي هو التملك. دليل المشروعية: وقد شرع البيع بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة. أما من الكتاب والسنة، فقوله تعالى: {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 1، فالربا حرام، والبيع حلال وليس كل بيع حلال، كما يتوهم من عموم هذه الآية. فإن الألف واللام فيها للجنس لا للعهد، إذ لم يتقدم بيع مذكور يرجع إليه، وإذا ثبت أن البيع عام، فهو مخصوص بما ذكرناه من الربا، وغير ذلك مما نهى عنه ومنع العقد عليه، كالخمر والميتة وغير ذلك مما هو ثابت في السنة، وإجماع الأمة النهي عنه2. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 3، فقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل أي بغير

_ 1 سورة البقرة آية: "275". 2 راجع الجامع لأحكام القرآن للقرطبي "ج3 ص356". 3 سورة النساء آية: "29".

عوض، ولا هبة فذلك باطل بإجماع الأمة، ويدخل ضمن ذلك سائر العقود الفاسدة التي لا تجوز شرعا من ربا أو جهالة، أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير، وغير ذلك فإن كانت الأموال أموال تجارة فذلك جائز، فالاستثناء في الآية منقطع؛ لأن أموال التجارة ليست من جنس الباطل، وقيل: الاستثناء بمعنى لكن أي ولكن كلوا بالتجارة، والتجارة هي البيع والشراء. وأما السنة، فقد روى عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "إنما البيع عن تراض" وخبر سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أنواع الكسب أطيب. قال: "عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور". والمبيع المبرور، هو الذي لا غش فيه ولا خيانة، والغش تدليس يرجع إلى ذات المبيع، والتدليس كتمان عيب السلعة عن المشتري. أما الخيانة: فأعم من ذلك؛ لأنها تدليس في ذات المبيع، أو في صفته، أو في أمر خارج، كأن يصفه بصفات غير صحيحة، أو يذكر له ثمنا كاذبًا1.

أركان البيع

أركان البيع مدخل ... أركان البيع: والأركان مع ركن، وركن الشيء جانبه الأقوى، والأركان هي الأمور التي لا بد منها لوجود العقد في الخارج. وهي ثلاثة: العاقدان والمعقود عليه والصيغة. ولذلك قيل: إن تسمية العاقد ركنا ليست على سبيل الحقيقة، بل هو أمر اصطلاحي؛ لأنه ليس جزءا من ماهية البيع التي توجد في الخارج؛ لأن العقد إنما يتحقق في الخارج بأمرين: الأول الصيغة التي هي الإيجاب والقبول. والثاني: اللفظ الدال على العقود عليه، فالكاف في قول البائع بعتك تدل على المعقود عليه، فيكون ركنا حقيقيا. والحقيقة أنه لا فرق بين العاقد والمعقود عليه، فإن تاء المتكلم في بعت تدل على البائع، كما أن الكاف تدل على المشتري، وإذا فلا فرق بينهما على الإطلاق. وقد عبر المصنف عن هذه الأركان بقوله: وشرط البيع الإيجاب كبعتك وملكتك، والقبول كاشتريت، وتملكت وقبلت، وتعبيره عنها بالشرط هنا خلاف تعبيره في شرح المهذب عن الثلاثة بالأركان، ولعل مراده بالشرط ما لا بد منه، ليوافق ما في شرح المهذب من جعلها ركنًا1. وقد بدأ بالصيغة؛ لأنها الركن الأهم. قال العلامة النووي: والمحلي؛ لأن العاقد، والمعقود عليه لا يتحققان بهذه الصفة أي بصفة كون أحدهما عاقدا، والثاني معقودا عليه، إلا بالصيغة، أما ذاتهما فهي ولاشك متقدمة في الوجود على ذلك؛ لأن ذات العاقدان والمعقود عليه سابقة في الوجود على الصيغة.

_ 1 راجع حاشية الشيخ عميرة على الجلال المحلي "ج2 ص152".

الركن الأول

الركن الأول مدخل ... الركن الأول الصيغة: والصيغة هي الإيجاب القبول، والإيجاب كما عرفت فيما سبق مأخوذ من أوجب بمعنى أوقع، ويكون من البائع الذي منه التمليك، والقبول وهو ممن يصير له الملك، فإذا قال البائع، بعتك هذا الكتاب بكذا فهذا هو الإيجاب، وإذا قال الطرف الآخر قبلت فهو القبول، وإذا قال المشتري بعني هذا الكتاب بكذا، فقال البائع: بعتك، فالأول القبول، والثاني والإيجاب، فالبائع في عقد البيع هو الموجب دائمًا، والمشتري هو القابل تقدم لفظه أو تأخر1. فروع: 1- يجوز أن يتقدم لفظ المشتري على لفظ البائع، كما لو قال: بعني هذا العقار بكذا، فإذا كان بلفظ قبلت، فلا يصح؛ لأنه يستدعي شيئا قبله، فلم ينتظم الابتداء به، وبهذا صرح الإمام والأوجه الصحة في لفظ قبلت، كما جزم به الشيخان في النكاح2 والبيع مثله، وهذا ناظر إلى المعنى والأول ناظر إلى اللفظ. 2- ولو قال: بعني، فقال: بعتك، انعقد البيع في الأظهر، لدلالة بعني على الرضا، والثاني: لا ينعقد، لاحتمال أن يكون لفظ بعني مرادًا به استبانة الرغبة. والمذهب في النكاح القطع بالصحة، والفرق أن النكاح غالبًا يسبقه خطبة، فيتخلف فيه توجيه مقابل الأظهر3. وأشار المصنف بكاف الخطاب في صيغ الإيجاب إلى اعتبار الخطاب فيه، وإسناده لجملة المخاطب، فلا يكفي إسناده إلى بعضه، ولو كان لا يبقى بدونه حتى، ولو أراد التعبير بالجزء عن الجملة مجازًا، بأن قال مثلا: بعت يدك وهذا ما ذهب إليه الأسنوي. أما لو قال: بعت نفسك وأراد الذات صح. والمعتمد أنه يصح إضافته للجزء، إذا أراد به الكل، ولو كان يعيش بدونه4

_ 1 ويرى الأحناف أن الإيجاب ما صدر أولا من أحد طرفي العقد بائعا كان، أو مشتريا، والقبول ما صدر ثانيا، وإن كان بائعا؛ لأن الإيجاب عندهم بمعنى الإثبات، فالأول يريد إثبات العقد بانضمام قول الثاني إليه، فيكون القبول معناه الرضا بما قاله الأول. 2 حاشية الباجوري على ابن قاسم "ج1 ص341". 3 قليوبي وعميرة "ج2 ص153". 4 حاشية البجيرمي "ج2 ص5".

فلو قال: بعت يدك، وأراد بها كله صح البيع، وكذلك إذا قال: بعت عينك وما شاكل ذلك. فلا بد إذن من أن يسند البيع إلى المخاطب، ولو كان نائبا عن غيره، وهو كذلك، فإن لم يسنده أو أسنده إلى موكله، فإنه لا يصح، ومثال ذلك ما إذا قال المشتري للبائع: بعت هذا بعشرة جنيهات مثلا، فيقول البائع: بعت أو قال: بعت موكلك، فقبل فالعقد غير صحيح بخلاف النكاح فإنه يصح، بل لا يصح النكاح إلا به، كما هو مبسوط في الوكالة. ويستثنى من اعتبار الخطاب بيع متولى الطرفين، وكذا قوله: نعم في صورة ما إذا قال المشتري للبائع: بعني هذا الثوب بعشرة جنيهات، فقال البائع: نعم.

الصريح والكناية

الصريح والكناية: وكما ينعقد البيع بصريح اللفظ كبعتك، وملكتك، واشتر مني ينعقد كذلك بالكناية في الأصح، ويكون لفظ البيع كناية إذا احتمل البيع وغيره، ومن ألفاظه جعلته لك بكذا، أو خذه بكذا أو بارك الله لك فيه ناويا البيع، فهذه الألفاظ كما تحتمل البيع تحتمل غيره، ومن ثم فلا ينعقد بها البيع إلا بالنية، ولو في جزء من الصيغة؛ لأنه لا يشترط اقترانها بكل اللفظ خلافا لمن قال بذلك. والثاني: أنه لا ينعقد بلفظ الكناية؛ لأن المخاطب لا يدري أخوطب ببيع أم بغيره، وهذا الرأي مردود عليه بأن ذكر العوض ظاهر في البيع، فوجوده قرينة عليه، وإذا توافرت القرائن الدالة على إرادة البيع، وجب القطع بصحته كما قال الإمام1. وما دام البيع بلفظ الكناية لا ينعقد إلا بالنية، فإنه لو شرط الموكل على الوكيل أن يبيع، ويشهد على البيع، فلا ينعقد جزما؛ لأن الشهود لا يطلعون علي النية. نعم إن توافرت القرائن على إرادة البيع قال الغزالي: الظاهر انعقاده، وأقره عليه في أصل الروضة، وصورة الشرط أن يقول: بع على أن تشهد، فلو قال: بع وأشهد لم يكن الإشهاد شرطًا، صرح بذلك المرعشي، واقتضاه كلام غيره2. والأولى التعليل بالاحتياط؛ لأن ذكر العوض قرينة على النية، فيطلع عليها الشهود3.

_ 1 قليوبي وعميرة على شرح جلال الدين المحلي "ج2 ص154". 2 النهاية لأبي الفضل ولي الدين البصير "ص21". 3 حاشية البجيرمي "ج2 ص8".

شروط الصيغة

شروط الصيغة: ولكن ينتج الإيجاب والقبول أثرهما، ويكون للعقد وجود معتبر شرعًا، يجب أن يتوافر فيه الشروط الآتية: 1- أن يكون القبول على وفق الإيجاب بمعنى أني يكون مساويًا له من حيث النوع والصفة، والقدر والحلول، والتأجيل، فإن كان كذلك دل على توافق الإرادتين، وتلاقي الرغبتين، فإذا لم يوافق القبول، والإيجاب كأن ورد الإيجاب على شيء، والقبول على شيء آخر مثل أن يقول أحدهما: بعتك عقاري هذا بكذا، فيقول الآخر: اشتريت سيارتك بكذا، أو يرد الإيجاب على شيء مفيد بوصف، ويدر القبول على ذلك الشيء مقيدا بوصف آخر مثل أن يقول أحدهما: بعتك داري هذه بألف، فيقول الآخر اشتريتها بخمسائة، أو قال أوجبتك بألف مكسرة، فقبل بألف صحيحة لم يصح العقد، ومحل عدم الصحة ما لم تساو قيمة الصحاح المكسرة، أما إذا تساويا فإنه يصح، كذا قيل، لكن ذكر البرماوي عدم الجواز أيضا، وإن تساوت. وهذه الموافقة قد تكون موافقة حقيقية، وقد تكون ضمنية، فإذا قال: بعتك هذا العقار بألف جنية، فقال: قبلت بهذا، فتلك هي الموافقة الحقيقية، أما إذا قال: بعتك هذه السيارة بألف، فقال: قبلت بألفين، فالبيع في هذه الصورة ينعقد مع وجود هذه المخالفة الصورية؛ لأنها في الواقع موافقة، ذلك أن البائع إذا قبل بألف، فإن موافقته بألفين تكون من باب أولى.

2- أن لا يتخللها كلام أجنبي عن العقد، والكلام الأجنبي هو ما ليس من مقتضيات العقد، كقبض ورد بعيب، ولا من مصالحه كشرط خيار، وإشهاد ورهن، ولا من مستحباته كخطبة، فلو قال المشتري بعد تقدم الإيجاب: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبلت: صح. وهذا على رأي الرافعي، أما المصنف فقد صحح في باب النكاح عدم استحباب الخطبة بين الإيجاب والقبول، لكنه قال: إن ذلك غير مضر كما في النكاح. فإذا تكلم المشتري بكلام أجنبي عن العقد، ولو يسيرا وكان مقارنا لإيجاب البائع بطل العقد، والكلام اليسير يصدق بحرف واحد بشرط الإفهام، وذلك قياسا على الصلاة، ويؤخذ من هذا القياس أنه لا يضر تخلل

اليسير سهوًا أو جهلا إن عذر، والمراد بالعذر، أن يكون ممن يخفى عليه ذلك، وإن لم يكن قريب عهد بالإسلام، ولا نشأ بعيدا عن العلماء؛ لأن هذا من الدقائق التي تخفى1. ولو قارن الكلام الأجنبي صيغة المتأخر منهما، فالذي رجحه العلامة ابن قاسم أنه يضر أخذا من التعليل بالإعراض، ويؤخذ منه البطلان بمقارنة صيغة المتقدم أيضا، واغتفر الكلام اليسير العمد في الخلع، وإن قصد به القطع، والفرق أن ما هنا معاوضة محضة2، أما في الخلف والجعالة، فكل منهما محتمل لجهالة العوض، وإذا كان كذلك، فيغتفر فيه التخلل بالكلام اليسير، ولو عمدًا. 3- ويشترط: أن لا يطول الفصل بينهما بسكوت طويل، وهو ما أشعر بإعراضه عن القبول، فإن طال الفصل بينهما، ولو جهلا أو سهوا، فإنه يضر كما في الفاتحة على المعتمد، بخلاف اليسير، فإنه لا يضر إلا إذا قصد به القطع. 4- ويشترط أن يصر الباديء على ما أتى به من الإيجاب والقبول، وأن يتلفظ كل منهما بحيث يسمعه من بقربه.. وإشارة الأخرس، وكتابته في العقود والدعاوي، والأقارير ونحوها كالنطق بها من غيره، فتصح بها للحاجة3.

_ 1 حاشية البجيرمي "ج2 ص12". 2 قليوبي وعميرة "ج2 ص154". 3 النهاية "ص22".

انعقاد البيع بالمعاطاة

انعقاد البيع بالمعاطاة. والمعاطاة المناولة من عطى يعطي إذا تناول مفاعلة من العطاء، وهو أن يتفاوضا من غير عقد، أي بتسليم وتسلم، ولا يوجد لفظ، أو يوجد لفظ من أحدهما دون الآخر لكن استعملها الفقهاء في مناولة خاصة1. والمشهور من مذهبنا أنه لا تصح المعاطاة في البيع لا في قليل ولا كثير، وبهذا قطع المصنف والجمهور، وهناك وجه مشهور عن ابن شريح أنه يصح البيع بالمعاطاة فيما يعده الناس بيعا؛ لأن الله تعالى أحل البيع، ولم يثبت في الشرع لفظ له، فوجب الرجوع إلى العرف، ولفظة البيع مشهورة، وقد اشتهرت الأحاديث بالبيع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم في زمنه وبعده، ولم يثبت في شيء منها مع كثرتها اشتراط الإيجاب والقبول2. وقد جرت العادة بين الناس بصحة بيع المحقرات، وأما النفيس فلا بد فيه من الإيجاب والقبول، ومعرفة المحقر والنفيس من الأشياء مرجعه العرف الجاري، فما عده من الحقرات صح فيه البيع، وإلا فلا. وهذا هو المشهور تفريعًا على صحة المعاطاة. وحكى الرافعي وجهًا، أن المحقر دون نصاب السرقة، وهذا شاذ ضعيف، بل الصواب أنه لا يختص بذلك، بل يتجاوز إلى ما بعده أهل العرف بيعًا3. قال شارح المنهاج: وقيل ينعقد بها في المحقر، أي ينعقد البيع بالمعاطاة في الأشياء التي تكون قيمتها زهيدة لا يأبه بها كرغيف خبز، وحزمة بقل،

_ 1 المصباح المنير "ج2 ص497". 2 للجموع شرح المهذب "ج9 ص172". 3 المرجع السابق "ج9 ص173".

والبقل كل نبات اخضرت له الأرض، وقيل: في كل ما يعد فيه بيعا بخلاف غيره كالدواب والعقار، واختاره المصنف في الروضة وغيرها. ويتحصل من ذلك أن بيع المعاطاة فيه ثلاثة آراء: الأول: أنه غير صحيح لحديث ابن ماجه، وغيره: "إنما البيع عن تراض"، والرضا خفي، فاعتبر ما يدل عليه من اللفظ، ومثل اللفظ الكتابة والإشارة، فلا ينعقد البيع من غير إيجاب، وقبول لا فرق في ذلك بين المحقرات كالخبز، واللحم وقليل الفواكه وغيرها كالعقارات والسيارات، والدواب؛ لأن البيع اسم للإيجاب والقبول، لا مجرد فعل بتسليم وتسلم. الثاني: ينعقد في المحقرات مثل الخبز والبقل واللبن، والفاكهة وسائر الاحتياجات اليومية المتكررة. الثالث: ينعقد في كل ما يعد فيه بيعا أي أن كل ما اعتاده الناس، وتعاملوا فيه وصححوا بيعه من غير إيجاب، وقبول فهو صحيح؛ لأن العرف أصل من أصول الشرع. حكم المأخوذ بالمعاطاة: وعلى القول المشهور بعدم صحة بين المعاطاة مطلقًا، فإن المأخوذ بها فيه ثلاثة أوجه: الوجه الأول: وهو أصحها، أنه يأخذ حكم المقبوض ببيع فاسد، فيطالب كل واحد منهما الآخر برد ما أخذه إن كان باقيًا، أو بدله إن كان تالفا، فإن كان الثمن الذي قبضه البائع مثل القيمة، فالغزالي في الإحياء يقول: هذا مستحق ظفر بمثل حقه، والمالك راض فله تملكه لا محالة، وظاهر كلام المتولى، وغيره أنه يجب رده مطلقا.

الوجه الثاني: أن هذا إباحة لازمة لا يجوز الرجوع فيها، وهو وجه ضعيف؛ لأنه لو كان إباحة لكان له الرجوع، كما لو أباح كل واحد منهما لصاحبه طعامه، وأكل ِأحدهما ولم يأكل الآخر، فإن للآكل أن يرجع عن الإباحة، ويسترد طعامه بلا خلاف. أما هنا فلو أتلف أحدهما ما آخذه، وبقي مع الآخر ما أخذه لم يكن لمن تلف في يده أن يسترد الباقي في يد صاحبه من غير أن يغرم له مذل ما تلف عنده، وهذا معناه أنه ليس من الإباحة في شيء. الوجه الثالث: أن العوضين يستردان، فإن تلفا فلا مطالبة لأحدهما، ويسقط عنهما الضمان، ويتراد منهما بالتراضي، وهذا القول مردود على صاحبه؛ لأنه لا يرى ذلك في سائر العقود الفاسدة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن إسقاط الحقوق طريقة اللفظ، كالعفو عن القصاص والإبراء من عن الديون، فإن أقمنا التراضي مقام اللفظ في الإسقاط، وجب أن نقيمه في انعقاد العقد. وهذا الخلاف المذكور في المعاطاة في البيع يجري في الإجارة، والرهن، والهبة ونحوها، أما صدقة التطوع والهدية، فعلى القول بصحة بيع المعاطاة، فهما أولى بذلك من البيع، وعلى القول بعدم الصحة، فالأصح عند جمهور فقهاء المذهب أنه لا يشترط فيهما الفظ، وحجتهم في ذلك، أن الهدايا كانت تحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذها، ولا لفظ هناك، وعلى هذا جرى الناس في جميع الأمصار، فقد كانوا يبعثون الهدايا على أيدي الصبيان الذين لا عبارة لهم. اعتراض وجوابه: فإن قيل بأن هذا من قبيل الإباحة، ولا يسمى هدية، ولا تمليكا أجيب عن ذلك بأنه لو كان باحة ما تصرفوا فيه تصرف الملاك، ومعلوم أن ما قبله النبي صلى الله وعليه وسلم من الهدايا، كان يتصرف فيه، ويملكه غيره. ويمكن أن يحمل كلام من اعتبر الإيجاب، والقبول على الأمر المشعر بالرضا دون اللفظ، والإشعار بالرضا يكون لفظا ويكون فعلا، فالعبرة بالرضا في كل ما تقدم، والتسليم والتسلم دليل على الرضا، وقد قالوا: العبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ.

الركن الثاني: العاقد

الركن الثاني: العاقد: وإذا أطلق العاقد انصرف إلى البائع والمشتري؛ لأن كلا منهما له دخل في تحصيل التمليك بالثمن، والشروط التي ذكرها المصنف أربعة: الأول والثاني منهما عام يصدق على البائع والمشتري، والثالث والرابع خاصان بالمشتري، وفيما يلي نتكلم عن شروط العاقد، ثم شروط المعقود عليه1. شروط العاقد: والعاقد كما قال البجيرمي في حاشيته هو من له دخل في تحصيل التمليك بالثمن، وهو صادق بكل من البائع، والمشتري أو غيرهما. وشرطه الأول: إطلاق تصرف، والمراد بالمطلق التصرف من أذن له الشارع في التصرف، فيدخل فيه الولي في مال موليه، وكونه لا يتصرف إلا بالمصلحة قدر زائد على إطلاق التصرف، وعبارة الشوبري إطلاق التصرف صحته ولو بالبيع، فلا يصح عقد الصبي والمجنون، ولو أذن له الولي في التصرف لقوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يكبر، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يعقل، أو يفيق"، ومن حجر عليه بسفه أو فلس لا يصح تصرفه بالنسبة لبيع عين ماله، أما شراؤه بثمن في

_ 1 حاشية البجيرمي على المنهج ج2، ص14.

الذمة فيصح، من بلغ غير مصلح لدينه وماله، لا يصح تصرفه، قال البغوي: الصلاح في الدين أن يكون مجتنبا للفواحش، والمعاصي المسقطة للعدالة. الشرط الثاني: عدم إكراه بغير حق، فلا يصح عقد مكره في ماله بغير حق لعدم رضاه قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، ومحله إن لم يقصد إيقاع البيع، وإلا صح كما بحثه الزركشي أخذا من قولهم لو أكره على إيقاع الطلاق، فقصد إيقاعه صح القصد، فالصريح في حق المكره كناية، كما ذكروه في الطلاق1. فإن كان الإكراه بحق صح عقده، وذلك كان توجه عليه بيع ما له لو فاء دين أو شراء مال أسلم إليه فيه، ومن الإكراه بحق أن يكون عنده طعام يحتاج إليه الناس، فيكرهه الحاكم على بيع الزائد على كفاية سنة، ويفهم من ذلك أنه لا يصح لو باعه، أو اشتراه بإكراه غير الحاكم، ولو كان المكره مستحق الدين، وهو ظاهر؛ لأنه لا ولاية له، نعم إن تعذر الحاكم، فتتجه الصحة بإكراه المستحق أو غيره ممن له قدرة عليه؛ لأن المراد إيصال الحق لمستحقه، ولصاحب الحق أن يأخذ ماله، ويتصرف فيه بالبيع، وإن لم يكن من جنس حقه، ويحصل حقه به، وأن يتملكه إن كان من جنس حقه؛ لأنه ظافر، ومنه ما يقع في مصر من أن بعض الملتزمين في البلد يأخذ غلال الفلاحين لامتناعهم من أداء المال الواجب عليهم، فيصح البيع2. ويصح عقد مكره في مال غيره بإكراهه؛ لأنه أبلغ في الإذن3.

_ 1 راجع حاشية البجيرمي "ج2 ص15". 2 المرجع السابق "ج2 ص16". 3 حاشية الباجوري على ابن قاسم "ج1 ص338".

الشرط الثالث: إسلام من يشتري له مصحفا، أو كتب حديث، أو علم فيها آثار السلف، والمراد بالمصحف هنا ما فيه قرآن مقصود، ولو قليلًا كرسالة أو تميمة، وأجاز ابن عبد الحق التميمة، والرسالة اقتداء بفعله صلوات الله عليه، وخرج بالمقصود ما كان على جدار أو سقف، وثوب أو نحوهما1، فلا يصح لكافر أن يتملك شيئا من ذلك بالبيع، أو بغيره ولو بوكالة مسلم عنه؛ لأن الملك يقع له، لما في امتلاكه للقرآن، وكتب الحديث، وآثار السلف من الإهانة، وكذلك لا يصح للكافر أن يستخدم مسلما لما في استخدامه للمسلم من الإذلال، وقد قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} . وعبر بالإذلال في جانب المسلم، وبالإهانة في جانب المصحف؛ لأنه يعتبر في حقيقة الإذلال أن يكون للمذلول شعور يميز به بين الحسن والقبيح، والمرتد له حكم المسلم فيما تقدم، لبقاء علقة الإسلام فيه، وعلقة الإسلام كما قال البرماوي: وجوب مطالبته بما مضي حال ردته من الصلاة، والصوم ونحو ذلك، ولا مانع من مطالبته بالإسلام، فإذا طولب به وأسلم، فلا يبقى تحت يد الكافر2. وخرج بملك المصحف وما بعده، إجارتها أو إعارتها ورهنها، فتقع صحيحة لكن من الكراهة في العقد على العين على كل لا تسلم العين إليه، بل يقبضها عن الحاكم، ثم يأمره وجوبا بإزالة ملكه عنها في إجارة العين، ويمنعه من استخدام المسلم لما فيه من الإذلال له كما قدمنا. ويشترط: عدم حرابة من يشتري له عدة حرب كسيف، ورمح ونشاب،

_ 1 قليوبي وعميرة "ج2 ص156". 2 حاشية البجيرمي "ج2 ص17".

وترس ودرع وخيل، ومثل الخيل السفن إذا كانوا يقاتلون عليها في البحر، فلا يصح شراء شيء من ذلك لحربي؛ لأنه يستعين به على قتالنا، فالمنع منه لأمر لازم لذاته، وهو الاستعانة على قتالنا بخلاف الذهني، وقاطع الطريق؛ لأنهما في قبضتنا، ولسهولة تدارك أمرهما، وليست الحرابة متأصلة في الذمي، ما لم يعلم أنه يدسه لأهل الحرب، فإن علم منه ذلك لم يصح شراؤه خلافا لمن قال بحرمة الشراء مع الصحة، وبخلاف غير عدة الحرب، ولو بما تصنع منه كالحديد، إذ لا يتعين جعله عدة حرب، لكن لو أخبر معصوم أنهم سيجعلونه عدة حرب، فيكون بيعه لهم غير صحيح، وهو محتمل وشراء البعض من ذلك كشراء الكل، وسائر التملكات كالشراء، ويكره للمسلم بيع المصحف؛ لأن في ذلك نوع امتهان، حيث جعل المصحف كالسلع التي تعرض للبيع والشراء، والمراد بالصحف هنا خالص القرآن، فخرج به المشتمل على تفسيره، وإن كان التفسيره أقل من القرآن أو أكثر، وكتب العلم والحديث، ولو قدسيا فلا يكره بيع شيء من ذلك، وكما يكره بيع المصحف يكره كذلك شراؤه، قيل: وثمنه مقابل لدفتيه، وقيل: بدل أجرة نسخة، وقيل: يكره البيع دون الشراء، وهو المعتمد لما في الأول من الإعراض، وإزالة الملك، ولما في الثاني من الرغبة والتحصيل، وشتان ما بين القصدين. وقد أجاز ابن عبد الحق بيع الرسالة، والتميمة لكافر اقتداء بفعله صلوات الله عليه، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أرسل الكتب إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام، ولا شك أنها كانت مشتملة على بعض القرآن، فصح البيع لذلك، وإذا نقش قرآن على جدار، أو سقف أو ثوب وبيع معها، فلا شك أنه غير مقصود، وفي هذه الحالة لا مانع من أن يكون المشتري غير مسلم.

استخدام الكافر للمسلم. وإذا كنا قد منعنا بيع القرآن لغير المسلم لما ذكرنا، فهل يصح للكافر أن يستخدم مسلمًا؟، وأحب في هذا المقام أن أبين أن كلام الفقهاء في هذه المسألة انصب على شراء الكافر للمسلم، فهو قد منعوا لما في امتلاكه له من الإذلال، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} . فهذا لا يصح، ولا يجب أن يكون، اللهم إلا إذا كان الكافر أبا أو ابنا، فيصح له أن يشتري المسلم ليعتقه، فإذا اشتراه ليعتقه، فلا ضير على المسلم في ذلك لانتقاء الإذلال حينئذ، وإن كان هناك رأي آخر يمنع من شرائه له في هذه الحالة؛ لأنه في رأية لا يخلو من الإذلال1. والمرتد له حكم المسلم فيما تقدم لبقاء علقة الإسلام فيه، وعلقمة الإسلام تظهر في وجوب مطالبته بالإسلام حال ردته، فإذا طولب وأسلم، فلا يبقى تحت يد الكافر2. ولنا الآن أن نتسأل هل هذا الحكم يسري على استخدام الكافر للمسلم؟ وللإجابة عن هذا السؤال نقول: إنه ينبغي أن نفرق بين أمرين: الأول: إذا كان الغرض خدمة المسلم للكافر في شئونه الخاصة في المنزل، أو في خارج المنزل، فلا شك أن الإذلال قد تحقق، فالمسلم خادم والكافر مخدوم أي عبد، والكافر سيد له الأمر والنهي، وفي ذلك ما فيه من ضعف العزة والسيادة في الأرض {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} .

_ 1 راجع المنهاج "ج2 ص156". 2 راجع حاشية البجيرمي "ج2 ص17". والبرماوي على الغاية لابن قاسم.

الأمر الثاني: أن المسلم إذا كان يحترف عملا شريفا، ويتقن صنعة لها قيمة في حياة الناس، فلا ضير عليه أن يعمل عند الكافر؛ لأنه لا يعيش عالة، وإنما يأكل من كد يمينه، وعرق جبينه، وفي هذه الحالة لا ينال من الكافر لا في خلقه ولا دينه، وقد صرح بعض الفقهاء بالمنع، ولعله قصد الحالة الأولى حالة استئجار الكافر للمسلم، أو للمصحف وما في حكمه، فإن الإجارة تقع صحيحة لكن مع الكراهة، فإذا أراد أن يتسلم العين، فلا تسلم له بل يقبضها الحاكم عنه، ثم يأمره، وجوبا بإزالة ملكه عنها في إجارة العين، ويمنعه من استخدام المسلم لما فيه من الإذلال1. آراء الفقهاء في بيع المصاحف: للفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أراء: الأول: رخص في شرائها وكره بيعها، وقد كان أصحاب رسول الله، يكرهون بيع المصاحف، وفي ذلك روى البيهقي بإسناده عن ابن عباس، ومروان بن الحكم أنهما سئلا عن بيع المصاحف للتجارة، فقالا: لا نرى أن تجعله متجرًا، ولكن ما عملت بيديك فلا بأس به، وروى أيضا بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير: "اشتره ولا تبعه"، وهذا إن صح، فإنه يدل على جواز بيعه مع الكراهة، والكراهة هنا للتنزيه تعظيما للمصحف عن أن يبذل بالبيع، أو يجعل متجرا. والثاني: كره البيع والشراء، وبه قال ابن مسعود. والثالث: يرى صحة بيع المصحف، وشرائه وإجارته، ونسخه بالأجرة.

_ 1 راجع حاشية قليوبي على المنهاج "ج2 ص156".

لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه سئل عن بيع المصاحف، فقال: لا بأس يأخذون أجور أيديهم؛ ولأنه طاهر منتفع به، فهو كسائر الأموال. والصحيح من المذهب: أن بيعه مكروه دون الشراء، وهو نص الشافعي في كتاب اختلاف علي، وابن مسعود، وبه قطع البيهقي، لما في بيعه من الإعراض وإزالة الملك، ولما في الشراء من الرغبة في تحصيل منافعه العظيمة، وآثاره الطيبة وشتان ما بينهما1. ومع هذا فالحاجة تدعو إلى شرائه وبيعه، وإذن فلا بأس في بيعه، والله أعلم. الشرط الرابع: عصمة المشتري إذا كان المبيع سلاحًا: فالمعدات الحربية التي تستخدم في ميدان القتال برا وبحرا، وجوا حتى البدائية منها كالسيف والدرع والرمح، والنشاب وغيرها وكذلك الخيل، فهذه المعدات محذور بيعها لحربي، فإن الحربي ليس بيننا وبينه عهد، ولا ذمة تمنعه من قتالنا، فإذا أجزنا له شراء مثل هذه الأسلحة، فإنه يستعين بها على قتالنا. أما الذمي وقاطع الطريق، فإن حكمهما يختلف، فيصح البيع لهما؛ لأنهما في قبضتنا، فيسهل تدارك الأمر إذا سولت لهما أنفسهما قتالنا؛ ولأن الذمي ليس الحرابة متأصلة فيه، وهذا حكمه ما لم يخن العهد والذمة، فإن خانهما، وعلمنا أنه يدسه لأهل الحرب، فإنه يأخذ حكم الكافر الحربي. أما ما تصنع منه أدوات الحرب كالحديد، أو ما يستخدم وقود للسيارات والطائرات، فإن حكمه يختلف، فإن أخبر معصوم أنهم سيجعلونه عدة حرب لقتالنا، فيكون حمكه حكم بيع آلات الحرب وإلا فلا.

_ 1 راجع المجموع شرح المهذب "ج9 ص272-273".

الركن الثالث: المعقود عليه

الركن الثالث: المعقود عليه: وهو المال المقصود نقله من أحد العاقدين إلى الآخر، ثمنا كان أو مثمنا، واعلم أن النقد يكون ثمنا دائما والمبيع مقابلة، وإن دخلت عليه الباء، فإذا قلت: بعتك هذا الدينار بعشرة أقلام، فالدينار هو الثمن والعشرة أقلام مقابل الثمن، أما إذا كان الثمن والمثمن نقدين، أو عرضين فالثمن ما دخلت عليه الباء، والمبيع مقابله، ومثال ذلك ما إذا قلت: بعتك هذا الثوب بحقيبة، فالحقيبة هي الثمن والثوب في مقابله1. شروط المعقود عليه: والمعقود عليه هو المثمن والمثمن، وله شروط خمسة: أن يكون طاهرًا، وأن يكون منتفعا به، وأن يكون للعاقد عليه ولاية، وأن يكون قادرًا على تسلميه، وأن يكون معلوما للعاقدين عينا، وقدرا وصفة، وقد ذكر السبكي أن هذه الخمسة ترجع إلى شرطين فقط، وهما كونه مملوكا منتفعا به؛ لأن القدرة على التسليم والعلم به، وكون الملك لمن له العقد هي في الحقيقة شروط في العاقد، وشرط الطهارة ستغني عنه بالملك؛ لأن النجس غير مملوك، وأجيب عن ذلك بأن هذه أمور اعتبارية تارة تعتبر مضافة للعاقد، وتارة تعتبر مضافة للمعقود عليه2، وفيما يلي نتناول هذه الشروط بالبيان والإيضاح: الشرط الأول: أن يكون المعقود عليه طاهرا: والأعيان الطاهرة ضربان: ضرب لا منفعة فيه، وضرب فيه منفعة،

_ 1 راجع حاشية المدابغي على الإقناع للخطيب "ج2 ص3". 2 حاشية البجيرمي "ج2 ص19".

فأما الذي لا منفعة فيه، فهو كالحشرات والسباع التي لا تصلح للاصطياد، والطيور التي لا تؤكل، ولا تصطاد كالرخصة، والحدأة، وما لا يؤكل من الغراب، فلا يجوز بيعه؛ لأن ما لا منفعة فيه لا قيمة له، فأخذ العوض عنه من أكل المال بالباطل، وبذل العوض فيه من السفه. وأما ما فيه منفعه، فلا يجوز بيع الحر منه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "قال ربكم: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمة خصمته "أي خلجته1 وغلبته" رجل أعطى بي، ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه، ولم يوفه أجره". وما عدا ذلك من الأعيان الطاهرة المنتفع بها في المأكل والمشرب، والملبس والأراضي والعقارات، فيجوز بيعها، لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على بيعها من غير إنكار2 على صحة بيع كل ما كان طاهرا، أو أمكن تطهيره بغسله، فلا يصح بيع النجس. والنجس إما أن يكون نجس العين، أو نجس بملاقاة نجاسة، فأما نجس العين فلا يجوز بيعه، وذلك مثل الكلب والخنزير، والخمر والسرجين3، وما أشبه ذلك من النجاسات، والأصل فيه ما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى حرم بيع الخمر والميتة، والخنزير، والأصنام". وروى ابن مسعود وأبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن ثمن الكلب"، فنص على

_ 1 خلجت الشيء خلجها من باب قتل انتزعته، واختلج العضو اضطراب "راجع المصباح المنير ج1 ص212". 2 المهذب: لأبي إسحاق الشيرازي "ج1 ص261-262". 3 السرجين: الزبل وهي كلمة أعجمية فعربت قال الأصمعي: لا أدري كيف أقوله، وإنما أقول: الروث. المصباح المنير ج1 ص223.

الكلب والخنزير والخمر والميتة، ويقاس عليها سائر الأعيان النجسة. وأما اقتناؤها فينظر فيه، فإن لم يكن فيها منفعة مباحة كالخمر، والخنزير والميتة والعذرة لم يجز اقتناؤها لما روى أنس، قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر تصنع خلا فكرهه، وقال: "اهرقها"؛ ولأن اقتناء ما لا منفعة فيها سفه فلم يجز، فإن كان فيه منفعة مباحة كالكلب جاز اقتناؤه للصيد والماشية، والزرع لما روى سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتنى كلبا إلا كلب صيد، أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان"، وفي حديث أبي هريرة إلا كلب صيد، أو ماشية أو زرع؛ لأن الحاجة تدعو إلى الكلب في هذه المواضع فجاز اقتناؤه، وهل يجوز اقتناؤه لحفظ الدواب؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز للخبز. والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا حاجة به إليه، وهل يجوز اقتناء الجرو للصيد، والزرع والماشية فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ليس فيه منفعة يحتاج إليها. والثاني: يجوز؛ لأنه إذا جاز اقتناؤه للصيد جاز اقتناؤه لتعليم ذلك، وأما السرءجين فإنه يكره اقتناؤه، وتربية الزرع به لما فيه من مباشرة النجاسة. وأما النجس بملاقاة النجاسة: فهو الأعيان الطاهرة إذا أصابتها نجاسة، فينظر فيها، فإن كان جامدًا كالثوب وغيره جاز بيعه؛ لأن البيع يتناول الثوب، وهو طاهر، وإنما جاورته النجاسة، وإن كان مائعا نظرت، فإن كان مما لا يطهر كالخل لم يجز بيعه؛ لأنه نجس لا يطهر بالغسل، فلم يجز بيعه كالخمر، والثاني: يجوز بيعه؛ لأنه يطهر بالماء فأشبه الثوب، فإن كان دهنا فهل يطهر بالغسل فيه وجهان: أحدهما: لا يطهر؛ لأنه لا يمكن عصره من النجاسة، فلم يطهر كالخل وهو الأصح، والثاني: يطهر؛ لأنه يمكن

غسله1 بأن يصب عليه في إناء ماء يغليه، ويحرك بخشبة حتى يصل إلى جميع أجزائه، وهو مردود بحديث الفأرة: فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن الفأرة تموت في السمن. فقال: "إن كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فأريقوه"، فلو أمكن تطهيره شرعا لم يقل فيه ذلك، وعلى إمكان تطهيره قيل: يصح بيعه قياسا على الثوب المتنجس، والأصح المنع عملا بالحديث الذي سبق ذكره، ويجري الخلاف في بيع الماء النجس؛ لأن تطهيره ممكن بالمكاثرة، وجزم بعضهم بالمنع، وقال: إنه ليس بتطهير بل يستحيل ببلوغه قتلين من صفة النجاسة إلى الطهارة2، كطهارة الخمر بالتخلل، وجلد الميتة بالدباغ، وقد يقال: هذا قياس مع الفارق؛ لأن الماء من جنس الطاهر بخلاف الخمر3. والحاصل أن فيه: قولين ضعيفين: القول بإمكان طهره، والقول بصحة بيعه، والثاني: مبني على الأول. الشرط الثاني: أن يكون منتفعًا به انتفاعا شرعيا، ولو في المستقبل كالجحش الصغير، فلا يصح بيع ما لا ينتفع به بمجرده وإن تأتي النفع به بضمه إلى غيره كحبتي حنطة، إذ عدم النفع إما للقلة مثل حبتي الحنطة ففيها منفعة، ولكن لا يعتد بها شرعا، ولذا فإنه لا أثر لوضعها في فخ للاصطياد، وإما أن يكون عدم النفع راجع إلى الخسة كالحشرات الضارة، وهي دواب الأرض كالحية والعقرب والفأرة، إذ لا نفع فيها يقابل بمال أي لا

_ 1 المهذب لأبي إسحاق الشيرازي "ج1 ص262". 2 قليوبي وعميرة "ج2 ص157". 3 حاشية البجيرمي "ج2 ص21".

نفع يعتبر ويقصد شرعا بحيث يقابل بمال. فالمدار أن يكون فيه منفعة مقصودة معتد بها شرعا بحيث يقابل بالمال، وقد علل الرافعي عدم صحة بيع ما لا منفعة فيه، بأن أخذ المال في مقابلته قريب من أكل المال بالباطل، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 1. فلا يجوز بيع سباع لا تنفع كأسد وذئب ونمر، وما في اقتناء الملوك لها من الهيبة، والسياسة ليس من المنافع المعتبرة بخلاف ما ينفع منها كضبع للأكل، وفهد للصيد، وفيل للقتال. والسبع هو كل حيوان مفترس، وهو لا نفع فيه؛ لأنه لا يؤكل ولا يصطاد ولا يقاتل عليه، ولا يتعلم ولا يصلح للحمل، وأما السياسة: فهي إصلاح أمور الرعية، وتدبير مصالحهم، قال في المختار: يقال ساس الناس أصلح أمورهم. فروع: لا يصح بين ألات اللهو والمحرم كالطنبور والمزمار، إذ لا نفع بها شرعا، وإن تمول رضاخها2، وقيل: يصح بين آلات اللهو، إن عد رضاخها مالا؛ لأن فيه نفعا متوقعا، ورد بأنها على هيئتها لا يقصد منها غير المعصية، ومثلها في عدم الصحة الصور والصلبان، ولو من ذهب أو فضة أو حلوى، لكن قال شيخنا بصح بيع صور الحلاوة؛ لأن المقصود منها الرواج. وقال الرافعي: الوجهان فيها يجريان كما في الصلبان والصور، ثم الحكم ثابت ولو كانت من الجواهر النقية، ثم لا يخفى أن من الصور ما يجعل من الحلوى بمصر

_ 1 الآية رقم "29" من سورة النساء. 2 رضاض الشيء: ما تكسر منه: من رضضته رضا: كسرته. المصباح ج1 ص271.

على صور الحيوان، وقد عمت به البلوى ببيع ذلك وهو باطل، قال في شرح المهذب، وكذب الكفر والسحر والفلسفة1. وصح بيع الماء على الشط أي جانب النهر، والتراب بالصحراء، ولكن بشرط أن يجوز الماء في قربة مثلا، ويكوم التراب كما قيد بذلك المحلى، فإذا باع قربة ماء مثلا على شط البحر، أو عربة رملي من الصحراء جاز ذلك على الأصح لظهور المنفعة فيهما، ولا يقدح في ذلك ما يقال من إمكان تحصيل مثلهما بلا تعب، ولا مؤنة وبحث بعضهم تخصيص الخلاف بما إذا لم يتميز للبيع بوصف زائد كبرودة الماء، ونعومة التراب وإلا فيصح بلا خلاف، وهذا يفيد أنه لو برد الماء، أو غربل التراب مثلا صح بيعه مطلقًا. الشرط الثالث: القدرة على تسليم المبيع: فلا يجوز بيع ما لا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء, والسمك في الماء، والجمل الشارد والفرس العائر، والمال المغصوب في يد الغاصب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع الغرر" وهذا غرر، ولهذا قال ابن مسعود: لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر؛ ولأن القصد بالبيع تمليك التصرف، وذلك لا يمكن فيها لا يقدر على تسليمه2 نظرا الحيلولة المنفعة فيه، نعم يصح بيع المغصوب لمن يقدر على انتزاعه بلا مؤنة، فمتى كان البائع قادرًا على التسليم، والمشتري على التسلم صح البيع جزما، وإن كان عاجزا عنه، وكان المشتري قادرا على التسلم صح على الصحيح نظر إلى وصول المشتري إلى المبيع الثاني: لا يصح نظرا إلى عجز البائع بنفسه، ويستثنى من عدم

_ 1 قليوبي وعميرة "ج2 ص158"، حاشية البجيرمي "ج2 ص22". 2 المهذب، لأبي إسحاق الشيرازي "ج1 ص263".

صحة بيع الطير الطائر النحل الموثوقة أمه بأن تكون في الكوارة1، فيصح بيعه وفارق بقية الطيور بأنه لا يقصد بالجوارح، وبأنه لا يأكل عادة إلا مما يرعاه2. والعجز عن تسليم المبيع، إما أن يكون حسا أو شرعا، ويتحقق العجز الحسي في بيع ما لا يقدر على تسليمه فعلا، كالمغصوب والضال، وما لم يستقر ملكه عليه كبيع الأعيان المملوكة، وغيرها من المعاوضات قبل القبض لما روي أن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله إني أبيع بيوعا كثيرة، فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال: "لا تبع ما لا تقبضه"؛ ولأن ملكه عليه غير مستقر؛ لأنه ربما هلك فانفسخ العقد، وذلك غرر من غير حاجة، ويتحقق العجز عن التسليم شرعا. في بيع جزء معين من شيء نفيس ينقص قيمته، أو قيمة الباقي بقطعه كجزء ثوب نفيس ينقص بقطعه، وما ذكر للعجز عن التسليم شرعا؛ لأنه لا يمكن التسليم إلا بالقطع، وفيه نقص وتضييع للمال، ويستثنى من ذلك إناء النقد فيصح بيع جزء معين منه لحرمة اقتنائه، ووجوب كسره، فالنقص الحاصل فيه موافق للمطلوب فيه فلا يضر3. ويصح في الثوب الذي لا ينقص بقطعه في الأصح، وذلك كغليظ الكرباس، وهو الثوب المنسوج من القطن، ففي حديث عمر، وعليه قميص من كرابيس4، ومنه أيضا الفل بفتح الفاء، وهو نوع من القماش الغليظ والخيش، والثاني: قال قطعة لا يخلو عن تغيير لعين المبيع، قال الرافعي: والقياس طرده في السيف والإناء،

_ 1 كوارة النحل بضم الكاف: عسلها في الشمع. وقيل: بيتها إذا كان فيه العسل، وقيل: هو الخيلة "المصباح ج2 ص659". 2 النهاية "ص23". 3 حاشية البجيرمي "ج2 ص24". 4 النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير "ج4 ص14".

لكن اعتراضه الأسنوي بأن الثوب ينسج ليقطع بخلاف الإناء والسيف، وهو اعتراض له وجاهته، ولا يصح بين المرهون بغير إذن مرتهنة للعجز عن تسليمه شرعا، واختلف أصحابنا في بيع النحل في الكوارة أي الخلاية، فجوزه أبو العباس؛ لأنه يعرف مقداره حال دخوله وخروجه، وقال بعضهم: لا يجوز وهو قول أبو حامد الإسفراييني؛ لأنه قد يكون في الكوارة من لا يخرج، وإن اجتمع فرخه في موقع وشوهد جميعه جاز بيعه؛ لأنه معلوم مقدور على تسليمه، فجاز بيعه. الشرط الرابع: أن تكون له على المبيع ولاية بملك، أو وكالة أو إذن من الشارع كولاية الأب والجد والقاضي، والظافر بغير جنس حقه، والملتقط لما يخاف فساده والمراد: ولاية تامة، ليخرج المبيع قبل قبضه، فلا يصح عقد الفضولي لغيره، وإن أجازه الملك لعدم ولايته على المعقود عليه، والفضولي من ليس مالكا ولا وكيلا ولا وليا, وفي القديم أن عقده موقوف على رضا المالك، وإن أجازه نفذ وإلا فلا، والمعتبر أجازة من يملك التصرف عند العقد، فلو باع مال الطفل فبلغ، وأجاز لم ينفذ ومحل الخلاف ما لم يحضر المالك، فلو باع مال غيره بحضرته، وهو ساكت لم يصح قطعا كما في المجموع1. ويجري القولان، فيما لو اشترى لغيره بلا إذن بعين ماله أو في ذمته، وفيما لو زوج ابنة غيره أو أطلق منكوحته، وأجر عقاره بغير إذنه، واحتج لذلك بما روى شبيب بن غرقدة التابعي عن عروة البارقي حديث توكله في شراء شاة، فاشترى شاتين، ثم باع إحداهما بدينار، وأخضر الأخرى مع الدينار، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم والحديث رواه شبيب، عن عروة فذكره، قيل: لجهالة فيه لم يحتج به الشافعي في هذا، ولكنه احتج به في أن من وكل في شراء شاة بدينار، له أن

_ 1 حاشية البجيرمي "ج2 ص27".

يشتري به شاتين؛ لأن المرسل يحتج به إذا وافق القياس، وبيع الفضولي مخالف للقياس، ولو باع مال مورثه ظانا حياته، وكان ميتا صح في الأظهر لصدوره من المالك. والثاني: لا يصح لظنه أنه ليس ملكه. الشرط الخامس من شروط المبيع: العلم به عينًا وقدرًا وصفة، حذرا من الغرر وهو منهي عنه، وبيعه باطل، لما ورى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع الغرر"، والغرر ما انطوت عناها عاقبته، أو تردد بين أمرين أغلبهما أخو فهما، ومن ذلك ما إذا قال له: بعتك أحد الثوبين وإن تساوت قيمتهما للجهل بعين المبيع، ولا يقال: أي غرر في هذا عند استواء القيمة؛ لأنا نقول: لا بد للعقد من مورد يتأثر به على أنه لا يخلو من الغرر لتفاوت الأغراض في مثل ذلك للمتعاقدين، فلا يكفي أحدهما بل لا بد من تعيين المعقود عليه1. ويصح بيع صاع من صبرة، وإن جهلت صيعانها، فإن كانت معلومة القدر كعشرة صيعان مثلا صح ذلك جزما، والمبيع عشرها فلو تلف بعضها تلف بقدره من كل المبيع، وقيل: المبيع أي صاع كان فيبقى المبيع ما بقي صاع، وإن كانت مجهولة يصح البيع في الأصح المنصوص، والمبيع أي صاع كان، وللبائع تسليمه من أسفلها، وأن لم يكن مرئيا؛ لأن رؤية ظاهر الصبرة كرؤية كلها، والثاني لا يصح كما لو فرق صيعانها، وقال: بعتك صاعا منها؛ لأنه ربما تتفاوت بالكيل فيختلف الغرض، فإن بقي منها صاح واحد دون غيره تعين، وكذلك يصح بيع صبرة مجهولة الصيعان كل صاع بدرهم، ولا يضر في مجهولة الصيعان الجهل بجملة الثمن؛ لأنه معلوم بالتفصيل، وهذا يكفي، لأن يدفع به الغرر.

_ 1 قليوبي وعميرة "ج2 ص161".

ولا يصح البيع بزنة هذه الحصاة ذهبا، أو بملء ذا البيت برا، للجهل بقدر الثمن في كل؛ لأن الثمن والمثمن إذا كانا في الذمة، فلا بد من معرفة قدره يقينا أعني كيلا أو وزنا أو ذرعا، فلو كان الثمن معينا كأن قال بملء ذا البيت من هذه الحنطة -صح لإمكان الأخذ قبل تلف البيت، ذكره الرافعي في جانب المبيع، والثمن مثله بالأولى بدليل جواز الاستبدال في الثمن دون المثمن، ولو كانا يعلمان مقدار ما يحويه البيع صح، فإذا قال: بعتك ملء ذا البيت من ذا البركان البيع صحيحا، والفرق بين هذه الصورة والصورة المتقدمة الباطلة أن البائع هنا عين البر، وهناك أبهمه؛ لأنه يمكن أن يحيطا بجوانب البيت، ويعرفا تخمينا يأخذ كذا، ويملأ البيت من البر المعين حالا قبل تلف البيت، أما في في هذه الصورة، فالمبيع معين والمعين لا يشترط فيه معرفة القدر تحقيقا، بل يكفي فيه التخمين1. ولو باع بنقد يتعامل به في بلد المبيع، ولو مغشوشا أو عروضا مثلية، فهو المتعين، ومتى تعدد من جنسين أو من جنس، وغلب أحدهما تعين الغالب لظهور أن المتعاقدين أراداه، وإن لم يغلب أحدهما اشترط التعيين لأحدهما في العقد حتى يكون معلوما لطرفي العقد، هذا إذا كان هناك تفاوت بينهما، فإن استوت قيمتهما صح البيع بدون تعيين، وهذا هو المعتمد، ويبدو واضحا أن العقد يكون صحيحا، وإن لم يعلما بتساويهما في القيمة، وإذا اختلفا في الغلبة، وغيرها قدم مدعى الصحة.

_ 1 حاشية البجيرمي "ج2 ص31".

ولا يجوز بيع مجهول القدر، فإن قال: بعتك بعض هذه الصبرة لم يصح البيع لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي: "نهى عن بيع الغرر"، وفي بيع البعض غرر؛ لأنه يقع على القليل والكثير؛ ولأنه نوع بيع فلم يصح مع الجهل بقدر المبيع كالسلم، وإن قال: بعتك هذه الصبرة جاز، وإن لم يعرف مقدارها؛ لأن غرر الجهالة ينتفي عنهما بالمشاهدة، قال الشافعي: وأكره بيع الصبرة جزافا؛ لأنه يجهل قدرها على الحقيقة، وإن قال: بعتك ثلثها أو ربعها، أو بعتك إلا ثلثها أو ربعها جاز؛ لأن من عرف الشيء عرف ثلثه وربعه، وما يبقى بعدهما. بيع الغائب: والأظهر أنه لا يصح بيع الغائب، وهو ما لم يره المتعاقدان أو أحدهما خلافا للأئمة الثلاثة، وإن وصف بصفة السلم للغرر؛ ولأن الخبر ليس كالعيان، وهذا وإذا كان يجهل جنس المعقود عليه أو نوعه، فإن علم الجنس والنوع بأن قال: بعتك الثوب اليمني الذي في داري، أو بعتك الفرس الأدهم الذي في اصطبلي ففيه قولان: قال في القديم: يصح ويثبت له الخيار إذا رآه لما روى ابن أبي مليكة، أن عثمان رضي الله عنه ابتاع طلحة أرضا بالمدينة نافلة بأرض له بالكوفة، فقال عثمان: بعتك ما لم أره، فقال طلحة: إنما النظر لي؛ لأني ابتعت مغيبًا، وأنت قد رأيت ما ابتعت فتحاكما إلى جبير بن مطعم، فقضى على عثمان أن البيع جائز، وأن النظر لطلحة؛ لأنه ابتاع مغيبا؛ ولأنه عقد على عين، فجاز مع الجهل بصفته كالنكاح. وقال في الجديد: لا يصح لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع الغرر"، وفي هذا البيع غرر؛ ولأنه نوع بيع فلم يصح مع الجهل بصفة المبيع كالسلم، فإذا قلنا بقوله القديم فهل تغتفر صحة البيع إلى ذكر الصفات أو لا. فيه ثلاثة أوجه:

أحدهما: أنه لا يصح حتى تذكر جميع الصفات كالمسلم فيه. والثاني: لا يصح حتى تذكر الصفات المقصودة. والثالث: أنه لا يفتقر إلى ذكر شيء من الصفات، وهو المنصوص عليه؛ لأن الاعتماد على الرؤية، ويثبت له الخيار إذا رأه، فلا يحتاج إلى ذكر الصفات، فإن وصفه ثم وجده على خلاف ما وصف ثبت له الخيار، وإن وجده على ما وصف، أو أعلى ففيه وجهان: أحدهما: لا خيار له؛ لأنه وجده على ما وصف؛ فلم يكن له خيار كالمسلم فيه. والثاني: له الخيار؛ لأنه يعرف ببيع خيار الرؤية، فلا يجوز أن يخلو من الخيار، وإذا ثبت له الخيار، فهل هو على الفور؟ قال أبو هريرة: هو على الفور؛ لأنه خيار تعلق بالرؤية، فكان على الفور كخيار الرد بالغيب. وقال أبو إسحاق: يتقدر الخيار بالمجلس؛ لأن العقد إنما يتم بالرؤية، فيصبر كأنه عقد عند الرؤية، فيثبت له خيار كخيار المجلس، فيمتد الخيار بامتداد المجلس وهو الأصح، ولا خيار للبائع، وقيل: له الخيار إن لم يكن قد رأى المبيع. وإذا كنا قد اشترطنا في المعقود عليه أن يكون معلوما عنيا، وقدرا وصفة إلا أنه يمكن أن يكتفي عن ذلك بمشاهدة المعقود عليه، فإذا كان معينا كفت معاينته عن العلم بقدره، وذلك اعتمادًا على التخمين، فلو قال: بعتك هذه الحقيبة بهذه الصبرة، والفرض أنها مجهولة المقدار صح البيع، فإذا كانت الصبرة في موضع فيه ارتفاع، وانخفاض وعلم المشترى أو البائع بذلك بطل البيع لمنعه من التخمين؛ لأنه إذ ذاك يلتحق بغير المرئي، فإن ظن استواء ما تحتها صح البيع وثبت له الخيار، ولو كان تحتها حفرة فالبيع صحيح وما فيها للبائع، ولو باع الصبرة إلا صاعا، فإن كانت معلومة الصيعان صح البيع وإلا فلا، فإن قيل: كيف تحكم بالبطلان، وقد سبق أن جوزت بيع الصبرة

المجهولة المقدار جزافًا، وبطريق التخمين؟ قلنا بأن التخمين مع الاستثناء لا يوثق به1. ويستفاد من ثبوت الخيار للمتعاقدين أن شراء الأعمى لا يصح، حيث جوزنا بيع الغائب بالوصف، لتعذر ثبوت الخيار له؛ لأنه لا يمكن أن تتأتى منه الرؤية المترتب الخيار عليها، وقيل: يصح ويقام وصف غيره له مقام رؤيته، أما في السلم، فإنه يصح سلمه إذا كان رأس مال السلم في الذمة، إذ المعين لا يصح منه كالبيع به، والفرق بين السلم، وبين غيره أن السلم يعتمد على الوصف أما البيع والإجارة، والرهن، فتعتمد على الرؤية، وسبيله أن يوكل فيها. وقيل: إن عمي قبل تمييزه بين الأشياء، أو خلق أعمى، فلا يصح سلمه لانتفاء معرفته بالأشياء، ولكن يرد على ذلك بأنه يمكن له أن يعرفها بالسماع، ويتخيل فرقًا بينها. وقت الرؤية: وتكفي الروية قبل العقد فيما لا يتغير غالبا إلى وقت العقد؛ لأن العلم بالمعقود عليه يتحقق، فإذا كان مما يغلب عدم تغيره كأرض، وإناء وحديد، أو كان يحتمل التغير، وعدمه كحيوان صح البيع نظرا للغالب في الأول، والأصل بقاء المرئي بحاله في الثانية، فإسن وجده المشتري متغيرًا عما رأه عليه تخير، فلو اختلفا في تغيره، فالقول قول المشتري بيمينه؛ لأن البائع يدعي عليه أنه رآه بهذه الصفة الموجودة الآن ورضي به، والأصل عدم ذلك بخلاف ما يغلب تغيره كالأطعمة التي يسرع فسادها، فإن رآها من يوم مثلا، فلا تكفي رؤيتها قبل العقد إذ مضت عليها مدة يغلب فيها الفساد، وإن لم تتغير بالفعل نظرا للغالب.

_ 1 راجع قليوبي وعميرة "ج2 ص164". والمهذب لأبي إسحاق الشيرازي "ج1 ص363، 364".

رؤية البعض ورؤية الكل: وإذا كانت رؤية بعض المعقود عليه تدل عليه على باقية كانت رؤية ذلك البعض عن الكل، وذلك في الأشياء التي لا تختلف أجزاؤها، مثل الحنطة والشعير والجوز، واللوز، ولا خيار له إذا رأى الباطن إلا إذا خالف الظاهر، وقد سئل الشهاب عن بيع السكر في قدوره هل يصح، وتكفي رؤية أعلاه من رءوس القدور؟ فأجاب بأنه إن كان بقاؤه في القدور من مصالحه صح، ولعل وجه ذلك أن رؤية أعلاه1 لا تدل على باقية، لكنه اكتفى به إذا كان بقاؤه في القدور من مصالحه للضرورة، ومثل ذلك المائعات في ظروفها كالسمن، ولو جامدا والزيت والعسل الأسود، أو من النحل، وخلا عن الشمع، وكذلك القطن في عدله أو في جوزه بعد تفتحه، فهذه كلها تكفي رؤية بعضها، وإن لم ير الكل بخلاف الأشياء التي تختلف، وحداتها اختلافا بينها كالبطيخ والرمان والخوخ والعنب، فإن الاكتفاء برؤية الظاهر غير صحيح، فلا بد فيها من رؤية كل واحد منها على حدة، فإنا لم ير أحد جانبي البطيخة فالبيع باطل؛ لأنه كبيع الغائب. ومما تكفي فيه رؤية بعضه ما كان أنموذجا لمتساوي الأجزاء كالحبوب، الأنموذج هو المسمى عند الفقهاء بالعينة بأن يأخذ البائع قدرا من البر، ويريه للمشتري، وهذه العينة لا بد من إدخالها في البيع بحيث تشمل صيغة البيع الجميع، وإن لم يخلطه بالباقي، فيقول: بعتك البر الذي عندي مع الأنموذج، فلو أعطى له الأنموذج من غير بيع، وباعه ما عنده لم يصح؛ لأنه صدق عليه أنه لم ير من المبيع شيئا، وكذلك لا يصح إذا عقد عليه مستقلا، وعلى ما

_ 1 حاشية البجيرمي "خ2 ص33".

عنده عقدًا مستقلًّا. وكذلك إذا لم يدل البعض على باقية بل كان صوانًا للباقي كقشير الرمان، وقشر القصب الأعلى الذي لا يمص معه، وجوز القطن بعد تفتحه؛ لأنه قبله لم يبد صلاحه، فلا يكفي رؤية قشره، ومثل ذلك البيض والقشرة السفلى للجوز واللوز، ففي هذه الأمثلة تكفي رؤية القشر المذكور؛ لأن صلاح باطنه في بقائه فيه، وإن لم يدل هو عليه. وتعتبر رؤية كل شيء على ما يليق به، فيعتبر في الدار رؤية البيوت، والسقوف والسطوح والجدران، والمستحم والبالوعة، وفي البستان رؤية الأشجار والجدران، ومسايل الماء، وفي الدابة رؤية مقدمها ومؤخرها، وقوائمها وظهرها، وفي الثوب الديباج المنقوش رؤية وجهه، وقيل: رؤيتهما وفي الكتب الورق والبياض1. وجاء في المهذب: إذا رأى بعض المبيع دون بعض، نظرت فإن كان مما لا يختف أجزاؤه كالصبرة من الطعام، والجرة من الدبس2 جاز بيعه؛ لأن برؤية البعض يزول غرر الجهالة؛ لأن الظاهر أن الباطن كالظاهر، وإن كان مما يختلف نظرت، فإن كان مما يشق رؤية باقية كالجوز في القشر الأسفل جاز بيعه؛ لأن رؤية الباطن تشق، فسقط اعتبارها كرؤية أساس الحيطان، وإن لم تشق رؤية الباقي كالثوب المطوى، ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كبيع ما لم ير شيئا، ومنهم من قال: يبطل البيع قولا واحدا؛ لأن ما رآه

_ 1 راجع قليوبي وعميرة "ج2 ص166". 2 الدبس بالكسر عصارة الرطب "المصباح المنير ج1 ص225".

لا خيار فيه، وما لم يره في الخيار، وذلك لا يجوز في عين واحدة1. النهي الذي يفسد البيع: والنهي قد لا يقتضي البطلان، وقد يقتضيه وهو المراد هنا، ويتحقق ذلك إذا كان التحريم راجعا إلى ذات العقد، بفقد ركن من أركانه أو إذا رجع إلى أمر خارج، ولكنه لازم من لوازمه كفقد شرط من شروطه. وقد جاء في البخاري من رواية ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن عسب الفحل"، بفحت العين وسكون السين المهملتين، وهو ضرابه أي طروقه للأنثى، يقال: ضرب الفحل الناقة ضرابا نزا عليها، ويقال: ماؤه، ويقال: أجرة ضرابه، وعلى الأولين يقدر في الحديث مضاف ليصح النهي، فيكون التقدير نهي عن بدل عسب الفحل من أجرة ضرابة، أو ثمن مائة أي بذل ذلك وأخذه؛ لأنه كبيرة لا يقل إثمها عن أكل أموال الناس بالباطل. وقد ورد التصريح بالنهي عن ثمنه في رواية الشافعي في المختصر؛ لأن الأحكام الشرعية إنما تتعلق بأفعال المكلفين والضراب فعل غير المكلف، والماء عين لا يتعلق بها حكم2. فتحرم أجرته للضراب وثمن مائة عملا بالأصل في النهي من التحريم، والمعنى فيه أن ماء الفحل ليس بمقوم ولا معلوم، ولا مقدور على تسليمه لتعلقه باختياره، وهو غير مقدور عليه للمالك، وما قيل من صحة استئجاه للإنزاء محمول على ما إذا استأجره مدة لما يشاء، فله حينئذ إنزاؤه، وهذه الطريقة واجبة على مالكه حيث اضطر إليه أهل ناحية، وعليها حمل قول

_ 1 المهذب لأبي إسحاق الشيرازي "ج1 ص264". 2 راجع قليوبي وعميرة، وحاشية البجيرمي على المنهج.

بعضهم إن منعه كبيرة، فإن قلت: لا يلزم المالك أن يبذل ما له مجانا، وقد منعتم البيع والإجارة. قلت: وطريق ذلك أن يؤجر له الفحل زمنا معينا؛ لينتفع به ما شاء، وهذا بخلاف ما لو استأجره لعمل معين كالحرث، فليس له الإنزاء، وإذا وقع الفحل في حالة ضرابه أو إنزائه فمات أو انكسر، ضمنه صاحب الأنثى إذا كان مستعيرا له؛ لأنه تلف في حال الاستعمال المأذون فيه بغيره لا به كوقوع البهيمة في بيت الدقيق حالة طحنها، أما إذا كان مستأجرا له فلا ضمان1. ومقابل الأصح جواز استئجاره للضراب، كالاستئجار لتلقيح النخل. ورد بأن الأجير قادر على التلقيح، وليس فيه عين حتى لو شرطت عليه ذلك فسد العقد2. والإعارة للضراب محبوبة أي مستحبة، ومحل ذلك حيث لم يتعين وإلا وجبت. وكان الامتناع منها كبيرة حيث لا ضرر عليه في ذلك، وفي تلك الحالة عليه أن يبذله مجانا، ويفرق بينه وبين إعارة المصحف حيث لا تجب مجانا، وإن تعين لقراءة الفاتحة، بأن لم يكن في البلد غيره، بأن المصحف له بدل بأن يلقنه غيبا بخلاف هذا الذي نحن فيه، ويجوز أن يعطي صاحب الأنثى صاحب الفحل شيئا هدية، ويصح وقفه للضراب، وإذا أتلف شيئا فلا يضمنه الواقف بل يكون الضمان في متلفاته على من هو تحت يده، ولو جنى شخص على الفحل الموقوف أخذت منه القيمة، واشترى بها

_ 1 حاشية البجيرمي على المنهج "ج2 ص60-61". 2 قليوبي وعميرة "ج2 ص175".

غيره ووقف مكانه1. حبل الحبلة: ومما نهى عنه حبل الحبلة بفتح المهملة والموحدة، وهذا النهى رواه الشيخان عن ابن عمر بلفظ: "نهي عن بيع حبل الحبلة" 2، وهو بيع النتاج، أو بيع شيء بثمن إلى نتاج النتاج أي إلى أن تلد هذه الدابة، ويلد ولدها فالبيع باطل؛ لأنه معلق به، ولا يقال: حبل لغير الآدمي إلا مجازا. لأن الحبل مختص بالآدميات، وأطلق هنا على مطلق حمل سواء كان في الآدميات، أو في غيرها. وبطلان البيع المستفاد من النهي على التفسير الأول: لأنه ما ليس بمملوك ولا معلوم، ولا مقدور على تسليمه، وعلى الثاني: لأنه إلى أجل مجهول. والبيع إلى نتاج النتاج هو المسمى في الريف بالمقاومة، وهو بيع الدواب، ويؤجل الثمن إلى أن يأخذه من أولاد الدابة، ولا إثم فيه على فاعله؛ لأنه مما يخفى فيعذر فيه. وصورته أن يقول: بعتك ولد ما تلده هذه الناقة، وهو بيع حبل الحبلة حقيقة، أو أن يبيع شيئا بثمن إليه، وهو بيع حبل الحبلة على التسامح، هذا هو تفسير ابن عمر، وبه أخذ الإمام الشافعي3.

_ 1 الشبراملسي "ج2 ص61". 2 الحديث متفق عليه، وجعله بعضهم من قول نافع، وهو في المدرج للخطيب، ووهم ابن الجوزي في جامع المسانيد، فزعم أنه من إفراد مسلم "التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير لابن حجر ج3 ص11. 3 قليوبي وعميرة "ج2 ص175".

ومما نهى عنه بيع الملاقيح والمضامين: والملاقيح جمع ملقوحة، وهي لغة جنين الناقة خاصة، وشرعا أعم من ذلك، وهي ما في البطون من الأجنة، وذلك شامل للذكر والأنثى، ويرد على ذلك أن التعريف اللغوي أخص من التعريف الشرعي مع أن المشهور العكس إلا أن يقال هذا المشهور أغلبي، وإلا فقد يكونا متساويين، وقد يكون اللغوي أخص كما هنا. والمضامين جمع مضمون كمنصور، أو مضمان كمفتاح، وهي ما في أصلاب الفحول من الماء، قال الأزهري: سميت بذلك؛ لأن الله تعالى أودعها ظهورها، فكأنها ضمنتها. وقد روى النهي عن بيعهما مالك مرسلًا، والبزار مسندا وعدم صحة بيعهما من حيث المعنى لما روى من حديث أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملاقيح والمضامين" 1. النهي عن بيع الملامسة والمنابذة: وهو أن يلمس بضم الميم وكسرها ثوبا مطويا، أو في ظلمة، ثم يشتريه على أن لا خيار له إذا رآه، اكتفاء بلمسه عن رؤيته أو يقول: إذا لمسته فقد بعتكه اكتفاء بلمسه عن الصيغة، أو يبيعه شيئا على أنه متى لمسه لزم اليبع، وانقطع خيار المجلس وغيره، وقد روى الشيخان عن أبي سعيد هذا الحديث بلفظ: "نهي عن المنابذة والملامسة في البيع" 2.

_ 1 الحديث رواه ابن عباس في الكبير للطبراني والبزار، وعن ابن عمر أخرجه عبد الرزاق وإسناده قوي، التلخيص الحبير ج3 ص12. 2 والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يثلبه، والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، وينبذ الآخر بثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نزاض" متفق عليه "نيل الأوطار ج5 ص170".

وقد علل الإمام بطلانه بالتعليق، والعدول عن الصيغة الشرعية، وبينه الأسنوي بأنه إن جعل اللمس شرطا فبطلانه للتعليق، وإن جعل ذلك بيعا فلفقد الصيغة. وأما قوله: إذا لمسته فقد بعتكه فيقول الآخر، فهو وإن وجد الإيجاب والقبول، لكنه مع الشرط الفاسد وهو اللمس. والمنابذة بأن يجعلا النبذ بيعًا اكتفاء به عن الصيغة، فيقول أحدهما: انبذ إليك ثوبي بعشرة، فيأخذه الآخر أو يقول: بعتك هذا بكذا على أني إذا نبذته إليك لزم البيع، وانقطع الخيار، والبطلان لعدم الرؤية، أو عدم الصيغة، أو للشرط الفاسد. النهي عن بيع الحصاة: رواه مسلم عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع الحصاة" يعني: إذا قذف الحصاة فقد وجب البيع1، بأن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما تقع عليه هذه الحصاة، أو يجعلا الرمي لها بيعا اكتفاء به عن الصيغة، فيقول أحدهما: إذا رميت هذه الحصاة، فهذا الثوب مبيع منك بعشرة، أو يقول: بعتك ولك الخيار إلى رميها، والبطلان في ذلك للجهل بالمبيع أو زمن الخيار، أو لعدم الصيغة. ويرد على الأخير أن قوله في الملامسة: فقد بعتكه صيغة، فكان الوجه أن يقال: إن البطلان في هذه للتعليق لا لعدم الصيغة، وأجاب الشيخ عميرة بأنه يعلم من هذا الكلام أن قوله: فقد بعتكه إخبار لا إنشاء، أو أنه جعل الصيغة مفقودة لانتفاء شرطها، وعدم التعليق2.

_ 1 التلخيص الحبير "ج3 ص12". 2 راجع الشبراملسي على المنهج "ج2 ص63".

ولا يصح بيع العَرْبون: ويقال: العَرْبان، وهو أن يشتري سلعة، ويعطيه نقدا ليكون من الثمن إن رضيها وإلا فهبة، روى أبو داود وغيره عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع العربان" 1. وعدم صحته لاشتماله على شرط الرد والهبة إن لم يرض السلعة، وعبارة الشبراملسي لاشتماله على شرطين مفسدين، شرط الهبة وشرط رد المبيع بتقدير أن لا يرضى. ويحرم التفريق بين الأم والولد الصغير لقوله: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه، وبين أحبته يوم القيامة" 2، حسنه الترمذي، وصححه الحاكم على شرط مسلم، وسواء التفريق بالبيع أو الهبة أو القسمة ونحوها، فإذا فرق ببيع أو هبة بطلا في الأظهر للعجز عن التسليم شرعا بالمنع من التفريق، والثاني يقول: المنع من التفريق لما فيه من الإضرار لا لخلل في البيع. والمراد بالتفريق في الحديث التفريق بين الأم وولدها، أما التفريق بين البهيمة، وولدها فقد قال الأسنوي فيه تفصيل: وهو لا يحرم إن كان بالذبح لهما أو لأحدهما، والمذبوح الولد أو الأم مع استغنائه عنها، ويكره حينئذ، ويحرم التصرف فيما عدا ذلك، ولا يصح التصرف في حالة الحرمة بنحو بيع، فلو باع أحدهما لمن يغلب على ظنه أنه يذبحه لم يصح، فقد لا يذبح وشرط الذبح عليه غير صحيح، والمعتمد أنه لا يصح البيع مطلقا ذبح المشتري، أم لا ولو علم أنه يذبح، لخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "معلون من فرق بين والدة وولدها،

_ 1 رواه مالك وأبو داود، وابن ماجه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، وفيه راو لم يسم، وسمي في رواية لابن ماجه ضعيفة - التلخيص الحبير ج3 ص17". 2 الحديث نص في تحريم التفريق بين الوالدة وولدها، وقيس عليه سائر الأرحام المحارم بجامع الرحامة "سبل السلام للصنعاني ج3 ص24".

وعلى ذلك، فهو من الكبائر لورود الوعيد الشديد فيه. والمعتمد أنه من الصغائر خلافا لابن حجر، حيث قال: إنه من الكبائر كما قرره الشيخ عبده1. النهي عن بيعتين في بيعة: رواه الترمذي وغيره عن أبي هريرة، وقال: حسن صحيح2 بأن يقول: بعتك هذا العقار بألف نقدا، أو بألفين إلى سنة، فخذ بأيهما شئت أو شئت أنا، أو يقول: بعتك هذا الحسان على أن تبيعني دارك بألف، أو تشتري مني داري بكذا، والبطلان للجهل بالعوض في الأول، وللشرط الفاسد في الثاني3، وفي تسمية هذا بيعتين في الصورة الأولى تسامح؛ لأنها بيعة واحدة، وإنما سماها بيعتين باعتبار الترديد في الثمن بين الألف حالا، والألفين مؤجلا، وهذا بخلاف ما لو قال، وبألفين بالواو فيصح، ويكون بعض الثمن حالا، وهو ألف وبعضه مؤجلا وهو ألفان، ومحل ذلك إذا حذف قوله: فخذ بأيهما شئت، وإلا لم يصح4. وقد نهى صلى الله عليه وسلم: "عن بيع وشرط"5، وراه عبد الحق في الأحكام عن

_ 1 الشبراملسي على المنهج "ج2 ص65". 2 حديث أنه صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيعة في بيعة، رواه الشافعي، وأحمد والترمذي، والنسائي - التلخيص الحبير ج3 ص12. 3 قليوبي وعميرة "ج2 ص177". 4 حاشية الشبراملسي "ج2 ص66". 5 ورواه أصحاب السنن إلا ابن ماجه، وابن حبان، والحاكم من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده بلفظ: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع" التلخيص الحبير ج3 ص12.

عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، وروى أبو داود وغيره بهذا الطريق: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع"، وفي رواية1: "لا بيع وشرط"، كبعتك سيارتي بألف على أن تبيعني دارك بكذا، أو بشرط أن تقرضني مائة، والمعنى في ذلك أنه جعل الألف، ورفق العقد الثاني أي انتفاعه به ثمنًا، واشتراط العقد الثاني فاسد، فبطل بعض الثمن، وليس له قيمة معلومة حتى يفرض التوزيع عليه، وعلى الباقي فبطل البيع2. والحاصل من كلامهم أن كل شرط مناف لمقتضى العقد، إنما يبطله إذا وقع في صلبه، أو بعده وقبل لزوم العقد، بخلاف ما لو تقدم عليه ولو في مجلسه، فإن بايعه السيارة، ويشتري منه الدار، فإن بيع السيارة باطل وأما بيع الدار، فإن تبايعاها معتقدين صحة العقد الأول بطل، وإن اعتقدا فساده صح؛ لأنه حينئذ ليس مبنيًّا على الأول3. ولو اشترى زرعا بشرط أن يحصده البائع "بضم الصاد وكسرها"، أو ثوبا ويخيطه البائع، أو بشرط أن يخيطه، فالأصح بطلانه لاشتماله على شرط عمل فيما لم يملكه بعد، وذلك فاسد قال الأسنوي: لأنه شريط يخالف مقتضى العقد4، وينبغي أن يكون مثله إذا شرط البائع ذلك والمشتري يوافقه؛ لأن في ذلك معنى شرطه، وإنما لم يحمل كلام المصنف على الثاني الغني عن التأويل؛ لأن المذكور في كلامهم الأول، لكن المناسب لقول المتن عن بيع بشرط بقاء المتن بحاله، إلا أن يراد بالبيع الأول ما يشمل الشراء، وهذا كله فيما إذا جعل الحصاد، أو الخياطة على البائع أو أجنبي، فإن جعل

_ 1 رواه الخمسة وصححه الترمذي، وابن خزيمة والحاكم "سبل السلام ج3 ص16". 2 قليوبي وعميرة "ج2 ص177". 3 حاشية الشبراملسي "ج2 ص66". 4 قليوبي وعميرة "ج2 ص177".

على المشتري فإنه يصح، وقوله: بشرط أن يحصده البائع أو أجنبي، أو قال: وتحصده بخلاف ما إذا قال: وأحصده بصيغة الأمر، فإنه لا يكون شرطًا؛ لأن صيغة الأمر شيء مبتدأ غير مقيد لما قبله، فلم تكن في معنى الشرط أما صيغة الخبر، فإنها مقيدة لما قبلها، فكانت بمعنى الشرط، ومن هذا القبيل اشتريت منك هذا الحطب بشرط أن تحمله إلى البيت، سواء كان البيت معروفا أم ولا، وكذا لو شرط عليه حمل البطيخة المشتراة، ونحو ذلك1. والثاني: يصح، ويلزم الشرط وهو في المعنى بيع، وإجارة يوزع المسمى عليهما باعتبار القيمة، ورد بأنه ليس فيه ذكر مدة ولا عمل معلوم. والثالث: يبطل الشرط ويصح البيع بما يقابل المبيع من المسمى، وهذا حاصل الطرق الثلاثة في المسألة، أصحها بطلان البيع والشرط، والثانية فيهما القولان في الجمع بين بيع، وإجارة والثالثة يبطل الشرط، وفي البيع قولًا تفريق الصفقة. وقوله: الطرق الثلاثة فيه اعتراض على المصنف حيث لم يعتبر بالمذهب، ومثل هذا الاعتراض وجهه الأسنوي على تعبير المصنف بالأصح، إلا أن اعتراض الأسنوي من وجهين: الأول أن المسألة: ذات طرق، والثاني: أن التعبير بالأصح يقتضي قوة الخلاف مع أنه ضعيف؛ لأن الراجح طريق القطع. والذي عليه أكثر الفقهاء أن كل شرط ليس في كتاب الله، ولا مأثورًا عن نبيه، ولا مستخرجا ومستنبطا من القرآن، أو السنة الصحيحة من وجه واضح، فهو باطل وإن كان مائة شرط، فعن عائشة قالت: قام النبي صلى الله عليه وسلم من العشي، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "ما بال أناس يشترطون شروطا ليست

_ 1 حاشية البجيرمي.

في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن اشترط مائة شرط، شرط الله أحق وأوثق"، رواه البخاري ومسلم1. ويستثنى من النهي عن بيع وشرط صور منها: 1- البيع بشرط الخيار، أو البراءة من العيب، أو بشرط قطع الثمر. 2- البيع بشرط الأجل، والرهن، والكفيل للعينات بثمن في الذمة. والدليل على صحة البيع في ذلك الحاجة إليها في معاملة من لا يرضى إلا بها، والضمير في قوله: للحاجة إليها ليس راجعًا إلى هذه المستثنيات فقط، بل إنه يجوز عوده على ما قبلها أيضًا، فيكون راجعا للسنة، وهذا الدليل الأول والدليل الثاني هو قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} 2، وإنما قدم الدليل العقلي على الآية لعمومه وخصوصها بالأجل، والآية وإن كانت واردة في السلم، فالعبرة فيها بعموم لفظها. ولا بد من كون الرهن غير المبيع، فإن شرط رهنه بالثمن بطل البيع، وإنما مثل بالثمن؛ لأن التأجيل يغلب في الأثمان دون المبيع، والغالب في المبيع أن يكون معينا، وذلك لاشتماله على شرط رهن ما لم يملكه بعد الآن؛ لأنه إنما يملكه بعد البيع والبيع لا يكون إلا بتمام الصيغة، وعلى ذلك فلا بد أن يكون الشرط من المبتديء من المتبايعين، حتى يبطل البيع، فلو رهنه بعد قبضه بلا شرط مفسد صح، والشرط المفسد هنا أن يكون في صلب العقد تمامه3.

_ 1 القسم الثاني: المعاملات من كتاب الوحيين تأليف عبد العزيز بن راشد "ص3". 2 سورة البقرة الآية: 282. 3 حاشية الشبراملسي "ج2 ص68".

ولا بد أن يكون المرهون معينًا بالمشاهدة، أو الوصف بصفات السلم، ولا ينافي ذلك ما مر في بيع الغائب من أن الوصف لا يجزئ عن الرؤية؛ لأنه في معين لا موصوف في الذمة، وما هنا في وصف لم يرد على عين معين1. وفي الكفيل بالمشاهدة أو بالاسم والنسب، إذا كانا يعرفان المسمى المنسوب، وإلا كان من قبيل الغائب، ولا يكفي الوصف كموسر ثقة، وإنما اكتفى في الكفيل بالمشاهدة لأدائها غالبا إلى معرفة حال الشخص صعوبة، وسهولة، وبحث الرافعي أن الاكتفاء به أولى من الاكتفاء بمشاهدة من لا يعرف حاله، وسكت عليه النووي وأقره، وتقييد الثمن بكونه في الذمة للاحتراز عن العين، كما لو قال: بعتك بهذه الدراهم على أن تسلمها لي في وقت كذا، أو ترهن بها كذا، أو يضمنك بها فلان، فإن الشرط باطل ذكره في الروضة كأصلها في الأجل؛ لأنه رفق شرع لتحصيل الحق الذي في الذمة والمعين حاصل، ثم ذكر الرافعي في التكلم على ألفاظ الوجيز الرهن، والكفيل، ويقال في كل منهما إن رفق مشروع لتحصيل الحق والمعين حاصل، فشرط كل من الثلاثة معه في غير ما شرع له. ويشترط في الأجل أن لا يبعد بقاء الدنيا إليه، وإن بعد بقاء المتعاقدين، أو أحدهما إليه لقيام وارثهما مقامهما، فلا يصح التأجيل بألف سنة مثلًا للعلم حال العقد بسقوط بعضه، وهو يؤدي إلى الجهل به المستلزم للجهل بالثمن؛ لأن الأجل يقابله قسط من الثمن، ومعلوم أن البيع يبطل بالأجل المجهول للعلة المذكورة.

_ 1 حاشية البجيرمي "ج2 ص68".

ويشترط إشهاد على العقد خوفا من الجحود سواء كان العرض في الذمة، أو معينا لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} 1، ونزولها في السلم كما قاله ابن عباس لا يمنع الاستدلال بها في غيره؛ لأن العبرة بعموم اللفظ، فإن قلت: أي عموم هنا قلت: الفعل كالنكرة. وهي في حيز الشرط للعموم فكذا الفعل، أو؛ لأن الضمير في قوله: وأشهدوا راجع للأشخاص والعموم في الأشخاص يستلزم العموم في الأحوال، وصرف الأمر في الآية عن الوجوب ... الإجماع وهو أمر إرشاد لا ثواب فيه إلا لمن قصد به الامتثال2. ولا يشترط تعيين الشهود في الأصح إذ لا يتفاوت الغرض فيهم؛ لأن الحق يثبت بأي عدول كانوا، ولذلك لو عينهم لم يتعينوا، ولا أثر لتفاوت الأغراض بتفاوتهم وجاهة ونحوها، وهذا ربما يفيد جواز إبدالهم بدونهم، وهو كذلك. والثاني يشترط تعينهم كالرهن والكفيل، وفرق بتفاوت الأغراض فيهما بخلاف الشهود، فإن الحق يثبت بأي عدول كانوا، وقطع الإمام بالأول ورد الخلاف إلى أنه لو عينهم هل يتعينوا؟، الأصح عدم تعينهم، فإن لم يرهن المشتري، أو لم يشهد كما في أصل الروضة، أو لم يتكفل المعين فللبائع الخيار لفوات ما شرطه، ولو عين شاهدين فامتنعا من التحمل ثبت الخيار إن اشترط التعيين، وإلا فلا ولو شرط مقتضى العقد كالقبض، والرد بعيب أو ما لا غرض فيه كشرط أن لا يأكل إلا كنا صح العقد فيهما، ولغا الشرط في الثاني، وأخذ من كلامه في التتمة، ونص في الأم فساد العقد في الثاني3 ذلك أن المشروط في العقد، إما لصحته كشرط قطع الثمر، أو من مقتضياته

_ 1 من الآية 282 من سورة البقرة. 2 المرجع السابق "ج2 ص70". 3 قليوبي وعميرة "ج2 ص180".

وهو ما رتبه الشارع عليه كالقبض والرد بالعيب، أو من مصالحة كالكتابة والخياطة، أو مخالف لمقتضاه كعدم القبض فهذا الأخير مفسد للعقد دون ما قبله، وهو معمول به في الأول، وتأكيد في الثاني، ومثبت للخيار في الثالث. ولو شرط وصفًا يقصد مثل أن تكون الدابة حاملا، أو لبونًا صح الشرط مع العقد، وله الخيار إن أخلف الشرط، وفي قول يبطل العقد للجهل بالشرط، ولو قال: بعتك الدابة وحملها بطل البيع في الأصح لجعله الحمل المجهول مبيعا بخلاف بيعها بشرط كونها حاملا، ففيه جعل الحاملية وصفا تابعا. والثاني: يقول: لو سكت عن الحمل دخل في البيع، فلا يضر التنصيص عليه كما لو قال: بعتك الجدار ورأسه. وأجيب بأن اسم الجدار شامل للرأس بخلاف اسم الدابة لا يشمل الحمل، ولا يصح بين الحمل وحده؛ لأنه غير معلوم ولا مقدور على تسليمه، ولا الحامل دونه؛ لأنه لا يجوز إفراده بالعقد، فلا يجوز استثناؤه كأعضاء الحيوان. وقد يفرق بينهما بأن الحمل آيل إلى الانفصال، فالأولى أن يقال: هو استثناء مجهول من معلوم، فيصير الكل مجهولًا.

النهي الذي لا يفسد البيع: والغرض من هذا المبحث هوب بيان العقود التي نهى الشارع عنها، وحرم تعاطيها ومع ذلك تصح سواء سبقتها تلك المنهبات، أو قارنتها قال المصنف: ومن المنهي عنه ما لا يبطل بالنهي عنه لمعنى اقترن به لا لذاته، أو لازمه فقوله: ما لا يبطل بالنهي عنه أي نوع مغاير للأول، والضمير في يبطل عائد على البيع لدلالة السياق عليه. والنهي في هذه الأمور كما سبق أن ذكرنا لا يرجع إلى ذات العقد، ولا إلى لازمه بل لأمر خارج عنهما كالتضييق، والإيذاء، وهذا لا يقتضي الفساد كبيع الحاضر للبادي، بأن يقدم غريب بمتاع تعم الحاجة إليه ليبيعه بسعر يومه، فيقول له: بلدي أي رجل من أهل تلك البلد اتركه عندي لا بيعه لك على التدريج شيئا، فشيئا بأغلى، فيوافقه على ذلك1، فالمنهي عنه هو القول المذكور أما البيع بعد ذلك فجائز، قال بعضهم: لأنه تنته به الحرمة، وقوله: فيوافقه على ذلك ليس قيدا في الحرمة، فالقول حرام، وإن لم يوافقه عليه بل، وإن خالفه بعدم امتثاله بالبيع حالًا. ويظهر أن بعض أهل البلد لو كان عند متاع مخزون، فأخرجه لبيعه حالا، فتعرض له من يبيعه له تدريجا بأغلى حرم للعلة المذكورة، ولكن اعتمد شيخنا عدم الحرمة؛ لأن النفوس لها تشوف لما يقدم به بخلاف الحاضر. قال صلى الله عليه وسلم: "لا يبع حاضر لباد" 2، رواه الشيخان من رواية أبي هريرة، وغيره زاد مسلم: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض".

_ 1 شرح جلال الدين المحلي "ج2 ص182". 2 وهو حديث جابر، وحديث أبي هريرة مثله "متفق عليه" التخليص ج3 ص14.

والمعنى في النهي عن ذلك ما يؤدي إليه من التضييق على الناس بأن يكون بالشرطين المشتمل عليهما التفسير. أحدهما: أن يكون المتاع مما تعم الحاجة إليه كالأطعمة، فما لا يحتاج إليه إلا نادرًا لا يدخل في النهي. ثانيهما: قصد القادم البيع بسعر يومه، فلو قصد البيع على التدريج، فسأله البلدي تفويض ذلك إليه، فلا بأس؛ لأنه لم يضر بالناس، ولا سبيل إلى منع المال منه1. وكذلك إذا انتفى عموم الحاجة إليه كان لم يحتج إليه إلا نادرا. ومثل البيع الإجارة، فلو أراد شخص أن يؤجر محلا حالا، فأرشده شخص إلى تأخير الإجارة لوقت كذا، كزمن النيل مثلا حرم ذلك لما فيه من إيذاء المستأجر، ولو استشاره البدوي فيما فيه حظه، وجب عليه إرشاده لما فيه من النصيحة على أوجه الوجهين، وقال الأذرعي: إنه الأشبه، وكلام المصنف يميل إليه. والوجه الثاني: لا. أي لا يجب إرشاده توسيعًا على الناس، ومعنى وجوب إرشاده أنه يسكت لا أنه يخبره بخلاف نصيحته، وقال ابن الوكيل: لا يرشده توسيعًا على الناس وهو الظاهر2، وقال الجلال المحلي: ولو استشاره صاحب المتاع في التأخير، وجب عليه الإرشاد بالنصيحة، ولو بما فيه التضييق تقديما لها على المعتمد.

_ 1 المرجع السابق. 2 حاشية البجيرمي "ج2 ص78".

والنهي للتحريم، فيأثم بارتكابه العالم به، ومثله الجاهل المقصر ولو فيما يخفى غالبا قال شيخنا: وللحاكم أن يعزر في ارتكاب ما لا يخفى غالبا، وإن ادعى جهله. فالحرمة مقيدة بالعلم أو التقصير، وأن التعزير مقيد بعدم الخفاء، وفي الروضة قال القفال: الإثم على البلدي دون البدوي، ولا نظر لموافقته مراعاة لغرضه بوجود الريح في ماله، ولو تلقى الركبان، وباعهم ما يقصدون شراءه من البلد، فهل هو كالتلقي للشراب فيه وجهان: المعتمد منهما أنه كالتلقي، والركبان جمع راكب، والتعبير به جرى على الغالب: والمراد القادم، ولو واحدا أو ماشيا. السوم على سوم غيره: قال صلى الله عليه وسلم: "لا يسوم الرجل على سوم أخيه" 1، رواه الشيخان عن أبي هريرة، وهو بمعنى النهي، فيأثم مرتكبه العالم به، والمعنى فيه الإيذاء، وذكر الرجل والأخ ليس للتقييد بل الأول؛ لأنه الغالب، والثاني للرقة والعطف عليه، وسرعة امتثاله، فغيرهما مثلهما. وإنما يحرم ذلك بعد استقرار الثمن، وصورته أن يقول لمن أخذ شيئا ليشتريه بكذا: رده حتى أبيعك خيرا منه بهذا الثمن، أو مثله بأقل، أو يقول لمالكه: استرده لأشتريه منك بأكثر، ومحل الحرمة إن كان السوم الأول جائزا، وإلا فلا يحرم السوم على سومه، ويؤيده جواز الخطية على الخطية كانت الأولى محرمة. ولا بد من اتفاقهما عليه صريحًا مع المواعدة على إيقاع

_ 1 الحديث متفق عليه، ومثله رواه الدارقطني في حديث بمعناه. وفي الرسالة للشافعي لا أحفظه ثابتا، وتعقبه البيهقي بأنه روي من أوجه كثيرة، فذكرها - التلخيص الحبير ج3 ص14.

العقد في وقت معين، فلو اتفقا عليه ثم افترقا من غير مواعدة لم يحرم السوم، كما نقله الإمام عن الأصحاب، فإذا لم يكن صريحا، ومثله قوله: حتى أشاور أو سكت فلا يحرم وقيل: يحرم، ومثل القول أن يخرج له من جنس ما يريد شراءه، وهو أرخص منه، وكانت قرينة على إرادة الرد، والقول المذكور حرام، وإن لم يوجد رد ولا بيع للإيذاء، وصرح في الزواجر، وفيما بعده بأنه من الكبائر. وخرج باستقرار الثمن ما يطاف به على من يزيد في ثمنه، والحال أنه يريد الشراء، فلا يحرم ذلك وإلا حرمت الزيادة؛ لأنها من النجش الآتي بل يحرم على من لم يرد الشراء أخذ المتاع الذي يطاف به لمجرد التفرج عليه؛ لأن صاحبه إنما يأذن عادة في تقليبه لمن يريد الشراء، ويدخل في ضمانه بمجرد ذلك حتى، ولو تلف في يد غيره كان طريقا في الضمان؛ لأنه غاصب بوضع يده عليه، فليتنبه له فإنه يقع كثيرًا. ويحرم البيع على بيع غيره قبل لزوم البيع بانقضاء خيار المجلس، أو الشرط وكذا بعده في زمن خيار عيب على المعتمد، بأن يأمر المشتري بالفسخ ليبيعه مثله بأقل من ثمنه، والشراء على الشراء قبل لزومه بأن يأمر البائع بالفسخ، ليشتريه بأكثر لخبر الصحيحين: "لا يبع بعضكم على بيع بعض"، زاد النسائي حتى يبتاع أو يذر"1. والمعنى في تحريم ذلك الإيذال العالم العربي بالنهي، وفي ذلك إشارة إلى رد قول بعضهم: لا يشترط ذلك هنا بخلاف البيع على البيع؛ لأنه خديعة، وتحريم

_ 1 الحديث متفق عليه، وفي معناه حديث عقبة بن عامر: "المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل لؤمن أن يبتاع على بيع أخيه حتى يذر، ولا يخطب على خطبته" التلخيص الحبير ج3 ص15.

الخديعة معلوم من العمومات، وقال السبكي: النزاع إنما هو في نهي خاص أما العلم بالتحريم، فلا بد منه في التأثيم قطعًا أي عند الله سبحانه وتعالى، وأما في الحكم الظاهر للقضاة، فما اشتهر تحريمه لا يحتاج فيه إلى الاعتراف بالعلم بخلاف الخفي. ولو أذن البائع على بيعه، ارتفع التحريم وكذا المشتري في الشراء، ومحله أن يأذن لا عن ضجر ونحوه، وإلا فلا عبرة بإذنه، وقد ذكر الماوردي أنه يحرم طلب السلعة من المشتري مثلا بزيادة ربح، والبائع حاضر، وفي كلام الشافعي إذا اشترى رجل من رجل سلعة، ولم يتفرقا ينهي أن يبتاع المشتري سلعة تشبه السلعة التي اشتراها؛ لأنه ربما يحمله على رد الأولى. النجش: وهو أن يزيد في ثمن السلعة المعروضة للبيع لا لرغبة في شرائها، بل ليغر غيره فيشتريها، وذلك منهي عنه، روى الشيخان عن ابن عمر أنه صلى لله عليه وسلم: "نهى عن النجش" 1، وهو لغة الإثارة لما فيه من إثارة الرغبة، يقال: نجش الأثر أثاره من مكانه، وقد ذكر الزيادة؛ لأنه الغالب، وإلا فلو دفع فيها ثمنا ابتداء لا لرغبة فيها فينبغي امتناعه، نعم ينبغي أن يستثنى ما يسمى في العرف فتح الباب من عارف يرغب في فتحه؛ لأنه لمصلحة بيع السلعة؛ لأن بيعها في العادة يحتاج فيه إلى ذلك، ومدح السلعة ليرغب فيها بالكذب كالنجش، وقضيته أنه لو كان صادقًا في الوصف لم يكن مثله، وهو ظاهر؛ لأن المدح بمجرده لا يحمل المالك على الامتناع من البيع بما دفع فيها أولًا بخلاف الزيادة؛ لأن المالك إذا علم بها يمتنع في العادة من البيع بما دفع أولًا2.

_ 1 الحديث متفق عليه - التلخيص الحبير ج3 ص15. 2 حاشية البجيرمي "ج2 ص86".

والمعنى في تحريمه الأيذاء، وهو للعالم بالنهي عنه كما نقله البيهقي، عن الشافعي وأن سكت عنه في المختصر، والأصح أنه لا خيار للمشتري لتفريطه بعدم مراجعة أهل الخبرة وتأمله، وقيل: له الخيار للتدليس كالتصرية، ومحل الخلاف عند مواطأة البائع للناجش وإلا فلا خيار جزمًا، ويجري الوجهان فيما لو قال البائع: أعطيت في هذه السلعة كذا فبان خلافه، وكذا لو أخبر عارف بأن هذا عقيق، أو فيروزج بمواطأة البائع، فاشتراه فبان خلافه، ويفارق التصرية بأنها تقرير في ذات المبيع، وهذا خارج عنه. وصورة المسألة أن يقول: بعتك هذا مقتصرا عليه أما لو قال: بعتك هذا العقيق أو الفيروزج، فبان خلافه لما يصح العقد؛ لأنه حيث سمي جنسا، فبان خلافه فسد بخلاف ما لو سمي نوعا، وتبين من غيره، فإن البيع صحيح، ويثبت الخيار. وبيع الرطب والعنب لعاصر الخمر، والنبيذ أي ما يئول إليهما، فإن توهم اتخاذه إياهما من المبيع، فالبيع له مكروه أو تحقق فحرام أو مكروه، قال في الروضة: الأصح التحريم والمراد بالتحقق الظن القوي بالتوهم الحصول في الوهم أي الذهن، ويصح البيع على التقديرين، وحرمته أو كراهته؛ لأنه سبب لمعصية متحققة، أو متوهمة. وقد استدل البيهقي على حرمته بحديث: "لعن الله الخمر وشاربها، وساقيها وبائعها، ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها، والمحمولة إليه وأكل ثمنها" 1.

_ 1 الحديث رواه ابن عمر.. وفيه عبد الله الغافقي، وصححه ابن السكن، ورواه ابن ماجه، ورواته ثقات التلخيص الحبير "ج3 ص73".

ووجه الاستدلال أنه يدل على تحريم التسبب إلى الحرام، ومنه بيع سلاح لمن يقطع الطريق، ودابة لمن يحملها فوق طاقتها، وللحاكم بيع هذين على مالكهما قبرًا عليه، وخشب لمتخذه آلة له، ومنه النزول عن وظيفة لغير أهل إن علم أن الحاكم يقره فيها، قال الرملي: ومنه بيع الطعام للكافر في نهار رمضان وكذا بيعه طعاما علم، أو ظن أنه يأكله نهارا، كما أفتى بذلك بعض الفقهاء. حكم البيع: والبيع تعتريه الأحكام الخمسة: فيكون واجبًا في حالة الاضطرار، ويكون مندوبًا في زمن الغلاء ويكون مكروها في بيع المصحف، ودور مكة وفي سوق اختلط فيه الحرام بغيره، وممن أكثر ماله حرام خلافًا للغزالي، ويحرم بيع العنب لمن يتخذه خمرًا، والرطب لمن يتخذه نبيذا ولو كان كافرا، ويجوز فيما عدا ذلك. ومما يجب بيع ما زاد على قوته سنة إذا احتاج الناس إليه، ويجبره الحاكم عليه ولا يكره إمساكه مع الحاجة، ومما يحرم التسعير على الحاكم، ولو في غير المطعومات لخبر: "لا تسعروا فإن الله هو المسعر" 1، ولا يحرم البيع بخلافه لكن للحاكم أن يعزر من خالفه، إذا بلغه لشق عصا الطاعة أي للإخلال بالنظام، فهو من التعزير على الجائز، وقيل: يحرم فخرج بالشراء ما لو أمسك غلة ضيعته ليبيعها في زمن الغلاء

_ 1 الحديث وراه أحمد وأبو داود، والترمذي وابن ماجه والدارمي، والبزار وأبو يعلى من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت وغيره من أنس، وإسناده على شرط مسلم، وقد صححه ابن حبان والترمذي - التلخيص الحبير ج3 ص14.

وبالقصد ما لوا شترى لنفسه، أو مطلقا، ثم طرأ له إمساكه لذلك، وخرج بزمن الغلاء زمن الرخص، ومكان الغلاء كان اشتراه من مصر لينقله إلى مكة ليبيعه بأغلى، فلا حرمة في شيء من ذلك، على المعتمد، خلافا لابن حجر في بعض ذلك. تفريق الصفقة: سمي بذلك؛ لأن العرب كانوا يتصافقون عند العقد، فالعلاقة بين المعقود عليه وبين هذه التسمية هي المجاورة، والمراد بالتفريق أثره ومعنى التفريق اختلافها صحة بالنسبة لشيء، وفسادًا بالنسبة لآخر ابتداء أو دوامًا، والتفريق في اختلاف الأحكام معناه أن يكون لكل عقد من المختلفين حكم يخصه، وإليه أشار المصنف بقوله: إذا باع خمرًا وخلا في صفقة واحدة، أو مشتركا بغير إذن الشريك صح البيع في ملكه من الخل، وحصته من المشترك، وبطل في غيره في الأظهر، إعطاء لكل منهما حكمه. والثاني: يبطل في الجميع تغليبًا للحرام على الحلال قال الربيع: وإليه رجع الشافعي آخرًا، قال ابن المنذر: وهو مذهب الشافعي، وحينئذ فينظر لماذا خالف الأصحاب إمامهم في هذه المسألة، وقد يجاب بأن الربيع قال ذلك بحسب ما بلغه، ولعل الأصحاب اطلعوا علىخلافه، أو أن عبارة الربيع أحد قولي الشافعي، فتصحفت على الناقل بآخر قوليه، فعبر بما قاله، وقول ابن المنذر مبني على صحة الرجوع، وقد علمت بطلانه. ولو أذن له الشريك في البيع صح بيعه جزما؛ لأن الثمن في مقابلتهما، ويقدر الخمر خلا، ومحل التوزيع باعتبار القيمة حيث اختلفت قيمتهما بعد فرضهما خلين، فإذا لم تختلف وزع على الأجزاء؛ لأنهما مثليان، لكن الأرجح

كما جزم به المقري توزيع الثمن في المثلى أي المتفق القيمة، وفي العين المشتركة على الأجزاء، وفي المتقومات على الرءوس باعتبار القيمة، وإذا قدرنا الخمر خلا، فهل المراد من أعلى الخل، أو أدناه أو الغالب من جنسه، الأقرب الأخير للعرف، وإنما كان الأصح تقدير الخمر بالخل دون العصير؛ لأنه لا يمكن عوده عصيرا، ويمكن عوده خلا، فكان التقدير به أولى. وإذا جهل كون بعض المبيع خمرا، فيكون له الخيار بيع الفسخ والإجازة لتبعيض الصفقة عليه، وخياره على الفور كما قاله في المطلب، فإن علم ذلك فلا خيار له، كما لو اشترى معيبًا يعلم عيبه، وفيما يلزمه الخلاف الآتي من الحصة أو جميع الثمن، وقيل: يلزمه الجميع قطعا؛ لأنه التزمه عالما بأن بعض المذكور لا يقبل العقد، فإن أجاز البيع فبحصته من المسمى باعتبار قيمتهما، ويقدر الخمر خلا وقيل: عصيرًا، فإذا كانت قيمتهما ثلاثمائة والمسمى مائة وخمسين، وقيمة الخل مائة فحصته من المسمى خمسون، وفي قول بجميعه وكأنه بالإجازة رضي بجميع الثمن في مقابلة ما في المبيع من الخل، ولا خيار للبائع وإن لم يجب له إلا الحصة إن كان المبيع مما يتقسط الثمن على أجزائه كالمشترك وجب القسط، لتعديه حيث باع ما لا يملكه، وطمع في ثمنه1. وليس تفريق الصفقة خاصًّا بالبيع، بل إنه يأتي أيضا في الهبة والنكاح، فإن زوج ابنته وبنت غيره بغير إذنه، فيصح في بنته فقط. ولو جمع في صفقة مختلفي الحكم كإجارة وبيع، أو إجارة ومسلم كقوله: بعتك سيارتي وأجرتك داري سنة بكذا، وكقولك: أجرتك داري شهرًا، وبعتك

_ 1 قليوبي وعميرة "ج2 ص188".

صاع قمح في ذمتي سلما بكذا صحا في الأظهر، ويوزع المسمى على قيمتهما، أي قيمة المؤجر من حيث الأجرة، وقيمة المبيع أو المسلم فيه، والثاني يبطلان؛ لأنه قد يعرض لاختلاف حكمهما باختلاف أسباب الفسخ والانفساخ، وغير ذلك ما يقتضي فسخ أحدهما، فيحتاج إلى التوزيع، ويلزم الجهل عند العقد بما يخص كلا منهما من العروض، وذلك محذور وأجيب بأنه لا محذور في ذلك ألا ترى أنه يجوز بيع ثوب، وشقص من دار في صفقة، وإن اختلفا في الشفعة، واحتيج إلى التوزيع اللازم له ما ذكر. فهذا عقد واحد فيه جهل بالتوزيع حاله وجوده، ولم يبطل فأولى أن لا يضر ذلك في العقدين، وإنما قال: وإن اختلفا حكمهما؛ لأن متفقي الحكم يصح جمعهما جزمًا. ويلاحظ في ذلك أنه واختلفا من حيث الموضوع إلا أنه يجب توافقهما من حيث الجواز واللزوم، فإذا تعددت الصفقة بين عقدين لازمين كالبيع، والإجارة أو بين عقدين جائزين كالشركة، والقراض بأن خلط ألفين له بألف لغيره، وشاركه على أحدهما، وقارضه على الآخر، فإنه يصح ذلك. فإذا كان أحدهما لازما لو الآخر جائزا كبيع وجعالة، فإنه لا يصح؛ لأنه لا يمكن الجمع بينهما؛ لأن العروض في الجعالة لا يلزم تسليمه إلا بفراغ العمل، وفي البيع المذكور يجب تسليمه في المجلس، وتنافي اللوازم يقتضي تنافي الملزومات، وهذا يفيد أن اختلافهما في اللزوم، والجواز بمجرد ليس مقتضيان للبطلان، وبيان ذلك أن الإجارة تقتضي التأقيت، والبيع والسلم يقتضيان عدمه، والسلم يقتضي قبض رأس المال في المجلس بخلاف غيره1

_ 1 حاشية البجيرمي "ج2 ص95".

وكما تتعدد الصلة بالمبيع تتعدد أيضا بتفصيل الثمن كبعتك ذا بكذا، وذا بكذا، فيقبل فيهما وله رد أحدهما بالعيب، ويتعدد البائع نحو بعناك هذا بكذا، فيقبل منهما وله رد نصيب أحدهما بالعيب، وكذا يتعدد المشتري نحو بعتكما هذا بكذا، فيقبلان في الأظهر البائع. والثاني: لا؛ لأن المشتري بنى على الإيجاب السابق، فالنظر إلى من صدر من الإيجاب، ومجمل القول أن التعدد إنما يكون إذا فصل البادي من البائع، والمشتري دون القابل، فإذا فصل الموجب وأجمل القابل كان العقد متعددا حملا للإجمال على التفصيل، ولو أجمل الموجب، وفصل القابل لا يتعدد العقد حملا للتفصيل على الإجمال، وهذا هو المفهوم من كلام الأصحاب، وجرى عليه شيخنا كابن حجر، ولا يضر كثرة التفصيل، وإن طال بها الفصل بين الإيجاب والقبول؛ لأن هذا الفصل يتعلق بشيء في العقد، وهو المعقود عليه. ولو كان العاقد وكيلا في رهن وشفعة، فالعبرة في اتحاد الصفقة، وتعددها بالوكيل لتعلق أحكام العقد به كرؤية المبيع، وثبوت خيار المجلس وهذا على الأصح، والثاني: اعتبار الموكل؛ لأن الملك له وصححه في المحرر في أكثر نسخه كما قاله في الدقائق تبعا لتصحيح الوجيز، ونقل في الشرحين تصحيح الأول عن الأكثرين. ولو خرج ما اشتراه من وكيل عن اثنين، أو من وكيلين عن واحد معيبًا، فعلى الأول له رد نصفه في الصورة الثانية دون الأولى، وعلى الثاني ينعكس الحكم. ولو خرج ما اشتراه وكيل عن اثنين، أو وكيلان عن واحد معيبا، فعلى الأول للموكل الواحد نصفه، وليس لأحد الموكلين رد نصفه، وعلى الثاني ينعكس الحكم.

حكم بيع الأدخنة: وإذا كنا قد علمنا أن الشرط في المبيع أن تكون له منفعة مقصودة شرعًا، فهل الدخان المعروف فيه منفعة، فيصح بيعه أو لا منفعة فيه، فيكون بيع حرامًا، لقد قيل: إنه يدخل ضمن الأشياء التي لا منفعة فيها، وإذا فلا يصح بيعه بل يحرم استعماله؛ لأن فيه ضررا كبيرا وهذا ضعيف، وكذا القول بأنه مباح. والمعتمد: أنه مكروه، بل قد يعتريه الوجوب كما إذا كان من يتعاطاه يتيقن الضرر بتركه، وحينئذ فبيعه صحيح، وقد تعتريه الحرمة كما إذا كان الذي يشتريه يحتاج ثمنه لنفقة عياله، أو يتقين الضرر إذا تعاطاه1. وقد جاء في حاشية الرشيدي: والحق في التعليل أنه منتفع به في الوجه الذي يشتري له، وهو شربه إذ هو من المباحات لعدم قيام دليل على حرمته، فتعاطيه انتفاع به في وجه مباح2. والصواب هو ما ذكره الشيخ الباجوري في حاشيته؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 3، والإسراف وضع الشيء في غير موضعه، فمن احتاج إلا طعام فعدل عنه إلى شراء الدخان، فلا شك أنه آثم بهذا العمل الضار، فالنص بتناوله من هذه الناحية.

_ 1 راجع حاشية الباجوري على ابن قاسم "ج1 ص343". 2 حاشية السندي على المنهاج للرملي "ص177". 3 من الآية 31 من سورة الأعراف.

حكم بيع آلات اللهو: أما ألات اللهو فقد اختلف فيه العلماء هل يجوز بيعها أو لا يجوز؟. وذلك على رأيين: الأول: قال: يصح بيعها وهو شاذ. والرأي الثاني: وإن سلم بأن منفعها محرمة إلا أنه نظر إلى شيء آخر علق عليه الحل والحرمة، وهو جسم الآلة نفسها، فقال: إن كانت لا تعد بعد الرض أي الكسر مالا: لم يصح بيعها؛ لأنه ليس فيها منفعة شرعا. أما إذا كان رضاضها أي حطامها يعد مالا، ففي صحة بيعها وبيع الأصنام والصور المتخذة من الذهب والفضة، وغيرها ثلاثة أوجه: الأول: وهو أصحها البطلان، وبه قطع كثيرون. الثاني: الصحة. الثالث: وهو اختيار القاضي حسين في تعليقه والمتولى، وإمام الحرمين، والغزالي أنه إن اتخذ من جوهر نفيس صح بيعها، وإن اتخذ من خشب ونحوه فلا. قال الرافعي: والمذهب البطلان مطلقا، وبه قطع عامة الأصحاب1.

_ 1 راجع المجموع شرح المهذب "ج9 ص278".

الربا: تعريفه وأقسامه

الربا: تعريفه وأقسامه مدخل ... الفصل الثاني: الربا: تعريفه وأقسامه ومن البيوع المنهي عنها نهيا مغلظًا "الربا": ومعناه في اللغة: الزيادة والنمو والارتفاع والعلو قال تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} 1، أي علت وارتفعت. وقال تعالى: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} 2، أي أكثر عددًا وأوفر مالًا. وشرعا: عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد، أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما. فقولنا: "عقد" يتضمن الإيجاب والقبول، فإذا لم يكن إيجاب ولا قبول، فلا عقد كما لو باع بمعاطاة أي بتسليم وتسلم من غير صيغة، وهو الواقع في أيامنا لم يكن ربا، وإن كان حرامًا لكن أقل من حرمة الربا، وقولنا: "عوض مخصوص"، هو النقد والمطعوم، فلا ربا في غيرهما كنحاس وقماش، وقولنا: "غير معلوم التماثل"، يصدق بمعلوم التفاضل، وبمجهول التماثل والتفاضل أي في متحد الجنس، وقولنا: في معيار الشرع" متعلق بالتماثل، ومعيار الشرع هو الكيل في المكيل والوزن في الموزون والعد في المعدود، والذرع في المذروع، وقولنا: "حالة العقد" قيد لا بد منه دخل به، ما لو كان معلوم التماثل في معيار الشرع لا حالة العقد بأن تبايعا جزافا كصبرة قمح بصبرة قمح، ثم خرجا سواء فإنه يصدق عليه أنه مجهول التماثل في معيار الشرع حالة العقد، وقولنا: "أو مع تأخير في البدلين، أو أحدهما"، أي ومقابلة عوض بآخر مع تأخير في العوضين، أو أحدهما سواء كانا متحدي الجنس، أو

_ 1 سورة النحل الآية: 92. 2 سورة الحج الآية: 5.

مختلفيه، لكن مع الاتحاد في علة الربا التي هي النقدية في النقد والطعمية في المطعوم، فيخرج بذلك ما لو باع برا بدراهم مع التأخير المذكور، فليس ذلك ربا لاختلاف علة الربا، والمراد بالتأخير ما يشمل تأخير القبض، أو الاستحقاق فيصدق بربا النساء. والحاصل: أن الشق الأول من التعريف، وهو قوله غير معلوم التماثل خاص بمتحد الجنس، وأن الثاني أو مع تأخير في البدلين، أو أحدهما عام لمتحدي الجنس، ومختلفيه سواء كان التأخير للقبض أو الاستحقاق، وبذلك يعلم أن "أو" للتفريع، وهي لا تمنع في الرسوم أي التعريفات. وخلاصة القول: أن الربا في اصطلاح الفقهاء، هو زيادة أحد البدلين المتجانسين من غير أن يقابل هذه الزيادة عوض، وليس كل زيادة ربا من حيث هي، فإن الزيادة تحصل في التجارة، ولا ربا فيها، وإنما الزيادة التي اصطلح عليه بهذا الاسم "الربا"، وجاء القرآن بتحريمها هي تلك الزيادة التي تؤخذ في نظير الأجل قال قتادة: "إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل، ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده، وأخر عنه"، وقال مجاهد في الربا الذي نهى الله عنه: "كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين، فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني، فيؤخر عنه". الربا أقسامه ثلاثة: 1- ربا الفضل: وهو زيادة أحد العوضين على الآخر عند تبادل شيء مماثل يدا بيد، وقد حرم الإسلام هذا النوع من التعامل مخافة أن يقضي بالناس في النهاية إلى الربا الحقيقي، وهو ربا النساء، الذي كان شائعًا في المجتمع العربي، وفي هذا المعنى يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تبيعوا

الدرهم بدرهمين، فإني أخاف عليكم الرما"، والرما معناه الربا1. ولما كان هذا النوع قد يجر إلى الربا اقتضت حكمة الشارع تحريمه؛ لأنه قد يفضي بهم إلى الحرام، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويدخل في هذا النوع ربا القرض، وهو أن يقرض إنسان لآخر مبلغا من المال، ويشترط عليه أن يؤدي له منفعة، كأن يزوجه ابنته، أو يشتري منه سلعة، أو يزيده عن أصل الدين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل دين جر نفعا، فهو حرام". حكم ربا الفضل: لا خلاف بين فقهاء المذاهب الأربعة في تحريم ربا الفضل، ويقال: إن بعض الصحابة أجازوه، ومنهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، لكن نقل أنه رجل عن رأيه أخيرا، وقال بحرمته. والدليل على تحريمه قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تبيعوا الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح إلا مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد، فمن زاد أو استزاد، فقد أربى الآخذ، والمعطي فيه سواء" 2. ومعنى هذا الحديث أنه إذا احتاج الناس إلى تبادل أشياء من جنس واحد، فلهم أن يختاروا أحد طريقين: "أولهما" أن يتبادلوهما سواء بسواء أي متساويين في القدر من غير

_ 1 المغني لابن قدامة "ج4 ص6". 2 رواه أحمد والبخاري "نيل الأوطار للشوكاني ج5 ص215".

زيادة، ولا نقصان بشرط الحلول، والتقابض قبل التفرق، صار فيه النظر عما بينهما من فروق أخرى كالجودة مثلًا. "وثانيهما" أن يبيع كل رجل شيئه نقدًا أي حالا من غير نسيئة في شيء منه. وذلك لما رواه أبو سعيد الخدري، وأبو هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاءهم بتمر جنيب، فقال: "أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا. إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا" 1. وعن أبي سعيد الخدري أيضًا قال: "جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "من أين هذا"؟ قال: كان عندنا تمر رديء بعت منه صاعين بصاع، فقال: أوه أعين الربا عين الربا. لا تفعل: ولكن إذا أردت أن تشتري، فبع التمر بيع آخر ثم اشتر به" 2. ومثل هذا النهي عن بيع الذهب والفضة، ورد في حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثل بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منهما غائبا بناجز"، متفق عليه وتشفوا أي تزيدوا، ويؤخذ من هذا أن يبع الجنس يشترط فيه، التماثل والحلول والتقابض. أما إذا بيع جنس بجنس كقمح بشعير، فلا تحرم الزيادة لكن يشترط التقايض والحلول إلا أن يكون أحد البدلين نقدا، والآخر طعاما، فإنه يصح فيه التأخير سواء أكان الطعام مبيعا، كما إذا اشترى قمحا بجنيهات لأجل، أم كان

_ 1 رواه البخاري "المرجع السابق ج5 ص220-221"، ورواه مسلم في صحيحه بشرح النووي ج11 ص21. 2 رواه الشيخان صحيح مسلم ج11 ص22.

الطعام ثمنا كان إذا اشترى خمسة جنيهات بخمسة أرادب من القمح يدفعها في وقت كذا، وهذا هو السلم1. حكمه تحريم ربا الفضل: وبما أن ربا الفضل فيه شبح من الربا، وعنصر من عناصره، فإن مما لا شك فيه أن هناك فروق أساسية في تبادل الشيئين المتماثلين، هي التي تقتضي الزيادة. وذلك واضح في حادثة بلال حين أعطى صاعين من تمره الردي، وأخذ صعا من التمر الجيد.. ولكن؛ لأن تماثل النوعين في الجنس يخلق شبهة أن هناك عملية ربوية، إذ يلد التمر التمر! فقد وصفه صلى الله عليه وسلم بالربا، ونهى عنه. وأمر ببيع الصنف المراد استبداله بالنقد، ثم شراء الصنف بالمطلوب بالنقد أيضًا إبعادًا لشبح الربا من العملية تمامًا!. هذا من جهة ومن جهة أخرى، فقد يستغل الدهاة، والمخادعين ضعاف العقول، ويلبسوا عليهم أن هذا الإردب من القميح يساوي ثلاثة لجودته، وهذه القطعة المنقوشة نقشا بديعا من الذهب تساوي زنتها مرتين، وفي ذلك من الغبن بالناس، والإضرار بهم ما لا يخفى2. 2- ربا اليد: وهو البيع مع تأخير قبضهما، أو قبض أحدهما من غير ذكر أجل. 3- ربا النسيئة: وهو البيع لأجل، وهو الذي كان مشهورًا في الجاهلية، فقد كان الواحد منهم يدفع ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا، ورأس المال باق بحاله فإذا حل طالبه برأس ماله، فإن

_ 1 راجع الفقه على المذاهب الأربعة ج2 ص325. 2 راجع سيد قطب في تفسير آيات الربا ص24 والفقه على المذاهب الأربعة ج2 ص334.

تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل. فالربا ظاهر في هذا النوع، ولا يحتاج إلى بيان إذ تتوافر فيه العناصر الأساسية لكل عملية ربوية: وهي: الزيادة على أصل المال، والأجل الذي من أجله تؤدى هذه الزيادة، وكون هذه الفائدة شرطا مضمونا في التعاقد، أي ولادة المال للمال بسبب المدة ليس إلا.. حكم ربا النسيئة: وقد جاء تحريم ربا النسيئة تحريما قاطعا بكتاب الله، وسنة رسوله وإجماع المسلمين. أما الكتاب، فقد قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} 1. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} 2. وفي هذا السياق يكشف الحق تبارك وتعالى عما في عملية الربا من قبح وشناعة، ومن جفاف في القلب وشر في المجتمع، وفساد في الأرض وهلاك للعباد، ولهذا فإن الإسلام لم يبلغ من تفظيع أمر أراد إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا.. ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا في هذه الآيات، وفي غيرها من مواضع أخرى.. وإن

_ 1 الآيتان "275، 276" من سورة البقرة. 2 الآية "278" من سورة البقرة.

من يتدبر حكمه الله وعظمة هذا الدين، وكمال هذا المنهج، ودقة هذا النظام يدرك اليوم من هذا كله ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص أول مرة، وأمامه اليوم من واقع العالم ما يصدق كل كلمة تصديقا حيا مباشرا واقعا، فإن البشرية الضالة التي تأكل الربا، وتوكله تنصب عليها البلايا الماحقة الساحقة من جراء هذا النظام الربوي، في أخلاقها ودينها وصحتها، واقتصادها.. وتتلقى -حقا- حربا من الله تسب عليها النقمة والعذاب، أفرادا وجماعات، وأمما وشعوبا، وهي لا تعتبر ولا تفيق. وأما تحريم الربا من السنة، فقد وردت فيه روايات كثيرة منها ما رواه مسلم: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل الربا، وموكله وكاتبه، وشاهديه" 1، ومنها ما رواه ابن ماجه والبيهقي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وأن أربى الربا عرض الرجل المسلم". وأجمعت الأمة على أن الربا من الكبائر، حتى قيل: إنه لم يحل في شريعة من الشرائع السابقة، كقوله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} 2، يعني الأمم السابقة. شبهات مردودة: الشبهة الأولى: أن المنهزمين من المسلمين يزعمون أن الربا المحرم هو الذي يكون أضعافا مضاعفة، استنادا إلى قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} 3، وهذا زعم باطل، وخطأ صريح؛ لأن

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي ج11 ص26. 2 من الآية "161" من سورة النساء. 3 من الآية "130" من سورة آل عمران.

الغرض من الآية الكريمة، إنما هو التنفير في أكل الربا، ولفت نظر المرابين لما عساه أن يئول إليه أمر الربا من التضعيف، الذي قد يستغرق مال المدين، فيصبح لمرور الزمن، وتراكم فوائد الربا فقيرا بائسا عاطلا في هذه الحياة بسبب هذا النوع الفاسد من المعاملة، وفي ذلك من الضرر على نظام العمران ما لا يخفى، ولا يكاد يتصور عاقل أن الله تعالى ينهى عن ثلاثة أضعاف، ولا ينهى عن الضعفين أو الضعف، على أنه لا يمكن لعاقل أن يفهم هذا المعنى بعد قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} 1. الشبهة الثانية: وهي أن القرض بفائدة ليس من باب الربا؛ لأن الربا عقد بيع لا بد له من صيغة، أو ما يقوم مقامها، وما يتعامل به الناس الآن من أخذ مال قرضا بفائدة ليس ببيع إذ لا عقد هناك، وهذا صحيح؛ لأن الشافعية هم القائلون بذلك، ولكن غير صحيح أنهم لا يحرمون هذه العملية، فهم وإن قالوا: إن مثل ذلك ليس بعقد أيضا: إنه من باب أكل أموال الناس بالباطل، أو أن مضار الربا الذي حرم من أجلها متحققة فيه، فحرمته كحرمة الربا وإثمه كإثمه. فتحريم القرض بفائدة ثابت على أي وجه من الوجوه. الشبهة الثالثة: أن العرب ما كانت تفرق بين البيع والربا، فكانت تحسبهما من نوع واحد، فجاء الإسلام ليبين لهم أن الزيادة التي تؤخذ على رأس المال بالبيع مختلفة عن التي تؤخذ على رأس المال في نظير الأجل، وأن الأولى مشروعة، والثانية غير مشروعة: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 2، وهذه الشبهة لا زالت قائمة إلى اليوم، فإن

_ 1 من الآية "279" من سورة البقرة. 2 من الآية "275" من سورة البقرة.

كثير من الناس في زماننا هذا يستحلون الفائدة التي تدفعها المصارف، والبنوك لأصحاب الأمول الذين يودعون أموالهم فيها. وكانت شبهة العرب التي ركنوا إليها، هي أن البيع يحقق فائدة وربحا، كما أن الربا يحقق فائدة وربحا.. وهي شبة واهية، فالعمليات التجارية قابلة للربح وللخسارة، والمهارة الشخصية والجهد الشخصي، والظروف الطبيعية الجارية في الحياة هي التي تتحكم في الربح والخسارة، أما العمليات الربوية فيه محددة الربح في كل حالة، وهذا هو الفارق الرئيسي، وهذا هو مناط التحريم والتحليل. إن كل عملية يضمن فيها الربح على أي وضع، هي عملية ربوية محرمة بسبب ضمان الربح وتحديده.. ولا مجال للمماطلة في هذا، ولا للمداورة1. الفرق بين الربا والبيع: وإذا كان الله قد أحل البيع وحرم الربا، فذلك من وجوه: أولا: أن البيع فيه عوض يقابل عوضًا، والربا زيادة لا مقابل لها، ذلك أن البيع يلاحظ فيه دائما انتفاع المشتري بالسلعة انتفاعا حقيقيا؛ لأن المشتري إذا اشترى قمحا مثلا، فإنما يشتريه ليأكله، أو ليبزره أو ليبيعه، وهو في كل ذلك ينتفع به انتفاعا حقيقيا، هذا بالإضافة إلى أن الثمن مقابل للمبيع مقابلة مرضية للطرفين البائع والمشتري، فكل منهما أقدم على ذلك عن طواعية، ورضا واختيار، وأما الربا في إعطاء الدراهم والمثليات، وأخذها مضاعفة في وقت آخر، فما يؤخذ منه زيادة عن رأس المال لا يقابل له من عين عمل، وهي لا تعطى بالرضا والاختيار، بل بالكره والاضطرار.

_ 1 راجع سيد قطب في تفسير آيات الربا "ص24" وما بعدها.

ثانيًا: إن الله حرم الربا في النقدين؛ لأنهما وضعا أساسا ليكونا ميزانا لتقديم قيم الأشياء التي ينتفع بها بالناس في معايشهم، فإذا تحول هذا، وصار النقد مقصودًا بالاستغلال، فإن هذا يؤدي إلى انتزاع الثورة من أيد أكثر الناس، وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استغلال المال بالمال، فينمو المال ويربوا عندهم في المصارف، والبنوك، ويبخس العاملون قيم أعمالهم؛ لأن الربح يكون معظمه من المال نفسه، وبذلك يهلك الفقراء. ثالثا: أنه لا يصح أن يكون الإنسان ماديا بحتا ليس فيه عاطفة خير لأخيه، فيستغل فرصة احتياجه، ويوقعه في شرك الربا، فيقضي على ما بقي فيه من حياة من أن الله تعالى قد أوصى الأغنياء بالفقراء، وجعل لهم حقًّا معلومًا في أموالهم، وشرع القرض لإغاثة الملهوفين، وإغاثة المضطرين حتى لا يكون الناس في تعاملهم كالذئاب لا يعرفون الرحمة، والتعاون عند الشدائد والأزمات، لهذا وغيره حرم الله الربا.

الأشاء التي يكون فيها الربا محرما

الأشاء التي يكون فيها الربا محرمًا ... المبحث الأول: الأشياء التي يكون الربا فيها محرما: وهي الذهب والفضة والبر، والشعير والتمر والملح، وذلك لما روى عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شيئتم إذا كان يدا بيد" 1.

_ 1 الحديث عزاه المصنف للشافعي بسنده، عن طريق مسلم بن يسار، وغيره عنه وزاد مسلم: "فمن زاد أو استزاد، فقد أربى الآخذ والمعطي سواء". "التلخيص ج3 ص7".

فأما الذهب والفضة، فإنه يحرم فيهما الربا لعلة واحدة، وهي أنهما من جنس الأثمان، فيحرم الربا فيهما، ولا يحرم فيما سواهما من الأموال كالحديد والنحاس والرصاص، والفلوس إذا راجت رواج النقود، ولا ربا كذلك في المواد التجارية كلها من قطن، وكتان وصوف وغزل وغيرها، فيجوز بيع بعضها ببعض متفاضلا، ومؤجلا ولا خلاف في شيء من ذلك إلا وجها حكاه المتولى والرافعي، ولا فرق في النقدين أن يكون مضروبا أو غير مضروب، فلا يصح أن يشتري جنيهين بثلاثة لأجل، أو مقابضة كما لا يصح أن يشتري قطعة مصنوعة من الذهب، زنتها عشرة مثاقيل بقطعة زنتها ثلاثة عشر؛ لأن مبادلة الجنس بمثله يشترط فيه ثلاثة شروط: التماثل والحلول، والتقابض قبل التفرق، فإن اختلفت الأجناس جاء التفاضل، واشترط الحلول والتقابض، وأما الأعيان الأربعة الباقية ففيها قولان: قال في الجديد: العلة فيها أنها مطعومة. والطعام اسم لكل ما يطعم، فعلى هذا يحرم الربا في كل ما يطعم، وهو يشمل ثلاثة أمور: أحدهما: أن يكون للقوت كالبر والشعير والمقصود منهما التقوت، والحق بهما ما يشاركهما في ذلك كالأرز والذرة، وغير ذلك مما جرت عادة الناس بتحصيلة لأكل الآدميين بشراء أو زراعة، أو إدخار أو غير ذلك، واختلف في الماء العذب، فقيل: إنه يلحق بالقوت؛ لأنه ضروري للبدن، وقد أطلق الله عليه أنه طعام قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} 1، وقيل: إنه مصلح للبدن، فهو ملحق بالتداوي. والثاني: التفكه والتأدم، والتفكه هي الفاكهة، والحلاوات، والتأدم

_ 1 من الآية "249" من سورة البقرة.

الغموس فالحق بهما كل ما في معناهما كالتين، والزيت وغيرهما. والثالث: أن يكون لإصلاح الطعام أو لإصلاح البدن، وقد نص الحديث على الملح، فيلحق به كل ما في معناه مما يصلح الغذاء، أو يصلح البدن فإن الغذاء يحفظ الصحة، والأدوية ترد الصحة، فلا ربا فيما يختص به الجن كالعظم، أو البهائم كالتين والحشيش والنووي، أو غلب تناولها له، وإن قصده الآدميون كما قال الماوردي، وجرى عليه الشارح، وخالف في ذلك بعض المتأخرين، أما إن كانا على حد سواء، فالأصح ثبوت الربا فيه، ولا ربا في الحيوان مطلقا سواء أجاز بلعه كصغار السمك أم لا؛ لأنه لا يعد للأكل على هيئته، والدليل على أن الحيوان لا يدخله الربا أن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أجهز جيشا، فنفدت الإبل فأمرني أن آخذ على قلاص1 الصدقة، فكنت آخذ البعير بالبعيرين"، وباع ابن عباس رضي الله عنه بعيرا بأربعة أبعرة، ولا ربا في الجلود التي لم تؤكل غالبا؛ لأنها لم تخلق لذلك. وقال في القديم: العلة فيها أنها مطعومة مكيلة، أو مطعومة موزونة، فعلى هذا لا يحرم الربا فيما لا يكال، ولا يوزن من الأطعمة كالرومان، والسفر جل والقثاء والبطيخ، وما أشبهها.

_ 1 القلوص من النوق، الشابة وجمعها قلص وقلائص "المصباح المنير ج3 ص620".

المبحث الثاني: بيع الحبوب بأجناسها وبغير أجناسها

المبحث الثاني: بيع الحبوب بأجناسها، وبغير أجناسها: ومن الأموال الربوية المذكورة في الحديث: البر بالبر والشعير بالشعير، وليس الربا قاصرا على القمح والشعير، وإنما يدخل معه بطريق القياس جميع الأجناس التي تتحد معهما في العلة، وهي الطعمية فكل ما يتقوت به الإنسان، ويطعمه وعليها تقوم بنيته، فإنه من الأموال الربوية، فإذا بيع بجنسه فلا يصح إلا بثلاثة شروط: الأول: المماثلة فيما يكال كيلا، وإن تفاوت في الوزن، وفيما يوزن وزنا وإن تفاوت في الكيل والعبرة، فيما يكال ويوزن بكيل الحجاز، ووزنه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة" 1. وإن كان مما لا أصل له بالحجاز ألحق بأشبه الأشياء به في الحجاز، فيأخذ حكمه، وقيل: يعتبر بالبلد الذي فيه البيع؛ لأنه أقرب إليه، وقد ذكر الشيخ الشربيني الخطيب في ذلك قوله: والمعتبر في كون الشيء مكيلا، أو موزونا غالب عادة أهل الحجاز في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لظهور أنه اطلع على ذلك وأقره، وإن لم يكن في عهده، أو كان، وجهل حاله فيراعى فيه عادة بلد المبيع والمماثلة تكون في الحبوب حال كمالها، وهو وقت الجفاف، وتنقيتها شرط للمماثلة لا للكمال. الثاني: أن يكون نقدا أي حالا دون تأخير في أحد العوضين؛ لئلا يدخل في بيع الكالئ بالكالئ أي بيع النسيئة بالنسيئة، كما قال أبو عبيدة، والنسيئة: التأخير في الدفع.

_ 1 والحديث رواه ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم عنه أبو داود، والمنذري وأخرجه البزار، وصححه ابن حبان، والدارقطني "نيل الأوطار شرح منتقى الأخيار ج2 ص223".

الثالث: التقابض قبل التفرق، وقبض كل شيء بحسبه فالمنقول: يكون قبضه بالتسليم والتسلم، وقبض غير المنقول من أرض وشجر، ونحوه بالتخلية بينه وبين المشتري بأن يمكنه من البائع، ويسلمه المفتاح، ويفرغه من متاع غير المشتري اتباعا للعرف، وهذا هو القبض الحقيقي، فلا تكفي الحوالة، وإن حصل القبض بها في المجلس، أما قبض الوكيل، فيكفي عن العاقدين، أو أحدهما ما دام القبض قد تم في المجلس، فإذا تفرقا قبل القبض بطل العقد، فإن كان التفرق بإكراه، فلا يبطل؛ لأن تفرقهما حينئذ كلا تفرق، وهذا هو المعتمد. وإذا قال أحدهما لصاحبه: اختر لزوم العقد فاختار لزومه، فإن كان قبل القبض بطل العقد حتى ولو تقابضا بعد ذلك في المجلس؛ لأن التخاير كالتفرق سواء بسواء، فإذا لم يتم التقايض قبله بطل العقد. وخلاصة ما تقدم: أن بيع الربا بجنسه كقمح بقمح وشعير بشعير، وذهب بذهب إلخ يحرم فيه التفاضل، والنساء، والتفرق قبل القبض لما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة والتمر بالتمر، والبر بالبر والشعير بالشعير، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيدا". ومعنى يدا بيد أن يعطيه البائع المبيع بيد، ويتناول الثمن باليد الأخرى، أو أن يقبضه في المجلس قبل التفرق، فإن باعه بغير جنسه، فإن كان مما يحرم فيه الربا بعلة واحدة كذهب بفضة، أو قمح بشعير جاز فيه التفاضل، وحرم فيه النساء، والتفرق قبل القبض، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد". أما إن كان مما يحرم فيهما الربا بعلتين: كبيع الحنطة بالذهب، والشعير بالفضة حل فيه التفاضل، والنساء، والتفريق قبل التقابض لإجماع الأمة على جواز إسلام الذهب، والفضلة في المكيلات المطعومة1.

_ 1 راجع المهذب ج1 "ص272".

بيع الدقيق بدقيق مثله: وإذا كانت الماثلة اليقينية شطر لازم لصحة المبادلة، فإن بيع الدقيق بدقيق مثله لا يصح لانتفاء المماثلة، فإن الدقيق يتفاوت في النعومة، فأشبه بيع بالصبرة بالصبرة جزافا1، ولا يجوز بيع الدقيق بالخبز؛ لأنه دخله النار وخالطه الملح والماء وذلك يمنع التماثل، وكذلك لا يجوز بيع الخبز المأخوذ من جنس ببعضه كخبز القمح بخبز القمح مثلا لانتفاء المماثلة اليقينية، بما أحدثته النار في كل منهما. والحبوب الجافة التي لا دهن فيها تتحقق المماثلة بالجفاف، فتكون مبادلة بعضها ببعض في الحبوب حبا، أما إن كان فيها دهن كحب السمسم، فيجوز بيع السمسم بمثله، أو الشبرج بمثله. ويصح بيع دقيق القمح بدقيق الذرة، وغيره لاختلاف الجنس لعدم اشتراط المماثلة فيه. "مسألة" لو قال: بعتك هذه الصبرة بتلك الصبرة مكايلة، أي كيلا بكيل، أو هذه الدراهم بتلك موازنة، فإن كالا أو وزنا، وخرجتا سواء، فالبيع صحيح وإلا لم يصح على الأظهر. "والثاني" يصح في الكبيرة بقدر ما يقابل الصغيرة، ويكون الخيار لمشتري الكبيرة.

_ 1 الجزاف بيع الشيء لا يعلم كيله، ولا وزنه وهو بفتح الجيم، والجزاف بالضم خارج عن القياس، وهو فارسي معرب "المصباح ج1 ص121".

المبحث الثالث: بيع الفاكهة بجنسها وما يتعلق بها.

المبحث الثالث: بيع الفاكهة بجنسها، وما يتعلق به. الفواكه والثمار من الأموال الربوية، وذلك بنص الحديث المتقدم؛ ولأنها من المطعومات، فلا يباع جنس الفاكهة بجنسه كتمر بتمر، وزبيب بزبيب إلا مثلا بمثل يدا بيد، وتعتبر المماثلة في الثمار وقت الجفاف هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنه يشترط مع جفافها أن تكون صالحة للإدخار على هيئة تمنعها من الفساد، فالتمر مثلا إذا نزع منه النوى بعد الجفاف، فإنه ولا شك يبطل كما له الفساد يتسارع إليه، فإن كان كما له لا يبطل بنزع نواه كالمشمش والخوخ، فلا يبطل بذلك؛ لأنه لا يجف غالبا إلا بنزع النوى. وما دامت المماثلة شرطا لصحة البيع، فلا يجوز بيع الرطب بالتمر لما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، "سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: "أينقص الرطب إذا يبس؟ فقيل له: نعم قال: فلا إذا" 1 فنهى عن بيع الرطب بالتمر، وجعل العلة فيه أنه ينقص عن يابسه، فدل على أن كل رطب لا يجوز بيعه بياسه إلا في بيع العرايا، وهو بيع الرطب على النخل بالتمر على الأرض خرصا2. وأما بيع الرطب بالرطب، فإن كان من نوع لا يدخر إلا يابسا مثل الرطب والعنب، فلا يجوز للجهل بالتماثل حال الكمال والادخار، وإن كان مما لا يدخر يابسه كسائر الفواكه، ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه جنس فيه ربا فلم يجز بيع رطبه برطبه مثل في ذلك مثل الرطب والعنب. والثاني: يجوز؛ لأن معظم منافعه في حال رطوبته قياسا على جواز بيع اللبن باللبن3، والرطب الذي لا يتثمر، والعنب الذي لا يكون زبيبا لا يصح بيع بعضه ببعض أصلا قياسا على الرطب بالرطب، ويستثنى الزيتون فإنه لا جفاف له، فيجوز بيع بعضه ببعض كما جزم به الغزالي وغيره.

_ 1 رواه الخمسة وصححه الترمذي "نيل الأوطار ج5 ص224". 2 الخرص هو التخمين تقول: خرصت النخل خرصا حرزت تمره على وجه التقريب "نيل الأوطار ج5 ص228" "والمصباح ج1 ص200". 3 راجع المهذب "ج1 ص274".

حكم بيع العجوة: وإذا كنا قد عرفنا فيما سبق أنه يشترط عدم نزع نوى التمر منه حتى لا يتسارع إليه الفساد، فهل العجوة ينطبق عليها مثل هذا الشرط، فلا يجوز بيع بعضها ببعض، أو أن بيعها جائز؛ لأنها تدخر عادة، ولا يسرع إليها الفساد؟ في هذه المسألة نظر، والذي نرجحه أنه لا يجوز بيع بعضها ببعض؛ لأن نزع النوى من شأنه أن يعرضها للفساد، وأيضا فإن العجوة لا تخرج عن أن تكون أما رطبا نزع نواه أو تمرا، فإن كانت تمرا، فعدم الصحة مستفاد من أنها تمر منزوع النوى، وإن كانت رطبا فعد الصحة مستفاد من قولهم: لا يباع رطب برطب ولا جاف، وإذا كان التمر المنزوع النوى لا يصلح للإدخار؛ لأنه يفسد، ومن ثم فلا يجوز بيعه، فلو فرض أن الله تعالى خلق تمرا، أو زبيبا لا نوى له، فإنه يصح بيعه بمثله لكماله، وصلاحيته للادخار.

المبحث الرابع: بيع اللحم بجنسه وما يتعلق به.

المبحث الرابع: بيع اللحم بجنسه، وما يتعلق به: ومن الأموال التي يدخلها الربا، اللحم، وهو أجناس مختلفة في الأظهر، وقيل: هو جنس لا شتراكها في الاسم الذي لا يقع التمييز بعده إلا بالإضافة، فعلى أنه أجناس فإن البقر والجاموس جنس، والضأن والمعز جنس، والإبل جنس. وثمرة هذا الخلاف تظهر، فإنه يصح بيع لحم البقر بلحم الضأن متفاضلا إذا جرينا على أنه أجناس مختلفة، وعلى القول بأنه جنس، فلا يصح بيع شيء من اللحم ببعضه إلا مثلا بمثل يدا بيد، ويستوي في ذلك الوحشي والأهلي، والبري والبحري على الأصح في الروضة، وتعتبر مماثلة اللحم وقت جفافه إذا طاب، ونضج وصار مقددا.

ولا يصح بيع اللحم بحيوان حي في الأظهر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع اللحم بالحيوان"1. وروى ابن عباس رضي الله عنه أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه، فجاء رجل بعناق، فقال: أعطوني بها لحما فقال أبو بكر: لا يصلح هذا. وسبب المنبع أنه جنس فيه الربا بيع بأصله الذي فيه مثله، فلم يجز كبيع الشيرج بالسمسم. وهل يدخل لحم السمك في ذلك، فيه وجهان: قال أبو إسحاق يدخل فيها، فلا يجوز بيعه بلحم شيء من الحيوان متفاضلا؛ لأن اسم اللحم يقع عليه، والدليل عليه قوله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} 2، ومن أصحابنا من قال: لا يدخل فيه لحم السمك وهو المذهب؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم اللحم، ولهذا لو حلف لا يأكل اللحم لم يحنث بأكل لحم السمك. وأما الطيور فالعصافير على اختلاف أنواعها جنس، والبطوط جنس، وكذا أنواع الحمام على الأصح، وبعض الطيور أجناس، والكبد والطحال، والقلب والكرش والرئة، والمخ أجناس وإن كانت من حيوان واحد لاختلاف أسمائها وصفاتها، وشحم الظهر والبطن واللسان، والرأس والأكارع أجناس، وأما حيوانات البحر فما كان منها على هيئة السمك المعروف كالحوت، واللبيس والمرجان، والبلطي والبوري، ونحو ذلك فقيل: كلها جنس واحد، وقيل: أجناس مختلفة، وأما بقية دوابة فإنها أجناس مختلفة باتفاق، على أن الجنس الواحد يختلف باختلاف كونه وحشيا أو أهليا، فبقر الوحش جنس يغاير البقر الأهلي، والمتولد من الجنسيين جنس ثالث3.

_ 1 الحديث رواه مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب، وأخرجه الشافعي مرسلا، ووصله الدارقطني في الغريب، عن مالك عن الزهري، عن سهل بن سعد، وحكم بضعفه قال الشوكاني: ولا يخفى أن الحديث لا ينتهض للاحتجاج بمجموع طرقه "نيل الأوطار ج5 ص229، 230". 2 من الآية "12" من سورة فاطر. 3 راجع الفقه على المذاهب الأربعة "ج2 ص348".

المبحث الخامس: بيع المائعات بأجناسها وبيعها بما تخرج عنه

المبحث الخامس: بيع المائعات بأجناسها وبيعها بما تخرج عنه: والمائعات مثل اللبن والخل وعضير الفواكه والدهون كالزيت، والشيرج والسمن أجناس مختلفة؛ لأنها فروع لأصول مختلفة، فيجوز بيع الجنس بمثله كخل، ولبن بلبن متماثلا، فإن كانا جنسين صح بيع أحدهما بالآخر متفاضلًا. وتعتبر المماثلة في اللبن إذا كان خالصًا غير مشوب بماء، أو ملح وغير مغلي بالنار، فإن كان مشوبا بماء أو نحوه، فلا يجوز بيعه بمثله، ولا بخالص للجهل بالمماثلة، ويدخل في المشوب ما لو خلط بالسمن غيره مما لا يقصد للبيع من السمن كالدقيق، فلا يصح بيع المخلوط بمثله؛ لأن الخلط يمنع من العلم بالمقصود1. وإن باع الجبن والأقط، أو المصل أو اللبأ بعضه ببعض لم يجز؛ لأن أجزاءها منعقدة ويختلف انعقادها؛ ولأن فيها ما يخالطه الملح والإنفحة، وذلك يمنع التماثل، وأما بيع نوع منه بنوع آخر، فإنه ينظر فيه فإن باع الزبد بالسمن لم يجز؛ لأن السمن مستخرج من الزبد، فلا يجوز بيعه بما استخرج منه كالشيرج بالسمسم، وإن باع المخيض بالسمن، فالمنصوص أنه يجوز؛ لأنه ليس في أحدهما شيء من الآخر قال القاضي أبو الطيب الطبري: هما كالجنسين فيجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا بلا خلاف، وإن باع الزبد بالمخيض فالمنصوص أنه يجوز، وقال أبو إسحاق: لا يجوز؛ لأن في الزبد شيئا من المخيض، فيكون بيع زبد ومخيض بمخيض، وهذا لا يصح؛ لأن الذي فيه

_ 1 راجع حاشية البجيرمي على المنهج "ج2 ص50".

من المخيض لا يظهر إلا بالتصفية والنار، فلم يكن له حكم، وما سوى ذلك لا يجوز بيع نوع منه بنوع آخر؛ لأنه يؤدي إلى التفاضل1. والسمن إذا كان خالصا مصنعا بشمس، أو نار يجوز بيتع بعضه ببعض؛ لأنه لا يتأثر بالنار تأثر انعقاد ونقصان، فيكال إن كان مائعا ويوزن إن كان جامدا، ويباع زبد بزبد من جنسه في الأصح؛ لأن ما فيهما من اللبن يمنع المماثلة. اعتراض وجوابه: فإن قيل: إنه قد صح بيع اللبن ببعضه، وفي كل منهما زبد، فكيف صححته هناك، ومنعته هنا؟ أجيب عن ذلك بأن الصفة ممتزجة، فلا عبرة بها. واعلم أن كل خلين لا ماء فيهما، واتحد جنسهما اشترط فيها التماثل، وإلا فلا وكل خلين فيهما ماء لا يباع أحدهما بالآخر إن كانا من جنس واحد، وإن كانا من جنسين، وقلنا: الماء العذب ربوي، وهو الأصح لم يجز، وإلا جاز وإن كان الماء في أحدهما، وهنا جنسان كخل عنب بخل تمر، وخل رطب بخل زبيب جاز؛ لأن الماء في أحد الطرفين، والمماثلة بين الخلين المذكورين غير معتبرة. والكسب، وهو عصارة الدهن يجوز بيع الجنس بمثله، هذا إن كان مما يأكله الآدميون، وذلك مثل كسب السمسم، واللو أما الذي لا يأكله إلا البهائم مثل كسب القرطم، أو كان أكل البهائم له أكثر، فليس بربوي، وليس للطحينة قبل استخراج الدهن حالة كمال، فلا يجوز بيع بعضها ببعض، ولا بيع السمسم بالشيرج، لأنه في معنى بيع كسب، ودهن بدهن. والأدهان المطيبة كدهن الورد، والبنفسج واللينوفر كلها مستخرجة من

_ 1 راجع المهذب "ج1 ص276/ 277".

السمسم، فيباع بعضها ببعض إن ربي بالطيب سمسم الدهن بأن طرح في الطيب، ثم استخرج دهنه، فإن استخرج دهنه ثم طرح فيه أوراقها، فلا يباع بعضها ببعض؛ لأن اختلاطها بها يمنع معرفة التماثل1. وحاصل مسألة السمسم، وما اتخذ منه أن السمسم والشيرج، والكسب الخالص يباع كل منهما بمثلة، وكذا الشيرج بالكسب الخاللص من الدهن، ولو من التفاضل في الأخيرة، ويمتنع بين السمسم بالشيرج، وبالطحينة وبالكسب؛ لأن الشيء لا يباع بما اتخذ منه.

_ 1 راجع مغني المحتاج "ج2 ص26-27".

المبحث السادس: الصرف

المبحث السادس: الصرف: والصرف بيع النقد بالنقد من جنسه وغيره، والمراد به الذهب والفضة مضروبا كان أو غير مضروب، فإن بيع بجنسه كالذهب بذهب اشترط المماثلة، والحلول والتقايض قبل التفرق والتخاير، وإن بيع بغير جنسه كذهب بفضة جاز التفاضل واشترط الحلول، والتقابض قبل التفرق والتخاير، وعلة الربا في الذهب والفضة جنسية الأثمان غالبا كما صححه في المجموع، ويعبر عنها أيضا بجوهرية الأثمان غالبا، وهي منتفية عن الفلوس وغيرها من سائر العروض؛ لأنها قيم الأشياء كما جرى عليه صاحب التنبيه؛ لأن الأواني والتبر والحلي يجري فيها الربا، وهي ليست مما يقوم بها، واحتز بقوله غالبا عن الفلوس: إذا راجت فإنه لا ربا فيها، ولا أثر لقيمة الصنعة في ذلك حتى لو اشترى بدينار ذهبا مصوغا قيمته أضعاف الدنانير اعتبرت المماثلة، ولا نظر إلى القيمة2.

_ 2 راجع مغني المحتاج "ج2 ص24/ 25".

في القراض وما يتعلق به من أحكام

الفصل الثالث: في القراض وما يتعلق به من أحكام: تعريفه لغة وشرعًا: القراض لغة مشتق من القرض وهو القطع؛ لأن المالك يقطع للعامل قطعة من ماله يتصرف فيها، وقطعة من الربح، ومنه المقراض آلة للقطع، ويسمى أيضا مضاربة لاشتماله غالبا على الضرب في الأرض الذي هو السفر قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} 1، أي سافرتم لاشتماله عليه غالبا، والقراض والمقارضة لغة أهل الحجاز.. والمضاربة لغة أهل العراق. وشرعا: عقد يقتضي دفع المالك مالا للعامل ليعمل فيه، والربح بينهما، ويفهم من هذا التعريف أن القراض لا يكون إلا على مال، فلا يصح أن يكون على منفعة كسكنى الدار، كما لا يصح أيضا علي دين سواء أكان العامل هو المدين أم غيره، والعامل بمقتضى عقد القراض يكون شريكا لرب المال في الربح، فخرج بذلك الوكيل؛ لأن الوكيل يتصرف نيابة عن الموكل، ولا يستحق عن هذا العمل شيئا في الغالب. دليل المشروعية: والدليل على مشروعية القراض الإجماع، والقياس على المساقاة بجامع أن في كل العمل في شيء ببعض نمائه مع جهالة العوض؛ ولأن المساقاة والقراض كل منهما جوز للحاجة من حيث أن مالك النخيل قد لا يحسن تعهدها، ولا يتفرغ له، ومن يحسن العمل قد لا يملك ما يعمل فيه، وهذا المعنى موجود في القراض؛ لأن صاحب المال قد لا يحسن التصرف، ومن مال له يحسنه، فيحتاج الأول إلى الاستعمال، والثاني إلى العمل

_ 1 من الآية "101" من سورة النساء. 2 مغني المحتاج "ج2 ص309".

وقد استدل الماوردي على صحة القراض بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} 1، واستدل عليه أيضا بأن رسول الله، ضارب لخديجة بمالها إلى الشام، وهو بعيد فليس ذلك نصا في القراض، لاحتمال أن المراد بالفضل المشار إليه في الآية هو الرزق من غير عمل، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مقارضا؛ لأن خديجة لم تدفع له مالا يشتري به، وإنما كان مأذونا له في التصرف عنها يبيع أمتعتها على سبيل الوكالة، فهو صلوات الله عليه كان وكيلا بأجر. حكم القراض: وأما حكمه فهو عقد جائز بين الطرفين، لكل منهما فسخه متى شاء، وإذا كان الفسخ من جهة العامل كان عليه أن يوفي الديون، ويدفع رأس المال بعد أن يصبره دراهم ودنانير، والدليل على ذلك ما رواه -زيد بن أسلم عن أبيه أن عبد الله، وعبيد الله بني عمر بن الخطاب رضي الله عنهم خرجا في جيش إلى العراق، فلما قفلا مرا على عامل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فرحب بهما.. وقال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى. ههنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكما إياه فتبتاعان به متاعا من متاع العراق، ثم تبيعانه في المدينة، وتوفران رأس المال إلى أمير المؤمنين، ويكون لكما ربحه، فقالا: وددنا ذلك ففعل، وفكتب إلى عمر يأخذ منهما المال، فلما قدما وباعا ربحا، فقال عمر: أكل الجيش قد أسلف كما أسلفكما، فقالا: لا فقال عمر: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: يا أمير المؤمنين لو هلك المال

_ 1 من الآية "198" من سورة البقرة.

ضمناه، فقال: أدياه، فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال؛ ولأن الأثمان لا يتوصل إلى نمائها المقصود إلا بالعمل، فجاز المعاملة عليها ببعض الخارج منها كالنخل في المساقاة. أركان عقد القراض: وهذه الأركان هي: صيغة، وعاقدان ومال، وعمل، وربح، وإذا كان الفقهاء اعتبروا العمل والربح من الأركان، وهما لا يوجدان عادة إلا بعد عقد القراض، فما ذلك إلا؛ لأنه لا بد من ذكرهما لتوجد ماهية القراض، وإلا فقد يقارض ولا يوجد عمل من العامل، أو يعمل، ولا يوجد ربح. الركن الأول: الصيغة: وهي إيجاب وقبول، بأي لفظ يتأدى به معنى القراض أو المضاربة؛ لأن المقصود هو المعنى، فجاز بما يدل عليه كالبيع بلفظ التمليك، فإن فإن كانت الصيغة بلفظ يفيد العقد كقارضتك، أو عاملتك أي بلفظ الماضي، فإن القبول يكون باللفظ، فيقول: قبلت فلا يكفي القبول بالفعل بأن يأخذ الدراهم، فعلا بعد قوله له: قارضتك في كذا علي أن يكون الربح بيننا، بل لا بد أن يسبق هذا الفعل اللفظ، فإن كان الإيجاب بلفظ من ألفاظ الأمر كخذ مثلا، فقد قيل: يكفي أخذ الدراهم، والأصح أنه لا يكفي مطلقا أي سواء كان بلفظ الأمر أو بما يفيد العقد، لأنه عقد معاوضة يختص بمعين، فلا يشبه الوكالة؛ لأنها مجرد إذن، ولا الجعالة؛ لأنها لا تختص بمعين. وهذا العقد لا يقبل التعليق؛ لأنه يبطل بالجهالة كالبيع والإجارة، ولا يقبل شرط المدة فيه؛ لأنه عقد معاوضة مطلقا، فيبطل بالتأقيت كالبيع، والنكاح

فإذا شرط عليه المنع من البيع بعد مدة معينة كشهر مثلا بطل العقد؛ لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، فإن العامل يستحق البيع لأجل الربح، وهذا شرط ينافيه ومن ثم فإنه يصح، وذلك بخلاف ما إذا شرط عليه ألا يشتري بعد مدة كذا، فهذا شرط صحيح؛ لأن رب المال يملك المنع من الشراء إذا شاء، فإذا شرط المنع منه، فقد شرط ما يملكه بمقتضى العقد، فلم يمنع من صحته. الركن الثاني: العاقدان: وهما المالك والعامل، ولهما شروط: فيشترط أولا: في المالك ما شرط في الموكل، وفي العامل ما شرط في الوكيل؛ لأن القراض توكيل وتوكل، فلا يجوز أن يكون أحدهما سفيها، ولا صبيا ولا مجنونا، أما الأعمى فإنه يجوز أن يكون مالكا، ولا يجوز أن يكون عاملا، ولولي المجنون والصبي، والسفيه أن يقارض لهم من هو أهل لإيداع المال عنده، ولو كان بأكثر من أجرة المثل ما دام لم يجد غيره؛ لأن في ذلك منفعة لهم، وأما المحجور عليه بفلس، فلا يصح أن يقارض، ويصح أن يكون عاملا؛ لأن الحجر عليه يمنعه من التصرف في أمواله تصرفا قد يضر بالغرماء، ويصح القراض من المريض، ولا يحسب ما زاد على أجرة المثل من الثلث؛ لأن المحسوب منه ما يفوته من ماله، والربع ليس بحاصل حتى يفوته، وإنما هو شيء يتوقع حصوله، وإذا حصل حصل بتصرف العامل. ويشترط ثانيا: أن يكون الإذن مطلقًا، فلا يجوز للمالك أن يضيق التصرف على العامل، فإذا قال له مثلا لا تشتر شيئا حتى تشاورني، أو لا تشتر إلا الحنطة البيضاء، أو لا تتعامل إلا مع زيد من الناس، فلا تشتر إلا منه، ولا تبع إلا له فهذا من شأنه أن يضيق عليه الخناق، فلا يحقق الغرض المقصود؛ لأن المقصود من القراض حصول الربح، وقد لا يحصل فيما يعينه

من الأصناف أو الأشخاص، ومثل هذا أن يشترط عليه التصرف في شيء يندر وجوده كالياقوت الأحمر، أو الخيل البلق، وهي الخيل الذي اختلط سوادها ببياضها، فهذا لا يجوز؛ لأنه لم يحصل منه الربح غالبا، فإن كان في شيء يعم وجوده غالبا كالثياب، والطعام والفاكهة في وقتها صح. ويشترط ثالثا: أن يستقل العامل بالعمل، ليتمكن من العمل متى شاء، والمحظور في هذا هو اشترك المالك مع العامل في العمل؛ لأنه يصح أن يقارض المالك الواحد أكثر من عامل في وقت واحد، كما يجوز له أن يفرض لأحدهما النصف، وللآخر الربع أو الثلث، وقد أجاز فقهاء المذهب شرط إعانة مملوك المالك للعامل كبهيمته، أو رجل أجير عنده؛ لأنه مال، فجعل تبعا للمال؛ ولأن ذلك لا يمنع استقلال العامل بالعمل. وإذا كنا قد جوزنا للمالك أن يقارض أكثر من عامل، فإن للعامل أيضا أن يقارض أكثر من مالك، ولكن هل له أن يشرك غيره معه في العمل؟ وللإجابة عن هذا التساؤل، نقول: إنه إذا فعل ذلك، فإما أن يكون بإذن المالك، أو بغير إذنه، فإن كان بغير إذنه فسد العقد مطلقا سواء قصد أن يشاركه في العمل والربح، أو يشاركه في الربح فقط، أو قصد أن يحل محله، وينسلخ هو من العمل؛ لأن المالك لم يأذن فيه، ولم يأتمن غيره، وإن كان بإذن المالك، فإن أذن له بالمشاركة في الربح، والعمل، فلا يجوز ذلك في الأصح؛ لأن القراض شرع على خلاف القياس رفقا بالناس من أجل المصلحة، وموضوعه أن يكون بين عاقدين أحدهما مالك لا عامل، والآخر عامل ولو متعددا، فلا يصح أن يعقده عاملان من استمرارهما عاملين، فإن قارضه العامل بالإذن لينفرد بالربح، والعمل صح كما لو قارضه المالك بنفسه، والربح بين المالك، والعامل الثاني، وينعزل الأول بمجرد الإذن له إن ابتدأه المالك، كذا قيل والمعتمد أنه لا

ينعزل إلا بالعقد مطلقا؛ لأنه لا قراض إلا بعقد1، هذا إذا كان المال مما يجوز عليه القراض، فلو وقع بعد تصرف الأول وصيروته عروضا لم يجز؛ لأنه لا بد أن يكون مما يصح القراض عليه ابتداء بأن يكون نقدًا. حكم تصرف العامل الثاني: وإذا تصرف العامل الثاني بغير الثاني بغير إذن المالك، فتصرفه تصرف غاصب فيضمن ما تصرف فيه، فإن اشترى بعين مال القراض لم يصح شراؤه؛ لأنه فضولي أو تصرف في الذمة له، فإن ربح فالربح للأول؛ لأنه وكيل عنه أما هو فليس له إلا الأجرة إذا لم يرض أن يعمل مجانا، فإن عمل مجانا كأنه قال له الأول، وكل الربح لي فلا أجرة له، وقد جاء في المهذب: فإن كان رب المال قد قارض العامل على النصف، وقارض العامل آخر، واشترى الثاني في الذمة، ونقد الثمن من مال القراض وربح، فعلى المذهب القديم قال المزني: إن لرب المال نصف الربح، والنصف الآخر بين العاملين لكل منهما نصفه، وقد وافق أبو إسحاق على ما ذهب إليه المزني، وقال: هذا صحيح؛ لأن رب المال رضي أن يأخذ نصف الربح، والنصف الثاني بين العاملين؛ لأنهما رضيا أن ما رزق الله بينهما، والذي رزق الله تعالى هو النصف، فإن النصف الآخر أخذه رب المال فصار كالمستهلك، وخالف في ذلك بعض الأصحاب، فقالوا برجوع العامل الثاني على العامل الأول بنصف أجرة مثله؛ لأنه دخل علي أن يأخذ نصف ربح المال، ولم يسلم له ذلك إذ أن الربح كله للمالك لا للغاصب، إذ لو جعلناه للغاصب لاتخذ ذريعة إلى الغصب من العاملين، واختاره السبكي؛ لأنه لم يتصرف بإذن المالك، فأشبه الغاصب.

_ 1 راجع البجيرمي "ج2 ص615".

وعلى المذهب الجديد: الربح كله للعامل الأول، وللعامل الثاني أجرة مثله، ومن الأصحاب من وافق المزني في رأيه الذي ذهب فيه إلى أن الربح للأول؛ لأن العامل الثاني لم يشتر لنفسه وإنما اشتراه للأول، فكان الربح له بخلاف الغاصب في غير القرض، فإنه اشتراه لنفسه فيكون الريح له، ومنهم من قال: هذا غلط؛ لأن الربح للعامل الثاني؛ لأنه المتصرف فصار كالغاصب في غير القراض، هذا إذا كان العامل الثاني قد اشترى للأول بمال في ذمته.. فإن اشترى بعين مال القراض، فباطل على الجديد القائل ببطلان شراء الفضولي، وحينئذ فيكون الأول باق على صحته، وله أن ينزع المال من الثاني، ويتصرف فيه، وأما المذهب القديم للقابل له، فقائل بالوقف أي أن تصرف العامل الثاني صحيح موقوف على الإجازة، هذا كله إن بقي المال، فإن تلف في يد العامل الثاني، وعلم بالحال فغاصب وعليه الضمان، وإن جهل فعلى العامل الأول. الركن الثالث: المال وله شروط: الأول: أن يكون نقدًا، والنقد هو المضروب من الذهب والفضة دراهم، ودنانير خالصة، فلا يجوز على تبر، والتبر هو الذهب والفضة قبل ضربهما، ولا على حلى، وهو ما يتحلى به النساء من المصوغات الذهبية أو الفضية، ولا على المغشوش من الدراهم، أو الدنانير وإن راجت وعلم قدر غشها؛ لأن الغش الذي فيها عرض، ولا يجوز القراض على العروض، وخالف في ذلك السبكي، وقال: يقوى عندي أن أفتي بالجواز، وأن أحكم به إن شاء الله، ولا على عروض مثلية أو متقومة؛ لأن القراض عقد غرر من حيث أن العمل فيه غير مضبوط والربح غير موثوق به، ولولا الحاجة لما صح، ومن ثم فإنه يختص بما يروج غالبا، ويسهل التجارة به، وهو الأثمان من الذهب والفضة أو هما معا.

الثاني: أن يكون رأس المال معلوم القدر والجنس والصفة، فلا يجوز على مجهول القدر دفعا لجهالة الربح، فاشترط العلم بقدر المال ليعلم العامل ما يخصه من الربح بخلاف الشركة، فيكفي العلم بما يخص كلا منهما عند القسمة، ولا على مجهول الصفة، ومن ذلك ما عمت به البلوى من التعامل بالفضة المقصوصة، فلا يصح القراض عليها؛ لأن صفة القص، وإن علمت إلا أن مقدار القص مختلف فيه، فلا يمكن ضبط مثله عند التفاضل حتى لو قارضه على قدر منها معلوم القدر وزنا، فالظاهر عدم الصحة؛ لأنه حين الرد، وإن أحضر قدره وزنا لكن القرض يختلف بتفاوت القص قلة وكثرة. قال السبكي: ويصح القراض على غير المرئي؛ لأنه توكيل. الثالث: أن يكون معينا عند المالك، فلو كان غير معين بأن كان القراض على ما في الذمة، ذمة العامل أو ذمة الأجنبي، فلا يصح وإن عين في المجلس لفساد العقد، فإن المالك لا يقدر على تعيين ما في ذمة غيره، نعم إن كان على ما في ذمة المالك بشرط ألا يكون دينا، فإن قارضه على ألف في ذمته أي غير معينة، ثم عينه في المجلس صح القراض خلافا للبغوي. ويفهم من هذا أنه كان في ذمة غير المالك، فلا يجوز سواء عين في المجلس، وقبضه المالك فيه أو لا، ويؤخذ من كلامه أنه إذا قارضه على دين في ذمة العامل، فإن عينه وقبضه المالك في المجلس صح، وعليه بعد القبض أن يرده للعامل بلا تجديد عقد، وإن قارضه على دين في ذمة أجنبي لم يصح، وإن عينه وقبضه في المجلس، إلا بعقد جديد بعد تعينه وقبضه، والفرق بين العامل والأجنبي، وأن ما في ذمة غير العامل معجوز عنه حال العقد بخلاف ما في ذمة العامل، فإنه قادر على تحصيله فصح العقد.

الشرط الرابع: أن يسلم المال إلى العامل، ويستقل باليد عليه والتصرف فيه، وكل شرط ينافي ذلك لا يصح، فلو شرط المالك أن يكون المال في يده أو في يد غيره، فهذا الشرط يقتضي بطلان عقد القراض؛ لأنه قد لا يجده عند الحاجة وغير صحيح أيضا ما لو شرط عليه مراجعته في التصرف، أو شرط عليه أن يعمل معه؛ لأن انقسام اليد يقتضي انقسام التصرف، ولكن يصح كما سبق أن ذكرنا شرط إعانة مملوك المالك للعامل؛ لأن ذلك لا يمنع استقلال العامل بالمال، ومملوك المالك مال، فجعل عمله تبعا للمال، ولكي يكون هذا الشرط صحيحا، فلا بد وأن يكون المملوك معلوما برؤية أو وصف، والحكمة في اشتراط كون رأس المال نقدًا، أن المقصود من القراض رد رأس المال، واقتسام المالك والعامل الربح بينهما بالنسبة المتفق عليها، فإذا كان رأس المال عروضا تجارية أو نقدا مغشوشا، فإنه يصعب رد رأس المال بقيمته التي كان عليها أثناء التعاقد؛ لأنه يزيد وينقص حسب قانون العرض والطلب، فإذا زادت هذه الأشياء في الثمن احتاج العامل أن يصرف جميع ما اكتسبه لرد مثل رأس المال إن كان مثليا، أو قيعيا إن لم يكن له مثل، وفي ذلك إضرار بالعامل، وإذا نقص عن قيمته فإنه يصرف جزءا يسيرا من الربح في رد مثله، أو قيمته ثم يشارك رب المال في الباقي، وفي كلتا الحالتين لا تتحقق العدالة بين المالك والعامل، وإنما تتحققق إذا كان رأس المال نقدا خالصا من الذهب والفضة؛ لأن قيمتهما ثابتة لا تتغير غالبا. الركن الرابع: العمل ويشترط فيه أن يكون في تجارة، فليس كل عمل يصلح للقراض، وإنما العمل الذي يحقق الربح بالتجارة، فإن كان الربح باحتراف صنعه كطحن، وعجن وخبز أو غزل، وما شاكل ذلك فلا يصح؛ لأن هذه الأعمال لا يسمى فاعلها تاجرا بل محترفا، فالقراض عليها فاسد؛ لأنها

أعمال مضبوطة، ويمكن الاستئجار عليها، فلا يحتاج إلى القراض عليها؛ لأنه جوز للحاجة، فلو فعل ذلك العامل من غير شرط لم يفسد القراض، وأجرته على المالك إن أذن له، ولو شرط على العامل استئجار ذلك من مال القراض جاز وفيه نظر؛ لأن الربح لم ينشأ عن تصرف العامل، وهذا أوجه وإذًا: فشرط العمل أن يكون تجارة؛ لأن الحرفة يمكن الاستئجار عليها، وألا يضيق العمل على العامل بأن يشترط عليه شراء متاع معين كقوله: ولا تشتر إلا هذه السلعة، وهو ظاهر بل لو قال: على أن تشتري حنطة، وتبيعها في الحال لم يصح لتضييقه عليه بطلب الفورية في الشراء والبيع، وعليه لو حذف قوله: في الحال كان قراضا صحيحا، ولو قارضه على أن يشتري الحنطة، ويخزنها مدة فإذا ارتفع سعرها باعها لم يصح، وظاهر أنه إذا لم يشرط عليه الخزن، فاشترى هو وخزن باختياره إلى ارتفاع السعر لم يضر؛ لأنه إذا شرط لم يجعل التصرف إلى رأي العامل. ولا يشرط عليه المالك شراء نوع نادر الوجود كخيل بلق، أو معاملة شخص معين كقوله: لا تبع إلا لزيد أو لا تشتر إلا منه، ولا أن يوقت له مدة كسنة؛ لأن المتاع والمدة المعينين قد لا يربح فيهما، والنادر قد لا يجده، والشخص المعين قد لا يتأتى من جهته ربح في بيع أو شراء. نوع العمل الذي يؤديه العامل: والعمل الذي يجب على العامل أن يؤديه هو ما جرت العادة به كنشر الثياب وطيها، والإيجاب والقبول، وقبض الثمن ووزن ما خف كالعود والمسك؛ لأن إطلاقه الإذن يحمل على العرف، وقد جرى العرف أن يتولى العامل هذه الأشياء بنفسه، فإن لم يفعل واستأجر عليها لزمه دفع الأجرة من ماله الخاص، بخلاف ما يثقل حمله، فلا يلزمه أن يتولاه بنفسه بل

يستأجر من يقوم به من مال القراض، فإن قام بذلك هو لم يستحق الأجرة؛ لأنه تبرع به. القيود الواردة على حرية العامل في العمل: وليس للعامل أن يتصرف إلا فيما أذن فيه المالك، فإن أذن له في التجارة لم يملك الإجارة؛ لأن تصرفه بالإذن فلا يملك إلا ما دخل فيه، ولا يبيع إلا بثمن المثل ولا بثمن مؤجل؛ لأنه يتصرف في حق غيره، فلا يملك إلا ما فيه النظر والاحتياط، وليس فيما ذكرناه نظر ولا احتياط. ووجه منع الشراء نسيئة إلا بإذن المالك أنه كما قال الرافعي: قد يتلف رأس المال، فتبقى العهدة متعلقة بالمالك، ولكل من المالك والعامل رد بعيب؛ لأن لكل منهما حقا في المال هذا إن فقدت مصلحة الإبقاء بحيث لو أبقي لا يربح، ولو فقد مصلحة الرد بأن استويا بأن كان الرد يحتاج إلى مؤنة كأجرة حمله إلى مكان البائع، أو كان البائع مماطلا بالثمن امتنع الرد، وإذا كان الرد ممتنعا، فلا يجوز ولا ينفذ شرعًا. ولا يعامل العامل المالك كأن يبيعه شيئا من مال القراض؛ لأن المال له، ويأخذ حكم المالك في ذلك وكيله ومأذونه، وكذا امتناع معاملة أحد العاملين للآخر في ماله، وإن أثبت لكل منهما الاستقلال، وخرج بمال المالك مال غيره كأن كان وكيلا عن غيره، فتجوز معاملته، ولا يشتري بأكثر من مال القراض، وصورة الشراء بأكثر من مال القراض أن يقع الشراء في عقدين بأن كان مال القراض مائة، واشترى سلعة بمائة إما بعين تلك المائة، أو في الذمة ولم ينقدها فيهما، ثم يشتري بخمسين من تلك أو بها، فإن الشراء الثاني باطل لتعين المائة للعقد الأول.

_ 1 راجع البجيرمي "ج2 ص618".

الركن الخامس: الربح: فإذا كان هناك ربح، فإن هذا الربح يختص به المالك والعامل، فلا يجوز شرط شيء منه لثالث؛ لأن المالك يأخذ بملكه والعامل بعمله، فإن قارضه على أن لزوجته أو لابنه، أو لأجنبي ثلث الربح، فالقراض باطل؛ لأنه جعل لغيرهما منه شيئا مع عدم العمل، فإن شرط عليه العمل، فهو قراض لاثنين، فإن شرط جزء الربح للمالك وجزءا للعامل، وجزء للمال أو الدابة التي يدفعها المالك للعامل؛ ليحمل عليها مال القراض مثلا، فالظاهر الصحة، وكأن المالك شرط لنفسه جزئين، وللعامل جزءا وهو صحيح1. ويشترط مع هذا أن يكون الربح معلوما لهما بجزئية كنصف، وثلث فلو قال: قارضتك على أن يكون لك في الربح حصة، أو نصيبا أو جزءا أو شيئا منه، فلا يصح للجهل بحصة العامل، ولا يصح على أن لأحدهما عشرة، أو ربح صنف لعدم العلم بالجزئية؛ ولأنه قد لا يربح غير العشرة، أو غير ربح ذلك المصنف، فيفوز أحدهما بجميع الربح. ويتضح من هنا أن الربح له ثلاثة شروط: كونه للمالك والعامل، وكونه معلومًا، وكون العلم بالجزئية كما سبق أن ذكرنا. ويتفرع على ذلك صورة مختلفة: الأولى: لو قارض المالك العامل على أن كل الربح للعامل، فقراض فاسد في الأصح نظرا للفظ؛ لأن القراض يقتضي المشاركة في الربح، ولا توجد هذه المشاركة فكان فاسدا. وقيل: قراض صحيح نظرا للمعنى؛ لأن أحدهما إذا انفرد به يصدق عليه اختصاصهما به إذ لم يشرط فيه شيء لثالث، وإن

_ 1 المرجع السابق.

قال المالك: وكل الربح لي فقراض فاسد في الأصح لما مر، فيستحق العامل على المالك في الأولى أجرة عمله دون الثانية، وقيل: هو إبضاع أي توكيل بلا أجر، والإبضاع بعث المال مع من يتجر فيه متبرعًا. الثانية: إذا قال المالك خذه وتصرف فيه والربح كله لك، فقرض صحيح أو كله لي فإبضاع، وفارقت هذه الصورة الصورة المتقدمة بأن للفظ فيها صريح في عقد آخر. الثالثة: إذا قال: قارضتك على أن الربح بيننا، فالأصح الصحة، ويكون نصفين كما لو قال: هذه الدار بيني وبين فلان، فإنها تجعل بينهما نصفين. والثاني: لا يصح لاحتمال اللفظ لغير المناصفة، فلا يكون الجزء معلوما كما لو قال: بعتك هذه الدار بألف دراهم ودنانير، ولو قال: قارضتك على أن يكون الربح بيننا أثلاثا لم يصح للجهل بمن له الثلث، ومن له الثلثان. الرابعة: لو قال: قارضتك ولم يتعرض للربح فسد القراض؛ لأنه خلاف وضعه. حكم اختلاف العاقدين: وإذا حدث اختلاف بين العامل ورب المال في قدر الربح، فادعى العامل أنه النصف، وادعى رب المال أنه الثلث تحالفا؛ لأنهما اختلفا في عوض مشروط في العقد، فيتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن، فإن حلفا صار الربح كله لرب المال، ويرجع العامل بأجرة المثل؛ لأنه لم يسلم له المسمى، فرجع ببدل عمله.

أما إن اختلفا في قدر رأس المال، فقال رب المال: ألفا، وقال العامل: خمسمائة، فإن لم يكن في المال ربح، فالقول قول العامل؛ لأن الأصل عدم القبض، فلا يلزمه إلا ما أقر به، وإن كان في المال ربح، ففيه وجهان: أحدهما: أن القول قول العامل لما ذكرناه. الثاني: أنهما يتحالفان؛ لأنهما اختلفا فيما يستحقان من الربح كما لو اختلفا في قدر الربح المشروط، والصحيح الأول؛ لأن الاختلاف في الربح المشروط اختلاف في صفة العقد، فيتحالفان كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن، وهذا اختلاف فيما قبض، فكان الظاهر مع الذي ينكر كالمتبايعين إذا اختفا في قبض الثمن، فإن القول قول البائع. متى يضمن العامل مال القراض؟ والعامل أمين فيما في يده من مال القراض، فلا يضمن إلا بتفريط، فإن تلف المال في يده من غير تفريط لم يضمن؛ لأنه نائب عن رب المال في التصرف، فلم يضمن من غير تفريط، فإن كان القراض ألفا فاشترى بضاعة في الذمة، ثم تلف الألف قبل أن ينقد المثن انفسخ عقد القراض لتلف رأس المال بعينه، وعلى رب المال أن يدفع الثمن؛ لأن العامل اشتراه له، فكان الثمن عليه كما لو تلف الثمن في يد الوكيل قبل أن ينقده، وقيل: على العامل؛ لأن رب المال لم يأذن له في التجارة فيما زاد على رأس المال، فإن تلف رأس المال بتفريط العامل، فعليه الضمان كما إذا سافر في بر أو بحر بغير إذن المالك لما في ذلك في تعريض المال للخطر، ومن ذلك أيضا ما لو قارض العامل رجلين على مالين، واشترى لكل منهما حضانا، ثم أشكل عليه الأمر، فلم يعرف ما يخص كلا منهما، في هذه الحالة قيل: يباع الحصانان، فإن

لم يكن فيهما ربح، قسم المال بينهما ولا شيء للعامل، وإن ربح شاركهما فيه، وإن خسر فيهما ضمن العامل ما نقص؛ لأنه إنما حصل بتفريطه. وقيل: إن الحصانين للعامل، ويلزمه قيمتهما؛ لأنه تعذر ردهما بتفريطه، فلزمه ضمانهما كما لو أتلفهما. هل ينفذ تصرف العامل في القراض الفاسد؟ لا فرق عندنا بين العقد الفاسد والعقد الباطل، فهما بمعنى واحد، والعقد يبطل أو يفسد ركن من أركانه، أو شرط من شروطه السابقة بأن يكون رأس مال القراض ليس نقدا، أو يكون الربح غير معلوم، أو يكون العاقدان قد شرطا خلاف ما يقتضيه العقد، وهو أن يكون الربح لأحدهما، وإذا فسد العقد نفذ تصرف العامل؛ لأن العقد إذا بطل فقد بقي الإذن فيملك به التصرف، فإن حصل ربح في المال سقط حق العامل في الربح لبطلان العقد، ولا يكون له إلا أجر المثل إن كان لا يرضى أن يعمل إلا بعوض، فإن رضي بذلك كأن يكون قارضه على أن الربح كله لرب المال، فلا يستحق شيئا؛ لأنه رضي أن يعمل من غير عوض، فصار كالمتطوع بالعمل من غير قراض، وهذا هو قول المزني. وخالف في ذلك أبو العباس، فقال باستحقاقه أجر المثل؛ لأن العمل في القراض يقتضي العوض، فلا يسقط كالوطء في النكاح. وإن ظهر في المال ربح، فمتى يملك العامل حصته منه؟ في هذه المسألة ثلاثة آراء: الأول: قبل الظهور كرب المال. والثاني: بالقسمة؛ لأنه لو ملكه بالظهور لكان شريكا لرب المال، وإذا هلك شيء كان هالكا من المالين وليس كذلك، ومع أنه يملكه بالقسمة، فإنه لا يستقر ملكه إلا إذا وقعت بعد الفسخ

ونضوض رأس المال أي صار نقدًا، حتى لو حصل بعد القسمة نقص جبر بالربح المقسوم. ويملك العامل حصته من الربح بقسمته؛ لأنه لو ملكها بالظهور، وقبل القسمة لكان شريكا في المال، فيكون النقص الحادث بعد ذلك محسوبا عليهما، وليس كذلك لكنه إنما يستقر ملكه بالقسمة إن نض رأس المال، وفسخ العقد حتى إذا حصل بعد القسمة نقص جبر بالريح المقسموم، ويستقر في ملكه أيضًا بنضوض المال، والفسخ بلا قسمة، ومعنى هذا أن ملكيته للربح لا تكون ثابتة، ومستقرة ونهائية إلا بنضوض رأس المال، وفسخ العقد سواء تمت القسمة أو لا، أما مجرد ظهور الربح فلا يملك به الربح، لكن يثبت له فيه حق مؤكد، فإن مات يورث عنه، ويقدم به على الغرماء، وعلى مؤن تجهيز المالك لتعلقه، بعين المال، ولا يدخل في الربح كل زيادة ناشئة من عين المال من غير تصرف العامل؛ لأنه ليس من فوائد التجارة كثمر ونتاج، وغيرها من سائر الزوائد العينية الحاصلة بغير عمل، ولو اشترى حيوانا حاملا، أو شجرا عليه ثمر غير مؤبر، فالأوجه إن الولد والثمر من مال القراض، فلا يختص بالمالك وحده، بل يكون بينهما1. وقيل: إن العامل يملك حصته من الربح؛ لأنه أحد المتقارضين، فملك حصته من الربح بالظهور كرب المال. حكم طلب أحد المتعاقدين فسخ العقد: عرفنا مما سبق أن القراض عقد جائز لكل واحد من المتعاقدين أن يفسخ العقد متى شاء؛ لأنه تصرف في مال الغير بإذنه، فملك كل منهما

_ 1 راجع حاشية البجيرمي "ج2 ص620".

فسخه كالوديعة والوكالة، فإن فسخ العقد، وكان المال من غير جنس رأس المال وتقاسماه جاز، وإن باعاه جاز؛ لأن الحق لهما، وإن طلب العامل البيع وامتنع رب المال أجبر؛ لأن حق العامل في الربح لا يحصل إلا بالبيع، فإن قال رب المال: أنا أعطيك مالك فيه من الربح وامتنع العامل، فإن قلنا: إنه ملك حصته من الربح بالظهور لم يجبر على أخذه، كما لو كان بينهما مال مشترك، وبذل أحدهما للآخر عوضًا، وإن قلنا: إنه لا يملك حصته بالظهور، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجبر على بيعه؛ لأن البيع لحقه وقد بذل له حقه، والثاني: أنه يجبر؛ لأنه ربما زاد في القيمة. وأن طلب رب المال البيع، وامتنع العامل أجبر على بيعه؛ لأن حق رب المال في رأس المال، ولا يحصل ذلك إلا بالبيع، فإن قال العامل: أنا أترك حقي ولا أبيع، فإن قلنا: إن العامل يملك حصته بالظهور لم يقبل منه؛ لأنه يريد أن يهب حقه وقبول الهبات لا يجب، وإن قلنا: إنه لا يملكه بالظهور، ففيه وجهان أحدهما لا يجبر على بيعه؛ لأن البيع لحقه، وقد تركه فسقط، والثاني: يجب؛ لأنه البيع لحقه ولحق رب المال في رأس ماله، فإذا رضي بترك حقه لم يرض رب المال بترك رأس ماله.

اللقطة والأحكام المتعلقة بها

اللقطة والأحكام المتعلقة بها مدخل ... الفصل الرابع: اللقطة والأحكام المتعلقة بها: تعريف اللقطة لغة: جاءت اللقطة في اللغة: بفتح القاف اسم للمتلقط، قال الخليل بن أحمد: لأن ما جاء على فعله فهو اسم للفاعل، كقولهم: همزة ولمزة وضحكة وهزأة، واللقطة بسكون القاف: المال الملقوط مثل الضحكة بالسكون بمعنى المضحوك عليه كثيرا، وقال الأصمعي وابن الأعرابي والفراء: هو بفتح القاف اسم للمال الملقوط أيضًا، ومعناها في اللغة ما وجد على تطلب، قال تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} : قال ابن عرفة: الالتقاط وجود الشيء من غير طلب. تعريف اللقطة شرعًا: أما تعريفها شرعا فلها تعريفات كثيرة: قال بعضهم: اللقطة هي المال الضائع من ربه يلتقطه غيره، وعرفها صاحب كفاية الأخيار بقوله: الالتقاط في الشرع، أخذ مال متحرم من مضيعة ليحفظه، أو ليتملكه بعد التعريف. وفي هذين التعريفين نظر؛ لأن كلا منهما غير جامع؛ لأنه يخرج منه الكلب العلم، فإن الكلب المعلم لا شك في جواز التقاطه للحفظ، وهو ليس بمال محترم، وإنما هو اختصاص؛ لأنه جنس. ولهذا قال صاحب المناهج في تعريف اللقطة: ما ضاع من مالكه بسقوط أو غفلة أو نحوهما، فقوله: ما ضاع من مالكه معناه أي شيء ضاع، فيشمل المال والاختصاص كالسرجين وجلد الميتة؛ لأن ما للعموم، وقوله: من مالكه ليس بقيد في التعريف، فيشمل المال الضائع من المستعبر والمستأجر والغاصب، فالتعبير بالمالك جرى على الغالب، فيكون المراد من المالك من له

اليد على الشيء، وقوله: بسقوط أو غفلة أن يكون ذلك المال سقط من صاحبه أو غفل عنه فضاع، وقوله: ونحوهما أي أن المال الذي ضاع بنوم، أو هرب أو إعياء بعير فتركه صاحبه، أو ضاع بسبب عجزه عن حمل ثقيل، فألقاه فيكون لقطة لمن وجده. وقال الشيخ عميرة في تعريف المال الملقوط: وشرعا: ما وجد من مال أو مختص ضائع لغير حربي ليس بمحرز، ولا ممتنع بقوته، ولا يعرف الواجد مالكه. فقوله: لغير حربي، خرج به مال الحربي إذا دخل دارنا بغير أمان، فإن المأخوذ منه غنيمة لا لقطة، فإن كان بأمان ودخل دارنا للتجارة، فالمأخوذ لقطة، وإن كان غير محترم. وخرج بغير المحرز المال المحرز، وهو الموجود في المكان المملوك، فلا يكون لقطة بل هو لمالكه إن ادعاه، وإلا فلمن تلقى الملك عنه، وهكذا حتى ينتهي الأمر إلى المحيى، فيكون له وإن نفاه؛ لأنه ملك الأرض وما فيها بالإحياء، ولم يخرج عن ملكه ببيع الأرض؛ لأنه لا يتبع الأرض في البيع، وهذا هو المعتمد. وقيل: هو له إن ادعاه، فإن لم يدعه فهو لقطة كما قال المتولى، وأقره في الروضة، ليس له إلا أن يحفظه بعينه، وخرج به أيضًا: ما ألقته الربح في ملك إنسان أو ألقاه هارب في حجره، ولم يعلم مالكه أو ألقته البحار على السواحل من أموال الغرقى، أو وجده عند مورثه من الودائع المجهولة، ولم تعرف ملاكها، فأمرت لبيت المال يتصرف في الإمام، فإن كان جائزا فأمره لمن هو في يده، فإن عرف المالك لشيء من ذلك، ولو بعد زمان طويل، فهو باق على ملكه، ولا رجوع لآخذه على مالكه بما أنفقه عليه، ولو حيوانا ومنه جمل أعيى، وأثقله الحمل فتركه صاحبه في البرية، فلا يكون لقطة ولا يملكه الأخذ له، وعند الإمام أحمد، والليث يملكه من أخذه، وعند الإمام مالك لا يملكه، ولكن يرجع على مالكه بما صرفه عليه، وخرج بقوله: ولا ممتنع بقوته مما كان ممتنعا بقوته كالإبل فلا يجوز، التقاطها وخرج بقوله: ولا يعرف الواجد مالكه ما إذا كان يعرف مالك المال الضائع، فليس يلقطه بل يرده على مالكه.

حكم اللقطة

حكم اللقطة: اللقطة مشروعة والأصل في مشروعيتها الآيات الآمرة بالبر والإحسان إذ في التقاطها، وأخذها للحفظ، والرد على مالكها إحسان وبر، ومنها قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 1. وأما دليل مشروعيتها من السنة، فمنها ما رواه زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، سئل عن لقطة الذهب والورق، فقال: "اعرف وكاءها وعفاصها وعرفها ستة، فإن لم تعرفها فاستبقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه، وسأله عن ضالة الإبل، فقال: مالك ولها؟ دعها فإن معها حذاءها، وساءقها ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها، وسأله عن الشاة، فقال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك، أو للذئب2. رواه الشيخان وله طرق وألفاظ، والوكاء هو الذي تشد به اللقطة، والعفاص: هو الوعاء الذي تكون فيه. وأجمع المسلمون على جواز الالتقاط في الجملة. .

_ 1 من الآية "2" من سورة المائدة. 2 رواه مالك في الموطأ والشافعي عنه من طريقة، وهو متفق عليه من طرق بألفاظ "التلخيص الحبير ج3 ص73".

ولكن هل يكون الالتقاط مستحبا، أو واجبا أو كيف الحال؟ في الجواب عن هذا التساؤل تفصيل: فيكون مستحبا بشروط نذكرها فيما يلي: 1- أن يكون الملتقط حرًّا رشيدا؛ لأن اللقطة فيها معنى الولاية، وغير الحر الرشيد ليس من أهل الولاية. 2- أن يأمن على نفسه عدم الخيانة منها، فإن كان لا يأمن على نفسه، فلا يصح التقاطه دفعا للخيانة عن نفسه. 3- أن تكون اللقطة يمكن تعريفها، كالذهب والفضة والجواهر، والثياب وغير ذلك. 4- أن لا يكون الموضع الذي وجدها فيه مملوكا، ولا دار شرك؛ لأن الموجود في المكان المملوك ليس لقطة، بل مملوك لمالك الموضع في الغالب، والموجود في دار الشرك غنيمة. 5- أن لا يكون ذلك في البلد الحرام بمكة؛ لأن لقطة مكة لا يجوز التقاطها للتملك، وإنما يلتقط للحفظ على مالكها، وسيأتي تفصيل ذلك. 6- أن يأمن عليها لأمانة أهل المكان الذي وجدها فيه. فإذا اجتمعت هذه الشروط، فالالتقاط للتملك جائز أي مستحب لما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة، فقال: "ما كان منها في طريق مئتاء، فعرفها حولا فإن جاء صاحبها وإلا فهي لك، وما كان منها في خراب، ففيها وفي الركاز الخمس. وقيل: له أن يلتقطها للحفظ على صاحبها لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا

عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ، ولما رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القايمة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه" 1. وإن كانت في موضع لا يأمن عليها، فهل يلزمه أخذها؟ فيه خلاف ينحصر في قولين: الأول: يجب، لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 2 أي يلزم بعضهم حفظ مال بعض، كما أن ولي مال اليتيم يلزمه حفظ مال اليتيم. الثاني: لا يلزمه الالتقاط بل يستحب وهو الصحيح؛ لأن الالتقاط أمانة ابتداء اكتساب انتهاء، ولا يجب كل منهما، فإن تعين للأخذ، وخاف الضياع، فينبغي الوجوب حينئذ، ولكن إذا قلنا بوجوب التقاط اللقطة، فلم يأخذها حتى تلفت لم يضمنها؛ لأن المال لم يحصل في يده كما لو رأى مال شخص يغرق، أو يحترق وأمكنه إنقاذه فلم يفعل، فلا يلزمه الضمان. هنا إذا كانت اللقطة في موات أو طريق، أو مسجد أو رباط، أو مدرسة ونحوهما من محال اللقطة. لقطة الحرم: أما لقطة الحرم فلا يجوز له أن يأخذها للتملك، بل يأخذها للحفظ على صاحبها. وقيل: بجواز التقاطها للتملك؛ لأنها أرض مباحة فجاز أخذ لقطتها للتملك كغير الحرم.

_ 1 متفق عليه "رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين للإمام النووي تحقيق مصطفى محمد عمارة 126. 2 من الآية "71" من سورة التوبة.

والمذهب الأول لما رواه ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام إلى يوم القيامة لم يحل لأحد قبلي، ولا يحل لأحد بعدي، ولم يحل إلا ساعة من نهار، وهو حرام إلى يوم القيامة لا ينفر صيده، ولا يعضد شجره، ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف، فمن التقط فيلزمه المقام للتعريف بمكة، فإن كان لا يمكنه المقام بها دفع اللقطة إلى الحاكم ليعرفها من سهم المصالح. ويؤخذ من الشرط الثاني، وهو أن الملتقط ممن يأمن على نفسه عدم الخيانة، أنه إذا كان لا يثق بنفسه، فالأولى أن لا يأخذها وهو كذلك، وذلك خشية الخيانة فيها في المستقبل، فإن علمها حرم. وقيل: يجوز لغير الواثق بأمانة نفسه ترك الالتقاط مع كونه خلاف الأولى، وقال أحمد رضي الله عنه: الأفضل ترك الالتقاط، وروى ذلك عن ابن عباس، وابن عمر وبه قال جابر، وابن زيد والربيع بن خيثم، وعطاء ومر شريح بدرهم، فلم يعرض له. لقطة الفاسق: أما الفاسق فيكره له الالتقاط لئلا تدعوه نفسه إلى الخيانة، فإذا التقط للتملك صح مع الكراهة وهذا هو المذهب، وإن التقط للحفظ حرمت اللقطة، ومن أخذها منه فهو اللاقط. والأظهر أن تنزع اللقطة من الفاسق، وتوضع عند عدل. وقيل: لا تنزع ولكن يضم إليه عدل ليكون مشرفا عليه. لقطة الكافر والمرتد: وكذلك الكافر والمرتد يصح التقاطهما؛ لأن الإسلام ليس شرطا في

صحة اللقطة، فيصح اللقط منه ولو في دار الإسلام، وهذا في الكافر المعصوم لكن المعتمد أن المرتد لا يتملك بعد التعريف؛ لأن ملكه موقوف. حكم الإشهاد على اللقطة: المذهب أن الإشهاد على اللقطة لا يجب بل هو مندوب سواء أكان الالتقاط للتملك، أم للحفظ نظرا لما في اللقطة من معنى الاكتساب، وأما قوله صلى الله عليه وسلم في خبر أبي داود: "من التقط، فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل، ولا يكتم ولا يغيب"، فالأمر فيه محمول على الندب. ويرى البعض أنه يفرق بين اللقطة واللقيط، فلا يجب على اللقطة؛ لأن فيها اكتساب مال واكتساب المال لا يجب الإشهاد عليه كالبيع، ويجب على اللقيط؛ لأنه يحفظ به النسب، فوجب الإشهاد عليه كالنكاح. ولكن إذا أشهد عليها، فهل يذكر في الإشهاد صفات اللقطة، أو يسكت عنها؟ فيه وجهان: أصحهما عند البغوي أن يسكت عن ذكر صفاتها لئلا يتوصل إليها كاذب، وقال الشافعي: يذكر بعضها ليكون في الإشهاد فائدة، وهذا ما صححه النووي في الروضة. وعلى ذلك فيسن له مع الإشهاد تعريف شيء من اللقطة للشهود، فإن استوعب الصفات للشهود كره، ولا يضمنها بخلاف ما لو استوعبها في التعريف، فإنه يضمنها. والفرق أن الشهود محصورون، ولا تهمة فيهم بخلافه في التعريف، فربما يعتمد الكاتب الصفات التي يذكرها، فإن حصل ذلك كان ضامنا.

لقطة المحجور عليه: وإن وجد المحجور عليه لسفه أو جنون، أو صغر شيئا صح التقاطه؛ لأنه كسب بفعل فصح من المحجور عليه كالاصطيادو على الناظر في أمره أن ينتزعها منه، ويعرفها؛ لأن اللقطة في مدة التعريف أمانة، والمحجور عليه ليس من أهل الأمانة، وإذا نزع الولي اللقطة من يد المجور عليه، وعرفها فلا تؤخذ مؤنة التعريف من مال الجور عليه، بل يراجع الحاكم ليقترض عليه، أو يبيع جزءا منها، وبعد تعريفها إن لم يظهر مالكها يتملكها الولي للصبي، ونحوه إن رأي المصلحة في ذلك، وإلا حفظها أو سلمها القاضي. ولكن متى يجوز للولي أن يتملك اللقطة للصبي؟ يجوز له التملك إن كان يصح له الاقتراض عليه؛ لأن التملك بالالتقاط كالتملك بالاقتراض في ضمان البديل. أما إذا قصر الولي في انتزاعها من المحجور عليه حتى تلفت ضمنها سواء كان التلف بإتلاف الصبي، أو غيره حتى ولو كان ذلك الولي هو الحاكم، وإذا لم يقصر في انتزاعها منه، ثم تلفت فلا ضمان على أحد. حكم معرفة أوصاف اللقطة عند أخذها: إذا أخذ الملتقط، فإن كانت بنية الحفظ وجب عليه أن يعرف أوصافها عقب أخذها مباشرة، وهذا ما قاله ابن الرفعة، لكن كلام الجمهور يوحي أن معرفة هذه الأوصاف عقب الأخذ مستحب، وهو ما قاله الأذرعي وغيره، وهو المعتمد. أما إذا أخذها بنية التملك بعد تعريفها كما سيأتي، فيجب أن يعرف هذه

الأوصاف، ليعرف ما يدخل في ضمانه. ولكن ما هي الأوصاف التي يجب، أو يسن معرفتها عقد الأخذ؟ أما عن الأوصاف التي يجب، أو يسن معرفتها عقب أخذ اللقطة فيه أربعة إجمالًا ثمانية تفصيلًا، أما الأربعة فهي أن يعرف عفاصها، وركاءها، وجنسها وقدرها. والقدر يدخل تحته العدد في المعدود، والوزن في الموزون والكيل في المكيل، والذرع في المذروع، والجنس يشمل: صنفها وصفتها من صحة وتكسير ونحوهما، ومن هنا فإنه يراد بالجنس ما يشمل الصنف والصفة، ويراد بالقدر ما يشمل العد والوزن، والكيل، والذرع. والعفاص هو الوعاء الذي تكون فيه اللقطة، والوكاء هو ما تشد به، وقيل: العفاص هو السدادة، ويطلق على الوعاء مجازا، والجمهور على أن العفاص هو الوعاء، وباقي الصفات معروفة. أما معرفة العفاص والوكاء، فلما روى زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة، فقال: "اعرف عفاصها ووكاءها، وعرفها سنة، فإن جاء من يعرفها، وإلا فاخلطها بمالك". وأما العدد فلما روى البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "وجدت صرة فيها مائة دينار، فأتيت بها النبي صلى الله وسلم، فقال: "عرفها فعرفتها حولا، ثم أتيته فقال: عرفها حولا، فعرفتها حولا، ثم أتيته فقال: عرفها فعرفتها حولا، ثم أتيته الرابعة، فقال: اعرف عدتها ووكاءها ووعاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها" 1.

_ 1 متفق عليه من حديث أبي والسياق لمسلم "التلخيص ج2 ص75".

فنص على العفاص والوكاء والعدد، وباقي الصفات بالقياس؛ لأنها صفات تتميز بها اللقطة، فأشبهت المنصوص عليه. وإنما طلب من الملتقط أن يعرف هذه الأشياء حتى لا تختلط اللقطة بماله، ويعرف بها صدق من يدعيها. حكم تعريف اللقطة: تعريف اللقطة يختلف حكمه، فهو تارة يكون واجبا وتارة أخرى يكون مندوبا، وذلك بحسب إرادته ونيته عند الالتقاط، فإن كان قد التقط للحفظ دون التملك لم يلزمه التعريف؛ لأن التعريف للتملك وهو لم ينو التملك، فلا يكون واجبا بل هو مستحب، وإن نوى التملك كان التعريف واجبًا. ولكن المعتمد في المذهب أن التعريف واجب مطلقا، سواء كان للحفظ أو التملك، قال النووي: وهو الأقوى والمختار. وإذا نوى التملك، فلا يتملك إلا بعد تعريف اللقطة سنة لحديث زيد بن خالد الجهني، فإنه صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن لقطة الذهب، والورق1، فقال: "اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرفها سنة"، فدل ذلك على أن التعريف مدته سنة، فإن لم يظهر مالكها، فله أن يتملك اللقطة إن أراد. حكمة التعريف سنة: والحكمة في اعتبار السنة أن القوافل لا تتأخر فيها غالبا؛ ولأنه لو لم يعرف سنة لضاعت الأموال على أربابها، ولو جعل التعريف أبدا لامتنع الناس من التقاطها، فكان في اعتبار العام مراعاة مصلحة الفريقين معا.

_ 1 الورق هي الفضة.

أهم المسائل المتعلقة بتعريف اللقطة: 1- لو مات الملتقط في أثناء السنة بنى مورثه على ما مضى، كما بحث الزركشي. 2- ولو التقطها اثنان عرفها كل واحد نصف سنة، بأن يعرفها أحدهما يوما ثم الآخر يوما، ثم جمعة وجمعة ثم شهرا وشهرا؛ لأنها لقطة واحد والتعريف من كل منهما لكلها لا لنصفها؛ لأنها إنما تقسم بينهما عند التملك، وهذا هو الأشبه كما قاله السبكي، ولكن خالف في ذلك ابن الرفعة، فقال: يعرف كل واحد منهما سنة؛ لأنه ملتقط لنصفها، وهو كلقطة كاملة. اللقطة التي يجب تعريفها: إن كانت اللقطة مما لا يطلب كالثمرة، واللقمة لم تعرف لما روى أنس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على تمرة في الطريق مطروحة، فقال: "لولا أن أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها". وإن كانت مما يطلب إلا أنه قليل، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعرف القليل والكثير سنة، وهو ظاهر النص لعموم الأخبار. الثاني: لا يعرف الدينار، لما روى أن عليا كرم الله وجهه، وجد دينارا فعرفه ثلاثا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كله أو شأنك به". والثالث: يعرف ما يقطع في السارق، ولا يعرف ما دوته؛ لأنه تافه، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "ما كانت اليد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه".

هل التعريف واجب على التوالي، أم يكفي تعريف سنة متفرقة؟ فيه وجهان. أحدهما: أنه واجب على التوالي فمتى بدأ فيه، فلا يجوز قطعة فإن قطعة استأنفه من جديد؛ لأنه إذا قطع لم يظهر أمر اللقطة، ولم يظهر طالبها. والثاني: يجوز له قطع التعريف؛ لأن اسم السنة يقع عليها، ولهذا لو نذر صوم سنة جاز أن يصوم سنة متفرقة. الأوقات والمواطن التي تعرف فيها اللقطة: يجب أن يكون تعريف اللقطة في أوقات اجتماع الناس، كأوقات الصلوات وغيرها، وفي المواضع التي يجتمع الناس فيها كالأسواق، وأبواب المساجد عند خروج الناس من الجماعات؛ لأن المقصود لا يحصل إلا بذلك، ويكثر من التعريف في المواضع الذي وجدها فيه؛ لأن من ضاع منه شيء يطلبه في الموضع الذي ضاع فيه، وعلم من قوله: على أبواب المساجد أنه لا يعرف فيها لما روى جابر قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا ينشد ضالة في المسجد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا وجدت"، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم، قال له: "أنت الفاقد، وغيرك الواجد"، وذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكره أن ترفع فيه الأصوات. فإن عرفها في المسجد، فيحرم التعريف إن شوش وإلا كره له ذلك، وبهذا يمكن الجمع بين قول من قال: إنه يكره التعريف في المساجد، وقول من قال بأنه يحرم التعريف فيها إلا أنه لا يكره أن يسأل بعض من فيها من غير صورة تعريف، وشملت المساجد مسجد المدينة الشريفة، والمسجد الأقصى. وأما المسجد الحرام، فيجوز التعريف فيه؛ لأنه مجمع الناس بخلاف سائر المساجد وهذا أصح الوجهين، ومقتضاه التحريم في بقية المساجد إلا أن النووي في شرح المهذب نقل كراهة التعريف في المسجد الحرام.

مدة التعريف وكيفيته: قلنا: إن الملتقط إذا أراد تملك اللقطة عرفها، ويكون التعريف على العادة زمانا ومكانا أي في الزمان، والمكان المعتاد للتعريفن فالزمان سنة من وقت التعريف، وليس من وقت الالتقاط، ولا يجب استعياب السنة بالتعريف، بل يعرف أولا كل يوم مرتين طرفي النهار لا ليلا، ولا وقت القيلولة، ثم يعرف بعد ذلك كل أسبوع مرة أو مرتين، وعلى كل حال فإن مراتب التعريف أربعة: المرتبة الأولى: أن يعرف كل يوم مرتين طرفي النهار أسبوعًا. المرتبة الثانية: أن يعرف كل يوم طرفة أسبوعيا أو أسبوعين. المرتبة الثالثة: أن يعرف كل أسبوع مرة، أو مرتين إلى أن تتم سبعة أسابيع. المرتبة الرابعة: أن يعرف كل شهر مرة أو مرتين إلى آخر السنة، وهذا هو المشهور. وقيل: إنه يعرف كل مدة من هذه المدد ثلاثة أشهر، فيعرف كل يوم مرتين طرفيه ثلاثة أشهر، ثم يعرف كل يوم طرفه مرة ثلاثة أشهر، ثم يعرف كل أسبوع مرة ثلاثة أشهر، ثم كل شهر مرة ثلاثة أشهر، وهو ضعيف. وقيل: أن ما ذكروه ليس متعينا، والضابط المعتمد أن يكون التعريف بحيث لا يكون التعريف الثاني تكرارًا للأول بأن ينسب بعض مرات التعريف إلى بعض. وإنما جعل التعريف في الأزمنة الأولى أكثر، لأن تطلب المالك فيها أكثر، وإنما كان في كل يوم مرتين طرفي النهار؛ لأنهما وقت اجتماع الناس، ولذلك

قال: لا ليلا ولا وقت القيلولة؛ لأنهما ليسا من أوقات الاجتماع، بل من أوقات النوم والراحة غالبا. وإذا كان التعريف متفرقا، فهل يكفي ذلك في التعريف؟ الأصح أن ذلك يكفي؛ لأنه عرف سنة وصحح هذا الرأي الإمام النووي في الروضة، وقيل: لا يكفي سنة مفرقة، كأن يعرف شهرا ويترك شهرا وهكذا؛ لأنه لا يظهر فيه فائدة التعريف، والأصح أنه لا تجب المبادرة في التعريف كما أفاده العطف، ثم حيث قال: ويعرف جنسها وصفتها، وقدرها وعفاصها ووكاءها، ثم يعرفها في الأشواق إلى آخره. وكيفية التعريف أن يقول: من ضاع منه شيء أو من ضاع منه دنانير، ولا يزيد عليها؛ لأنه قد يعتمدها الكاتب فيدعيها، فإن ذكر النوع والقدر، والعفاص والوكاء ففيه وجهان: أحدهما: لا يضمن؛ لأن مجرد ذكر الصفة لا يوجب الدفع. والثاني: يضمن؛ لأنه لا يؤمن أن يحفظ ذلك رجل، ثم يرافعه إلى الحكم يوجب الدفع بذكر الصفة. هل يلتزم الملتقط بمؤنة التعريف إن كان للتعريف مؤنة؟ الحكم في ذلك يتوقف على قصد الملتقط ونيته، فإن كان قد أخذ اللقطة لحفظها على مالكها، أو أطلق بأن لم يقصد حفظها، ولا تملكها فلا يلتزم بمئونة تعريفها، وهذا إذا قلنا بوجوب التعريف، وإنما كانت مؤنة التعريف على المالك دون الملتقط في هذه الصورة؛ لأن الحفظ للمالك. وعلى القاضي أن يرتبها من بيت المال إن كان في بيت المال سعة، ويكون ما دفعه بيت المال قرضًا على صاحب اللقطة، وقيل: يتبرع بها بيت المال، فإن

لم يكن في بيت المال سعة أمر الحاكم الملتقط أن يقترض، وإذا أمره بالاقتراض، فلا فرق بين أن يكون من اللاقط أو غيره، وفي معنى ذلك أن يأمره بصرفها؛ ليرجع بها على المالك، أو يبيع جزءًا منها إن رأى في ذلك المصلحة للمالك، فإن كانت مؤنة التعريف بقدر قيمة اللقطة بيعت بنقد، ثم يحفظ النقد لعدم احتياجه إلى مؤنة، وبهذا قال ابن عبد السلام. وعلى القول بعد وجوب التعريف عليه: إن عرفها فهو متبرع إن كان غير محجور عليه، فإن كان محجورًا عليه لصغر أو سفه، أو نحوهما فلا يجوز للولي أن يتبرع بها من مال المحجور عليه، بل يرفع الأمر إلى القاضي. أما إن أخذها ليتملكها، أو يختص بها ولو بعد لقطها للحفظ، أو كان لقطها لها للخيانة، فمؤنة التعريف عليه ما لم يعدل إلى قصد الأمانة والحفظ، فإن عدل فلا مؤنة عليه، وهذا في غير المحجور عليه، أما المحجور عليه فلا مؤنة عليه في ماله بل يراجع وليه الحاكم ليبيع جزءا منها، أو يقترض عليه كما سبق. وقيل: إن لم يتملك بالفعل بأن ظهر مالكها، فالمؤنة على المالك لعود فائدة التعريف إليه. والمراد بالتملك عدم الأخذ للحفظ، فإن أخذها للحفظ فلا مؤنة عليه، وإن قد التملك، فمؤنة التعريف عليه سواء تملك بعد ذلك أو لا؛ لأن المدار على قصد التملك، وإن لم يتملك بالفعل. الفرق بين اللقطة، وبين الضوال: هناك فرق بين اللقطة والضوال لوجود اختلاف بينهما في الجنس والحكم، فالضوال تكون من الحيوان؛ لأنه يضل بنفسه، واللقطة في غير

الحيوان سميت بذلك لالتقاط واجدها لها. وهذه اللقطة إن كانت مما لا يبقى كالطعام الرطب، أو ما لا يبقى كالشواء والطبيخ والخيار والبطيخ، فهو مخير بين أن يأكله ويغرم البدل، وبن أن يبيعه ويحفظ الثمن. وخرج المزني قولا آخر: وهو أنه يلزمه البيع، ولا يجوز له الأكل والمذهب الأول؛ لأنه معرض للهلاك فخير بين البيع، والأكل وإن كانت مما لا يبقى، ولكن يمكن التوصل إلى حفظها كالرطب والعنب، فإن كان الأنفع لصاحبها أن تباع، بيعت، وإن كان الأنفع أن تجفف جففت، وإن احتاج إلى مؤنة في تجفيفه، ولم يوجد من يتطوع بها، باع بعضها وأنفق عليها. وإن كانت اللقطة مما يبقى كالدراهم، والدنانير والثياب والحلي، والقماش، فهذه اللقطة هي التي تعرف؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن لقطة الذهب، والرق، قال: "اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه.." 1. وإن وجد مالا مدفوعا، فضربان: جاهلي أو إسلامي، فإن كان إسلاميا، فلقطة أيضا وهي على ما ذكرنا، وإن كان جاهليا في ركاز يملكه واجده، وعليه إخراج خمسة في مصرف الزكوات لحديث: "وفي الركاز الخمس" 2. وإن كانت اللقطة بمكة، فمذهب الشافي رضي الله عنه أنه ليس

_ 1 الحديث متفق عليه من طرق بألفاظ والسائل قيل: هو خالد الراوي، وقيل: بلال، وقيل: عمير والد مالك.. وقيل: سعيد الجهني والد عقبة "التلخيص ج3 ص73". 2 حديث: "وفي الركاز الخمس، وفي المعدن الصدقة"، لم أجده هكذا ولكن اتفقا على الجملة الأولى من حديث أبي هريرة، وله طرق "التلخيص الحبير" ج2 ص181، 182".

لواجدها أن يتملكها، وعليه أن أخذها أن يقيم على تعريفها أبدا بخلاف سائر البلاد. وقال بعض أصحابنا: مكة وغيرها سواء في اللقطة استدلا لا بعموم الخبر، وهذا خطأ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أبي إبراهيم حرم مكة، فلا يختلي خلاها ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد" 1، أي لمعرف يقيم على تعريفها ولا يتملكها؛ ولأن مكة لما باينت غيرها في تحريم صيدها، وشجرها تغليظا لحرمتها باينت غيرها في تلك اللقطة. فأما عرفة ومصلى إبراهيم عليه السلام، ففيه وجهان: أحدهما: أنه من الحل فتحل لقطته قياسا على جميع الحل. والثاني: أنه كالحرام لا تحل لقطته إلا لمنشد؛ لأن ذلك مجمع الحاج. فروع: الفرع الأول: إذا وجد شيئا لا قيمة له كزبيبة ونحوها فلا يعرف، ولواجده الاستبداد به، والتصرف فيه، وإن وجد شيئا له قيمة، وهو قليل: فالأصح أنه لا يعرف سنة، بل يعرف زمنا يظن أن فاقد يعرض عنه غالبًا. وضابط القليل، ما يغلب على الظن أن فاقده لا يكثر أسفه عليه، ولا يطول طلبه له غالبا، فهذا لا يعرف بل ويستقل به واجده، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلا يعرف زبيبة فضربه بالدرة، وقال: إن من الورع ما يمقت الله عليه. الفرع الثاني: إذا ضاعت اللقيطة من ملتقطها بغير تفريط، فلا

_ 1 متفق عليه من حديث ابن عباس.. والمنشد كما قال الشافعي: هو الواجد، والناشد المالك أي لا تحل إلا لمعرف يعرفها ولا يتملكها "التلخيص الحبير ج3 ص76".

ضمان عليه؛ لأنها في يده فأشبهت الوديعة، فإن التقطها آخر فعرف أنها ضاعت من الأول، فعليه ردها إليه؛ لأنه قد ثبت له حق التملك، وولاية التعريف والحفظ، فلا يزول ذلك بالضياع، فإن لم يعلم الثاني بالحل حتى عرفها حولا ملكها؛ لأن سبب الملك وجد منه من غير عدوان. فثبت الملك به كالأول، ولا يملك الأول انتزاعها؛ لأن الملك مقدم على حق التملك، وإذا جاء صاحبها فله أخذها من الثاني، وليس له مطالبة الأول؛ لأنه لم يفرط. وإن علم الثاني بالأول فردها إليه، فأبى أن يأخذها بل قال: عرفها أنت فعرفها مكلها أيضا؛ لأن الأول ترك حقه فسقط، وإن قال: عرفها وتكون بيننا ففعل صح أيضا، وكانت بينهما؛ لأنه أسقط حقه من نصفها ووكله في الباقي، وإن قصد الثاني بالتعريف تملكها لنفسه دون الأول احتمل أن يملكها؛ لأن سبب الملك وجد منه، فملكها كما لو أذن له الأول في تعريفها لنفسه، واحتمل أن لا يملكها؛ لأن ولاية التعريف للأول أشبه ما لو غصبها من الملتقط غاصب فعرفها، وكذلك الحكم إذا علم الثاني بالأول، فعرفها ولم يعلمه بها، ويشبه هذا المحتجر في الموات إذا سبق غيره إلى ما حجره، فأحياه بغير إذنه فأما إذا غصبها غاصب من الملتقط، فعرفها لم يمكلها وجها واحدا؛ لأنه معتد بأخذها ولم يوجد منه سبب تملكها، فإن الالتقاط من جملة السبب، ولم يوجد منه، ويفارق هذا ما إذا التقطها ثان، فإنه وجد منه الالتقاط والتعريف. الفرع الثالث: إذا أخذ الملتقط اللقطة بقصد الخيانة فيها صار ضامنا، فلو عرف اللقطة بعد ذلك، وأراد التملك بعده لم يكن له ذلك على المذهب،

ولو قصد الأمانة أولا، ثم قصد الخيانة ولم يعرفها، فالأصح أنه لا يصبر ضامنا بمجرد قصد الخيانة كالمودع. الفرع الرابع: إذا التقطها اثنان فعرفاها حولا ملكاها جميعا، وإن قلنا بوقوف الملك على الاختيار، فاختار أحدهما دون الآخر، ملك المختار نصفها دون الآخر، وإن رأياها معا فبادر أحدهما وأخذها، أو رآها أحدهما، فاعلم بها صاحبه، فأخذها فهي لآخذها؛ لأن استحقاق اللقطة بالأخذ لا بالرؤية كالاصطياد. وإن قال أحدهما لصاحبه: هاتها فأخذها، نظرت، فإن أخذها لنفسه، فهي له دون الآخر، وإن أخذها للآمر فهي له كما لو وكله في الاصطياد له. كيفية تملك اللقطة: إذا عرف الملتقط اللقطة التعريف المعتد به سنة، أو دونها فيما يكفي فيه، ثم لم يجد صاحبها بعد تعريفها كان له أن يتملكها الضمان لها، ويكون التملك بلفظ يفيد أنه اختار تملكها من المالك، أو وليه أو وارثه لو مات، فيقول: تملكت اللقطة، وذلك إن كانت اللقطة مالا متمولا أي له قيمة مالية أما إن كانت من غير المتمول كالاختصاص، فيقول: نقلت الاختصاص إلى نفسي، وذلك لما روى زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها، فجعله إلى اختياره؛ ولأنها تملك ببدل فاعتبر فيها اختيار التملك كالتملك بشراء، ونحوه، وإذا تملكها الملتقط بعد التعريف، ولم يظهر لها مالك، فلا شيء عليه في انفاقها؛ لأنها من اكتسابه، ولا مطالبة عليه في الدار الآخرة إن كان قد عزم على ردها إن بان مالكها، فإن تملكها ولم يعزم على ردها طولب بها في الدار الآخرة.

الوجه الثاني: أن اللقطة تدخل في مكله بالتعريف لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "فإن جاء صاحبها، وإلا فهي لك" 1؛ ولأنها كسب مال بفعل فلم يعتبر فيها اختيار التملك كالصيد. وحكى فيه وجه آخر، وهو أنه تكفي نية التملك الحاضرة بعد التعريف وعند التملك، فلا تكفي النية عند الأخذ قطعا. وقيل: إن اللقطة تملك بمضي السنة بعد التعريف، ويكتفي بقصده عند الأخذ التملك، وهذا الوجه لا يتأتى في صورة ما إذا التقط للحفظ دائما، وقلنا بوجوب التعريف عليه، وعرف سنة ثم بدا له التملك، وهذا ما صرح به الإمام الغزالي في البسيط، فإن لم يجب التعريف عليه فعرف ثم بدا له أن يتملك وقصده، فلا يعتد بهذا التعريف بل يلزمه فيهما استئناف سنة أخرى. ومن هذا يعلم أن التعريف قد يمتد إلى سنتين، والذي يترجح في نظري عدم وجوب التعريف سنة أخرى، بل يتملك من أراد بعد التعريف الأول. حكم دفع اللقطة لمن يدعيها: إذا جاء من يدعي اللقطة، فلا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال: أن يدعيها بلا وصف ولا بينة، أو يكون بوصف أو يكون ببينة، وفيما يلي حكم كل حالة من هذه الأحوال الثلاثة.

_ 1 رواه أحمد وأبو داود، والنسائي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده "التلخيص الحبير ج3 ص76".

الحالة الأولى: إذا ادعاها بلا وصف ولا بينة، فلا يدفعها الملتقط بهذا المدعي إلا أن يعلم أنها له، فيلزمه دفعها له. الحالة الثانية: أن يدعيها بالوصف، وفي هذه الحالة إن ظن اللاقط صدقة جاز دفعها له عملا بظنه، ولا يلزمه الدفع؛ لأنه مال للغير فلا يجب تسليمه بالوصف كالوديعة، بل يسن له الدفع عملا بغالب ظنه. الحالة الثالثة: أن تكون له بينة وقد دفعها لآخر بالوصف، فإن أقام البينة على أنها له قضى بالبينة، وحولت له عملا بالبينة؛ لأنها حجة توجب الدفع، فقدمت على الوصف. وهذا إن كانت اللقطة باقية، فإن تلفت عند الواصف، فللمالك تضمين الملتقط أو الواصف، أما تضمين الملتقط؛ فلأنه دفع ماله للغير بغير حق، وأما تضمين الآخذ، فإنه أخذ ماله بغير حق. فإن ضمن الآخذ لها بالوصف لم يرجع على الملتقط؛ لأن الضمان إن كان مستحقا عليه، فقد دفع ما وجب عليه، فلا يكون له حق الرجوع، وإن كان مظلوما، فكيف يرجع على غير من ظلمه؟ وإن ضمن الملتقط، فإما أن يكون قد أقر للآخذ بالملك أولا. فإن كان الملتقط لم يقر له بالملك رجع على الآخذ بما عرفه بأن قال له: يغلب على ظني الرجوع، وإن كان قد أقر له بالملك بأن قال للآخذ: هي لك لم يرجع عليه مؤاخذة له. كيفية رد اللقطة عند ظهور المالك: إذا ظهر المالك، فإما أن تكون اللقطة باقية بعينها دون زيادة، أو نقصان وإما أن تكون تالفة، وإما أن يتفقا على رد عينها أو بدلها، وإما أن يختلفا.

فإذا كانت اللقطة باقية بحالها بلا زيادة ولا نقصان، ولم يتعلق بها حق يمنع بيعها وتفقا على رد عينها، أو بدلها فالأمر ظاهر جلي؛ لأنه رد ما اتفقا عليه فإذا رد البدل تمثل ذلك في رد المثلي إن كان مثليا، أو القيمة في المتقوم بزيادتها المتصلة، وكذا المنفصلة كالحمل الحادث بشرط أن تكون حدثت قبل التملك؛ لأنها تابعة للقطة، وهي باقية على ملكه. مؤنة الرد: ومؤنة الرد إن كانت له مؤنة على المالك إن كان الرد قبل التملك، وعلى الملتقط إن كان بعده: وإن تنازعا في أداء عينها، أو بدلها بأن يكون المالك قد طلب عينها، وأراد الملتقط العدول إلى بدلها، أجيب المالك في الأصح؛ لأنه يمكنه الرجوع إلى عين ماله، فلا يجبر على قبول البدل وهو المعتمد. وإن تلفت اللقطة بعد تملكها، تعين البدل وكذلك يتعين البدل إن كانت باقية بحالها، ولكن تعلق بها حق يمنع بيعها كرهن مثلا، أما إن كان الملتقط قد باعها بشرط الخيار له أو لهما، ثم ظهر المالك قبل انقضاء مدة الخيار انفسخ العقد من تلقاء نفسه، وإن لم يفسخه وفي حالة تلفها، أو تعلق حق بها يمنع بيعها، فيغرم الملتقط مثلها إن كانت مثلية، أو قيمتها إن كانت متقومة يوم التملك لها؛ لأنه وقت دخولها في ضمانه. ولكن متى يكون ضامنًا؟ أما من حيث الضمان في حالة التلف، فإن كان التلف قبل التملك، فلا ضمان عليه إذا كان تلفها من غير تفريط؛ لأنه يحفظها لمالكها، فإن كان التلف بعد التملك وجب عليه بدلها، فيكون عليه الضمان في مثلها إن كانت

مثلية أو قيمتها إن كانت متقومة. وقال الكرابيسي: لا يلزمه ردها ولا ضمان بدلها؛ لأنه مال لا يعرف له مالك، فإذا ملكه لم يلزمه رده ولا ضمان بدله كالركاز. والراجح الأول، وهو أنه يلزمه الضمان لما روى أبو سعيد الخدري "أن عليا كرم الله وجهه، وجد دينارا فجاء صاحبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أده، قال علي: قد أكلته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جاءنا شيء أديناه". ولأن البدل يخالف الركاز، فإن الركاز مال لكافر لا حرمة له، وهذا مال مسلم ولهذا لا يلزمه تعريف الركاز، ويلزمه تعريف اللقطة. نقصان اللقطة بعيب: وإن نقصت بعيب حادث بعد التملك، فللمالك أخذها مع الأرش1 في الأصح؛ لأن الكل مضمون فكذلك البعض، فيضمن الملتقط الأرش كما يضمنها كلها بالتلف، وللمالك العدول إلى بدلها سليمة، ولو أراد اللاقط الرد بالأرش، وأراد المالك العدول إلى البدل أجيب اللاقط. أنواع اللقطة: اللقطة أنواع؛ لأنها إما أن تكون حيوانا أو غيره، فإن كانت حيوانا غير آدمي، فإما أن توجد في صحراء أو عمران، وإن كانت غير حيوان. فإما أن تكون مأكولة أو غير مأكولة، وهذه هي الأنواع الأربعة: النوع الأول: لقطة الحيوان في الصحراء: فإن وجد في صحراء، فهو على ضربين: الأول: أن يكون مما يمتنع بنفسه، بأن كان مما يصل إلى الماء

_ 1 الأرش: قيمة نقصان العين، أو هو الفرق بين قيمة الشيء سليما، ومعيبا "المصباح ج1 ص18".

والرعي بنفسه، ويدفع عن نفسه صغار السباع إما لقوة جسمه كالإبل، والبقر والخيل والحمير، وإما لبعد أثره كالغزال والأرنب والطير، فهذه الأنواع لا يجوز لواجدها أن يتعرض لأخذها إذا لم يعرف مالكها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في ضوال الإبل: "مالك ولها معها حذاؤها"، أي خفها الذي يقيها العثرات، وتعتمد عليه في السعي إلى المرعى بدون أن يتجشم أحد تقديم الطعام إليها، ومعها سقاؤها إشارة إلى طول عنقها، فتمد عنقها إلى الماء، فلا يحتاج إلى من يقدمه لها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "ترد الماء وتأكل الشجر حتى يأتيها ربها"؛ ولأنها تحفظ أنفسها، فلم يكن لصاحبها حظ من أخذها، فإن أخذها لم يخل ذلك من أحد أمرين: الأمر الأول: أن يأخذها لقطة ليتملكها إن لم يأت صاحبها، فهذا متعد وعليه ضمانها، فإن أرسلها لم يسقط الضمان، أما إذا لم يرسلها ودفعها إلى مالكها سقط عنه ضمانها بأدائها إلى مستحقها، فإن دفعها إلى الحاكم ففي سقوط الضمان وجهان: الأول: يسقط؛ لأن الحاكم نائب عمن غاب. الثاني: لا يسقط؛ لأنها قد تكون لحاضر لا ولاية للحاكم عليه. الأمر الثاني: أن لا يأخذها لقطة بل يأخذها حفظا لها على مالكها، فإن كان عارفا لمالكها لم يضمن ويده أمانة حتى تصل إلى المالك، وإن كان غير عارف للمالك، ففي وجوب الضمان وجهان: الأول: لا يضمن الحيوان الملتقط ليرده على مالكه عند التعرف عليه؛ لأنه من باب التعاون على البر والتقوى. الوجه الثاني: عليه الضمان؛ لأنه لا ولاية له على غائب، إلا إذا كان

واليا كالإمام أو الحاكم فلا ضمان عليه, فقد روى أن عمر رضي الله عنه كانت له حظيرة يحظر فيها ضوال المسلمين. الضرب الثاني: أن يكون الحيوان لا يدفع عن نفسه، ويعجز عن الوصول إلى الماء، والرعي كالغنم والدجاج، فهذا له أن يأخذه، ويأكله في الحال من غير تعريف، غنيا كان أو فقيرا وعليه غرمه لمالكه إذا وجد، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة. وقال مالك وداود: هو غير مضمون عليه، فله أن يأكله أكل إباحة ولا غرم عليه في استهلاكه، استدلالًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "هي لك أو لأخيك، أو للذئب"، ومعلوم أن ما استهلكه الذئب هدر لا يضمن. والأول هو الراجح لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه"؛ ولأنها لقطة يلزمه ردها مع بقائها، فوجب أن يلزمه غرمها عند استهلاكها قياسا على اللقطة في الأموال؛ ولأنها ضالة فوجب أن تضمن بالاستهلاك كالإبل ونحوها. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "هي لك أو لأخيك، أو للذئب"، فلا دليل فيه على سقوط الضمان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نبه بذلك على إباحة الأخذ، وجواز الأكل دون الغرم. وإذا ثبت جواز أخذ الشاة، وما لا يدفع عن نفسه مع إباحة أكله، ووجوب غرمه، فيجوز له أخذ صغار الإبل والبقر؛ لأنها لا تمنع عن أنفسها كالغنم. النوع الثاني: أن توجد لقطة الحيوان في العمران، قرية أو بلد أو مصر، أو موضع قريب منها، وفي ذلك خلاف بين الأصحاب على قولين: الأول: وهو حكاية عن الشافعي في الأم أنه إذا وجدها في البلد، أو

المصر، فهي لقطة له أخذها، وعليه تعريفها حولا إن كانت من الغنم، ولا يتعرض للإبل، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "ضالة المؤمن حرق النار". القول الثاني: أنها لقطة فيأخذ الغنم، والإبل جميعا، ويعرفها كسائر اللقطة حولا كاملا؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم في ضوال الإبل: "معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء، وتأكل الشجر"، يختص بالبادية التي يكون فيها الماء، والشجر دون المصر، وهي تمنع صغار السباع عن أنفسها في البادية، ولا يقدر على منع الناس في المصر، والشاة تؤكل في البادية؛ لأن الذئب يأكلها، وهو لا يأكلها في المصر، فاختلف معناهما في البادية والمصر، فكان اختلاف حكمهما تبعا لذلك. وفرق الأول بأنه إنما منع التقاط الحيوان الممتنع في الصحراء دون البلد، أو المصر بأنه في العمران يضيع بامتداد اليد الخائنة إليه بخلاف المفازة، فإن طروق الناس بها لا يعم. ويتفرع على ذلك أنه لو وجد الحيوان الممتنع زمن نهب، وفساد جاز التقاطه للتملك قطعا في المفازة، والعمران على حد سواء. النوع الثالث: لقطة ما لا يؤكل كالنقود ونحوها، فهذا الذي تقدم من اشتراط التعريف عند تملكها. النوع الرابع: أن تكون اللقطة مما يؤكل، وهذه لها أحوال: الأول: أن تكون مما يفسد في الحال كالأطعمة والشواء، والبطيخ والرطب الذي لا يتتمر والبقول، فالواجد فيها بالخيار بين أن يأكلها ويغرم قيمتها، وبين أن يبيع ويأخذ الثمن، وهذا هو الصحيح، فإن أكل غرم قيمتها وعرف اللقطة سنة، ثم يتصرف فيها؛ لأن القيمة قائمة مقام اللقطة، ولو لم

بقدر على البيع فلا خلاف في جواز الأكل، وهل يجب إفراز القيمة؟ فيه خلاف. والأظهر كما قال الرافعي: لا يجب؛ لأن ما في الذمة لا يخشى هلاكه، فإذا أفرز صار أمانة في يده. الثانية: أن تكون اللقطة مما لا يفسد، وقبل العلاج كالرطب الذي يتتمر، والعنب الذي يكون زبيبا، واللبن الذي يصنع من الجبن ونحوها، روعيى في ذلك مصلحة المالك، فإن كانت المصلحة في البيع باعه، وإن كان في التجفيف جففه، ثم إن تبرع الواجد بتجفيفه فذاك، وإلا باع بعضه وأنفقه عليه؛ لأنه المصلحة في حق المالك، وهذا بخلاف الحيوان حيث يباع كله؛ لأن النفقه في الحيوان تتكرر، فتؤدي إلى أن تأكل اللقطة نفسها. خصال اللقطة: 1- لقطة الحيوان إن أخذها من مفازة، وهي الصحراء، فيتخير الملتقط بين خصال ثلاثة في غير الممتنع، وهي: الأولى: أن يعرفها، ثم يتملكها بعد التعريف. الثانية: أن يبيع اللقطة بشرط الرجوع إلى الحاكم إن وجد، فإن لم يوجد باعها بنفسه، ويحفظ ثمنها، ويعرف اللقطة المبيعة دون الثمن، فإذا لم يظهر مالك اللقطة تملك الثمن. الثالثة: أن يأكلها إن رغب في أكلها، ويغرم القيمة إن ظهر مالكها، وهذا مجمع عليه، فإن امتنع من الأكل حتى حضر به من الصحراء إلى العمران امتنع تملكها قبل التعريف. وجوز الماوردي فيه خصلة رابعة وهي، أن يمتلك حالا، ويبقيه حيا

لينتفع بدره أو نسله. ولكن أي الخصال أولى؟ أما بالنسبة لأن الخصال أولى، فإن الخصلة الأولى أولى من الثانية، والثانية أولى من الثالثة لما فيها من تعجيل الاستباحة قبل التعريف. ثانيا: لقطة الحيوان إن أخذها من العمران فله فيها خصلتان: الأولى والثانية دون الثالثة، وهو الأظهر. وقيل: له الخصلة الثالثة في العمران كالمفازة، وهذا الرأي مدفوع بأنه قد لا يجد فيها من يشتري اللقطة بخلاف العمران، ويشق النقل إليه. هذا إن استوت الخصال في الأحظية، أو عدمها وإلا وجب فعل الأحظ للمالك. فروع على ما سبق: الفرع الأول: إذا كان الحيوان الملتقط غير مأكول كالجحش، ففيه الخصلة الأولى والثانية، ولا يجوز تملكه في الحال في الأصح، وإذا أمسك الملتقط الحيوان، وتبرع بالإنفاق عليه فذاك، وإن أراد الرجوع، فلا ينفق إلا بإذن الحاكم، فإن لم يجده أشهد، فإذا لم يشهد فلا يرجع بالنفقة على المالك، وإن نوى الرجوع عليه إلا إذا فقد الشهود، فله أن يرجع إذا نواه. الفرع الثاني: يجوز التقاط السنابل للتملك إن أعرض مالكها عنها، أو علم رضاه ولو كانت في مال زكوي، فلا زكاة على المالك فيها؛ لأنها لما كانت في محل الإعراض من المالك جعلت كذلك من المستحقين تبعا. الفرع الثاني: لقطة غير الحيوان: فإن كانت طعاما يسرع فساده كهريسة، ورطب لا يتتمر فله فيه خصلتان:

الأولى: بيعه استقلالا إن لم يجد حاكما، وبإذنه وجده وجوبا إن لم يخف منه عليه وإلا استقل، ثم يعرفه بعد بيعه ليتملك ثمنه بعد التعريف، فإن التعبير بثم يقتضي تأخر التملك عن التعريف. الخصلة الثانية: تملكه في الحال وأكله، وغرم قيمته مطلقا أي سواء وجده في مفازة، أو عمران وسواء أكان في زمن أمن أم غيره. وقيل: إن وجده في عمران وجب البيع، وامتنع الأكل. وينبغي أن يلاحظ أن التعريف بعد الأكل يكون واجبا في العمران، دون المفازة؛ لأنه في المفازة لا فائدة فيه غالبا. الفرع الرابع: إذا كانت اللقطة مما يمكن بقاؤه بعلاج كرطب يتجفف، فإن كانت الغبطة في بيعه باعه، أو في تجفيفه جففه أو استوى الأمران، وتبرع الواجد به جففه، وإلا بيع بعضه لتجفيف الباقي حفظا له بخلاف الحيوان حيث يجوز بيع كله؛ لأن النفقه تأكله. والمراد بالعمران، الشارع والمسجد؛ لأنهما من الموات محال اللقطة، ويفهم مما سبق أن الالتقاط إن كان من مضيعة، فهو بالخيار بين الخصال الثلاث التي ذكرناها، والأولى أن يمسكها ويعرفها، ثم يليها البيع والحفظ، وخصلة الأكل متأخرة في الفضيلة، ولقائل أن يقول:فيما يمكن تجفيفه أنه يجب مراعاة لمصلحة المالك، فهلا كان هنا كذلك؟ وإن كان الالتقاط في العمران تخير بين خصلتين فقط على الصحيح، وهما: الإمساك والبيع، ولا يأكل لإمكان البيع. ضمان اللقطة: عرفنا أن أخذ اللقطة إما أن يأخذها للحفظ أو للتملك، فإن أخذها

للحفظ أبدا، فهي أمانة فهي يده وزوائدها من نحو در ونسل أمانة أيضا، ويجري فيها ما في أصلها من تجفيف ما يسرع فساده وغير ذلك، فلا يضمنها وإذا كانت اللقطة إن أخذها للحفظ أمانة، فإنها لا تضمن إلا بالتقصير أو التعدي، فإن دفعها إلى القاضي لزمه القبول سواء أكان قد أخذها للحفظ، أم للتملك، وأما تعريفها إن أخذها للحفظ أبدا، فلا يجب عليه؛ لأن التعريف إنما يجب لتحقيق شرط التملك، وهذا عند أكثر الفقهاء. وقال بعضهم: يجب التعريف ولو كان للحفظ أبدا، وهذا ما صححه الإمام الغزالي؛ لئلا يكون كتمانًا مفوتا للحق على صاحبه، قال في الروضة: وهذا أقوى وهو المختار. وقال في شرح مسلم: إنه الأصح. ومن ذلك يعلم أن التعريف في الأخذ للتملك واجب قطعًا، ويكون واجبا أيضا إن أخذ لا بقصد شيء، أو بقصد شيء ونسيه، أو بقصد واحد لا بعينه، ففي هذه الصور كلها يلزمه التعريف. فلو أخذها للحفظ أبدا، ثم قصد بعد ذلك خيانة لم يصر ضامنا بمجرد القصد في الأصح، فإن فعل صار ضامنًا بلا خلاف، بشرط أن يعلم ذلك القصد منه يقينا، ولم ينسه وإلا فلا ضمان، وإذا أخذ اللقطة خيانة، فليس له أن يعرف، ويتملك على المذهب ما دام مصرا عليه بل، ويأخذها الحاكم منه قهرا عليه، فلو عاد إلى الأمانة، ولو بعد أخذ الحاكم أو الخيانة فيها بالفعل ليعرف، ويتملك جاز ويخرج عن الضمان خلافا لبعضهم، كما لو سلمها للحاكم. والتعريف الممنوع على من أخذ للخيانة ما كان لأجل أن يتملك، فإن كان لأجل أن يعرف صاحبها؛ ليدفعها له فلا مانع. وإن أخذها ليعرف، ويتملك بعد التعريف، فإن تملكها فهو ضامن، فإن

دفعها إلى القاضي سقط عنه الضمان. والدفع إلى القاضي الذي يبرأ به محله في قاض أمين، وإلا فلا يسقط الضمان بالدفع إلى القاضي، ولا يلزم القاضي غير الأمين القبول. ولو وجد لقطة في بيته، فعليه التعريف لمن يدخله. من يحل له أكل اللقطة: قال الشافعي رضي الله عنه: ويأكل اللقطة الغني والفقير، ومن تحل له الصدقة، وتحرم عليه وذلك بعد تعريفها حولا، والدليل عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها"، وهو يقتضي التسوية بين الغني والفقير. وقال أبو حنيفة: يجوز له ذلك إن كان فقيرا، ولا يجوز إن كان غنيا أن يتملكها، ويكون مخيرا بين أمرين، إما أن تكون في يده أمانة لصاحبها أبدا كالوديعة، وإما أن يتصدق بها، فإن جاء صاحبها، وأمضى صدقته فله ثوابها، ولا غرم على الواجد، وإن لم يمض الصدقة فثوابها للواجد، وعليه غرمها استدلالًا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فإن جاء صاحبها، وإلا تصدق بها". والأول هو الصحيح، فقد ثبت أن أبي بن كعب وجد صرة فيها ثمانون دينارا، أو مائة دينار، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرفها حولا، ثم قال له: "فإن جاء صاحبها، وإلا فاستمتع بها". وهذا دليل على أن الغني والفقير في ذلك سواء، فإن أبي بن كعب من أيسر أهل المدينة أو كأيسرهم، ولو لم يكن موسرا لصار بعشرين دينار منها موسرا على قول أبي حنيفة، فدل على أن الفقر غير معتبر فيها، وأن الغني لا يمنع منها.

وروي عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري أن علي بن أبي طالب، وجد دينارا، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يعرف به ثلاثا، فعرفه فلم يجد من يعرفه، فرجع به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "كله" حتى إذا أكله جاء صاحب الدينار يتعرفه، فقال علي رضي الله عنه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكله، فانطلق صاحب الدينار، وكان يهوديا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي: "إذا جاءنا شيء أديناه إليك". والإمام علي رضي الله عنه ممن يحرم عليهم الصدقة؛ لأنه من بني هاشم، فلو كانت اللقيطة تستباح بالفقر دون الغنى لحظرها عليه. هل الذمي ممنوع من جواز أخذ اللقطة لتعريفها، وتملكها؟ المذهب أنه لا فرق بين المسلم والذمي في أخذها للتعريف، والتملك بعد الحول؛ لأنها كسب يستوي فيه المسلم والذمي. وقال بعض الأصحاب: إن الذمي لا حق له فيها، وهو ممنوع من أخذها وتملكها؛ لأنه ليس من أهل التعريف لعدم ولايته على المسلم، ولا ممن يملك مرافق دار الإسلام كإحياء الموات. وقال أحمد: يصح للذمي أخذ اللقطة مع عدم الأمانة، فإذا التقطها الذمي، وعرفها حولا ملكها كالمسلم، وإن علمها الحاكم أو السلطان أقرها في يده، وضم إليه مشرفا عدلا يشرف عليه ويعرفها، قالوا: لأننا لا نأمن الكافر على تعريفها، ولا نأمنه أن يخل في التعريف بشيء من الواجب عليه فيه، ويحتمل عندهم أن تنزع من يد الذمي، وتوضع في يد عدل؛ لأنه غير مأمون عليها.

اللقيط وأحكامه

المبحث الثاني: اللقيط وأحكامه. معنى اللقيط: اللقيط فعيل بمعنى مفعول وهو الملقوط، ويطلق على الطفل المنبوذ، والمطروح المرمي به من نبذت الشيء رميته، ومنه قوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} 1 ومنه سمي النبيذ؛ لأنه يطرح فيه الماء، ويسمى ملقوطا باعتبار أنه يلقط، ويسمى دعيا أيضا، على أن تسميته لقيطا أو منبوذا قبل الأخذ حقيقة لغوية، وبعدها مجاز بناء على زوال الحقيقة بزوال المعنى المشتق منه، أو باعتبار ما كان عليه. ومعناه شرعا: طفل نبذ بنحو شارع لا يعرف له مدع، وذكر الطفل للغالب إذ الأصح أن المميز، والبالغ المجنون يلتقطان لاحتياجهما إلى التعهد، وهو صريح في أن المميز لا يسمى طفلًا بل يقال للطفل بعد التمييز صبي وجزور، ويافع ومراهق وبالغ، وأما البالغ الرشيد فلا يجوز التقاطه لاستغنائه عن الحفظ والرعاية. حكم التقاط المنبوذ: حكمه فرض كفاية إن علم به أشخاص متعددون، فإن لم يعلم به إلا واحد لزمه أخذه، ويكون فرض عين وإنما كان فرض كفاية، أو فرض عين حفظا للنفس المحترمة عن الهلاك؛ لأن اللقيط أدمي محترم، فوجب حفظه كالمضطر إلى طعام غيره بل أولى؛ لأن البالغ العاقل ربما احتال لنفسه.

_ 1 من الآية "187" من سورة آل عمران.

وفارق اللقطة حيث لا يجب التقاطها بأن المغلب عليها الاكتساب، والنفس تميل إليه، فاستغنى بذلك عن الواجب. والدليل على وجوب أخذ اللقيط قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} 1؛ ولأن فيه إحياء نفس، فكان واجبا كإطعام المضطر وإنجائه من الغرق، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} 2، وقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 3. أركان اللقيط ثلاثة: 1- التقاط وهو أخذ المنبوذ. 2- لقيط وهو الصغير المنبوذ. 3- ملتقط، وهو من تثبت له ولاية الالتقاط. حكم الإشهاد على اللقيط وحكمته: إذا أخذ الملتقط اللقيط وجب الإشهاد عليه، وإن كان من أخذه ظاهر العدالة خوفا من أن يسترقه، ويضيع نسبه المبني على الاحتياط له أكثر من المال، ويجب كذلك الإشهاد على مال المنبوذ بطريق التبعية، فإن ترك الإشهاد، فلا يثبت له عليه ولاية الحضانة، وذلك؛ لأن ترك الإشهاد يعد فسقا. ومحل وجوبه ما لم يسلمه له الحاكم، فإن سلمه له سن الإشهاد في هذه الحالة، وذلك؛ لأن تسليم الحاكم فيه معنى الإشهاد.

_ 1 من الآية "2" من سورة المائدة. 2 من الآية "22" من سورة المائدة. 3 من الآية "77" من سورة الحج.

أسباب نبذ اللقيط: ترجع أسباب نبذ اللقيط في الغالب لواحد من أمرين إما لكونه من فاحشة خوفا من العار، أو للعجز عن مؤنته، فإن فقد النبذ رد إلى القاضي لقيامه مقام كافله، فيسلمه إلى من يقوم به، كما يقوم بحفظ مال الغائبين، أو وجد له كافل ولو ملتقطا رد إليه. شروط الملتقط: قلنا: إن الملتقط هو من تثبت له ولاية الالتقاط، وولاية الالتقاط هي حضانة اللقيط، وإنما تثبت هذه الولاية، لمكلف، غني أو فقير ذكر أو أنثى، مسلم، إن كان اللقيط محكوما بإسلامه، وإلا فللكافر التقاط غير المسلم؛ لأنه من أهل الولاية عليه، فيجوز التقاط اليهودي للنصراني، وعكسه كالتوراث، خلافا للأذرعي، عدل؛ لأنها ولاية على الغير، فاعتبر فيها الأوصاف المذكورة كولاية القضاء، فإن كان مستور العدالة نصب الحاكم عليه من يراقبه خفية؛ لئلا يتأذى الملتقط بمراقبته من قبل الحاكم، فإذا وثق به صار كمعلوم العدالة، وأن يكون رشيدا بصيرا خاليا من نحو برص إذا كان الملتقط يتعاهده بنفسه كما في الحضانة. فإن التقطه إثنان وكان أحدهما عدلا، والآخر مستور العدالة، فإنه يقدم العدل على مستور الحال، ولا تفتقر ولاية الالتقاط إلى إذن الحاكم لكن يستحب دفعه إليه نعم لو وجده، فأعطاه غيره لم يجز حتى يدفعه إلى الحاكم. وعلى ذلك، فيشترط في الملتقط أن يكون مسلما رشيدا عدلا بصيرا خاليا من برص، ونحوه.

محترزات الشروط السابقة: فخرج بالمكلف الصبي والمجنون لعدم أهلية الصبي والمجنون، وبالعدل الفاسق، وبالرشيد المحجور عليه بسفه، وبالمسلم الكافر لعدم ولاية الكافر على المسلم؛ ولأنه لا يؤمن أن يفتنه عن دينه، ولا بد أن يكون أهلا للترك في يده، فإن كان ليس أهلا انتزع الحاكم للقيط ممن ليس أهلا للولاية. من يكون أحق باللقيط عند التنازع: إذا تنازع اثنان على أخذ اللقيط بأن كان كل منهما يريد أخذه، وهما من أهل الكفالة، فالحاكم هو الذي يتولى تدبير أمره، فله أن يعطيه لواحد منهما، أو يجعله عند غيرهما بما يرى فيه المصلحة إذ لا حق لهما قبل أخذه، فلزمه رعاية الأحظ له. وإن سبق إليه واحد، فالتقطه منع الآخر من مزاحمته لخبر: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه، فهو أحق به". أما إذا لم يلتقطه، فلا أحقية له فيه، وإن وقف عند رأسه. وإن التقطاه معا في زمن واحد، وهما أهل لالتقاطه وتشاحا أقرع بينهما عند التساوي، فمن خرجت عليه القرعة أقر في يده. وقيل: لا نقرع بينهما، بل يجتهد الحاكم، فيقره في يد من هو أحظ له، والمنصوص الأول لقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} 1؛ ولأنه لا يمكن أن يجعل بينهما مهايأة؛ لأنه تختلف عليه الأخلاق والأغذية، فيتضرر ولا يمكن أن يقدم أحدها؛ لأنهما متساويان في سبب استحقاق، ولا يمكن أن يسلم لغيرهما؛ لأنه قد ثبت لهما حق الالتقاط، فلا

_ 1 من الآية "44" من سورة آل عمران.

يجوز إخراجه عنهما، فأقرع بينهما لذلك. ولا يخير المميز في اختيار أحدهما لعدم ميله إليهما طبعًا، كما يخير بين أبويه؛ لأنه إنما يخبر بين أبويه اعتمادا على الميل الناشيء عن الولادة، وهو ينعدم هنا. ووضح أنه إن كان أحدهما غنيا، فهو أولى به؛ لأنه قد يواسيه بماله، ولو تفاوتا في الغنى لم يقدم أغناهما نعم لو كان أحدهما بخيلا، والآخر جوادا، فالقياس تقديم الغني الجواد؛ لأن حظ اللقيط عنده أكثر، وظاهر أنه يقدم الغني البخيل على الفقير، وفي قول الغني والفقير يستويان؛ لأن نفقة اللقيط لا تجب على ملتقطه. ويقدم عدل باطنا بكونه مزكى عند حاكم على عدل ظاهرا بأن لم يعلم فسقه، ولم يعلم تزكيته عند حاكم، وهذا هو الذي يطلق عليه مستور الحال احتياطا للقيط. ولا يقدم مسلم على كافر إذا كان اللقيط محكومًا عليه بالكفر، وكذلك المرأة لا تقدم على الرجل، وإن كانت أصبر على التربية منه، وهي لذلك مقدمة في الحضانة إلا إذا كانت مرضعة، واللقيط رضيع، وإلا إذا كانت خالية لا زوج لها، فإنها تقدم على المتزوجة. ويقدم البصير على الأعمى، والسليم على من به مرض مثل الجزام والبرص. حكم نقل اللقيط: اللقيط إما أن يكون ملتقطًا من الحضر أو البادية، فإن كان التقاطه من الحضر، فأراد أن ينقله إلى البادية لم يقر في يده لوجهين:

أحدهما: أن مقامه في الحضر أصلح له في دينه، ودنياه، وأرفه له. الثاني: أنه إذا وجد في الحضر، فالظاهر أنه ولد فيه، فبقاؤه فيه أرجى لكشف نسبه، وظهور أهله واعترافهم به، فإن أراد النقلة به إلى بلد الحضر، ففيه وجهان: الأول: أنه يقر في يده؛ لأن ولايته ثابتة، والبلد الثاني كالبلد الأول في الرفاهية، فيقر في يده كما لو انتقل من أحد أقسام البلد إلى قسم آخر، وفارق المنتقل به من البادية؛ لأنه يضر به. الثاني: لا يقر في يده؛ لأن بقاءه في بلده أرجى لكشف نسبه، فلم يقر في يد المنتقل عنه قياسا على المنتقل إلى البادية. وإن التقطه من البادية، فله النقلة به إلى الحضر؛ لأنه ينقله من أرض البؤس والشقاء إلى الرفاهية، والدعة، والدين. وخلاصة القول أنه يجوز للملتقط نقل اللقيط من بلد إلى آخر، سواء كانت وطن الملتقط، أو لا سافر إليها لنقله، أو لا بشرط انتفاء المحذور الذي سبق ذكره، وهو ضياع علم، وصنعة، ودين ولا فرق بين مسافة القصر، أو دونها لكن يشترط تواصل الأخبار، وأمن الطريق وإلا امتنع، ولو لدون مسافة القصر. وإن التقطه غريب، فالأصح أن له نقله إلى بلده إذا أمن الطريق، وتواصلت الأخبار. وقيل: بالمنع لضياع النسب، وهذا في غريب مختبر عرفت أمانته، فإن التقطه غريب مجهول الحال لم يقر على انتقاله قطعا، وحيث منع من

السفر به، ونقله إلى مكان آخر نزع من يده؛ لئلا يسافر به بغتة. وإن وجده البدوي في بادية أقر بيده، وإن كان أهل حلته ينتقلون؛ لأنها في حقه كبلدة، أو قرية. وإن كانوا ينتقلون للنجعة والانتقال في طلب المرعى لم يقر؛ لأن فيه تضييعا لنسبه، والأصح أنه يقر على التقاطه؛ لأن أطراف البادية من البلدة، ويعلم من ذلك أن نقله من بلدة أو قرية، أو بادية لمثلها، ولأعلى منها يجوز لا لدونها. وإن جواز النقل من مكان إلى آخر مشروط بأمن الطريق والمقصد، وتواصل الأخبار، واختبار أمانة الملتقط. نفقة اللقيط: أما نفقة اللقيط، ومؤنة حضانته، فليست على الملتقط بل يصرف عليه من المال العام المخصص للوقف على اللقطاء، أو من المال الموصى به لهم، أو يصرف عليه من ماله الخاص الذي اختص به كثياب ملفوفة عليه، أو ملبوسة أو مفروضة تحته، أو مغطى بها أو دابة مشدودة في وسطه، أو عنانها بيده أو راكبا عليها، وما في جيبه من دراهم وغيرها كذهب، وحلي في مهده1 الذي هو فيه، ودنانير منثورة فوقه أو منثورة تحته؛ لأن له يدا واختصاصا كالبالغ، والأصل الحرية ولم يعرف غيرها. والخلاصة في الإنفاق على اللقيط أن الإنفاق عليه يكون من المال العام، أو الخاص، والأوجه عند بعض المتأخرين تقديم المال الخاص على العام، فلا

_ 1 المهد: هو السرير الذي يكون للطفل.

ينفق من المال العام إلا عند فقد الخاص. حكم ملكية اللقيط للمكان الذي وجد فيه: فإن وجد اللقيط في دار أو حانوت1، ولا يعلم لهامستحق، وليس فيها غيره، فهذه الدار، أو هذا الحانوت له لليد، ولا مزاحم وإن وجد فيها غيره كلقيطين فهي لهما كما لو كانا على دابة أما لو ركبها أحدهما، ومسك الآخر زمامها، فهي للراكب فقط لتمام الاستيلاء. وقيل: تكون الدابة بينهما، فتكون ملكا لهما، والمذهب الصحيح أن اليد للراكب. ولو كان اللقيط على الأرض، وزمام الدابة بيده أو مربوطة به فيه له، وكل ما على الدابة التي حكم له بها، فهو له أيضا. وجود اللقيط في بستان: إذا وجد اللقيط ببستان، فلا يحكم له به كما رجحه بعض المتأخرين بخلاف الدار؛ لأن سكناها تصرف والحصول في البستان ليس تصرفا، ولا سكنى ويفهم من هذا التعليل أن البستان إذا كان يسكن عادة، يكون الدار لكن المراد بالبستان المزرعة التي لم تجر العادة بسكناها. ويكون ما ذكره مملوكا للقيط إذا كان اللقيط له صلاحية التصرف فيه، ودفع المنازع له، ويتردد النظر فيما لو وجد على عتبة الدار؛ لأنه لا يسمى فيها إن كان بابها مقفولا، بخلاف وجوده بسطحها الذي لا مصعد له منها

_ 1 الحانوت: الدكان.

فلا يملكها؛ لأنه لا يسمى فيها عرفا. ولا يحكم للقيط بمال مدفون في الأرض التي وجد فيها، ولو كان تحته ذلك الدفين؛ لأن الكبير العاقل لو كان جالسا على أرض تحتها دفين لم يحكم له به، وحكم هذا المال إن كان من دفين الجاهلية فهو ركاز، وإلا فلقطة ولكن إذا حكم بأن المكان له، فيكون الدفين في هذه الحالة له مع المكان، ولو وجد خيط متصل به بأن يكون مربوطا بعض بدنه، أو ثيابه وجب الجزم بأنه يقضى به، وأيضا إذا وجد بالقرب منه ثياب، وأمتعة أو دابة فتكون له إلا أن يده لا تثبت لا على ما اتصل به بخلاف الموجود بقرب المكان، فإنه يحكم له بملكيته له؛ لأن له رعاية. وإذا لم يعرف للقيط مال عام ولا خاص، فالأظهر أنه ينفق عليه من بيت المال من سهم المصالح بلا رجوع؛ لأن عمر رضي الله تعالى عنه استشار الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، فأجمعوا على أنها في بيت المال. ومقابل الأظهر القول بالمنع من الصرف عليه من بيت المال، بل نقترض عليه من بيت المال، أو غيره لجواز أن يظهر له المال، فإذا لم يكن في بيت الماء شيء، أو كان ثم ما هو أهم منه، أو منع من كان متوليا على بيت المال ظلما أن يأخذ منه للإنفاق على اللقيط اقترض الحاكم عليه إن رآه، وإلا قام مياسير المسلمين بكفايته وجوبا على جهة القرض، وفي قول تجب عليهم نفقته لعجزه. فإن منعوا كلهم قاتلهم الإمام. والفرق بين كونها على المياسير قرضا، أو في بيت المال مجانا بأن بيت المال وضع للإنفاق على المحتاجين، فلهم فيه حق مؤكد دون مال المياسير، وفي حالة إلزام المياسير بالنفقة على اللقيط، فيجب على الإمام أن يلزم بها

مياسير بلده، فإن شق ذلك عليه، فعلى من يراه منهم، فإن استووا في نظره تخير، وهذا كله إذا لم يبلغ اللقيط، فإن بلغ الحلم فتكون النفقة عليه من سهم الفقراء، أو المساكين أو الغارمين المنوط به حفظ مال اللقيط. والأصح أن الملتقط له أن يستقل بحفظ مال اللقيط؛ لأنه مستقل بحفظ المالك لهذا المال، وهو اللقيط فيكون له حفظ مال اللقيط من باب أولى، وقيده الأذرعي بما إذا كان الملتقط لهذا الغلام عدلا يجوز إيداع مال اليتيم عنده. والثاني: يحتاج الملتقط للاستقلال بحفظ مال اللقيط إلى إذن القاضي. وعلى القول الأول الذي يحوز للملتقط الاستقلال بحفظ مال اللقيط، فإنه إذا نازعه فيه منازع، فليس له مخاصمته إلا بولاية من الحاكم، وأيضا يجوز للقاضي نزعة منه، وتسليمه لأمين غيره يباشر الإنفاق عليه بالمعروف اللائق به، أو يسلمه للملتقط يوما بيوم. وسواء قلنا بجواز أن يستقل الملتقط بحفظ المال، أو قلنا: لا يحفظ إلا بإذن القاضي، فإنه لا يجوز له الإنفاق عليه إلا بإذن القاضي؛ لأن ولاية التصرف في المال لا تثبت إلا لأصل، أو وصي أو حاكم أو أمينه. فإن أنفق بغير إذنه كان ضامنا إن أمكن له مراجعة الحاكم أو القاضي، فإن لم يمكن له ذلك أنفق وأشهد وجوبا، وليس الإشهاد في كل مرة لما فيه الحرج، والمشقة الظاهرة فكان الأوجه عدم تكليفه بذلك في كل مرة، بل يشهد فقط عند الانفاق في أول الأمر، وعلى ذلك فلا يكون عليه الضمان. الحكم على اللقيط بالإسلام أو الكفر: يكون الحكم بإسلام اللقيط، أو بكفره مرتبطا بتبعيته للدار، فإذا وجد

بدار الإسلام، أو بدار علم كونها مسكنا للمسلمين، أو كان في دار الإسلام أهل ذمة، أو معاهدون أو وجد اللقيط بدار فتحها المسلمون، وأقروها بيد كفار صلحا قبل ملكها أو وجد بدار ملكها المسلمون من الكفار عنوة، وأقروها بيدهم في مقابل دفعهم الجزية للمسلمين، أو وجد بدار فيها مسلم يمكن أن يولد له هذا اللقيط، ففي هذه الصور كلها يحكم على هذا اللقيط بالإسلام لما ورد في مسند الإمام أحمد، والدارقطني: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه". أما إذا لم يكن ثم مسلم يمكن كونه منه فهو كافر، واكتفي هنا بالمجتاز تغليا لحرمة دارنا، وإن وجد بدار الإسلام، ولا مشرك فيا كالحرم، فهو مسلم ظاهرا وباطنا. وإن وجد اللقيط بدار الكفر، وهي دار الحرب، فكافر إن لم يسكنها مسلم إذ لا مسلم يحتمل إلحاقه به، فإن كانت البقعة التي وجد فيها اللقيط بها طوائف متنوعة، أو مللا مختلفة حكم بانتسابه إلى الملة التي هي أقرب إلى الإسلام. وإن سكنها مسلم كأسير منتشر في البلد أي غير محبوس في مكان مطمور، أو سكنها تاجر، فاللقيط مسلم تغليبا للإسلام، فإن أنكره ذلك المسلم، فإنكاره مقبول في نفي النسب دون إسلامه، وقيل: يكون اللقيط كافرا تغليبا لدار الكفر، فإن كان الأسير محبوسا في مكان مطمور، فلا أثر له ولا يحكم بإسلام اللقيط إذا لم يكن في المحبوسين امرأة. وحاصل ذلك أنه يحكم بإسلام اللقيط، حيث أمكن كونه من المسلم بأن يكون المسلم المجتاز، أو التاجر قد وجد بدار الكفر وقت العلوق بهذا اللقيط أما لو طرقها مسلم، ثم بعد شهر مثلا وجد بها منبوذ لا يحكم بإسلامه لاستحالة كونه منه.

وإذا وجد اللقيط ببرية، فهو مسلم إذا كانت البرية تابعة لدارنا، أو لا يد لأحد عليها، أما برية دار الحرب التي لا يطرقها مسلم، فهو غير مسلم. وولد الذمية من الزنا بمسلم يكون مسلما؛ لأن هذا مقطوع النسب عنه. إذا حكم بإسلام اللقيط تبعا للدار، ثم ادعى نسبه ذمي ومن في حكمه: ذكر العلماء أن من حكم بإسلامه بالدار من اللقطاء، فهو مسلم تبعا للدار، ولكنها تبعية ضعيفة بمعنى أنه لو ادعاه ذمي، وأقام بينة على دعواه بنسبه لحقه، ومثله في ذلك المعاهد والمستأمن؛ لأنه كالمسلم في النسب، فيكون تابعا له في الكفر، وارتفع ما ظنناه من إسلامه؛ لأن الدار حكم باليد، والبينة أقوى من اليد المجردة، وتصور علوقه من مسلم بوطء شبهة أمر نادر لا يعول عليه مع البينة. ولكن ما هي البينة؟ البينة هي أن يشهد عدلان بلحوق نسبه بالذمي، أو يلحقه القائف به؛ لأن إلحاق القائف حكم، وهو كالبينة بل أقوى، فإن كانت البينة أربع من النسوة، فالحكم في هذه الصورة أن يقال: إنه إن ثبت بهن النسب تبعه في الكفر، وإلا فلا. فإن اقتصر على الدعوى بأن اللقيط ابنه، فالمذهب أنه لا يتبعه في الكفر، وإن لحقه في النسب؛ لأنا حكمنا بإسلامه، فلا نغيره بمجرد دعوى كافر، ويجوز كونه ولده من مسلمة بوطء شبهة. والطريق الثاني: فيه قولان: ثانيهما يتبعه في الكفر كالنسب. ومحل الخلاف ما إذا استلحقه قبل أن يصدر منه صلاة، أو صوم، فإن

صدر منه ذلك لم يغير عن حكم الإسلام قطعا، وسواء قلنا بتبعيته في الكفر، أو لا فإنه يحال بينهما كما يحال بين أبوي مميز، وصف الإسلام ولدهما المسلم، وتكون الحيولة بينهما واجبة، إن قلنا بعدم تبعيته لهما في الكفر، لكن يستحب تسليمه لمسلم، فإذا بلغ ووصف الكفر، فإن قلنا بالتبعية، فإنه يقر على ما هو عليه لكنه يهدد لعله يسلم، وإلا ففي تقريره ما سبق من الخلاف. وهناك غير تبعية الدار جهتان يحكم بإسلام الصبي بوجود واحدة منهما. إحداهما: الولادة: فإذا كان أحد أبويه مسلما وقت العلوق، فهو مسلم ذكرا كان أو أنثى أو خنثى، وهذا بالإجماع تغليبا للإسلام فلو ارتد أحدهما بعد العلوق فلا يضر. فإن بلغ الصبي المسلم بالتبعية، ووصف كفرا بأن أعرب به عن نفسه، فمرتد؛ لأنه مسلم ظاهرا أو باطنا، وهذا إن كانت التبعية لأحد أبويه. ولو علق بين كافرين، ثم أسلم أحدهما قبل بلوغه حكم بإسلامه حالا سواء أسلم أحدهما قبل وضعه، أو بعده وسواء قبل تمييزه أو بعده، وقبل البلوغ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 1. وفي معنى الأبوين الأجداد والجداد، وإن لم يكونوا وارثين وكان الأقرب حيا، وليس معنى هذا أن يحكم بإسلام جميع الأطفال بإسلام أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام، لأن مرادنا في وجد يعرف النسب إليه بحيث يحصل بينهما التوارث. ولو سباه ذمي أو مستأمن، وحمله إلى دار الإسلام لم يحكم بإسلامه في

_ 1 من الآية "21" من سورة الطور.

الأصح؛ لأن كونه من أهل دار الإسلام لم يؤثر فيه، ولا في أولاده فكيف يؤثر في سبيه؛ ولأن تبعية الدار إنما تؤثر في حق من لا يعرف حاله، ولا نسبه، فيكون على دين سابيه. والثاني: يحكم بإسلامه تبعا للدار. ولو سباه مسلم، وذمي حكم بإسلامه تغليبا لحكم الإسلام، ولو سباه ذمي وباعه لمسلم، أو المسلم الذي سباه مع أحد أبويه في جيش واحد، ولو دون أبويه من مسلم لم يتبع المشتري لفوات وقت التبعية؛ لأنهما إنما تثبت ابتداء. هل يصح إسلام الصبي المميز؟ إذا أسلم الصبي المميز المستقل عن أبويه، ولم يدخل في سبي مسلم، فهل يصح إسلامه في ذلك الحكم خلاف: الأول: وهو الصحيح المنصوص في القديم والجديد أنه لا يصح؛ لأنه غير مكلف، فأشبه غير المميز والمجنون، وهما لا يصح إسلامها اتفاقا؛ ولأن نطقه بالشهادتين إما خبر وإما إنشاء، فإن كان خبرا فخبره غير مقبول، وإن كان إنشاء فهو كعقوده وهي باطلة. والثاني: يصح إسلامه حتى يرث من قريبة المسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دعا عليا رضي الله تعالى عنه إلى الإسلام قبل بلوغه فأجابه؛ ولأنه لا يلزم من كونه غير مكلف به أنه لا يصح منه كالصلاة، والصوم، وسائر العبادات. وأجاب الأول عن قصة علي رضي الله عنه بأنه كان بالغًا عند إسلامه، كما نقله القاضي أبو الطيب، عن الإمام أحمد رضي الله عنه، فعلى تقدير ثبوته فلا كلام، وعلى عدم تقديره فقد ذكر البيهقي في المعرفة أن الأحكام إنما

صارت معلقة بالبلوغ بعد الهجرة، وهو صحيح؛ لأن الأحكام إنما أنيطت بخمس عشرة سنة في عام الخندق، فقد تكون منوطة قبل ذلك سن التمييز والقياس على الصلاة، ونحوها لا يصح؛ لأن الإسلام لا يتنفل به، وعلى هذا يحال بينه، وبين أبويه الكافرين؛ لئلا يفتنوه وهذه الحيلولة مستحبة على الصحيح، فيتلطف بوالديه ليأخذ منهما، فإن أبيا فلا حيلولة. وقيل: إنها واجبة احتياطا للإسلام، ولا نمنعه من الصلاة والصوم، وغيرهما من العبادات كما قال الزركشي أخذا من كلام الشافعي: ويدخل بإسلامه الجنة إذا أمره على قلبه، كما لو أظهره، ويعبر عنه بصحة إسلامه باطنا لا ظاهرًا. فإن بلغ ثم وصف الكفر هدده وطولب بالإسلام، فإن أصبر رد إليهما، واحترز بالمميز عن غيره من صبي ومجنون، فلا يصح إسلامهما قطعا، وأنه يصح إسلام المكلف بالنطق من القادر عليه، والإشارة من العاجز عن النطق قطعا، وكالمكلف المتعدي بكفره. إذا مات أطفال الكفار، ولم يتلفظوا بالإسلام فهل يدخلون الجنة: في دخولهم الجنة خلاف والأصح أنهم يدخلون الجنة؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة، فحكمهم حكم الكفار في الدنيا، فلا يصلى عليهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين، وحكمهم حكم المسلمين في الآخرة. حكم استلحاق اللقيط: إذا استلحق شخص لقيطا حكم بإسلامه، فإن كان ذلك الشخص الذي استلحقه مسلما لحقه بالشروط المذكورة في الإقرار؛ لأنه أقر له بحق لا ضرر فيه على غيره، فأشبه ما لو أقر له بمال، ويسن للقاضي أن يقول للملتقط من

أين هو ولدك من زوجتك، أو شبهة، فإنه قد يتوهم أن الالتقاط يفيد النسب بل ينبغي وجوبه، إذا كان المستلحق ممن يجهل ذلك احتياطا للنسب. واشتراط الإسلام المستلحق، إنما يكون في لقيط محكوم بإسلامه، فإن استلحقه كافر لحقه، ولكن لا يتبعه في الكفر.

أحكام الجعالة

الفصل الخامس: أحكام الجعالة. تعريف الجعالة: الجعالة بفتح الجيم، وكسرها اسم لما يجلعه الإنسان لغيره على شيء يفعله، وكذا الجعل والجعيلة، وأما تعريفها شرعا، فهو التزام مطلق التصرف عوضا معلوما على عمل معين، أو مجهول لمعين أو غيره1. وعرفها بعضهم بقوله الجعالة: التزام عوض معلوم على عمل فيه كلفة، ولو غير معين. حكم الجعالة: الجعالة جائزة والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} 2، أي ضمين وكفيل، واعتبر الرملي أن سوق هذه الآية استئناسا وليس استدلالا، وعلل ذلك الشبراملسي في حاشية على النهاية قائلًا: إن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا، وإن ورد في شرعنا ما يقرره، وأما الدليل المعتمد لجواز الجعالة فهو قوله صلى الله عليه وسلم: فيما رواه أبو سعيد الخدري أنا ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتو حيا من أحياء العرب، فلم يقروهم أي لم يضيفوهم، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: هل فيكم راق، فقالوا: لم تقرونا فلا نفعل أو تجعلوا لنا جعلا، فجعلوا لهم قطيع شاة من الغنم، فجعل رجل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بزاقه3، ويتفل فبرأ الرجل، فأتوهم بقطيع الشاة، فقالوا: لا

_ 1 حاشية الباجوري على ابن قاسم "ج2 ص33". 2 من الآي "72" من سورة يوسف. 3 البزاق: الريق.

نأخذه حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فضحك وقال: "ما أدراك أنها رقية؟ خذوه واضربوا لي فيه بسهم" 1. وفي رواية أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه رقى ملدوغا بعقرب بالفاتحة على ثلاثين رأسا من الغنم، وأقره صلى الله عليه وسلم على ذلك. والإجماع منعقد على جواز الجعالة لما تدعو إليه الحاجة من رد ضالة، أو عمل لا يقدر عليه، ولا يوجد من يتطوع به، ولا تصح الإجارة عليه لجهالة، فجاز أن يجعل له جعلا كالإجارة والقراض. الفرق بين الجعالة، والإجارة: والجعالة كالإجارة، إلا أنها تختلف عنها في الأمور الآتية: 1- جوازها وصحتها مع غير معين. 2- صحتها على عمل مجهول. 3- توقف استحقاق العوض فيها على فراع العمل. 4- صحتها مع عدم قبول العامل. 5- صحتها مع جهل العوض. 6- سقوط كل العوض بفسخ العامل، ومن ثم فقد ذكرها بعضهم عقب الإجارة، واختار المصنف ذكرها عقب اللقيط؛ لأن فيها طلب ضائع كاللقيط واللقطة. أركان الجعالة: أما أركان الجعالة فهي أربعة: عاقدان، وعوض، وعمل، وصيغة وعدها بعضهم خمسة وهي عاجل، ومجعول له يسمى العامل، وعوض، وعمل،

_ 1 رواه الجماعة إلا النسائي، وهذا لفظ البخاري وهو أتم وفي رواية للدارقطني: "قلت: يا رسول الله شيء ألقي في روعي"، قال الشوكاني: وذلك ظاهر في أنه لم يكن عنده علم متقدم بمشروعية الرقى بالفاتحة" "نيل الأوطار ج5 ص326، 327".

وصيغة وسوف نتكلم عن كل ركن من هذه الأركان الخمسة على هذا الترتيب. الركن الأول: الجاعل ويشترط فيه شرطان: الأول: أن يكون مطلق التصرف بأن يكون تصرفه صحيحا، فيما يجعله عوضا سواء كان مالكا أو غير مالك، فدخل بذلك الولي وخرج الصبي، والمجنون والسفيه. الثاني: أن يكون مختارًا، إن كان مكروها فلا يصح جعله. الركن الثاني: العامل ويشترط فيه شروط هي: الأول: أن يكون العامل مأذونًا له بالعمل من صاحب المال، فإذا عمل من غير إذنه بأن كان له مال ضائع فجاء به، أو ضالة فردها إليه لم يستحق الجعل؛ لأنه بذل منفعته من غير عوض، فلم يستحق العوض، أما إذا أذن له وشرط له الجعل، فعمل استحق الجعل؛ لأنه استهلك منفعته بعوض، فاستحق العوض كالأجير. ويدخل تحت هذا الشرط صور من أهمها: أ- إذا أذن الجاعل لشخص فعمل غيره، فلا شيء للعامل وإن كان معروفا بذلك العمل، خلافا لأبي حنيفة. ب- إذا نادى، فقال: من رد علي ناقتي أو سيارتي، فله دينار فردها من لم يسمع النداء لم يستحق الجعل؛ لأنه متطوع بالرد من غير بدل. الثاني: أن يكون العامل أهلا للعمل إذا كان معينا، فيصح ممن هو أهل له، ولو صبيا أو مجنونا، أو محجورا عليه بسفه بخلاف صغير لا يقدر

على العمل؛ لأن منفعته معدومة فالجعالة معه كاستئجار أعمى للحفظ. ويجوز أني يكون العامل غير معين كقوله: من رد على ضالتي فله كذا، فإذا ردها استحق الجعل، وهو الأجرة لم يسمع الراد ذلك من الجاعل، بل سمعه ممن يثق بخبره. الثالث: أن العامل لا يستحق العوض إلا بالفراغ من العمل، فإن شرط له جعلًا على رد البعير الشارد، فرده إلى باب الدار ففر منه، أو مات قبل أن يسلمه لم يستحق شيئا من الجعل؛ لأن المقصود هو الرد، والجعل في مقابلته ولم يوجد منه شيء. الركن الثالث: العوض ويشترط فيه: 1- أن يكون مالًا مقصودًا، محترما أو مختصا فإن كان غير مقصود كالدم ونحوه، فلا يجوز. 2- أن يكون معلوما؛ لأنه عوض فلا بد من العلم به كالأجرة في الإجارة، فلو كان مجهولا كقوله: من رد مالي أو ضالتي، فله ثوب أو أعطيه شيئا، فلا يجوز؛ لأن الجعالة عقد معاوضة، فلا تجوز بعوض مجهول كالنكاح. فإن شرط له جعلا مجهولا فعمل، استحق أجرة المثل؛ لأن كل عقد وجب المسمى في صحيحه وجب المثل في فاسده، كالبيع والنكاح؛ ولأنه عقد جوز للحاجة، ولا حاجة لجهالة العوض بخلاف العمل؛ ولأن جهالة العوض تفوت مقصود العقد، أو لا يرغب أحد في العمل مع جهالة العوض. ويحصل العلم بالمشاهدة إن كان معينًا، وبالوصف إن كان في الذمة، فلو قال: من رد ضالتي فله ما تحمله، وكان ما تحمله معروفا كسرجها

ولجامها أو شيئا آخر تنقله ضلت به، وكان معروفا للعامل، صح العوض وإلا فلا. وخلاصة القول أنه يشترط في العوض ما يشترط الثمن، فما لا يصح ثمنا لكونه مجهولا أو نجسا لا يصح أن يكون جعلًا، ويستحق العامل أجرة المثل في المجهول والنجس المقصود كخمر وجلد ميتة، فإن لم يكن مقصودا كدم، فلا شيء للعامل. الركن الرابع: العمل ويشترط فيه: أولا: أن يكون فيه كلفة، فلا عوض فيما لا كلفة فيه، كقوله من دلني على مالي، فله كذا فدله عليه وهو بيد غيره؛ لأن ما كلفه به لا يقابل بالعوض. ثانيا: أن يكون هذا العمل ليس متعينا عليه شرعا، فإن كان قد تعين عليه رده، فلا يستحق شيئا من العوض، فإن قال: من رد مالي فله كذا فرده من تعين عليه لغصب ونحوه، فلا يستحق العوض المشروط؛ لأن ما تعين عليه شرعا لا عوض له عليه. الثالث: أن يقوم العامل بتسليم المردود إلى صاحبه، فلو تلف منه قبل تسليمه، ولو بعد دخول دار المالك لكن قبل تسليمه، فلا عوض له. ولا فرق في العمل بين كونه معلوما، وكونه مجهولا عسر علمه للحاجة كما في القراض بل أولى، فإن لم يعسر علمه اشترط ضبطه، ففي بناء حائط يذكر موضعه وطوله، وعرضه وارتفاعه، وما يبنى به، وفي الخياطة يعتبر وصفها ووصف الثوب كالإجارة. أما صحتها على المعلوم فأولى، ومثال ذلك قوله: من رد علي ضالتي من مكان كذا فله كذا، وهذا هو الأصح.

وقيل: إن كان العمل معلوما ومضبوطا، فالجعالة ممنوعة للاستغناء عنها بالإجارة. الركن الخامس: الصيغة: وهي من طرف الجاعل أما العامل، فلا يشترط له صيغة، ومن ثم فلا يشرط فيها قبول العامل باللفظ، ولو كان معينا؛ لأن المعتبر فعله كما في الوكالة، ولا تبطل برده نعم لو قال له العامل: أرد لك دابتك أو سيارتك، ولي دينار، فقال له: نعم أو رده كفى. وإنما كانت الصيغة ركنا؛ لأن الجعالة معاوضة وشرط الصيغة عدم التأقيت؛ لأن التأقيت قد يفوت الغرض منها، فلو قال: من رد علي ضالتي إلى شهر كذا، فله كذا لم يصح كما في القراض؛ لأن تقدير المدة مخل بمقصود العقد، فقد لا يظفر به فيها، فيضيع سعيه ولا يحصل الغرض. ويتفرع على ذلك فروع نذكرها فيما يلي: الفرع الأول: لا فرق في الجاعل بين أن يكون جاعلا على نفسه، وأن يكون مخبرا عن غيره إن كان صادقا، وكان ثقة، فإن كان كاذبا فلا شيء له لعدم الالتزام، وكذا إن كان غير ثقة كما لو رد مال زيد غير عالم بإذنه، ولا التزامه إلا أن يعتقد الراد صدقه كما استظهره ابن قاسم. الفرع الثاني: لو قال شخص: من يدلني على مالي فله كذا فدله غير من هو بيده استحق العوض؛ لأن الغالب أنه تلحقه مشقة، بشرط أن يكون هذا الشخص قد وجد منه بحث عن هذا المال بعد حصول الجعل من المالك، أما البحث السابق والمشقة السابقة قبل الجعل، فلا عبرة بهما.

أما إذا دله من كان المال في يده، فلا يستحق شيئا؛ لأن ذلك واجب عليه شرعا، فلا يأخذ عليه عوضا، ومعنى ذلك أنه متى كان الدال، أو الراد غير مكلف استحق العوض المشروط أو المجعول. وقد أفتى الإمام النووي فيمن حبس ظلما، فبذل مالا لمن يتكلم في خلاصة بجاهه وغيره بأن المال جعالة مباحة، وأخذ العوض في ذلك حلال..، ونقله عن جماعة "ثم قال: وفي ذلك كلفة تقابل بأجرة عرفا". والصحيح الذي نعلمه أن ذلك رشوة، فيكون تخليص المظلوم عند السلطان، وأخذ العوض عنه ليس جعالة، ولا يستحق عليه أجرا وذلك؛ لأنه إذا كان صاحب جاه يستطيع أن يرفع ظلما وقع على إنسان بجاهه، وجب عليه العمل على رفعه، وهذا من شأنه أن يبطل الجعالة؛ لأنها لا تكون إلا عوضا عما لا يجب على العامل، ومقتضى النصحية، والعمل لإحقاق الحق الذي يلزم كل مسلم يمنع هذه الصورة التي أفتى بها النووي رحمه الله تعالى. ولأنهم قالوا: إن السعي والعمل، وبذل المجهود مع حصول المقصود توجب الجعالة، وجعلوا إخبار الطبيب للمريض بدوائه عملا تافها لا جهد فيه، ولا سعي، فلا يستحق عليه جعلا، فكيف بمن له جاه يمكن أن يؤثر به في رفع ظلم، أو قضاء مصلحة بدون مشقة أو جهد، أو سعي إلا أن يتفوه بكلمة، فهل يحل له أن يأخذ جعالة؟ إن قياس المذهب والبناء على أصله يمنع ذلك، ولا أعلم في ذلك خلافا في الأصل الذي بنينا عليه؛ لأنه يستمد قوته من قوله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين والحرام بين".أما مسألة الطبيب التي أشار إليها، فمراده أن الطبيب لا يستحق أجرا إذا

وصف الدواء للمريض بكلمة؛ لأن الكلمة لا تكلفه جهدا يستحق عليه أجرا أما إذا قام بفحص المريض، ووصف الدواء اللازم، فلا شك أن هذا جهد يستحق الأجر عليه. الفرع الثالث: إذا قال: من رد علي ضالتي من بلد كذا فرجه من جهة ذلك البلد لكن من أبعد منه، فلا زيادة له لتبرعه بها، أما إذا قال: من رده من بلد كذا، فرده من مكان أقرب منه، فلا يستحق إلا قسطه من الجعل؛ لأنه جعل كل الجعل في مقابلة العمل، فبعضه في مقابلة بعضه، فإن رده من نصف الطريق استحق نصف الجعل، فإن كانت الطريق غير متساوية في المرونة، والسهولة بأن كان النصف الذي قطعه يمكن أن تكون أجرته ضعف أجرة النصف الآخر استحق الثلثين من الجعل، فإن كان من البلد أو من مسألة مثل مسافته، ولو من جهة أخرى استحق المسمى، ولو رد من البلد المعين، ورأى المالك في نصف الطريق، فدفعه إليه استحق نصف الجعل. الفرع الرابع: تصح الجعالة على عمل مجهول؛ لأن الجهالة احتملت في القراض لحصول زيادة، فاحتمالها في رد الحاصل أولى، وهو مقيد بما عسر ضبطه، فإن كان يمكن ضبطه كبناء حائط، فيذكر محله وطوله وسمكه وارتفاعه وما يبنى به، وخياطة ثوب فيصفه كالإجارة، وإذا صحت الجعالة على المجهول، فصحتها على المعلوم من باب أولى، ومثال ذلك قوله: "من رد علي ضالتي من مكان كذا فله كذا وهذا هو الأصح، وقيل: إن الجعالة على المعلوم ممنوعة للاستغناء بالإجارة عنها".

أسباب فسخ عقد الجعالة: فائدة: ينقسم العقد باعتبار لزومه، وجوازه إلى ثلاثة أقسام: أحدهما: لازم من الطرفين قطعا كالبيع والإجارة، والسلم والصلح والحوالة والمساقاة، والهبة لغير الفروع بعد القبض، والخلع. ولازم من أحدهما قطعا، ومن الآخر على الأصح وهو النكاح، فإنه لازم من جهة المرأة قطعا، ومن جهة الزوج على الأصح، وقدرته، على الطلاق ليست فسخًا. ثانيا: لازم من أحد الطرفين جائز من الآخر قطعا كالرهن، وهبة الأصول وللفروع بعد القبض، والضمان والكفالة. ثالثها: جائز من الطرفين كالشركة والوكالة والعارية والوديعة، والجعالة قبل فراغ العمل. ومن ثم فيجوز لأي منهماخ الفسخ قبل تمام العمل؛ لأن عقدها جائز من الطرفين، أما من جهة الجعل فمن حيث إنها تعلق استحقاق بشرط، فأشبهت الوصية. وأما من جهة العامل؛ فلأن العمل فيه مجهول، وما كان كذلك لا يتصف باللزوم كالقراض، وإنما يتصور الفسخ من العامل في الابتداء إذا كان معينا بخلاف غيره، فلا يتصور فسخه إلا بعد شروعه في العمل. والمراد بالفسخ رفع العقد ورده من أحد المتعاقدين، أو منهما معا وبذلك ينتهي ما اتفقا عليه: أما إذا كان الفسخ بعد العمل، فإنه لا أثر للفسخ؛ لأن الجعل قد لزم واستقر.

وكما تنفسخ الجعالة بفسخ أحد المتعاقدين كما سبق بيانه تنفسخ أيضا بموت أحد المتعاقدين، أو جنونه أو إغمائه، فلو مات المالك بعد الشروع في العمل، فرده إلى وارثه استحق قسط ما عمله في الحياة من العوض المسمى. وإن مات العامل فرده وارثه استحق القسط منه أيضا. فإن فسخ قبل الشروع أو فسخه العامل بعد الشروع فلا شيء له؛ لأنه لم يعمل شيئا في الأولى؛ ولأن الجعل إنما يستحق في الثانية بتمامه، وقد فوته باختياره. وإن فسخ المالك بعد الشروع في العمل، فعليه أجرة المثل لما مضى؛ لأن جوازه يقتضي التسلط على رفعه، وإذا ارتفع لم يجب المسمى كسائر الفسوخ لكن عمل العامل وقع محترما، فلا يحبط بفسخ غيره فرجع إلى بلده، وهو أجرة المثل كالإجارة إذا فسخت بعيب، وهذا هو الأصح. وقيل: لا شيء للعامل كما لو فسخ بنفسه، ولا فرق على هذا القول بين أن يكون ما صدر من العامل لا يحصل به مقصود أصلًا كرد الضال إلى بعض الطريق، أو يحصل به بعضه كما لو قال شخص لآخر: إن علمت ابني القرآن فلك كذا، ثم منعه من تعليمه، ولا يتنافى ذلك مع ما سبق ذكره، حيث قلنا: إذا مات العامل أو المالك في أثناء العمل، فإنه ينفسخ العقد، ويجب القسط من المسمى؛ لأن الجاعل أسقط حكم المسمى هنا بفسخه بخلافه هناك. ولكن هل للمالك أن يزيد أو ينقص في الجعل الذي شرطه للعامل؟ نعم يجوز له ذلك قبل الفراغ من العمل سواء أكان قبل الشروع في العمل، أم بعده كما يجوز في البيع في زمن الخيار، بل إن هذا أولى كأن يقول مثلا

من رد علي ضالتي، فله عشرة من الجنيهات المصرية، ثم يقول: فله خمسة أو عكسه، فيكون الاعتبار بالأخير من قوليه، وهذا إذا سمعه العامل أما إذا لم يسمعه، أو كان بعد الشروع في العمل، فيجب أجرة المثل للعامل على المالك؛ لأن النداء الأخير فسخ للأول، والفسخ من المالك أثناء العمل يقتضي الرجوع إلى أجرة المثل، وهو الراجح عند الغزالي، وقال الماوردي، والروياني يستحق الجعل الأول وأقره السبكي، والبلقيني وغيره. واستحقاق العامل أجرة المثل إذا لم يسمعه بعد الشروع لا ينافيه أنه لو عمل شيئا بعد الفسخ لا شيء له؛ لأن ذلك فيما فسخ بلا بدل بخلاف هذا. أما التغيير بعد الفراغ فلا يؤثر؛ لأن المال قد لزم، ويتوقف لزوم الجعل على تمام العمل، ولهذا قال النووي: ولو مات الحيوان الضال1 في بعض الطريق، أو هرب فلا شيء للعامل ولو في دار المالك قبل تسليمه له؛ لأنه لم يرده. ويستثنى من ذلك لو أكترى من يحج عنه، فأتى ببعض الأعمال، ومات فإنه يستحق من الأجرة بقدر ما عمل. والفرق بينهما أن المقصود من الحج الثواب، وقد حصل ببعض العمل، وهنا لم يحصل شيء من المقصود، وهذا هو الفرق الأول. والفرق الثاني: أن الإجارة لازمة تجب الأجرة فيها بالعقد شيئًا فشيئًا، والجعالة جائزة لا يثبت فيها شيء إلا بالشروط، ولم يوجد. وإذا رد العامل المال الضائع، ولم يجد المالك فله أن يسلم المال المردود إلى الحاكم ويستحق الجعل، فإذا لم يكن حاكم أشهد على المال المردود واستحقه.

_ 1 الضالة: اسم لما ضاع من الحيوان خاصة كما قال الأزهري وغيره.

وإذا أنكر المالك الجعل، وقال العامل شرط جعلا، أو أنكر المالك سعى العامل في رد ماله بأن قال: لم يرده، وإنما رجع بنفسه بأن كان المال بهيمة، فالقول قول المالك؛ لأن الأصل عدم الشرط والرد. أما إذا اختلف المالك، والعامل في مقدار الجعل بعد الفراغ من العمل، أو بعد الشروع، وقلنا للعامل: قسط ما عمله، فيحلف كل منهما ويفسخ العقد، وفي هذه الحالة يكون للعامل أجرة المثل كما في الإجارة، أما قبل الشروع فلا استحقاق له فلا تحالف، ومثله الاختلاف في قدر العمل كقوله: شرطت مائة على رد النقود والتجارة، فقال العامل: على رد التجارة وحدها، أو المال وحده فإن كان بعد الفراغ من العمل، فيحلف كل منهما ويكون للعامل أجرة المثل أما قبل الشروع، فلا استحقاق ولا تحالف، وينفسخ العقد. ولكن هل يضمن العامل إذا ضاع المال من يده قبل رده؟ إن كان بتفريط، فإنه يضمن وإن لم يكن ذلك بتفريط منه فلا يضمن؛ لأن يده على ما يقع في يده يد أمانة، والله أعلم.

إحياء الموات

الفصل السادس: إحياء الموات. بيان المراد من إحياء الموات: أما إحياء الموات، فالمراد به عمارة الأرض الخربة شبهت عمارتها بإحياء الموتى، وهو إدخال الروح في جسد خال منها بجامع النفع في كل منهما، أو نقول: شبهت الأرض الميتة الخربة بالميت بجامع عدم النفع في كل منهما. تعريف الموات لغة وشرعًا: أما الموات لغة فهو الأرض الخربة الدارسة، وتسمى ميتة ومواتا وأما الموتان، فهو بضم الميم، وسكون الواو الموت الذريع تقول: رجل موتان القلب بفتح وسكون الواو أي لا بصيرة له ولا فهم، وهو في اصطلاح الفقهاء: الأرض التي لا مالك لها، ولا ينتفع بها أحد كما قال الرافعي. شرح التعريف: فقوله: "لا مالك لها" يحتمل أن يكون المراد منه لا مالك لها معلوم، فيكون من الموات ما ظهر فيه أثر ملك كغراس شجر، وأساس جدران ونحو أوتاد، وعلى هذا يكون الموات شاملا للأرض التي لا مالك لها أصلا، ولم تعمر قط أو عمرت من قبل، وظهر فيها أثر ملك ولها مالك، ولكنه ليس معلومًا، ويحتمل أن يكون المراد بالأرض الموات التي لا مالك لها أصلا، فلا يشمل الموات إلا شيئا واحدا، وهو الأرض التي لم تعمر قط، وأما الأرض التي ظهر فيها أثر ملك، فلا يكون من الموات على هذا المعنى، فيكون الموات على الأول أعم من الثاني؛ لأن الأول يكون الموات شاملا لأمرين الأول: الأرض التي لم تعمر مطلقا، والثاني: الأرض التي عمرت، ولكنها تخربت ولم يبق منها إلا آثار

العمارة السابقة كغراس شجر، ودق الأوتاد ونحو ذلك. وقوله: "ولا ينتفع بها أحد" قيد في التعريف لا بد منه ليخرج الأرض التي لا مالك لها، ولكن ينتفع بها الناس كحريم المعمور، وهو ما يحتاج إليه لمصلحة العامر من المرافق كفناء الدار ومسيل الماء، فلا يجوز إحياؤه؛ لأنه تابع للعامر ولا يملك بالإحياء؛ لأننا لو جوزنا إحياءه لأبطلنا الملك في العامر على أهله، كما لا يجوز إحياء ما بين العامر من الرحاب والشوارع، ومقاعد الأسواق؛ لأن هذا من جملة العامر؛ ولأنا لو جوزنا إحياءه ضيقنا على الناس في أملاكهم، وطرقهم وهذا لا يجوز شرعا؛ لأن الشرع ورد بإحياء الموات، وهذا ليس من الموات، بل هو تابع للعامر كما بينا. أقسام إحياء الموات: ويمكن على ضوء ما سبق أن نقسم الموات إلى قسمين: الأول: موات أصلي، وهو الذي لم يعمر قط. الثاني: موات طارئ وهو ما عمر، ثم خرب بعد عمارته، وأصبح الآن غير عامر. وهذا التقسيم لا يتأتى إلا على الاحتمال الأول، وهو أن المراد بالموات الأرض التي لا مالك لها معلوم. وعرف الماوردي والروياني، والموات بأنه، ما لم يكن عامرا ولا حريما لعامر قرب العامر أو بعد، وهذا التعريف قريب من الأول. فقوله: "ما لم يكن عامرا" أي لم يكن عامرا في الإسلام إذ لا عبرة بعمارة الأرض في الجاهلية.

مشروعية إحياء الموات: إحياء الموات مشروع، والأصل في مشروعيته قبل الإجماع أخبار كثيرة منها ما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من عمر أرضا ليست لأحد، فهو أحق بها، وما أكله العواقي، فهو له صدقة" 1، فقوله صلى الله عليه وسلم فهو أحق بها أي مستحق لها يملكها، وفي رواية: "فهي له" 2، وهذه الرواية قاطعة في ثبوت الملك بالإحياء، ولكونه أحق بها لم يحتج في الملك بالإحياء إلى لفظ يدل على أنه اختار ملكية ما أحياه من الأرض بأن يقول مثلا: تملكت أو أدخلتها في ملكي، وأما قوله: "فهو له صدقة" أي بسبب إحيائها، فالفاء للسببية كما في قوله في حديث آخر: "دخلت امرأة النار في هرة حبستها"، أي بسبب هرة، وقوله: "وما أكله العوافي" أي طلاب الرزق من بنائين، وفعله وكذا طير أو بهيمة، فهو له صدقة الإحياء؛ لأنه مصدر نفع وخير للإنسان، والحيوان على السواء أما الإنسان فباكتساب الرزق بالعمل في البناء، واستصلاح الأرض البور، وأما الحيوان؛ فلأنه يأكل مما ينبت من الزرع فكان الإحياء سببا في الأجر. وقد يقال: إن الحديث دليل على أن الإحياء خاص بالمسلم دون الكافر؛ لأن الأجر لا يكون إلا لمسلم والصحيح خلافه. فإن ثبوت الأجر والصدقة الواردين في الحديث لا يؤخذ منهما تخصيص الإحياء بالمسلم؛ لأن الكافر له الصدقة، ويثاب عليها في الدنيا بكثرة

_ 1 رواه البخاري وأحمد والنسائي، ووقع في البخاري: "من أعمر" بزيادة ألف في أوله وخطئ راويها "التلخيص الحبير ج3 ص61". 2 رواه البيهقي من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، وهو ضعيف جدا لا تقوم به حجة. "التلخيص ج3 ص62".

المال والولد وفي الآخرة بتخفيف العذاب، وذلك أعمال الخير التي لا تتوقف صحتها على نية كالصدقة، وإحياء الموات. ويؤيد ذلك أن اللغة تقضي أن الثواب والأجر يستوي فيه المسلم، والكافر فقد جاء في المصباح، أجره الله أجرا، وأجره إذا أثابه فلم يقيد ما يسمى ثوابا بجزاء المسلم، فاقتضى إن كل ما يقع جزاء يسمى ثوابا، وأجر سواء كان الفاعل مسلما أو كافرا. ولهذا يصح إحياء الكافر للأرض الموات إذا كانت ببلاد الكفار أما بلاد المسلمين، فلا يجوز إحياء الكفار بها حتى، ولو كان بإذن من الحاكم؛ لأن الإحياء استعلاء، والكافر ممنوع من الاستعلاء في بلاد المسلمين. حكم إحياء الموات: الأرض المعمورة الميتة إما أن تكون ببلاد، أو بلاد الكفر، فإن كانت ببلاد الإسلام، فيجوز فيها الإحياء بشرطين: الشرط الأول: أن يكون المحيى مسلمًا، مكلفا أو غير مكلف، فلو كان غير مسلم فلا يجوز له الإحياء، ولو أذن فيه الإمام؛ لأن الإحياء من الكافر كالاستعلاء، وهو ممتنع عليه بدارنا، وإذا أحيا غير المسلم أرضا بلاد الإسلام، فللمسلم أن يأخذها منه، فإن كان فيها شيء له كزرع رده المسلم إليه، فإن أخذه فبها، وإن أعرض عنه فهو لبيت المال، ويصرفه الإمام في المصالح العامة. ولكن يجوز للذمي والمستأمن والمعاهد، والاحتطاب والاحتشاش والاصطياد بدار الإسلام؛ لأن ذلك مما يخلف، ولا يتضرر به المسلمون، فكان ذلك مما يجوز لهما، ويجوز لهما أيضا نقل التراب من موات دار الإسلام إذا لم يتضرر به المسلمون، أما الحربي فإنه ممنوع من جميع ذلك حتى من الاحتطاب إلا أنه إذا أخذ شيئا منه ملكه.

الشرط الثاني: أن تكون الأرض التي يراد ملكها بالإحياء حرة لم يجر عليها ملك لمسلم ولا لغيره، فإن جرى عليها ملك لمسلم، أو لغيره بأن كان ذميا، أو مستأمنًا أو معاهدًا فهي لمالكه، أما إذا كانت الأرض مملوكة لحربي جاز إحياؤها وأخذها؛ لأن مال الحربي إذا ظفرنا به أخذناه غنيمة. فإن جهل مالكه والعمارة إسلامية بأن كانت بعد الإسلام، فهو مال ضائع؛ لأنه مال لمسلم أو ذمي أو نحوه، فيكون أمره مفوض إلى الإمام، فإما أن يحفظه بعينه، أو يبيعه ويحفظ ثمنه، أو يقرضه لبيت المال إلى أن يظهر مالكه إن كان يرجى ظهوره، فإن لم يرج ظهوره، فهو ملك لبيت المال يتصرف فيه الإمام كيفما شاء. وإن كانت العمارة جاهلية، فيملك بالإحياء في الأظهر إذ لا حرمة لملك الجاهلية؛ ولأنه كالموات والركاز. والثاني: المنع من الإحياء؛ لأنها ليست بموات. وإن كانت بلاد الكفار، فللكافر أحياؤها؛ لأنه من حقوق داره عليه، ولا ضرر علينا فيه فيملكه بالإحياء كالصيد، ويجوز للمسلم أحياؤها أيضًا إذا لم يدفعوا المسلمين عنها، فيمنعوهم من أحيائها، فإن منعوهم عنها كان الصلح بيننا، وبينهم على أن البلد لنا، وهم يسكنون بجزية، فالمعمور منها فيء ومواتها الذي كانوا يدافعون عنه يتيحتجر حتجر، ليكون فيئا لأهل الفيء، ولا يكون فيئا في الحال بل في المستقبل، ويفهم من هذا إن الإحياء جائز للمسلم في الحل والحرم على السوء، ولكن يستثنى من ذلك أمور. الأول: إحياء المسلم للأرض الموات بعرفة، ومزدلفة ومنى لتعلق حق وقوف الحجيج بعرفة، والمبيت بمنى ومزدلفة؛ لأن ذلك من مناسك الحج. وأما المحصب1، وهو الموضع الذي أهلك الله فيه أصحاب الفيل بين

_ 1 المحصب: موضع بمكة على طريق منى، ويسمى البطحاء "المصباح ج1 ص167".

مزدلفة ومنى، فيجوز إلحاقة بذلك؛ لأنه يسن للحجيج المبيت به عند الضرورة، وهذا ما قاله الزركشي لكن قال الوالي العراقي: ليس ذلك من مناسك الحج، فمن أحيا شيئا منه ملكه، وهذا هو المعتمد. الثاني: المرافق العامة، وما في حكمها: فلا يجوز إحياء المرافق العامة من الطرق كمصلى العيد في الصحراء، وموارد الماء فمن أحيا شيئًا من الموات على شاطئ النيل أو الخلجان، فيجب علي ولي الأمر، ومن له قدرة أن يمنعه من ذلك الإحياء. الثالث: الأرض التي حماها السلطان، فلا يجوز لأحد: أن يحيى أرضا منع السلطان عامة الناس من الرعي فيها، وخصصها لمواشي الجزية والصدقة، والفيء، أو لمواشي رجل ضعيف لا يقدر على الارتحال بدوابه إلى الأرض البعيدة طلبا للرعي، فإذا حمي له الإمام قطعة قريبة من داره لترعى فيها بهائمه، وتكون مملوكة له فلا يجوز لأحد غيره أن يرعى فيها؛ لأنه ملكها بهذا الإذن، ومن ثم فلا يملكها إلا بإذن الإمام، أو إذن نائبه. الرابع: حريم المعمور: حريم المعمور هو ما تمس الحاجة إليه للانتفاع بالمعمور، وإن حصل أصل -الانتفاع بدونه، ومعنى ذلك أن المعمور لا ينتفع به على الوجه الأكمل إلا به، وحريم المعمور هذا لا يجوز فيه الإحياء، وإذا أحياه شخص فلا يمكله؛ لأنه مملوك لمالك العامر، وهو في حاجة ماسة إليه لتمام الانتفاع بالمعمور، ولكن إذا اتسع الحريم بحيث كان يزيد على ما يحتاج إليه العامر، ثم احتيج إلى عمارة ما زاد عن ذلك، فيتجوز عمارته لعدم تفويت حاجة العامر إليه، ولا يخفى أنه لو أريد عمارة ذلك الموضع بتمامه، فلا يجوز بغير رضا صاحب العامر، فمثلًا إذا اعتاد الناس في القرى طرح الرماد في موضع، فلا يجوز عمارة هذا المكان؛ لأنه حريم العامر وهي القرية، فإن كان يزيد عن حاجتهم، فيجوز عمارة ما زاد سواء كان ذلك بإذن، أو بغير إذن أما عمارته

بتمامه وتكليفهم طرح الرماد في غيره، ولو قريبا منه لا يجوز؛ لأنه باعتيادهم الرمي فيه صار من الحقوق المشتركة بينهم، ومن ثم فلا يجوز إحياؤه إلا برضاهم. وسمي حريما لحرمة التصرف فيه بمعنى أن لمالك العامر أن يمنع غيره من إحيائه بجعله دارا، وليس له منعه من المرور فيه، ولا من رعى كلا فيه، ولا من استقاء من ماء فيه ونحو ذلك. وكما جاز إحياء ما زاد على حريم المعمور، فإنه يجوز أيضًا الغراس فيما لا يمنع من انتفاع الناس بالحريم كأن يكون قد غرس في مواضع يسيرة بحيث لا يفوت منافعهم المقصودة من الحريم. وخلاصة القول: أنه لا يجوز إحياء ما تمس حاجة المعمور إليه من الحريم، ولا يثبت الملك فيه بالإحياء؛ لأنه مملوك لمالك العامر، ومن ناحية أخرى، فإنه تابع للمعمور والإحياء لا يجوز إلا في الأرض الموات، فإن زاد الحريم عما يحتاج إليه المعمور، فلا مانع من إحياء الزائد عن حاجة المعمور أما ما يحتاج إليه المعمور من الحريم، فلا يجوز فيه الإحياء إلا بإذن من له حق الانتفاع بالمعمور، والله أعلم. حريم القرية والبذر، والدار، والنهر: وإذا كان الحريم يختلف في كل شيء بحسبه، فإن حريم القرية يختلف عن حريم البئر والنهر، والدار لاختلاف كل واحد منها بحسب الغرض الذي أعد من أجله. فحريم القرية المحياة يتناول كل ما تمس حاجة القرية إليه، ويشمل ذلك ما يلي: 1- النادي، وهو المكان الذي يجتمع فيه أهل القرية يندون أي يتحدثون

ويسمرون، ويطلق النادي على أهل المجلس، فلا يسمى ناديا إلا والقوم فيه، وأما إذا لم يكونوا فيه، فيسمى مجتمع الناس. 2- مرتكض الخيل بفتح الكاف، وهو مكان سوق الخيل لسباقها سواء أكانوا خيالة أم لا؛ لأنه قد تحدث لهم الخيل، أو يسكن القرية بعدهم من له رغبة في الخيل، وهذا هو الأصح خلافا للإمام، ومن تبعه حيث اعتبر مرتكض الخيل إذا كان أهل القرية خيالة، وإلا فلا. 3- مناخ الإبل بضم الميم، ومثله موضع وقوف السيارات في المدن، وهو الموضوع الذي تناخ فيه إذا كانوا أهل إبل، ويفهم منه أنه إذا لم يكونوا أهل إبل، فلا يكون مناخ الإبل من حريم القرية، وفارق ذلك مرتكض الخيل حيث كان المرتكض من لوازم القرية، ولو لم يكونوا أهل خيل؛ لأن الخيل لازمة للجهاد، وقد حث الشرع على اقتنائها، والتدريب على ركوبها ولا تخلو منها قرية من قرى المسلمين، وقد ورد الأمر بتعلم ركوبها في قوله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا السباحة والرماية، وركوب الخيل". 4- مطرح رماد وسرجين، وقمامة، وهي الزبالة. 5- ومن حريم القرية الجرين المعد لدياسة الحب، فيمتنع التصرف فيه بما يعطل منفعته على أهل القرية، أو ينقصها، ومن ثم فلا يجوز زرعه في وقت الاحتياج إليه، فإن زرع وحدث خلل في الأرض من أثر زرعه، وامتنع بسبب ذلك كمال الانتفاع المعتاد، فيلزم من زرعه تعويض الضرر الذي ترتب على ذلك. 6- ومن الحريم مراح الغنم، وملعب الصبيان ومسيل الماء وطرق القرية؛ لأن العرف مطرد بذلك، وعليه العمل خلفا من سلف. ومنه مرعى البهائم إن قرب عرفا من القرية، واستقل كما قاله الأوزعي

ومست حاجتهم له، ولو في بعض السنة فيما يظهر ومثله المحتطب. وهذه المنافع وإن كانت خاصة بأهل القرية، إلا أنه لا يجوز لأهل القرية أن يمنعوا المارة من رعي مواشيهم في مراعيها المباحة. وأما البئر فنوعان: الأول: بئر استقاء. الثاني: بئر قناة محياة. بئر الاستقاء وحريمها: أما بئر الاستقاء فهي ما كانت مطوية، وينبع منها املاء وحريمها، ويشتمل على الأمور الآتية: 1- موقف النازح من جانب واحد، أو أكثر حسب ما يستقى به من شخص أو دابة، فإن كان النازح شخصًا فالحريم موقف النازح من جانب واحد، وإن كان دابة فحريمها قدره من سائر الجوانب، وهو المسمى بالمدار، والذي يتجه اعتبار العرف والعادة. 2- موضع الدولاب إن كان الاستقاء به، والدولاب بضم أوله أشهر من فتحه فارسي معرب، ويكون على شكل الناعورة، ويطلق على ما يستقي به النازح، ويسمى الشادوف، وما تستقي به الدابة، ويسمى الساقية. 3- والحوض، وهو يطلق عرفا على مصب الماء الذي يذهب منه إلى مجتمعه، ويطلق على مجتمع الماء. بئر القناة وحريمها: وأما بئر القناة، فهي المحفورة من غير طي، وينبع منها الماء، أو هي حفرة

في الأرض ينبع منها عين، وتسيل في القناة بأن كان الماء يأتي في تلك القناة إلى تلك البئر، فيجتمع فيها ثم يعلو ويطلع، وهذا النوع من الآبار لا يعرف له وجود إلا في الفيوم. وحريمها ما لو حفر فيه نقص ماؤها، أو خيف انهيارها أي سقوط حافتيها، ويختلف ذلك بحسب صلابة الأرض، ورخاوتها وإنما لم يعتبر في هذه البئر ما مر في بئر الاستقاء؛ لأن المدار في حفظها على حفظ مائها لا غير، ولهذا بحث الزركشي جواز البناء في حريمها بخلاف حفر البئر فيه، فإنه لا يجوز. وأما حريم النهر كالنيل، فهو ما تمس الحاجة إليه في الانتفاع به، فيدخل في حريم النهر ما يحتاج إليه لإلقاء الأمتعة، وما يخرج منه عند حفره، أو تنظيفه وحكم هذا أنه يمتنع البناء فيه، فلو بنى فيه شيئا، وجبت إزالته ولو كان الشيء الذي بناه في الحريم مسجدا، ونقل إجماع الأئمة الأربعة على ذلك. ويعتبر ما ذكر من الحريم حتى ولو بعد الماء بحيث لم يصر من حريمه لاحتمال عود الماء إليه، فإن أيس من عوده جاز وهو الظاهر، ويؤخذ من ذلك أن ما كان حريما لا يزول عنه وصف الحريم بزوال متبوعه ما دام عوده محتملا، وهذا هو المعتمد. حكم الانتفاع بحريم الأنهار: أما الانتفاع بحريم الأنهار، فإن فيه اتجاهين: الاتجاه الأول: إذا كان الانتفاع بحريم الأنهار كحافاتها بوضع الأحمال والأثقال، أو تحويط مكان فيه بقصب ونحوه لحفظ الأمتعة فيه، فهذا ينبغي أن يقال: إن فعله بقصد الانتفاع به، وكان ذلك لا يضر بانتفاع غيره، ولم يضيق

على الماء ونحوهم ولا عطل أو نقص منفعة النهر كان جائزًا. وحيث كان ما فعله جائزا، فلا أجرة عليه في مقابل الانتفاع، وإن كان ما فعله غير جائز، فيكون حراما وإذا حرم لزمته الأجرة لمصالح المسلمين. الاتجاه الثاني: الانتفاع بما يحدث في خلال النهر من الجزر، والوجه الذي لا يصلح غيره امتناع إحيائها؛ لأنها من النهر أو حريمه لاحتياج راكب البحر والمار به إلى الانتفاع بها لوضع الأحمال، والاستراحة والمرور ونحو ذلك، بل هي أولى بمنع إحيائها من الحريم الذي يتباعد عنه الماء. ولكن هل يتوقف الانتفاع بهذه الجزر على إذن الإمام؟ أقول: إن القول بأن الانتفاع بها يتوقف على إذن الإمام فيه نظر، والأقرب إلى الصواب هو القول بعدم توقف ذلك الانتفاع على إذن الإمام، ولا يكون آثما بذلك، ولكن يلزمه الأجرة مقابل هذا الانتفاع، وذلك على القول بجواز الانتفاع بهذه الجزر. وأما حريم الدار العامرة، فهو إما أن يكون حريمًا مستقلا بها، أو مشتركا بينها، وبين غيرها من الدور الأخرى. الحريم المشترك: يكون الحريم مشتركا إذا كانت الدار محفوفة بدور، وحينئذ فليس لها في هذه الحالة حريم مختص بها، وإنما لها حريم مشترك بينها وبين جميع الدور، وذلك بشروط: الأول: أن تكون الدور متلاصقة، أو تكون بطريق نافذ كما قاله الرافعي. الثاني: أن تكون هذه الدور تم إحياؤها في وقت واحد، وذلك؛ لأنها إذا

أحييت معا أو جهل حالها، فلا حريم لها لانتفاء المرجح لها على غيرها، وذلك؛ لأن ما يجعل حريما لها ليس بأولى من جعله حريما لغيرها. الثالث: أن تكون الدار بطريق نافذ فلا حريم لها؛ لأنه العامة المسلمين بخلاف ماذا كانت في طريق غير نافذ، فهذه لها حريم خاص بها كالدار المبنية في موات. الحريم المختص: أما إذا كانت الدار أحييت في موات، فحريمها يكون مختصًّا بها، ويتكون الحريم مما يأتي: أولا: ممر الدار وهو يكون عادة في صوب الباب أي في مواجهته، ويكون بمقدار الحاجة، وما قيل من أن تقديره سبعة أذرع، فمحول على عرف المدينة الشريفة، وهي المدينة المنورة عليها وعلى ساكنها أفضل الصلاة، وأزكى السلام. ثانيًا: فناء جدران الدار بكسر الفاء والمد، وهو ما حواليها من الخلاء المتصل بها، ونقل ابن الرفعة في أصح الوجهين أن فناء الدار ليس حريما، ونقل ذلك الزركشي عن الأكثرين، ولكن يمنع الغير من حفر بئر بقربها، ومن سائر ما يضر بها كإلصاق جداره بها؛ لأنه يضر ملك غيره. ثالثا: يدخل في حريم الدار مطرح رماد، وكناسة بالضم ما يكنس، وهي الزبالة للحاجة إلى ذلك. إذا تصرف المالك في ملكه، فمتى يكون ضامنا لما يترتب على هذا التصرف؟ لكل واحد من الملاك أن يتصرف في ملكه، فإن كان بما جرت به العادة

فلا ضمان عليه، وإن أدى إلى ضرر جاره، أو إتلاف ماله فمن حفر بئر ماء، أو حش1، فاختل به جدار جاره فلا ضمان عليه؛ لأن منعه من هذا التصرف يضر به ضررا لا جابر له، ويكفي في جريان العادة أن يكون جنسه يفعل بين الأبنية، ومنه حداد بين بزازين. ويتحصل من ذلك أن الشخص يكون له أن يتصرف في ملكه بما وافق العادة، وإن أضر الملك والمالك، وله أيضًا فعل ما خالفها إن لم يضر المالك، فإن كان لا يضر المالك، فلا يمنع وإن ضر المالك، أو ضر الأجنبي. ومن ثم فيجوز للشخص في أصح القولين في المذهب أن يتخذ داره المحفوفة بالمساكن حماما، أو مدبغة أو فرنا، أو اصطبلًا بها، وله أيضا أن يتخذ حانوته في البزازين2 حانوت حداد، وقصار ولا يمنع من ذلك بشرط أن يحكم الجدران أحكاما يليق بمقصوده؛ لأنه يتصرف في خالص ملكه، وفي منعه إضرار به، ثم إن تصرفه هذا لا يضر المالك، وإن ضر المالك بنحو رائحة كريهة. فإن تجاوز العامة فيما ذكر ضمن الضرر الذي يلحق الجار، كأن دق دقا عنيفا أزعج الأبنية، أو حبس الماء في ملكه، فانتشرت النداوة إلى جدار جاره. ومعنى ذلك أنه لا يمنع من التصرف في ملكه إلا إذا أضر الملك، وكان التصرف الذي صدر منه لم تجر العادة به، أما إذا جرت العادة به فلا منع ولا ضمان مطلقا. وخلاصة القول في هذا الرأي أن الشخص يجوز له أن يتصرف في ملكه بما وافق العادة، وإن أضر الملك والمالك، وله فعل ما خالف العادة، وإن

_ 1 الحش بضم الحاء أو فتحها بيت الخلاء الذي تقضى فيه الحاجة. 2 البزازين تجارة القماش.

أضر المالك، أو ضر الأجنبي من باب أولى، فإن ضر بالفعل الذي جاوز العادة الملك فلا يفعله لأنه يترتب عليه الضمان. وقيل: يمنع منه للإضرار بالجار سواء أكان الضرر في المالك أو الشخص. وهذا الرأي ضعيف لأن الضرر لا يزول بالضرر ويؤيد هذا ما نقل عن الأصحاب أنه يجوز للمالك أن يتصرف في ملكه على العادة، ولا ضمان إذا أفضى إلى تلفه، وأنه لو كان لشخص دار في سكة غير نافذة، فله جعلها مسجدا أو حانوتا، أو سبيلا إذن الشركاء في ذلك، أو لا ووجهه أن الشخص لا يمنع من التصرف في ملكه، وهذا هو المعتمد. صفة الإحياء: المراد بصفة الإحياء كيفيته التي يترتب عليها الملك، وضابطه أن يهيأ كل شيء لما قصد منه غالبا، بحسب الغرض المقصود منه عرفا، وهذا معناه أن صفة الإحياء تختلف من شيء لآخر، وإنما وجب الرجوع إلى العرف؛ لأن الشارع أطلقه ولم يبينه، وليس له حد في اللغة، فوجب الرجوع فيه إلى العرف كالحرز والقبض، وفيما يلي بيان كيفية إحياء المسكن والزريبة، والمزرعة والبستان والبئر. أولا: إحياء المسكن: فإن أراد مسكنا اشترط لإحيائه شروط وهي: 1- تحويط البقعة بما جرت به عادة الناس في ذلك المكان إما بأجر1، أو لبن2 أو قصب، أو مسلح وهو المعتمد.

_ 1 الآجر: الطوب الأحمر المصنوع من الطين، ثم حرق بالنار. 2 الطوب قبل الحرق بالنار.

وبناء عليه، فيلزمه الرجوع في جميع ذلك إلى العادة، فمثلا لو اعتاد نازلوا الصحراء عند نزولهم في موضع منها تنظيف الموضوع من نحو شوك وحجر، وتسويته لضرب خيمة، وبناء معلف ففعلوا ذلك، فإن كان بقصد التملك ملكوا البقعة، وإن ارتحلوا عنها، وإن كان بقصد الارتفاق فهم أولى بها إلى أن تنتهي رحلتهم. 2- نصب باب وسقف بعض البقعة لتتهيأ للسكنى، ويقع عليها اسم المسكن. إلا إذا أراد أن يهيئ موضعا للنزهة في زمن الصيف، والعادة فيه عدم السقف، فلا يشترط السقف حينئذ. أما المسجد فلا يشترط فيه إلا تحويط البقعة التي يراد جعلها مسجدا، فلو حوطها لأجل أن يجعلها مسجدًا صارت مسجدًا بالنية، وإن لم يبن فيه أو لم يسقف ومثله مصلى العيد، واعتبر السبكي في المسجد السقف. ثانيا: إحياء الزريبة: وإن أراد زريبة للدواب، ومثلها حظيرة لجمع ثمار وغلات وغيرها، فيشترط في إحيائها شرطين: الأول: تحويط المكان بالبناء بما جرت به العادة، فلا يمكن في إحياء الزرائب والحظائر نصب أخشاب، أو وضع أخشاب أو وضع أحجار من غير بناء؛ لأن المجتاز أثناء سفره يفعل ذلك، والمتملك لا يقتصر عليه عادة. الثاني: نصب الباب، وذلك؛ لأن نصب الباب شرط في إحياء الزريبة على الأصح كما أنه شرط في إحياء المسكن، ويؤخذ في الاعتبار أن العادة لو جرب في بعض البلاد بترك باب الدواب لم يتوقف إحياؤها على الباب. أما السقف فلا يشترط في إحياء الزريبة؛ لأن العادة فيها عدمه.

ثالثا: إحياء المزرعة: أما المزرعة فيشترط في إحيائها ما يأتي: 1- تحويط البقعة بتراب، وذلك بأن يجمعه حولها ونحو ذلك كتحويط بنحو حجر، أو شوك لينفصل المحي عن غيره كجدار الدار. 2- يشترط للمزرعة أيضا تسوية الأرض بطم1 المنخفض، وكسح المستعلى وحرثها أن توقف زرعها عليه مع سوق ما توقف الحرث عليه، وتليين ترابها بما يساق إليها لتتهيأ للزراعة. 3- ويشترط تهيئة ماء لها بشق ساقية من نهر، أو حفر بئر وقناة إن لم يكفها مطر معتاد، فإن كفاها المطر، فلا حاجة إلى تهيئة الماء لها. ويؤخذ من التعبير بتهيئة الأرض للزراعة عدم اشتراط السقي بالفعل بل يكفي حفر طريقه بحيث لا يبقى إلا إجراؤه، فإن فعل ذلك كفاه في الإحياء بالنسبة للمزرعة. ويستثنى من ترتيب الماء صورتان: الأولى: أراضي الجبال إذا كان لا يمكن سوق الماء لها، ويكفيها المطر المعتاد، فإنها تملك بالحراثة وجمع التراب في أحد وجهين اقتضى كلام الرافعي ترجيحه، ونقله الخوارزمي عن سائر الأصحاب. الثانية: أراضي البطائح وهي بناحية العراق، وهي أرض قد غلب عليها الماء، فالشرط في إحيائها حبس الماء عنها لتتهيا للزراعة كما أن إحياء اليابس يكون بسوق الماء إليه. أما اشتراط الزرع لإحياء المرزعة، ففيه ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه لا يشترط؛ لأن الإحياء قد تم بما سبق، وما بقي إلا الزراعة

_ 1 طم المنخفض ردمه بحيث يتساوى مع الأرض.

وذلك انتفاع بالمحيا، فلا يكون الزرع شرطا كما لا يشترط سكنى الدار. والثاني: وهو ظاهر ما نقله المزني: أنه لا بد في الإحياء من الزراعة؛ لأنها من تمام العمارة، وذلك خلاف سكنى الدار، فإنه ليس من تمام العمارة، وإنما هو كالحصاد في الزرع. الثالث: وهو قول أبي العباس، أنه لا يتم إلا بالزراعة والسقي؛ لأن العمارة لا تكمل إلا بذلك، وأما الحصاد فلا يشترط جزما، والأول هو الصحيح. فائدة: ما يبذر الأرض يقال له: زريعة يتخفيف الراء وجمعها زرائع. رابعا: إحياء البستان: وأما إحياء البستان، فيشترط فيه شروط يمكن إجمالها فيما يلي: 1- جمع التراب حول الأرض كالمزرعة إن لم تجر العادة بالتحويط، وإلا فيشترط التحويط إما ببناء، أو بقصب1، أو شوك حيث جرت العادة إذ الإحياء لا يتم بدونه، ويفهم من هذا أنه لا يشترط الجمع بين التحويط، وجمع التراب ولهذا حمل الزركشي جمع التراب على إصلاح تراب الأرض، وتهيئته لما يراد له لا جمعه حولها. وبعض الفقهاء اشترط التحويط، ويجب الرجوع فيما يحوط به إلى العادة. 2- ويشترط أيضًا لإحياء البستان، تهيئة ماء له بحسب العادة إن لم يكفه مطر كالمزرعة. 3- ويشترط غرس البستان كله، أو بعضه بحيث يسمى بستانا كما

_ 1 القصب عيدان البوص، والذي يسمى الغاب، وهو القصب الفارسي.

أفاده الأذرعي بحيث يقع على الأرض اسم البستان، فلا يكفي غرس شجرة أو شجرتين في المكان الواسع على المذهب إذ لا يتم اسمه بدونه أي أن البستان لا يطلق عليه اسم البستان إلا بالغرس الذي يكفي لإطلاق هذا الاسم عليه، وبهذا علم اعتبار الزرع في المزرعة. وقيل: لا يشترط في البستان غرس الأشجار كما أن الزرع في المزرعة لا يشترط، وفرق الأول بأن اسم المزرعة يقع على الأرض قبل الزرع، واسم البستان لا يقع عليها قبل الغرس، ويترتب على هذا أن من شرط الزرع في المرزعة شرط الغرس في البستان بطريق الأولى، كما قال الرافعي لكن لا يشترط أن يثمر الغرس في البستان باتفاق. والظاهر أنه لا يشترط نصب باب للبستان وهو كذلك، وإن خرج الحاوي الصغير تبعا للغزالي القول باشتراطه. خامسا: إحياء البئر، ويشترط فيه: 1- خروج الماء. 2- طي البئر الرخوة بخلاف الصلبة، وأما إحياء بئر القناة، فيشترط فيه مع خروج الماء جريانه. أما لو حفر نهرًا ممتدًّا إلى النهر القديم بقصد التملك ليجري فيه الماء ملكه، وإن لم يجره كما لا يشترط السكنى في إحياء السكن. الإحياء سبب من أسباب الملك: إذا تم الإحياء على الصفة المذكورة ثبت الملك فيه لمن قام بالإحياء، ولا يتوقف ذلك على صيغة، أو تلفظ يفيد أنه أدخله في ملكه، وليس لأحد أن يزيله

عنه إلا بإذنه، فإن قال: تنازلت عن تملكي في هذا الإحياء، فقد زال عنه الملك، وكان لغيره أن يعمره. ولكن هل يشترط القصد في الإحياء؟ أما القصد فلا يشترط؛ لأنه غير معتبر في المذهب، والقصد هو المعبر عنه بالنية، وبناء عليه فلو أحاط شخص مواتا بقصد أن يكون حظيرة، أو دارا ثم لم يتخذه لما قصده له ملكه بالقصد الطارئ، ولو كان القصد شرطا لما صح له ذلك، أما ما يفعل عادة له، ولغيره كحفر بئر، فإنه يتوقف ملكه على قصده، فإن أحياه بقصد الملك ملكه، وإلا فلا. الفرق بين الإحياء والاحتجار: الاحتجار هو الشروع في عمل إحياء لم يتمه، كما لو حفر أساسا، أو حوط بقعة بأحجار أو خشب، أو بناء شيء فيها، أو جمع ترابا حولها، فمن فعل شيئا من ذلك، فهو متحجر لهذا المكان أي مانع لغيره منه. الحق الذي يثبت بالاحتجار: والمحتجر يثبت له حق اختصاص على العين المحتجرة، فيكون أحق بها من غيره ولكن لا يثبت به الملك؛ لأن سبب الملك هو الإحياء، ولم يوجد وبناء عليه، فإن المحتجر يكون أحق بما احتجره من غيره، والمراد ثبوت أصل الأحقية له إذ لا حق لغيره فيه لحديث أبي داود: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو أحق به" 1 حق الاختصاص لا يثبت إلا بشرطين: الأول: أن يكون المحل الذي احتجره لا يزيد على كفايته. الثاني: أن يكون قادرًا على عمارته في الحال دون المآل.

_ 1 رواه أبو داود من حديث أسمر بن مضرس، قال البغوي: لا أعلم بهذا الإسناد غير هذا الحديث، وصححه الضياء في المختارة "التلخيص ج3 ص63".

فإن كان ما احتجره زائدا على كفايته، فلغيره إحياء الزائد دون ما سواه؛ لأن ما سواه باق تحجره فيه ولو شائعا، وإن كان غير قادر على الإحياء في الحال، فلا يكون أحق به حتى ولو كان قادرا عليه في المآل. حكم التصرف في حق الاختصاص: إذا كان للمحتجر حق اختصاص، فالأصح المنصوص أنه لا يصح التصرف فيه يبيع أو نحوه؛ لأن حق التملك لا يباع ولا يوهب، ولا يرهن كحق الشفعة، وإنما يكون له نقله إلى غيره، وإيثاره به من غير مقابل كإيثار غيره بجلد الميتة قبل الدماغ، والثاني: يصح حق الاختصاص كبيع علو البيت للبناء، والسكنى دون أسفله. حكم إحياء ما احتجره غيره: إذا شرع شخص في الإحياء، وقبل أن يتمه جاء شخص آخر، فأحياه ملكه وإن اعتبر بهذا الفعل عاصيا، فيصح الملك مع أنه آثم كما لو سام على سوم1 أخيه. والثاني: لا يملكه لئلا يبطل حق غيره. ومحل هذا الخلاف إذا لم يعرض المتحجر عن العمارة، وإلا ملكه المحيى قطعًا. متى يسقط حق المحتجر؟ يسقط حق المحتجر إذا طالت مدة الاحتجار عرفا بلا عذر بدون إحياء، فيطلب السلطان أو نائبه منه أن يتمم الإحياء، أو يترك ما تحجره لما في احتجاره بدون إتمام الإحياء من التضييق على الناس في حق مشترك، فيمنع

_ 1 سام البائع السلعة سوما عرضا للبيع وسامها المشتري طلب بيعها، ومنه: "لا يسوم أحدكم على سوم أخيه"، أي لا يشتر ويجوز حمله على البائع أيضا "المصباح المنير ج1 ص351".

منه، فإن طلب مدة يقوم فيها بالإحياء، وكان له عذر مقبول أمهل مدة قريبة بحسب رأي الإمام رفقا به، ودفعا لضرر غيره، فإن مضت المدة المقررة ولم يفعل شيئا بطل حقه، وتقدر المدة التي يسقط فيها حقه في الاحتجار بثلاثة أيام أو بعشرة، فإذا مضت ولم يعمرها بطل حقه من غير رفع إلى سلطان، وأيضًا يبطل حقه بمضي المدة بلا مهلة؛ لأن الاحتجار ذريعة إلى العمارة، وهي لا تؤخر عنه إلا بقدر تهيئة أسبابها، فإذا كان لا يقدر على تهيئة الأسباب ليعمر ما اتحجره في القابل، وجب أن يعود مواتا كما كان إذا تأخر، وطال الزمان. أما إذا لم يذكر عذرًا أو علم منه الإعراض فينزعها منه حالا، ولا يمهله وهو ظاهر؛ لأن الاحتجار ذريعة إلى العمارة، وهي لا تؤخر إلا بقدر تهيئة أسبابها كما سبق. الفرق بين الإحياء وإقطاع الأرض: الإقطاع مأخوذ من قطع الشيء يقطعه قطعا، والقطعة من الشيء الطائفة منه، وأقطعة أرضًا أي أعطاه طائفة من أرض الخراج، ويفهم من هذا أن إقطاع الأرض هو انقطاع الإمام قطعة من الأرض الخراجية لشخص يقدر على إحيائها. متى يكون الإقطاع جائزا، ومتى يكون غير جائز؟ يكون الإقطاع جائزا بإذن الإمام أو نائبه، ويثبت به الحق بمجرد الإقطاع لمن أقطعه الإمام، وإلا فلا تظهر فائدة الإقطاع، ومعلوم أنه لا يجوز لأحد غير الإمام، أو نائبة أن يقطع أحدا من الناس أرضا، فإذا أقطع الإمام أو نائبه شخصا، فإن كان يقصد تملك الرقبة ملكها المقطع له، أو بقصد الارتفاق1 فله ذلك.

_ 1 الارتفاق هو الانتفاع بالأرض دون تملك العين.

والأصل في مشروعية الإقطاع ما ورد في الصحيحين: "أنه صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير بن العوام أرضًا من أموال بني النضير"، وما رواه الترمذي، وصححه أنه صلى الله عليه وسلم: "أقطع وائل بن حجر أرضا بحضرموت"1، وهذا الحكم بالنسبة للإقطاع، أما المندرس الضائع من الأرض، فإن كان يرجى ظهور مالكه، فإنه يحفظ له وإلا صار ملكا لبيت المال، يكون للإمام أن يقطعه لمن شاء ملكا، أو ارتفاقا بحسب ما يرى فيه المصلحة. شروط إقطاع الإمام: لا يجوز للإمام أن يقطع أرضًا مواتًا إلا بشرطين: الشرط الأول: أن يكون مسلما، فلا يقطع الإمام ذميا في دار الإسلام. الشرط الثاني: أن يكون قادرا على يقدر على إحيائه؛ لأنه اللائق بفعله، المنوط بالمصلحة. وأما إقطاع العامر فيكون إما إقطاع تمليك، أو إقطاع استغلال، وارتفاق أي تمليك المنفعة دون العين والأول، وهو أن يقطع الإمام ملكا أحياه بالأجراء، أو الوكلاء أو يكون الإمام قد اشتراه، أو اشتراه وكيله، وهذا النوع من الإقطاع، يملكه المقطع له بالقبول والقبض، ويسمى هذا الإقطاع معاشًا. والثاني: وهو إقطاع الارتفاق أو الاستغلال، وهو أن يقطع غلة أراضي الخراج، وهو جائز بلا خلاف إذا وقع في محله بأن يكون الشخص من أهل النجدة، كما قال الأذرعي، ويملكها المقطع له بالقبض، ويختص بها من

_ 1 رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه البيهقي، وثبت أن النبي أقطع عبد الله بن مسعود حين قدم المدينة، فيمن أقطع، فقال له أصحابه: يا رسول الله نكبه عنا، قال: "فلم بعثني الله إذًا؟ إن الله لا يقدس أمة لا يعطون الضعيف منهم حقه"، وإسناده قوي وفي الصحيحين، قالت أسماء: كنت أنقل النوى في أرض الزبير التي أقطعه رسول الله "التلخيص ج3 ص64".

السلطان، فإن أقطعها شخصا من أهل الصدقات بطل؛ لأنه لا يقدر على القيام بها. أما أهل المصالح، فلا يجوز للسلطان إعطاؤهم من مال الخراج شيئا إلا بشرطين. الأول: أن يكون المال قد وجب بسبب استباحوه به، كالتأذين أو الإمامة ونحوهما، ومعنى هذا أنهم لا يأخذون المال إلا بسبب قيامهم بعمل معين. الثاني: أن يكون قد حل أجل المال، ووجب لتصح الحوالة به، ويكون المال بهذين الشرطين قد خرج عن حكم الإقطاع، وأصبح أجرًا في نظير عمل. مالا يجوز فيه الإقطاع: أما الأرض التي لا يجوز إقطاع الإمام لها، فهي ما يلي: 1- لا يجوز للإمام أن يقطع ما أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا ينقض ما حماه النبي صلى الله عليه وسلم. 2- لا يجوز إقطاع الأملاك المتخلفة عن السلاطين بالموت، أو القتل بل ولا تدخل في ملك الإمام القائم، وإنما هي حق لورثتهم إن عرفوا، فإن لم يعرفوا أو لم يكن ورثة، فحكم هذه الأملاك حكم الأموال الضائعة أي أن حكمها حكم اللقطة. 3- أرض الفيء لا يجوز أقطاعها تمليكًا. 4- لا يجوز إقطاع الأراضي التي اصطفاها الأئمة لبيت المال من فتوح البلاد، ثم آلت إلى بيت المال بحق الخمس، أو باستطابة نفوس الغانمين. 5- لا يجوز إقطاع أراضي الخراج صلحًا. 6- لا يحوز إقطع أراضي من مات من المسلمين ولا وارث له، مطلقا في أصح الوجهين.

الفرق بين الحمى وإحياء الموات: الحمى في اللغة معناه المنع، ورد في المصباح حميت المكان من الناس أي منعتهم عنه، وأحميته بالألف جعلته حما لا يقرب. ولا يحمى إلا الإمام أو نائبه أو وإلى ناحية، وإذا حمى الإمام أيضا لنعم1 ضالة أو لخيل الجهاد، وغير ذلك من المصالح، ومنها ما حماه الإمام لتكون مرعى لنعم الجزية أو الصدقة، أو لنعم رجل ضعيف لا يقدر على النجعة "بضم النون"، أي الإبعاد في طلب المرعى، امتنع على عامة الناس إحياؤها، فيجوز للإمام أو لنائبه أن يمنع الناس من رعى جزء معين لهذا الغرض لكن بشرط أن يكون ما حماه الإمام قليلًا من كثير بحيث يكفي الباقي حاجة الناس، وإن تباعدوا المرعى. ودليل ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع، وقيل البقيع2. وخرج بالحمى لنعم الصدقة وغيرها من المصالح العامة ما لو حمى الإمام لنفسه فلا يجوز، وخرج بالرعي الشرب، فليس للإمام أن يحمي الماء العد "بكسر أوله"، وهو الذي مادته لا تنقطع كماء عين، أو بئر لشرب خيل الجهاد، وإبل الصدقة والجزية وغيرها، فلا يجوز ذلك؛ لأن الماء وهو أصل الحياة، والأظهر أنه يجوز للإمام أن يحيي أرضا مواتا لطائفة من الناس استنادا على أن الرسول قد حمى أرضا بالبقيع أو النقيع. ومقابل الأظهر عدم الجواز لخبر: "لا حمى إلا لله ولرسوله". والراجح هو الأول؛ لأنه يمكن أن يقال: إن معنى هذا الحديث أنه لا يحمى

_ 1 الأنعام هي الإبل والبقر والغنم من الماشية. 2 رواه البخاري من طريق ابن عيينة عن الزهري، ورواه أحمد والحاكم، وأبو داود من طريق عبد العزيز الداراوردي.. والنقيع هو من ديار مزينة، وهو في صدر وادي العقيق، ويشتبه بالبقيع والمشهور الأول "التلخيص الحبير ج2 ص281".

لنفسه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من خصائصه وإن لم يقع، ولو وقع كان للمسلمين؛ لأن مصلحته مصلحتهم، أو نقول: إن المعنى، لا حصى إلا مثل حمى الله ورسوله من كونه لا عوض فيه، فإنه يحرم على الإمام أخذ العوض ممن يرعى فيه كالموات، بل ويحرم على الإمام أن يرعى فيه مواشي نفسه، بل ويمنع الأقوياء من الرعي أيضا لكن لو وقع منهم رعي فيه لم يغرمهم شيئا، ولا يعزرهم وإن علموا ذلك على المعتمد. هل يجوز نقض ما حماه الإمام؟ وإذا حمى الإمام أرضًا لرعي مواشي بيت المال، أو حماه غيره من الأئمة، فله نقض ذلك الحمى ورفعه، فيعود كما كان بشرط أن تظهر مصلحة عامة في نقضة بعد ظهورها في الحمى. أما حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز نقضه مطلقا، وإن استغنى عنه؛ لأن ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبت بالنص، ونقض ما حماه غيره من الأئمة اجتهاد من الإمام، والنص مقدم على الاجتهاد، فإن نقضه فهو كافر للإجماع عليه. وقيل: يمتنع نقض ما حماه الإمام لخيل الجهاد، ونحوها لتعينه لتلك الجهة، كما لو عين بقعة لمسجد أو مقبرة. حكم الارتفاق بالمنافع العامة: المنافع العامة أو المشتركة هي التي لا يختص بها فرد دون آخر، بل تكون منفعتها حقا مشتركا لجميع الناس كمنفعة الشارع، والمسجد والسوق، وأفنية المنازل وغيرها من المنافع المشتركة، وفيما يلي بيان ذلك مفصلا.

الارتفاق بالشارع: أولا: الشوارع هي الطرقات، وهي من المنافع المشتركة وتكون إما أصلية، أو فرعية. أما المنفعة الأصلية للشارع فهي المرور فيه؛ لأنه وضع لذلك، وهذه هي المنفعة الغالبة، وأما الفرعية، فهي الجلوس أو الوقوف فيه بقصد الاستراحة أو المعاملة أوانتظار رفيق، أو سؤال عن شيء وغير ذلك من المنافع، وهذه المنافع الفرعية تكون جائزة ما لم يترتب عليها إضرار بالناس في المنافع الأصلية، كالتضييق على المارة مثلًا، فإن تعارضت المنافع الأصلية والفرعية قدمت الأولى على الثانية، ولا يشترط إذن الإمام في أي من المنافع الأصلية، أو الفرعية؛ لأن هذا الحق ثبت بالشرع، وما ثبت بالشرع لا يحتاج إلى إذن الإمام. حقوق الجالس في الشارع وواجباته: أما حقوقه فله وضع سرير اعتيد وضعه فيه فيما يظهر، ويختص بمحله ومحل أمتعته ومعامليه، فلا يجوز لغيره أن يضيق عليه في موضعه، ومحله بحيث يضر به في الكيل والوزن والعطاء، ومن حقه منع من يقف بقربه إن منع من رؤية، أو وصول معامليه إليه. ولكن ليس له أن يمنع من قعد قريبا منه يبيع مثل متاعه ما دام لم يزاحمه فيما يختص به من المرافق المذكورة. ومن حقوق الجالس في الشارع مسلما كان، أو ذميا تظليل موضعه الذي يجلس فيه من الشارع بغير مثبت كثوب، أو كالجناح إذا كان لا يتم انتفاعه بالموضع إلا بذلك.

أما واجبات الجالس في الشارع، فإن كان ولا بد من ذلك فعليه أن يعطي الطريق حقه من غض البصر، وكف الأذى ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما ورد ذلك في الخبر، وإلا فالأصل أن الجلوس في الشارع مكروه، فينبغي للمسلم أن يترفع عنه، ولا يجلس فيه إلا لضرورة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: يا رسول الله هذه مجالسنا، وليس لنا فيها من بد، فقال: إن كان ولا بد فأعطوا الطريق حقه. قالوا: وما حق الطريق قال: غض البصر وكف الأذى، ورد السلام على من عرفت ومن لم تعرف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" 1. بعض المسائل المتعلقة بمنفعة الشارع: 1- إذا تنازع اثنان في موضع من الشارع، فأيهما أحق به؟ في ذلك تفصيل نذكره فيما يلي ذلك؛ لأنهما إما أن يصلا معا، وإما أن يكونا مسلمين أو أحدهما مسلما، والآخر ذميا. فإن وصلا إلا الموضع معا وتنازعا فيه، وكانا مسلمين أقرع بينهما وجوبا لانتفاء المرجح، فمن خرجت القرعة له فهو أحق به، وإن كان أحدهما مسلما، قدم المسلم على غيره دون حاجة إلى إقراع؛ لأن انتفاع الذمي بدار الإسلام إنما هو بطريق التبعية للمسلمين. وإن وصل أحدهما بعد الآخر، قدم السابق ولو كان ذميا كما هو ظاهر، لوجود المرجح، وهو السبق. 2- إذا جلس شخص في موضع من شارع أو غيره، ثم فارقه فهل يسقط حقه بالمفارقة؟

_ 1 متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "رياض الصالحين للإمام النووي ص106 تحقيق مصطفى عمارة دار إحياء الكتب العربية ط الحلبي".

إن كان قد جلس فيه لاستراحة ونحوها بطل حقه بمجرد مفارقته، وإن نوى العودة إليه. أما إذا جلس فيه لمعاملة أو صناعة، ثم فارقة ليعود إليه، فهو أحق به إذا لم تطل مفارقته بحيث لم ينقطع معاملوه لخبر مسلم: "إذا قام أحدكم من مجلسه، ثم رجع إليه فهو أحق به"، أما إذا طالت المدة، أو فارقه تاركا لحرفته، أو محله، فقد بطل حقه لإعراضه عنه. والمدة التي بها يسقط حق المفارق لموضعه هي التي من شأنها إذا مضت أن ينقطع عنه معاملوه، وإن لم ينقطعوا بالفعل. ولا فرق في هذا الحكم بين أن يكون الجالس قد جلس بإقطاع الإمام، أو دونه وهو الصحيح في أصل الروضة، لكن يرى البعض أنه إذا كان بإقطاع الإمام، فلا يبطل المفارقة وإن طالت، وجزم به صاحب التمتة، وأقره المصنف في تصحيحه. ثانيًا: حق الجلوس في مكان من المسجد أو المدرسة: 1- الجلوس لتعليم أو تعلم: ومن ألف من المسجد موضعًا يفتي فيه الناس، ويقرئ القرآن، أو الحديث أو الفقه، أو غيرها من العلوم المتعلقة بعلوم الشرع كنحو وصرف، ولغة فحكمه كالجالس في موضع من الشارع على التفصيل المتقدم إلا أنه جرت العادة بتعطيل الداسة في المسجد مدة، ولو طالت كشهر أو شهرين مثلا، فترك مجلسه في تلك المدة، فلا يعتبر مفارقا لمجلسه في تلك المدة، ويجري هذا الحكم في السوق الذي يقام في كل شهر أو سنة مرة. وقياسا على ما تقدم أن من استحق الجلوس في المسجد في مكان

مخصوص لتعليم علم ثم جلس آخر بالقرب منه بحيث يضيق عليه، أو يرفع صوته بحيث يشوش عليه في تعليمه منع من ذلك، وهو ظاهر وحديث النهي عن اتخاذ المساجد وطنا يستحق، فهو مخصوص بما عدا ذلك. ومثل المسجد المدرسة، فإن ألف فيها موضعًا يقرئ فيه قرآنا أو علما شرعيا ولتعلم ما ذكر كسماع درس بين يدي مدرس، فهو أحق به بشرط أن يستفيد أو يفيد؛ لأن له غرضا في ملازمته ذلك الموضع ليألفه الناس ويعرف به. لكن إذا غاب فيجوز لغيره الجلوس في موضعه مدة غيبته التي لا يبطل حقه، لئلا تتعطل منفعة هذا الموضع في الحال، كما يجوز لغيره حال جلوسه أن يجلس في هذا الموضع لغير الإقراء أو الإفتاء، ولم يستحق الجلوس فيه مطلقًا. ولا يتوقف حقه في الجلوس في ذلك الموضع من المسجد على إذن الإمام، ولو مسجد كبير، أو جامع اعتيد الجلوس فيه بإذن الإمام في أوجه الوجهين لقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} 1. 2- الجلوس في موضع من المسجد لصلاة: ومن جلس في موضع من المسجد لصلاة دخل وقتها، أو لا فهو أحق به في تلك الصلاة ونحوها من استماع حديث أو وعظ؛ لأن لزوم بقعة معينة من المسجد ورد النهي عنه، ولو كان الجالس صبيا في الصف الأول، ثم يزول اختصاصه عنه بمفارقته بعد

_ 1 الآية "18" من سورة الجن.

الصلاة حتى لا يألفها فيقع في رياء ونحوه؛ ولأن لزوم بقعة معينة للصلاة من مما ورد النهي عنه. أما إذا فارق موضعه من المسجد، ولو قبل دخول الوقت لقضاء حاجة أو رعاف1، أو تجديد وضوء أو إجابة داع وكانت مفارقته لموضعه بنية العودة لم يبطل اختصاصه في تلك الصلاة، وما لحق بها في الأصح، فيحرم على غيره الجلوس فيه بغير إذنه، أو ظن رضاه كما هو ظاهر، وإن لم يترك إزاره فيه إذا علم أنه فارقه ليعود إليه لخبر مسلم: "من قام من مجلسه، ثم رجع إليه فهو أحق به" 2، ومحل ذلك إذا لم تقم الصلاة في غيبته، فإن أقيمت سقط حقه لوجوب سد الصف مكانه. والقول بأن من سبق وقعد خلف الإمام، وليس أهلًا للاستخلاف، أو كان ثم من هو أحق منه بالإمامة، فيؤخر ويقدم الأحق موضعه استنادًا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: $"ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى"، هذا القول ممنوع؛ لأن الصبي إذا سبق إلى الصف الأول فلا يؤخر، وإذا كان الصبي الذي سبق إلى الصف الأول لا يؤخر منه فغيره أولى. وبهذا يظهر أن من سبق إلى موضع من المسجد في الصف الأول، فهو أحق به من غيره حتى تنتهي تلك الصلاة، فإذا انتهت سقط حقه في ذلك الموضع في صلاة أخرى حتى، ولو اعتاد الجلوس فيه. مفارقة المسجد في ذلك لمقاعد الأسواق، وبيوت المدرسة: فارق المسجد مقاعد الأسواق في ذلك، فإن مقاعد الأسواق مختلفة في

_ 1 الرعاف خروج الدم من الأنف "المصباح ج1 ص274". 2 رواه مسلم من حديث أبي هريرة دون التقيد بالمسجد، وقد أورده بالزيادة إمام الحرمين في النهاية، وصححه "التلخيص الحبير ج3 ص64".

ذاتها من حيث اختصاص بعضها بكثرة الواردين فيه، وبالوقاية من نحو حر، وبرد أما المسجد فليس فيه شيء من هذا؛ لأنه إنما أعد للصلاة، وبقاعه كلها صالحة لهذا الغرض. وفارق أيضًا بيوت المدرسة إذا فارقه ساكنه؛ لأن المسجد لا يقصد للسكنى فيه، وإنما تؤلف بقاعه لأجل الصلاة فيها أما بيوت المدارس، فإنها تقصد للسكنى بها فاعتبر ما يشعر بالإعراض عنها، وهو الغيبة الطويلة. ثالثا: الجلوس في المسجد لحرفة: أما من جلس في المسجد لحرفة، أو معاملة فيندب منعه. وقيل: يجب إن كان فيها ازدراء بالمسجد، أو كان فيها تضييق على أهله، ولو باجتماع الناس عليه كالكاتب بالأجرة، وإذا وجب المنع فيحرم عليه فعلها فيه. ويندب أيضًا منع من يتخطى حلق الفقهاء، والقراء توقيرا لهم. رابعا: الارتفاق بالصحاري: وكما يجوز الارتفاق بالشارع يجوز أيضا الارتفاق بغيره كالصحاري لنزول المسافرين إن لم يضر النزول بالمارة، ولا يشترط إذن الإمام في ذلك لاتفاق الناس عليه على تلاحق الأعصار من غير نكير. حكم دفع العوض في مقابل الارتفاق بالمنافع العامة: لا يجوز لأحد من الولاة، أو غيرهم أخذ عوض على ذلك إذ لو جاز أخذ العوض لجاز بيع الموات، ولا قائل به أما إقطاع بعض الشارع لمن يرتفق به، حيث لا ضرر على المارة في ذلك، فهو جائز.

خامسًا: الارتفاق بأفنية المنازل: أما الارتفاق بأفنية المنازل، فيجوز إن لم يضر ذلك بأصحابها، فإن أضر بهم منعوا من الجلوس فيها إلا بإذنهم، وأما الجلوس على عتبة الدار، فلا يجوز إلا بإذن مالكها مطلقا أي سواء أضر ذلك بهم أم لا. الأعيان المشتركة: وهي الأعيان التي تستفاد من الأرض، ويحتاج إليها الناس في أغراضهم المختلفة كالمعادن التي أودعها الله تعالى في الأرض ظاهرًا وباطنًا، والمعدن في الأصل اسم للمكان؛ لأنه مأخوذ من العدن بمعنى الإقامة، ومنه جنات عدن أي جنات إقامة دائمة إلا أنه يطلق على ما يستخرج من الأرض، فهو حقيقة في البقعة التي وجد بها المعدن مجاز مرسل على ما يستخرج من المعادن من إطلاق اسم المحل على الحال، وقيل: هو حقيقة فيهما. أنواع المعادن: والمعدن المستخرج من الأرض نوعان: ظاهر وباطن. الأول: المعدن الظاهر، وهو ما خرج بدون علاج؛ لأن جوهره قد برز، وظهر من غير عمل، وإنما العمل والسعي في تحصيله وقد يسهل، وقد لا يسهل والمعادن المستخرجة من باطن الأرض كثيرة منها. 1- نقط بكسر النون أفصح من فتحها، وهو ما يرمى به ويسمى الآن بالبترول، وقال الزركشي: هو دهن يكون على وجه الماء في العين، وفي الصحاح إنه اسم لدهن معروف. 2- كبريت وهو عين تجري، فإذا جمد ماؤها صار كبريتا، وهو أبيض، وأصفر وأكدر، وأحمر، ومعدته خلف وادي النمل الذي مر به سليمان عليه

السلام، ويضيء في معدنه فإذا فارق معدنه زال ضوءه. ويقال: إن الأحمر هو الجوهر، ولهذا ضربوا به المثل في العزة والندرة، فقالوا: أعز من الكبريت الأحمر. 3- وقار وهو الزفت، ويقال: فيه قير. 4- ومومياء بضم الميم الأولى بالمد وحكى القصر، وهو شيء يلقيه البحر إلى الساحل، فيجمد ويصير كالقار، وقيل: إن المومياء عبارة عن أحجار سود باليمن خفيفة فيها تجويف، وأما التي تؤخذ من عظام الموتى، فهي نجسة أو متنجسة. ويؤخذ من أن المومياء شيء يلقيه البحر أن العنبر ينبت في قاع البحر، ثم يقذفه الماء بتموجه إلى البر. 5- ويرام بكسر أوله جمع برمة بضمها، وهو حجر يعمل منه قدور الطبخ، وأحجار رحى وأحجار نورة، ومدر وجص، وملح مائي وكذا جبلي إن لم يحوج إلى حفر، وتعب ويلحق به قطعة ذهب أظهرها السيل من معدن. حكم امتلاك المعدن الظاهر: وهذه المعادن لا تملك بالإحياء، ولا يثبت فيها اختصاص باحتجار، ولا إقطاع من سلطان؛ لأنها مشتركة بين الناس مسلمهم، وكافرهم كالماء والكلأ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أقطع رجلا ملح مأرب1، فقال رجل: يا رسول الله إنه كالماء العد: أي العذب قال: "فلا إذن". رواه أصحاب السنن الأربعة، وابن ماجه2.

_ 1 مأرب بإسكان الهمزة وكسر الراء موضع باليمن. 2 الرجل الذي أقطعه الرسول صلى الله عليه وسلم هو: أبيض بن حمال المازني، والذي قال للنبي ذلك هو الأقرع بن حابس، وهذا الحديث صححه ابن حبان، وضعفه ابن القطان "التلخيص ج3 ص64، 65".

والإجماع منعقد على منع إقطاع مشارع1الماء، وهذا مثلها بجامع الحاجة العامة، وأخذها بغير عمل. ويؤخذ من هذا أنه لا يجوز إقطاع الأعيان، أو المنافع العامة. ولهذا فيمتنع على الإمام إقطاع، أو احتجار أرض لأخذ حطبها، وصيدها وبركة لأخذ سمكها سواء في ذلك إقطاع التملك والارتفاق، وقيد الزركشي المنع بالأول، ويمتنع على الإمام إقطع الأيكة2، وثمارها وهي الأشجار الثابتة في الأرض التي لا مالك لها إن قصد الإيكة دون محلها، فإن قصد إحياء الأرض المشتملة على ذلك، فتدخل تبعا، ويعلم من ذلك أن من ملك أرضا بالإحياء ملك ما فيها بشرط أن لا يكون قد علم ما فيها قبل الإحياء، فإن كان يعلمه، فلا يثبت له فيه حق. الثاني: المعدن الباطن: وأما المعدن الباطن فهو ما لا يخرج إلا بعلاج كذهب، وفضة وحديد ونحاس، ورصاص وفيرزج وعقيق، وياقوت، وسائر الجواهر المبثوثة في طبقات الأرض. حكم تملك المعدن الباطن: وهذا المعدن لا يملك بالحفر والعمل في الأظهر، وإنما يملك بالاستيلاء عليه بعد استخراجه كما أن المعدن الظاهر لا يملكه من قام بإحياء الأرض إذا علمه؛ لأن إحياء كل شيء بحسبه، وهذا ما عليه الخلف والسلف، والمتقدمون، والمتأخرون. والثاني: أنه يملك بذلك إذا قصد به التملك كما يملك الموات بالإحياء.

_ 1 مشارع الماء مواره التي تقصد المشرب، ومن ذلك يقال: شعت الإبل أي وردت شريعة الماء، سميت بذلك لظهورها، ووضوحها. 2 الأيك شجر الواحدة أيكة "المصباح المنير ج1 ص43".

وفرق الأول: بأن الموات يملك بالعمارة وحفرالمعدن تخريب، ثم إن الموات إذا ملك يستغني المحيى عن العمل، والمعدن مبثوث في طبقات الأرض يحتاج كل يوم إلى حفر وعمل. وعلى القول بأنه يملك بالحفر دون الاستيلاء، فلا بد من قصد التملك، وخروج المعدن، أما قبل خروجه فهو كالمحتجر. وعلى القول بعد الملك فهو أحق به، أما محل المعدن فلا يملك بالحفر، والعمل مطلقًا. وهل يشترط إذن الإمام؟ لا يشترط في ملك الأرض، أو المعدن إذن من الإمام. أهم المسائل المتعلقة بالمعدن: 1- إذا تزاحم على المعدن المستخرج اثنان، وكان الحاصل منه لا يكفيهما معًا قدم السابق، فيأخذ بقدر حاجته منه لسبقه، ويرجع في تقدير الحاجة إلى ما تقتضيه عادة أمثاله. وقيل: إن أخذ لغرض دفع فقر، أو مسكنة مكن من أخذ كفاية سنة، أو العمر الغالب، فإن طلب زيادة على حاجته، فالأصح إزعاجه أي إبعاده إن زوحم عن الزيادة؛ لأن عكوفه عليه كالمحتجر، فإن لم يزاحم لم يتعرض له لكن مقتضى التعليل بأن عكوفه عليه كالمحتجر يقتضي أنه لا فرق، فإنه ما دام مقيما عليه، فلا يقدم عليه غيره من المحتاجين ما دام مقيما، وهذا يقتضي أنه إذا أخذ حاجته من المعدن الحاصل، وجب إزعاجه وإبعاده سواء زوحم، أو لا حتى يأخذ غيره منه حاجته، وبناء عليه فلو أخذ شيئا قبل إزعاجه، فالأقرب أنه يملكه؛ لأنه حين أخذه كان مباحًا.

فإن جاءَا معًا أو جهل السابق، أو تنازعا في الابتداء أقرع بينهما في الأصح لانتفاء المرجع نعم لو كان أحدهما مسلما، والآخر ذميا قدم المسلم بدون إقراع، وإن اشتدت حاجة الذمي؛ لأن ارتفاقه إنما هو بطريق التبع للمسلمين، ومقابل الأصح يجتهد الإمام، ويقدم من يراه أحوج، وقيل: بنصب من يقسم بينهما الحاصل. 2- إذا أحيا مواتًا، فظهر فيه معدن ظاهر، أو باطن ملكه مع ملكه للبقعة لكونه من أجزاء الأرض المملوكة بالأحياء، ومع ملكه للبقعة يملك ما فيها بشرط أن لا يعلم بالمعدن حال الإحياء، فإن علمه وبنى عليه دارا مثلا، فلا يملك شيئا لا المعدن ولا الأرض في أرجع الطريقين لفساد القصد، إذ المعدن لا يتخذ دارًا ولا مزرعة، ولا بستانًا. المياه وحكم تملكها: أصل الماء ماء بالهاء، فأبدلت همزة؛ لأنها أقوى على الحركة يدل على ذلك ظهورها في الجمع والتصغير، فتقول في ماء مياه أمواه ومويه. والمياه تنقسم إلى قسمين: الأول: مباح. والثاني: مختص. الأول الماء المباح وحكمه: أما المباح فمياه الأودية كالنيل والفرات، والعيون الكائنة في الجبال ونحوها من كل ما ينبع في الموات، وسيول الأمطار؛ لأنه مشترك بين الناس لقوله صلى الله عليه وسلم: "الناس شركاء في ثلاثة الماء والنار والكلأ" 1، فمن سبق إلى شيء منه كان أحق به لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه، فهو أحق به"، فإن أراد أن يسقي منه أرضا، فإن كان نهرًا عظيما كالنيل والفرات، وما أشبههما من الأودية العظيمة جاز أن يسقي منه ما شاء، ومتى شاء؛ لأنه لا ضرر فيه على أحد، وإن كان نهرا صغيرا لا يمكن له سقي

_ 1 رواه الخطيب في الرواة عند مالك، عن نافع عن عمر، وزاد فيه: والملح وفيه عبد الله بن خواش متروك، وقد صححه ابن السكن "التلخيص ج3 ص65".

أرضه منه إلا إذا حبسه، فيراعى ما يلي: 1- إن كانت الأرض متساوية بدأ بالسقي من هو في أول النهر، فيحبس الماء حتى يسقي أرضه إلى أن يبلغ الماء إلى الكعب، ثم يرسله إلى من يليه، وهكذا إلى أن تسقى الأرض؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قضى في شرب نهر من مسيل أن للأعلى أن يشرب قبل الأسفل، ويجعل الماء فيه إلى الكعب، ثم يرسله إلى الأسفل الذي يليه حتى تنتهي الأرضون. فعن عبد الله بن الزبير أن الزبير، ورجلًا من الأنصار تنازعا في شراج الحرة1، وهي التي تسقى بها النخل، فقال الأنصار للزبير: سرح الماء، فأبى الزبير فاختصمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسق أرضك، ثم أرسل الماء إلى من بعدك، فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك يا رسول الله، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا زبير اسق أرضك، واحبس الماء إلى أن يبغ الجذر". وبهذا قال الجمهور، لكن الأرجح أنه يرجع في قدر السقي للعادة والحاجة لاختلافهما زمانا ومكانا، فيرجع في حق أهل كل محل بما هو المتعارف عندهم، وذلك؛ لأن الخبر جار على عادة أهل الحجاز، فيكون المعتمد اعتبار عادة الزرع والأرض والوقت. 2- وإن كانت الأرض غير مستوية بأن كان بعضها أعلى من بعض، ولا يقف الماء في الأرض العالية إلى الكعب، وحتى يقف في الأرض المنخفضة إلى الوسط، فيسقي المنخفضة حتى يبلغ الماء الكعب، ثم يسدها، ويسقي العالية حتى يبلغ الكعب.

_ 1 شراج الحرة في الأماكن التي يسيل إليها الماء من الحرة إلى السهل، والحرة حجارة سود. 2 حديث أنه صلى الله عليه وسلم، قال للزبير حين خاصمه الأنصاري في شراج الحرة التي يسقون بها النخل.. الحديث متفق عليه، وأما حديث عائشة أنه قضى أن الأعلى يرسل إلى الأسفل، ويحبس قدر الكعبين، فقد أعله الدارقطني بالقوف "التلخيص ج3 ص66".

ويتفرع على ذلك أنه إذا أحيا جماعة أرضا على هذا النهر، وسقوا منه ثم جاء بعدهم رجل، فأحيا أرضا في أعلاه، وأنه إذا سقى أرضه استضر أهل النهر، فإنه يمنع من هذا الإحياء؛ لأن من ملك أرضا ملكها بمرافقها، وهذا النهر من مرافق أرضهم، فلا يجوز مضايقتهم فيه. والمراد بالأعلى الأقرب للماء؛ لأن من يحيي أرضا يحرص على قربها من الماء ما أمكن لما فيه من سهولة السقي، وخفة المؤنة وقرب عروق الغراس من الماء، ومن هنا يقدم الأقرب إلى النهر إن أحيوا دفعة، أو جهل السابق، وأما القول بالإقراع، فهو ضعيف فالمعتمد تقديم الأقرب في هذه الصورة. وينبغي أن يعلم أن عمارة هذه الأنهار تكون من بيت المال، أما بناء قنطرة يمرون عليها، وبناء رحى فإن كانت من العمران جاز مطلقا إن كان العمران واسعًا، وبإذن الإمام إن كان ضيقًا إن لم يضر بالملاك، وإلا فلا يجوز. وسائل تملك الماء المباح: إذا كان المباح حقًّا مشتركًا للجميع وليس مملوكا لأحد إلا أنه يملك ما أخذه منه بيد، أو ظرف كإناء، أو حوض مسدود المنافذ، أو حفرة في أرض ومن ذلك أيضا كيزان الدولاب كساقية، فيملكه بمجرد دخوله فيه كالاحتطاب والاحتشاش، ولو كان الآخذ له غير مميز بخلاف الإحياء، فإنه يشترط في المحيى أن يكون مميزا، والفرق بين هذا، وما تقدم في الإحياء من اشتراط التمييز في المحييى، وعدم اشتراطه هنا فهو أنه لما كان الانتفاع بالماء المباح يكون بإعدامه، والقصد منه النفع به حتى للدواب التي لا قصد لها، ولا شعور توسعوا فيه، فلم يشترطوا في تملكه تمييزا، ولا غيره، ويؤيد ذلك أنهم جوزوا للذمي

أخذ الحطب ونحوه من دارنا، وذلك؛ لأن المسامحة تغلب في ذلك، وبناء على ما تقدم، فإن ما يقع من إرسال الصبيان للإتيان بماء، أو حطب يكون مملوكًا للمرسل حيث كان له ولاية عليهم بجواز استخدامه لهم في مثل ذلك -فإن لم يرسله أحد، أو أرسله غير وليه المذكور، فالملك في هذه الحالة للصبي، فيحرم على الغير أخذه منه، ولو كان والدًا لهذا الصبي إلا إذا رأى المصلحة في أخذه وصرفه، أو بذله على الصبي. فلو رده إلى محله، فالأوجه عدم حرمة تضييعه عليه، بخلاف رمي المال، فإنه يضيع، والفرق بينهما أن رمي المال يعد ضياعًا له بخلاف الماء، فإنه يتمكن من أخذه منه، وإن لم يكن عين، وأيضا فإن السمك يخالف الماء، فيحرم إلقاؤه بعد اصطياده وذلك؛ لأن رد السمك إلى الماء يعد تضيعا له لعدم تيسر أخذه كل وقت بخلاف الماء. الثاني الماء غير المباح: وهو الذي ينبع في أرض مملوكة، أو موات بقصد التملك، فصاحب الأرض لحق به من غيره؛ لأنه يملكه وهذا هو المنصوص عليه، وقيل: لا يملكه إلا أنه لا يجوز لغيره أن يدخل إلى ملكه بغير إذنه، فكان أحق به هذا إذا لم يفضل عن حاجته، فإن فضل عن حاجته، واحتاج إليه غيره لزمه بذله من غير عوض بأن احتاجت إليه الماشية التي ترعى الكلأ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء، ولما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ، منعه الله فضل رحمته يوم القيامة" 1، فإن الماشية إنما ترعى بقرب الماء، فإذا منع الماء، فقد ضيع من الكلأ، وهذا ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. والمراد من الماشية الحيوانات المحترمة.

_ 1 رواه الشافعي، عن مالك بن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة، وهو متفق عليه بلفظ: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ" "التلخيص ج3 ص66".

وإنما حرم عليه أن يمنع فضل الماء دون فضل الكلأ؛ لأن الكلأ لا يستخلف عقيب أخذه، وربما احتاج إليه لماشيته قبل أن يستخلف، فتهلك ماشيته والماء يستخلف عقيب أخذه، وقد يقال: إن ما ينقص من الدلو، والحبل لا يستخلف، فتضرر والضرر لا يزال بالضرر، وإنما وجب بذله للماشية دون الزرع لحرمة الروح. ولا يلزمه بذل فضل الماء للزرع؛ لأن الزرع لا حرمة له في نفسه، والماشية لها حرمة في نفسها، ولهذا لو احتاج الزرع لم يلزمه سقيه، ولو احتاجت الماشية لزمه سقيها. وإن لم يفضل الماء عن حاجته لم يلزمه بذله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: علق الوعيد على منع الفضل؛ ولأن ما لا يفضل عن حاجته يتضرر ببذله، والضرور لا يزال بالضرر. حكم ماء البئر المحفورة بموات: لا يخلو الأمر من أن يكون الحافر لهذه البئر قد حفرها لارتفاق نفسه، ومصلحته الخاصة دون قصد ملكيتها، وإما أن يكون قد حفرها لارتفاق المارة، أو لا بقصد نفسه ولا المارة. فإن حفرها لارتفاق نفسه، فهو أولى بمائها من غيره فيما يحتاجه منه لشربه، أو شرب دوابه، أو لسقي زرعه لسبقه إليه، ويظل له هذا الحق إلى أن يرتحل عنها لحديث: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو أحق به"، فإن ارتحل عنها بطلت أحقيته. هذا إذا ارتحل معرضًا أما لو كان لحاجة، وارتحل عازمًا العودة، فلا يسقط إلا أن تطول غيبته، فليس المناط هو الارتحال بل الإعراض حتى لو أعرض، ولم يرتحل كان الحكم كذلك.

أما لو حفرها بقصد ارتفاق المارة، أو حفرها لا بقصد نفسه، ولا المارة، فإنه يكون كأحدهم، وتصبر مشتركة بين الناس، ويمتنع عليه سدها، وإن حفرها لنفسه لتعلق حق الناس بها، فلا يملك إبطاله. كيفية تقسيم مياه القناة المشتركة: أما تقسيم المياة المشتركة، فإن كانت بين جماعة، فينبغي أن يقسم ماؤها إذا أضاق عنهم، فلا يقدم فيه أعلى على أسفل، ولا عكسه ويكون تقسيم المياة عند ضيقه بينهم مهايأة بأن يسقي كل منهم يوما، أو بعضهم يوما، وبعضهم أكثر بحسب حصته، ولكل منهم الرجوع عن المهايأة متى شاء، فإن رجع وقد أخذ نوبته قبل أن يأخذ الآخر نوبته، فعليه أجرة نوبته من الشهر للمدة التي أخذ نوبته فيها، وإذا تراضوا بأنه تكون السقيا مهايأة، فلا أثر لزيادة الماء، أو نقصه مع التراضي.

الوقف وما يتعلق به من أحكام

الفصل السابع: الوقف وما يتعلق به من أحكام. تعريف الوقف لغةً وشرعًا: الوقف لغةً: الحبس ويرادفه التحبيس والتسبيل، فيقال: وقفت كذا: حبسته ولا يقال: أوقفته إلا في لغة رديئة، وهو عكس حبس فإن الفصيح أحبس، وأما حبس فلغة رديئة، وجمعه وقوف وأوقاف. وشرعًا: حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح موجود. ومن هذا التعريف يظهر أن المال الذي يصح وقفه يشترط فيه أن يكون عينًا معينة مملوكة، وليس المراد بالمال عين الدراهم والدنانير؛ لأنها تنعدم بصرفها، فلا يبقى لها عين، ولا وجود وشرط المال الموقوف بقاء عينه مع الانتفاع به، فإذا كان الانتفاع به يؤدي إلى ذهاب عينه كالطعام، فلا يصح وقفه؛ لأن الوقف للدوام والاستمرار أبدًا، وهذه العين التي يصح وقفها، إذا وقفها فقد انقطع التصرف في رقبتها، فلا تباع ولا ترهن. وقوله: "على مصرف مباح موجود" يخرج به منقطع الأول، وذلك كقوله: وقفت أموالي على من سيولد لي ثم الفقراء، فلا يصح هذا الوقف؛ لأن الدرجة الأولى باطلة، وما بعدها فرعها، فأشبه ذلك تسيب السوائب التي هي أوقاف الجاهلية. أدلة مشروعية الوقف وحكمه: الوقف مشروع بالكتاب والسنة.

أما الكتاب، فقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} 1، فإن أبا طلحة لما سمعها رغب في وقف ببرحاء أحب أمواله إليه، وبرحاء بفتح الباء وكسرها اسم لماء، أو موضع بالمدينة، وقال الزمخشري في الفائق: إن برحاء على وزن فعلاء من البراح، وهي الأرض الظاهرة، وقال الشوبري: هي حديقة مشهورة وتبعه الأجهوري. وقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} 2. وأما السنة، فقوله صلى الله عليه وسلم في خبر مسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" 3. والصدقة الجارية محمولة عند العلماء على الوقف، فإن غيره من الصدقات ليست جارية، بل يملك المتصدق عليها أعيانها، ومنافعها ناجزا وأما الوصية بالمنفعة، وإن شملها الحديث فهي نادرة، فحمل الصدقة في الحديث على الوقف أولى. وقد ذكر الشيخ البجيرمي في حاشيته أنه لا مانع من حمل الصدقة الجارية على بقية العشرة التي ذكروا أنها لا تنقطع بموت ابن آدم، وقد نظمها الجلال السيوطي بقوله: إذا مات ابن آدم ليس يجري ... عليه من خصال غير عشر علوم بثها ودعاء نجل ... وغرس النخل والصدقات تجري وراثة مصحف ورباط ثغر ... وحفر البئر أو إجراء نهر وبيت الغريب بناء يأوي ... إليه أو بناء محل ذكر وتعليم لقرآن كريم ... فخذها من أحاديث بحصر

_ 1 من الآية "92" من سورة آل عمران. 2 من الآية "272" من سورة البقرة. 3 رواه ابن ماجه وابن حبان من طريق أبي قتادة ك "خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة تجري يبلغه أجرها، وعلم يعمل به من بعده" "التلخيص الحبير ج3 ص68".

وأما حكمه فهو من الأمور المندوب إليها، والمندوب هو ما يدعى إليه شرعًا للتقرب إلى الله تعالى من فعل الخير من غير وجوب. وقد ثبت أن رسول الله قد حث أصحابه على الوقف وندبهم إليه، ورغبهم في الخير والبر المعروف، ومن ذلك ما ورد في الصحيحين أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب منه أن يتقرب بها إلى الله تعالى، فقال له النبي: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت"، وفي رواية أنه قال له: "احبس الأصل وسبل الثمرة" 1. والحبس ضد الإطلاق والتخلية أي جعل الأصل محبوسا، فلا يباع ولا يوهب وسبل الثمرة معناه أن يجعل لها سبيلا أي طريقا لمصرفها، وذلك؛ لأن السبيل هو الطريق. وقد استجاب عمر رضي الله عنه إلى ما ندبه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصدق بها عمر على ألا يباع أصلها، ولا يوهب ولا يورث قال جابر رضي الله عنه: وما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له مقدرة إلا وقف. أركان الوقف: للوقف أركان أربعة وهي: واقف، وموقوف، وموقوف عليه، وصيغة. الركن الأول: الواقف: ويشترط فيه أن يكون أهلًا للتبرع بأن يكون بالغا عاقلا مختارا، فمن كان مستوفيا لهذه الشوط صح وقفه، ولو كان كافرا وإنما يصح وقف الكافر؛ لأن الوقف ليس قربة محضة أي خالصة بخلاف

_ 1 وراه الشافعي في القديم عن رجل عن ابن عوف بن نافع، وهو متفق عليه من حديث، وله طريق غيره "التلخيص الحبير ج3 ص67".

النذر، فلا يصح من الكافر؛ لأنه مما يتقرب به إلى الله تعالى. فلا يصح وقف الصبي أو المجنون، أو المجور عليه بسفه أو فلس، ولو بمباشرة الولي، ولا يصح من مكره؛ لأنه في حالة الإكراه ليس صحيح العبارة، ولا أهلا للتبرع بسبب الإكراه. والمراد بهذا الشرط أن يكون الواقف أهلًا للتبرع حال الحياة. ولهذا فإن السفيه لا يصح وقفه وتصح وصيته؛ لأنه أهل للتبرع بعد الموت، فلو قال: وقفت داري على الفقراء بعد موتي صح الوقف؛ لأنه وقف في صورة وصية، والوصية تصح منه؛ لأنها لا تنفذ إلا بعد الموت. الركن الثاني: الموقوف: ويشترط فيه أن يكون عينا معينة مملوكة ملكا يقبل النقل، وتفيد دون فواتها نفعا مباحا مقصودا. فخرج بالعين المنفعة والوقف الملتزم في الذمة إذ لا يصح إلا وقف الأعيان، ولو مغصوبة أو غير مرئية؛ لأن العين المغصوبة مملوكا له كما يصح وقف الأعمى؛ لأنه لا يشترط في صحة الوقف رؤية العين الموقوفة. وخرج بالمملوكة ما لا يملك كالأموال المباحة، ومنها القناطر والمدارس، وشواطيء الأنهار والبحار. ومع هذا فيصح للإمام وقف شيء من أرض بيت المال على جهة من الجهات، أو شخص عين من الأشخاص. بشروط ظهور المصلحة في ذلك إذ تصرفه منوط بها كولي اليتيم، فلو رأى الإمام تمليك ذلك لهم جاز. وخرج بقبول النقل ما لا يجوز، ولا يصح نقله من المنافع وذلك كمنفعة لا تجوز شرعا كآلة اللهو؛ لأن آلة اللهو منفعتها محرمة، ومن ثم فلا تملك. وخرج بقوله: وتفيد دون فواتها نفعا مباحا مقصودا ما يصح الانتفاع به مع ذهاب عينه كالطعام، فإن منفعة الطعام في استهلاكه ويشترط النفع في

العين الموقوفة ولو كان في المال كمن وقف دارا صالحة للسكن، وكمن أجر أرضا ثم وقفها، وهذه حيلة لمن يريده إبقاءه منفعة الشيء الموقوف لنفسه مدة بعد وقفه. وضابط المنفعة المقصودة أن كل ما يصح استئجاره على شرط ثبوت حق الملك في الرقبة يصح وقفه. بعض المسائل المتفرعة على هذا الركن: 1- لا يصح وقف كل ذي ريح طيب كالورود، والرياحين، وذلك إذا كان غير منزرع، فإن كان مزروعا صح وقفه للشم لبقائه مدة سواء ما تؤخذ ثمرته، أو جزه مرة واحدة أو مرة بعد مرة، وكذلك يصح وقف المشموم الدائم المنافع كالعنبر والمسك، فإن كان الانتفاع به يؤدي إلى استهلاكه كالبخور، فلا يصح وقفه وإلحاق العود بالعنبر محمول على عود ينتفع به. 2- ولا يصح وقف المنافع كالعين المستأجرة؛ لأن المنفعة ليست بعين؛ لأن الوقف يستدعي أصلًا تستحق منفعته على الدوام، وكذلك لا يصح وقف العين الموصي له بمنفعتها لما ذكرناه. 3- ولا يصح وقف المشاع إن جهل قدر حصته أو صفته؛ لأن عمر وقف مائة سهم من خبير مشاعا، ولو كان المشاع الموقوف مسجدا وجب قسمته من غيره، وهذه الصورة مستثناه من منع قسمة الوقف المطلق للضرورة، ولا فرق بين أن يكون الموقوف مسجدًا هو الأقل أو الأكثر. 4- ويصح وقف العقار بالإجماع، وهو ما يقابل المنقول، فيشمل الأرض والبناء كما يصح وقف المنقول للخبر الصحيح فيه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما خالد فأنتم تظلمون خالدا"، فإنه احتبس أدراعه واعتده"1 والعتاد"

_ 1 حديث: "وأما خالد فإنه قد احتبس أدرعه، واعتده في سبيل الله" متفق عليه من حديث أبي هريرة "التلخيص ج3 ص68".

عدة المحارب من سلاح وغيرهن واتفقت الأمة في جميع الأعصار على وقف الحصر والقناديل، والزلالي للمساجد من غير نكير، والزلالي نوع من السجاد. أما لو كان له بناء، أو غرس في أرض مستأجرة أو مستعارة، أو موصى له بمنفعتها فوقف البناء، أو الغراس الذي له على ملك الأرض، فالأصح جوازه سواء أكان الوقف قبل انقضاء المدة أم بعدها، أو بعد رجوع المعير؛ لأن كلا منهما مملوك يمكن الانتفاع به في الجملة مع بقاء عينه، ويكفي دوام الوقف إلى القلع مدة الإجارة، أو رجوع المعير ومقابل الأصح المنع؛ لأنه معرض للقطع، فكأنه وقف ما لا ينتفع به. ويجاب عن ذلك بأنه يكفي دوامه إلى القلع بعد مدة الإجارة، فلو قلع ذلك وبقي منتفعًا به فهو وقف كما كان، وإن لم يبق فهو ملك الموقوف عليه في وجه. والوجه الآخر يرجع للواقف والأصح الأول، وقال الأسنوي: الصحيح غيرهما وهو شراء عقار أو جزء من عقار، وقال الأذرعي: الأقرب أن يقال: بأن يباع ويشترى بثمنه من جنسه ما يوقف مكانه إن أمكن ذلك، فإن لم يمكن رجع البناء أو الغراس إلى الموقوف عليه، أو الواقف. 5- يصح وقف المنقولات في الأرض المغصوبة خلافا للسبكي، وابن الرفعة كالخزائن والموضوعة في المساجد، ولو بغير حق لإمكان الانتفاع بها خارج الأرض المذكورة، وبذلك فارقت البناء حيث إنه لا يصح وقفه في الأرض المغصوبة، وأيضا لا يصح وقف ما في سواحل الأنهار؛ لأنها غير مملوكة والوقف يشترط فيه أن يكون مملوكا.

الركن الثالث: الموقوف عليه: وينقسم إلى قسمين: معين وغير معين: القسم الأول: أن يكون الموقوف عليه معينًا: بأن كان واحدا أو اثنين أو جمعا معينا، ويشترط فيه إمكان تملكه في حال الوقف عليه بأن يوجد في الخارج متأهلا للملك؛ لأن الوقف تمليك المنفعة، فلا يصح الوقف على معدوم كما لو وقف على مسجد سيبني، أو على ولده ولا ولد له، أو على فقراء أولاده، وليس فيهم فقير، فإن كان في أولاده فقير وغني صح الوقف، ويعطى منه أيضا من افتقر منهم بعد ذلك، أو وقف على القراءة، على رأس قبره أو قبر أبيه الحي فلا يصح الوقف لانتفاء شرط وجود الموقوف عليه في الخارج حين الوقف، وهو أهل للتملك. أهم الصور المتعلقة بهذا الشرط: 1- الوقف على الجنين: لا يصح الوقف على الجنين؛ لأن الوقف تمليك في الحال والجنين لا يصح تملكه سواء أكان مقصودا أم تابعا، حتى لو كان له أولاد ولو جنين عند الوقف لم يدخل في الحال إذ لا يسمى ولدا، وإنما يدخل معهم إذا انفصل ما لم يكن الواقف قد سمى الموجودين، أو ذكر عددهم فلا يدخل كما قاله الأذرعي. وإذا كان الوقف على الجنين لا يصح لعدم صحة تملكه، فلا يصح على الميت من باب أولى؛ لأنه لا يملك. 2- الوقف على البهيمة: أما الوقف على البهيمة فهو غير صحيح،

فلو أطلق الوقف على بهيمة لغا الوقف لاستحالة ملكها، وقد يقال: إن الوقف على البهيمة يكون وقفا على مالكها، وهذا القول غير صحيح؛ لأن البهيمة مملوكه، فكيف تكون أهلًا للتملك؟ وخرج بالبهيمة المملوكة غيرها: كالتي ترابط في سبيل الله في الثغور ونحوها، فيصح الوقف على علفها. 3- الوقف على الطيور والوحوش المباحة: أما المباح من الطيور والوحوش، فلا يصح الوقف عليه جزما، ويستثنى من ذلك حمام مكة، فيصح الوقف عليه. 4- وقف الشخص على نفسه: لا يصح وقف الشخص على نفسه لتعذر تمليك الإنسان ملكه لنفسه؛ لأنه حاصل وتحصيل الحاصل محال، وفي قول يصح ذلك؛ لأن استحقاق الشيء وقفا غير استحقاقه ملكًا، وعلى القول بعدم الصحة، فإنه لوقف على الفقراء وشرط أن يأخذ معهم ربع الوقف، فلا يصح لفساد الشرط، وقول عثمان رضي الله عنه في وقفه بئر رومة: دلوي فيها كدلاء المسلمين ليس على سبيل الشرط، بل إخبار بأن للواقف أن ينتفع بوقفه العام كالصلاة بمسجد وقفه، فإن وقف على نفسه، وحكم به حكم حاكم نفذ حكمه ولم ينقض؛ لأنها مسألة اجتهادية. يستثنى من صحة الوقف على النفس صور نذكر منها ما يلي: 1- أما لو وقف على العلماء، وكان متصفا بصفتهم بأن كان واحدا منهم أو إذا وقف على الفقراء ثم افتقر، أو إذا وقف على المسلمين كتبا للقراءة ونحوها، أو قدرا للطبخ فيه أو كيزانا للشرب بها، ونحو ذلك، فيجوز له الانتفاع بالوقف في هذه الأمور كلها؛ لأنه لم يقصد نفسه بالوقف

وإنما جماعة موصوفة بصفة معينة، فيدخل مع هذه الجماعة إن كان واحدا منها. 2- ومنها ما لو شرط النظر لنفسه بأحرة المثل؛ لأن استحقاقه لها من جهة الوقف، فإن شرط النظر بأكثر من أجرة المثل لم يصح الوقف؛ لأنه وقف على نفسه من الوقف بمقدار ما زاد عن أجرة المثل. 3- ومنها أن يؤجر ملكه مدة يظن أن لا يعيش فوقها منجمة، ثم يقفه بعدها فإنه يصح الوقف ويتصرف هو في الأجرة، وله أن يستأجره بعد الوقف من المستأجر لينفرد باليد، ويأمن خطر الدين على المستأجر، وهذا هو الأحوط. 4- ومنها أن يرفع الوقف الذي وقفه على نفسه إلى حاكم يرى صحته، فإنه يصح ولا ينقض حكمه. 5- ومنها أن يقف وقفا ليحج عنه منه، فإنه يصح وليس هذا من وقف الشخص على نفسه؛ لأنه لا يملك شيئا من غلته، فإن ارتد لم يجز صرفه في الحج، وإنما يصرف إلى الفقراء، فإن عاد إلى الإسلام أعيد الوقف إلى الحج عنه، أما لو وقف على الجهاد وارتد الواقف، فالوقف صحيح؛ لأن الجهاد يصح عن المرتد بخلاف الحج. القسم الثاني: أن يكون الموقوف عليه غير معين: بأن كان جهة من جهات البر، كالوقف على طلبة العلم أو الفقراء، أو عمارة المساجد والمستشفيات، فإن وقف مسلم أو ذمي على جهة معصية كعمارة الكنائس، ونحوها من متعبدات الكفار أو فرشها وقناديلها، أو خدامها أو كتب التوارة والإنجيل، أو السلاح لقطاع الطريق، فالوقف في هذه الصور كلها باطل؛ لأنه

إعانة على معصية والوقف مشرع للتقرب فهما متضادان سواء في ذلك إنشاء الكنائس، أو ترميمها لاتفاقهم على أن الوقف على الكنائس باطل، وإن كانت قديمة قبل البعثة. ومع القول بالبطلان، فلو وقف الذمي على الكنائس، فليس لنا أن نتعرض لهم أو نبطل شيئا وقفوه على هذه الجهة؛ لأننا لا نمنعهم من إظهار شعائرهم الدينية، فإن ترافعوا إلينا أبطلناه، وإن أنفده حاكمهم وهذا بالنسبة للوقف على الكنائس المستجدة. أما ما وقفوه على كنائسهم القديمة قبل البعثة، فلا نبطله وإن ترافعوا إلينا بل نقره حيث إننا نقرها، وهذا بالنسبة لكنائس العبادة وعمارتها. أما عمارة الكنائس التي تعد لنزول المارة، فيصح الوقف عليها، وكذلك الموقوفة على قوم يسكنونها، ولو من أهل الذمة؛ لأنه يصح وقف المسلم على الذمي كما يجوز التصدق عليه سواء كان معينا واحدا، أو متعددا إلا إذا ظهر في تعيينه قصد معصية كالواقف على خادم كنيسة للتعبد، ففي هذه الحالة يلغو الوقف كما لوقف على ترميمها، أو وقودها أو فرشها. الركن الرابع: الصيغة: ويشرتط فيها أن تكون بلفظ يشعر بالمراد من قادر على النطق به وذلك؛ لأن الملك في الوقف يتوقف انتقاله للموقوف عليه على القبول. فإن بنى مسجدا في ملكه وصلى فيه، أو أذن للناس بالصلاة فيه لم يصر وقفا بهذا الفعل بلا لا بد من لفظ الوقف، أو ما اشتق منه بأن يقول: وقفت هذا البناء ليكون مسجدا للصلاة، وأداء الشعائر الدينية لله تعالى؛ لأن الوقف إزالة ملك على وجه القربة، فلم يصح من غير لفظ مع القدرة عليه.

وفي معنى اللفظ إشارة الأخرس المفهمة وكتابته بل وكتابة القادر على النطق مع نيته، أما إذا قال بعد أن انتهى من بنائه: أذنت في الاعتكاف فيه، فإنه يصير بذلك مسجدا؛ لأن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد بخلاف الصلاة، أما إذا كان هذا البناء في موات، ونوى أن يكون مسجدا، فإنه يصير مسجدا دون حاجة إلى لفظ الوقف؛ لأن الفعل مع النية مغنيان هنا عن القول، ومن أخذ من الناس أموالًا ليبني بها نحو مدرسة، أو رباط أو بئر، فحكمه حكم من بنى في موات. والفرق بينهما أن الموات لم يدخل في ملك من أحياه مسجدا، فلم يحتج إلى اللفظ وإنما احتيج إلى اللفظ لإخراج ما كان ملكه، ودخل في ملكه. وينقسم لفظ الوقف إلى صريح وكناية: فاللفظ الصريح، ما كان بلفظ الوقف، وما اشتق منه فالأول كأن يقول: وقفت هذا العقار على الفقراء، أو لينفق منه على المجاهدين، أو على فرش المساجد والثاني أن يقول: أرضي موقوفة على العلماء أو على طلبة العلم، فإن لم يذكر الموقوف عليه في صيغة الوقف لم يصح الوقف. وإنما كان لفظ الوقف، وما اشتق منه من الألفاظ الصريحة لاشتهاره في الوقف لغة وعرفا، ولا فرق بين الفعل وما اشتق منه في ذلك. وأما التحبيس والتسهيل، فالأصح أنهما صريحان وكذلك ما اشتق منهما لتكررهما شرعا، واشتهارهما عرفا في الوقف، فثبت لهما عرف الشرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: "احبس الأصل وسبل الثمرة". ومقابل الأصح أنهما من ألفاظ الكناية؛ لأنهما لم يشتهوا اشتهار الوقف. والثالث: أن التسبيل فقط كناية؛ لأنه من السبيل وهو مبهم.

وأما الوقف بلفظ الكناية، فهو أن يكون الوقف بلفظ يحتمل الوقف وغيره كلفظ الصدقة؛ لأنه مشترك بين الوقف والصدقة، فإذا كان الوقف لفظ الكناية، فلا يصح به إلا إذا اقترنت به نية الواقف، ويقترن مع لفظ الصدقة لفظ من الألفاظ الخمسة، وهي وقفت وحبست وأسبلت وحرمت وأبدت، فيقول: تصدقت به صدقة موقوفة أو محبوسة، أو مسبلة أو مؤبدة، أو محرمة على كذا، أو يقترن بها حكم الوقف، أن يقول: تصدقت بها صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث. وعلى ذلك فإن الوقف بلفظ الكناية يلزم لصحة الواقف به، إما نية الواقف أو لفظ من الألفاظ الخمسة المشار إليها أو حكم الوقف، واللفظ الصريح لا يحتاج إلى شيء من ذلك، ولكن هل يشترط القبول في الوقف؟ الأصح أنه يشترط قبول الموقوف عليه إن كان أهلًا للقبول بأن كان الواقف على معين واحدا أو أكثر في الأصح، فإن لم يكن أهلا لذلك بأن كان صبيا أو مجنونا، أو معتوها أو سفيها فيشترط قبول وليه، ويكون القبول على الفور عقب الإيجاب إن كان الموقوف عليه حاضرا، فإن كان غائبا فلا يلزم أن يكون عقب الإيجاب بل يصح من الغائب متى علم، ولو متراخيًا وإن طال الزمن، وإنما اشترط القبول؛ لأن دخول عين أو منفعة في ملكه قهرا عنه لا يكون إلا في الإرث، فكان الوقف أشبه بالبيع. ومن لا ولي له خاص فوليه القاضي، فيقبل له عند بلوغ الغير أو يقيم على الصبي من يقبل له، ولو وقف على جمع، فقبل بعضهم دون البعض بطل فيما من لم يقبل عملا بتفريق الصفقة، وهذا هو المعتمد الذي صححه الإمام وأتباعه. ومقابل الأصح: لا يشترط القبول في الوقف؛ لأنه أشبه بالقربات منه

العقود، وهذا ظاهر نصوص الشافعي في غير موضع، واختاره جمع منهم الماوردي، والمصنف في الروضة والأول هو المعتمد. والذي يتحصل من كلام الشافعي والأصحاب أنه لا يشترط قبول البطن الثاني والثالث، وإن شرطنا قبول البطن الأول بل الشرط عدم الرفض، وإن كان الأصح أنهم يتلقون الوقف من الواقف، فإن ردوا فمنقطع الوسط، فإن رد الأول بطل الوقف، ولو رجع من رد لم يعد له الوقف، ومن قال بأنه يعود له إن رجع قبل حكم الحاكم به لغيره، فمردود وعلم منه أنه لورد بعد قبوله لم يؤثر. أما الوقف على جهة عامة، وهي ما عدا المعين، وإن انحصرت كالوقف على الفقراء، أو على المسجد والرباط، فلا يشترط فيه القبول جزمًا ولم ينب الإمام عن المسلمين فيه بخلافه في نحو القود؛ لأن هذا لا بد له من مباشر. ومن الوقف على جهة عامة الوقف على سبيل البر، أو الخيرات أو الثواب ويصرف لأقرباء الواقف، ثم لأهل الزكاة ثم للعاملين والمؤلفة قلوبهم، وفي سبيل الله، ويصرفه للغزاة الذين هم أهل الزكاة، فإن جمع هذا مع واحد مما قبله صرف ثلثه لأقاربه، وثلثه للغزاة، وثلثه لباقي أهل الزكاة غير العاملين والمؤلفة. ومنها الوقف على أكفان الموتى، أو تجهيزهم أو المغسلين لهم، أو الحفارين لقبورهم قال ابن الرفعة: ولا يصرف إلا لمن يجب ذلك في ماله، أو ماله من يجب عليه نفقته. ومنها الوقف على الأواني لمن تنكسر منه، وعلى الفقهاء وهم من حصل من علم الفقه ما يهتدي به إلى باقية، وإن قل وعلى المتفقهين، وهم المشتغلون بالفقه، ولو المبتدئين.

شروط الوقف: يشترط في الوقف أربعة شروط، وهي: التأبيد والتنجيز، وبيان المصرف والإلزام. الشرط الأول: التأبيد ويتحقق ذلك بأحد وجهين: أحدهما أن يقف على من لا ينقرض كالفقراء والمجاهدين، وطلاب العلم. الوجه الثاني: أن يقف على من ينقرض، ثم من بعده على من لا ينقرض. كالوقف على رجل بعينه، ثم على الفقراء أو يقف على هذا الرجل بعينه، ثم على عقبه ثم على الفقراء، فمثل هذا الوقف يسمى منقطع الابتداء متصل الانتهاء، أما إذا وقف وقفا منقطع الابتداء والانتهاء كالوقف على ولده، وليس له ولد، فالوقف باطل؛ لأن الولد الذي لم يخلق لا يملك، فلا يفيد الوقف عليه شيئا، وكذلك يكون الوقف باطلًا إذا كان متصل الابتداء منقطع الانتهاء كالوقف على رجل بعينه، ولم يزد عليه أو على رجل بعينه، ثم على عقبه ولم يزد عليه، وإنما كان الوقف باطلا؛ لأنه قد يموت الرجل وينقطع عقبه، وقيل: إنه يصح ويصرفه بعد انقراض الموقوف عليه إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأن مقتضى الوقف الثواب على التأبيد، فحمله فيما سماه على ما شرطه، وفيما سكت عنه على مقتضاه، ويصير كأنه وقف مؤيد ويقدم المسمى على غيره، فإذا انقرض المسمى صرف إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأنه من أعظم جهات الثواب، وهذا هو الراجح. لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صدقة وذو رحم محتاج"، وروى سليمان بن عامر:"صدقتك على المساكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان، صدقة وصلة" 1: والأرجح أنه يختص به الفقراء من الأقرباء؛ لأنه مصرف الصدقات وهي لا تكون إلا لفقير محتاج، وقيل: يشترك فيه الفقراء والأغنياء؛ لأن الغنى

_ 1 الحديث مروي عن سلمان بن عامر الضبي يرفعه قال: الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة" "سنن الدارمي ج1 ص397".

والفقير في الوقف سواء. أهم الفروع المتعلقة بشرط التأبيد: الفرع الأول: لو قال: وقفت هذا على زيد سنة فباطل؛ لأن شأن الوقف التأبيد، ومحل البطلان إذا لم يعقب التوقيت بمصرف أخر غير مؤقت كما لو وقفه على زيد سنة ثم على الفقراء، فلا شك أن الوقف صحيح، وإذا قال: جعلت هذا سنة صح الوقف ولغا ذكر السنة، ويكون مؤيدا. الفرع الثاني: إذا وقف على زيد ونسله، فمات زيد وانقطع نسله، فهل يبقى الوقف أو يرتفع؟ الأظهر أن يبقى صحيحا؛ لأن وضع الوقف على الدوام. ومقابل الأظهر يرتفع الوقف، ويعود ملكا للواقف أو وراثه إن مات، وإذا قلنا بصحة الوقف بعد انقراض من ذكرهم الواقف، فالأظهر أن يصرف لأقرب الناس إلى الواقف يوم انقراض الموقوف عليه المذكورين؛ لأن الصدقة على الأقارب من أفضل القربات لقوله صلى الله عليه وسلم: "صدقتك على الغير صدقة، وعلى رحمك صدقة وصلة" 1، فكان صرف الوقف على الأقرب لما فيه من صلة الرحم، ويختص بفقراء قرابة الرحم لا الإرض، فيقدم ابن البنت على ابن العم. فإن قيل: الزكاة وسائر المصارف الواجبة عليه شرعا لا يتعين صرفها، ولا الصرف منها إلى الأقارب، فهلا كان الوقف كذلك؟ أجيب بأن الأقارب مما حث الشارع عليهم في تحبيس الوقف لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: "أرى أن تجعلها في الأقربين"، فجعلها في أقاربه وبني عمه. وأيضا فإن الزكاة ونحوها من المصارف الواجبة لها مصرف متعين

_ 1 روى هذا الحديث عن سلمان بن عامر الضبي بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة" سنن الدارمي ج1 ص397.

فلم تتعين الأقارب، وهنا ليس معنا مصرف متعين والصرف إلى الأقارب أفضل فعيناه. وقيل: يصرف إلى الفقراء والمساكين؛ لأن الوقف يؤول إليهم في الانتهاء. وعلى القول الأول الذي يرى صرف الوقف إلى أقارب الواقف، فإنهم إذا انقرضوا بحيث لم يكن له أقارب صرف الإمام ريعه إلى المصالح العامة للمسلمين، وقيل: يصرف للفقراء والمساكين، ولا يختص بفقراء بلد الواقف أو الوقف بخلاف الزكاة. الفرع الثالث: لو كان الوقف منقطع الابتداء متصل الانتهاء كأن قال: وقفت على من سيولد لي، ثم الفقراء أو مسجد سيبنى، ثم على طلبة العلم، فالمذهب بطلان هذا الوقف؛ لأن الأول باطل لعدم إمكان الصرف إليه في الحال فكذا ما ترتب عليه. والطريق الثاني: صحة الوقف ويصرف في الحال إلى أقرب الناس إلى الواقف على ما تقدم بيانه، وقيل: يصرف إلى ما بعد الأول. فمثلا إذا قال: وقفت هذا العقار على ولدي، ثم على الفقراء ولا ولد له، فيصرف على القول بالصحة في الحال إلى الفقراء، وذكر الأول لغو. أما إذا كان الوقف منقطع الوسط كما لو قال: وقفت هذا على أولادي، ثم رجل ثم الفقراء، فالمذهب صحته لوجود المصرف في الحال والمآل، وبه يعلم أنه لا يضر، تردد الواقف في صفة أو شرط، أو مصرف دلت قرينة قبله أو بعده على تعيينه إذ لا يتحقق الانقطاع إلا مع الإبهام من كل وجه يكون مصرفه عند الانقطاع، كمصرف منقطع الآخر، لكن محله أن عرف أمد انقطاعه بأن

يقول: وقفت على أولادي ثم على بهيمة زيد ثم على الفقراء، فإن لم يعرف كرجل لا يعرفه الواقف صرف بعد موت الأول لمن بعد التوسط، وهم الفقراء. والمراد بالتردد الذي لا يضر هو التردد في عبارة الوقف بأن كانت عبارته مترددة بين أمرين، وهناك من القرائن ما يدل على إرادته لأحدهما، وليس المراد تردده في الوقف نفسه؛ لأنه مانع من صحته. والشرط الثاني: أن يكون الوقف منجزا، فلا يصح تعليقه على شيء كوقفت ضيعتي هذه على زيد إذا جاء رأس الشهر؛ لأنه عقد يقتضي نقل الملك في الحال، فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع والهبة، وهذا إذا كان الوقف ليس قربة ظاهرة كالوقف على شخص معين، فإن كان قربة ظاهرة كتحرير الرقاب أو بناء المساجد وغيرها من جهات البر التي ينفك عن اختصاص الآدميين، فالظاهر صحته وعلى كل، فإن الوقف لا يصح تعليقه إلا في ثلاثة أمور: 1- إذا كان الوقف فيه قربة ظاهرة كجعلت هذا المبنى مسجدا إذا جاء رمضان. 2- إذا علق الوقف على الموت كوقفت داري على الفقراء بعد موتي. 3- إذا جعل إرثه وصية فيصح، وإن كان نفاذ الوصية بعد الموت لكن يكون حكمه حكم الوصايا في اعتباره من الثلث، وفي جواز الرجوع عنه، وفي عدم صرفه للوارث، ويكون حكم الأوقاف في تأبيده، وعدم بيعه وهبته، وإرثه بعد موت الواقف. الشرط الثالث: بيان المصرف فلو اقتصر على ذكر الموقوف دون الموقوف عليه، فالأظهر بطلانه لعدم ذكر مصرفه، وإن أضافه لله كقوله:

وقفت داري لله، أو فيما شاء وهذا هو المعتمد. ولا يقال إنه: لو قال: أوصيت بثلث مالي ولم يذكر مصرفا أنه يصح، ويصرف للمساكين، أفلا يكون هنا كذلك؟ أجيب بأن غالب الوصايا للمساكين مبنية على المساهلة، فتصح بالمجهول والنجس بخلاف الوقف. الشرط الرابع: الإلزام: فلو وقف شيئًا من أملاكه على الفقراء، واشترط لنفسه الخيار في إبقاء الوقف، أو الرجوع فيه متى شاء أو شرط الخيار لغيره، أو شرط عوده إليه بوجه من الوجوه كأن شرط أن يبيعه، أو شرط أن يدخل من شاء، ويخرج من شاء بطل الوقف على الصحيح، وإن أضافه لله تعالى على المعتمد كقوله: وقفته لله أو فيما شاء الله بخلاف الوصية والصدقة؛ لأن موضعهما الفقراء، وإن قال: وقفته على من شئت أو فيما شئت، فإن عينه قبل ذلك صح وإلا فلا. وقيل: إن الوقف يصح ويلغو الشرط كما لو طلق على أن لا رجعة له، ومن ذلك ما روي أن رجلا وقف شيئا، وشرط أن يكون لورثته بعد موته، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم شرطه فقط. شروط الواقف: يلزم اتباع شروط الواقف ما لم تكن الضرورة، فإن كان هناك ضرورة، فلا يتبع شرطه، ومن ذلك ما لو شرط أن لا يؤجر الدار الموقوفة أكثر من ثلاث سنوات، ولم يوجد من يستأجرها إلا بأكثر من ذلك، فتجوز الزيادة للضرورة. شرط الواقف إذا كان الموقوف عقارًا: فلو شرط الواقف أن لا تؤجر

الدار أكثر من سنة، ثم انهدمت وليس هناك مورد لعمارة هذا الدار إلا بأن يؤجرها لمدة طويلة حتى يمكن عمارتها، ففي هذه الحالة يجوز إجارتها بعقود مستأنفة، وإن شرط الواقف أن لا تستأنف؛ لأن المنع في هذه الحالة يقتضي تعطيل العمارة لهذه الدار، وهو مخالف لمصلحة الوقف، وإنما جاز بعقود مستأنفة، ولم يجز بعقد واحد للمدة كلها؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها. أما إذا لم تكن ضرورة وشرط الواقف أن يؤجر الواقف أكثر من ثلاث سنين، فأجره الناظر ست سنين، فإن كان في عقد واحد لم يصح في شيء لمخالفته لشرط الواقف لا؛ لأن ذلك مبني على تفريق الصفقة، إذ أن تفريق الصفقة غير جائز. وإذا أجر ثلاث سنين قبل انقضاء الأولى لم يصح العقد الثاني، وإنما أبطلناه في الثاني دون الأول لانفراده. وخلاصة القول: أنه يجوز إبطال شرط الواقف في حالات الضرورة، فإذا لم يوجد إلا من يرغب في إجارة الوقف إلا على وجه مخالف لما شرطه الواقف، فهي صحيحة؛ لأن الظاهر أنه لا يريد تعطيل وقفه. وقيل: إن مثل هذا الشرط لا يتبع؛ لأنه شرط فيه حجر على من يستحق المنفعة والقياس فساد الوقف به، فيلغو الشرط في هذه الحالة. شرط الواقف إذا كان الوقف مسجدًا: إذا شرط الواقف في وقف المسجد اختصاصه بطائفة كالشافعية اتبع شرطه، وكان المسجد مختصا بهم، فلا يصلي ولا يعتكف فيه غيرهم رعاية لغرضه، ومثل ذلك المدرسة والرباط إذا شرط في وقفهما اختصاصهما بطائفة معينة اختص بهم، ومعنى اختصاص المسجد بالطائفة الموقوف عليها أنه يمنع غيرهم من دخول المسجد

والجلوس فيه أو الصلاة أو الاعتكاف، فإن دخلوه حرم عليهم ذلك رعاية لغرض الواقف، وإن كان ذلك الشرط مكروهًا. والثاني: لا يختص المسجد بهم ويلغو الشرط؛ لأن جعل البقعة مسجدًا يجعلها غير مختصة بطائفة معينة، ومن ثم فلا يكون هناك معنى لاختصاص المسجد بجماعة. ويمكن أن يقال: إن كان المسجد موقوفا على أشخاص معينة كزيد وعمرو وبكر وذريتهم جاز الدخول بإذنهم، وإن كان المسجد موقوفا على طائفة معينة كالشافعية، أو الحنفية أو الصوفية لم يجز لغير هذه الطائفة الدخول، ولو أذن لهم الموقوف عليهم، فإن صرح الواقف بمنع دخول غيرهم لم يطرقه غيرهم ألبتة، وإذا قلنا بجواز الدخول بالإذن في القسم الأول في المسجد والمدرسة، والرباط كان لهم الانتفاع على نحو ما شرطه الواقف للمعينين؛ لأنهم تبع لهم وهم مقيدون بما شرطه الواقف. شرط الواقف إذا كان الوقف مقبرة: وإذا كان الوقف مقبرة، وخصها الواقف بطائفة، فإنها تختص بهم؛ لأن النفع هنا عائد إليهم بخلافه، ثم فإن صلاتهم في ذلك المسجد كفعلها في مسجد آخر. وعليه فلو دفن بها غير من اختصت به، فقياس من يرى نبش المغصوب لإخراج من دفن به أنه هنا كذلك. ولكن إذا اعتاد أهل بلد دفنا بمحل، فلا يمتنع على غير أهله الدفن فيه؛ لأنه لم يسبق له اختصاص بمالك أزال ملكه عنه، ومجرد العادة اقتضت جواز الإقدام على الدفن فقط من غير ثبوت الاختصاص الذي يمنع غيرهم من الدفن فيه.

أهم الفروع المتعلقة بشرط الواقف: الفرع الأول: لو وقف عقارًا على شخصين معينين كزيد وبكر ثم الفقراء، فمات أحدهما فإن نصيبه يصرف إلى الآخر؛ لأن شرط الانتقال إلى الفقراء انقراضهما جميعا، ولم يوجد وإذا امتنع الصرف إليهم، فالصرف إلى من ذكره الواقف أولى وهذا هو الأصح. والثاني: يصرف إلى الفقراء كما يصرف إليهم إذا ماتا. ومحل الخلاف إذا لم يفصل الواقف، فإن فصل بأن قال: وقفت على كل منهما نصف هذا الوقف، فإن قال ذلك فهما وقفان، فلا يكون نصيب الميت منهما للآخر بل الأقرب انتقاله للفقراء إلا إذا قال: ثم من بعدهما على الفقراء فالأقرب انتقاله للأقرب إلى الواقف إذا مات أحدهما؛ لأنه لا ينتقل إلى الفقراء إلا بعد موتهما. الفرع الثاني: أنه إذا لم يذكر من يصرف له بعدهما، ثم مات أحدهما، فالأوجه أن يصرف نصيبه للآخر، ولا يصرف لأقرباء الواقف، ولو رد الوقف أحدهما أو بأن ميتا، فالقياس على الأصح صرفه للآخر. الفرع الثالث: أنه لو وقف على زيد، ثم عمرو ثم بكر ثم الفقراء، فمات عمرو قبل زيد ثم مات زيد، فلا شيء لبكر وينتقل الوقف من زيد إلى الفقراء؛ لأنه رتبه بعد عمرو، وعمرو بموته أولا لم يستحق شيئا، فلم يجز أن يتملك بكر عنه شيئًا، وبهذا قال الماوردي والروياني، وقال القاضي: الأظهر أنه يصرف إلى بكر؛ لأن استحقاق الفقراء مشروط بانقراضه، وهذا هو الراجح.

أحكام الوقف اللفظية. الأحكام اللفظية للوقف، هي الأحكام المتعلقة بمدلول لفظ الواقف، وعبارته وذلك؛ لأن الأصل أن شروط الواقف مرعية ما لم يكن فيها ما ينافي الوقف، أو كانت هناك ضرورة تقضي بالخروج على شرط الواقف، فإذا تلفظ الواقف في صيغة الوقف بحرف عطف يقتضي تشريكا كالواو، أو ترتيبا مثل ثم عمل به، كأن قال: وقفت أملاكي في مدينة طنطا على أولادي، وأولاد أولادي، فذلك يقتضي التسوية في أصل الإعطاء، وقدر العطية بين جميع أفراد الأولاد وأولادهم من الذكور والإناث؛ لأن الواو لمطلق الجمع كما هو الصحيح عند الأصوليين، ونقل عن إجماع النحاة، ومن جعلها للترتيب كما حكاه الماوردي في باب الوضوء عن أكثر الأصحاب، فذلك يقتضي تقديم الأولاد عملًا بالترتيب المستفاد من الواو، فلو قال: ومن مات منهم فنصيبه لولده، فمات أحدهم اختص ولده بنصيبه، وشارك الباقين فيما عداه. أما ولو قال: وقفت هذا العقار على أولادي، ثم أولاد أولادي ما تناسلوا أو قال: وقفته على أولادي وأولادي الأعلى، فالأعلى أو الأقرب فالأقرب، فهو للترتيب لدلاته ثم عليه في الأولى، ولتصريحه به في الثانية؛ لأن ما تناسلوا يقتضي التعميم بالصفة المتقدمة، ومن ثم فيمتنع الصرف لبطن، وهناك أحد من بطن أقرب منه كما صرح به البغوي، وغيره. ولكن هل يدخل أولاد الأولاد في الوقف على الأولاد الأصح أن أولاد الأولاد لا يدخلون -إذ يصح أن يقال في ولد الوالد لشخص ليس ولده، ومقابل الأصح يدخلون حملا على الحقيقة، والمجاز والثالث: تدخل أولاد البنين لانتسابهم إليه دون أولاد البنات.

والمراد بالأولاد الجنس، فيشمل الولد الواحد، فيستحق الكل فلو حدث له ولد بعده شاركه ولا يدخل الحمل؛ لأنه لا يسمى ولدا إلا إذا لم يكن له ولد فيستحق الوقف، وهو جنين حذرًا من إلغاء الوقف. أما أولاد البنات، فلا يدخلون مع أولاد الأولاد إلا إذا قال: وقفت هذا على ذريتي أو على نسلي، أو على عقبي لصدق اللفظ بهم، والعقب هو ولد الرجل الذي يبقى بعده. أما دخول البنات في الذرية، فلقوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} 1 إلى أن ذكر عيسى، وليس هو إلا لبنت والنسل والعقب في معنى الذرية، بل يدخل الحمل في ذلك أيضا، وفي الوقف على البنين والبنات يدخل الخنثى إذ هو لا يخرج عن أحدهما، ويعطى القدر المتيقن عند المفاضلة بين الذكر والأنثى، ويوقف الباقي إلى أن تظهر حقيقة أمره. فإن قيد أولاده بالهاشميين لم تدخل البنات إلا إذا كان أبوهم هاشميًّا، أو قال: وقفت هذا على من ينتسب إلى من أولاد أولادي، فإن أولاد البناء لا يدخلون مع أولاد البنين في الوقف نظرا إن كان هذا القيد معتبرا شرعا بأن يكون الواقف ذكرا، فإن كان أنثى دخلوا بجعل الانتساب لغويا؛ لأن النسب إن كان شرعيا، فلا انتساب للأنثى أصلا، وإن كان لغويا، فالكل ينسبون إليها بمعنى أن كلا من أولادها ينسب إليها، فليس لها لها فرع إلا وينسب إليها بهذا المعنى. وإنما لم تدخل أولاد البنات إن قال: وقفت على من ينسب إلي من الأولاد؛ لأنهم ينسبون إلى أبائهم لقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} 2، وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حق الحسن بن علي: "إن ابني هذا سيد"، فجوا به إن ذلك من خصائصه عليه الصلاة والسلام.

_ 1 من الآية "84" من سورة الأنعام. 2 من الآية "5" من سورة الأحزاب.

الصفة والاستثناء في الوقف. ومرادنا بالصفة هنا ما يفيد قيدًا في غيره، فلا يتوهم أنها الصفة النحوية، وحكم هذه الصفة أنها إذا تقدمت على جمل، أو مفردات معطوفة اعتبرت تلك الصفة في الكل من تلك الجمل، أو المفردات إذا كانت تلك الجمل، أو المفردات قد عطف بعضها على بعض بحرف يدل على الاشتراك كالواو، بشرط أن لا يتخلل المتعاطفات كلام طويل. وذلك؛ لأن الأصل اشتراك هذه المتعاطفات في جميع المتعلقات سواء تقدمت الصفة، أو الاستثناء عليها أو تأخرا أو توسطا، ومثال ذلك أن يقول شخص: وقفت هذا على محتاجي أولادي، وأحفادي وإخواتي، أو على أولادي وأحفادي وإخوتي المحتاجين، أو على أولادي وأحفادي، وإخوتي إلا من يفسق منهم. والأحفاد هم أولاد الأولاد، والمحتاج من يجوز له أخذ الزكاة كما أفتى به القفال، فإن عطف ما ذكر من المتعاطفات بثم، أو فرق بينهما بكلام طويل اختصت الصفة بالجملة الأخيرة، والمذهب صحة العود إلى الجميع، وإن كان العاطف بثم، فلا يتقيد بالواو فقط بل بوجود عاطف جامع بالواوا والفاء، أو ثم وهذا هو المعتمد. وما سبق ذكر فهو في عطف المفردات، وأما عطف الجمل فهو أن يقول: وقفت هذا الوقف على أولادي، وحبسبت على أقاربي ضيعتي، وسلبت على خدمي بيتي المحتاجين، أو إلا أن يفسوق أحد منهم إلا أن الأسنوي استبعد رجوع الصفة للكل؛ لأن كل جملة مستقلة بصيغة خاصة بها.

أحكام الوقف المعنوية: ونعني بها ثبوت الملك في ذات الموقوف وفي منافعه أما ذات الملك، فهو لله تعالى فإن كل الموجودات بأسرها ملك له في جميع الحالات بطريق الحقيقة، وإن سمي غيره مالكا، فإنما هو بطريق التوسع والمجاز بمعنى ثبوت الاختصاص له. وبناء عليه، فإنه إذا انفك الملك عن اختصاص الآدمي، فلا يكون للواقف أو للموقوف عليه، وهذا هو الأظهر، وفي قول: لا ينتقل عن الواقف وبه قال الإمام مالك، وحجة هذا الرأي أن الواقف حبس الأصل، وسبل الثمرة، وذلك لا يوجب زوال ملكه بدليل اتباع شرطه. والقول الثالث: أن المالك ينتقل إلى الموقوف عليه، ووجهه أن الوقف ملحق بالصدقة، وبه قال الإمام أحمد، فإن قيل: إن الوقف يثبت بشاهد ويمين، وحقوق الله لا تثبت إلا بشاهدين: أجيب بأن المقصود بثبوت الوقف هو حق الانتفاع بالوقف، فيجوز ثبوته بشاهد ويمين، فيكون محل الخلاف فيما يقصد به تملك ريعه، أما الوقف ذاته فهو كالمسجد والمقبرة وكذا الربط1، والمدارس فالملك فيها لله تعالى باتفاق2. وخلاصة القول: أن ذات الوقف مملوكة لله تعالى والمنافع مملوكة للآدمي، ولكن من يستحق المنافع في الموقوف؟ أما منافع الموقوف، فهي ملك الموقوف عليه؛ لأن ذلك مقصودة، فليس للواقف انتفاع بدليل أن الموقوف عليه يجب عليه زكاة العين الموقوفة، وهذا يقطع بأنه ليس للواقف أي حق في الموقوف لكن يستثنى المسجد، والبئر

_ 1 نهاية المحتاج للرملي "ج5 ص389". 2 الرباط ما يربط به القربة وغيرها والجمع ربط، والرباط اسم من رابط مرابطة إذا لزم ثغر العدو والرباط الذي يبنى للفقراء "المصباح المنير ج1 ص256".

والمقبرة إذا وقف شيء من ذلك، فيكون للواقف فيها ما للغير كما أن له أن يتصرف في فوائد الموقوف الحادثة بعد الوقف تصرف الملاك في أملاكهم، فيستوفي منافع الموقوف بنفسه وبغيره بإعارة، وإجارة إن كان ناظرا، وإن لم يكن ناظرا امتنع ذلك عليه، لتعلقه بالناظر أو نائبه كسائر الأملاك. أما الولد فيملكه الموقوف عليه في الأصح عند الإطلاق، أو عند شرط الولد له، وقيل: يكون وقفا تبعا لأمه. أما إذا كانت أمه حاملا به حين الوقف، فولدها وقف قولا واحدا إن قلنا: للحمل حكم المعلوم بناء على أنه يعلم، وهو الأصح. أما الثمرة الموجودة عند الوقف، فهي ملك للواقف إن كانت مؤبرة، وإن كانت غير مؤبرة، فوجهان قال الدارمي: ينبغي أن تكون للموقوف عليه، وقال الزركشي: وكذا الموجود في البئر عند الوقف ينبغي أن يكون ملكا للواقف: ومن الثمرة، صوف ووبر ولبن، فيملكها الموقوف عليه. الفروع المتعلقة بملك الوقف: الأول: إذا ماتت البهيمة الموقوفة اختص1 الموقوف عليه بجلدها لكونه أولى به من غيره، وهذا قبل الدبغ، فإن دبغه أو اندبغ بنفسه عاد وقفا. الثاني: لو تعطلت منفعة الموقوف بسبب غير مضمون كأن جفت الشجرة الوقوفة، أو قلعها ريح أو سيل أو نحو ذلك، ولم يمكن إعادتها إلى مغرسها قبل جفافها، أو كبرت الدابة الموقوفة لم ينقطع الوقف على المذهب، وإن كان لا يصح وقف ذلك ابتداء لشرط الدوام بل ينتفع بها جذعا بإجارة ونحوها، أو ألواحا لنحو باب، أو سقف إدامة للوقف في عينها، ولا تباع ولا توهب لقوله صلى الله عليه وسلم: "حبس الأصل، وسبل الثمر".

_ 1 وإنما عبرنا بأن الموقوف عليه يختص بجلدها، ولم نقل بملكه؛ لأن النجس لا يقبل الملك.

وفي قول: تباع لتعذر الانتفاع على وفق شرط الواقف، والثمن الذي بيعت به على هذا الوجه، قيل: يشتري به شجرة أو شقص شجرة من جنسها لتكون وقفًا، وفي قول: يملكه الموقوف عليه في الأصح، ومقابل الأصح ينقطع الوقف، فينقلب الحطب ملكا للواقف. الثالث: أنه يجوز بيع فرش المسجد الموقوفة إذا بليت، وجذوعه إذا انكسرت أو أشرفت على الانكسار، ولم تصلح إلا لإحراق لئلا تضيع، أو يضيق المكان بها من غير فائدة، فيكون تحصيل نزر يسير من ثمنها يعود إلى الوقف أولى من ضياعها، ولا تدخل بذلك تحت بيع الوقف؛ لأنها صارت في حكم المعدومة وهو المعتمد، وإذا بيعت فيصرف ثمنها في صالح المسجد، أما إذا أمكن أن يتخذ من تلك الجذوع ألواح، فلا تباع قطعا بل يجتهد الحالكم، ويستعمله فيما هو الأقرب لمقصود الوقف. ومقابل الأصح أنها تبقى أبدًا. ومحل الخلاف إنما هو في العين الموقوفة، ولو بشراء أما المملوكة للمسجد بشراء ونحوه، ولم توقف فإنها تباع جزما. ويجري هذا الخلاف في دار متهدمة، أو مشرفة على الانهدام، ولم تصلح للسكنى، والأصح المنع من بيعها؛ لأن جواز البيع يؤدي إلى موافقة القائلين بالاستبدال هذا لا يجوز، ويمكن حمل قول القائلين بالجواز على البناء خاصة، وهذا الحمل أسهل من تضعيفه. الرابع: لو انهدم مسجد وتعذرت إعادته، أو تعطل بخراب البلد مثلا فلا يباع مطلقا لإمكان الانتفاع به حالا بالصلاة في أرضه، ولإمكان عوده كما كان، وبهذا فارق المسجد وقف فرس على الغزو، فإنه إذا كبر ولم يصلح المغزو جاز بيعه.

أما أنقاض المسجد، فإن رجى عوده حفظت وجوبا، ولو بنقل النقض إلى محل أمين إن خيف على أخذه، فإن لم يرج عوده بني به مسجد آخر بقربه، فلا يجوز بناء مدرسة بطوب المسجد، وفرشه وقناديله حكمها حكم أنقاض المسجد، وإن كان بالمسجد من يعمل براتب استحق أجره، وإن تعذر عليه القيام بوظيفته لعدم تقصيره كمدرس لم تحضر طلبته بخلاف إمام لم يحضر من يصلى معه، فلا يستحق إلا إذا صلى في البقعة، وإن كان وحده؛ لأن عليه فعل الصلاة فيه إماما، فإذا تعذر أحدهما بقي الآخر، وهذا في مسجد يمكن فيه أداء تلك الوظائف أما المسجد الذي محاه البحر مثلا، وصار داخل اللجة1، فينبغي نقل وظائفه لما ينقل إليه نقضه. وخلاصة القول أن غلة المسجد تحفظ لرجاء عوده، فإن تعذر صرفت إلى أقرب المساجد إن احتيج إليها، وإلا صرفت لأقرب الناس إلى الواقف، فإن لم يكن له أقرباء صرفت للفقراء. النظر على الوقف وشروط الناظر، ووظيفته: الأول: سلطة الواقف في تعيين ناظر على الوقف: يكون للواقف الحق في اشتراط تعيين ناظر على الوقف، فلو شرط النظر لنفسه، أو لغيره واحدًا أو أكثر اتبع شرطه كبقية شروطه لما روي أن عمر رضي الله عنه ولى أمر صدقته2، ثم جعله لحفصة من بعده ما عاشت، ثم لأولي الرأي من أهلها، وخبر البيهقي: "المسلمون عند شروطهم" 3؛ ولأن الواقف هو المتقرب بالصدقة، فيتبع شرطه كما يتبع في مصارفها وغيرها.

_ 1 لجة الماء بالضم معظمه "المصباح المنير ج2 ص665". 2 المراد بالصدقة هنا الوقف. 3 الأصل أن شروط الواقف مرعية ما لم يكن فيها ما ينافي الوقف ويناقضه، عليه جرت أوقاف الصحابة، فقد وقف عمر وشرط أن لا جناح على من وليه أن يأكل منها بالمعروف، وأن التي تليه حفصه في حياتها، فإذا ماتت فذو الرأي من أهلها رواه أبو داود بسند صحيح "التلخيص ج7 ص69".

وكما يقبل شرطه، فيمن يكون له النظر فيقبل أيضا ما شرطه لنفسه من ريع الوقف بحيث لا يزيد على أجرة المثل، فإن لم يشترط لنفسه أجرا، فهو متبرع إلا أن يفرض له الحاكم أجرة المثل بعد رفعه له، فإن أخذ شيئًا من مال الوقف قبل ذلك، أو بعده بغير ما قرر له ضمنه، ولا يبرأ إلا برده للقاضي أما ما يؤخذ ضيافة، أو حلوانا فقد قال الرملي بجوازه نظرا للعادة، ومنعه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري. والذي يظهر لنا أنه إن بذله دافعه عن طيب نفس بلا إكراه، وبلا خوف زوال الوقف عنه، وبلا نقص أجرة وقفه جاز، وإلا فلا وبهذا يمكن أن يجمع بين الرأيين. وإن لم يشترط النظر لأحد، فهو للقاضي بناء على أن الملك في الموقوف لله تعالى، وأما على القول بأن الملك فيه للواقف، أو للموقوف عليه يكون النظر للواقف فيهما. والراجح في نظرنا أن الوقف إن كان على جهة عامة، فولاية النظر للحاكم وإن كان على معين، فله أيضا، إن قلنا: الملك ينتقل إلى الله تعالى، وإن جعلناه للواقف أو الموقوف عليه، فللواقف أن يتولى النظر على الوقف. وحيث كان الوقف للقاضي، فيكون القاضي بلد الوقف، فيتولى إجارته وحفظه ونحوهما، وقاضي بلد الموقوف عليه من حيث التصرف، وقسمة الغلة ونحوهما لتنمية مال اليتيم، وليس لأحد القاضيين فعل ما ليس له. الثاني: شروط الناظر: يشترط في الناظر شرطان: الأول: العدالة ولو كان هو الواقف أو كان أعمى، أو أنثى أو كان النظر على معينين رشداء؛ لأن النظر ولاية على الغير، فاعتبر فيه ذلك كما في الوصي والقيم، فإن كان الناظر معينا من قبل الحاكم، فيشترط فيه العدالة

الباطنة، ويكتفي في المعين من قبل الواقف بالعدالة الظاهرة، كما في الأب وإن افترقا في وفور شفقة الأب، وخالف الأذرعي، فاعتبر فيه العدالة الباطنية أيضا والأول أوجه. الشرط الثاني: الاهتداء إلى التصرف، فلو زالت أهليته انتقل النظر للحاكم لا لمن بعده ممن شرط له النظر على المعتمد، ولو عادت الأهلية عادت له الولاية إن كان الواقف قد نص على عينه وإلا فلا، وثبوت أهليته في مكان من جملة الوقف يسري على بقية من حيث الأمانة مطلقا، وكذا الاهتداء إلى التصرف إن كان أعلى من البقية، وإلا فلا بد من ثبوتها في الجميع، وعلم مما ذكر أن الناظر الذي شرطه الواقف لا ينعزل، ولو عزل نفسه أو عزله غيره، ولا يبدل بغيره وأن عروض عدم أهليته مانع من تصرفه لا سالب لولايته. الثالث: وظيفة الناظر: أما وظيفة الناظر فهي عند الإطلاق، أو تفويض جميع الأمور له تكاد تنحصر في العمارة والإجارة، وتحصل الغلة بقسمتها على مستحقيها، وحفظ الأصول والغلات على الاحتياط؛ لأنه المعهود في مثله، ويراعي عند قسمة الغلة على مستحقيها الزمن الذي حدده الواقف، فلا يجوز له ولا لغيره أخذ شيء من الوقف قبل وقت استحقاقه، وله جعل المال تحت يده من حيث الولاية لا من حيث الاستحقاق ليأخذ هو وغيره منه ما قد يستحق في وقته من شهر، أو سنة أو غيرهما، ولا يجوز مثل ذلك للجاني، ولا للعامل ولا غيرهما إلا بإذن الناظر؛ لأنهم نوابه فيه. فإن فوض إليه بعض هذه الأمور، فليس له أن يتعدى ذلك اتباعا للشرط

كالوكيل، فإن فوض النظر لاثنين لم يستقل أحدهم بالتصرف كما في الوصية لاثنين، ولو شرط النظر للأرشد من أولاده دخل أولاد البنات، ومتى ثبت رشد واحد لم ينتقل عنه برشد غيره ما لم يتغير حاله، ولو تعارض يبينتان برشد اثنين مثلا اشتركا حيث وجدت الأهلية، وسقط الرشد للتعارض فيه، ولو طال الزمن بين البينتين قدمت النافلة. عزل الوقف لمن ولاه: وأما عزل الواقف لمن ولاه النظر عنه، ونصب غيره مكانه، فهو جائز كما في الوكيل أما غير الناظر، فلا يصح من تولية، ولا عزل بل هي للحاكم؛ لأنه لا نظر له حينئذ. ولكن هل يجوز عزل الناظر من غير سبب؟ الظاهر أن الواقف له عزل الناظر مطلقا؛ لأنه كالوكيل المأذون له في إسكان هذه الدار، فله أن يسكنها من جاء من الفقراء، وإذا أسكنها فقيرا مدة، فله أن يخرجه ويسكن غيره لمصلحة، ولغير مصلحة، وليس تعيينه لذلك يصيره كأنه مراد الواقف حتى يمتنع تغييره. أما غير الناظر من أرباب الوظائف والمدرس، والإمام والطلبة ونحوهم، فليس للواقف ولا للناظر، ولا للإمام الأعظم عزلهم بغير سبب، ولا ينفذ عزلهم ويفسق عازلهم به ويطالب بسببه إلا أن علمت صيانته، وديانته وأمانته، وعلمه. فإن عزل الناظر نفسه لم ينصب بدله الحاكم، وإنما يقيم من يتصرف عنه، وتولية الحاكم غيره للتصرف عنه ليس لانعزاله، بل لامتناعه إذا عاد عاد النظر كما كان. فرع: لو ضاق الوقف عن مستحقيه لم يقدم بعضهم على بعض بل

يقسم بينهم بالمحاصة1؛ لأنه لا يجوز تمييز بعضهم على بعض، وليس للناظر إحداث وظيفة لم تكن مشروطة من شروط الواقف، ولا يجوز له صرف شيء من الوقف فيها، ولا يجوز لمن قرر فيها أخذ شيء من المعلوم فيها، ولا يجوز إبطال وظيفة مما شرطه الواقف، ويفسق فاعل ذلك وينعزل به، ولا يجوز للناظر تقديم بعض المستحقين على بعض في الإعطاء، والله أعلم.

_ 1 الحصة القسم والجمع حصص، وحصة من المكان كذا حصل له ذلك نصيبًا، وتحاص الغرماء اقتسموا المال بينهم حصصا "المصباح المنير ج1 ص168".

الهبة وأحكامها

الفصل الثامن: الهبة وأحكامها. تعريف الهبة لغة وشرعا: الهبة لغة: من وهب بمعنى مر لمرورها من يد إلى يد أخرى، أو بمعنى تيقظ لتيقظ فاعلها للخير أو هي مأخوذة من هبوب الريح، قال في الفتح: تطلق بالمعنى الأعم على أنواع: الإبراء، وهو هبة الدين ممن هو عليه، والصدقة وهي هبة ما يتمحض به طلب ثواب الآخرة، والهدية وهي ما يلزم به الموهوب له عوضه، ومنخصها بالحياة أخرج الوصية، وهي تكون أيضا بالأنواع الثلاثة، وتطلق الهبة بالمعنى الأخص على ما لا يقصد له بدل1، وعليه ينطبق قول من عرف الهبة بأنها تمليك بلا عوض، وهذا هو معنى الهبة شرعا، فإن الهبة شرعا: تمليك منجز مطلق في عين حال الحياة بلا عوض ولو من الأعلى، أو نقول: هي تمليك تطوع في الحياة، وهذا أولى وأخصر. فخرج بالتمليك الضيافة؛ لأنها إباحة لكن يملك الضيف ما أكله بوضعه في فمه ملكا مراعي فيه أنه إن ازدرده، أو بلغه استقر على ملكه، وإن أخرجه تبين أنه باق على ملك صاحبه، ولهذا لو حلف لا يأكل طعام زيد، فأكله ضيفا لم يحنث؛ لأنه لم يأكل إلا طعام نفسه، كما يخرج بالتمليك أيضا الوقف؛ لأنه إباحة على المعتمد، فهو خارج بالتمليك، وعلى القول بأنه تمليك فهو تمليك للمنفعة لا للعين، فيكون الوقف على هذا خارج بقوله في عين، وخرجت العارية كذلك بالتمليك؛ لأنها إباحة في المنافع؛ لأن المستعير ينتفع ولا يمتلك المنفعة. وقوله: منجز أي حاصل في الحال، فخرج به المعلق غير صفة كقدوم غائب نحو إن جاء زيد فقد وهبتك كذا، فلا يصح؛ لأنه غير منجز، وخرج

_ 1 تقول: وهبت لزيد مالا أعطيته بلا عوض ... واتهبت الهبة قبلتها ويتعدى للمفعول الأول بلام، وفي التنزيل: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} "المصباح المنير ج2 ص842".

بالحياة الوصية؛ لأن التمليك فيها إنما يتم بالقبول، وهو بعد الموت. وخرج بقوله: بلا عرض ما فيه عوض كالبيع ولو بلفظ الهبة؛ لأن اللفظ لا يقتضيه، هذا إن لم تقيد بثواب، فإن قيدت به، فإن كان مجهولًا كثوب فباطلة لتعذر تصحيحها بيعا لجهالة العوض ولا تصح هبة؛ لأن لفظها لا يقتضيه كما علم، فيكون المقبوض بها في هذه الحالة مقبوض بالشراء الفاسد، فيضمن ضمان المغصوب، وإن كان معلوما فهي بيع نظرا للمعنى، فيجري فيه أحكامه كالخيار والشفعة، وعدم توقف الملك على القبض، بل تملك بالعقد، ومحل عدم العوض إن لم تقم قرينة على طلبه، وإلا وجب إعطاء العوض، أو رد الهدية كما صرح به الرملي. وقوله: ولو من الأعلى أي ولو كان ذلك التمليك صادرا من الأدنى للأعلى منه رتبة دنيوية، وهذه الغاية للرد على القول بأن الهبة إذا كانت من الأدنى للأعلى منه تقتضي العوض عملا بالعادة. فالهبة والعطية، والهدية والصدقة معانيها متقاربة، وكلها تمليك في الحياة بغير عوض، وهذا صحيح بالنسبة لاسم العطية، فإن اسم العطية شامل للجميع أما الصدقة والهدية فهما متغايران، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وقال في اللحم الذي تصدق به على بريرة: "هو عليها صدقة، ولنا هدية"، فالظاهر أن من أعطى شيئا يتقرب به إلى الله تعالى للمحتاج، فهو صدقة ومن دفع إلى إنسان شيئا يتقرب به إليه محبة له، فهو هدية وجميع ذلك مندوب إليه، ومحثوث عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: "تهادوا تحابوا" 1، وأما الصدقة فما ورد في فضلها أكثر من أن يمكننا حصره، وقد قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} 2.

_ 1 حديث: "تهادوا تحابوا"، رواه البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي وابن وردان عن أبي هريرة، وإسناده حسن "التلخيص الحبير ج3 ص69، 70". 2 من الآية "271" من سورة البقرة.

وفرق بعضهم بين الصدقة والهدية، فقال: إن ملك محتاجا لثواب الآخرة شيئا فهو صدقة، وإن نقله إلى مكان الموهوب له إكراما له، فهدية فكل من الصدقة والهدية هبة بالمعنى اللغوي، وليس كل هبة صدقة وهدية، وتظهر فائدة الفرق بين الصدقة والهدية في الحلف، فمن حلف لا يتصدق لم يحنث بهبة، أو هدية أو حلف لا يهدي لم يحنث بصدقة، وهبة أو لا يهب حنث بهما، وقد يجتمعان كما لو اجتمع النقل والحاجة، والمراد بالنقل ما يشمل البعث به إليه مع وكيله مثلا، وقوله: فإن نقله إكراما قد يحترز به عن نحو رشوة، وإعطاء نحو شاعر خوفا من هجوه. حكم الهبة: الهبة مندوب إليها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تهادوا تحابوا"، وهي للأقارب أفضل لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم مستقة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله" 1، وفي الهبة صلة الرحم. والمستحب أن لا يفضل بعض أولاده على بعض في الهبة لما روى النعمان بن بشير قال: أعطاني أبي عطية، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني أعطيت ابني عطية، وإن أمه قالت: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهل أعطيت كل ولدك مثل ذلك؟ قال: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: بلى قال: فلا إذا" 2. فإن فضل بعضهم بعطية صحت العطية، لما روى في حديث النعمان أن

_ 1 وفي رواية للبخاري: فقال الله تعالى: "من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته". "رياض الصالحين للنووي ص153". 2 رواه الشافعي في الأم والبيهقي، وفيه قال: "فارتجعه"، وفيه: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم "التلخيص ج3 ص72".

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أشهد على هذا غيري"، فلو لم يصح لبين له ولم يأمره أن يشهد عليه غيره. ولا يستنكف أن يهب القليل، ولا أن يوهب له القليل، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع أن ذراع لقبلت" 1. وقد تمسك بحديث النعمان بن بشير من أوجب التسوية بين الأولاد في العطية، وبه صرح البخاري، وهو قول طاووس والنووي وأحمد، وإسحاق وبعض المالكية قال في الفتح: والمشهور عن هؤلاء أنها باطلة، وعن الإمام أحمد يجوز التفضيل في العطية بين الأولاد إن كان له سبب كأن يحتاج الولد لزمانته، أو دينه أو نحو ذلك دون الباقين. وذهب الجمهور إلى أن التسوية متسحبة، فإن فضل بعضهم صح وكره، وحملوا الأمر على الندب، وكذلك حملوا النهي الثابت في رواية مسلم: "أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء، قال: بلى قال: فلا إذن"، حملوا هذا النهي على التنزيه. وأجابوا عن حديث النعمان بأجوبة منها أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده حكاه ابن عبد البر، وتعقبه بأن كثيرًا من طرق الحديث مصرحة بالبعضية، كما في حديث جابر وغيره أن الموهوب كان غلامًا، وكما في لفظ مسلم عن النعمان: "تصدق علي أبي ببعض ماله". والجواب الثالث: أن النعمان كان كبيرا، ولم يكن قبض الموهوب، فجاز لأبيه الرجوع ذكره الطحاوي، لكن قال الحافظ: وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث خصوصا قوله: ارجعه، فإنه يدل على تقدم وقوع القبض، والذي

_ 1 رواه البخاري من حديث أبي هريرة في النكاح، ورواه الترمذي من حديث أنس بلفظ: "لو أهدى إلي كراع لقبلت، ولو دعيت عليه لأجبت"، وصححه. "التلخيص الحبير ج3 ص70".

تضافرت عليه الروايات أنه كان صغيرا، وكان أبوه قابضا له لصغره، فأمره برد العطية المذكورة بعد ما كانت في حكم المقبوضة. والرابع: أن قول: أشهد على هذا غيري، يفيد الصحة؛ لأنه أذن بالإشهاد على ذلك، وإنما امتنع من ذلك لكونه الإمام، وكأنه قال: اشهد؛ لأن الإمام ليس في شأنه أن يشهد، وإنما من شأنه أن يحكم، حكاه الطحاوي وارتضاه ابن القصار، وتعقب بأنه لا يلزم من كون الإمام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة، ولا من أدائها إذا تعينت عليه، والإذن المذكور مراد به التوبيخ لما تدل عليه بقية ألفاظ الحديث، وبذلك صرح الجمهور في هذا الموضع. وقال ابن حبان قوله: أشهد، صيغة أمر والمراد به نفس الجواز، وهي كقوله لعائشة: اشترطي لهم الولاء، ويؤيد هذا الوجه تسميته صلى الله عليه وسلم لذلك جورا كما في بعض الروايات المذكورة. الخامس: أن الإجامع انعقد على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده، فإذا جاز له يخرج جميع ولده من ماله لتمليك الغير جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله لتمليك الغير، جاز له أن يخرج بعض ولده بالتمليك لبعضهم، ولكن قال الحافظ بن حجر: ولا يخفى ضعفه؛ لأنه قياس مع وجود النص، وقد رأى الشوكاني أن التسوية واجبة، وأن التفضيل محرم. أركان الهبة: أركان الهبة ثلاثة: عاقدان، وصيغة، وموهوب. الركن الأول: العاقدان ولهما شروط، فيشترط في الواهب الملك، وإطلاق التصرف في ماله، فلا تصح من ولي في مال محجور، ويشترط في

الموهوب له أن يكون فيه أهلية الملك لما يوهب له من تكليف، وصحة تصرف، وسيأتي أن غير المكلف يقبل له وليه، فلا تصح لحمل ولا لبهيمة. الركن الثاني: الصيغة وهي إيجاب وقبول لفظا من الناطق، ومن صريح الإيجاب أن يقول: وهبتك ومنحتك، وملكتك بلا ثمن، ومن صريح القبول قبلت ورضيت، ولا يصح القبول إلا على الفور، وقال أبو العباس: يصح على التراخي والصحيح الأول؛ لأنه تمليك: حال الحياة فكان القبول فيه على الفور كالبيع. ولكن يستثنى من اشتراط القبول بعض مسائل من أهمها: 1- إذا وهبت المرأة نوبتها لضرتها، فلا يشترط قبول الضرة لتلك النوبة على الصحيح. 2- إذا خلع السلطان شيئا على الأمواء والقضاة وغيرهم، فلا يشترط فيه القبول، وبهذا قال بعض المتأخرين لجريان العادة بذلك. 2- وإذا اشترى الولد لابنه الصغير حليا وزينه به، فإنه يكون تمليكًا له بخلاف ما لو اشترى حليا لزوجته، فإنه لا يصير ملكا لها كما قال القفال. والفرق بينهما أن له ولاية على الصغير بخلاف الزوجة، وبهذا قال السبكي وتبعه ابن الملقن، ويرد هذا قول الشيخين وغيرهما، فإن وهب للصغير ونحوه ولي غير الأب والجد قبل له الحاكم، وإن كان أبا أو جدا تولى طرفي العقد، وهذا معناه أنه لا بد من الإيجاب والقبول. ويتفرع على هذا أنه إذا وهب للصغير ونحوه ممن ليس أهلًا للقبول، وجب على الولي أن يقبل عنه الهبة، فإن لم يقبل انعزل الوصي، أو القيم، وأثم

لتركه الأحظ، فإن كان أبا أو جدا، فلا ينعزل لكمال شفقتهما، وإن كان سفيها فيقبلها لنفسه؛ لأن السفيه صحيح العقل. أما الأخرس فيكفيه الإشارة المفهمة. والهبة بلفظ الكناية تحتاج إلى نية الواهب، ومن الهبة بلفظ الكناية أن يقول شخص لآخر: كسوتك هذا الثوب؛ لأنه يصلح للعارية والهبة، فإن قال: لم أرد الهبة صدق؛ لأنه ليس صريحا في الهبة، ولهذا فيرجع إلى نيته، فإن نوى بها هبة حصلت وإلا فلا. وإذا كان يشترط في الهبة الإيجاب والقبول، فإن الهدية لا يشترط فيها ذلك على الصحيح ولو في غير المطعوم، بل يكفي البعث من المهدي، والقبض من المهدي إليه، فيكون البعث والقبض كالإيجاب والقبول، وهذا ما جرى عليه الناس في الأعصار، وقد أهدى الملوك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الكسوة والدواب، والجواري، وفي الصحيحين: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة رضي الله عنها، ولم ينقل إيجاب ولا قبول، وهذا هو الصحيح. وقيل: يشترط في الهدية الإيجاب والقبول كما في الهبة سواء بسواء، وحمل ما جرى عليه الناس على الإباحة، ولكن يمنع من هذا القول أن الفروج لا تباح بالإباحة. وأما الصدقة فلا تحتاج إلى الصيغة قطعا، وهذا هو الظاهر كما قال الإمام. مسألة: لو ختن شخص ولده، واتخذ دعوة فأهدى إليه، ولم يسم أصحاب الهدايا الابن ولا الأب، ففي هذه المسألة وجهان:

أحدهما: أنها للابن وصححه العبادي، وصاحب الكافي، وجزم به القاضي حسين. والثاني: أنها للأب، وهو أصح وأقوى. الركن الثالث: الشيء الموهوب وضابطه أن كل ما جاز بيعه من الأعيان جاز هبته؛ لأنه عقد يقصد به ملك العين، فملك به ما يملك بالبيع، وما جاز بيعه جاز هبة جزء منه، ولو شائعا لما روى عمر بن سلمة الضمري عن رجل من بهز: "أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مكة حتى إذا كانوا في بطن وادي الروحاء، وجد الناس حمار وحش عقيرا، فذكروه للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "اتركوه حتى يأتي صاحبه"، فأتى البهزي وكان صاحبه، فقال: يا رسول الله شأنكم هذا الحمار، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه في الرفاق، وهم محرمون، قال: ثم مررنا حتى إذا كنا بالبادية إذا نحن بظبي حاقف1 في ظل فيه سهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا أن يقف عنده حتى يخبر الناس عنه. وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حيث قتادة قال: "كنت يوما جالسا مع رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في منزل في طريق مكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمامنا، والقوم محرمون وأنا غير محرم عام الحديبية، فأبصروا حمارا وحشيا، وأنا مشغول أخصف2 نعلي فلم يؤذنوني، وأحبوا ألو أني أبصرته، فالتفت فأبصرته، فقمت إلى الغرس فأسرجته، ثم ركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت: لهم ناولوني السوط والرمح، فقالوا: لا والله لا نعينك عليه، فغضبت فنزلت فأخذتهما، ثم ركبت فشددت على الحمار، فعقرته ثم جئت به

_ 1 حقف الشيء حقوفا اعوج فهو حاقف، وظبي حاقف معناه انحنى وتثنى من جرح وغيره "المصباح المنير ج1 ص174". 2 خصف الرجل نعله أصلحه، وهو كرقع الثوب "المصباح ج1 ص205".

وقد مات فوقعوا فيه يأكلونه، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم، فرحنا وخبأت العضد1 معي، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه عن ذلك، فقال: $"هل معكم منه شيء"؟ فقلت: نعم. فناولته العضد فأكلها، وهو محرم. وفي رواية لمسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال لهم: هل أشار إليه إنسان أوامره بشيء؟ قالوا: لا. قال فكلوا. وهذا الخبر صريح في صحة هبة المشاع، وبه قال مالك والشافعي، وأحمد سواء في ذلك ما أمكن قسمته أو لم يمكن. حكم تعليق الهبة على شرط: لما كانت الهبة تمليكا لمعين في الحياة لم يجز تعليقها على شرط كالبيع، فإن علقها على شرط كان وعدا بالهبة كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة، إن رجعت هديتنا إلى النجاشي فهي لك. فإن كان هذا الشرط منافيا لمقتضى العقد، فلا يصح هذا الشرط كأن يقول: وهبتك هذا الشيء بشرط أن لا تهبه ولا تبيعه، أو بشرط أن تهبه أو تبيعه أو بشرط أن تهب فلانا شيئا، ففي كل هذه الصور الشرط غير الصحيح، لكن هل تصح الهبة مع الشروط الفاسدة فيها وجهان. أما إذا وقت الهبة، فقال: وهبتك هذا العقار سنة، ثم يعود إلي فلا تصح الهبة مع التأقيت؛ لأن الهبة عقد تمليك فلا يقبل التأقيت. حالات التمليك: التمليك إما أن يكون للعين أو للمنفعة: أو لهما معا، وإما أن يكون

_ 1 العضد ما بين المرفق إلى الكتف من الذراع "المصباح المنير ج2 ص494".

بعوض أو بغير عوض. فإن كان التمليك للعين بغير عوض من غير احتياج كان هبة، فإن كان عن احتياج فصدقة، وإذا كان للمنفعة بغير عوض فعارية أو بعوض فإجارة، وإن كان للعين بعوض فبيع. وما لا يجوز بيعه كمجهول ومغصوب لمن لا يقدر على انتزاعه، وضال فلا يجوز هبته بجامع أن كلا منهما تمليك في الحياة، ولا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم: زن وأرجح؛ لأن الرجحان المجهول وقع تابعا لمعلوم، والأوجه من هذا أن نقول: إن المراد من قوله صلى الله عليه وسلم أرجح تحقق الحق حذرا من التساهل فيه. وقد اختلفوا في ترك الدين المستقر الذي في الذمة للمدين هل يعد هبة، أو يعد إبراء فحسب، فذهب الرملي إلى أنه لا يعد هبة في الأصح؛ لأنه غير مقدور على تسليمه، فإن قلنا بصحة بيعه لغير من هو عليه قياسا على بيع الموصوف، فإنه لا يوهب والدين مثله بل أولى. والفرق بين صحة بيعه، وعدم صحة هبته بأن بيع ما في الذمة التزام تحصيل المبيع في مقابلة الثمن الذي استحقه، والالتزام فيه صحيح بخلاف هبته، فإنه لا يتضمن الالتزام إذ لا مقابل فيها، فكانت بالوعد أشبه، فلم تصح ويرد على ما لا يجوز بيعه من المجهول، ومع هذا تجوز هبته أمور: 1- إذا خلط متاعه بمتاع غيره، فوهب أحدهما نصيبه لصاحبه، فيصح مع جهل قدره وصفته للضرورة. 2- لو قال شخص لآخر: أنت في حل مما تأخذ، أو تعطي أو تأكل من مالي فله الأكل فقط؛ لأنه إباحة وهي صحيحة بالمجهول بخلاف الأخذ والإعطاء قال العبادي: وأفتى القفال في: أبحث لك من ثمار بستاني ما شئت بأنه

إباحة، وظاهره أن له أخذ ما شاء، وما قاله العبادي أحوط. وفي الأنوار، لو قال: أبحث لك ما في داري، أو ما في كرمي من العنب فله أكله دون بيعه وحمله، وإطعامه لغيره، وتقتصر الإباحة على الموجود في الدار أو الكرم، ولو قال: أبحث لك جميع ما في داري أكلا واستعمالا، ولم يعلم المبيح لم تحصل الإباحة. ومتى قلنا: لا تصح الهبة في غير المقدور عليه، أو فيما لا يمكن تسليمه كالجمل الشارد والمغصوب لغير غاصبه ممن لا يقدر على أخذه، فإن عدم الصحة مردها إلى أن الهبة عقد يفتقر إلى القبض، فلم يصح في ذلك كالبيع. متى يثبت الملك في الهبة؟ الهبة لا تملك إلا بالقبض لما روت عائشة رضي الله عنها، "أن أباها نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: يا بنية. إن أحب الناس غنى بعدي لأنت، وإن أعز الناس علي فقرا بعدي لأنت، وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا من مالي، ووددت لو أنك جذذته، وحزته وإنما هو اليوم مال الوارث"1. قال الشافعي رضي الله عنه في الأم: بلغنا عن أبي بكر رضي الله عنه أنه نحل عائشة أم المؤمنين جذاذ عشرين وسقا من نخل له بالعالية، فلما حضره الموت قال لعائشة: إنك لم تكوني قبضتيه، وإنما هو مال الوارث، فصار بين الورثة؛ لأنها لم تكن قبضته. ويشترط في صحة الهبة أن يكون القبض بإذن الواهب؛ لأن الواهب بالخيار قبل القبض إن شاء أقبضها وأمضاها، وإن شاء رجع فيها ومنعها، فإن قبضها الموهوب له قبل إذنه لم تتم الهبة، ولم يصح القبض؛ ولأن

_ 1 رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن عورة عن عائشة، ورواه البيهقي من طريق ابن وهب، عن مالك وغيره عن ابن شهاب.. "التلخيص الحبير ج3 ص72، 73".

التسليم غير مستحق على الواهب، فلا يصح التسليم إلا بإذنه. ويتفرع على ذلك أنه لو أذن الواهب في القبض، ثم رجع من الإذن أو رجع في الهبة صح رجوعه؛ لأن ذلك ليس بقبض، وإن رجع بعد القبض لم ينفع رجوعه؛ لأن الهبة قد تمت. حكم الهبة بعد موت أحد المتعاقدين: إذا مات الواهب أو الموهوب له قبل القبض، فإن قلنا بأنه عقد يؤول إلى اللزوم لم يبطل بموت أحد المتعاقدين، بل يقوم ورثته مقامه في القبض أو الفسخ، وإن قلنا بأنه من العقود الجائزة، فإنه يبطل بموت أحد المتعاقدين كالوكالة والشركة، وهو قول الإمام أحمد حيث قال في رواية أبي طالب، وأبي الحارث في رجل أهدى هدية، فلم تصل إليه حتى مات، فإنها تعود إلى صاحبها ما لم يقبضها. ودليل على ما روي بإسناده عن أم كلثوم بنت سلمة قالت: "لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "إني قد أهديت إلى النجاشي حلة، وأواقي مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة علي، فإن ردت فهي لك قالت: فكان ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردت عليه هديته، فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية من مسك، وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة" 1. والقول بانفساخ الهبة بالموت ضعيف، ووجه ضعفه أن المدار ليس على القبول بل على الأيلولة واللزوم، وهو جار في الهدية والصدقة، وأيضا يجري الخلاف في الجنون والإغماء، ولولي المجنون قبضها قبل الإفاقة. وفرق الحنابلة بين المكيل والموزون وغيرهما، فقالوا: لا يصح التمليك في المكيل والموزون بغير قبض أما في غيرهما، فيصح

_ 1 رواه الحاكم "التلخيص الحبير ج3 ص73".

لما روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: "الهبة جائزة إذا كانت معلومة قبضت أو لم تقبض". وقال بعض الأصحاب: إنما يستغنى عن القبض إذا تحقق الإيجاب والقبول، واستقر العقد بينهما؛ ولأنه عقد تمليك فافتقر إلى الإيجاب والقبول كالنكاح. ويتفرع على هذا القول: أنه إذا حدث نماء في الهبة قبل القبض، فهو للموهوب له، والمنصوص أن النماء لا يكون للموهوب له إلا بعد القبض. حكم الرجوع في الهبة: الرجوع في الهبة بعد القبض حرام إلا هبة الوالد لولده، وكذا سائر الأصول على المشهور، وهذا يشمل الهدية والصدقة على الراجح، ولا يتعين الفور بل له ذلك متى شاء. والدليل على هذا ما رواه ابن عباس، وطاووس مرفوعا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل للرجل أن يعطي العطية، فيرجع فيها إلا الولد فيما يعطي ولده، ومثل الرجل يعطي العطية، ثم يرجع فيها كمثل الكلب يرجع في قيئه" 1، هذا مبالغة في الزجر، فيدل على التحريم. ومما لا رجوع فيه مطلقا الصدقة يراد بها ثواب الآخرة، قال ابن حجر: اتفقوا على أنه لا يجوز الرجوع في الصدقة بعد القبض. وإنما جاز للوالد الرجوع في هبته لوالده لانتفاء التهمة فيه، فإن ما طبع عليه الوالد من إيثاره لولده على نفسه يقضي بأنه إنما يرجع لحاجة، أو مصلحة.

_ 1 رواه الشافعي عن مسلم بن خالد مرسلًا، وقال: لو اتصل لقلت به ورواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث طاوس عن ابن عباس، وهو عنده من رواية عمرو بن شعيب، عن طاوس، وقد اختلف عليه في "التلخيص ج3 ص72".

ولكن لا يرجع من غير عذر، فإن رجع من غير عذر كره له الرجوع، وإن كان بعذر لم يكره كأن يكون الولد عاقا، أو يصرفه في معصية. وذهب الأوزاعي إلى عدم كراهته إن احتاج الأب لنفقة أو دين، بل ندبه حيث كان الولد غير محتاج. ووجوبه في العاصي إن غلب على الظن تعينه طريقا إلى كله عن المعصية، ويمتنع الرجوع في صدقة واجبة كنذر وزكاة، وكفارة وكذا في لحم أضحية تطوع؛ لأنه إنما يرجع ليستقل بالتصرف، وهو ممتنع هنا. وكذا له الرجوع لسائر الأصول، وإن علوا على المشهور. وإنما يملك الوالد الرجوع إذا كانت الهبة باقية في ملك الابن، فإن خرجت عن ملكه لم يكن له الرجوع فيها؛ لأنه إبطال لغير ملك الابن، فإن عادت إليه بسبب جديد كبيع، أو هبة أو إرث، أو وصية لم يملك الرجوع أيضا؛ لأن ملكها لم يستفده من جهة أبيه، أما إن عادت بفسخ أو إقالة فله الرجوع على أحد الوجهين. ويتفرع على ذلك أنه إذا تداعى رجلان نسب مولود، ووهب له كل منهما مالا، فليس لواحد منهما أن يرجع في هبته؛ لأن نسبه لم يثبت لواحد منها. أما إذا لحق بأحدهما، ففيه وجهان. أحدهما: يجوز الرجوع في الهبة لثبوت البنوة. الثاني: لا يجوز؛ لأنه لم يكن ثبت له الرجوع في حالة العقد. هل الهبة تقتضي العوض أو لا تقتضيه؟ الهبة إما أن تكون لمن هو دونه في المنزلة الاجتماعية، أو تكون لمثله أو

لأعلى منه رتبة، فإن كانت لمن هو دونه لم يلزم الموهوب له أن يثيبه بعوض؛ لأن القصد من هبته الصلة والرحمة، فلم تجب المكافأة فيه بعوض كالصدقة. وإن كانت الهبة لمن هو مثله لم يلزمه أن يثيبه أيضا؛ لأن القصد من هبته اكتساب المحبة، وتأكيد الصداقة. وإن وهب لمن هو أعلى منه، ففيه قولان: الأول ما قاله الشافعي في المذهب القديم: يلزمه أن يثيبه عليه بعوض؛ لأن العرف في هبة الأدنى للأعلى أن يلتمس به العوض، فيصير ذلك كالمشروط. والثاني ما قاله الشافعي في المذهب الجديد: أنه لا يجب العوض؛ لأن الهبة تمليك بغير عوض، فلا يوجب المكافأة بعوض كهبة النظير للنظير. فإن قلنا: لا يجب فشرط في الهبة ثوابا معلوما ففيه قولان: أحدهما: يصح هذا الشرط ويلزم العوض؛ لأنه تمليك مال بمال فجاز كالبيع، فعلى هذا يكون كبيع بلفظ الهبة في الربا والخيار، وجميع أحكامه. والثاني: أنه شرط باطل؛ لأنه عقد لا يقتضي العوض، فبطل شرط العوض كالرهن، فعلى هذا حكمه حكم البيع الفاسد في جميع أحكامه. فإن شرط فيه ثوابا مجهولا، بطل قولا واحد لا؛ لأنه شرط العوض بل؛ لأنه شرط عوضا مجهولا. وإن قلنا: إنه يجب العوض ففي مقدار هذا العوض ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يلزمه أن يعطيه إلى أن يرضى لما روى ابن عباس رضي الله عنهما: أن أعرابيا وهب للنبي صلى الله عليه وسلم هبة فأثابه عليها، وقال: "أرضيت؟ قال: لا.

فزاده، وقال: أرضيت؟ فقال: نعم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد هممت أن لا أتهب إلا من قرشي، أو أنصاري أو ثقفي" 1. والثاني: يلزمه قدر قيمته؛ لأنه عقد يوجب العوض، فإذا لم يكن مسمى، وجب عوض المثل كالنكاح. والثالث: يلزمه ما جرت العادة في ثواب مثله؛ لأن العوض وجب بالعرف، فوجب مقداره في العرف، فإن قلنا: إنه يجب العوض فلم يعطه ثبت له الرجوع، فإن تلفت العين رجع بقيمتها؛ لأن كل عين ثبت له الرجوع بها إذا تلفت، وجب الرجوع إلى بدلها كالبيع. ومن الأصحاب من قال: لا يثبت له الرجوع إذا تلفت العين؛ لأن حق الواهب في العين، وقد فاتت. الثواب على الهدية: أما الهدية فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقبلها، ويثيب عليها، فقد روى أحمد، والبخاري وأبو داود والترمذي من حيث عائشة رضي الله عنهما قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ويثيب عليها"، أي يعطي المهدي بدلها، والمراد بالثواب المجازاة، وأقله ما يساوي قيمة الهدية: ووجه الدلالة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى بدل الهدية، وواظب على ذلك. وهذا دليل على وجوب المكافأة على الهدية إذا أطلق المهدي، وكانت ممن مثله يطلب الثواب كالفقير للغني بخلاف ما يهب الأعلى للأدنى. وأيضا: فإن مما يدل على وجوب رد الهدية أن الذي أهدى يقصد أن يأخذ أكثر مما أهدى، فلا أقل من أن يعوض بنظير هديته، وهذا ما قاله

_ 1 رواه أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس، ولأبي داود والنسائي، عن أبي هريرة وكذا رواه الحاكم، وصححه على شرط مسلم "التلخيص الحبير ج3 ص72".

الشافعي في القديم. ويجاب بأن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب، ولو وقعت المواهبة كما تقرر في الأصول. وذهب الشافعي في الجديد إلى القول بأن الهدية للثواب باطلة؛ لأنها بيع مجهول لما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، قال: "أهدى رجل من فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ناقة من إبله، فعوضه منها بعض العوض فتسخطه، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: إن رجالا من العرب يهدي أحدهم الهدية، فأعوضه عنها بقدر ما عندي، فيظل يسخط علي". ويحكى أن بعض أهل العلم والفضل كان يمتنع من قبول الهدية من أحد أصلا لا من صديق، ولا من قريب ولا غيرهما، وذلك لفساد النيات في هذا الزمان. وخلاصة القول أن الهبة إذا كانت مقيدة بنفس الثواب، فلا رجوع فيها، ومتى وهب مطلقا، فلا ثواب إن وهب لدونه، وكذا لأعلى منه في الأظهر كما لو أعاره داره إلحاقا للأعيان بالمنافع؛ ولأن العادة ليس لها قوة الشرط في المعاوضات. والثاني: يجب الثواب إذا وهب مطلقا لإطراد العادة بذلك، وكذلك لا ثواب له، وإن نواه إن وهب لنظير على المذهب؛ لأن القصد من مثله الصلة، وتأكيد الصداقة، ومثل ذلك الهدية والصدقة، وإن اختار الأذرعي دليلا؛ لأن العادة متى اقتضت الثواب وجب الثواب، أو وجب رد الهدية. والأوجه كما بحثه الأذرعي أيضا أن التردد إذا لم يظهر حالة الإهداء قرينة حالية، أو لفظية دالة على طلب الثواب، وإلا وجب هو أو الرد لا محالة.

بعض التفريعات: 1- لو قال شخص لآخر: وهبتك ببدل، فقال: بل بلا بدل، صدق المتهب بيمينه؛ لأن الأصل عدم البدل، ولو أهدى له شيئا على أن يقضي له حاجة، فلم يفعل لزمه رده إن بقي وإلا فبدله. 2- ولو وهب له بشرط أن يدفع عوضا معلوما بأن قال: وهبتك هذا على أن تثيبني كذا فقبل، فالأظهر صحة العقد نظرا للمعنى إذ هو معاوضة مال معلوم بمال معلوم، فصح كما لو قال: بعتك. والثاني: بطلانه نظرًا إلى اللفظ لتناقضه، فإن لفظ الهبة يقتضي التبرع، ومن ثم يكون بيعا على الصحيح، فيجري فيه عقب العقد أحكامه كالخيار والشفعة وعدم توقف الملك على القبض، وقيل: يكون هبة نظرا للفظ، فلا تلزم قبل القبض، أو بشرط ثواب مجهول، فالمذهب بطلانه لتعذر صحته بيعًا لجهالة العوض، وتعذر صحته هبة لذكر الثواب على الأصح؛ لأنها لا تقتضيه. 3- ولو وهب شيئا في ظرف، فإن لم تجر العادة برده، فهو هدية أو هبة تحكيما للعرف المطرد، وذلك كقوصرة تمر وهي الوعاء الذي يكنز فيه من نحو خوص، ولا يسمى بذلك إلا وهو فيه، وإلا فزنبيل، وكعلبة حلوى. وكتاب الرسالة يملكه المكتوب إليه إن لم تدل قرينة على عوده، وهذا ما قاله المتولي، وهو أوجه من قول غيره إنه باق على ملك الكاتب، ويملك المكتوب له الانتفاع به على وجه الإباحة. فإذا اعتيد رده أو اضطربت العادة، فلا يكون هدية بل أمانة في يده كالوديعة، ويحرم استعماله؛ لأنه انتفاع بملك غيره بغير إذنه إلا في أكل

الهدية منه إن اقتضته العادة عملا بها، ويكون عارية حينئذ، ويسن رد الوعاء وهذا في المأكول. أما غيره فيختلف رد ظرفه باختلاف عادة النواحي، فيتجه في كل ناحية بعرفهم، وفي كل قوم عرفهم باختلاف طبقاتهم. 4- ولو ختن ولده، وحملت له هدايا ملكها الأب، وقضية ذلك أن ما جرت به عادة بعض أهل البلاد من وضع صينية بين يدي صاحب الفرح ليضع الناس فيها دراهم، فيرد ذلك تبعا للعرف الجاري. وكان من عادة أهل الأسكندرية أن يكتب الناس قائمة بأسماء الواهبين، ومقدار ما دفعوه في الصينية، وهم حريصون على رد ما يأخذونه في أفراح من أعطوهم، وربما زاد بعضهم على ما أخذ. وفي القاهرة تفشو هذه العادة إلا أن الحرص على الرد أقل من الأسكندرية. قال الرملي: ثم ما يعطيه الناس للمزين في الأفراح، والمناسبات يجري في ذلك التفصيل، فإن قصد المزين وحده أو مع نظرائه المعاونين له عمل بالقصد، وإن أطلق كان ملكا لصاحب الفرح يعطيه لما يشاء؛ لأنه مع الإطلاق ينصرف في الغالب إليه، فيكون هو المقصود، وهذا هو عرف الشرع، فيقدم على العرف المخالف له بخلاف ما لا عرف للشرع فيه، فيحكم بالعادة فيه. العمري والرقبي. العمري بضم العين وسكون الميم في القصر، قال في الفتح: وحكي بضم الميم مع ضم أوله، وحكي فتح أوله مع السكون، وهي مأخوذة من العمر، وهو الحياة.

سميت بذلك؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يعطي الرجل الدار، ويقول له: أعمرتك إياها أي أبحتها لك مدة عمرك وحياتك، فقيل لها: عمري لذلك. والرقبي بوزنها مأخوذة من المراقبة؛ لأن كلا منها يرقب الآخر متى يموت لترجع إليه، وكذا ورثته يقومون مقامه، وهذا أصلها في اللغة. والعمري هو أن يقول: أعمرتك هذه الدار حياتك، أو جعلتها لك عمرك، وفيها ثلاث أحوال. الأول: أن يقول: أعمرتك هذا الدار ويطلق، فهذا تصريح بأنها للموهوب له. وحكم هذه الدار حكم المؤبدة لا ترجع إلى الواهب؛ لأن المطلقة حكمها حكم المؤبدة، وهذا أحد قولي الشافعي رضي الله عنه، وهو موافق لرأي الجمهور. والقول الثاني: أنها تكون عارية ترجع بعد الموت إلى المالك لما روي عن سفيان عن ابن جريج، عن عطاء عن جابر مرفوعا: "لا تعمروا ولا ترقبوا، فمن أعمر شيئا أو أرقبه، فهو سبيل الميراث" 1. وفي رواية أحمد والنسائي عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا، أو أرقبة فهو له حياته ... " 2. الحال الثاني: أن يقول: هي لك ما عشت، فإذا مت رجعت إلي، فهذه عارية مؤقتة ترجع إلى المعير عند موت المعمر، وبه قال أكثر العلماء، ورجحه جماعة من الأصحاب. والأصح عند أكثرهم لا ترجع إلا الواهب؛ لأن هذا الشرط يعتبر شرطا فاسدا، فيلغو.

_ 1رواه الشافعي، وأبو داود والنسائي، وصححه أبو الفتح القشيري على شروطهما "التلخيص الحبير ج3 ص71". 2 حديث جابر: إنما العمري التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: "هي لك ولعقبك من بعدك"، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها.

واحتجوا بحديث جابر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على الأنصاري الذي أعطى أمه الحديقة حياتها أن لا ترجع إليه، بل تكون لورثتها. ونصه: "إن رجلا من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخيل حياتها، فماتت فجاء إخوته فقالوا: نحن فيه شرع سواء، قال: فأبى، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقسمها بينهم ميراثًا" رواه أحمد. الحال الثالث: أن يقول: هي لك ولعقبك من بعدك، أو يأتي بلفظ يشعر بالتأبيد، فهذه حكمها حكم الهبة، وروي عن مالك أنه يكون حكمها حكم الوقف إذا انقرض المعمر، وعقبه رجعت إلى الواهب، والأحاديث القاضية بأنها ملك الموهوب ولعقبة ترد عليه. والخلاصة أنه إذا شرط في العمري أنها للمعمر وعقبه، فهذا تأكيد لحكمها، وتكون للمعمر وورثته، وهذا قول جميع القائلين بها، إذا أطلقها فهي للمعمر ورثته أيضا؛ لأنها تمليك للرقبة، فأشبهت الهبة، فإن شرط أن تكون له بعد موته، فقال الشافعي في القديم: يصح العقد والشرط، ومتى مات المعمر رجعت إلى المعمر، وقال في الجديد: بأنها تكون للمعمر. إذا ثبت هذا فإن العمري تصح في العقار وغيره من الحيوانات، والثياب؛ لأنها نوع من هبة، فصحت في ذلك كسائر الهبات. ومن ثم إذا قال: سكنى هذا الدار لك عمرك، أو اسكنها عمرك أو نحو ذلك، فليس ذلك بعقد لازم؛ لأنها في التحقيق هبة المنافع، والمنافع إنما تستوفي بمضي الزمان شيئا فشيئا، فلا تلزم إلا في قدر ما قبضه منها واستوفاه بالسكنى، وللمسكن الرجوع متى شاء، وأنه إذا مات بطلت، والله أعلم.

خاتمة. وبعد، فلا يسعنا إلا أن نقدم الشكر لله جزيلا، والثناء جليلا على ما أفاض به علينا ويسره لنا في إنجاز هذا العمل الذي نرجو أن يكون خالصا لوجهه الكريم، فله الحمد والمنة، والفضل العظيم. هذا ولقد بسطنا القول في فقه المعاملات في البيع والربا، والقراض واللقطة وإحياء الموات، والجعالةوالهبة، وحاولنا قدر المستطاع بيان أهم أحكامها مقرونة بأدلتها من الكتاب والسنة، والإجماع لتكون مورد عذبللشاربين، ومن يريد أن ينفقه في الدين.. وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الفهارس

الفهارس ... الفهرس: الصفحة الموضوع 5 مدخل لدراسة الفقه على مذهب الإمام الشافعي 8 الفصل الأول: في البيع 11 أركان البيع 12 الركن الأول 14 الصريح والكناية 15 شروط الصيغة 18 انعقاد البيع بالمعاطاة 19 حكم المأخوذ بالمعاطاة 21 الركن الثاني: العاقد 21 شروط العاقد 22 الشرط الثاني 23 الشرط الثالث 25 استخدام الكافر للمسلم 26 آراء الفقهاء في بيع المصاحف 27 الشرط الرابع: عصمة المشتري إذا كان المبيع سلاحا 28 شروط العقود عليه 38 بيع الغائب 40 وقت الرؤية 41 رؤية البعض ورؤية الكل 43 النهي الذي يفسد البيع 45 حبل الحبلة: 46 ومما نهى عنه بيع الملاقيح والمضامين 46 النهي عن بيع الملامسة والمنابذة 47 النهي عن بيع الحصار 48 ولا يصح بيع العربون 49 النهي عن بيعتين في بيعة:

الفهرس الصفحة الموضوع 56 النهي الذي لا يفسد البيع 58 السوم على سوم غيره 62 حكم البيع 63 تفريق الصفقة 67 حكم بيع الأدخنة 68 حكم بيع آلات اللهو 69 الفصل الثاني: الربا: تعريفه وأقسامه 71 حكم ربا الفضل 73 حكمه تحريم ربا الفضل 74 حكم رب النسيئة 75 شبهات مردودة 77 الفرق بين الربا والبيع 78 المبحث الأول: الأشياء التي يكون فيها محرما 81 المبحث الثاني: بيع الحبوب بأجناسها وبغير أجناسها 83 بيع الدقيق بدقيق مثله: 83 المبحث الثالث: بيع الفاكهة بجنسها وما يتعلق به 85 حكم بيع العجوة 85 المبحث الرابع: بيع اللحم بجنسه وما يتعلق به 87 المبحث الخامس: بيع المائعات بأجناسها وبيعها بما تخرد عنه 88 اعتراض وجوابه 89 المبحث السادس: الصرف 90 الفصل الثالث: في القراض وما يتعلق به من أحكام 91 حكم القراض 92 أركان عقد القراض 95 حكم تصرف العامل الثاني 102 حكم اختلاف العاقدين

الفهرس الصفحة الموضوع 107 الفصل الرابع: اللقطة والأحكام المتعلقة بها 139 المبحث الثاني: اللقيط وأحكامه 139 حكم التقاط المنبوذ 155 الفصل الخامس: أحكام الجعالة 155 حكم الجعالة 167 الفصل السادس: إحياء الموات 208 الفصل السابع: الوقف وما يتعلق به من أحكام 229 أحكام الوقف اللفظية 231 الصفة والاستثناء في الوقف 232 أحكام الوقف المعنوية 235 النظر على الوقف وشروط الناظر ووظيفته 240 الفصل الثامن: الهبة وأحكامها 263 خاتمة

§1/1