فقه السيرة للغزالي

محمد الغزالي

المقدمة

المقدّمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هناك عظماء كثيرون يقرأ الناس قصص حياتهم ليتملّوا من عناصر النبوغ فيها، وليتابعوا بإعجاب مسالكها في الحياة، ومواقفها بإزاء ما يعرض لها من مشكلات وصعاب، وقد تكون هذه القراءة المجرّدة هي الرباط الفذّ بين أولئك العظماء ومن يتعرّف عليهم، وربما تطوّرت فأصبحت دراسة عميقة أو صلة إنسانية وثيقة. وأبادر إلى القول: بأني لم أكتب عن صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وفي نفسي هذا المعنى المحدود. فأنا رجل مسلم عن علم، أعرف لماذا امنت بالله رب العالمين، ولماذا صدقت بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولماذا اتبعت الكتاب الذي جاء به، بل لماذا أدعو الاخرين إلى الإيمان بما سكنت إليه نفسي من هذا كله. وقد سبق لي أن نشرت في السيرة فصولا منوعة، وهل ابتعدت عنها في شيء مما كتبته؟ إنّ الرسائل التي عالجت فيها بحوث العقيدة والخلق والمعاملة والحكم؛ اعتمدت على سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في كيانها وسياقها، ولذلك يصحّ أن أقول: إن هذا الكتاب ليس صلة محدثة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، ولا جملة من الدلائل على صدقه، ولا لمحات تكشّفت للمؤلف عن عبقريته وسناء دعوته.. فإنّ ذلك قد استفاض به الكلام في مواضع أخرى؛ ولكني توفّرت على إخراج هذا الكتاب وأمامي غاية معينة أرجو أن أكون بلغتها. إن المسلمين الان يعرفون عن السيرة قشورا خفيفة، لا تحرّك القلوب، ولا تستثير الهمم، وهم يعظّمون النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته عن تقليد موروث ومعرفة قليلة،

ويكتفون من هذا التعظيم بإجلال اللسان، أو بما قلّت مؤنته من عمل. ومعرفة السيرة على هذا النحو التافه تساوي الجهل بها. إنه من الظلم للحقيقة الكبيرة أن تتحول إلى أسطورة خارقة، ومن الظلم لفترة نابضة بالحياة والقوة أن تعرض في أكفان الموتى. إن حياة محمد صلى الله عليه وسلم ليست- بالنسبة للمسلم- مسلاة شخص فارغ، أو دراسة ناقد محايد، كلا كلا؛ إنها مصدر الأسوة الحسنة التي يقتفيها، ومنبع الشريعة العظيمة التي يدين بها، فأيّ حيف في عرض هذه السيرة، وأي خلط في سرد أحداثها إساءة بالغة إلى حقيقة الإيمان نفسه. وقد بذلت وسعي في إعطاء القارئ صورة صادقة عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتهدت في إبراز الحكم والتفاسير لما يقع من حوادث، ثم تركت للحقائق المجلوّة أن تدع اثارها في النفوس دون افتعال أو احتيال. وقد استفدت من السير التي كتبها القدامى والمحدثون استفادة حسنة. إن المؤرّخين المحدثين يميلون إلى التعليل والموازنة، وربط الحوادث المختلفة في سياق متماسك، وذاك أحسن ما في طريقتهم. والمؤرّخون القدامى يعتمدون على حشد الاثار، وتمحيص الأسانيد، وتسجيل ما دقّ وجلّ من الوقائع والشؤون؛ وفي هذه المحفوظات الكثيرة نفائس ذات خطر لو أحسن الاستشهاد بها وإيرادها في مواضعها. ولعلّي هنا مزجت بين الطريقتين على نحو جديد، يجمع بين ما في كلتيهما من خير، فجعلت من تفاصيل السيرة موضوعا متماسكا يشدّ أجزاءه روح واحد، ثم وزعت النصوص والمرويات الاخرى بحيث تتسق مع واحدة الموضوع، وتعين على إتقان صورته وإكمال حقيقته. وقصدت من وراء ذلك أن تكون السيرة شيئا ينمّي الإيمان، ويزكّي الخلق، ويلهب الكفاح، ويغري باعتناق الحقّ والوفاء له، ويضم ثروة طائلة من الأمثلة الرائعة لهذا كله. إنني أكتب في السيرة كما يكتب جنديّ عن قائده، أو تابع عن سيده، أو تلميذ عن أستاذه، ولست- كما قلت- مؤرّخا محايدا مبتوت الصلة بمن يكتب عنه.

ثم إنني أكتب وأمام عينيّ مناظر قاتمة من تأخّر المسلمين العاطفيّ والفكريّ؛ فلا عجب إذا قصصت وقائع السيرة بأسلوب يومئ من قرب أو من بعد إلى حاضرنا المؤسف، كلما أوردت قصة جعلتها تحمل في طياتها شحنة من صدق العاطفة، وسلامة الفكر، وجلال العمل، كي أعالج هذا التأخر المثير. ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس قصة تتلى في ميلاده كما يفعل الناس الان، ولا التنويه به يكون في الصلوات المخترعة التي قد تضمّ إلى ألفاظ الأذان، ولا إكنان حبّه يكون بتأليف مدائح له أو صياغة نعوت مستغربة يتلوها العاشقون، ويتأوّهون أو لا يتأوهون!. فرباط المسلم برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أقوى وأعمق من هذه الروابط الملفقة المكذوبة على الدين، وما جنح المسلمون إلى هذه التعابير- في الإبانة عن تعلقهم بنبيّهم- إلا يوم أن تركوا اللباب المليء وأعياهم حمله، فاكتفوا بالمظاهر والأشكال؛ ولما كانت هذه المظاهر والأشكال محدودة في الإسلام، فقد افتنّوا في اختلاق صور أخرى، ولا عليهم؛ فهي لن تكلفهم جهدا ينكصون عنه، إن الجهد الذي يتطلّب العزمات هو الاستمساك باللباب المهجور، والعودة إلى جوهر الدين ذاته، فبدلا من الاستماع إلى قصة المولد يتلوها صوت رخيم، ينهض المرء إلى تقويم نفسه، وإصلاح شأنه، حتى يكون قريبا من سنن محمد صلى الله عليه وسلم في معاشه ومعاده، وحربه وسلمه، وعلمه وعمله، وعاداته وعباداته.... إنّ المسلم الذي لا يعيش الرسول صلى الله عليه وسلم في ضميره، ولا تتبعه بصيرته في عمله وتفكيره لا يغني عنه أبدا أن يحرك لسانه بألف صلاة في اليوم والليلة. وأريد هنا أن أنبّه إلى ضرورة الفصل بين الجد والهزل في حياتنا، ولا بأس أن نجعل للهو واللعب وقتا لا يعدوه، وللجد والإنتاج وقتا لا يقصر عنه. فإذا أراد أحد أن يغنّي أو يستمع إلى غناء فليفعل، أما تحويل الإسلام نفسه إلى غناء؛ فيصبح القران ألحانا عذبة، وتصبح السيرة قصائد وتواشيح، فهذا ما لا مساغ له، وما لا يقبله إلا الصغار الغافلون. وقد تمّ هذا التحوّل على حساب الإسلام، فانسحب الدين من ميدان السلوك والتوجيه إلى ميدان اللهو واللعب، وحقّ فيمن فعلوا ذلك قول الله عز وجلّ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [الأنعام: 70] .

وتحوّل القران إلى تلاوة منغومة فحسب، يستمع إليها عشّاق الطّرب، هو الذي جعل اليهود والنصارى يذيعونه في الافاق، وهم واثقون أنه لن يحيي موتى. وتحوّل السيرة إلى قصص وقصائد غزل، وصلوات مبهمة؛ جعل الاستماع إليها كذلك ضربا من الخلل النفسي، أو الشذوذ الناشئ- في نظري- من اضطراب الغرائز، وفساد المجتمع. وخير من هذا كله أن يستمع طلاب الغناء إلى اللهو المجرد، والألحان الطروب، فإذا ابتغوا العمل الجادّ المهيب طلبوه من مصادره المصفّاة: قرانا يأمر وينهى ليفعل أمره ويترك نهيه، وسنّة تفصّل وتوضح ليسار في هديها وينتفع من حكمتها، وسيرة تنفح روادها بالأدب الزكيّ والقواعد الحصيفة، والسياسة الراشدة. وذلك هو الإسلام. بدأت أكتب هذه الصحائف وأنا في المدينة المنورة، في الجوار الطيّب الذي سعدت به حينا، وأعانني على إتمام دراسات جيدة في السنّة المطهرة والسيرة العطرة. ولله المنّة على ما أولى من نعمه، ولعلّه- جلّ شأنه- يجعلني ممن يحبونه ويحبون رسوله، ولما كنت لا أحسن القول والعمل إلا في نطاق الصراحة، فلا بدّ أن أشير إلى أن البون بعيد بين المسلمين ورسولهم صلى الله عليه وسلم، مهما أكنّوا له من حبّ، وأدمنوا من صلوات. لقد رأيتهم يزورون الروضة مشوقين متلهّفين، ويعودون إلى موطنهم ليجدوا من يغبطهم على حظّهم، ويودّ لو ظفر بما نالوا. أمّا أنّ محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة؛ فهذا ما لا يماري فيه مؤمن، وما يغيض حبه إلا من قلب منافق جحود. ولكن أن تكون هذه العاطفة مظهر الولاء له، فهذا ما يحتاج إلى تهذيب وبيان. إن يثرب من ناحية العمران العام أقل منها يوم كانت موطنا للأوس والخزرج في الجاهلية الأولى، وما يزرع اليوم من أرضها عشر ما كان يزرعه العرب قديما، وجمهور السكان من رواسب المواسم المزدحمة بالحجيج

والزوار، وهم يؤثرون الجوار العاطل على العودة للعمل في بلادهم، ويسمّون ذلك هجرة! فهل ذلك إسلام أو حبّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟!. أذكر أنه قابلني نفر من أهل المغرب يزعمون أنهم قدموا إلى المدينة فرارا بدينهم من الفتن، فأفهمتهم أنهم فارّون من الزحف، لأن إخوانهم يقاتلون الفرنسيين الغزاة، وهم مجرمون بتركهم المجاهدين يحملون واحدهم عبء هذا الكفاح «1» . إنّ هذا الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير مفهوم، وهذه الهجرة لمدينته غير متقبلة، وصلة نبي الله بعباد الله أشدّ وأحكم من أن تأخذ هذه السبل الشاردة الملتوية. إنّ أعداء الإسلام تمكّنوا- في غفلة أهله- أن يصدعوا بناءه، ويجعلوه أنقاضا؛ فكيف يترك تراث محمد صلى الله عليه وسلم نهبا للعوادي؟! وكيف يمهّد للجاهلية الأولى أن تعود؟! وكيف يقع هذا التبدل الخطير في سكون؟! بل في مظهر من الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟!. فليفقه المسلمون سيرة رسولهم العظيم. وهيهات أن يتم ذلك إلا بالفقه في الرسالة نفسها، والإدراك الحقّ لحياة صاحبها، والالتزام الدقيق لما جاء به. ألا ما أرخص الحبّ إذا كان كلاما، وما أغلاه عند ما يكون قدوة وذماما!. إنني أعتذر عن تقصيري في إيفاء هذا الموضوع حقّه؛ فشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبير، والإبانة عن سيرته تحتاج إلى نفس أرقّ، وذكاء أنفذ. وحسبي أن ذاك جهدي. اللهم صلّ على محمد، وعلى ال محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى ال إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى ال محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى ال إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد. محمّد الغزالي

_ (1) صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب وفرنسة تحتلّ أقطار المغرب الثلاثة وغيرها من ديار الإسلام. قلت: صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب في السبعينيات من القرن الرابع عشر الهجري، الموافق للخمسينيات من القرن العشرين الميلادي. (ن) .

حول أحاديث هذا الكتاب

حول أحاديث هذا الكتاب سرّني أن تخرج هذه الطبعة الجديدة بعد أن راجعها الأستاذ المحدّث العلّامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وقد أثبتّ فيها كل التعليقات التي ارتاها على ما نقلت في هذه السيرة من اثار نبوية. وأرجو أن أكون معينا على إبراز الحقيقة العلمية، وضبط الوقائع التاريخية، بإثبات هذا النقد، وشكره لمن تطوّع به. إنّ افة المؤرّخين للسيرة الشريفة ولغيرها من أحداث الناس، وأطوار الزمان؛ قلة التثبّت، وضعف التمحيص. وقد وقع كثير من الأقدمين والمحدثين في هذا الخطأ، على تفاوت بينهم في دقة المأخذ، واحدّة الانتباه. وعند ما شرعت أكتب سيرة لسيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ اجتهدت أن ألزم المنهج السويّ، وأن أعتمد على المصادر المحترمة. وأظنني بلغت في هذا المجال مبلغا حسنا، واستجمعت من الأخبار ما تطمئنّ إليه نفس العالم البصير. لكن القارئ سيرى في تعقيبات الشيخ ناصر الدين ما يبعث ريبته في هذا الظن. وهنا أراني مكلفا بشرح المنهج الذي سرت عليه: قد يختلف علماء السنّة في تصحيح حديث أو تضعيفه، وقد يرى الشيخ ناصر- بعد تمحيصه للأسانيد- أنّ الحديث ضعيف، وللرجل من رسوخ قدمه في السنّة ما يعطيه هذا الحق، أو قد يكون الحديث ضعيفا عند جمهرة المحدّثين، لكني أنا قد أنظر لمتن الحديث فأجد معناه متفقا كل الاتفاق مع اية من كتاب الله، أو أثر من سنّة صحيحة، فلا أرى حرجا من روايته، ولا أخشى ضيرا من كتابته؛ إذ هو لم يأت بجديد في ميدان الأحكام والفضائل، ولم يزد أن يكون شرحا لما تقرّر من قبل في الأصول المتيقّنة.

خذ مثلا أول حديث حكم الأستاذ بتضعيفه: «أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبّوني بحبّ الله» . قد يرى الأستاذ المحدّث أن تحسين الترمذي وتصحيح الحاكم لا تعويل عليهما في قبول هذا الحديث، وله ذلك. بيد أني لم أجد في المطالبة بحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ما يحملني على التوقّف فيه، ولذلك أثبتّه وأنا مطمئنّ. وفي الوقت الذي فسحت فيه مكانا لهذا الأثر- على ما به- صددت عن إثبات رواية البخاري ومسلم مثلا للطريقة التي تمّت بها غزوة بني المصطلق. فإن رواية الصحيحين تشعر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم باغت القوم وهم غارّون «1» ما عرضت عليهم دعوة الإسلام، ولا بدا من جانبهم نكوص، ولا عرف من أحوالهم ما يقلق!. وقتال يبدؤه المسلمون على هذا النحو مستنكر في منطق الإسلام، مستبعد في سيرة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن ثمّ رفضت الاقتناع بأن الحرب قامت وانتهت على هذا النحو. وسكنت نفسي إلى السياق الذي رواه ابن جرير.. فهو على ضعفه- الذي كشفه الأستاذ الشيخ ناصر- يتفق مع قواعد الإسلام المتيقّنة، أنه لا عدوان إلا على الظالمين. أما الغارّون الوادعون فإنّ اجتياحهم لا مساغ له. وحديث الصحيحين في هذا لا موضع له إلا أن يكون وصفا لمرحلة ثانية من القتال، بأن يكون أخذ القوم عن غرّة جاء بعد ما وقعت الخصومة بينهم وبين المسلمين، وأمسى كلا الفريقين يبيّت للاخر، ويستعدّ للنيل منه. فانتهز المسلمون فرصة من عدوهم- والحرب خدعة- وأمكنهم الغلب عليهم وهم غارّون. وفي هذه الحالة لا بدّ من التمهيد لرواية البخاري ومسلم، بكلام يشبه ما نقله ابن جرير ووهّنه فيه الشيخ ناصر.

_ (1) أخذهم على غرة.

ولست بدعا في تلك الخطة التي اخترتها؛ فإن أغلب العلماء جرى على مثلها في مواجهة المرويات الضعيفة والصحيحة على سواء. وقرّروا أن الحديث الضعيف يعمل به ما دام ملتئما مع الأصول العامة، والقواعد الجامعة. وهذه الأصول والقواعد مستفادة- بداهة- من الكتاب والسنّة. وعلى ضوء هذا النظر المنصف حكيت استشارة رسول الله عليه الصلاة والسلام للحباب في موقعة بدر- وإن وهّن المحدثون سندها- لأنها تدور في نطاق الفضائل التي أمر بها الله ورسوله، وليس في سوقها ما يحذر قط. ذاك بالنسبة إلى الأحاديث الضعاف. أما الصّحاح فإن في تفاوت دلالتها مجالا رحبا للترجيح والرد، كما يعلم الأستاذ المحدّث. وما من إمام فقيه إلا وردّ بعض ما صحّ، إيثارا لما ظهر أنه أصحّ. ومعاذ الله أن نشغب على السنّة، فهي الأصل الثاني للإسلام يقينا. بيد أنني إذا تتبّعت السنن، فعرفت- أنها في جملتها- تتفق مع القران الكريم؛ في أنه لا حرب إلا بعد دعوة وإعذار، وتعريف مشرق، لا تبقى معه شائبة غموض، فكيف أقبل ما يوهم غير هذا؟!. الله جلّ شأنه يأمر نبيّه في قرانه الكريم: قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) [الأنبياء] . بعد هذا الإعلام الذي يستوي في الإحاطة به الداعون والمدعوّون، وبعد أن سار النبيّ عليه الصلاة والسلام في مغازيه، وسار الخلفاء في معاركهم على هذا النحو من توضيح للدعوة، وإتاحة الفرصة للناس كي يقبلوا أو يرفضوا. بعد هذا لا أرى أن يلزمني أحد بقبول ما رواه الشيخان عن عبد الله بن عون، قال: كتبت إلى نافع رحمه الله أسأله عن الدعاء قبل القتال، فكتب إليّ: إنما كان ذلك في أول الإسلام! وقد أغار عليه الصلاة والسلام على بني المصطلق وهم غارّون، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية. قال: حدّثني به عبد الله بن عمر، وكان في ذلك الجيش.

وكما تجاوزت هذا الحديث، تجاوزت عن مثله أن الرسول صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه، وأعلمهم بالفتن وأصحابها إلى قيام الساعة. فقد صحّ من كتاب الله وسنّة رسوله أنه- عليه الصلاة والسلام- لا يعلم الغيوب على هذا النحو المفصّل الشامل العجيب. اثرت هذا المنهج في كتابة السيرة، فقبلت الأثر الذي يستقيم متنه مع ما صحّ من قواعد وأحكام، وإن وهى سنده. وأعرضت عن أحاديث أخرى توصف بالصحة؛ لأنّها- في فهمي لدين الله، وسياسة الدعوة- لم تنسجم مع السياق العام. ولا أرى مكانا لبسط وجهة نظري في أمور كثيرة خالفت فيها الأستاذ المحدّث. ولكنّي أرى المكان متسعا لتسجيل تعقيباته كلّها على ما أوردت من نصوص، فإني عظيم الحفاوة بهذا الاستبحار العلمي، وهو يمثل وجهة نظر محترمة في تمحيص القضايا الدينية. وأعتقد أن من حق القارئ عليّ أن يعرف رأي أحد المحققين المتشدّدين في المرويات التي أحصيتها هنا، سواء خالفته أم وافقته. وشكر الله له جهده في المحافظة على تراث النبوّة، وهدانا جميعا سواء السبيل.

رسالة وإمام (مدخل إلى السيرة النبوية)

1 رسالة وإمام (مدخل إلى السيرة النبوية)

الوثنية تسود الحضارة القديمة

الوثنيّة تسود الحضارة القديمة إنّ تاريخ الحياة مؤسف!!. منذ هبط ادم وبنوه في الأرض، ثم بعد أن شبّ بهم الزمن، واطّرد العمران، وتشعّبت الحضارات، وأدبرت أجيال، وأقبلت على أنقاضها أخرى، منذ ذلك الحين السحيق والناس أخلاط متنافرون، لا تستقيم بهم السّبل يوما إلا شردت أياما، ولا يشيمون «1» بوارق الحق حينا إلا أطبقت عليهم ظلمات الباطل أحيانا. ولو تقصّينا تاريخ البشر- على ضوء الإيمان بالله والاستعداد للقائه- لوجدنا العالم أشبه بمخمور تربو فترات سكره على فترات صحوه، أو بمحموم غاب عنه في سورة الألم- رشده؛ فهو يهذي ولا يدري. وقد كان في تجارب الناس مع أنفسهم ودنياهم مزدجر؛ يزع عن الشر، ويردّ إلى الخير، بيد أن الهوى الغالب لا تجدي معه معرفة. كم سلخت الدنيا من عمرها قبل أن يظهر محمد صلى الله عليه وسلم؟!. لقد مرّت عليها قرون طوال أفادت فيها علما كثيرا، ووعت تجارب خطيرة، ونمت اداب وفنون، وشاعت فلسفات وأفكار. ومع ذلك فقد غلب الطيش، واستحكم الزّيغ، وسقطت أمم شتى دون المكانة المنشودة لها. فماذا كان مصير الحضارات في مصر واليونان، وفي الهند والصين، وفي فارس وروما؟ لا أقصد مصيرها من ناحية السياسة والحكم، بل من ناحية العاطفة والعقل. إن الوثنية الوضيعة اغتالتها؛ وفرضت عليها السقوط في هذه الوهدة «2»

_ (1) يشيمون: يرون. (ن) . (2) الوهدة: الهوة في الأرض. (ن) .

الزرية، فأمسى الإنسان الذي استخلفه الله ليكون ملكا في السموات والأرض، أمسى عبدا مسخرا لأدنى شيء في السموات والأرض. وماذا بعد أن تقدّس العجول والأبقار، وتعبد الأخشاب والأحجار، وتطبق شعوب بأسرها على هذه الخرافة؟!. إن الوثنية هوان يأتي من داخل النفس لا من خارج الحياة، فكما يفرض المحزون كابته على ما حوله، وكما يتخيل المرعوب الأجسام القائمة أشباحا جاثمة؛ كذلك يفرض المرء الممسوخ صغار نفسه وغباء عقله على البيئة التي يحيا فيها، فيؤلّه من جمادها وحيوانها ما يشاء. ويوم ينفسح القلب الضيّق، ويشرق الفكر الخامد، وتثوب إلى الإنسان معانيه الرفيعة، فإن هذه الانعكاسات الوثنية تنزاح من تلقاء نفسها. ومن ثمّ كان العمل الأول للدين داخل الإنسان نفسه، فلو ذبحت العجول المقدّسة، ونكّست الأصنام المرموقة، وبقيت النفس على ظلامها القديم، ما أجدى ذلك شيئا في حرب الوثنية! فيبحث العبّاد المفجوعون عن الهة أخرى غير ما فقدوا، يوفضون إليها من جديد! وما أكثر الوثنيين في الدنيا وإن لم يلتفّوا حول نصب، وما أسرع الناس إلى تجاهل الوجود الحق، وربّه الأعلى، والجري وراء وهم جديد!!. والخرافة لا تأخذ مجراها في الحياة وهي تعلن عن باطلها، أو تكشف عن هرائها؛ كلّا، إنها تداري مجونها بثوب الجد، وتستعير من الحق لبوسه المقبول، وقد تأخذ بعض مقدماته وبعض نتائجه، ثم تتزين بعد ذلك للمخدوعين. وكذلك فعلت الوثنية، لقد أغارت على الدين الصحيح، وحقائقه الناصعة، لا كما يغير النحل على أزهار الربيع، بل كما تغير الديدان وأسراب الجراد على الحدائق الغنّاء، فتحيلها قاعا بلقعا. وهي إذا أفسدت ما تركت، لم تصلح ما أخذت، ولئن كان ما أخذته خيرا قبل أن تتصل به، لقد أصبح شرّا بعد ما تحوّل في جوفها إلى سموم. وهذا هو السرّ في أنّ الوثنية التي لا تعرف الله تزعم أنها بأصنامها تتقرّب إليه وتبغي مرضاته.

جزء من الحق، في أجزاء من الباطل، في سياق يصرف الناس اخر الأمر عن الله، ويبعدهم عن ساحته. وأعظم نكبة أصابت الأديان إثر عدوان الوثنيات عليها، ما أصاب شريعة عيسى ابن مريم عليه السّلام من تبدّل مروّع، ردّ نهارها ليلا، وسلامها ويلا، وجعل الواحدة شركة، وانتكس بالإنسان، فعلق همته بالقرابين، وفكره بالألغاز المعمّاة. إن خرافة الثالوث والفداء تجددت حياتها بعد ما أفلحت الوثنية مرتين: الأولى في إقحامها إقحاما على النصرانية الجديدة، وبذلك انتصرت الوثنية مرتين: الأولى في تدعيم نفسها، والاخرى في تضليل غيرها. فلما جاء القرن السادس لميلاد عيسى عليه السّلام؛ كانت منارات الهدى قد انطفأت في مشارق الأرض ومغاربها؛ وكان الشيطان يذرع الأقطار الفيح، فيرى ما غرس من أشواك قد نما وامتد. فالمجوسية في فارس طليعة عنيدة للشرك الفاشي في الهند والصين، وبلاد العرب وسائر المجاهل. والنصرانية التي تناوئ هذه الجبهة قبست أبرز ماثرها من خرافات الهنود والمصريين القدامى، فهي تجعل لله صاحبة وولدا؛ وتغري أتباعها في (رومة) ومصر والقسطنطينية بلون من الإشراك أرقى مما ألف عبّاد النيران وعبّاد الأوثان، شرك مشوب بتوحيد يحارب شركا محضا. ولكن ما قيمة هذه النقائض التي جمعت النصرانية بين شتاتها؟: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) [يونس] . ويظهر أنّ اصرة الشرك بين المجوسية والديانات السماوية المشوّهة هي التي جعلت هذه الأحزاب إلبا على المسلمين يوم بدؤوا يقيمون جماعتهم على عبادة الواحد الحق، وقد نبّأ الله هذه الأمة بأن الأذى سوف ينصبّ عليها من عبدة الأصنام، ومن أهل الكتاب في ان، ووصاها أن تتذرع بالصبر أمام هذا التحامل. لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ

قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) [ال عمران] . والظلام الذي ران على الأفئدة والعقول في غيبة أنوار التوحيد، طوى في سواده أيضا تقاليد الجماعة وأنظمة الحكم، فكانت الأرض مذأبة يسودها الفتك والاغتيال، ويفقد فيها الضّعاف نعمة الأمان والسكينة. وأيّ خير يرجى في أحضان وثنية كفرت بالعقل، ونسيت الله، ولانت في أيدي الدجّالين؟!. لا غرابة إذا رفع الله عنها يده كما جاء في الحديث: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم؛ إلا بقايا من أهل الكتاب ... » «1» . وهذه البقايا هي التي ظلّت مستعصية على الشرك برغم طوفان الكفر الذي طمّ البقاع والتلاع. لقد عمّت الدنيا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وعلى اله وسلم حيرة وبؤس، ناءت بهما الكواهل: أتيت والنّاس فوضى لا تمرّ بهم ... إلّا على صنم قد هام في صنم فعاهل الرّوم يطغى في رعيّته ... وعاهل الفرس من كبر أصمّ عمي «2» حتّى تأذّن الله ليحسمنّ هذه الاثار، وليسوقنّ هدايته الكبرى إلى الأنام، فأرسل إلى الأمة محمدا عليه الصلاة والسلام.

_ (1) من حديث طويل رواه مسلم في صحيحه. (2) الأبيات لشوقي من قصيدته المشهورة (نهج البردة) . (ن) .

طبيعة الرسالة الخاتمة

طبيعة الرّسالة الخاتمة وتمتاز بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بأنها عامة ودائمة. والله عز وجلّ كان يستطيع أن يبعث في كلّ قرية نذيرا، ولكلّ عصر مرشدا، وإذا كانت القرى لا تستغني عن النّذر، والأعصار لا تستغني عن المرشدين، فلم استعيض عن ذلك كله برجل فذ؟. الحقّ أن هذا الاكتفاء أشبه بالإيجاز الذي يحصّل المعنى الكثير في اللفظ اليسير؛ وبعثة محمد عليه الصلاة والسلام كانت عوضا كاملا عن إرسال جيش من النبيين يتوزّع على الأعصار والأمصار، بل إنها سدّت مسدّ إرسال ملك كريم إلى كل إنسان تدبّ على الأرض قدماه، ما بقيت على الأرض حياة، وما تطلعت عين إلى الهدى والنجاة، ولكن كيف ذلك؟!. في المزالق المتلفة قد يقول لك ناصح أمين: أغمض عينيك واتبعني، أو لا تسلني عن شيء يستثيرك، وربما تكون السلامة في طاعته؛ فأنت تمشي وراءه حتى تبلغ مأمنك، إنه في هذه الحال رائدك المعين، الذي يفكر لك، وينظر لك، ويأخذ بيدك؛ فإن هلك هلكت معه. أمّا لو جاءك من أول الأمر رجل رشيد فرسم خطّ السير، وحذّرك مواطن الخطر، وشرح لك في إفاضة ما يطوي لك المراحل ويهوّن المتاعب، وسار معك قليلا ليدرّبك على العمل بما علمت؛ فأنت في هذه الحال رائد نفسك، تستطيع الاستغناء بتفكيرك وبصرك عن غيرك. إن الوضع الأوّل أليق بالأطفال والسّذّج، وأما الوضع الأخير فهو المفروض عند معاملة الرجال وأولي الرأي من الناس. والله عز وجلّ عند ما بعث محمدا عليه الصلاة والسلام لهداية العالم، ضمّن رسالته الأصول التي تفتّق للألباب منافذ المعرفة بما كان ويكون. والقران الذي أنزله على قلبه هو كتاب من ربّ العالمين إلى كلّ حيّ، ليوجهه إلى الخير ويلهمه الرشد.

لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام إماما لقبيل من الناس صلحوا بصلاحه، فلما انتهى ذهبوا معه في خبر كان، بل كان قوة من قوى الخير، لها في عالم المعاني ما لاكتشاف البخار والكهرباء في عالم المادة. وإن بعثته لتمثّل مرحلة من مراحل التطور في الوجود الإنساني، كان البشر قبلها في وصاية رعاتهم أشبه بطفل محجور عليه، ثم شبّ الطفل عن الطوق، ورشّح لاحتمال الأعباء واحده، وجاء الخطاب الإلهي إليه- عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم- يشرح له كيف يعيش في الأرض، وكيف يعود إلى السماء. فإذا بقي محمد صلى الله عليه وسلم أو ذهب فلن ينقص ذلك من جوهر رسالته. إن رسالته تفتيح الأعين والاذان، وتجلية البصائر والأذهان، وذلك مودع في تراثه الضخم من كتاب وسنّة. إنه لم يبعث ليجمع حول اسمه أناسا قلّوا أو كثروا؛ إنما بعث صلة بين الخلق والحق الذي يصحّ به وجودهم، والنور الذي يبصرون به غايتهم. فمن عرف في حياته الحق، وكان له نور يمشي به في الناس فقد عرف محمدا صلى الله عليه وسلم، واستظلّ بلوائه، وإن لم ير شبحه أو يعش معه: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) [النساء] . فإذا رأيت بعض الناس يتناسى دروس الأستاذ، ويتشبّث بثيابه وهو حيّ، أو يتعلق برفاته وهو ميت، فاعلم أنه طفل غرير، ليس أهلا لأن يخاطب بتعاليم الرسالة بله أن يستقيم على نهجها. في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة رأيت حشدا من الناس يتلمّس جوار الرّوضة الشريفة، ويودّ أن يقضي العمر بجانبها. ولو خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم حيّا على هؤلاء؛ لأنكر مراهم وكره جوارهم. إن رثاثة هيئتهم، وقلّة فقههم، وفراغ أيديهم، وضياع أوقاتهم، وطول غفلتهم، تجعل علاقتهم بنبيّ الإسلام أوهى من خيط العنكبوت. قلت لهم: ما تفيدون من جوار النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما يفيد هو نفسه منكم؟ إنّ الذين يفقهون رسالته ويحيونها من وراء الرمال والبحار، أعرف بحقيقة

محمد صلى الله عليه وسلم منكم. إنّ القرابة الروحية والعقلية هي الرباط الوحيد بين محمد عليه الصلاة والسلام ومن يمتّون إليه. فأنّى للأرواح المريضة والعقول الكليلة أن تتصل بمن جاء ليودع في الأرواح والعقول عافية الدين والدنيا؟!. أهذا الجوار اية حبّ ووسيلة مغفرة؟!. إنك لن تحبّ لله إلا إذا عرفت أولا الله الذي تحبّ من أجله!! فالترتيب الطبيعيّ أن تعرف قبل كل شيء: من ربّك؟ وما دينك؟ فإذا عرفت ذلك- بعقل نظيف- وزنت- بقلب شاكر- جميل من بلّغك عن الله، وتحمّل العنت من أجلك، وذلك معنى الأثر: «أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبّوني بحبّ الله..» «1» ، ومعنى الاية: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) [ال عمران] . ثم إن نبيّ الإسلام لم ينصّب نفسه (بابا) يهب المغفرة للبشر، ويمنح البركات، إنه لم يفعل ذلك يوما ما، لأنه لم يشتغل بالدجل قط. إنه يقول لك: تعال معي؛ أو اذهب مع غيرك من الناس، لنقف جميعا في ساحة ربّ العالمين نناجيه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) [الفاتحة] .

_ (1) هذا حديث ضعيف الإسناد، أخرجه الترمذي: 4/ 343- 344، بشرح التحفة؛ والحاكم: 3/ 150؛ وأبو نعيم في حلية الأولياء: 3/ 211؛ والخطيب في تاريخه: 4/ 160، من طريق هشام بن يوسف، عن عبد الله بن سليمان النوفلي، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس مرفوعا به، وقال الترمذي: «حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه» ، وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» ووافقه الذهبي. وهذا من تساهلهم جميعا لا سيما الذهبي، فقد أورد النوفلي هذا في (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) ، وقال فيه: «فيه جهالة. ما حدث عنه سوى هشام بن يوسف» ثم ساق له هذا الحديث، فأنّى له الصحة؟! وقد تفرّد به هذا المجهول، ولم يوثقه أحد، ولذا قال فيه الحافظ ابن حجر في (التقريب) : إنه (مقبول) ، يعني: عند المتابعة، فأنّى المتابع له؟! ولذلك فقد أصاب ابن الجوزي حين قال: «هو غير صحيح» كما نقله المناوي في (فيض القدير) ، وتعقبه بما لا طائل تحته!. نقول: ومع نقد الأستاذ لهذا الحديث فنحن نقبله؛ لأنّ معناه يوافق الاية، ولأنه في الفضائل.

فإذا رضي عنك هذا النبيّ- دعا الله لك، وإذا رضيت أنت عنه، ووقر في نفسك جلال عمله وكبير فضله؛ فادع الله كذلك له! فإنك تشارك بذلك الملائكة الذين يعرفون قدره ويستزيدون أجره: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) [الأحزاب] . وليس عمل محمد عليه الصلاة والسلام أن يجرّك بحبل إلى الجنة، وإنما عمله أن يقذف في ضميرك البصر الذي ترى به الحق، ووسيلته إلى ذلك كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ميسّر للذكر، محفوظ من الزيغ، وذاك سرّ الخلود في رسالته. فلننظر كيف عالج الرسول عليه الصلاة والسلام البيئة التي ظهر فيها على ضوء هذه الطبيعة المفروضة في رسالته، ولننظر قبل ذلك إلى أحوال هذه البيئة نفسها.

العرب حين البعثة

العرب حين البعثة كان أهل مكة ضعاف التفكير، أقوياء الشهوات. إذ لا صلة بين نضج الفكر ونضح الغريزة، ولا بين تخلّف الجماعات من الناحية العقلية، وتخلّفها من ناحية الأهواء والمطامع. إن عرام الشهوات الذي نسمع عنه في (باريس) و (هوليود) لا يزيد كثيرا عمّا وعته القرون الخالية من مفاسد الإنسان على ظهر الأرض. وتقدّم الحضارة لا أثر له من هذه الناحية إلا في زيادة وسائل الإغراء فحسب. أمّا الشهوات نفسها فهي هي من قبل الطوفان ومن بعده: الأثرة، والجشع، والرياء، والتهارش، والحقد، وغير ذلك من ذميم الخصال، ملأت الدنيا من قديم، وإن تغيرت الأزياء التي تظهر بها على مر العصور. وإنّ الإنسان ليرى في القرية التافهة، وفي القبيلة الساذجة من التنافس على المال والظهور ما يراه في أرقى البيئات، وكثيرا من الناس تفوتهم أنصبة رائعة من العلم والفضل، ولكن لا تفوتهم أنصبة كبيرة جدا من الاحتيال والتطلّع والدّسّ، وقد تستغرب إذ ترى الشخص لا يحسن فهم مسألة قريبة من أنفه؛ ومع ذلك فهو يفهم جيدا ألا يكون فلان أفضل منه!!. من عهد نوح عليه السّلام والحياة تجمع أمثلة شتى لهذا الغباء وهذا العناد؛ فعند ما دعي قوم نوح عليه السّلام إلى الإيمان بالله واحده، كانت إجابتهم لنوح عليه السّلام لا تهتم بموضوع الدعوة قدر اهتمامها بشخص الداعي، وما سيحرزه من فضل بهذه الرسالة!: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ... [المؤمنون: 24] . ما أكثر منافذ الهوى إلى الأعمال والأحكام، وما أعقد مخلّفات الهوى في الأخلاق والأفكار، والسير والسياسات!!.

وقد كانت (مكة) على عهد البعثة تموج بحركة عاصفة من الشهوات والماثم، وكان الرجال الذين يحيون فيها أمثلة قوية لنضج الأهواء، وشلل الأفكار، أو نمائها في ظلّ الهوى الجامح ولخدمته واحده. كفر بالله واليوم الاخر، إقبال على نعيم الدنيا، وإغراق في التشبّع منه، رغبة عميقة في السيادة والعلو ونفاذ الكلمة، عصبيات طائشة تسالم وتحارب من أجل ذلك، تقاليد متوارثة توجه نشاط الفرد المادي والأدبي داخل هذا النطاق المحدود. من الخطأ أن تحسب (مكة) يومئذ قرية منقطعة عن العمران في صحراء موحشة، لا تحس من الدنيا إلا الضرورات التي تمسك عليها الرمق، كلّا، إنها شبعت حتى بطرت، وتنازعت الكبرياء حتى تطاحنت عليها، وكثر فيها من تغلغل الإلحاد في أغوار نفسه حتى عزّ إخراجه منه؛ فهم بين عم عن الصواب، أو جاحد له، وفي هذا المجتمع الذي لم ينل حظا يذكر من الحضارة العقلية بلغ غرور الفرد مداه، ووجد من يسابق فرعون في عتوّه وطغواه. قال عمرو بن هشام «1» - معلّلا كفره برسالة محمد صلى الله عليه وسلم-: زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف، حتّى إذا صرنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبيّ يوحى إليه! والله لا نؤمن به، ولا نتّبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه!!. زعموا أن الوليد بن المغيرة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كانت النبوّة حقّا لكنت أولى بها منك! لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا!. وهذه السفاهات العاتية، لم تنفرد مكة بها، فما كان كفر عبد الله بن أبي في المدينة إلا لمثل هذه الأسباب. ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم- بعد الهجرة- يعود سعد بن عبادة في مرض أصابه قبل وقعة بدر، فركب حمارا وأردف وراءه أسامة بن زيد، وسارا حتى مرّا بمجلس فيه عبد الله بن أبي، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المسلمين عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدّابّة خمّر ابن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبّروا علينا، فسلم رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم وقف ونزل، فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القران..

_ (1) هو أبو جهل.

فقال عبد الله: أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقّا فلا تؤذنا به في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه. فقال ابن رواحة: بلى يا رسول الله! فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحبّ ذلك، فاستبّ المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل الرسول عليه الصلاة والسلام يخفّضهم حتى سكتوا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابّته وسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألم تسمع ما قال أبو حباب- يعني ابن أبيّ-؟» قال سعد: وما قال؟ قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «قال كذا وكذا» ... فقال سعد: اعف عنه واصفح يا رسول الله، فو الذي أنزل عليك الكتاب! لقد جاءك الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اجتمع أهل هذه البحرة- يعني المدينة- على أن يتوّجوه، ويعصّبوه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك، شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت «1» . إن ابن أبيّ غصّ بالإسلام؛ لأنه راه خطرا على زعامته، وكذلك فعل أبو جهل من قبل، ولئن كان هؤلاء قد ازورّوا عن الحق بعد ما تبينوه، إنّ هناك ألوفا غيرهم لا يدركون قيلا ولا يهتدون سبيلا، كرهوا الإسلام وحاربوه. ووسط هذه الجهالات البسيطة أو المركبة، والعداوات المقصودة أو المضللة، وسط نماذج لا حصر لها من الضلال والغافلة، أخذ الإسلام رويدا رويدا ينشر أشعته، فأخرج أمة من الظلام إلى النور؛ بل جعلها مصباحا وهّاجا يضيء ويهدي، والدروس التي أحدثت هذا التحول الخطير والتي رفعت شعوبا وقبائل من السفوح إلى القمم ليست دواء موقوتا أو مخصوصا، بل هي علاج أصيل لطبيعة الإنسان إذا التاثت، وستظل ما بقي الإنسان وبقيت الحياة تكرم الإنسان وتجدد الحياة.

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 8/ 185- 186، بشرح فتح الباري؛ ومسلم: 5/ 182 183؛ وأحمد: 5/ 203، من حديث أسامة بن زيد.

رسول معلم

رسول معلم كانت الإشاعات قد فاضت بين أهل الكتاب الأولين أن نبيّا قد اقترب ظهوره، ولهذه الإشاعات ما يبرّرها، فإن عهد الناس بالرسل أن يتتابعوا فلا تطول فترة الانقطاع بين أحدهم والاخر، وكثيرا ما تعاصر المرسلون فجمعتهم أقطار واحدة أو متجاورة، ولكن الأمر تغيّر بعد عيسى عليه السّلام فكادت المئة السادسة تتم بعد بعثته، ولما يأت نبي جديد. فلما اكتظّت الأرض بالمفاسد والضلالات زاد التطلّع إلى مقدم هذا المصلح المرتقب، وكان هناك رجال ممن ينكرون الجهالة السائدة يستشرفون للمنصب الجليل، ويتمنّون لو اختيروا له؛ منهم: (أمية بن أبي الصلت) الذي حفل شعره بالتحدّث عن الله وما يجب له من محامد، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: «كاد أمية أن يسلم» «1» . وعن عمرو بن الشريد، عن أبيه: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: «هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟» قلت: نعم؟ قال: «هيه» ، فأنشدته بيتا، فقال: «هيه» ، حتى أنشدته مئة بيت «2» . غير أن القدر الأعلى تجاوز أولئك المتطلّعين من شعراء وناثرين، وألقى بالأمانة الكبرى على رجل لم يتطلّع إليها ولم يفكر فيها: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) [القصص] . إن الاصطفاء للرسالات العظيمة ليس بالأمل فيها، ولكن بالطاقة عليها. وكم في الحياة من طامحين لا يملكون إلا الجرأة على الأمل، وكم من راسخين يطويهم الصّمت، حتى إذا كلّفوا أتوا بالعجب العجاب.

_ (1) حديث صحيح، أخرجه مسلم: 7/ 49؛ وابن ماجه: 2/ 410، من حديث أبي هريرة، وأخرجاه أيضا من حديث ابن الشريد، وهو تمام الحديث الاتي بعده. (2) حديث صحيح، أخرجه مسلم وابن ماجه.

ولا يعلم أقدار النفوس إلا بارئها، والذي يريد هداية العالم أجمع يختار للغاية العظيمة أنفسا عظيمة، وقد كان العرب في جاهليتهم يرمقون محمدا صلى الله عليه وسلم بالإجلال، ويحترمون في سيرته شارات الرجولة الكاملة، إلّا أنهم لم يتخيّلوا قط أن مستقبل الحياة قد ارتبط بمستقبله، وأن الحكمة ستتفجّر من ذلك الفم الطّهور، فتطوي السهوب والجدوب، وتثب الوهاد والنّجاد. إنهم لا يرون منه إلا ما يراه الطفل من سطح البحر، تشغله الصفحة الهادئة عن الغور البعيد. كان اصطفاء الله لمحمد صلى الله عليه وسلم مفاجأة لم تلبث روعتها أن تكشفت عنه، ثم ثبت الكاهل الجلد لما ألقي عليه، ومضى على النهج مسددا مؤيدا. ومكث الوحي ينزل ثلاثا وعشرين سنة كانت الايات تنزل خلالها حسب الحوادث والأحوال، وهذه الفترة الطويلة الحافلة هي فترة تعلّم وتعليم. الله عز وجلّ يعلّم رسوله، والرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى هذه المعارف الحية، فيديرها في نفسه حتى يحيلها جزا من كيانه، ثم يعلّمها الناس ويأخذهم بها أخذا. ونزول القران على هذه الوتيرة مقصود للشارع الحكيم، فإن الزمن جزء من علاج النفوس، وسياسة الأمم، وتقرير الأحكام. واتساق القران في أغراضه ومعانيه- على طول المدة التي استغرقها في تجمّعه- يعتبر من وجوه إعجازه؛ فإن خواتيمه- بعد ربع قرن- جاءت مطابقة مساوقة لفواتحه، يصدق بعضها بعضا ويكمله، كأنما أرسلت في نفس واحد. وقد تساءل العرب: لم نزل القران كذلك؟ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) [الفرقان] . إنّ القران يشرح حقيقة الدين عند الله وتاريخ هذه الحقيقة، وهو- في دعوته العامة- يبسط الشبهات العارضة ويفنّدها، ويسوق أدلته وهو على بينة من اراء خصومه، ويتتبع أقصى ما يثار ضدّه، ثم يكرّ عليه بالحجة فيمحقه، وقد بدأ القران بين قوم تشعّب الكفر في نفوسهم، ومرنت على الجدل ألسنتهم، وكأنّ القدر تخيّر هذه البيئة لتكون مجتمعا يمثل اخر ما يحيك في القلوب من ريبة، واخر ما يبذله الباطل من التحدي، فإذا أفلح الإسلام في

تبديد هذه الريب، وتذليل هذه العوائق، فهو على ما دونها أقدر. والأسئلة التي توجّه للنبي صلى الله عليه وسلم، أو التي ينتظر أن توجّه إليه في مختلف العقائد والأحكام؛ وجدت إجابتها الشافية في القران، باعتبار أن السؤال لا يمثل حاجة صاحبه واحدها، بل حاجات الناس على مر الأيام. وفي هذا الجوّ المليء بالتساؤل استفهاما أو استنكارا؛ كان الإلهام يلاحقّ الرسول صلى الله عليه وسلم: قل كذا، قل كذا. وما أكثر الايات التي صدرت بهذا الأمر إجابة لسؤال ورد أو سؤال مفترض. وأنت تحسّ- إذ تقرأ هذه الأجوبة المستفيضة- فيضا من اليقين ينساب إلى قلبك، كأنها حسمت وساوس عرضت لك أو في الإمكان أن تعرض، والرسالة الخالدة هي التي تصلها بضمائر الناس هذه الأواصر المتينة. إنّ القران رسول حي، تسائله فيجاوبك، وتستمع إليه فيقنعك. انظر: كيف يؤسس عقيدة البعث والجزاء، وينوّه بشمول الإرادة والقدرة في ثنايا إجابة على سؤال موجّه، وكيف صيغت المعاني في أخذ وردّ، واعتراض ودفع، كأنها حوار سيّال، يتعدّى أصحابه حتى يجمع الناس إلى اخر الدهر: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) [يس] . إنّ هذا مثل للاستدلال القائم على النّظر الصائب، لا يختص به زمان دون زمان، ولا مكان دون مكان، فهو خطاب للعقل العام في البشر أجمعين، وهو بيان لحكمة نزول القران منجّما إذ جاءت الايات للرسول صلى الله عليه وسلم: قل كذا، ردّا على ما عرض له من أسئلة في أثناء تطوافه هنا وهناك يدعو إلى الله، ثم ثبت السؤال والجواب ليكون منهما علم ينفع الناس اخر الدهر.

وقد استوقف الأمر ب قالَ نظر العلماء؛ إنه تعليم من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ وتعليم من الرسول للناس، وقد سيقت بعد هذا الأمر الأقوال التي تضمّنت ما شاء الله من النصائح والعظات والأحكام. فعند ما أحبّ المشركون- على عادتهم- أن ينقلوا ميدان الجدل من حقيقة الدين، إلى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه؛ نزلت الايات: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) [الملك] . فانظر كيف يستخلص اللّباب وسط غبار الجدل! ما يجديكم تنقّص الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه؟ فكّروا في أنفسكم كيف أهلكتها الخرافات، وشردت بها عن الجادة! إنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه تفكير في أنفسهم وحظوظها، إنهم دعاة للرحمن، آمنوا به، وتوكّلوا عليه فإن شئتم فالطريق إلى الرحمن ميسرة. وليس من الضروري أن يقع سؤال ما لتأتي الإجابة عليه من لدن الله قالَ!! فربما يجيء السياق على هذا النحو ابتداء عند عرض أصول الدعوة وادابها، وتكون الغاية منه التعريف بالإسلام ونبيّه تعريفا مشبعا مقنعا، يستأصل الرّيب قبل أن تولد: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام] . فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم هنا يتضمّن أمرا إلى كل حيّ وجد في عهده، أو يوجد من بعده: أن يتدبّر- بعقله- ما يلقى إليه، وأن يحكم- بضميره- على مدى صحته وإخلاصه. فإذا تعلّق بقلبه إيمان فهو إيمان بربّ كل شيء، وعمل الرسول صلى الله عليه وسلم ينتهي عند هذا الحدّ، عند وصل العقول والقلوب ببارئها، وإيضاح الصراط المستقيم لها، وعلى كلّ إنسان تحمّل تبعته في فعل الخير أو الشرّ بعد ذلك. فليس الرسول صلى الله عليه وسلم وسيطا يحمل لك خيرا قدمته، ولا قربانا يحمل عنك

عقابا استحققته، لأنه لا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وهنا يبدو بعد الشّقة بين المسيحية والإسلام. الإسلام يغالي بقدر الإنسان، ويعطيه جزاءه الحق على الرفعة والضّعة. أما النصرانية فالمرء عندها أنزل قدرا من أن يتّصل برب العالمين من تلقاء نفسه، لا بد من اخر يحمل قربته ويقبل توبته، ومن ذلك الاخر؟ شخص دعيّ! فإذا اقترف ذنبا فليس هو الذي يلقى قصاصه، إن القربان ذبح قديما من أجل خطيئته تلك، وعليه أن يصدق بذلك لينجو إن أراد النجاة، وهذا الخبط يحتاج إلى جرارات ثقيلة ليسير في الحياة مراغما للمنطق والعدالة. أما إلاسلام فإن الله يقول لنبيّه عليه الصلاة والسلام قولا تتفتّح له الأعين والأفهام: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) [الرعد] . إن هذه الاستفهامات المترادفة سياط تلدغ الباطل، وتجعل العقل النائم يصحو من سباته، وتحفز الإنسان إلى اعتناق الحقيقة والتسامي بها. وذلك ما يعلنه ويعمل له رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم. وقد لقي الإسلام مقاومة عنيفة أشدّ العنف من الوثنية السائدة، فهي لم تلفظ أنفاسها في معركة أو معركتين؛ بل قاتلت ببأس شديد على كلّ شبر من الأرض، وكان الظنّ أن قواها خارت وانماعت عند ما أدّى الرسول صلى الله عليه وسلم أمانته وذهب إلى الرفيق الأعلى، بيد أن الجزيرة انتفضت بأسرها في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وانحصر المسلمون وسط طوفان من الردة العمياء، شرعوا يكافحونه مرة أخرى، فما استطاعوا كسر شوكته إلا بعد ما تكبّدوا من الخسائر أكثر مما فقدوا على عهد النبي عليه الصلاة والسلام في مقاتلة أولئك المشركين «1» .

_ (1) قال الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله تعالى في كتابه (السيرة النبوية، دروس وعبر) ، ص 167: «ولقد قامت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حروب وفتن، وادّعى النبوة من ادّعاها، وعارض القران من عارضه، ولكنّا لم نسمع أن عربيا واحدا فكّر في العودة إلى الوثنية والهتها» . (ن) .

إنّ الرجال الذي ثبتوا على الحق بعد رحيل نبيهم صلى الله عليه وسلم عنهم هم المسلمون حقّا، فإن الإسلام رباط بمبادئ لا بأشخاص، وقد علّم الله نبيّه وعلّم المسلمين في شخصه أن يلتزموا الحقّ الذي عرفوا، وأن يتشبثوا به مهما غولبوا وحوربوا. والدنيا طافحة بأسباب الزيغ، وهي تحاول أولا ألا تبقي للإيمان مكانا بها، فإذا ظفر بكسب بعد طول عناء، حاولت أن تلاينه حتى ينزل عن شيء ويكتفي بشيء، ولو أفلحت في استدراجه إلى هذه المنزلة لأمكنها الإجهاز عليه، ولذلك جاءت أوامر الله في كتابه حاسمة تقضي بأن الإيمان كلّ لا يتجزأ، وأن مناجزة الكافرين، على هذه الحقيقة لا يجوز أن تهدأ، فلا بد من الاستمساك بهذه التعاليم المترابطة! والحبّ والبغض عليها، والمسالمة أو المحاربة دونها، فإن نصيب العاطفة في خدمة العقيدة، لا يقل عن نصيب العقل. والايات الواردة في ذلك هي أوامر للمسلمين تنزلت في شكل خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) [الأحزاب] . فليس الرسول صلى الله عليه وسلم مظنة أن يطيع الكافرين والمنافقين حتى ينبّه إلى التحرّز منهم، ولكننا نحن المعنيون بهذا الإرشاد. ومن ذلك: وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [القصص] . لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم من بدء دعوته حربا على الشرك، وعلى الالهة الاخرى، ومنه تعلّم الناس هذه الخصومة، ويستحيل أن يتوقّع منه غيرها. ومن ذلك: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) [الحجر] . وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [الكهف] . فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) [يونس] .

قال المفسّرون: خوطبت الأمة في شخص رسولها كما تصدر الأوامر إلى القائد، مع أنّ الجند هم المنفّذون. وقيل: بل الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام على طريق الإهاجة واستثارة الهمّة، يقال للقوي البادي العزم: لا تهن، وللعاقل الصحيح الذهن: لا تغافل، وليس يخاف عليهما وهن ولا غفلة، ولكن الأمر تحريض على استدامة القوة والذكاء، والشجاع يزداد على الموت إقبالا إذا قيل له: لا تجبن. وسواء كان هذا أم ذاك فإنّ الرسول عليه الصلاة والسلام مناط الأسوة الحسنة، ومن سلوكه يأخذ الناس مثلهم الأعلى، وقد أمر وأمرنا معه بالتوجس من الضالين، والتنائي عن خلقهم وعملهم، وازدراء متاعهم وغرورهم؛ وذلك لأن هناك أحيانا شتى يضعف فيها الحقّ، ويعزّ التمسّك به، ويقوى فيها الباطل، وتكثر المغريات على مصادقته، أو مهادنته. ومن حقّ العقائد على أصحابها أن يتشدّدوا في تدعيم جانبها، وأن يتنكّروا لما يمسّها من بعيد. والأوامر التي تنظّم هذه المشاعر لن تنقصها الصّرامة، وماذا بعد أن يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) [الزمر] . إن هذا الخطاب يقرع اذاننا، وله مغزاه، كما قيل: «إياك أعني واسمعي يا جارة» «1» ، وقد كان لهذا الأسلوب أثره في تأليب المسلمين على الفساد، وترهيبهم من الرّكون إليه، بله الوقوع فيه. وأقوال المفسّرين التي سردناها تنطبق أيضا على الاية: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس: 94] . الخطاب للقارئ، أو السامع، أو للرسول عليه الصلاة والسلام نفسه على جهة التهييج والتحريض كما علمت: إذ إنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لن يقع

_ (1) مثل يضرب للتعريف بالشيء يبديه الرجل، وهو يريد غيره، وأول من قاله سهل بن مالك الفزاري في أخت حارثة بن لأم الطائي: يا أخت خير البدو والحضاره ... كيف ترين في فتى فزاره أصبح يهوى حرّة معطاره ... إياك أعني واسمعي يا جاره انظر: الأمثال، لأبي عبيد الميداني: 1/ 49. (ن) .

منه شك في أمر نبوّته، والكلام هنا، فرض للمستحيل كما قيل في سورة أخرى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) [الزخرف] ، ولكن ما معنى سؤال أهل الكتاب؟!. قالوا: المراد: الثقات المنصفون منهم، فهم لن يكتموا شهادة الحق إذا طلبت إليهم. وعندي: أن العدول الصادقين من أهل الكتاب قلة لا يعوّل على حكمها، وما أظن الاية تعني ذلك. ولكن المرء يزداد تبصّرا بنفاسة ما عنده من خير إذا رأى ما عند غيره من خلط، ولو ارتبت لحظة في أن القران من عند الله، ثمّ تصفحت كتب العهدين القديم والجديد، لعدت- على عجل- إلى كتابك تتشبّث به، وتحمد الله ألف مرة أن هديت إليه!!. وأحسب أن هذا ما تشير إليه الاية، فإنّ تبيّن ما في الإسلام من حقّ يزداد قوة عند اكتشاف ما طرأ على الأديان الأولى من تشويه، وهذا يتفق مع قوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة: 120] ، ويزكي فهمنا هذا في الاية الكريمة ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: «يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب؟! وكتابكم الذي أنزل على نبيّكم أحدث الكتب بالله، تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدّثكم الله أنّ أهل الكتاب بدّلوا كتاب الله وغيّروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟! ولا، والله ما رأينا منهم رجلا قطّ يسألكم عن الذي أنزل عليكم!» . إن الإسلام من الناحية العقلية معرفة للحقيقة، ومن الناحية العاطفية حبّ لها وإعزاز، وكراهية للباطل وعداء صريح. إن هناك أناسا في مشاعرهم برودة يلقون بها الرأي وضدّه! وقد يتصوّر هذا في بعض المسائل التافهة، أما أن يتعلّق الأمر بالإيمان والإلحاد، والفجور والعفاف، فلا.

إن الله علّم رسوله صلى الله عليه وسلم الكتاب، والإيمان، فكان من عرفان الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الفضل الإلهي أن غالى بإيمانه واعتزّ بقرانه، فعاش بهما وعاش لهما، وخاصم وسالم فيهما، وطالما تمنّى عداته أن يركن إليهم شيئا قليلا، ولكن هيهات! وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) [القلم] ، والأمة الجديرة بالانتماء إليه هي الأمة التي تناضل على الحق؛ فلا تسمح بانتقاص له، ولا حيف عليه، ومن خصائصها أنها أمة فكر ومنهاج، يقوم كيانها المادي والأدبي على ما تبذل في ذلك من جهد وتثمر من نتاج.

منزلة السنة من الكتاب الكريم

منزلة السنّة من الكتاب الكريم من حقّ المسلم أن يرتّب المصادر التي يأخذ عنها دينه، وأن يدرك الوضع الصحيح للمحفوظ من قول النبيّ عليه الصلاة والسلام وفعله، إلى جوار السّجل الثابت للوحي الإلهي الذي خصّت به الرسالة الخاتمة. إن القران روح الإسلام ومادته، وفي آياته المحكمة شرع دستوره، وبسطت دعوته، وقد تكفّل الله بحفظه فصينت به حقيقة الدين، وكتب لها الخلود أبد الابدين، والرجل الذي اصطفاه الله لإبلاغ آياته وحمل رسالاته، كان (قرانا) حيّا يسعى بين الناس، كان مثالا لما صوّره القران من إيمان وإخبات، وسعي وجهاد وحق وقوة، وفقه وبيان، فلا جرم أن قوله وفعله وتقريره وأخلاقه وأحكامه، ونواحي حياته كلها؛ تعدّ ركنا في الدين، وشريعة للمؤمنين. إن الله اختاره ليتحدّث باسمه ويبلّغ عنه، فمن أولى منه بفهم مراد الله فيما قال؟! ومن أولى منه بتحديد المسلك الذي يتواءم مع دلالات القران القريبة والبعيدة؟!. إن تطبيق القانون لا يقلّ خطرا عن صياغته، وللقانون نصّ وروح، وعند علاج الأحداث المختلفة لتسير وفق القانون العتيد، تجدّ فتاوى وتدوّن نصائح وتحفظ تجارب وعبر، وتثبت أحكام بعضها أقرب إلى حرفية النص وبعضها أدنى إلى روحه، وهكذا. والقران هو قانون الإسلام، والسنّة هي تطبيقه، والمسلم مكلّف باحترام هذا التطبيق تكليفه باحترام القانون نفسه، وقد أعطى الله نبيّه حقّ الاتباع فيما يأمر به وينهى عنه؛ لأنه- في ذلك- لا يصدر عن نفسه، بل عن توجيه ربه، فطاعته هي طاعة الله، وليست خضوعا أعمى لواحد من الناس. قال الله عز وجلّ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) [النساء] .

وقال: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] . وقال: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] . على أن الإلهام الأعلى لا يعطّل مواهب الإنسان الراقي، فمن الخطأ أن نتصور المرسلين أناسا مسخّرين تنطقهم الملائكة أو تسكتهم، إنهم لو لم يكونوا أنبياء لكانوا رجالا يرمقون باحترام، ويقدّمون عن جدارة. إنّ الوحي لا يصيب الناس اتفاقا، بل يرشّح له أكمل الناس رشدا، وأسبقهم فضلا، وأنبلهم خلقا، وأنضجهم رأيا. وسيرة هؤلاء في الحياة ليست مما ينبذ، وكلمهم ليس مما يهمل، فكيف إذا تأيّدت هذه العراقة بالعصمة، وهذا الذكاء بالتسديد؟!. إنّ السّير في ركاب المرسلين هو الخير كله، ومن ثمّ كانت سنّة محمد عليه الصلاة والسلام مصدرا لشريعته، مع الكتاب الذي شرّفه الله به، وجمهور المسلمين على هذا الفهم، إلا أن السّنن المأثورة عرض لها ما يوجب اليقظة في تلقيها، فليس كل ما ينسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام سنّة تقبل، ولا كلّ ما صحت نسبته صح فهمه، أو وضع موضعه!! والمسلمون لم يؤذوا من الأحاديث الموضوعة قدر ما أوذوا من الأحاديث التي أسيء فهمها، واضطربت أوضاعها؛ حتى جاء أخيرا من ينظر إلى السنن جمعاء نظرة ريبة واتهام، ويتمنّى لو تخلّص المسلمون منها. وهذا خطأ من ناحيتين: إهمال الحقيقة التاريخية أولا، فإن الدنيا لم تعرف بشرا أحصيت اثاره، ونقدت بحذر، ومحّصت بدقة كما حدث ذلك في اثار محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم «1» ، فكيف ترمى بعد ذلك في مطارح الإهمال؟!. والناحية الاخرى أن في السنّة كنوزا من الحكمة العالية، لو نسب بعضها إلى أحد من الناس لكان من عظماء المصلحين، فلماذا تضيع على صاحبها ويحرم الناس خيرها؟!. عند ما درسنا تراث محمد عليه الصلاة والسلام في الأخلاق، وذاكرنا أحاديثه التي تربو على الألوف في شتى الفضائل؛ خيّل إلينا لو أن جيشا من

_ (1) قد تكفّل المحدّثون رضي الله عنهم بتتبع الأحاديث النبوية، وتمييزها، وشرحها، ووضعها في موضعها، فجزاهم الله عن المسلمين خيرا. (ن) .

علماء النفس والتربية اجتمع ليسوق للعالم مثل هذا الأدب لعجز، والأخلاق شعبة واحدة من رسالة محمد عليه الصلاة والسلام الضخمة، إلا أنّ الاشتغال بالسنّة مع هذا- يجب أن يحظر على من لم يستجمع الشروط التي تجعل مثل هذا الاشتغال مفيدا للإسلام والمسلمين. 1- فلا يجوز أن يشتغل بالسنّة من لم يدرس علوم القران، ويضرب فيها بسهم وافر، فإن القران هو الدستور الأصيل للإسلام، وهو الذي يحدّد للمسلم بدقة تامة واجباته وحقوقه، ويرتّب التكاليف المنوطة به، ويوزّع العبادات على حياته، فلا تطغى عبادة على أخرى، ولا تطغى كلها على عمله للحياة ومكانه فيها، والمرء الذي يعجز عن تحصيل هذه الحقائق من القران لن يعوضه عن فقدانها شيء اخر، والصورة التي تستقر في نفسه للإسلام- من غير القران- تضطرب فيها النّسب والألوان، وربما لحقها اختلاف كبير. ولذلك حرص أئمة الصّحابة على أن يخلوا الطريق للقران الكريم ليحتلّ مكانته الأولى في القلوب، وحرصوا على ألّا يزاحمه في موضع الصّدارة شيء. روى ابن عبد البر في كتابه (جامع العلم وفضله) بأسانيده التي ذكرها، قال: عن جابر بن «1» عبد الله بن يسار قال: سمعت عليّا يقول: أعزم على كل من كان عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث اتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم. وعن الزهري عن عروة «2» : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يكتب السنن، فاستفتى أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك، فأشاروا عليه بأن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا، ثم أصبح يوما، وقد عزم الله له، فقال: «إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني- والله- لا أشوب- وفي رواية: لا أنسي- كتاب الله بشيء أبدا» .

_ (1) كذا هو في (جامع بيان العلم) : 1/ 62، وهو خطأ من الناسخ أو الطابع، ومثله فيه كثير! والصواب: «عن جابر، عن عبد الله بن يسار» ، وجابر هذا- هو الجعفي- هو ضعيف جدا، وقد كذبه الجوزجاني وغيره. (2) عروة: هو ابن الزبير، لم يسمع من عمر بل لم يدركه، فهذا الأثر منقطع ضعيف، كذلك رواه الخطيب في (تقييد العلم) ، ص 49- 51، من طرق عن عروة. اللهم إلا رواية راشد عن الزهري، فإنه وصله بذكر عبد الله بن عمر بين عروة وعمر، وهي شاذة كما أشار إلى ذلك الخطيب نفسه.

وعن ابن سيرين قال: إنما ضلّ بنو إسرائيل بكتب ورثوها عن ابائهم. ودخل علقمة والأسود على عبد الله بن مسعود، ومعهما صحيفة فيها حديث حسن، فقال عبد الله بن مسعود: يا جارية هاتي بطشت واسكبي فيه ماء، فجعل يمحوها بيده ويقول: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 3] . فقالا له: انظر فيها حديثا عجيبا، فجعل يمحوها ويقول: إن هذه القلوب أوعية، فاشغلوها بالقران ولا تشغلوها بغيره- كانت الصحيفة تضم طرفا من علوم أهل الكتاب-. وعن عامر الشعبي «1» عن قرظة بن كعب «2» قال: خرجنا نريد العراق، فمشى معنا عمر إلى (صرار) ، ثم قال: أتدرون لم مشيت معكم؟ قالوا: نعم، نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشيت معنا تريد أن تشيّعنا وتكرمنا. فقال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقران كدويّ النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جوّدوا القران، وأقلّوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، امضوا وأنا شريككم. فلما قدم (قرظة) قالوا: حدثنا، قال: نهانا عمر بن الخطاب. وعمر وعلي وغيرهما من الأئمة لا يجحدون السنة، ولكنهم يريدون إعطاء القران حظّه الأوفر من الحفاوة والإقبال. وذلك هو الترتيب الطبيعي فلا بد من معرفة القانون كله معرفة سليمة قبل الخوض في شروح وتفاصيل لبعض أجزائه، إذ إن هذه التفاصيل والشروح لا يحتاج إليها كل أحد، وربما شحنت الأذهان فلم تترك بها فراغا للأصول اللازمة والقواعد الهامة. وخصوصا لأن الطريقة التي تروى بها الأحاديث تجمع في صعيد واحد ما صدر عن الرسول عليه الصلاة والسلام متناثرا في أمكنة شتى، وأزمنة شتى، وملابسات شتى. عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: ألا يعجبك أبو هريرة؟! جاء يجلس إلى جانب حجرتي يحدّث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، يسمعنى وكنت أسبح، فقام قبل أن أقضي سبحتي- أنهي صلاتي- ولو أدركته لرددت

_ (1) هو عامر بن شراحيل، أبو عمرو، أحد أعلام التابعين، أدرك خمسمئة من الصحابة، توفي سنة ثلاثمئة. انظر: الكاشف: 1/ 522. (ن) . (2) هو قرظة بن كعب الأنصاري رضي الله عنه، صحابي، ولي الكوفة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر: الكاشف: 2/ 136. (ن) .

عليه. إن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يكن يسرد الحديث كسردكم «1» ..!!. 2- ويجيء بعد رسوخ القدم في فهم القران فهم ما يروى من السنن على وجهه الحق، فخير لمن يقصّر عن فهم السنن أن يحبس لسانه في فمه فلا يقول: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم يسوق حديثا لا يعرف ما المقصود منه؟!. وإن كان يفهم عبارته الظاهرة واحدها. وقد بليت السنّة من قديم بمن يحفظ منها الكثير ولا يعي إلا اليسير، وتعجب السيدة عائشة من أبي هريرة حين جلس يروي، ليس لأنّها تتهمه بكذب، بل لأن أسلوب تحديثه يهدر الملابسات التي قيلت فيها هذه الأحاديث بعد ما طويت طيا في سرده الموصول. وقد روى مسلم في صحيحه: أن عمر ضرب أبا هريرة لمّا سمعه يحدّث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: «من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة» ، ولعلّ عمر فعل ذلك لأنه وجد أبا هريرة يذكر الحديث لمن لا يعي منه إلا أن الإسلام كلمة تقال باللسان ولا عمل وراءها [2] ، ومنع الحديث- ولو صحّ- إذا أوحى بهذه الجهالة، أفضل من إباحة روايته. وروى ابن عبد البر عن أبي هريرة نفسه قال: لقد حدّثتكم بأحاديث لو حدّثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربني عمر بالدرة!!. وفقه عمر في هذا المنع: أنه يريد- كما علمت- بناء المجتمع على تعاليم القران، وشغل الأفكار بتدبرها والاستنباط منها، فإذا رويت السنن بعدئذ تلقفتها أذهان نيّرة، فلم تعد بها معناها الصحيح. يستطيع أبو هريرة- لجودة حفظه- أن يسرد مئة حديث في الصلاة مثلا، وعمر ربما لا يرى حرجا من سرد هذه السنن في مدرسة خاصة، ولكنه يكره أن يشغل جمهور المسلمين بأمر يكفيهم منه القليل، ثم ينصرفون بعده إلى عمل أجدى على الإسلام وأهله.

_ (1) أخرجه الشيخان في صحيحيهما؛ وأبو داود: 2/ 125، طبع التازي؛ وابن عبد البر: 2/ 121.

وذلك سرّ تضييقه على الرواة المكثرين!. لقد روى ابن حزم قرابة ألف صفحة من الأحاديث في الوضوء، ولمن شاء أن يتوفر على هذا اللون من العلم، لكن شغل عامة المسلمين به حمق! فماذا يبقى بعدئذ للقران نفسه؟! بل إن شغل المسلمين بالقران على هذا النحو ليس من الدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا القران، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به» «1» . وإن يكن لهؤلاء الحفّاظ فضل فلأنهم حملوا العلم إلى من يحسن الإفادة منه. على نحو ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «ربّ حامل فقه ليس بفقيه، ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» «2» ، عن أبي يوسف قال: سألني الأعمش عن مسألة وأنا وهو لا غير، فأجبته، فقال له: من أين قلت هذا يا يعقوب؟ فقلت: بالحديث الذي حدثتني أنت! ثم حدّثته! فقال لي: يا يعقوب، إني لأحفظ هذا الحديث من قبل أن يجتمع أبواك، ما عرفت تأويله إلا الان!!. وقد يبصر أبو يوسف «3» الفقيه ما يغيب عن الأعمش «4» الحافظ، ولكن المحذور ليس في الحفظ بلا فهم، بل أن يفهم الأمر على غير وجهه. والترتيب الفني للسنن- كما دوّنت وتلقيناها- يجعل ما ورد في الإيمان بابا، وما ورد في القضاء بابا ... وهكذا ... ولما كان الإسلام جملة هذه الحقائق، فإنّ السنّة أصبحت كمتجر كبير للملابس وزعت فيه أنواعها على مختلف الجوانب، هنا أغطية الرأس، وهنا سراويل، وهنا قمصان، وهنا حلل سابغة ... إلخ. والطبيعي أن من يريد كسوة كاملة يمرّ بهذه الجوانب كلها ليأخذ ما يغطيه

_ (1) حديث صحيح، أخرجه أحمد: 3/ 428- 444؛ والطحاوي في شرح معاني الاثار: 2/ 10، من حديث عبد الرحمن بن شبل مرفوعا، وسنده صحيح، وقوّاه الحافظ في الفتح: 9/ 82. (2) حديث صحيح، رواه ابن عبد البر: 1/ 39؛ وكذا أصحاب السنن، والدارمي، وأحمد في حديث لزيد بن ثابت، وسنده صحيح، وصحّحه ابن حبان، وابن حجر وغيرهم. (3) هو يعقوب بن إبراهيم، أبو يوسف القاضي، قاضي الرشيد، وأجلّ تلاميذ الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، توفي سنة (182 هـ) ، له كتاب (الخراج) ، و (الاثار) . مقدمة الخراج. (ن) . (4) هو أبو محمد سليمان بن مهران الكاهلي، أحد الأئمة الأعلام، توفي سنة (148 هـ) . الكاشف: 1/ 464. (ن) .

من رأسه إلى قدمه، ولكن يحدث كثيرا أن ترى من يشتري قلنسوتين ويخرج حافيا، أو من يشتري منديلا ويخرج عاريا!. إنّ هذا مثل طوائف اشتغلت بالسنّة، ثم- بعد طول تطواف- خرجت على الناس، وفي يديها من السنن سواك، وعمامة مقطوعة الذنب اعتبروها شعار الإسلام، وسرّ ذلك أنهم دخلوا المعرض الحافل، ثم خرجوا منه بعد أن ظنوا الدين كله في حديث أو سنّة محدودة، فأساؤوا بذلك إلى القران والسنّة جميعا. 3- إن قصر الباع في السنة- على كثرة الاشتغال بها- أضرّ بتوجيه المسلمين، وأشاع بينهم طائفة من الأحكام المبتسرة «1» ، والتقاليد الضيقة، تنبو عنها روح القران والسنّة، وإن اعتمدت على حديث لم يفهم، أو أثر لم يفقه. وذلك أن الإسلام- في الشؤون الهامة- جاء بطائفة من الأحكام، ذكرت في الكتاب العزيز، أو وردت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وهي جميعا متكاملة؛ يصل بعضها بعضا ويوثقه، فإذا ظهر في دليل منها ما يعارض سائر الأدلة، بحث في تأويله حتى يتم الجمع بينها كلها، أو قبل الأرجح سندا، وردّ الاخر «2» . ولذلك يرى المحققون «3» أن سنن الاحاد ترفض إذا خالفت ظواهر الاي، وعموم النص، أو خالفت قياسا يعتمد على أحكام القران نفسه، وهم يفرقون بين الأحاديث التي يرويها رجال فقهاء، والتي يرويها رجال حفاظ فحسب. ولنضرب لك مثلا يكشف عمّا يصيب الأمم من عقم وضياع، نتيجة فهمها الخاطئ لأثر وارد. كثير من المسلمين يحكمون على المرأة ألا ترى أحدا ولا يراها أحد، وفي المدينة تسيح النسوة في الطرق، يرتدين خياما مغلقة طامسة، بها خرقان من أعلى لإمكان الرؤية، وقد تختفي هذه الخروق وراء قطع من الزجاج أو الباغة.. وهذا التقليد السائد يعتمد على حديث سمعت إمام الحرم النبوي يردده من فوق المنبر في خطبة الجمعة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره لنسوته أن يرين عبد الله بن

_ (1) المبتسرة: المتسرعة التي لم يبذل في تحصيلها جهد وتتبع واستقصاء. (ن) . (2) وهذا داخل في نقد المتن. (ن) . (3) من الحنيفة فقط، أما الجمهور فلا. (ن) .

أم مكتوم، فلما احتججن بأنه أعمى لا يراهما! قال لهما: «أفعمياوان أنتما؟!» «1» . وقد استنكرت على الخطيب إيراده لهذا الحديث، فإن علماء السنّة تكلّموا في معناه، ومن الجهل بالسنّة تقريره عند بيان وظيفة المرأة، وأسلوب حياتها، وقواعد اتصالها بالمجتمع العام، ولم لا نذكر السنن التي رواها البخاري في ذلك، وهي أدق وأصح؟!. أثبت البخاري تحت عنوان (باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال) ، عن أنس رضي الله عنه، قال: «لما كان يوم (أحد) انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم، وإنهما لمشمّرتان أرى خدم سوقهما، تنقلان القرب على متونهما- ظهورهما-، ثم تفرغانه- الماء- في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملأانها، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم» . وذكر تحت (باب غزوة المرأة في البحر) ... سمعت أنسا رضي الله عنه، يقول: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على (ابنة ملحان) ، فاتكأ عندها، ثم ضحك. فقالت: لم تضحك يا رسول الله؟ فقال: «ناس من أمتي يركبون البحر الأخضر في سبيل الله، مثلهم مثل الملوك على الأسرّة» . فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم. قال: «اللهم اجعلها منهم» ، ثم عاد فضحك، فقالت له: ممّ ذلك؟ فقال لها مثل ذلك. فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم! قال: «أنت من الأولين، ولست من الاخرين» . قال أنس: فتزوجت عبادة بن الصامت، فركبت البحر مع بنت قرظة، فلما قفلت ركبت دابتها، فوقعت بها فسقطت عنها فماتت.

_ (1) أخرجه أبو داود: 2/ 183؛ والترمذي: 4- 15؛ وابن سعد في الطبقات الكبرى: 8/ 126، 128؛ والبيهقي: 7- 91، من طريق الزهري، قال: حدثني نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أمر بالحجاب، فقال صلى الله عليه وسلم: «احتجبا منه» فقلنا: يا رسول الله! أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟! فقال: «أفعمياوان أنتما؟! ألستما تبصرانه؟!» . وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» . وقوى الحافظ إسناده في (الفتح) ، وفيه نظر؛ فإن نبهان هذا لم يوثقه غير ابن حبان، وهو معروف بتساهله في التوثيق كما بيّنه الحافظ نفسه في مقدمة (لسان الميزان) ، ولهذا نراه في (التقريب) لم يوثق نبهان هذا، بل قال فيه: «مقبول» ؛ أي: عند المتابعة «وليس له متابع على هذا الحديث» ، فكلامه يقتضي أن هذا الحديث غير مقبول. وقد قال ابن عبد البر: إنه ليس ممن يحتج بحديثه، وإن حديثه هذا منكر، كما نقله ابن التركماني في (الجوهر النقي) .

وذكر تحت عنوان (باب حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو) : أن عمر بن الخطاب قسم مروطا بين نساء من نساء المدينة، فبقي مرط جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين! أعط هذا ابنة رسول الله عليه الصلاة والسلام التي عندك- يريدون أم كلثوم بنت علي- فقال عمر: أمّ سليط أحق (وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله عليه الصلاة والسلام) قال عمر: فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم (أحد) ، أي تخيطها. وذكر تحت عنوان (باب مداواة النساء الجرحى في الغزو) ، عن الرّبيّع بنت معوّذ قالت: كنا مع النبي عليه الصلاة والسلام نسقي، ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة ... إلخ. ولنفرض أنّ البخاري لم يرو هذه الأحاديث الصحيحة؛ أفكان حديث العمياوين يسلط على المجتمع، ويحجر به على النساء في دورهن فلا يخرجن من هذا السجن أبدا؟ إن حكما مثل هذا لا يعرف من القران؛ بل إن القران يجعل هذا الحكم عقوبة للنسوة اللاتي يرتكبن الفواحش. وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) [النساء] . لكنّ المسلمين لما استوعروا سبل التربية المهذّبة للذكور والإناث- بسبب انحرافهم عن القران- لجؤوا إلى السجن والقصر، فكان ما كان. هجر المسلمون القران إلى الأحاديث. ثم هجروا الأحاديث إلى أقوال الأئمة. ثم هجروا أقوال الأئمة إلى أسلوب المقلّدين. ثم هجروا المقلّدين وتزمّتهم إلى الجهّال وتخبّطهم. وكان تطوّر الفكر الإسلامي على هذا النحو وبالا على الإسلام وأهله. روى ابن عبد البر عن الضحاك بن مزاحم: «يأتي على الناس زمان يعلّق فيه المصحف حتى يعشش عليه العنكبوت، لا ينتفع بما فيه، وتكون أعمال الناس بالروايات والأحاديث» . وسبيل الرشد في هذه العماية أن نعود إلى القران، فنجعله دعامة حياتنا العقلية والروحية، فإذا وصلنا إلى درجة التشبّع منه، نظرنا في

السنّة فانتفعنا بحكمة رسول الله عليه الصلاة والسلام وسيرته وعبادته، وخلقه وحكمه، ولا يجوز أن يتكلّم في السنّة رجل قليل الخبرة بالقران، أو قليل الخبرة بالمرويات أو ضعيف البصر بمواقعها ومناسباتها.

النبي صلى الله عليه وسلم وخوارق العادات

النبي صلى الله عليه وسلم وخوارق العادات جرت حياة الرسول عليه الصلاة والسلام- الخاصّة والعامة- على قوانين الكون المعتادة؛ فلم تخرج- في جملتها- عن هذه السنن القائمة الدائمة. هو- من حيث إنه بشر- يجوع ويشبع، ويصحّ ويمرض، ويتعب ويستريح، ويحزن ويسر، ولكن الناس أنفسهم في هذه النواحي صنوف لا تجمعها قاعدة عامة، منهم المتهالك على ضروراته، فلو نقص حظه منها قليلا طاش لبّه، وخارت قواه، ومنهم الجلد الصبّار، يجزئه النزر اليسير، ويمضي لغايته رافع الرأس موطد العزم. إن الالات التي تدار بالزيوت تتفاوت؛ منها الرديء الذي يستهلك أثقال الوقود ولا يجدي فتيلا، ومنها الجيد الذي يروع إنتاجه على قلة إمداده. والبشر كذلك مع أبدانهم وضروراتها ومرفهاتها. والمطالع لسيرة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يرى من طبيعة حياته الخاصة صلابة المعدن الذي صيغ منه بدنه صياغة أعجزت العمالقة، وأمكنت صاحبه من أن يحمل أعباء الحياة ومشاقّ الجهاد، ولأواء العيش، وهو منتصب مقدام. نعم: هناك من العباقرة عمي، وصمّ، وممعودون، ومصدورون، غير أن العبقرية «1» شأن دون النبوة، ومن تمام نعمة الله على امرئ ما أن يرزق العافية من هذه الأدواء كلها، لتتم بهذه العافية السابغة العناصر التي تصحح نظرته إلى الحياة ومسلكه فيها. وقد كان محمد عليه الصلاة والسلام- من هذه الناحية- بشرا كاملا. وكانت حياته متسقة مع سنن الله الكونية في البطولات الممتازة.

_ (1) راجع كتابنا (عقيدة المسلم) ، ص 199، دار القلم- دمشق.

أما حياته العامة- رسولا يبلّغ عن الله ويربّي المؤمنين، ويقاوم الكافرين، ويدأب على نشر دعوته، حتى تؤتي ثمارها في الافاق، فلا شكّ أن القران العزيز هو مهادها وبناؤها. ومع أن القران كتاب معجز، إلا أنه يقوم على إيقاظ المواهب العليا في الإنسان، فهو أشبه بالأحداث الجليلة التي تعرض لك فتحملك على التفكير بأصالة وبصر، ومن ثمّ فهو كتاب إنساني يعين الوعي العام على النضج والسداد. إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) [الزخرف] . كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً [فصلت] . والفارق بين توجيه العرب بالقران وتوجيه اليهود بنتق الجبل كالفارق بين صوت الإرشاد يهدي العاقل إلى الطريق، وسوط العذاب يلسع الدابة البليدة لتمضي إلى الأمام، فلا تسير خطوة إلا رمت بعجزها إلى الوراء خطوات. وكان عبد الله بن رواحة ينشد: وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشقّ مكنون من الفجر ساطع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أنّ ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع ومن المحققين من يرى أنّ القران هو المعجزة الفريدة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وهم يلحظون في هذا الحكم التعريف اللفظي للمعجزة، من أنها خارق للعادة مقرون بالتحدي، ولم يعرف هذا التحدي إلا بالقران «1» . وقد ملنا إلى قريب من هذا الرأي «2» ، لا بالنظر إلى التعريف اللفظي للمعجزة، بل بالنظر إلى القيامة الذاتية للخوارق الاخرى بالنسبة إلى الأهداف الرفيعة التي جاء بها الإسلام. على ألاصلة للعقيدة ولا للعمل بهذه البحوث، فالرجل الفاسد لا يغفر

_ (1) أما انشقاق القمر، والإسراء والمعراج، وتكثير الطعام، ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة صلى الله عليه وسلم، وحنين الجذع إليه، وغير ذلك من الخوارق، فسمّاها من لم يعتبر التحدي قيدا (معجزات) ، وسماها من اعتبره قيدا (دلائل النبوة) وهو اختلاف في التسمية فقط، وقديما قالوا: لا مشاحّة في الاصطلاح. (ن) . (2) راجع كتابنا (عقيدة المسلم) ، مبحث النبوّات، ص 181، دار القلم- دمشق.

له فساده إيمانه بأن الرسول عليه الصلاة والسلام أظلته غمامة، أو كلّمه جماد، والرجل الصالح لا يغمز مكانته إنكاره لهذه الخوارق؛ فإن هذه البحوث ترجع إلى التقدير العلمي لأدلة الإثبات «1» ، والتقويم المحض لما في الوقائع نفسها من معان، وليس للخطأ والصواب فيها مساس بإيمان. وقد سرت في المسلمين لوثة شنعاء في نسبة الخوارق إلى الصالحين منهم، حتى كادت جمهرتهم تقرن بين علو المنزلة في الدين وخرق قوانين الأسباب والمسببات، وحتى جاء من المؤلفين في علم التوحيد من يقول: وأثبتن للأوليا الكرامه ... ومن نفاها فانبذن كلامه!! وصلة هذا الإثبات بعلم التوحيد كصلته بعلم النحو أو علم الفلك!! أي أنّ حقيقة الدين بعيدة عن هذه البحوث، سواء انتهت بالسلب أو بالإيجاب. والخوارق التي يتهامس بها المفتونون لأوليائهم؛ هي تعبير سيّئ عن رذائل الكسل والحمق التي تكمن في طواياهم، كما أن الأحلام الطائشة التي تعتري النائم تعبير عن الاضطراب الذي يملأ نفسه، ويرهق أعصابه. هذا فتح الباب الموصد من غير مفتاح، وهذا طار في الهواء بغير جناح، وهذا بال على حجر فانقلب ذهبا، وهذا اطّلع الغيب واتخذ عند الرحمن عهدا!. وأمثال هذه السخافات كثير ... وهي تدلّ على جهل بحقيقة الدين وحقيقة الدنيا، وتدل على أن مروّجيها أضل عقولا وقلوبا من أن يعرفوا سيرة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسيرة أصحابه. ما كان محمد عليه الصلاة والسلام رجل خيال يتيه في مذاهبه، ثم يا بني حياته ودعوته على الخرافة. بل كان رجل حقائق؛ يبصر بعيدها كما يبصر قريبها، فإن أراد شيئا هيّأ له أسبابه وبذل في تهيئتها- على ضوء الواقع المر- أقصى ما في طاقته من حذر وجهد، وما فكّر قط ولا فكّر أحد من صحابته أن السماء تسعى له حيث يقعد، أو تنشط له حيث يكسل، أو تحتاط له حيث يفرّط، ولم تكن خوارق العادات ونواقض الأسباب والمسببات أساسا، ولا طلاء في بناء رجل عظيم أو أمة عظيمة.

_ (1) الخوارق نوعان: منها ما ثبت بالقران والسنّة المتواترة؛ فهذا إنكاره كفر، ومنها ما ثبت بدليل ظني، وهذا إن أنكره المنكر لعدم ثبوته عنده فلا يكفر. (ن) .

إن محمدا وصحبه تعلّموا وعملوا، وخاصموا وسالموا، وانتصروا وانهزموا، ومدّوا شعاع دعوتهم إلى الافاق، وهم على كل شبر من الأرض يكافحون، لم ينخرم لهم قانون من قوانين الأرض، ولم تلن لهم سنة من سنن الحياة، بل إنهم تعبوا أكثر مما تعب أعداؤهم، وحملوا المغارم الباهظة في سبيل ربهم؛ فكانوا في ميدان تنازع البقاء أولى بالرسوخ والتمكين. وقد لقّنهم الله عز وجلّ هذه الدروس الحازمة حتى لا يتوقّعوا محاباة من القدر في أيّ صدام، وإن كانوا أحصف رأيا من أن يتوقعوا هذا «1» . قال الله لرسول صلى الله عليه وسلم: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء: 102] . فانظر: كيف يكلّفون- وهم في الصلاة وبين يدي الله- بأشدّ الحذر والانتباه! إن الله لم يدع أملا يخامر أنفسهم بأن الملائكة سوف تنزل لعونهم! إن لم يخدموا أنفسهم فلن يخدمهم أحد! ذلك هو خطاب الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وصحبه. وعند ما ذهل المسلمون عن هذا الدرس في غزوة (أحد) ؛ لطموا لطمة موجعة جندلت من أبطالهم سبعين، وأمضّهم خزي الهزيمة، فوقف زعيم الكفر يومئذ- أبو سفيان- يقول: اعل هبل ... وأبلى النبي عليه الصلاة والسلام بلاء شديدا لينقذ الموقف، وقاتل وقتل، وأصيب في نفسه. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: «اشتدّ غضب الله على قوم فعلوا بنبيّه هكذا- ويشير إلى رباعيته-، اشتدّ غضب الله على رجل يقتله

_ (1) الكرامة كأصل ثابتة بالكتاب والسنّة، كما حصل لأصحاب الكهف، وعزير وغيرهم، أما ما يحكيه بعض المتصوفة من كرامات تنسب لشيوخهم كالتي قصّ كثيرا منها الشعراني في طبقاته، فهذه ينطبق عليها قول الشيخ الغزالي. (ن) .

رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله» «1» . وعن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشجّ رأسه، فجعل يسلت الدم عن وجهه ويقول: «كيف يفلح قوم شجّوا نبيّهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله؟!» ، فأنزل الله عز وجلّ قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) [ال عمران] «2» . أرأيت التفريط في أسباب النصر جلب شيئا غير الهزيمة؟! أو لو كان الذين انهزموا هم ممثلي التوحيد الحق؟! أو لو كان الذين انتصروا هم سدنة الوثنية المحضة؟!. وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أراد غزوة ورّى بغيرها، ويقول: «الحرب خدعة» «3» ، ومع قيامه بالأسباب على ما أوجب الله، واحترامه للقوانين الطبيعية التي تنظّم حياة البشر؛ مع ذلك فقد استطاعت بعض قبائل العرب أن تخدعه، وأن تستدرج طائفة من القرّاء من أفضل أصحابه ليقتلوهم عن اخرهم في بئر معونة «4» ، فما دلّت على مصارعهم إلا الطيور تحلّق في الجو مرفوفة على أشلاء الشهداء ... إنّ هؤلاء الرجال الذي ذهبوا ضحية الغدر من أحب خلق الله إلى الله، ومع ذلك فما أذن لأحد منهم أن يطير بغير جناح، أو يتحول عن هذا القدر المتاح كما يفكّر متأخّرة المسلمين اليوم. ولئن كان الحذر والحيطة من سنن النبوة؛ فإن الإعداد واستنفاد الجهد فيه من اكد هذه السنن، وبماذا تحسب محمدا عليه الصلاة والسلام انتصر على الناس؟. لقد أنضج رجاله بالإيمان كما ينضج الصيف بلهبه البطيء أطايب ثماره، فلمّا أرسلهم إلى أنحاء الدنيا طوّفوا بها، ولهم زئير كزئير العاصفة المكتسحة المهتاجة.

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 298؛ ومسلم: 5/ 179، في صحيحيهما. (2) حديث صحيح، أخرجه الشيخان فيما تقدم أيضا. (3) حديث صحيح، أخرجه أبو داود: 1/ 411، بسند صحيح من حديث كعب بن مالك، وهو في الصحيحين بنحوه. (4) انظر: ص 279 وما بعدها، من هذا الكتاب. (ن) .

بل إن الإسلام- من يوم بدئه- كان معركة يقودها الوحي، ولذلك شبّه الله بوادره الهامية بعاصفة ذات صواعق ورعود: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) [البقرة] . أترى للتراخي والتواكل ثغرة في هذه الصفوف المتزاحفة؟. يا ويل مسلمي اليوم من انتظارهم لخوارق العادات في دنيا كشّرت عن أنيابها لاستئصال شأفتهم. نحن لا ننكر أن هناك عجائب خارقة تقع للناس، بيد أنها تقع للمؤمن والكافر، والبر والفاجر؛ فلو أنّ رجلا سار على الماء دون أن تبتلّ قدماه؛ ما دلّ ذلك على صلاحه، لأنّ مناط الصلاح بما شرع الله من عمل وإيمان فحسب، وإثبات هذه الخوارق لأصحابها مسألة تاريخية بحتة لمن شاء تقصي العجائب، ولا ارتباط لها بأصل الإيمان والتكليف، وذلك- بداهة- غير المعجزات المشاهدة للمرسلين بصحة التبليغ عن الله، على أن النبوّات بما قارنها من خوارق قد انتهت مع الماضي البعيد، فليس للتحكك بها من جدوى- وقد علمت أنّ معجزة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لم تكن على غرار ما سبقها، بل كانت معجزة إنسانية عقلية دائمة، ثم نظم الله له حياته ودعوته وفق قوانين الأسباب والمسببات كما رأيت. ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم يعرف الغيب؛ كان كأيّ بشر اخر لا يدري ماذا يكسب غدا؟!. ولا ينبغي أن ينتظر منه شيء من ذلك بعد أن انتهى إليه أمر الله: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) [الأعراف] . وربما اقترب منه من يضمر الشر ويظهر الود- وهو لا يعلم به- حتى تفضحه التجارب. وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة: 101] . وسيفاجأ يوم القيامة برجال تركهم وهو يعدّهم مؤمنين ثابتين، ثم تكشّفت

الفتن عن سواد باطنهم وسوء عقباهم «1» ، فيقول ما قال عيسى من قبل: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة: 117] «2» . وقد يطلعه الله على بعض الغيوب لحكم خاصة، كما جاء في التنزيل الإنباء بهزيمة الفرس أمام الروم، بعد النصر الكبير الذي سبق لهم أن أحرزوه، وسارت بحديثه الركبان، وشمت له الوثنيون، وحزن له المسلمون مظاهرة منهم لأهل الكتاب. وقد وردت أحاديث صحاح تحسب على ظاهرها كأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف ما يكون، مثل ما ورد عن عدي بن حاتم قال: بينما أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل، فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه اخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: «يا عدي! هل رأيت الحيرة؟» قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، فقال: «إن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله» قلت في نفسي: فأين دعّار طيئ الذين سعروا في البلاد؟! «ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى» ، قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: «كسرى بن هرمز!!» . قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز «3» . والحق أن هذه الأحاديث وأشباهها لم تكن إخبارا بغيب «4» ، إنما كانت تصديقا لوعد الله بأن المستقبل للإسلام، وبأن هذا الدين سيسود المشارق والمغارب، فكانت تفسيرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول الله في كتابه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الفتح: 28] .

_ (1) إشارة إلى حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليذادنّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، فأناديهم: ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدّلوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا» . وللحديث روايات في الصحيحين عن ابن مسعود وأنس وأبي سعيد الخدري وسهل بن سعد رضي الله عنهم. (ن) . (2) معنى هذا في (صحيح البخاري) في كتاب التفسير، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (3) أخرجه البخاري: 6/ 477- 479، وغيره عن عدي. (4) بل هي من الإخبار بالغيب بإعلام الله تعالى إياه، والتأويل المذكور لا مبرر له ما دام أن المؤلف حفظه الله يسلّم بأصل الإعلام كما ذكر انفا، وفي هذا الحديث ما يشير إلى ذلك؛ إذ إنه قال: «إن طالت بك حياة ... » فهل هذا التحديد الدقيق للزمن يمكن أن يعرفه (الخبير) ، إلا بإعلام اللطيف الخبير سبحانه وتعالى.

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النور: 55] . وقريب من ذلك الأحاديث المنبئة عن الفتن. إنّ الرجل الخبير بالأسواق لا يلبث- بعد استعراض يسير لأحوالها- حتى يصدر حكما صائبا عليها، والخبير بطوايا النّفوس يستطيع من نظرة خاطفة أن يستشف ما وراءها، ويستكشف خباياها، ومن ذلك قول الشاعر: والألمعيّ الذي يظنّ بك الظنّ ... كأن قد رأى وقد سمعا وكان محمد عليه الصلاة والسلام خبيرا بالنفوس ومعادنها، والدنيا وأطوارها، والزمان وتقلّبه، والأديان الأولى وما عانت وعانى رجالها وهم يشقون طريقهم في الحياة، وعقول الأنبياء من ورائها فطر مجلوة، وإلهام لمّاح، فكيف بشيخ الأنبياء الذي تعهده القدر من نشأته ليحمل رسالة معجزتها في أسلوبها، وأسلوبها يقوم على ترقية الفطر وتفتيق الألباب!!. إنّ هذا يجعله أشد الناس تقديرا للواقع، وانتظارا لما يفد به، هل يستطيع السائر في مناطق الشمال أن يقدّر خلوّ الجوّ من الضباب الداكن؟! أو هل يستطيع السائر في مناطق خط الاستواء ألا يتوقع عواصف القيظ؟! فكيف يليق بصاحب دين خطير أن يتناسى الفتن العارضة لتعاليم دينه ولرجاله، ما قرب منها وما بعد، ما ظهر منها وما بطن؟!. لذلك كثر كلام الرسول صلى الله عليه وسلم عن الفتن، وليس القصد الإخبار عنها، بل التحذير منها؛ تحدّث عن الفتن التي تلحق الأشخاص من اختلاف أفكارهم وتنافر أمزجتهم، وتحدّث عن الفتن التي تصيب القلوب من إقبال الدنيا والتحاسد عليها، وتحدّث عن الفتن التي تصيب الأمّة بعد أن يثوب الكفر من هول الهزائم التي مني بها، ويتماسك مرة أخرى بعد ما انحلّت عراه، فكان أن خوّف أصحابه من ذلك كله في أحاديث يطول سردها. وأخطر هذه الفتن ما يصيب تعاليم الإسلام نفسها من ذبول واضمحلال. فالصلاة تفقد روحها، وهو الخشوع، ثم يتاكل جسمها فتتحوّل نقرا سخيفا.

والجهاد يفقد روحه، وهو الإخلاص، ثم يتحول انتهابا للغنائم، واستعبادا للأحرار. ثم تفتر حدته، ثم يبطل ... والصيام ينتهي من صبر على الحرمان، وتأديب الغرائز المتطلّعة، إلى استعداد للولائم، ومضاعفة للنفقة ... والحكم يتطوّر من خدمة الجمهور برضاه، إلى تألّه عليه عن بغي واستكراه، ثم يسقط ويضيع الحاكم والمحكوم معا. وحتى محبة المسلمين لرسولهم صلى الله عليه وسلم تتحوّل بعد موته إلى سوق حول قبره تضج بالصياح المنكر والهمهمة الحائرة. عند ما زرت المدينة توجّهت إلى قبر الرسول الجليل صلى الله عليه وسلم، وكانت المشاعر التي تنبعث من قلبي تطنّ في أذني، فلما تبيّنات لي معالم الضريح يمّمت شطره وأنا أتضاءل في نفسي، وكأني كرة تتدحرج تحت أقدام عملاق ... وسلمت بالعبارة التي شرع الله، لم أزد عليها إلا بيتا من الشعر لم أدر ما وراءه، لما عراني من اضطراب غمغمت به شفتاي ولم تسمعه أذناي: يا خير من دفنت في التّرب أعظمه ... فطاب من طيبهنّ القاع والأكم ثم انصرفت ... بيد أني لاحظت أمواجا تفد فتصرخ بكلام طويل؛ هذا يقرأ في كتاب، وهذا يسمع من حافظ، وهذا يشوّش على ذلك، والكلّ يشوش على المصلّين، وتتواكب هذه الوفود في هرج ومرج لا ينقطعان. ألم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعني تلك الحال عند ما قال: «اللهم لا تجعل قبري بعدي وثنا يعبد» ؟! «1» . وما أن تعرفت أحوال العاكفين في المسجد والبادين، حتى كدت أدع الصلاة فيه، فإنّي أكره أشدّ الكراهية البدع والفوضى والجهل. وتذكّرت قصة عروة بن الزبير لما بنى قصرا بوادي العقيق، وابتعد عن المدينة، فقال له الناس: قد جفوت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فقال: إني رأيت

_ (1) حديث صحيح، أخرجه أحمد: 2/ 246؛ وابن سعد في الطبقات: 2/ 2/ 36، من حديث أبي هريرة، وسنده صحيح.

مساجدكم لاهية، وأسواقكم لاغية، والفاحشة في فجاجكم عالية، وكان فيما هنالك عما أنتم فيه عافية. وقيل: إنه لما عوتب في ذلك، قال: وما بقي؟ إنما بقي شامت بنكبة، أو حاسد على نعمة!!. نسأل الله العفو والعافية.

من الميلاد إلى البعث (العهد المكي)

2 من الميلاد إلى البعث (العهد المكي)

[نسب النبي صلى الله عليه وسلم ومولده ورضاعه]

[نسب النبي صلى الله عليه وسلم ومولده ورضاعه] [نسبه ومكانته في قومه] : ولد محمد صلى الله عليه وسلم من أسرة زاكية المعدن، نبيلة النسب، جمعت خلاصة ما في العرب من فضائل، وترفعت عما يشينهم من أوضار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه: «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» «1» . وعراقة الأصل لا تمنح الرجل الفاشل فضلا، كالصلب إذا ترك للصدأ، يمسي لا غناء فيه، أما إذا تعهدته اليد الصنّاع فإنها تبدع منه الكثير. ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيّ الناس أكرم؟ قال: « ... فعن معادن العرب تسألوني؟» قالوا: نعم، قال: «فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» «2» . وكان منبت محمد صلى الله عليه وسلم في أسرة لها شأنها، بعض ما أعد الله لرسالته من نجاح؛ فالمجتمع العربي الأول كان يقوم على العصبيات القبلية الحادة، العصبيات التي تفنى القبيلة كلها دفاعا عن كرامتها الخاصة، وكرامة من يمتّ إليها. وقد ظلّ الإسلام حينا من الدهر يعيش في حمى هذه التقاليد المرعية حتى استغنى بنفسه كما تستغني الشجرة عما يحملها بعد ما تغلظ وتستوي ... وكان (لوط) عليه السّلام يتمنّى شيئا من هذه التقاليد، عند ما أحسّ الخطر على الأضياف النازلين به، ولم يجد عشيرة تدفع أو أهلا تهيجهم الحمية، فقال لقومه:

_ (1) حديث صحيح: أخرجه مسلم: 7/ 58، من حديث واثلة بن الأسقع؛ وصحّحه الترمذي: 4/ 292. (2) حديث صحيح: أخرجه البخاري: 6/ 412- 413؛ ومسلم: 7/ 181، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[قلة ماله عليه الصلاة والسلام] :

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [هود: 78] . ثم قال: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود: 80] . [قلة ماله عليه الصلاة والسلام] : لكن محمدا عليه الصلاة السلام، على كرم محتده لم يرزق حظّا وافرا من الثّراء، فكانت قلة ماله مع شرف نسبه سببا في أن يجمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات؛ إن أبناء البيوتات الكبيرة تغريهم الثروة بالسطوة، فإذا فقدوا هذا السلاح، وكانت لهم تقاليد كريمة بذلوا جهودا مضنية ليحتفظوا بمكانتهم وشممهم. ولذلك يقول قائلهم: وإنّا- على عضّ الزمان الذي بنا- ... نعالج من كره المخازي الدّواهيا وربما لا يرى بعض الناس حرجا من أن يعلن فاقته ويكشف صفحته. غير أنّ هناك بعض اخر يطوون همومهم في همتهم، ثم يبرزون للدنيا مشمّرين، ومن هؤلاء: عبد الله بن عبد المطلب. كان عبد المطلب سيّد مكة، بيد أن هذه السيادة التي انتهت إليه انتهت به ولم تستقر في عقبه، إذ اشتد ساعد منافسيهم في زعامة أمّ القرى، وبدا كأنّ الأمر سيؤول إليهم؛ بل إن هي إلا أعوام حتى تصدّرت أسرة عبد شمس، ثم تمرّ أعوام أخرى فإذا أبو سفيان يتزعّم مكة، وبذلك تنتقل السيادة عن بني هاشم. و (عبد الله) أصغر أبناء عبد المطلب، وله في قلبه منزلة جليلة، وقد زوّجه بامنة بنت وهب، ثم تركه يسعى في الحياة واحده، فخرج وهو عروس بعد أشهر من بنائه بامنة، خرج يضرب مناكب الأرض ابتغاء الرزق، وذهب في رحلة الصيف إلى الشام، فذهب ولم يعد ... عادت القافلة تحمل أنباء مرضه، ثم جاء بعد قليل نعيه. وكانت امنة تنتظر رجلها الشاب الجلد، لتهنأ بمحياها معه؛ ولتشعره بأن في أحشائها جنينا يوشك أن تقر به عينهما؛ غير أن القدر- لحكمة عليا- حسم هذه الأماني الحلوة، فأمست الزوج المحسودة أيّما، تعدّ الليالي لتودع الحياة الموحشة (يتيمها) الفريد ... قال الزهري: أرسل عبد المطلب ابنه عبد الله إلى المدينة يمتار لهم تمرا، فمات بها، وقيل: بل كان بالشام، فأقبل في عير قريش، فنزل بالمدينة وهو

[تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم] :

مريض، فتوفي بها ودفن في دار النابغة الجعدي وله خمس وعشرون سنة، وتوفي قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. [تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم] : ولد محمد صلى الله عليه وسلم بمكة ولادة معتادة، لم يقع فيها ما يستدعي العجب أو يستلفت النظر، ولم يمكن المؤرخين تحديد اليوم والشهر والعام الذي ولد فيه على وجه الدقة؛ وأغلب الروايات تتجه إلى أن ذلك كان عام هجوم الأحباش على مكة سنة (570 م) في الثاني عشر من ربيع الأول (53 ق. هـ) «1» . وتحديد يوم الميلاد لا يرتبط به من الناحية الإسلامية شيء ذو بال؛ فالأحفال التي تقام لهذه المناسبة تقليد دنيوي لا صلة له بالشريعة. وقد روى البعض أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد؛ فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى؛ وخمدت النار التي يعبدها المجوس؛ وانهدمت الكنائس حول بحيرة (ساوة) بعد أن غاضت؛ قال البوصيري: أبان مولده عن طيب عنصره ... يا طيب مبتدأ منه ومختتم يوم تفرّس فيه الفرس أنّهم ... قد أنذروا بحلول البؤس والنّقم وبات إيوان كسرى وهو منصدع ... كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم والنار خامدة الأنفاس من أسف ... عليه؛ والنّهر ساهي العين من سدم وساء ساوة أن غاضت بحيرتها ... وردّ واردها بالغيظ حين ظمي وهذا الكلام تعبير غلط عن فكرة صحيحة؛ فإنّ ميلاد محمد عليه الصلاة والسلام كان حقا إيذانا بزوال الظلم واندثار عهده واندكاك معالمه، وكذلك كان ميلاد موسى، ألا ترى أنّ الله لما وصف جبروت فرعون، واستكانة الناس إلى بغيه، ثم أعلن عن إرادته في تحرير العبيد واستنقاذ المستضعفين؛ قصّ علينا قصة البطل ثم أعلن عنه بهذه الأعمال فقال: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ ... [القصص: 7] .

_ (1) قلت: قال الشيخ محمد الخضري في (نور اليقين) ، ص 12: «وقد حقق محمود باشا الفلكي رحمه الله تعالى ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك كان صبيحة يوم الإثنين، تاسع ربيع الأول، الموافق لليوم العشرين من أبريل/ نيسان سنة (571 م) ، وهو يوافق السنة الأولى من حادثة الفيل» . (ن) .

[كيفية استقبال جده لمولده] :

وقد كانت رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أخطر ثورة عرفها العالم للتحرر العقلي والمادي، وكان جند القران أعدل رجال وعاهم التاريخ، وأحصى فعالهم في تدويخ المستبدّين، وكسر شوكتهم، طاغية إثر طاغية. فلما أحبّ الناس- بعد انطلاقهم من قيود العسف- تصوير هذه الحقيقة، تخيلوا هذه الإرهاصات، وأحدثوا لها الروايات الواهية، ومحمد صلى الله عليه وسلم غني عن هذا كله؛ فإنّ نصيبه الضخم من الواقع المشرّف يزهدنا في هذه الروايات وأشباهها. [كيفية استقبال جدّه لمولده] : استقبل (عبد المطلب) ميلاد حفيده باستبشار وجذل، لعلّه رأى في مقدمه عوضا عن ابنه الذي هصرت المنون شبابه، فحوّل مشاعره عن الراحل الذاهب إلى الوافد الجديد، يكلؤه ويغالي به. ومن الموافقات الجميلة أن يلهم (عبد المطلب) تسمية حفيده (محمدا) «1» ! إنها تسمية أعانه عليها ملك كريم! ولم يكن العرب يألفون هذه الأعلام، لذلك سألوه: لم رغب عن أسماء ابائه؟ فأجاب: أردت أن يحمده الله في السماء، وأن يحمده الخلق في الأرض، فكأنّ هذه الإرادة كانت استشفافا للغيب، فإن أحدا من خلق الله لا يستحق إزجاء عواطف الشكر والثناء على ما أدى وأسدى، كما يستحق ذلك النبي العربي المحمّد صلى الله عليه وسلم. عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟ يشتمون مذمما ويلعنون مذمما، وأنا محمد!» «2» . لكن الحقيقة القاسية- برغم حفاوة الجد الحنون- باقية؛ فإن (محمدا) صلى الله عليه وسلم يتيم، برز إلى الدنيا بعد ما غادر أبوه الدنيا. ليكن!! ولنفرض عبد الله بقي حيّا!! فماذا عسى كان يفعل لابنه؟! أكان يربيه ليهب له النبوّة؟! ما كان له ذلك. إن الأب عنصر واحد من عناصر شتى تتحكّم في مستقبل الطفل، وتحفر له في الحياة مجراه، ولو كانت النبوّة بالاكتساب ما قربتها حياة الوالد شبرا؛ فكيف وهي اصطفاء؟!.

_ (1) سمّاه كذلك بعد ما ختنه في يومه السابع. (2) الحديث صحيح، أخرجه البخاري: 6/ 435- 436.

[عرضه على المراضع] :

كان يعقوب حيّا يرزق، له شيخوخته وتجربته وحكمته؛ بل له نبوته، وقد نظر يوما ما فلم يجد يوسف قريبا منه؛ إنه فقده في أخطر فترات العمر، فترة الصبا اللدن، واليفاعة الغضة، ومع فساد البيئات التي احتوت يوسف، فقد كان باطنه ينضح بالتقى والعفاف، كما يتّقد المصباح في أعماء الليل المدلهم، فلما التقى الابن بوالده بعد لأي، رأى يعقوب ابنه نبيّا صدّيقا ... لقد ولّى عبد الله، وترك ابنه يتيما، بيد أن هذا اليتيم كان يعدّ من اللحظة الأولى لأمر جلل، أمر يصبح به إمام المصطفين الأخيار، وما الأب والجد، ما الأقربون والأبعدون، ما الأرض والسماء إلا وسائل مسخّرة لإتمام قدر الله، وإبلاغ نعمة الله من اصطنعه الله. [عرضه على المراضع] : أقبلت (امنة) على ابنها تحنو عليه في انتظار المراضع المقبلات من البادية، يتلمسن تربية أولاد الأشراف، والأعرابيات اللاتي يقصدن مكة لهذه الغاية هن طالبات رزق ويسار، ولم يكن لمحمد صلى الله عليه وسلم أب ترقب عطاياه، أو غنى تغري جدواه، فلا عجب إذا زهدت فيه المراضع وتطلّعن إلى غيره. وكانت (حليمة بنت أبي ذؤيب) من قبيلة (بني سعد) إحدى القادمات إلى مكة ابتغاء العودة برضيع تستعين على العيش بحضانته، ولم يرض طموحها أول الأمر طفل يتيم؛ إلا أنها لم تجد طلبتها، واستحيت أن تعود صفر اليدين، فرجعت إلى (امنة) تأخذ منها (محمدا) صلى الله عليه وسلم. وكانت البركة في مقدمه معها، كانت سنواتها عجافا من قبله، فامتنّ الله عليها بخير مضاعف: درّت الضروع بعد جفاف، ولان العيش وأخصب، وشعرت حليمة وزوجها وولدها بأن أوبتهم من مكة كانت باليمن والغنم، لا بالفقر واليتم، ممّا زاد تعلّقهم بالطفل وإعزازهم له. وتنشئة الأولاد في البادية، ليمرحوا في كنف الطبيعة، ويستمتعوا بجوّها الطلق وشعاعها المرسل، أدنى إلى تزكية الفطرة، وإنماء الأعضاء والمشاعر، وإطلاق الأفكار والعواطف. إنها لتعاسة أن يعيش أولادنا في شقق صغيرة من بيوت متلاصقة كأنها علب أغلقت على من فيها، وحرمتهم لذة التنفس العميق والهواء المنعش.

ولا شك أن اضطراب الأعصاب الذي قارن الحضارة الحديثة يعود- فيما يعود إليه- إلى البعد عن الطبيعة، والإغراق في التصنّع. ونحن نقدّر لأهل مكة اتجاههم إلى البادية لتكون عرصاتها الفساح مدارج طفولتهم، وكثير من علماء التربية يودّ لو تكون الطبيعة هي المعهد الأول للطفل حتى تتّسق مداركه مع حقائق الكون الذي وجد فيه، ويبدو أن هذا حلم عسر التحقيق.

شق الصدر

شق الصدر مكث (محمد) صلى الله عليه وسلم في مضارب (بني سعد) خمس سنوات، صحّ فيها بدنه واطّرد نماؤه، وهذه السنوات الخمس هي عمر الطفل، فلا ينتظر أن يقع فيها شيء يذكر، غير أن السنن الصحاح سجلت في هذه الفترة ما عرف بعد بحادث (شق الصدر) . عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه، فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرجه، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده إلى مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمّه- يعني مرضعته- أن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون «1» . وهذه القصة التي روّعت حليمة وزوجها، ومحمد مسترضع فيهم، نجدها قد تكررت مرة أخرى ومحمد عليه الصلاة والسلام رسول جاوز الخمسين من عمره، فعن مالك بن صعصعة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم عن ليلة أسري به، قال: «بينا أنا في الحطيم- وربما قال: في الحجر- مضطجع بين النائم واليقظان أتاني ات، فشقّ ما بين هذه إلى هذه- يعني ثغرة نحره إلى شعرته- قال: فاستخرج قلبي: ثم أتيت بطست من ذهب مملوء إيمانا، فغسل قلبي، ثم حشي ثم أعيد ... » «2» . لو كان الشرّ إفراز غدة في الجسم ينحسم بانحسامها؛ أو لو كان الخير مادة

_ (1) حديث صحيح، أخرجه مسلم: 1/ 101- 102؛ وأحمد: 3/ 121، 149، 228، زاد في اخره: وقال أنس: وكنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره، وللحديث شواهد كثيرة، منها عن عتبة بن عبد السلمي عند الدارمي: 1/ 8؛ والحاكم: 2/ 616، صححه ووافقه الذهبي، ومنها عن أبي بن كعب عند عبد الله بن أحمد في زوائد المسند: 5/ 139؛ ومنها عن أبي ذر عند ابن جرير في تاريخه: 2/ 51- 52. (2) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 6/ 332؛ ومسلم: 1/ 103- 104؛ والنسائي: 1/ 76، من حديث مالك بن صعصعة.

يزوّد بها القلب كما تزوّد الطائرة بالوقود، فتستطيع السموّ والتحليق ... لقلنا: إنّ ظواهر الاثار مقصودة، ولكن أمر الخير والشر أبعد من ذلك؛ بل من البديهي أنّه بالناحية الروحية في الإنسان ألصق. وإذا اتصل الأمر بالحدود التي تعمل الروح في نطاقها، أو بتعبير اخر: عند ما ينتهي البحث إلى ضرورة استكشاف الوسائل التي يسيّر بها الروح هذا الغلاف المنسوج من اللحم والدم، يصبح البحث لا جدوى منه؛ لأنه فوق الطاقة. وشيء واحد هو الذي نستطيع استنتاجه من هذه الاثار، أن بشرا ممتازا كمحمد صلى الله عليه وسلم لا تدعه العناية غرضا للوساوس الصغيرة التي تناوش غيره من سائر الناس؛ فإذا كانت للشر (موجات) تملأ الافاق، وكانت هناك قلوب تسرع إلى التقاطها، والتأثّر بها، فقلوب النبيّين- بتولي الله لها- لا تستقبل هذه التيارات الخبيثة ولا تهتزّ لها. وبذلك يكون جهد المرسلين في (متابعة الترقي) لا في (مقاومة التدلّي) ، وفي تطهير العامة من المنكر، لا في التطهر منه، فقد عافاهم الله من لوثاته. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وقد وكّل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة» . قالوا: وإياك يا رسول الله! قال: «وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير» «1» . وفي حديث عن عائشة رضي الله عنها، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أغرت؟» قالت: وما لمثلي لا يغار على مثلك! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد جاءك شيطانك!» قالت: أو معي شيطان؟! قال: «ليس أحد إلا ومعه شيطان» . قالت: ومعك؟ قال: «نعم، ولكن أعانني الله عليه فأسلم» «2» . أي: انقاد وأذعن فلا يستطيع أن يهجس بشرّ. ولعلّ أحاديث شق الصدر تشير إلى هذه الحصانات التي أضفاها الله على محمد صلى الله عليه وسلم، فجعلته من طفولته بنجوة قصية عن مزالق الطبع الإنساني، ومفاتن الحياة الأرضية، وقد أورد الخازن في تفسيره القصة الأولى- أيام الرضاعة- عند تفسيره لقول الله عز وجلّ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) ... [الشرح] .

_ (1) حديث صحيح، أخرجه مسلم في صحيحه: 8/ 139، عن ابن مسعود. (2) حديث صحيح، أخرجه مسلم عنها، في الموضع السابق.

وشرح الصدر الذي عنته الايات ليس نتيجة جراحة يجريها ملك أو طبيب، ويحسن أن تعرف شيئا عن أساليب الحقيقة والمجاز التي تقع في السنة. عن عائشة رضي الله عنها أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن: يا رسول الله، أينا أسرع بك لحوقا؟ قال: «أطو لكن يدا» . فأخذن قصبة يذر عنها، فكانت سودة أطولهن يدا، فعلمنا بعد أنما كان طول يدها بالصّدقة، وكانت تحبّ الصدقة، وكانت أسراعنا لحوقا به «1» ... اب (محمد) صلى الله عليه وسلم إلى مكة بعد أعوام طيبة قضاها في البادية، اب ليجد أمّا كريمة حبست نفسها عليه، وشيخا مهيبا يلتمس في مراه العزاء عن ابنه الذي خلّى مكانه في شرخ الشباب، وكأن الأيام أبت له قرارا بين هذه الصدور الرقيقة، فأخذت تحرمه منها، واحدا بعد الاخر. رأت (امنة) - وفاء لذكرى زوجها الراحل- أن تزور قبره ب (يثرب) ، فخرجت من (مكة) قاطعة رحلة تبلغ خمسمئة كيلو متر في الذهاب غير مثيلتها في الإياب، ومعها في هذه السفرة الشاقة ابنها (محمد) صلى الله عليه وسلم، وخادمتها (أم أيمن) ، وعبد الله لم يمت في أرض غريبة؛ فقد مات بين أخواله بني النجار؛ قال ابن الأثير: «إن هاشما شخص في تجارة إلى الشام، فلما قدم المدينة نزل على عمرو بن لبيد الخزرجي، فرأى ابنته (سلمى) فأعجبته، فتزوّجها، وشرط أبوها ألا تلد ولدا إلا في أهلها، ثم مضى هاشم لوجهه، وعاد من الشام فبنى بها في أهلها، ثم حملها إلى مكة فحملت، فلما أثقلت ردّها إلى أهلها ومضى إلى الشام، فمات ب (غزة) ، وولدت له (سلمى) عبد المطلب، فمكث في المدينة سبع سنين ... » . وقد ظلّ محمد عليه الصلاة والسلام لدى أخواله قريبا من قبر أبيه نحو

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 3/ 222، من طريق مسروق، عن عائشة بهذا السياق، إلا أنه قال: «وكانت أسراعنا لحوقا به، وكانت تحب الصدقة» ؛ وأخرجه مسلم: 7/ 144، من طريق عائشة بنت طلحة؛ والحاكم من طريق عمرة كلتاهما عن عائشة بنحوه، وفي روايتهما: «فكانت أطولنا يدا زينب؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق» . وهذا يخالف رواية البخاري، فإن ظاهرها أن سودة هي التي لحقت به أولا، وهو خطأ بيّن كما حققه الحافظ في الفتح. وقد رجّح فيه رواية مسلم وهو الحق. فمن شاء الزيادة في التحقيق فليرجع إليه. وزينب هذه هي بنت جحش، لا بنت خزيمة كما توهّم بعضهم.

شهر، ثم قفل عائدا إلى مكة، وإذا المرض يلاحق أمّه ويلحّ عليها في أوائل الطريق، فماتت ب (الأبواء) ، وتركته وحيدا مع الخادم المشدوهة لحال طفل يفقد أباه وهو جنين، ويفقد أمه وهو ابن خمس سنين. إنّ المصاب الجديد نكأ الجروح القديمة، مما جعل مشاعر الحنوّ في فؤاد (عبد المطلب) تربو نحو الصبي الناشئ، فكان لا يدعه لواحدته المفروضة، بل يؤثر أن يصحبه في مجالسه العامة؛ كان إذا جلس على فراشه بجوار الكعبة، أدناه منه، في حين يجلس الشيوخ حوله. وقد تأخرت سن عبد المطلب حتى قيل: إنه توفي وله مئة وعشرون سنة، إلا أنه فارق الحياة وعمر (محمد) صلى الله عليه وسلم يناهز الثمانية؛ فرأى- قبل وفاته- أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمّه أبي طالب. ونهض أبو طالب بحقّ ابن أخيه على أكمل وجه، ضمّه إلى ولده، وقدّمه عليهم، واختصّه بفضل احترام وتقدير، وظل فوق أربعين سنة يعزّ جانبه ويبسط عليه حمايته، ويصادق ويخاصم من أجله. ودرج محمد عليه الصلاة والسلام في بيت أبي طالب والسن تمضي به قدما إلى الوعي العميق بما حوله؛ فأصر على أن يشارك عمه هموم العيش، إذ كان أبو طالب- على كثرة أولاده- قليل المال، فلما قرر أن يمضي على سنن ابائه في متابعة الرحيل إلى الشام ابتغاء الاتجار والربح، قرر أن يكون معه، وكان عمره نحو الثلاث عشرة سنة.

بحيرا الراهب

بحيرا الراهب ولا نجد في السّنن الصحاح أنباء تصف هذه الرحلة- رحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام برفقة عمه أبي طالب-، إن الأسفار من أخصب أبواب المعرفة، وأعمقها أثرا، ومثل محمد عليه الصلاة والسلام في صفاء ذهنه ونقاء قلبه، لا يعزب عنه وجه العبرة فيما يرى، في حلّه أو ترحاله، على أن من المقطوع به أنه لم يخرج لدراسة دين أو فلسفة، ولم يلق من يتحدّث معه في ذلك، وقد روت كتب الأخبار بعض خوارق، ذكرت أنها وقعت له، من ذلك التقاؤه بالراهب (بحيرا) الذي تفرّس فيه، ورأى معالم النبوة في وجهه وبين كتفيه، فلمّا سأل أبا طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني، قال: ما ينبغي أن يكون أبوه حيّا! قال: فإنه ابن أخي، مات أبوه وأمه حبلى به، قال: صدقت، ارجع به إلى بلدك واحذر عليه يهود. وقد تكون هذه القصة صحيحة؛ فإنّ البشارة بنبيّ بعد عيسى عليه السّلام موجودة في الكتاب المقدّس عند النصارى، وهم- منذ تكذيبهم برسالة محمد عليه الصلاة والسلام- يرقبون هذا النبيّ المنتظر، ولن يجيء أبدا ... لأنّه جاء فعلا..!. وسواء صحّت قصة (بحيرا) هذه أم بطلت «1» ؛ فمن المقطوع به أنها لم تخلف بعدها أثرا، فلا محمد- عليه الصلاة والسلام- تشوّف للنبوة أو استعدّ لها لكلام الراهب- ولا أصحاب القافلة تذاكروا هذا الحديث أو أشاعوه؛ لقد طويت كأن لم تحدث، مما يرجّح استبعادها. وقيل أيضا: إن كوكبة من فرسان الروم أقبلت على (بحيرا) كأنها تبحث عن شيء، فلما سألها: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا لأنّ نبيا يخرج هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليها الناس للقبض عليه، فجادلهم (بحيرا) حتى أقنعهم بعبث ما يطلبون.

_ (1) بل هي صحيحة، فقد أخرجها الترمذي: 4/ 296، من حديث أبي موسى الأشعري، وقال: «هذا حديث حسن» . قلت: وإسناده صحيح، كما قال الجزري. قال: «وذكر أبي بكر وبلال فيه غير محفوظ» . قلت: وقد رواه البزار، فقال: «وأرسل معه عمه رجلا» .

والمحققون [1] على أنّ هذه الرواية موضوعة مضاهاة لما يذكره الإنجيليون، من أن ناسا طلبوا المسيح عقب ولادته لقتله، وهي عند المسيحيين مضاهاة لما عند الوثنيين من أن بوذا لما وضعته أمه العذراء طلبه الأعداء ليقتلوه.. إنّ علماء السّنة يهتمّون بالأخبار الواردة- من ناحيتي المتن والسند- فإذا لم تفد علما ثابتا، أو ظنّا راحجا لم يكترثوا بها. وقد انضمّت أساطير كثيرة إلى سير المرسلين، وعند ما تعرض على القواعد المقررة في فنّ التحديث يظهر عوارها ويساغ اطّراحها.

_ (1) من هم هؤلاء المحققون؟ ومن أين جاء الوضع المذكور؟! وهذه الرواية هي في حديث أبي موسى المتقدّم، وقد علمت صحته. وماذا تضرّ المضاهاة بعد الثبوت؟! أفلا ترى أن ما يذكره الإنجيليون يضاهي ما هو ثابت في القران الكريم من طلب فرعون لموسى في قتله الأنبياء؟ أفنردّ هذا للمشابهة المذكورة؟! اللهم: لا*.

حياة الكدح

حياة الكدح عاد محمد عليه الصلاة والسلام من هذه الرحلة ليستأنف مع عمّه حياة الكدح، فليس من شأن الرجال أن يقعدوا، ومن قبله كان المرسلون يأكلون من عمل أيديهم، ويحترفون مهنا شتى ليعيشوا على كسبها. وقد صحّ أن محمدا عليه الصلاة والسلام اشتغل صدر حياته برعي الغنم، وقال: «كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» ... كما ثبت أن عددا من الأنبياء اشتغل برعايتها «1» ، أترى ذلك تعويدا لهم على سياسة العامة، والرفق بالضعفاء والسهر على حمايتهم؟. وقد تسأل: أتنقدح المعارف المتصلة بالكون وما وراءه، والناس وما يفيضون فيه- أتنقدح حقائقها في نفوس المرسلين فجأة، دون إعداد سابق أو تهيئة حكيمة؟. والجواب: كلّا، فالأنبياء- وإن لم يتعلّموا بالطرق التي يتعلم بها أمثالنا- لهم من سلامة فكرهم واستقامة نظرهم ما يجعلهم في طليعة العلماء وإن لم يتعلّموا بما نعهد من أساليب. ما العلم الذي ترقى به النفس؟ أهو حفظ الدروس واستيعاب القواعد والقوانين؟. إنّ هناك ببغاوات كثيرة تردّد ما تسمع دون وعي، ولقد نرى أطفالا صغارا يلقون- بإتقان وتمثيل- خطبا دقيقة لأشهر الساسة والقادة. فلا الأطفال- بما استحافظوا من كلام الأئمة- أصبحوا رجالا، ولا الببغاوات تحوّلت بشرا. وقد تجد من يحفظ ويفقه، ويجادل ويغلب، ولكن العلم في نفسه كعروق الذهب في الصخور المهملة، لا يبعث على خير، ولا يزجر عن شر.

_ (1) أخرجه البخاري: 4/ 349، من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم» . فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» .

وقد شبّه القران أحبار اليهود الذين يحملون التوراة ولا يتأدّبون بها بالحمير: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5] . وهذه الطبائع التي تحمل العلم لا تصلح به إنّما تسيء إليه، ولذلك يحسن الضنّ به عليها، وفي الأثر: «واضع العلم عند غير أهله كمقلّد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب» «1» . ثم هناك الخرافيّون الذين يغالطون في الحقائق أنفسهم، كأنّ عقولهم ميزان ثقلت إحدى كفتيه- لغير سبب-؛ فهو لا يضبط وزنا أبدا، ينبسطون للمستحيلات ويقبلونها، ويتجهّمون للوقائع ويرفضونها. وقد بلونا أناسا ظلوا يتعلّمون قرابة عشرين سنة تعرض عليهم القضية فيخبطون فيها خبط عشواء، فإذا عرضت القضية نفسها على أمّيّ سليم الفطرة، نقيّ العقل؛ صدع فيها بالحقّ لأول وهلة. ومعنى ذلك: أن هناك من تبذل في إقامة عوجه العقلي عشرين سنة، حافلة بالبحث والدرس، فتعجز عن الوصول به إلى مرتبة رجل أوتي رشده بأصل الخلقة. ونحن موقنون من مطالعة سيرة محمد عليه الصلاة والسلام بأنه طراز رفيع من الفكر الصائب، والنظر السديد، وأنّه- قبل رعي الغنم وبعده، وقبل احتراف التجارة وبعدها- كان يعيش يقظ القلب في أعماء الصحراء، صاحيا بين السّكارى والغافلين. وجوّ الجزيرة العربية يزيد خمول الخامل، واحدّة اليقظان، كالشعاع الذي ينمي الأشواك والورود معا، وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم يستعين بصمته الطويل ... صمته الموصول بالليل والنهار، صمته المطبق على الرمال الممتدة، والعمران القليل. كان يستعين بهذا الصمت على طول التأمّل، وإدمان الفكر، واستكناه الحق. ودرجة الارتقاء النفسيّ التي بلغها من النظر الدائم أرجح يقينا من حفظ لا فهم فيه، أو فهم لا أدب معه، ومثله في احترام حقائق الكون والحياة أولى بالتقديم من أولئك الذين اعتنقوا الأوهام وعاشوا بها ولها.

_ (1) حديث ضعيف جدا، علقه ابن عبد البر في (جامع العلم) : 1/ 111؛ ووصله ابن ماجه في سننه: 1/ 98، وفي سنده حفص بن سليمان وهو الأسدي القاري، ال ابن خراش: «كذاب يضع الحديث» وضعفه غيره؛ وقال أبو حاتم: «متروك» . وكذا قال الحافظ في التقريب.

ولا شكّ أنّ القدر حاطه بما يحفظ عليه هذا الاتجاه الفذّ؛ فعند ما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض متاع الدنيا- وذلك من قبيل الصغائر التافهة- تتدخّل العناية للحيلولة بينه وبين هذه الأمور. روى ابن الأثير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملونه غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمني برسالته؛ قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب! فقال: أفعل، فخرجت، حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفا، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: عرس فلان بفلانة، فجلست أسمع، فضرب الله على أذني، فنمت، فما أيقظني إلا حرّ الشمس، فعدت إلى صاحبي، فسألني، فأخبرته، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، ودخلت مكة فأصابني مثل أول ليلة ... ثم ما هممت بعده بسوء ... » «1» .

_ (1) حديث ضعيف، أخرجه الحاكم: 4/ 245، من طريق ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الله بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن علي، عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ... فذكره، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم» ، ووافقه الذهبي. قلت: وهو وهم منهما معا لأمرين: الأول: أن ابن إسحاق إنما يروي له مسلم مقرونا بغيره، كما ذكر ذلك الذهبي نفسه في الميزان، والحاكم لم يروه عنه مقرونا بغيره كما ترى، فليس هو على شرط مسلم. الثاني: أن محمد بن عبد الله بن قيس ليس مشهور العدالة، فلم يوثّقه غير ابن حبان. وتوثيقه عند ما ينفرد به لا يوثق به، لأن من قاعدته أن يوثق المجهولين، كما أفاده المحققون كالحافظ ابن حجر في (اللسان) ؛ ولهذا لما أورد الحافظ ابن قيس هذا في (التقريب) لم يوثقه، بل قال فيه: مقبول: يعني: أنه لين الحديث، حيث لا يتابع كما نص على هذا في مقدمة الكتاب. ثم هو ليس من رجال مسلم خلافا لمن وهم. وقد ضعف هذا الحديث الحافظ ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية: 2/ 287، بعد أن ساقه بالسند المذكور من رواية البيهقي، حيث قال: «وهذا حديث غريب جدا» وقد يكون عن علي نفسه (يعني: موقوفا عليه) ، ويكون قول: «حتى أكرمني الله عز وجلّ بنبوته» مقحما والله أعلم. وشيخ ابن إسحاق هذا ذكره ابن حبان في الثقات، وزعم بعضهم أنه من رجال الصحيح، قال شيخنا في تهذيبه: «ولم أقف على ذلك. والله أعلم» . ثم وجدت الحديث في تاريخ مكة، ص 7، للفاكهي؛ وتاريخ ابن جرير: 2/ 34 من الطريق المذكور. ورواه الطبراني في المعجم الصغير ص 190، من حديث عمار بن ياسر، وفي سنده جماعة لم أعرفهم، وذكر نحو هذا الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: 8/ 226.

[أهداف التعليم] :

[أهداف التعليم] : إن مراتب التعليم المختلفة هي مراحل جهاد متصل لتهذيب العقل وتقوية ملكاته وتصويب نظرته إلى الكون والحياة والأحياء. فكل تعليم يقصر بأصحابه عن هذا الشأو لا يؤبه له، مهما وسم بالشهادات والإجازات! وأحقّ منه بالحفاوة، وأسبق منه إلى الغاية المنشودة، أن ينال المرء حظّا وافرا من حسن الفطنة، وأصالة الفكرة، وسداد الوسيلة والهدف. وقد أشار القران الكريم إلى نصيب (إبراهيم) عليه السّلام من هذه الخصال عند ما قال: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) [الأنبياء] . ومحمد عليه الصلاة والسلام في هذا المنهج كجدّه إبراهيم: إنه لم يتلقّ علما على راهب أو كاهن أو فيلسوف ممن ظهروا على عهده، ولكنّه بعقله الخصب، وفطرته الصافية؛ طالع صحائف الحياة وشؤون الناس وأحوال الجماعات، فعاف منها ما سادها من خرافة، ونأى عنها، ثم عاشر الناس على بصيرة من أمره وأمرهم، فما وجده حسنا شارك فيه بقدر، وإلا عاد إلى عزلته العتيدة، يتابع النظر الدائم في ملكوت السموات والأرض، وذلك أجدى عليه من علوم هي بالجهل المركب أشبه، ومن مجتمع فقد الهداة من قرون، فهو يضمّ ضلالا جديدا إلى الضّلال القديم كلّما مرت عليه ليلة وطلع صباح.. وقد رأى أن يشهد الأعمال العامّة التي اهتمّ بها قومه؛ لأنه لم يجد أيّ حرج إذ يشارك فيها، ومن ذلك خوضه مع عمومته وقبيلته (حرب الفجار) ، ثم شهوده من بعد (حلف الفضول) .

حرب الفجار

حرب الفجار كانت حرب الفجار بالنسبة إلى قريش دفاعا عن قداسة الأشهر الحرم، ومكانة أرض الحرم؛ وهذه الشعائر بقية ممّا احترمه العرب من دين إبراهيم، وكان احترامها مصدر نفع كبير لهم، وضمانا لانتظام مصالحهم، وهدوء عداوتهم؛ كان الرجل يلقى قاتل أبيه خلالها فيحجزه عن إدراك ثأره شعوره بهذه الحرمات، وقد جاء الإسلام بعد فأقرّ هذه المكانة الموروثة عن ديانة إبراهيم: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ... [التوبة: 36] . ولكنّ أهل الجاهلية ما لبثوا أن ابتلوا بمن استباحها، فظلموا أنفسهم بالقتال فيها، وكانت حرب الفجار من اثار هذه الاستباحة الجائرة، وليس هنا تفصيل خبرها وقد ظلت أربعة أعوام كان عمر (محمد) صلى الله عليه وسلم في أثنائها بين الخمسة عشر، والتسعة عشر، قيل: قاتل فيها بنفسه. وقيل: بل أعان المقاتلين ...

حلف الفضول

حلف الفضول أما (حلف الفضول) فهو دلالة على أنّ الحياة مهما اسودّت صحائفها، وكلحت شرورها، فلن تخلو من نفوس تهزّها معاني النبل، وتستجيشها إلى النجدة والبر. ففي الجاهلية الغافلة نهض بعض الرجال من أولي الخير، وتواثقوا بينهم على إقرار العدالة وحرب المظالم، وتجديد ما اندرس من هذه الفضائل في أرض الحرم!. قال ابن الأثير «1» : « ... ثم إن قبائل من قريش تداعت إلى ذلك الحلف، فتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه، وكانوا بني هاشم، وبني المطلب، وبني أسد بن عبد العزّى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فتحالفوا وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها، أو من غيرهم من سائر الناس؛ إلا قاموا معه؛ وكانوا على من ظلمه، حتى تردّ مظلمته، فسمّت قريش ذلك الحلف (حلف الفضول) فشهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال- حين أرسله الله تعالى-: «لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان؛ ما أحبّ أن لي به حمر النّعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت» » «2» . إنّ بريق الفرح- بهذا الحلف- يظهر في ثنايا الكلمات التي عبّر بها

_ (1) هو عز الدين علي بن محمد بن الأثير الجزري، صاحب (الكامل في التاريخ) ، توفي سنة (630 هـ) . انظر: الأعلام. (ن) . (2) رواه ابن إسحاق في السيرة كما في ابن هشام: 1/ 92، من الطبعة الجمالية، قال محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي: إنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره، قلت: وهذا سند صحيح لولا أنه مرسل، ولكن له شواهد تقوّيه، فرواه الحميدي بإسناد اخر مرسلا أيضا، كما في (البداية) : 2/ 29؛ وأخرجه الإمام أحمد، رقم (1655، 1676) من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعا دون قوله: «ولو دعيت به في الإسلام لأجبت» ، وسنده صحيح.

رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فإنّ هذه الحمية للحق ضدّ أي ظالم مهما عزّ، ومع أي مظلوم مهما هان؛ هي روح الإسلام الامر بالمعروف، الناهي عن المنكر، الواقف عند حدود الله. ووظيفة الإسلام أن يحارب البغي في سياسات الأمم، وفي صلات الأفراد على سواء.. وقيل في سبب الحلف: إن رجلا من (زبيد) أتى بتجارة إلى مكة، فاشتراها العاصي بن وائل السهمي، ثم حبس حقّها وأبى أن يدفعه! فاستعدى عليه قبائل قريش والأحلاف، فلم يكترثوا له، فوقف الغريب المظلوم عند الكعبة وأنشد: يا ال فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنّفر! ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال- وبين الحجر والحجر! إنّ الحرام لمن تمّت كرامته ... ولا حرام بثوب الفاجر الغدر فقام الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مترك! فاجتمع الذين ذكرهم ابن الأثير انفا، وذهبوا إلى العاصي بن وائل، واستخلصوا منه حقّ الزبيدي. بعد ما أبرموا حلف الفضول. ويظهر أن العاصي هذا رجل مماطل سمج، فهو صاحب القصة كذلك مع خبّاب بن الأرت، وكان خباب قينا، فصنع سيفا للعاصي، وأتاه لينقده ثمنه، فقال العاصي: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، فقال له خبّاب: لا أكفر حتى يميتك الله، ثم تبعث. فقال العاصي: وإني لميّت ثم مبعوث؟! قال: بلى، قال: دعني حتى أموت وأبعث، فسأوتى مالا وولدا، فأقضيك- حقّ السيف- فنزلت الايات: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) [مريم] . وأمثال العاصي هذا في ميدان التجارة والسياسة كثير، ومحمد صلى الله عليه وسلم أولى الناس بخصومتهم، وأولى الناس بمحمد صلى الله عليه وسلم من أعان عليهم، وواثق على حربهم.

قوة ونشاط

قوة ونشاط عند ما انتهت حرب الفجار، وأبرم حلف الفضول، كان محمد عليه الصلاة والسلام يستقبل المرحلة الثالثة من عمره، وهذه الفترة وما قبلها هي عهد الشباب الحار، والغرائز الفائرة، والطماح البعيد. ومحمد عليه الصلاة والسلام رجل قوي البدن، عالي الهمة، رفيع المكانة، وقد لو حظت طاقته الواسعة حتى بعد هذه السنّ بنحو أربعين سنة؛ قال أبو هريرة رضي الله عنه: «ما رأيت أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم! كأنّ الشمس تجري في وجهه! وما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم! لكأنما الأرض تطوى له! كنّا إذا مشينا معه نجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث» «1» . ومثل هذا الرجل تقبل عليه الحياة لو لم يقبل هو عليها، وعلى من تقبل الحياة بعده؟! على الواهمين والمنكمشين والمتشائمين؟!. لكن محمدا عليه الصلاة والسلام- على ما يملك من وسائل المتاع- ما أثرت عنه قطّ شهوة عارضة، أو نزوة خادشة، أو حكيت عنه مغامرة لنيل جاه، أو اصطياد ثروة، بل على العكس؛ بدأت سيرته تومض في أنحاء مكة بما امتاز به على أقرانه- إن صحّت الإضافة- من خلال عذبة، وشمائل كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق، ونهج أمين. وليس شرف النفس أن تنتهي شهوة الإنسان إلى الحياة، أو توجد الشهوة وتنتفي وسائل بلوغها، بل الشرف أن تكون قوة العفاف أربى من نوازع الهوى، فإذا ظلّت النفس في حالة سكون، فلتعادل القوى السالبة والموجبة فيها، وقد تجد رجلا تافها هزيلا لا يخفى له طمع، ولا تنحبس له شهوة، لو قست غرائزه

_ (1) هذا الحديث ضعيف الإسناد، أخرجه الترمذي في سننه: 4/ 206؛ وفي الشمائل: 1/ 117، وضعّفه بقوله: «هذا حديث غريب» ، والسبب أنه من رواية ابن لهيعة، وهو ضعيف لسوء حفظه، واحتراق كتبه.

المنفلتة بغرائز غيره المضبوطة ما بلغت عشر قوتها، لكن هذه وجدت زماما من الرّشد، فكظم عليها، وتلك لم تجد عقلا يردع، ولا خلقا يعصم، فثارت وتمردت ... وقد كانت رجولة محمد عليه الصلاة والسلام في القمّة، بيد أن قواه الروحية، وصفاءه النفسيّ جعلا هذه الرجولة تزداد بمحامد الأدب والاستقامة والقنوع، ثم إنه كان معافى من العقد الكريهة التي تزيّن للشباب تعشّق العظمة عن طريق التظاهر والرياء، أو تطلّب الرياسة عن طريق المداهنة واشتراء العواطف، فإذا انضمّ لهذا كرهه الشديد للأصنام التي عكف عليها قومه، وازدراؤه للأوهام والأهواء التي تسود الجزيرة وما وراءها، وإدراكه أنّ الحق شيء اخر وراء هذه الخرافات الغالبة.. تبينا السر في استئناسه للجبال والفضاء، واستراحته إلى رعي الغنم في هذه الأنحاء القصيّة، مكتفيا بالقليل الذي يعود عليه من كسبها. أهذا زهد في المال، أو إعراض عن الحياة الدنيا؟ لا؛ إنما هو انشغال بالحقائق العليا التي تصلح بها ويسخّر فيها المال، والرجال الكبار لا تشبعهم كنوز الذهب والفضة إذا ظمئوا إلى الحق، ولا يريحهم أن يكونوا ملوك قومهم أو ملوك الحياة إذا رأوا المساخر الشائنة تسير بالحياة كلها إلى منحدر تسقط فيه أقدار الناس، وتعتري فيه الدنيا جمعاء من كل خير وبر. كذلك استقبل محمد عليه الصلاة والسلام المرحلة الثالثة من عمره؛ وهي المرحلة التي تعرّف فيها إلى زوجه الأولى (خديجة بنت خويلد) رضي الله عنها.

خديجة رضي الله عنها

خديجة رضي الله عنها و (خديجة) مثل طيّب للمرأة التي تكمّل حياة الرجل العظيم، إن أصحاب الرسالات يحملون قلوبا شديدة الحساسية، ويلقون غبنا بالغا من الواقع الذي يريدون تغييره، ويقاسون جهادا كبيرا في سبيل الخير الذي يريدون فرضه، وهم أحوج ما يكونون إلى من يتعهّد حياتهم الخاصة بالإيناس والترفيه، بله الإدراك والمعونة! وكانت خديجة سبّاقة إلى هذه الخصال، وكان لها في حياة محمد صلى الله عليه وسلم أثر كريم. قال ابن الأثير: «كانت- خديجة- امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، فلمّا بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الحديث، وعظم الأمانة، وكرم الأخلاق، أرسلت إليه ليخرج في مالها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره، ومعه غلامها ميسرة» . وقد قبل محمد عليه الصلاة والسلام هذا العرض، ورحل إلى الشام عاملا في مال السيدة التي اختارته، ويظهر أن التوفيق حالفه في هذه الرحلة، أكثر من سابقتها مع عمّه أبي طالب، فكان ربحها أجزل، وسرّت خديجة بهذا الخير الذي أحرزته، ولكن إعجابها بالرجل الذي اختبرته كان أعمق. ... إنها امرأة عريقة النسب، ممدودة الثروة، وقد عرفت بالحزم والعقل، ومثلها مطمح لسادة قريش، لولا أن السيدة كانت تحقر في كثير من الرجال أنهم طلاب مال لا طلاب نفوس، وأن أبصارهم ترنو إليها بغية الإفادة من ثرائها، وإن كان الزواج عنوان هذا الطمع! لكنها عند ما عرفت محمدا عليه الصلاة والسلام، وجدت ضربا اخر من الرجال؛ وجدت رجلا لا تستهواه ولا تدنيه حاجة، ولعلها عند ما حاسبت غيره في تجارتها وجدت الشحّ والاحتيال، أما مع محمد صلى الله عليه وسلم فقد رأت رجلا تقفه كرامته الفارعة موقف النّبل والتجاوز، فما تطلّع إلى مالها ولا إلى جمالها! لقد أدى ما عليه ثم انصرف راضيا مرضيا.

[الزواج الميمون] :

ووجدت خديجة ضالّتها المنشودة؛ فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها (نفيسة بنت منيّة) ؛ وهذه ذهبت إلى محمد عليه الصلاة والسلام تفاتحه أن يتزوّج من خديجة، فلم يبطئ في إعلان قبوله، ثم كلم أعمامه في ذلك، فذهب أبو طالب وحمزة وغيرهما إلى عمّ خديجة عمرو بن أسد- إذ إنّ أباها مات في حرب الفجار- وخطبوا إليه ابنة أخيه، وساقوا إليها الصّداق عشرين بكرة، ووقف أبو طالب يخطب في حفل الزواج قائلا: «إنّ محمدا لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به، شرفا ونبلا وفضلا وعقلا، وإن كان في المال قلّا، فإنما المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك» فكان جواب ولي خديجة- عمّها عمرو-: «هو الفحل الذي لا يقدع أنفه» وأنكحها منه ... وقيل: إنّ العبارة الأخيرة جرت على لسان (أبي سفيان) عند ما تزوّج محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته أم حبيبة، وكانت الحرب بينهما على أشدّها، فاعتذر أبو سفيان عن ذلك بأن محمدا الرجل من الكفاءة بحيث يعتبر الإصهار إليه منقبة!. والخصومة القائمة بينهما لا تنزل بقدر محمد عليه الصلاة والسلام أبدا، ونكاحه لبنت أبي سفيان لا يشين أبا سفيان أبدا، وإن كان يومئذ ألدّ عدوّ له. [الزواج الميمون] : كان محمد عليه الصلاة والسلام في الخامسة والعشرين عند ما تزوّج خديجة، وكانت هي قد ناهزت الأربعين، وظل هذا الزواج قائما حتى ماتت خديجة عن خمسة وستين عاما، كانت طوالها محلّ الكرامة والإعزاز، وقد أنجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاده جميعا منها، ما عدا إبراهيم. ولدت له أولا (القاسم) ، وبه كان يكنى بعد النبوة، ثم (زينب) ، و (رقية) ، و (أم كلثوم) ، و (فاطمة) ، و (عبد الله) ، وكان (عبد الله) يلقّب بالطيّب والطاهر، ومات (القاسم) بعد أن بلغ سنا تمكّنه من ركوب الدّابة والسير على النجيبة، ومات عبد الله وهو طفل، ومات سائر بناته في حياته؛ إلا فاطمة فقد تأخّرت بعده ستة أشهر، ثم لحقت به. كان قران محمد عليه الصلاة والسلام بخديجة خيرا له ولها، ولا شكّ أن هذا البيت الجديد قد اصطبغ بروح ربّ البيت، روح التطهّر من أدران الجاهلية، والترفّع عن تقديس الأوثان.

وقد استأنف محمد عليه الصلاة والسلام ما ألفه بعد زواجه من حياة التأمّل والعزلة، وهجر ما كان عليه العرب في أحفالهم الصاخبة من إدمان ولغو وقمار ونفار، وإن لم يقطعه ذلك عن إدارة تجارته، وتدبير معايشه، والضرب في الأرض والمشي في الأسواق. إنّ حياة الرجل العاقل وسط جماعة طائشة تقتضي ضروبا من الحذر والرويّة، وخصوصا إذا كان الرجل على خلق عظيم يتقاضاه لين الجانب، وبسط الوجه. ولم يكن ثمة ما يقلق في هذه الزيجة الموفّقة إلا ألم خديجة لهلاك الذكور من بنيها؛ مع ما للذكران من منزلة خاصّة في أمّة كانت تئد البنات، وتسودّ وجوه ابائهنّ عند ما يبشّرون بهن!!. والغريب أنّ العرب بعد البعثة كانوا يعيّرون محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا، ويعلنون ارتقابهم لانقطاع أثره وانتهاء ذكره؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن قريشا تواصت بينها في التمادي في الغيّ والكفر، وقالت: الذي نحن عليه أحقّ مما عليه هذا الصنبور المنبتر- والصنبور: النخلة التي اندقّ أصلها- يعنون أن محمدا عليه الصلاة والسلام إذا مات لم يرثه عقب، ولم يحمل رسالته أحد أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) [الطور] !!. ومحمّد صلى الله عليه وسلم ورسالته فوق هذه الأماني الصغيرة، إلا أنّ الأسى كان يغزو قلب الوالد الجليل وهو يودع أبناءه الثرى، فيجدد الثكل ما رسب في أعماقه من الام اليتم، إنّ غصنه تشبث بالحياة، فاستطاع البقاء والنماء برغم فقدانه أبويه، وها هو ذا يرى أغصانه المنبسقة عنه تذوي مع رغبته العميقة ورغبة شريكة حياته في أن يرياها مزهرة مثمرة، وكأنّ الله أراد أن يجعل الرقة الحزينة جزا من كيانه! فإن الرّجال الذين يسوسون الشعوب لا يجنحون إلى الجبروت إلا إذا كانت نفوسهم قد طبعت على القسوة والأثرة، وعاشت في أفراح لا يخامرها كدر، أما الرجل الذي خبر الالام؛ فهو أسرع الناس إلى مواساة المحزونين، ومداواة المجروحين.

الكعبة

الكعبة ومن بقايا كلمة إبراهيم التي أجمع العرب في جاهليتهم على احترامها (الكعبة) ؛ وهي أشبه بغرفة كبيرة مشيّدة من أحجار قوية، يعتمد سقفها من الداخل على أعمدة من الخشب الثمين، وأول من قام في بنائها أبو الأنبياء إبراهيم وابنه إسماعيل عليهم السّلام، والغرض من بنائها أن تكون معبدا لله، ومسجدا يذكر فيه اسمه واحده؛ فإن إبراهيم لقي العناء الأليم في حرب الأصنام، وهدم المعابد التي تنصب فيها، ثم ألهمه الله أن يا بني هذا البيت ليكون أساسا للتوحيد وركنا، ومثابة للناس وأمنا، ومن البديهي أنه لا يسع القصّاد جميعا، فألحق ما حوله به وصار حرما مقدّسا. ومعنى ذلك: أنّ الكعبة نفسها حجارة لا تضرّ ولا تنفع، وأنّ الحرمة التي اكتسبتها هي من الذكريات والمعاني التي حفّت بها، ولذلك أكّد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تأمين الأعراض والأموال والدّماء أقدس عند الله تعالى من هذه الكعبة، وأعظم حرمة وأكبر حقّا. ومن الوثنية التي يعاديها الإسلام- إلى اخر الدّهر- الظنّ بأن الكعبة أو شيئا منها له أثر من نفع أو ضرر. وأنت خبير بأن الرؤساء والقادة والجنود عند ما يحيّون أعلام بلادهم، ويتفانون دونها، فليس هذا عبادة لقطع معينة من القماش، إنما هو تقديس لمعان معينة ارتبطت بها، ومن الأمور التي يسهل فهمها: أن يكون لأول مسجد في الأرض مكانة تاريخية خاصة، وأن يكون قبلة لما يستجدّ بعده من مساجد. أما الوجهة في كلّ صلاة، والمقصود في كلّ خشوع؛ فهو الله واحده. عن أبي ذر رضي الله عنه: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض. قال: «المسجد الحرام» . قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى» . قلت: كم بينهما؟ قال: «أربعون عاما، ثم الأرض لك مسجد، فحيثما أدركتك الصلاة فصلّ؛

فإن الفضل فيه» «1» . وقد تعرّضت الكعبة- باعتبارها أثرا قديما- للعوادي التي أوهت بنيانها، وصدّعت جدرانها، وقبل البعثة بسنوات قلائل جرف مكة سيل عرم، انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فلم تر قريش بدّا من أن تجدّد بناء الكعبة؛ حرصا على مكانتها. وقد اشترك سادة قريش ورجالاتها الكبار في أعمال التجديد ونقل الأحجار، بعد ما هدموا الأنقاض الواهية، وشرعوا يعيدونها كما كانت. وبناء رفع إبراهيم وإسماعيل من قواعده قبل قرون سحيقة لا يوكل أمره لصغار الفعلة، فلا غرو إذا أقبل عليه الشيوخ وأهل النّهى والصدارة، ومن بينهم محمد صلى الله عليه وسلم وأعمامه. عن عمرو بن دينار، سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، يقول: لما بنيت الكعبة، ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم والعباس ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقيك الحجارة، ففعل- كان ذلك قبل أن يبعث- فخرّ إلى الأرض، فطمحت عيناه إلى السماء، فقال: «إزاري إزاري» ، فشد عليه فما رؤي بعد عريانا ... «2» . وتنافست القبائل في هذا المضمار، كلّ يبغي الصّدارة فيه والذهاب بفخره، حتى كاد هذا السباق يتحوّل إلى حرب ضروس في أرض الحرم، واستفحل الشر بين المشتغلين بالبناء عند ما بدؤوا يستعدّون لوضح الحجر الأسود في مكانه من أركان الكعبة؛ لولا أنّ أبا أمية بن المغيرة المخزومي اقترح على المتطاحنين أن يحكّموا فيما شجر بينهم أول داخل من باب الصفا، وشاء الله أن يكون ذلك محمدا صلى الله عليه وسلم ... فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين، ارتضيناه حكما. وطلب محمد صلى الله عليه وسلم ثوبا، فوضع الحجر وسطه، ثم نادى رؤساء القبائل المتنازعين، فأمسكوا جميعا بأطراف الثوب، حتى أوصلوا الحجر إلى الكعبة، فحمله محمد صلوات الله وسلامه عليه، ثم وضعه في مكانه العتيد «3» .

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 6/ 315- 317، 359؛ ومسلم: 2/ 63؛ والنسائي وابن ماجه والبيهقي والطيالسي وأحمد من حديث أبي ذر. (2) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 1/ 377؛ ومسلم: 1/ 184، وغيرهما. (3) حديث حسن، أخرجه الإمام أحمد: 3/ 425، من حديث السائب بن عبد الله بسند-

وهذا حلّ حصيف رضي به القوم، ومن قبل كانت رؤيتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم مثار تيمّنهم واطمئنانهم، وهذا يدلّ على سناء المنزلة التي بلغها فيهم. ومع جهد قريش في بناء الكعبة، فقد عجزت عن إبلاغها قواعد إبراهيم. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استقر له الأمر في الجزيرة لم يجد ضرورة لتجديد زيادة بها، واثر تركها على ما انتهت إليه؛ عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟» قلت: يا رسول الله، ألا تردها إلى قواعد إبراهيم؟ فقال: «لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت!» قال ابن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم «1» . قال العلماء: والمراد بقول الرسول صلى الله عليه وسلم الانف، قرب العهد بالجاهلية، وضعف استمكان الإيمان، مما يجعل العرب ينفرون من هدم الكعبة وتغيير هيئتها ... ولو كانت إعادة الكعبة كما بناها إبراهيم فريضة، ما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الأمر أخف من أن تثار لأجله مشكلات عويصة.

_ - حسن. ويحسن بالمؤلف أن ينقل نصه؛ فهو أولى من نصوص كتب السيرة التي لا سنام ولا خطام! ثم وجدت للحديث شاهدا من حديث علي، رواه الطيالسي في مسنده: 2/ 96، ترتيب الشيخ عبد الرحمن البنا. (1) حديث صحيح، أخرجه الشيخان في الحج، من صحيحيهما.

باحثون عن الحق

باحثون عن الحقّ قلنا: إن الوثنية تزيّن باطلها بطلاء من الحقّ؛ ليسهل على النفوس ازدراد ما فيها من مرارة، فهي تزعم الإيمان بإله خلق السموات والأرض، وفي الوقت نفسه تشرك معه الهة أخرى هي مزدلف إليه ووسيلة، ولمّا كان خالق السموات والأرض بعيدا عن مرأى الأعين، فقد أنس العبّاد المشركون بالالهة القريبة من أيديهم، والتي يتردّدون عليها صباحا ومساء، حتى صارت صلتهم بها أحكم من الصلة بالإله الأصيل، وأصبح ذكر هذا الإله- المتوسّل إليه بغيره- لا يرد إلا في معرض الجدال والاعتذار: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) [الزخرف] . غير أنّ التعصب لهذا السّخف جاوز الحدود، فأما العامة فهم بهم، أحلاس ما توارثوا، فقدوا نعمة العقل الحرّ، بل العقل المدرك، وعاشوا يهرفون بما لا يعرفون. وأمّا الذين أوتوا حظّا من التفكير، فإنّ تفكيرهم يرتطم بحدود شهواتهم، وربما كتموا ما عرفوا، بل ربما حاربوا ما عرفوا، وقليل من الناس من يتجرّأ على التقاليد المستحكمة، ويجهر بالحق، وأقلّ من ذلك من يعيش له ويضحّي في سبيله. وقد وجد قبل البعثة من نظر إلى وثنية العرب نظرة استهزاء، ومن عرف أنّ قومه يلتقون على أباطيل مفتراة، ولكنه لم يجد الطريق أو الطاقة على كفّهم. أخرج البخاري «1» : أنّ ابن عمر رضي الله عنهما حدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لقي

_ (1) أخرجه الإمام أحمد، رقم (5369) ، من حديث ابن عمر، وقد رواه أيضا من حديث سعيد بن زيد بن عمرو (1648) ، وفيه زيادة منكرة، وهي تتنافى مع التوجيه الحسن الذي وجّه به الحديث حضرة المؤلف، وهي قوله بعد: (إني لا اكل مما تذبحون على-

زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل (بلدح) - وذلك قبل أن ينزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم- فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إنّي لا اكل مما تذبحون «1» على أنصابكم، ولا اكل إلا ممّا ذكر اسم الله عليه، وكان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء ماء، وأنبت لها من الأرض الكلأ، وأنتم تذبحونها على غير اسم الله- إنكارا لذلك. وفي رواية: أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالما من اليهود، فسأله عن دينهم، وقال: لعلّي أن أدين دينكم! فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله!! قال زيد: ما أفرّ إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا، وأنا أستطيعه!! فهل تدلّني على غيره؟ فقال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم عليه السّلام؛ لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله، فخرج زيد، فلقي عالما من النصارى، فذكر له مثل ذلك، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله! قال: ما أفرّ إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله شيئا أبدا وأنا أستطيع!! .. فهل تدلّني على غيره؟ فقال: لا أعلمه إلا أن تكون حنيفا. قال: وما الحنيف؟ فقال: دين إبراهيم عليه السّلام، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قوله في إبراهيم عليه السّلام خرج، فلما برز رفع يديه، وقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم عليه السّلام.. وهذا الحديث يبيّن مقدار الحيرة التي سادت الدنيا، وغطّت بضبابها الكثيف على الأديان الظاهرة؛ اليهود يشعرون بأنّهم مطاردون في الأرض، منبوذون من

_ - أنصابكم) قال: فما رؤي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أكل شيئا مما ذبح على النصب. «وعلة هذه الزيادة: أنها رواية من المسعودي، وكان قد اختلط! وراوي هذا الحديث عنه يزيد بن هارون، سمع منه بعد اختلاطه، ولذلك لم يحسن صنعا حضرة الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر حيث صرّح في تعليقه على المسند أن إسناده صحيح» ، ثم صرح بعد سطور أنه إنما صحّحه مع اختلاطه، لأنه ثبت معناه من حديث ابن عمر بسند صحيح، يعني هذا الذي في الكتاب، وليس فيه هذه الزيادة المنكرة، فكان عليه أن ينبه عليها لكي لا يتوهم أحد أن معناها ثابت أيضا في حديث ابن عمر. (1) توهّم زيد أن اللحم المقدّم إليه من جنس ما حرم الله، ومن المقطوع به أن بيت محمد صلى الله عليه وسلم لا يطعم ذبائح الأصنام، ولكن أراد الاستيثاق لنفسه والإعلان عن مذهبه، وقد حفظ محمد صلى الله عليه وسلم له ذلك وسرّ به.

أقطارها، فعلى الداخل في دينهم أن يحمل وزرا من المقت المكتوب عليهم. والنصارى وقع بينهم شقاق رهيب في طبيعة المسيح ووضعه، ووضع أمّه، من الإله الكبير، وقد أثار هذا الخلاف بينهم الحروب المهلكة، وقسمهم فرقا يلعن بعضها بعضا. وكان نصارى الشّام الذين سألهم زيد (يعاقبة) ، يخالفون المذهب الرسمي لكنيسة الرومان، فلا غرابة إذا أشعروا زيدا بما يقع عليه من عذاب لو دخل في دينهم، أو لعل هذه اللعنة المرهوبة هي تبعات الخطيئة التي اقترفها ادم، واستحقّها من بعده بنوه كما يدّعي ذلك النصارى وهم يبرّرون صلب المسيح، ومن حقّ زيد أن يدع هؤلاء وأولئك، ويرجع إلى دين إبراهيم عليه السّلام يبحث عن أصوله وفروعه. وأخرج البخاريّ: عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة، يقول: «يا معشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم عليه السّلام غيري» ، وكان يحيي الموؤدة، يقول للرجل- إذا أراد أن يقتل ابنته-: أنا أكفيك مؤنتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤنتها «1» . إنّ زيدا واحد من المفكّرين القلائل الذين سخطوا ما عليه الجاهلية من نكر، وإنه ليشكر على تحرّيه الحقّ، ولا يغمط هو ولا غيره أقدارهم بين قومهم، لكن القدر كان يتخيّر رجلا يبصر الحقّ، ويملك من الطاقة ما يدفعه به إلى افاق العالمين، في وجه مقاومة تسترخص النفس والنفيس للإبقاء على الضّلال، والإمساك بليله البارد الثقيل. كان القدر يعدّ لهذه الرسالة الضخمة رجلها الضّخم، والعظائم كفؤها العظماء!.

_ (1) حديث صحيح، والبخاري إنما خرجه: 7/ 114- 115، معلّقا، فكان يحسن تقييد العزو إليه بهذا، وقد وصله جماعة ذكرهم الحافظ في الفتح، وفاته أنّ الحاكم وصله أيضا في المستدرك: 3/ 440، وقال: «صحيح على شرط الشيخين» .

في غار حراء

في غار حراء أخذت سنّ محمد صلى الله عليه وسلم تصعد نحو الأربعين، وكانت تأمّلاته الماضية قد وسّعت الشقة العقلية بينه وبين قومه، فأمست نظرته إليهم نظرة عالم الفلك- في عصرنا- إلى جماعة يؤمنون بأن الأرض محمولة على قرن ثور، أو نظرة عالم الذرة إلى جماعة يتراشقون بالحجارة إذا تحاربوا، ويتنقلون بالمطايا إذا سافروا ... ذلك من الناحية الفكرية، أمّا من الناحية النفسية؛ فإنّ الإلحاد الذي شاع في الجاهلية، وجعل أهلها يقسمون بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت، هذا الإلحاد المغرق الطامس غزا نفوس الأخيار بالقلق البالغ؛ إلى أين تصير هذه القلة الحائرة؟ لئن كان الوجود- أولا واخرا- هذه الأعمار المستنفدة على ظهر الأرض ... إنّ الفناء خير وأجدى!!. أما من بصيص نور خلال هذا الظلام المخيّم؟ وكان محمّد صلى الله عليه وسلم يهجر مكة كلّ عام ليقضي شهر رمضان في غار حراء، وهو غار على مسافة بضعة أميال من القرية الصّاخبة، في رأس جبل من هذه الجبال المشرفة على مكة، والتي ينقطع عندها لغو الناس وحديثهم الباطل، ويبدأ السكون الشامل المستغرق ... في هذه القمة السامقة المنزوية كان محمد صلى الله عليه وسلم يأخذ زاد الليالي الطوال، ثم ينقطع عن العالمين متّجها بفؤاده المشوق إلى ربّ العالمين!. ... وفي هذا الغار المهيب المحجّب، كانت نفس كبيرة تطلّ من عليائها على ما تموج به الدنيا من فتن ومغارم، واعتداء وانكسار، ثم تتلوّى حسرة وحيرة؛ لأنها لا تدري من ذلك مخرجا، ولا تعرف له علاجا!!. في هذا الغار النائي كانت عين نفّاذة محصية تستعرض تراث الهداة الأولين من رسل الله، فتجده كالمنجم المعتم؛ لا يستخلص منه المعدن النفيس إلا بعد

جهد جهيد، وقد يختلط التراب بالتبر فما يستطيع بشر فصله عنه. في غار حراء كان محمد عليه الصلاة والسلام يتعبّد، ويصقل قلبه، وينقي روحه، ويقترب من الحق جهده، ويبتعد عن الباطل وسعه، حتى وصل من الصفاء إلى مرتبة عالية؛ انعكست فيها أشعة الغيوب على صفحته المجلوّة، فأمسى لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح. في هذا الغار اتصل محمد صلى الله عليه وسلم بالملأ الأعلى. ومن قبله شهد بطن الصحراء أخا لمحمد عليه الصلاة والسلام، يخرج من مصر فارّا مستوحشا، ويجتاز القفار متلمّسا الأمن والسكينة والهدى، لنفسه وقومه، فبرقت له من شاطئ الوادي الأيمن نار مؤنسة، فلمّا تيمّمها، إذا بالنّداء الأقدس يغمر مسامعه ويتخلل مشاعره: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) [طه] . إن شعلة من هذه النار اجتازت القرون؛ لتتّقد مرة أخرى في جوانب الغار الذي حوى رجلا يتحنّث ويتطهّر، نائيا بجسمه وروحه عن أرجاس الجاهلية ومساوئها، لكنّ الشعلة لم تكن نارا تستدرج الناظر، بل كانت نورا ينبسط بين يدي وحي مبارك، يسطع على القلب العاني بالإلهام والهداية، والتثبيت والعناية، وإذا بمحمد صلى الله عليه وسلم يصغي في دهشة وانبهار إلى صوت الملك، يقول له: «اقرأ ... » فيجيب مستفسرا: «ما أنا بقارئ» ، ويتكرر الطلب والرد لتنساب بعده الايات الأولى من القران العزيز: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق] «1» .

_ (1) حديث صحيح، سيأتي تخريجه قريبا.

ورقة بن نوفل

ورقة بن نوفل إنّ محمدا صلى الله عليه وسلم بشر مثلنا، لكنّ الوجود لا يعرف تفاوتا بين أفراد جنس واحد كما يعرف ذلك في جنس الإنسان، إن بعضهم أرقى من الأفلاك الزاهرة! وبعضهم الاخر لا يساوي بعرة ... وإن كان الكلّ بشرا!!. وذاك التفاوت واقع بين من لم يؤيّدوا بوحي، فكيف إذا اصطفي إنسان ما، وزيدت أطوار كماله المعتاد طورا اخر، تومض فيه أشعة التسديد والتوفيق والإرشاد والإمداد؟!. إنّ الوحي روح يفد على المختارين بحياة جديدة، وهمّة جديدة، ورسالة جديدة: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) [النحل] . إن الجنين بعد نفخ الروح فيه ينشئه الله خلقا اخر، يغاير الأطوار الستة الأولى التي مرّ بها، سلالة الطين، فالنطفة، فالعلقة، فالمضغة، فالعظام، فالجسم المكسوّ باللحم.. والأنبياء بعد اتّصال الوحي بهم، وسريان روحه الجديدة في أرواحهم، يتحوّلون بشرا اخرين، لا يدانيهم غيرهم أبدا في مجادة وإشراق. وهذا التغيّر الملحوظ سرّ تذكير الله لمحمد عليه الصلاة والسلام بالقدرة التي خلقت الإنسان من علق، إنّ القدرة التي خلقت هذا الإنسان العجيب من علقة طفيلية، هي التي ستنساق بنعمة الله إلى جعل محمد صلى الله عليه وسلم بشرا رسولا، يقرأ بعد ما كان أمّيا. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الشورى] .

عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنّث فيه- وهو التعبّد- الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله يتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها، حتى فجأه الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ» ؛ قال: «فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) ... » إلخ. فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره! حتى دخل على خديجة بنت خويلد، فقال: «زمّلوني، زمّلوني» فزمّلوه، حتى ذهب عنه الروع، ثم قال لخديجة: «أي خديجة، ما لي؟» وأخبرها الخبر، ثم قال: «لقد خشيت على نفسي» ... قالت له خديجة: كلا، أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل- وهو ابن عمّ خديجة- وكان امرأ تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانيّ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: أي ابن عم: اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا بن أخي! ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مخرجيّ هم؟» قال: نعم! لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك حيّا أنصرك نصرا مؤزّرا. ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي «1» . لكأنّ الأربعين عاما السابقة يوم واحد، وبدأ الوحي صبيحة يوم جديد!! إنّ

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 1/ 18- 23؛ ومسلم: 1/ 97- 98، من حديثها.

العقل الجوّاب الباحث المستفسر أخذ يشيم أنوار الحق. والصدر المحرج المثقل بالتشاؤم والارتباك، أخذ يحسّ برد اليقين، وفسحة الأمل، والنقلة الطارئة بعيدة المدى ... إنّها النبوة. ألا ما أجلّ هذا الفضل المقبل، وما أعظم ما يواجه محمدا صلى الله عليه وسلم فيه من شؤون وشجون..!!. لذلك سرعان ما تراجعت إليه نفسه، وكان موقف زوجه خديجة منه من أشرف المواقف التي تحمد لامرأة في الأوّلين والاخرين، طمأنته حين قلق، وأراحته حين جهد، وذكرته بما فيه فضائل مؤكدة له: أنّ الأبرار أمثاله لا يخذلون أبدأ، وأنّ الله إذا طبع رجلا على المكارم الجزلة والمناقب السمحة؛ فلكيما يجعله أهل إعزازه وإحسانه، وبهذا الرأي الراجح، والقلب الصالح؛ استحقت خديجة أن يحيّيها ربّ العالمين، فيرسل إليها بالسّلام مع الروح الأمين «1» ...

_ (1) يشير المؤلف إلى الحديث الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب. فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربّها ومنّي، وبشّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب. أخرجه البخاري: 7/ 109؛ ومسلم: 7/ 133.

جهاد الدعوة (في مكة)

3 جهاد الدّعوة (في مكة)

[محمد صلى الله عليه وسلم يحمل أعباء الدعوة إلى الله]

[محمد صلى الله عليه وسلم يحمل أعباء الدعوة إلى الله] تقلّصت ظلال الحيرة، وثبتت أعلام الحقيقة، وعرف محمد عليه الصلاة والسلام معرفة اليقين أنّه أضحى نبيّا لله الكبير المتعال، وأنّ ما جاءه سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء.. إلا أنّ الروعة التي انتابته من هذه الصلة بين إنسان وملك، تركت في نفسه أثرا من الجهد، كأنّما كان يعالج عملا مرهقا صعبا. ولا عجب! فقد ظلّ يعاني من التنزيل شدّة أمدا طويلا، وشاء الله أن يفتر الوحي بعد ابتدائه على النحو الذي أسلفنا، حتى يكون تشوّف الرسول صلى الله عليه وسلم، وارتقابه لمجيئه؛ سببا في ثباته واحتماله عند ما يعود، ومع ذلك فإنّ الطاقة البشرية ناءت أمام وطأته. جاء جبريل عليه السّلام للمرة الثانية، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّث عن فترة الوحي، فقال لي في حديثه: «فبينا أنا أمشي، سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسيّ بين السماء والأرض، ففزعت منه حتى هويت على الأرض، فجئت إلى أهلي، فقلت: زمّلوني، زمّلوني، فدثّروني ... » . فأنزل الله عز وجلّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) [المدثر] «1» . كانت هذه الأوامر المتتابعة القاطعة إيذانا للرسول صلى الله عليه وسلم بأنّ الماضي قد انتهى بمنامه وهدوئه وسلامه، وأنّه أمام عمل جديد يستدعي اليقظة والتشمير، والإنذار والإعذار، فليحمل الرسالة، وليوجه الناس، وليأنس بالوحي، وليقو على عنائه، فإنه مصدر رسالته ومدد دعوته. والوحي إلهام ينضح على القلب بمراد الله في صورة واضحة لا تحتمل الريبة، وله مراتب شتّى بعضها أيسر من بعض؛ فعن عمر رضي الله عنه: «كان

_ (1) أخرجه البخاري: 8/ 549- 551؛ ومسلم: 1/ 98.

رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي، يسمع عند وجهه دويّ كدوي النحل» «1» . وكان أحيانا يأتي في مثل صلصة الجرس- وكان أشدّه عليه- فيلتبس به الملك، حتى إنّ جبينه ليتفصّد عرقا في اليوم الشديد البرد «2» ، وحتى إنّ راحلته لتبرك به على الأرض إذا كان راكبها «3» ، ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه إلى فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضّها «4» ، وقد يأتي أيسر من ذلك وأخفّ. وربما قيل: لماذا كانت أوائل الوحي بهذه المثابة من الشدة؟ ولماذا لم يبدأ نزول القران إلهاما في منام، أو إلهاما في يقظة على نحو ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب ... » «5» ؟ أو ليس هذا أبعد عن دواعي الفزع والإعياء؟.

_ (1) حديث ضعيف أخرجه الترمذي: 2/ 151- 152، وذكر أن في سنده اختلافا. ومداره على يونس بن سليم، رواه عنه عبد الرزاق، ويونس هذا مجهول، ومن طريقه أخرجه أحمد، رقم (223) ؛ والحاكم: 1/ 535 و 2/ 392؛ والنسائي «كما نقلوا عنه، وقال: هذا حديث منكر لا نعلم أحدا رواه غير يونس، ويونس لا نعرفه» ، وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» وهذا من تساهله، وأما الذهبي فتناقض، فإنه في الموضع الأول وافق الحاكم على تصحيحه، واغترّ بذلك الشيخ أحمد شاكر، وأما في الموضع الاخر فقد تعقّبه بقوله: قلت: «سئل عبد الرزاق عن شيخه ذا، فقال: أظنه لا شيء» ، وفي (الميزان) أقرّ النسائي على قوله: «هذا حديث منكر» ، وتوثيق ابن حبان لابن سليم هذا، مما لا يعتدّ به، لا سيما وتلميذه عبد الرزاق أدرى به من ابن حبان. (2) روى معنى هذا البخاري: 1/ 14- 17، من حديث عائشة. (3) أخرج معناه أحمد والحاكم: 2/ 505، من حديث عائشة، وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» ، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، وله شاهد من حديث أسماء بنت يزيد عند أحمد: 6/ 455- 458؛ واخر عنده، رقم (6643) من حديث ابن عمرو. (4) أخرجه البخاري: 5/ 182، من حديث زيد بن ثابت. (5) حديث صحيح جاء من طرق: الأول: عن ابن مسعود، أخرجه الحاكم (2/ 4) . الثاني: عن أبي أمامة، أخرجه الطبراني في الكبير؛ وأبو نعيم في (حلية الأولياء) : 10/ 28. الثالث: عن حذيفة، أخرجه البزار كما في (الترغيب) : 3/ 7؛ والهيثمي في (مجمع الزوائد) : 4/ 71. -

والجواب: أن نزول القران اتخذ هذه الطريقة أول الأمر، ونزل الملك به في هذا المظهر «1» ؛ قطعا لكل شبهة، في أنه ألفاظ ومعاني من عند الله، وأنّ محمدا صلى الله عليه وسلم حمّله تحميلا بعد أن اصطفي له، واختصّ به، فهو ليس افتعال عابد منقطع تخيّل فخال، ولا صناعة فيلسوف ماهر يجيد سوق الأدلة، وتنميق المقال، إنما هو كلام الأحد، الحق الكبير المتعال: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) [النجم] .

_ - فهذه طرق يقوّي بعضها بعضا، ولهذا- والله أعلم- جزم ابن القيم في (زاد المعاد) بنسبة الحديث إليه صلى الله عليه وسلم. (1) إن اتصال الأبدان بعالم الغيب يرهق الطبيعة البشرية، واعتبر لذلك بما يعانيه الوسطاء مثلا في حالات التنويم المغناطيسي مع بعد الفارق.

إلام يدعو الناس؟

إلام يدعو الناس؟ شرع محمّد صلى الله عليه وسلم يكلّم الناس في الإسلام، ويعرض عليهم الأخذ بهذا الدين الذي أرسله الله به. وسور القران الذي نزل بمكة تبيّن العقائد والأعمال التي كلّف الله بها عباده، وأوصى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتعهّد قيامها ونماءها، وأول ذلك: 1- الواحدانية المطلقة: فالإنسان ليس عبدا لكائن في الأرض، أو عنصر في السماء، لأنّ كل شيء في السماء والأرض عبد الله، يعنو لجلاله، ويذلّ في ساحته، ويخضع لحكمه، وليس هناك شركاء ولا شفعاء ولا وسطاء، ومن حقّ كلّ امرئ أن يهرع إلى ربّه رأسا، غير مستصحب معه خلقا اخر، كبر أو حقر، وحقّ على كلّ امرئ أن ينكر من أقاموا أنفسهم، أو أقامهم غيرهم زلفى إلى الله، وأن ينزل بهم إلى مكانهم المحدود؛ إن كانوا بشرا، أو حجارة، أو ما سوى ذلك، ويجب أن تبنى جميع الصلات الفردية والجماعية على أساس تفرّد الله في ملكوته بهذه الواحدانية التامة. ونتيجة هذه العقيدة أن الحجارة التي يعبدها العرب، أصبحت لا تزيد عن الحجارة التي تبنى بها البيوت، أو ترصف بها الطّرق، وأنّ البشر الذين ألّهوا في ديانات أخرى صحّحت أوضاعهم، فعرفوا على أنهم عبيد لمن خلقهم ورزقهم، يتقدّمون عنده بالطاعة، ويتأخّرون بالمعصية، ولا شأن لهم في خلق أو رزق. 2- الدار الاخرة: فهناك يوم لا شكّ في قدومه، يلقى الناس فيه ربّهم، فيحاسبهم حسابا دقيقا على حياتهم الأولى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) [الزلزلة] ؛ فإمّا نعيم ضاحك، يمرح فيه الأخيار ويستريحون، وإما جحيم مشؤومة، يشقى فيها الأشرار ويكتئبون ...

3 - تزكية النفس:

والنظر إلى الدّار الاخرة في كلّ عمل يأتيه المرء أو يذره من أصول السلوك الصحيح في الإسلام، فكما أنّ راكب القطار موقن بأنه سينزل في محطّ قادم، فكذلك المسلم يعلم أن الأيام الجارية به ستقف- حتما- لترده إلى مولاه، حيث يلقى جزاء العمر، ويجني ما غرست يداه.. 3- تزكية النفس: وذلك بلزوم عبادات معينة شرعها الله عز وجلّ، وترك أمور أخرى حذرا من مغبّتها: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) [الأنعام] . قال أكثم بن صيفيّ: «إن ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام لو لم يكن دينا لكان في خلق الناس حسنا» . 4- حفظ كيان الجماعة المسلمة: باعتبارها واحدة متماسكة تقوم على الأخوة والتعاون، وذلك يقتضي نصرة المظلوم، وإعطاء المحروم، وتقوية الضعيف. وفي سورة (المدثر) - وهي أول سورة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها بالبلاغ- تقرأ قول الله تبارك وتعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) [المدثر] . وكان أبو بكر لا يرى مستضعفا يعذّب من المسلمين، إلا بذل جهده وماله في سبيل فكّ إساره، وإنقاذه ممّا به، وذلك حقّ الفرد على الجماعة.

الرعيل الأول

الرعيل الأوّل أخذت الدعاية للإسلام تنتشر في مكة، وتعمل عملها في أصحاب الأفئدة الكبيرة، فسرعان ما يطرحون جاهليتهم الأولى، ويخفّون إلى اعتناق الدين الجديد، وكانت ايات القران تنزل على القلوب التي استودعت بذور الإيمان، كما ينزل الوابل على التربة الخصبة: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5] . كان أصحاب العقائد يتجمّعون- في تؤدة- حول عقائدهم، ويلتفّون- في حبّ وإعجاب- حول إمامهم، ويشرحون- في حذر- أصول فكرتهم. والإيمان قوة ساحرة، إذا استمكنت من شعاب القلب، وتغلغلت في أعماقه، تكاد تجعل المستحيل ممكنا. ولقد رأينا شبابا وشيوخا يلتقون عند فكرة من الفكر، ويحلّونها من أنفسهم محلّ العقائد الراسخة، ومع أنها فكرة مادية بحتة، إلا أنّهم يجعلون من حياتهم وقود حركتها، ويتحمّلون أقبح الأذى في سبيل نصرتها. وفي السجون- الان- رجال تخرّجوا من جامعات الغرب، يقضون شطرا من أعمارهم مع القتلة وتجّار المخدّرات ... ! ويرون ذلك بعض الجهد الواجب لإنجاح مبادئهم، ودفعها إلى الأمام، فكيف إذا كان الإيمان الذي ظهر في صدر الإسلام إيمانا بالله ربّ السموات والأرض، وإيمانا بالدار الاخرة حيث ينفلت الإنسان من هذه الدنيا لتستقبله في جوار الله الحدائق الغنّاء، والقصور الزهر، من تحتها الأنهار الجارية، والنعيم المقيم؟ ... إنّ الرعيل الأوّل أخذ يتكوّن ويتزايد على الأيام. ومن الطبيعي أن يعرض الرسول صلى الله عليه وسلم- أولا- الإسلام على ألصق الناس به من ال بيته وأصدقائه، وهؤلاء لم تخالجهم ريبة قطّ في عظمة محمد عليه الصلاة والسلام، وجلال نفسه، وصدق خبره، فلا جرم أنهم السابقون إلى مؤازرته واتّباعه.

امنت به زوجته (خديجة) ، ومولاه (زيد بن حارثة) ، وابن عمه (علي بن أبي طالب) - وكان صبيّا يحيا في كفالة الرّسول صلى الله عليه وسلم-، وصديقه الحميم أبو بكر، ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، فأدخل فيه أهل ثقته ومودته: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وامن القسّ ورقة بن نوفل. وقد روي «1» أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم راه في المنام- بعد مماته- في هيئة حسنة تشهد بكرامته عند الله، وأسلم الزبير بن العوام، وأبو ذر الغفاري، وعمرو بن عبسة، وخالد بن سعيد بن العاص، وفشا الإسلام في مكة بين من نوّر الله قلوبهم؛ مع أن الإعلام به كان يقع في استخفاء، ودون مظاهرة من التحمّس المكشوف، أو التحدي السافر ... وترامت هذه الأنباء إلى قريش فلم تعرها اهتماما، ولعلّها حسبت محمدا عليه الصلاة والسلام أحد أولئك الديّانين الذين يتكلّمون في الألوهية وحقوقها، كما صنع أمية بن أبي الصلت، وقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل وأشباههم، إلا أنّها توجّست خيفة من ذيوع خبره، وامتداد أثره، وأخذت ترقب على الأيام مصيره ودعوته. واستمرّ هذا الطور السّرّي للدعوة ثلاث سنين، ثم نزل الوحي يكلف الرسول صلى الله عليه وسلم بمعالنة قومه، ومجابهة باطلهم، ومهاجمة أصنامهم جهارا.

_ (1) هذا حديث حسن، فتصديره بصيغة (روي) غير حسن؛ لأنه يشير إلى تضعيفه وليس بضعيف، فقد جاء من طريقين حسّنهما الحافظ ابن كثير في (البداية) : 3/ 9، أخرج أحدهما أحمد من حديث عائشة، والاخر أبو يعلى من حديث جابر، فلا أقل من كون الحديث حسنا بمجموع الطريقين، ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا ورقة، فإني رأيت له جنة أو جنتين» . أخرجه البزار والحاكم: 2/ 609؛ وابن عساكر من حديث عائشة أيضا، وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» ، ووافقه الذهبي: «وهو كما قالا» ، وقال ابن كثير: «وإسناده جيد» .

إظهار الدعوة

إظهار الدعوة قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت الاية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) [الشعراء] ، صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصّفا، فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عدي» لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الذي لم يستطع أن يخرج، يرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقي؟» قالوا: ما جرّبنا عليك كذبا. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد!!» ، فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا؟! فنزل قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ... [المسد] «1» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أنزل الله عليه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) [الشعراء] فقال: «يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب! لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت رسول الله سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئا» «2» . هذه الصيحة العالية هي غاية البلاغ، فقد فاصل الرسول عليه الصلاة والسلام قومه على دعوته، وأوضح لأقرب الناس إليه أن التّصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلة بينه وبينهم، وأن عصبيّة القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الاتي من عند الله. لقد كان محمد عليه الصلاة والسلام كبير المنزلة في بلده، مرموقا بالثقة

_ (1) حديث صحيح أخرجه البخاري: 8/ 406- 408، 509- 510؛ ومسلم 1/ 134. (2) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 8/ 408؛ ومسلم 1/ 133، من طريقين عن أبي هريرة.

والمحبة، وها هو ذا يواجه مكة بما تكره، ويتعرّض لخصام السفهاء والكبراء، وأول قوم يغامر بخسران مودّتهم هم عشيرته الأقربون، لكنّ هذه الالام تهون في سبيل الحق الذي شرح الله به صدره، فلا عليه أن يبيت بعد هذا الإنذار ومكة تموج بالغرابة والاستنكار، وتستعدّ لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتة، وتخشى أن تأتي على تقاليدها وموروثاتها. وبدأت قريش تسير في طريقها، طريق اللّدد، ومجانبة الصواب، ومضى محمد صلى الله عليه وسلم كذلك في طريقه، يدعو إلى الله، ويتلطّف في عرض الإسلام، ويكشف النقاب عن مخازي الوثنية، ويسمع ويجيب، ويهاجم ويدافع.. غير أن حرصه على هداية اله الأقربين، جعله يجدّد مسعاه محاولا عرض الإسلام عليهم مرة أخرى، فإنّ منزلتهم الكبيرة في العرب تجعل كسبهم عظيم النتائج. وهم- قبل ذلك- أهله الذين يودّ لهم الخير، ويكره لهم الوقوع في مساخط الله. روى ابن الأثير: قال جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم «1» : لما أنزل الله على رسوله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) [الشعراء] ، اشتد ذلك عليه، وضاق به ذرعا، فجلس في بيته كالمريض، فأتته عمّاته يعدنه، فقال: «ما اشتكيت شيئا، ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي» . فقلن له: فادعهم، ولا تدع أبا لهب فيهم، فإنه غير مجيبك، فدعاهم، فحضروا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا خمسة وأربعين رجلا، فبادره أبو لهب وقال: هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك، فتكلم ودع الصّباة! واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة! وأنا أحق من أخذك! فحسبك بنو أبيك. وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدّهم العرب، فما رأيت أحدا جاء على بني أبيه بشرّ مما جئتهم به. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلّم في ذلك المجلس، ثم دعاهم ثانية، وقال: «الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد ألاإله إلا الله

_ (1) لم أجد في الرواة هذا الراوي، وإنما فيهم «جعفر بن عبد الله بن الحكم» وهو أنصاري أوسي تابعي صغير، يروي عن أنس والتابعين، فإذا كان هو هذا، فالإسناد مرسل ضعيف، ولم أقف على إسناده إليه، وإن كان غيره فلم أعرفه.

واحده لا شريك له» . ثم قال: «إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، وإنها للجنة أبدا، أو النار أبدا» . فقال أبو طالب: ما أحبّ إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشدّ تصديقنا لحديثك!! وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب فامض لما أمرت به، فو الله لا أزال أحوطك وأمنعك؛ غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب. فقال أبو لهب: هذه والله السّوءة!! خذوا على يديه قبل أن يأخذكم غيركم. فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا.

أبو طالب

أبو طالب إن أبا طالب- برغم بقائه على الشرك، واستمساكه بدين الاباء- ظلّ حيّ العاطفة، ظاهر الحدب على ابن أخيه؛ وهو مدرك كل الإدراك ما سوف تجره هذه الدعوة من متاعب عليه وعلى أسرته، بيد أن إعزازه لمحمد صلى الله عليه وسلم وتأذّيه من مواجهته بما يكره، حملاه على ضمان الحرية له، بل على التعهّد بحمايته وهو يبلّغ عن ربه!!. وأبو طالب من رجالات مكة المعدودين، كان معظّما في أهله، معظّما بين الناس، فما يجسر أحد على إخفار ذمته، واستباحة بيضته، وكان بقاؤه مع أهل مكة- محترما للأوثان- من أسباب امتداد نفوذه ورعاية حقوقه ... أمّا أبو لهب فصورة لأرباب الأسر المتهالكين على مصالحهم وسمعتهم من غير نظر إلى حق أو باطل، فأيّ عمل يعرّض مصالحه للبوار، أو يخدش ما لاسمه من منزلة يهيج ثائرته، ويدفعه لاقتراف الحماقات ... وفي طبيعة أبي لهب قسوة تغريه باقتراف الدنايا، كان أبناؤه متزوّجين ببنات محمد صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بفراقهنّ، فطلق عتبة وعتيبة رقية وأم كلثوم.. ولعلّ أبا لهب كان متأثّرا في هذه البغضاء المتنزّية بزوجته أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان، وهي امرأة سليطة، تؤزها على كراهية محمد صلى الله عليه وسلم ودينه علل شتى، ولذلك بسطت فيه لسانها، وأطالت عليه الافتراء والدسّ. وإذا كانت أهواء الجاهلية تدفع عمّ محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإغلاظ معه على هذا النحو الوضيع؛ فكيف يكون مسلك الأباعد الذين يتمنّون العثار للسليم والتهمة للبريء؟!. ولكن ما أبو لهب؟ وما قريش؟ وما العرب؟ وما الدنيا كلها؟ بإزاء رجل يحمل رسالة من الله الذي له ملك السموات والأرض، يريد أن يعيد بها الرّشد

لعالم فقد رشده، وأن يمحو بها الأوهام من حياة مرّغتها الأوهام في الرغام، ما تجدي وقفة جهول أو غضبة مغرور في منع هذه الرسالة الكبيرة من المضي إلى هدفها البعيد؟!. إن الطحالب العائمة لا توقف السفن الماخرة، ولئن نقم الجاهليون على المسلمين مروقهم من بين قومهم بهذه الدعوة- حتى ليسمّونهم الصّباة- فإنّ المسلمين لأشدّ نقمة عليهم؛ أن سفّهوا أنفسهم، وحقّروا عقولهم، وتشبثوا بخرافات ما أنزل الله بها من سلطان. إن الدعوة التي بدأ بها محمد صلى الله عليه وسلم من بطن مكة لم تكن لبناء وطن صغير، بل كانت إنشاء جديدا لأجيال وأمم، تظل تتوراث الحق، وتندفع به في رحاب الأرض، إلى أن تنتهي من فوق ظهر الأرض قصة الحياة والأحياء. فماذا تصنع خصومة فرد أو قبيلة لرسالة هذا شأنها في حاضرها ومستقبلها؟! ومن أولئك الخصوم؟!: *.. متعصبون، تحجّرت عقولهم، تزيّن لهم سطوتهم البطش بمن يخالفهم: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا ... [الحج: 72] . *.. أم مترفون، سرّتهم ثروتهم، يحبون الباطل؛ لأنه على أرائك وثيرة، ويكرهون الحقّ، لأنه عاطل عن الحلي والمتاع: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) [مريم] . *.. أم متعنّتون، يحسبون هداية الرحمن عبث صبية، أو أزياء غانية، فهم يقولون: دع هذا وهات هذا: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ ... [يونس: 15] . *.. أم مهرّجون، يتواصون بينهم بافتعال ضجّة عالية، وصياح منكر عند ما تقرأ الايات، حتى لا تسمع فتفهم فتترك أثرا في عقل نقي وقلب طيب: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) [فصلت] . لو أنّ أهل مكة تردّدوا في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم حتى يبحثوا أمره، ويمحّصوا

رسالته، ويزنوا- على مهل- ما لديهم، وما جاء به، لما عابهم على هذا عاقل. ولكنّهم نفروا من الإسلام نفور المذنب من ساحة القضاء بعد ما انكشفت جريمته، وثبتت إدانته. وقد حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الإعراض المقرون بالتكذيب والتحدّي، ومن حقّ كل رجل صدوق نبيل أن يأسف ويألم إذا ألفى نفسه مكذبا مهجورا. إلا أنّ الله واساه، فأبان له بواطن أولئك المكاذبين المتألّبين: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) [الأنعام] . إنّ المعتوه إذا اعترض طريقك، ووقع في عرضك بلسان حادّ، سمعت من يقول لك: هذا لا يقصد العدوان عليك، ولكنه يستجيب لنوازع الجنون في دمه، وكذلك أولئك المشركون، إن فظاظتهم وإنكارهم تمشّ مع دواعي الجحود في طباعهم، قبل أن تكون انتقاصا للرجل الذي يحدّثهم، أو طعنا في خلقه: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] . ومن ثمّ فعلى محمد صلى الله عليه وسلم أن يمضي في سبيل البلاغ، وأن يجتاز ما يلقى أمامه من صعاب وعقاب، وعلى المؤمنين برسالته أن يثبتوا، وليس ثباتهم لمصلحتهم الخاصة فقط، ولا حق الإيمان عليهم وكفى، بل هو لمصلحة الأجيال المقبلة. إن البنيان الشامخ الذّرى لا يرتكز على سطح الأرض، وإنما يرتكز على دعائم غائرة في الثرى، وهي التي تحمل ثقله وترفع عمده، وقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الأول- بصلابة يقينهم، وروعة استمساكهم- دعائم رسالته، وأصول امتدادها من بعد، في المشارق والمغارب.

الاضطهاد

الاضطهاد قرر المشركون ألا يألوا جهدا في محاربة الإسلام، وإيذاء الدّاخلين فيه، والتعرّض لهم بألوان النّكال والإيلام، ومنذ جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله، وعالن قومه بضلال ما ورثوه عن ابائهم؛ انفجرت مكة بمشاعر الغضب، وظلّت عشرة أعوام تعدّ المسلمين عصاة ثائرين، فزلزلت الأرض من تحت أقدامهم، واستباحت في الحرم الامن دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وجعلت مقامهم تحمّلا للضيم، وتوقّعا للويل. صاحبت هذه السخائم المشتعلة حرب من السخرية والتحقير؛ قصد بها تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية؛ فرمي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته بتهم هازلة، وشتائم سفيهة، وتألّفت جماعة للاستهزاء بالإسلام ورجاله على نحو ما تفعل الصحافة المعارضة عند ما تنشر عن الخصوم نكتا لاذعة، وصورا مضحكة، للحطّ من مكانتهم لدى الجماهير. وبهذين اللونين من العداوة وقع المسلمون بين شقّي الرحى. فرسولهم ينادى بالجنون: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) [الحجر] . ويوصم بالسحر والكذب: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) [ص] . ويشيّع ويستقبل بنظرات ملتهمة ناقمة، وعواطف منفعلة هائجة: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) [القلم] . وليس حظّ سائر المسلمين بأفضل من هذه المعاملة، فهم- في غدوّهم ورواحهم- محلّ التندّر واللّمز: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30)

عمار بن ياسر رضي الله عنه:

وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) [المطففين] . وانقلبت هذه الحرب إلى تنكيل وسفك دم بالنسبة إلى المستضعفين من المؤمنين، فمن ليست له عصبية تدفع عنه لا يعصمه من الهوان والقتل شيء، بل يحبس على الالام حتى يكفر أو يموت أو يسقط إعياء. عمار بن ياسر رضي الله عنه: من هؤلاء عمار بن ياسر، وهو من السابقين الأولين في الإسلام، وكان مولى لبني مخزوم، أسلم وأبوه وأمه، فكان المشركون يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء، فيعذبونهم بحرّها، ومرّ بهم النبيّ عليه الصلاة والسلام وهم يعذّبون فقال: «صبرا ال ياسر، فإن موعدكم الجنة» «1» ، فمات ياسر في العذاب، وأغلظت امرأته (سميّة) القول لأبي جهل فطعنها في قبلها بحربة في يديه، فماتت؛ وهي أول شهيدة في الإسلام، وشدّدوا العذاب على عمار بالحرّ تارة، وبوضع الصخر على صدره أخرى، وبالتغريق أخرى، وقالوا: لا نتركك حتى تسبّ محمدا، أو تقول في اللات والعزّى خيرا، ففعل، فتركوه، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يبكي فقال: «ما وراءك؟» قال: شرّ يا رسول الله! كان الأمر كذا وكذا!! قال: «فكيف تجد قلبك؟» قال: أجده مطمئنا بالإيمان. فقال: «يا عمار إن عادوا فعد» . فأنزل الله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: 106] «2» ، وقد حضر المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) حديث حسن صحيح، رواه ابن إسحاق في السيرة: 1/ 203، بلاغا، ووصله الحاكم: 3/ 388- 389؛ والطبراني في الأوسط، كما في (المجمع) : 9/ 293، عن جابر بن عبد الله، وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ، ووافقه الذهبي. وأخرجه أحمد والحاكم كما في (الإصابة) من طريق عقيل، عن الزهري، عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر، عن أبيه. وهذا سند صحيح من مراسيل الصحابة، وهي مقبولة عند العلماء؛ وأخرجه أحمد، رقم (439) ؛ وأبو نعيم في الحلية: 1/ 140، عن عثمان بن عفان، ورجاله ثقات، إلا أنه منقطع كما قال الحافظ. فهذه طرق تشهد لصحة الحديث. (2) في ثبوت هذا السياق نظر، وعلته الإرسال، أخرجه ابن جرير في تفسيره: 12/ 113؛ وأبو نعيم: 9/ 140؛ وأبو بكر الجصاص في أحكام القران: 3/ 236، عن طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر. قال: أخذ المشركون عمارا، فلم يتركوه حتى سبّ-

بلال رضي الله عنه:

بلال رضي الله عنه: ومن هؤلاء (بلال بن رباح) ، كان سيده أمية بن خلف- إذا حميت الشمس وقت الظهيرة- يقلّبه على الرمال الملتهبة ظهرا لبطن، ويأمر بالصخرة الجسيمة فتلقى على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فما يزيد بلال عن ترديد: أحد، أحد ... خباب رضي الله عنه: ولما اشتدّت ضراوة قريش بالمستضعفين، ذهب أحدهم- خبّاب بن الأرت- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنجد به، قال خباب: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بردة في ظلّ الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو لنا؟! فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصدّه ذلك عن دينه، والله ليتمّنّ الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» . ماذا عسى يفعل محمد صلى الله عليه وسلم لأولئك البائسين؟! إنه لا يستطيع أن يبسط حمايته على أحد منهم، لأنّه لا يملك من القوة ما يدفع به عن نفسه، وقد كان في صلاته يرمى عليه- وهو ساجد- بكرش الجزور أو رحم الشاة المذبوحة، وكانت الأنجاس تلقى أمام بيته، فلا يملك إلا الصبر. إن محمدا صلوات الله وسلامه عليه لم يجمع أصحابه على مغنم عاجل أو اجل، إنه أزاح الغشاوة عن الأعين، فأبصرت الحقّ الذي حجبت عنه دهرا،

_ - رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الهتهم بخير ... الحديث؛ وأخرجه الحاكم: 2/ 357، عن أبي عبيدة هذا عن أبيه. ثم قال: «صحيح على شرط الشيخين» ووافقه الذهبي. كذا قالا، وقد كنت قديما اغتررت بقولهما، والان تبين لي خطؤهما إذ إن الجماعة رووه عن أبي عبيدة. وهب أن قوله: «عن أبيه» صحيح، فأبوه تابعي وليس بصحابي، فالحديث مرسل إن لم يكن معضلا، ثم إن أبا عبيدة وأباه لم يخرج لهما الشيخان شيئا، بل إن الأول قال فيه ابن أبي حاتم (4/ 402- 405) عن أبيه: «منكر الحديث» ، ووافقه ابن معين وغيره؛ فأنى للحديث الصحة؟! بله على شرطهما!. نعم إنما يصح منه نزول الاية في عمار لمجيء ذلك من طرق ساقها ابن جرير. والله أعلم.

ومسح الران عن القلوب، فعرفت اليقين الذي فطرت عليه، وحرمتها الجاهلية منه، إنه وصل البشر بربهم، فربطهم بنسبهم العريق، وسببهم الوثيق، وكانوا قبلا- حيارى محسورين، إنه وازن للناس بين الخلود والفناء، فاثروا الدار الاخرة على الدار الزائلة، وخيّرهم بين أصنام حقيرة وإله عظيم، فازدروا الأوثان المنحوتة، وتوجّهوا للذي فطر السموات والأرض. حسب محمّد صلى الله عليه وسلم أن قدّم هذا الخير الجزيل، وحسب أصحابه أن ساقته العناية لهم، فإذا أوذوا فليحتسبوا، وإذا حاربهم عبيد الرجس من الأوثان، فليلزموا ما عرفوا، والحرب القائمة بين الكفران والإيمان سينجلي غبارها يوما ما، ثم تنكشف عن شهداء وعن هلكى، وعن مؤمنين قائمين بأمر الله ومشركين مدحورين بإذن الله: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) [هود] . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبثّ عناصر الثقة في قلوب رجاله، ويفيض عليهم ما أفاضه الله على فؤاده من أمل رحيب في انتصار الإسلام، وانتشار مبادئه، وزوال سلطان الطغاة أمام طلائعه المظفّرة في المشارق والمغارب، وقد اتخذ المستهزئون من هذه الثقة مادة لسخريتهم وضحكهم؛ كان الأسود بن المطّلب وجلساؤه إذا رأوا أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يتغامزون بهم، ويقولون: قد جاءكم ملوك الأرض الذين سيغلبون غدا على ملك كسرى وقيصر، ثم يصفّرون ويصفقون!!. وتواصى المشركون بعد مصادرة الدعوة بهذا الأسلوب أن يمنعوا الوافدين إلى مكة من الاستماع إليها، قال الوليد بن المغيرة لرجالات قريش: إن الناس يأتونكم أيام الحج، فيسألونكم عن محمد، فتختلف فيه أقوالكم، يقول هذا: ساحر، ويقول هذا: كاهن، ويقول هذا: شاعر، ويقول هذا: مجنون، وليس يشبه واحدا مما يقولون، ولكن أصلح ما قيل فيه: ساحر؛ لأنه يفرق بين المرء وأخيه وزوجته، وقد اقتسم هؤلاء المتامرون مداخل مكة أيام الموسم، يحذّرون الناس من الداعية الخارج على قومه، وينعتونه بما تواصوا به من سحر مفرّق!.

ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يذهب إلى الحجيج في مجامعهم، ويحدّثهم عن الإسلام، ويطلب منهم النصرة. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه بالموقف فيقول: «ألا رجل يحملني إلى قومه! فإنّ قريشا منعوني أن أبلّغ كلام ربي» «1» .

_ (1) حديث صحيح، أخرجه أبو داود: 2/ 278؛ والترمذي: 4/ 57؛ وابن ماجه: 1/ 78، بإسناد صحيح عنه، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» . وأخرجه الحاكم: 2/ 612- 613، وقال: «صحيح على شرط الشيخين» ، ووافقه الذهبي.

مفاوضات

مفاوضات ظنّ المشركون أن بطشهم بالمستضعفين، ونيلهم من غيرهم سوف يصرف الناس عن الاستجابة لداعي الله، وظنّوا أن وسائل السخرية والتهكّم التي جنحوا إليها ستهدّ قوى المسلمين المعنوية، فيتوارون خجلا من دينهم، ويعودون كما كانوا إلى دين ابائهم، غير أن ظنونهم سقطت جميعا، فإنّ أحدا من المسلمين لم يرتد عن الحقّ الذي شرفه الله به، بل كان المسلمون يتزايدون! ولم تفلح طرق الاستهزاء في الصدّ عن سبيل الله، أو تشويه معالمها، إنها زادت شعور المسلمين بما تزخر به الوثنية من معرّات ومخاز، تستحق الفضيحة والاستئصال، ما تصنع سخرية الجهول بالعالم؟!. إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) ... [هود] . رأت قريش أن تجرّب أسلوبا اخر تجمع فيه بين الترغيب والترهيب، فلترسل إلى محمد صلى الله عليه وسلم تعرض عليه من الدنيا ما يشاء، ولترسل إلى عمه الذي يحميه تحذره مغبة هذا التأييد، حتى يكلّم هو الاخر محمدا أن يسكت، فلا يجرّ المتاعب على كافله ووليه. أرسلت قريش (عتبة بن ربيعة) - وهو رجل رزين هادئ- فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا بن أخي! إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم؛ فرّقت به جماعتهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلّك تقبل بعضها: إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا. وإن كنت تريد شرفا، سوّدناك علينا، فلا نقطع أمرا دونك.

وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ. فلما فرغ من قوله، تلا رسول الله عليه الصلاة والسلام عليه صدر سورة فصّلت: حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) . حتى وصل إلى قوله تعالى: ... فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) «1» . تخيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الايات من الوحي المبارك، ليعرّف محدّثه حقيقة الرسالة والرسول؛ إنّ محمدا عليه الصلاة والسلام يحمل كتابا من الخالق إلى خلقه يهداهم من ضلال، وينقذهم من خبال، وهو- قبل غيره- مكلّف بتصديقه، والعمل به، والنزول عند أحكامه، فإذا كان الله يطلب من عباده أن يستقيموا إليه ويستغفروه، فمحمد عليه الصلاة والسلام ألهج الناس بالاستغفار، وألزمهم للاستقامة، وما يطلب ملكا، ولا مالا، ولا جاها، لقد أمكنه الله من هذا كله فعفّ عنه، وترفّع أن يمدّ يده إليه، وبسط العطاء مما سيق إليه من خيرات، فأنفق واديا من المال في ساعة من نهار، وترك الحياة غير معقّب لذريته درهما. إن عتبة- باسم قريش- يريد أن يترك محمد عليه الصلاة والسلام الدعوة إلى الله، وإقامة العدالة بين الناس! ماذا تصير إليه الحياة لو أن صخرة من الأرض انخلعت عنها وصعدت إلى دارات الفلك تطلب من الشمس أو أي

_ (1) هذه القصة أخرجها ابن إسحاق في المغازي: 1/ 185، من سيرة ابن هشام، بسند حسن عن محمد بن كعب القرظي مرسلا، ووصله عبد بن حميد، وأبو يعلي، والبغوي من طريق أخرى من حديث جابر رضي الله عنه، كما في تفسير ابن كثير: 4/ 90- 91، وسنده حسن إن شاء الله.

كوكب اخر أن يقف مسيره وإشعاعه، ويحرم الوجود من ضيائه وحرارته؟!. ألا ما أغرب هذا الطلب! وما أجدر صاحبه أن يرتدّ إلى مكانته لا يعدوها! ولذلك بعد ما استمع عتبة إلى ايات القران توقظ ما كان نائما من فكره، استمع إلى الوعيد يهدر، فيحرك ما كان هاجعا من عاطفته: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) [فصلت] . لقد وضع عتبة يده على جنبه، وقام كأن الصواعق ستلاحقه، وعاد إلى قريش يقترح عليها أن تدع محمدا وشأنه!!. أما وفد قريش إلى أبي طالب، فقد أخذ يقول: يا أبا طالب! إن ابن أخيك قد سبّ الهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلّل اباءنا، فإمّا أن تكفّه عنا، وإما أن تخلّي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فقال لهم أبو طالب قولا جميلا، وردّهم ردّا رفيقا، فانصرفوا عنه. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو عليه، ثم استشرى الأمر بينه وبينهم، حتى تباعد الرجال فتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتامروا فيه فمشوا إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا: يا أبا طالب إن لك فينا سنّا وشرفا، وإنا قد استنهيناك أن تنهى ابن أخيك فلم تفعل، وإنا- والله- لا نصبر على هذا من شتم الهتنا وابائنا، وتسفيه أحلامنا حتى تكفّه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك؛ إلى أن يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه. عظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم له، ولم تطب نفسه بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخذلانه، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعلمه ما قالت قريش، وقال له: أبق على نفسك وعليّ، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق، فظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه رأي، وأنه خذله، وضعف عن نصرته، فقال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: «يا عماه، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه؛ ما تركته» «1» .

_ (1) حديث ضعيف، أخرجه ابن إسحاق: 1/ 170، ومن طريقه ابن جرير: 2/ 67، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس به. وهذا إسناد معضل، يعقوب هذا لم يدرك أحدا من الصحابة، فهو من أتباع التابعين. وقد أخرج هذه القصة مختصرا الطبراني في الأوسط والكبير من حديث عقيل بن أبي طالب، وفيه مكان قوله: «لو وضعوا-

ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام، فلما ولّى ناداه عمه أبو طالب، فأقبل عليه وقال: اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدا، وأنشد: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسّد في التّراب دفينا وهكذا أخفق الإغراء والإرهاب في تعويق الدعوة، وأدركت قريش أن ما تصبوا إليه بعيد المنال، فعادت سيرتها الأولى، تصبّ جام غضبها على المؤمنين، وتبذل اخر ما في وسعها للتنكيل بهم، ومحاولة فتنهم عن دينهم. وحزن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للماسي التي تقع لأصحابه، وهو عاجز عن كفّها، فأوعز إلى من قلّ نصيره، ونبا به المقام في مكة أن يهجرها إلى الحبشة، وكان ذلك لخمس سنين من مبعثه، أو بعد سنتين من جهره بالبلاغ.

_ - الشمس ... » ما نصه: «والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار» ، وفيه عقب هذا: فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط، ارجعوا راشدين. قال الهيثمي في (المجمع: 6/ 15) : «رواه أبو يعلى باختصار يسير من أوله، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح» .

الهجرة إلى الحبشة

الهجرة إلى الحبشة كان الرحيل إلى الحبشة تسلّلا في الخفاء، حتى لا تستيقظ قريش للأمر فتحبطه، ولم يبدأ كذلك على نطاق واسع، بل كان الفوج الأول مكوّنا من بضع أسر، فيهم رقية ابنة النبيّ عليه الصلاة والسلام وزوجها عثمان بن عفان، ونفر اخر من المهاجرين لم يزيدوا جميعا عن ستة عشر، وقد يمّموا شطر البحر؛ حيث قيّضت لهم الأقدار سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، فلما خرجت قريش في اثارهم إلى الشاطئ، كانوا قد انطلقوا امنين، ولم يمكث أولئك المهاجرون طويلا حتى ترامت إليهم الأخبار بأن المشركين هادنوا الإسلام، وتركوا أهله أحرارا، وأن الإيذاء القديم انقطع، فلا بأس عليهم إن عادوا. وتركت هذه الإشاعة أثرها في قلوب المؤمنين، فقرروا العودة إلى وطنهم، حتى إذا اقتربوا من مكة تبيّنات لهم الحقيقة المحزنة، وعرفوا أن المشركين أشد ما يكونون خصاما لله ورسوله والمؤمنين، وأن عدوانهم لم ينقطع يوما ... ويزعم بعض المغفّلين أنه وقعت هدنة حقّا بين الإسلام والوثنية، أساسها أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم تقرب إلى المشركين بمدح أصنامهم والاعتراف بمنزلتها! وأن هذه الهدنة الواقعة هي التي أعادت المسلمين من الحبشة ... وماذا قال محمد عليه الصلاة والسلام في مدح الأصنام؟ يجيب هؤلاء المغفّلون بأنه قال: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى!!. وأين وضع هذه الكلمات؟ وضعها في سورة (النجم) مقحمة وسط الايات التي جاء فيها ذكر هذه الأصنام، فأصبحت هكذا: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) ... [النجم] .

[التحذير من الإسرائيليات] :

ويكون معنى الكلام على هذا: خبّروني عن أصنامكم: أهي كذا وكذا؟ إن شفاعتها مرجوة، إنها أسماء لا حقائق لها، إنّها خرافات ابتدعت واتبعت، ما لكم جعلتموها إناثا ونسبتموها لله وأنتم تكرهون نسبة الإناث لكم؟! تلك قسمة جائرة!. فهل هذا كلام يصدر عن عاقل فضلا عن أن ينزل به وحي حكيم؟!. ولكن هذا السخف وجد من يكتبه وينقله!. إن محمدا صلى الله عليه وسلم لو كذب على الله باختلاق كلام عليه، لقطع عنقه بنصّ الكتاب الذي جاء به، قال الله جل شأنه: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) [الحاقة] . [التحذير من الإسرائيليات] : بيد أنّ كتب التاريخ والتفسير التي تركت للورّاقين والزنادقة يشحنونها المفتريات، اتسعت صفحاتها لذكر هذا اللغو القبيح؛ ومع أن زيفه وفساده لم يخفيا على عالم، إلا أنه ما كان يجوز أن يدوّن مثله ... إنك تفتح (الخازن) في تفسير القران (سورة هود) فتقرأ ما يلي: لما كثرت الأرواث في سفينة نوح، أوحى الله إليه أن اغمز ذنب الفيل، فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة، ومسح على الخنزير فوقع منه الفأرة، فأقبلوا على الروث فأكلوه، فلما أفسد الفأر في السفينة، وجعل يقرضها ويقطع حبالها، أوحى الله إليه أن اضرب بين عيني الأسد، فضرب فخرج من منخره قط وقطة، فأقبلا على الفأر فأكلاه. أرأيت هذا الكلام الفارغ؟! أرأيت من قبله حديث الغرانيق؟! إن كثيرا من هذه الخرافات الصغيرة توجد في كتب شتى عندنا، ولا ندري متى تنظف هذه الكتب القديمة منها، فهي لا ريب مدخولة عليها أيام غفلة المسلمين، وغلبة الدسائس اليهودية على أفكارهم ومخطوطاتهم. والذي ورد في الصحيح: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قرأ سورة (النجم) في محفل يضمّ مسلمين ومشركين، وخواتيم هذه السورة قوارع تطير لها القلوب. فلما أخذ صوت الرسول صلى الله عليه وسلم يهدر بها ويرعد بنذرها حتى وصل إلى قول الله عز وجلّ:

[الهجرة الثانية إلى الحبشة] :

.. وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) [النجم] . كانت روعة الحقّ قد صدعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين، فما تمالكوا أن يخرّوا لله ساجدين، مع غيرهم من المسلمين. فلما نكسوا على رؤوسهم، وأحسوا أنّ جلال الإيمان لوى زمامهم، ندموا على ما كان منهم، وأحبّوا أن يعتذروا عنه، بأنهم ما سجدوا مع محمد صلى الله عليه وسلم إلا لأن محمدا صلى الله عليه وسلم عطف على أصنامهم بكلمة تقدير «1» ! (كذا) ، وليس يستغرب هذا من قوم كانوا يؤلّفون النكت للضحك من المسلمين، ولا يستحيي أحدهم- وهو ابن خال النبي عليه الصلاة والسلام- أن يقول له ساخرا: أما كلّمت اليوم من السماء يا محمد؟!. وليس أسمج من اعتذار المشركين عن سجودهم إلا تصديق هذا الاعتذار، وقد حاول المشركون أن ينشروا فريتهم هذه ليعكروا على الرسول عليه الصلاة والسلام، ويشوّشوا على الوحي، وليوهموا بأن محمدا صلى الله عليه وسلم في بعض أحيانه مال إليهم، وهيهات، فإن الحرب التي شنّها محمد صلى الله عليه وسلم على الوثنية لم تزدها الليالي إلا ضراما، ولم تزده من عبيدها إلا خصاما. [الهجرة الثانية إلى الحبشة] : عاد من هاجر إلى الحبشة ليباغت بأن الاضطهاد الواقع على الإسلام أحدّ وأشدّ، فدخل بعضهم مكة مستجيرا بمن يعرف من كبرائها، وتوارى الاخرون، لكن قريشا أبت إلا أن تنكّل بالقادمين، وأن تغري سائر القبائل بمضاعفة الأذى للمسلمين، فلم ير الرسول صلى الله عليه وسلم بدّا من أن يشير على أصحابه بالهجرة مرة أخرى

_ (1) أين الدليل النقلي على هذا الاعتذار، وأنّ المشركين هم الذين اختلفوا فريتهم هذه وحاولوا نشرها؟ مثل هذه الأمور لا بدّ لها من دليل منقول، وما المانع أن تكون هذه الفرية حدثت من بعد؟! وهذا هو الأقرب، فإنها- أعني هذه الفرية- لم ترو بسند معتبر عن صحابي، بل كل طرقها مرسلة لا يدرى من الذي حدّث بها ممن يمكن أن يدرك عصر النبوة والرسالة، وقد فصّلت القول في بطلان هذه القصة من الوجهة الحديثية في كتابي (نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق) .

إلى الحبشة، وكانت هذه الهجرة الثانية أشق من سابقتها، فقد تيقّظت لها قريش، وقررت إحباطها، بيد أن المسلمين كانوا أسرع، فخرج منهم في هذا الفوج ثلاثة وثمانون رجلا وتسع عشرة امرأة، ويسّر الله لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة. ووجدوا عنده ما يبغون من أمان وطيب جوار وكرم وفادة. والظاهر أنّ هذا النجاشيّ كان رجلا راشدا، نظيف العقل، حسن المعرفة لله، سليم الاعتقاد في عيسى عبد الله ورسوله عليه السّلام، وكانت مرونة فكره سرّ المعاملة الجميلة التي وفّرها لأولئك اللاجئين إلى مملكته، فارّين بدينهم من الفتن. عزّ على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنا لأنفسهم ودينهم، وأغرتهم كراهيتهم للإسلام أن يبعثوا إلى النجاشيّ وفدا منهم، محمّلا بالهدايا والتّحف، كي يحرم المسلمين ودّه، ويطوي عنهم بشره. وكان الوفد من عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة- قبل أن يسلما-. واستعان الوفد على النجاشي برجال حاشيته، بعد أن ساقوا إليهم الهدايا، وزوّدوهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون! قالوا: إنّ ناسا من سفهائنا، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دين الملك، وجاؤوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم ... واتفقوا معهم أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم. فلما فوتح النجاشي في الأمر، وأشير عليه بإبعاد القوم، رأى ألابد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعا. ثم أرسل إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فحضروا، وقد أجمعوا على صدقه، فيما ساءه وسرّه. وكان المتكلّم عنهم جعفر بن أبي طالب، فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من الناس؟. فقال جعفر: أيها الملك! كنّا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويّ منا الضعيف.

حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا لتوحيد الله، وألانشرك به شيئا، ونخلع ما كنّا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام.. وعدّد عليه أمور الإسلام. قال جعفر: فامنا به، وصدقناه، وحرّمنا ما حرم علينا، وحللنا ما أحل لنا، فتعدّى علينا قومنا فعذّبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان، فلما قهرونا وظلمونا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورجونا ألانظلم عندك ... فقال النجاشيّ: هل معك ممّا جاء به عن الله شيء؟ قال: نعم. فقرأ عليه صدرا من سورة مريم، فبكى النجاشيّ وأساقفته، وقال النجاشيّ: «إنّ هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، والله لا أسلمهم إليكما أبدا» يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه- فخرجا، وقال عمرو لعبد الله بن أبي ربيعة: والله لاتينّه غدا بما يبيد خضراءهم. فلما كان الغد قال للنجاشيّ: إنّ هؤلاء يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما. فأرسل النجاشيّ يسألهم عن قولهم في المسيح. فقال جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا، هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشي عودا من الأرض وقال: ما عدا عيسى ما قلت قدر هذا العود «1» ، فنخرت بطارقته! فقال: وإن نخرتم! وقال للمسلمين: اذهبوا فأنتم امنون، ما أحبّ أنّ لي جبلا من ذهب، وأنني اذيت رجلا منكم! وردّ هدية قريش، وقال: ما أخذ الله الرشوة مني حتى اخذها منكم، ولا أطاع الناس فيّ حتى أطيعهم فيه «2» ، وأقام المسلمون عنده بخير دار.

_ (1) اختلف النصارى قديما في طبيعة المسيح على مذاهب شتى. وكان هناك مذهب يقوم على اعتباره بشرا مرسلا، وليس إلها ولا ندا لله. ولا يزال في الغرب المسيحي أناس يعتنقون هذا المذهب الموحّد، ونعتقد أنّ نجاشيّ الحبشة على هذا الرأي. وإن كان بطارقة الكنيسة يستنكرونه أشدّ الاستنكار. (2) أخرج هذه القصة محمد بن إسحاق في المغازي: (1/ 211- 213، من ابن هشام) ؛-

أخفقت حيلة عمرو، وعاد الوفد إلى مكة، يجرّ أذيال الخيبة، وعرفت قريش أنها لن تشبع ضغينتها على الإسلام وأهله إلا في حدود سلطانها، فعزمت أن تشفي غيظها ممن يقع تحت أيديها.

_ - وأحمد، رقم (1740) ، من طريق ابن إسحاق بسند صحيح، من حديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.

إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما

إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما إنّ الأفق المتلبّد بالسحب قد يتولّد منه برق يضيء، لقد غبرت على المسلمين في مكة أيام غلاظ، اضطرت بيوتا عديدة أن تفرّ بدينها، وبقي من بقي منهم يكابد العنت من شطط المشركين وكيدهم، إلا أنّ عناصر جديدة دخلت في الإسلام جعلت قريشا تتروّى في أمرها، قبل أن تقدم على إسااتها المبيتة. أسلم حمزة بن عبد المطلب، عمّ النبي عليه الصلاة والسلام وأخوه من الرضاع، وهو رجل أيّد جلد، قويّ الشكيمة، وسبب إسلامه الغضب لما بلغه من تهجم أبي جهل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تهجّما بذيئا، قالت له أمة لعبد الله بن جدعان: يا أبا عمارة! لو رأيت ما لقي ابن أخيك (محمد) من أبي الحكم بن هشام، فإنه سبه واذاه، ثم انصرف عنه، ولم يكلّمه محمد- وكانت المرأة قد شهدت هذا الحادث من مسكن قريب- فأسرع حمزة محنقا، لا يلوي على شيء، وأقبل على أبي جهل وهو في مجلسه من قومه، ثم ضرب رأسه بالقوس، فشجه شجة منكرة وقال: أتشتمه وأنا على دينه؟!. وكما يقول البعض: طلبنا العلم للدنيا، فأبى الله إلا أن يكون للدين! كان إسلام حمزة أول الأمر أنفة رجل أبى أن يهان مولاه، ثم شرح الله صدره، فاستمسك بالعروة الوثقى، واعتزّ به المسلمون أيّما اعتزاز ... أما عمر بن الخطاب فكان أول الفتانين المستهزئين بالإسلام، وكان معروفا بحدة الطبع، وقوة الشكيمة، وطالما لقي المسلمون منه ألوان الأذى. روت زوجة عامر بن ربيعة قالت: إنّا لنرحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر لبعض حاجته؛ إذ أقبل عمر- وهو على شركه- حتى وقف عليّ، وكنا نلقى منه البلاء، فقال: أتنطلقون يا أمّ عبد الله؟ قالت: نعم والله لنخرجنّ في أرض الله، فقد اذيتمونا، وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجا. قالت: فقال عمر: صحبكم الله، ورأيت له رقة وحزنا ... !! قالت: فلما عاد عامر أخبرته،

وقلت له: لو رأيت عمر ورقته وحزنه علينا ... قال: أطمعت في إسلامه؟ قلت: نعم. فقال: لا يسلم حتى يسلم حمار الخطّاب!! - لما كان يراه الرجل من شدته وغلظته على المسلمين. ولكنّ قلب المرأة كان أصدق من رأي الرجل، فإنّ غلظة عمر كانت قشرة خفيفة، تكمن وراءها ينابيع من الرّقة والعطف والسماحة. والظاهر أنّ عمر كانت تصطرع في نفسه مشاعر متناقضة: احترامه للتقاليد التي سنّها الاباء والأجداد، واسترساله مع شهوات السّكر واللهو التي ألفها ... ثم إعجابه بصلابة المسلمين، واحتمالهم البلاء في سبيل عقيدتهم، ثم الشكوك التي تساوره- كأيّ عاقل- في أنّ ما يدعو إليه الإسلام قد يكون أجلّ وأزكى من غيره، ولهذا ما إن يثور حتى يخور، ذهب ليقتل محمدا صلى الله عليه وسلم ثم ثنته عن عزمه كلمة. ولما علم بإسلام أخته وزوجها اقتحم عليهما البيت صاخبا متوعّدا، وضرب أخته فشجّها، وأعاده منظر الدم المراق إلى صوابه، فرجحت نواحي البر والخير في نفسه، وتناول ورقة كتبت فيها بعض الايات، وتلاها، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه!!. واستكان عمر للحق، فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن إسلامه. فلما خلصت نفسه من شوائبها، وتمحّضت للإسلام، كان مددا عظيما لجند الله، فازداد المسلمون به منعة، ووقعت في نفوس الكافرين منه حسرة. ورأت قريش أنّ أمر الإسلام ينمو ويعلو، وأنّ وسائلها الأولى في محاربته لم تمنع انتشاره، أو تنفّر أنصاره، فأعادت النظر في موقفها كلّه، لترسم خطة جديدة أقسى وأحكم، وأدق وأشمل..

المقاطعة العامة

المقاطعة العامة وتمخّض حقد المشركين عن عقد معاهدة تعتبر المسلمين ومن يرضى بدينهم؛ أو يعطف عليهم؛ أو يحمي أحدا منهم- حزبا واحدا دون سائر الناس، ثم اتفقوا ألا يبيعوهم، أو يبتاعوا منهم شيئا، وألا يزوجوهم، أو يتزوّجوا منهم، وكتبوا ذلك في صحيفة علّقوها في جوف الكعبة، توكيدا لنصوصها. ولا شكّ أنّ المتطرفين من ذوي النزق والحدّة، نجحوا في فرض رأيهم، وإشباع ضغنهم، فاضطر الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى الاحتباس في شعب بني هاشم، وانحاز إليهم بنو المطلب، كافرهم ومؤمنهم على سواء، ما عدا أبا لهب، فقد ازر قريشا في خصومتها لقومه. وضيّق الحصار على المسلمين، وانقطع عنهم العون، وقلّ الغذاء حتى بلغ بهم الجهد أقصاه، وسمع بكاء أطفالهم من وراء الشّعب، وعضتهم الأزمات العصبية، حتى رثى لحالهم الخصوم، ومع اكفهرار الجو في وجوههم، فقد تحملوا في ذات الله الويلات. ولم تفتر حدة الوثنيين في الحملة على الإسلام ورجاله، وفي تأليب العرب عليهم من كل فج. قال السهيلي: كانت الصحابة إذا قدمت عير إلى مكة، يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئا من الطعام قوتا لعياله، فيقوم أبو لهب فيقول: يا معشر التجار! غالوا على أصحاب محمد، حتى لا يدركوا معكم شيئا، وقد علمتم مالي ووفاء ذمتي، فأنا ضامن ألاخسار عليكم. فيزيدون عليهم السلعة قيمتها أضعافا، حتى يرجع أحدهم إلى أطفاله، وهم يتضاغون من الجوع، وليس في يده شيء يطعمهم به، ويغدو التجار على أبي لهب، فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس، حتى جهد المؤمنون ومن معهم جوعا وعريا. وروى يونس عن سعد بن أبي وقاص، قال: خرجت ذات ليلة لأبول

فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها، ورضضتها، وسففتها بالماء، فقويت بها ثلاثا. فانظر كيف انتهى الحصار بالمسلمين؟! وكيف أضناهم الحرمان، وألجأهم أن يطعموا ما لا مساغ له؟!. وقد أحزنت تلك الالام بعض ذوي الرحمة من قريش، فكان أحدهم يوقر البعير زادا، ثم يضربه في اتجاه الشعب ويترك زمامه ليصل إلى المحصورين، فيخفّف شيئا مما بهم من إعياء وفاقة.. كم بقيت هذه الضائقة؟ ثلاث سنين كالحة، كان رباط الإيمان واحده هو الذي يمسك القلوب، ويصبّر على اللأواء.. ومن الطبيعي أن يستعجل المسلمون الخروج من هذه المازق، لطالما وعدوا بالنصر والتمكين، فما وجدوا إلا الرّوع والسّغب! وها هم أولاء محرجون في أرض تنكرت لهم، واقشعرّت تحت أقدامهم، ولا ريب أنّ قلوبهم امتلأت غيظا على أولئك المشركين، الذين سخروا من جميع القيم الفاضلة، وكفروا بانتصارها في الدنيا كفرهم بمجيء اليوم الاخر، ولو لم يطلب أولئك المعذّبون النصر لينقذهم من بأسائهم، لطلبوه كي يخزوا به المكذّبين ويؤدّبوا المتوقحين، بيد أنّ الوحي كان ينزل فيطالب المسلمين باليقين والثبات، دون ارتقاب لهذه النتائج المتوقعة، يجب أن يجمدوا على حقائق الإيمان التي عرفوها، وأن يستمدّوا من سموّها وصدقها ما يراغمون به الأيام والأحداث: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) [يونس] . وكان المشركون أيضا يتعجّلون خاتمة الصراع بينهم وبين أولئك المسلمين؛ يتعجّلون لأنّهم يضحكون منها، فما يثقون ببعث أو جزاء، ولا يظنّون أبدا أن يوما قريبا أو بعيدا سينشق فجره، فإذا مكة خالية من الأصنام، وإذا أذان التوحيد يرنّ في أرجائها، وإذا المحصورون في الشّعب هم أصحاب الأمر والنهي، والسادة الحاكمون بأمرهم اليوم أسرى يرجون العفو!! وكان يقينهم من أنّ اليوم والغد لهم يزين لهم الاستهزاء بهذا الوعد والتعريض به: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ

أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) [يونس] . وكان الدخول في الإسلام والبقاء عليه أبعد ما يكون عن التهمة، ربما اعتنق فريق من الناس مبدأ ما- عن صدق وإقناع-، وليس يمنعهم ذلك من التماس النفع به، والتقدّم من ورائه. أما أولئك السابقون الأولون، فقد علموا أنّ فقدان المنافع وهلاك المصالح الخاصة أول ما يلقون من تضحية في سبيل عقيدتهم. ولا أحسب شيئا يربّي النفوس على التجرّد كهذا التفاني في الحق، للحق ذاته، ثم إنّ القران كان صارما في قمع المتاجرة بالعقائد، والإثراء على حسابها، والعلوّ في الأرض باسمها: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) [هود] . وقد أفاد الصحابة من ذلك عفّة ونقاء وإخلاصا، لا يعرف لها في التاريخ نظير؛ فلمّا تعثّرت تيجان الملوك بأقدامهم، واستسلمت الأقطار المكتظّة بالخير لجيوشهم، كانت دوافع العقيدة وأهدافها هي التي تشغل بالهم قبل الفتح وبعده، فلم يكترثوا لذهب أو فضة.. إنّما عناهم- أولا واخرا- إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وفي أيام الشّعب، كان المسلمون يلقون غيرهم في موسم الحج، ولم تشغلهم الامهم عن تبليغ الدعوة، وعرضها على كل وافد؛ فإنّ الاضطهاد لا يقتل الدعوات، بل يزيد جذورها عمقا، وفروعها امتدادا؛ وقد كسب الإسلام أنصارا كثرا في هذه المرحلة، وكسب- إلى جانب ذلك- أنّ المشركين قد بدؤوا ينقسمون على أنفسهم، ويتسائلون عن صواب ما فعلوا، وشرع فريق منهم يعمل على إبطال هذه المقاطعة، ونقض الصحيفة التي تضمنتها. وأول من أبلى في ذلك بلاء حسنا هشام بن عمرو؛ فقد ساءته حال المسلمين، ورأى ما هم فيه من عناء؛ فمشى إلى زهير بن أبي أمية؛ وكان شديد

الغيرة على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زهير! أرضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت؟!. أما إنّي أحلف بالله: لو كانوا أخوال أبي الحكم- يعني أبا جهل- ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه ما أجابك أبدا! فقال: فماذا أصنع وإنّما أنا رجل واحد؟! والله لو كان معي رجل اخر لنقضتها! فقال: قد وجدت رجلا، قال: ومن هو؟ قال: أنا، قال زهير: ابغنا ثالثا، فذهب إلى المطعم بن عدي فقال له: أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد ذلك موافق فيه؟! أما والله لو أمكنتموهم من هذه لتجدنّهم إلى مثلها منكم أسرع!! قال: ما أصنع؟ إنّما أنا رجل واحد. قال: قد وجدت ثانيا، قال: من هو؟ قال: أنا. قال: ابغنا ثالثا، قال: قد فعلت. قال: من هو! قال زهير بن أبي أمية. قال: ابغنا رابعا، فذهب إلى أبي البختري بن هشام؛ وقال له نحوا مما قال للمطعم. قال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال: أنا وزهير والمطعم، قال: ابغنا خامسا، فذهب إلى زمعة بن الأسود، فكلّمه، وذكر له قرابته، قال: وهل على هذا الأمر معين؟ قال: نعم. وسمّى له القوم. فاتعدوا (خطم الحجون) الذي بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك، وتعاقدوا على القيام في نقض الصحيفة، فقال زهير: أنا أبدؤكم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير فطاف بالبيت، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة! أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة!! قال أبو جهل: كذبت والله لا تشقّ، قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا بها حين كتبت! وقال أبو البختري: صدق والله زمعة، لا نرضى ما كتب فيها، وقال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك!! وقال هشام بن عمرو نحوا من هذا، فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل! فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقّها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلّا كلمة: «باسمك اللهم» . وكانت العرب تفتتح بها كتبها..

عام الحزن

عام الحزن انطلق المسلمون من الشعب، يستأنفون نشاطهم القديم، بعد ما قطع الإسلام في مكة قرابة عشرة أعوام مليئة بالأحداث الضخمة، وما إن تنفس المسلمون من الشدة التي لاقوها، حتى أصيب الرسول صلى الله عليه وسلم بوفاة زوجته خديجة، ثم بوفاة عمّه أبي طالب. أي أنه نكب في حياته الخاصة والعامة معا. إنّ خديجة من نعم الله الجليلة على محمد عليه الصلاة والسلام، فقد ازرته في أحرج الأوقات، وأعانته على إبلاغ رسالته، وشاركته مغارم الجهاد المر، وواسته بنفسها ومالها، وإنك لتحسّ قدر هذه النعمة عند ما تعلم أنّ من زوجات الأنبياء من خنّ الرسالة، وكفرن برجالهنّ، وكنّ مع المشركين من قومهن والهن حربا على الله ورسوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) [التحريم] . أما خديجة فهي صدّيقة النساء، حنّت على رجلها ساعة القلق، وكانت نسمة سلام وبر، رطّبت جبينه المتصبّب من اثار الوحي، وبقيت ربع قرن معه، تحترم قبل الرسالة تأمّله وعزلته وشمائله، وتتحمّل بعد الرسالة كيد الخصوم، والام الحصار، ومتاعب الدعوة، وماتت والرسول صلى الله عليه وسلم في الخمسين من عمره، وهي تجاوزت الخامسة والستين، وقد أخلص لذكراها طول حياته. أما أبو طالب، فإنّ المرء يحار في أمره! وبقدر ما يهتزّ إعجابا لنبله في كفالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم لبطولته في الدفاع عنه حين نبّئ، وحين صدع بأمر ربه، وأنذر عشيرته الأقربين. إنّه- بقدر ذلك- يستغرب المصير الذي ختم حياته، وجعله يصرّح- قبل موته- أنّه على ملّة الأشياخ من أجداده.

وقد حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لموت أبي طالب حزنا شديدا، ألم يكن الحصن الذي تحتمي به الدعوة من هجمات الكبراء والسفهاء؟! وها قد ولّى الرجل الذي سخّر جاهه وسلطانه في الذود عن ابن أخيه وكفّ العوادي أن تناله. إن قريشا أصبحت لا تهاب في محمّد عليه الصلاة والسلام أحدا بعده. روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما نالت منّي قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب» «1» ، وذلك أنّهم تجرؤوا عليه، حتى نثر بعضهم التراب على رأسه. وعن ابن مسعود قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي عند البيت، وأبو جهل وأصحابه جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس؛ فقال أبو جهل: أيّكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيضعه بين كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبيّ صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهره، والنبيّ صلى الله عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت- وهي جويرية- فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم. فلمّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته؛ رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاث مرات، وإذا سأل سأل ثلاثا، ثم قال: «اللهم عليك بقريش» ثلاثا. فلمّا سمعوا، ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته. ثم قال: «اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط» وذكر السابع ولم أحفظه. فو الذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، لقد رأيت الذين سمّى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر «2» . لقد مضت مكة في طريق الكفر حتى أوغلت فيه، وبلغت نهايته، فهي الان تستمرئ تلويث الساجدين بالأقذار، وتتمايل- ضحكا- من منظر الأنجاس وهي

_ (1) حديث ضعيف، أخرجه ابن إسحاق: 1/ 258، بسند صحيح عن عروة بن الزبير مرسلا. (2) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 1/ 278- 280، 471؛ ومسلم: 5/ 180؛ والنسائي: 1/ 51؛ وأحمد، رقم (3722، 2723، 3775، 3962) والقائل: (وذكر السابع ولم أحفظه) هو أبو إسحاق، وهو السبيعي كما صرّح بذلك مسلم في روايته، وقد سمّي السابع (عمارة بن الوليد) في رواية البخاري وأحمد، راجع فتح الباري.

تسيل على كتفي المصلي، لم يبق في هذه القلوب مكان لذرة من الخير. والبنت- في المجتمع العربي- تعيش في كنف أبيها، وتفخر بقوته، وتأنس بحمايته. وممّا يحزّ في قلب الرجل أن يرى نفسه في وضع تدفع عنه ابنته، وتشعر بالعجز وقلّة الناصر، وقد كظم محمّد صلى الله عليه وسلم على ألمه، وتحمّل في ذات الله ما لقي، إلا أنّه أخذ يفكّر في التوجّه برسالته إلى قرية أخرى، علّها تكون أحسن قبولا، وأقرب استجابة؛ فاستصحب معه زيد بن حارثة، وولّى وجهه شطر (ثقيف) يلتمس نصرتها..

في الطائف

في الطائف ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف حيث تقطن ثقيف، وهي تبعد عن مكة نحو الخمسين ميلا، سارها محمد صلى الله عليه وسلم على قدميه جيئة وذهابا، فلمّا انتهى إليها قصد إلى نفر من رجالاتها، الذين ينتهي إليهم أمرها، ثم كلّمهم في الإسلام، ودعاهم إلى الله، فردوه- جميعا- ردّا منكرا، وأغلظوا له الجواب، ومكث عشرة أيام، يتردّد على منازلهم دون جدوى. فلمّا يئس الرسول عليه الصلاة والسلام من خيرهم، قال لهم: «إذا أبيتم، فاكتموا عليّ ذلك» - كراهية أن يبلغ أهل مكة، فتزداد عداوتهم وشماتتهم- لكنّ القوم كانوا أخسّ مما ينتظر، قالوا له: اخرج من بلدنا، وحرّشوا عليه الصبيان والرعاع، فوقفوا له صفين يرمونه بالحجارة، وزيد بن حارثة يحاول- عبثا- الدفاع عنه، حتى شجّ في ذلك رأسه. وأصيب الرسول عليه الصلاة والسلام في أقدامه، فسالت منها الدماء، واضطره المطاردون إلى أن يلجأ إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة، حيث جلس في ظل كرمة يلتمس الراحة والأمن. وكان أصحاب البستان فيه، فصرفوا الأوباش عنه، واستوحش الرسول عليه الصلاة والسلام لهذا الحاضر المرير، وثابت إلى نفسه ذكريات الأيّام التي عاناها مع أهل مكة، إنه يجرّ وراءه سلسلة ثقيلة من الماسي المتلاحقة، فهتف يقول: «اللهم إليك أشكو ضعف قوّتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس.. أنت أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي.. إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهّمني، أم إلى عدوّ ملّكته أمري؟! إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، غير أنّ عافيتك هي أوسع لي..!!. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا

[في جوار المطعم بن عدي] :

والاخرة، أن يحلّ عليّ غضبك، أو أن ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلا بك ... » . وتحرّكت عاطفة القرابة في قلوب ابني ربيعة، فدعوا غلاما لهما نصرانيا، يدعى (عدّاسا) وقالا له: خذ قطفا من العنب، واذهب به إلى الرجل. فلما وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مد يده إليه قائلا: «باسم الله» ثم أكل. فقال عدّاس: إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «من أيّ البلاد أنت؟» قال: أنا نصراني من نينوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمن قرية الرّجل الصّالح يونس بن متّى؟» قال له: وما يدريك ما يونس؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك أخي، كان نبيّا وأنا نبيّ» . فأكبّ عدّاس على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجليه يقبلهما. فقال ابنا ربيعة أحدهما للاخر: أمّا غلامك فقد أفسده عليك! فلمّا جاء عدّاس قالا له: ويحك ما هذا؟ قال: ما في الأرض خير من هذا الرجل «1» . فحاول الرجلان توهين أمر محمد، وتمسيك الرجل بدينه القديم، كأنّما عزّ عليهما أن يخرج محمد صلى الله عليه وسلم من الطائف بأيّ كسب. [في جوار المطعم بن عدي] : وقفل الرسول عليه الصلاة والسلام عائدا إلى مكة، إلى البلد الذي لفظ خيرة أهله، فهاجر بعضهم إلى الحبشة، وأكره الباقي على معاناة العذاب الواصب، أو الفرار إلى شعف الجبال. وقال زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟. فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «يا زيد، إنّ الله جاعل لما ترى فرجا ... » .

_ (1) أخرج هذه القصة ابن إسحاق: 1/ 260- 262، بسند صحيح عن محمد بن كعب القرظي مرسلا، لكن قوله: «إن أبيتم فاكتموا عليّ ذلك» وقوله: «اللهم إليك أشكو ... » إلخ، الدعاء، ذكرهما بدون سند، وكذلك رواه ابن جرير: 2/ 80- 81، من طريق ابن إسحاق، وروى هذه القصة الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن جعفر مختصرا، وفيه الدعاء المذكور بنحوه، قال الهيثمي (6/ 35) : «وفيه ابن إسحاق وهو مدلّس ثقة، وبقية رجاله ثقات» فالحديث ضعيف.

ولا بدّ أنّ أخبار ثقيف قد سبقته إلى قريش، ومن ثمّ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يدخل مكة حتى يستوثق لنفسه ودعوته، فبعث إلى (المطعم بن عدي) يعرض عليه أن يجيره حتّى يبلّغ رسالة ربّه! فقبل (المطعم) واستنهض أبناءه، فحملوا أسلحتهم، ووقفوا عند أركان البيت الحرام، وتسنّم المطعم ناقته، ثم نادى: يا معشر قريش! قد أجرت محمدا، فلا يهجه أحد منكم! فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صلّى ركعتين، ثم انصرف إلى بيته، ومطعم وأهله يحرسونه بأسلحتهم «1» .... وقيل: إنّ أبا جهل سأل مطعما: أمجير أم متابع- مسلم-؟ قال: بل مجير، قال: قد أجرنا من أجرت ... !. وحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم للمطعم هذا الصنيع، فقال يوم أسرى بدر: لو كان المطعم حيّا لتركت له هؤلاء النّتنى. كان المطعم- كأبي طالب- على دين أجداده، وكان كذلك مثله في المروءة والنجدة، وقد أراد أبو جهل أن يتهكّم بنبيّ يحتاج إلى جوار، وكأنّه يتساءل: لم لم تنزل كوكبة من الملائكة لحفظه؟!. ولذلك قال- لما راه-: هذا نبيّكم يا بني عبد مناف؟!. فرد عليه عتبة بن ربيعة: وما ينكر أن يكون منا نبي وملك؟!. فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسؤال أبي جهل وردّ عتبة قال: «أما أنت يا عتبة فما حميت لله، وإنّما حميت لنفسك- وذلك أنه قالها عصبية لا إيمانا-. وأما أنت يا أبا جهل، فو الله لا يأتي عليك غير بعيد حتى تضحك قليلا وتبكي كثيرا. وأما أنتم يا معشر قريش، فو الله لا يأتي عليكم غير كثير، حتى تدخلوا فيما تنكرون» «2» .

_ (1) لم أجد له سندا وقد ذكره بنحوه ابن جرير: 2/ 82- 83، بدون سند، بقوله: «وذكر بعضهم ... » ولعلّ هذا البعض هو الأموي في مغازيه فقد عزاه إليه الحافظ ابن كثير: 3/ 137، بدون سند أيضا. (2) ابن جرير: 2/ 82- 83، بدون سند كما تقدم في تخريج الحديث السابق.

وفي هذا التعليق ما يدلّ على ثقة الرسول عليه الصلاة والسلام من المستقبل مهما اكتنفه- في الحاضر- من الالام. عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليستأنف خطته الأولى في عرض الإسلام وإبلاغ رسالة الله. وبينا هو ماض في جهاده، إذ وقعت له قصة الإسراء والمعراج ...

الإسراء والمعراج

الإسراء والمعراج يقصد بالإسراء الرحلة العجيبة التي بدأت من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس، ويقصد بالمعراج ما عقب هذه الرحلة من ارتفاع في طباق السموات حتى الوصول إلى مستوى تنقطع عنده علوم الخلائق، ولا يعرف كنهه أحد، ثم الأوبة- بعد ذلك- إلى المسجد الحرام بمكة. وقد أشار القران الكريم إلى كلتا الرحلتين في سورتين مختلفتين، وذكر قصة الإسراء وحكمته بقوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) [الإسراء] . وذكر قصة المعراج وثمرته بقوله: وَلَقَدْ رَآهُ يعني: جبريل نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) [النجم] . فتعليل الإسراء- كما نصّت الاية- أنّ الله يريد أن يري عبده بعض آياته. ثم أوضحت ايات المعراج أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام شهد- بالفعل- بعض هذه الايات الكبرى. وقد اختلف العلماء من قديم: أكان هذا السّرى الخارق بالروح واحده، أم بالروح والجسد جميعا؟ والجمهور على القول الأخير. وللدكتور هيكل رأي غريب، فقد اعتبره استجماعا ذهنيا ونفسيا لواحدة الوجود من الأزل إلى الأبد، في فترة من فترات التألّق النفساني الفذّ، الذي اختص به بشر نقيّ جليل مثل محمد صلى الله عليه وسلم، وفي إبّان هذا التألّق، الذي استعالى به على كلّ شيء استعرض حقائق الدين والدنيا، وشاهد صور الثواب والعقاب ... إلخ.

فالإسراء حقّ.. وهو- عنده- روحيّ لا مادي، ولكنه في اليقظة لا في المنام، فليس رؤيا صادقة كما يرى البعض، بل هو حقيقة واقعة على النحو الذي صوّره، ثم قال فيه بعدئذ: «وليس يستطيع هذا السمو إلا قوة فوق ما تعرف الطبائع الإنسانية» . والحق أن الحدود بين القوى الروحية والقوى المادية أخذت تضمحلّ وتزول، وأن ما يراه الإنسان ميسورا في عالم الروح ليس بمستوعر في عالم المادة. وأحسب أنه بعد ما مزّق العلم من أستار عن أسرار الوجود؛ فإنّ أمر المادة أضحى كأمر الروح، لا يعرف مداه إلا قيوم السموات والأرض. وإنّ الإنسان ليقف مشدوها، عند ما يعلم أنّ الذرة تمثل في داخلها نظام المجموعة الشمسية الدوّارة في الفلك، وأنها- وهي هباءة تافهة- تكمن فيها حرارة هائلة عند ما أطلقت أحرقت الأخضر واليابس. إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أسري به وعرج؛ كيف؟ هل ركب الة تسير بأقصى من سرعة الصوت كما اخترع الناس أخيرا؟. لقد امتطى البراق، وهو كائن يضع خطوه عند أقصى طرفه، كأنّه يمشي بسرعة الضوء، وكلمة (براق) يشير اشتقاقها إلى البرق، أي أنّ قوة الكهرباء سخّرت في هذه الرحلة. لكنّ الجسم- في حالته المعتادة- يتعذّر عليه التنقّل في الافاق بسرعة البرق الخاطف، لا بدّ من إعداد خاصّ، يحصّن أجهزته ومسامّه لهذا السفر البعيد. وأحسب أنّ ما روي عن شقّ الصدر، وغسل القلب وحشوه، إنّما هو رمز هذا الإعداد المحتوم.. وقصة الإسراء مشحونة بهذه الرموز، ذات الدلالة التي تدقّ على السّذّج. إنّ الإسراء والمعراج وقعا للرسول عليه الصلاة والسلام بشخصه في طور بلغت الروح فيه قمة الإشراق، وخفّت فيه كثافة الجسد حتى تفصّى من أغلب القوانين التي تحكمه. واستكناه حقيقة هذه الرحلة، وتتبّع مراحلها بالوصف الدقيق، مرتبط بإدراك العقل الإنساني لحقيقة المادة والروح، وما أودع الله فيهما من قوى وخصائص.

[لماذا المسجد الأقصى؟] :

ولذلك سنتجاوز هذا البحث «1» إلى ما هو أيسر وأجدى، أي إلى تسجيل المعالم المتصلة بالإسلام باعتباره رسالة عامة وتشاريع محددة. وقصة الإسراء والمعراج تهمّنا من هذه الناحية. ألم تر أنّ (علم النفس) لم يستبحر وينطلق إلا يوم تحرّر من البحث في الروح والخبط في مدلولها؟!. [لماذا المسجد الأقصى؟] : لماذا كانت الرحلة إلى بيت المقدس، ولم تبدأ من المسجد الحرام إلى سدرة المنتهى مباشرة؟. إنّ هذا يرجع بنا إلى تاريخ قديم، فقد ظلّت النبوّات دهورا طوالا وهي وقف على بني إسرائيل، وظلّ بيت المقدس مهبط الوحي، ومشرق أنواره على الأرض، وقصبة الوطن المحبب إلى شعب الله المختار «2» . فلما أهدر اليهود كرامة الوحي، وأسقطوا أحكام السماء، حلّت بهم لعنة الله، وتقرّر تحويل النبوة عنهم إلى الأبد! ومن ثمّ كان مجيء الرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ انتقالا بالقيادة الروحية في العالم من أمة إلى أمة، ومن بلد إلى بلد، ومن ذرية إسرائيل إلى ذرية إسماعيل. وقد كان غضب اليهود مشتعلا لهذا التحوّل، مما دعاهم إلى المسارعة بإنكاره: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ [البقرة: 90] . لكنّ إرادة الله مضت، وحمّلت الأمة الجديدة رسالتها، وورث النبيّ العربيّ تعاليم إبراهيم وإسماعيل ويعقوب، وقام يكافح لنشرها، وجمع الناس عليها، فكان من وصل الحاضر بالماضي، وإدماج الكلّ في حقيقة واحدة أن يعتبر

_ (1) انظر البحث مفصلا في كتاب: السيرة النبوية، للشيخ محمد محمد أبو شهبة: 1/ 407- 428، وفيه ردّ على أوهام الدكتور محمد حسين هيكل. (ن) . (2) كل أمة أو شعب تحمّل عبء تبليغ رسالة نبيّه، فهو شعب مختار، فإن أدى الأمانة، فهو من خير أمم الأرض، وإن خانها، فهو من شر أمم الأرض، أما بنو إسرائيل فقد خانوا، وقتلوا النبيّين، فكان أن ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله. (ن) .

المسجد الأقصى ثالث الحرمين في الاسلام، وأن ينتقل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في إسرائه، فيكون هذا الانتقال احتراما للإيمان الذي درج- قديما- في رحابه.. ثم يجمع الله المرسلين السابقين من حملة الهداية في هذه الأرض وما حولها؛ ليستقبلوا صاحب الرسالة الخاتمة، إنّ النبوات يصدّق بعضها بعضا، ويمهّد السابق منها للّاحق، وقد أخذ الله الميثاق على أنبياء بني إسرائيل بذلك: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) [ال عمران] . وفي السنة الصحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلّى بإخوانه الأنبياء ركعتين في المسجد الأقصى، فكانت هذه الإمامة إقرارا مبينا بأنّ الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى خلقه، أخذت تمامها على يد محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن وطّأ لها العباد الصالحون من رسل الله الأولين. والكشف عن منزلة محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ليس مدحا يساق في حفل تكريم، بل هو بيان حقيقة مقرّرة في عالم الهداية منذ تولّت السماء إرشاد الأرض، ولكنه جاء في إبّانه المناسب. فإنّ جهاد الدعوة الذي حمله محمد صلى الله عليه وسلم على كواهله، عرّضه لعواصف عاتية من البغضاء والافتراء، ومزّق شمل أتباعه، فما ذاقوا- مذ آمنوا به- راحة الركون إلى الأهل والمال، وكان اخر العهد بمشاق الدعوة، طرد (ثقيف) له، ثم دخوله البلد الحرام في جوار مشرك، إنّ هوانه على الناس- منذ دعاهم إلى الله- جعله يجأر إلى ربّ الناس شاكيا راجيا. فمن تطمين الله له، ومن نعمائه عليه: أن يهيّئ له هذه الرحلة السماوية؛ لتمسّ فؤاده المعنّى ببرد الراحة، وليشعر أنه بعين الله مذ قام يواحده ويعبده، ويعلّم البشر توحيده وعبادته. كان يقول: «إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي» «1» ، فالليلة علم أنّ حظّه من رضوان الله جزيل، وأن مكانته بين المصطفين الأخيار موطّدة مقدمة. إنّ الإسراء والمعراج يقعان قريبا من منتصف فترة الرسالة التي مكثت ثلاثة

_ (1) تقدّم في خبر الطائف أنه حديث ضعيف.

حكمة الإسراء:

وعشرين عاما، وبذلك كانا علاجا مسح متاعب الماضي، ووضع بذور النجاح للمستقبل. إنّ رؤية طرف من ايات الله الكبرى في ملكوت السموات والأرض له أثره الحاسم في توهين كيد الكافرين، وتصغير جموعهم، ومعرفة عقباهم. وقد عرف محمّد صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة أنّ رسالته ستنساح في الأرض، وتتوطّن الأودية الخصبة في النيل والفرات، وتنتزع هذه البقاع من مجوسية الفرس وتثليث الروم. بل إنّ أهل هذه الأودية سيكونون حملة الإسلام جيلا في أعقاب جيل؛ وهذا معنى رؤية النيل والفرات في الجنة، وليس أنّ مياه النهرين تنبع من الجنة كما يظن السذّج والبله. لقد روى الترمذيّ مثلا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أعطي أحدكم الريحان فلا يردّه، فإنّه خرج من الجنة» «1» ؛ فهل ذلك يدلّ على أنّ الريحان من الجنة، ونحن نقطف أزهاره من الحقول والحدائق؟!. حكمة الإسراء: ذلك والله عز وجلّ يتيح لرسله فرص الاطّلاع على المظاهر الكبرى لقدرته، حتى يملأ قلوبهم ثقة فيه، واستنادا إليه، إذ يواجهون قوى الكفار المتألّبة، ويهاجمون سلطانهم القائم. فقبل أن يرسل الله موسى شاء أن يريه عجائب قدرته، فأمره أن يلقي عصاه، قال: أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ

_ (1) حديث ضعيف، أخرجه الترمذي: 3/ 18، من طريق حنان عن أبي عثمان النهدي مرسلا، وهذا مع إرساله فيه جهالة حنان هذا، ولم يوثقه غير ابن حبان، ولو صح الحديث لكان اللائق حمله على ظاهره وهو أن الريحان أصله من الجنة، ولا يلزم منه أن ما نقطفه منه من الحقول هو من الجنة أيضا كما ظن المؤلف. ألا ترى أنه إذا قال إنسان لماء في كأس: هذا من السماء؛ لكان صادقا، وكان قصده معروفا؟ فليتأمل. ونحو هذا يقال فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم: «إن أربعة أنهار من الجنة» أي: أصلها من الجنة، لا أنها تنبع الان منها. قلت: ألا ترى أنا نقول: إن الإنسان خلق من طين، وإن الذي خلق من طين هو أصل الإنسان (آدم) ، أما أفراد هذا الجنس فقد توالدوا من ماء مهين. (ن) .

إكمال البناء:

سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) [طه] . فلمّا ملأ قلبه إعجابا بمشاهد هذه الايات الكبرى، قال له بعد: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) ... [النازعات] . وقد علمت أنّ ثمرة الإسراء والمعراج إطلاع الله نبيّه على هذه الايات الكبرى، وربّما تقول: إنّ ذلك حدث بعد الإرسال إليه بقريب من اثني عشر عاما، على عكس ما وقع لموسى! وهذا حق، وسرّه ما أسلفنا بيانه من أنّ الخوارق في سير المرسلين الأولين قصد بها قهر الأمم على الاقتناع بصدق النبوة؛ فهي تدعيم لجانبهم أمام اتّهام الخصوم لهم بالادّعاء، وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم فوق هذا المستوى. فقد تكفّل القران الكريم بإقناع أولي النهى من أول يوم، وجاءت الخوارق في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ضربا من التكريم لشخصه، والإيناس له، غير معكرة، ولا معطلة للمنهج العقلي العادي الذي اشترعه القران «1» . وقد اقترح المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرقى في السماء، فجاء الجواب من عند الله: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 63] . فلمّا رقي في السماء بعد، لم يذكر قط أن ذلك ردّ على التحدي، أو إجابة على الاقتراح السابق؛ بل كان الأمر- كما قلنا- محض تكريم، ومزيد إعلام من الله لعبده. إكمال البناء: وفي قصّة الإسراء والمعراج تلمح أواصر القربى بين الأنبياء كافة، وهذا المعنى من أصول الإسلام: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) [البقرة] . والتحيات المتبادلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وإخوته السابقين توثّق هذه الاصرة.

_ (1) انظر كتابنا: عقيدة المسلم، ص 193، الطبعة العاشرة، دار القلم- دمشق.

ففي كلّ سماء أحلّ الله فيها أحد رسله، كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل فيها بهذه الكلمة: مرحبا بالأخ الصالح، والنبيّ الصالح!. والخلاف بين الأنبياء وهم صنعته الأمم الجائرة عن السبيل السويّ، أو بالأحرى صنعه الكهان والمتاجرون بالأديان. أمّا محمّد صلى الله عليه وسلم فقد أظهر أنّه مرسل لتكملة البناء الذي تعهّده من سبقوه، ومنع الزلازل من تصديعه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه، وأجمله، إلّا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له! ويقولون: هلّا وضعت هذه اللبنة؟! فأنا تلك اللبنة، وأنا خاتم النبيين» «1» . والأديان المعتمدة على الوحي السماوي معروفة، وليس منها- بداهة- ما اصطنعه الناس لأنفسهم من أوثان وطقوس كالبرهمية، والبوذية، وغيرهما. وليس منها كذلك ما ابتدع- أخيرا- من نحل احتضنها الاستعمار الغربي، وكثر الأنصار حولها؛ ليشدّد الخناق على مقاتل الشرق، ويعوق المسلمين الأحرار عن حطم قيوده، وإنقاذ عبيده، وذلك كالبهائية والقاديانية. ومن الممكن- لو خلصت النيّات ونشد الحق- أن توضع أسس عادلة لواحدة دينية تقوم على احترام المبادئ المشتركة «2» ، وإبعاد الهوى عن استغلال الفروق الاخرى، إلى أن تزول على الزمن، أو تنكسر حدتها. والإسلام الذي يعدّ تعاليمه امتدادا للنبوات الأولى، ولبنة مضافة إلى بنائها العتيد أول من يرحب بهذا الاتجاه ويزكيه.

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 6/ 437؛ ومسلم: 7/ 64- 65، من حديث أبي هريرة. (2) إن كانت هذه المبادئ المشتركة هي قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ... [ال عمران: 64] ؛ فقد سبق أن دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب إلى ذلك. وإن كانت هذه المبادئ هي ما سمّي في مؤتمر برنستون التبشيري بالصعيد المشترك؛ وهي أن يدعو المسلمون والنصارى واليهود إلى ما اتفقوا عليه، ويدعوا ما اختلفوا فيه؛ فهو ردة عن دين الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من المسلم والمشرك تتراءى نارهما» . (ن) .

سلامة الفطرة:

سلامة الفطرة: وفي ليلة الإسراء والمعراج تأكّدت الصفة الأولى لهذا الدين، وهي أنه دين الفطرة. ففي الحديث: «.. ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن، فأخذت اللبن فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك» «1» . إنّ سلامة الفطرة لبّ الإسلام، ويستحيل أن تفتح أبواب السماء لرجل فاسد السريرة، عليل القلب، إنّ الفطرة الرديئة كالعين الحمئة، لا تسيل إلا قذرا وسوادا. ربّما أخفي هذا السواد الكرية وراء ألوان زاهية، ومظاهر مزوّقة، بيد أنّ ما ينطلي على الناس، لا يخدع به ربّ الناس ... !!. ويوم تكون العبادات- نفسها- ستارا لفطرة فاسدة، فإنّ هذه العبادات الخبيثة، تعتبر أنزل رتبة من المعاصي الفاجرة. والناس كلّما تقدّمت بهم الحضارات، أمعنوا في التكلّف والمصانعة، وقيّدوا أنفسهم بعبادات وتقاليد قاسية. وأكثر هذه التكلّفات حجب تطمس وهج الفطرة «2» ، وتعكّر نقاوتها وطلاقتها. وليس أبغض إلى الله من أن تفترى هذه القيود باسم الدين، وأن تترك النفوس في سجونها مغلولة كئيبة. فرض الصلاة: وفي المعراج شرعت الصلوات الخمس، شرعت في السماء؛ لتكون معراجا يرقى بالناس كلّما تدلّت بهم شهوات النفوس وأعراض الدنيا. والصلوات التي شرع الله غير الصلوات التي يؤدّيها- الان- كثير من الناس.

_ (1) حديث صحيح، وهو قطعة من حديث صعصعة بن مالك الطويل في الإسراء، وقد مضى تخريجه (ص 65) ، ورواه ابن حبان في صحيحه أيضا، ص 192- 198، وأخرجه ثلاثتهم من حديث أبي هريرة أيضا. (2) انظر: خلق المسلم، ص 7، الطبعة الثالثة عشرة، دار القلم- دمشق. والإسلام والمناهج الاشتراكية، للمؤلف.

[صور شتى لأجزية الصالحين والطالحين] :

وعلامة صدق الصلاة أن تعصم صاحبها من الدنايا، وأن تخجله من البقاء عليها إن ألمّ بشيء منها. فإذا كانت الصلاة- مع تكرارها- لا ترفع صاحبها إلى هذه الدرجة؛ فهي صلاة كاذبة. «الصلاة طهور» «1» ، كما جاء في السنّة: إلا أنّها طهور للإنسان الحيّ، لا للجثة العفنة. إنّ التطهير يزيل ما يعلق بالقلب الحيّ من غبار عارض، والأعراض التي تلحق المرء في الحياة فتصدئ قلبه كثيرة، ومطهّراتها أكثر!. وفي الحديث: «فتنة الرّجل في أهله وماله وولده ونفسه وجاره، يكفّرها الصيام، والصّلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» «2» . أمّا أصحاب القلوب الميتة فالصلاة لا تجديهم فتيلا.. ولن يزالوا كذلك حتى تحيا قلوبهم أو يواريها الثرى.. [صور شتى لأجزية الصالحين والطالحين] : وقد رويت سنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في هذه الرحلة صورا شتى لأجزية الصالحين والطالحين، وتناقلت كتب السيرة رواية هذه الصور الجليلة على أنّها وقعت ليلة الإسراء والمعراج. والحقّ أنّ ذلك كان رؤيا منام في ليلة أخرى من الليالي المعتادة، كما ثبت ذلك في الصحاح «3» .

_ (1) لا أعرفه بهذا اللفظ، وكأن المؤلف ذكره بالمعنى، ومما جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كلّ يوم خمس مرات؟ هل يبقى من درنه شيء؟» قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا» أخرجه البخاري: 2/ 9؛ ومسلم: 2/ 131- 132، من حديث أبي هريرة؛ ومسلم والبخاري في (أفعال العباد) ، ص 94، من حديث جابر. (2) حديث صحيح، من رواية حذيفة بن اليمان، أخرجه البخاري: 2/ 6؛ ومسلم: 7/ 172. (3) يشير إلى حديث سمرة بن جندب عند البخاري في أماكن من صحيحه؛ منها: (الجنائز) و (الرؤيا) ؛ وأحمد أيضا في المسند: 5/ 1408، ولكن هذا لا ينفي أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى ليلة الإسراء بعض الأجزية، بل هذا هو الواقع كما في حديث أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «لما عرج بي ربي عز وجلّ مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم-

قريش والإسراء:

قريش والإسراء: فلمّا كانت صبيحة هذه الليلة المشهودة حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بما تمّ له، وما شهد من ايات ربّه الكبرى. والذين كذّبوا أن يقع وحي على الأرض أتراهم يصدّقون به في السماء؟!. لقد طاروا يجمع بعضهم بعضا؛ ليسمعوا هذه الأعجوبة، فيزدادوا إنكارا لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وريبة من أمره، وتحدّاه بعضهم أن يصف بيت المقدس، إن كان راه هذه الليلة حقا!. عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمّا كذّبتني قريش، قمت في الحجر، فجلّى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه» !! «1» . ويقول الدكتور هيكل: «أحسبك لو سألت الذين يقولون بالإسراء بالروح في هذا؛ لما رأوا فيه عجبا، بعد الذي عرف العلم في وقتنا الحاضر من إمكان التنويم المغناطيسي للتحدّث عن أشياء واقعة في جهات نائية ... فما بالك بروح يجمع واحدة الحياة الروحية في الكون كله؟! ويستطيع- بما وهب الله له من قوة- أن يتّصل بسر الحياة من أزل الكون إلى أبده!» . ونحن لا نعلّق كبير اهتمام لمعرفة الطريق التي تمّ بها الإسراء والمعراج، كلا الأمرين حق ترك ثماره في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستراح إلى حمد الخالق، وقلّ اكتراثه لذمّ الهمل من الجاحدين والجاهلين، ثم نشط إلى متابعة الدعوة، موقنا أنّ كلّ يوم يمرّ بها هو خطوة إلى النصر القريب.. ويزعم بعض الكتّاب أنّ فريقا من المسلمين ارتدّ عقب الإسراء والمعراج

_ - وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» أخرجه أحمد: 3/ 224؛ وأبو داود: 2/ 298، وسنده صحيح، وقد روي مرسلا. ولكن المسند أصح كما قال العراقي في تخريج الإحياء: 3/ 123، ولأنس حديث اخر في رؤيته صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء الخطباء الذين يقولون ما لا يفعلون، أخرجه ابن حبان في صحيحه، رقم (52) ، وغيره، وفي الباب أحاديث أخرى عن جماعة من الصحابة ذكر بعضها ابن كثير في تفسير سورة الإسراء، فليراجعها من شاء. (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 157- 159؛ ومسلم: 1/ 108؛ وابن حبان، رقم (54) وغيرهم، وله شاهد مفصل من حديث ابن عباس أخرجه أحمد، رقم (2820) ، بسند صحيح.

[عرض الإسلام على القبائل] :

إنكارا لهما، بل يزيد الدكتور هيكل أنّ المسلمين تضعضعوا على أثر انتشار القصة على الأفواه، واستبعاد المشركين لوقوعها، وهذا كلّه خطأ، فلا الاثار التاريخية تدلّ «1» عليه، ولا الاستنتاج الحصيف ينتهي به، ولا ندري كيف يقال هذا؟!. [عرض الإسلام على القبائل] : مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهجه القديم، ينذر بالوحي كلّ من يلقى، ويخوض- بدعوته- المجامع، ويغشى المواسم، ويتبع الحجيج في منازلهم، ويغبّر قدميه إلى أسواق (عكاظ) و (مجنة) و (ذي المجاز) داعيا الناس إلى نبذ الأوثان، والاستماع إلى هدي القران، وكان يسأل عن منازل القبائل قبيلة قبيلة، ويعرض عليهم نفسه ليؤمنوا به، ويتابعوه ويمنعوه ... وكان عمّه أبو لهب يمشي وراءه ويقول: لا تطيعوه، فإنّه صابئ كذّاب!. فيكون جواب القبائل: أسرتك وعشيرتك أعلم بك! ثم يردّونه أقبح الردّ. ومن القبائل التي أتاها الرسول عليه الصلاة والسلام ودعاها إلى الله فأبت الاستجابة له: (فزارة) ، و (غسان) ، و (مرة) ، و (حنيفة) ، و (سليم) ، و (عبس) ، و (بنو النضر) ، و (كندة) ، و (كلب) ، و (عذرة) ، و (الحضارمة) ، و (بنو عامر بن صعصعة) ، و (محارب بن حفصة) ... إلخ. ما وجد في هؤلاء قلبا مفتوحا، ولا صدرا مشروحا، بل كان الراحلون والمقيمون يتواصون بالبعد عنه، ويشيرون إليه بالأصابع. وكان الرجل يجيء من الافاق البعيدة، فيزوده قومه بهذه الوصاة: احذر غلام قريش لا يفتنك!!. مع ذلك فإنّ الرسول عليه الصلاة والسلام- في هذا الجو القابض- لم يخامر اليأس قلبه، واستمرّ مثابرا في جهاد الدعوة، حتى تأذّن الحقّ- أخيرا- بالفرج.

_ (1) يرد هذا ما في المسند، رقم (4546) من حديث ابن عباس، قال: أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته فحدّثهم بمسيره إلى بيت المقدس، وبعيرهم، فقال ناس: نحن نصدّق محمدا بما يقول؟! فارتدوا كفارا، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل ... الحديث. وإسناده حسن، وقال الحافظ ابن كثير في (تفسيره: 3/ 15) : «ورواه النسائي، وإسناده صحيح» قلت: وهذا من الأدلة الكثيرة التي تبين أن الإسراء كان بالروح والجسد، الأمر الذي لا يعلّق عليه حضرة المؤلف كبير اهتمام!.

الهجرة العامة مقدماتها ونتائجها (العهد المدني)

(4) الهجرة العامّة مقدّماتها ونتائجها (العهد المدني)

[تمهيد]

[تمهيد] [التحول الجديد] : حرم مشركو مكة الخير كله منذ جحدوا الرسالة، وقعدوا بكلّ صراط يوعدون، ويصدّون عن سبيل الله من امن به، ويبغونها عوجا. ولئن نجحت دعايتهم الكاذبة في منع قبائل كثيرة من دخول الإسلام، فإنّ الحق لا بدّ أن يعلو، وأن يثوب إليه المضلّلون والمخدوعون، على شرط أن يظل أهله أوفياء له، حراصا عليه، صابرين محتسبين. وقد قيّض الله للإسلام من استنقذه من البيئة التي صادرته، فأنس بعد وحشة، واستوطن بعد غربة، وشق طريقه في الحياة، بعد أن زالت الجلامد الصلدة الملقاة في مجراه. وبدأ هذا التحول على أيدي الوفود القادمة من (يثرب) إلى مكة في موسم الحج ... [بشارة اليهود بالنبي الجديد وكفرهم به] : كان أهل يثرب «1» يمتازون عن سائر العرب بجوارهم لليهود، وإلفهم عقيدة

_ (1) أرى المصنف يستعمل كلمة (يثرب) مكان (المدينة) أو (طيبة) ، ومع أن هذا الاستعمال جاهلي ففيه مخالفة لتسمية الله تعالى إياها ب (طيبة) كما في حديث جابر بن سمرة، قال: كانوا يسمون المدينة يثرب، فسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة. أخرجه مسلم: 4/ 21؛ والطيالسي: 2/ 204، واللفظ له. ولفظ مسلم: «إن الله سمّى المدينة طابة» . ورواه أحمد: 5/ 89، 94، 96، 97، 98، 101، 106، 108، باللفظين، وفي الباب عن أبي حميد عند البخاري: 4/ 71؛ وعن زيد بن ثابت عند مسلم، وفاطمة بنت قيس عند أحمد: 6/ 412، وسنده صحيح. وهذه الأحاديث أقل ما تفيده أن هذا الاستعمال مكروه، وأن تسميتها ب (طابة) أو طيبة مستحب، بل روى أحمد: 4/ 285 عن البراء بن عازب مرفوعا: «من سمى المدينة-

التوحيد، وربما حاورهم اليهود في شؤون الأديان، ونعوا عليهم عبادة الأوثان، فإذا اشتدّ الجدل وطالت اللّجاجة، قال لهم اليهود: يوشك أن يبعث الله نبيا فنتبعه؛ ونقتلكم معه قتل عاد وإرم ... !!. والغريب أنّ اليهود كانوا أول من كفر بهذا النبي يوم ظهر فيهم واقترب منهم، ولذلك ندّد القران بمسلكهم المتناقض: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة: 89] . أما العرب الأميون الذي هدّدوا بمبعثه، فقد فتحوا مسامعهم له!. فعند ما وافى الموسم، وقدمت قبائل (يثرب) ، ورأوا الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله، فقال بعضهم لبعض: تعلمون- والله يا قوم- أن هذا الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنّكم إليه.. وأخذ ذكر الإسلام يشيع في المدينة رويدا رويدا؛ فإن لم يستقبل بترحيب لم يستقبل بالسباب والحراب. إنّ عناصر النفور والمقاومة التي عهدها في مكة تحوّلت- هنا- إلى عناصر احترام وإقبال، ولم تمض ثلاثة أعوام على تسامع الأنصار الجدد بالإسلام حتى أصبحوا كهفه الحصين، وموئله القريب.

_ - (يثرب) فليستغفر الله عز وجلّ؛ هي طابة، هي طابة» ، وعزاه الهيثمي في (المجمع) : 3/ 300، لأبي يعلى أيضا، وقال: «ورجاله ثقات» ، قلت: لكن فيه عند أحمد يزيد بن أبي زيادة، وهو القرشي الهاشمي الكوفي، قال الحافظ في (التقريب) : «ضعيف، كبر فتغيّر وصار يتلقن» ولئن لم يصح هذا الحديث ففي الأحاديث السابقة غنية، وهذا الأدب قد أخلّ به أكثر الناس، فلذلك أحببت أن ألفت النظر إليه.

فروق بين البلدين

فروق بين البلدين عاشت مكة في بحبوحة من الحياة أمدا طويلا، امنة مطمئنة، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، وترجع هذه السعة إلى عاملين: 1- مهارة أهلها التجارية. 2- ومكانة الحرم الدينية. كلا الأمرين أدرّ عليها أخلاف الخير، فأثرت حتى بطرت، وشبعت حتى أتخمت، ثم عراها ما يعرو كل جماعة تواتيها الحظوظ ويصبغها الترف من: تكبّر، وقسوة، وجحود، فلما ظهر فيها الإسلام، ودعا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الحق، ردت يده في فمه، وأحدقت به وبمن معه، وملكها العناد من أول يوم، وأعلنت أنّ مركزها- عاصمة للوثنية، ومجمعا للأصنام، ومثابة للحجيج- سيزول إن هي استمعت إلى هذا الدين، وأمكنته من البقاء. وحاول الرسول عليه الصلاة والسلام- جاهدا- أن يقنع أهل مكة بأن قبولهم للحق لن يحرمهم ذرة من الخير الذي متّعوا به، فأبى الظالمون إلا كفورا: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) [القصص] . ومن هنا اشتبك سادة مكة في حرب مع الإسلام، اعتبروها دفعا عن كيانهم المادي، ووضعهم الاقتصادي، إلى جانب ما هنالك من عوامل أخرى، وهذه الحروب معروفة النتائج: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) [القصص] . أما الأمر في (يثرب) فكان على النقيض، إنّ الشحناء المتأصّلة بين أهليها استنزفت دماءهم، وقطعت شملهم، وشغلت بعضهم ببعض، حتى أوصلتهم الحروب الدائمة إلى درك أسف له العقلاء، وتمنّوا الإنقاذ منه. كان (الأوس)

و (الخزرج) - وهم في الأصل قرابة واحدة- يعانون في (يثرب) اصار هذا الخصام العنيف، ويورثونه أبناءهم؛ حتى يشبوا- وهم في مهادهم- أعداء! والذي وضع جرثومة هذا الشقاق هم اليهود.

صنع اليهود

صنع اليهود واليهود الذين استقرّوا في المدينة وأرباضها هبطوا صحراء الجزيرة فارّين بدينهم من الاضطهاد الصليبي الذي عمل- من قديم- على تنصيرهم أو إفنائهم؛ ذلك لأنّ رأي اليهود في عيسى وأمه شنيع. والنصارى يعتقدون أنّ اليهود هم قتلة عيسى، والموعزون بصلبه!!. ولا شك أن اليهود شعب نشيط، وأنهم- حيث حلّوا- يبذلون جهودا مذكورة للسيطرة على زمام التوجيه المالي، ولا يبالون بأساليب الختل والمكر لبلوغ أهدافهم، وقد ألفوا أنفسهم قلّة بين أصحاب البلاد، وخشوا أن يفنوا إذا اشتبكوا معهم في صراع سافر؛ فاحتالوا حتى زرعوا الضغائن بين الأقرباء، وما زالوا بها حتى اتت ثمرها المرّ، فأخذ العرب يأكل بعضهم بعضا في سلسلة متصلة من المعارك التي لا مبرر لها، على حين قوي اليهود وتكاثروا، ونمت ثرواتهم، واستحكمت حصونهم، وخيف سطوهم. وقبل الهجرة ببضع سنين وقعت بين الأوس والخزرج معركة (بعاث) كان النصر فيها للخزرج، ثم عاد للأوس، وبلغ من حدة الخصام بين الفريقين أن كليهما فكر في استئصال الاخر وإبادة خضرائه، لولا أن تدخّل أولو النّهى بالنصح، أن يبقوا على أنفسهم وإخوانهم، فجوارهم أفضل من جوار الثعالب يعني اليهود-!. وهذه الفتن المتلاحقة جعلت أهل المدينة عند ما ترامت إليهم أنباء الإسلام يؤملون من ورائه الخير، من يدري؟! لعلّه يجدّد حياتهم، فيعيد السلام إلى صفوفهم، ويهب لهم حياة روحية ترجح بكفتهم على اليهود ... قال ابن إسحاق: فلما أراد الله إظهار دينه، وإعزاز نبيّه، وإنجاز موعده له خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب، كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطا

من الخزرج أراد الله بهم خيرا، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «من أنتم؟» قالوا: نفر من الخزرج، قال: «من موالي يهود؟» قالوا: نعم، قال: «أفلا تجلسون أكلمكم؟» قالوا: بلى! فجلسوا معه فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القران ... قال: فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدّقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك!! ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم، قد آمنوا وصدقوا «1» . كان أولئك النفر طليعة الدعاية الموفقة للإسلام في يثرب، وقد أثمرات جهودهم على عجل، فلم تبق دار إلّا دخلها الإسلام. حتى إذا استدار العام، وأقبل موسم الحج، خرج من المدينة اثنا عشر رجلا من الذين أسلموا- فيهم الستة الذين كلّمهم النبي صلى الله عليه وسلم في الموسم السابق- وعزموا على الاجتماع برسول الله صلى الله عليه وسلم ليوثقوا معه إسلامهم.

_ (1) إسناده حسن.

بيعة العقبة الأولى

بيعة العقبة الأولى وقد لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة، وعقد معهم بيعة على الإيمان بالله واحده، والاستمساك بفضائل الأعمال، والبعد عن مناكرها. عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى: «أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف» . قال: «فإن وفّيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم «1» من ذلك شيئا، فأخذتم بحدّه في الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة، فأمركم إلى الله؛ إن شاء عذّب، وإن شاء غفر» «2» . هذا ما كان محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إليه، وكانت الجاهلية تنكره عليه. أيكره هذه العهود إلا مجرم يحبّ للناس الريبة، ويودّ للأرض الفساد؟!. أتمّ وفد الأنصار هذه البيعة، ثم قفل عائدا إلى (يثرب) ، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أنّ يبعث معهم أحد الثقات من رجاله، ليتعهّد نماء الإسلام في المدينة، ويقرأ على أهلها القران، ويفقههم في الدين، ووقع اختياره على (مصعب بن عمير) رضي الله عنه «3» ليكون هذا المعلّم الأمين. ونجح مصعب رضي الله عنه أيّما نجاح في نشر الإسلام، وجمع الناس عليه، واستطاع أن يتخطّى الصعاب التي توجد- دائما- في طريق كل نازح غريب، يحاول أن ينقل الناس من مورثات ألفوها إلى نظام جديد، يشمل الحاضر والمستقبل، ويعم الإيمان والعمل، والخلق والسلوك ...

_ (1) ارتكبتم. (2) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 1/ 54- 58؛ ومسلم: 5/ 137. (3) انظر حياته بالتفصيل في كتاب (مصعب بن عمير، الداعية المجاهد) للأستاذ محمد حسن بريغش، وهو من سلسلة أعلام المسلمين التي تصدرها دار القلم- دمشق. (ن) .

ولا تحسبنّ مصعبا رضي الله عنه كأولئك المرتزقة من المبشرين، الذي دسّهم الاستعمار الغربي بين يدي زحفه على الشرق، فترى الواحد منهم يقبع تحت سرير مريض ليقول له: هذه القارورة تقدمها لك العذراء! وهذا الرغيف يهديه إليك المسيح!. وربّما فتح مدرسة ظاهرها الثقافة المجرّدة، أو ملجأ ظاهره البرّ الخالص، ثم لوى زمام الناشئة من حيث لا يدرون، ومال بهم حيث يريد..!!. هذا ضرب من التلصّص الروحي يتوارى تحت اسم الدعوة إلى الدين، والذين يمثّلون هذه المساخر يجدون الجرأة على عملهم من الدول التي تبعث بهم، فإذا رأيت إصرارهم ومغامراتهم فلا تنس القوى التي تساند ظهورهم في البر والبحر والجو. أما مصعب رضي الله عنه فكان من ورائه نبيّ مضطهد، ورسالة معتبرة ضد القانون السائد، وما كان يملك من وسائل الإغراء ما يطمع طلاب الدنيا ونهّازي الفرص، كل ما لديه ثروة من الكياسة والفطنة، قبسها من محمد صلى الله عليه وسلم، وإخلاص لله، جعله يضحّي بمال أسرته وجاهها في سبيل عقيدته.. ثم هذا القران الذي يتأنّق في تلاوته، ويتخيّر من روائعه ما يغزو به الألباب، فإذا الأفئدة ترقّ له، وتنفتح للدين الجديد. وعاد مصعب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبيل الموسم الحافل، يخبره بما لقي الإسلام من قبول حسن في يثرب، ويبشّره بأنّ جموعا غفيرة دخلت فيه عن اقتناع مسّ شغافهم، وبصر أنار أفكارهم، وسوف يرى من وفودهم بهذا الموسم ما تقر به العين.

بيعة العقبة الكبرى

بيعة العقبة الكبرى إنّ الرجال الذين اعتنقوا الإسلام عرفوا- دون شك- تاريخه القريب، والصعاب الهائلة التي لقيها، وحزّ في نفوسهم أن يستضعف إخوانهم في مكة، وأن يخرج نبيّهم وهو يدعو إلى الله فلا يجيبه إلا اثم أو كفور!!. ولذلك تساءلوا- وهم خارجون من المدينة قاصدين البيت العتيق- حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوّف، ويطرد في جبال مكة ويخاف؟!. لقد بلغ الإيمان أوجه في هذه القلوب الفتية، وان لها أن تنفّس عن حماسها، وأن تفكّ هذا الحصار الخانق المضروب حول الدعوة والداعية. قال جابر بن عبد الله: فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين، حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله، علام نبايعك؟ قال صلى الله عليه وسلم: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن تقوموا في الله لا تخافون لومة لائم، وعلى أن تنصروني، فتمنعوني إذا قدمت عليكم- مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة» . قال: فقمنا إليه، وأخذ بيده (أسعد بن زرارة) ، وهو أصغر السبعين بعدي، فقال: رويدا يا أهل يثرب! فإنّا لم نضرب إليه أكباد الإبل وإلا نحن نعلم أنّه رسول الله، وإنّ إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضّكم السيوف. فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبيّنوا ذلك، فهو أعذر لكم عند الله!. فقالوا: يا أسعد! أمط عنا يدك، فو الله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها، فقمنا إليه رجلا رجلا فبايعناه «1» .

_ (1) أخرجه أحمد: 3/ 322؛ 339، 394؛ والحاكم: 2/ 624- 625؛ والبيهقي في سننه الكبرى: 9/ 9، من طريق ابن خيثم، عن أبي الزبير، عن جابر قال الحاكم: صحيح-

وعن كعب بن مالك: نمنا تلك الليلة- ليلة العقبة- مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتسلّل تسلّل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشّعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو بن عدي. فلما اجتمعنا في الشّعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنّه أحبّ أن يحضر أمر ابن أخيه، ويستوثق له، فلمّا جلس كان أول متكلّم، قال: يا معشر الخزرج «1» ! إنّ محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزّة من قومه، ومنعة في بلده، وإنّه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك!! وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الان فدعوه، فإنّه في عزة ومنعة من قومه وبلده ... قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلّم يا رسول الله! فخذ لنفسك وربك ما أحببت، فتكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القران، ودعا إلى الله، ورغّب في الإسلام، ثم قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» . قال كعب: فأخذ البراء بن معرور بيده، وقال: نعم، فوالذي بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن- والله- أبناء الحروب، ورثناها كابرا عن كابر، فاعترض هذا القول- والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم- أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله! إنّ بيننا وبين الرجال- يعني: اليهود- حبالا وإنّا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك، وتدعنا؟ قال: فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم» .

_ - الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ ابن كثير (3/ 160) من البداية: «وهذا إسناد جيّد على شرط مسلم» ، وقال الحافظ في الفتح (7/ 177) : «رواه أحمد بإسناد حسن وصحّحه الحاكم وابن حبان» قلت: وفيه علة. وهي عنعنة أبي الزبير، وكان مدلسا، وليس هو من رواية الليث بن سعد عنه؛ فلعلّ تصحيحه أو تحسينه بالنظر لشواهده، والله أعلم. (1) يقصد أهل يثرب جميعا من (أوس) و (خزرج) .

وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم النقباء، تسعة من (الخزرج) ، وثلاثة من (الأوس) «1» ، فقال لهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم وأنا كفيل على قومي» . تلكم بيعة العقبة، وما أبرم فيها من مواثيق، وما دار فيها من محاورات ... إنّ روح اليقين والفداء والاستبسال سادت هذا الجمع، وتمشّت في كلّ كلمة قيلت، وبدا أنّ العواطف الفائرة ليست واحدها التي توجّه الحديث، أو تملي العهود، كلا، فإنّ حساب المستقبل روجع مع حساب اليوم، والمغارم المتوقعة نظر إليها قبل المغانم الموهومة. مغانم؟! أين موضوع المغانم في هذه البيعة؟! لقد قام الأمر كلّه على التجرّد المحض، والبذل الخالص. هؤلاء السبعون مثل لانتشار الإسلام، عن طريق الفكر الحرّ والاقتناع الخالص ... فقد جاؤوا من يثرب مؤمنين أشدّ الإيمان، وملبّين داعي التضحية، مع أنّ معرفتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم كانت لمحة عابرة؛ غبرت عليها الأيام، وكان الظن بها أن تزول. لكننا لا يجوز أن ننسى مصدر هذه الطاقة المتأجّجة من الشجاعة والثقة؛ إنّه القران!! لئن كان الأنصار قبل بيعتهم الكبرى لم يصحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلا لماما؛ فإن الوحي المشعّ من السماء أضاء لهم الطريق، وأوضح الغاية. لقد نزل بمكة قريب من نصف القران، سال على ألسنة الحفّاظ، وتداولته صحائف السفرة، الكرام البررة، والقران النازل بمكة صوّر جزاء الاخرة رأي

_ (1) حديث صحيح، رواه ابن إسحاق في المغازي: 1/ 273- 276، عن ابن هشام؛ وأحمد: 3/ 460- 462؛ وابن جرير في تاريخه: 2/ 90- 93، من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني معبد بن كعب بن مالك بن أبي كعب بن القين: أن أخاه عبد الله بن كعب وكان من أعلم الأنصار- حدّثه: إنّ أباه كعبا حدثه، وهذا سند صحيح، وصححه ابن حبان كما في (الفتح: 7/ 475) . قلت: وأما قوله في اخر القصة: «فقال لهم الرسول: أنتم ... » فأخرجه ابن إسحاق: 1/ 277، عن عبد الله بن أبي بكر مرسلا، فهو ضعيف؛ ورواه ابن جرير: 2/ 93، من طريق ابن إسحاق.

العين، فأنت توشك أن تمدّ يدك تقطف من أثمار الجنة، ويستطيع الأعرابيّ المتعشّق للحق أن ينتقل في لحظة فداء من رمضاء الجزيرة إلى أنهار النعيم والرحيق المختوم!. وحكى القران أخبار الأوّلين، وكيف أخلص المؤمنون لله، فنجوا مع رسلهم، وكيف طغى الكفار، وأسكرهم الإمهال، فتعنّتوا وتجبّروا، ثم حلّ العدل الإلهي، فذهب الظالمون بددا، وتركوا وراءهم دنيا مدبرة، ودورا خربة: فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم ... كباطل من جلال الحقّ منهزم..!! ثم إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم جعل من هذا الإيمان بالحقّ رباطا، يعقد من تلقاء نفسه صلة الحب والتناصر بين أشتاب المؤمنين في المشرق والمغرب. فالمسلم في المدينة- وإن لم ير أخاه المستضعف في مكة- يحنو عليه، ويتعصّب له، ويغضب من ظالمه، ويقاتل دونه، وذلك ما استقدم الأنصار من يثرب؛ تجيش في حناياهم مشاعر الولاء لمن أحبوهم بالغيب في ذات الله. عن أبي مالك الأشعري: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس! اسمعوا واعقلوا، واعلموا أنّ لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيّون والشهداء على منازلهم، وقربهم من الله» . فجثا رجل من الأعراب من قاصية النّاس، وألوى بيده إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ناس من الناس، ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله؟! انعتهم لنا، جلّهم لنا- يعني: صفهم لنا- فسرّ وجه النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الأعرابي، وقال: «هم ناس من أفناء الناس، ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابّوا في الله، وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور، فيجلسون عليها، فيجعل وجوههم نورا، وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» «1» .

_ (1) حديث حسن، أخرجه الإمام أحمد: 5/ 343، من طريق شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري. وشهر فيه ضعف. وقال المنذري (4/ 48) : «رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد» قلت: ولم أجده في مستدرك الحاكم من حديث أبي مالك؛ وإنما أخرجه (4/ 170) من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بنحوه، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وهو كما قال، فهذا شاهد قويّ لحديث أبي مالك.

الإيمان بالله، والحبّ فيه، والأخوة على دينه، والتناصر باسمه، ذلك كلّه كان يتدافع في النفوس المجتمعة في ظلام الليل بجوار مكة السادرة في غيّها، يتدافع ليعلن أنّ أنصار الله سوف يحمون رسوله صلى الله عليه وسلم كما يحمون أعراضهم، وسوف يمنعونه بأرواحهم، فلا يخلص إليه أذى وهم أحياء. إن مشركي مكة حسبوا أنهم حصروا الإسلام في نطاق لا يعدوه، وأرهقوا المسلمين حتى شغلوهم بأنفسهم، فناموا نومة المجرم الذي اغترف الإثم وأمن القصاص: حسّنت ظنّك بالأيّام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر أجل، ففي هذه الليلة تحالف جند الحق أن يقصموا ظهر الوثنية، وأن ينتهوا بالجاهلية ورجالها إلى الفناء. واستمع شيطان من المشركين كان يجول في مضارب الخيام ومنازل الحجيج إلى الضجة المنبعثة قريبا من العقبة، واستطاع أن يقف على جلية الخبر، فصرخ ينذر أهل مكة: «إنّ محمدا والصّباة معه قد اجتمعوا على حربكم..» !!. وكان صوته جهيرا يوقظ النيام. وشعر المبايعون كأنّ ائتمارهم بالمشركين قد انكشف، فلم يكترثوا للنتائج. وقال العباس بن عبادة بن نضلة: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلنّ على أهل (منى) غدا بأسيافنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» . قال كعب: فلما أصبحنا غدت علينا جلّة قريش، حتى جاؤونا في منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج! إنّه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه- والله- ما من حيّ من العرب أبغض أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم، قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون: ما كان من هذا شيء وما علمناه، وصدقوا لم يعلموا، قال كعب: وبعضنا ينظر إلى بعض «1» .

_ (1) هو من حديث كعب بن مالك الذي سبق وتقدّم تخريجه. هذا وهنا ملاحظة؛ وهي: أن-

بيد أنّ القرائن تجمّعت على أنّ ما قيل حقّ، فخرجت قريش تطلب الأنصار ففاتوهم، ولم يدركوا غير سعد بن عبادة. فعادوا به مغلولة يداه إلى عنقه، وأخذوا يجذبونه من شعره، ويلكزونه، فأنقذه منهم جبير بن مطعم، والحارث بن حرب، إذ كان (سعد) يجير لهما قوافلهما المارة بالمدينة.

_ - المصنف روى أول الحديث هنا بالمعنى، وهو غير متفق مع لفظ الحديث إذا تؤمل فيه بدون تأثر بأمر خارجي، ولفظه: «فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط ... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أزبّ العقبة هذا ابن أزب. استمع أي عدوّ الله! أما والله لأفرغنّ لك» . فهذا السياق لا يمكن أن يفهم منه أن (الشيطان) المعرّف باللام هو رجل من المشركين، وأيضا يبعد جدا أن يخاطب عليه الصلاة والسلام هذا الرجل بقوله: «أي عدو الله لأفرغن لك» . ويؤيد ما ذكرنا رواية الطبراني لهذه القصة عن عروة مرسلا، وفيها: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرعكم هذا الصوت، فإنه عدو الله إبليس؛ ليس سمعه أحد ممن تخافون» ؛ وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصرخ بالشيطان: «يا بن أزب! هذا عملك فسأفرغ لك» . قال الهيثمي (6/ 47) : «وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وفيه ضعف» .

طلائع الهجرة

طلائع الهجرة إنّ نجاح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة، هو أخطر كسب حصل عليه منذ بدأت الدعوة له، وقد تنادى المسلمون من كل مكان: هلمّوا إلى يثرب.. فلم تكن الهجرة تخلّصا فقط من الفتنة والاستهزاء، بل كانت تعاونا عاما على إقامة مجتمع جديد في بلد امن. وأصبح فرضا على كلّ مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد، وأنّ يبذل جهده في تحصينه، ورفع شأنه، وأصبح ترك المدينة- بعد الهجرة إليها- نكوصا عن تكاليف الحق، وعن نصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالحياة بها دين، لأنّ قيام الدين يعتمد على إعزازها. وفي عصرنا هذا أعجب اليهود بأنفسهم، وعانق بعضهم بعضا مهنّئا؛ لأنهم استطاعوا تأسيس وطن قوميّ لهم، بعد أن عاشوا- مشرّدين- قرونا طوالا. ونحن لا ننكر جهد اليهود في إقامة هذا الوطن، ولا حماس المهاجرين من كلّ فجّ للعيش به، ومحاولة إحيائه وإعلائه. ولكن ما أبعد البون بين ما صنع اليهود اليوم- أو بتعبير أدق: ما صنع لليهود اليوم- وبين ما صنع الإسلام وبنوه لأنفسهم، يوم هاجروا إلى يثرب نجاة بدعوتهم، وإقامة لدولتهم. إنّ اليهود جاؤوا على حين فرقة من العرب، وغفلة وضعف، وحاكوا مؤامراتهم في ميدان السياسة الغربية الناقمة على الإسلام وأهله، فإذا بالعالم كلّه يهجم على فلسطين بالمال والسلاح، والنساء والدهاء، فلم يستطع مليون عربي حصرتهم الخيانات في مازق ضيقة أن يصنعوا شيئا، فهاموا على وجوههم في الأرض، نتيجة اتفاق أمريكة، وروسية، وإنكلترة، وفرنسة و.. ملوك العرب؛ على خذلان أولئك العرب التعساء، وبذلك قام الوطن القومي لليهود، وبثّت الدعاية لتشجيع الهجرة إليه، وإسداء العون له من دهاقين السياسة والمال في أنحاء الدنيا!!.

أين هذا الحضيض من رجال أخلصوا لله طواياهم، وترفّعت عن المارب هممهم، وذهلوا عن المتاع المبذول، والأمان المتاح، واستهوتهم المثل العليا واحدها في عالم يعجّ بالصّمّ البكم، وربطوا مستقبلهم بمستقبل الرسالة المبرّأة التي اعتنقوها، وتبعوا صاحبها المتجرّد المكافح، وهو لا يني يقول: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) [يوسف] . إنّ المدينة الفاضلة التي تعشّقها الفلاسفة، وتخيلوا فيها الكمال، وجاءت في سطور الكتب دون ما صنع المهاجرون الأولون، وأثبتوا به أنّ الإيمان الناضج يحيل البشر إلى خلائق تباهي الملائكة سناء ونضارة. إنّ المسلمين- بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم- هرعوا من مكة وغيرها إلى (يثرب) يحدوهم اليقين، وترفع رؤوسهم الثقة. ليست الهجرة انتقال موظّف من بلد قريب إلى بلد ناء، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة.. إنها إكراه رجل امن في سربه، ممتدّ الجذور في مكانه، على إهدار مصالحه، وتضحية أمواله، والنجاة بشخصه فحسب، وإشعاره- وهو يصفّي مركزه- بأنه مستباح منهوب، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وبأنّه يسير نحو مستقبل مبهم، ولا يدري ما يتمخّض عنه من قلاقل وأحزان، ولو كان الأمر مغامرة فرد بنفسه لقيل: مغامر طيّاش، فكيف وهو ينطلق في طول البلاد وعرضها، يحمل أهله وولده؟! وكيف وهو بذلك رضيّ الضمير، وضّاء الوجه؟!. إنّه الإيمان، الذي يزن الجبال ولا يطيش! وإيمان بمن؟! بالله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وله الحمد في الأولى والاخرة، وهو الحكيم الخبير. هذه الصّعاب لا يطيقها إلا مؤمن، أما الهيّاب الخوّار القلق، فما يستطيع شيئا من ذلك، إنّه من أولئك الذين قال الله فيهم: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء: 66] . أما الرجال الذين التقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في مكة، وقبسوا منه أنوار الهدى، وتواصوا بالحقّ والصبر، فإنهم نفروا خفافا ساعة قيل لهم: هاجروا إلى حيث تعزّون الإسلام، وتؤمّنون مستقبله.

ونظر المشركون، فإذا ديار ب (مكة) كانت عامرة بأهلها قد أقفرت، ومحالّ مؤنسة قد أمحلت. مر عتبة، والعبّاس، وأبو جهل على دار بني جحش بعد ما غلّقت، فقد هاجر ربّ الدار، وزوجه، وأخوه أبو أحمد- وكان رجلا ضرير البصر-، ونظر عتبة إلى الدار تخفق أبوابها يبابا، ليس بها ساكن! فلما راها تصفر الريح في جنباتها قال: وكلّ دار وإن طالت سلامتها ... يوما، ستدركها النّكباء والحوب ثم قال: أصبحت الدار خلاء من أهلها، فقال أبو جهل للعباس: هذا من عمل ابن أخيك، فرّق جماعتنا، وشتّت أمرنا، وقطع بيننا.. وأبو جهل بهذا الكلام تبرز فيه طبائع الطغاة كاملة؛ فهم يجرمون ويرمون الوزر على أكتاف غيرهم، ويقهرون المستضعفين، فإذا أبوا الاستكانة، فإباؤههم علّة المشكلات ومصدر القلاقل..!!. وكان من أول المهاجرين: أبو سلمة، وزوجه، وابنه، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟! وأخذوا منه زوجته. فغضب ال أبي سلمة لرجلهم، وقالوا: لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم، فخلعوا يده، وذهبوا به، وانطلق أبو سلمة واحده إلى المدينة، فكانت أم سلمة بعد ذهاب زوجها، وضياع ابنها- تخرج كلّ غداة بالأبطح، تبكي حتى تمسي، نحو سنة، فرقّ لها أحد ذويها وقال: ألا تخرجون هذه المسكينة؟! فرّقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لها: الحقي بزوجك إن شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وهاجرت إلى المدينة.. ولما أراد (صهيب) الهجرة، قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلّون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإنّي قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ربح صهيب «1» !.

_ (1) حديث صحيح، ذكره ابن هشام في (السيرة: 1/ 289) معلّقا مرسلا، وقد وصله الحاكم: -

وهكذا أخذ المهاجرون يتركون مكة زرافات وواحدانا، حتى كادت مكة تخلو من المسلمين، وشعرت قريش بأنّ الإسلام أضحت له دار يأرز إليها، وحصن يحتمي به، وتوجّست خيفة من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهاجت في دمائها غرائز السّبع المفترس، حين يخاف على حياته. إن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يزال في مكة، وهو- لا بدّ- مدرك أصحابه اليوم أو غدا، فلتعجل به قبل أن يستدير إليها ...

_ - 3/ 398، من حديث أيوب عن عكرمة مرسلا، نحوه، وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ، وهو كما قال، وله شاهد من حديث صهيب نفسه، رواه الطبراني كما في المجمع: 6/ 60؛ والبيهقي كما في البداية: 3/ 173- 174.

في دار الندوة

في دار الندوة واجتمع طواغيت مكة في دار الندوة؛ ليتخذوا قرارا حاسما في هذا الأمر. فرأى بعضهم أن توضع القيود في يد محمد صلى الله عليه وسلم، ويشد وثاقه، ويرمى به في السجن، لا يصله منه إلا الطعام، ويترك على ذلك حتى يموت.. ورأى اخر أن ينفى من مكة، فلا يدخلها، وتنفض قريش يديها من أمره. وقد استبعد هذان الاقتراحان لعدم جدواهما، واستقرّ الرأي على الاقتراح الذي أبداه أبو جهل؛ قال أبو جهل: أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شابا نسيبا وسطا فتيا، ثم نعطي كلّ فتى سيفا صارما، ثم يضربونه- جميعا- ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرّق دمه في القبائل كلّها، ولا أظنّ بني هاشم يقوون على حرب قريش كافة، فإذ لم يبق أمامهم إلا الدية أديناها. ورضي المؤتمرون بهذا الحلّ للمشكلة التي حيّرتهم، وانصرفوا ليقوموا على إنفاذه، وقد أشار القران إلى تدبير هذه الجريمة بقوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) [الأنفال] . إنّ هذا الحكم لم يتخذ في مجلس سر، بل في اجتماع عام. ومن الطبيعي أن يعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يعرف حقيقة وضعه في مكة، إنهم لا ينتظرون به إلا موعد التنفيذ، ثم يقدّمه الطغام قربانا للأصنام!!. على أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليوعز إلى أصحابه بالهجرة ويتخلّف عنهم. لقد رسم الخطة التي يذهب بها إلى (يثرب) حين ندب المسلمين للهجرة إليها. روى الزهريّ عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو يومئذ بمكة- للمسلمين: «قد أريت دار هجرتكم؛ أريت سبخة ذات نخل بين لابتين» «1» ،

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 186؛ والحاكم: 3/ 3- 4؛ والبيهقي: 9/ 9، من-

فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع «1» إلى المدينة من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين.

_ - حديث عائشة؛ والبخاري: 12/ 354- 355؛ ومسلم: 7/ 57؛ وابن ماجه: 2/ 455، من حديث أبي موسى نحوه. (1) بدأ رجوعهم، وظلّ حتى السنة السادسة للهجرة العامة.

هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم حين عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك مكة إلى المدينة؛ ألقى الوحي الكريم في قلبه وعلى لسانه هذا الدعاء الجميل: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) [الإسراء] «1» . ولا نعرف بشرا أحقّ بنصر الله، وأجدر بتأييده، مثل هذا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ الذي لاقى في جنب الله ما لاقى، ومع ذلك فإنّ استحقاق التأييد الأعلى لا يعني التفريط قيد أنملة في استجماع أسبابه، وتوفير وسائله. ومن ثمّ فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكم خطّة هجرته، وأعدّ لكلّ فرض عدته، ولم يدع في حسبانه مكانا للحظوظ العمياء. وشأن المؤمن مع الأسباب المعتادة؛ أن يقوم بها كأنّها كلّ شيء في النجاح، ثم يتوكّل- بعد ذلك- على الله؛ لأنّ كلّ شيء لا قيام له إلا بالله. فإذا استفرغ المرء جهوده في أداء واجبه، فأخفق بعد ذلك، فإنّ الله لا يلومه على هزيمة بلي بها، وقلّما يحدث ذلك، إلا عن قدر قاهر يعذر المرء فيه!!. وكثيرا ما يرتّب الإنسان مقدّمات النصر ترتيبا حسنا، ثم يجيء عون أعلى يجعل هذا النصر مضاعف الثمار. كالسفينة التي يشقّ عباب الماء بهاربّان ماهر، فإذا التيار يساعدها، والريح تهبّ إلى وجهتها، فلا تمكث غير بعيد، حتى تنتهي إلى غايتها في أقصر من وقتها المقرر.

_ (1) هو من حديث ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم أمر بالهجرة وأنزل عليه ... قلت: فذكر الاية. أخرجه الترمذي: 4/ 137؛ والحاكم: 3/ 3؛ والبيهقي: 9/ 9؛ وأحمد، رقم (1948) ، من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه، وليس في المسند والبيهقي (عن أبيه) عن ابن عباس، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح» . وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» ووافقه الذهبي. وفيه نظر؛ فإن قابوس بن أبي ظبيان أورده الذهبي في الميزان، ونقل عن ابن حبان أنه قال فيه: «رديء الحفظ، ينفرد عن أبيه بما لا أصل له، فربما رفع المرسل، وأسند الموقوف، ولذلك قال الحافظ في (التقريب) : فيه لين» .

وهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة جرت على هذا الغرار، فقد استبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم معه عليّا وأبا بكر، وأذن لسائر المؤمنين بتقدّمه إلى المدينة. فأما أبو بكر رضي الله عنه فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له حين استأذنه ليهاجر: «لا تعجل، لعلّ الله أن يجعل لك صاحبا» «1» . وأحسّ أبو بكر رضي الله عنه كأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم يعني نفسه بهذا الرد!. فابتاع راحلتين فحبسهما في داره، يعلفهما إعدادا لذلك. وأما عليّ رضي الله عنه فإنّ الرسول صلى الله عليه وسلم هيأه لدور خاص، يؤديه في هذه المغامرة المحفوفة بالأخطار!. قال ابن إسحاق: فحدّثني من لا أتّهم عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار: إما بكرة، وإما عشيا، حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلمّا راه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة إلا لأمر حدث، فلمّا دخل، تأخّر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس عند رسول الله أحد إلا أنا وأختي أسماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرج عني من عندك» ، قال: يا رسول الله! إنما هما ابنتاي، وما ذاك- فداك أبي وأمي-؟. قال: «إنّ الله أذن لي بالخروج والهجرة» ، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: «الصحبة» . قالت عائشة: فو الله ما شعرت قطّ قبل ذلك اليوم أنّ أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي!!.

_ (1) رواه ابن إسحاق: 2/ 2، بدون إسناد، لكن معناه فيما أخرجه البخاري: 7/ 183- 197، من حديث عائشة الطويل في الهجرة، بلفظ: «وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي» ، فقال أبو بكر: هل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: «نعم» . فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر- وهو الخبط- أربعة أشهر» ، ورواه أحمد أيضا: 6/ 198، ثم وجدت له شاهدا من حديث ابن عمر بلفظ: الكتاب، رواه الطبراني بسند، قال الهيثمي 6/ 62: «فيه عبد الرحمن بن بشر الدمشقي، ضعفه أبو حاتم» .

درس في سياسة الأمور:

ثم قال: يا نبيّ الله إنّ هاتين الراحلتين كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أريقط- وهو مشرك! - يدلّهما على الطريق، ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما «1» .. قال ابن إسحاق: ولم يعلم- فيما يلغني- بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج- يقصد: نوى الخروج- إلا علي وأبو بكر واله رضي الله عنهما. أما علي رضي الله عنه فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتخلّف حتى يؤدّي عنه الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته. درس في سياسة الأمور: ويلاحظ أنّ النبي عليه الصلاة والسلام كتم أسرار مسيره، فلم يطلع عليها إلا من لهم صلة ماسّة، ولم يتوسّع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم. وقد استأجر دليلا خبيرا بطريق الصحراء؛ ليستعين بخبرته على مغالبة المطاردين، ونظر في هذا الاختيار إلى الكفاية واحدها، فإذا اكتملت في أحد ولو مشركا- استخدمه وانتفع بموهبته. ومع هذه المرونة في وضع الخطة، فإنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام أصرّ أن يدفع ثمن راحلته، وأبى أن يتطوّع أبو بكر به، لأن البذل في هذه الهجرة ضرب من العبادة ينبغي الحرص عليه، وتستبعد النيابة فيه. واتّفق الرسول عليه الصلاة والسلام مع أبي بكر على تفاصيل الخروج، وتخيّروا الغار الذي يأوون إليه، تخيّروه جنوبا في اتجاه اليمن، لتضليل المطاردين، وحدّدوا الأشخاص الذين يتّصلون بهم في أثناء اللّجأ إليه، ومهمة كل شخص.

_ (1) أخرجه ابن إسحاق (2/ 2- 3 من ابن هشام) وفيه شيخه الذي لم يسم، لكن قد سماه ابن جرير: 2/ 103، في رواية عن ابن إسحاق، فقال: «حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي، قال: حدثني عروة بن الزبير به» . ومحمد بن عبد الرحمن هذا في عداد المجهولين، أورده ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل: 3/ 2/ 317) . وذكر أنه روى عن جماعة وعنه ابن إسحاق. ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. لكنه لم ينفرد بالحديث فقد أخرجه ابن جرير: 2/ 101- 103، من طريق هشام بن عروة عن عروة به نحوه. وإسناده صحيح. وأخرجه البخاري وأحمد من طريق الزهري قال: عروة به، مع شيء من الاختصار.

في الغار:

ثم عاد الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بيته، فوجد قريشا بدأت تضرب الحصار حوله، وبعثت بالفتيان الذين وكل إليهم اغتيال محمد عليه الصلاة والسلام، وتفريق دمه بين القبائل!!. وأوعز الرسول عليه الصلاة والسلام إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في هذه الليلة الرهيبة أن يرتدي برده الذي ينام فيه، وأن يتسجّى به على سريره، وفي هجعة من الليل، وغفلة من الحرس، نسل الرسول عليه الصلاة والسلام من بيته إلى دار أبي بكر، ثم خرج الرجلان من خوخة في ظهرها إلى غار ثور ... إلى الغار الذي استودعته العناية مصير الرسالة الخاتمة، ومستقبل حضارة كاملة، وتركته في حراسة الصمت والوحشة والانقطاع.. في الغار: وسارت الأمور على ما قدّرا، وكان أبو بكر قد أمر ابنه عبد الله أن يتسمّع لهما ما يقول الناس فيهما، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك من أخبار، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار، فكان عبد الله بن أبي بكر في قريش يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيقصّ عليهما ما علم، وكان عامر في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر، فاحتلبا، وذبحا، فإذا غدا عبد الله من عندهما إلى مكة، أتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم يعفّي عليه.. وتلك هي الحيطة البالغة كما تفرضها الضرورات المعتادة على أي إنسان.. وانطلق مشركو مكة في اثار المهاجرين يرصدون الطرق، ويفتّشون كلّ مهرب، وراحوا ينقّبون في جبال مكة، وكهوفها، حتى وصلوا- في دأبهم- قريبا من غار ثور، وأنصت الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى أقدام المطاردين، تخفق إلى جوارهم، فأخذ الروع أبا بكر، وهمس يحدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرانا، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «يا أبا بكر! ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» «1» .

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 207؛ ومسلم: 7/ 109، وغيرهما من حديث أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.

ويظهر أنّ المطاردين داخلهم القنوط من العثور عليهما في هذا الفج، فتراكضوا عائدين، وروى أحمد «1» : «أنّ المشركين اقتفوا الأثر، حتى إذا بلغوا الجبل- جبل ثور- اختلط عليهم، فصعدوا الجبل، مرّوا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ها هنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال» . ورواية أحمد حسنة، وإن لم ترد بها السنن الصحاح، ولم يرد كذلك ذكر لحمائم باضت على فم الغار أو غير ذلك. قال تعالى في ذكر الهجرة: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) [التوبة] . والجنود التي يخذل بها الباطل، وينصر بها الحق، ليست مقصورة على نوع معين من السلاح، ولا صورة خاصة من الخوارق، إنّها أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإذا كانت مادية فإنّ خطرها لا يتمثّل في ضخامتها، فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش ذي لجب: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] . ومن صنع الله لنبيّه أن تعمى عنه عيون عداته، وهو منهم على مد الطرف، ولم يكن ذلك محاباة من القدر لقوم فرّطوا في استكمال أسباب النجاة، بل هو مكافأة من القدر لقوم لم يدعوا وسيلة من وسائل الحذر إلا اتخذوها، وكم من خطة يضعها أصحابها، فيبلغون بها نهاية الإتقان تمرّ بها فترات عصيبة لأمور فوق

_ (1) في المسند، رقم (3251) ، من طريق عثمان الجزري: أنّ مقسما مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس به، وحسّن المؤلف إسناده، وكأنّه تبع فيه ابن كثير في (البداية: 3/ 180- 181) . وتبعه أيضا الحافظ في (الفتح: 7/ 188) ، وفي تحسينه نظر: فإنّ عثمان الجزري وهو ابن عمرو بن ساج، قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل: 3/ 1/ 162) عن أبيه: لا يحتجّ به. وقال العقيلي: «لا يتابع في حديثه» ولهذا قال الحافظ ابن حجر في (التقريب) : فيه ضعف. ولا تقوّيه الشواهد التي ذكرها ابن كثير وابن حجر من رواية الحسن البصري؛ فإنّه- مع كونه مرسلا- فيه بشار الخفاف، وهو ابن موسى، وليس بثقة كما قال ابن معين، والنّسائي، وضعّفه غيرهما.

في الطريق إلى المدينة:

الإرادة، أو وراء الحسبان ثم تستقر أخيرا وفق مقتضيات الحكمة العليا وفي حدود قوله تعالى: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21] . في الطريق إلى المدينة: مرّت ثلاث ليال على مبيت الرسول عليه الصلاة والسلام في الغار، وخمد حماس المشركين في الطّلب، وتأهّب المهاجران لاستئناف رحلتهما الصعبة. وجاء عبد الله بن أريقط في موعده، ومعه رواحله، قد أعلفها لاستقبال سفر بعيد، وتزوّد الركب، ثم سار على اسم الله. غير أنّ قريشا ساءها أن تخفق في استرجاع محمد عليه الصلاة والسلام وصاحبه، فجعلت دية كلّ واحد منهما جائزة لمن يجيء بهما أحياء أو أمواتا؛ ومئتان أو مئة من الإبل في الصحراء ثروة تغري بركوب المخاطر وتحمّل المشاق. وقد قدّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ المشركين لن يألوا جهدا في الإساءة إليه، فالتزم في سيره جانب المحاذرة، وأعانتهم مهارة الدليل على سلوك دروب لم تعتدها القوافل، ثم أطلق الزمام للرّواحل فمضت تصل النهار بالليل: رمى بصدور العيس منخرق الصّبا ... فلم يدر خلق بعدها أين يمّما؟ فلما مرّوا بحيّ بني مدلج مصعدين، بصر بهم رجل من الحيّ، فقال: لقد رأيت انفا أسودة بالساحل، ما أظنّها إلا محمدا وأصحابه، ففطن إلى الأمر سراقة بن مالك، ورغب أن تكون الجائزة له خاصة، فقال: بل هم فلان وفلان قد خرجوا لحاجة لهم.. ومكث قليلا، ثم قام، فدخل خباءه، وقال لخادمه: اخرج بالفرس من وراء الخباء، وموعدك خلف الأكمة. قال سراقة: فأخذت رمحي وخرجت من ظهر البيت، وأنا أخطّ بزجّه الأرض، حتى أتيت فرسي، فركبتها، فدفعتها ففرّت بي، حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها! فقمت.. وامتطى سراقة فرسه مرة أخرى، وزجرها، فانطلقت حتى قرب من الرسول عليه الصلاة والسلام وصاحبه، وكان أبو بكر يكثر الالتفات يتبيّن هذا العدوّ الجسور، فلما دنا عرفه، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان ماضيا إلى غايته-: هذا

دعاء:

سراقة بن مالك قد رهقنا! وما أتمّ كلامه حتى هوت الفرس مرة أخرى ملقية سراقة من على ظهرها، فقام معفّرا ينادي بالأمان!!. وقع في نفس سراقة أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام حقّ فاعتذر إليه، وسأله أن يدعو الله له، وعرض عليهما الزاد والمتاع، فقالا: لا حاجة لنا، ولكن عمّ عنا الطلب «1» ، فقال: قد كفيتم، ثم رجع، فوجد الناس جادّين في البحث عن محمد عليه الصلاة والسلام وصاحبه، فجعل لا يلقى أحدا من الطّلب إلا ردّه وهو يقول: كفيتم هذا الوجه!. أصبح أول النهار جاهدا عليهما، وأمسى اخره حارسا لهما ... !!. دعاء: إنّ أسفار الصحراء توهي العمالقة الامنين؛ فكيف بركب مهدر الدم، مستباح الحق؟!. ما يحسّ هذه المتاعب إلا من صلي نارها، لقد برزنا لوهج الظهيرة يوما، فكادت الأشعة البيضاء المنعكسة على الرمال تخطف أبصارنا، فعدنا مغمضين، نستبقي من عيوننا ما خفنا ضياعه. وعند ما تصبح وتمسي وسط وهاد ونجاد لا تنتهي حتى تبدأ، تخال العالم كلّه مهامه مغبّرة الأرجاء، داكنة الأرض والسماء. وجرت عادة المسافرين أن يأووا في القيلولة إلى أي ظلّ في بطاح ينتعل كل شيء فيها ظله، حتى إذا جنحت الشمس للمغيب، تحرّكت المطايا اللاغبة، تغالب الجفاف والكرى. وللعرب طاقة على احتما لهذا الشظف مع قلّة الزاد والري. وقد مر بك أن الرسول صلى الله عليه وسلم- وهو طفل- قطع هذه الطريق، ذهب مع أمه لزيارة قبر أبيه، ثم عاد واحده!. وإنه الان ليقطعها، وقد بلغ الثالثة والخمسين، لا لزيارة أبويه اللذين ماتا

_ (1) إلى هنا أخرجه البخاري: 7/ 190- 192؛ والحاكم: 3/ 6- 7، من حديث سراقة بن مالك بن جعشم، وبقية القصة إلا السطر الأخير أخرجها مسلم: 8/ 236، 237، من حديث البراء بن عازب، والسطر المذكور عند البخاري: 7/ 200، من حديث أنس، ورواه أحمد أيضا: 3/ 211.

[خبر الهجرة ينتشر في جوانب الصحراء] :

بالمدينة؛ بل لرعاية رسالته، التي تشبثت بأرض يثرب جذورها، بعد ما تبرّمت مكة بها وبصاحبها وبمن حوله ... إنّه أرسخ أهل الأرض يقينا بأنّ الله ناصره ومظهر دينه، بيد أنّه أسيف للفظاظة التي قوبل بها، وللجحد الذي لاحقه من بدء رسالته حتى اضطرّه إلى الهجرة على هذا النحو العنيف، ها هو ذا يخرج من مكة، وقد أعلن سادتها عن الجوائز المغرية لمن يغتاله ... روى أبو نعيم «1» : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرا إلى الله، قال: «الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا، اللهم أعنّي على هول الدّنيا، وبوائق الدّهر، ومصائب الليالي والأيام، اللهم اصحبني في سفري، واخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني، ولك فذلّلني، وعلى صالح خلقي فقوّمني، وإليك ربّ فحببني، وإلى النّاس فلا تكلني، رب المستضعفين وأنت ربي، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والاخرين أن تحلّ علي غضبك، وتنزل بي سخطك، وأعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحوّل عافيتك، وجميع سخطك، لك العتبى عندي خير ما استطعت، ولا حول ولا قوّة إلا بك» . [خبر الهجرة ينتشر في جوانب الصحراء] : ومما يلفت النظر أنّ انطلاق الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة شاع في جوانب الصحراء، وكأنّ أسلاك البرق طيّرته إلى أقصى البقاع، فعلم به البدو والحضر على طول الطريق حتى يثرب، بل إنّ المحال التي عرّج بها وصل نبؤها إلى أهل مكة، بعد أن انصرف عنها. والنّاس يعجبون بقصص البطولة، وتستثيرهم ألوان التحدي، وهم يتناقلون الأخبار السيالة على الألسن، فيضفون عليها ثياب الأساطير، وقد سرّت قلوب كثيرة بغلب محمد عليه الصلاة والسلام على من تبعوه، وترجمت عواطفها هذه شعرا يتغنى به، ولا يعرف قائله!! ..

_ (1) عزاه إليه ابن كثير: 3/ 187، من طريق محمد بن إسحاق، قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرا إلى الله يريد المدينة، قال ... فذكر الدعاء، قلت: وهذا إسناد ضعيف معضل.

من ذلك ما روي عن أسماء «1» بنت أبي بكر، قالت: مكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل رجل من أسفل مكة يتغنّى بأبيات من الشّعر: جزى الله ربّ النّاس خير جزائه ... رفيقين حلّا خيمتي أمّ معبد هما نزلا بالبرّ ثمّ تروّحا..! ... فأفلح من أمسى رفيق محمّد ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد قالت أسماء: فلمّا سمعنا قوله عرفنا حيث توجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّ وجهه إلى المدينة!. من القائل؟ تذكر الرواية أنّه من الجن! وتلك عادة العرب في نسبة شعرها، فلكلّ شاعر عندهم شيطان..! «2» . والرّاجح أنّ الأبيات المذكورة من إنشاد مؤمن يكتم إيمانه بمكة، ويتسمّع أخبار المهاجرين، فيبدي فرحته بما يلقون من توفيق، ويجد متنفسا لمشاعره المتوارية في هذا الغناء المرسل. والأبيات تشير إلى واقعة عرضت للرسول عليه الصلاة والسلام في أثناء رحلته، فقد مرّ على منازل خزاعة، ودخل خيمة أمّ معبد، فاستراح بها قليلا، وشرب من لبن شاتها.

_ (1) إسناده معضل؛ قال ابن إسحاق كما في السيرة (3/ 4، 5) : «فحدّثت أسماء بنت أبي بكر أنّها ... » قالت: «.. فمكثنا ثلاث ليال، وما ندري أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب، وإنّ الناس ليتبعونه، يسمعون صوته، وما يرونه، حتى خرج من أعلى مكة، وهو يقول ... » فذكر الأبيات. وبعضها عن غير ابن إسحاق كما قال ابن هشام. (2) أقول: إذا جاز هذا على العرب في جاهليتهم؛ أفيجوز ذلك عليهم في إسلامهم، وقد نوّر الله به قلوبهم أن تتدنّس بشيء من الأوهام؟ أيجوز أن يقال في حقّ أسماء: إنّها أطلقت اسم (الجن) بل (الشيطان) على (المؤمن) ؟ وما هي الضرورة التي تلجئ حضرة المؤلف إلى هذه التأويلات البعيدة، بل الباطلة؟! ألا ترى في الرواية- كما ذكرنا- أنّ الجني كان الناس يتبعونه، يسمعون صوته، وما يرونه؟! أفهذا من صفات الإنسي؟! خير للمؤلف أن يعرض عن ذكر هذه الرواية مطلقا- ولا سيما وهي ضعيفة- من أن يتأوّلها هذا التأويل المستنكر، ثم وجدت الحديث موصولا أخرجه الحاكم: 3/ 9- 10، من حديث هشام بن حبيش، وقال: «صحيح الإسناد» ووافقه الذهبي، وفيما قالاه نظر، وقال الهيثمي (6/ 58) : «رواه الطبراني، وفي إسناده جماعة لم أعرفهم» لكن للحديث طريقين اخرين، أوردهما الحافظ ابن كثير في (البداية: 3/ 192- 194) : فالحديث بهذه الطرق لا ينزل عن رتبة الحسن، والله أعلم.

الوصول إلى المدينة

الوصول إلى المدينة وكذلك ترامت أخبار المهاجر العظيم وصاحبه إلى المدينة، فكان أهلها يخرجون كلّ صباح يمدّون أبصارهم إلى الأفق البعيد، ويتشوّفون إلى مقدمه بلهفة؛ فإذا اشتدّ عليهم الحرّ عادوا إلى بيوتهم، يتواعدون الغد، وملء جوانحهم الترقّب، والقلق، والرجاء. وفي اليوم الثاني عشر من ربيع الأول لثلاث عشرة سنة من البعثة، برز الأنصار على عادتهم منذ سمعوا بمخرج الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم، ووقفوا بظاهر المدينة ينتظرون طلعته، ويودّون رؤيته، فلما حميت الظهيرة، وكادوا ييئسون من مجيئه، وينقلبون إلى بيوتهم؛ صعد رجل من اليهود على أطم من اطامهم لبعض شأنه، فرأى الرسول عليه الصلاة والسلام وصحبه يتقاذفهم السراب، وتدنو بهم الرواحل رويدا رويدا إلى المدينة، إلى وطن الإسلام الجديد، فصرخ اليهودي بأعلى صوته: يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدّكم الذي تنتظرون ... فأسرع الأنصار إلى السلاح، يستقبلون به رسولهم صلى الله عليه وسلم، وسمع التكبير يرجّ أنحاء المدينة، ولبست (يثرب) حلّة العيد ومباهجه. قال البراء: أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير، وابن أمّ مكتوم، فجعلا يقرئان الناس القران، ثم جاء عمار، وبلال، وسعد، ثمّ جاء عمر بن الخطاب في عشرين راكبا، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت الناس فرحوا بشيء كفرحهم به، حتى رأيت النساء والصبيان والإماء يقولون: هذا رسول الله قد جاء «1» . يا عجبا لنقائض الحياة واختلاف الناس! إنّ الذي شهرت مكة سلاحها

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 208- 209، 8/ 568؛ والطيالسي: 2/ 94؛ وأحمد، رقم (3) .

استقرار المدينة:

لتقتله، ولم ترجع عنه إلا مقهورة؛ استقبلته المدينة وهي جذلانة طروب، وتنافس رجالها يعرضون عليه المنعة والعدة والعدد ... ومن الطريف أنّ كثيرا من أهل المدينة لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا قدم الركب لم يعرفوه من أبي بكر لأول وهلة، حتى إنّ العواتق كنّ يتراءينه فوق البيوت يقلن: أيهم هو؟. ونزل النبيّ صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، أسس خلالها مسجد قباء، وهو أول مسجد أسّس في الإسلام، وفيه نزل قوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التوبة: 108] . استقرار المدينة: رجل العقيدة يسير طوعا لها، ويجد طمأنينته حيث تقرّ عقيدته، وتلقى الرحب والسعة. والناس ينشدون سعادتهم فيما تعلّقت به هممهم، وجاشت به أمانيهم، وهم ينظرون إلى الدنيا وحظوظهم منها على ضوء ما رسب في نفوسهم من عواطف وأفكار.. فطالب الزعامة يرضى أن ينقم، وينشط أو يكسل بمقدار قربه أو بعده من أمله الحبيب. انظر المتنبي كم مدح وهجا؟ وكيف انتقل من الشام إلى مصر، ومن مصر إلى غيرها، وانظر إلى ذكره أحاديث الناس عنه وعن بغيته: يقولون لي: ما أنت في كلّ بلدة ... وما تبتغي؟ ما أبتغي جلّ أن يسمى والذي جلّ أن يسمى صرّح به في مكان اخر، فطلب أن تناط به ضيعة أو ولاية!! أي بعض ما وضعته الحظوظ في أيدي الملوك والملاك؛ وإنه ليتعجّل هذا الأمل من كافور فيقول: أبا المسك هل في الكأس فضل أناله؟ ... فإنّي أغنّي منذ حين وتشرب! والمتنبي في نظري أهل- بكفايته- للمناصب الرفيعة، ولكنّ التطلّع إلى الدنيا بهذا النزق والإلحاح، محكوم بالمشيئة التي ذكرتها الاية الكريمة: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ.. [الإسراء: 18] .

[النفس العظيمة] :

ومن الناس من يتعشّق الجمال، ويجري وراء النّساء، ويجد في المتعة بهن نهمته، التي يسكن بعدها، ويستكين، ويقول: لا أرى الدّنيا على نور الضّحى ... بل أرى الدّنيا على نور العيون ومنهم من يبحث عن المال، ويقضي سحابة نهاره وشطر ليله يتتبّع الأرقام في دفاتره، يحصي ما وقع في يده، ويتربّص بما لم يقع، وربما ذهل عن طعامه ولباسه في غريزة الاقتناء التي سدّت عليه المنافذ. [النفس العظيمة] : إلى جانب هذه الأصناف تجد فريقا اخر من البشر، لا يطيق الكفّ عن إسداء الجميل، وبذل النصيحة، ورعاية الصالح العام، وإفناء ذاته في سبيل الفضائل التي ملكت لبّه، وعمرت قلبه ... إنه يبيت مسهّدا لو فرّط في واجب ... راحته الكبرى في نشدان الكمال، وسعادته القصوى يوم يدرك منه سهما ... وأصحاب الرسالات رهناء ما تحمّلوا من أمانات ضخمة، فمغانمهم ومغارمهم وحلّهم وترحالهم، وصداقتهم وخصومتهم، ترجع كلّها إلى المعاني التي ارتبطوا بها وحيوا لأجلها ... وصاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ضرب من نفسه المثل الفذ للمكافحين، فمنذ أخذ على عاتقه تمزيق الأسداف التي ألقت على العالم ليلا كثيفا من الشرك والخرافة؛ لم يفلح أحد في ثنيه عن عزمه، أو تعويق مسيره، أو ترضيته برغبة، أو ردعه برهبة، وفنيت أمام عينيه فوارق الزمان والمكان، فالغريب عنه إذا عرف الحقّ قريب، ووطنه إذا تنكّر للهدى فهو منه بريء، والمؤمنون به اخر الدهر هم إخوانه، وإن لم يشاهدوه. ولقد عاش في مكة ثلاثة وخمسين عاما حتى ألفها وألفته، لكنّه اليوم يخرج منها إلى وطن جديد، يرى فيه امتداد قلبه، وثمار غرسه. والرجال الذين تنبع سعادتهم من قلوبهم، ويرتبطون أمام ضمائرهم بمبادئهم، لا يكرّمون بيئة بعينها إلا أن تكون صدى لما يرون. فلا غرو إذا دخل محمد صلى الله عليه وسلم المدينة دخول الوامق المعتزّ.. واستبشر بما اتاه الله فيها من فتح، وتوسّم من وراء هذه الهجرة بشائر الخير والنصر:

[مشكلات وحلول إيجابية] :

ثوى في قريش بضع عشرة حجّة ... يذكّر لو يلقى حبيبا مواتيا ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي ولم ير واعيا فلمّا أتانا واستقرّت به النّوى ... وأصبح مسرورا بطيبة راضيا وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم ... بعيد ولا يخشى من النّاس باغيا بذلنا له الأموال من جلّ مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتّاسيا نعادي الذي عادى من النّاس كلّهم ... جميعا، وإن كان الحبيب المصافيا ونعلم أنّ الله لا ربّ غيره ... وأنّ كتاب الله أصبح هاديا «1» [مشكلات وحلول إيجابية] : إنّ تنظيم الهجرة واستقبال اللاجئين الفارّين بدينهم من شتى البقاع ليس بالعمل الهيّن، وفي عصرنا الحاضر تعتبر هذه الحال مشكلة تحتاج إلى الحل السريع!. ومتى خلت حياة الرجل العظيم من المشكلات؟!. وصادف إبّان الهجرة أن كانت المدينة موبوءة (بحمّى) الملاريا، فلم تمض أيام حتى مرض بها أبو بكر، وبلال. واستوخم الصحابة جوّ المهجر الذي اواهم، ثم أخذت تستيقظ غرائز الحنين إلى الوطن المفقود. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصبّر الصحابة على احتمال الشدائد، ويطالبهم بالمزيد من الجدّ والتضحية لنصرة الإسلام، وقال: «لا يصبر على لأواء المدينة وشدّتها أحد من أمتي إلا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة، ولا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه» «2» . وهذا ضرب من جمع القلوب على المهجر الجديد، حتى تطيب به، وتنفر من مغادرته.

_ (1) هذه الأبيات لأبي قيس، صرمة بن مالك بن عدي بن غنم بن عدي بن النّجّار، وهي في سيرة ابن هشام: 1/ 552. (2) حديث صحيح، أخرجه مسلم: 4/ 113؛ وأحمد، رقم (1573) ، من حديث سعد بن أبي وقاص بتقديم الجملة الاخرى على الأولى؛ ورواه البزار من حديث عمر بنحو ما في الكتاب؛ قال الهيثمي (3/ 306) : ورجاله رجال الصحيح.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لمّا قدم النبيّ عليه الصلاة والسلام المدينة؛ وعك أبو بكر وبلال، فدخلت عليهما فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ وكان أبو بكر إذا أخذته الحمّى يقول: كلّ امرئ مصبّح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلعت عنه، يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بواد، وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنّة؟ ... وهل يبدون لي شامة وطفيل؟ «1» قالت: فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «اللهم حبّب إلينا المدينة، كحبّنا مكة أو أشد، اللهم وصحّحها، وبارك لنا في مدّها وصاعها، وانقل حمّاها، واجعلها بالجحفة» «2» . وعن أنس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكّة من البركة» «3» . وعن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بأوّل الثّمر قال: «اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي ثمارنا، وفي مدّنا، وفي صاعنا، بركة مع بركة، اللهم إنّ إبراهيم عبدك ونبيّك وخليلك، وإنّي عبدك ونبيّك، وإنّه دعاك لمكّة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكّة، ومثله معه» ثم يعطيه أصغر من يحضر من الولدان ... «4» . بهذا التشويق والإقبال ارتفع الروح المعنوي بين المسلمين، واتّجهت القوى الفتية إلى البناء، متناسية الماضي وما يضمّ من ذكريات، إنّ الهجرة الخالصة لا تعود في هبة، ولا ترجع عن تضحية، ولا تبكي على فائت، بل هي كما قال الشاعر: إذا انصرفت نفسي عن الشّيء لم تكد ... إليه بوجه اخر الدهر تقبل

_ (1) جبال في مكة. (2) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 209- 210؛ وأحمد: 6/ 65/ 221- 222، 239، 240، 260؛ ورواه مسلم: 4/ 119، مختصرا بدون الأبيات، وهو رواية لأحمد: 6/ 56. قلت: والجحفة بلدة كانت بين مكة والمدينة وهي اليوم خرائب مهجورة. (ن) . (3) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 4/ 78؛ ومسلم: 4/ 115؛ وأحمد: 3/ 142. (4) حديث صحيح، أخرجه مسلم: 4/ 117.

أسس البناء للمجتمع الجديد

5 أسس البناء للمجتمع الجديد

[دعائم المجتمع الجديد]

[دعائم المجتمع الجديد] ليست الأمة الإسلامية جماعة من الناس همّها أن تعيش بأيّ أسلوب، أو تخطّ طريقها في الحياة إلى أيّ وجهة، وما دامت تجد القوت واللذة فقد أراحت واستراحت. كلا كلا، فالمسلمون أصحاب عقيدة تحدّد صلتهم بالله، وتوضّح نظرتهم إلى الحياة، وتنظّم شؤونهم في الداخل على أنحاء خاصة، وتسوق صلاتهم بالخارج إلى غايات معينة. وفرق بين امرئ يقول لك: همّي في الدنيا أن أحيا فحسب! واخر يقول لك: إذا لم أحرس الشّرف، وأصن الحقوق، وأرض لله، وأغضب من أجله، فلا سعت بي قدم، ولا طرفت لي عين ... والمهاجرون إلى المدينة لم يتحوّلوا عن بلدهم ابتغاء ثراء أو استعلاء. والأنصار الذين استقبلوهم وناصبوا قومهم العداء، وأهدفوا أعناقهم للقاصي والداني، لم يفعلوا ذلك ليعيشوا كيفما اتفق ... إنّهم- جميعا- يريدون أن يستضيئوا بالوحي، وأن يحصلوا على رضوان الله، وأن يحقّقوا الحكمة العليا التي من أجلها خلق الناس، وقامت الحياة ... وهل الإنسان إذا جحد ربّه، واتبع هواه، إلا حيوان ذميم أو شيطان رجيم؟!. ومن هنا شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم- أوّل مستقره- بالمدينة بوضع الدعائم التي لا بدّ منها لقيام رسالته، وتبين معالمها في الشؤون الاتية: 1- صلة الأمّة بالله. 2- صلة الأمّة بعضها بالبعض الاخر. 3- صلة الأمّة بالأجانب عنها، ممن لا يدينون دينها.

[أولا] : المسجد:

[أولا] : المسجد: ففي الأمر الأول- وهو صلة الأمة بالله- بادر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بناء المسجد؛ لتظهر فيه شعائر الإسلام، التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات، التي تربط المرء بربّ العالمين، وتنقّي القلب من أدران الأرض، ودسائس الحياة الدنيا. والمرويّ أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بنى مسجده الجامع حيث بركت ناقته، في مريد لغلامين يكفلهما أسعد بن زرارة، وكان الغلامان يريدان النزول عنه لله، فأبى الرسول عليه الصلاة والسلام إلا ابتياعه بثمنه، وكان المربد قبل أن يتّخذ مصلّى كهذه المصليات التي تنتشر في ريفنا؛ كانت تنبت فيه نخيل وشجر غرقد، ويختفي في ترابه بعض قبور للمشركين. فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وبالقبور «1» فنبشت، وبالخرب فسوّيت، وصفّوا النخل قبلة للمسجد «2» - والقبلة يومئذ بيت المقدس- وجعل طوله مما يلي القبلة إلى المؤخرة مئة ذراع، والجانبان مثل ذلك تقريبا، وجعلت عضادتاه من الحجارة، وحفر الأساس ثلاثة أذرع، ثم بني باللبن، واشترك الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حمل اللبنات والأحجار على كواهلهم. وكانوا يروّحون عن أنفسهم عناء الحمل والنّقل والبناء.. بهذا الغناء: اللهمّ لا عيش إلا عيش الاخره ... فاغفر للأنصار والمهاجره!! وقد ضاعف حماس الصحابة في العمل رؤيتهم النبيّ عليه الصلاة والسلام يجهد كأحدهم، ويكره أن يتميّز عليهم، فارتجز بعضهم هذا البيت: لئن قعدنا والرّسول يعمل ... لذاك منّا العمل المضلّل!! وتمّ المسجد في حدود البساطة، فراشه الرمال والحصباء، وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع، وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه، وقد تفلت الكلاب إليه فتغدو وتروح. هذا البناء المتواضع الساذج، هو الذي ربّى ملائكة البشر، ومؤدبي الجبابرة، وملوك الدار الاخرة، في هذا المسجد أذن الرحمن لنبيّ يؤمّ بالقران خيرة من امن به، أن يتعهّدهم بأدب السماء من غبش الفجر إلى غسق الليل.

_ (1) هي أجداث أتى عليها البلى حتى هجرت، فلا يدفن بها أحد. (2) ثبت هذا في (الصحيحين) وغيرهما من حديث أنس.

إنّ مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي، تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي؛ فهو ساحة للعبادة، ومدرسة للعلم، وندوة للأدب، وقد ارتبطت بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق وتقاليد هي لباب الإسلام، لكنّ الناس- لما أعياهم بناء النفوس على الأخلاق الجليلة- استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد السامقة، تضم مصلين أقزاما!!. أما الأسلاف الكبار فقد انصرفوا عن زخرفة المساجد وتشييدها إلى تزكية أنفسهم وتقويمها، فكانوا أمثلة صحيحة للإسلام. والمسجد الذي وجّه الرسول صلى الله عليه وسلم همته إلى بنائه قبل أي عمل اخر بالمدينة، ليس أرضا تحتكر العبادة فوقها؛ فالأرض كلها مسجد، والمسلم لا يتقيّد في عبادته بمكان. إنّما هو رمز لما يكترث له الإسلام أعظم اكتراث، ويتشبّث به أشدّ تشبث؛ وهو وصل العباد بربهم وصلا يتجدّد مع الزمن، ويتكرّر اناء الليل والنهار، فلا قيمة لحضارة تذهل عن الإله الواحد، وتجهل اليوم الاخر، وتخلط المعروف بالمنكر!. والحضارة التي جاء بها الإسلام تذكّر أبدا بالله وبلقائه، وتمسك بالمعروف، وتبغّض في المنكر، وتقف على حدود الله. ولقد شاهد يهود المدينة ومشركوها هذا الرسول الجديد صلى الله عليه وسلم يحتشد مع صحبه في إقامة المسجد، يمهّده للصلاة؛ فهل رأوا سيرة تريب أو مسلكا يغمز؟!. روى البيهقيّ، عن عبد الرحمن بن عوف «1» ، قال: كان أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن قام فيهم، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «أمّا بعد: أيها الناس! فقدّموا لأنفسكم، تعلمنّ والله ليصعقنّ أحدكم، ثم

_ (1) هذا خطأ؛ وإنما رواه البيهقي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال ... فذكره. هكذا أورده الحافظ ابن كثير في (البداية) : 3/ 214، ثم أعلّه بالإرسال. وقد روى ابن جرير: 2/ 115- 116، بسند صحيح عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي: أنه بلغه عن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة ... فذكرها، وهي مغايرة كلّ المغايرة لخطبة أبي سلمة؛ وهي ضعيفة أيضا لأنّها معضلة؛ الجمحيّ هذا يروي عن أتباع التابعين مثل هشام بن عروة وغيره.

[ثانيا] : الأخوة:

ليدعنّ غنمه ليس لها راع، ثم ليقولنّ له ربّه- ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه-: ألم يأتك رسولي فبلّغك؟ واتيتك مالا، وأفضلت عليك؟ فما قدّمت لنفسك؟ فينظر يمينا وشمالا فلا يرى شيئا ثم ينظر قدّامه فلا يرى غير جهنّم، فمن استطاع أن يقي نفسه من النّار ولو بشقّ تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإنّ بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف، والسلام عليكم وعلى رسول الله» . [ثانيا] : الأخوة: أمّا عن الأمر الثاني- وهو صلة الأمة بعضها بالبعض الاخر- فقد أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم على الإخاء الكامل؛ الإخاء الذي تمحى فيه كلمة «أنا» ، ويتحرّك الفرد فيه بروح الجماعة ومصلحتها وامالها، فلا يرى لنفسه كيانا دونها، ولا امتدادا إلا فيها. ومعنى هذا الإخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية؛ فلا حمية إلا للإسلام. وأن تسقط فوارق النّسب واللون والوطن، فلا يتأخّر أحد أو يتقدّم إلا بمروءته وتقواه. وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقدا نافذا؛ لا لفظا فارغا، وعملا يرتبط بالدماء والأموال؛ لا تحية تثرثر بها الألسنة، ولا يقوم لها أثر. وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال. حرص الأنصار على الحفاوة بإخوانهم المهاجرين، فما نزل مهاجريّ على أنصاري إلا بقرعة!! وقدّر المهاجرون هذا البذل الخالص فما استغلّوه، ولا نالوا منه إلا بقدر ما يتوجّهون إلى العمل الحر الشريف. روى البخاريّ: أنهم لما قدموا المدينة، اخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فقال سعد لعبد الرحمن: إنّي أكثر الأنصار مالا؛ فاقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك، فسمّها لي أطلقها، فإذا انقضت عدّتها فتزوجها، قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟. فدلّوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن!!.

ثم تابع الغدوّ.. ثم جاء يوما وبه أثر صفرة «1» ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مهيم؟» «2» قال: تزوجت، قال: «كم سقت إليها؟» ، قال: نواة من ذهب!. وإعجاب المرء بسماحة (سعد) لا يعدله إلا إعجابه بنبل (عبد الرحمن) ، هذا الذي زاحم اليهود في سوقهم، وبزّهم في ميدانهم، واستطاع- بعد أيام- أن يكسب ما يعف به نفسه، ويحصن به فرجه!! إنّ علو الهمة من خلائق الإيمان؛ وقبّح الله وجوه أقوام انتسبوا للإسلام فأكلوه، وأكلوا به، حتى أضاعوا كرامة الحق في هذا العالم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخ الأكبر لهذه الجماعة المؤمنة؛ لم يتميّز عنهم بلقب إعظام خاصّ، وفي الحديث: «لو كنت متّخذا من أمّتي خليلا لاتخذته يعني: أبا بكر- خليلا، ولكنّ أخوّة الإسلام أفضل» «3» . والإخاء الحق لا ينبت في البيئات الخسيسة، فحيث يشيع الجهل والغشّ والجبن والبخل والجشع لا يمكن أن يصحّ إخاء، أو تترعرع محبة، ولولا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جبلوا على شمائل نقية، واجتمعوا على مبادئ رضية، ما سجّلت لهم الدنيا هذا التاخي الوثيق في ذات الله. فسموّ الغاية التي التقوا عليها، وجلال الأسوة التي قادتهم إليها، نمّيا فيهم خلال الفضل والشرف، ولم يدعا مكانا لنجوم خلة رديئة. ذلك، ثم إنّ محمدا عليه الصلاة والسلام كان إنسانا تجمّع فيه ما تفرّق في عالم الإنسان كله من أمجاد ومواهب وخيرات، فكان صورة لأعلى قمّة من الكمال يمكن أن يبلغها بشر، فلا غرو إذا كان الذين قبسوا منه، وداروا في فلكه رجالا يحيون بالنجدة والوفاء والسخاء. إنّ الحبّ كالنبع الدافق يسيل واحده، ولا يتكلّف استخراجه بالالات والأثقال، والأخوّة لا تفرض بقوانين ومراسيم، وإنّما هي أثر من تخلّص الناس من نوازع الأثرة والشح والضّعة. وقد تبودلت الأخوة بين المسلمين الأولين؛ لأنّهم ارتقوا- بالإسلام- في نواحي حياتهم كلّها، فكانوا عباد الله إخوانا، ولو كانوا عبيد أنفسهم ما أبقى بعضهم على بعض!!.

_ (1) زينة. (2) سؤال عن حاله. (3) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 14، من حديث ابن عباس بهذا اللفظ.

على أنّ تنويهنا بقيمة التسامي النفساني في تأسيس الإخاء، لا يمنع الحاكم من فرضه على الناس نظاما يؤخذون بحقوقه أخذا، فإذا لم يؤدّوها طوعا أدّوها كرها، وذلك كما يجبرون على العلم، والجندية، وأداء الضرائب وغير ذلك. وقد ظلّت عقود الإخاء مقدّمة على حقوق القرابة في توارث التركات إلى موقعة (بدر) ، حتى نزل قوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال: 75] . فألغي التوارث بعقد الأخوة، ورجع إلى ذوي الرحم. وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ... [النساء: 33] . قال: كان المهاجرون- لما قدموا المدينة- يرث المهاجريّ الأنصاريّ دون ذوي رحمه؛ للأخوة التي اخى النبي عليه الصلاة والسلام بينهم، فلمّا نزلت: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ ... ، نسخت ذلك، ثم قال: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث، ويوصي له. وروي في تفصيل هذا الإخاء: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم تاخى مع علي، وتاخى حمزة مع زيد، وأبو بكر مع خارجة، وعمر مع عتبان بن مالك ... إلخ. ومن العلماء من يشكّ في أخوّة الرسول عليه الصلاة والسلام مع علي. ولكن ما صحّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل عليّا منه بمنزلة هارون من موسى يؤيّد هذه الرواية «1» ، وليس يخدش هذا من منزلة أبي بكر، ولا استحقاقه الصدارة.

_ (1) قلت: كلا، لا تأييد، فإن الأخوة المذكورة أخص من تلك المنزلة، ولا يثبت الأخصّ بالأعم؛ فلا بدّ من إثبات الأخوة بنص خاص. وقد تتبعت الأحاديث الواردة فيها فوجدتها لا تخلو من كذّاب، ومن أشهرها ما أخرجه الترمذي: 4/ 328؛ والحاكم: 3/ 14، من طريق حكيم بن جبير، عن جميع بن عمير، عن ابن عمر، قال: اخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فجاء عليّ تدمع عيناه! فقال: يا رسول الله! اخيت بين-

[ثالثا] : غير المسلمين:

[ثالثا] : غير المسلمين: أما الأمر الثالث- وهو صلة الأمّة بالأجانب عنها الذين لا يدينون بدينها- فإنّ الرسول عليه الصلاة والسلام قد سنّ في ذلك قوانين السماح والتجاوز، التي لم تعهد في عالم مليء بالتعصّب والتغالي، والذي يظنّ أنّ الإسلام دين لا يقبل جوار دين اخر، وأنّ المسلمين قوم لا يستريحون إلا إذا انفردوا في العالم بالبقاء والتسلّط هو رجل مخطئ بل متحامل جريء!. عند ما جاء النبيّ عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وجد بها يهودا توطّنوا، ومشركين مستقرين. فلم يتّجه فكره إلى رسم سياسة للإبعاد أو المصادرة والخصام، بل قبل- عن طيب خاطر- وجود اليهود والوثنية، وعرض على الفريقين أن يعاهداهم معاهدة الند للند، على أن لهم دينهم وله دينه. ونحن نقتطف فقرات من نصوص المعاهدة، التي أبرمها مع اليهود دليلا على اتجاه الإسلام في هذا الشأن. جاء في هذه المعاهدة: «أنّ المسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة. وأنّ المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم «1» ، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم!!.

_ - أصحابك، ولم تواخ بيني وبين أحد؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت أخي في الدنيا والاخرة» . وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب» ، وتعقّبه الشارح المباركفوري بقوله: «حكيم بن جبير ضعيف مرميّ بالتشيّع» . قلت: ذهل هو والترمذيّ عن علته الحقيقية وهي: «جميع بن عمير» هذا، قال الذهبي عنه في الميزان: «قال ابن حبّان: رافضي يضع الحديث، وقال ابن نمير: كان من أكذب الناس» ، ثم ساق له الذهبيّ هذا الحديث، وقد رواه عنه أيضا سالم بن أبي حنيفة الكاهلي أخرجه الحاكم متابعة لحكيم بن جبير، فتعقّبه الذهبيّ في (التلخيص) بقوله: «قلت: جميع اتهم، والكاهليّ هالك» . قلت: كذّبه ابن أبي شيبة وموسى بن هارون. وقال الدارقطني: «هو في عداد من يضع الحديث» ومن شاء الاطلاع على بقية الأحاديث وعللها فليراجع: المجمع: 9/ 111؛ واللالئ المصنوعة: 1/ 169، 194، 201. (1) دسيعة ظلم: محض ظلم.

وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن ... وأنه لا يحلّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، وامن بالله واليوم الاخر أن ينصر محدثا «1» ولا يؤويه، وأنّه من نصره أو اواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وأنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وأنّ يهود بني عوف أمة مع المؤمنين. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم. وأنّ ليهود بني النجار والحارث وساعدة وبني جشم وبني الأوس ... إلخ، مثل ما ليهود بني عوف. وأنّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. وأنّ بينهم النصح والنصيحة والبر، دون الإثم. وأنّه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأنّ النصر للمظلوم، وأنّ الجار كالنفس غير مضار ولا اثم. وأنّ الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره ... وأنّ بينهم النصر على من دهم يثرب. وأنّ من خرج امن، ومن قعد بالمدينة امن، إلا من ظلم وأثم.. وأنّ الله جار لمن بر واتقى «2» ..» . وهذه الوثيقة تنطق برغبة المسلمين في التعاون الخالص مع يهود المدينة؛ لنشر السكينة في ربوعها، والضرب على أيدي العادين ومدبري الفتن أيا كان دينهم. وقد نصّت بوضوح على أنّ حرية الدين مكفولة. فليس هناك أدنى تفكير في محاربة طائفة أو إكراه مستضعف؛ بل تكاتفت العبارات في هذه المعاهدة على نصرة المظلوم، وحماية الجار، ورعاية الحقوق

_ (1) مجرما. (2) روى هذه الوثيقة ابن إسحاق: 2/ 16- 18، بدون إسناد.

الخاصّة والعامّة، واستنزل تأييد الله على أبر ما فيها وأنقاه، كما استنزل غضبه على من يخون ويغش. واتفق المسلمون واليهود على الدفاع عن يثرب إذا هاجمها عدو، وأقرت حرية الخروج من المدينة لمن يبتغي تركها، والقعود فيها لمن يحفظ حرمتها. ويلاحظ أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه المعاهدة أشار إلى العداوة القائمة بين المسلمين ومشركي مكة، وأعلن رفضه الحاسم لموالاتهم، وحرّم إسداء أي عون لهم، وهل ينتظر إلا هذا الموقف من قوم لا تزال جروحهم تقطر دما لبغي قريش وأحلافها عليهم؟. أكان اليهود صادقين في موافقتهم على هذا العهد؟. أغلب الظنّ أنهم لم يكونوا جادّين حين ارتضوه وقبلوا إنفاذه. وافة العهود أن يرتبط الوفاء بها بمدى المنفعة المرجوّة منها، فإذا بدا أن المعاهدة المبرمة لا تحقّق المطامع المبتغاة، قلّ التمسك بها، والتمست الفرص للتحلل منها. وقد كان اليهود يبنون عظمتهم المادية والسياسية على تفرّق العرب، قبائل متناحرة، فلمّا دخل العرب في الإسلام، وأخذت الحزازات القديمة تتلاشى، وتتابعت الأيام تؤكّد أنّ الإسلام سوف يصنع من العرب أمة واحدة.. استشعر اليهود القلق، وساورتهم الهموم، وشرعوا يفكّرون في الكيد لهذا الدين، والتربص بأتباعه. ثم إنّ اليهود في المدينة يكوّنون البيئة التي تتوافر فيها سوات التدين المصنوع، والاحتراف السمج بمبادئ السماء، وأبرز خلال هذه البيئات الحقد، والنفاق، والتمسّك بالقشور والولع بالجدل، ومن وراء ذلك قلوب خربة، ونفوس معوجّة. وربما اقتبسوا من جوارهم للعرب بعض فضائل الصحراء كالكرم والشجاعة، بيد أنّ انطواءهم العنصريّ غلب على سيرتهم، فالتصقت هذه الفضائل بنفوسهم كما تلتصق أوراق الزينة بالجدران المشوهة. وكان المتوقع أن يرحّب اليهود بالإسلام، فإذا لم يرحّبوا به فليكونوا أبطأ من الوثنيين في مخاصمته، فإنّ محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى توحيد الله، وإصلاح العمل،

والاستعداد لحياة أرقى في الدار الاخرة، والدين الذي جاء به وقّر موسى وأعلى شأنه، ونوّه بكتابه، وطلب من اليهود أن ينفّذوا أحكامه، ويلزموا حدوده. لكنّ اليهود صمتوا- أولا- صمت المستريب، ثم بدا لهم فقرّروا المعالنة بالجحود. وهذا الترحيب المتوقّع تلمح دلائله في كثير من الايات، فإنّ عبدة الأصنام إذا أنكروا النبوة فأهل الكتاب يجب أن يشهدوا بها: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) [الرعد] . وعبدة الأصنام إذا رفضوا التذكير بالله فأهل الكتاب أحق بأن يخشعوا إذا وجدوا من يذكّرهم به: وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) [القصص] . غير أنك تدهش، إذ تجد الجرأة على الله، والنفور من أحكامه، ووصفه بما لا يليق شائعة بين اليهود، شيوعها بين المشركين!. فإذا غضب الإسلام على من ينسب إلى الله ولدا، بشرا أو حجرا، فماذا ترى فيمن يصف رب السموات والأرض بالفقر والبخل؟!. وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا.. [المائدة: 64] . لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) [ال عمران] . على أنّ الإسلام يدع أولئك الجحدة في ضلالهم، فلا يستأصل كفرهم بالسيف، ويكتفي بأن يعلن دعوته، ويكشف حقيقته، ويملأ الجوّ باياته ومعالمه. فمن استراح إليها فدخل فيها؛ فبها ونعمت، وإلا فهو وشأنه، ولا يطالبه الإسلام بشيء إلا الأدب والمسالمة، وترك الحق يسير من غير عائق أو نكير. ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فمدّ يده إلى اليهود مصافحا، وتحمّل الأذى مسامحا، حتى إذا راهم مجمعين على التنكيل به، ومحو دينه، استدار إليهم، وجرت بينه وبينهم من الوقائع ما سنقصّ أخباره في موضعه.

بتقوى الله والإخلاص له دعمت الناحية الروحية في هذا المجتمع الجديد. وبالإخاء الحق، تماسك بنيانه، وتوثقت أركانه. وبالعدل والمساواة، والتعاون، رسمت سياسة الأجانب، وعومل أتباع الأديان الاخرى. ومن ثمّ استقرت الأوضاع، ووجد المسلمون متسعا لتجديد قواهم، وترتيب شؤونهم.

المصطفون الأخيار

المصطفون الأخيار إنّ المؤمنين الذين صحبوا الأنبياء، واقتربوا من حياتهم، أتيح لهم ما لم يتح لغيرهم من منابع الصفاء، ووسائل الارتقاء. إنّ مشاعرك ترقّ عند ما تسمع النغم العذب، وعواطفك تسمو عند ما تقرأ البطولة الرائعة، بل إنّ الذين يحضرون تمثيل بعض الروايات المثيرة يصبغهم جو القصة المفتعلة، فيضحكون ويبكون، ويهدؤون ويضجون.. فما ظنّك بقوم يتبعون رجلا تكلّمه السماء، ويتفجر من جوانبه الكمال، ويسكب على من حوله ايات الطهر؟ فإذا ثقلت نفوسهم عن خير، دفع بها إلى الأمام، وإذا علقت بمسالكهم شهوة، نقّاها فرد عليها سناءها، إنّ للعظماء إشعاعا يغمر البيئة التي يظهرون فيها، وكما يقترب المصباح الخامد من المصباح المشتعل فيضيء منه، تقترب النفوس المعتادة من الفرد الممتاز، فتنطوي في مجاله وتمشي في اثاره!!. وقد التفّ بمحمد صلى الله عليه وسلم فريق من الربانيين الأتقياء، كانوا له تلاميذ مخلصين، فزكت- بصحبته- نفوسهم، وشفّت طباعهم، حتى أشرق عليها من أنوار الإلهام ما جعلها تنطق بالحكمة وفصل الخطاب. ولا تحسبنّ العقل الجبار- مهما أوتي من نفاذ- يستطيع إدراك الكمال بقوته الخاصة، فإذا لم تسدده عناية عليا، فإنه سيجوب كلّ أفق دون أن يبصر غاية، أو يهتدي طريقا، كالطيار الذي يضل في الجو عند ما يتكاثر أمام عينيه الضباب. إنه يحكم القيادة، ويضبط الالات، ويرسل أنوار مصابيحه في أحشاء الغيوم المتراكمة، فإذا لم يتلق إرشادا يحدد له مكانه وبعده وكيف يهبط.. فإنه سيظلّ يحلّق عبثا، ثم تهوي به الريح في مكان سحيق. وكم من فلاسفة عالجوا شؤون الكون والحياة، فمنهم من ضلّ عن الحق على طول بحثه عنه، فلم يصل إليه قط، ومنهم من استغرق في الوصول إليه أعواما طوالا، ولو مشى وراء الرسل لانتهى إليه في أيام قصار، وهو في مأمن من الشرود والعثار!.

ثم إنّ الإنسان ليس عقلا فحسب، إنه- قبل ذلك- قلب ينبغي أن يسلم من الأهواء والاثام، وأن ينجو من الشقاوة والظلام، وأن يكون في حنايا صاحبه قوة تسوق إلى الخير والحب، وحاديا يهفو إلى الجمال والرحمة. والمرسلون الكرام يتعهّدون ضمائر البشر بالتعليم والتربية. وأشبه الناس بهم من اقتفى اثارهم، وأخذ في طريقهم، وأول أولئك قاطبة من صحبوهم في حياتهم، وقاسموهم أعباء دعوتهم ومغارم جهادهم. قال عبد الله بن مسعود: «من كان مستنّا فليستنّ بمن مات، فإنّ الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمّد عليه الصلاة والسلام، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا وأعمقها علما، وأقلّها تكلّفا، اختارهم الله لصحبة نبيّه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسّكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنّهم كانوا على الهدى المستقيم..» . ولا شك أنّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يرجحون أصحاب موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام. فإنّ تاريخهم في الإيمان والجهاد وإبلاغ الدعوة إلى الأخلاف كاملة مضبوطة غير منقوصة ولا محرّفة، لا يشبه أيّ تاريخ اخر.. ونحن نسوق هذه المقدمة بين يدي الكلام عن الأذان، وكيف شرع؟ فإنّ ميلاد هذه الشعيرة العظيمة، يحمل معه ايات بيّنة عن عظمة النفوس إذا صفت فنضحت بالحق، وسكن إليها الإلهام. قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل بوقا كبوق يهود الذي يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس، فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة؛ فبينما هم على ذلك رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة أخو بني الحارث النداء، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إنه طاف بي هذه الليلة طائف، مرّ بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله، أتبيع هذا الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ قال: قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: ألا أدلّك على خير من ذلك؟ قلت: ما هو؟ قال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر. أشهد ألاإله إلا الله، أشهد ألاإله إلا الله.

أشهد أنّ محمدا رسول الله، أشهد أنّ محمدا رسول الله. حيّ على الصلاة، حيّ على الصلاة. حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح. الله أكبر الله أكبر. لا إله إلا الله. فلمّا أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إنّها لرؤيا حق إن شاء الله! فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذّن بها، فإنه أندى صوتا منك» . فلمّا أذّن بها بلال سمعه عمر وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يجرّ رداءه يقول: يا نبي الله! والذي بعثك بالحق، لقد رأيت مثل الذي رأى!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلله الحمد» «1» . وفي رواية: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن به «2» . قال الزهري: وزاد بلال في نداء صلاة الغداة: «الصلاة خير من النوم» مرتين. فأقرّها رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» . وفي رواية أخرى رأى عمر في المنام: لا تجعلوا الناقوس، بل أذّنوا للصلاة، فذهب عمر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليخبره بما رأى، وقد جاء النبيّ عليه الصلاة والسلام الوحي بذلك.

_ (1) حديث أخرجه ابن إسحاق في (المغازي: 2/ 19- 20) حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه، عن أبيه، وهذا سند حسن وقد أخرجه أبو داود، والدارمي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وأحمد، كلهم من طريق ابن إسحاق به، وأخرجه الترمذي مختصرا. وقال: «حديث حسن صحيح» . وصححه جماعة من الأئمة ذكرتهم في كتابي (صحيح سنن أبي داود) ، رقم (512) ، وله شاهد مختصر من رواية أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار أخرجه أبو داود، رقم (511) من صحيح أبي داود، ولم يطبع؛ وأخرجه البيهقي: 1/ 399- 400. (2) لا حاجة لهذه الرواية، فإن معناها في التي قبلها. (3) أخرجه ابن ماجه: 1/ 541، عن الزهري بسند ضعيف؛ ورواه بنحوه أحمد: 4/ 43، من قول سعيد بن المسيّب، وفي سنده انقطاع، لكن معنى الحديث صحيح فإنّ له شواهد كثيرة، أوردت بعضها في (الثمر المستطاب، في فقه السنة والكتاب) منها عن أنس، قال: كان التثويب في صلاة الغداة إذا قال المؤذن: حيّ على الفلاح قال: «الصلاة خير من النوم» مرتين. أخرجه الدارقطني والطحاوي والبيهقي: 1/ 423، وقال: «إسناده صحيح» . (تنبيه) : لا يخفى على الفقيه أنّ بلالا كان يؤذّن الأول للفجر، فإذا ضممنا هذا إلى ما تقدّم ينتج منه أن السنّة أن يقال: «الصلاة خير من النوم» في الأذان الأوّل لا الثاني، وهذا ما جاء به النص، فقال ابن عمر: كان في الأذان الأول بعد حيّ على الفلاح، «الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم» . أخرجه الطحاوي: 1/ 82، وغيره بسند حسن كما قال الحافظ في (التلخيص) : 3/ 169. وفي الباب عن أبي محذورة.

فما راع عمر إلا بلال يؤذّن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره بذلك: «قد سبقك بذلك الوحي» «1» . وهذا يدلّ على أنّ الوحي قد جاء بتقرير ما راه عبد الله بن زيد. هذه الكلمات الطيبة التي ترتفع بين الحين والحين تقرع الاذان، وتوقظ القلوب، وتصيح بالناس: هلمّوا إلى الله.. وعاها في رؤيا صالحة ذهن نيّر، فأسرع بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرويها كما ألقيت في روعه؛ لتكون نداء المسلمين إلى الصلاة ما أقيمت على ظهر الأرض صلاة. وتجاوب النفوس مع الوحي هو غاية التألّق وقمة الحق، وهو أمارة على أنّ الهدى أصبح غريزة فيها، فهي تستقيم عليه في اليقظة والنوم، وتتّجه إليه على البديهة وبعد التروي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربط أصحابه بالوحي النازل عليه من السماء ربطا موثقا، يقرؤه عليهم ويقرؤونه عليه؛ لتكون هذه المدارسة إشعارا بما على الصحاب من حقوق الدعوة وتبعات الرسالة فضلا عن ضرورة الفهم والتدبر!!. عن عبد الله بن مسعود، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليّ القران» !! فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: «إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري» ! قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الاية: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) [النساء] ، قال: «حسبك الان» فالتفتّ إليه، فإذا عيناه تذرفان «2» .. زاد في رواية: شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ ... [المائدة: 117] . وإذا كان الاهتداء إلى ألفاظ الأذان قد ترشّحت له سريرة مصفّاة، مشغوفة بالعبادة، مشغولة بالحق، فإنّ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كذلك من اندمجوا في معاني الإيمان، وخلصوا لمعين الرسالة؛ حتى إنّ الله أمر رسوله أن يقرأ عليهم بعض سور القران، تنويها بمكانهم عند الله، ورسوخهم في آياته.

_ (1) ذكر ابن هشام: 2/ 20، فقال: وذكر ابن جريج: قال لي عطاء: سمعت عبيد بن عمير الليثي ... فذكره. وهذا- مع انقطاعه- مرسل. (2) أخرجه البخاري: 8/ 202، 9/ 77- 80؛ ومسلم: 2/ 196، والزيادة له، ونصّها: عن ابن مسعود، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «شهيدا عليهم ما دمت فيهم- أو ما كنت فيهم-» . (شك من الراوي) .

عن أنس بن مالك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كعب: «إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ ... [البينة: 1- 8] ، قال أبيّ: وسمّاني؟ قال: «نعم» ، وفي رواية: الله سماني لك؟ قال: «نعم» . قال: وقد ذكرت عند ربّ العالمين؟ قال: «نعم» ، قال: فذرفت عيناه.. «1» .

_ (1) أخرجه البخاري: 7/ 100، 9/ 589- 590، والرواية الاخرى له؛ ومسلم: 2/ 195؛ وأحمد: 3/ 130، 137، 185، 218، 233، 273، 284، وعنده الرواية الاخرى؛ ورواه الترمذي: 4/ 368؛ والحاكم: 3/ 304، وصحّحاه؛ وأحمد: 5/ 122- 123، 131، 132، من حديث (أبيّ) نفسه، وأحمد أيضا: 3/ 489، من حديث أبي حبة البدري.

معنى العبادة

معنى العبادة وسرّ الارتقاء الروحي والجماعي الذي أدركه صحابة محمّد صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا موصولين بالله على أساس صحيح، فلم يشعروا في العمل له بما يشعر به الكثيرون من عنت وتكلّف، ولا بما يعانون من شرود وحيرة. هناك طبيعتان في الإنسان غير منكورتين: الإعجاب بالعظمة، والعرفان للجميل، فعند ما ترى الة دقيقة، أو جهازا عجيبا، أو صورة رائعة، أو مقالا بليغا فإنك لا تنتهي من تبيّن حسنه حتى تنطوي جوانحك على الإعجاب بصاحبه، فإنّ الذكاء العميق والاقتدار البارز يجعلانك تهتزّ من تلقاء نفسك احتراما للرجل الذكيّ القدير!. وكذلك عند ما يسدى إليك معروف، أو تمتدّ يد إليك بنعمة إنّك تذكر هذا الصنيع لمن تطوّع به، وعلى ضخامة ما نلت من خير يلهج لسانك بالثناء، ويمتلئ فؤادك بالحمد كما قال الشاعر: أفادتكم النعماء منّي ثلاثة ... يدي، ولساني، والضّمير المحجّبا!! ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم جاء يثير هاتين الطبيعتين نحو أحقّ شيء بهما، ألست تعجب بالعظمة، وتحتفي بصاحبها؟! ألست تقدّر النعمة وتشكر مسديها؟!. إنك ترمق بإجلال مخترع الطيارة، وكلّما رأيتها تشقّ الفضاء زدت إشادة بعبقريته! فما رأيك فيمن يدفع الألوف المؤلّفة من الكواكب تطير في جوّ السماء من غير توقف ولا عوج! وما رأيك فيمن خلق عقل هذا المخترع، وأودع في تلافيف مخّه الذكاء الذي وصل به إلى ما راعك واستثار إعجابك؟. أليس ربّك وربّ كلّ شيء أحقّ بأن تعرف عظمته، وتفتح عيونك على اثار قدرته ... ؟!. فإذا عرفت عظمته من عظمة الوجود الذي يحيط بك، خجلت من التهجّم عليه، ونسبة ما لا يليق إليه!! وقلت مع العارفين: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [ال عمران: 191] .

إنّك لو استضافك شخص كريم، ورأيت البشاشة في وجهه، والسماحة في قراه، حفظت له- ما حييت- هذه المنّة، وسعيت جهدك كي تكافئه عليها، وحدّثت من تعرف بسجايا هذا المضياف الكريم، فما رأيك فيمن تولّى أمرك بنعمائه من المهد إلى اللحد؟! فأنت لا تطعم إلا من رزقه، ولا تكسى إلا من ستره، ولا تأوي إلا إلى كنفه، ولا تنجو من شدة إلّا بإنقاذه ... !!. إنّ محمدا صلى الله عليه وسلم وصل الناس بربهم على ومضات لطاف من تقدير العظمة ورعاية النعمة، فهم إذا انبعثوا لطاعته، كانوا مدفوعين إلى أداء هذه الطاعات بأشواق من نفوسهم، ورغبات كامنة تجيش بتوقير العظيم وحمد المنعم. والعبادة ليست طاعة القهر والسخط، ولكنّها طاعة الرضا والحب!. والعبادة ليست طاعة الجهل والغافلة، ولكنّها طاعة المعرفة والحصافة!. قد تصدر الحكومة أمرا بتسعير البضائع فيقبل التجار كارهين، أو أمرا بخفض الرواتب، فيقبل الموظفون ساخطين. وقد تشير إلى البهيمة العجماء فتنقاد إليك، لا تدري إلى مرتعها تسير أم إلى مصرعها. تلك أنواع من الطاعات بعيدة عن معنى العبادة التي شرع الله للناس، فالعبادة التي أجراها الله عن الألسنة في الاية الكريمة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) [الفاتحة] والتي جعلها حكمة الوجود وغاية الأحياء في قوله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) [الذاريات] . تعني الخضوع المقرون بالمعرفة والمحبة، أي الناشئ عن الإعجاب بالعظمة والعرفان للجميل.. وقد اطّردت ايات القران، تبني سلوك المؤمنين على هذه العمد الراسية. فهي- إذ تعرّف الناس بالله- تريهم صحائف مشرقة من خلقه البديع، وفضله الجزيل، تمزق ما نسجته الغافلة على الأعين من جهالة وجحود. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) [إبراهيم] .

إنّ الرجل لا يقوم بالعمل العظيم وهو منساق إليه بالسياط الكاوية، إنما تولد الإجادة، ويبلغ الشيء درجة الإحسان بما يقارنه من رغبة ورضا. فإذا أقبل المرء بفكره وقلبه على معتقد وهب له نفسه وحسه، وعاش يحلم به في منامه، وينشط له في يقظته، فذلك يرقى به صعدا في فهم مبدئه، وإجادة خدمته. ومن ثمّ فإنّ الإسلام لا يحفل بالإيمان النظري البحت، ولا يقبله إلا ليكون سلّما إلى ما بعده، وهو الإيمان بالعقل والعاطفة معا. لا بدّ من تلوين الوجدان في قضايا الإيمان، ليس بمسلم من يعرف الله ويكرهه، ولا قيمة لمسلم يعرف الله ووجدانه خال باهت، فلا إعجاب فيه ولا شكران، كما أنه لا غمط فيه ولا جحود. والمسلم كلّ المسلم هو الذي يعرف الله معرفة اليقين، ويضم إلى هذه المعرفة إحساسا يعترف بمجادة المجيد ونعماء المنعم، تباركت أسماؤه!. والإيمان بهذه المثابة هو الإيمان المنتج، وهو صانع العجائب، وباني الدول، ومقيم الحضارات السنية، هو الذي يجعل الفرد يستحلي التكاليف المنوطة بعنقه، فيقبل على أدائها، وكأنّها رغبات نفس لا واجبات دين.. أتظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ما قام يصلي حتى تورمت قدماه، كان يغالب الألم الناتج في بدنه كما يغالبه التلميذ المذنب عند ما يوقف الساعات الطوال معذبا مهانا؟. كلا.. كلا.. إنّ استعذابه للمناجاة، واستغراقه في الخشوع، أذهلاه عمّا به، وغلبا على بوادر الألم الناشئ من طول الوقوف. والرجل الموفور الحماس، الفائر العاطفة، قد يظل يعمل ويدأب حتى يصل في عمله ودأبه إلى درجة يصعب منالها على القاعدين الباردين. ووزن الأمور عند أصحاب الإيمان والهمم غير وزنها عند أصحاب الريبة والعجز، ألا ترى حذيفة بن اليمان عند ما انطلق يتعرّف أحوال المشركين في غزوة الخندق، في ليلة باردة قارصة الجوّ، لافحة السبرات: لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتّى يلفّ على خيشومه الذّنبا! لقد انطلق وهو يقول عن نفسه: كأنّما أسير في حمّام!!

هذه حرارة الإيمان غمرت- بدفئها- الرجل، وجعلته ينفذ في كبد الليل البارد وكأنّه سهم مسدّد. هذا الإيمان المرتكز على العواطف المتقدة، هو الذي أشعل المعارك الطاحنة، وقاد إلى النصر المظفّر، وهو الذي هدم ما تركّز قرونا طويلة من سلطان الظلم والبغي، بعد ما ظنّ أنه لن يطاح به أبدا. وأساسه ما علمت، من تغلغل الإيمان في العقل والعاطفة معا، يغذو شجرته الباسقة مزيد من معرفة الله والشعور بعظمته ونعمته. ذلكم أسلوب القران في تعريف الناس بالله؛ إنّه أسلوب يقيمهم على عبودية الحب والتفاني، لا على عبودية التحقير والهوان، عبودية الإعجاب بالعظمة، والإقرار بالإحسان، لا العبودية المبهمة التي تصادر الإرادة، وتزري بالإنسان. قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) [النمل] . إنّ هذا التساؤل المتواصل السريع، يفتح على النفس افاقا بعيدة من الإيمان الذكي، ويجعلها تهرع إلى الله متجرّدة، تنفر من شوائب الشرك نفور الرجال الكبار من عبث الصبية. وايات النظر والتفكير يدور- أغلبها- على هذا المحور الثابت. وربّما احتاجت النفس- في ساعات غرورها- إلى لون من أدب القمع والتوعد يكبح جماحها، وهذا لا يتنافى- ألبتة- مع الأصل الذي قرّرناه انفا، فإنّ قسوة الأب مع ولده- حينا- لا تغيّر من طبيعة الحنان فيه. والقران إذ يحرّك المواهب السامية في الإنسان- بعرض اثار القدرة العليا

عليه- قد يردف ذلك بوخزات توقظ الإحسان المخدّر؛ ليلتفت ويعقل، لا لينكمش ويجبن. قال تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) [الزمر] . ويقول بعد ذلك: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) [الزمر] . وقد سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم المنهج نفسه في غرس الإيمان ورعاية ثماره. وكانت سيرته في الإقبال على الله درسا حيّا، يفعم الأفئدة بإجلال الله وإعظامه، والمسارعة إلى طاعته، والنفور من عصيانه. وكانت القلوب تتفتّح على هدى الله ورسوله، فما تسع بعده شيئا. عن جبير بن مطعم: سمعت النبيّ عليه الصلاة والسلام يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ الاية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) [الطور] . كاد قلبي أن يطير..!! «1» . ومدّ الإيمان من فكرة في الرأس إلى عاطفة في القلب تجعل الرجل ينبض باليقين والإخلاص هو من صميم السنّة، وهو مهاد الخلال الفاضلة التي سادت المسلمين وأعلت شأنهم، وهو معنى الحديث المشهور: «ثلاث من كنّ فيه وجد بهنّ طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، ومن أحبّ عبدا لا يحبّه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النّار» «2» . ومن ذلك أيضا أن يتغلغل الإيمان بالرسالة والمغالاة بصاحبها إلى حدّ

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 9/ 489، من حديث جبير بن مطعم. (2) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 1/ 51- 52؛ ومسلم 1/ 48، وغيرهما من حديث أنس.

ينسى الإنسان معه نفسه فهو- عن حب واندفاع، لا عن تكليف ورهبة- يفدي الرسالة وصاحبها بالنفس والنفيس. عن عبد الله بن هشام قال: كنّا مع النبيّ عليه الصلاة والسلام، وهو اخذ بيد عمر، فقال عمر: يا رسول الله! لأنت أحبّ إليّ من كلّ شيء إلا نفسي! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا- والذي نفسي بيده- حتّى أكون أحبّ إليك من نفسك» ، فقال عمر: فإنّه الان لأنت أحبّ إليّ من نفسي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الان يا عمر» «1» ، أي: الان فقط تمّ إيمانك. وهذا الحديث يحتاج إلى إيضاح: إنّ الفضائل لا يجوز أن تطيش بها كفة. وقد احترم الناس خلق الوفاء في السموءل لمّا ترك ابنه يذبح، مؤثرا أن تسلم ذمته، ويرد إلى من ائتمنه وديعته. والمرء إذا ضحى بنفسه فداء شرفه، فقد أدى واجبه. ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يطلب من الناس أن يقدّسوا فيه صورة اللحم والدم، ولا أن يرغبوا بنفسه عن أنفسهم، ليموتوا كي يحيا، أو ليهونوا كي يعظم، أو ليفتدوا أمجاده الخاصة بأرواحهم وأموالهم، أو ليتألّه فوقهم، كما تألّه فرعون وأمثاله من الجبارين. كلّا كلّا، فمحمد صلى الله عليه وسلم يريد من المؤمنين أن يقدّسوا فيه معنى الرسالة وأن يفتدوا فيه مثلها العالية، وأن يصونوا- في شخصه- معالم الحق المنزل، وماثر الرحمة العامة. إنّ الأنبياء لم يحيوا لأنفسهم، والمصيبة فيهم لا تنزل بهم أو بأهلهم خاصة. إنّهم يحيون للعالم كله؛ أليسوا مناط هدايته التامة، وسعادته العامة؟ فلا غرو إذ كانت تفديتهم من أصول الإيمان ومعاقد الكمال. وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أهلا لأن يحبّ؛ وما تعرف الدنيا رجلا فاضت القلوب بإجلاله، وتفانى الرجال في حياطته وإكباره مثل ما يعرف ذلك لصاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 11/ 445؛ وأحمد: 4/ 223، من حديث عبد الله بن هشام.

قيادة تهوي إليها الأفئدة

قيادة تهوي إليها الأفئدة عن عبد الله بن سلام قال: أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلمّا تأملت وجهه، واستثبتّه علمت أنّ وجهه ليس بوجه كذّاب! قال: وكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: «أيّها الناس! أفشوا السّلام، وأطعموا الطّعام، وصلّوا بالليل والنّاس نيام، تدخلوا الجنّة بسلام» «1» . إنّ أضواء الباطن تنضح على الوجه، فتقرأ في أساريره ايات الطّهر، وقد ذهب عبد الله يستطلع أخبار هذا الزعيم المهاجر، فنظر إليه يحاول استكشاف حقيقته، فكان أوّل ما اطمأنّ إليه بعد التثبّت من أحواله أنّ هذا ليس بكاذب، والملامح العقلية والخلقية لشخص ما لا تعرف بنظرة خاطفة، ولكنّ الطابع المادي الذي يضفي على الروح الكبير كثيرا ما يكون عنوانا صادقا على ما وراءه. على أنّ الذين عاشروا محمدا صلى الله عليه وسلم أحبّوه إلى حد الهيام، وما يبالغون أن تندقّ أعناقهم ولا يخدش له ظفر. وما أحبّوه كذلك إلا لأنّ أنصبته من الكمال الذي يعشق عادة لم يرزق بمثلها بشر. كان ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحبّ له، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغيّر لونه، يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما غيّر لونك؟» فقال: يا رسول الله! ما بي مرض ولا وجع؛ غير أنّي إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم إنّي إذا ذكرت الاخرة أخاف ألا أراك؛ لأنّك ترفع إلى عليين مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة

_ (1) حديث صحيح، أخرجه الترمذي: 3/ 313؛ وابن ماجه: 1/ 400- 401؛ والحاكم: 3/ 13؛ وأحمد: 4/ 451؛ وقال الترمذي: «حديث صحيح» ، وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.

أدنى من منزلتك، وإن لم أدخلها لم أرك أبدا، فنزل قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) [النساء] «1» . وفي الحديث: «المرء مع من أحبّ» «2» ، والمقصود حبّ الأسوة لا حبّ الهوس، فإنّ الرجل إذا أحبّ من هو مثله أو أعلى منه، فأساس هذا الحب تفتّح قلبه لخلال النبل التي خصوا بها، وعظمة المواهب التي ميزهم بها القدر. واثار الشجاعة والكرم لا يرحّب بها الجبان الشحيح، إنما يحييها في أصحابها من أوتي حظّا منها، وهو بسبيله إلى استكمال ما فاته من تمامها. فمن نعمة الله أن يلحق بالعظماء من يعشق فيهم جمال العظمة، ولذلك قال بعد الاية السابقة: ... ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) [النساء] . والحقّ أنّ التابع المحبّ شخص فاضل. ففي الدنيا كثير من الأخسّاء الذين إن علوا حقّروا من دونهم، وإن دنوا كرهوا من فوقهم! فما تدري متى تخلو نفوسهم من أحاسيس البغضاء والضّعة؟. أمّا عشاق المبادئ المجرّدة، فما إن يجدوا رجلها المنشود حتى يحيطوا به، وتلمع عيونهم حبّا له، أي حبّا للمبادئ التي حييت فيه وانتصرت به. وما كان ربك ليضيّع هذا اليقين ولا أصحابه الأبرار. عن أنس قال: لمّا كان اليوم الذي دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه المدينة أضاء منها كلّ شيء. فلمّا كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كلّ شيء، وما نفضنا أيدينا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا «3» .

_ (1) رواه الواحدي في (أسباب النزول) ، ص 122، تعليقا عن الكلبيّ، وقال: معضل ... فذكره، وهذا مع إعضاله فإنّ الكلبيّ كذّاب، لكن أخرجه الطبراني في (المعجم الصغير) ، ص 12، ومن طريقه أبو نعيم في (الحلية) : 7/ 325؛ وعنه الواحدي، ص 123؛ وابن مردويه والمقدسي في (صفة الجنة) من حديث عائشة مختصرا ليس فيه قوله: «ما غير لونك» وقال المقدسي: «لا أرى بإسناده بأسا» ، وله شاهد من حديث ابن عبّاس، واخر من مرسل سعيد بن جبير وغيره أوردها الحافظ ابن كثير في البداية: 1/ 552- 553. (2) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 10/ 459- 462؛ ومسلم: 8/ 42، من حديث أنس وابن مسعود وأبي موسى. وهو حديث متواتر كما قال ابن كثير وغيره. (3) حديث صحيح، أخرجه الترمذي: 4/ 495؛ والحاكم: 3/ 57؛ وأحمد: 2/ 221، -

[أوصافه وبعض أخلاقه صلى الله عليه وسلم] :

فانظر إلى بشاشة العاطفة الغامرة كيف صبغت الافاق بألوانها الزاهية، وانظر إلى حسرة الفقد كيف تخلّف سوادها الكابي على كل شيء!!. هكذا كانت دار الهجرة، لقد أحبت الله وأحبت رسوله صلى الله عليه وسلم. فكان هذا الحبّ المكين سرّ انتصارها الرائع للإسلام، ومبعث التضحية عن طيب نفس بكل مرتخص وغال. وقوم يربطهم بقائدهم هذا الإعزاز الهائل، تندكّ أمام عزائمهم الأطواد الراسية. [أوصافه وبعض أخلاقه صلى الله عليه وسلم] : سأل الحسن بن علي هند بن أبي هالة عن أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فوصف له بدنه، فكان مما قال:.. يمشي هونا، ذريع المشية- واسع الخطو-، إذا مشى كأنّما ينحطّ من صبب- يهبط بقوة- وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلّ نظره الملاحظة- أي لا يحدّق- يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام. قلت: صف لي منطقه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، لا يتكلّم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه- لا بأطراف فمه- ويتكلّم بجوامع الكلم، فصلا لا فضول فيه ولا تقصير، دمثا، ليس بالجافي ولا المهين، يعظّم النعمة وإن دقّت، لا يذم شيئا، ولم يكن يذمّ ذواقا- ما يطعم- ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرّض للحقّ بشيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها- سماحة-، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجّب قلّبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غضّ طرفه، جلّ ضحكه التبسّم ويفترّ عن مثل حبّ الغمام. وقال ابن أبي هالة يصف مخرجه- على الناس-: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه إلا عمّا يعنيه، يؤلّف أصحابه ولا يفرّقهم، يكرم كريم كل قوم، ويولّيه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره.

_ - 268؛ وقال الترمذي: «حديث صحيح» ، وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. ورواه الدارمي: 1/ 41، بنحوه، وسنده صحيح أيضا على شرط مسلم، وهو رواية للحاكم وأحمد: 3/ 122.

يتفقّد أصحابه، ويسأل النّاس عما في النّاس، ويحسّن الحسن ويصوّبه، ويقبّح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغافل مخافة أن يغافلوا أو يملّوا. لكلّ حال عنده عتاد، لا يقصّر عن الحق، ولا يجاوزه إلى غيره ... الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمّهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة. ثم قال- يصف مجلسه-: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطّن الأماكن- لا يميّز لنفسه مكانا- إذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كلّ جلسائه نصيبه، حتى لا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره، حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوى، مجلسه مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة. لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبّن فيه الحرم- لا تخشى فلتاته- يتعاطفون بالتقوى، يوقّرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب. وقال يصف سيرته: كان دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب، ولا فحّاش، ولا عتّاب، ولا مدّاح، يتغافل عما لا يشتهي ولا يقنط منه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك النّاس من ثلاث: لا يذمّ أحدا، ولا يعيّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلّم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلّم أطرق جلساؤه، كأنّما على رؤوسهم الطير، وإذا سكت تكلّموا، لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلّم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق ويقول: «إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه. ولا يطلب الثناء إلّا من مكافئ» «1» .

_ (1) حديث ضعيف، أخرجه بطوله الترمذي في (الشمائل) : 1/ 38، من طريق جميع بن عمرو بن عبد الرحمن العجلي، قال: حدثني رجل من بني تميم من ولد أبي هالة زوج خديجة يكنى أبا عبد الله، عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن علي. وهذا سند ضعيف، -

هذه خطوط قصار لما يراه الناس من مظاهر الكمال في سيرة النبي (المحمد) صلى الله عليه وسلم. أما حقيقة ما بني عليه هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من أمجاد وشمائل فأمر لا يدرك كنهه، ومعرفة العظماء لا يطيقها كلّ أحد، فكيف بعظيم خلائقه القران؟ إنّ الأمة التي أخرجت للناس في المدينة بلغت الأوج، كانت تعمل وتجاهد لله واحده، وتسعى إلى غايتها المرموقة في جذل وثّقه، التفّت حول نبيّها التفاف التلامذة بالمعلم، والجند بالقائد، والأبناء بالوالد الحنون، وتساندت فيما بينها بالأخوة المتبادلة المتناصرة، فهم نفس واحدة في أجسام متعددة، ولبنات مشدودة في بناء متسق صلب، وأدارت علاقاتها بالاخرين على العدل والبر، فليس يظلم في جوارهم بريء، أو يحرم من ألطافهم عان. وبرغم ما وقع عليها من بغي قديم، فقد جعلت الإسلام يجبّ ما قبله. فمن تطهر من جاهليته، وتاب إلى ربه، فلا نظر إلى ماضيه، بل ينضمّ إلى الأمة المسلمة عضوا كريما فيها، تغفر سيئاته ليستقبل- بصالح عمله- كتابه الجديد، أما الذين بقوا يكفرون ويصدّون، فلا بد من الإعداد لهم، حتى تخلص الأرض من كفرهم وصدهم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) [النساء] . كانت هذه الأمة تكدح لله، وتصل مساءها بصباحها في عبادته، وقد حزمت أمرها على واحد من اثنين: إمّا أن تحيا لله، وإمّا أن تموت فيه!. ولو ذهبت توازن بين المسلمين يومئذ وبين سائر العالم، لرأيت عناصر الغلب والامتياز تتجمّع- لديهم- صاعدة، على حين تفور- في كيان الملل

_ - وجميع بن عمرو هذا ضعيف، وقال أبو داود: «أخشى أن يكون كذّابا» . وأبو عبد الله التميمي مجهول، كما في (التقريب) ، وابن أبي هالة اسمه هند بن أبي هالة، وهو مستور، ترجمه ابن أبي حاتم: 4/ 2/ 117، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. ونقل الحافظ في ترجمة أبيه من (التهذيب) عن أبي داود: أنه قال في هذا الحديث: «أخشى أن يكون موضوعا» ، وأشار البخاريّ إلى أنّه لا يصح. راجع ترجمة هند بن أبي هالة في (الجرح والتعديل) مع التعليق عليه.

الاخرى- زلازل حاطمة؛ فلا غرو إذا صاروا بعد سنين معدودات دولة فتية، تقضي لربها ولنفسها ما تشاء. ثمّ إنّ الشرائع المفصّلة أخذت تنزل في المدينة منظّمة أحوال المسلمين الخاصة والعامة، ومبيّنة قواعد الحلال والحرام على تدرّج، إلى أن وصلت إلى وضعها الأخير كما سجلها تاريخ التشريع. فقامت الحدود، وفرضت الزكاة والصيام، وزيدت ركعات الصلاة لأول العهد بيثرب. عن عائشة: فرضت الصلاة أوّل ما فرضت ركعتين، فأقرّت صلاة السّفر، وزيد في صلاة الحضر «1» . ومما يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بالسيدة عائشة في غضون السنة الأولى للهجرة، وكان قد عقد عليها قبل الهجرة «2» . وسنتحدّث عن تعدّد الزواج، وزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم في موضع اخر.

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 1/ 368- 369؛ ومسلم: 2/ 142- 143، عنها، وفي رواية للبخاري: 7/ 214، قالت: «فرضت الصلاة ركعتين؛ ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربع، وتركت صلاة السفر على الأولى» . (2) هذا معنى ما صحّ عن عائشة، قالت: تزوّجني رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفى خديجة قبل مخرجه إلى المدينة بسنتين أو ثلاث، وأنا بنت سبع سنين، فلمّا قدمنا المدينة جاءتني نسوة ... ثم أتين بي رسول الله، فبنى بي، وأنا بنت تسع سنين. رواه البخاري: 7/ 178، وأحمد: 6/ 280، واللفظ له؛ ومسلم أيضا: 4/ 140، وفي رواية له عنها: «تزوّجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوّال، وبني بي في شوّال ... » .

الكفاح الدامي

(6) الكفاح الدّامي

[مرحلة الإعداد للجهاد]

[مرحلة الإعداد للجهاد] دخل الإسلام المدينة وأحزاب الكفر تطارده من كل ناحية، فأوى المسلمون إلى مهجرهم كما يأوي الجنديّ إلى قلعته الشامخة، وأخذوا يستعدّون حتى لا تقتحم عليهم من أقطارها، وهم تعلّموا من السنين الغبر التي مرت عليهم في مكة أنّ الضعف مدرجة إلى الهوان، مزلقة إلى الفتنة، والمرء لا يقدّر العافية حق قدرها إلا بعد الإبلال من المرض، ولا يعرف قيمة الغنى إلا عند التخلص من ذلّ الحاجة. ومن أولى من المهاجرين والأنصار بالإفادة من عبر الماضي؟. ذلك نبيّهم تعقّبه القتلة ألف ميل ليغتالوه، وذلك سواد المهاجرين نهب مالهم، وسلبت دورهم، وشرّدوا من البلد الحرام. إنّ «حالة الحرب» قائمة يقينا بين طغاة مكة وبين المسلمين في وطنهم الجديد، ومن السفه تحميل المسلمين أوزار هذا الخصام. على أنّ العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه تجاوزت قريشا إلى غيرهم من مشركي الجزيرة الضالة، ولن تذهب الفروض بنا بعيدا، فإنّ عبدة الأصنام من أهل المدينة نفسها شرعوا يجاهرون بخصومتهم للإسلام، وانضمّ إلى هؤلاء وأولئك اليهود الذين أوجسوا خيفة من انتشار هذا الدين واندحار الوثنية العربية أمامه. فما بدّ- إذا- من التأهّب لكلّ طارئ، والتربّص بكلّ هاجم، وتجهيز القوة التي تؤدّب المجرمين يوم يتطاولون. والقتال الذي شرعه الإسلام وخاض معاركه الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته هو أشرف أنواع الجهاد، وقد بيّنا في كتبنا الاخرى «1» بالاستدلال العلمي والاستقراء التاريخي؛ أنّ الحروب التي اشتبك فيها الإسلام- على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه- كانت فريضة لحماية الحق، وردّ المظالم، وقمع العدوان، وكسر الجبابرة.

_ (1) انظر: الإسلام والاستبداد السياسي؛ التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام.

[تمارين ومناورات ومعارك] :

أما تخرّص المستشرقين والحقدة على الإسلام من أهل الأديان الاخرى، والادّعاء بأن المسلمين جنحوا إلى القوة حيث لا مبرر لها، فذلك كلّه لغو طائش، وهو جزء من الحملة المدبّرة لمحو الإسلام من الأرض، واستبقاء أهله عبيدا للصليبية والصهيونية وما إليهما. وما من أيام القتال فيهنّ أوجب على المسلمين من أيام يهدّد فيها الإسلام واله بالفناء، وتتألّب عليه شتّى القوى، بل يصطلح ضدّه الخصوم الألداء، محاولين سحقه إلى الأبد. وقد وقع ذلك في صدر الإسلام قبل الهجرة وبعدها، ووقع في هذه الأيام، فسقطت أوطان الإسلام في أيدي لصوص الأرض، ثم رسمت أخبث السياسات للذهاب به رويدا رويدا. فكيف تستغرب الدعوة إلى التسلّح، والإهابة بأهل النجدة أن يوطّنوا أنفسهم على التضحية في سبيل الله. كيف تستنكر صناعة الموت في أمة يتواثب حولها الجزّارون من كلّ فجّ؟ كلّا، كلّا. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الأنفال] . [تمارين ومناورات ومعارك] : وتمشيا مع توجيه الوحي، وسياسة الواقع، وحفاظا على حق الله وحق الحياة؛ درّب النبيّ صلى الله عليه وسلم رجاله على فنون الحرب، واشترك معهم في التمارين والمناورات والمعارك، وعدّ السعي في هذه الميادين خطوات إلى أجلّ القرب وأقدس العبادات، لعلّه بذلك يفل شوكة الكفر، ويكسر عن المسلمين أذاه: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) [النساء] . عن عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول:

«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60] ، ألا إنّ القوة الرّمي، ألا إنّ القوة الرّمي، ألا إنّ القوة الرّمي» «1» . والحديث ينوّه بما لإصابة الأهداف من أثر حاسم في كسب المعارك. والرمي أعمّ من أن يكون بالسهم أو بالرصاص أو بالقنابل. وعن فقيم اللخمي، قال: قلت لعقبة بن عامر: تختلف بين هذين الغرضين تتردّد بينهما- وأنت شيخ كبير يشقّ عليك؟ قال عقبة: لولا كلام سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعانه، قال: وما ذاك؟ قال: سمعته يقول: «من تعلّم الرّمي ثمّ تركه، فليس منّا!» «2» . فانظر كيف يبقى الشيوخ المسنّون على دربتهم في إصابة الهدف، ومهارة اليد، ونشاط الحركة، إنّ الإسلام يفترض المقدرة على القتال، فيوجبها على الشباب والشيوخ جميعا. وعن أبي نجيح السّلميّ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بلغ بسهم، فهو له درجة في الجنّة» ، فبلغت يومئذ عشرة أسهم، وسمعته يقول: «من رمى بسهم في سبيل الله، فهو عدل رقبة محرّرة» «3» . وعن عقبة بن عامر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله عز وجلّ ليدخل بالسّهم الواحد ثلاثة نفر الجنّة: 1- صانعه يحتسب في عمله الخير، 2- والرّامي به، 3- ومنبله، الممدّ به، فارموا واركبوا. وأن ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا، كلّ لهو باطل، ليس من اللهو محمودا إلا ثلاثة: 1- تأديب الرّجل فرسه، تركبوا، كلّ لهو باطل، ليس من اللهو محمودا إلا ثلاثة: 1- تأديب الرّجل فرسه،

_ (1) حديث صحيح، أخرجه مسلم: 6/ 52؛ وأبو داود: 1/ 394؛ والترمذي: 3/ 112؛ وابن ماجه: 2/ 188؛ وأحمد: 4/ 157، من حديث عقبة بن عامر؛ وصححه الحاكم: 2/ 138، على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. (2) حديث صحيح، أخرجه مسلم: 6/ 52؛ وروى الجملة الأخيرة منه أصحاب السنن من طريق أخرى يأتي الكلام عليها. (3) حديث صحيح، أخرجه أبو داود: 2/ 165؛ والنسائي: 2/ 59؛ وأحمد: 4/ 384؛ والحاكم: 2/ 95، وقال: «صحيح على شرط الشيخين» ووافقه الذهبي، وإنما هو على شرط مسلم واحده، فإنّ تابعيه معدان بن أبي طلحة لم يخرّج له البخاري، وروى عنه الترمذي: 3/ 7، الجملة الأخيرة، وقال: «حديث حسن صحيح» ، وكذلك رواه ابن ماجه: 2/ 188، نحوه، لكن من طريق أخرى، وهو رواية للحاكم: 2/ 96؛ وكذا النسائي: 2/ 60.

2- وملاعبته أهله، 3- ورميه بقوسه، فإنهنّ من الحقّ، ومن ترك الرّمي بعد ما علمه رغبة عنه، فإنّها نعمة تركها أو كفرها» «1» . وعن ابن عمر: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والغنيمة» «2» . وهذا ترغيب من رسول الله عليه الصلاة والسلام في تعليم الفروسية، وإبراز لون معيّن من ألوان القتال، لا يحطّ من قيمة الألوان الاخرى، أو يؤخّر منزلتها. ألا ترى كيف حضّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على تعلّم القتال في البحر فقال: «غزوة في البحر خير من عشر غزوات في البرّ، ومن أجاز البحر فكأنما أجاز الأودية كلّها، والمائد فيه- الذي يصيبه الدّوار والقيء- كالمتشحّط في دمه» «3» . والدول تحتاج إلى الكتائب في البر، والأساطيل في البحر والجو، وكلّ سلاح عون لأخيه في إدراك النصر، وأسبق الجند إلى رضوان الله أعظمهم نيلا من العدو، وأرعاهم لذمام أمته وشرف عقيدته، سواء مشى، أم رمى، أم أبحر، أم طار.

_ (1) في سنده اضطراب كما قال الحافظ العراقي في (تخريج الإحياء: 2/ 252) ، وبيانه: أنّه رواه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي سلام، عن خالد بن زيد، عن عقبة به، أخرجه أبو داود: 1/ 393- 394؛ والنسائي: 2/ 120؛ والحاكم: 2/ 95؛ وأحمد: 4/ 146، 148. وخالفه يحيى بن أبي كثير فقال: حدثنا أبو سلام عبد الله الأزرق، عن عقبة بن عامر، أخرجه الترمذي: 3/ 6؛ وابن ماجه: 2/ 188؛ وأحمد: 4/ 144، 148، وقال الترمذي: «حديث حسن» ، وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» ، ووافقه الذهبي، وكأنّهم لم يقفوا على هذا الاضطراب الذي نبّه عليه الحافظ العراقي رحمه الله؛ وأيضا فإنّ فيه علة أخرى. هي جهالة خالد بن زيد وعبد الله بن الأزرق، وهو ابن زيد بن الأزرق، فسواء كانت الرواية عن هذا أو ذاك فهي معلولة للجهالة، نعم ذكر الحاكم للحديث شاهدا من حديث أبي هريرة، وقال: إنه صحيح على شرط مسلم، فتعقبه الذهبي بأنّ فيه سويد بن عبد العزيز وهو متروك. (2) حديث صحيح مرفوع، أخرجه البخاري: 6/ 41، 43؛ ومسلم: 6/ 31، 32، من حديث ابن عمر، وعروة البارقي، وليس في حديث ابن عمر: «الأجر والغنيمة» ، فلو عزي الحديث لعروة كان أولى. (3) حديث صحيح، أخرجه الحاكم: 2/ 143، من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: «صحيح على شرط البخاري» ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. وإعلال المناوي له تبعا لابن الجوزي بأنّ فيه خالد بن يزيد؛ يروي الموضوعات عن الأثبات خطأ فاحش، لأن خالدا هذا، لا ذكر له في سند الحديث عند الحاكم، فالظاهر أنه عند غيره ممن خرّج الحديث، وبعد وروده من طريق اخر صحيح، لا يضرّه رواية أحد المتهمين له.

سرايا

سرايا فلمّا استقرّ أمر المسلمين، أخذوا يرسلون سراياهم المسلّحة تجوس خلال الصحراء المجاورة، وتخترق طريق القوافل المارة بين مكة والشام، وتستطلع أحوال القبائل الضاربة هنا وهناك: 1- ففي رمضان من السنة الأولى التقى (حمزة بن عبد المطلب) في ثلاثين من المسلمين، بأبي جهل يقود قافلة لقريش، ومعه ثلاثمئة راكب، وقد حجز بينهما مجديّ بن عمرو الجهني فلم يقع قتال. 2- وفي شوال من السنة نفسها، سار (عبيدة بن الحارث) في ستين راكبا إلى وادي رابغ، فالتقى بمئتي مشرك، على رأسهم أبو سفيان، وقد ترامى الفريقان بالنبل، ولم يقع قتال. 3- وفي ذي القعدة خرج (سعد بن أبي وقاص) في نحو عشرين رجلا يعترض عيرا لقريش ففاتته. 4- وفي صفر من السنة الثانية خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه بعد أن استخلف سعد بن عبادة على المدينة، وسار حتى بلغ ودّان يريد قريشا وبني ضمرة، فلم يلق قريشا، وعقد حلفا مع بني ضمرة. 5- وفي ربيع الأول من السنة نفسها خرج الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس مئتين من المهاجرين والأنصار إلى (بواط) معترضا عيرا لقريش يقودها أمية بن خلف، ومعه مئة من المشركين ففاتته. 6- وفي جمادى خرج إلى العشيرة من بطن (ينبع) ، وأقام شهرا صالح فيه بني مدلج. 7- ثم أغار كرز بن جابر الفهري على المدينة واستاق سرحها، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى بلغ وادي سفوان قريبا من (بدر) ، فلم يدركه، ويسمّي المؤرّخون هذه (غزوة بدر الأولى) .

[حكمة بعث السرايا] :

[حكمة بعث السرايا] : والحكمة في توجيه هذه السرايا على ذلك النحو المتتابع تتلخّص في أمرين: أولهما: إشعار مشركي يثرب ويهودها وأعراب البادية الضاربين حولها بأن المسلمين أقوياء، وأنهم تخلّصوا من ضعفهم القديم؛ ذلك الضعف الذي مكّن قريشا في مكة من مصادرة عقائدهم وحرياتهم، واغتصاب دورهم وأموالهم، ومن حق المسلمين أن يعنوا بهذه المظاهرات العسكرية على ضالة شأنها، فإن المتربّصين بالإسلام في المدينة كثر، ولن يصدّهم عن النيل منه إلّا الخوف واحده؛ وهذا تفسير قوله تعالى: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال: 60] . والصنف الأخير هم المنافقون الذين يبطنون البغضاء للإسلام وأهله، ولا يمنعهم من إعلان السخط عليه إلا الجبن وسوء المغبة، أمّا الأوّلون فهم المشركون ولصوص الصحراء وأشباههم ممن لا يبالون- لولا هذه السرايا- الهجوم على المدينة واستباحة حماها. وقد كان من الجائز أن تتكرّر حادثة (كرز بن جابر) السابقة، ويتجرّأ البدو على تهديد المدينة حينا بعد حين؛ غير أنّ هذه السرايا الزاحفة قتلت نيات الطمع وحفظت هيبة المسلمين. والأمر الاخر: - في حكمة بعث السرايا- إنذار قريش عقبى طيشها؛ فقد حاربت الإسلام، ولا تزال تحاربه، ونكّلت بالمسلمين في مكة، ثم ظلت ماضية في غيّها، لا تسمح لأحد من أهل مكة أن يدخل في دين الله، ولا تسمح لهذا الدين أن يجد قرارا في بقعة أخرى من الأرض، فأحبّ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشعر حكام مكة بأن هذه الخطة الجائرة ستلحق بهم الأضرار الفادحة، وأنه قد مضى إلى غير عودة- ذلك العصر الذي كانوا يعتدون فيه على المؤمنين وهم بمأمن من القصاص. والمستشرقون الأوروبيون ينظرون إلى هذه السرايا كأنها ضرب من قطع الطريق، وهذه النظرة صورة للحقد الذي يعمي عن الحقائق، ويتيح للهوى أن يتكلّم ويحكم كيف يشاء.

سرية عبد الله بن جحش:

وقد ذكّرني هذا الاستشراق المغرض بما حكوه عند قمع الإنكليز لثورة الأهلين في إفريقية الوسطى- مستعمرة كينية- وهم يطلبون الحرية لوطنهم ويحاولون إجلاء الأجانب عنه. قال جندي إنكليزي لاخر- يصف هؤلاء الإفريقيين-: إنهم وحوش، تصوّر أنّ أحدهم عضّني وأنا أقتله!!!. إن هذه الأضحوكة صورة من تفكير المستشرقين في إنصاف أهل مكة والنعي على الإسلام وأهله. سرية عبد الله بن جحش: وفي رجب من السنة الثانية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم (عبد الله بن جحش) في رهط من المهاجرين، وكتب له كتابا، وأمره ألا ينظر فيه إلا بعد يومين من مسيره. فإذا نظر فيه، ووعى ما كلّفه الرسول صلى الله عليه وسلم به مضى في تنفيذه غير مستكره أحدا من أصحابه، فسار عبد الله، ثم قرأ الكتاب بعد يومين، فإذا فيه: امض حتى تنزل (نخلة) بين مكة والطائف، فترصّد بها قريشا، وتعلّم لنا من أخبارهم. فقال عبد الله: سمعا وطاعة، وأطلع أصحابه على كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم، قائلا: إنه نهاني أن أستكره أحدا منكم، فمن كان يريد الشهادة، ويرغب فيها، فلينطلق معي، ومن كره ذلك فليرجع.. فلم يتخلّف منهم أحد، غير أنّ البعير الذي كان يعتقبه (سعد بن أبي وقاص) و (عتبة بن غزوان) ، ندّ منهما، فشغلا بطلبه، ومضى عبد الله برفاقه حتى نزل أرض (نخلة) ، فمرّت عير قريش، فهاجمها عبد الله ومن معه، فقتل في هذه المعركة (عمرو بن الحضرمي) ، وأسر اثنان من المشركين، وعاد عبد الله بن جحش بالقافلة والأسيرين إلى المدينة. ويظهر أن هذا القتال وقع في اخر رجب، أي في الشهر الحرام. فلمّا قدمت السرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أمرتكم بقتال في الشّهر الحرام» ، ووقف التصرف في العير والأسيرين. ووجد المشركون فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم قد أحلوا ما حرم الله، وكثر في ذلك القيل والقال، حتى نزل الوحي حاسما هذه الأقاويل ومؤيدا مسلك عبد الله تجاه المشركين:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 217] «1» . إنّ الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها، فإنّ الحرمات المقدسة قد انتهكت كلّها في محاربة الإسلام، واضطهاد أهله! فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرّة وشناعة؟. ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرّر قتل نبيّهم، وسلب أموالهم؟. لكنّ بعض الناس يرفع القوانين إلى السماء عند ما تكون في مصلحته. فإذا رأى هذه المصلحة مهددة بما ينتقضها هدم القوانين والدساتير جميعا. فالقانون المرعي- عنده في الحقيقة- هو مقتضيات هذه المصلحة الخاصة فحسب. وقد أوضح الله عز وجلّ أنّ المشركين لن يحجزهم شهر حرام أو بلد حرام عن المضي في خطتهم الأصيلة، وهي سحق المسلمين؛ حتى لا تقوم لدينهم قائمة فقال: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا [البقرة: 217] . ثم حذّر المسلمين من الهزيمة أمام هذه القوى الباغية والتفريط في الإيمان الذي شرّفهم الله به، وناط سعادتهم في الدنيا والاخرة بالبقاء عليه فقال:

_ (1) أورده ابن هشام: 2/ 59- 60، عن ابن إسحاق. قال ابن إسحاق في اخره: «والحديث في هذا عن الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير» ، وقد رواه البيهقي في (سننه الكبرى) : 9/ 12، بسند صحيح عن الزهري، عن عروة مرسلا به، ولكنّه لم يسق الحديث بتمامه، بل طرفا من أوله، ثم أحال على باقيه، وقد وصله هو وابن أبي حاتم من طريق سليمان التميمي، عن الحضرمي، عن أبي السوار، عن جندب بن عبد الله به مختصرا، وليس فيه قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» ، وسنده صحيح إن كان الحضرميّ هذا هو ابن لاحق، فقد قيل: إنه غيره، وإنه مجهول ورجّحه الحافظ في التهذيب، والله أعلم، ثم رأيت البيهقيّ قد ساق في موضع اخر من السنن: 9/ 58- 59، حديث عروة بتمامه وفيه: «ما أمرتكم..» .

وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة: 217] . وزكّى القران عمل (عبد الله) وصحبه، فقد نفّذوا أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم بأمانة وشجاعة، وتوغّلوا في أرض العدو مسافات شاسعة، متعرضين للقتل في سبيل الله، متطوعين لذلك من غير مكره أو محرج. فكيف يجزون على هذا بالتقريع والتخويف؟ قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) [البقرة] . والقران الذي نزل في فعال هذه السرية لم يدع مجالا للهوادة مع المشركين المعتدين؛ مما كان له أثره البعيد لدى المسلمين وخصومهم. فبعد أن كان أغلب المكتتبين في السرايا السابقة من المهاجرين، أخذت البعوث الخارجة تتألّف من المهاجرين والأنصار معا. وزاد الشعور بأنّ الكفاح المرتقب قد يطول مداه، وتكثر تبعاته، ولكنّه كفاح مستحبّ، مقرون بالخير العاجل والاجل. وأدركت مكة أنها مؤاخذة بما جدّ أو يجدّ من سيئاتها، وأنّ تجارتها مع الشام أمست تحت رحمة المسلمين. وهكذا اتسعت الهوة، وزادت بين الفريقين الجفوة. وكأن هذه الأحداث الشداد هي المقدمة لما أعدّه القدر بعد شهر واحد من وقوعها، عند ما جمع رجالات مكة وخيرة أهل المدينة على موعد غير منظور في (بدر) .

معركة بدر

معركة بدر ترامت الأنباء إلى (يثرب) أنّ قافلة ضخمة لقريش تهبط من مشارف الشام عائدة إلى مكة، تحمل لأهلها الثروة الطائلة؛ ألف بعير موقرة بالأموال يقودها أبو سفيان بن حرب مع رجال لا يزيدون عن الثلاثين أو الأربعين!. إن الضربة التي تنزل بأهل مكة- لو فقدوا هذه الثروة- موجعة حقا، وفيها عوض كامل لما لحق المسلمين من خسائر في أثناء هجرتهم الأخيرة، لذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام لأصحابه: «هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعلّ الله ينفلكموها» «1» . لم يعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على أحد بالخروج، ولم يستحثّ متخلّفا، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة ثم سار- بعد- بمن أمكنه الخروج. وكان الذين صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المرة يحسبون أن مضيّهم في هذا الوجه لن يعدوا ما ألفوا في السرايا الماضية، ولم يدر بخلد واحد منهم أنه مقبل على يوم من أخطر أيّام الإسلام! ولو علموا لاتخذوا أهبتهم كاملة، ولما سمح لمسلم أن يبقى في المدينة لحظة؛ لذلك فترت الهمم عند ما وردت أخبار أخرى بأنّ القافلة المطلوبة غيّرت طريقها، واستطاع قائدها (أبو سفيان) أن ينجو من الخطر المحدق به، بعد أن أرسل إلى أهل مكة يستنفرهم لحماية أموالهم، ويستثير حميتهم للخروج في تعبئة ترد كل هجوم. وغالب النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الفتور العارض، وحذّر صحابته من عقبى العود السريع إلى المدينة إن فاتهم مال مكة وخرج إليهم رجالها!. وأصرّ على ضرورة تعقّب المشركين كيف كانوا. وذلك قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

_ (1) حديث صحيح، رواه ابن هشام: 2/ 61، عن ابن إسحاق بسنده الصحيح عن ابن عباس.

[فرار أبي سفيان بالقافلة، واستصراخه أهل مكة] :

لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) [الأنفال] . والذين كرهوا لقاء قريش ما كانوا ليهابوا الموت، ولكنّهم لم يعرفوا الحكمة في خوض معركة مباغتة دون إتقان ما ينبغي لها من عدة وعدد، بيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وزن الظروف الملابسة للأمر كله، فوجد الإقدام خيرا من الإحجام، ومن ثمّ قرر أن يمضي، فإنّ الحكمة من توجيه هذه البعوث المسلحة تضيع سدى لو عاد على هذا النحو. وقد اختفت- على عجل- مشاعر التردّد، وانطلق الجميع خفافا إلى غايتهم. والمسير بإزاء طريق القوافل إلى (بدر) ليس سفرا قاصدا، أو نزهة لطيفة، فالمسافة بين (المدينة) و (بدر) تربو على (160) كيلو مترا، ولم يكن مع الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه غير سبعين بعيرا يعتقبونها. روى أحمد «1» عن عبد الله بن مسعود، قال: «كنّا يوم بدر، كلّ ثلاثة على بعير- أيّ يتعاقبون-. وكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا له: نحن نمشي عنك- ليظلّ راكبا- فقال: «ما أنتما بأقوى منّي على المشي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما» !!. وبثّ المسلمون عيونهم يتعرّفون أخبار قريش: أين القافلة، وأين الرجال الذين قدموا لحمايتها؟. [فرار أبي سفيان بالقافلة، واستصراخه أهل مكة] : حين أحسّ أبو سفيان الخطر على قافلته، بعث (ضمضم بن عمرو الغفاري) إلى مكة يستصرخ أهلها، حتى يسارعوا إلى استنقاذ أموالهم. واستطاع (ضمضم) هذا إزعاج البلدة قاطبة؛ فقد وقف على بعيره بعد أن جدع أنفه، وحوّل رحله، وشقّ قميصه، يصيح: يا معشر قريش! اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان عرض لها محمّد وأصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث!.

_ (1) في المسند، رقم (3901، 3965) ، وسنده حسن؛ وأخرجه الحاكم: 3/ 20، وقال: «حديث صحيح على شرط مسلم» .

فتجهّز الناس جميعا، فهم إما خارج وإما باعث مكانه رجلا، وانطلق سواد مكة وهو يغلي، يمتطي الصعب والذلول، فكانوا تسعمئة وخمسين مقاتلا، معهم مئتا فرس يقودونها، ومعهم القيان يضربن بالدفوف، ويغنين بهجاء المسلمين. وولوا وجوههم إلى الشمال، ليدركوا القافلة المارّة تجاه يثرب هابطة إليهم. لكنّ أبا سفيان لم يستنم في انتظار النجدة المقبلة، بل بذل أقصى ما لديه من حذر ودهاء لمخاتلة المسلمين، والإفلات من قبضتهم، وقد كاد يسقط بالعير جمعاء في أيديهم وهم يشتدون في مسيرهم نحو بدر، غير أنّ الحظّ أسعفه!. روي أنه لقي مجديّ بن عمرو فسأله: هل أحسست أحدا؟ فقال: ما رأيت أحدا أنكره؛ إلا أنّي رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شنّ لهما، ثم انطلقا، فأتى أبو سفيان مناخهما، وتناول بعرات من فضلات الراحلتين، ثم فتّها فإذا النوى، فقال: هذه- والله- علائف يثرب! وأدرك أنّ الرجلين من أصحاب محمّد، وأنّ جيشه هنا قريب. فرجع إلى العير يضرب وجهها عن الطريق شاردا نحو الساحل، تاركا بدرا إلى يساره ... فنجا. ورأى أبو سفيان أنه أحرز القافلة، فأرسل إلى قريش يقول: إنّما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجّاها الله، فارجعوا. فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم ثلاثا، ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا. وهذا الذي عالن به أبو جهل هو ما كان يحاذره الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن تدعيم مكانة قريش، وامتداد سطوتها في هذه البقاع- بعد أن فعلت بالمسلمين ما فعلت- يعتبر كارثة للإسلام ووقفا لنفوذه، وهل كانت السرايا تخرج من المدينة إلا لإعلاء كلمة الله، وتوهين كلمة الشرك، وإظهار عبدة الأصنام بمظهر الذي لا يملك نفعا ولا ضرا؟. لذلك لم يلتفت الرسول صلى الله عليه وسلم لفرار القافلة التفاته لضرورة التجول المسلح في هذه الأنحاء، إبرازا لهذه المعاني القوية، وتمكينا لصداها في القلوب.

[استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه] :

[استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه] : ومضت قريش في مسيرها مستجيبة لرأي (أبي جهل) ، حتى نزلت بالعدوة القصوى من وادي بدر، وكان المسلمون قد انتهوا من رحيلهم المضني إلى العدوة الدنيا. وهكذا اقترب كلا الفريقين من الاخر، وهو لا يدري ما وراء هذا اللقاء الرهيب. وهبط الليل، فأرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم عليا والزبير وسعدا يتحسّسون الأحوال، ويلتمسون الأخبار، فأصابوا غلامين لقريش كانا يمدّانهم بالماء، فأتوا بهما، وسألوهما- ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي- فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء. فكره القوم هذا الخبر، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان- لا تزال في نفوسهم بقايا أمل في الاستيلاء على القافلة! - فضربوهما ضربا موجعا، حتى اضطر الغلامان أن يقولا: نحن لأبي سفيان! فتركوهما؛ وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتيه وسلم وقال: «إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما!! صدقا والله إنّهما لقريش» . ثم قال للغلامين: «أخبراني عن قريش» ، قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما: «كم القوم؟» قالا: كثير، قال: «ما عدتهم؟» قالا: لا ندري، قال: «كم ينحرون كلّ يوم؟» قالا: يوما تسعا، ويوما عشرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القوم ما بين التسعمئة إلى الألف» ، ثم قال لهما: «فمن فيهم من أشراف قريش؟» قالا: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البختريّ بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وعمرو بن هشام، وأمية بن خلف ... إلخ. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: «هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» «1» .

_ (1) أخرجه ابن هشام: 2/ 65، عن ابن إسحاق، حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير بهذه القصة. وهذا إسناد صحيح، لكنّه مرسل. وقد رواه أحمد، رقم (948) من حديث علي بن أبي طالب، دون قوله: «ثم قال لهما..» وسنده صحيح، ورواه مسلم: 5/ 170، مختصرا من حديث أنس.

وانكشف وجه الجد في الأمر؛ إنّ اللقاء المرتقب سوف يكون مرّ المذاق، لقد أقبلت قريش تخبّ في خيلائها، تريد أن تعمل العمل الذي يرويه القصيد، وتذرع المطايا به البطاح، وتحسم به صراع خمسة عشر عاما مع الإسلام؛ لتنفرد بعدها- الوثنية بالحكم النافذ. ونظر الرسول صلى الله عليه وسلم حوله، فوجد أولئك المؤمنين بين مهاجر باع في سبيل الله نفسه وماله، وأنصاري ربط مصيره وحاضره بهذا الدين، الذي افتداه، واوى أصحابه؛ فأحبّ أن يشعر القوم بحقيقة الموقف، حتى يبصروا- على ضوئه- ما يفعلون. إنّ المرء قد تفجؤه أحداث عابرة- وهو ماض في طريقه- يحتاج في مواجهتها لأن يستجمع مواهبه، وأن يستحضر تجاربه، وأن يقف أمامها حادّ الانتباه، مرهف الأعصاب، وهذه الامتحانات المباغتة أدقّ في الحكم على الناس، وأدلّ على قيمهم من الامتحانات التي يعرفون ميعادها، ويتقدّمون إليها واثقين مستعدين، والمسلمون الذين خرجوا لأمر يسير، ما لبثوا أن ألفوا أنفسهم أمام امتحان شاقّ، تيقظت له مشاعرهم، فشرعوا يقلّبون- على عجل- تكاليفه ونتائجه، وثار منطق اليقين القديم، فأهاج القوم إلى الخطة الفذة التي لا محيص عنها لمؤمن. استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله! امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربّك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحقّ؛ لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتّى تبلغه!!. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له. ثم قال: «أشيروا عليّ أيها الناس» ، وإنّما يريد الأنصار، وذلك أنّهم كانوا عدد الناس، وأنّهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله! إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوّف ألّا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممّن

[دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالنصر] :

دهمه بالمدينة، فلما قال ذلك قال له سعد بن معاذ: والله لكأنّك تريدنا يا رسول الله! قال: «أجل» ، فقال: قد امنا بك وصدقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ، وأعطيناك على ذلك مواثيقنا على السّمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فو الذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا؛ إنّا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعلّ الله يريك منّا ما تقرّ به عينك، فسر على بركة الله. وفي رواية: لعلّك أن تكون خرجت لأمر، وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك فامض، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منّا كان أحبّ إلينا مما تركت. فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول (سعد) ، ونشّطه، ثم قال: «سيروا وأبشروا، فإنّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم» «1» . [دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالنصر] : تأهّب المسلمون لخوض المعركة، وعسكروا في أدنى ماء من بدر. فجاء الحباب بن المنذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت هذا المنزل،

_ (1) رواه ابن هشام: 2/ 63- 64، عن ابن إسحاق بدون إسناد. والرواية الاخرى أخرجها ابن مردويه من طريق محمد بن عمر، وابن علقمة بن وقاص الليثي، عن أبيه، عن جده، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، حتى إذا كان بالرّوحاء، خطب الناس، فقال: «كيف ترون؟» فقال أبو بكر ... الحديث نحوه، ذكره ابن كثير: 3/ 264، وهذا مرسل؛ وكذا رواه ابن أبي شيبة كما في (الفتح: 7/ 230) . وعن عبد الله بن مسعود قال: شهدت من المقداد بن الأسود- هو ابن عمرو- مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إليّ مما عدل به؛ أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، ولكنّا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه، وسرّه قوله؛ ورواه البخاري: 7/ 230؛ والحاكم: 3/ 349. وصحّحه، ووافقه الذهبي. وأحمد، رقم (3698، 4070، 4376) ؛ ورواه الطبراني من حديث أبي أيوب الأنصاري. قال الهيثمي 6/ 74: «وإسناده حسن» ، وفي حديث أنس المشار إليه انفا عند مسلم: قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا مصرع فلان» ؛ قال: ويضع يده على الأرض ههنا وههنا، قال: فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخّر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» ، قال: يا رسول الله! فإنّ هذا ليس بمنزل، امض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فنعسكر فيه، ثم نغوّر ما وراءه من الابار، ثم نبني عليه حوضا، فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أشرت بالرأي» ، ثم أمر بإنفاذه، فلم يجئ نصف الليل حتّى تحوّلوا كما رأى الحباب، وامتلكوا مواقع الماء «1» . وقضى المسلمون ليلا هادئ الأنفاس منير الافاق، غمرت الثقة قلوبهم وأخذوا من الراحة قسطهم، وتساقط عليهم مطر خفيف رطّب حولهم الجو وجعل نسائم الصباح تهب عليهم فتنعش صدورهم وتجدد أملهم، وكان الرمل تحت أقدامهم دهسا فتلبد وتماسك، وجعل حركتهم عليه ميسّرة. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) [الأنفال] . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفقّد الرجال، وينظّم الصفوف، ويسدي النصائح، ويذكّر بالله والدار الاخرة. ثم يعود إلى عريش هيّئ له، فيستغرق في الدعاء الخاشع، ويستغيث بأمداد الرحمن. ووقف أبو بكر إلى جوار الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو يكثر الابتهال والتضرّع، ويقول فيما يدعو به: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض» ، وجعل يهتف بربه عز وجلّ ويقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم نصرك!» ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط رداؤه عن منكبيه. وجعل أبو بكر يلتزمه من وراءه، ويسوّي عليه رداءه ويقول- مشفقا عليه من كثرة الابتهال-: يا رسول الله! بعض مناشدتك ربّك، فإنّه سينجز لك ما وعدك «2» .

_ (1) رواه ابن هشام: 2/ 66، عن ابن إسحاق، قال: فحدثت عن رجال من بني سلمة؛ أنّهم ذكروا أنّ الحباب ... وهذا سند ضعيف، لجهالة الواسطة بين ابن إسحاق والرجال من بني سلمة. وقد وصله الحاكم: 3/ 426، 427، من حديث الحباب، وفي سنده من لم أعرفه، وقال الذهبي في (التلخيص) : «قلت: حديث منكر وسنده» كذا الأصل، ولعلّه سقط منه «واه» أو نحوه؛ ورواه الأموي من حديث ابن عباس كما في البداية: 3/ 267، وفيه الكلبي وهو كذّاب. (2) حديث صحيح، أخرجه مسلم: 5/ 156- 157؛ وأحمد، رقم (208، 221) من حديث-

[بداية المعركة] :

[بداية المعركة] : وتزاحف الجمعان، وبدأ الهجوم من قبل المشركين، إذ هجم الأسود بن عبد الأسد على الحوض الذي بناه المسلمون قائلا: أعاهد الله لأشربنّ من حوضهم أو لأهدمنّه، أو لأموتنّ دونه، فتصدّى له حمزة بن عبد المطلب، فضربه ضربة أطارت نصف ساقه، ومع ذلك حبا إلى الحوض يبغي اقتحامه، وتبعه حمزة يقاتله حتى قتله فيه!. وبرز من المشركين عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، فخرج للقائهم فتية من الأنصار، فنادوا: يا محمد! أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، - وقيل: إنّ الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه هو الذي استرجع أولئك الأنصار رغبة منه أن تكون عشيرته أول من يواجه العدوّ في مثل هذا الموقف- فقال: «قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا عليّ» ، فبارز عبيدة عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز عليّ الوليد. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وكذلك فعل علي مع خصمه، وأما عبيدة وعتبة فقد جرح كلاهما الاخر، فكرّ حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فأجهزا عليه، واحتملا صاحبهما «1» ، فجاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفرشه الرسول قدمه، فوضع خدّه على قدمه الشريف، وقال: يا رسول الله! لو راني أبو طالب لعلم أنّي أحقّ بقوله: ونسلمه حتى نصرّع دونه ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل ثم أسلم الروح «2» .. واستشاط الكفّار غضبا للبداية السيئة التي صادفتهم، فأمطروا المسلمين وابلا من سهامهم، ثم حمي الوطيس، وتهاوت السيوف، وتصايح المسلمون:

_ - عمر بن الخطاب، وبعضه في البخاري: 7/ 231، من حديث ابن عباس. (1) روى القصة إلى هنا ابن هشام: 2/ 67، عن ابن إسحاق بدون إسناد؛ ورواها أبو داود: 1/ 416، من حديث علي بدون قصة الأسود، وإسناده صحيح؛ وكذلك رواه أحمد، رقم (948) . (2) وهذا القدر أورده ابن كثير: 3/ 274، وقال: رواه الشافعي، ولم يذكر عمّن؛ ورواه بنحوه الحاكم: 3/ 188، من حديث ابن شهاب مرسلا، وليس فيه: «ثم أسلم الروح» ، ويدلّ على ضعف هذه الزيادة أنّ الحاكم روى من حديث ابن عباس أن عبيدة بن الحارث مات بالصّفراء منصرفه من بدر، فدفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك، وسنده حسن، وصحّحه الحاكم ووافقه الذهبي.

أحد أحد، وأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكسروا هجمات المشركين؛ وهم مرابطون في مواقعهم وقال: «إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنّبل، ولا تحملوا عليهم حتى تؤذنوا» «1» . فلما اتسع نطاق المعركة، واقتربت من قمتها، كان المسلمون قد استنفدوا جهد أعدائهم، وألحقوا بهم خسائر جسيمة. والنبي صلى الله عليه وسلم في عريشه يدعو الله، ويرقب بطولة رجاله وجلدهم. قال ابن إسحاق «2» : خفق النبي عليه الصلاة والسلام خفقة في العريش ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر! أتاك نصر الله؛ فهذا جبريل اخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النّقع!!» . لقد انعقد الغبار فوق رؤوس المقاتلين، وهم بين كرّ وفرّ، جند الحق يستبسلون لنصرة الرحمن، وجند الباطل قد ملكهم الغرور، فأغراهم أن يغالبوا القدر. فلا عجب إذا نزلت ملائكة الخير، تنفث في قلوب المسلمين روح اليقين، وتحضّهم على الثبات والإقدام. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانه إلى الناس، فحرّضهم قائلا: «والذي نفس محمّد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر؛ إلا أدخله الله الجنّة» . إنّ التأميل في الاخرة هو بضاعة الأنبياء، وهل لأصحاب العقائد وفداة الحق من راحة إلا هناك؟. وعمل هذا التحريض عمله في القلوب المؤمنة. روى أحمد «3» : أنّ المشركين لما دنوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:

_ (1) رواه ابن إسحاق: 2/ 68، بدون سند؛ وفي البخاري: 7/ 245، عن أبي أسيد: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «إذ أكثبوكم فارموهم واستبقوا نبلكم» . قلت: «أكثبوكم» : دنوا منكم. (ن) . (2) في (المغازي) ، وعند ابن هشام: 2/ 68- 69، بدون سند؛ لكن وصله الأموي من طريق ابن إسحاق، حدثني الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير؛ وهذا سند حسن، وسكت عنه ابن كثير: 3/ 284. (3) في المسند: 3/ 136- 137، بدون الأبيات. وكذلك أخرجه مسلم: 6/ 44- 45؛-

[مقتل أبي جهل] :

«قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» ! فقال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله! جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: «نعم» . قال: بخ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يحملك على قول: بخ بخ؟» قال: لا والله يا رسول الله! إلّا رجاء أن أكون من أهلها! قال: «فإنّك من أهلها» .. فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهنّ، ثم قال: لئن أنا حييت حتى اكل تمراتي هذه إنّها حياة طويلة، فرمى ما كان معه من التمر، ثم قاتلهم وهو يقول: ركضا إلى الله بغير زاد ... إلّا التّقى وعمل المعاد والصّبر في الله على الجهاد ... وكلّ زاد عرضة النّفاد غير التّقى والبرّ والرشاد فما زال حتى قتل!. ووهت صفوف المشركين تحت مطارق هذا الإيمان الزاهد في متاع الحياة الدنيا، وراعهم محمّد عليه الصلاة والسلام وقد نزل بنفسه إلى الميدان يقاتل أشدّ القتال، ومعه أصحابه، يشتدون نحو عدوهم لا يبالون شيئا، فانكسرت قريش، وأخذها الفزع. وصاح النبيّ عليه الصلاة والسلام- وهو يرى كبرياء الكفر تمرّغ في التراب-: «شاهت الوجوه ... » «1» . فانهزمت قريش.. وذلك قول الله في كتابه: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) [الأنفال] . [مقتل أبي جهل] : وحاول (أبو جهل) أن يوقف سيل الهزيمة النازل بقومه، فأقبل يصرخ بهم

_ - والحاكم: 3/ 426، مستدركا على مسلم فوهم. أخرجوه كلهم من حديث أنس، مسلم أيضا من حديث البراء مختصرا. أما الأبيات فعزاها الحافظ ابن كثير: 3/ 277، لابن جرير. (1) حديث حسن، وهو من رواية عبد الله بن ثعلب المتقدمة، وله شاهد من حديث حكيم بن حزام، قال الهيثمي 6/ 84: «رواه الطبراني، وإسناده حسن» .

وغشاوة الغرور ضاربة على عينيه: واللات والعزّى، لا نرجع حتى نفرّقهم في الجبال، خذوهم أخذا. وماذا تفعل صيحات الطيش بإزاء الحقائق المكتسحة؟! لكنّ أبا جهل والحق يقال-: كان تمثالا للعناد إلى اخر رمق، والطمس المنسوج على بصيرته جزء من كيانه، لا ينفك عنه أبدا؛ لذلك أقبل يقاتل في شراسة وغضب وهو يقول: ما تنقم الحرب الشّموس منّي؟ ... بازل عامين حديث سنّي لمثل هذا ولدتني أمّي وأحاطت به فلول المشركين يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، فكان بينهم وسط غابة ملتفّة. بيد أنّ هذه الغابة لم تلبث أن تهاوت جذعا جذعا أمام حماس المؤمنين، الذين اشتدّ بأسهم، وأغرتهم بشائر الفوز، وساد هتافهم الموقعة، وهم يقولون: أحد أحد!. قال عبد الرحمن بن عوف: إنّي لفي الصفّ يوم بدر، إذ التفتّ، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأنّي لم امن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه: يا عمّ، أرني أبا جهل، فقلت: يا بن أخي! ما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله، أو أموت دونه! وقال لي الاخر سرّا من صاحبه مثله. قال: فما سرّني أنّني بين رجلين مكانهما. فأشرت لهما إليه، فشدّا عليه مثل الصّقرين، فضرباه حتى قتلاه، وهما ابنا عفراء «1» . ويظهر أنهما تركاه بين الحياة والموت، وقد استشهد البطلان في هذه الواقعة، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصرعهما يدعو لهما ويذكر صنيعهما «2» .

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 246؛ ومسلم: 5/ 148- 149؛ وأحمد، رقم (1673) ؛ واستدركه الحاكم: 3/ 425، فوهم، قوله: «وهما ابنا عفراء» هكذا في رواية البخاري، وعند الاخرين: «والرجلين معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء» وهي رواية البخاري: 6/ 189- 190، فلعل الرواية الأولى على طريقة التغليب. وانظر: الفتح: 7/ 236. (2) الجزم بهذا خطأ بيّن، لأنه من رواية الواقدي بدون سند. كما في ابن كثير: 3/ 289، وحتى لو ساق سنده وكان رجاله ثقات لم يصح؛ لأنّ الواقدي متهم بالكذب. ويدل على-

[بشاشة الفوز تضحك للمؤمنين] :

أما أبو جهل فقد سقط مكانه يلفظ أنفاسه، وتفرّق المشركون بعده بددا، وتركوا سيقانهم للريح تبعثرهم في فجاج الصحراء، كما تبعثر كثيبا من الرمل المنهار. ومرّ عبد الله بن مسعود بالقتلى، فوجد أبا جهل فيهم لا يزال به رمق، فجثم على صدره يبغي الإجهاز عليه، وتحرّك أبو جهل يسأل: لمن الدائرة اليوم؟ فقال عبد الله: لله ورسوله، ثم استتلى عبد الله: هل أخزاك الله يا عدو الله؟! قال له: وبماذا أخزاني؟! هل أعمد من رجل قتله قومه؟! وتفرّس في عبد الله، ثم قال له: ألست رويعينا بمكة؟!. فجعل عبد الله يهوي عليه بسيفه حتى خمد «1» . ولقي مثل هذا المصير الفاجع سبعون صنديدا من رؤوس الكفر بمكة، دارت عليهم كؤوس الردى فتجرّعوها صاغرين، وسقط في الأسر سبعون كذلك، وفرّ بقية التسعمئة والخمسين يروون لمن خلفهم أنّ الظلم مرتعه وخيم، وأن البطر يجر في أعقابه الخزي والعار. [بشاشة الفوز تضحك للمؤمنين] : وفتح المسلمون عيونهم على بشاشة الفوز تضحك لهم خلال الأرض والسماء. إنّ هذا الظفر المتاح رد عليهم الحياة والأمل والكرامة، وخلّصهم من أغلال ثقال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) [ال عمران] . وكانت عدة من استشهد منهم أربعة عشر رجلا، استأثرت بهم رحمة الله، فذهبوا إلى عليّين. ثبت عن أنس بن مالك: أن حارثة بن سراقة قتل يوم بدر، وكان في

_ - ضعف هذه الرواية أنّ معاذ بن عمرو مات في زمن عثمان، كما جزم به البخاري وغيره. (راجع: ابن هشام: 2/ 72) . (1) رواه بنحوه ابن هشام: 2/ 72، عن ابن إسحاق بدون إسناد، وبعضه في المسند، رقم (4246) ، والبيهقي: 9/ 62، عن ابن مسعود بسند منقطع، وقصة قتل ابن مسعود لأبي جهل صحيحة رواها البخاري: 7/ 235؛ ومسلم: 5/ 183- 184؛ وأحمد: 3/ 115، 129، 236، من حديث أنس.

النظّارة، أصابه سهم طائش فقتله، فجاءت أمه فقالت: يا رسول الله! أخبرني عن حارثة؟ فإن كان في الجنة صبرت، وإلا فليرينّ الله ما أصنع- تعني من النياحة- وكانت لم تحرّم بعد!! فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: «ويحك أهبلت؟ إنّها جنان ثمان، وإنّ ابنك أصاب الفردوس الأعلى ... » «1» . فإذا كان هذا جزاء النظّارة الذين اختطفتهم سهام طائشة، فكيف بمن خاض إلى المنايا الغمرات الصعاب؟!. في هذه المعركة التقى الاباء بالأبناء، والإخوة بالإخوة، خالفت بينهم المبادئ، ففصلت بينهم السيوف، وفي عصرنا هذا قاتل الشيوعيون مواطنيهم، ومزّقوا أغلى الأواصر الإنسانية في سبيل ما يعتقدون؛ فلا عجب إذا رأيت الابن المؤمن يغاضب أباه الملحد، ويخاصمه في ذات الله!! والقتال الذي دار ب (بدر) سجّل صورا من هذا النوع الحاد: كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابنه عبد الرحمن يقاتله مع أبي جهل، وكان عتبة بن ربيعة أول من بارز المسلمين، وكان ولده أبو حذيفة من خيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سحبت جثّة عتبة لترمى في القليب نظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أبي حذيفة فإذا هو كثيب، قد تغيّر لونه، فقال له: «يا أبا حذيفة! لعلّك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟» فقال: لا والله يا رسول الله! ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكنّي كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلمّا رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك!. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له خيرا.. «2» . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى المشركين فطرحوا في القليب، وروي أنه قال عند مراهم: «بئس عشيرة النبيّ كنتم لنبيّكم؛ كذّبتموني وصدّقني النّاس، وأخرجتموني واواني النّاس، وقاتلتموني ونصرني النّاس» «3» .

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 6/ 20- 21، 7/ 243. (2) حديث ضعيف، رواه ابن هشام: 2/ 75، عن ابن إسحاق بلاغا. (3) حديث ضعيف، رواه ابن هشام: 2/ 74، عن ابن إسحاق، قال: حدثني بعض أهل العلم. وهذا إسناد معضل. وقد رواه أحمد: 6/ 170، من طريق إبراهيم عن عائشة مرفوعا بلفظ: «جزاكم الله شرا من قوم نبيّ، ما كان أسوأ الطرد وأشدّ التكذيب» ، ورجاله ثقات، لكنّه منقطع بين إبراهيم وهو النخعي، وبين عائشة.

فلما ووريت جثثهم، وأهيل التراب على رفاتهم، انصرف الناس وهم يشعرون أنّ أئمة الكفر قد استراح الدين والدنيا من شرورهم؛ إلا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم استعاد ماضيه الطويل في جهاد أولئك القوم، كم عالج مغاليقهم، وحاول هدايتهم؟! وكم ناشدهم الله، وخوّفهم عصيانه، وتلا عليهم قرانه؟! وهم- على طول التذكير- يتبجّحون، وبالله وآياته ورسوله يستهزئون، فخرج «1» النبي صلى الله عليه وسلم في جوف الليل حتى بلغ القليب المطويّ على أهله، وسمعه الصحابة يقول: «يا أهل القليب! يا عتبة بن ربيعة! يا شيبة بن ربيعة! يا أمية بن خلف! يا أبا جهل بن هشام! هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟ فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقا» !. فقال المسلمون: يا رسول الله! أتنادي قوما جيّفوا؟! قال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم! ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني «2» » . كانت واقعة بدر في السابع عشر من رمضان لسنتين من الهجرة، وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ثلاثا، ثم قفل عائدا إلى المدينة يسوق أمامه الأسرى

_ (1) حديث صحيح، أخرجه ابن إسحاق: 2/ 74، حدثني حميد الطويل عن أنس به، وهذا سند صحيح، وحميد وإن كان مدلّسا، فإنّ ما يرويه معنعنا عن أنس بينهما ثابت البناني، كما ذكروا في ترجمته، وهو ثقة من رجال الشيخين؛ وقد أخرجه أحمد: 3/ 104، 182، من طرق عن حميد به. وقال الحافظ ابن كثير 3/ 292: إنّه على شرط الشيخين. قلت: وقد وصله مسلم: 8/ 163؛ وأحمد: 2/ 219، 287، من طريق حمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس؛ ورواه أحمد: 3/ 145، من طريق قتادة عن أنس، لكن رواه البخاري: 7/ 240- 241، من طريقه قال: ذكر لنا أنس عن أبي طلحة، فجعله من سند أبي طلحة، وهو الأصحّ كما قال الحافظ ابن كثير وابن حجر؛ ثم أخرجه مسلم والطيالسي: 2/ 97- 98، ترتيب الشيخ أحمد البنا؛ وأحمد، رقم (182) من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، عن عمر. فالظاهر أن أنس لم يسمعه منه صلى الله عليه وسلم، إنما رواه عنه بواسطة الصحابة؛ فكان تارة يرسله، وتارة يوصله، والحديث رواه غير من ذكر من الصحابة عبد الله بن عمر؛ أخرجه البخاري: 7/ 242، وغيره. وفي الباب عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. وأما إنكار عائشة الذي ذكره المؤلف في التعليق فقد أنكره العلماء، وبيّنوا أنّ الصواب بجانب الذين رووا هذا الحديث. راجع: البداية، لابن كثير؛ والفتح، لابن حجر. وعندي أنّه لا تعارض بين روايتهم وروايتها، بل يمكن الجمع بينهما، وهو الصواب كما بيّنته في (أحكام الجنائز وبدعها) . (2) تنكر عائشة هذا الحديث محتجّة بقول الله تعالى: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) [فاطر] وتقول: إنّ اللفظ الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما أنتم بأعلم لما أقول منهم» .

محاسبة وعتاب (في الغنائم) :

والغنائم، ورأى قبل دخولها أن يعجّل البشرى إلى المسلمين المقيمين فيها؛ لأنهم لا يدرون مما حدث شيئا. فأرسل عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة مبشّرين، يؤذنان الناس بالنصر العظيم. قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان زوجها عثمان بن عفان قد احتبس عندها يمرّضها بأمره صلى الله عليه وسلم، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم له بسهمه وأجره في بدر «1» . محاسبة وعتاب (في الغنائم) : برغم ما سجّله التاريخ من تجمّل ومواساة بين الأنصار والمهاجرين، فإنّ متاعب العيلة ومشكلات الفقر تمشّت خلال المجتمع الجديد؛ إن سترها التعفف حينا أبرزتها الحاجة حينا اخر، والأزمات التي تصاحب تكوين دولة من العدم وسط أمم تكيد لها، وتتربّص بها الدوائر، يجب أن تتوقع، وأن توطّن النفوس على احتمالها، وألا تكون حدّة الشعور بها سببا في ضعف السيرة وعجز الهمة.. وقد اخذ الله المسلمين- قبل معركة بدر وبعدها- بأمور بدرت منهم يحبّ لهم أن يتنزّهوا عنها، مهما بلغ من شدة الدوافع والمبررات لارتكابها. فهم يوم خرجوا من يثرب لملاقاة مشركي مكة تعلّقت أمانيهم بإحراز العير وما تحمل من ذخائر ونفائس. حقا إنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وضحّوا في سبيل الله بأنفسهم وأولادهم ... فليمضوا في طريق الفداء إلى المرحلة الأخيرة، ومهما عضّهم الفقر بنابه، فليكن التنكيل بالكافرين أرجح في ميزانهم من الاستيلاء على الغنيمة: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) [الأنفال] . ومن هذا القبيل تسابقهم بعد النصر إلى حيازة الغنائم، ومحاولة كل فريق الاستئثار بها.

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البيهقي: 9/ 174، بسند صحيح من حديث أسامة؛ ورواه بنحوه الحاكم: 3/ 48، عن الزهري مرسلا، وفي الباب أحاديث أخرى تراجع في (المجمع) : 9/ 83- 84.

عن عبادة بن الصامت، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا، فالتقى الناس، فهزم الله العدوّ، فانطلقت طائفة في اثارهم يطاردون ويقتلون، وأكبت طائفة على المغنم، يحوزونه، ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرّة، حتى إذا كان الليل، وفاء النّاس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها، وليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدوّ: لستم أحقّ بها منّا، نحن نحينا منها العدو وهزمناه، وقال الذين أحدقوا برسول الله: خفنا أن يصيب العدو منه غرة، فاشتغلنا به، فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) [الأنفال] . فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين «1» . هذا التنازع المؤسف إثر البأساء الشاملة التي لحقت بالمهاجرين والأنصار على السواء، وقد نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مظاهر البؤس على أصحابه وهم خارجون إلى بدر؛ فرثى لحالهم، وتألّم لما بهم، وسأل الله أن يكشف كرباتهم. فعن عبد الله بن عمرو «2» ، قال: خرج رسول الله يوم (بدر) في ثلاثمئة وخمسة عشر رجلا من أصحابه، فلما انتهى إليها، قال: «اللهم إنّهم جياع فأشبعهم، اللهم إنّهم حفاة فاحملهم، اللهم إنّهم عراة فاكسهم» . ففتح الله له يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا، وما منهم رجل إلا قد رجع بحمل أو حملين، واكتسوا وشبعوا. إنّ الجوع والعري عند ما يطول أمدهما يتركان في النفوس ندوبا سيئة،

_ (1) حديث صحيح، أخرجه أحمد: 5/ 323- 324؛ والحاكم: 2/ 326، من طريق مكحول، عن أبي أمامة، عن عبادة بن الصامت. وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ووافقه الذهبي، وأبو أمامة لم يره مكحول- كما قال أبو حاتم- فهو منقطع، ومن هذا الوجه، أخرجه ابن هشام: 2/ 76، عن ابن إسحاق. ومن طريقه أحمد: 5/ 322، لكن له شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه أبو داود: 1/ 430؛ والحاكم، وقال: «صحيح الإسناد» ، ووافقه الذهبي وهو كما قالا. وبه صحّ الحديث. (2) حديث حسن، أخرجه أبو داود: 1/ 431- 432؛ والحاكم: 2/ 145؛ والبيهقي: 9/ 57، وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ، وإنما هو حسن فقط. وحسنه الحافظ في (الفتح) : 7/ 233.

[في الأسرى] :

ويدفعان الأفكار في مجرى ضيق كالح، على أنّ هذه الأزمات إن أخرجت العامة، وأهاجتهم إلى طلب الغذاء والكساء لأنفسهم وذراريهم بحرص ومجاهرة، فإن المؤمنين الكبار ينبغي أن يتماسكوا، وأن يكتموا أحاسيس الفاقة الملحّة فلا يتنازعوا على شيء. وذلك الأدب هو ما أخذ الله به المسلمين، وافتتح به السورة التي تحدثت عن القتال في بدر. ذلك أنّ الخاصة من الرجال هم قدوة غيرهم، فإذا ساءت أخلاقهم للضوائق العارضة، واضطرب مسلكهم فسيكون سواد الشعب إلى مزالق الفوضى أسرع. وقد رأينا (الألمان) في الحرب العالمية الأولى و (الإنكليز) في الحرب العالمية الثانية شدّد عليهم الحصار، حتى هزلت الأجسام، واصفرّت الوجوه، وما صابرت الجماهير هذه المجاعات إلا وراء قادتها المصابرين المتجمّلين. [في الأسرى] : ومما حاسب الله عليه المسلمين حسابا شديدا موقفهم بإزاء الأسرى، فإنّ الرغبة في استبقائهم للانتفاع من ثرواتهم غلبت الاراء الاخرى بضرورة الاقتصاص من ماثمهم السابقة، حتى يكونوا نكالا لما بين أيديهم وما خلفهم وموعظة للمتقين. استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا، فقال أبو بكر: يا رسول الله! هؤلاء بنو العمّ والعشيرة والإخوان، وإنّي أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهداهم الله فيكونوا لنا عضدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ترى يا بن الخطاب؟» قال: قلت: والله! ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكّنني من فلان- قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتمكّن عليا من عقيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكّن حمزة من فلان- أخيه- فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنّه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء، فلمّا كان من الغد قال عمر: فغدوت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكر وهما يبكيان! فقلت: يا رسول الله! أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء، قد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة» - لشجرة قريبة-. وأنزل الله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) [الأنفال] «1» . إن الوقوع في الأسر لا يعني صدور عفو عام عن الجرائم التي اقترفها الأسرى أيّام حريتهم، وهؤلاء الطغمة من كبراء مكة لهم ماض شنيع في إيذاء الله ورسوله، وقد أبطرتهم منازلهم، فساقوا عامة أهل مكة إلى حرب ما كان لها من داع، فكيف يتركون بعد أن استمكنت الأيدي من خناقهم؟. أذلك لأنّ لهم ثروة يفتدون بها؟ ما كان يليق أن ينظر المؤمنون إلى هذه الأعراض التافهة متناسين ما فرط من أولئك الكفّار في جنب الله. إنهم مجرمو حرب- بالاصطلاح الحديث- لا أسرى حرب، وقد ندّد القران بخيانتهم لقومهم بعد كفرهم بنعمة الله عليهم فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) [إبراهيم] . وهناك نصوص توصي برعاية الأسرى وإطعامهم، وتشرع القوانين الرحيمة في معاملتهم، وهذا ينطبق على جماهير الأسرى من الأتباع والعامة. أمّا الذين تاجروا بالحروب لإشباع مطامعهم الخاصة، فيجب استئصال شأفتهم، وذلك هو الإثخان في الأرض. إنّ الحياة كما تتقدّم بالرجال الأخيار، فإنّها تتأخر بالعناصر الخبيثة؛ وإذا كان من حقّ الشجرة لكي تنمو أن تقلّم؛ فمن حقّ الحياة لكي تصلح أن تنقّى من السفهاء والعتاة والاثمين. ولن يقوم عوض أبدا عن هذا الحق، ولو كان القناطير المقنطرة من الذهب، وقد أسمع الله نبيه صلى الله عليه وسلم وصحابته هذا الدرس، حتى إذا وعوه وتدبّروه عفا عنهم، ثم أباح لهم- من رحمته بهم- الانتفاع بما أخذوا من فداء فقال:

_ (1) حديث صحيح، أخرجه مسلم: 5/ 156- 157؛ وأحمد، رقم (208، 221) ؛ والبيهقي: 9/ 67- 68، من حديث عمر رضي الله عنه.

في أعقاب بدر:

فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) [الأنفال] . في أعقاب بدر: شده العرب قاطبة للنصر الحاسم الذي ناله المسلمون في بدر، بل إنّ أهل مكة استنكروا الخبر أوّل ما جاءهم، وحسبوه هذيان مجنون، فلمّا استبان صدقه صعق نفر منهم، فهلك لتوّه، وماج بعضهم في بعض من هول المصاب، لا يدري ما يفعل. وكما استبعد أهل مكة الهزيمة على أنفسهم حتى جوبهوا بعارها، استبعد مشركو المدينة ويهودها ما قرع اذانهم من بشريات الفوز، وذهب بعضهم إلى حد اتهام المسلمين بأن ما يذاع من نصرهم محض اختلاق، وظلّوا يكابرون حتى رأوا الأسرى مقرّنين في الأصفاد، فسقط في أيديهم. وقد اختلفت مسالك الأحزاب الكافرة بإزاء المسلمين بعد هذا الغلب الذي مكن للإسلام وأهله، وجعل سلطانهم مهيبا في المدينة وما حولها، ومدّ نفوذهم على طريق القوافل في شمال الجزيرة، فأصبح لا يمرّ بها أحد إلا بإذنهم. فأما أهل مكة فقد انطووا على أنفسهم يداوون جراحهم، ويستعيدون قواهم، ويستعدّون لنيل ثأرهم، ويعلنون أنّ يوم الانتقام قريب، ولم تزدهم الهزيمة إلا كرها للإسلام، ونقمة على محمّد صلى الله عليه وسلم وصحبه، واضطهادا لمن يدخل في دينه، فكان من ينشرح صدره للإسلام يختفي به أو يعيش ذليلا مستضعفا. ذلك في مكة حيث كانت الدولة للكفر. أما في المدينة حيث المسلمون كثرة مكينة ظاهرة، فقد اتخذت العداوة للإسلام طريقة الدس والنفاق والمخاتلة، فأسلم فريق من المشركين واليهود ظاهرا، وقلوبهم تغلي حقدا وكفرا، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن أبيّ. روى أسامة بن زيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب- كما أمرهم الله تعالى- ويصبرون على الأذى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة: 109] . فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأوّل من العفو ما أمره الله به، حتى أذن فيهم بالقتل «1» .

_ (1) حديث صحيح، رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، وإسناده صحيح كما قال الحافظ ابن كثير في (التفسير) : 1/ 153.

فلما غزا بدرا، وقتل الله من قتل من صناديد قريش، وقفل رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه منصورين غانمين معهم أساراهم، قال عبد الله بن أبيّ ومن معه من المشركين عبدة الأوثان: هذا أمر قد توجّه (أي: استمر، فلا مطمع في إزالته) فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا.. على أنّ هذا الخداع لاذ به فريق من الكفار في الوقت الذي عالن فيه فريق اخر من اليهود بسخطهم على محمد صلى الله عليه وسلم، وألمهم للهزيمة التي أصابت قريشا في (بدر) ؛ بل إن كعب بن الأشرف- من رجالات اليهود- أرسل القصائد في رثاء قتلاهم والمطالبة بثأرهم!. ولقد اتسعت شقة العداوة بين المسلمين واليهود إثر هذا الموقف النابي. ثم حاول اليهود أن يحقّروا من شأن النصر الذي حظي به الإسلام، مما مهّد للأحداث العنيفة التي وقعت بعد، ودفع اليهود ثمنها من دمهم أفرادا وجماعات. أما البدو الضاربون حول المدينة، وعلى طرق القوافل فهم قوم همل، لا يهمّهم شيء من قضايا الكفر والإيمان، إنّما يهمّهم اكتساب القوت من أي وجه، والحصول عليه ولو عن طريق السلب والنهب، وتاريخهم الحديث مع قوافل الحجاج شاهد صدق على أنهم لا يرعون حرمة، ولا يخشون إلا القوة، ولولا بطش السعوديين بهم ما أمن طريق الحجّ قط! وقد سبق لهم استياق نعم المدينة، وما ورثوه من جاهلية طامسة، جعل قلوبهم مع مشركي الجزيرة، وقد ذعروا لانتصار المسلمين في بدر، وأخذت جموعهم تحتشد تبغي انتهاز فرصة للإغارة على المدينة، ولكنّ الرسول صلى الله عليه وسلم نهض إلى جموعهم، فشتتها، ولم يلق في إرهابهم متاعب ذات بال.

بدء الصراع بين اليهود والمسلمين

بدء الصراع بين اليهود والمسلمين لم تحدّث المسلمين أنفسهم بنقض عهود اليهود، ولا فكّروا في طردهم من أرض الجزيرة، بل على العكس توقّع المسلمون منهم أن يكونوا عونا لهم في حرب الوثنية المخرّفة، وتدعيم عقيدة التوحيد، ورجا المسلمون أن يصدّق اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم فيما يثبته لله من تنزيه ومجد، وأن تكون صلتهم بالكتب القديمة، وألفتهم لأحاديث المرسلين سببا في إقناع العرب الأميين بأن الرسالات السماوية حقّ، والإيمان بها واجب. وهذه المشاعر الحسنة تتمشّى مع القران النازل يومئذ يؤسسها ويؤكدها: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) [الرعد] . وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) [الرعد] . بيد أن اليهود كانوا عند أسوأ الظن، فلم تمض أيام على اختلاطهم بالمسلمين في المدينة حتى شرعوا يحرجون صدورهم، ويعينون عليهم، ولو أنّهم كذّبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم كما كذبوا بعيسى عليه السّلام من قبل، واعتقدوا أن ما وراء توراتهم باطل، واكتفوا بأداء عبادتهم في بيعهم، وحبسوا في أفواههم المطاعن على أنبياء الله ... لتركهم المسلمون وشأنهم يكفرون إلى قيام الساعة، دون حرب أو ضرب. أمّا أن يجتهد المسلمون في بناء دولتهم، فيجتهد هؤلاء في نقضها، أمّا أن يصطدم الإسلام بالشرك، فينضمّ بنو إسرائيل بعواطفهم وألسنتهم ودعاياتهم ضد محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه.. فهذا ما لا يستساغ. وفي فرحة المسلمين بانتصارهم في بدر، لم يستحي أولئك اليهود أن يقولوا لرسول الله عليه الصلاة والسلام: «لا يغرنّك أنّك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، أما والله لئن حاربناك لتعلمنّ أنّا نحن النّاس!!» .

طرد يهود بني قينقاع:

وقد نزل الوحي ينذر هؤلاء بسوء المنقلب: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) [ال عمران] . والاية الأخيرة تذكير بما وقع في بدر. طرد يهود بني قينقاع: وأول من كشف عن ضغنه، وهزأ بالإسلام وأهله يهود بني قينقاع، المقيمين داخل المدينة نفسها، وكظم المسلمون غيظهم، وانتظروا ما تتمخّض عنه الليالي من مكر اليهود. وسعى هؤلاء إلى حتفهم بظلفهم، فقد حدث أنّ امرأة عربية قدمت بجلب لها «1» ، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ هناك، فاجتمع حولها نفر من اليهود، يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها وهي غافلة، فعقده إلى ظهرها. فلما قامت انكشفت سوءتها، وضحك اليهود منها، وصاحت المرأة، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدّت اليهود على المسلم فقتلوه، وهكذا طارت الشرارة، ووقعت الحرب بين المسلمين وبني قينقاع. وكان ذلك في منتصف شوال في السنة الثانية من الهجرة. لجأ اليهود إلى حصونهم يقاتلون فيها، ففرض الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم الحصار، وأحكمه خمس عشرة ليلة، حتى اضطروا إلى التسليم، ورضوا بما يصنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقابهم ونسائهم وذريتهم، فلمّا أمكن الله منهم، جاء عبد الله بن أبي فقال: يا محمد! أحسن في مواليّ- وكانوا حلفاء الخزرج- فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكرّر ابن أبيّ مقالته: أحسن في مواليّ، فأعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. فأدخل يده في جيب درعه، فتغيّر لون النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: «أرسلني» ، وغضب حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم أعاد أمره وهو مغضب: «أرسلني ويحك» ! قال ابن أبي: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ، أربعمئة حاسر

_ (1) الجلب: كل ما يجلب إلى الأسواق ليباع بها.

[سر نقمة اليهود على الإسلام والمسلمين] :

وثلاثمئة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة؟ إنّي والله امرؤ أخشى الدوائر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم لك «1» على أن يخرجوا من المدينة، ولا يجاورونا بها» . فرحلوا إلى (أذرعات) «2» بالشام ولم يبقوا هناك طويلا حتى هلك أكثرهم. أما كان خيرا لهم أن يؤدوا حقوق الجوار، ويعرفوا قيم العهود، ويبقوا في المدينة امنين موفورين؟ لقد تعجّلوا الشرّ فباؤوا به ... وفي حوار عبد الله بن أبيّ مع الرسول عليه الصلاة والسلام نزل قوله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) [المائدة] «3» . [سر نقمة اليهود على الإسلام والمسلمين] : ويحسن أن نتأمل في سيرة هؤلاء اليهود، وسرّ نقمتهم الشديدة على الإسلام ونبيّه صلى الله عليه وسلم وتحيزهم المعيب إلى الوثنية في نضال الإسلام معها. أصحيح أنّ نزاع اليهودية والإسلام كان سياسيا لا دينيا؟ وأنّ الانفراد بالسلطان في الجزيرة العربية هو مبعث هذا الخصام الحادّ؟. إنّ التغلغل في فهم العواطف والمشاعر الإنسانية يفسّر كثيرا من المواقف الغامضة، لقد رأينا المسلمين في مكة يتحمسون للنصرانية في صراعها مع المجوسية، ويحزنون لانكسار الروم أمام الفرس، مع أنّ الإسلام لم يكن قد اتصل بعد بالنصارى اتصالا يبرر هذا الحماس، لكنه الشعور الطبيعي الوحيد الذي ينتظر من الرجل المخلص لدينه، فالمسلمون أصحاب كتاب يدعو إلى التوحيد، والنصارى- وإن اضطرب فهمهم لمعنى التوحيد وشابوا الحقّ بالخرافة- فهم- على كل حال- أهل كتاب، ويعتبرون أعلى مرتبة من عبدة النار؛ فالرغبة

_ (1) إلى هنا رواه ابن هشام: 2/ 121، عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة مرسلا، أما باقيه فلم أقف عليه الان. (2) درعا. (ن) . (3) رواه ابن إسحاق: 2/ 21، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، وابن جرير، عن عطية العوفي، وعن الزهري وكلها مرسلات. وقد أشار ابن كثير في تفسيره: 2/ 68، إلى تضعيف نزول الاية في ابن أبي، والله أعلم.

مقتل كعب بن الأشرف:

في انتصارهم على الوثنية الصريحة الشرك ضرب من الوفاء للإسلام نفسه! ومن الاحترام للحقيقة التي معك أن تقترب مما يقرب منها، وأن تبتعد عن كل ما يبعد عنها. وقد كان المشركون من أهل مكة منطقيين مع أنفسهم حين رحبوا بانتصار الفرس، وعدّوه رمزا لغلبة الوثنية في كلّ صورها على أديان السماء جملة ... فما معنى أن يغضب اليهود المواحدون- كما يزعمون- من انتصار الإسلام على الشرك؟ وبم يفسّر حنوهم على القتلى من عبدة الأصنام، وسعيهم الحثيث لتغليب كفة الوثنية العربية على هذا الدين الجديد؟!. إنّ التفسير الوحيد لهذا الموقف أنّ اليهود انقطعت صلاتهم بمعنى الدين، وأنّ سلوكهم العام لا يرتبط بما لديهم من تراث سماوي، وأنّهم لا يكترثون بما يقترب من عقيدة التوحيد أو أحكام التوراة، لأنّ هذه وتلك مؤخّرة أمام شهواتهم الغالبة وأثرتهم اللازبة، ومن ثمّ شكك القران الكريم في قيمة الإيمان الذي يدّعيه القوم: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) [البقرة] . والظاهر أن طوائف اليهود التي عاشت بين العرب كانت عصابات من المرتزقة، اتخذت الدين عنوانا لمطامع اقتصادية بعيدة المدى، فلمّا توهّمت أنّ هذه المطامع مهدّدة بالزوال ظهر الكفر المخبوء، فإذا هو كفر بالله وسائر المرسلين. ولم يعرف أولئك شرفا في حرب الإسلام، ولم يقفهم حد أو عهد في الكيد له، فلم يكن بدّ من إجلائهم وتنظيف الأرض منهم. مقتل كعب بن الأشرف: وقد تعقّب المسلمون كلّ غادر بعهده، مجاهر بحرب الله ورسوله، مؤيّد لقريش ورأيها، مظهر للعطف والأسف على ما أصابها.. تعقّب المسلمون هؤلاء الطّغام من زعماء اليهود وسراتهم بالقتل والإرهاب.

ومن أولئك الذين نفّذ فيهم العقاب (كعب بن الأشرف) ؛ فإنّ كعبا هذا سافر إلى مكة- من المدينة- يواسي مشركيها المهزومين في بدر، ويحرّضهم على إدراك ثأرهم من محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته، وهو الذي سأله أبو سفيان: أناشدك الله، أديننا أحبّ إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟ وأيّنا أهدى إلى ربك وأقرب إلى الحق؟ إننا نطعم الجزور الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونطعم ما هبّت الشمال!. قال له كعب: أنتم أهدى منه سبيلا!!. فأنزل الله على رسوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) [النساء] . وعاد كعب إلى المدينة سافر العداوة، بعيد الجراءة، حتى إنّه صاغ قصائد الغزل في بعض النّساء المسلمات.. وليس بعد ذلك صبر، فأهدر المسلمون دمه. وبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم من استنزله من حصنه ليلقى جزاءه الحق. ذهب إليه (محمد بن مسلمة) و (أبو نائلة) بعد ما استأذنا الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقولا فيه ما يطمئن اليهودي إلى تبرّمهما بالإسلام، أتاه محمد بن مسلمة، فقال له: إنّ هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنّانا، وإنّي قد أتيتك أستسلفك!!. قال كعب: والله لتملّنه! قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا. قال: نعم، ارهنوني، قال: أيّ شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم! قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟. قال: فترهنوني أبناءكم، قال: يسب ابن أحدنا فيقال: رهن في وسق أو وسقين من تمر!! ولكن نرهنك السلاح. وصنع أبو نائلة ما صنع محمد بن مسلمة؛ قال لليهودي: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء! عادتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت علينا السبيل، حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا، ودار الحوار على نحو ما دار مع ابن مسلمة، ورضي كعب- أخيرا- أن يسلفهم نظير ارتهان أسلحتهم. وإلى هذا قصدوا، فإنّ كعبا لن ينكر السّلاح معهم وهو الذي طلبه منهم. وفي ليلة مقمرة انطلقوا إلى حصنه ليتمّوا ما تواعدوا عليه، فقالت امرأته

وقد سمعت النداء: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم، قال كعب: لو دعي الفتى لطعنة لأجاب، فنزل متوشّحا تنفح منه رائحة الطيب، واستدرجه القوم في الحديث والسير، ثم زعم أبو نائلة أنّه يريد أن يشمّ الطيب من شعره، فسرّح فيه يده وهو يقول: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر، وزهي كعب بما سمع! وعاد أبو نائلة فوضع يديه في شعر اليهودي حتى إذا استمكن من فوديه قال لصحبه: دونكم عدو الله، فاختلفت عليه أسيافهم «1» ، دخلت في بدنه الأسلحة التي طلبها رهانا بدل النساء والأبناء.. وصاح كعب صيحة لم يبق معها حصن إلا وقد وقدت عليه النار استجلاء للخبر، فلما طلع الصباح علمت يهود بمصرع جبّارها، فدبّ الرّعب في القلوب العنيدة، وأسرعت الأفاعي إلى جحورها تختبئ فيها. لقد أجدت العصا حين أعيت الصيحة وبطل المقال، ولزم اليهود حدودهم فلم يتجرؤوا على المسلمين بسبّ، وظهر كأنّهم لن يمالئوا على الله ورسوله مشركا بعد اليوم. وهكذا تفرّغ الرسول عليه الصلاة والسلام- إلى حين- لمواجهة الأعراب المشركين.

_ (1) حديث صحيح، رواه ابن هشام: 2/ 123- 124، عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة به نحوه، وهذا سند ضعيف مرسل أو معضل، وعبد الله هذا ترجمه ابن أبي حاتم: 2/ 174، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. ورواه البخاري: 5/ 106- 107، 6/ 119- 120، 7/ 269- 272؛ ومسلم: 5/ 184، 185؛ وأبو داود: 1/ 436، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما نحوه، والظاهر أنّ سياق الكتابة مركب من الروايتين؛ والحديث رواه البيهقي: 9/ 81، من حديث جابر، ثم رواه من حديث موسى بن عقبة معضلا.

مناوشات مع قريش

مناوشات مع قريش لم يغترّ المسلمون بالنصر الذي نالوه في (بدر) ، ولم يفتروا عن مراقبة خصومهم والإعداد لهم، وقد علموا علم اليقين أنّ مكة لن تني عن الانتقام لنفسها، ولن تستكين للكارثة التي حلّت بها. ورأى أبو سفيان- حفظا لمكانة قومه، وإبرازا لما لديهم من قوة- أن يتعجّل عملا قليل المغارم ظاهر الأثر، فقرّر أن يفاجئ المدينة بغارة خاطفة يعود عقيبها وقد رد لقريش بعض سمعتها، وألحق بالمسلمين ما يستطيع من خسائر. ثم إنّ أبا سفيان كان نذر ألا يمسّ رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يبر في قسمه. فخرج في مئتي راكب حتى وصل إلى مساكن بني النضير في جنح الليل بأطراف المدينة-، ونزل على (سلّام بن مشكم) من سادة اليهود، فتعرّف منه أخبار المسلمين، وتدارسا أجدى الطرق لإيذائهم والإفلات من قواهم. واهتدى أبو سفيان إلى العمل الذي وفّى به يمينه، وحقق به غايته، فهجم برجاله على ناحية يقال لها: العريض، وحرقوا أسوارا من نخيل بها، ووجدوا رجلا من الأنصار وحليفا له في حرث لهما فقتلوهما، ثم لاذوا بالفرار عائدين إلى مكة. وشعر المسلمون بما حدث، فانطلقوا وراء أبي سفيان ورجاله يطاردونهم ويبتغون الإيقاع بهم، وأحس المشركون بالطلب، فجدّوا في الهرب، والمسلمون يقطعون الصحراء خلفهم راغبين في اللحاق بهم، فلمّا أحسّ أبو سفيان بالخطر أخذ يتخفّف من الأزواد التي يحملها حتى تمكّن من النجاة، وعثر المسلمون في طريق المطاردة على هذه المؤن وأكثرها من السويق، فسمّوا هذه المناوشة الطريفة غزوة السويق!.

[بين بدر وأحد] :

ولم تنل قريش من هذه الغارة الفاشلة شيئا يرفع رأسها، ففكّرت أن تتجنّب الصدام بالمسلمين حتى تحين الفرصة المواتية، ولكن أنى لها ذلك وتجارتهم تمرّ في الغدو والرواح بالمدينة؟. قال صفوان بن أمية لقريش: «إنّ محمدا وصحبه عوّروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، هم لا يبرحون الساحل، وأهل الساحل قد وادعوهم، ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك؟! وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا، فلم يكن لها من بقاء، وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف وإلى الحبشة في الشتاء» ، فقال له الأسود بن المطلب: تنكّب الطريق على الساحل، وخذ طريق العراق، ودلّه على فرات بن حيّان من بني بكر بن وائل، ليكون رائدهم في هذه الرحلة. وخرجت عير قريش يقودها صفوان بن أمية اخذة الطريق الجديدة، إلا أن نعيم بن مسعود قدم المدينة يحمل أنباء هذه القافلة وخطّة سيرها، واجتمع في مجلس شرب- قبل تحريم الخمر- بسليط بن النعمان، فباح له بسرها، فأسرع سليط إلى النبي صلى الله عليه وسلم يروي له القصة، فبعث النبي لوقته (زيد بن حارثة) في مئة راكب يعترضون القافلة، فلقيها زيد عند ماء يقال له: (القردة) ، فاستولى عليها، وكانت تحمل مقادير كبيرة من الفضة، وفرّ المشركون مذعورين، فلم يقع في الأسر غير فرات بن حيان، فلمّا جيء به إلى المدينة دخل في الإسلام. ولقد حزنت مكة لهذه النكبة الجديدة، وزادها ذلك إصرارا على المطالبة بثأرها، والتهيؤ للقاء المسلمين في تعبئة كاملة، فكان ذلك وما سبقه من أحداث التمهيد القوي لمعركة (أحد) في السنة الثالثة للهجرة. [بين بدر وأحد] : ولا يفوتنا إذ نتابع النشاط العسكري للإسلام في سنتيه الأوليين بالمدينة، أن نذكر بعض الشؤون الهامة الاخرى، فقد توفي خنيس بن حذافة السهمي زوج حفصة بنت عمر بن الخطاب، وهو رجل صالح ممن شهدوا بدرا، فلما تأيّمت منه، أراد أبوها أن يتخير لها زوجا، قال عمر: فلقيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر!! فقال: سأنظر في أمري! فلبث ليالي ثم لقيته فعرضت عليه، فقال: قد بدا لي ألا أتزوّج.

قال عمر: فلقيت أبا بكر فقلت له: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمت ولم يرجع إليّ شيئا! فكنت عليه أوجد منّي على عثمان. فلبثت ليالي، فخطبها منّي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلّك وجدت عليّ حين عرضت عليّ حفصة، فلم أرجع إليك شيئا؟ فقلت: نعم، فقال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليّ إلا أني كنت علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لقبلتها «1» . واتجاه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مصاهرة عمر بعد مصاهرة أبي بكر، ثم تزويجه ابنته فاطمة لعلي بن أبي طالب، وتزويجه ابنته أم كلثوم لعثمان- بعد وفاة رقيّة- يشير إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام يبغي من وراء ذلك توثيق الصلات بالرجال الأربعة الذين عرف بلاؤهم وفداؤهم للإسلام، في الأزمات التي مرت به، وشاء الله أن يجتازها بسلام. وفي السنة الثانية للهجرة فرض صيام رمضان، وزكاة الفطر، وبيّنات أنصبة الزكاة الاخرى، ومن أجلّ ما وقع في هذه السنة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المطهرة، وقد كان هذا الانتقال مثار تغيّظ اليهود واستنكارهم الشديد. كانوا- قبله- يؤمّلون في متابعة الرّسول عليه الصلاة والسلام لهم! ولعلّ أساس موادعتهم له ظنهم الإفادة منه، واستغلال أنصاره! فلمّا تميّز الإسلام بقبلته الجديدة امتلأت نفوسهم باليأس، ودفعتهم خيبة الرجاء إلى تشديد الحملة على الإسلام وتبييت السوء له. وقد أحبط القران حرب الجدل التي شنها اليهود إثر تغيير القبلة: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) [البقرة] . وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ... [البقرة: 115] . لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... [البقرة: 177] . إنّ الله ربّ الأزمنة والأمكنة جميعا، وتوجيه أمة إلى قبلة معينة لا يعني

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 9/ 144- 145، 152؛ والنسائي: 2/ 75- 76- 77؛ وأحمد رقم (74) ، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

انحصارا في إحاطته، أو قصورا في ربوبيته. لقد كانت عودة المسلمين إلى الكعبة رجوعا إلى الأصل الذي بناه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السّلام، وفي العودة إلى الأصل تنزه عن الانحرافات التي حدثت بعد من الذراري الضالّين، وخصوصا بني إسرائيل.

معركة أحد

معركة أحد لم يهدأ بال قريش مذ غشيها في «بدر» ما غشيها، وكان ما جدّ من الحوادث بعد لا يزيد أحقادها إلا ضراما، فلما استدارت السنة، كانت مكة قد استكملت عدتها، واجتمع إليها أحلافها من المشركين، وانضمّ إليهم كلّ ناقم على الإسلام وأهله. فخرج الجيش الثائر في عدد يربو على ثلاثة الاف. ورأى أبو سفيان- قائده- أن يستصحب النساء معه، حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم وأعراضهم؟ وكانت الترات القديمة والغيظ الكامن يشعل البغضاء في القلوب، ويشفّ عما سوف يقع من قتال مرير. وفي أوائل شوال من السنة الثالثة وصل الجيش الزاحف إلى المدينة، فنزل قريبا من جبل «أحد» وأرسل خيله ترعى زروعها الممتدة هناك. واجتمع المسلمون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدبّرون أمرهم. أيخرجون لمقاتلة العدو في العراء أم يستدرجونه إلى أزقة المدينة، حتى إذا دخلها قاتله الرجال في الطرق، وقاتلته النساء من فوق أسطح البيوت؟. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يميل إلى الرأي الأخير، وأيّده فيه رجال من أولي النظر والروية، وقال عبد الله بن أبي: هذا هو الرأي، لكنّ الرجال الذين لم يشهدوا بدرا تحمّسوا للخروج، وقالوا: كنا نتمنّى هذا اليوم، وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير! وظاهرهم الشباب الطامح في الاستشهاد، وبدا أنّ كثرة المسلمين تميل إلى البروز لملاقاة العدو، فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم بيته وخرج منه لابسا عدته متهيئا للقتال. وشعر القوم أنّهم استكرهوا الرسول صلى الله عليه وسلم على رأيهم، وأظهروا الرغبة في النزول على رأيه. بيد أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وجد غضاضة من الاضطراب بين شتى الاراء، فقال: «ما ينبغي لنبيّ لبس لأمته أن يضعها، حتّى يحكم الله بينه

وبين عدوّه» «1» . وقال: «قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج، فعليكم بتقوى الله، والصبر عند البأس، وانظروا ما أمركم الله به فافعلوه» «2» . ثم خرج في ألف رجل حتى نزل ب (أحد) ؛ إلا أنّ عبد الله بن أبي انسحب في الطريق بثلث الناس قائلا: ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ومحتجا بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم ترك رأيه وأطاع غيره. فتبعهم عبد الله بن عمرو- والد جابر بن عبد الله- ينصحهم بالثبات، ويؤنّبهم على العودة، ويذكّرهم بواجب الدفاع عن المدينة ضد المغيرين إذا لم يكن لهم إيمان بالله واليوم الاخر وثّقه بالإسلام ورسوله. فأبى (ابن أبيّ) الاستماع إليه، وفيه وفيمن انسحب معه نزلت الاية: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ [ال عمران: 167] . عسكر المسلمون بالشّعب من (أحد) في عدوة الوادي، جاعلين ظهرهم إلى الجبل، ورسم النبيّ صلى الله عليه وسلم الخطة لكسب المعركة، فجاءت محكمة رائعة؛ وزّع الرماة على أماكنهم وأمّر عليهم عبد الله بن جبير- وكانوا خمسين رجلا- وقال: «انضحوا الخيل عنّا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا!! إن كانت الدائرة لنا أو علينا فالزموا أماكنكم، لا نؤتينّ من قبلكم» «3» !! وفي رواية قال لهم: «احموا ظهورنا، إن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا!» .

_ (1) رواه ابن هشام: 2/ 126- 128، عن ابن إسحاق عن الزهري وغيره مرسلا؛ وقد وصله أحمد: 3/ 351، من طريق ابن الزبير عن جابر نحوه، وسنده على شرط مسلم، غير أن أبا الزبير مدلس وقد عنعنه. ولكن له شاهد من حديث ابن عباس الذي أخرجه البيهقي كما في (البداية) : 4/ 11 بسند حسن، فالحديث صحيح؛ وقد رواه أحمد أيضا، رقم (2609) ؛ والحاكم: 2/ 128- 129- 296- 297، وصحّحه، ووافقه الذهبي، وهو حديث طويل في غزوة أحد سيأتي بعض فقراته في الكتاب. (2) ذكره ابن كثير: 4/ 12- 13، من رواية موسى بن عقبة معضلا. (3) حديث صحيح، أخرجه ابن هشام: 2/ 129، عن ابن إسحاق بدون إسناد، وله شواهد كثيرة، منها عن البراء بن عازب، أخرجه البخاري: 7/ 280؛ وأبو داود: 1/ 415؛ وأحمد: 4/ 293، 294، ومنها عن ابن عباس وهو الرواية الثانية التي في الكتاب. أخرجه أحمد والحاكم وصحّحه كما تقدم قريبا.

واطمأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنّ فرقة الرماة قد أمّنت بهذه الأوامر المشددة مؤخرة جيشه، فأقبل يتعهّد مقدمته، وأمر ألا ينشب قتال إلا بإذنه. وظاهر هو نفسه بين درعين «1» ، وأخذ يتخيّر الرجال أولي النجدة والبأس، ليكونوا طليعة المؤمنين حين يلتحم الجمعان. إن عدد المسلمين على الربع من المشركين، ولن يعوّض هذا التفاوت إلا الأشخاص الذين يوزنون بالألوف وهم احاد. روى ثابت «2» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمسك يوم «أحد» بسيف ثم قال: «من يأخذ هذا السّيف بحقّه؟» فأحجم القوم، فقال أبو دجانة: أنا اخذه بحقه، فأخذه ففلق به هام المشركين. قال ابن إسحاق: كان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم أنّه سيقاتل حتى الموت، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعصّب وخرج يقول: أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسّفح لدى النّخيل ألّا أقوم الدّهر في الكيول ... أضرب بسيف الله والرسول ويعني بعدم قيامه في الكيول: ألا يقاتل في مؤخرة الصفوف، بل يظلّ أبدا في المقدمة. ثم تدانت الفئتان، وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لرجاله أن يجالدوا العدو، وبدأت مراحل القتال الأولى تثير الغرابة. كأن ثلاثة الاف مشرك يواجهون ثلاثين ألف مسلم، لا بضع مئات قلائل! وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين. خرج حنظلة بن أبي عامر من بيته حين سمع هواتف الحرب، وكان حديث عهد بعرس، فانخلع من أحضان زوجته، وهرع إلى ساحة الوغى حتى لا يفوته الجهاد!. إن حادي التضحية كان أملك لنفسه وأملأ لحسه من داعي اللذة، فاستشهد البطل وهو جنب!!.

_ (1) حديث صحيح، أخرجه الحاكم: 3/ 25؛ وعنه البيهقي: 9/ 46، من حديث الزبير بن العوام، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو حسن الإسناد عندي؛ وأخرجه الترمذي: 3/ 28، واستغربه. وله شواهد كثيرة، منها: عن السائب بن يزيد عن رجل قد سماه؛ أخرجه أبو داود: 1/ 404؛ والبيهقي. وبقية الشواهد تراجع في (المجمع) : 6/ 108- 109. (2) كذا وقع في تاريخ ابن كثير: 4/ 15، معزوّا لأحمد، فنقله المؤلف كذلك، وإنما هو عن ثابت عن أنس؛ كذلك أخرجه أحمد: 3/ 123؛ ومسلم أيضا: 7/ 151.

وسادت روح الإيمان المحض صفوف المجاهدين، فانطلقوا خلال جنود الشرك انطلاق الفيضان تقطّعت أمامه السدود. وقف طلحة بن أبي طلحة العبدري حامل لواء قريش يتحدّى، داعيا إلى البراز، فوثب إليه الزبير بن العوام حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه!!. أقبل أبو دجانة معلما بعصابته الحمراء، لا يلقى مشركا إلا قتله، وكان أحد المشركين قد شغل نفسه بالإجهاز على جرحى المسلمين في المعركة. قال كعب بن مالك: وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدّر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة، فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه ضربة بالسيف فبلغت وركه، وتفرّق فرقتين!! ثم كشف المسلم عن وجهه وقال: كيف ترى يا كعب؟ أنا أبو دجانة ... وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث المهتاجة، وصمد لحملة اللواء من بني عبد الدار، فاقتنص أرواحهم فردا فردا!!. قال (وحشي) غلام جبير بن مطعم: قال لي جبير: إن قتلت حمزة عمّ محمد فأنت عتيق، قال: فخرجت مع الناس، وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة، قلّما أخطئ بها شيئا، فلمّا التقى الناس، فخرجت أنظر حمزة وأتبصّره حتى رأيته كأنّه الجمل الأورق، يهدّ الناس بسيفه هدّا، ما يقوم له شيء!! فو الله إنّي لأتهيّأ له أريده وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني؛ إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزّى، فلمّا راه حمزة قال: هلمّ إليّ يا ابن مقطّعة البظور؟ قال: فضربه ضربة كأنما اختطفت رأسه. فهززت حربتي، حتى إذا رضيت عنها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته- أحشائه- حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ورجعت إلى المعسكر فقعدت فيه، إذ لم تكن لي بغيره حاجة، وإنما قتلته لأعتق. ومع الخسارة الفادحة التي نالت المسلمين بقتل حمزة، فإنّ جيشهم القليل ظلّ مسيطرا على الموقف كلّه، وحمل لواء المسلمين في هذا القتال (مصعب بن عمير) الداعية العظيم، فلما استشهد، حمل اللواء عليّ بن أبي طالب، واستبق

المهاجرون والأنصار في ميدان الشرف، وأخذ اللواء الإسلاميّ يتقدم خطوة خطوة، وشعار المسلمين في هذا الالتحام: «أمت، أمت» . وكانت نسوة قريش دائبات على استنهاض رجالهم، يضربن بالدّفوف، ويحرّضن على القتال، تقودهنّ هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان. فكانت تقول- حاثّة بني عبد الدار على إبقاء لواء مكة مرفوعا-: ويها بني عبد الدّار ... ويها حماة الأدبار ضربا بكلّ بتّار!! وتؤزّ قومها على القتال منشدة: إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النّمارق أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق وقد بذلت قريش أقصى جهدها لتحطّم عنفوان المسلمين، لكنها أحست العجز، وانكسرت همّتها أمام ثبات المسلمين وإقدامهم. قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره، وصدق وعده، فحسّوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لا شكّ فيها. روى عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم سوق هند بنت عتبة وصواحبها مشمّرات هوارب، ما دون أخذهنّ قليل ولا كثير!!. قد يجد المرء نفسه في حفل يموج بالأنوار، وتنتشر في أجوائه الأشعة المبصرة، ثم يقع خلل مفاجئ يقطع التيار، فإذا المصابيح تعتم، ثم يسود المكان ظلام موحش سقيم!!. إن هذا مثل للتحول المستنكر الذي قلب سير الحوادث في معركة أحد. لحظة يسيرة من لحظات الضعف الإنساني عرضت لفريق من الجند، فأوقعت الارتباك في صفوف الجيش كلّه، فضاعت في ساعة نزق كلّ المكاسب التي أحرزتها الشجاعة النادرة والتضحية البالغة!. لقد علمت كيف شدّد الرسول عليه الصلاة والسلام على الرماة أن يلزموا أماكنهم صيانة لمؤخرة المسلمين، وأوصاهم ألا يبرحوها أبدا، ولو رأوا الجيش تتخطفه الطير؟ غير أنّ أثارة من حبّ الدنيا عصفت بهذه الوصاة في ساعة غفلة؟

فما أن رأى الرماة الهزيمة حلّت بقريش، النساء يهمن في الجبل، والرجال يولّون الأدبار، والغنائم التي خلّفها ثلاثة الاف مشرك تزحم الوادي ... حتى غادروا مواقعهم هابطين إلى الميدان، يبغون انتهاب أنصبتهم من الأسلاب والأموال!. وكان فرسان المشركين بقيادة خالد بن الوليد محصورين، لا يجدون ثغرة ينفذون منها إلى قلب المسلمين، إلى أن حلّت الهزيمة، فلما رأى خالد أنّ مؤخرة المسلمين انكشفت، فلم يبق عليها حارس، اهتبل الفرصة على عجل، فاستدار بالخيل، وأحدق بخصومه منحدرا عليهم من حيث لا يحتسبون. ورأى الفارّون من قريش بوادر هذا التغير الطارئ، فتراجعوا، حتى إنّ امرأة تدعى عمرة بنت علقمة الحارثية هي التي رفعت لواء قريش من التراب، بعد أن سقط وصرع حملته، وثاب المشركون إلى رايتهم وخيالتهم فأحيط الصحابة من الأمام والخلف، ووقعوا بين شقي الرحى.. على أنّ الرجال الأحرار لا يصادون بسهولة، إنهم شدهوا لما حدث. ولكنّهم أخذوا يقاتلون بحرارة، وإن كان هدفهم هذه المرة أن ينجوا فحسب! أن يبصروا طريقا يخلّصهم من هذا المأزق العضوض!. واستشهد كثير وهم يحاولون شقّ طريقهم، واستطاع المشركون أن يخلصوا قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم، فرماه أحدهم بحجر كسر أنفه ورباعيته وشجّه في وجهه، فأثقله، وتفجّر منه الدم «1» . وشاع أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم قتل، فتفرّق المسلمون، ودخل بعضهم المدينة، وانطلقت طائفة فوق الجبل، واختلطت على الصحابة أحوالهم، فما يدرون كيف يفعلون.. إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يصيح بالمؤمنين: «إليّ عباد الله، إليّ عباد الله» ! فاجتمع إليه نحو ثلاثين رجلا، غير أنّ المشركين بصروا بهم فهاجموهم! ووقف طلحة بن عبيد الله، وسهل بن حنيف، إلى جوار الرسول عليه الصلاة والسلام، فأصيب طلحة بسهم في يده فشلّها.

_ (1) رواه ابن جرير في تاريخه عن السدي مرسلا كما في (البداية) : 4/ 23؛ وكسر رباعيته صلى الله عليه وسلم وشج رأسه ثابت في مسلم: 5/ 179، من حديث أنس؛ ورواه البخاري: 7/ 292، معلّقا.

وأقبل أبي بن خلف الجمحيّ على النبي عليه الصلاة والسلام- وكان قد حلف أن يقتله- وأيقن أنّ الفرصة سانحة، فجاء يقول: يا كذّاب أين تفر! وحمل على الرسول صلى الله عليه وسلم بسيفه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أنا قاتله إن شاء الله» ، وطعنه في جيب درعه طعنة وقع منها يخور خوار الثور، فلم يلبث إلا يوما أو بعض يوم حتى مات «1» . ومضى النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو المسلمين إليه، واستطاع- بالرجال القلائل الذين معه- أن يصعد فوق الجبل، فانحازت إليه الطائفة التي اعتصمت بالصخرة وقت الفرار. وفرح النبي عليه الصلاة والسلام أن وجد بقية من رجاله يمتنع بهم، وعاد لهؤلاء صوابهم إذ وجدوا الرسول حيا وهم يحسبونه مات. ويبدو أن إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم سرت على أفواه كثيرة، فقد مرّ أنس بن النضر بقوم من المسلمين ألقوا أيديهم، وانكسرت نفوسهم، فقال: ما تنتظرون؟. قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: وما تصنعون بالحياة بعده؟. قوموا فموتوا على ما مات عليه ... ثم استقبل المشركين، فما زال يقاتلهم حتى قتل ... ولم تتوان قريش من جانبها في مهاجمة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن انحاز إليه من أصحابه بغية الإجهاز عليه وعليهم، ومرّت ساعة عصيبة من أحرج الساعات في تاريخ الدنيا، وفرسان المشركين ورماتهم يحملون- بعناد وإلحاح- لتحقيق أمنيتهم، فقتل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم خلق كثير، وهم ينافحون دونه، جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه، ثم سقط بين حي وميت، وترّس عليه أبو دجانة بظهره، فكان النبل يقع فيه وهو لا يتحرك. روى مسلم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما أرهقه المشركون قال: «من يردّهم عنّي وله الجنّة؟» فتقدّم رجل

_ (1) هو من حديث السدي المتقدم، وقال ابن كثير: إنه غريب جدا وفيه نكارة لكن هذا القدر؛ وهو قصة قتله صلى الله عليه وسلم لأبي بن خلف له شاهد من رواية أبي الأسود عن عروة بن الزبير، ومن رواية الزهري عن سعيد بن المسيّب، كما في (البداية) : 4/ 32، وكلاهما مرسل.

من الأنصار، فقاتل حتى قتل! ثم رهقوه، فقال: «من يردّهم عنّي وله الجنّة» فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنصفنا أصحابنا» يعني من فرّوا وتركوه. وتركت هذه الاستماتة أثرها، ففترت حدّة قريش في محاولة قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وثاب إليه أصحابه من كلّ ناحية، وأخذوا يلمّون شملهم، ويزيلون شعثهم. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم صحبه أن ينزلوا قريشا من القمة التي احتلوها في الجبل قائلا: ليس لهم أن يعلونا، فحصبوهم بالحجارة حتى أجلوهم عنها «1» . إن الإفلات من عواقب هذا الانكسار الشنيع عمل لا يقل- في خطره- عن الانتصار الأول، وقد اتجه عزم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بذل كل جهد ممكن في سبيل مقاومة قريش، حتى لا تظفر بشيء غنيمة باردة، بل حتى تثقل بها مغارمها، فلا تطمع في مزيد من إيذاء المسلمين، فكان ينثل السهام من كنانته، ويعطيها سعد بن أبي وقاص ويقول: «ارم فداك أبي وأمي» «2» . وكان أبو طلحة الأنصاري راميا ماهرا في إصابة الهدف، قاتل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا رمى رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصه ينظر أين يقع سهمه، ويرفع أبو طلحة صدره قائلا: هكذا بأبي أنت وأمي، لا يصيبك سهم، نحري دون نحرك «3» ، ويقول: إني جلد يا رسول الله، فوجهني في حوائجك، ومرني بما شئت!! وقد نجح الرماة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ردّ المشركين الذين حاولوا صعود الجبل، وبذلك أمكن المسلمين الشاردين أن يلحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه. إلا أنّهم جاؤوا وكأنما خرجوا من عماية حتى إنّ بعضهم- من فرط الغيظ والذهول- قاتل أمامه لا يدري من يقاتل، فقتل اليمان والد الصحابي المعروف حذيفة، وصرخ حذيفة: أبي أبي! دون جدوى. ولمّا تجمّعت فلول المسلمين بعد هذا الكرّ والفرّ، كان الإعياء قد نال منهم

_ (1) هو من حديث السدي المتقدم. (2) رواه البخاري: 7/ 287، من حديث سعد. (3) رواه البخاري: 7/ 289- 290، من حديث أنس؛ وكذلك أخرجه أحمد: 3/ 105، 265، 286، وعنده في رواية قول أبي طلحة: «إني جلد ... » .

أيّ منال، لولا أنّ الله قذف في قلوبهم السكينة، وأعاد إليهم- بعد هذا الزلزال- الأمل والثقة، فسكنوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يرقبون ما يجدّ، وداعب الكرى أجفان البعض من طول التعب والسهر، فإذا أغفى وسقط من يده السيف، عاودته اليقظة، فتأهب للعراك من جديد! وهذا من نعمة الله على القوم: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ [ال عمران: 154] . ولم تكن قريش أقلّ من المسلمين معاناة لأهوال ذلك اليوم العصيب. فقد تعبت جدّ التعب في الجولة الأولى، فلما أديل لها، وطمعت أن تجعل المعركة حاسمة قاصمة وجدت المسلمين أصلب عودا؛ دون إفنائهم صعاب لا تستطيع احتمالها، فاكتفت مما ظفرت بالإياب. وظنّ المسلمون- لأول وهلة- أن قريشا تنسحب لتهاجم المدينة نفسها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب: «اخرج في اثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ فإن هم جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنّهم يريدون مكّة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل، فهم يريدون المدينة؛ فو الذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم، ثم لأناجزنّهم فيها» . قال علي: فخرجت في اثارهم، فرأيتهم جنّبوا الخيل وامتطوا الإبل، واتجهوا إلى مكة «1» . قال ابن إسحاق: ثم إنّ أبا سفيان حين أراد الانصراف أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت، إنّ الحرب سجال، يوم بيوم بدر، اعل هبل!. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «قم يا عمر فأجبه، فقل: الله أعلى وأجلّ، لا سواء، قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النّار» . فقال له أبو سفيان: هلم إليّ يا عمر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «ائته فانظر ما شأنه» ، فجاءه. فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمّدا؟ فقال عمر: اللهم لا، وإنّه ليسمع كلامك الان، قال: أنت عندي أصدق من ابن قميئة- وهو الذي زعم أنّه قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم.

_ (1) رواه ابن هشام: 2/ 140، عن ابن إسحاق بدون إسناد.

عبر المحنة:

ثم نادى أبو سفيان: إنه قد كان في قتلاكم مثلة، والله ما رضيت ولا سخطت، وما نهيت ولا أمرت «1» . ولما انصرف أبو سفيان نادى: إن موعدكم بدر العام المقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: «قل: نعم هو بيننا وبينك موعد» «2» . عبر المحنة: موقعة أحد فياضة بالعظات الغوالي والدروس القيّمة، وقد نزلت في أدوارها وحوادثها ونتائجها ايات طوال، وكان لها في نفس الرسول عليه الصلاة والسلام أثر عميق، ظلّ يذكره إلى قبيل وفاته، كانت امتحانا ثقيل الوطأة، محّض السرائر، ومزّق النقاب عن مخبوئها، فامتاز النفاق عن الإيمان، بل تميّزت مراتب الإيمان نفسه، فعرف الذين ركلوا الدنيا بنعالهم فلم يعرّجوا على مطمع من مطامعها، والذين مالوا إليها بعض الميل، فنشأ عن أطماعهم التافهة ما ينشأ عن الشرر المستصغر من حرائق مروّعة. بدأت المعركة بانسحاب ابن أبي، وهو عمل ينطوي على استهانة بمستقبل الإسلام وغدر به في أحرج الظروف، وتلك أبرز خسائس النفاق. والدعوات- إبّان امتدادها وانتصارها- تغري الكثيرين بالانضواء تحت لوائها، فيختلط المخلص بالمغرض، والأصيل بالدخيل. وهذا الاختلاط مضرّ أكبر الضرر بسير الرسالات الكبيرة وإنتاجها. ومن مصلحتها الأولى أن تصاب برجّات عنيفة، تعزل خبثها عنها، وقد اقتضت حكمة الله أن يقع هذا التمحيص في أحد:

_ (1) حديث صحيح، أخرجه أحمد، والحاكم وصحّحه من حديث ابن عباس، وإسناده حسن كما تقدم في أول معركة أحد، وله شاهد من حديث البراء عند البخاري وغيره، وقد سبق تخريجه قريبا. وشاهد اخر من حديث ابن مسعود أخرجه أحمد رقم (4414) ، وفيه حمّاد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، وقد سمع منه حالة الاختلاط كما سمع منه قبلها؛ ولهذا قال الحافظ ابن كثير (4/ 41) : «هذا إسناد فيه ضعف» وهذا هو الصواب، خلافا لقول الشيخ أحمد محمد شاكر: إنّه صحيح، فإنه ذهل عما ذكر من سماعه منه في الاختلاط. وقد صحّح فضيلة الشيخ كثيرا من الأحاديث في تعليقه على المسند وغيره كلّها من هذا الطريق، فليتنبه لهذا. (2) لم أجده الان عند غير ابن إسحاق.

[من بطولات الصحابة وتضحياتهم] :

ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [ال عمران: 179] . فالجبن والنكوص هما اللذان كشفا عن طوية المنافقين، فافتضحوا أمام أنفسهم وأمام الناس قبل أن تعلن عن نفاقهم السماء. فإذا تجاوزت السفوح التي يدبّ عليها أولئك المنافقون، وثبت إلى ذرا شامخة للإيمان البعيد الغور، النقيّ العنصر، يتمثل في مرحلة الهجوم المظفر الذي ابتدأ به القتال، ثم في مرحلة الدفاع النبيل الهائل الذي حمل المسلمون عبئه عند ما ارتدت الكرة للمشركين، ورجحت كفتهم. إن الرجال الذين يكتبون التاريخ بدمائهم، ويوجّهون زمامه بعزماتهم؛ هم الذين صلوا هذه الحرب، وحافظوا بها مصير الإسلام في الأرض. روي أن (خيثمة) قتل ابنه في معركة بدر فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لقد أخطأتني وقعة بدر، وكنت- والله- عليها حريصا حتى ساهمت ابني في الخروج، فخرج- في القرعة- سهمه، فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة، يسرح في ثمار الجنة وأنهارها، يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا!!. ثم قال: وقد أصبحت يا رسول الله مشتاقا إلى مرافقته، وقد كبرت سنّي، ورقّ عظمي، وأحببت لقاء ربّي؛ فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة ابني خيثمة في الجنة، فدعا رسول الله عليه الصلاة والسلام له، فقتل ب (أحد) شهيدا «1» . [من بطولات الصحابة وتضحياتهم] : وكان (عمرو بن الجموح) أعرج شديد العرج، وكان له أربعة أبناء شباب يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توجّه إلى (أحد) أراد أن يخرج معه، فقال له بنوه: إنّ الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد. فأتى عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنّ بنيّ هؤلاء يمنعونني أن أجاهد معك،

_ (1) لم أقف عليه الان.

وو الله إنّي لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة!! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا أنت فقد وضع الله عنك الجهاد» . وقال لبنيه: «وما عليكم أن تدعوه لعلّ الله عز وجلّ أن يرزقه الشهادة» ، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل يوم أحد شهيدا «1» . وقال نعيم «2» بن مالك: يا نبيّ الله لا تحرمنا الجنّة- وذلك قبل نشوب القتال- فو الذي نفسي بيده لأدخلنها!! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بم؟» قال: بأنّي أحبّ الله ورسوله، ولا أفرّ يوم الزّحف، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدقت» واستشهد يومئذ. وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم: اللهم إنّي أقسم عليك أن ألقى العدوّ غدا فيقتلوني، ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني: فيم ذلك؟ فأقول: فيك «3» !. هذه صورة للرجولة الفارعة التي اصطدم بها الكفر أول المعركة واخرها، فماد أمامها، واضطربت من تحت أقدامه الأرض، فما ربح شيئا في بداية القتال، ولا انتفع بما ربح اخره. وهذا اللون من البطولة مدفون تحت جدران التاريخ الإسلامي القائم إلى اليوم، وما يقوم للإسلام صرح، ولا ينكفّ عنه طغيان إلا بهذه القوى المذخورة المضغوطة في أفئدة الصدّيقين والشهداء.

_ (1) رواه ابن هشام: 2/ 139، عن ابن إسحاق، قال: وحدثني أبي إسحاق بن يسار عن أشياخ من بني سلمة به، وهذا سند حسن إن كان الأشياخ من الصحابة، وإلا فهو مرسل. وبعضه في المسند: 5/ 299، من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، وزاد: فقتلوا يوم أحد، هو وابن أخيه ومولى لهم، فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كأنّي أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة» . وسنده صحيح. (2) الصواب (النعمان بن مالك) ، وفي ترجمته أورد هذا الحديث الحافظ في (الإصابة) من طريق السدي. فهو مرسل. (3) أخرج هذا الأثر الحاكم: 3/ 199- 200، من طريق سعيد بن المسيّب: قال: قال عبد الله بن جحش ... وقال: «صحيح على شرط الشيخين، لولا إرسال فيه» ووافقه الذهبي. قلت: لكن له شاهد موصول أخرجه البغوي كما في (الإصابة) من طريق إسحاق بن سعد بن أبي وقاص: حدثني أبي أن عبد الله بن جحش قال ... فذكره بنحوه وزاد في اخره: قال سعد: «فلقد رأيته اخر النهار، وإن أنفه وأذنه لمعلقان في خيط» .

[إصابة النبي صلى الله عليه وسلم] :

من سرّ هذا الإلهام؟ من مشرق هذا الضياء؟ من مبعث هذا الاقتدار؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم! إنه هو الذي ربّى ذلكم الجيل الفذّ، ومن قلبه الكبير أترعت هذه القلوب تفانيا في الله، وإيثارا لما عنده. [إصابة النبي صلى الله عليه وسلم] : وقد أصيب هذا النبي الجليل صلى الله عليه وسلم في (أحد) أصيب في بدنه؛ إذ دخلت حلقات المغفر في وجهه، فأكبّ عليه أبو عبيدة يعالج انتزاعها بفمه، فما خلصت من لحمه حتى سقطت معها ثنيتاه «1» ، ونزف الدم- غزارة- من جراحته، كلّما سكب عليه الماء ازداد دفقا، فما استمسك حتى أحرقت قطعة من حصير فألصقت به «2» . وكسرت كذلك رباعيته «3» ، وكسرت البيضة «4» على رأسه؛ ومع ذلك فقد ظل متقد الذهن، يوجه أصحابه إلى الخير حتى انتهت المعركة. ثم أصيب في أهله، فقتل حمزة بحربة انغرزت في أحشائه، وجاءت (هند) امرأة أبي سفيان، فاستخرجت كبده من بطنه، ولاكتها بفمها، ثم لفظتها لانفجار المرارة. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعز حمزة، ويحبه أشد الحب، فلما رأى شناعة المثلة في جسمه تألم أشد الألم، وقال: «لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت قط موقفا أغيظ إليّ من هذا» «5» بيد أن التسليم لله لم يلبث أن مسح هذه الأحزان العارضة، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفقد أصحابه، ويخفّف ما نزل بهم، ويسكب من

_ (1) ذكره ابن هشام: 2/ 135- 136، من طريق إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عيسى بن طلحة عن عائشة عن أبي بكر، وقد وصله الطيالسي: 2/ 99، فقال: حدثنا ابن المبارك عن إسحاق به، وكذلك وصله الحاكم: 3/ 26- 27، ووقع في سنده تحريف وقال: «صحيح الإسناد» ، فتعقبه الذهبي بقوله: «قلت: إسحاق متروك» ؛ وكذا قال الهيثمي: 6/ 112، بعد أن عزاه للبزار. (2) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 298؛ ومسلم: 5/ 178؛ وغيرهما من حديث سهل بن سعد. (3) هو من حديث سهل بن سعد المتقدم انفا. (4) البيضة: الخوذة من الحديد توضع على رأس المقاتل. (5) حديث لا يصح؛ ذكره ابن هشام: 2/ 141، بدون إسناد؛ ولم أجده عند غيره، وقد نقله عنه الحافظ ابن كثير: 4/ 40؛ وابن حجر في (الفتح) : 7/ 297، ولم يوصلاه.

[دروس وعبر] :

إيمانه على نفوسهم ما يملؤها عزاء ورضا عن الله واستكانة لقضائه. روى الإمام أحمد «1» : لما كان يوم أحد، وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استووا حتى أثني على ربّي عز وجلّ» ، فصاروا خلفه صفوفا، فقال: «اللهم! لك الحمد كلّه. اللهم! لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضلّ لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت؛ ولا مقرّب لما باعدت، ولا مبعّد لما قرّبت. اللهم! ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم! إنّي أسألك النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول. اللهم! إنّي أسألك العون يوم العيلة، والأمن يوم الخوف. اللهم! إنّي عائذ بك من شرّ ما أعطيتنا وشرّ ما منعتنا. اللهمّ! حبّب إلينا الإيمان، وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الرّاشدين. اللهم! توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين. اللهم! قاتل الكفرة الذين يكذّبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم! قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحقّ» . [دروس وعبر] : ترفق القران الكريم وهو يعقّب على ما أصاب المسلمين في (أحد) على عكس ما نزل في بدر من ايات، ولا غرو؛ فحساب المنتصر على أخطائه أشدّ من حساب المنكسر.

_ (1) في المسند: 3/ 414؛ والحاكم أيضا؛ 1/ 507، 3/ 23- 24، وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» ، قلت: إنّما هو صحيح فقط، فإنّ فيه عبيد بن رفاعة، لم يخرج له الشيخان، ومن أخطاء الذهبي: أنّه في أحد الموضعين وافق الحاكم على تصحيحه، وفي الموضع الاخر قال: «والحديث مع نظافة إسناده منكر» ، كذا قال: ولم أعرف لقوله وجها، والله أعلم.

في المرة الأولى قال: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) [الأنفال] . أما في أحد فقال: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [ال عمران: 152] . حسب المخطئين ما لحقهم من أوضار الهزيمة، وفي القصاص العاجل درس يذكّر المخطئ بسوء ما وقع فيه. وقد اتجهت الايات إلى مزج العتاب الرقيق بالدرس النافع وتطهير المؤمنين، حتى لا يتحوّل انكسارهم في الميدان إلى قنوط يفلّ قواهم، وحسرة تشل إنتاجهم: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) [ال عمران] . ثم مضى الوحي يعلّم المسلمين ما جهلوا من سنن الدين والحياة، أو يذكّرهم بما نسوا من ذلك، فبيّن أنّ المؤمن- مهما عظمت بالله صلته- فلا ينبغي أن يغترّ به، أو يحسب الدنيا دانت له، أو يظنّ قوانينها الثابتة طوع يديه. كلا، كلا؛ فالحذر البالغ والعمل الدائم هما عدتا المسلم لبلوغ أهدافه المرسومة، ويوم يحسب المسلم أنّ الأيام كلها كتبت له، وأنّ شيئا منها لن يكون عليه، وأنّ أمجاد الدارين تنال دون بذل التكاليف الباهظة، فقد سار في طريق الفشل الذريع. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [ال عمران: 140] . أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) [ال عمران] . وأولو الألباب يستحيون أن يطلبوا السلعة الغالية بالثّمن التافه، وهم يبدون استعدادهم للتضحية بأنفسهم لقاء ما ينشدون؛ بيد أن الاستعداد أيام الأمن يجب ألا يزول أيّام الروع.

إنّ الإنسان- في عافيته- قد يتصوّر الأمور سهلة مبسّطة، وقد يتأدّى به ذلك إلى المجازفة والخداع. فليحذر المؤمن هذا الموقف، وليستمع إلى تأنيب الله لمن تمنّوا الموت ثم حادوا عنه لما جاء: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) [ال عمران] . ثم عاتب الله عز وجلّ من أسقط في أيديهم، وانكسرت همتهم، لمّا أشيع أن الرسول عليه الصلاة والسلام مات، ما كذلك يسلك أصحاب العقائد! إنهم أتباع مبادئ لا أتباع أشخاص. ولو افترض أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قتل وهو ينافح عن دين الله، فحقّ على أصحابه أن يثبتوا في مستنقع الموت، وأن يردوا المصير نفسه الذي ورده قائدهم، لا أن ينهاروا ويتخاذلوا. إنّ عمل محمّد عليه الصلاة والسلام ينحصر في إضاءة الجوانب المعتمة من فكر الإنسان وضميره، فإذا أدى رسالته ومضى، فهل يسوغ للمستنير أن يعود إلى ظلماته فلا يخرج منها!. لقد جمع محمد صلى الله عليه وسلم الناس حوله على أنّه عبد الله ورسوله، والذين ارتبطوا به عرفوه إماما لهم في الحق، وصلة لهم بالله. فإذا مات عبد الله، ظلّت الصلة الكبرى بالحيّ الذي لا يموت باقية نامية: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) [ال عمران] . وقد استطرد النّظم الكريم يبصّر المؤمنين بمواطن العبرة فيما نالهم، ويعلّمهم كيف يتقون في المستقبل هذه المازق، وينتهز هذه الكبوة العارضة ليعزل عن جماعة المسلمين من خالطوهم على دخل، وعاشروهم على نفاق. ولئن أفادت وقعة (بدر) في خذل الكافرين، إن وقعة (أحد) أفادت مثلها في فضح المنافقين، ورب ضارة نافعة، وربما صحّت الأجسام بالعلل. ولعلّ ما ترتّب على عصيان الأوامر في هذه الموقعة درس عميق يتعلّم منه

شهداء أحد:

المسلمون قيمة الطاعة، فالجماعة التي لا يحكمها أمر واحد، أو التي تغلب على أفرادها وطوائفها النزعات الفردية النافرة لا تنجح في صدام، بل لا تشرّف نفسها في حرب أو سلام. والأمم كلّها- مؤمنها وكافرها- تعرف هذه الحقيقة، ولذلك قامت الجندية على الطاعة التامة، وعند ما تشتبك أمة في حرب، تجعل أحزابها جبهة واحدة، وأهواءها رغبة واحدة، وتخمد كلّ تمرّد أو شذوذ ينجم في صفوفها. وإحسان الجندية كإحسان القيادة. فكما أنّ إصدار الأوامر يحتاج إلى حكمة، فإن إنفاذها يحتاج إلى كبح وكبت، ولكن عقبى الطاعة في هذه الشؤون تعود على الجماعة بالخير الجزيل. وأسرع الناس إلى الشغب والتمرد من أقصوا عن الرئاسة وهم إليها طامحون. وكان عبد الله بن أبيّ مثلا لهذه الفئة، التي تضحّي بمستقبل الأمة في سبيل أطماعها الخاصة. أمّا الرماة الذين عصوا الأوامر بلزوم أماكنهم مهما كانت أطوار القتال فقد مرّت بهم فترة ضعف وذهول، تيقظت- خلالها- بقية في أنفسهم من حبّ الدنيا، والإقبال على عرضها الزائل، فكان إثر ذلك ما كان!. ولذلك لما دهش المسلمون للكارثة التي قلبت عليهم الأمور، بيّن الله لهم أنهم هم مصدرها، فما أخلفهم موعدا، ولا ظلمهم حقا. أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) [ال عمران] . إن الإسلام يشترط لكمال العمل وقبوله الإيمان، والاحتساب، والتجرّد. شهداء أحد: أخذت قريش طريقها إلى مكة وقد استخفّها النّصر الذي أحرزته. إنها طارت به على عجل، كأنّها غير واثقة مما نالت بعد الهزيمة التي حاقت بها أول القتال!!. وأقبل المسلمون يتحسّسون مصابهم في الرجال، ويجهّزون القتلى لمضاجعهم التي يبرزون منها للقاء الله يوم ينفخ في الصور.

روى ابن إسحاق «1» أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الرّبيع؟ أفي الأحياء هو أم في الأموات؟» فقال رجل من الأنصار: أنا. فنظر، فوجده جريحا في القتلى، وبه رمق، فقال له: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر، أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ فقال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامي! وقل له: إنّ سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنّا خير ما جزى نبيّا عن أمته! وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم إنّ سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيّكم وفيكم عين تطرف ... !. قال: ثم لم أبرح حتّى مات، وجئت النبيّ عليه الصلاة والسلام فأخبرته خبره. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفن الشهداء حيث قتلوا، ورفض أن ينقلوا إلى مقابر أسرهم. قال جابر بن عبد الله: لمّا كان يوم أحد جاءت عمّتي بأبي لتدفنه في مقابرنا، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ردّوا القتلى إلى مضاجعهم» «2» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم

_ (1) أخرجه من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني مصرحا بسماعه منه، مرفوعا به، كما في سيرة ابن هشام: 2/ 140- 141، وهذا إسناد معضل، وقد رواه الحاكم: 3/ 201، من طريق محمد بن إسحاق: أنّ عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة حدّثه عن أبيه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ... فذكره. وأنا أخشى أن يكون سقط من السند محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن إسحاق، وعبد الله بن عبد الرحمن، فإنّهم لم يذكروا ابن إسحاق في الرواة عن عبد الله بن عبد الرحمن، وعليه يكون الحديث مرسلا، وبه أعلّه الذهبي؛ لأن عبد الله هذا تابعي، وأما أبوه عبد الرحمن ابن أبي صعصعة فصحابي، فلو أنّ سند الحاكم سلم من السقط لكان الحديث متصلا، ولما أعلّه الذهبي بالإرسال، والله أعلم. والحديث رواه مالك في الموطأ: 2/ 21، عن يحيى بن سعيد معضلا، ونقل السيوطي في (تنوير الحوالك) عن ابن عبد البر قال: «هذا الحديث لا أحفظه ولا أعرفه إلا عند أهل السير، فهو عندهم مشهور معروف» قلت: قد رواه الحاكم أيضا من حديث زيد بن ثابت، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع ... وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» ، ووافقه الذهبي، وفي سنده أبو صالح عبد الرحمن بن عبد الله الطويل، ولم أجد الان ترجمته. (2) حديث صحيح، أخرجه أبو داود: 2/ 63؛ والنسائي: 1/ 284؛ وابن ماجه: 1/ 264؛ وأحمد: 3/ 297، 307، 397، 398، بسند صحيح عن جابر.

يقول: «أيّهم أكثر أخذا للقران؟» فإذا أشير إلى أحدهما قدّمه في اللحد، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة!» وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصلّ عليهم، ولم يغسّلهم.. «1» . ولما انصرف عنهم قال: «أنا شهيد على هؤلاء، إنّه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون دم، والرّيح ريح مسك» «2» . إنّ معركة أحد تركت اثارا غائرة في نفس النبيّ عليه الصلاة والسلام ظلت تلازمه إلى اخر عهده بالدنيا. في هذا الجبل الداكن الجاثم حول يثرب أودع محمد صلى الله عليه وسلم أعزّ الناس عليه، وأقربهم إلى قلبه، فالصفوة النقية التي حملت أعباء الدعوة، وعادت في سبيل الله الأقربين والأبعدين، واغتربت بعقائدها قبل الهجرة وبعدها، وأنفقت وقاتلت، وصبرت وصابرت، هذه الصفوة اختطّ لها القدر مثواها الأخير في هذا الجبل الأشم، فتوسّدت ثراه راضية مرضية، وكان رسول الله يتذكّر سير أولئك الأبطال ومصائرهم فيقول: «أحد جبل يحبّنا ونحبّه» «3» . فلمّا حانت وفاته، جعل اخر عهده بذكريات البطولة أن يزور قتلى أحد وأن يدعو الله لهم، وأن يعظ الناس بهم!!. عن عقبة بن عامر، قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 3/ 163- 165، 169، 7/ 300؛ والنسائي: 1/ 277؛ والترمذي: 2/ 147، وصححه، وابن ماجه: 1/ 461؛ وأحمد: 5/ 431، من حديث جابر أيضا. (2) حديث صحيح، أخرجه أحمد: 5/ 431، 432؛ وابن هشام: 2/ 142، كلاهما من طريق ابن إسحاق. حدّثني الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري مرفوعا، وهذا سند صحيح، وابن صعير صحابيّ صغير، فهو مرسل صحابي، وهو حجة. وكذلك أخرجه البيهقي: 4/ 11، من طريق ابن عيينة عن الزهري به، وأخرجه أيضا من طريق أخرى عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه به. وإسناده صحيح أيضا. (3) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 302؛ ومسلم: 4/ 124، وغيرهما من حديث أنس وغيره.

[حمراء الأسد] :

سنين كالمودّع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر، فقال: «إنّي بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإنّ موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا. وإنّي لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدّنيا أن تنافسوها!» . قال عقبة: فكان اخر نظرة نظرتها إلى رسول الله «1» . [حمراء الأسد] : على أنّ المسلمين دفنوا موجدتهم في أفئدتهم، ولم يستسلموا لأحزان المصاب الذي حلّ بهم، وكان تكاثر خصومهم حولهم سببا في أن يقاوموا عوامل الخور، وأن يبدوا للناس بقية من قوة تردّ عنهم كيد المتربّصين، على نحو ما قال الشاعر: وتجلّدي للشامتين أريهم ... أنّي لريب الدّهر لا أتضعضع وقد كانت الهزيمة في أحد فرصة انتهزها المنافقون واليهود، وكل ذي غمر على محمّد عليه الصلاة والسلام ودينه وأصحابه، ففارت المدينة كالمرجل المتّقد، وكشف عن عداوته من كان قبلا يواريها، وتحدّث الكافرون بالإسلام عن خذلان السماء للنبيّ المرسل من عند الله. فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعيد تنظيم رجاله على عجل، وأن يتحامل الجريح مع السليم على تكوين جيش جديد، يخرج في أعقاب قريش ليطاردها، ويمنع ما قد يجد من تكرار عدوانها!!. كانت معركة أحد في يوم السبت لخمسة عشر من شوال، وكان خروج هذا الجيش في الأحد لستة عشر منه. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا (حمراء الأسد) «2» ، واقتربوا من جيش أبي سفيان، وكان رجال قريش- بعد أن ضمّهم الفضاء الرحب قد عادوا إلى التفكير فيما حدث، وأخذوا يتلاومون، يقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكة القوم، ثم تركتموهم ولم تبتروهم، وقد بقيت منهم رؤوس يجمعون لكم!.

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 3/ 164، 7/ 279- 280، 302؛ ومسلم: 7/ 67؛ وأحمد: 4/ 149، 153، 154؛ والبيهقي: 4/ 14. (2) رواه ابن لهيعة، عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير مرسلا كما في البداية، وذكره ابن هشام عن ابن إسحاق بدون سند.

اثار أحد:

إلا أنّ هذا التفكير تزلزل إثر ما عرفت قريش أنّ المسلمين عبّؤوا قواهم، وخرجوا يستأنفون القتال. وحار المشركون في أمرهم: أيعودون لحرب لا يأمنون مغبتها، وربما أفقدتهم ثمار النصر الذي أحرزوه؟ أم يمضون- لتوهم- إلى مكة؟ وفي هذه الحال يتحسن مركز المسلمين، وتخفّ مرارة الهزيمة التي لحقتهم. وقد رأى أبو سفيان أن يغنم الأوبة الرابحة، وأن يبعث إلى المسلمين من يقذف بالرعب في قلوبهم، ويخبرهم أن قريشا عادت لاستئصال شأفتهم بعد أن تبيّن لها خطؤها في تركهم. وعسكر المسلمون ب (حمراء الأسد) ثم جاءهم دسيس أبي سفيان يغريهم بالعودة إلى يثرب نجاة بأنفسهم من كرّة المشركين عليهم، وهم لا يقدرون على ملاقاتهم!. بيد أنّ المسلمين قبلوا التحدّي، وظلوا في معسكرهم يوقدون النار طيلة ثلاث ليال، في انتظار قريش التي ترجّح لديها أنّ النجاة بنفسها أولى، فعادت إلى مكة، وعاد المسلمون إلى المدينة ليدخلوها مرة أخرى، أرفع رؤوسا، وأعزّ جانبا. وفي هذه المظاهرة الناجحة، وفيمن اشتركوا فيها على ألم الجراح وإرهاق التعب، وفي ثباتهم على التثبيط واطمئنانهم إلى جانب الله، نزلت الايات الكريمة: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) [ال عمران] . اثار أحد: انتقض على الإسلام كثير ممن هادنه أو داهنه. وبرغم مظهر البأس الذي أبداه المسلمون في مطاردة المشركين حتى (حمراء الأسد) ؛ فإنّ هزيمة (أحد) كانت أبعد غورا مما يظنون. لقد جرّأت عليهم أعراب البادية، وفتحت لهم أبواب الأمل في الإغارة على المدينة، وانتهاب خيرها.

كما أنّ اليهود عالنوا بسخريتهم، وتركوا وساوس الغش تلحّ عليهم، وتكدّر سيرتهم مع المسلمين. ومن أصعب الأمور قياد الأمم عقب الهزائم الكبيرة، وقياد الدعوات بعد الانكسارات الخطيرة، وإن كان الرجال يستسهلون الصعب، ويصابرون الأيام حتى يجتازوا الأزمات. وقد جاءت السّنة الرابعة للهجرة والمسلمون لمّا يداووا جراحاتهم في (أحد) ؛ إلّا أنّ الأحداث لا تنتظر، فقد أخذ البدو يتحرّكون نحو المدينة، يحسبون أنّ ما فيها أصبح غنيمة باردة، وأول من تهيّأ لغزو المدينة بنو أسد، فسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعث أبي سلمة على رأس مئة وخمسين رجلا؛ ليبغت القوم في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم «1» . ولم يلق أبو سلمة عناء في تشتيت أعدائه واستياق نعمهم أمامه، حتى عاد إلى المدينة مظفرا، وأبو سلمة يعدّ من خيرة القادة الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبقوا إلى الإيمان والجهاد معه، وقد عاد من هذه الغزاة مجهودا؛ إذ نغر عليه جرحه الذي أصابه في أحد، فلم يلبث حتى مات. وحاول خالد بن سفيان الهذلي أن يحشد الجموع لحرب المسلمين، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس فقتله «2» وهو يجتهد في تأليب القبائل للهجوم على المدينة. وثارت هذيل لرجلها بأن أعانت على تسليم أسرى المسلمين إلى أهل مكة في غزوة الرّجيع.

_ (1) ذكر هذه السرية ابن كثير في (البداية) : 4/ 61- 62، من طريق الواقدي بإسناد له معضل! والواقدي متروك!. (2) رواه أبو داود: 2/ 196؛ والبيهقي: 3/ 256؛ وأحمد: 3/ 496، من طريق ابن عبد الله بن أنيس عن أبيه، وقال الحافظ ابن كثير في (تفسيره: 1/ 295) : «إسناده جيد» ، وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح: 2/ 350) : «إسناده حسن» . قلت: وابن عبد الله بن أنيس سماه البيهقي في روايته «عبيد الله» ، وكأنه تحريف من الناسخ أو الطابع، فقد أورده ابن أبي حاتم فيمن اسمه «عبد الله» مكبرا. وقال: «روى عن أبيه، وروى عنه محمد بن إبراهيم التيمي» ، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. وقد روى عنه محمد بن جعفر بن الزبير أيضا، وهو الذي روى عنه هذا الحديث، والله أعلم.

[قصة الرجيع] :

[قصة الرجيع] : وأصل قصّة الرّجيع هذه، أن وفدا من قبائل عضل والقارة، قدم على رسول الله يذكر أنّ أنباء الإسلام وصلت إليهم، وأنهم يحتاجون إلى رجال يعلمونهم الدين، ويقرئونهم القران، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم معهم رهطا من الدعاة يرأسهم عاصم بن ثابت، فانطلق الجميع حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة قريبا من مياه هذيل شعر الدعاة بأنّ أصحابهم غدروا بهم، واستصرخوا هذيلا عليهم. وفزع الدعاة إلى أسلحتهم يقاتلون الغادرين ومن أعانهم من قبيلة هذيل، وماذا يجدي قتال نفر يعدّون على الأصابع لنحو مئة من الرماة وراءهم قومهم يشدّون أزرهم؟ لذلك لم يلبث عاصم وصحبه أن قتلوا. واستسلم للأسر منهم ثلاثة نفر: خبيب، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، فاسترقهم الهذليون وخرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، ومعنى بيعهم بمكة تسليمهم للقتلة المتربصين؛ فإن أولئك النفر من الرجال الذي قاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر وأحد، ولأهل مكة لديهم ترات، يودّون الاشتفاء منها، وقد حاول عبد الله الإفلات من هذا المصير فقتل، وأما (خبيب) و (زيد) فأخذهما رجال قريش ليقتلوهما، أخذا بثأرهم القديم. فأما زيد فابتاعه صفوان بن أمية؛ ليقتله بأبيه، ولما خرجوا به من الحرم، اجتمع حوله رهط من قريش- فيهم أبو سفيان بن حرب- فقال له أبو سفيان حين قدّم ليقتل-: أنشدك بالله يا زيد أتحب أنّ محمدا الان عندنا مكانك تضرب عنقه، وأنّك في أهلك؟ فقال: والله ما أحبّ أنّ محمدا الان في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي. فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحبّ أحدا كحبّ أصحاب محمّد محمدا. ثم قتل زيد. وأما خبيب فقد اشتراه عقبة بن الحارث، ليقتله بأبيه، فلما خرجوا بخبيب من الحرم ليصلبوه قال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، قالوا: دونك فاركع. فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا أن تظنّوا أنّي إنما طوّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصّلاة، فكان خبيب أول من سنّ هاتين الركعتين عند القتل ثم رفعوه على خشبة.

[شهداء القراء في بئر معونة] :

فلما أوثقوه قال: اللهم إنا قد بلّغنا رسالة رسولك، فبلّغه الغداة ما يصنع بنا. ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا «1» ، واستقبل الموت وهو ينشد: ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أيّ جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع حزن المسلمون لفقدانهم عاصما وصحبه، ولمصرع أسيريهم على هذا النحو الفاجع، فقد خسروا فريقا من الدعاة الأكفاء الشجعان يحتاج إليهم الإسلام في هذه الفترة من تاريخه، ثم إنّ اصطياد الرجال بهذه الطريقة زاد المسلمين توجّسا وقلقا؛ إذ إن ذلك المسلك دل على مبلغ طماعية العرب في أهل الإيمان، واستهتارهم بأرواحهم، وجرأتهم على النيل منهم دون تخوّف أو محاذرة قصاص!. [شهداء القرّاء في بئر معونة] : ومع أن هذه الواقعة توجب على المسلمين أن يتبصّروا قبل بعث أيّ وفد لنشر الإسلام بين القبائل البعيدة والمجاهل المريبة، إلا أن ضرورة بثّ الدعوة مهما فدحت الخسائر- جعلت النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى هذه التضحيات على أنّها أمر لا بدّ منه؛ كالتاجر الذي يتحمّل المغارم الثقيلة حينا من الدهر، لأنّ الانسحاب من السوق- بغية تجنّبها- قضاء عليه، فهو يبقى متجمّلا حتى تهبّ الريح من جديد رخاء تعوّض ما فقد، وذلك سرّ استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي براء عامر بن مالك الملقّب بملاعب الأسنّة حين عرض عليه أن يرسل وفدا من الدعاة ينشرون الإسلام بين قبائل نجد. وقد أبدى النبيّ صلى الله عليه وسلم خشيته من أن يصاب رجاله بسوء وسط قبائل ضارية لا يؤمن ذمامها، فقال أبو براء: أنا لهم جار «2» !!.

_ (1) رواه ابن هشام: 2/ 167- 169؛ عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة مرسلا. وهذا سند صحيح لولا الإرسال، لكن رواه البخاري في صحيحه: 7/ 303- 308؛ وأحمد: 2/ 194، 310، موصولا من حديث أبي هريرة نحوه وفيه الأبيات الاتية. (2) رواه ابن هشام: 2/ 174، عن ابن إسحاق بسند صحيح مرسلا؛ وكذلك رواه الطبراني-

وخرج الدعاة من المدينة، حتى بلغوا (بئر معونة) وكانوا سبعين من خيار المسلمين، يعرفون بالقرّاء، يحتطبون بالنهار، ويصلّون بالليل، ويحيون على هذا النّسق الرتيب من جهاد للحياة ورغبة في الاخرة. فلما أمرهم الرسول بالمسير لإبلاغ رسالات الله خرجوا، وما كانوا يعرفون أنهم- جميعا- يحثّون الخطا إلى مصارعهم في أرض انتشر الغادرون في فجاجها. وحينما انتهى القرّاء إلى (بئر معونة) بعثوا أحدهم- حرام بن ملحان- إلى (عامر بن الطفيل) رأس الكفر في هذه البقاع، فأعطاه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي يدعوه فيه إلى الإسلام، فلم ينظر عامر في الكتاب، وأمر رجلا من أتباعه أن يغدر بحامل الرسالة، فما شعر حرام إلا وطعنة نجلاء تخترق ظهره، وتنفذ من صدره، وكأنّ هذه الشهادة المفاجئة لاقت رجلا يتمنّاها من قديم، فقد صاح حرام على إثر ذلك: فزت وربّ الكعبة!. ومضى عامر في غشمه، فاستصرخ أعوانه، ليواصلوا العدوان على سائر القوم، فانضمت إليه قبائل رعل وذكوان والقارة؛ فهجم بهم عامر على القرّاء الوادعين. ورأى هؤلاء الموت مقبلا عليهم من كلّ صوب، فهرعوا إلى سيوفهم، يدفعون عن أنفسهم دون جدوى؛ إذ استطاع الأعراب الهمج أن يغشوهم في رحالهم، وأن يستأصلوهم عن اخرهم. وكان في سرح القرّاء اثنان لم يشهدا هذه المأساة، منهم (عمرو بن أمية الضمري) ولم يعرفا النبأ المحزن إلا من أفواج الطير المتوحّشة تنطلق نحو المعسكر، محوّمة حول الجثث الملقاة على الرمل الأعفر، طاعمة مما تستطيع اختطافه بأظافرها ومناقرها. قالا: والله إنّ لهذه الطير لشأنا، فأقبلا لينظرا، فإذا القوم مضرّجون في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة! قال زميل عمرو له: ماذا ترى؟ قال عمرو: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم نقصّ عليه الخبر، لكنّ زميله كره هذا الرأي، وكان له بين من استشهدوا صديق حميم يدعى المنذر؛ لذلك

_ - عن ابن إسحاق كما في (المجمع) : 6/ 128- 129؛ ورواه الطبراني أيضا من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه نحوه، قال الهيثمي: «ورجاله رجال الصحيح» .

[المصاب الفادح] :

أجاب عمرو بن أمية قائلا: ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر! وما كنت لأبقى حتى أقصّ خبره على الرجال! وهجم على الأعراب يقاتلهم حتى قتل، وأخذ عمرو أسيرا فأعتقه عامر بن الطفيل كبير الغادرين عن رقبة زعم أنها على أمه!. [المصاب الفادح] : ورجع عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم حاملا معه أنباء المصاب الفادح، مصرع سبعين من أفاضل المسلمين، تذكّر نكبتهم الكبيرة بنكبة أحد إلا أنّ هؤلاء ذهبوا في قتال واضح؛ وأولئك ذهبوا في غدرة شائنة. إنّ هذه النازلة ملأت قلوب المسلمين غيظا، وهم لم يضيقوا بخسائرهم فحسب، بل الذي أحرج مشاعرهم في هذه الحادثة أنّها كشفت عما تخبئه الوثنية في ضميرها من غلّ كامن على الإسلام وأهله، غلّ عصف بكل مبادئ الشرف والوفاء، وأباح لكل غادر أن يلحق الأذى بالمؤمنين متى شاء وكيف شاء. وفي طريق عمرو إلى المدينة لقي رجلين ظنّهما من بني عامر، فقتلهما ثأرا لأصحابه، ثم تبيّن أنهما من بني كلاب، وأنّهما معاهدين للمسلمين. ولمّا قدم عمرو على الرسول عليه الصلاة والسلام وأخبره الخبر، قال النبي صلى الله عليه وسلم للناس: «إنّ أصحابكم أصيبوا، وإنّهم قد سألوا ربّهم فقالوا: ربّنا أخبر عنّا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنّا» «1» . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو: «لقد قتلت قتيلين لأدينّهما» «2» ، وانشغل بجمع دياتهما من المسلمين وحلفائهم اليهود!. [استعادة هيبة المسلمين] : إنّ نجاح الإسلام في ترسيخ أقدامه بالجزيرة أحفظ قلوبا كثيرة، ولا ريب أنّ تأميل المسلمين في المستقبل، وارتقابهم المزيد في الفتح زاد ضغن

_ (1) أخرجه البخاري في صحيحه: 7/ 312، من طريق هشام بن عروة عن أبيه مرسلا. لكن رواه بنحوه موصولا من حديث أنس: 7/ 309، 310، 311؛ والطبراني من حديث ابن مسعود كما في (المجمع) : 6/ 130. (2) رواه الطبراني، وابن هشام من طريق ابن إسحاق بسنده مرسلا. وقد تقدم قريبا.

الضاغنين، وقد كان الناقمون والمتربّصون يصفون المسلمين بالغرور: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) [الأنفال] ، غير أنّ هذه الكراهية اختفت أمدا بعد انتصار (بدر) بل لعلّ هذا النصر أغرى جمهورا من الضعاف والمترددين بالانضواء تحت علم الدّين الجديد. فلما تقلّبت الليالي بالمسلمين، ولحقتهم الهزائم، انفجر الحقد المكبوت، ونهض خصوم الإسلام يناوشونه في كل مكان. وقد قلنا: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أدرك هذه الحال بعد (أحد) فبذل جهده ليستعيد هيبة المسلمين، ويوطّد ما اضطرب من مكانتهم، ولذلك اشتدّ الصراع بين الجانبين: المشركون يظنّون الفرصة سانحة لإتباع (أحد) بمثلها أو أشدّ، والمسلمون يرون محوها إلى الأبد. على أنّ الخسائر تلاحقت بالمسلمين في الرجيع وبئر معونة كما مر بك، ودخل الإيمان في محنة بعد أخرى، ومع هذه البأساء لم يفقد الرجال الواثقون صلتهم بربهم، واطمئنانهم إلى غدهم، وشرعوا يردّون الضربة بمثلها، فلمّا تحرّك اليهود في هذه الاونة العصيبة ليغتالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتوان في إنزال العقوبة الرادعة بهم.

إجلاء بني النضير

إجلاء بني النضير وتفصيل ذاك الغدر أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام ذهب إلى منازل بني النضير ليستعين بهم في دية القتيلين اللذين قتلهما (عمرو بن أمية) مرجعه من بئر معونة، فلما فاوضهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمر، أظهروا الرضا بمعونته، فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم، ينتظر وفاءهم بما وعدوا، لكنّ يهود خلا بعضهم إلى بعض، ثم قالوا: إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه- خلوّ بال واطمئنان نفس- فمن رجل يعلو ظهر هذا البيت، فيلقي عليه صخرة، ويريحنا منه!. وحين أوشك اليهود على إنفاذ مكيدتهم ألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطر المدبّر له، فنهض- عجلا- من جوار البيت الذي جلس إلى جنب جداره، وقفل راجعا إلى المدينة. وشعر أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بمغيبه، فقاموا في طلبه، فإذا رجل مقبل من المدينة، يخبرهم أنّه راه يدخلها، فأسرعوا يلحقون به، فلما انتهوا إليه، أخبرهم بما كادت له يهود، وقد عرف- بعد- أنّ عمرو بن جحّاش هو الذي أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء الرحى عليه، ولم ينج الشقيّ من عواقب جرمه، ولا نجا قومه، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لبث أن استدعى محمد بن مسلمة، وقال له: «اذهب إلى بني النّضير فمرهم أن يخرجوا من المدينة، ولا يساكنوني بها، وقد أجّلتهم عشرا فمن وجدت بعد ذلك ضربت عنقه» «1» .

_ (1) رواه نحوه ابن سعد في (الطبقات الكبرى) في غزوة بني النضير بدون إسناد؛ لكن روى البيهقي كما في تفسير ابن كثير: 4/ 313، بسنده عن محمد بن مسلمة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير، وأمره أن يؤجّلهم في الجلاء ثلاثة أيام، ورجاله ثقات غير محمود بن محمد بن مسلمة، ترجمه ابن أبي حاتم: 4/ 1/ 290، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. فهو في عداد المجهولين.

ولم يجد يهود مناصا من الخروج، فأخذو يتجهّزون للرحيل، بيد أنّ منافقي المدينة، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي أرسلوا إليهم: أن اثبتوا، ونحن ننصركم على محمّد وصحبه! فعادت لليهود ثقتهم، واستقرّ رأيهم على المناوأة، وأرسلوا للنبي صلى الله عليه وسلم يقولون له: لن نخرج، فافعل ما بدا لك، ثم احتموا بحصونهم، واستعدّوا للقتال، وزادهم إصرارا على المقاومة ما ترامى إليهم من أنّ ابن أبيّ أعدّ ألفي مقاتل لنصرتهم. ونهض النبي صلى الله عليه وسلم لمناجزة القوم، وتحدّى من ينضمّ إليهم من قبائل اليهود الاخرى، أو من مشركي العرب، وفرض الحصار على مساكن بني النضير، وأمر بتقطيع نخلهم «1» ، ثم جدّ الجدّ، ورأى اليهود الموت، ووقع الرعب في قلوب أعوانهم، فلم يحاول أحد أن يسوق لهم خيرا، أو يدفع عنهم شرا، مع أنّ اشتباك المسلمين بخصومهم في هذه الفترة المحرجة من تاريخهم لم يكن مأمون العواقب، وقد رأيت كلب العرب عليهم، وفتكهم الشنيع ببعوثهم، ثم إنّ يهود بني النضير كانوا على درجة من القوة تجعل استسلامهم بعيد الاحتمال، وتجعل فرض القتال معهم محفوفا بالمكاره؛ إلا أنّ الحال التي جدّت بعد مأساة (بئر معونة) وما قبلها، زادت حساسية المسلمين بجرائم الاغتيال والغدر، التي أخذوا يتعرّضون لها جماعات وأفرادا، وضاعفت نقمتهم على مقترفيها، ومن ثمّ قرروا أن يقاتلوا بني النضير بعد همهم باغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما تكن النتائج. وقد جاءت النتيجة في مصلحتهم بأسرع مما يتصورون، فاندحر اليهود، ونزلوا على حكم المنتصر، الذي أذن لهم بالجلاء عن ديارهم، ولهم ما حملت إبلهم من أموال ما عدا السلاح! «2» . وفي هذه المعركة نزلت سورة الحشر بأكملها، فوصفت طرد اليهود في صدرها بقول الله عز وجلّ: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ

_ (1) هذا الأمر صحيح، أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عمر. (2) رواه الحاكم: 2/ 483، من حديث عائشة، وفيه نزول الاية الاتية؛ وقال: «صحيح على شرط الشيخين» ووافقه الذهبي! وإنّما هو صحيح فقط، لأنّ زيد بن المبارك الصنعاني وشيخه محمد بن ثور ليسا من رجالهما.

[الثأر لأصحاب الرجيع وبئر معونة] :

يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) [الحشر] . ثم فضح القران مسلك منافقي المدينة، الذين حاولوا إعانة يهود في غدرها وحربها، وحرّضوها على مقاتلة المسلمين بما وعدوها من أمداد وعتاد فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) [الحشر] . وبهذا النصر الذي أحرزه المسلمون دون تضحيات، توطد سلطانهم في المدينة، وتخاذل المنافقون عن الجهر بكيدهم، وأمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتفرّغ لقمع الأعراب الذين اذوا المسلمين بعد أحد وتواثبوا على بعوث الدعاة يقتلون رجالها في نذلة وكفران. [الثأر لأصحاب الرجيع وبئر معونة] : وتأديبا لأولئك الغادرين خرج النبيّ عليه الصلاة والسلام يجوس فيافي نجد، ويطلب ثأر أصحابه الذين قتلوا في (الرجيع) و (بئر معونة) ، ويلقي بذور الخوف في أفئدة أولئك البدو القساة، حتى لا يعاودوا مناكرهم التي ارتكبوها مع المسلمين. وقام النبي صلى الله عليه وسلم- تحقيقا لهذا الغرض- بغزوات شتى، أرهبت القبائل المغيرة، وخلطت بمشاعرها الرعب ... فأضحى الأعراب الذين مردوا على النهب والسطو لا يسمعون بمقدم المسلمين إلا حذروا، وتمنّعوا في رؤوس الجبال بعد ما قطعوا الطرق على الدعوة ردحا من الزمن، وفي مقدمة هؤلاء: بنو لحيان، وبنو محارب، وبنو ثعلبة من غطفان. فلمّا خضد المسلمون شوكتهم، وكفكفوا شرّهم، أخذوا يتجهّزون لملاقاة عدوهم الأكبر، فقد استدار العام وحضر الموعد المضروب مع قريش. وحقّ لمحمد صلى الله عليه وسلم وصحبه أن يخرجوا ليواجهوا أبا سفيان وقومه، وأن يديروا رحى الحرب كرة أخرى، حتى يستقرّ الأمر لأهدى الفريقين وأجدرهما بالبقاء.

بدر الاخرة

بدر الاخرة لم ينشط أبو سفيان للوفاء بالميعاد الذي ضربه عند منصرفه من «أحد» بل خرج من مكة متثاقلا، يفكّر في عقبى القتال مع المسلمين، وهو- بعد- لمّا يتخذ لهذا القتال أهبته التي يودها. إن قومه هزموا في (بدر) على كثرة عددهم ووفرة عدتهم، واستخلصوا النصر في (أحد) بعد جهد فاشل. ولولا الخطأ الذي وقع فيه جيش التوحيد ما ظفرت قريش بهذه الغرّة؛ لذلك ما كاد أبو سفيان يقترب من (الظهران) حتى بدا له في الرجوع فصاح بقومه: يا معشر قريش! إنّه لا يصلحكم إلا عام خصيب، ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا ... وهكذا انسحبت قريش من المعركة المنتظرة. أما المسلمون فإنهم نفروا لملاقاة المشركين على استعداد وحماسة، حتى وصلوا إلى ماء (بدر) فعسكروا حوله، يعلنون وفاءهم بكلمتهم، وتأهبهم للحرب الموعودة، وظلوا ثمانية أيام يرتقبون مقدم أهل مكة، ويمسحون عن سمعتهم اخر ما تركت هزيمة (أحد) من غبار ... وكان ذلك في شعبان من السنة الرابعة من الهجرة.

دومة الجندل

دومة الجندل وانتقل زمام المفاجأة إلى أيدي المسلمين بعد أن نكصت قريش عن مواجهتهم، فالتفتوا إلى الشمال بعد أن توطدت مهابتهم في الجنوب. وشمال الجزيرة يجاور سلطان الروم القديم، والعرب الضاربون هناك لا يخشون بأس أحد بعد القيصر. وقيصر نفسه لا يتوقع أن تنبت في الجزيرة قوة تناوئه أو تتجاهله. وجاءت الأخبار إلى المدينة أنّ القبائل حول دومة الجندل- قريبا من الشام- تقطع الطريق هناك، وتنهب ما يمر بها، وقد بلغ بها الطيش حدّا فكرت معه أن تهاجم المدينة، وأن جمعا كبيرا احتشد بها للاندفاع في هذه الغارة!!. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من المسلمين، يكمن بهم نهارا ويسير ليلا حتى يفاجئ أعداءه وهم غارّون. والمسافة بين يثرب و (دومة الجندل) خمس عشرة ليلة، قطعها المسلمون بمعونة دليل ماهر، فلمّا بلغوا مضارب خصومهم اجتاحوها مباغتين، ففرت الجموع المتأهبة للسطو، وأصاب المسلمون سوائمهم ورعاءهم، وكانت لبني تميم. أما أهل الدومة ففروا في كل وجه، فلما نزل المسلمون بساحتهم لم يجدوا أحدا، وأقام الرسول عليه الصلاة والسلام عدة أيام يبعث السرايا، ويبثّ رجاله هنا وهناك فلم يثبت للقائم هارب. وعاد المسلمون إلى المدينة، وكان توجههم لعرب الشمال في ربيع الأول من السنة الخامسة.

غزوة بني المصطلق

غزوة بني المصطلق عند ما كان الإسلام دعوة تغالب النظام السائد كانت مخاصمته تتخذ طريق الجهرة والتهجم دون مبالاة، فلما استقرّ له الأمر، وتوفّرت لأبنائه أسباب القوة، سلكت عداوته المسارب التي تسلكها الغرائز المكبوتة، فأمسى الكيد له يقوم على المكر والدس إلى جانب الوسائل الاخرى التي يعالن بها الأقوياء. وائتمار الضعفاء في جنح الظلام لا يقلّ خطورة عن نكاية الأقوياء في ميادين الصدام،؛ بل إنّ المرء قد يألم لإشاعة ملفقة أكثر مما يألم لطعنة مواجهة. وفي الحروب الفاجرة تستخدم جميع الوسائل التي تصيب العدو؛ وإن كان بعضها يستحيي من استخدامه الرجل الشريف!. وقد لجأ المنافقون في المدينة إلى مناوأة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته بأسلوب تظهر فيه خسة النفس الإنسانية عند ما يستبد بها الحقد، ويغلب عليها الضعف، أسلوب اللمز والتعريض حينا، والإفك حينا اخر. وكلّما توطدت سلطة المسلمين، ورسخت مكانتهم، ازداد خصومهم المنافقون ضغنا عليهم، وتربصا بهم، وقد حاولوا تأييد اليهود عند ما تأذّنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجلاء، فلما لم يوقف مدّ الإسلام شيء، ولم تهدّه هزيمة، وأخذت القبائل العادية تختفي واحدة تلو أخرى، التحق أولئك المنافقون بصفوف المسلمين ولم تنكشف نياتهم السوء إلا من فلتات الألسنة ومزالق الطباع، فكانت سيرتهم تلك مثار فتن شداد، تأذى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون شيئا غير قليل. وظهر ذلك جليا في غزوة (بني المصطلق) . فإن الأنباء أتت الرسول عليه الصلاة والسلام بأن هذه القبيلة تجمع له وتستعد لقتاله، وأن سيدها الحارث بن أبي ضرار قد استكمل عدته لهذا المسير، فسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين ليطفئ الفتنة قبل اندلاعها. وخرج مع الرسول عليه الصلاة والسلام هذه المرة جمع من المنافقين،

الذين لم يعتادوا الخروج قبلا، ولعلّ ثقتهم بانتصار محمد عليه الصلاة والسلام أغرتهم بالذهاب معه ابتغاء الدنيا لا انتصارا لدين. وانتهى المسلمون إلى ماء يسمى (المريسيع) اجتمع لديه بنو المصطلق، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يعرض الإسلام على القوم، فنادى عمر فيهم: قولوا: لا إله إلا الله؛ تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم، فأبوا، وترامى الفريقان بالنبل. ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته فحملوا عليهم حملة رجل واحد، فلم يفلت من المشركين أحد، إذ وقعوا جميعا أسرى بعد ما قتل منهم عشرة أشخاص، ولم يستشهد من المسلمين إلا رجل واحد قتل خطأ، وسقطت القبيلة بما تملك في أيدي المسلمين «1» . ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعامل المهزومين بالإحسان، فلما جاء الحارث قائد القبيلة المنكسرة يطلب ابنته التي وقعت في الأسر ردّها عليه، ثم خطبها منه، وتزوجها «2» ، فاستحيى الناس أن يسترقّوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطلقوا من بأيديهم من الأسرى، فكانت جويرية بنت الحارث من أيمن الناس على أهلها، فقد أعتق في زواجها مئة أهل بيت من بني المصطلق!!. على أنّ هذا النصر الميسّر شابه من أعمال المنافقين ما عكّر صفوه، وأنسى

_ (1) رواه بنحوه ابن جرير في تاريخه: 2/ 260- 262، من طريق ابن إسحاق بسنده مرسلا. وكذلك رواه ابن هشام في (السيرة) : 2/ 216- 218، وهذا الإسناد مع ضعفه ليس فيه أمر عمر بعرض الإسلام. وقد أشار الزرقاني على المواهب: 2/ 97 لضعف هذه الزيادة، وحق له ذلك، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم ما يقتضي ضعفها، فقال ابن القيم في (الزاد: 2/ 158) بعد ذكر نحو ما هنا من القتال: «هكذا قال عبد الرحمن بن خلف في سيرته وغيره، وهو وهم، فإنّه لم يكن بينهم قتال، وإنما أغار عليهم على الماء، فسبى ذراريهم وأموالهم كما في الصحيح: أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون ... وذكر الحديث» . راجع: فتح الباري: 7/ 346. (2) هذا غير صحيح، وقد أشار لذلك ابن هشام في سيرته: 1/ 367، فإنه ذكر هذه الرواية بدون إسناد، وصدّرها بقوله: «ويقال» ، والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قضى عنها كتابتها وتزوجها دون أن يخطبها من أبيها فإنها كانت أسيرة كما رواه ابن إسحاق بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها؛ ومن طريقه أخرجه أحمد: 6/ 277؛ وابن هشام: 2/ 218- 219، 367، وفي حديثها قصة إطلاق الأسرى.

المسلمين حلاوته، فإنّ خادما لعمر كان يسقي له من ماء المريسيع ازدحم مع مولى لبني عوف من الخزرج، وكادا يقتتلان على الورود- شأن الخدم الطائشين-، فصاح الأول: يا للمهاجرين! وصاح الاخر: يا للأنصار! واستمع إلى صياح الأتباع عبد الله بن أبي- وكان في رهط من قومه- فرأى الفرصة سانحة لإثارة حفائظهم، وإحياء ما أماته الإسلام من نعرات الجاهلية، فقال: أو قد فعلوها؟ نافرونا وكاثرونا في بلادنا، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل، ثم أقبل على قومه- ولم تزل له فيهم بقية وجاهة- يلومهم ويحرّضهم على التنكّر للرسول عليه الصلاة والسلام وصحبه، فذهب (زيد بن أرقم) إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقصّ عليه الخبر، وأسرع ابن أبي إلى رسول الله يبرئ نفسه، وينفي ما قاله!!. ورأى الحاضرون أن يقبلوا كلام ابن أبي؛ رعاية لمنزلته، وقالوا: لعلّ الغلام- يعنون زيد بن أرقم- أوهم، ولم يحفظ ما قيل. على أنّ الحقيقة لم تفت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأحزنه ما وقع، ووجد خير علاج له شغل الناس عنه، حتى يعفّي على اثاره، فأصدر أمره بالارتحال في ساعة ما كان يروح في مثلها، ومشى بالناس سائر اليوم حتى أمسوا، وطيلة الليل حتى أصبحوا، وصدر يومهم الجديد حتى اذتهم الشمس، ثم نزل بهم. فما إن وجدوا مسّ الأرض حتى وقعوا نياما! وتابع الرّسول عليه الصلاة والسلام رواحه حتى عاد إلى المدينة. ونزلت سورة المنافقين وفيها تصديق ما روى زيد بن أرقم: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) [المنافقون] «1» . لم يدر بخاطر أحد أنّ هذه الأوبة المتعجّلة سوف تتمخّض عن أكذوبة دنيئة يحيك أطرافها (عبد الله بن أبي) ثم يرمي بها بين الناس، فتسير مسير الوباء الفاتك. إنّ هذا الرجل حلف كاذبا بعد أن أنكر مقالته الثابتة، ولو أنّ الجبان ذهب يطلب النجاة من عقباها، لكان ذلك أجدى عليه، لكنّه لم يزدد- على السماح

_ (1) هذا تمام مرسل ابن إسحاق الذي ذكرته انفا.

الذي قوبل به- إلا خسّة وخصاما، والبون بعيد بين أصناف الرجال، الذين عادوا الإسلام ورسوله. لقد كان (أبو جهل) خصما لدودا لكلّ من دخل هذا الدين، وكان طاغية عنيدا لا تنتهي لجاجته، إلا أنه كان كالضبع المفترس، لا يحسن الالتواء والوقيعة، حمل السيف في وضح النهار، وما زال يقاتل به حتى صرع. أمّا عبد الله بن أبي فقد اختفى كالعقرب الخائنة، ثم شرع يلسع الغافلين، قبع هذا المنافق في جنح الظلام وبدأ ينفث الإشاعات المريبة. وتدلّى- في غوايته- إلى حضيض بعيد، فلم يبال أن يتهجّم على الأعراض المصونة، وأن ينسج حولها مفتريات يندى لها جبين الحرائر العفيفات. في عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق إلى المدينة، نبت حديث الإفك وشاع، واجتهد خصوم الله ورسوله أن ينقلوا شرره في كل مكان قاصدين- من وراء هذا الأسلوب الجديد في حرب الإسلام- أن يدمّروا على الرسول صلى الله عليه وسلم بيته، وأن يسقطوا مكانة أقرب الرّجال لديه، وأن يدعوا جمهور المسلمين- بعد ذلك- يضطرب في عماية من الأسى والغم!!. وللوصول إلى هذه الغاية استباح ابن أبي لنفسه أن يرمي بالفحشاء سيدة لمّا تجاوز مرحلة الطفولة البريئة، لا تعرف الشرّ، ولا تهمّ بمنكر، ولا تحسن الحياة إلا في فلك النبوة العالي، وهي التي تربّت في حجر صدّيق، وأعدت لصحبة نبي في الدنيا والاخرة. وتلقّف العامة هذا الحديث الغريب، وهم في غمرة الدهشة، لا يدرون مبلغ الخطر الكامن في قبوله ونقله. وإليك سردا لهذا (الحديث) المفتعل على لسان السيدة التي تعرّضت له وبرّئت منه.

حديث الإفك

حديث الإفك قالت السيدة عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها معه، فلمّا كانت غزوة (بني المصطلق) خرج سهمي عليهنّ، فارتحلت معه. قالت: وكان النساء إذ ذاك يأكلن العلق، لم يهجهنّ اللحم فيثقلن، وكنت إذا رجّل لي بعيري جلست في هودجي، ثم يأتي القوم فيحملونني، يأخذون بأسفل الهودج فيرفعونه، ثم يضعونه على ظهر البعير ويشدّونه بالحبال وبعدئذ ينطلقون. قالت: فلمّا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذاك توجّه قافلا، حتى إذا كان قريبا من المدينة، نزل منزلا، فبات فيه بعض الليل، ثم أذّن مؤذّن في الناس بالرحيل، فتهيؤوا لذلك، وخرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقد لي، فلما فرغت انسلّ من عنقي ولا أدري، ورجعت إلى الرحل، فالتمست عقدي، فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل، فعدت إلى مكاني الذي ذهبت إليه، فالتمسته حتى وجدته. وجاء القوم الذين كانوا يرحّلون لي البعير- وقد كانوا فرغوا من رحلته- فأخذوا الهودج يظنون أنّي فيه كما كنت أصنع، فاحتملوه، فشدّوه على البعير، ولم يشكّوا أني به، ثم أخذوا برأس البعير وانطلقوا!!. ورجعت إلى المعسكر وما فيه داع ولا مجيب، لقد انطلق الناس! قالت: فتلفّفت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني، وعرفت أنّي لو افتقدت لرجع الناس إليّ، فو الله إنّي لمضطجعة، إذ مرّ بي (صفوان بن المعطّل السّلمي) وكان قد تخلّف لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس، فرأى سوادي، فأقبل حتّى وقف عليّ وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب- فلمّا راني قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ظعينة رسول الله! - وأنا متلفّفة في ثيابي!! - ما خلّفك يرحمك الله؟ قالت: فما كلمته، ثم قرّب إليّ البعير فقال: اركبي، واستأخر عنّي، قالت:

فركبت، وأخذ برأس البعير منطلقا يطلب النّاس، فو الله ما أدركنا الناس، وما افتقدت حتى أصبحت ونزلوا، فلمّا اطمأنوا طلع الرجل يقود بي البعير، فقال أهل الإفك ما قالوا وارتجّ العسكر، وو الله ما أعلم بشيء من ذلك. ثم قدمنا المدينة، فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة؛ وليس يبلغني من ذلك شيء، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله وإلى أبويّ؛ وهم لا يذكرون لي منه كثيرا ولا قليلا؛ إلّا أنّي قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بي في شكواي هذه. فأنكرت ذلك منه، كان إذا دخل علي وعندي أمي تمرّضني، قال: «كيف تيكم؟» لا يزيد على ذلك. قالت: حتى وجدت في نفسي- غضبت- فقلت: يا رسول الله- حين رأيت ما رأيت من جفائه لي-، لو أذنت لي فانتقلت إلى أمّي؟ قال: «لا عليك» . قالت: فانقلبت إلى أمّي ولا علم لي بشيء مما كان، حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة، وكنّا قوما عربا، لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف، التي تتخذها الأعاجم، نعافها ونكرهها، إنّما كنّا نخرج في فسح المدينة، وكانت النساء يخرجن كلّ ليلة في حوائجهن، فخرجت ليلة لبعض حاجتي، ومعي أمّ مسطح، فو الله إنّها لتمشي معي إذ عثرت في مرطها، فقالت: تعس مسطح؟ فقلت: بئس- لعمر الله- ما قلت لرجل من المهاجرين شهد بدرا!. قالت: أوما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر؟ قلت: وما الخبر! فأخبرتني بالذي كان من أهل الإفك. قلت: أو قد كان هذا؟!. قالت: نعم. والله لقد كان!. قالت عائشة: فو الله ما قدرت على أن أقضي حاجتي، ورجعت، فو الله ما زلت أبكي، حتى ظننت أنّ البكاء سيصدع كبدي، وقلت لأمي: يغفر الله لك، تحدّث الناس بما تحدّثوا به، ولا تذكرين لي من ذلك شيئا؟ قالت: أي بنية، خفّفي عنك فو الله لقلّ ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبّها، ولها ضرائر، إلا كثّرن وكثّر الناس عليها. قالت: وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبهم- ولا أعلم بذلك- فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس! ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحقّ؟! والله ما علمت عليهم إلا خيرا، ويقولون ذلك لرجل- والله- ما علمت منه إلا خيرا، ولا يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي!» .

قالت: وكان كبر ذلك عند (عبد الله بن أبي) في رجال من الخزرج، مع الذي قال (مسطح) و (حمنة بنت جحش) وذلك أنّ أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن امرأة من نسائه تناصيني في المنزلة عنده غيرها، فأما زينب فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيرا، وأما (حمنة) فأشاعت من ذلك ما أشاعت، تضارّني بأختها. فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة، قال أسيد بن حضير: يا رسول الله! إن يكونوا من (الأوس) نكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا (الخزرج) فمرنا أمرك، فو الله إنّهم لأهل أن تضرب أعناقهم، فقام (سعد بن عبادة) - وكان قبل ذلك يرى رجلا صالحا- فقال: كذبت لعمر الله، ما تضرب أعناقهم، إنك ما قلت هذه المقالة إلا وقد عرفت أنّهم من الخزرج؛ ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. فقال أسيد: كذبت لعمر الله، ولكنّك منافق تجادل عن المنافقين. وتساور الناس حتى كاد يكون بين هذين الحيين شرّ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليّ، ودعا (عليّ بن أبي طالب) و (أسامة بن زيد) فاستشارهما، فأما (أسامة) فأثنى خيرا، ثم قال: يا رسول الله! أهلك، وما نعلم منهم إلا خيرا. وهذا الكذب والباطل!. وأما (عليّ) فقال: يا رسول الله! إنّ النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف، وسل الجارية فإنّها تصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم (بريرة) يسألها، وقام إليها عليّ، فضربها ضربا شديدا وهو يقول: اصدقي رسول الله! فتقول: والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة، إلا أنّي كنت أعجن عجيني، فامرها أن تحفظه، فتنام عنه فتأتي الشاة وتأكله!!. قلت: ثم دخل عليّ رسول الله، وعندي أبواي، وعندي امرأة من الأنصار وأنا أبكي وهي تبكي، فجلس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «يا عائشة! إنّه قد كان ما بلغك من قول النّاس، فاتقي الله، وإن كنت قد قارفت سوا مما يقول الناس، فتوبي إلى الله، فإنّ الله يقبل التوبة عن عباده» . قالت: فو الله، إن هو إلا أن قال لي ذلك حتى قلص دمعي، فما أحسّ منه شيئا، وانتظرت أبواي أن يجيبا عني فلم يتكلّما!.

قالت عائشة: وايم الله لأنا كنت أحقر في نفسي وأصغر شأنا من أن ينزّل الله فيّ قرانا، لكنّي كنت أرجو أن يرى النبيّ عليه والصلاة والسلام في نومه شيئا يكذّب الله به عنّي؛ لما يعلم من براءتي؛ أمّا قرانا ينزل فيّ، فو الله، لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك. قالت: فلمّا لم أر أبويّ يتكلّمان قلت لهما: ألا تجيبان رسول الله، فقالا: والله لا ندري بما نجيبه، قالت: والله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على ال أبي بكر في تلك الأيام. ثم قالت: فلمّا استعجما عليّ استعبرت فبكيت، ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا، والله إنّي لأعلم لئن أقررت بما يقول النّاس- والله يعلم أنّي بريئة- لأقولنّ ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدّقونني. قالت: ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره، فقلت: أقول ما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف: 18] . فو الله ما برح رسول الله مجلسه حتى تغشّاه من الله ما كان يتغشّاه، فسجّي بثوبه، ووضعت وسادة تحت رأسه، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت، فو الله ما فزعت وما باليت، وقد عرفت أنّي بريئة، وأنّ الله غير ظالمي، وأما أبواي فو الذي نفس عائشة بيده ما سرّي عن رسول الله حتى ظننت لتخرجنّ أنفسهما فرقا أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس، ثم سرّي عن رسول الله فجلس، وإنّه ليتحدّر من وجهه مثل الجمان في يوم شات، فجعل يمسح العرق عن وجهه، ويقول: «أبشري يا عائشة! قد أنزل الله عز وجلّ براءتك» . فقلت: الحمد لله، ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم الايات: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) [النور] «1» . والغريب أنّ الحدّ أقيم على من ثبتت عليهم تهمة القذف، وهم (حسان بن ثابت) و (مسطح) و (حمنة) ، أما (عبد الله بن أبي) مدبّر الحملة وجرثومتها الخفية، فإنّه كان أحذر من أن يقع تحت طائلة العقاب، لقد أوقع غيره ثم أفلت بنفسه ...

_ (1) هذه القصة صحيحة، رواها بهذا السياق ابن إسحاق بأسانيد صحيحة عن عائشة، ومن طريقه أخرجها ابن هشام في (السيرة) : 2/ 220- 222؛ وهي عند البخاري: 7/ 347- 350؛ ومسلم: 8/ 113- 117، بنحو ما هنا.

وكتّاب السيرة على أنّ (حديث الإفك) و (غزوة بني المصطلق) كانا بعد الخندق، لكننا تابعنا (ابن القيم) في اعتبارها من حوادث السنة الخامسة قبل هجوم الأحزاب على المدينة، والتحقيق يساند (ابن القيم) ومتابعيه. فستعلم أنّ (سعد بن معاذ) قتل في معركة الأحزاب؛ مع أنّ لسعد في غزوة بني المصطلق شأنا يذكر؛ إذ إنّ الرسول عليه الصلاة والسلام اشتكى إليه «1» عمل ابن أبيّ، ولا يتفق أن يستشهد سعد بن معاذ في غزوة الخندق، ثم يحضر بعد ذلك في بني المصطلق، لو صحّ أنها وقعت في السنة السادسة.

_ (1) لعلّه وهم أو سبق قلم، فإن المشتكى إليه إنما هو أسيد بن حضير، كما في سيرة ابن هشام: 2/ 217. على أنّ إسناده مرسل فلا حجة فيه. وفي الباب مما يؤيد ما ذهب إليه ابن القيم أشياء صحيحة، فيراجع لها: فتح الباري: 7/ 345.

غزوة الأحزاب

غزوة الأحزاب أيقنت طوائف الكفّار أنها لن تستطيع مغالبة الإسلام إذا حاربته كلّ طائفة مفردة، وأنّها ربما تبلغ أملها إذا رمت الإسلام كتلة واحدة، وكان زعماء يهود في جزيرة العرب أبصر من غيرهم بهذه الحقيقة، فأجمعوا أمرهم على تأليب العرب ضد الإسلام، وحشدهم في جيش كثيف ينازل محمدا صلى الله عليه وسلم وصحبه في معركة حاسمة. وذهب نفر من قادة اليهود إلى قريش يستنفرونهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، وكانت قريش قد أخلفت عدتها مع النبي صلى الله عليه وسلم عاما، وهي لا بدّ خارجة لقتال المسلمين؛ إنقاذا لسمعتها، وبرا بكلمتها، وها هم أولاء رجالات يهود يحالفونهم على ما يبغون؛ فلا مكان لتوجّس أو خلاف. والغريب أن أحبار التوراة أكّدوا لعبدة الأوثان في مكة أنّ قتال محمد صلى الله عليه وسلم حق، واستئصاله أرضى لله! لأنّ دين قريش أفضل من دينه! وتقاليد الجاهلية أفضل من تعاليم القران! وسرّت قريش بما سمعت، وزادها إصرارا على العدوان، فواعدت اليهود أن تكون معها في الزحف على المدينة. وترك زعماء اليهود قريشا إلى أعراب (غطفان) فعقدوا معهم حلفا مشابها لما تمّ مع أهل مكة، ودخل في هذا الحلف عدد من القبائل الناقمة على الدين الجديد. وبذلك نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، وعرف المسلمون مبلغ الخطر المحدق بهم، فرسموا- على عجل- الخطة التي يدفعون بها عن دعوتهم ودولتهم، وكانت خطة فريدة لم تسمع العرب قبلا- بمثلها، وهم الذين لا يعرفون إلا قتال الميادين المكشوفة. أما هذه المرة فإنّ المسلمين حفروا خندقا عميقا يحيط بالمدينة من ناحية السهل، ويفصل بين المغيرين والمدافعين. وأقبلت الأحزاب في جمع لا قبل للمسلمين بردّه.

قريش في عشرة الاف من رجالها ومن تبعهم من (كنانة) و (تهامة) و (غطفان) في طليعة قبائل (نجد) . وبرز المسلمون بعد ما جعلوا نساءهم وذراريهم فوق الاطام الحصينة من يثرب، ثم انتشروا على حدود مدينتهم، مسندين ظهورهم إلى جبل سلع، ومرابطين على شاطئ الخندق الذي احتفروه بعد جهود مضنية، وبلغت عدتهم في هذه المعركة نحو ثلاثة الاف مقاتل. علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ الالتحام مع هذه الجيوش الضخمة في ساحة ممهدة ليس طريق النصر؛ فما عسى أن تصنع قلة مؤمنة مكافحة مع هذا السيل الدافق؟!. لذلك لجأ إلى هذه المكيدة، ويروى أن الذي أشار بها (سلمان الفارسي) وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم رجاله لإحكامها وإنجازها، فأخذ يحفر بيده، ويحمل الأتربة والأحجار على عاتقه، وتأسّى به الرجال الكبار، ممن لم يألفوا هذا العمل قط، فشهدت يثرب منظرا عجيبا، وجوها ناصعة تتألّف منها فرق شتى تضرب بالفؤوس، وتحمل المكاتل، وتتعرّى من لباسها وزينتها لتلبس حلالا من نسج الغبار المتراكم والعرق واللغوب. قال البراء بن عازب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبرّ بطنه وهو يقول: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا إنّ الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا «1» وهذا الغناء من شعر عبد الله بن رواحة، كان المشتغلون في الخندق يزيحون التعب عن أعصابهم بالاستماع إلى نغمه، وترديد الكلمات الأخيرة من مقاطعه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدّ صوته بها معهم، فيقول: لاقينا، أبينا «2» ، مما يعيد إلى أذهاننا صور (الفعلة) الذين يحفرون الترع بالريف، أو يبنون القصور بالمدن.

_ (1) حديث صحيح، أخرجه الشيخان في صحيحيهما. (2) حديث صحيح، وهو رواية للبخاري عن البراء بن عازب.

إنّ الدفاع عن الإسلام ومخافة الفتنة لو انتصر المشركون جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته يعالجون هذا العمل الثقيل ونفوسهم راضية مغتبطة مع ما يلقون فيه من عناء وصعوبة. ولا تحسبنّ عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعميق الخندق وقذف أتربته من قبيل التمثيل الذي يحسنه بعض الزعماء في عصرنا، كلا، كلا. إنّ الرجولة الكادحة الجادّة في أنبل صورها كانت تقتبس من مسلك الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المعركة. يقول البراء: لقد وارى عني التراب جلدة بطنه، وكان كثير الشعر «1» . أجل إنه استغرق في العمل مع أصحابه؛ فالرجولة الصادقة لا تعرف التمثيل. وكان الفصل شتاء، والجوّ باردا، وهناك أزمة في الأقوات تعانيها المدينة التي توشك أن تتعرّض لحصار عنيف، وليس هناك أقتل لروح المقاومة من اليأس، فلو تعرّض المحصور لسوراته المقبضة فمزالق الاستسلام الذليل أمامه تنجرّ به إلى الحضيض، لذلك اجتهد النبيّ صلى الله عليه وسلم في تدعيم القوى المعنوية لرجاله، حتى يوقنوا بأنّ الضائقة التي تواجههم سحابة صيف عن قليل تقشع. ثم يستأنف الإسلام مسيره بعد، فيدخل الناس فيه أفواجا، وتندكّ أمامه معاقل الظلم، فلا يصدر عنها كيد ولا تخشى منها فتنة. ومن إحكام السياسة أن يقارن هذا الأمل الواسع مراحل الجهد المضني. قال عمرو بن عوف: كنت أنا، وسلمان، وحذيفة، والنعمان بن مقرّن، وستة من الأنصار في أربعين ذراعا- من الأرض التي كلّفوا بحفرها- فحفرنا حتى وصلنا إلى صخرة بيضاء كسرت حديدنا، وشقّت علينا، فذهب سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره عن هذه الصخرة التي اعترضت عملهم، وأعجزت معاولهم. فجاء النبي عليه الصلاة والسلام وأخذ من سلمان المعول، ثم ضرب الصخرة ضربة صدعتها، وتطاير منها شرر أضاء خلل هذا الجو الداكن، وكبّر رسول الله عليه الصلاة والسلام تكبير فتح، وكبّر المسلمون. ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك.

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 322.

تفتتت الصخرة تحت ضربات الرجل الأيّد الجلد الموصول بالسماء، الراسخ على الأرض، ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى صحبه وقد أشرق على نفسه الكبيرة شعاع من الثقة الغامرة والأمل الحلو، فقال- يحدّث صحبه عن السنا المنقدح بين حديد المعول واحدة الصخرة-: «لقد أضاء لي في الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى، كأنّها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أنّ أمّتي ظاهرة عليها، وفي الثانية أضاء القصود الحمر من أرض الرّوم كأنّها أنياب الكلاب، وأخبرني أنّ أمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء، كأنّها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أنّ أمتي ظاهرة عليها فأبشروا» ، فاستبشر المسلمون، وقالوا: الحمد لله موعود صادق «1» . فلما انسابت الأحزاب حول المدينة، وضيّقوا عليها الخناق لم تطر نفوس المسلمين شعاعا، بل جابهوا الحاضر المرّ وهم موطدو الأمل في غد كريم: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) [الأحزاب] . أما الواهنون والمرتابون ومرضى القلوب فقد تندّروا بأحاديث الفتح، وظنوها أماني المغرورين، وقالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا. وفيهم قال الله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) [الأحزاب] . إنّ معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر بل معركة أعصاب. فقتلى الفريقين من المؤمنين والكفار يعدون على الأصابع، ومع تلك الحقيقة فهي من أحسن المعارك في تاريخ الإسلام؛ إذ إن مصير هذه الرسالة

_ (1) ضعيف جدا بهذا السياق، رواه ابن جرير في تاريخه، من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، و (كثير) هذا متروك، بل قال الشافعي وأبو داود: ركن من أركان الكذب، وقال الحافظ ابن كثير في تاريخه (4/ 100) : «حديث غريب» ، وقصة الصخرة ثبتت في صحيح البخاري: 7/ 317، من حديث البراء مختصرا، وهي عند أحمد: 4/ 303، من حديثه مطولا، وإسناده حسن، كما قال الحافظ في (الفتح) : 7/ 317، فيحسن جعله مكان حديث (كثير) .

العظمى كان فيها أشبه بمصير رجل يمشي على حافة قمة سامقة، أو حبل ممدود، فلو اختلّ توازنه لحظة؛ وفقد السيطرة على موقفه؛ لهوى من مرتفعه إلى واد سحيق، ممزّق الأعضاء، ممزّع الأشلاء! ولقد أمسى المسلمون وأصبحوا فإذا هم كالجزيرة المنقطعة وسط طوفان يتهددها بالغرق ليلا أو نهارا. وبين الحين والحين يتطلع المدافعون هل اقتحمت خطوطهم في ناحية ما من منطقة الدفاع؟ وكان المشركون يدورون حول المدينة غضابا يتحسّسون نقطة لينحدروا منها فينفسوا عن حنقهم المكتوم، ويقطّعوا أوصال هذا الدين الثائر. وعرف المسلمون ما يتربّص بهم وراء هذا الحصار، فقرروا أن يرابطوا في مكانهم ينضحون بالنبل كل مقترب، ويتحمّلون لأواء هذه الحراسة التي تنتظم السهل والجبل، وتتسع ثغورها يوما بعد يوم، وهم كما وصف الله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (11) [الأحزاب] . وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول المدينة على هذا النحو، فإنّ فرض الحصار وترقّب نتائجه ليس من شيمهم، فخرج عمرو بن عبد ودّ، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، وأقبلوا تعنق بهم خيلهم، حتى وقفوا على حافة الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها. ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق، وضربوا خيلهم فاقتحمته، وأحس المسلمون الخطر المقترب؛ فأسرع فرسانهم يسدّون هذه الثغرة يقودهم علي بن أبي طالب. وقال علي لعمرو بن عبد ود- وهو فارس شجاع معلم-: يا عمرو إنك عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه. قال: أجل، فقال علي: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام! قال عمرو: لا حاجة لي بذلك، قال علي: فإني أدعوك إلى النزال، فأجاب عمرو: ولم يا بن أخي؟ فو الله ما أحبّ أن أقتلك استصغارا لشأنه- قال علي: لكنّي والله أحبّ أن أقتلك! فحمي عمرو، واقتحم عن فرسه، فعقره، وضرب وجهه، ثم أقبل على علي، فتنازلا وتجاولا، فقتله علي، وخرجت خيل المشركين من الخندق منهزمة حتى اقتحمته هاربة. وكان الأولاد في البيوت يرقبون جهاد المدافعين، وحركاتهم السريعة لصد العدوان في مظانه، فعن عبد الله بن الزبير قال: جعلت يوم الخندق مع النساء

والصبيان في الأطم، ومعي عمر بن أبي سلمة، فجعل يطأطئ لي، فأصعد على ظهره فأنظر. قال: فنظرت إلى أبي وهو يحمل مرة هنا ومرة هاهنا، فما يرتفع له شيء إلا أتاه، فلمّا أمسى وجاءنا إلى الأطم قلت: يا أبت، رأيتك اليوم وما تصنع، قال: رأيتني يا بني؟! قلت: نعم. قال الزبير- مدللا ولده-: فدى لك أبي وأمي. في هذه الاونة العصيبة جاءت الأخبار أنّ بني قريظة نقضوا معاهدتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانضمّوا إلى كتائب الأحزاب التي تحدق بالمدينة. وذلك أن حيي بن أخطب- أحد النفر الذين حرّضوا قريشا وسائر العرب على حرب الإسلام- جاء إلى كعب بن أسد- سيد بني قريظة- وقرع عليه بابه، وكان كعب عند قدوم الأحزاب قد أغلق أبوابه، ومنع حصونه، وقرر أن يوفي بالعهد الذي بينه وبين المسلمين، فلا يعين عليهم خصما- وليته بقي على هذا العزم- إلا أنّ حييا لزم الباب وهو يصرخ بكعب: ويحك افتح لي، فقال له كعب: إنّك امرؤ مشؤوم، وإنّي قد عاهدت محمّدا فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا! قال حيي: ويحك افتح لي أكلمك، قال: ما أنا بفاعل، فقال حيي: والله إن أغلقت بابك دوني إلا خوفا على جشيشتك أن اكل معك منها!. فأحفظ الرجل ففتح له.. ودخل حيي يقول: ويحك يا كعب، جئتك بعز الدهر وبحر طامّ! قال: وما ذاك؟ قال: جئتك بقريش على سادتها وقادتها، حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من (رومة) . وبغطفان على سادتها وقادتها حتى أنزلتهم إلى جانب (أحد) قد عاقدوني وعاهدوني على ألايبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه. قال كعب: جئتني- والله- بذلّ الدهر، وبجهام قد هراق ماؤه، فهو يرعد ويبرق، وليس فيه شيء، دعني وما أنا عليه، فإنّي لم أر من محمد إلا وفاء وصدقا!!. وتدخل اخرون فقالوا: إذا لم تنصروا محمدا كما يقضي الميثاق- فدعوه وعدوّه. بيد أنّ حييا استطاع أن يقنع سائر اليهود بوجهة نظره، وأن يزيّن لهم الغدر

في هذه الساعة الحرجة، وأن يضمّهم إلى المشركين في قتالهم الذي أعلنوه، وجعلوا الغاية منه ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمّدا ومن معه، ومضيّا في هذه الخطة الجائرة الخسيسة أحضرت بنو قريظة الصحيفة التي كتب فيها الميثاق فمزّقتها، فلما بعث النبي عليه الصلاة والسلام رجاله ليستجلوا موقف بني قريظة بإزاء عدوان الأحزاب قالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد!. وحاول سعد بن معاذ أن يذكّرهم بعقدهم فتصامّوا عنه. فلمّا خوّفهم عقبى الغدر، وذكر لهم مصير بني النضير، قالوا له: أكلت ذكر أبيك. وتبيّن أنّ حرص بني قريظة الأول على التزام العهد كان خوفا من عواقب الغدر فقط، فلما ظنت أن المسلمين أحيط بهم من كل جانب، وأنّها لن تؤاخذ على خيانة، أسفرت عن خيانتها، وانضمت إلى المشركين المهاجمين. ووجم المسلمون حين عادت رسلهم تحمل هذه الأنباء المقلقة، وربت مشاعر الكره في صدورهم لأولئك اليهود؛ حتى لأصبحوا أشوه أمام أعينهم من عبّاد الأصنام، ووعوا أتم الوعي أن بني إسرائيل أقدموا على قرارهم هذا وهم يعلمون معناه وعقباه، يعلمون أنه محاولة متعمدة للإجهاز على هذه الأمة ودينها، وتسليمها إلى من يقتل رجالها، ويسترق نساءها، ويبيع ذراريها في الأسواق. وتقنّع الرسول عليه الصلاة والسلام بثوبه حين أتاه غدر بني قريظة، فاضطجع، ومكث طويلا، حتى اشتدّ على الناس البلاء، ثم غلبته روح الأمل، فنهض يقول: «أبشروا بفتح الله ونصره» ! وفكر في أن يردّ عن المدينة بعض القبائل التي فرضت الحصار لقاء ثلث الثمار يبذله لها ويتقي به شرها، وكاد يصل في مفاوضاته مع قواد غطفان إلى هذا الحل. ولكن سادة الأوس والخزرج عزّ عليهم أن يرضوا به، وقدّروا للنبي عليه الصلاة والسلام شفقته عليهم، وألمه لاجتماع العرب ضدّهم؛ بيد أنهم قالوا: ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم، وطال الحصار. قال موسى بن عقبة: وأحاط المشركون بالمسلمين، حتى جعلوهم في مثل الحصن من كتائبهم، فحاصروهم قريبا من عشرين ليلة، وأخذوا بكلّ ناحية حتى

لا يدرى أثمّ هم أم لا؟ - هل احتلوا البلد أم لا؟ - قال: ووجهوا نحو مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة غليظة، فقاتلها المسلمون يوما إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر دنت الكتيبة- من المكان- فلم يقدر النبيّ عليه الصلاة والسلام ولا أحد من أصحابه أن يصلّوا الصلاة على نحو ما أرادوا. وانكفأت الكتيبة المشركة مع الليل، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «شغلونا عن صلاة العصر ملأ الله بطونهم وقلوبهم نارا» «1» . فلما اشتد البلاء نافق ناس كثير، وتكلموا بكلام قبيح. ورأى رسول الله ما بالناس من البلاء والكرب، فجعل يبشّرهم ويقول: «والّذي نفسي بيده ليفرجنّ عنكم ما ترون من الشّدّة! وإنّي لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق امنا، وأن يدفع الله إليّ مفاتيح الكعبة! وليهلكنّ الله كسرى وقيصر، ولتنفقنّ كنوزهما في سبيل الله» «2» . ووقع ثقل المقاومة على أصحاب الإيمان الراسخ والنجدة الرائعة، كان عليهم أن يكبتوا مظاهر القلق التي انبعثت وتكاثرت في النفوس الخوّارة الهلوع، وأن يشيعوا موجة من الإقدام والشجاعة تغلب أو توقف نزعات الجبن والتردد التي بدت هنا وهنالك، وطبائع النفوس تتفاوت تفاوتا كبيرا لدى الأزمات العضوض. منها الهشّ الذي سرعان ما يذوب، ويحمله التيار معه كما تحمل المياه الغثاء والأوحال. ومنها الصلب الذي تمر به العواصف المجتاحة، فتنكسر حدّتها على متنه وتتحول رغوة خفيفة وزبدا. أجل! من الناس من يهجم على الشدائد ليأخذها قبل أن تأخذه، وعلى لسانه قول الشاعر: تأخّرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدّما ومنهم من إذا مسّه الفزع طاش لبه، فولّى الأدبار، وكلّما هاجه طلب الحياة وحبّ البقاء أوغل في الفرار.

_ (1) حديث صحيح، أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث علي رضي الله عنه، وقال المقريزي في (إمتاع الأسماع) ، ص 234: «وهو حديث ثابت من طرق عنه» . (2) لم أجده الان.

وقد نعى القران الكريم على هذا الصنف الجزوع موقفه في معركة الأحزاب فقال: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) [الأحزاب] . وعند ما حاولت قريش اقتحام الخندق، وعند ما حاولت احتلال موقع النبي صلى الله عليه وسلم وعند ما عجمت عود المرابطين تبحث عن نقطة رخوة؛ لتثب منها إلى قلب المدينة، كان أولئك المؤمنون الراسخون سراعا إلى داعي الفداء، يجيئون من كل صوب، ليستيقن العدوّ أنّ دون مرامه الأهوال. روى ابن إسحاق أنّ عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة، وكانت أمّ سعد بن معاذ معها في الحصن. قالت عائشة: وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب. فمرّ (سعد) وعليه درع مقلصة خرجت منها ذراعه كلها، وفي يده حربته يرقل بها ويقول: لبّث قليلا يشهد الهيجا حمل «1» ... لا بأس بالموت إذا حان الأجل فقالت له أمه: الحق يا بنيّ فقد- والله- أخرت.. فقالت عائشة: فقلت لها: يا أم سعد! والله لوددت أنّ درع سعد كانت أسبغ مما هي. قالت: وخفت عليه حيث أصاب السهم منه، فرمي سعد بن معاذ بسهم قطع منه الأكحل. ويظهر أنّ جراحة (سعد) كانت شديدة، وليس سعد بالرجل الذي يهاب المنايا، ولكنّه عميق الرغبة في متابعة الجهاد، حتى يستقرّ أمر الإسلام وتنكس راية خصومه. فدعا الله قائلا: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنّه لا قوم أحبّ إلي أن أجاهداهم من قوم اذوا رسولك، وكذّبوه وأخرجوه، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة.

_ (1) أراد به حمل بن سعدانة بن حارثة بن معقل بن عليم بن جناب الكلبي، كما في (الروض الأنف) ، والبعض يصحّفها (جمل) بالجيم، وهو غلط.

ودعوة سعد الأخيرة تصوّر مبلغ ما انطوت عليه قلوب المسلمين من غيظ لخيانة يهود، وتمزيقها المعاهدة القائمة. ومسلك بني إسرائيل بإزاء المعاهدات التي أمضوها قديما وحديثا يجعلنا نجزم بأنّ القوم لا يدعون خستهم أبدا، وأنهم يرعون المواثيق ما بقيت هذه المواثيق متمشية مع أطماعهم ومكاسبهم وشهواتهم، فإذا أوقفت تطلّعهم الحرام نبذوها نبذ النواة، ولو تركت الحمير نهيقها، والأفاعي لدغها، ما ترك اليهود نقضهم للعهود. وقد نبّه القران إلى هذه الخصلة الشنعاء في بني إسرائيل، وأشار إلى أنّها أحالتهم حيوانات لا أناسي، فقال: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) [الأنفال] . ونقل سعد إلى خيمة بالمسجد لتقوم على تمريضه إحدى المؤمنات الماهرات. وجاء المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه: هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر! قال: «نعم؛ اللهمّ استر عوراتنا، وامن روعاتنا» «1» . وعن عبد الله بن أوفى: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم» » . والله تبارك وتعالى لا يقبل الدعاء من متواكل كسول، وما يستمع لشيء استماعه لهتاف مجتهد أن يبارك له سعيه أو دعاء صابر أن يجمّل له العاقبة. وقد أفرغ المسلمون جهداهم في الدفاع عن رسالتهم ومدينتهم حتى لم يبق في طوق البشر مدّخر، فبقي أن تتدخل العناية العليا لتقمع صعر الظالم وتقيم جانب المظلوم. ومن ثمّ أخذ سير المعركة يتطور على نحو لا يدرك الناس كنهه. وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ [المدثر: 31] .

_ (1) حديث حسن، أخرجه أحمد: 3/ 3؛ وابن أبي حاتم في تفسيره من حديث أبي سعيد الخدري. (2) صحيح، أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.

ضاق الأعراب النازلون بالعراء ذرعا لهذا المقام الغريب، لقد خيّموا حول أطراف يثرب أياما لا تؤذن بدايتها بانتهاء، وهم لم يجيئوا ليستنفدوا قواهم أمام خندق صعب الاجتياز، وجبال رابط المسلمون أمامها، واستقتلوا دون أن يقترب أحد منها.. ثم إنّ الجوّ اغبرت أرجاؤه، وترادفت أنواؤه، وهبّت الرياح نكباء موحشة الصفير، تكاد في هبوبها تطوي الخيام المبعثرة، وتطير بها في الافاق!. والصلة بين أولئك الحلفاء لا تغري بدوام الثقة، إنّ غطفان وقبائل نجد أقبلت يحدوها السلب والنهب، وهي قد قبلت العودة من حيث أتت عند ما أغريت ببعض ثمار المدينة لولا أن المسلمين كبر عليهم أن يطعموهم منها رهبا. وماذا صنعت بنو قريظة؟ نقضت الموثق، ونكصت عن الهجوم منتظرة من العرب أن يقوموا هم به!. إنّ يهوديا خرج يطوف بحصن للمسلمين، فنزلت إليه صفية بنت عبد المطلب فقتلته، ولا غرو، فهي أخت حمزة!. وتلفّت أبو سفيان يمنة ويسرة، يتطلّب عونا على ما يبغي فلا يرى مأمنا، مما أوقع الوهن في قلبه وفي صفوف قريش معه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف هذا التصدّع الخفي في صفوف الأحزاب؟ فاجتهد أن يبرزه، ويوسّع شقته، ويستغله لجانبه، فلما جاء (نعيم بن مسعود) مسلما، أوصاه أن يكتم إسلامه وردّه على المشركين يوقع بينهم، وقال له: «إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنا إن استطعت، فإنّ الحرب خدعة» . فخرج (نعيم) حتى أتى بني قريظة- وكان لهم نديما في الجاهلية- فقال: يا بني قريظة! قد عرفتم ودّي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتّهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تحوّلوا منه إلى غيره، وإنّ قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا

بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، يكونون بأيديكم، ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه. فقالوا له: لقد أشرت بالرأي. ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان ومن معه: قد عرفتم ودّي لكم وفراقي محمدا، وإنّه قد بلغني أمر رأيت عليّ حقا أن أبلغكموه نصحا لكم، فاكتموا عنّي، فقالوا: نفعل، قال: تعلموا أنّ معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمّد، وقد أرسلوا إليه: إنّا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين- قريش وغطفان- رجالا من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم؟ ثم نكون معك على من بقي منهم، حتّى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: أن نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا. ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحبّ الناس إليّ، ولا أراكم تتهمونني، قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذّرهم مثل ما حذّرهم. فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، كان من صنع الله لرسوله أن أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخفّ والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا، ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم: أنّ اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا، فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا، حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى- إن ضرستكم الحرب واشتدّ عليكم القتال- أن تنشمروا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك منه. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحقّ، فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقال بنو قريظة- حين انتهت الرسل إليهم بهذا-: إنّ الذي ذكر لكم نعيم لحق، ما يريد

القوم أن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم «1» . وهكذا أفلح المسلمون في فصم عرى التحالف بين الأحزاب المجتمعة عليهم، فما مضت أسابيع ثلاثة على ذلك الحصار المضروب حتى دبّ القنوط والتخاذل في صفوف المهاجمين؛ على حين بقيت جبهة المدافعين سليمة لم تثلم. وفي ليلة شاتية عاتية لفحت سبراتها الوجوه والجلود، وأقعدت الرّجال في أماكنهم ينشدون الدفء، ويفرّون من القرّ المتساقط على الصخور والرمال، اتجهت نيات القوم إلى اتخاذ قرار حاسم في هذا القتال الفاشل!. وكأنّما كان زئير الرياح الهوج سوطا يلهب المهاجمين، حتى لا يتوانوا في الخلاص من هذا الموقف، ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء أسوار المدينة، وحوله أصحابه جاثمون في مكامنهم يرمقون الأفق بحذر، ويرقبون الغيب بأمل، والظلام البارد الثقيل يرين على كلّ شيء في الصحراء المترامية. قال حذيفة بن اليمان: رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه فوقنا، وبنو قريظة أسفل منّا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشدّ ظلمة ولا أشدّ ريحا منها، تطن في رياحها أصوات أمثال الصواعق، وما يتستطيع أحدنا أن يرى إصبعه من قتامها السائد، ولم يكن عليّ جنّة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي، لا يجاوز ركبتي، فأتاني الرسول صلى الله عليه وسلم وأنا جاث على الأرض فقال: «من هذا؟» فقلت: حذيفة، فقال: «حذيفة؟» فتقاصرت في موضعي وأنا أقول: بلى يا رسول الله- كراهية أن أقوم! - فندبني لما يريد، وقال: «إنّه كائن في القوم خبر فأتني به» . فخرجت، وأنا أشدّ الناس فزعا وأشدهم قرّا، فدعا لي بخير، فمضيت لشأني كأنّما أمشي في حمّام- إنّها حرارة الإيمان، وحماسة الطاعة جعلت الرجل يغلب بعاطفته المتقدة قسوة الجو.

_ (1) ذكر هذه القصة ابن إسحاق بدون إسناد، وعنه ابن هشام: 2/ 193- 194، لكن قوله صلى الله عليه وسلم: «الحرب خدعة» ، صحيح متواتر عنه صلى الله عليه وسلم، رواه الشيخان من حديث جابر وأبي هريرة وغيرهما، انظر: الجامع الصغير مع شرحه (فيض القدير) ، للمناوي.

قال حذيفة: وأوصاني الرسول صلى الله عليه وسلم- حين ولّيت- ألّا أحدث في القوم حدثا حتى اتيه، فلما دنوت من معسكر القوم، نظرت ضوء نار توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يمد يديه إلى النار مستدفئا، ويمسح خاصرته، ويقول: الرحيل الرحيل، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فوضعت سهما في كبد قوسي وأردت أن أرميه، ثم ذكرت وصاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسكت، ولو رميته لأصبته. وأحسست عصف الريح في جنبات المعسكر، لا تقرّ قدرا ولا نارا ولا بناء، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش إنّكم والله ما أصبحتم بدار مقام، قد هلك الكراع والخفّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإنّي مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فو الله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم ... «1» . ورجع حذيفة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يقصّ عليه ما رأى ... وطلع النهار فإذا ظاهر المدينة خلاء.. ارتحلت الأحزاب، وانفكّ الحصار، وعاد الأمن، ونجح الإيمان في المحنة!. وهتف رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا إله إلّا الله واحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب واحده، فلا شيء بعده..!» «2» .

_ (1) هذه القصة صحيحة، وسياقها- هنا- مركب من ثلاث روايات: الأولى: عند الحاكم والبيهقي في الدلائل، من طريق عبد العزيز ابن أخي حذيفة عن حذيفة. وقد ذكر لفظه ابن كثير في التاريخ: 4/ 114- 115. الثانية: عند ابن هشام في (السيرة) : 2/ 194، عن محمد بن إسحاق بسنده عن محمد بن كعب القرظي عن حذيفة، وكذلك أخرجه أحمد: 5/ 392- 393، من مسند حذيفة عن ابن إسحاق، وظاهر إسناده الاتصال، فهو صحيح. والرواية الثالثة: أخرجها مسلم: 5/ 177- 178، من طريق إبراهيم التيمي عن أبيه عن حذيفة. ولها طريق رابعة: أخرجها الحاكم في (المستدرك) : 3/ 31، من طريق بلال العبسي عن حذيفة. وقال: «صحيح الإسناد» ، ووافقه الذهبي؛ وأخرجه البزار أيضا كما في (المجمع) : 6/ 136، وقال: «ورجاله ثقات» . (2) أخرجه البخاري في (غزوة الخندق) من صحيحه: 7/ 326، من حديث أبي هريرة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ... فذكره، وهذا مطلق ليس فيه ذكر الخندق. والله أعلم.

رجعت الطمأنينة إلى النفوس، وظهرت خيبة الأحزاب بعد ما أقبلت من كل فجّ لتجتاح يثرب، وظهرت صلابة المسلمين في مواجهة الأزمات المرهقة. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- بعد هذه النتيجة الباهرة-: «الان نغزوهم ولا يغزوننا ... » «1» .

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 325، من حديث سليمان بن صرد رضي الله عنه.

مع بني قريظة

مع بني قريظة انفضت حشود الأحزاب حول المدينة، وعادت المطيّ بها من حيث أتت تذرع رحاب الصحراء، وليست تحمل معها إلا الفشل والخيبة، وبقي يهود بني قريظة واحدهم، أو بقوا وبقيت غدرتهم، التي فضحت طواياهم، فأصبحوا وأمسوا أشبه بالمجرم الذي ثبتت إدانته، فهو يرقب- بوجه كالح- قصاص العدالة منه. وكانت مشاعر التغيّظ في أفئدة المسلمين نحو أولئك اليهود قد بلغت ذروتها، إنّهم هم الذين استخرجوا العرب استخراجا، واستقدموهم إلى دار الهجرة ليجتاحوها من أقطارها، ويستأصلوا المسلمين فيها. إن جراحات المسلمين لطردهم من ديارهم، ومطاردتهم في عقيدتهم، واستباحة أموالهم ودمائهم لكلّ ناهب ومغتال، لمّا تندمل بعد، بل لن تندمل أبدا، فكيف ساغ لأولئك الخونة من بني إسرائيل أن يرسموا بأنفسهم الخطة لإهلاك الإسلام وأبنائه على هذا النحو الذليل؟. ثم ما الذي يجعل بني قريظة خاصة- وهم لم يروا في جوار محمد صلى الله عليه وسلم إلا البر والوفاء- يستديرون بأسلحتهم منضمين إلى أعداء الإسلام، كي يشركوهم في قتل المسلمين وسلبهم؟. وها قد دخل في حصونهم حيي بن أخطب رأس العصابة التي طافت بمكة ونجد، تحرّض الأحزاب على الله ورسوله، وتزعم أنّ الوثنية أفضل من التوحيد!!. لذلك، ما إن وثق المسلمون من منصرف الأحزاب عن المدينة حتى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذّنا فأذّن في الناس: «من كان سامعا مطيعا فلا يصلينّ العصر إلا في بني قريظة» «1» .

_ (1) حديث صحيح، أخرجه ابن هشام: 2/ 194- 195، عن ابن إسحاق: حدثني الزهري به مرسلا، وقد أخرجه البخاري: 7/ 327؛ ومسلم: 5/ 162، وغيرهما من حديث ابن عمر به، دون قوله: «من كان سامعا مطيعا» .

والأذان للقتال في هذه الضحوة المشرقة بالظفر والنجاة قرع مسامع المسلمين نديّا جليا، فهم في غمرة من الشعور بتأييد الله وملائكته لهم، أين هم اليوم مما كانوا عليه بالأمس القريب؟ إنّهم مدينون بحياتهم وكرامتهم للعناية العليا واحدها ... أمّا خصومهم، فإنّ قوى الكون المسخّر بإذن الله هي التي فضّت جموعهم وفلّت حدودهم. فلا غرو إذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين- محدّثا عن الرّوح الأمين-: «ما وضعت الملائكة السّلاح بعد.. إنّ الله يأمرك يا محمّد بالمسير إلى بني قريظة، فإنّي عامد إليهم فمزلزل بهم» «1» . وقد صدع الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر، وشدّد على المسلمين أن يسارعوا في إنفاذه. روى البيهقي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «عزمت عليكم ألاتصلّوا العصر حتى تأتوا بني قريظة» ، فغربت الشمس قبل أن يأتوهم، فقالت طائفة من المسلمين: إنّ رسول الله لم يرد أن تدعوا الصلاة، فصلّوا. وقالت طائفة: والله إنا لفي عزيمة رسول الله، وما علينا من إثم، فصلّت طائفة إيمانا واحتسابا، وتركت طائفة إيمانا واحتسابا، ولم يعنّف رسول الله واحدا من الفريقين «2» . وذلك يمثّل احترام الإسلام لاختلاف وجهات النظر ما دامت عن اجتهاد بريء سليم، والنّاس غالبا أحد رجلين: رجل يقف عند حدود النصوص الظاهرة لا يعدوها، ورجل يتبيّن حكمتها ويستكشف غايتها، ثم يتصرّف في نطاق ما وعى من حكمتها وغايتها، ولو خالف الظاهر القريب. وكلا الفريقين يشفع له إيمانه واحتسابه؛ سواء أصاب الحق أو ندّ عنه. ومن العلماء من أهدر الوقت المعيّن للصلاة بعذر القتال، وذلك مذهب البخاري وغيره، وهذا- عندي- أدنى إلى الصواب. فإنّ ترتيب الواجبات المنوطة بأعناق العباد من أهمّ ما يحدّد رسالة المسلم في الحياة، بل إنّه لا يفهم دينه فهما صحيحا إلا إذا فقه هذا الترتيب المطلوب.

_ (1) هو من حديث الزهري المتقدم. لكنّ أمر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بالمسير ثابت في صحيح البخاري: 7/ 327؛ والمسند: 6/ 56، 131، 141، 280؛ من حديث عائشة. (2) حديث صحيح، رواه البيهقي في (دلائل النبوة) من حديث عبيد الله بن كعب، وحديث عائشة؛ وأخرجه عنها الحاكم: 3/ 34- 35، وصحّحه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

[علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحمل راية المسلمين] :

إنّ الإسلام تعاليم وأعمال شتى، فيها الفرائض وفيها النوافل. ولا بدّ أن نعلم أنّ الله لا يقبل نافلة حتى تؤدّى الفريضة، فالرجل الذي يستكثر من أعمال التطوع في الوقت الذي يهمل فيه فرائض لازمة رجل ضالّ. والفرائض المطلوبة لحفظ الإيمان كالأغذية المطلوبة لحفظ الجسم. وكما أنّ الجسم لا يقوم بالمواد النشوية واحدها، أو الزلالية واحدها، بل لا بد من استكمال جمل منوعة من الغذاء، وإلا تعرض الجسم لعلل قد تنهكه أو تقتله؛ فكذلك الدين؛ إنه لا قيام له في كيان الفرد أو في صفوف الجماعة إلّا بجملة من الفرائض الملونة، تصون حياته، وتضمن عافيته ونماءه. وعلى المسلم أن يقسّم وقته، وأن ينظّمه على هذه الفرائض المطلوبة، فلا يشغله واجب عن واجب، وبالأحرى لا تشغله نافلة عن واجب!. وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مباغتة بني قريظة قبل أن يستكملوا عدتهم ويقوّوا حصونهم، هو الواجب الأول في تلك الساعة، فلا ينبغي أن ينشغل المسلم عنه ولو بالصلاة. فحدود وقت الصلاة تذوب أمام ضرورات القتال. وتستطيع- على ضوء هذا الإرشاد النبوي- أن تحكم على مسالك المسلمين اليوم؛ إنّ المدرس الذي ينشغل عن تعليم تلامذته، والتاجر الذي ينشغل عن تثمير ثروته، والموظّف الذي ينشغل عن أداء عمله، لا يقبل الله من أحدهم عذرا أبدا في تضييع هذه الفرائض، ولو كان أحدهم قد عاقه عن واجبه أنه صلّى مئة ركعة، أو قرأ ألف اية، أو عدّ أسماء الله الحسنى سبعين ألف مرة، كما يفعل جهّال المتصوفة؛ ذلك أنّه انشغال عن الفرائض المطلوبة بنوافل لم تطلب، وتعطيل لأمة يستحيل أن تنهض إلا إذا أجهدت نفسها في محاربة جهلها وفقرها وفوضاها. والجهاد العام فريضة لا يغضّ من قدرها شيء، ولا يزاحمها على وقتها عبادة كما رأيت. [علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحمل راية المسلمين] : حمل راية المسلمين إلى حصون قريظة عليّ بن أبي طالب، واستبق المسلمون يحتشدون حولها، حتى إذا اقترب الجيش من منازل اليهود كان القوم

لا يزالون على غوايتهم، فقد نظروا إلى المسلمين ثم سبّوا رسول الله ونساءه سبّا قبيحا. فرأى عليّ أن يصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم بعيدا عن أولئك السفهاء، فاعترض طريقة وهو مقبل قائلا: يا رسول الله! لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث، فقال: «لم؟ أظنّك سمعت لي منهم أذى؟» قال: نعم يا رسول الله! قال: «لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا» . فلما دنا من حصونهم قال: «يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟» «1» قالوا: يا أبا القاسم! ما كنت جهولا. هذه خلال اليهود، يسفهون إذا أمنوا، ويقتلون إذا قدروا، ويذكّرون الناس بالمثل العليا إذا وجلوا؛ ليستفيدوا منها واحدهم لا لشيء اخر. أما العهود، فهي اخر شيء في الحياة يقفون عنده. على أنّ سفاهتهم لم تغنهم، فقد أحكم المسلمون الحصار عليهم، وأمسكوا بخناقهم فاستيقن القوم أنّ الاستسلام لا محيص عنه، وامتلأت قلوبهم باليأس والفزع. قال (كعب) سيد بني قريظة: يا معشر يهود! قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإنّي عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم، قالوا: وما هي؟. قال نتابع هذا الرجل ونصدّقه، فو الله لقد تبيّن لكم أنّه لنبيّ مرسل، وأنه للّذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون به على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. قالوا: لا نفارق حكم التوارة أبدا، ولا نستبدل به غيره. قال: فإذا أبيتم عليّ فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمّد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وأصحابه، فإن نهلك، نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر، فلعمري لنجدنّ النساء والأبناء. قالوا: نقتل هؤلاء المساكين؟ فما خير العيش بعدهم. قال: فإن أبيتم عليّ هذه، فإن الليلة ليلة السبت، وإنّه عسى أن يكون

_ (1) ضعيف، أخرجه ابن إسحاق عن الزهري مرسلا؛ وعنه ابن هشام: 2/ 194- 195؛ ورواه الحاكم: 3/ 34- 35، من حديث ابن عمر؛ وإسناده ضعيف.

محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلّنا نصيب منهم غرّة. قالوا: نفسد سبتنا علينا، ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا. قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازما. وحاول بنو قريظة أن يظفروا بصلح كالذي ناله إخوانهم بنو النضير من قبل، بيد أنّ المسلمين أبوا عليهم إلا أن يستسلموا دون قيد أو شرط، فإنّ ما أسلف هؤلاء من جرم بيّن وغدر شائن أحفظ عليهم الصدور، فلم يبق فيها مكان لسماح، وتمحض الموقف للعدل المجرد، يقرّ الأمور في نصابها كيف يشاء. واستقدم اليهود- وهم محصورون- أبا لبابة بن عبد المنذر يستشيرونه: أينزلون على حكم محمد؟ فقال لهم: نعم، وأشار إلى حلقه، كأن ينبههم إلى أنه الذبح؟ ثم أدرك- لفوره- أنّه خان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمضى هائما على وجهه، حتى أتى مسجد المدينة، فربط نفسه في سارية فيه، وحلف ألا يفك منها حتى يتوب الله عليه. وقد قبل الله منه ندمه، ونزلت فيه بعد أيام الاية: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) [التوبة] . واستمرّ الحصار خمسا وعشرين ليلة، سمح المسلمون في أثنائها لليهود الذين رفضوا الغدر بالرسول عليه الصلاة والسلام أيام الأحزاب أن يخرجوا، فجزوهم عن وفائهم خيرا، وخلّوا سبيلهم ينطلقون حيث يبغون. ثم قرّروا أن يهجموا على الحصون المغلقة ويقتحموها عنوة. فصاح عليّ: يا كتيبة الإيمان- ومعه الزبير بن العوام- والله لأذوقنّ ما ذاق حمزة أو لأفتحنّ حصنهم، فقال بنو قريظة: يا محمد ننزل على حكم سعد بن معاذ. فاستنزلوا من حصنهم، وسيقوا إلى محبسهم، حتى جيء بسعد بن معاذ ليقضي في حلفائه بما يرى. وكان (سعد) سيد الأوس، وهم حلفاء بني قريظة في الجاهلية، وقد توقّع يهود أنّ هذه الصلة تنفعهم، وتوقّع الأوس أيضا من رجلهم أن يتساهل مع أصدقائهم الأقدمين، فلما استقدمه الرّسول عليه الصلاة والسلام ليصدر حكمه، جاء من الخيمة التي يمرّض فيها إثر إصابته بسهام الأحزاب، واكتنفه قومه يقولون له: يا أبا عمرو! أحسن في مواليك ...

[نزول بني قريظة على حكم سعد] :

لكن سعدا لم ينس- في ضجيج الرّجاء الموجّه إليه- أنّ الإسلام وأبناءه، والمدينة وثمارها وحرثها ونسلها وحرماتها، لم ينج من وطأة الأحزاب الهاجمين إلا بأعجوبة خارقة، وأنّ بني قريظة هؤلاء ومن اووهم، كانوا المحرّضين والشركاء المقبوحين في هذه الحرب التي أعلنت لاستئصال التوحيد الحق واجتياح أهله. ولم ينس سعد كيف نقضت بنو قريظة عهدها، واستقبلته بالألفاظ البذيئة عند ما ذهب يناشدهم الوفاء! ألم يقل لهم يومئذ: أخشى عليكم مثل يوم بني النضير أو أمرّ منه؟ فكان ردّهم عليه: أكلت ذكر أبيك!!. لذلك ما لبث سعد أن صاح بقومه- وقد أكثروا عليه الرجاء-: قد ان لسعد ألّا تأخذه في الله لومة لائم. [نزول بني قريظة على حكم سعد] : وحكم سعد أن يقتل الرجال، وتسبى الذرية، وتقسّم الأموال، وأقرّ النبي صلى الله عليه وسلم هذا القضاء الحازم قائلا لسعد: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات» «1» . وحفرت الخنادق بسوق المدينة لتنفيذ هذا الحكم، وسيق إليها مقاتلة اليهود أرسالا- طائفة بعد أخرى-؛ ليدفعوا ثمن خيانتهم وغدرهم. قال اليهود لسيدهم كعب وهم يساقون لمصارعهم: ما تراه يصنع بنا؟ فقال: أفي كلّ موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا ينزع، وأنّه من ذهب به منكم لا يرجع؟ هو- والله- القتل. أجل! هو القتل! وإنّما تقع تبعات الحكم به على من تعرّض له بسوء صنيعه، وبما أسلف من نيّات خبيثة لم يسعفها الحظ فتحقق، ولو قد تحققت لكان ألوف المسلمين هلكى تحت أقدام الأحزاب المنسابة من كل ناحية، يحرضهم ويؤازرهم أولئك اليهود. وربّما كانت مغامرات نفر من طلاب الزعامة سببا في هذه الكارثة التي

_ (1) حديث صحيح، أخرجه ابن إسحاق، وعنه ابن هشام: 2/ 197، عن علقمة بن وقّاص الليثي مرسلا؛ ولكن أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري دون قوله: «من فوق سبع سموات» ، فهذا ضعيف.

حلّت ببني قريظة، ولو أنّ حييّ بن أخطب وأضرابه سكنوا في جوار الإسلام، وعاشوا على ما أوتوا من مغانم، ما تعرّضوا ولا تعرّض قومهم لهذا القصاص الخطير. لكنّ الشعوب تدفع من دمها ثمنا فادحا لأخطاء قادتها. وفي عصرنا هذا دفع الروس والألمان وغيرهم من الشعوب أثمانا باهظة لأثرة الساسة المخدوعين. ولذلك ينعى القران على أولئك الرؤساء مطامعهم ومظالمهم التي يحملها غيرهم قبلهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) [إبراهيم] . لقد جيء بحييّ ليلقى جزاءه، وحييّ- كما علمت- جرثومة هذه الفتن. فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكن من يخذل الله يخذل، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس! لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر، وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه!. وفي ذلك يقول الشاعر: لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ... ولكنّه من يخذل الله يخذل لجاهد حتّى أبلغ النّفس عذرها ... وقلقل يبغي العزّ كلّ مقلقل والحقّ أنّ من مشركي قريش ومن رجال يهود أناسا واجهوا الموت بثبات. ولن تعدم المبادئ الباطلة والنحل الهازلة أتباعا يفتدونها بالأرواح والأموال، غير أن شيئا من هذا لا يجعل الباطل حقا ولا الجور عدلا. إن موقف اليهود من الإسلام بالأمس هو موقفهم من المسلمين اليوم. فألوف من إخواننا ذبحهم اليهود في صمت وهم يحتلون فلسطين. والغريب أن اليهود تركوا من نصب لهم المجازر في أقطار أوربة، وجبنوا عن مواجهتهم بشرّ!! واستضعفوا المسلمين الذين لم يسيئوا إليهم من اثني عشر قرنا، فنكلوا بهم على النحو المخزي الفاضح، الذي لا يزال قائما في فلسطين ... تشهده وتؤيده وتسانده دول الغرب.

[قتل أبي رافع بن أبي الحقيق] :

وفي طرد الأحزاب ودحر بني قريظة نزلت الايات: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) [الأحزاب] . فقد المسلمون في هذا الصراع مع المشركين أولا، ومع أهل الكتاب ثانيا، عددا يسيرا من رجالهم منهم سعد بن معاذ؛ أجاب الله دعوته، فمات شهيدا من جراحته التي أصابته يوم الأحزاب، بعد أن شفى الله غيظه من يهود بني قريظة، وبعد أن تبين فشل قريش في هجومها على المدينة، وانقلابها لتغزى في عقر دارها، لا لتغزو الاخرين. [قتل أبي رافع بن أبي الحقيق] : ولم تنته الخصومة بين المسلمين واليهود بانهزام قريظة وانكسار شوكتها، فإنّ بعض مؤلبي الأحزاب على الإسلام فرّ إلى خيبر، لائذا بحصونها، مستظهرا بإخوانه فيها، مثل أبي رافع بن أبي الحقيق، وهو شريك حييّ في التطواف بالقبائل يستجلبها إلى يثرب، بغية الإتيان على الإسلام وأهله، وليس يؤمن لليهود شرّ ما بقيت لهم قدرة على فعله، وقد صوّر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم نقمة اليهود على الإسلام بقوله: «ما خلا يهودي بمسلم إلا همّ بقتله» «1» ، ولا نعرف لهذه النقمة الدفينة علّة إلّا انحراف أصحابها عن الجادة، ومن حق المسلمين أن يحذروها، وألايدعوا لها بقية تنمو على الزمن. لذلك خرج من المدينة خمسة من الخزرج ذاهبين إلى خيبر، بغيتهم القضاء على أبي رافع، وإلقاء الذعر في قلوب شيعته، وقد أمّر الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم عبد الله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة ... «2» . وقدم المغامرون أرض خيبر، وانتهوا إلى دار ابن أبي الحقيق وقد أظلّهم المساء. قال عبد الله بن عتيك لصحبه- عند ما دنوا من الحصن-: امكثوا أنتم

_ (1) حديث ضعيف، أخرجه الخطيب في (تاريخ بغداد) : 8/ 316، وقال: «حديث غريب جدا» . (2) حديث صحيح، أخرجه البخاري عن البراء بن عازب.

حتى أنطلق أنا فأنظر. قال: فاحتلت لأدخل الحصن، فإذا الخدم فقدوا حمارا لهم، فخرجوا بقبس يطلبونه!!، فخشيت أن أعرف، فغطيت رأسي، وجلست كأنّي أقضي حاجة. فقال البواب- بعد ما استرجعوا حاجتهم-: من أراد أن يدخل فليدخل قبل أن أغلقه، فدخلت واختبأت في مربط الدواب عند باب الحصن. وتعشّى أبو رافع وصحبه، وأخذوا يسمرون حتى ذهبت ساعة من الليل، ثم انصرف عنه جلساؤه قافلين إلى بيوتهم، وهدأت الأصوات فما أسمع حركة، وخرجت، وأنا أعرف أين وضع البوّاب مفاتيح الحصن، فأخذتها، وفتحت الباب حتى إذا أحسّ بي القوم انطلقت على مهل. ثم عمدت إلى أبواب غرفهم فغلقتها من ظاهر. ثم صعدت إلى أبي رافع- حيث يبيت في العلالي- فإذا البيت مظلم قد أطفئ سراجه، فلم أدر أين الرّجل؟ فقلت: يا أبا رافع! قال: من هذا؟ فعمدت نحو الصوت فضربته، فصاح، ولم تغن الضربة شيئا. وجئت كأني أغيثه فقلت: مالك يا أبا رافع؟ - وغيّرت صوتي- قال: لأمّك الويل، دخل عليّ رجل فضربني بالسيف! فعمدت إليه فضربته ضربة ثانية، فصاح وقام أهله، فجئت مرة أخرى إليه وهو مستلق على ظهره، فأجهزت عليه، ثم خرجت دهشا حتى أتيت السّلّم أريد أن أنزل، فسقطت منه فانخلعت رجلي، فعصبتها، وأتيت أصحابي أحجل. وعاد القوم إلى المدينة، يبشّرون من وراءهم أنهم أزاحوا من طريق الدعوة عقبة كأداء. تضعضع الكفر بعد هذه الوقعات الغليظة، ورست أصول الإسلام، واطمأنت دولته، فما انتهت السنة الخامسة للهجرة حتى أصبح المسلمون قوة تفرض نفسها، وتذيق المعاندين بأسها، واستيقنت قريش وأحلافها أنّ ردّ المسلمين إلى عبادة الأوثان ضرب من المستحيل، كما استيقن اليهود أنّ خصامهم الخبيث للدين الجديد والرسالة الخاتمة لم يزدهم إلا خبالا. ولم تقع بعد غزوة الأحزاب هذا العام إلى أخريات السنة السادسة- أي إلى عمرة الحديبية- أحداث ذات بال.

حاولت هذيل أن تجمع للإغارة على المدينة، فقتل قائدها خالد بن سفيان، فقعدت. وهجم لصوص الأعراب على المدينة ويقودهم عيينة بن حصن في خيل لغطفان، واستاقوا إبلها، ثم ولّوا بها هاربين، غير أنّ سلمة بن الأكوع صرخ بأهل المدينة منذرا، وتبع المغيرين واحده، يرميهم بالنبل، ويسترد منهم اللقاح المنهوبة، حتى أدركه فرسان المسلمين، فلما راهم المشركون فرّوا بعد ما قتل بعضهم، وتركوا ما معهم. ويروي البخاري أنّ ذلك كان بعد الحديبية لا قبلها، ولعلّه أصح. وفي هذه الفترة تزوّج النبي صلى الله عليه وسلم بأمّ حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت مهاجرة مع زوجها بالحبشة، فارتدّ صاحبها وهلك، وبقيت واحدها. فرأى النبيّ صلى الله عليه وسلم إعزازا للسيدة التي تركت أباها- وهو زعيم مكة- واثرت الهجرة إلى الله على البقاء في كنفه- أن يتزوّجها، فأرسل إلى النجاشيّ مهرها، ووكله عنها في العقد عليها. وتزوّج كذلك زينب بنت جحش، وسنتكلّم عن تفاصيل ذلك في الباب الذي نفرده بعد لتعدد الزوجات، وزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك، ويقال: إنّ الإسلام وقع في قلب «عمرو بن العاص» في هذه الأيام. فقد أثاره ما يلقاه محمد من ظفر، وقال لبعض صحبه: إنّي أرى أمر محمّد يعلو الأمور علوا منكرا، ثم اقترح عليهم أن يلحقوا بالحبشة، ويرقبوا نتائج الصراع بين المسلمين وقومهم!!. فلما ذهب إلى الحبشة ورأى إكرام نجاشيّها للرسول صلى الله عليه وسلم ومن ينتمي إليه، مال إلى الدخول في دين الله. ولكنه كتم ما بقلبه حتى اقترب فتح مكة، والتقى بخالد بن الوليد، وكان خالد قد أجمع أمره على الإسلام، وانتوى الذهاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مهجره ليتبعه، قال له عمرو: أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد استقام الميسم- وضح الطريق- وإن الرجل لنبيّ، أذهب- والله- فأسلم، فحتى متى؟!. وسرّ عمرا أن يجد صاحبا كخالد، فصارحه بما في نفسه، وانطلق الرجلان إلى يثرب مسلمين مهاجرين.

وقصة إسلامهما- كما قلنا- قبيل الفتح، فإنّ خالدا كان في عمرة الحديبية قائدا لجيش قريش، هي تصدّ المسلمين عن زيارة البيت العتيق.

طور جديد

(7) طور جديد

عمرة الحديبية

عمرة الحديبية جاء تفكير المسلمين في زيارة المسجد الحرام بداية لمرحلة متميزة في تاريخ دعوتهم، أليسوا يعالنون بعزمهم على دخول مكة، وهم الذين طردوا منها بالأمس وحوربوا، حيث استقرّ بهم النوى؟ وظلّت حالة الحرب قائمة بينهم وبين قريش، لم تسفر عن نتيجة حاسمة؟ فكيف ينوون العمرة في هذه الظروف ... ؟. والجواب أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أراد بهذا النسك المنشود إقرار حقّ المسلمين في أداء عبادتهم، وإفهام المشركين أنّ المسجد الحرام ليس ملكا لقبيل يحتكر القيام عليه ويمكنه الصدّ عنه، فهو ميراث الخليل إبراهيم، والحج إليه واجب على كلّ من بلغه أذان أبي الأنبياء من قرون: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) [الحج] . ومن ثمّ فليس يجوز لأهل مكة أن يحجبوا المسلمين عنه، ولئن استطاعوا قديما إقصاءهم، إنهم- بعد ما وقع من قتال- لن يصرّوا على خطئهم القديم. وإحرام النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه بالعمرة فحسب- وهم يريدون دخول مكة- اية على الرغبة العميقة في السلم، وعلى الرغبة في نسيان الخصومات السابقة، وتأسيس علائق أهدأ وأرقّ. ومتى يحدث هذا؟ بعد أن استفرغت قريش جهدها في إيذاء المسلمين، وبعد ما بدا فشلها الذريع في ذلك. لقد استمرّت بضع سنين تقاتل وتبذل من دمها ومالها لتهزم الإسلام، فلم ترجع اخر الأمر إلا بالخسائر الفادحة، والأزمات العضوض، على حين رسخت أقدام المسلمين، وعلت راياتهم، وانكمش عدوّهم، وها هم أولاء يخرجون إلى مكة عبّادا مخبتين، لا غزاة منتقمين. أجل إنهم لا يبغون إلا أن ينالوا مثل ما لغيرهم من حق الاعتمار والحج،

ولا يسوغ أن يحرموا من ذلك أبدا. وبذلك القصد السمح المهذب، استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم جمهور المسلمين وأعراب البوادي، واذنهم أنه يريد العمرة ولا يريد قتالا، وساق أمامه الهدي الذي سيذبح ليطعمه فقراء مكة، الفقراء الذين حشدوا لاستئصاله يوم الأحزاب ... أكان الكافرون برسالة محمد عليه الصلاة والسلام يفقهون هذه النية ويقدّرون مكانة صاحبها؟. لا ... إنهم بقوا على العهد بهم من فساد الضمير ونية السوء. فالأعراب المنتشرون حول يثرب ومن على شاكلتهم من المنافقين، عرفوا أنّ أهل مكة سوف يقاتلون محمدا عليه الصلاة والسلام أمرّ قتال، وأنه إذا أبى إلا زيارة البيت- كما أعلن- فلن تدعه قريش حتى تهلكه أو تهلك هي دون إبلاغه مأربه ... فهي عمرة محفوفة بالأخطار في نظرهم، والفرار منها أجدى!!. ولو فرض أن الرسول عليه الصلاة والسلام نجح في مقصده هذا، فالاعتذار إليه بعد عودته سهل: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) [الفتح] . وخرج المؤمنون الواثقون مع رسول الله عليه الصلاة والسلام وعددهم قريب من ألف وأربعمئة، وذلك في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة. وساروا ملبّين يطوون الطريق إلى البيت العتيق، فلمّا بلغوا (عسفان) - على مرحلتين من مكة- جاء الخبر إلى المسلمين أنّ قريشا خرجت عن بكرة أبيها، قد أقسمت ألّا يدخل بلدهم مسلم، وأنّ جيشهم استعدّ للنضال، يقود خيله خالد بن الوليد. وبدأ شبح الحرب أمام الأعين يملأ هذه البقاع المحرمة بالدماء والأشلاء، والمسلمون لم يجيئوا لهذا، وما كان لأهل مكة أن يلجئوهم إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا! وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظنّ قريش؟ فو الله

[عدم الرغبة في القتال] :

لا أزال أجاهد على الّذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة» . يعني: الموت- «1» . [عدم الرغبة في القتال] : ومضيّا مع الرغبة عن القتال، وتخليصا للنسك المقصود من شائبة تحدّ سأل رسول الله عليه الصلاة والسلام: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم الّتي هم بها؟» «2» . فجاء رجل من أسلم، فسلك بهم طريقا وعرا أجرد شقّ على المسلمين اجتيازه، ثم أفضى بهم إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، انثنى المسلمون عندها يمينا ليهبطوا عند الحديبية أسفل مكة!. ولم تخف هذه الحركة عن فرسان قريش، فتراكضوا راجعين إلى مكة كي يحولوا بين المسلمين ودخولها. [مفاوضات] : ومضى النبي عليه الصلاة والسلام بأصحابه في وجهتهم المحددة، فإذا بناقته تبرك ولا تجاوز مكانها! ودهش النّاس لما عراها فقالوا: خلأت القصواء! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت، وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكّة! لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرّحم إلا أعطيتهم إيّاها» ، ثم أمر الناس أن يحلّوا حيث انتهى بالناقة المسير «3» . ونزل المسلمون كما أمروا، ينتظرون من الغد القريب أن تفتح لهم أبواب مكة فيطوفوا ويسعوا، ثم يعودوا وافرين رابحين، إنّهم واثقون من إدراك بغيتهم،

_ (1) حديث صحيح، أخرجه ابن إسحاق بسند صحيح، عن مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، ومن طريقه أخرجه أحمد: 4/ 323- 326؛ وابن هشام: 2/ 226، وهو قطعة من حديث طويل في صلح الحديبية؛ وقد أخرجه البخاري: 5/ 351- 371؛ وأحمد: 4/ 328- 331، من طريق أخرى عنهما بطوله. لكن عند البخاري وكذا أحمد: أنّ هذا القول صدر منه صلى الله عليه وسلم بعد قصة الناقة الاتية عند مجيء بديل بن ورقاء إليه صلى الله عليه وسلم وإخباره إياه أنه لم يأت لحرب، وهذا صحّ قطعا من رواية ابن إسحاق. (2) حديث صحيح، رواه ابن إسحاق في حديث الحديبية المشار إليه انفا. (3) حديث صحيح من حديث الحديبية عند البخاري وغيره.

ولماذا يشكّون، وقد سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بشريات كثيرة بأنهم سيدخلون المسجد الحرام امنين، محلّقين رؤوسهم ومقصّرين؟. أما قريش فقد ذعرت لهذا الزحف المباغت، وفكّرت جادّة في إبعاده عن مكة مهما كلّفها من مغارم، وذلك أنّها نظرت إلى الأمر من زاوية ضيقة، فرأت أنّ مهابتها ستنزع من أفئدة الناس قاطبة إذا دخل المسلمون بلدهم على هذا النحو بعد ما وقع من حروب طاحنة. غير أنّ قريشا تعرف حروجة موقفها إن نشب قتال جديد. فحجّتها فيه أمام نفسها وأمام أحلافها داحضة، وقد ينتهي بكارثة تودي بكيانها كلّه، ولهذا سيّرت الوسطاء يفاوضون محمّدا صلى الله عليه وسلم، علّهم ينتهون معه إلى مخلص من هذه الورطة!!. وكان أول من جاءه (بديل بن ورقاء) في رجال من خزاعة، فكلّموه وسألوه: ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا، وإنما جاء زائرا للبيت ومعظّما حرمته. فرجعوا إلى قريش يقولون: يا معشر قريش! إنّكم تعجلون على محمد، إن محمدا لم يأت لقتال، وإنّما جاء زائرا لهذا البيت. فاتّهموهم وجبّهوهم، وقالوا: وإن كان جاء لا يريد قتالا ... فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبدا، ولا تحدّث بذلك عنا العرب؟. ثم بعثت قريش (مكرز بن حفص) فعاد بما عاد به بديل الخزاعي. ثم بعثوا سيّد الأحابيش (الحليس بن علقمة) فلمّا راه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ هذا من قوم يتألّهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتّى يراه» «1» . فلمّا رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي، عاد إلى قريش قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاما لما شاهد، فقال لهم ذلك، فأجابوه: اجلس إنّما أنت أعرابيّ لا علم لك، فاستشاط الحليس وصاح: يا معشر قريش! والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصدّ عن بيت الله من جاء معظّما له؟ والذي نفس الحليس بيده، لتخلّنّ بين محمّد وبين ما جاء له، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد.. فقالوا: مه، كفّ عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

_ (1) حديث صحيح، رواه ابن إسحاق في حديث الحديبية.

ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (عروة بن مسعود) ، وكره عروة أن يعود من مفاوضة المسلمين فيسمعه رجال قريش ما يسوءه فقال: يا معشر قريش! إنّي قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنّكم والد وأني ولد، وقد سمعت بالذي نابكم، فجمعت من أطاعني من قومي، ثم جئتكم حتى اسيتكم بنفسي. قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتّهم. فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس بين يديه، ثم قال: يا محمد! أجمعت أوشاب الناس، ثم جئت إلى بيضتك لتفضّها- إلى قومك لتجتاحهم-؟ إنّها قريش خرجت معها العوذ المطافيل- يقصد النساء والأطفال- قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وايم الله، لكأنّي بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا!!. وكان أبو بكر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع، فلمّا وصل في حديثه إلى التعريض بالمسلمين قال له هازئا: امصص بظر اللات! أنحن ننكشف عنه؟!. فقال عروة: من هذا يا محمد؟ قال: «هذا ابن أبي قحافة» ! فردّ عروة على أبي بكر يقول: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بهذه. وعاود عروة حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يتناول لحيته وهو يكلّمه- كأنّه ينبهه إلى خطورة ما سيقع بقومه- إلا أنّ المغيرة بن شعبة كان يقرع يده كلّما فعل ذلك، وهو يقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله قبل ألاتصل إليك، فقال عروة له: ويحك ما أفظّك وأغلظك!! ثم سأل النبيّ: من هذا يا محمد؟. فأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم: «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة!!» فقال عروة للمغيرة: أي غدر، هل غسلت سوءتك إلا بالأمس «1» ؟!. وقد ردّ النبيّ عليه الصلاة والسلام على عروة بما يقطع اللجاجة وينفي الشبهة: (إنّه لا يبغي حربا، وإنما يريد أن يزور البيت كما يزوره غيره، فلا يلقى صادّا ولا رادّا) . ورجع عروة ينوّه بإجلال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: إني والله ما رأيت ملكا في قومه قطّ مثل محمد في أصحابه، لقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا، فروا رأيكم «2» .

_ (1) كان المغيرة قبل إسلامه داهية فاتكا، قتل نفرا، فوداهم عروة إطفاء للفتنة. (2) هذا كله من تمام قصة الحديبية عند ابن إسحاق. وهو عند البخاري بنحوه.

[محاولات للاعتداء] :

[محاولات للاعتداء] : إنّ الرجال الذين تكلموا باسم قريش في هذه المفاوضات لم تنهض لهم حجة، بل إنهم عادوا إلى أهل مكة وهم أميل إلى ملاينة المسلمين، وتمكينهم من أداء نسكهم، ولم يلحف بعضهم في التصريح بذلك إلا لما لمسه من كبرياء قريش وعزوفها عن الحق بعد ما تبيّن. إنّ النزق استبدّ بهم، وأطاش ألبابهم، فقرّروا ألّا يدخل المسلمون البلد الحرام، وليكن ما يكون.. وبقي المسلمون في أماكنهم، يلتمسون للمشكلة حلولا أخرى أفضل من اقتحام مكة في هجوم عام، وحاول فريق من السفهاء أن يشعل المعركة، لكنّ المسلمين لزموا الهدوء وملكوا أعصابهم. فعن ابن عباس أن قريشا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا، فأخذوا، وأتي بهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم، وكانوا رموا في العسكر بالحجارة والنبل «1» . وفي فظاظة قريش وسماحة المسلمين نزل قوله عز وجلّ: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) [الفتح] . ومن السكينة التي تنزلت على المسلمين أنّ رسل قريش كانت تغدو على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتروح فلا يعترضها أحد، أما رسل المسلمين إلى قريش فقد تعرّضت للهلاك، كاد خراش بن أمية الخزاعي يقتل، لولا أن أنقذه الأحابيش، فرجع وقد عقر جمله، وكان النبي عليه الصلاة والسلام أرسله ليبلّغ أهل مكة حقيقة مجيئه، وأنّه يريد العبادة لا الحرب.. والرسل لا تقتل، بيد أنّ غليان قريش أفقدها الوعي.

_ (1) ضعيف، رواه ابن هشام: 2/ 228، عن ابن إسحاق، وفيه رجل لم يسم، ورواه نحوه مختصرا أحمد: 4/ 86- 87، من حديث عبد الله بن مغافل بسند صحيح وفيه: أنّ عدد المشركين ثلاثون شابا؛ وفيهم نزل قول تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ الاية [الفتح: 24] .

[بيعة الرضوان] :

والرّجل إذا فقد وعيه لا يبالي أن ينتحر، وقد انحرف كبراء مكة عن الصراط السوي، ولم يكترثوا للمصير القائم الذي ينتظرهم إذا ركبوا رؤوسهم، فلو اصطدم المسلمون بهم ما قامت لهم قائمة، ولأصيبت حرمات مكة في صميمها. وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) [الفتح] . لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كره أن تجري الأمور على هذا النحو، ورأى أن يعيد محاولاته لإقناع أهل مكة، بتركه يزور البيت ثم يعود لشأنه. فدعا «1» عمر بن الخطاب ليذهب إلى القوم يحدّثهم بما خرج المسلمون فيه، فقال عمر: يا رسول الله! ليس بمكة أحد من بني عدي يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإنّ عشيرته لا تزال بمكة، وإنه مبلّغ عنك ما أردت. ودخل (عثمان) مكة في جوار قريبه (أبان بن سعيد بن العاص) واستطاع أن يبلغ رسالته كاملة، وأن يفهم من لقيه الحقيقة الكريمة التي جاء المسلمون قاطبة بها، فكان الردّ الذي حظي به عثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتّى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم!!. ومما يذكر هنا أنّ مكة لم تخل من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات. كانت قلوبهم معلّقة بالمسلمين المحجوزين خارج مكة. لقد انتشر الإسلام سرا في بيوت كثيرة، طالما تشوّقت إلى اليوم الذي تستطيع فيه أن تظهر إيمانها، وتتخلّص من سطوة الكفر عليها. ويظهر أنّ عثمان اتصل بأولئك النفر المؤمن، وبشّرهم بقرب الفتح، فرأت قريش أنّ عثمان قد عدا الحدود المعهودة، وأمرت باحتباسه عندها، وشاع- لدى المسلمين- أنّ عثمان قتل. [بيعة الرضوان] : وحين بلغت هذه الشائعة مسامع النبي عليه الصلاة والسلام قال: لا نبرح حتى نناجز القوم «2» .

_ (1) من تمام القصة عند ابن إسحاق. (2) ضعيف، أخرجه ابن إسحاق؛ وعند ابن هشام: 2/ 229، عن عبد الله بن أبي بكر مرسلا.

ودعا الناس إلى مبايعته، وكان تحت شجرة متشابكة الغصون، فهرع أصحابه إليه يبايعونه على الموت، أو على ألايفروا. حدّث جابر بن عبد الله بعد ما كفّ بصره قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: «أنتم خير أهل الأرض» ، وكنّا ألفا وأربعمئة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة «1» . وروي عن جابر: أنّ عبد الحاطب جاء يشكوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: ليدخلنّ حاطب النار، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «كذبت، لا يدخلها، شهد بدرا والحديبية «2» » ، وتسمّى هذه البيعة (بيعة الرضوان) إشارة لقول الله في أصحابها: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) [الفتح] . وقد قطعت الشجرة ونسي مكانها، وذلك خير، فلو بقيت لضربت عليها قبة وشدّت إليها الرحال، فإنّ الرعاع سراع التعلق بالمواد والاثار التي تقطعهم عن الله. عن طارق بن عبد الرحمن: انطلقت حاجّا، فمررت بقوم يصلّون، فقلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع النبيّ عليه الصلاة والسلام بيعة الرضوان. فأتيت سعيد بن المسيّب فأخبرته، فقال سعيد: حدثني أبي أنّه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قال: فلمّا كان العام المقبل نسيناها، فلم نقدر عليها، ثم قال سعيد: إنّ أصحاب محمد لم يعلموها! وعلمتموها أنتم؟! فأنتم أعلم!. وعند أخذ البيعة من المسلمين ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى يديه على الاخرى وقال: «هذه لعثمان» «3» . على أنّ عثمان لم يطل احتباسه، فإنّ قريشا جزعت أن تصيبه بأذى وهو من سرواتها بمكان، وسارعت إلى بعث (سهيل بن عمرو) ليعقد مع محمّد صلحا. ولم يكن يعنيها في هذا الصلح إلا أن يرجع المسلمون هذا العام، على أن

_ (1) صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 357. (2) صحيح، أخرجه مسلم: 7/ 169، وتصديره ب (روي) يشعر بضعفه؛ فليحذف. (3) صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 291.

[شروط صلح الحديبية] :

يعودوا بعد إذا شاؤوا، وذلك إبقاء على مكانة قريش في العرب!!. [شروط صلح الحديبية] : واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاوض قريش وهو أرغب ما يكون في موادعة القوم، وإن كان قادرا على تحكيم السّيف، وإنزال خصومه على منطقه الذي اثروه مذ صدّوه عن البيت، وتكلّم (سهيل) فأطال، وعرض الشروط التي يتمّ في نطاقها الصلح، ووافق عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يبق إلا أن تسجّل في وثيقة يمضيها الفريقان. وحدثت في معسكر المسلمين دهشة عامة للطريقة التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أوليائه ومع أعدائه. فأمّا مع أعدائه، فقد ذهب في ملاينتهم إلى حدود بعيدة، وأولى به أن يقسو عليهم. وأما مع أصحابه- فإنّه على غير ما ألفوا منه- لم يستشرهم في هذا الاتفاق المقترح. مع أنّه في شؤون الحرب والسلم التي سلفت كان يرجع إليهم، وربما نزل على رأيهم وهو له كاره، لكنّه اليوم ينفرد بالعمل، ويقرّ ما يكرهون على غير ضرورة ملجئة.. وقد شرحنا في غير هذا المكان «1» موقف النبي عليه الصلاة والسلام في عمرة الحديبية خاصّة، وأبنّا أنّ تقدير الأمور لم يترك للنظر المعتاد، بل كان للإلهام الأعلى توجيهه الصائب. إنّ الله الذي عقل الناقة أن تتابع سيرها لا يأذن لهذه الكتائب أن توالي زحفها، وتشرع رماحها، وقد تحرز نصرا أقلّ على الإسلام- في جدواه- من سلم مبارك النتائج. قال الزهري: فلما التأم الأمر، ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر! أليس برسول الله؟ قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين!. قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنيّة في ديننا؟!.

_ (1) في كتابنا: (الإسلام والاستبداد السياسي) ، وهو من منشورات دار القلم- دمشق.

قال أبو بكر: يا عمر! الزم غرزه- أمره- فإنّي أشهد أنّه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله!. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألست برسول الله! قال: «بلى» . قال: أولسنا بالمسلمين! قال: «بلى» . قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: «بلى» . قال: فعلام نعطي الدنيّة في ديننا؟!. قال: «أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيّعني» «1» . ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب، فقال: «اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم» . فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب باسمك اللهمّ» ، فكتبها، ثم قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله سهيل بن عمرو» . فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو» : اصطلحا على وضع الحرب عن النّاس عشر سنين، يأمن فيها النّاس، ويكفّ بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمّدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا ممّن مع محمّد لم يردوه عليه!. وإنّ بيننا عيبة مكفوفة- صدورا منطوية على ما فيها من خير- وأنّه لا إسلال ولا إغلال- لا سرقة ولا خيانة- وأنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهداهم دخل فيه. وأنّك ترجع عنّا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنّه إذا كان عام قابل خرجنا عنك، فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب، إذ جاء ابن المفاوض عن قريش نفسه! .. جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يريد الالتحاق بالمسلمين، فقد دخل في دين الله، ولقي العذاب من أهله، وها هو ذا يرسف في الحديد، وتثقل به قيوده.

_ (1) حديث صحيح، وهو من تمام قصة الحديبية، والزهريّ أحد رجال إسناده، وليس من مرسلاته، خلافا لما يبدو من السياق. وقد رواه موصولا أحمد من طريق ابن إسحاق. وهو عند البخاري وأحمد من طريق أخرى بنحوه.

[ردة فعل المسلمين على الشروط] :

ما كان المسلمون يشكّون في دخول مكة؛ فإنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قصّ عليهم رؤيا أنّه دخلها، وطوّف بالبيت العتيق فيها، فلمّا رأوا ما رأوا من شروط الهدنة، وأمر الصلح والعودة، وتعنّت سهيل مع النبي صلى الله عليه وسلم، وافتياته على شخصه، دخل عليهم من ذلك كلّه أمر عظيم، حتى كادوا يهلكون! ثم جاءت قصة أبي جندل فزادت الطين بلّة. ورأى سهيل ابنه، فقام إليه يضرب وجهه، وأخذ بتلبيبه، ثم قال: يا محمد! قد لجّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا!! قال: «صدقت» . فجعل سهيل ينتر ابنه بتلبيبه ويجرّه ليردّه إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين! أردّ إلى المشركين يفتنونني في ديني!. فزاد ذلك النّاس إلى ما بهم!. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا جندل! اصبر واحتسب، فإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنّا لا نغدر بهم» . ونفذت القضية، وأعلنت خزاعة دخولها في عقد المسلمين، وأعلنت بنو بكر دخولها في عقد قريش، ومضت شروط الهدنة «1» ..!. [ردة فعل المسلمين على الشروط] : والنظرة الأولى لهذه الشروط تدل على أنها مجحفة بحقوق المسلمين، مرضية لكبرياء قريش وحميتها الجاهلية، وقد تساءل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مستنكرين: لماذا يردون إلى قريش من جاء منهم مسلما، ولا تردّ قريش من جاءها من المسلمين مرتدّا؟. وفسّر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشرط بأنّ من ذهب إليهم كافرا فلا ردّه الله، وقد وقي المسلمون خبثه، أما المستضعفون من المسلمين، فستعيى قريش بأمرهم، كما عجزت عن سابقيهم، وستكون العقبى لهم. ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه مستضعفين؟ ثم نصرهم الله، وخذل قريشا أمامهم؟!.

_ (1) هذا كله من تمام قصة الحديبية عند ابن إسحاق، والسياق له، والبخاري وأحمد.

[أحداث ما بعد الحديبية] :

ثم هاجت في نفوس المسلمين مرة أخرى خيبة الأمل، لقد حدّثوا أنهم داخلون في المسجد الحرام، وها هم أولاء قد ارتدوا عنه، لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن أنهم عائدون إلى دخوله كما وعدوا، فهو لم يذكر لهم أنّهم سيطوفون به هذا العام. وعرا المسلمين وجوم ثقيل لهذه النهاية الكئيبة، وزاغت نظراتهم لما ركبهم من الحرج المفاجئ، فلمّا فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب، قال لهم: «قوموا فانحروا ثمّ احلقوا» - ليتحللوا من عمرتهم، ويعودوا إلى المدينة- فلم يقم منهم رجل! حتى قال ذلك ثلاث مرات! فلمّا لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من النّاس، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! أتحبّ ذلك؟ اخرج، ثمّ لا تكلّم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج، فلم يكلّم أحدا منهم حتى فعل ذلك. فلمّا رأى المسلمون ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم زاح عنهم الذهول، وأحسوا خطر المعصية لأمره، فقاموا- عجلين- ينحرون هداهم، ويحلق بعضهم بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل الاخر لفرط الغمّ «1» . [أحداث ما بعد الحديبية] : ليت نيات الخير والشر تؤتي ثمارها الحلوة والمرة بالسرعة التي ظهرت في عهد الحديبية الانف، إنّه لم تمر أيام طوال على إبرامه حتى كان تشدد المشركين فيه وبالا عليهم، فأخذوا يتشكون من النصوص التي فرضوها أو فرضتها حميتهم الغليظة. ونظر المسلمون كذلك مبهورين إلى عواقب التسامح البعيد الذي أبداه النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدوا من بركاته ما ألهج ألسنتهم بالحمد!. لقد انفرط عقد الكفار في الجزيرة منذ تمّ هذا العقد، فإنّ قريشا كانت تعتبر رأس الكفر وحاملة لواء التمرد والتحدي للدين الجديد، وعند ما شاع نبأ تعاهدها مع المسلمين خمدت فتن المنافقين الذين يعملون لها، وتبعثرت القبائل الوثنية في أنحاء الجزيرة؛ وخصوصا لأنّ قريشا جمدت على سياستها النفعية واهتمت

_ (1) صحيح، وهو من تمام قصة الحديبية عند البخاري وأحمد.

بشؤونها التجارية، فلم تجتهد في ضمّ أحلاف لها، في الوقت الذي اتسع فيه نشاط المسلمين الثقافي والسياسي والعسكري، ونجحت دعايتهم في تألف قبائل غفيرة، وإدخالها في الإسلام. وكثيرون من المؤرّخين يعدّ صلح الحديبية فتحا، بل إنّ الزهري يقول فيه: ما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، لم يكلّم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تيناك السنتين- بعد الحديبية- مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. قال ابن هشام: والدليل على قول الزهري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمئة، ثم خرج عام فتح مكة- بعد ذلك بسنتين- في عشرة الاف. أما المسلمون المعذّبون في مكة، فقد فرّ منهم أبو بصير عبيد بن أسيد، وهاجر إلى المدينة يبغي المقام فيها مع المسلمين، فأرسلت قريش وراءه اثنين من رجالها يرجعان به إليها تنفيذا لنصوص المعاهدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بصير! إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر! وإنّ الله جاعل لك ومن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، فانطلق إلى قومك» . وحزن أبو بصير، وقال: يا رسول الله! أتردني إلى المشركين ليفتنونني في ديني؟ فلم يزد النبي عن تكرار رجائه في الفرج القريب. ثم أرسل أبا بصير مع القرشيّين، ليعودوا جميعا إلى مكة «1» . ورفض أبو بصير أن يستسلم لهذا المصير، فاحتال أثناء الطريق على سيف أحد الحارسين، وقتله به، ففرّ الاخر مذعورا، وقفل راجعا إلى المدينة يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما وقع لصاحبه، وإذا أبو بصير يطلع متوشّحا السيف، يقول: يا رسول الله! وفّت ذمتك، وأدّى الله عنك، أسلمتني بيد القوم وامتنعت بديني أن أفتن فيه أو يعبث بي.

_ (1) رواه ابن إسحاق بدون إسناد، وعنه ابن هشام: 2/ 223؛ وقد أخرجه البخاري مختصرا على قوله: فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: «العهد الذي جعلت لنا» ، فدفعه إلى الرجلين.

فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «ويل أمّه، مسعر حرب لو كان معه رجال» «1» . وأدرك أبو بصير أنّه لا مقام له في المدينة، ولا مأمن له في مكة، فانطلق إلى ساحل البحر، في ناحية تدعى العيص، وشرع يهدّد قوافل قريش المارة بطريق الساحل، وسمع المسلمون بمكة عن مقامه، وعن كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: «مسعر حرب لو كان معه رجال» . فتلاحقوا بأبي بصير، يشدّون أزره، حتى اجتمع إليه قريب من سبعين ثائرا، فيهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو. وألّف أولئك المعذّبون الناقمون جيشا، ضيّق الخناق على قريش، فلا يظفر بأحد منهم إلا قتله، ولا تمرّ بهم عير إلا اقتطعوها. وإذا قريش ترسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تناشده الرّحم أن يؤوي إليه هؤلاء فلا حاجة لها بهم. وبذلك نزلت قريش عن الشرط الذي أملته تعنتا، وقبله المسلمون كارهين. وقصة أبي بصير وأبي جندل وإخوانهما لها دلالة مثيرة، فهي قصة العقيدة المكافحة في لؤم من الأعداء، ووحشة من الأصحاب! وهي توضّح أنّ الإيمان بالله أخذ طريقه إلى قلوب أولئك النفر مجرّدا من كل شيء إلا سلامة جوهره. إنّهم قد فقدوا الأمداد الروحية التي تجيئهم من مخالطة الرسول صلى الله عليه وسلم، والإصغاء إليه، وهو يتلو وينصح، بيد أنهم عوّضوا عنها من الاتصال بكتابه والاقتباس من ادابه، فكانوا- في اهتدائهم للحق، وإبائهم للضيم، وإيثارهم للمغامرة- مثلا حسنى للإسلام المكافح العزيز. ولم يعد أبو بصير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك أن الإذن بالمقام معه جاء وهو يحتضر، وروى موسى بن عقبة أنّ رجال أبي بصير صادروا قافلة كان فيها أبو العاص بن الربيع صهر النبي صلى الله عليه وسلم- وهو لما يدخل الإسلام بعد- وأسروا من فيها ما عدا أبا العاص- لمكانته- فذهب أبو العاص إلى زينب امرأته، وشكا لها ما وقع لأصحابه، وما ضاع لهم من أموال، وحدّثت زينب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب النّاس قائلا: «إنّا صاهرنا أناسا، وصاهرنا أبا العاص، فنعم الصّهر وجدناه، وإنّه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش، فأخذهم أبو

_ (1) صحيح: وهو من تمام القصة عند البخاري وأحمد.

جندل وأبو بصير، وأخذوا ما كان معهم؛ وإنّ زينب بنت رسول الله سألتني أن أجيرهم، فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه؟» فقال المسلمون: نعم «1» . وبلغ هذا الحوار أبا جندل، فأفرجوا عن الأسرى، وردّوا عليهم كلّ شيء أخذ منهم حتى العقال. ثم جاء كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير ليترك مكانه، ويرجع حيث يحبّ، وكان أبو بصير يجود بأنفاسه الأخيرة، فمات والكتاب على صدره، ودفنه أبو جندل. أمّا أبو العاص بن الربيع فارتحل ببضائع قريش حتى قدم مكة، فأدى إلى الناس أموالهم حتى إذا فرغ قال: يا معشر قريش! هل بقي لأحد منكم عندي مال لم أردّه عليه؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرا، قد وجدناك وفيا كريما. قال: والله ما منعني أن أسلم قبل أن أقدم عليكم إلا أن تظنّوا أنّي أسلمت لأذهب بأموالكم، فإنّي أشهد ألاإله إلا الله، وأنّ محمّدا عبده ورسوله. وعاد إلى المدينة، فردّ عليه رسول الله امرأته زينب «2» ، وكان اختلاف الدين قد فرّق بينهما، ولم ينشئ في ذلك عقدا جديدا. وقد أبى المسلمون عقيب صلح الحديبية أن يردّوا النسوة المهاجرات بدينهنّ إلى أوليائهنّ، إما لأنّهم فهموا أن المعاهدة خاصة بالرجال فحسب، أو لأنهم خشوا على النساء اللاتي أسلمن أن يضعفن أمام التعذيب والإهانة، وهنّ لا يستطعن مضطربا في الأرض وردّا للكيد، كما فعل أبو جندل وأبو بصير وأضرابهما.

_ (1) لا يصحّ، لأن ابن عقبة رواه عن الزهري مرسلا. كما في (الفتح) : 5/ 369؛ و (الاستيعاب) لابن عبد البر في ترجمة أبي بصير، غير أنّ ابن إسحاق أخرج القصة بسياق اخر، ومن طريقه أخرجه ابن هشام في (السيرة) : 2/ 82- 83، مرسلا، وقد وصله الحاكم في (المستدرك) : 3/ 236- 237، من حديث عائشة وإسناده جيد، فالأولى الاعتماد على هذا السياق دون ما في الكتاب. وله شاهد من حديث أم سلمة عند البيهقي في سننه: 9/ 95. (2) حديث صحيح، أخرجه أبو داود: 1/ 250؛ والترمذي (196) ؛ والحاكم: 3/ 237؛ وأحمد، رقم (1876، 2366، 3290) ؛ وابن هشام في السيرة: 2/ 83، من حديث ابن عباس. وإسناده جيد، وقال الترمذي: «ليس به بأس» ، وصحّحه أحمد.

وأيّا ما كان الأمر؛ فإنّ احتجاز من أسلم من النساء تمّ بتعليم القران، وكلف المسلمون أن يدفعوا لأزواجهنّ المشركين عوضا يستعينون به على زواج اخر إذا لم يشاؤوا الدخول في الإسلام، والعودة إلى أزواجهم الأوليات. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ [الممتحنة: 10] . والاية تشير- بجانب ما فيها من أحكام- إلى ما كانت تستمتاع به المرأة من استقلال فكريّ، وكيان أدبيّ محترم. ولو حدث ذلك اليوم لتساءل فريق كبير من المسلمين: من الذي يمتحن؟ أهو رجل أم امرأة، وإن كان رجلا، فهل يكون شابا أو شيخا؟ وهل تمتحن المرأة مباشرة أو من وراء حجاب؟.

مع اليهود مرة أخرى (يهود خيبر)

مع اليهود مرة أخرى (يهود خيبر) بقي أمام المسلمين فريقان من الخصوم الألداء: أعراب البادية الذين يسيحون في عرض الصحراء، كالإبل السائمة، لا يعقلون شيئا، فإذا لاح مغنم طاروا وراءه، وقلّما يلفتهم حديث الإيمان بالله واليوم الاخر. وبنو إسرائيل الذين ظنوا النبوة حكرا عليهم، فهم لا يفتؤون يجبّهون المسلمين، ويكذّبون محمدا صلى الله عليه وسلم ويجحدون رسالته، وقد أغرتهم القشور التي ورثوها من التوراة، فجادلوا المسلمين جدالا طويلا، وحرصوا أشد الحرص ألّا يعترفوا بهم، ثم ذهبوا إلى حدّ التأليب عليهم كما رأيت، فكانت سيرتهم مزيجا غريبا من الحقد والكبر والدّس، ومع ما ألهب جلودهم من سياط كاوية في صراعهم مع المسلمين، فإنّهم لم يتحولوا عن خطتهم المريبة قيد أنملة. وجمعت عداوة الإسلام بين الأعراب البله، وأهل الكتاب اليهود، وعند ما فشلت الأحزاب في اقتحام يثرب، وجنت قريظة عقبى غدرها، لم يهدأ يهود خيبر، أو يحاولوا إصلاح شؤونهم مع المسلمين، كلا إنّهم شرعوا يصلون حبالهم بغطفان والأعراب الضاربين حولهم، ليؤلفوا ضدّ الإسلام جبهة أخرى تكيد من جديد لمحمّد صلى الله عليه وسلم وصحبه. لكنّ المسلمين كانوا أيقاظا لهذه المؤامرات، فما إن عادوا من عمرة الحديبية اخر السنة السادسة، حتى توجّهوا في المحرم من السنة السابعة إلى خيبر لكسر شوكة بني إسرائيل بها. ولم يفت المسلمين قبل مسيرهم أن يفصموا الجبهة المؤلّفة ضدّهم من يهود وغطفان، فأوهموا غطفان أنّ الهجوم متجه إليهم، وأنّ قوة المسلمين توشك أن تلتفّ بهم، قال ابن إسحاق: بلغني أنّ غطفان لما سمعت بمنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر جمعت له، ثم خرجوا ليظاهروا يهودا عليه، حتى إذا ساروا مرحلة

سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حسا، فظنّوا أنّ القوم خالفوهم إليهم، فرجعوا على أعقابهم، وأقاموا في أهليهم وأموالهم، وخلّوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر!!. وهكذا نجحت الخطة في عزل يهود خيبر عن حلفائهم المشركين. فلمّا أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القرية المحصّنة، وتهيأ لمنازلة أهلها، قال لأصحابه: «قفوا» ، ثمّ تضرّع إلى الله بهذا الدعاء: «اللهمّ ربّ السموات وما أظللن، وربّ الأرضين وما أقللن، وربّ الشّياطين وما أضللن، وربّ الرّياح وما أذرين. فإنّا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها وشرّ ما فيها» » . ثم قال: «أقدموا باسم الله» «2» . ويظهر أنّ اليهود ظنّوا- أول وهلة- أنّ زحف المسلمين صوب غطفان، فلم يعيروا الأمر التفاتا، بل أصبحوا غادين إلى حقولهم بمساحيهم ومكاتلهم، حتى فوجئوا بالمسلمين يسيرون نحوهم، فارتدوا إلى حصونهم فزعين، وهم يقولون: محمد والخميس!. إنّ اليهود- على ما ألف المسلمون من حروبهم- لا يعتمدون على تسيير الجيوش في الفضاء الرحب، تصيب ويصاب منها.. إنّهم يكرهون اللقاء في تلك الميادين المكشوفة، وديدنهم الذي لا ينفكّون عنه هو الكفاح من وراء الجدران.

_ (1) حديث حسن؛ أخرجه ابن هشام: 2/ 236، عن ابن إسحاق، عن أبي معتب بن عمرو، وفيه رجل لم يسمّ؛ وسماه البيهقي في روايته: «صالح بن كيسان» ، كما في (البداية) : 4/ 183، لكنّ الراوي عنه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع ضعيف، ولذلك صرّح البيهقي في السنن: 5/ 252، بتضعيف هذا الطريق، لكن يشهد له ما أخرجه هو والحاكم: 1/ 446 و 2/ 101؛ وابن السني رقم (518) ، من حديث صهيب رضي الله تعالى عنه، قال: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها ... فذكره. وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» ووافقه الذهبي، وفيه نظر، لكن له شاهدا اخر من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن كما قال الهيثمي في (المجمع) : 10/ 134. (2) ضعيف؛ وهو تمام حديث أبي معتب المخرّج انفا، وقد عرفت علته؛ ولم أجد لهذا المصدر منه شاهدا؛ فبقي على ضعفه.

[حصون اليهود تتداعى] :

أذلك بقية من حرصهم على الحياة، وتوقّيهم الموت؟. فلما راهم النبيّ عليه الصلاة والسلام يهرعون إلى حصونهم أراد أن يقذف في قلوبهم الرعب فصاح: «الله أكبر! هلكت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين» «1» . والقرى الفاجرة تجرّ على نفسها الهلاك إن عاجلا وإن اجلا، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا شاع الزّنى والرّبا في قرية فقد أحلّت بنفسها غضب الله» «2» . واليهود يشيع فيهم هذا الفساد المزدوج، فهم إلى اليوم دهاقين الرّبا في العالم، وهم قادة التبرّج والعهر، ونسوتهم لا يرددن يد لامس، ولا ينفي هذا أنّ فيهم فئة تعرف الخلق والعفّة، ولكنّهم قليل: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) [الأعراف] . والكثرة- لا القلّة- هي التي تحدد مصائر الشعوب. [حصون اليهود تتداعى] : وشنّ المسلمون هجومهم على الحصون المشيّدة، فبدأت تتداعى تحت وطأتهم حصنا بعد حصن، ودافع اليهود عنها دفاع المستميت، فإنّ خيبر أخصب أرضهم وأمنع بقاعهم. ولما بدأ الحصار يمتدّ؛ وبنو إسرائيل إذا سقطت لهم قلعة تمسكوا بأخرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله!» فبات الناس يذكرون أيّهم يعطاها. فلمّا أصبحوا غدوا إليه متطلّعين إلى أخذها، فنادى النبيّ صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب فأعطاها إياه، فقال علي: يا رسول الله! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: «انفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله، فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 376- 377، عن أنس. (2) حديث صحيح أخرجه الحاكم: 2/ 37، من حديث ابن عباس، وقال: «صحيح الإسناد» ، ووافقه الذهبي. وهو كما قالا، ورواه أبو يعلى عن ابن مسعود، وإسناده جيّد، كما في الترغيب: 3/ 51.

حمر النعم» «1» . وإنما ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا النصح الرشيد، حتى يقطع تطلّع النفوس إلى المغانم المعجلة، فإنّ ثروة يهود- إذا هزموا- ضخمة، ولكنّ ثواب مقاتليهم- إذا اهتدوا- أضخم. ولو نزل القوم على أحكام الله، وتركوا الخلال الدنيئة التي عاشوا بها، وعاملوا الناس بسوئها لأراحوا واستراحوا، غير أنّهم أبوا إلا الحرب، فهاجمهم عليّ، وشدّد النكير، حتى سقط الحصن، واحتله المسلمون. وكان الشعار يوم خيبر: يا منصور! أمت أمت. وخرج من حصون اليهود فارس يدعى (مرحبا) فنادى في المسلمين: من يبارز؟ وهو ينشد: قد علمت خيبر أنّي مرحب ... شاكي السّلاح بطل مجرّب أطعن أحيانا، وحينا أضرب ... إذا اللّيوث أقبلت تحرّب فقيل: فتك به عليّ بن أبي طالب، وقيل: بل قتله محمّد بن مسلمة «2» ، وكان محمود بن مسلمة أخوه قد ألقيت عليه في أثناء الحصار رحى فصرعته، فثأر محمد له بقتل مرحب، وبرز بعد قتل مرحب أخوه ياسر، فتصدّى له الزبير، وكانت صفية أمّ الزبير بين النسوة اللائي خرجن مع الجيش معاونات في قتال بني إسرائيل، فخشيت على ابنها أن يقتل، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «بل ابنك يقتله إن شاء الله» ، فصرع الزبير ياسرا «3» . وتشبّث اليهود بما بقي من حصونهم، يذودون عنها ذياد الييئس، وشدّد المسلمون عليهم الحصار، يريدون الانتهاء من هذا القتال مسرعين، فقد أجهداهم الجوع وضاق بهم المقام، وأصيب كثير منهم بعلل شتى لرداءة الجوّ ووخامة

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 384- 385؛ ومسلم: 7/ 121- 122، عن سهل بن سعد. (2) قلت: والصحيح الأول؛ لأنه ثابت في صحيح مسلم: 5/ 95؛ والمستدرك للحاكم: 4/ 39، من حديث سلمة بن الأكوع، وقد قال الحاكم (3/ 437) : «إنّ الأخبار كثيرة متواترة أن قاتل مرحب هو علي» . (3) ضعيف، أخرجه ابن هشام: 2/ 239، من طريق ابن إسحاق، عن هشام بن عروة معضلا.

المستنقعات، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أخبره أنّ اليهود لن يبالوا هذا الحصار، فإنّ لهم مشارب خفية يخرجون إليها ليلا، فيستقون ويعودون، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقطع مشاربهم «1» ؛ ليكرههم على القتال أو التسليم، فخرجوا واشتبكوا مع المسلمين في صراع شديد، استشهد فيه عدد من المسلمين بعد أن مهدوا الطريق لسقوط الحصن، ويسمى حصن (الزبير) وهو نهاية سلسلة من القلاع تسمى (النطاة) ، استولى المسلمون عليها جميعا بعد ما دخلوا حصون (ناعم) ، و (الصعب) ، و (الوطيح) ، و (السلالم) . وبقيت هناك سلسلة أخرى تهيأ المسلمون لمهاجمتها، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على قلعة يقال لها: (سموان) ، فقاتل عليها أشدّ القتال، وخرج منها رجل يسمى (عزولا) ، يبغي المبارزة، فهجم عليه (الحباب بن المنذر) فضربه بالسيف ضربة أطاحت يده اليمنى بنصف ذراعه، ثم وقع السيف من يده، وفرّ اليهودي راجعا، فأدركه الحباب فقطع عرقوبه. وبرز اخر، فقام إليه رجل من المسلمين، فقتله اليهودي، فلحق به (أبو دجانة) فقتله وثأر لصاحبه، ثم كبّر المسلمون وتحاملوا على الحصن، وأمامهم (أبو دجانة) ، فاقتحموه بعد لأي، ووجدوا به أثاثا وطعاما وغنما ومتاعا. وأفلت بعض المحصورين، فانضموا إلى إخوانهم بحصن (البزاة) وزحف المسلمون إليهم، وتراشق الفريقان بالنبل، فأصيب بنان النبيّ صلى الله عليه وسلم في المعركة، ولكن المسلمين استبسلوا في الكرّ على العدوّ، حتى افتتحوا هذا الحصن الاخر، وأخذوا من فيه باليد. ثم همّ المسلمون بنصب المنجنيقات، ليهدموا الحصون الباقية على من اعتصم فيها، فأيقن اليهود بالهلكة، ولم يروا محيصا من الاستسلام، فنزل ابن أبي الحقيق، وعرض الصلح على أن يجلوا من أرض خيبر، ولهم ما حملت ركابهم، وللمسلمين سائر ما بقي، فقبل الصلح، واشترط عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمّة لهم ولا عهد «2» ، فلما ثبت على بعضهم الغدر بما تمت عليه شروط الصلح قتل. وخضعت سائر يهود، ثم جاءت تعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم

_ (1) لا يصحّ، رواه الواقدي معضلا كما في (البداية) : 4/ 198؛ والواقدي متروك. (2) حديث صحيح، أخرجه البيهقي في سننه: 9/ 137، عن ابن عمر بسند صحيح، وكذلك رواه أبو داود: 2/ 38.

[نماذج من الشهادة] :

بالنصف في زراعة الأرض، فقبل، ولم يجعل ذلك على الأبد مخافة عبثهم، بل قال لهم: «إن شئنا أن نخرجكم أخرجناكم» «1» . [نماذج من الشهادة] : وحدث في إبّان المعركة أن عبدا حبشيا أسود كان يرعى لسيده اليهودي غنمه، فلما رأى أهل خيبر يحملون السلاح، ويتأهّبون للحرب سألهم: ما تريدون؟ قالوا: نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي، فوقع في نفس الرجل ذكر النبوة وصاحبها، فأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله: ماذا تقول؟ وإلام تدعو الناس؟ فأجابه: «أدعو إلى الإسلام، وأن تشهد ألاإله إلا الله، وأنّي رسوله، وألاتعبد غيره» . قال: فما لي إن شهدت وامنت؟ قال: «لك الجنة إن متّ على ذلك» ، فأسلم، ثم قال: يا نبي الله! إنّ هذه الغنم عندي أمانة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرجها من عندك، وارمها بالحصباء، فإنّ الله سيؤدّي عنك أمانتك» . ففعل، فرجعت الغنم إلى صاحبها، فعلم اليهوديّ أنّ غلامه أسلم، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تهيّأ الناس للقتال، فوعظهم، وحضّهم على الجهاد، والتحم الفريقان، فقتل العبد الأسود بين من قتل من المسلمين، وحملت جثته إلى المعسكر، فرووا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اطّلع في الفسطاط الذي ضمّ جثمان الشهيد، ثم أقبل على أصحابه يقول: «لقد أكرم الله هذا العبد، وساقه إلى خير، رأيت عند رأسه ثنتين من الحور العين ولم يصلّ لله سجدة قط» «2» . وفي هذه الغزاة أذن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمن تطوعن من النساء أن يخرجن معه. قال ابن إسحاق: شهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء من نساء المسلمين، فرضخ لهنّ رسول الله من الفيء- أعطاهنّ يسيرا- ولم يضرب لهنّ بسهم «3» . وروى الإمام أحمد عن حشرج بن زياد عن جدّته أمّ أبيه قالت: خرجنا مع

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 5/ 17؛ ومسلم: 5/ 27؛ وأبو داود: 2/ 39، وغيرهم، من حديث ابن عمر بمعناه. (2) ضعيف، ذكره ابن كثير 4/ 190- 191، عن عروة مرسلا؛ ورواه البيهقي عن شرحبيل بن سعد، عن جابر نحو هذه القصة، وشرحبيل كان اختلط؛ ومن طريقه أخرجه الحاكم: 2/ 136، وصحّحه، وتعقبه الذهبي بقوله: «بل كان شرحبيل متّهما» . (3) ذكره ابن إسحاق بدون إسناد؛ كما ذكره ابن هشام: 2/ 242 عنه؛ غير أنّه استدل على ذلك بحديث النسوة من بني غفار الاتي، وهو ضعيف كما سنبيّنه.

[أحداث ما بعد المعركة] :

رسول الله في غزاة خيبر، وأنا سادسة ستّ نسوة، قالت: فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ معه نساء، فأرسل إلينا فدعانا. قال: فرأينا في وجهه الغضب، قال: «ما أخرجكنّ؟ وبأمر من خرجتنّ؟» قلنا: خرجنا نناول السّهام، ونسقي السويق، ومعنا دواء للجرحى، ونغزل الشعر، فنعين به في سبيل الله. قال: «فانصرفن» . قالت: فلمّا فتح الله عليه خيبر، أخرج لنا سهاما كسهام الرجال. فقلت لها: يا جدّة! ما الذي أخرج لكنّ؟ قالت: تمرا «1» . ويرى ابن كثير أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاهنّ من ثمرات الأرض كالرجال، فأما أنّه أسهم لهنّ في الأرض نفسها كالرّجال فلا. وهذا حق. وفي حديث أبي داود أنّ نسوة من بني غفار قلن: يا رسول الله! قد أردنا أن نخرج معك في وجهك هذا- وهو يسير إلى خيبر- نداوي الجرحى، ونعين المسلمين ما استطعنا. فقال: «على بركة الله» «2» . [أحداث ما بعد المعركة] : وكانت صفية بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود بين من أسرن من نساء خيبر، وقعت في يد أحد الصحابة، فاستردّها منه الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أعتقها، وبنى بها، وجعل مهرها عتقها «3» . فلمّا اطمأنّ به المقام، أهدت له امرأة سلّام بن مشكم شاة مشويّة مسموته، وأكثرت من السمّ في ذراع الشاة، لما عرفته أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم يؤثرها. وقد تناول النبيّ صلى الله عليه وسلم مضغة منها، فلاكها، ثم لفظها، وهو يقول: «إنّ هذا العظم ليخبرني أنّه مسموم» ، وكان معه (بشر بن البراء) فأساغ اللحم وازدرده. وجيء بالمرأة الجانية، فاعترفت بما صنعت، وقالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: بلغت من

_ (1) ضعيف، وهو في المسند: 6/ 371؛ وكذا أبو داود: 1/ 429؛ وعلّته حشرج هذا، فإنّه لا يعرف كما قال الذهبي، وأشار لذلك الحافظ في التقريب، وسكت عن الحديث في (الفتح) : 6/ 59- 60. (2) ضعيف أخرجه أبو داود: 1/ 51؛ وأحمد: 6/ 380؛ وابن هشام: 2/ 243، كلّهم من طريق ابن إسحاق بإسناده عن امرأة من بني غفار، وفيه أمية بنت أبي الصلت لا يعرف حالها كما قال الحافظ. (3) حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم عن أنس.

قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيّا فسيخبر، فتجاوز عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم مات (بشر) بعد ما سرى السّم في جسمه «1» ، فقيل: اقتصّ له منها، وقيل: بل أسلمت وعفا عنها. ومكث يهود خيبر يزرعون الأرض على النصف من نتاجها، إلا أنّ بغضاءهم للمسلمين حملتهم على اقتراف بعض الجرائم، فقد اغتيل رجل من الأنصار، وفدعت يدا عبد الله بن عمر أيام خلافة أبيه، فخطب عمر الناس قائلا: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد عامل يهود خيبر على أن نخرجهم إذا شئنا، وقد عدوا على عبد الله بن عمر ففدعوا يديه كما قد بلغكم، مع عدوهم على الأنصاري قبله، لا نشكّ أنهم أصحابه، ليس لنا هناك عدوّ غيرهم.. فمن كان له مال بخيبر فليلحق به، فإنّي مخرج يهود، فأخرجهم «2» . ولا ريب أنّ الهزيمة التي أصابت بني إسرائيل في خيبر، قضت على كيانهم العسكري في الجزيرة قضاء تاما، فجاء يهود (فدك) يطلبون الأمان. وقاتل يهود وادي القرى بعد ما دعوا إلى الإسلام، وأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم، وحقنوا دماءهم، وحسابهم على الله «3» ، فلما أبوا نشبت بين الفريقين معركة محدودة، انتهت مع الصباح بسقوط الوادي اليهودي عنوة. واستسلم يهود تيماء.

_ (1) حديث صحيح، رواه هكذا ابن هشام: 2/ 240- 241، عن ابن إسحاق بدون إسناد؛ وقد رواه البخاري: 5/ 176؛ ومسلم: 7/ 14- 15، من حديث أنس: أن يهودية أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها فقيل: ألا تقتلها؟ قال: لا. والبخاري: 7/ 208، 10/ 200- 201، وغيره من حديث أبي هريرة نحوه، وفيه إقرار اليهود بوضع السم في الشاة، وقولهم: «أردنا إن كنت كاذبا نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرّك» . ومثله عند أحمد رقم (2785) من حديث ابن عباس وسنده حسن، كما قال ابن كثير: 4/ 109؛ وعزاه الحافظ: 10/ 202، لابن سعد بسند صحيح؛ ومثله عند أبي داود: 2/ 246؛ والدارمي: 1/ 33، عن جابر، وهو منقطع، لكن يقوّيه مرسل أبي سلمة عندهما. وفي حديثهما إخبار الذراع إياه، بأنّ الشاة مسمومة، وفي الثاني منهما موت بشر مسموما، وقد وصله الحاكم وصحّحه عن أبي هريرة، وسنده حسن، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قتلها. (2) حديث صحيح، أخرجه الشيخان عن ابن عمر، وقد تقدم قريبا. (3) رواه الواقدي بدون سند، كما في (البداية) : 4/ 218.

[الأرض لله يورثها من يشاء] :

ومدّ الإسلام رواقه على هذه الأرض بعد أن ظلّت حينا من الدهر في أيدي اليهود، يعيشون عليها كما يشتهون. [الأرض لله يورثها من يشاء] : والعظة التي نستخلصها من هذه المعارك وما أعقبها من جلاء أنّ الأرض لله يورثها من يشاء، وهو لا ينتزعها من قوم ويعطيها اخرين محاباة. كلا، ولكنّ الأمة التي تفسد على النعمة تسلبها، ثم تساق النعمة إلى من يقدّرها، ويشكر الله عليها. والأمة التي تتكبّر مع الحرية وتتبطّر، تفقد امتلاكها لنفسها وحقّها وأمرها، لتقع في إسار الاخرين فيصرّفون شؤونها كما يشتهون. وقد طبّق هذا القانون على بني إسرائيل بقسوة عند ما أهدروا أحكام التوراة وتبعوا الهوى، وطبّق بعد ذلك على المسلمين يوم سدروا في الغواية وجحدوا ما لديهم من هداية. وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) [هود] . إنّ الحياة كرّ وفرّ، وإقبال وإدبار، والنظرة العجلى إلى تاريخ البشر توحي بأنّ مكان الصدارة لم يثبت لأمّة من الأمم إلّا ريثما تتهيأ أمة أخرى لانتزاعه. والدول التي سادت أشبه بلجج البحر، التي ترتفع حينا ثم لا تلبث أن تضمحل رويدا رويدا حتى تنداح على الشاطئ ضعيفة متطامنة، ولا مانع من أن تعود مرة أخرى مع المد لتبلغ الأوج، ثم تنفك عنها أسباب القوة، فتهبط مستكينة من جديد. وقد ملك بنو إسرائيل وعزّوا بقدر حكيم، ثم سلبوا الملك والعزّة بقدر كذلك، لترثهما دولة الإسلام الفتيّ الناهض، وتمّ هذا التحول لخير البشر قاطبة. لماذا تظاهرت اليهودية الوثنية ضدّ الإسلام؟ ولمصلحة من يقع هذا؟ إنّ بني إسرائيل ينظرون إلى الدنيا والدين من خلال منافعهم الخاصة، وذلك ما حدا بهم إلى مقاومة الإسلام بعنف، أمّا القدر الأعلى، فيريد أن يجعل من الأمة الجديدة رسالة تغيير شامل، لما شاع في العالم أجمع من مفاسد، ولما عرا حضارته من تعفّن وركود. فإذا وقفت حفنة من الأعراب أو حفنة من اليهود لتعترض هذا

التحول الهائل بدوافع من الحقد الرخيص أو المطامع الدنيا، فهي التي جنت على نفسها إذا غرقت في الطوفان. لو ظلّ اليهود ألف سنة أخرى في جزيرة العرب ما زادوها إلا انقساما، وما اكتسبت أقطار الأرض من بقائهم شيئا، ربّما نالت مزيدا من الحبوب والفواكه التي يتقنون زراعتها، بيد أنّها لن تظفر بهذه الزيادة إلا ومعها كفل من الفساد الذي يصدّره بنو إسرائيل إلى العالم مع معاملات الربا، وأخلاق العهر والتحلل. أما الإسلام فقد خرج من الجزيرة يوم خرج رسالة إيمان وإصلاح، ومما يحمله في طواياه من حق ونفع استحقّ الانتصار والانتشار. فلمّا جرى على أمته من أسباب البلى والخمول ما جرى على اليهود الأولين تعرضت للطرد من أوطانها، والتشرّد هنا وهناك، كما تعرّض غيرهم، حذو النّعل بالنّعل.

عودة مهاجري الحبشة

عودة مهاجري الحبشة ووافق فتح (خيبر) قدوم (جعفر بن أبي طالب) ومن معه من المهاجرين إلى الحبشة. وقد سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّما سرور لمجيء هؤلاء الصحابة الكرام. إنّهم خرجوا من مكة فارّين بدينهم من الفتّان، واليوم يعودون وأمر الإسلام يعلو، وسلطانه يمتدّ شمالي الجزيرة وجنوبيها، فلا خوف من غشم أو ظلم. وعند ما حلوا بالمدينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتهجا: «والله ما أدري بأيّهما أفرح؟! بفتح خيبر أم بقدوم جعفر «1» ؟!» . وجعفر وإخوانه مكثوا في الحبشة بضعة عشر عاما، نزل خلالها قران كثير، ودارت معارك شتّى مع الكفار، وتقلّب المسلمون قبل الهجرة العامة وبعدها في أطوار متباينة، حتى ظنّ البعض أنّ مهاجري الحبشة- وقد فاتهم هذا كله- أنزل قدرا من غيرهم، فعن أبي موسى الأشعري: «.. كان أناس يقولون لنا: سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة- وكانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر- فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس. قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم! قال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحقّ برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم! فغضبت وقالت: كلا والله! كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم. وكنّا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة! وذلك في الله

_ (1) حديث حسن، أخرجه الحاكم: 4/ 211؛ والطبراني في الكبير، عن الشعبي مرسلا، وسنده صحيح، وقد وصله الحاكم من طريق أخرى عن الشعبي عن جابر، وفي سنده ضعف، ولذلك قال الذهبيّ في (التلخيص) : «الصواب مرسل» ، وله طريق اخر، رواه البيهقيّ، كما في (البداية) : 4/ 206، من طريق أبي الزبير عن جابر، وفي سنده من لا يعرف، وله شاهد من حديث أبي جحيفة، أخرجه الطبراني في (المعجم الصغير) ، ص 8، وسنده ضعيف؛ لكن أخرجه في الكبير من طريق اخر، كما يستفاد من (المجمع) : 9/ 272. وبالجملة فالحديث قويّ بهذه الطرق، وقد صحّحه الحاكم.

وفي رسول الله، وايم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله وأسأله، وو الله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه. فلمّا جاءت النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله! إنّ عمر قال كذا وكذا، قال: «فما قلت له؟» قالت: كذا وكذا. قال: «ليس بأحقّ بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم- أهل السفينة- هجرتان «1» » . ولم يمض كبير وقت على أولئك العائدين، حتى اكتسبوا ما فاتهم من علم بالقران والسنّة، وانتظموا في مواكب الجهاد مع من سبقوهم بإحسان. وقد أشركهم النبي صلى الله عليه وسلم في مغانم خيبر «2» مع أهل الحديبية «3» ولم يقسم لأحد غيرهم معهم. فإنّ الله جعل خيبر مكافأة سخية لمن ساروا إلى مكة، وبايعوا على الموت تحت شجرة الرضوان.

_ (1) حديث صحيح، أخرجه الشيخان في صحيحيهما. (2) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 8/ 392، من حديث أبي موسى. (3) حديث حسن، أخرجه أبو داود في سننه: 2/ 40؛ والحاكم: 2/ 131؛ والبيهقي: 6/ 325؛ وأحمد: 3/ 420، من حديث مجمع بن جارية: أنّ خيبر قسمت على أهل الحديبية، لم يدخل معهم فيها أحد ... وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» ، ووافقه الذهبي، وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه الطيالسي: 2/ 105؛ والبيهقي: 6/ 334، وسنده حسن في الشواهد، وقد قال ابن إسحاق في (سيرة ابن هشام: 2/ 246) : «وقسمت خيبر على أهل الحديبية، من شهد خيبر ومن غاب عنها، ولم يغب عنها إلا جابر بن عبد الله..» .

تأديب الأعراب

تأديب الأعراب أما عبدة الأصنام من البدو، فإنّ المسلمين شرعوا يتعقبونهم مذ خلصوا من مشكلات اليهود، وقد أشرنا إلى أنّ شمل هؤلاء الأعراب انتكث بعد الموادعة التي تمّت في الحديبية بين قريش والمسلمين، كانوا أمس يحاصرون دار الإسلام أحزابا متحدة، لكن الحال تبدّلت اليوم؛ تمزّق بنو إسرائيل، وانسحب أهل مكة، وأمكن للمسلمين أن ينفردوا بأولئك القوم قبيلة إثر قبيلة، ولن يعجز المسلمون عن حسم شرورهم ووقف فوضاهم. إنّ البدو جنس جاف غليظ، ولن ننسى أنهم حتى القرن الأخير كانوا يستمرئون الفتك بقوافل الحجاج، وقد يذبحون الحاجّ لدراهم معدودة. وعلمهم بشؤون الدنيا وحقوق الاخرة يعيي المدرسين، وقد بذل الإسلام جهودا جبارة في رفع مستواهم المادي والأدبي، إلا أنّ اغتيال الدعاة من القراء المربين جعل الإسلام يظاهر رجاله هؤلاء بالقوة التي تمنع الشغب، وتقطع دابر الفساد. وكان بث السرايا في فيافي (نجد) من أهمّ ما شغل المسلمين بعد ما رجعوا من خيبر في صفر من السنة السابعة، حتى شدّوا الرحال إلى مكة لعمرة القضاء، كما نصّ على موعدها في عهد الحديبية. ولا يعنينا كثيرا أن نتبع هذه السرايا في مسيرها، فهي- وإن وطدت هيبة المسلمين العسكرية- أقرب إلى فرق الشرطة منها إلى الجيوش المعبأة. والهدف الأكبر من بعثها توطيد الأمن، ومنع الغارات على المدينة، وتمكين الدعاة إلى الله من أن يجوبوا الافاق بتعاليم الرسالة دون غدر أو خيانة. إن أحوال هذه القبائل قريبة الشبه بأحوال قرانا في عهد الإقطاع القريب، كان العمدة يملك ألف صوت ناخب في قريته، فالحديث عن الحرية السياسية في هذا الجوّ (حديث خرافة) . كذلك كان رؤساء القبائل الأولون، تلتفّ حولهم

عشائرهم وبطونهم ليتناصروا في الحرب والسلم على ما يهوى السادة. فإذا كثر في أولئك الحاكمين من يوصف بالأحمق المطاع، وإذا اشتغل أولئك الحمقى بالكرّ والفرّ على نحو ما قال دريد بن الصمة: يغار علينا واترين فيشتفى ... بنا إن أصبنا، أو نغير على وتر! قسمنا بذاك الدّهر شطرين بيننا ... فما ينقضي إلّا ونحن على شطر! أفترى أنّ الدّعاة يسيرون عزّلا في هذه البيئة التي تخطف الأموال والعقائد؟. إنّ العمل على توطيد الأمن شيء غير إكراه الناس على الإيمان، هدف الأول إقصاء الضغط والفتنة عن المجتمع، حتى إذا امن فرد في قبيل لم يجد من يصبّ عليه سوط عذاب. أما الاخر فيريد بالسوط أن يحمل الناس على عقيدة معينة. والسرايا التي كان الرسول عليه الصلاة والسلام يسيّرها إلى كلّ فج كانت تحمل معها كلام الله لتقرأ منه: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) [الحج] . فالسعي لمعاجزة الايات أمر خطير، ولو كانت معاجزة باللسان ما اكترث لها أحد، فهيهات أن تغلب الخرافة الحقّ في معرض جدل حر، إنّها معاجزة بالسوط والقهر: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا ... [الحج: 72] . فإذا تأهّب التالي حتى لا يروح ضحيّة هذا السّطو، فهو يؤدي واجبه، وإذا سخّرت القوة لتطهير الحياة من أسباب هذا السطو، فأيّ غبار على هذا العمل؟. وقد مضى المسلمون في نشر الدعوة داخل جزيرة العرب على ذلك الأساس العادل، ومنذ أمضوا عهد الحديبية، وهم دائبون على البلاغ والتبصرة، ولذلك نجحوا نجاحا ملحوظا في هذا المضمار، فدخلت قبائل كثيرة في عهداهم، على حين انصرفت جموع الأعراب عن قريش، فلم يدخل في عهداهم أحد،

وسير الأمور في هذا الاتجاه كان التمهيد الفعّال لغلبة الإسلام، ثم لفتح مكة نفسها فيما بعد. والدعوة إلى الإسلام داخل الجزيرة لم تشغل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن حقّ اخر من حقوق الله عليه، وهو إعلام الناس كافة بما اتاه الله من بينات. فليرفع السراج إلى أعلى لتصل أشعته الهادية إلى مواطن أبعد، مواطن غرقت في الظلام دهرا: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 19] . فليتجه إلى المجوس وإلى النصارى، يدعوهم إلى توحيد الله والإسلام له والخضوع لأحكامه.

مكاتبة الملوك والأمراء

مكاتبة الملوك والأمراء كان الفرس يحتلون أجزاء كبيرة من جنوب الجزيرة، وكان الرومان يحتلون أجزاء أخرى من شمالها، وقد انتشرت ديانة المحتلّين في الأقاليم التي أخضعوها لنفوذهم، ومن العبث إرجاع هذا الانتشار للحرية العقلية المحضة، وعلى أية حال فإنّ المجوسية سادت الأقاليم التابعة لفارس، والنصرانية سادت الأقاليم التابعة للرومان، وكان أمراء هذه الأقاليم يعيّنون من قبل الدول الحاكمة، وينصاعون لأوامرها. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل بكتبه إلى رؤساء الدول الكبرى، وإلى أمراء الولايات المحتلة على سواء، يدعوهم إلى الله، ويعرض عليهم الإسلام. روى مسلم عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر وإلى النجاشي- وهو غير الذي صلّى عليه- وإلى كل جبّار؛ يدعوهم إلى الله عز وجلّ. [كتابه إلى قيصر ملك الروم] : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم (دحية بن خليفة) بكتابه إلى قيصر الروم، وليس الوصول إلى قيصر بدعوة غريبة على مسامعه أمرا سهلا، فكيف وهي- في نظر الرومان- من أعرابي ساذج ينتمي إلى قوم تحت سلطانهم!!. وتقديرا لهذه الأوضاع اختار النبي صلى الله عليه وسلم لتلك المهمة من يقوم بها إيمانا واحتسابا غير مبال بعواقبها عليه ولا نتائجها عند من يدعوه. فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ينطلق بصحيفتي هذه إلى قيصر، وله الجنّة؟» فقال رجل: وإن لم يقبل؟ قال: «وإن لم يقبل!» فأخذ دحية الكتاب، وسافر به إلى أرض الروم، فوافق هرقل وهو مقبل على بيت المقدس، يزوره عقب انتصاره على الفرس قربى إلى الله. وتناول قيصر الكتاب، فقرأ فيه: «بسم الله الرّحمن الرّحيم. من محمّد

رسول الله إلى هرقل عظيم الرّوم، سلام على من اتّبع الهدى، أمّا بعد: فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيين: ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [ال عمران: 64] » «1» . وقد هاجت حاشية هرقل لاكتراث القيصر بهذه الرسالة، وازدادوا هياجا عند ما عرض عليهم- لا ندري جادا أم هازلا- أن يعتنقوا هذا الدّين!. وهرقل- في نظرنا- رجل سياسيّ، وأمر الدين لا يعنيه إلا بقدر ما يدعم ملكه، وينمّي قوته، وقد تولّى شؤون الدولة في وقت كانت الخلافات الكنسيّة حول طبيعة المسيح تغلي غليان المرجل، وتثير في الأمة انقسامات مخيفة، وقد حاول التقريب بين وجهات النظر المتباينة، وجمع الكنائس المتخاصمة على مذهب واحد فعجز، وتمرّد عليه اليعاقبة وغيرهم في مصر والشام. فالكلام في الإلهيات ليس غريبا عليه، والتقريب بين وجهات النظر لمصلحة الدولة- ديدنه، ولعلّه في أعماق قلبه يحسّ سخف أولئك المختلفين جميعا. وربّما تألقت في نفسه لوقت محدود فكرة الخروج من عقيدة التثليث إلى بساطة التوحيد ثم انطفأت؛ لما ستجرّه على الدولة من خلاف أشقّ في وهمه، وأمر المملكة- عنده- أهمّ من أي شيء اخر. وشاءت لباقة قيصر السياسي أن يستدعي دحية، وأن يحاول إيهامه بأنّه مسلم! ثم أعطاه قدرا من الدنانير.. وصرفه!. وعاد دحية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كذب عدوّ الله، ليس بمسلم» ، وأمر بالدنانير فقسمت على المحتاجين «2» .

_ (1) حديث صحيح من قوله: «وتناول قيصر ... » إلى هنا، أخرجه البخاري: 3/ 31- 32؛ ومسلم: 5/ 165- 166، عن ابن عباس. (2) أخرجه أبو عبيد في الأموال، ص 255، عن بكر بن عبد الله المزني، وإسناده صحيح، لكنه مرسل، بيد أن الزرقاني نقل في (شرح المواهب) : 3/ 240، عن «الفتح» : أنه في مسند أحمد أيضا، فلينظر فإنه لم يذكر صحابيه.

[رد ملك غسان] :

[ردّ ملك غسان] : أما الولايات العربية التابعة للرومان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى أمرائها يعرض عليهم الإسلام، فكانت إجاباتهم أخشن وأقسى من ردّ القيصر نفسه!. قرأ أمير دمشق خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم له: «بسم الله الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتّبع الهدى وامن بالله وصدّق، وإنّي أدعوك أن تؤمن بالله واحده لا شريك له، يبقى ملكك» «1» . فلمّا قرأه رمى به الأرض، وقال: من ينزع ملكي منّي؟ وأخذ يعدّ العدّة لقتال المسلمين. والحارث ليس بالملك الأصيل حتى يشمخ بملكه على هذا النحو، إنه مولّى من قبل الرومان الغالبين؛ ليخدم أهواءهم، ويمشي في ركابهم، فهو كنفر من ملوك الشرق في عصرنا هذا، صنعهم المستعمرون ليكونوا حبالا تنجرّ بها الأمم المستضعفة وراء غاصبيها. والهدية التي ردّها هي الأمل الوحيد لجعله حاكما شريفا لو أنّه قبلها وأشاعها. وبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمير بصرى- من ولايات الروم- مثل ما بعث به إلى أمير دمشق، وحمل الكتاب الحارث بن عمير الأزدي، فاعترضه في الطريق شرحبيل بن عمرو الغسّانيّ وسأله: أأنت من رسل محمّد؟ قال: نعم، فأمر به شرحبيل فقتل. وترامت هذه الأخبار إلى المسلمين في المدينة، فجرحت كرامتهم، وأبانت لهم أنّ علائقهم بالرومان لن تندفع في طريق العدل والاحترام إلا بعد جهود شاقة. [ردّ المقوقس ملك القبط] : وردّ (المقوقس) على النبيّ صلى الله عليه وسلم ردّا حسنا، فلم يؤمن به، ولم يتهجّم عليه، ولمّا تسلّم كتابه من حاطب بن أبي بلتعة قال له: ما منعه إن كان نبيا أن يدعو على من خالفه وأخرجه من بلده؟ فقال حاطب: ما منع عيسى- وقد أخذه قومه

_ (1) ذكره الواقدي بدون إسناد كما في (البداية) : 4/ 268.

[رد فعل كسرى ملك فارس] :

ليقتلوه- أن يدعو الله عليهم فيهلكهم؟ فقال المقوقس: أحسنت. أنت حكيم جاء من عند حكيم!!. وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لمحمّد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام عليكم، أمّا بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه وتدعو إليه؛ وقد علمت أنّ نبيا قد بقي، وكنت أظنّ أنّه يخرج بالشّام، وقد أكرمت رسولك وبعثت لك بجاريتين لهما مكان عظيم في القبط، وبثياب، وأهديت لك بغلة تركبها» . وماذا يفعل محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا؟ لقد قبل الهدية تقديرا للعاطفة التي أملت بها، وإن كان يرى أنّ الإيمان بالله واحده أفضل ما يهدى إليه وخير ما ينتظره ويهش له. وجدير بنا أن نذكر كلام حاطب للمقوقس؛ حتى يعرف القارئ أنّ هذه البعوث بلغت حدّا من الفقه والحصافة يستحقّ الإعجاب البالغ. قال حاطب: إنّ هذا النبيّ دعا الناس، فكان أشدّهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمّد، وما دعاؤنا إياك إلى القران، إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل. وكلّ نبي أدرك قوما فهم أمته، فحقّ عليهم أن يطيعوه، وأنت ممّن أدرك هذا النبيّ، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكننا نأمرك به. وكان أثر هذه الدعوة الحارة الخطاب الذي سقناه انفا. [ردّ فعل كسرى ملك فارس] : تلك مثل لرسائله إلى رجالات النصرانية ومواقفهم منها. وقد ساق النبي صلى الله عليه وسلم كذلك مبعوثيه إلى رؤساء المجوسية، يدعونهم إلى الله، ويحدّثونهم عن الدين الذي لو تبعوه نقلهم من الغي إلى الرشاد. وقد تفاوتت ردودهم، بين العنف واللطف، والإيمان والكفر. كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى (كسرى أبرويز) ملك فارس، يقول: «بسم الله الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس. سلام على من اتّبع الهدى، وامن بالله ورسوله، وشهد ألاإله إلا الله واحده لا شريك له، وأنّ محمّدا

عبده ورسوله. أدعوك بدعاية الله، فإنّي أنا رسول الله إلى النّاس كافّة لينذر من كان حيا ويحقّ القول على الكافرين. أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس» «1» . ومزق كسرى الكتاب وهو محنق. ولعلّه حسب الجرأة على مكانته السامية بعض ما رماه به القدر من مصائب، فقد هزمه الروم هزيمة منكرة، وها قد جاء العرب يعلّمونه ما لم يكن يعلم. وأصدر كسرى أمره إلى والي اليمن- وكانت لمّا تزل في حكمه- يأمره أن يرسل اثنين من رجاله الأشداء ليأتيا إليه بالرّجل الذي تجرأ على مكاتبته. و (أبرويز) هذا رجل أحمق، ومنصبه يضفي عليه لقب ملك الملوك، والوثنية السياسية إذا ظاهرتها وثنية دينية أمست ظلمات بعضها فوق بعض، وقد غلب على الرجل السفه في تصريفه شؤون الدولة وحكمه على الأشخاص والأشياء، حتى ضاق قومه أنفسهم به، بل ضاق به أقرب الناس إليه وهو ابنه (شيرويه) فوثب عليه فقتله. ويروى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما بلغه ما صنع كسرى أبرويز بكتابه قال: «مزّق الله ملكه» «2» . والطريف أن والي اليمن لما صدر إليه أمر كسرى سارع إلى تنفيذه، فأرسل اثنين من لدنه إلى المدينة، يعرضان على النبي عليه الصلاة والسلام أن ينطلق معهما ليسأل عما فعل..!!. ونظر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين، فوجدهما من ذلك النوع الذي تربيه الملوك في القصور، كما تربي النسوة في بلادنا الديكة الرومية.. مناظر فارهة، وبواطن تافهة. فلمّا رأى شواربهما مفتولة، وخدودهما محلوقة، أشاح عنهما وقال «3» :

_ (1) حديث حسن، رواه ابن جرير في تاريخه: 2/ 295- 296، عن يزيد بن أبي حبيب مرسلا، وأبو عبيد في (الأموال) ، ص 23، عن سعيد بن المسيب مرسلا نحوه. (2) حديث صحيح، رواه البخاري في صحيحه: 8/ 104؛ وأبو عبيد عن سعيد بن المسيب مرسلا ومرفوعا؛ وروي من وجوه أخر مرسلا، فليرجع إليها من شاء في (البداية والنهاية) : 4/ 268. (3) حديث حسن، أخرجه ابن جرير: 2/ 266- 267، عن يزيد بن أبي حيبيب مرسلا، -

[رد أمير البحرين] :

«ويحكما! من أمركما بهذا؟» قالا: أمرنا ربّنا!! يعنيان كسرى.. إن تأليه الملوك ضلال قديم، وبعد أن انتشر الإسلام ذهبت حقيقة التأليه، ثم عادت الان اثاره وخصائصه، فالملك يلقّب صاحب جلالة، ولا يسأل عمّا يفعل، ويبطل شرائع الله ليقيم شرائع الهوى، ويمتد هو وبطانته لتنكمش أمامهما أمته. ولما سمع النبيّ عليه الصلاة والسلام كلام الرجلين أمرهما أن يعودوا من حيث أتيا إلى والي اليمن، وقال: «أخبروه أنّ ربّي قد قتل ربّه الليلة» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم قبلهما بمصرع كسرى. وقد وقع الإسلام في قلب والي اليمن ورجاله بعد هذه القصة، وانتشر انتشارا عظيما في الجنوب بين الطائفتين جميعا من نصارى ومجوس. [ردّ أمير البحرين] : وأرسل النبيّ عليه الصلاة والسلام إلى أمير البحرين كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، ونبذ المجوسية، حمله إليه العلاء بن الحضرميّ «1» وكان (المنذر بن ساوى) أمير البحرين رشيدا موفقا، فرحّب بالدعوة، وانشرح صدره لقبولها. وقد أبلغ العلاء في ترغيبه وإبراز محاسن الإسلام له: فمما قاله: «.. يا منذر! إنّك عظيم العقل في الدنيا، فلا تصغرنّ عن الاخرة، إنّ هذه المجوسية شرّ دين.. ليس فيها تكرّم العرب، ولا علم أهل الكتاب، ينكحون ما يستحيى من نكاحه، ويأكلون ما يتنزّه عن أكله، ويعبدون في الدنيا نارا تأكلهم يوم القيامة ... ولست بعديم عقل ولا رأي، فانظر: هل ينبغي لمن لا يكذب في الدنيا ألّا نصدقه؟ ولمن لا يخون ألّا نأمنه؟ ولمن لا يخلف ألّا نثق به؟.

_ - وابن سعد في (الطبقات) : 1/ 2/ 147، عن عبيد الله بن عبد الله مرسلا أيضا، وسنده صحيح؛ ووصله ابن بشران في الأمالي من حديث أبي هريرة بسند واه، وفيه من الطرق الثلاث زيادة كان يحسن إيرادها، وهي: «لكنّي أمرني ربّي عز وجلّ أن أعفي لحيتي، وأن أحفي شاربي» . (1) رواه الواقدي في اخر كتاب (الردة) بسنده، عن أبي حنتمة كما في (نصب الراية) للزيلعي: 4/ 419- 420.

هذا هو النبي الأمي الذي- والله- لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به! أو ليته زاد في عفوه، أو نقص من عقابه؛ إذ كلّ ذلك منه على أمنية أهل العقل، وفكر أهل النظر ... » . وقد أسلم (المنذر) ، وعرض على قومه الإسلام، فمنهم من أعجبه فدخل فيه، ومنهم من كرهه وبقي على مجوسيته أو على يهوديته، فلما استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل بإزائهم كتب له: «.. من أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية» «1» . إنّ توسيع ميدان الدعوة بحيث تشمل المعروف المعمور من أرض الله يومئذ أمر يثير التأمّل، لقد كان العرب يستكثرون النبوّة على واحد منهم، ويوسعونه جحودا وكنودا!: وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) [الفرقان] . فما يكون شأن الروم والعجم، وهم يرون العرب دونهم منزلة وحضارة، وثقافة وسياسة! ألا يكونون أسرع إلى السخرية وأدنى إلى الكفران؟!. بيد أن أصحاب الرسالات لا ينظرون إلى الأمور على ضوء الحاضر الضيق المنكور، فإنّ ثقتهم العميقة في سيادة فكرتهم، وامتداد نطاقها تصغّر العقبات المفروضة في الطريق، وتجعلها- ولو كانت الشم الرواسي- هباء منثورا. ولو انحصر (كارل ماركس) في حدود مذهبه- وهو فكرة مطاردة تصل بذويها إلى السجون- لأصابه الشلل، وقضى عليه وعلى أفكاره، لكنّه مضى في سبيله، وهو على أمل بالغ أن تقوم بتوجيهها دول كبرى، فإن كان هذا شأن الماديين من أصحاب الأفكار الضالّة؛ فلا جرم أنّ المرسلين المؤيّدين بالوحي يكاتبون الملوك والأمراء، وهم موقنون بأنّ ما لديهم من حق سيعلو ما عداه، وذلك ما كان يجول في نفس الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يعالج هداية الأعراب الشاردين في الصحراء، طورا باللين، وطورا بالشدة، ثم هو- في الوقت نفسه- ينصح لقادة الشعوب الاخرى أن يفكّروا في هذا الدين الجديد، وأن يعتنقوه وافرين.

_ (1) ضعيف، أخرجه الواقدي بإسناده عن عكرمة، قال: وجدت في كتب ابن عباس.. فذكره.

إن الخرافة التي أفسدت عقل بدويّ تترّب إهابه وثيابه رياح (نجد) هي بعينها الخرافة التي تفسد فكر كسرى عاهل الفرس العظيم. ما الفارق بين الحمّى تصيب ملكا أو تصيب صعلوكا؟ إنّ الطبيب يصف لها على الحالين- دواء واحدا، ويتخذ ضد عدواها حصانات واحدة!. وقد أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفي الكبار والصغار من أمراض نفوسهم، وأن يناولهم جميعا الدواء الذي يصحّون به: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (82) [الإسراء] . فلا غرو إذا جمع في مصحّه بين الأحمر والأسود، والسادة والعبيد. أجل، قد يكون أولئك الملوك محجّبين وراء أسوار مشيدة، وحولهم من الأتباع والجند والأبهة والرياش ما يبهر العين، لكن أي عين تنبهر لهذه المظاهر؟ إنّ الطبيب المعالج لا يعنيه من مريضه إلا جسده الشاحب العليل، والأنبياء لا يرون في القوم إلا أنهم جهّال يجب أن يتعلّموا، سفهاء يجب أن يسترشدوا، وأنّ ما حولهم من الدنيا يجعل تبعتهم أخطر، وجزاءهم على الهدى والضلال أضخم. على أنّ هذه القوى المسخّرة في حماية الباطل لن يطول أمدها إلا كما يطول الليل على المؤرق، ثم تطلع الشمس، ويمحو الله بالاية المبصرة سدول الظلام. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لرسل والي اليمن حين جاؤوه: «أخبراه أنّ ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى، وينتهي إلى الخفّ والحافر، وقولا له: إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك، وملكتك على قومك» «1» . إنّه- وهو في المدينة- يولّي ويعزل، عن حق لا عن غرور، أليس موصولا بمالك الملك، مبعوثا من رب السموات والأرض؟!. ومن الطبيعي أن يعرف مشركو العرب أنباء هذه البعوث النبوية، وأن يرقبوا نتائجها عن كثب، وقد استبشروا أول الأمر حين بلغهم صنيع كسرى بن هرمز، وقال بعضهم لبعض: كفيتم الرجل، فقد نصب له كسرى ملك الملوك! وشاعت هذه القالة في مكة والطائف.

_ (1) ضعيف، أخرجه ابن جرير في تاريخه: 2/ 297، عن يزيد بن أبي حبيب مرسلا.

ثم مرت الأيام، وطاح كسرى، وبقي الإسلام يغزو الأفئدة والبلاد.. وجاءت الأنباء أنّ بعوث محمد صلى الله عليه وسلم في بعض الأرجاء أمكنها نشر الإسلام، وتثبيت هدايته، حتى دخلت فيه اليمن وعمان والبحرين، فارتد استبشار المشركين خذلانا، وفكرت قبائل شتى في الانقياد لحكمه، خصوصا ورقعة الكفر تنكمش يوما بعد يوم أمام موجات الوحي الجارف، وإن بقيت أخرى مصرّة على جاهليتها: بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) [الأنبياء] .

عمرة القضاء

عمرة القضاء أوشكت السنة السابعة أن تنقضي، وحقّ للمسلمين أن يعودوا إلى مكة ليؤدّوا مناسك العمرة، التي حرموا من أدائها قبلا، لقد تأخّروا عاما وهم كارهون، لكنّ مكاسبهم للدعوة في هذه الفترة أربت على الأماني، وها هم أولاء يسوقون الهدي إلى الحرم مرة أخرى، ويجرّون وراءهم أذيال نصر عريض. وأحبّ أهل مكة أن يعزّوا أنفسهم وهم يجلون عنها- وفق الاتفاق المبرم- ليدخلها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته معتمرين، فأشاعوا أن المسلمين يعانون عسرة وجهدا. قال ابن عباس: صفّوا له عند (دار الندوة) لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلمّا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه، وأخرج عضده اليمنى ثم قال: «رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوّة» «1» ، ثم استلم الركن وأخذ يهرول، ويهرول أصحابه معه حتى واراه البيت عنهم. والتّطواف بهذه السرعة إظهار لبأس المسلمين، وتكذيب لإشاعات الضعف، وقد مضت السّنّة به بعد ذلك.

_ (1) ضعيف، رواه ابن هشام: 2/ 354، عن ابن إسحاق: حدثني من لا أتّهم عن ابن عباس مرفوعا؛ ورواه ابن جرير: 2/ 309، عن ابن إسحاق، فقال: عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس؛ فإن صحّت هذه الرواية فهي نقل عن الطريق الأولى؛ لأنّ الحسن بن عمارة متهم بالوضع، وإن لم يصح ففي الطريق الأولى من لم يسم. ويغني عنه ما في المسند، رقم (3536) عن ابن عباس: أن قريشا قالت: إنّ محمدا وأصحابه قد وهنتهم حمى يثرب، فلمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعامه الذي اعتمر فيه قال لأصحابه: «ارملوا بالبيت، ليرى المشركون قوّتكم» فلما رملوا قالت قريش: ما وهنتهم، وسنده صحيح، علّقه البخاري: 8/ 411.

وروي «1» : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة كان عبد الله بن رواحة اخذا بخطام ناقته، وهو ينشد: خلّوا بني الكفّار عن سبيله ... خلّوا فكلّ الخير في رسوله! يا ربّ إنّي مؤمن بقيله ... أعرف حقّ الله في قبوله وأقام الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، جاء في نهايتها نفر من قريش يذكّرونه بانقضاء الأجل المضروب، ويقولون له: اخرج عنّا، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «لو تركتموني فأعرست بين أظهركم، وصنعنا لكم طعاما، فحضرتموه؟» «2» . قالوا: لا حاجة لنا في طعامك، فاخرج عنا. وكان العبّاس عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوّجه من ميمونة بنت الحارث، خالة عبد الله بن عباس، فعقد عليها في مكة، وبنى بها في سرف، وفي هذه العمرة نزل قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) [الفتح] .

_ (1) عند ابن هشام: 2/ 255، عن ابن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر مرسلا، لكن رواه عبد الرزاق من وجهين عن أنس، والأول صحيح على شرط الشيخين، والاخر على شرط مسلم كما قال الحافظ في (الفتح) : 7/ 403- 404؛ ومن الوجه الثاني أخرجه الترمذي وحسنه؛ والنسائي: 2/ 30. (2) ضعيف، رواه ابن هشام: 2/ 255، عن ابن إسحاق بغير إسناد؛ والقصة في البخاري: 7/ 403- 407، من حديث البراء: 7/ 410، عن ابن عمر، وليس في روايتيهما: «لو تركتموني ... » . وإنما فيها: فلمّا أن أقام بها ثلاثا أمروه أن يخرج فخرج.

غزوة مؤنة

غزوة مؤنة عزّ على المسلمين مصرع رسولهم إلى أمير بصرى، والطريقة الشائنة التي عومل بها، فقد أوثق شرحبيل بن عمرو رباطه، ثم قدّمه فضرب عنقه، ولم يقتل أحد غيره من بعوث الرسول صلى الله عليه وسلم الكثيرة إلى الافاق، والرّسل لا يقتلون، لذلك كان وقع هذه الإهانة شديدا على المسلمين، فعزموا على الاقتصاص لرجلهم، وعلى زلزلة الوالي الأثيم الذي صنع ما صنع لحساب الرومان. وتجهّز المسلمون في جيش يعتبر بالنسبة لهم كبيرا، إذ بلغت عدّته ثلاثة الاف، وخرج أهل المدينة يودّعون الجيش الزاحف، وهم يقولون: صحبكم الله بالسلامة ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة يردّ على هذا الوداع: لكنّني أسأل الرّحمن مغفرة ... وضربة ذات فرع تقذف الزّبدا! أو طعنة بيدي حرّان مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا! حتّى يقال- إذا مرّوا على جدثي- ... يا أرشد الله من غاز وقد رشدا! ورتب النبيّ صلى الله عليه وسلم قادة الجيش، فجعل الأمير زيد بن حارثة، وقال: «إن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر، فعبد الله بن رواحة» «1» . وانطلق الجيش إلى مشارف الشام. إلا أنّ أخباره سبقته إلى الروم، ولا بدّ أن تهاويل كثيرة أحاطت بسمعة المسلمين وطاقاتهم الحربية، مما جعل القوم يستعدون للقتال بجيش كثيف. فلمّا وصل المسلمون إلى (معان) عرفوا أنّ في انتظارهم مئة ألف من الروم، ومئة ألف أخرى من نصارى العرب. والهجوم على جيش تلك عدته مجازفة مخوفة، فأقام المسلمون ليلتين

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 412، وغيره عن ابن عمر؛ وأحمد: 5/ 299- 300- 301، عن أبي قتادة، وسنده صحيح.

ب (معان) يتدبّرون أمرهم، وقال نفر منهم: نكتب إلى رسول الله، نخبره بعدد عدونا، فإمّا أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، ولم يرق لعبد الله بن رواحة فشجّع الناس قائلا: يا قوم! والله إنّ التي تكرهون للّتي خرجتم تطلبون الشهادة! - وما نقاتل النّاس بعدد ولا قوّة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدّين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنّما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة. وكان لهذه الكلمة الملتهبة أثرها، فاختفت من صفوف المسلمين مشاعر التردد وقرروا القتال مهما كانت النتائج. وابن رواحة شاعر حادّ العاطفة، وقد أحسّ منذ خروجه أن الاستشهاد مقبل عليه، فهو يتهيأ له بقلبه ولسانه، وقد تكون العسكرية في تصرف غير ما أوحى به، غير أنّ المسلمين ما إن سمعوا حديث الفداء والموت في سبيل الله حتى جاشت بأنفسهم محبة الاخرة، ثم ذكروا أنهم نصروا في معارك سابقة باستعداد أقل من عدوهم، فأقدموا مطمئنين. عن أبي هريرة قال: شهدت مؤتة، فلمّا دنا المشركون رأينا ما لا قبل لأحد به من العدّة والسّلاح، والكراع، والديباج، والحرير، والذهب، فبرق بصري!! فقال لي ثابت بن أقرم: يا أبا هريرة! كأنّك ترى جموعا كثيرة؟ قلت: نعم- وأبو هريرة ممّن أسلموا بعد الحديبية- فقال له ثابت: إنّك لم تشهد بدرا معنا، إنّا لم ننصر بالكثرة. والتقى الجمعان، وعبث أن ننتظر من ثلاثة الاف بطل أن يصاولوا في ميدان مكشوف فيالق تربو عليهم سبعين ضعفا. قاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم. وتلقّف الراية جعفر بن أبي طالب، فأقبل على الروم يجالدهم بعنف. روى أبو داود حديث شاهد عيان يقول: لكأنّي أنظر إلى جعفر حين اقتحم على فرس له شقراء ثم عقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل، وهو ينشد: يا حبّذا الجنّة واقترابها! ... طيّبة، وباردا شرابها! والرّوم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها! عليّ إن لاقيتها ضرابها!

قيل: إنّ رجلا من الروم ضربه ضربة قطعه نصفين. وقيل: أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل، وقد رزق جعفر هذه الشهادة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. فلما قتل حمل عبد الله بن رواحة الراية، ثم تقدّم بها وهو على فرسه، فلمّا أحسّ دقّة الموقف، وشدة الضغط، عراه بعض التردد، ثم أقنع نفسه بورود المصير الذي ذاق صاحباه، فأقبل على الساحة المضطرمة وهو يقول: يا نفس إن لا تقتلي تموتي! ... هذا حمام الموت قد صليت! وما تمنّيت فقد أعطيت! ... إن تفعلي فعلهما هديت! ثم أقدم، وجاءه ابن عم له بقطعة لحم فناولها إياه وهو يقول: شدّ بها صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فما كاد يقطع منها مضغة حتى سمع الحطمة في ناحية من الجبهة استعرت بها الحرب، فقال لنفسه: وأنت في الدنيا؟ ورمى بالطعام من يده.. ثم انتضى سيفه، وتقدّم حتى قتل. وأخذ الراية التي تداولتها أيدي الأمراء الثلاثة ثابت بن أقرم، وصاح: يا معشر المسلمين! اصطلحوا على رجل منكم! قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل! فاصطلح الناس على (خالد بن الوليد) ، وثابت أبى القيادة لا نكوصا عن الموت، بل شعورا بوجود الأكفأ منه في الجماعة، وحملانه الراية خشية أن تسقط من ايات الجرأة في هذا الموقف العصيب. وليت كلّ امرئ يعرف أقدار الناس، ينزلهم منازلهم التي يستحقونها، فلا يكلف أمته أن تحمل عجزه وأثرته. وأخذ الراية (خالد) فشرع يقاتل ويحتال للخلوص بالجيش من هذا المأزق المتضايق، وقتال الانسحاب شاقّ مرهق، خصوصا وخالد لا يريد إشعار الروم بهذه الخطة. روى البخاري عن خالد: اندقّت في يدي يوم (مؤتة) تسعة أسياف، وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية. ودخل الليل على المتحاربين، فكان هدنة مؤقتة، فلما طلع الصبح كان خالد قد أعاد تنظيم قواته القليلة، فجعل المقدمة ساقة والميمنة ميسرة. وجعل هدفه مناوشة الرومان بحيث يلحق بهم أفدح الخسائر، دون أن يعرّض كتلة الجيش لالتحام عام، وقد أفلحت هذه الخطة في إنقاذ الالاف القليلة

[التربية الجهادية للمجتمع المسلم] :

التي معه، وإنقاذ سمعة المسلمين في أول معركة لهم مع الدولة الكبرى. والعجيب أنّ الرومان أعياهم هذا القتال، وأصيبوا فيه بخسائر كبيرة؛ بل إنّ بعض فرقهم انكشف، وولّى مهزوما. واكتفى خالد بهذه النتيجة، واثر الانصراف بمن معه. عن أنس بن مالك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيه خبرهم، فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب- وعيناه تذرفان- قال: ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم» «1» . وروى ابن إسحاق «2» ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد رفعوا إلى الجنة- فيما يرى النائم- على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه، فقلت: ممّ هذا؟ فقيل لي: مضيا، وتردّد عبد الله بعض التردد، ثم مضى» . [التربية الجهادية للمجتمع المسلم] : والدلالة التي تعلو على الريب في هذه المعركة أن شجاعة المسلمين وبسالتهم بلغتا حدّا لم تعرفه أمة معاصرة، وقد أكسبهم هذا الروح العالي إقداما حقّر أمامهم كبرياء الأمم التي عاشت مع التاريخ دهرا تصول وتجول لا يقفها شيء. إن الاستهتار بالخطر والطيران إلى الموت ليسا فروسية احتكرها الرجال المقاتلون واحدهم، بل هي قوة غامرة قاهرة، تعدّت الرجال إلى الأطفال، فأصبحت الأمة كلها أمة كفاح غال عزيز، وحسبك أن جيش (مؤتة) لما عاد إلى المدينة قابله الصبية بصيحات الاستنكار يقولون: يا فرّار!، فررتم في سبيل الله؟ إنّ أولئك الصغار الأغرار يرون انسحاب خالد ومن معه فرارا، يقابل بحثو التراب. أيّ جيل قويّ نابه هذا الجيل الذي صنعه الإيمان بالحق؟! أيّ نجاح بلغته رسالة الإسلام في صياغة أولئك الأطفال العظام؟ من اباؤهم؟ من أمهاتهم؟ كيف كان الاباء يربون؟ وكيف كانت الأمهات يدللن؟.

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 413، وغيره. (2) رواه بلاغا كما في سيرة ابن هشام: 1/ 258- 259، وغيرها، فهو ضعيف الإسناد.

[مكانة القادة الثلاثة في الجنة] :

إن مسلمة اليوم بحاجة ماسّة إلى أن تعرف هذه الدروس. [مكانة القادة الثلاثة في الجنة] : تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن قادة الجيش الذين قتلوا، فقال لأصحابه: «ما يسرّهم أنّهم عندنا» «1» . أجل، إنّ الجوار الذي صاروا إليه أحبّ لنفوسهم، وأقرّ لعيونهم من الدنيا وما فيها ومن فيها. أما أسرهم ففي كفالة الله، وهو نعم المولى ونعم النصير. عن عبد الله بن جعفر- ابن الشهيد- جاءنا النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث من موت جعفر فقال: «لا تبكوا على أخي بعد اليوم، وادعوا لي بني أخي» . قال عبد الله: فجيء بنا كأننا أفراخ، فقال: «ادعوا إليّ الحلّاق» ، فجيء بالحلّاق، فحلق رؤوسنا، ثم قال الرسول عليه الصلاة والسلام- مداعبا-: «أمّا محمّد فشبيه عمنا أبي طالب، وأمّا عبد الله فشبيه خلقي وخلقي» ، ثم أخذ بيدي فأشالها، وقال: «اللهمّ اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه» . قالها ثلاث مرات. قال عبد الله: وجاءت أمّنا فذكرت له يتمنا، وجعلت تحزّنه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «العيلة تخافين عليهم وأنا وليّهم في الدّنيا والاخرة؟!» «2» . ولم ير المسلمون في نتائج (مؤتة) ما يسكن ثائرتهم، فإن القبائل المنتصرة بالشمال استظهرت بالرومان على مقاتلتهم، واستطاعت بذلك النجاة من عدوانها على الحارث بن عمير، ولا بدّ من قذف الرعب في قلوبها، وإشعارها بأنّ بعوث الإسلام لا تلقى هذا الهوان. وهكذا اتجه نشاط المسلمين العسكري إلى ميدان جديد بعيد.

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري: 6/ 135، من حديث أنس المتقدم في رواية له، لكن بلفظ: «ما يسرني؛ أو قال: ما يسرهم..» على الشك. (2) حديث صحيح، أخرجه أحمد، رقم (1750) بإسناد صحيح على شرط مسلم، وبعضه عند أبي داود والنسائي والحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي.

ذات السلاسل

ذات السلاسل كانت (مؤتة) في جمادى الأولى من السنة الثامنة، ولم يلبث المسلمون طويلا بعدها حتى عادوا إلى مشارف الشام؛ يلاحقون خصومهم قبل أن يستريحوا، فخرج (عمرو بن العاص) ليؤدّب القبائل الضاربة هناك إلا أنه خشي من كثرة عدوه، فأرسل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يطلب مددا، وانحاز إلى ماء يسمّى السلاسل حتى يجيئه العون. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا من المهاجرين الأولين- فيهم أبو بكر وعمر- يقوده أبو عبيدة بن الجراح. ووصّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وجّهه لنجدة (عمرو) فقال: لا تختلفا «1» . فلما وصل أبو عبيدة قال له عمرو: إنما جئت مددا لي، فقال له أبو عبيدة: لا، ولكني على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه! فقال عمرو: أنت مدد لي! - وكان أبو عبيدة رجلا لينا سهلا، هينا عليه أمر الدنيا- فقال: يا عمرو! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: «لا تختلفا» ، وإنك إن عصيتني أطعتك! قال عمرو: فإني أمير عليك، وإنما أنت مدد لي. قال: فدونك، فصلّى عمرو بالناس، وتولى قيادهم جميعا. وأخذ عمرو يطارد القبائل الموالية للروم، فتوغّل في بلاد بليّ وعذرة وبلقين وطيّئ. وكلما انتهى إلى موضع قيل له: كان هنا (جمع) فلما سمعوا بك تفرّقوا! وظفر مرة بواحد من هذه الجموع فاقتتلوا، وحمل عليهم المسلمون فهزموا، وأعجزوهم هربا في البلاد. ومع أنّ عمرا دوّخ أولئك الأعراب، وشتّت شملهم؛ إلا أنّه لم يلقهم في معركة حاسمة، وعلى أية حال فإنّ سمعة المسلمين انزاح عنها غبار كثير بهذه الغزوة.

_ (1) ضعيف، رواه ابن إسحاق عن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي مرسلا.

[فقه عمرو] :

[فقه عمرو] : وحدث أنّ عمرو بن العاص احتلم في ليلة باردة، وخشي على نفسه إن اغتسل أن يعتلّ، فتيمم، وصلّى بالنّاس، وكأنّ بعض الصحابة شكّ في هذا الصنيع من عمرو، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: إن عمرا صلّى بنا وهو جنب! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟» . فأخبره بالذي منعه من الاغتسال. لقد خاف على نفسه قسوة البرد، والله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [النساء: 29] . فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا «1» . وفقه عمرو في هذه المسألة صحيح، فإنّ التيمّم يجوز إذا كان استعمال الماء مظنة الضرر.

_ (1) صحيح، أخرجه أبو داود والدارقطني والحاكم والبيهقي بإسناد صحيح عن عمرو بن العاص، وقد تكلمات على الحديث في (صحيح سنن أبي داود) ، رقم (360، 361) .

الفتح الأعظم

الفتح الأعظم شغل المسلمون بعد عهد الحديبية بنشر الدعوة، وعرض تعاليم الإسلام على كل ذي عقل، وكان وفاؤهم لقريش أمرا مقررا فيما أحبوا وفيما كرهوا. ورأى الناس من ذلك الايات البينات!!. لكنّ قريشا ظلّت على جمودها القديم في إدارة سياستها، غير واعية للأحداث الخطيرة التي غيّرت مجرى الأحوال في الجزيرة العربية، وتوشك أن تغيره في العالم كله. وقد جرها فقدان هذا الوعي إلى حماقة كبيرة، أصبح بعدها عهد الحديبية لغوا، وذلك أنها مع حلفائها من بني بكر هاجموا خزاعة- وهي مع المسلمين في حلف واحد- وقاتلوهم، فأصابوا منهم رجالا، وانحازت خزاعة إلى الحرم إذ لم تكن متأهبة لحرب، فتبعهم بنو بكر يقتلونهم، وقريش تمدّهم بالسلاح، وتعينهم على البغي. وأحسّ نفر من بني بكر أنّهم دخلوا الحرم- حيث لا يجوز قتال- فقالوا لرئيسهم نوفل بن معاوية: إنّا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك. فقال نوفل: لا إله اليوم يا بني بكر.. أصيبوا ثأركم..!!. وفزعت خزاعة لما حلّ بها، فبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (عمرو بن سالم) يقصّ عليه نبأها، فلمّا قدم المدينة وقف على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس يقول: يا ربّ إنّي ناشد محمّدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا قد كنتم ولدا وكنّا والدا ... ثمّت أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرا أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجرّدا ... أبيض مثل البدر يسمو صعدا إن سيم خسفا وجهه تربّدا ... في فيلق كالبحر يجري مزيدا

[أبو سفيان يحاول إصلاح ما أفسده قومه] :

إنّ قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكّدا وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أذلّ وأقلّ عددا ... هم بيّتونا بالوتير هجّدا وقتلونا ركّعا وسجّدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت يا عمرو بن سالم» «1» .. [أبو سفيان يحاول إصلاح ما أفسده قومه] : وأحست قريش- بعد فوات الأوان- خطأها، فخرج أبو سفيان إلى المدينة يصلح ما أفسده قومه، ويحاول أن يعيد للعقد المهدر حرمته!. وبلغ المدينة، فذهب إلى ابنته أمّ حبيبة، وأراد أن يجلس على الفراش؛ فطوته دونه. فقال: يا بنية! ما أدري، أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عنّي؟!. فقالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس! قال: والله! لقد أصابك بعدي شرّ! ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلّمه، فلم يرد عليه شيئا «2» . واستشفع أبو سفيان بأبي بكر ليحدّث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن فرفض، فتركه إلى عمر، فقال عمر: أنا أشفع لكم عند رسول الله! والله لو لم أجد إلا الذّرّ لجاهدتكم به. فتركهما إلى عليّ فردّ عليه: والله يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلّمه فيه، ثم نصحه أن يعود من حيث جاء.. فقفل أبو سفيان إلى قومه، يخبرهم بما لقي من صدود. وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم النّاس أن يتجهزوا، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة، وأوصاهم بالجد والبدار. وقال: «اللهمّ خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها

_ (1) ضعيف، رواه ابن هشام: 2/ 265؛ وابن جرير: 2/ 324- 325، عن ابن إسحاق بدون إسناد، ووصله الطبراني في (المعجم الصغير) ، ص 202، وكذا في الكبير من حديث ميمونة بنت الحارث رضي الله تعالى عنها بإسناد ضعيف. (2) ضعيف، رواه ابن إسحاق بدون إسناد، كما في سيرة ابن هشام: 2/ 265؛ وابن جرير: 2/ 325- 326.

[إنه شهد بدرا..] :

في بلادها» «1» !. واستمع المسلمون لأمر نبيّهم، فمضوا يعبّئون قواهم للّقاء المنتظر، وهم مدركون أنّ الساعة الفاصلة مع أهل مكة قد دنت. [إنه شهد بدرا..] : ووقع في هذه الفترة الدقيقة حادث مستغرب؛ فإنّ رجلا من أهل السابقة في جهاد المشركين تطوّع بإرسال كتاب إلى قريش يخبرهم فيه أن محمدا صلى الله عليه وسلم سائر إليهم بجيشه. وقد رأيت أنّ المسلمين حراص على إخفاء خطة الغزو، أليس مما يقرّب نجاحهم ويخفف خسائرهم؟ ولعلّه يدفع قريشا إلى التسليم دون أن تسفك الدماء عبثا. وما معنى الكتابة إليهم إلا التحريض على حرب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والاستكثار من أسباب المقاومة؟. عن علي بن أبي طالب: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: «انطلقوا حتّى تأتوا روضة (خاخ) ، فإنّ بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها» . فانطلقنا تعادى بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة. فقلنا: أخرجي الكتاب. فقالت: ما معي! فقلنا: لتخرجنّ الكتاب أو لنلقينّ الثياب! فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكّة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله. فقال: «يا حاطب، ما هذا؟!» فقال: يا رسول الله! لا تعجل عليّ، إنّي كنت امرأ ملصقا في قريش- كنت حليفا لها، ولم أكن من صميمها- وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم- أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنّه قد صدقكم» ! فقال عمر: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق! فقال: «إنه شهد بدرا، وما يدريك؟ .. لعلّ الله

_ (1) ضعيف، رواه ابن إسحاق بدون إسناد، ومعناه في حديث ميمونة المخرّج انفا.

[إسلام العباس رضي الله عنه] :

قد اطّلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟!» . ونزل قول الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) [الممتحنة] «1» . إن حاطبا خرج عن جادّة الصواب بهذا العمل. وما كان له أن يوادّ المشركين، وهم الذين تبجّحوا بالكفران، وتظاهروا على العدوان، وصنعوا بالمسلمين ما حاطب أعلم به من غيره. لكنّ الإنسان الكبير تعرض له فترات يصغر فيها، والله أبرّ بعباده من أن يؤاخذهم بسورات الضعف التي تعرو نورهم فيخبو، وسعيهم فيكبوا. وقد استكشف النبيّ صلى الله عليه وسلم خبيئة حاطب، فعرف أنّه لم يكذبه في اعتذاره، إنّهم مقبلون على معركة كبيرة، قد ينهزمون فيها، فتقوم العصبيات القديمة بحماية الأقارب الشاردين، ويبقى حاطب لا حمى له، فليتخذ تلك اليد عند قريش حيطة للمستقبل. ذلك ما فكر فيه حاطب، وهو خطأ، فإنّ المشركين لم يذكروا في عداوة الإسلام رحما ولا أهلا، وما ينبغي- ولو دارت علينا الدوائر- أن نبقي لهم ودّا، وقد خاصمناهم في ذات الله، وأخذ علينا العهد أن نبذل في حربهم أنفسنا وأموالنا ... ولو جاز اتخاذ يد عندهم فكيف يتوسّل لذلك بعمل يعدّ خيانة كبيرة فادحة الإضرار بالإسلام وأهله؟!. على أنّ حاطبا شفع له ماضيه الكريم، فجبرت عثرته، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يذكروا الرجل بأفضل ما فيه، وبهذا التقدير السمح علّمنا الإسلام ألا ننسى الحسنات والفضائل لمن يخطئون حينا بعد أن أصابوا طويلا. [إسلام العباس رضي الله عنه] : سرى القلق في ربوع مكة عقب أوبة أبي سفيان، ورأى العباس بن

_ (1) حديث صحيح، أخرجه الشيخان وغيرهما.

[تعمية أخبار الجيش] :

عبد المطلب أن يسلم هو وعياله، وأن يهجروا مكة إلى المدينة، فقابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق مقبلا بجيشه على مكة، وخرج كذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية، فلقيا النبي صلى الله عليه وسلم بالأبواء- وهما ابن عمه وابن عمّته- وكانا من أشدّ الناس إيذاء له بمكة، فأعرض عنهما لما ذكر من مساءتهما. لكنّ عليّ بن أبي طالب أشار إلى ابن عمه أبي سفيان بوسيلة يترضّى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال له: ائته من قبل وجهه، وقل ما قال إخوة يوسف: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ [يوسف: 91] فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه جوابا. ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 92] . وأنشده أبو سفيان أبياتا جاء فيها: لعمرك إنّي حين أحمل راية ... لتغلب خيل اللّات خيل محمّد لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدى فأهتدي هداني هاد غير نفسي ودلّني ... على الله من طرّدته كلّ مطرد فضرب الرسول صلى الله عليه وسلم على صدره وهو يقول له: «أنت طردتني كلّ مطرد» «1» . [تعمية أخبار الجيش] : وسار الجيش يطوي الوهاد والنجاد مسرعا إلى مكة حتى بلغ «مرّ الظهران» قريبا منها في العشاء، فنزل الجيش، ونصبت الخيام، وأوقدت النيران في معسكر يضمّ عشرة الاف، حتى أضاء منها الوادي، وأهل مكة في عماية من أمرهم، لا يدرون عن القضاء النازل بهم شيئا ... وعزّ على العباس أن تجتاح مكة في أعقاب قتال تتنافى فيه، ولا يغنيها فتيلا. فخرج يبحث عن وسيلة تقنع قريشا بمسالمة النبي صلى الله عليه وسلم وتدخلها في أمانه. وصادف ذلك أن ثلاثة من كبراء مكة خرجوا يتعرّفون الأخبار، ويتسمعون ما يقال، فلمّا اقتربوا من الوادي راعهم ما به.

_ (1) حديث حسن، أخرجه ابن جرير: 2/ 229، والحاكم: 3/ 43- 44، من حديث ابن عباس، وقال: «صحيح على شرط مسلم» ، ووافقه الذهبي، وإنما هو حسن فقط.

قال أبو سفيان زعيم مكة: ما رأيت كالليلة نيرانا قطّ ولا عسكرا!!. فقال بديل بن ورقاء: هذه- والله- خزاعة، حمشتها الحرب. فردّ أبو سفيان: خزاعة أقلّ وأذلّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. وكان المسلمون على خطتهم المرسومة، يبثون العيون حولهم، حتى يأخذوا قريشا على غرّة، فلا ترى من التسليم بدّا، فعثرت خيالتهم على رجال قريش أولئك، ومعهم حكيم بن حزام، فأخذتهم، وعادت بهم مسرعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحق العباس بالأسرى وهو يعلن أنّهم في جواره، فلما دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم حادثهم عامّة الليل، فانشرحت صدورهم بالإسلام، وإن كان أبو سفيان قد تأخّر إسلامه حتى طلع الصبح ... ثم سألوه الأمان لقريش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو امن، ومن دخل المسجد فهو امن، ومن أغلق بابه فهو امن» «1» . وإنما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان هذه الميزة إرضاء لعاطفة الفخر في نفسه، وقد أرضاه بما لا يضرّ أحدا، ولا يكلّف جهدا، ولا عليه أن يتحبّب إلى نفس بمثل هذا الثمن الميسور. وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستوثق من سير الأمور بعيدا عن الحرب والضرب، فضمّ إلى ذلك المسلك مع أبي سفيان أن أوصى العبّاس باحتجازه في مضيق الوادي، حتى يستعرض القوى الزاحفة كلّها، فلا تبقى في نفسه أثارة لمقاومة، وهو سيد مكة المتبوع، قال العباس: فخرجت بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي، حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرّت القبائل على راياتها، كلّما مرت قبيلة قال: يا عباس! من هؤلاء؟ فأقول: سليم! فيقول: ما لي ولسليم؟ ثم تمرّ به القبيلة، فيقول: يا عباس! من هؤلاء؟ فأقول: مزينة!

_ (1) حديث صحيح، أخرجه ابن هشام: 2/ 268، عن ابن إسحاق معضلا؛ لكن وصله عند ابن جرير: 2/ 330- 332، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس، وحسين هذا ضعيف، لكن قال الهيثمي في (المجمع: 6/ 165- 167) : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، فالظاهر أنّه عنده من غير هذا الطريق الضعيف؛ ورواه أبو داود: 2/ 41، عن ابن إسحاق بإسناد اخر له عن ابن عباس وفيه رجل لم يسم، وله عنده إسناد ثالث ورجاله ثقات. لكن لم يصرح فيه ابن إسحاق بالسماع ثم أخرجه هو ومسلم: 5/ 172- 173، من حديث أبي هريرة، إلا أنه قال: «ومن ألقى السلاح فهو امن» ، بدل: «ومن دخل المسجد فهو امن» .

[دعوة أبي سفيان إلى الاستسلام] :

فيقول: ما لي ولمزينة؟! ... حتى نفذت القبائل، ما تمرّ به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته قال: ما لي ولبني فلان؟. حتى مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله! يا عباس! من هؤلاء؟. قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة! والله با أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما!!. قال العباس: يا أبا سفيان، إنّها النبوة. قال: فنعم إذن «1» . [دعوة أبي سفيان إلى الاستسلام] : ودخل أبو سفيان مكة مبهورا مذعورا، وهو يحسّ أنّ من ورائه إعصارا، إذا انطلق اجتاح ما أمامه، فما يقف دونه شيء، ورأى أهل مكة الجيش الفاتح يقبل من بعيد رويدا رويدا، فاجتمعوا على سادتهم، ينتظرون الأوامر بالقتال، فإذا بصوت أبي سفيان ينطلق عاليا واضحا: يا معشر قريش! هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو امن، وشدهت امرأته هند بنت عتبة وهي تسمع من زوجها هذا الكلام، فوثبت إليه، وأخذت بشاربه تلويه وصاحت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمش- أي هذا الزقّ المنتفخ- قبّحت من طليعة قوم. ولم يكترث أبو سفيان لسباب امرأته فعاود تحذيره: ويلكم لا تغرنّكم هذه من أنفسكم، فإنّه قد جاءكم ما لا قبل لكم به. فمن دخل دار أبي سفيان فهو امن. قالوا: قاتلك الله؟ وما تغني عنّا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو امن، ومن دخل المسجد فهو امن، فتفرّق الناس إلى دورهم وإلى المسجد. وأصبحت (أم القرى) وقد قيّد الرعب حركاتها، واسترخت تجاه القدر المنساق إليها، فاختفى الرجال وراء الأبواب الموصدة، أو اجتمعوا في المسجد الحرام يرقبون مصيرهم وهم واجمون.

_ (1) حديث صحيح، رواه ابن هشام: 2/ 268- 269، عن ابن إسحاق بدون إسناد. لكن رواه عنه ابن جرير والطبراني موصولا عن ابن عباس كما تقدم انفا. وبعضه في صحيح البخاري: 8/ 4- 6؛ وابن جرير: 2/ 332- 333، عن عروة مرسلا فهو شاهد قوي.

[دخول جيش المسلمين مكة] :

على حين كان الجيش الزاحف يتقدّم ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته تتوج هامته عمامة دسماء، ورأسه خفيض من شدة التخشّع لله، لقد انحنى على رحله، وبدا عليه التواضع الجمّ، حتى كاد عثنونه «1» يمسّ واسطة الرحل «2» . إنّ الموكب الفخم المهيب الذي ينساب به حثيثا إلى جوف الحرم، والفيلق الدارع الذي يحفّ به ينتظر إشارة منه، فلا يبقى بمكة شيء امن، إنّ هذا الفتح المبين ليذكّره بماض طويل الفصول كيف خرج مطاردا؟ وكيف يعود اليوم منصورا مؤيدا..! وأيّ كرامة عظمى حفّه الله بها في هذا الصباح الميمون! وكلّما استشعر هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعا وانحناء ويبدو أنّ هناك عواطف أخرى كانت تجيش في بعض الصدور. فإنّ (سعد بن عبادة) زعيم الخزرج ذكر ما فعل أهل مكة، وما فرّطوا في جنب الله، ثم شعر بزمام القوة في يده فصاح: اليوم يوم الملحمة.. اليوم تستحلّ الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشا. وبلغت هذه الكلمة مسامع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: «بل اليوم يوم تعظّم فيه الكعبة «3» . اليوم يوم أعزّ الله فيه قريشا» ، وأمر أن ينزع اللواء من سعد، ويدفع إلى ابنه مخافة أن تكون لسعد صولة في الناس. [دخول جيش المسلمين مكة] : وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مكة من أعلاها «4» . وأمر قادة جيشه ألا يقاتلوا

_ (1) ما فضل من اللحية بعد العارضين. (ن) . (2) ضعيف؛ رواه ابن هشام: 2/ 269، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر مرسلا. ووصله الحاكم: 3/ 47، وكذا أبو يعلى من حديث أنس بنحوه. وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ، وأقرّه الذهبي! وهو من أوهامهما؛ فإنّ في سنده عبد الله بن أبي بكر المقدمي وهو ضعيف، كما قال ابن عدي، ثم ساق له هذا الحديث كما في الميزان، وهذا المقدمي غير عبد الله بن أبي بكر شيخ ابن إسحاق؛ فإن هذا متأخّر من طبقة الإمام أحمد؛ وذاك تابعي صغير، يروي عن أنس رضي الله عنه وهو ثقة. (3) ضعيف، أخرجه البخاري وغيره من حديث عروة مرسلا؛ وقد سبق تخريجه قريبا؛ وأمّا باقي الحديث فقد رواه يحيى بن سعيد الأموي، كما في (شرح المواهب) للزرقاني: 2/ 306، ولم يتكلم على سنده بشيء ولا ساقه لينظر فيه؛ وقد أشار ابن كثير في (البداية: 4/ 295) ، لضعفه. (4) صحيح، أخرجه البخاري: 8/ 14- 15، عن ابن عمر وعائشة.

إلا من قاتلهم «1» فدخلت سائر الفرق من أنحاء مكة الاخرى. ودخل (خالد بن الوليد) من أسفل مكة. وكان هناك نفر من قريش غاظهم هذا التسليم، فتجمّعوا عند (الخندمة) يقودهم (عكرمة بن أبي جهل) و (سهيل بن عمرو) و (صفوان بن أمية) ، إلا أنّ الحقيقة الكبيرة صدمت غرورهم فبددته، فإن خالدا حصدهم حصدا، حتى لاذ القوم بالفرار، ومن طريف ما وقع أنّ (حماس بن خالد) من قبيلة بني بكر، كان قد أعدّ سلاحا لمقاتلة المسلمين، وكانت امرأته إذا رأته يصلحه ويتعهده تسأله: لماذا تعدّ ما أرى؟ فيقول: لمحمد وأصحابه، وقالت امرأته له يوما: والله ما أرى أنّه يقوم لمحمد وصحبه شيء! فقال: إنّي والله لأرجو أن أخدمك بعضهم ... ثم قال: إن يقبلوا اليوم فما علي علّه ... هذا سلاح كامل وألّه «2» وذو غرارين سريع السّله فلما جاء يوم الفتح ناوش حماس هذا شيئا من قتال مع رجال عكرمة. ثم أحسّ بالمشركين يتطايرون من حوله أمام جيش خالد، فخرج منهزما حتى بلغ بيته فقال لامرأته: أغلقي عليّ الباب..!. فقالت المرأة لفارسها المعلم: فأين ما كنت تقول؟ فقال- يعتذر- لها: إنّك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمه وأبو يزيد قائم كالمؤتمه «3» ... واستقبلتهم بالسيوف المسلمه يقطعن كلّ ساعد وجمجمه ... ضربا فلا تسمع إلا غمغمه لهم نهيت «4» خلفنا وهمهمه ... لم تنطقي باللّوم أدنى كلمه!! وسكنت مكة، واستسلم سادتها وأتباعها، وعلت كلمة الله في جنباتها، ثم نهض رسول الله إلى البيت العتيق فطوّف به، وأخذ يكسّر الأصنام المصفوفة حوله، ويضربها بقوسه ظهرا لبطن، فتقع على الأرض مهشمة متناثرة. كانت هذه الحجارة- قبل ساعة- الهة مقدسة، وهي- الان- جصّ وتراب

_ (1) ذكره ابن هشام: 3/ 273، عن ابن إسحاق بدون إسناد. (2) ألّة: حربة. (3) المؤتمة: الأسطوانة، وأبو يزيد: سهيل بن عمر. (4) النهيت: صوت الصدر.

[مشاهد بعد الفتح] :

وأنقاض، يهدمها نبيّ التوحيد وهو يقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ... [الإسراء: 81] «1» . [مشاهد بعد الفتح] : ثم أمر بالكعبة ففتحت، فرأى الصّور تملؤها، وفيها صورتان لإبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام! فقال- ساخطا على المشركين-: «قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قطّ» «2» ، ومحا ذلك كلّه «3» . حتى إذا طهّر المسجد من الأوثان، أقبل على قريش، وهم صفوف صفوف، يرقبون قضاءه فيهم، فأمسك بعضادتي الباب- باب الكعبة- وهم تحته، فقال: «لا إله إلا الله واحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب واحده» . ثم قال: «يا معشر قريش! ما ترون أنّي فاعل بكم؟» . قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم! قال: «فإنّي أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، اذهبوا فأنتم الطلقاء» «4» . وعند ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسجد يجهز على الوثنية في عاصمتها الكبرى، اقترب منه (فضالة بن عمير) يريد أن يجد له فرصة ليقتله. فنظر إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم نظرة عرف بها طويته إلا أنّه في غمرة النصر الذي أكرمه الله به، لم يجد في نفسه على الرجل، بل استدعاه ثم سأله: «ماذا كنت تحدّث به نفسك؟» .

_ (1) حديث صحيح، أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن مسعود؛ ومسلم من حديث أبي هريرة. (2) حديث صحيح، أخرجه البخاري عن ابن عباس. (3) حديث صحيح، أخرجه أحمد: 3/ 335- 336- 383- 396، من حديث جابر بسند صحيح؛ والطيالسي: 1/ 359، من حديث أسامة بن زيد وسنده جيد كما قال الحافظ في (الفتح) : 3/ 268. (4) ضعيف، رواه ابن إسحاق معضلا كما في (ابن هشام) : 2/ 274؛ وقد ذكره الغزالي في (الإحياء) : 3/ 158، من حديث أبي هريرة دون قوله: «اذهبوا» . وقال الحافظ العراقي في تخريجه: «رواه ابن الجوزي في (الوفاء) من طريق ابن أبي الدنيا وفيه ضعف» ، ثم ذكره الغزالي من حديث سهيل بن عمرو. فقال العراقي: «لم أجده» .

قال: لا شيء! كنت أذكر الله!! فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قال: «استغفر الله» . وتلطّف معه الرسول صلى الله عليه وسلم، فوضع يده على صدره، فانصرف الرجل وهو يقول: ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحبّ إليّ منه «1» . وكانت لفضالة في جاهليته هنات، فمرّ- وهو راجع إلى أهله- بامرأة لها معه شأن. فلما رأته قالت: هلمّ إلى الحديث! فانبعث يقول: قالت: هلمّ إلى الحديث، فقلت: لا ... يأبى عليك الله والإسلام لو ما رأيت محمّدا وقبيله ... بالفتح يوم تكسّر الأصنام لرأيت دين الله أضحى بيّنا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام وصعد بلال فوق ظهر الكعبة، فأذّن للصلاة، وأنصت أهل مكة للنداء الجديد على اذانهم كأنهم في حلم، إنّ هذه الكلمات تقصف في الجوّ فتقذف بالرعب في أفئدة الشياطين، فلا يملكون أمام دويّها إلا أن يولوا هاربين، أو يعودوا مؤمنين. الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر. هذه الصيحات المؤكدة تذكّر الناس بالغاية الأولى من محياهم، وبالمرجع الحق بعد مماتهم، فكم ضلّلت البشر غايات صغيرة، أركضتهم على ظهر الأرض ركض الوحوش في البراري، واجتذبت انتباههم كلّه، فاستغرقوا في السعي وراء الحطام! وامتلكت عواطفهم كلها، فالحزن يقتلهم للحرمان، والفرح يقتلهم بالامتلاء، ولم يسفّه المرء نفسه بالغيبوبة في هذه التوافه؟. إنّ صوت الحق يستخرجه من وراء هذه الحجب المتراكمة ليلقي في روعه ما كان ينساه، وهو تكبير سيّد الوجود، ورب العالمين، سيده ومولاه. أشهد ألاإله إلا الله، أشهد ألاإله إلا الله. لقد سقط الشركاء جميعا، طالما تضرّع الناس للوهم، واعتزّوا بالهباء، وأمّلوا الخير فيمن لا يملك لنفسه نفعا، وانتظروا النجدة ممن لا يدفع عن نفسه عدوان ذبابة. ولم الخبط في هذه المتاهات؟ إن كان المغفّلون يشركون مع الله بعض خلائقه أو يؤلهونها دونه؟ فالمسلمون لا يعرفون إلا الله ربّا، ولا يرون غيره موئلا. والتوحيد المحض، هو المنهج العتيد للغاية التي استهدفوها.

_ (1) ضعيف، رواه ابن هشام: 2/ 276، بإسناد معضل.

ولكن من الأسوة؟ من الإمام في هذه السبيل؟ من الطليعة الهادية المؤنسة؟ إنّ المؤذن يستتلي ليذكر الجواب: أشهد أنّ محمدا رسول الله، أشهد أنّ محمدا رسول الله. سيرة هذا الرجل النبيل هي المثل الكامل لكل إنسان يبغي الحياة الصحيحة، إنّ محمدا إنسان، يرسم بسنّته الفاضلة السلوك الفريد لمن اعتنق الحق وعاش له. وهو يهيب بكل ذي عقل أن يقبل على الخير، وأن ينشط إلى مرضاة وليّ أمره، ووليّ نعمته، فيحثّ الناس أولا على أداء عبادة ميسورة رقيقة: حيّ على الصّلاة، حيّ على الصّلاة. هذه الصلوات هي لحظات التأمل في ضجيج الدنيا، هي لحظات الماب كلّما انحرف الإنسان عن الجادة، هي لحظات الخضوع لله كلّما هاج بالمرء النزق، وطغت على فكره الأثرة، فنظر إلى ما حوله وكأنّه إله صغير، هي لحظات الاستمداد والإلهام. وما أفقر الإنسان- برغم غروره- إلى من يلهمه الرشد فلا يستحمق، ويمده بالقوة فلا يعجز ويستكين. ثم يحث الناس- أخيرا- على تجنب الخيبة في شؤونهم كلها. والخيبة إنما تكون في الجهد الضائع سدى، في العمل الباطل لأنه خطأ، سواء كان الخطأ في الأداء أو في المقصد.. وهو يحذّر من هذه الخيبة عند ما يدعو: حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح. ويوم يخرج العمل من الإنسان وهو صحيح في صورته ونيته، فقد أفلح، ولو كان من أعمال الدنيا البحتة، ألم يعلّم الله نبيّه أن يجعل شؤون حياته، بعد نسكه وصلاته خالصة لله؟: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) [الأنعام] . ولا سبيل إلى ذلك إلا بإصغار ما عدا الله من غايات، والتزام توحيده أبدا، ومن ثمّ يعود إلى تقرير الغاية والمنهج مرة أخرى. الله أكبر الله أكبر ... لا إله إلا الله ...

[ذكريات الشهداء] :

إنّ كلمات الأذان تمثّل العناوين البارزة لرسالة كبيرة في الإصلاح، ولذلك جاء في السنن الثابتة أنّ المسلم عند ما يسمعها يقول: «اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامّة، والصلاة القائمة، ات سيدنا محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، إنّك لا تخلف الميعاد» «1» . [ذكريات الشهداء] : وفي يوم الفتح قد ترجع بنا الذكريات إلى رجال لم يشهدوا هذا النصر المبين، ولم يسمعوا صوت بلال يرنّ فوق ظهر الكعبة بشعار التوحيد، ولم يروا الأصنام مكبوبة على وجوهها مسوّاة بالرغام، ولم يروا عبّادها الأقدمين، وقد ألقوا السلم واتجهوا إلى الإسلام. إنهم قتلوا أو ماتوا إبّان المعركة الطويلة التي نشبت بين الإيمان والكفر. ولكنّ النصر الذي يجني الأحياء ثماره اليوم لهم فيه نصيب كبير، وجزاؤهم عليه مكفول عند من لا يظلم مثقال ذرة. إنه ليس من الضروري أن يشهد كلّ جندي النتائج الأخيرة للكفاح بين الحق والباطل، فقد يخترمه الأجل في المراحل الأولى منه، وقد يصرع في هزيمة عارضة كما وقع لسيد الشهداء (حمزة) ومن معه. والقران الكريم ينبّه أصحاب الحق إلى أنّ المعوّل في الحساب الكامل على الدار الاخرة، لا على الدار الدنيا، فهناك الجزاء الأوفى للمؤمنين والكافرين جميعا: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) [غافر] . ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في رمضان، وظلّ بها سائر الشهر يقصر، ويفطر أكثر من خمسة عشر يوما، وكان قد خرج من المدينة صائما، ثم أفطر هو وصحبه في الطريق «2» .

_ (1) حديث صحيح، أخرجه البخاري في (صحيحه) ، وفي (أفعال العباد) ؛ وأصحاب السنن الأربعة؛ والطبراني في (الصغير) ؛ وابن السني في (عمل اليوم والليلة) ؛ وأحمد والبيهقي من حديث جابر مرفوعا به؛ دون قوله: «إنك لا تخلف الميعاد» ، فتفرد بها البيهقي، وهي شاذة لا تصح. (2) أما قصره صلى الله عليه وسلم في مكة فثابت في البخاري: 8/ 17، عن ابن عباس قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم-

[إسلام فيه دخن] :

فلمّا استقرّ الأمر شرع يبايع الناس على الإسلام «1» ، فجاءه الكبار والصغار والرجال والنساء، فتمت البيعة على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا «2» . وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبايعة النساء أن يأخذ عليهنّ الميثاق كلاما لا مصافحة. فعن عائشة: «لا والله ما مسّت يد رسول الله يد امرأة قطّ» «3» . [إسلام فيه دخن] : وهكذا دخل أهل مكة في الإسلام، وإن كان بعضهم بقي على ريبته وجاهليته يتعلّق بالأصنام، ويستقسم بالأزلام، وأولئك تركوا للأيام تشفي جهلهم، وتحيي ما مات من قلوبهم وألبابهم. وما دامت الدولة التي تحمي الوثنية وتقاتل دونها قد ذهبت، فسوف تتلاشى هذه الخرافة من تلقاء نفسها. إنّ فتح مكة جاء عقب ضربة خاطفة، ولقد أفلحت خطة المسلمين في تعمية الأخبار على قريش، حتى بوغتوا في عقر دارهم، فلم يجدوا مناصا من الاستسلام، فما استطاعوا الجلاد، ولا استجلاب الأمداد، وفتح العرب جميعا أعينهم، فإذا هم أمام الأمر الواقع؛ حتى خيل إليهم أنّ النصر معقود بألوية الإسلام فما ينفكّ عنها!.

_ - بمكة تسعة عشر يوما يصلّي ركعتين. وأما إفطاره فهو في الصحيحين من حديث ابن عباس أيضا. (1) حديث حسن رواه أحمد: 3/ 415، 4/ 168 من حديث الأسود بن خلف، وسنده حسن. (2) ضعيف، رواه ابن جرير: 2/ 327 بدون إسناد، أو من حديث قتادة مرسلا والطريق إليه ضعيف. (3) صحيح، أخرجه الشيخان وغيرهما.

معركة حنين

معركة حنين بيد أنّ هذا الغلب- فتح مكة- كان له ردّ فعل معاكس لدى القبائل الكبيرة القريبة من مكة، وفي مقدمتها (هوازن) و (ثقيف) وتعتبر الطائف قصبتها، وهي أكبر المدن في الجزيرة بعد مكة ويثرب. اجتمع رؤساء هذه القبائل على (مالك بن عوف) سيد (هوازن) ، وأجمعوا أمرهم على المسير لقتل المسلمين قبل أن تتوطّد دعائم الفتح، وقبل أن يتحرّكوا لاستئصال ما بقي من معالم الوثنية المدبرة. وكان (مالك بن عوف) شجاعا مقداما، إلا أنّه سقيم الرأي سيّئ المشورة. فأمر قومه- وهم خارجون للغزو- أن يأخذوا معهم نساءهم وأموالهم وذراريهم؛ ليشعر كل رجل وهو يقاتل أن ثروته وحرمته وراءه، فلا يفرّ عنها. وقد اعترضه (دريد بن الصمّة) ، وهو فارس مجرّب محنّك، وقال له: هل يرد المنهزم شيء؟ إن كانت الدائرة لك لم ينفعك إلا رجل برمحه وسيفه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. فسفّه مالك رأيه، وأصر على خطته. وعلم المسلمون بمخرج أعدائهم، فأرسلوا عيونهم يتعرّفون عدتهم وهيئتهم. روى أبو داود: أنّ رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم وبنعمهم وشائهم، اجتمعوا إلى (حنين) . فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله» «1» . إنّ السهولة التي تمّ بها فتح مكة، وإحساس جمهور المؤمنين أنّ الجاهلية تلفظ أنفاسها الأخيرة فلن تبدي مقاومة تذكر، وظنّ حدثاء العهد بالإسلام أنّ

_ (1) حديث صحيح، أخرجه أبو داود: 1/ 391- 392، عن سهل بن الحنظلية بسند صحيح.

هزيمة:

شيئا ما لن يقف في طريقه، كلّ ذلك جعل الجيش يزحف للقاء المشركين وهو غير مكترث لما سوف يواجه، ولم يكترث؟!. إنّهم- وهم قلة- كانوا يكسبون المعارك الطاحنة، فكيف وهم اليوم يخرجون في عدد لم يجمعوا مثله قبلا؟! قيل: إنّ أبا بكر الصدّيق لما نظر إلى الجيش قال: لن نغلب اليوم من قلّة..!. ذلك أنّ المسلمين بلغوا اثني عشر ألفا بمن انضمّ إليهم من أهل مكة. هزيمة: وسار الجيش الواثق حتى وصل إلى وادي (حنين) . وكان (مالك بن عوف) ورجاله قد سبقوا إلى احتلال مضايقه، وانبثوا في الشعاب والأجناب المنيعة، ثم تهيئوا لاستقبال المسلمين. وأقبلت الطلائع الغفيرة تتدافع نحو الوادي- وهي غافلة عمّا يكمن فيه- وكان واديا أجوف منحدرا، ينحطّ فيه الركبان كلّما أوغلوا كأنهم يسيرون إلى هاوية. فلمّا تكاثرت في دروبه الفرق الزاحفة، لم يرعهم إلا وابل من السهام يتساقط فوقهم من المكامن العالية، وكان غبش الفجر لا يزال يترك بقاياه في الجو الغائم، فارتاعت المقدمة لهذه المفاجأة، فهي في عماية من الليل وعماية من أمرها، لا تعرف إلا أن تستدير ثم تولي الأدبار. وانتشرت موجة الفزع، فكسرت الصفوف المرصوصة وبعثرتها. واستغل رجال (مالك بن عوف) هذا الارتباك فهجمت كتائبهم، وحملت الخيل على ما أمامها، فانكفأ المسلمون مهزومين، لا يلوي أحد على أحد. ونظر زعماء مكة إلى الجيش المولّي نظرة تشفّ وفرح. وعاد إلى بعضهم كفره بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال (أبو سفيان) : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر! ولا عجب.. فإنّ الأزلام التي يستقسم بها في جاهليته لا تزال في كنانته. وقال (كلدة بن الجنيد) : ألا بطل السحر اليوم. فأجابه (صفوان بن أمية) - ولما يزل مشركا-: اسكت فضّ الله فضّ الله فاك، فو الله لأن يربّني رجل من (قريش) أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من (هوازن) .

الثبات والنصر:

وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين وقد أغضبه هذا الفرار، فقال: «أين أيها النّاس؟! هلمّوا إليّ، أنا رسول الله، أنا محمّد بن عبد الله» . فلا يرد عليه شيء، وركبت الإبل بعضها بعضا وهي مولية بأصحابها «1» . ولمح النبي صلى الله عليه وسلم وراءها رجلا من (هوازن) على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل، (وهوازن) خلفه، إذا أدرك الفارين طعن برمحه، وإذا فاتوه رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه. إن الذي تولّى كبر هذه المهزلة الشائنة هم الطلقاء من أهل مكة ورعاع البدو. ووقف النبي صلى الله عليه وسلم ساكن الجأش، يدير الرأي في خطة ينقذ بها سمعة الإسلام ومستقبله، وقد أحاط به لفيف من المهاجرين الأولين ومن أهل بيته. فأمر العبّاس بن عبد المطلب- وكان جهير الصوت- أن ينادي: يا معشر الأنصار يا أصحاب البيعة يوم الحديبية «2» .. لقد هداه الحقّ أن يهتف بأصحاب العقائد، ورجال الفداء عند الصدام فهم واحدهم- الذين تنجح بهم الرسالات وتفرّج الكروب. أما هذا الغثاء من العوام الحراص على الدنيا، السعاة إلى المغانم، فما يقوم بهم أمر، أو تثبت بهم قدم. الثبات والنصر: وفي ضجة الفزع الذي ساد المعركة أولا، علت صيحات العباس رضي الله عنه، ووصلت إلى اذان الرجال المشدوهين لما وقع، فأخذوا يكافحون ليبلغوا مصدر الصوت. إذا أراد أحدهم أن يعطف بعيره ليعود به لا يقدر من ضغط الفارين، فما يجد بدا من أن يقذف درعه من عنقه، ويحمل سيفه وترسه ثم يؤمّ الصوت. واجتمع حول رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد من الرجال الذين دعاهم، وهم يصيحون: لبيك لبيك، حتى قارب القوم مئة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم بهم المشركين، وقد ملك

_ (1) صحيح أخرجه ابن هشام: 2/ 289، وابن جرير: 2/ 347، كلاهما عن ابن إسحاق بسنده الصحيح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. (2) صحيح، رواه ابن إسحاق بسند صحيح عن العباس، وقد ساقه ابن جرير وابن هشام عنه؛ وهو في مسلم: 5/ 166- 167 نحوه.

زمام الموقف، وأعاد الكرّة عليهم، فاجتلد الفريقان اجتلادا شديدا. وقصد (علي) وأحد الأنصار إلى حامل العلم في طليعة (هوازن) ، فضرب (علي) عرقوبي جمله، فوقع على عجزه، ثم استمكن منه الأنصاري، فهوى به عن رحله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته يقول: «أنا النبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب» «1» ويدعو: «اللهم نزّل نصرك» «2» . والمهاجرون والأنصار قد التحموا مع رجال (هوازن) و (ثقيف) . قال العباس: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو على بغلته كالمتطاول عليها- إلى قتالهم فقال: «الان حمي الوطيس» ، ثم أخذ حصيّات فرمى بهن في وجوه الكفار، ثم قال: «انهزموا وربّ محمد» . قال العباس: فذهبت أنظر، فإذا القتال على هيئته فيما أرى، فما هو إلا أن رماهم فما زلت أجد حدّهم كليلا، وأمرهم مدبرا «3» . ولم يطل وقت، حتى كان رجال (ثقيف) ومن معهم يوغلون مولّين الأدبار في وادي حنين، ورجع الطلقاء والبدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هم يرون الأسرى مكتفين!. وفي هذه المعركة نزل قول الله عز وجلّ: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) [التوبة] . واعتصم بعض المنهزمين بناحية يقال لها: (أوطاس) . فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في أعقابهم (أبا عامر الأشعري) فقاتلهم حتى قتل، فأخذ الراية منه ابن أخيه (أبو موسى الأشعري) فما زال يناوش القوم حتى بدّد شملهم،

_ (1) صحيح، أخرجه الشيخان عن البراء بن عازب. (2) صحيح تفرد به مسلم: 5/ 168، عنه. (3) صحيح، رواه مسلم عن العباس.

الغنائم:

وهزموا شر هزيمة «1» . واضطر (مالك بن عوف) ومن معه من رجالات قومه أن يمضوا في الفرار حتى يصلوا إلى (الطائف) فيمتنعوا بحصنها، تاركين في هذا الفرار مغانم هائلة. فإنّ مالكا- كما علمت- خرج يغزو، ومعه نساء القبيلة وما تملك. فخلّف في الميدان أربعة وعشرين ألفا من الإبل، وأكثر من أربعين ألفا من الغنم، وأربعة الاف أوقية من الفضة، هذا إلى جانب ستة الاف من السبي. الغنائم: وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم على الناس هذه الغنائم، وتأنّى، يبتغي أن يرجع القوم إليه تائبين، فيحرزوا ما فقدوا. ومكث ينتظرهم بضع عشرة ليلة فلم يجئه أحد «2» . فشرع يسكت المتطلّعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة، وبدأ بقسمة المال، فكان المؤلفة قلوبهم أول من أعطي، بل أول من حظي بالأنصبة الجزلة. أخذ (أبو سفيان) مئة من الإبل، وأربعين أوقية من الفضة، فقال: وابني معاوية؟ فمنح مثلها لابنه معاوية، فقال: وابني يزيد؟ فمنح مثلها لابنه يزيد «3» . وأقبل رؤساء القبائل وأولو النّهمة يتسابقون إلى أخذ ما يمكن أخذه. وشاع في الناس أنّ محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. فازدحموا عليه يبغون المزيد من المال، وأكبّ عليه الأعراب، يقولون: يا رسول الله! اقسم علينا فيئنا، حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعت رداءه! فقال: «أيّها الناس، ردّوا عليّ ردائي، فو الّذي نفسي بيده لو كان لكم عندي عدد شجر تهامة نعما لقسّمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا» .

_ (1) صحيح، ذكره ابن إسحاق بدون إسناد، ومعناه في البخاري: 8/ 33- 35، وابن جرير: 2/ 351، من حديث أبي موسى الأشعري. (2) صحيح، أخرجه البخاري: 8/ 26- 27. (3) ذكره ابن هشام: 2/ 308، نحوه عن ابن إسحاق بدون إسناد؛ ورواه ابن جرير: 2/ 258، عنه عن عبد الله بن أبي بكر مرسلا. وإعطاؤه صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة للمؤلفة قلوبهم ومنهم أبو سفيان ثابت في مسلم: 3/ 108.

ثم قام إلى جنب بعير، فأخذ من سنامه وبرة، فجعلها بين أصبعيه، ثم رفعها فقال: «أيها الناس! والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» «1» . إنّ أعين القوم تكاد تخرج من المحاجر تطلّعا إلى الدنيا. وهؤلاء الأعراب والطلقاء والرؤساء، ما أغنوا عن الإسلام شيئا في مازقه الأولى، بل كانوا هم العقاب الصلدة التي اعترضت مسيله، حتى تحطمت تحت معاول المؤمنين الراغبين في ثواب الاخرة المؤثرين ما عند الله. ولكنّهم اليوم- بعد ما أعلنوا إسلامهم- يبغون من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفتح عليهم خزائن الدنيا؛ فحلف لهم أنه ما يستبقي منها شيئا لشخصه، ولو امتلك ملء هذه الأودية مالا لوزّعه عليهم. والحق أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم وسع بحلمه وكرمه مسالك بينة للطيش والجشع في سبيل تألف هؤلاء الناس، وتحبيبهم في الإسلام. ولو عاقبهم على جبنهم في (حنين) لنال منهم أيّ منال. روى الإمام أحمد «2» أنّ (أبا طلحة) - وهو من فرسان المسلمين المعدودين- لقي زوجته (أمّ سليم) ومعها خنجر، فقال لها: ما هذا؟. قالت: إن دنا مني بعض المشركين أبعج بطنه- وذلك في معركة حنين-، فقال أبو طلحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تسمع ما تقول أم سليم؟ فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقالت أم سليم: يا رسول الله! أقتل من بعدها الطلقاء ... انهزموا بك! فقال: «إنّ الله قد كفى وأحسن يا أمّ سليم» . والعجيب أنّ هؤلاء الذين فرّوا عند الفزع، هم الذين كفروا عند الطمع. وشاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يلطف معهم، وينسى ماضيهم تكرما وتأليفا.

_ (1) صحيح؛ رواه أحمد، رقم (6729) ، والبيهقي: 6/ 336- 337، بسند حسن عن عبد الله بن عمرو؛ والبخاري: 6/ 193- 194، عن جبير بن مطعم إلى قوله: «كذابا» . والباقي عند الحاكم: 3/ 49، من حديث عبادة بن الصامت؛ وعند البيهقي: 6/ 339، من حديث عمرو بن عبسة. (2) في المسند: 3/ 190، وسنده صحيح على شرط مسلم.

حكمة هذا التقسيم:

وماذا يصنع؟ إنّ في الدنيا أقواما كثيرين يقادون إلى الحق من بطونهم لا من عقولهم، فكما تهدى الدواب إلى طريقها بحزمة برسيم تظلّ تمد إليها فمها حتى تدخل حظيرتها امنة! فكذلك هذه الأصناف من البشر، تحتاج إلى فنون من الإغراء حتى تستأنس بالإيمان وتهشّ له. عن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله قد أثّرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، قال: مر لي من مال الله الذي عندك! فالتفت إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء «1» .. إنّ هذا الأعرابي لا يعجبه المنطق الدقيق، ولا الطبع الرقيق، قدر ما يعجبه من عطاء يملأ جيوبه ويسكّن مطامعه. ومن هنا قال صفوان بن أمية: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني من غنائم حنين وهو أبغض الخلق إليّ، حتى ما خلق الله شيئا أحبّ إليّ منه «2» . حكمة هذا التقسيم: وهذه السياسة البعيدة لم تفهم أول الأمر، بل أطلقت ألسنة شتى بالاعتراض، فهناك مؤمنون ظنّوا هذا الحرمان ضربا من الإعراض عنهم والإهمال لأمرهم. روى البخاريّ عن عمرو بن تغلب قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما ومنع اخرين، فكأنهم عتبوا عليه فقال: «إنّي أعطي قوما أخاف هلعهم وجزعهم، وأكل قوما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم: عمرو بن تغلب» . قال عمرو: فما أحبّ أنّ لي بكلمة رسول الله حمر النعم.. فكانت هذه التزكية تطييبا لخاطر الرجل أرجح لديه من أثمن الأموال. وكان الأنصار ممّن وقعت عليهم مغارم هذه السياسة.

_ (1) صحيح، أخرجه مسلم: 3/ 103؛ وكذا البخاري. (2) رواه مسلم: 7/ 75؛ والترمذي: 2/ 24؛ وأحمد: 3/ 401، عن سعيد بن المسيّب: أنّ صفوان بن أمية قال، كذا هو عند مسلم، وظاهره الانقطاع بين سعيد وصفوان؛ وعند أحمد والترمذي عن صفوان، وظاهره الاتصال، ولكنّ الترمذي رجح الأول، وأيده ابن العربي في العارضة فقال: «لأنّ سعيدا لم يسمع من صفوان شيئا» .

لقد حرموا جميعا أعطية حنين، وهم الذين نودوا وقت الشدة، فطاروا يقاتلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تبدّل الفرار انتصارا، وها هم أولاء يرون أيدي الفارين تعود ملأى. أما هم.. فلم يمنحوا شيئا قط؟. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين، وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم، ولم يكن في الأنصار شيء منها قليل ولا كثير، وجد هذا الحيّ من الأنصار في أنفسهم، حتى قال قائلهم: لقي والله- رسول الله قومه. فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم؟ قال: «فيم؟» قال: فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شيء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قال: ما أنا إلا امرؤ من قومي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فإذا اجتمعوا فأعلمني» . فخرج سعد فصرخ فيهم، فجمعهم في تلك الحظيرة ... حتى إذا لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه، فقال: يا رسول الله! اجتمع لك هذا الحيّ من الأنصار حيث أمرتني أن أجمعهم. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فيهم خطيبا، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «يا معشر الأنصار! ألم اتكم ضلّالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟» قالوا: بلى! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟!» . قالوا: وما نقول يا رسول الله، وبماذا نجيبك؟ المنّ لله ورسوله. قال: «والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدّقتم: جئتنا طريدا فاويناك، وعائلا فاسيناك، وخائفا فامنّاك، ومخذولا فنصرناك ... » . فقالوا: المنّ لله ورسوله. فقال: «أوجدتم في نفوسكم- يا معشر الأنصار- في لعاعة من الدنيا تألّفت

بها قوما أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام!! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب النّاس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟. فو الذي نفسي بيده، لو أنّ الناس سلكوا شعبا وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار» . فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم. وقالوا: رضينا بالله ربا، ورسوله قسما، ثم انصرف.. وتفرقوا «1» ... والأنصار- في تاريخ الدعوات- مثل فريدة للرجال الذين تقوم بهم الرسالات العظمى؛ حتى إذا استوت على سوقها، وتجاوزت أيام محنتها ومؤنتها، وتدلّت ثمارها وحلا جناها، جاءت أيد غير أيديهم، فقطفت ما تشتهي، ولم تكتف بذلك! بل لطمت أيدي الغارسين حتى لا تلقط من الثمار الساقطة قليلا ولا كثيرا!!. ولا نقول ذلك تعليقا على توزيع الغنائم في هذا المقام، فقد اتضح وجه الرشد في هذه القسمة الحصيفة ... ولكنّا نذكر في مناقب الأنصار، وافتراض ترفّعهم عن الدنيا في سبيل الدين، وتأليف الناس عليه، أنّ شؤون الحكم ابتعدت عنهم، واحتازها غيرهم وهم لها أكفاء، فلم تمض ثلاثون سنة حتى كانت في أيدي الطلقاء. ولا ريبة في أنّ أولئك المتجرّدين لله سوف يلقون جزاءهم الأوفى، وأن شأن الدنيا أنزل قدرا من أن يأسى عليه رجل العقيدة. غير أننا نتساءل: أكان من مصلحة الرسالات نفسها أن تقع هذه الأثرة؟ أم كان سوء حظّ الإسلام أن يلقى هذا اللون من الحكام، فيقصى أصحاب السبق

_ (1) حديث صحيح، رواه أحمد: 3/ 76- 77؛ وابن هشام: 2/ 310- 311؛ وابن جرير: 2/ 360- 361، كلهم عن ابن إسحاق بسنده الصحيح عن أبي سعيد الخدري. وذكره ابن كثير في (البداية) : 4/ 358- 359، من رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق والسياق له، ثم قال ابن كثير: «وهو صحيح» . والقصة في البخاري: 8/ 38- 42، بنحوها مختصرا.

عودة وفد هوازن:

وأولو النصرة، ويملك زمام الدين اخر الناس دخولا فيه وبصرا به؟!. عودة وفد هوازن: وبعد توزيع الغنائم أقبل وفد هوازن مسلما، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردّ عليهم سبيهم وثروتهم! فقال لهم: «إنّ معي من ترون، وإنّ أحبّ الحديث إليّ أصدقه، فأبناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم؟» قالوا: ما كنّا نعدل بالأحساب شيئا. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «أمّا بعد، فإنّ إخوانكم هؤلاء، قد جاؤوا تائبين، وإنّي قد رأيت أن أردّ إليهم سبيهم، فمن أحبّ أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحبّ منكم أن يكون على حظّه حتى نعطيه إياه من أول مال يفيء الله علينا فليفعل» . فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله، فقال لهم: «إنّا لا ندري من أذن منكم ممّن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم» . فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم عادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه أنهم قد طيبوا وأذنوا «1» . حصار الطائف: أما ثقيف فإنها- بعد أن تراجعت منهزمة في (حنين) و (أوطاس) - دخلت حصونها، وتهيّأت فيها لحصار طويل، وعرف المسلمون أنّ القوم لا يزالون على إصرارهم والبقاء على جاهليتهم، وأنّ الخسائر التي لحقت بهم لم تكسر شوكتهم ولم ترهق عزيمتهم، فقرّروا السير إليهم ومناجزتهم، وللمسلمين خبرة قديمة بهذا الأسلوب من القتال، فقد حاصروا وحوصروا، وعرفوا أنجح طرائق الهجوم والدفاع. ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه حتى اقترب من الطائف، فعسكر حولها، وأخذت ثقيف من حصونها تقذف النبال، فأصيب نفر من المسلمين، واضطر الجيش أن يؤخر مواقعه حتى لا تستهدف لقذائفهم. ويظهر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرص على اقتحام الحصون واستنزال أهلها قسرا كما فعل ببني إسرائيل، لقد أمّل فيهم خيرا، وأدار المعركة حولهم في حدود

_ (1) صحيح، أخرجه البخاري: 8/ 26- 28، عن مروان والمسور بن مخرمة معا.

إلى دار الهجرة:

ضيقة، وبضحايا يسيرة، وظل يحاصرهم خمس عشرة ليلة. ثم بدا له أن يدعهم وشأنهم، وأشار على المسلمين بذلك، فرغبوا أولا في إطالة حصارها حتى تفتح عليهم، ثم نزلوا أخيرا على رأيه. وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار نوفل بن معاوية فقال: «يا نوفل! ما ترى في المقام عليهم؟» فقال: يا رسول الله! ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرّك «1» ! فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب: أن يؤذّن في الناس بالرحيل «2» . فلما قفلت بهم المطايا، قالوا: يا رسول الله! أحرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم فقال: «اللهم اهد ثقيفا» «3» !. ولم يطل بقاء ثقيف على شركها، فما هي إلا شهور قلائل حتى أرسلوا وفدهم إلى المدينة يخبر النبي صلى الله عليه وسلم برغبتهم في الإسلام، وانفساح قلوبهم له. إلى دار الهجرة: عاد المسلمون من الطائف إلى مكة، لا ليعاودوا المقام فيها بعد أن فتحها الله عليهم، بل لينظّموا أمورها ثم يرتحلوا إلى مهجرهم الخالد ... إن صلتهم بالمدينة أضحت من العمق والقوة بحيث لا يرجحها وطن قديم ولا ذكريات عزيزة. روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة ودخلها قام على الصفا يدعو، وقد أحدقت به الأنصار فتهامسوا فيما بينهم: أترون رسول الله إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ فلمّا فرغ من دعائه قال: «ماذا قلتم؟» قالوا: لا شيء يا رسول الله! فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال: «معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم!» «4» .

_ (1) ضعيف جدا، رواه الواقدي كما في (البداية) : 4/ 350، وهو متهم بالكذب. (2) ضعيف ذكره ابن هشام: 2/ 303، عن ابن إسحاق بلاغا، ورواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة، وهو مع إرساله ضعيف. (3) ضعيف، أخرجه الترمذي: 3/ 379، عن أبي الزبير عن جابر، وقال: «حديث حسن صحيح» ؛ قلت: أبو الزبير مدلس، وقد عنعنه؛ وقد تابعه عبد الرحمن بن سابط عند أحمد: 3/ 343، ولكنه لم يسمع من جابر: كما قال ابن معين. (4) حديث صحيح، رواه بهذا السياق ابن هشام بلاغا؛ ووصله مسلم: 5/ 170- 171، وغيره من حديث أبي هريرة نحوه. فتصديره بلفظ: (روي) غير جائز.

ولما كان أهل مكة حدثاء عهد بالإسلام، وفقههم في أحكامه ومراميه قليل، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم خلّف فيهم (معاذ بن جبل) يعلّمهم كتاب ربهم وسنة نبيهم «1» . وجعل (عتّاب بن أسيد) أميرا على مكة «2» وعمره يومئذ عشرون سنة. وكان (عتاب) شابا ذكيا، قنوعا شجاعا، وقد تقرّر له من مال المسلمين درهم كلّ يوم، وهو مرتب الإمارة، فقرّت بذلك عينه، بل إنّه خطب الناس فقال: أيها الناس! أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول الله درهما كل يوم، فليست بي حاجة إلى أحد. ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في الشهر الأخير من السنة الثامنة. لله ما أفسح المدى بين هذه الأوبة الظافرة بعد أن توّج الله هامته بالفتح المبين، وبين مقدمه إلى هذا البلد النبيل منذ ثمانية أعوام!. لقد جاءه مطاردا يبغي الأمان، غريبا مستوحشا ينشد الإيلاف والإيناس، فأكرم أهله مثواه، واووه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، واستخفّوا بعداوة الناس جميعا من أجله، وها هو ذا بعد ثمانية أعوام يدخل المدينة التي استقبلته مهاجرا خائفا، لتستقبله مرة أخرى وقد دانت له مكة، وألقت تحت قدميه كبرياءها وجاهليتها، فأنهضها ليعزها بالإسلام، وعفا عن خطيئاتها الأولى: ... إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 90] .

_ (1) ضعيف، ذكره ابن هشام: 2/ 311، عن ابن إسحاق بدون إسناد؛ ورواه الحاكم: 3/ 270 عن عروة مرسلا؛ وإسناده- على إرساله- ضعيف. وقد روى ابن عبد البر في ترجمة معاذ من الاستيعاب بإسناد صحيح عن عبد الله بن كعب بن مالك: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أرسل معاذا إلى اليمن عام فتح مكة، وهذا مرسل أيضا، فإذا صح فيكون إرساله بعد استخلافه في مكة، والله أعلم. (2) إلى هنا حديث حسن ذكره ابن هشام وابن جرير: 2/ 361- 362، عن ابن إسحاق بدون سند؛ ورواه الحاكم: 3/ 594- 595، عن مصعب بن عبد الله الزبيري معضلا أيضا، وعمر بن شبّة في كتاب مكة عن عمر مولى غفرة معضلا أيضا، والمحاملي في الجزء الخامس من (الأمالي) عن أنس بن مالك بسند ضعيف، ولكنه يتقوى بما قبله إن شاء الله، وأما باقي الحديث، فلم أجد له سندا وإن كان مشهورا.

موقف المنافقين:

موقف المنافقين: وكان حقيقا بالذين خالجتهم الريبة في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يتوسّموا في هذه الايات البيّنات ما يقربهم من دينه، ويغريهم بالتصديق ونبذ الجفوة والعناد. إلّا أنّ النفوس الخسيسة تزداد شرا وجحودا كلّما ازداد خصومها نجاحا وصعودا. فما تظنه سبب إقبالها قد يكون سبب انتكاسها. لذلك لا يستغرب أن يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فيجد قلوب المنافقين لا تزال مطوية على دخلها، تبتسم للفاتح العائد، وهي تودّ لو لم تر شبحه، يستوي في ذلك رؤساء العشائر الذين وهى سلطانهم أمام انتشار الإسلام، وسواد الأعراب الذين يمرحون في البادية كالسوائم الغافل، لا يكادون يفقهون حديثا. وثمّ أمر اخر زاد في غواية المنافقين وتربّصهم الشر بالإسلام ونبي الإسلام، ذلك هو عرفانهم بالخصومة التي نشبت بين المسلمين والرومان، وإدراكهم لما تحمله في أطوائها من خطورة وعنف. فالعرب ينظرون إلى دولة الروم نظرة أهل إفريقية اليوم إلى أوروبة وأمريكة، إنّها قوة لا تنال ولا تناوش. ولئن كان الرومان بهذه المثابة المرهوبة فإنّ محمدا- كما عرف القوم من سيرته- لا يوجل من سلطان على ظهر الأرض، وقد مضى برسالته يذيب ما اعترضه من عوائق، فمحا الوثنية، وأجلى اليهودية، وقاوم بطش الروم مقاومة الواثق المعتد. والمنافقون مسرورون بهذه الخصومة الجديدة، يحسبون أنّ مقبرة الإسلام ستحفر فيها. لذلك لما أعلن النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أنّه منطلق إلى (تبوك) تجمّع رهط من المنافقين فقال بعضهم لبعض- مشيرين إلى المسلمين-: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟. والله لكأنّا بكم غدا مقرّنين في الحبال ... إرجافا وترهيبا للمؤمنين!!.

غزوة تبوك

غزوة تبوك عزم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسي العلائق بين الإسلام والنصرانية على دعائم مكينة. وهو لا يقبل مساومة في ترك دعاته أحرارا يعرضون دينهم على الناس، فإن راقهم دخلوه، وإن ساءهم تركوه. يجب أن تتاح الفرص المعقولة لإفهام الجماهير ما تدعى إليه. أما أن تقطع أعناق الدعاة، وتقام الأسوار الكثيفة في وجوههم، فهذا ما يقاومه الإسلام بالقوة. ثم إنّ الرومان في الشام والعراق ومصر وغيرها من البلدان قوم غزاة، لا تربطهم بأهل البلاد الأولين إلا صلات القهر الماديّ والأدبيّ. فالذي يعترض على زحف الإسلام إلى الشمال يجب أن يسأل نفسه قبل ذلك: لم سكت عن زحف الرومان إلى الجنوب؟ وعن الطريقة التي يباشرون بها حكم هذه الأقطار المغلوبة على أمرها؟. والمقارنة المنصفة تجعل ما يطلبه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا لا غبار عليه. دعوا العقائد المختلفة تبين عن نفسها، وتجذب الشعوب إليها، أو تصرفهم عنها ... لكنّ هذا الطلب قوبل بالردّ المسلّح. فلا دولة الروم تفتح أبواب المصيدة عن الفرائس التي تضطرب داخل جدرانها، ولا كنيسة الروم ترحّب بهذا الجو الجديد. قلنا في كتابنا (التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام) في صدد غزوة تبوك: « ... والكنيسة لا تطيق أن يعيش بجانبها رأي يخالف في الفروع التافهة، فكيف تسمح بالبقاء لدين ينكر سلطة رجالها؟ لأنه لا يرى بين العباد وربهم وسائط، وينكر عقيدة الفداء التي ترتكز عليها؛ لأنه يا بني الجزاء على عمل الإنسان واحده.

فليس للإنسان إلا ما سعى، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] . ثم هو ينكر مبدأ الشركة في الألوهية، فليس للعالم إلا رب واحد، يخضع له عيسى وأمه. لذلك رأى الروم أن يعيدوا الكرّة، فيضربوا الإسلام في شمال الجزيرة ضربة تردّه من حيث جاء، وتوصد عليه أبواب الحدود، فلا يستطيع التسرّب منها ... وتضمن الكنيسة بعدئذ انفرادها بالضمير البشري، حتى إذا قرعت أجراسها لم يشب رنينها صدى لمؤذن يهتف بتكبير الله وتوحيده، ويدعو للصلاة والفلاح. وترامت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أنباء هذا الإعداد الماكر، وتاريخ النصرانية- منذ تولّت الحكم- يؤكّد نية العدوان لدى رجال الكهنوت. فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم بدّا من استنفار المسلمين لملاقاة هذا العدوان المبيت. والتهيؤ لملاقاة الروم جاء في أيام قيظ وقحط. والسير إليهم يتطلّب جهدا مضنيا ونفقة كبيرة. وقتال الروم ليس صداما مع قبيلة محدودة العدد والعدّة، بل هو كفاح مرير مع دولة تبسط سلطانها على جملة قارّات، وتملك موارد ثرّة من الرجال والأموال. على أنّ أصحاب العقيدة لا ينكصون أمام الصعاب، والسكوت على تحدي النصارى لهذا الدين ورغبتهم الملحة في القضاء عليه يعتبر انتحارا وبوارا، فليتحامل المسلمون على أنفسهم إذا وليواجهوا مستقبلهم بما يفرض من تضحيات وتفديات. وللظروف العصيبة التي اكتنفت إعداد هذا الجيش سمّي جيش العسرة. والايات التي أنزلها الله في كتابه- متعلقة بغزوة العسرة- هي أطول ما نزل في قتال بين المسلمين وخصومهم. وقد بدأت باستنهاض الهمم لردّ هجوم المسيحية على الإسلام، وإفهام المسلمين مغبة تقصيرهم في أداء هذه الفريضة، وإشعارهم بأن الله لا يقبل ذرة من تفريط في حماية دينه ونصرة نبيّه، وإنّ التراجع أمام الصعوبات الحائلة- دون قتال الروم- يعتبر مزلقة إلى الردة والنفاق: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى

[دعوة إلى البذل والعطاء] :

الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) [التوبة] . ومضت الايات تتحدّث في صرامة وعنف، ففضحت المنافقين، وكشفت عن المترددين. وأهانت طلاب الدّعة والراحة، الذين اثروا ظلّ القعود في بيوتهم وحقولهم على حرّ الصحراء، ووعثاء السفر، ومتاعب الجلاد: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) [التوبة] . وأنباء جيش العسرة تفيض بها صفحات طوال من سورة التوبة. ولعلّ من البيّن في أسلوب القران وهو يصف هذا الجهاد، أنه لم تأخذه هوادة في التنويه بمن اشتركوا فيه، والتنديد بمن تخلّفوا عنه، ولا عجب، فتحديد موقف الإسلام من النصرانية، هو بتّ في مستقبل الدين كلّه إلى الأبد. فإما ثبت المسلمون أمام لدد الكنيسة المتعصبة، وإمّا أحرقتهم نارها فلم يبق لدينهم أثر؛ وكان لهذا الحزم أطيب النتائج، فخرج المسلمون في تعبئة لم يخرجوا من قبل في مثلها، وانطلقوا صوب الشمال حيث تربض جيوش الروم ... » «1» . [دعوة إلى البذل والعطاء] : وتجلت- في هذا الإعداد- طوايا النفوس، ومقدار ما استودعت من قبل من إخلاص وسماحة ونشاط، فهناك أغنياء أخرجوا ثرواتهم لتجهيز الجيش، وإمداده بحاجته من الرواحل والسلاح والخيل، منهم عثمان بن عفان الذي سبق في بذله سبقا بعيدا، حتى إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم عجب من كثرة ما أنفق، وقال: «اللهمّ ارض عن عثمان، فإنّي عنه راض» «2» .

_ (1) التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، للمؤلف، ص 149- 150، دار القلم- دمشق، الطبعة الثانية، 2001 م. (ن) . (2) ضعيف بهذا اللفظ، رواه ابن هشام: 2/ 316، بإسناد معضل، وقد رواه ابن شاهين في كتابه (شرح مذاهب أهل السنّة) ، (ج 18، رقم 23 من نسختي) من حديث عائشة، لكن فيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا بهذا في مناسبة أخرى. وسنده ضعيف جدا بل موضوع، وإنما-

ومنهم الفقراء الذين شاقهم الجود بأنفسهم في سبيل الله، ثم أعجزتهم الوسائل التي تبلّغهم الميدان، فسحّت أعينهم الدمع لهذا الحرمان. روي عن (علبة بن زيد) أنه قام من الليل يصلّي، فتهجّد ما شاء الله، ثم بكى، وقال: اللهم إنك أمرت بالجهاد، ورغّبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوّى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه.. وإنّي أتصدق على كلّ مسلم بكلّ مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض. وأصبح الرجل- على عادته- مع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين المتصدّق هذه الليلة؟» فلم يقم أحد، ثم قال: «أين المتصدّق؟ فليقم» ، فقام إليه فأخبره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشر، فو الّذي نفسي بيده! لقد كتبت في الزّكاة المتقبّلة» «1» . وهناك أهل الريبة الذين يلتمسون للفرار الأعذار، وتقعد بهم كراهيتهم للإسلام عن إسداء أي عون له، فهيهات أن يعدوا للخروج عدة، أو يتمنوا للخارجين عودا. ومن أسخف الأعذار التي تمحّلها أولئك القاعدون المنافقون ما قاله الجدّ بن قيس للنبي صلى الله عليه وسلم- وقد عرض عليه الجهاد-: يا رسول الله! أو تأذن لي ولا تفتني؟ فو الله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر (الروم) ألا أصبر. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» وفيه نزلت الاية: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) [التوبة] .

_ - قال صلى الله عليه وسلم بمناسبة جيش العسرة: «ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم» . رواه ابن شاهين، رقم (3) ، والحاكم: 3/ 102، وغيرهما من حديث عبد الرحمن بن سمرة وصحّحه الحاكم. ووافقه الذهبي! وله شواهد ذكرها الحافظ ابن كثير في تاريخه: 5/ 6، واخر عند ابن شاهين، رقم (61) . (1) صحيح، ذكره ابن إسحاق في (المغازي) بدون إسناد، وقد ورد مسندا موصولا من حديث مجمع بن حارثة وعمرو بن عوف وأبي عبس، وعلبة بن زيد نفسه وقتيبة كما بيّنه الحافظ في (الإصابة) ، فليراجعها من شاء. (2) ضعيف، رواه ابن هشام: 2/ 316، عن ابن إسحاق بسنده، مرسلا، وكذلك رواه عنه ابن جرير: 2/ 366- 367.

[مصاعب وصبر وعزيمة] :

وهناك الذين فترت- أول الأمر- هممهم، فلما جدّ الرحيل وانطلق الجيش أحسوا خطر التخلف على إيمانهم فنهضوا يدركون ما يوشك أن يفوتهم، منهم (أبو خيثمة) عاد يوما إلى أهله- بعد مسير النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه- وكان اليوم قائظا، فوجد امرأتيه كلتيهما، قد أعدتا له الطعام الشهيّ والماء البارد الرّويّ، ووجد مسكنه مبللا رطبا، وسط بستانه الذي أخذ بسره الأحمر ينضج ويسودّ. فاستيقظ ضمير الرّجل، وقال: رسول الله في الشمس والريح والحرّ، وأبو خيثمة في ظلّ بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء في ماله مقيم؟ والله ما هذا بالنّصف!. ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله، فهيئا لي زادا، ففعلتا، ثم قدّم ناضحه فارتحله. وأسرع الرجل المؤمن يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك. [مصاعب وصبر وعزيمة] : وعانى الجيش الذاهب إلى تبوك مصاعب ثقيلة؛ روى الإمام أحمد في تفسير قول الله عز وجلّ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة: 117] ؛ قال: خرجوا في غزوة (تبوك) الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وخرجوا في حرّ شديد، وأصابهم عطش، حتى جعلوا ينحرون إبلهم لينفضوا أكراشها، ويشربوا ماءها، فكان ذلك عسرة في الماء، وعسرة في النفقة، وعسرة في الظهر. وعن عبد الله بن عباس: أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة، فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش، حتى ظننا أنّ رقابنا ستنقطع، حتى إنّ الرجل لينحر بعيره، فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله! إنّ الله عوّدك في الدعاء خيرا فادع الله لنا! فقال: «أو تحب ذلك؟» قال: نعم، فرفع رسول الله يديه إلى السماء، فلم يرجعهما حتى قالت السماء- أي اذنت بمطر- فأطلت، ثم سكبت فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر «1» .

_ (1) ذكره ابن كثير في التاريخ: 5/ 9، من رواية عبد الله بن وهب بسنده عن ابن عباس، ثم قال: «إسناده جيد» ، وهو عندي غير جيد؛ لأنّه من رواية عتبة بن أبي عتبة. وقد ذكره-

قال ابن إسحاق: وكان في الجيش رجل منافق، فقالوا: ويحك هل بعد هذا من شيء؟ فقال: سحابة مارة!. وفي الطريق مرّ المسلمون بالديار التي كانت ثمود تسكنها، وهي أطلال هامدة، واثار بقيت تذكّر بغضب الله على من كذّبوا رسله، وتعجّلوا عقابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم» «1» . والظاهر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يريد ألا يغافل المسلمون عن مواطن العظة، وألا يستهينوا بما خلا قبلهم من مثلات، فإنّ المرء لو قيّض له أن يزور السجون، ويشهد مثلا غرفة الإعدام؛ فليس يليق أن ينظر إلى حبل المشنقة وهو شارد أو ضاحك، لا أقلّ من بعض الأسى لأحوال المجرمين ومصارعهم!. وروى أحمد عن جابر: لما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر، قال: «لا تسألوا الايات خوارق العادات- فقد سألها قوم صالح، فبعث الله لهم ناقة، فكانت ترد من هذا الفجّ، وتصدر من هذا الفجّ، فعتوا عن أمر ربّهم فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما، فأخذتهم صيحة أهمد الله بها من تحت أديم السّماء منهم» «2» .

_ - الحافظ في (اللسان) : 4/ 129، وذكر أنّ العقيليّ أورده في: (الضعفاء) ثم ساق له حديثين، ثم قال: «ولا يتابع على الحديثين جميعا» ، نعم قد أورد الحديث الهيثمي في (المجمع) : 6/ 194- 195، ثم قال: «رواه البزار والطبراني في الأوسط، ورجال البزار ثقات» ، فإذا صحّ هذا، فالحديث حسن- إن شاء الله- أو صحيح. (1) صحيح، أخرجه أحمد، رقم (5225، 5342، 5404، 5441، 5645، 5705، 5931، 6561) ، من حديث ابن عمر، وهذا أحد ألفاظه، وأخرجه البخاري: 8/ 102؛ ومسلم: 8/ 221، نحوه. (2) في المسند: 3/ 296، من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر. وقال الحافظ ابن كثير في تاريخه (5/ 11) : «إسناده صحيح» ، وكذلك صحّحه الحاكم من هذا الوجه: 2/ 340- 341؛ ووافقه الذهبي. واقتصر الحافظ في (الفتح) : 6/ 294، على تحسينه، وهذا أقرب. وفي كل ذلك عندي نظر! فقد تعلمنا منهم أن أبا الزبير مدلس، وأنّه لا تقبل روايته المعنعنة، إلا إذا كانت من رواية الليث بن سعد عنه وهذه ليست منها! وقد قال الذهبي: «وفي صحيح مسلم عدّة أحاديث لم يوضح فيها أبو الزبير السماع عن جابر ولا هي من طريق الليث منه، ففي القلب منها شيء» . قلت: فكيف يصحّ إذن ما ليس منها في صحيح مسلم كهذا؟!.

[تحقيق أهداف الغزوة] :

والنهي عن سؤال الايات عود بالناس إلى الأحوال المألوفة؛ إذ لا جدوى في الخروج عليها، وخير للسائلين أن يبذلوا طاقتهم في أداء ما يكلّفون به، وأن يرققوا قلوبهم حتى تلين لأمر الله. فإن من قبلهم شهد العجائب، ثم أغرتهم قسوة القلب بازدرائها، فحاقت بهم اللعنة. [تحقيق أهداف الغزوة] : وبلغ المسلمون (تبوك) فلم يجدوا بها كيدا، أو يواجهوا عدوا، ولا بدّ أن الروم اثروا الاختفاء داخل حدودهم عن ملاقاة هذه القوة الفتية. وصالح النبي صلى الله عليه وسلم متنصرة العرب الضاربين في هذه الأرجاء، فدخل في عهده أهل (أيلة) و (أذرح) و (تيماء) و (دومة الجندل) ، وأيقنت القبائل التي تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتها الأقدمين قد فات أوانه. وغزوة تبوك تشبه غزوة الأحزاب، فإنّ بلاء المسلمين أولها كان شديدا، ثم جاء ختامها طمأنينة وعزة، ومكث الرسول صلى الله عليه وسلم هنالك بضعة عشر يوما، يمد بصره وراء الصحراء، حيث اختفى الرومان، يرقب منهم حركة، فلمّا رأى القوم قابعين مستكينين، قرر أن يقفل عائدا إلى المدينة موفورا منصورا. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولاحت له معالمها من بعيد. فقال: «هذه طابة! وهذا (أحد) جبل يحبّنا ونحبّه «1» !» وتسامع الناس بمقدمه، فخرج النساء والصبيان والولائد يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع وجب الشّكر علينا ... ما دعا لله داع لقد قوبل جيش العسرة في مرجعه هذا بحفاوة بالغة. إنّه أكبر جيش خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ وصل تعداده نحو الثلاثين ألفا، ولم ينس النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه وإيابه أصحاب القلوب الكبيرة، الذين صعب عليهم أن يجاهدوا معه، فتخلّفوا راغمين، والعبرات تملأ عيونهم. عن أنس بن مالك: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة تبوك، فدنا من

_ (1) صحيح، أخرجه الشيخان وغيرهما.

المخلفون:

المدينة فقال: «إنّ بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم» !! فقالوا: يا رسول الله! وهم بالمدينة؟ قال: «وهم بالمدينة، حبسهم العذر» » . بهذه المواساة الرقيقة كرّم النبي صلى الله عليه وسلم الرجال الذين شيّعوه بقلوبهم وهو ينطلق إلى الروم، فأصلح بالهم، وأزاح هما ثقيلا عن أفئدتهم. أمّا المنافقون من مؤمّلي الشر ودعاة الهزيمة، والأعراب الذين اعتبروا الإسلام نكبة حلّت بهم؛ فهم يتربّصون الدوائر بأهله! أما هؤلاء وأولئك فأمامهم عناء طويل. المخلّفون «2» : ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد، فصلّى فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فجاء المخلّفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله. وجاءه (كعب بن مالك) فلمّا سلّم عليه تبسّم تبسّم المغضب؛ ثم قال له: «تعال» . قال: فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: «ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» . فقلت: بلى والله، إنّي لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عليّ ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه، إنّي لأرجو فيه عفو الله عنّي. والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلفت عنك!. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك» . فقمت. وثار رجال من بني سلمة، فاتبعوني يؤنبونني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا. ولقد عجزت ألاتكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ (1) صحيح، أخرجه البخاري: 8/ 103. (2) هذه الرواية من خلاصة لزاد المعاد.

بما اعتذر إليه المخلّفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. قال: فو الله ما زالوا يؤنّبونني حتى أردت أن أرجع فأكذّب نفسي. ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل الذي قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدرا، فيهما أسوة!!. فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا- أيّها الثلاثة- من بين من تخلّف عنه. فاجتنبنا الناس، وتغيّروا لنا حتى تنكّرت لي الأرض، فما هي بالتي أعرف! فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأمّا صاحباي فاستكانا، وقعدا في بيوتهما يبكيان. وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلّمني أحد، واتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلّم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليّ، وإذا التفتّ نحوه أعرض عني. حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة- وهو ابن عمّي وأحبّ الناس إليّ- فسلمت عليه، فو الله ما رد عليّ السلام! فقلت: يا أبا قتادة أنشدك الله، هل تعلمني أحبّ الله ورسوله؟ فسكت. فعدت له، فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار. فبينا أنا أمشي بسوق المدينة، وإذا نبطي من أنباط الشام، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلّ على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إليّ كتابا من ملك غسان، فإذا فيه: أما بعد: فإنّه بلغني أنّ صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت لمّا قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجّرتها. حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: لا، ولكن اعتزلها ولا تقربها.

وأرسل إلى صاحبيّ مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. فجاءت امرأة هلال بن أمية، فقالت: يا رسول الله! إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: «لا، ولكن لا يقربك» ، قالت: إنه- والله- ما به حركة إلى شيء. والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال كعب: قال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب، ولبثت بعد ذلك عشر ليال، حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا. فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على سطح بيت من بيوتنا، وبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى، قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر!. فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج من الله. واذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلّى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبيّ مبشرون. وأركض إليّ رجل فرسا، وسعى ساع من أسلم فأوفى على ذروة الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة، يقولون: ليهنك توبة الله عليك. قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وحوله الناس فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولست أنساها لطلحة. فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال- وهو يبرق وجهه من السرور-:

«أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك» ، قال: قلت: أهو من عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: «لا، بل من عند الله» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سرّ استنار وجهه، حتى كأنّه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال: «أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك» . قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. فقلت: يا رسول الله إن الله إنما نجّاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقا ما بقيت، فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا ما أبلاني، والله ما تعمدت بعد ذلك إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت، فأنزل الله تعالى على رسوله: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ... إلى قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) [التوبة: 117- 119] . فو الله ما أنعم الله عليّ نعمة قط- بعد أن هداني للإسلام- أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألاأكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، قال: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ ... إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [التوبة: 95- 96] . قال كعب: وكان تخلّفنا- أيها الثلاثة- عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة: 118] . وليس الذي ذكر الله مما خلّفنا عن الغزو، وإنّما هو تخليفه إيّانا وإرجاؤه أمرنا عمّن حلف له واعتذر إليه فقبل منه «1» .

_ (1) صحيح، أخرجه البخاري: 8/ 92- 100، بطوله؛ وكذا مسلم: 8/ 106- 112.

مسجد الضرار:

مسجد الضّرار: سلك النبي صلى الله عليه وسلم مع الذين يتظاهرون بالإسلام طريق الملاينة والإغضاء، يقبل منهم أعذارهم- وهي مختلفة- ويتكرم عن فضحهم وهم يتفلّتون من قيود السمع والطاعة، فإذا تلبّس أحدهم بخيانة تهدر دمه رغب في التجاوز عنه حتى لا يقال: إن محمدا يقتل أصحابه وما هم في صحبته من شيء، ولكن هكذا سيقول الناس. ولو أنّ هؤلاء المنافقين كانوا على قليل من الخير لأسرهم هذا الحلم وانخلعوا من خداعهم الصغير، وأقبلوا على الإسلام طيبين خالصين؛ بيد أنّ هذا الأسلوب العالي في معاملتهم لم يزدهم على الله ورسوله إلا جرأة، فزاد افتياتهم وربت شرورهم، ولم يبق بدّ من كشف خبثهم، وإشعار جمهور الأمة بما تنطوي عليه نفوسهم وأعمالهم. وقد نزلت الايات أخيرا تندّد بما فعل ويفعل أولئك المنافقون، وتمزّق الأستار التي يتوارون خلفها، وكانت ألاعيبهم قبل (تبوك) وبعدها هي النهاية الحاسمة للسماحة التي مرحوا في سعتها طويلا، ولم يقدّروها حقّ قدرها. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلن على الناس ذبذبتهم ونكوصهم، وكلّف ألّا يقبل منهم وألّا يصلّي عليهم، بل عرّف أنّ استغفاره لهم لن يجاب، ثم طولب المسلمون كافّة أن يقطعوهم. ومن أعجب ما تفتقت عنه حيل المنافقين أن يبنوا مسجدا يلتقون فيه واحدهم، ويمكرون فيه بالإسلام تحت ستار التجمع على العبادة، وقد ذهبوا للرسول صلى الله عليه وسلم قبل رحيله إلى تبوك يقولون له: بنينا مسجدا لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة ونحبّ أن تأتينا فتصلي لنا فيه؟ فاعتذر لهم بأنه على جناح سفر وحال شغل. وقال: «لو قدمنا- إن شاء الله- أتيناكم؛ فصلّينا لكم فيه» «1» . فلمّا اب النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه، وتحرج موقف المنافقين، وانكشفت خباياهم، أرسل اثنين من أصحابه إلى هذا المسجد، وأمرهم أن يحرّقوه ويهدموه.

_ (1) ضعيف، رواه ابن هشام: 2/ 322، عن ابن إسحاق بدون إسناد. لكن ذكره ابن كثير في التفسير: 2/ 388، عن ابن إسحاق، عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر، وابن قتادة وغيرهم مرسلا. والله أعلم.

وجاء الصاحبان إلى المسجد يحملان الشعل الحارقة، وأخذا يأتيان عليه، وفيه أهله الذين فروا مذعورين لمرأى اللهب، يدمّر اخر ما شاد النفاق من حيل. ونزل قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ... [التوبة] .

طليعة الوفود

طليعة الوفود استغرق المسير إلى تبوك والماب منها أياما طوالا، فقد خرج المسلمون إليها في رجب، وعادوا في رمضان، ليؤدّوا ما عليهم من فريضة الصيام، ولم يلبثوا طويلا حتى جاءت البشريات بأنّ وفد ثقيف قدم إلى المدينة ليفاوض رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدخول في الإسلام؛ لقد استجاب الله دعوة نبيّه لأهل الطائف أن يسلس قيادهم للحق فيأتوا طائعين، وكان أهل الطائف- بعد أن انفضّ الحصار المضروب عليهم- قد أخذو يتروّون في شأنهم ومصيرهم، إلا أنّ جمهورهم لما يزل على ولائه للأصنام وصدوده عن الإسلام. وحاول رئيسهم (عروة بن مسعود) أن يتحدّث إليهم في نبذ هذه الجاهلية، وعروة فيهم سيد مطاع محبوب، غير أنّ نخوة الامتناع استبدّت بهم، فلما أظهر الرجل دخوله في الإسلام ودعاهم إلى ذلك، رموه بالنبل فقتلوه.. ولم ييئس العقلاء من رشد قومهم، ولم تستطع ثقيف كذلك تجاهل ما حولها، فإنّ دولة الأصنام تدبر في كل مكان، وأمر الإسلام يعلو يوما بعد يوم. فاجتمع عمرو بن أمية ب (عبد ياليل بن عمرو) وقال له: إنّه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة «1» ، إنه قد كان أمر هذا الرجل ما رأيت، وقد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة، فانظروا في أمركم. ورأت ثقيف أن تبعث وفدها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصل إلى وضع تقرّ به، وتألف الوفد من ممثلين لعشائر ثقيف كلّها، حتى يلتزموا ما يصل إليه من شروط. وجادل الوفد رسول الله صلى الله عليه وسلم جدالا طويلا يبغي أن يظفر منه بإقرار لبعض ماثر الجاهلية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأبى أشدّ الإباء، وطلبوا منه أن يدع (اللات) ثلاث سنين ثم يهدمها، ثم ساوموه على سنتين، ثم سنة، ثم شهر واحد بعد مقدمهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يأبى إلا هدمها دون توقيت أمد معين.

_ (1) كانا من قبل متهاجرين.

فلما يئسوا سألوه ألا يكسروا أوثانهم بأيديهم، أجابهم إلى ذلك بإرسال من يكسرها لهم. وسألوه أن يضع عنهم الصلاة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خير في دين بلا صلاة» «1» . وعاد الوفد إلى الطائف، ومعه المغيرة بن شعبة وأبو سفيان بن حرب، ليهدما اللات، وكان هدم اللات يوما مشهودا، فإنّ نسوة ثقيف خرجن حاسرات الرؤوس، يبكين ويصرخن، وهن يرين الفؤوس تهدم إلههن، وطالما خشعن له، وذبحن حوله، وسقن له النذور. ويروى أنّ المغيرة كلّما هوى بالفأس على بنيان الصنم قال أبو سفيان: واها لك! اها لك! تأسفا، ولعلّه كان يسخر، أو يواسي نساء ثقيف ... ولا مراء في أنّ استسلام ثقيف، ثم دخولها الإسلام يعدّ كسبا كبيرا، وفتحا جديدا، فلم يبق قبيل عزيز الجانب في الجزيرة إلا وقد دان لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما القبائل التي لما تزل على جاهليتها، فهي أوزاع، توشك أن تستبين الحق وتستريح له، إنّ الليل المضروب عليها لن يطول سواده، بل إنّ تباشير الفجر قد خالطته هنا وهناك حتى لم يبق لظلمته مكان تتشبث به. قال ابن إسحاق: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كلّ وجه. وإنّما كانت العرب تربّص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش، وذلك أن قريشا كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت الحرام، وصريح ولد إسماعيل وقادة العرب، لا ينكرون ذلك- وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه. فلما افتتحت مكة ودانت له قريش ودوّخها الإسلام، عرفت العرب أنّها لا

_ (1) ضعيف، ذكره ابن هشام: 2/ 325- 326، عن ابن إسحاق معضلا، والجملة الأخيرة وصلها أبو داود: 2/ 42؛ وأحمد: 5/ 218، عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص مرفوعا نحوها. ورجاله ثقات لكن الحسن- وهو البصري- مدلس، وقد عنعنه.

طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عداوته، فدخلوا في دين الله أفواجا يضربون إليه من كلّ وجه. يقول سبحانه وتعالى لنبيّه: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) [النصر] . بعد كمّ من السنين بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه المرحلة؟ بعد اثنتين وعشرين سنة من الدعاية الحثيثة، والتذكير الدائم، وتحمّل الأذى، وكفاح العدوان.. فإن كانت هناك بقايا من الغافلين لا تزال تضرع للأصنام، وتحيا على الفوضى، فإنّ فطامها عن هذه الرذائل لا ينكره ذو لب أو مروءة، ومن ثمّ اتجه الإسلام إلى ضرورة تطهير الجزيرة كلّها من عبادة الأوثان، وإشعار المشركين بأنّ أمامهم مهلة محدودة للتخلص من أدرانها.. ثم تعريفهم كذلك بأن الأصنام التي كانوا يقدّسونها حول الكعبة قد أزيلت، فأصبحت الكعبة قبلة مسجد يؤمه المواحدون، وليست مطاف جهّال يتبركون بالحجارة، وأن تقاليد العري التي شاعت في الجاهلية، وجعلت المطاف يزدحم بالسّوات المكشوفة قد نبذها الإسلام، فلن يسمح في عهده بالتبذل القديم. وأقبل موسم الحج في السنة التاسعة والمشركون على ما ألفوا، إنهم يؤمون البيت العتيق، ولا يتعظون من مصير الأصنام التي تكسرت! أين الالهة التي قضوا أعمارهم ينحنون لها، ويتوسّلون بها؟ لقد هشمت وديست! ومع ذلك فإن عبّادها لبثوا مشركين.. وقد تكون في نفوسهم حسرات لخلو الكعبة منها. إنّ من حقّ المسلمين أن يضعوا حدّا لهذه المهازل، وأن يزيحوا عن كرامة البشر هذا الهوان.

حج أبي بكر بالناس

حج أبي بكر بالناس بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الحج، ليقيم بالمسلمين المناسك، فخرج من المدينة يسوق البدن أمامه مولّيا وجهه شطر المسجد الحرام، ونزل الوحي بسورة براءة بعد انصراف أبي بكر ووفد الحجيج، فأشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث بالايات إليه ليقرأها على أهل الموسم كافّة. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل بها عليّ بن أبي طالب قائلا: «لا يؤدّي عنّي إلا رجل من أهل بيتي» «1» ، وذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تمشّ مع عادة العرب في عهود الدماء والأموال. ألا ترى أنه قبل هجرته وكل إلى عليّ ردّ الأمانات إلى أهل مكة؟ إنّ أواصر القربى تقتضي التكافل التامّ في هذه الشؤون، فكأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أدّى بيده ما أداه علي رضي الله عنه عنه، وكأنّه قال بلسانه في الموسم ما سيقرؤه عليّ بين الناس. ورعاية هذا الإفهام ليست فريضة، بل هي من النبي صلى الله عليه وسلم زيادة حيطة وإعذار. قال ابن إسحاق: ثم دعا عليّ بن أبي طالب فقال له: «اخرج بهذه القصّة من صدر براءة، وأذّن في النّاس يوم النّحر إذا اجتمعوا بمنى: أنّه لا يدخل الجنّة كافر، ولا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدّته» . فخرج عليّ يمتطي العضباء- ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم- حتى أدرك أبا بكر بالطريق. فلما راه أبو بكر سأله: أأمير أم مأمور؟ قال: بل مأمور، ثم مضيا «2» .

_ (1) حديث حسن، رواه ابن هشام: 2/ 328، عن ابن إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي مرسلا، لكن له شواهد يتقوّى بها، ذكرها ابن كثير في تاريخه: 5/ 37- 38. (2) حديث حسن، وهو تمام حديث أبي جعفر المتقدم.

أبو بكر- كما كلّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقيم للناس المناسك، وعليّ يؤذن في الناس بما أمر به، ويقرأ على العرب صدر السورة التي فصلت في أمرهم، وأجهزت على الوثنية في بلادهم. وكان هناك مؤذّنون اخرون بثّهم أبو بكر في المجامع الكبيرة، يعينون عليا على إبلاغ رسالته، ويصيحون هنا وهناك: لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وعن زيد بن يثيع: سألنا عليا: بأيّ شيء بعثت في الحجة؟ قال: بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع مسلم وكافر في المسجد الحرام بعد عامه هذا، ومن كان بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدّته، ومن لم يكن له عهد فأجله إلى أربعة أشهر «1» . وقد تكلّمنا في موضع اخر عن مكانة المعاهدات في الإسلام «2» ، وشرحنا ما تضمنه صدر سورة التوبة من أحكام. وليعلم من يشاء أنّ تشريع قانون بمحو الوثنية كتشريع قانون بمحو الأمية عمل إنساني نبيل، وأن اعتراضا عليه لا يصدر من رجل يؤثر الخير للأمم، ويتمنّى لها السمو والكرامة!. وبحسب الإسلام أنّه ظلّ اثنين وعشرين عاما يحارب الخرافة بالتعليم والتربية كلّما أتيحت له فرص لنشر المعرفة وغرس الأدب، وبالقصاص والقتال كلّما وقف في طريقه الجهّال والضلّال يبطلون سعيه أو يصدّون عنه. وقد منح الإسلام الوثنية أول الأمر حق الحياة، وترك من يرتد عنه يرجع إليها إذا شاء، ولم يفعل ذلك إعزازا لها، إنما هو حسن ظنّ بعقل الإنسان وضميره ... فقلّ من يسفهون أنفسهم، ويتركون الله العظيم إلى صورة من حجر أو خشب أو طعام. فلمّا تبين أن الوثنيين يستخفون بكل شيء، وأنهم يستغلون الحق الممنوح لهم في الفتنة والعدوان والقتل ... لم يبق لتركهم من حكمة.

_ (1) صحيح، أخرجه أحمد، رقم (594) ؛ والترمذي: 4/ 116، وصحّحه. (2) في كتابنا (تأملات في الدين والحياة) .

إنّ الكلب العقور لا يترك طليقا، فإذا أفلت من قيده فأهدر دمه، فمن السّفه اعتبار ما حدث جريمة قتل. والذين يظنون أو يحلو لهم الظنّ بأنّ الإسلام عند ما طارد الوثنية خنق حريّة الرأي هم أشخاص واهمون أو مغرضون. وعلى هدى التجارب والمصائب التي عاناها المسلمون طوال اثنين وعشرين عاما تعرف سرّ الغضب الذي اشتغل اخر الأمر، ولم نزل الوحي يعالن المشركين بالقطيعة، ويرفض منهم كلّ اعتذار؟ ثم يسرد ما أسلفوا من سيئات على أنه خليقة فيهم لم ينفكوا عنها يوما، ولا يرجى أن ينفكوا عنها أبدا. ومن ثمّ فلا مكان لأصنامهم بعد المهلة المضروبة لهم: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) [التوبة] . ومن قبل هذا النذير المخوف ومن بعده كانت أفواج الوافدين تنطلق صوب المدينة تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تخلع رداء الجاهلية، وتدخل في الدين الحق. وهذه الوفود المقبلة، عرفت- خلال السنين السابقة- طرفا يسيرا عن الإسلام. فقد شاع في أرجاء الجزيرة كلّها نبأ الرسالة الجديدة، وما تضمنته من عقائد، وما تفرضه على أتباعها من تعاليم. وتتبع المحبون والمبغضون كفاحها الموصول في طلب الحياة، ومبلغ ما بذلت وبذل أعداؤها حتى انتهت الأمور بهذا الختام المبين. ونحن نعلم أنّ الحزب الذي يبدأ نشاطه بأنصار قلائل يتضاعف الإقبال عليه عند ما تلمع له وقفات مشرفة، ويتاح له نصر كبير. فكيف إذا اختفى خصومه وتألّقت نجومه؟.

فلا جرم أنّ المدينة تتدفق عليها سيول الراغبين في اعتناق هذا الدين، أو الراغبين في مسالمته، ورسم سياسة تقوم على التعاون معه. ولسنا بسبيل إحصاء هذه الوفود القادمة من المشرق والمغرب. لكنّنا نسوق مثلين لوفدين: أحدهما وثني أقبل يبغي الإسلام، والاخر نصرانيّ جاء يستطلع النبأ، ويفاوض ويعاهد بعد جدال ولجاجة.

وفد للأميين، ووفد لأهل الكتاب

وفد للأميين، ووفد لأهل الكتاب أرسلت قبيلة سعد بن بكر (ضمام بن ثعلبة) وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فامتطى (ضمام) بعيره حتى دخل المدينة، فأناخه على باب المسجد، ثم عقله، ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه. وكان (ضمام) رجلا جلدا، أشعر، ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه. فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن عبد المطّلب» . قال: أمحمد؟ قال: «نعم» . قال: يا بن عبد المطلب! إنّي سائلك، ومغلظ عليك في المسألة، فلا تجدنّ في نفسك. قال صلى الله عليه وسلم: «لا أجد في نفسي، فسل عمّا بدا لك» . قال: أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك. الله بعثك إلينا رسولا؟. قال صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ نعم» . قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك. الله أمرك أن تأمرنا أن نعبده واحده، ولا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان اباؤنا يعبدون معه؟. قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم نعم» . وفي رواية أنه قال: يا محمد أتانا رسولك، فزعم لنا أنّك تزعم أنّ الله أرسلك؟. قال صلى الله عليه وسلم: «صدق» . قال: فمن خلق السماء؟

قال صلى الله عليه وسلم: «الله» . قال: فمن خلق الأرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الله» . قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الله» . قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال الله أرسلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم» . قال ضمام: وزعم رسولك أنّ علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا. قال صلى الله عليه وسلم: «صدق» . قال: فبالذي أرسلك، الله أمرك بهذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم» . ثم جعل يذكر فرائض الإسلام وشرائعه على هذا النحو، حتى إذا فرغ قال: فإنّي أشهد ألاإله إلا الله، وأشهد أنّ محمدا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه. ثم لا أزيد ولا أنقص، وانصرف إلى بعيره راجعا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن صدق ذو العقيصتين «1» دخل الجنّة» «2» . فأتى ضمام بعيره، فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه، فكان أوّل ما تكلّم به أن قال: بئست اللات والعزّى!! قالوا: مه يا ضمام! اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون.. قال: ويلكم، إنّهما- والله- لا يضرّان ولا ينفعان. إنّ الله قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتابا، استنقذكم به مما كنتم فيه، وإنّي أشهد ألاإله إلا الله واحده لا شريك له، وأنّ محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه. قال: فو الله ما أمسى في الحيّ من ذلك اليوم رجل ولا امرأة إلا مسلما «3» .

_ (1) الضفيرتين. (ن) . (2) قال الحافظ ابن كثير (5/ 61) : «هذا يدل على أنه- يعني ضماما- رجع إلى قومه قبل الفتح لأنّ (العزى) خرّبها خالد بن الوليد أيام الفتح» . (3) حديث حسن بهذا التمام، رواه أبو داود: 1/ 79؛ والحاكم: 3/ 54- 55؛ وأحمد، -

ذلك وفد يمثّل بساطة الأمّيين في منطقهم وسلامة طويتهم في جدلهم وتساؤلهم، وخلو أذهانهم من العقد التي تعترض الحقّ في مسيله السمح. ولا نكران في أنّ جهاد الدعوة القديم له أثره في الوصول إلى هذه النتائج السريعة. وهذا طبيعي؛ فإنّ تغيير دين ليس كتجديد زي، وضمام بن ثعلبة كان يستحضر في ذهنه وهو يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وهو يخطب قومه أنّ هذه الرسالة الجديدة مرّت بأطوار شتّى من المحن والفتن، كشفت عن صدقها وسلامة جوهرها، فليس إيمانه وإيمان قومه وليد ساعة من كلام. ذاك وفد الأميين، وهو مثل لوفود أخرى كبرت أو صغرت أمّت المدينة، لترى هذا النبي وتبايعه، ثم تؤوب إلى قومها حاملة الهدى والخير. أما أهل الكتاب فإنّ قلة منهم شرحت صدرا بالحق، وسارعت إلى اعتناقه ومؤازرته، والكثرة الباقية اختلفت عداوتها له شدة وفتورا. أبى اليهود إلا إبادة الإسلام، فوقعوا في شرور نيتهم، وباد سلطانهم العسكري والسياسي قبل أن يدركوا هذه الغاية. وقبلهم الإسلام في دولته القائمة أفرادا يبقون على ديانتهم ما أحبوا، ولا يمكّنون من تجمع على عدوان ودس. وذلك حقه لا ريب!!. ولم تصادر الحقوق الشخصية ليهودي تحت سلطان الإسلام، وحسبك أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه- لكي يقترض من يهودي- ارتهنه درعه «1» .. وما فكّر قط في إحراجه بما يملك من سلطان بعيد. وكان النصارى أخف خصومة حيث ابتعدوا عن سلطان الكنيسة فأسلم بعضهم عن طواعية وإعجاب بما في الإسلام من سهولة واستقامة، وبقي الاخرون على ما ورثوا.

_ - رقم (2380) من حديث ابن عباس، وقال الحاكم: «صحيح» ، ووافقه الذهبي؛ ورواه مسلم: 1/ 32، وغيره مختصرا، والرواية الاخرى له. (1) صحيح، أخرجه البخاري وغيره.

وسارت العلاقة بين الدينين في مجراها الذي أبنّا عنه انفا، حتى تحولت إلى حرب طاحنة بين المسلمين والرومان. وكانت النصرانية- مع تفوّق الرومان السياسي والعسكري- تسود شمال الجزيرة وجنوبها. فرأى المسلمون- وهم في حرب مع دولة الروم- أن يحدّدوا موقفهم مع نصارى الجنوب، خصوصا وأنّ الروم كانوا يغدقون العطايا على مبشريهم هناك، ويبنون لهم الكنائس، ويبسطون عليهم الكرامات، ويشجّعونهم على المضي في تنصير القبائل المتوطنة بهذه الأرجاء. فأرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أهل (نجران) كتابا جاء فيه: «باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد: فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ... وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد. فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد اذنتكم بحرب، والسّلام» «1» . فأرسلت نجران- وهي كعبة النصرانية جنوبا- وفدها إلى المدينة ليقابل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتفاهم معه، ووافى الوفد المدينة بعد العصر ودخل المسجد. فكان أول ما صنع أن اتجه إلى بيت المقدس يصلّي لله على ما تقضي به طقوس المسيحية، وأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوهم» «2» ... حتى انتهوا من عبادتهم ... وراهم النبي صلى الله عليه وسلم قد لبسوا لملاقاته أردية الكهنوت الفاخرة، وتحلّوا بخواتم الذّهب، وجاؤوا يخبّون في الحرير، وتبدو لهم- بين القلانس والطيالس- سيماء التكلّف الشديد. فأبى أن يتحدّث معهم، حتى يرجعوا إلى ملابس سفرهم، ويدعوا هذه الزينة «3» .

_ (1) ضعيف، رواه البيهقي عن يونس بن بكير، عن سلمة بن يسوع، عن أبيه، عن جده. وهذا سند مجهول. سلمة هذا ومن فوقه لم أجد من ترجمهم، وأبو يسوع لم يورده الحافظ في (الكنى) من الصحابة. فالله أعلم. ثم رأيت ابن كثير قد ذكره في التفسير: 1/ 369، ووقع فيه: «سلمة بن عبد يسوع» ، ولعلّه الصواب. (2) ضعيف، أخرجه ابن هشام: 2/ 46، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال ... فذكره. وهذا مرسل أو معضل. (3) هذا من حديث عبد يسوع السابق.

والغريب أنّ بعضهم سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما يعبد عيسى ابن مريم وإلى ذلك تدعونا؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معاذ الله أن أعبد غير الله أو امر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني ولا أمرني» «1» . وأنزل الله عز وجلّ في ذلك: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) [ال عمران] . وعرض النبي صلى الله عليه وسلم على أحبار نجران وسائر الوفد أن يسلموا، فقالوا له: أسلمنا قبلك، قال: «كذبتم، يمنعكم من الإسلام دعاؤكم لله ولدا، وعبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير» . فجادلوه في عيسى، وقالوا: من أبوه «2» ؟ فروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ردّ عليهم قائلا: «ألستم تعلمون أنّ الله حيّ لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟» . قالوا: بلى. قال صلى الله عليه وسلم: «ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كلّ شيء، يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟» . قالوا: بلى. قال صلى الله عليه وسلم: «فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟» . قالوا: لا. قال صلى الله عليه وسلم: «ألستم تعلمون أنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟» . قالوا: بلى.

_ (1) ضعيف، رواه محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس كما في تفسير ابن كثير، وفيه محمد بن أبي محمد وهو الأنصاري، قال الذهبي: «لا يعرف» ، وأما ابن حبان فوثقه. (2) إلى هنا رواه ابن إسحاق في مرسل محمد بن جعفر بن الزبير السابق. وأما الرواية الاخرى فلم أجدها الان مسندة بهذا التمام، وإنما جاء بعضها في حديث عبد يسوع المتقدم.

قال صلى الله عليه وسلم: «ألستم تعلمون أنّ ربّنا صوّر عيسى في الرّحم كيف يشاء؟ وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشّراب، ولا يحدث الحدث؟» . قالوا: بلى!. قال صلى الله عليه وسلم: «ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمّه كما تحمل المرأة، ثمّ وضعته كما تضع ولدها، ثم غذي كما يغذى الصبيّ، ثم كان يأكل الطعام، ويشرب الشراب، ويحدث الحدث؟» . قالوا: بلى. قال صلى الله عليه وسلم: «فكيف يكون هذا كما زعمتم؟» . فقالوا: ألست تقول في عيسى: إنّه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه؟ قال صلى الله عليه وسلم: «بلى» . فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الجدل يتمادى بالقوم، وأنّهم مصرّون على اعتبار عيسى إلها أو ندّا للإله قال لهم: «أقيموا غدا حتّى أخبركم» . فنزلت ايات المباهلة: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) [ال عمران: 59- 61] . فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد، وقد أقبل بنفسه، وحفيديه الحسن والحسين، وابنته فاطمة. واستعدّ أن يشترك مع وفد نجران في صلاة جامعة تستنزل فيها لعنة الله على المفترين. واستمع وفد نجران إلى هذا الاقتراح، فأوجسوا خيفة من قبوله! من يدري؟ قد يكون محمد صادقا في أنّ عيسى بشر مثله ويكونون- هم- واهمين في انتحال الألوهية له. فلماذا يبتهلون إلى الله أن يمحقهم؟!. ونظروا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وطفليه وابنته، فشعروا أن الكاذب منهما لن يهلك واحده بل ستهلك معه أسرته، فخشوا على أولادهم وأهليهم البوار إن هم قبلوا هذه المباهلة، ثم خلصوا نجيا.

قال بعضهم للاخر: إن كان هذا الرجل ملكا، فلن نأمن طعننا عليه وخصامنا له، فإنّ دولته مقبلة، وربما أصابنا قومه بجائحة. وإن كان نبيّا مرسلا فلاعنّاه، فلن يبقى على وجه الأرض منا شعرة ولا ظفر إلا هلك، فما الرأي؟. فجاءه متحدث القوم شرحبيل بن وداعة، وقال له: رأيت خيرا من ملاعنتك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما هو؟» . قال: أدع لك الحكم فينا فمهما قضيت فهو جائز! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعلّ وراءك أحدا يثرّب عليك؟» فقال شرحبيل: سل عني. فلما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عنه أخبر أن أهل الوادي لا يصدرون ولا يردون إلا عن رأيه، فقال: «جاحد موفق» . ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلاعنهم، وعقد معهم صلحا، أصبحوا بمقتضاه من رعايا الدولة الإسلامية. وجاء في شروط هذا الصلح: «أنّ لنصارى نجران جوار الله وذمة محمد النبي على أنفسهم وملتهم، وأرضهم وأموالهم، وغائبهم وشاهداهم، وعشيرتهم وتبعهم. وألايغيّروا مما كانوا عليه، ولا يغير حق من حقوقهم ولا ملتهم، ولا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير. وليس عليهم ريبة ولا دم جاهلية، ولا يحشرون- يكلفون- بجهاد، ولا يعشّرون- يكلفون بزكاة- ولا يطأ أرضهم جيش. ومن سأل منهم حقا فبينهم النّصف غير ظالمين ولا مظلومين، ومن أكل ربا فذمتي منه بريئة، ولا يؤخذ رجل منهم بظلم اخر. وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة محمد رسول الله حتى يأتي الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير منقلبين بظلم» . وشهد على هذه المعاهدة أبو سفيان بن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف، والأقرع بن حابس، والمغيرة بن شعبة. فماذا كلّف به نصارى نجران بإزاء هذه الحقوق؟ أن يدفعوا للدولة ألفي حلة في السنة! وهي بدل تافه عن الزكاة التي يدفعها المسلمون واحدهم، والجهاد الذي يحملونه واحدهم. وتلك هي الجزية التي ضربت على نجران بعد المفاوضات التي رأيت.

وبذلك قطع الإسلام الصلة بين أولئك العرب المتنصرين وبين دولة الروم التي يشتبك معها في الحرب، بعد ما ضمن الحرية الدينية لمن سالموه وكفّوا عنه. ونحن نسأل- على وجه التحدي-: هل عاملت الطوائف المسيحية بعضها بعضا بهذه السماحة الرائعة؟ أم كان ذلك مسلكا أضاء به الإسلام واحده ظلمات القرون الأولى؟. ثم نسأل مرة أخرى: هل احترم أهل الكتاب ما عليهم من واجب؟ وهل أنصفوا الدين الذي رعى ذمامهم؟. لقد دخلت السنة العاشرة على الإسلام وهو يبسط تعاليمه على حساب الوثنية المتقلصة، فإذا بعض القبائل في الجنوب تثور ضده تحسب أنّ رجلا من قريش ملك العرب بادعاء النبوة، فليس يعجزها أن تقدم من مفاليكها من يزعم النبوة كذلك!! لعلّه يملك مثل ما ملك محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. ومن المؤسف أنّ النصارى في جنوب الجزيرة ساعدوا في إشعال هذه الثورات، وأنّ نصارى نجران كاتبوا الأسود العنسي فسار إليهم- وهو أحد المتنبئين- ثم رحل عنهم إلى اليمن، فملكها، حتى قتلته امرأته هناك، وأراحت الأرض منه. أكانت هذه الفتن معاونة لنصارى الشمال في حربهم ضد الإسلام، أم كانت شغبا يمليه الكره المجرد فحسب؟. وما فعله نصارى نجران في تأييد الأسود العنسي فعل مثله نصارى تغلب في تأييد مسيلمة الكذاب حين ادّعى- هو الاخر- أنّه نبي!. ونحن نفهم أن يرفض أهل نجران وبنو تغلب الدخول في الإسلام، وأن يؤثروا البقاء على ما اقتنعوا به من ديانتهم الموروثة، لكننا لم نفهم بتة أن يكذّب رجل بصحف الوحي، وأن يؤمن- مثلا- بالبعكوكة «1» . ذاك إن كانوا قد آمنوا حقا بالأسود ومسيلمة.. أما إذا كان الأمر لا يعدو الإعانة على حرب الإسلام بأي سلاح ومع أي حليف، فهذه مسألة أخرى يحتار في علاجها أطباء القلوب «2» .

_ (1) صحيفة هزلية. (2) راجع كتابنا (التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام) ، وهو من منشورات دار القلم بدمشق.

أمهات المؤمنين

(8) أمّهات المؤمنين

[زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأمهات المؤمنين وكلمة عن تعدد الزوجات]

[زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأمهات المؤمنين وكلمة عن تعدّد الزوجات] [كلمة عن تعدد الزوجات] : أثار بعض الكاتبين غبارا حول مبدأ تعدد الزوجات، وحاولوا تقييد ما أباحه الإسلام من ذلك أو منعه، محتجين- تارة- بأن الإسلام لم تثبت فيه هذه الإباحة بصورة حاسمة، وتارة أخرى بأنّ تطوّر الحياة وصالح الجماعة يقتضيان أن يكتفي الرجل بامرأة واحدة لا يعدوها، وحسبه أن يوفّق في رعايتها وكفالة أولاده منها ... !. ولا شكّ أن هذه الأفكار تولّدت في بيئاتنا نتيجة عوامل شتى تحتاج إلى حسن النظر وقوة الرد، ومنذ سنين حاول خصوم التعدد أن يستصدروا قانونا بذلك، ثم توقفت محاولاتهم أمام غضب العلماء وهياج الجماعات المشتغلة بالشؤون الإسلامية. وقد كتبت انئذ كلمة في طبيعة التعدد، أرى إثباتها هنا بين يدي الموضوع الذي نتحدّث فيه؛ لما لها من صلة ظاهرة به: للحياة قوانين عمرانية واقتصادية ثابتة، تفرض نفسها على الناس حتما، عرفوها فاستعدوا لمواجهتها، أم جهلوها فظهرت بينهم اثارها. وصلة الرجل الفرد بعدد من النساء من الأمور التي تبتّ فيها الأحوال الاجتماعية، ويعتبر تجاهلها مقاومة عابثة للأمر الواقع. وذلك أن النسبة بين عدد الرجال والنساء، إما أن تكون متساوية، وإما أن تكون راجحة في إحدى الناحيتين. فإذا كانت متساوية، أو كان عدد النساء أقل، فإن تعدد الزوجات لا بد أن يختفي من تلقاء نفسه، وستفرض الطبيعة توزيعها العادل قسرا، ويكتفي كل امرئ طوعا أو كرها- بما عنده. أما إذا كان عدد النساء أربى من عدد الرجال، فنحن بين واحد من ثلاثة: 1- إما أن نقضي على بعضهن بالحرمان حتى الموت.

2- وإما أن نبيح اتخاذ الخليلات، ونقر جريمة الزنى. 3- وإما أن نسمح بتعدد الزوجات. ونظن أن المرأة- قبل الرجل- تأبى حياة الحرمان، وتأبى فراش الجريمة والعصيان. فلم يبق أمامها إلا أن تشرك غيرها في رجل يحتضنها وينتسب إليه أولادها، ولا مناص بعدئذ من الاعتراف بمبدأ التعدد الذي صرّح به الإسلام. ثم إن هناك اختلافا كبيرا بين أنصبة الرجال من الحساسية الجنسية، فهناك رجال أوتوا حظّا من كمال الصحة، ويقظة الغريزة، ونعومة العيش لم يؤته غيرهم. والمساواة بين رجل بارد المشاعر من نشأته، واخر قريب الاستثارة، واسع الطاقة، أمر بعيد عن العدالة، ألسنا نبيح لذوي الشهية المتطلعة مقادير من الطعام، لا نبيحها للممعودين والضعفاء؟. فهذه بتلك. وثمّ حكمة أخرى: قد تكون الزوجة على حال من الضعف أو المرض أو العقم أو تأخر السن، فلماذا تترك لهذه الأعذار؟. إن من حق العشرة القديمة أن تبقى في كنف الرجل، وأن تأتي إلى جانبها امرأة أخرى تؤدي وظيفة الزوجة أداء كاملا. ومع المبرّرات الكثيرة للتعدد، فإنّ الإسلام الذي أباحه رفض رفضا باتا أن يجعله امتدادا لشهوات بعض الرجال وميلهم إلى المزيد من التمتاع والتسلط. فالغرم على قدر الغنم، والمتاع الميسّرة تتبعها حقوق ثقيلة. ومن ثمّ فلا بد- عند التعدد- من تيقن العدالة التي تحرسه. أما إذا ظلم الرجل نفسه أو أولاده أو زوجته، فلا تعدّد هناك. الذي يعدّد يجب أن يكون قادرا على النفقة اللازمة. وإذا كان الشارع يعتبر العجز عن النفقة عذرا عن الاقتران بواحدة، فهو- من باب أولى- مانع من الزواج بما فوقها. إن الشارع يوصي الشباب الأعزب بالصيام ما دام لا يستطيع الزواج، ويأمر العاجز عن الواحدة بالاستعفاف:

وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور: 33] . فكيف الحال بمن عنده واحدة؟! إنه بالصبر أحق، وبالاستعفاف أولى.. وكثرة الأولاد تتبع- عادة- كثرة الزوجات، والإسلام يوجب رعاية العدل مع الأولاد في التربية، والتكريم، ووسائل المعيشة، مهما اختلفت أمهاتهم، وفي الأثر: «لعن الله من استعقّ أولاده» «1» ، فعلى الأب المكثر أن يحذر عقبى الميل مع الهوى. وكذلك يوجب الإسلام العدل مع الزوجات. ولئن كان الميل القلبي أعصى من أن يتحكم فيه إنسان، فإن هناك من الأعمال والأحوال ما يستطيع كلّ زوج فيه أن يرعى الحدود المشروعة، وأن يزن تصرّفه بالقسط، وأن يخشى الله فيما استرعاه من أهل ومال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله سائل كلّ امرئ عمّا استرعاه؛ حفظ ذلك أم ضيّعه» «2» . وقال: «بحسب امرئ من الإثم أن يضيّع من يعول» «3» . تلك حدود العدل الذي قرنه الله بالتعدد؛ فمن استطاع النهوض بأعبائها فليتزوج مثنى وثلاث ورباع، وإلا فليكتف بقرينته الفذة: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً [النساء: 3] . وقرأت لبعض الصحفيين يعترض على مبدأ التعدد: لماذا يعدّد الرجال الزوجات ولا تعدّد النساء الأزواج؟ ولقد نظرت إلى هؤلاء المتسائلين، فوجدت

_ (1) لا أعرفه، ونحوه ما رواه الطبراني عن أبي هريرة مرفوعا: «أعينوا أولادكم على البر، من شاء استخرج العقوق من ولده» . لكن في سنده من لا يعرفون. (2) عزاه في الجامع الصغير للنسائي وابن حبان في صحيحه عن أنس؛ وقد فتشت عنه في سنن النسائي الصغرى في مظانه فلم أجده؛ فلعله في سننه الكبرى التي لم تطبع، وقد وفقت في الوقوف على إسناده، فأخرجه أبو نعيم في (حلية الأولياء) : 9/ 235، عن النسائي بسنده عن قتادة عن أنس، وكذلك رواه أبو نعيم أيضا: 6/ 281، من غير طريق النسائي، والسند صحيح إن كان قتادة سمعه من أنس، فإنه موصوف بشيء من التدليس. (3) «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت» . أخرجه أبو داود: 1/ 268، وغيره من حديث ابن عمر، وصحّحه الحاكم: 1/ 415، ووافقه الذهبي: ورواه مسلم: 3/ 78، من طريق أخرى عنه نحوه.

جمهورهم بين داعر أو ديّوث أو قوّاد، وعجبت لأنّهم يعيشون في عالم من الزنى، ويكرهون أشدّ الكره إقامة أمر الأسرة على العفاف. والجواب على هذا التساؤل المريض أنّ الهدف الأعلى من التواصل الجنسي هو إنشاء الأسرة وتربية الأولاد في جو من الحضانة النظيفة، وهذا لن يكون في بيت امرأة يطرقها نفر من الناس يجتلدون للاستحواذ عليها، ولا يعرف لأيّهم ولد منها. ثم إنّ دور المرأة في هذه الناحية دور القابل من الفاعل، والمقود المحمول من القائد الحامل، وإنّك لتتصور قاطرة تجر أربع عربات، ولا تتصور عربة تشد أربع قاطرات، ومن الكفر بطبائع الأشياء المماراة في أنّ الرجال قوّامون على النساء. على أنه من المؤسف حقا، أن يهدر العوام هذه الحدود، وأن يتجهوا إلى التعديد دون وعي لمعنى العدل المفروض، بل تلبية لنداء الشهوة، ولو أدى إلى الافتئات والجور الصارخ. فالرجل قد يعجز عن نفقة نفسه، ثم هو يسعى إلى الزواج. وقد يعجز عن رعاية واحدة، ثم هو يبحث عن غيرها!!. وقد يحيف على بعض أولاده في التعليم، وفي توزيع الثروة تمشيا مع هواه، وقد يتزوّج الاخرى؛ ليهجر الأولى ويذرها كالمعلقة. وربما ترى الرجل يستطيع البناء بأربع، والإنفاق على ما ينجبن من بنين وبنات؛ ومع ذلك الاقتدار، فهو يحيا على التسوّل الجنسي، والتقلّب في أحضان الساقطات؛ فما دواء هذه الفوضى؟. هل منع التعدد يشفي الأمة من هذه الأدواء؟. كلا! إنّ تقييد مباح ليس مما يعيي سياسة التشريع في الإسلام. إلا أنّ مبدأ التعدد لو سكت الدين عن إبداء الرأي فيه؛ لوجب أن نبدي نحن- الرأي فيه ونقول بإباحته؛ صيانة للمصلحة العامة التي أوضحناها في صدر هذا الكلام. ولكنّ إقرار القاعدة شيء، وسوء تطبيقها شيء اخر.

[زواجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة] :

وعند ما يجيء دور التشريع في إصلاح مجتمعنا وإقامة عوجه- من هذه الناحية- فلتتجه همة الباحثين إلى ضبط وسائل العدل ومظاهره إن أرادوا. أما الخبط في مبدأ التعدد نفسه، ومحاولة النيل منه فهو عبث. وأستطيع القول: بأنّه أثر من اثار الغزو الصليبي الحديث لبلاد الإسلام. فإنّ النصرانية- دون سائر الأديان من عهد نوح- انفردت بتحريم «1» التعدد، وحبس الرجل- مهما كان شأنه- على امرأة واحدة، وترك المجتمع بعد ذلك يعالج كثرة النساء، وهياج الغرائز بوسائله الاخرى. وفي طبقات كثيرة الان ينظر إلى التعدد على أنه منكر! وإلى الزنى على أنه مسلاة تافهة! أي أنّ المشكلة الان مشكلة الدين كله والأخلاق كلها. وتقييد التعدد- والحالة هذه- محاولة سمجة؛ لتلويث المجتمع على حساب الإسلام وباسم القانون. إنّ جمهورا كبيرا من النبيين والصالحين تزوّج بواحدة وبأكثر من واحدة، ولم يخدش ذلك تقواه، وفي صحف العهد القديم الموجودة الان ما يؤيد ذلك. والإسلام لا يرى التبتّل عن النساء عبادة- كما يفعل الرهبان- ولا الزواج إلى أربع معصية كما ينسب إلى النصرانية. إنّما المعصية ترك الغريزة الجنسية تتنزّى كيف تشاء، أو في كبتها لتتسرّب وراء وراء، كما تتسرّب المياه الجوفية تحت أديم الغبراء. [زواجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة] : والمحفوظ من سيرة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم أنه تزوج بالسيدة خديجة وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وكانت هي في سن الأربعين، وظلّ معها واحدها لا يضمّ إليها أخرى، حتى تجاوزت السيدة الفضلى الخامسة والستين. وماتت وهو- صلوات الله وسلامه عليه- فوق الخمسين. ولم يجرؤ أحد من أشدّ خصومه لددا أن ينسب إليه دنسا، أو يتهمه بريبة.

_ (1) نحن نعتقد أن التعدد هو حكم الله في الأديان كلها- ومن بينها النصرانية-، ولا نقيم وزنا لما عداه من قوانين وضعية.

[عائشة وحفصة وأم سلمة وسودة رضي الله عنهن] :

في هذه الفترة الخصيبة الرحبة من عمر الإنسان كان رونق العفاف والشرف يتألّق في جبينه حيث سار. ولو أنّه أحب التزوّج بأخرى ما عاقه مانع من شرع أو عقل أو عادة، فإنّ التعدد كان مألوفا بين العرب، معروفا في ديانة أبي الأنبياء إبراهيم، إلا أنّه ظل مكتفيا بمن استراح إليها واطمأنّ بصحبتها، ولو أنّها طعنت في السن، وبقي هو في كمال قوته وتمام رجولته، ولهذا المسلك دلالته القاطعة. فلما انتقلت السيدة خديجة رضي الله عنها وأحبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتزوج، لم يكن البحث عن الجمال في مظانه هو الباعث له على تخيّر شريكته في حياته أو شريكاته، ولو قد فعل ذلك ما تعرّض للوم. بيد أنّ الباعث الأول كان الارتباط بالرجال الذين ازروه في دعوته وعاونوه في رسالته. [عائشة وحفصة وأم سلمة وسودة رضي الله عنهن] : فاختار عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما على صغر سنها، واختار حفصة بنت عمر رضي الله عنهما على قلة وسامتها. ثم اختار أمّ سلمة رضي الله عنها أرملة قائده الذي استشهد في سبيل الله، وعانت معه امرأته ما عانت في الهجرة إلى الحبشة وفي الهجرة إلى المدينة. ومن قبل هؤلاء كانت معه سودة رضي الله عنها وهي امرأة نزلت عن حظها من الرجال لكبرها وعزوفها. والعيشة مع أولئك الأربع لا تقوم على متاع ملحوظ ودنيا سارة. ولو قد قامت على ذلك ما كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرج، فلأي مؤمن أن يستمتاع بأربع نسوة، وتحقيق العدل متيقن في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قد تقول: لكن الرسول صلى الله عليه وسلم مات عن تسع نسوة فكيف وقع هذا، ولم نال ما لم ينل غيره؟!. أليس هذا فتحا لباب التشهّي، وإجابة لدواعي الملذة؟. ونقول: أين مكان المتعة في حياة رجل لم يسترح يوما من عناء الكفاح الموصول والجهاد المضني؟. إن حملة الرسالات الإنسانية المحدودة تعييهم هموم العيش ومشكلات

[زواجه بالسيدة زينب رضي الله عنها] :

الشعوب، فلا يحظون بساعة راحة إلا ليستجموا قليلا، ثم ينهضوا لاستئناف اللغوب! فكيف بصاحب الرسالة العظمى؟ ولقد لقي من العرب ما رأيت! ونسأل أيضا: ما مكان المتعة في حياة رجل عزف عنها وهو شاب، فكيف يغرق فيها وهو شيخ؟!. إنّ الظروف التي أحاطت بالزوجات الخمس الاخرى، تجعل البناء بهن بعض ما كلف الرسول صلى الله عليه وسلم بتجشمه من سياسة الأفراد والجماعات، وبعض ما كلف بتحقيقه من إقامة الخير ومحو الضر. [زواجه بالسيدة زينب رضي الله عنها] : خذ مثلا زواجه بزينب بنت جحش رضي الله عنها، كان هذا الزواج امتحانا قاسيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أمره الله به لإبطال تقليد شائع عند العرب، وأقدم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو شديد التحرج والحياء والأذى. وزينب هذه من قريبات الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يعرفها حق المعرفة من طفولتها، وقد رغب في أن يزوجها من زيد بن حارثة، فكرهت ذلك ورفض أخوها اعتزازا بما لأسرة زينب من مكانة، فهي في ذؤابة الشرف، وما زيد؟! إنه كان عبدا، ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكرمه فيما بعد وألحقه بنسبه فصار يدعى زيد بن محمد!!. إلا أن زينب لم تجد بدّا من الانصياع لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أراد أن يحطّم الاعتزاز بالأنساب، وأن ينكح زيدا زينب! فرضيت وفي نفسها غضاضة، وقبل أخوها وهو يؤدي حق السمع والطاعة فحسب، بعد ما نزل قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً (36) [الأحزاب] . ودخل زيد بزينب، فوجد امرأة مصروفة الفؤاد عنه، تسلّمه جسدها وتحرمه العطف والتقدير، فثارت رجولته، وقرر ألا يبقى معها، وتدخّل النبي صلى الله عليه وسلم بين الحين والحين لإصلاح ذات البين دون جدوى. في هذه الحال أوحى الله لنبيّه أن يدع زيدا يطلّق زوجته، وأن يتزوجها هو بعد انتهائها منه. فاعترى الرسول صلى الله عليه وسلم همّ مقلق لهذا الأمر الغريب، وساوره التوجّس من

الإقدام عليه، بل أخفاه في نفسه خوفا من مغبته، فسيقول الناس: تزوّج امرأة ابنه ... وهي لا تحلّ له!!. ولكن هذا الذي سيقوله الناس هو ما أراد الله هدمه، ويجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفذه دون تهيب. وقد تريّث النبيّ صلى الله عليه وسلم في إنفاذ أمر الله، ولعلّه ارتقب من الله- لفرط تحرجه- أن يعفيه منه، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فعند ما جاء زيد يشكو امرأته، ويعرض نيته في تطليقها، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أمسك عليك زوجك واتق الله» . عند ذلك نزل الوحي يلوم الرّسول صلى الله عليه وسلم على توقّفه، ويعتب عليه تصرّفه، ويحضّه على إمضاء رغبة زيد في فراق امرأته، ويكلّفه بتزوجها، ولو قال الناس: تزوّج امرأة ابنه، فإنّ ادّعاء البنوة لون من التزوير، تواضع عليه العرب مراغمة للحق، وينبغي أن يقلعوا عنه، وأن يهدروا نتائجه، وليكن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، وبمن التصق به أول ما يهدم ماثر الجاهلية في العرف الشائع. هذه هي القصة كما بدأ القران الكريم يرويها: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً [الأحزاب: 37] . على أنّ الغريب في هذه القصة ما أدخله المغفّلون عليها من دسائس الشهوة ومظاهر الحبّ الرخيص، فقد زعموا أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أحبّ زينب، ثم كتم هذا الحب، ثم ظهر، فتزوجها بعد ما طلقت!. ثم زعموا أنّ صدر الاية السابقة جاء عتابا له عن هذه العاطفة المكبوتة. ونحن نتعجّب أشدّ العجب لهذا الخبط الهائل، ومحاولة تلبيس الحق بالباطل. من كان يمنع محمدا صلى الله عليه وسلم من الزواج بزينب وهي قريبته- بنت عمته- وهو الذي ساقها إلى رجل لم تكن فيه راغبة، وطيّب خاطرها لترضى به؟!. أفبعد أن يقدّمها لغيره يطمع فيها؟!. ثم لننظر إلى الاية، وما يزعمون أنها تضمنته من عتاب.

إنهم يقولون: الذي كان يخفيه النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، ويخشى فيه الناس دون الله هو ميله لزينب، أي أنّ الله- بزعمهم- يعتب عليه عدم التصريح بهذا الميل!. ونقول: هل الأصل الخلقي أنّ الرجل إذا أحب امرأة لغط بين الناس مشهّرا بنفسه وبمن أحبّ؟ وخصوصا إذا كان ذا عاطفة منحرفة، جعلته يحب امرأة رجل اخر؟. هل يلوم الله رجلا لأنّه أحبّ امرأة اخر فكتم هذا الحبّ في نفسه، أكان يرفع درجته لو أنّه صاغ فيها قصائد غزل؟. هذا والله هو السفه!. وهذا السفه هو ما يريد بعض المغفّلين أن يفسّروا به القران!!. إنّ الله لا يعاتب أحدا على كتمان حبّ طائش، وإنّما سياق الواقعة هو كما قصصنا عليك. فالذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه تأذّيه من هذا الزواج المفروض، وتراخيه في إنفاذ أمر الله به، وخوفه من لغط الناس عند ما يجدون نظام التبني- كما ألفوه- قد انهار. وقد أفهم الله نبيّه أنّ أمره لا يجوز أن يقفه توهّم شيء ما. وأنّه- بإزاء التكليف الأعلى- لا مفرّ له من السمع والطاعة، شأن من سبقه من المرسلين. وإذا عدت إلى الاية التي تتضمّن القصة؛ وجدتها ختمت بقوله تعالى: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [الأحزاب: 37] أي من حقه أن يقع حتما. ثم أعقبها ما يؤكد هذا المعنى: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) [الأحزاب] . إنّك عند ما تثبّت قلب رجل تقول له: لا تخش إلا الله. إنّك لا تقول ذلك له وهو بصدد ارتكاب معصية، إنما تقول ذلك له وهو يبدأ القيام بعمل فاضل كبير، يخالف التقاليد المتوارثة. وظاهر في هذه الايات كلّها أنّ الله لا يجرّئ نبيّه على التدلّه بحب امرأة،

[زوجات أخريات] :

إنما يجرئه على إبطال عادة سيئة يتمسّك الناس بها، ويراد منه كذلك أن ينزل على حكمها، لذلك يقول الله- بعد ذلك مباشرة- وهو يهدم نظام التبني: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) [الأحزاب] . [زوجات أخريات] : أما السيدات الاخريات اللاتي بنى بهن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهن نساء تنميهن أصول عريقة حتى ليعتبرن بنات ملوك!. وقد أحاطت بهن- عند دخول الإسلام- ملابسات، لا يليق أن يجهلها قائد دعوة. فأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب سيد قريش وقائدها عشرين سنة في حرب الإسلام أو يزيد، أئذا أسلمت وراغمت أباها وقومها في ذات الله، ثم هاجرت إلى الحبشة تاركة مكة حيث يسود أبوها وتعلو كلمته؟. أترى مثل هذه السيدة إذا مات زوجها تترك لمن يخدش مكانها؟. لقد ضمّها النبي صلى الله عليه وسلم إلى زوجاته، إعزازا لشأنها وتقديرا لصنيعها. وصفية بنت حيي ، كان أبوها ملك اليهود. وفي الصراع بين بني إسرائيل والإسلام هلك أبوها وأخوها وزوجها، ووقعت في سهم جندي، لا يعرف إلا أنها أسيرة حرب، من حقه بملك اليمين أن يسلك معها كيف يشاء. فإذا رقّ النبي صلى الله عليه وسلم لحالها، ووهبها حريتها، ثم جبر كسرها، وقدّر ماضيها، فتزوجها ليستطيع- بإحسانه وإكرامه- تطييب خاطرها، فهل ذلك مما يلام عليه؟. وجويرية بنت الحارث ، إنّ أباها زعيم بني المصطلق، وقد انتهت حربه مع المسلمين بهزيمة نكراء، وكادت قبيلته تهون وتذل عقب هذه الهزيمة، فواسى النبي صلى الله عليه وسلم القائد المهزوم، ثم أصهر إليه، حتى يشعر المسلمين بما ينبغي لأتباعه من كرامة ومعونة، وقد وقع ما أحبّه النبي صلى الله عليه وسلم، فعادت الحرية إلى القبيلة رجالا ونساء، إذ تحرج المسلمون أن يسيئوا إلى قوم تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنتهم. وقد يسبق إلى أذهان البعداء عن السيرة أنّ حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاصة قامت على التوسع في المطاعم والمشارب ... والمتاع الاخرى.

والصورة التي قد ترتسم بادئ الأمر لرجل عنده نساء أنه مغمور بالسعادة المادية، يقوم بيته على الموائد الحافلة باللحوم والفواكه، ويرتوي من الأشربة التي تسري في أوصاله بالنشوة، ثم يتقلب يبن أحضان البيضاوات والشقراوات، ويصبح يستقبل الدنيا بعد ذلك خالي البال!!. وقد تكون هذه الصورة مساوية أو مقاربة لما يدور في قصور الملوك، لكن حذار أن تسفّه نفسك فتحسب شية من هذا العيش الرخيّ في بيوت محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه. انتقل على عجل إلى لون اخر من الحياة الخشنة؛ لترى فيه رجلا تعلقت همته بالحق واحده، فهو ينتعش بمعرفته، ويجتهد لجمع الناس عليه، وقرة عينه في خطوة تقربه من غايته شبرا، أما أهواء الدنيا فهي تحت قدميه ودبر أذنيه. إذا استطاعت قذائف المدافع على ظهر الأرض أن تبلغ النجوم البعيدة، ما استطاعت مغريات الحياة أن تقترب من قلب محمد الزكي النقي صلى الله عليه وسلم. ذاك إنسان اصطفته العناية؛ فهو يحلّق في مدى اخر يقول فيه: «ما لي وللدّنيا؟! إنّما أنا كرجل قال «1» تحت ظلّ الشّجرة ثمّ راح وتركها» «2» . يربط همم البشر بالمثل العليا، وما تصير إليه عند الله، فيقول: «موضع سوط في الجنّة خير من الدّنيا وما فيها، ولغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها» «3» . وحياته مع زوجاته نهج من الشظف لا يطيقه أحد. روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما أعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرقّقا حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطا بعينه قطّ!!.

_ (1) قال: من القيلولة: وهي شدة حر الشمس في الظهيرة. (2) صحيح، أخرجه الترمذي: 3/ 278؛ وصحّحه ابن ماجه: 2/ 525- 526؛ والحاكم: 4/ 310، وأحمد، رقم (3709، 4208) عن ابن مسعود، وله شاهد عن ابن عباس، رواه أحمد (2744) وإسناده حسن، وصحّحه الحاكم على شرط البخاري ومسلم؛ ووافقه الذهبي. (3) صحيح أخرجه البخاري: 11/ 194، بتمامه؛ ومسلم: 6/ 35، بالشطر الثاني عن سهل بن سعد.

وعن عائشة قالت: إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار!. فقال لها عروة بن الزبير: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء. وقالت عائشة أيضا: «لقد توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في رفّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفّ لي..» . أما الفراش الذي يأوي إليه هذا النبي صلى الله عليه وسلم فهو من أدم- جلد- حشوه ليف «1» يثوي فيه قليلا، فما أن يستدفئ به حتى يسمع الصارخ- الديك- فينهض متأهبا لصلاة الفجر. ولا نعني بهذا الوصف أنّ الإسلام يعاف الطّيبات، أو أن نبيّه يسنّ للناس تركها. كلا، فشريعة الإسلام في هذا بيّنة نيّرة، وإنّما نسرد الواقع من حياة رجل صدفت نفسه عما يقتتل الناس عليه، إنّ الرجل قد يترك لأولاده الصغار لعبة يفرحون بها ويختصمون عليها؛ لأنّ طبيعة رجولته في شغل عن عبث الصبية. إنّ بعض المخترعين والمفكرين يذهلون عن الطعام المهيأ لهم، لا ازدراء له، ولكن استغراقا فيما ملك عليهم مشاعرهم. وكأنّي أتخيل النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يرى سواد الناس يتفانون على الحطام الذاهب فيهز رأسه أسفا، ويقول: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» «2» . ثم يضرع إلى الله: «اللهم اجعل رزق ال محمد قوتا» «3» . إنّ من الزراية بالعقل، والجور الفاحش على التاريخ، أن يجيء رجل من عرض الطريق، فيرى أو يقال له: إنّ محمدا كان لديه نسوة عديدات. فيظنّ المسكين أنّ ذلك دلالة استكثار من الشهوات وتشبّع من الدنيا. ولا يحسبنّ أحد هذا الاخشيشان فعل من لا يجد! وأنه لو فتحت إلى بيوت

_ (1) صحيح، أخرجه البخاري: 11/ 245، عن عائشة أيضا. (2) صحيح، أخرجه البخاري: 11/ 268، من حديث أبي هريرة وأنس. (3) صحيح، أخرجه البخاري: 11/ 246؛ ومسلم: 8/ 217، واللفظ له من حديث أبي هريرة، وليس هو تمام الحديث الذي قبله كما قد يتبادر من عبارة المؤلف، بل كل من الحديثين مستقل عن الاخر، ولا يدرى المتقدم منهما من المتأخر.

النبيّ صلى الله عليه وسلم نافذة تطلّ على بحبوحة الحياة الرغدة، لاستمتاع واكتنز، واستمتاع نسوته وابتهجن. لا، كان قادرا أن يحتجز من المال الذي يمر به ويحكم فيه ما يشاء، لو يشاء، لكنّ هذا النبي السمح صلى الله عليه وسلم كان فوق التطلع إلى اللذات الصغيرة؛ لأن عينيه ترمقان هدفا أسمى، ولو سيقت إليه خزائن الأرض لفكّر- قبل كلّ شيء- في إشباع نهمة الناس منها. عن أبي ذر: كنت أمشي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حرّة المدينة، فاستقبلنا أحد، فقال: «يا أبا ذر» ، قلت: لبيك يا رسول الله، فقال: «ما يسرّني أنّ عندي مثل أحد ذهبا، تمضي عليّ ثالثة وعندي منه دينار- إلا شيئا أرصده لدين- إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا» ، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه. ثم مشى فقال: «إنّ الأكثرين هم الأقلّون يوم القيامة، إلا من قال، هكذا وهكذا وهكذا- عن يمينه وعن شماله ومن خلفه- وقليل ما هم» «1» . إنّ أشهى الطعام في فم الرجل الشبعان الممتلئ لا مذاق له، وقد كان هذا النبيّ صلى الله عليه وسلم شبعان القلب، فما يخفّ إليه غيره من زينة الدينا لا يحرّك منه شعرة، فلا غرو إذا بعثر ما يصل إليه على المحتاجين والمترقبين، أما هو فغناه في قلبه. ذاك أدب أخذه الله به من قديم، منذ قال له: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) [طه] . غاية ما يبغيه هذا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينجو من ماسي الدنيا ومظالم البشر، فلا تستذله أو تستذل أهله فاقة!. إنّه يعيش على قاعدة: «ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى» «2» ، وفي حدود

_ (1) صحيح، أخرجه البخاري: 11/ 220- 222؛ ومسلم: 3/ 75، عن أبي ذر. (2) هذا حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح، فكان ينبغي التصريح بذلك، أخرجه أحمد: 5/ 197، وكذا الطيالسي، رقم (979) في حديث لأبي الدرداء. وسنده صحيح على شرط مسلم؛ وعزاه المنذري: 2/ 39، لابن حبان في صحيحه والحاكم؛ ورواه أبو يعلى من حديث أبي سعيد الخدري، وكذا الضياء المقدسي في (الأحاديث المختارة) ، والطبراني من حديث أبي أمامة.

هذا القليل الكافي يودّ أن يخلص من عقابيل الخلق، لا له ولا عليه، ولذلك كان يدعو الله: «اللهم إني أعوذ بك من الفقر والفاقة، والقلّة والذّلّة، وأن أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل عليّ» «1» . ويقول: «اللهم إني أسألك الهدى والتّقى والعافية والغنى» «2» - الاستغناء-. وهذا المنهج الصارم في المعيشة تقاضى نساءه أن يتحملن شدّة ما كنّ يعرفنها من قبل، لقد جئن إليه من بيوتات كبيرة. وأكثرهنّ اعتادت في صدر حياتها الزاد الطيب والنعمة الدافقة، إما مع ابائهن وإما مع رجالهن السابقين. فلا عجب إذا تململن من هذه الحياة الجديدة، وطلبن الرغد والنعومة، واجتمعن- على ما بينهنّ من خلاف- ليسألن الرسول صلى الله عليه وسلم مزيدا من النفقة!. إنهنّ في بيت أعظم رجل في العرب، فيجب أن تتكافأ معيشتهن مع مكانتهن، وقد تزعّم هذه المطالب عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وتبعهن الباقيات رضي الله عنهن!!. وحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المظاهرة! إنّه المسلم الأول على ظهر الأرض وأبصار المؤمنين والمؤمنات ترنو إليه من كلّ ناحية، وهو بصدد بناء أمة تشق طريقها وسط ألوف مؤلفة من الخصوم المتربصين.

_ (1) صحيح، وهو مركب من حديثين: الأول: عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ... فذكره، دون قوله: «الفاقة» ، وقوله في اخره: «أو أجهل..» ، أخرجه هكذا أبو داود: 1/ 241؛ والنسائي: 2/ 315؛ والحاكم: 1/ 541؛ وأحمد: 2/ 305، 325، 354؛ وصحّحه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. والثاني: عن أم سلمة قالت: ما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: «اللهم إنّي أعوذ بك أن أضل أو أضلّ، أو أزلّ أو أزلّ أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل عليّ» . رواه أبو داود: 2/ 328- 329، وغيرهما، وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» ، ووافقه الذهبي وهو كما قالا، وصحّحه الترمذي. (2) صحيح بلفظ: «والعفاف» بدل «العافية» ، كذلك أخرجه مسلم: 8/ 81؛ والترمذي: 4/ 256، وصحّحه؛ وابن ماجه: 2/ 430؛ وأحمد، رقم (3692، 3904، 3950) عن ابن مسعود.

فإذا لم يعش بيته عيشة المجاهد المحصور، فكيف يواصل الكفاح، ويكلف الرجال والنساء من أمته أن يذهلوا عن كل شيء إلا السير بدينهم حتى يبلغ مأمنه؟!. لذلك رفض النبي صلى الله عليه وسلم الاستجابة لرغبات نسائه في توسيع النفقة، وكره منهنّ هذا التطلّع، فقرر مقاطعتهن، حتى شاع بين الناس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم طلّق نساءه جملة!. وفزع أبو بكر وعمر لهذه الإشاعة فابنة كليهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبا يستأذنان ليدخلا عليه، وليتعرفا جلية الخبر، فلمّا دخلا وجدا النبيّ صلى الله عليه وسلم صامتا، وحوله نساؤه واجمات!! وسأله عمر: أطلّقت نساءك يا رسول الله؟ قال: «لا» . إلا أنّ جوّ الحزن كان يخيّم على المكان، فقال عمر: لأكلمنّ رسول الله لعلّه يضحك. فقال: يا رسول الله! لو رأيت ابنة زيد- يعني زوجته- سألتني النفقة انفا فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدا ناجذه، وقال: «هنّ حولي يسألنني النفقة» . فقام أبو بكر إلى عائشة يؤدّبها، وقام عمر إلى حفصة. كلاهما يقول: تسألن النبيّ ما ليس عنده؟!. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم الأبوين أن يصنعا ببنتيهما شيئا. وكانت نساؤه- نادمات- يقلن: والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده. وهجرهنّ النبي صلى الله عليه وسلم شهرا، لا يتصل بهن، حتى يشعرن بما فعلن، ونزلت ايات التخيير من عند الله تطلب إليهنّ جميعا إمّا التجرّد للدار الاخرة مع رسول هذه طريقته في حياته، وإما اللحاق بأهلهنّ حيث الملابس الحسنة والماكل الدسمة. وكان هذا الدرس كافيا ليمحو اخر ما في أنفسهنّ من رغبة لم تتجاوز المباحات المشتهاة، فاخترن- جميعا- البقاء مع النبي صلى الله عليه وسلم على قاعدته العتيدة: «ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى» «1» ، وعشن معه للجهاد والتهجد، والبذل والمواساة، والتواضع والخدمة: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ

_ (1) سبق تخريجه، ص 443.

أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) [الأحزاب] «1» . فاثرن الله ورسوله والدار الاخرة ... وعشن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم معينات على الحق، راغبات في الثواب. وبهذا التفاني في خدمة الرسالة، والإهمال لمطالب النفس، رفع الله درجاتهن فلم يصبحن زوجات رجل يطلبن في ظلّه المتاع، بل صرن شريكات في حياة فاضلة غالية، واستحققن قول الله عز وجلّ: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ... [الأحزاب: 6] . وتوكيدا لهذه الأمومة الروحية شرع الحجاب الدقيق على أمهات المؤمنين، فلا يجوز لأحد من الأجانب أن يلتقي بهنّ ولو مع محرم. وسؤالهن في شؤون الدين والدنيا إنما يكون من وراء الحجاب، كما لا يجوز لأحد- بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم- أن يتزوّج بإحداهنّ. وبهذا التشريع الصارم قطع دابر الفضوليين والثقلاء، الذين يكثرون التردد على بيوت الزعماء، كما قطع دابر المتربصين منهم، الذي ينشدون الرفعة من وراء الاقتران بأولئك النساء، ولا نستغرب مثل هذا التشريع! فقد تأدّت الجرأة ببعض الناس أن يقول أحدهم: لو قبض النبيّ تزوجت عائشة! ومن حق النبي صلى الله عليه وسلم أن يصان شعوره، وأن يصدّ عنه وعن أهله أولئك الأعراب السفهاء. ولم يعقّب الرسول صلى الله عليه وسلم من زوجاته أولئك ولدا. أما بناته اللائي أعقبهنّ من خديجة فقد متن وهو حيّ، عدا فاطمة، فإنها بقيت بعده شهورا، ثم كانت أول أهله لحوقا به. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمارية التي بعث بها المقوقس إليه بعد أن أسلمت، وحملت منه، ثم وضعت له ابنا أسماه إبراهيم، باسم جدّه أبي الأنبياء، ولم يعمّر طويلا، بل مات وهو رضيع.

_ (1) رواه مسلم: 4/ 187؛ من حديث جابر، وهو والبخاري: 8/ 422، عن عائشة مختصرا.

قال أنس: لقد رأيته وهو يجود بنفسه بين يدي رسول الله. فدمعت عليه عينا النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قال: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلّا ما يرضي ربّنا، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون» «1» !. واتفق أنّ الشمس كسفت في ذلك اليوم، فتحدّث الناس أنّ الشمس كسفت لموت ابن النبي صلى الله عليه وسلم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم مصلّيا بالناس ثم قال: «يا أيها الناس! إنّ الشّمس والقمر ايتان من ايات الله عز وجلّ، لا ينكسفان لموت بشر، فإذا رأيتم شيئا من ذلك فصلّوا حتّى تنجلي» «2» .

_ (1) صحيح، أخرجه البخاري: 3/ 135، عن أنس. (2) صحيح، أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث المغيرة بن شعبة، وصحّ عن جماعة من الصحابة، ذكرت ألفاظهم والطرق إليهم في كتاب: (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم) في صلاة الكسوف وما رأى فيها من الايات.

حجة الوداع

(9) حجّة الوداع

استقرار:

حجة الوداع استقرار: زالت غبرة الجاهلية عن افاق الجزيرة كما تزول بقايا الليل أمام طلائع الشروق، وصحّت العقول العليلة فلم تعد تخشى وترجو إلا الله، بعد ما ظلّت دهورا تعبد أصناما جامدة، وسمع الأذان للصلوات يشقّ أجواز الفضاء خلال الصحراء التي أحياها الإيمان الجديد، وانطلق القرّاء شمالا وجنوبا يتلون ايات الكتاب، ويقيمون أحكام الله، ويعلّمون العرب ما لم يعلموا هم ولا اباؤهم. إنّ هذه الجزيرة- منذ نشأ فوقها عمران- لم تهتزّ بمثل هذه النهضة المباركة، ولم يتألّق تاريخها تألّقه في هذه الأيام الفريدة من عمرها. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم في المدينة يستقبل الوفود، ويشيّعها بعد ما ينفخ فيها من روحه الكبير، ويزودها بحكمته الباهرة، فتعود من حيث أتت؛ لتنشئ في مواطنها القصية معاقل للإسلام وصحائف بيضا في تاريخ أمة. ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بترقّب الوفود المقبلة، بل أرسل رجاله الكبار إلى الجنوب ليزيد رقعة الإسلام هناك اتساعا. فإنّ في اليمن وما حولها قبائل كثيفة العدد، ولأهل الكتاب السابقين نشاط قديم، وقد نشأ الإسلام هناك حقا وتقلّص ظل الفرس لغير عودة. إلا أنّ هذه البقاع النائية تحتاج مزيدا من رعاية وتفقّد. ومن ثمّ بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، ثم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري، ثم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين «1» . وكأنّ هاتفا خفيا انبعث في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعره أنّ مقامه في الدنيا يوشك على النهاية! فإنّه بعد أن علّم معاذ بن جبل كيف يدعو من يلقاهم، وكيف

_ (1) بعث هؤلاء الأربعة في صحيح البخاري: 8/ 49- 57.

حجة الوداع:

يعرّفهم دينهم خرج معه إلى ظاهر المدينة يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته!. فلما فرغ قال: «يا معاذ! إنك عسى ألاتلقاني بعد عامي هذا!! ولعلّك أن تمرّ بمسجدي هذا وقبري» ! فبكى معاذ خشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم التفت النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه نحو المدينة فقال: «إنّ أولى النّاس بي المتّقون، من كانوا وحيث كانوا» «1» . وقد وقع ما أومأ إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنّ معاذا أقام باليمن، حتى كانت حجة الوداع، ثم كانت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحج الأكبر بواحد وثمانين يوما، ومعاذ باليمن. وقد كان للعناية باليمن ما يبرّرها، فقد ظهر فيها وفي بني حنيفة دجّالان يزعمان النبوة. ولم يكن لكلا الدجّالين من خلال الرجولة وايات الخير ما يجمع عليه حفنة من الرجال. ولكنّ داء العصبية العمياء، جعل قبيلا كبيرا من الرعاع يقول: نحن نعلم أنّ مسيلمة كذاب، ولكنّ كذّاب ربيعة خير من صادق مضر!!. وقد اشتعلت فتن المتنبئين حينا، ثم داستها أقدام المجاهدين بعد، فأخمدت جذوتها، وذهبت نبوة مسيلمة وغيره كما تذهب بولة شاة على أديم الثرى. حجة الوداع: أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم نيّته بالحج، وأشعر الناس بذلك حتى يصحبه من شاء. فترك المدينة أواخر ذي القعدة، بعد أن أمّر عليها في غيابه «أبا دجانة» «2» . والحجّ هذه المرة جاء مغايرا لما ألفته العرب أيام جاهليتها. انتهت العهود المعطاة للمشركين، وحظر عليهم أن يدخلوا المسجد الحرام.

_ (1) صحيح، أخرجه أحمد: 5/ 235، بسند صحيح عن معاذ. (2) لم أجد من أسند هذا، وإنّما ذكره ابن هشام: 2/ 350، معضلا، ولم يجزم به، فإنّه قال: «فاستعمل على المدينة أبا دجانة الساعدي، ويقال: سباع بن عرفطة الغفاري» .

فأصبح أهل الموسم- قاطبة- من الموحّدين، الذين لا يعبدون مع الله شيئا، وأقبلت وفود الله من كلّ صوب، تيمم وجهها شطر البيت العتيق، وهي تعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في هذا العام أمير حجهم ومعلمهم مناسكهم!!. ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الألوف المؤلفة وهي تلبّي وتهرع إلى طاعة الله، فشرح صدره انقيادها للحق، واهتداؤها إلى الإسلام، وعزم أن يغرس في قلوبهم لباب الدين، وأن ينتهز هذا التجمّع الكريم ليقول كلمات تبدّد اخر ما أبقت الجاهلية من مخلّفات في النفوس، وتؤكّد ما يحرص الإسلام على إشاعته من اداب وعلائق وأحكام. فألقى هذه الخطبة الجامعة «1» : «أيّها النّاس! اسمعوا قولي، فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا. أيها النّاس! إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنّكم ستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلّغت. فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، وإنّ كلّ ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون. قضى الله أنّه لا ربا، وإنّ ربا العباس بن عبد المطّلب موضوع كلّه. وإنّ كلّ دم كان في الجاهلية موضوع، وإنّ أول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- وكان مسترضعا في بني ليث، فقتلته هذيل- فهو أوّل ما أبدأ به من دماء الجاهليّة. أما بعد: أيها الناس، إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه أبدا، ولكنّه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم!!.

_ (1) رواها ابن هشام عن ابن إسحاق بدون إسناد، وقد جاء سندها في أحاديث متفرّقة يطول الكلام في بيانها. وتفصيل ذلك في كتابي الكبير «حجة الوداع» ، أرجو الله أن يوفقني لإتمامه. وقسم كبير منها في حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه، وقد جمعت طرقه وألفاظه في رسالة لطيفة طبعت في المطبعة السلفية بمصر.

أيها الناس! إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ [التوبة: 37] ، ويحرّموا ما أحلّ الله. وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، ورجب الذي بين جمادى وشعبان. أما بعد: أيها الناس، فإنّ لكم على نسائكم حقّا، ولهنّ عليكم حقّا. لكن عليهن ألايوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهنّ ألايأتين بفاحشة مبيّنة؛ فإن فعلن فإنّ الله قد أذن لكم أن تهجروهنّ في المضاجع، وتضربوهنّ ضربا غير مبرّح، فإن انتهين فلهنّ رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف. واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهنّ عندكم عوان «1» ، لا يملكن لأنفسهنّ شيئا. وإنّكم إنّما أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، فاعقلوا أيها الناس قولي فإنّي قد بلّغت. وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بيّنا: كتاب الله وسنّة نبيّه. أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمنّ أنّ كلّ مسلم أخ للمسلم، وأنّ المسلمين إخوة، فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمنّ أنفسكم، اللهم هل بلغت؟» . قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ اشهد» . قال ابن إسحاق: كان الرجل الذي يصرخ في الناس: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة- ربيعة بن أميّة بن خلف. يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل: يا أيها الناس إنّ الرسول يقول: هل تدرون أيّ شهر هذا؟» فيقول لهم.. فيقولون: الشهر الحرام..!! فيقول: «قل لهم: إنّ الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة شهركم هذا» ..

_ (1) عوان: أسيرات.

ثم يقول: «قل: يا أيها الناس إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هل تدرون أيّ بلد هذا؟» فيصرخ به! فيقولون: البلد الحرام، فيقول: «قل: إنّ الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة بلدكم هذا» . ثم يقول: يا أيها الناس! إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هل تدرون أيّ يوم هذا؟» . فيقول لهم.. فيقولون: يوم الحج الأكبر، فيقول: «قل لهم: إنّ الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا..» . كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد- بعد بلاء طويل في إبلاغ الرسالة- أن يفرّغ في اذان الناس وقلوبهم اخر ما لديه من نصح. كان يحسّ أنّ هذا الركب سينطلق في بيداء الحياة واحده، فهو يصرخ به كما يصرخ الوالد بابنه الذي انطلق به القطار، يوصيه الرشد، ويذكّره بما ينفعه أبدا. وكان هذا النبيّ الطيب صلى الله عليه وسلم كلما أوجس خيفة من مكر الشيطان بالناس، عاود صيحات الإنذار، واستثار أقصى ما في الأعماق من انتباه، ثم ساق الهدى والعلم ... وقطع المعاذير المنتحلة، وانتزع- بعد ذلك- شهادة من الناس على أنفسهم وعليه أنّهم قد سمعوا، وأنّه قد بلّغ. لقد ظلّ ثلاثا وعشرين سنة يصل الأرض بالسماء، ويتلو على القاصي والداني اي الكتاب الذي نزل به الروح الأمين على قلبه، ويغسل أدران الجاهلية التي التاث بها كلّ شيء، ويربّي من هؤلاء العرب الجيل الذي يفقه الحقائق، ويفقّه العالم فيها. وها هو ذا يقود الحجيج في أوّل موسم يخلص فيه من الشرك، ويتمحّض فيه لله الواحد القهار. وها هو ذا على ناقته العضباء يستنصت الجماهير المائجة ليؤكّد المعاني التي بعث بها، والتي عرفهم عليها، ويخلّي ذمته من عهدة البلاغ والتبيان التي نيطت بعنقه. لقد أجيبت دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السّلام حين هتف وهو يا بني البيت العتيق: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) [البقرة] . إنّ العزيز الحكيم تجلّى باسميه الجليلين على هذه الديار، فوهب العزّة

إلى المدينة:

والحكمة- أو قل: القوّة والسياسة- لمحمد بن عبد الله، فعالج بها الاثام الجاثمة على صدر الأرض، فما استعصى على الأناة والحلم استكان للتأديب والحكم. وبهذا المنهج الجامع بين العدل والرحمة أخذت رقعة الباطل تنكمش رويدا رويدا حتى اختفت الجاهلية ولوثاتها، وثبت الإسلام، ثم أصاخ العرب- بعد ما لان قيادهم- إلى صوت الحقّ الأخير في حجة الوداع. وفي يوم عرفة من هذه الحجة العظيمة نزل قول الله عز وجلّ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ... [المائدة: 3] . وعند ما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنّه ليس بعد الكمال إلا النقصان. وكأنّه استشعر وفاة النبيّ صلوات الله عليه وسلامه. والحقّ أن مشاعر التوديع للحياة والأحياء كانت تنضح بها بعض العبارات التي ترد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، منها ما سبق ذكره في خطبته بالموسم، ومنها ما يقع في أثناء تعليمه الوفود المحتشدة حوله، كقوله عند جمرة العقبة: «خذوا عنّي مناسككم فلعلّي لا أحجّ بعد عامي هذا» «1» . إلى المدينة: فلما قضى الرسول صلى الله عليه وسلم مناسكه حثّ الرّكاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ حظّا من الراحة، بل ليستأنف حياة الكفاح والكدح لله. إنّ المبطلين لا يدعون لأهل الحقّ مهلة يستجمّون فيها. وأصحاب الرسالات أنفسهم لا يستعيدون نشاطهم في القعود عن العمل، بل يستمدّون الطاقة على العمل من الشعور بالواجب. وراحتهم الكاملة يوم يرون بواكير نجاحه دانية القطاف. قفل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليعبّئ جيشا اخر يقاتل به الروم. فإنّ كبرياء هذه الدولة على الإسلام، جعلتها تأبى عليه حقّ الحياة، وحملها على أن تقتل من أتباعها من يدخل فيه.

_ (1) صحيح، رواه مسلم وغيره من حديث جابر المشار إليه انفا.

كان (فروة بن عمر الجذامي) واليا من قبل الروم على (معان) وما حولها من أرض الشام، فاعتنق الإسلام، وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك. وغضب الرومان، فجرّدوا على (فروة) حملة جاءت به، وألقي في السجن حتى صدر الحكم بقتله، فضربت عنقه على ماء لهم يقال له: (عفراء) بفلسطين، وترك مصلوبا ليرهب غيره أن يسلك مسلكه! وقيل: إنّه لما قدّم للقتل قال: بلّغ سراة المسلمين بأنّني ... سلم لربّي، أعظمي ودمائي فأعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا كبيرا، وأمّر عليه أسامة بن زيد بن حارثة. وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغي بذلك إرهاب الروم وإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحسبنّ أحد أنّ بطش الكنيسة لا معقّب له، وأنّ الدخول في الإسلام يجرّ على أصحابه الحتوف فحسب. ولمّا كان (أسامة) شابا لا يتجاوز الثمانية عشر، فإنّ بعض الناس ساءتهم هذه الإمارة، واعترضوا أن يقود الرجال الكبار شابّ حدث. ولا شكّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يلتفت في ولايته إلا إلى الجدارة. فمن استحقّ منصبا بكفايته قدّمه له، غير مكترث بحداثة سنه. فإنّ كبر السّنّ لا يهب للأغبياء عقلا، ولا الصغر ينقص الأتقياء فضلا: فما الحداثة عن حلم بمانعة ... قد يوجد الحلم في الشّبان والشّيب ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- ردا على اعتراض الناقدين-: «لئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبل، وايم الله إن كان لخليقا بالإمارة، وإنّ ابنه من بعده لخليقا بها، وإن كان لمن أحبّ النّاس إليّ» «1» . وانتدب الناس يلتفون حول (أسامة) وينتظمون في جيشه. إلّا أنّ الأخبار المقلقة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرهتهم على التريّث حتى يعرفوا ما يقضي به الله ...

_ (1) صحيح، أخرجه البخاري: 8/ 124، عن عبد الله بن عمر، وصحّحه الترمذي: 4/ 350.

الرفيق الأعلى

(10) الرّفيق الأعلى

[شكوى النبي صلى الله عليه وسلم] :

الرفيق الأعلى [شكوى النبي صلى الله عليه وسلم] : شعر الرسول صلى الله عليه وسلم بوعكة المرض الذي نزل به أواخر صفر من السنة الحادية عشرة، وبدأت الامه صداعا حادا، عاناه في سكون حتى ثقل عليه الوجع وهو في بيت زوجه ميمونة.. فلم يستطع الخروج. وأذن له نساؤه أن يمرّض في بيت عائشة؛ لما رأين من ارتياحه إلى خدمتها له. فخرج من عند ميمونة بين الفضل بن العباس وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم. وكان الألم قد أوهى قواه، فلم يستطع مسيرا. فانتقل بينهما معصوب الرأس، تخطّ قدماه على الأرض حتى انتهى إلى بيتها «1» . واشتدّت وطأة المرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتّقدت حرارة العلّة في بدنه. فطلب أن يأتوه بما يتبرّد به ... ماء كثير!!: «أهريقوا عليّ سبع قرب من ابار شتّى ... » . قالت عائشة: فأقعدناه في مخضب لحفصة، ثم صببنا عليه الماء، حتى طفق يقول: «حسبكم، حسبكم» «2» . وعند ما أحسّ الرسول صلى الله عليه وسلم بأن سورة الحرّ خفّت عن بدنه، استدعى الفضل ابن عمه العباس فقال: «خذ بيدي يا فضل» . وهو موعوك معصوب الرأس، قال الفضل: فأخذت بيده حتى دخل المسجد، وجلس على المنبر. ثم قال: «ناد في الناس» ، فاجتمعوا إليه. وكانت ظهيرة تظللها الكابة، وتغمرها الرقّة، اشرأبّت فيها الأعناق إلى

_ (1) صحيح، رواه ابن هشام: 2/ 366 و 368، عن ابن إسحاق بسنده الصحيح عن عائشة؛ ورواه الحاكم: 3/ 56، من طريق أخرى عنها وصحّحها. (2) صحيح، أخرجه ابن إسحاق عن عائشة بسنده السابق، وهو في البخاري: 8/ 115- 116؛ ومسلم: 2/ 21- 22، نحوه.

الرجل الذي أحيا موات القلوب، وأخرجهم وذرياتهم ونساءهم من الظلمات إلى النور، تطلّعت إليه الأعين الحائرة فرأته متعبا. انهزمت العافية في بدنه الجلد أمام سطوة المرض العاتي. إلا أنّه أخذ يحدّثهم ويربّيهم على عهداهم به دائما. وأنصتوا، فإذا هم يسمعون منه عجبا.. أنّه لما أحس بدنوّ أجله أحبّ أن يلقى الله وليس هناك بشر يطلبه بتبعة. إنّه تحرّى العدالة في شؤونه كلّها؛ لكن من يدري؟ ربما عرض له سهو مما يعرض لبني ادم أو خطأ فجار، وهو الذي يبرأ من الجور وذويه!!. إذن ليخطب الناس في هذا حتى يستريح ضميره.. قال: «أمّا بعد أيها الناس! فإنّي أحمد الله الذي لا إله إلا هو. فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه!. ألا وإنّ الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني. ألا وإنّ أحبكم إليّ من أخذ مني حقا إن كان له، أو أحلّني منه فلقيت الله وأنا طيب النّفس. وقد أرى أنّ هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم مرارا» . قال الفضل: ثم نزل فصلّى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، فعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها. فقام رجل فقال: يا رسول الله! إنّ لي عندك ثلاثة دراهم؟ فقال: «أعطه يا فضل» . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، من كان عنده شيء فليؤدّه، ولا يقل: فضوح الدّنيا، ألا وإنّ فضوح الدنيا أيسر من فضوح الاخرة» !. فقام رجل فقال: يا رسول الله! عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله. قال: «ولم غللتها؟» قال: كنت إليها محتاجا. قال: «خذها منه يا فضل» . ثم قال: «أيها الناس، من خشي من نفسه شيئا فليقم أدع له» . فقام رجل فقال: يا رسول الله! إنّي لكذّاب، إنّي لفاحش، وإني لنؤوم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ ارزقه صدقا وإيمانا، وأذهب عنه النوم» . ثم قام رجل اخر فقال: والله يا رسول الله إنّي لكذاب، وإنّي لمنافق، وما من شيء إلا قد جنيته. فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له: فضحت نفسك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

[اشتداد المرض] :

«يا بن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الاخرة، اللهمّ ارزقه صدقا، وإيمانا، وصيّر أمره إلى خير» «1» . [اشتداد المرض] : وعاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته اللاصق بالمسجد لينام في فراش السقام، وهو الذي لم يتعود أن يركن إليه أو يهدأ فيه. كانت هناك مهام كثيرة ترتقب صحوه ليبتّ فيها، ولكنّ أعباء العلّة حبسته في قيودها، فلم يستطع منها فكاكا. وإذا استطاع أن يخرج في فترات قليلة تخف فيها حدّة المرض، فإلى المسجد، ليلقي نظرات أخيرة على الأمة التي صنعها، والرجال الذين أحبّهم. عن أبي سعيد الخدري: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما على المنبر فقال: «إنّ عبدا خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدّنيا ما شاء، وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله» . فبكى أبو بكر، ثم قال: فديناك بابائنا وأمهاتنا يا رسول الله. قال أبو سعيد: فتعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد يخيّر، ويقول: فديناك بابائنا وأمهاتنا!. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أمنّ النّاس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متّخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام» . وفي رواية: «ولكن صحبة، وإخاء إيمان، حتى يجمع الله بيننا عنده» «2» .

_ (1) ضعيف جدا، أخرجه العقيلي في (الضعفاء) ، والبيهقي في الدلائل من طريق القاسم بن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبيه عن عطاء عن ابن عباس عن أخيه الفضل، قال ابن المديني: عطاء هذا هو عندي عطاء بن يسار، وليس له أصل من حديث عطاء بن أبي رباح؛ ولا عطاء بن يسار؛ وأخاف أن يكون عطاء الخراساني، لأنه يرسل عن ابن عباس. قال الذهبي: قلت: «أخاف أن يكون كذبا مختلقا» ، وقال الحافظ ابن كثير في التاريخ (5/ 231) : «وفي إسناده ومتنه غرابة شديدة» . (2) صحيح، أخرجه البخاري: 7/ 9- 10، 183، والسياق له؛ ومسلم: 7/ 108، عن أبي سعيد؛ والرواية الاخرى عند ابن هشام: 2/ 369، عن ابن إسحاق بسنده عن بعض ال أبي سعيد بن المعلّى. وهو ضعيف لجهالة هذا البعض، وقد رواه أحمد: 4/ 211-

وحدث في أثناء المرض أن مرّت أوقات هادئة خيّلت لمحبي الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ أمانيهم في عافيته نجحت، وأنّه يوشك أن يقوم ليستأنف كفاحه في سبيل الله، وليظلّ يحبوهم بعطفه وحرصه وإيناسه ورحمته. فعن عبد الله بن كعب بن مالك أن ابن عباس أخبره: أنّ عليّ بن أبي طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا حسن! كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئا. فأخذ بيده العبّاس بن عبد المطلب فقال: ألا ترى؟ إنك بعد ثلاث عبد العصا، وإنّي أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتوفّى في وجعه هذا، وإنّي لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت..! فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله فيمن يكون هذا الأمر، فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا استوصى بنا خيرا، قال عليّ: والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس أبدا، والله لا أسألها رسول الله أبدا «1» . وظاهر أنّ العباس يعني الخلافة، فقد شعر الرجل بأن النبي صلى الله عليه وسلم في مرض الموت، وخبرته بأقاربه حين يحتضرون جعلته صادق الحدس في تبيّن مصائرهم. ولما كان عميد بني هاشم، فقد أهمّه أن يعرف لمن ستكون سيادة الناس بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد اتجه إلى عليّ يبثّه مكنون نفسه؛ لأنّ عليا- بسابقته وكفايته ومنزلته في الناس، وموضعه من الرسول صلى الله عليه وسلم- يعد أول بني هاشم ترشيحا لهذا الأمر. بيد أنّ عليا كره أن يكلّم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، واثر ترك الأمر لجمهور المسلمين. وكان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه قد همّ بكتابة عهد يمنع شغب الطامعين في الحكم، ثم بدا له فاختار أن يدع المسلمين وشأنهم، ينتخبون لقيادتهم من يحبّون «2» .

_ - 212، من طريق ابن أبي المعلى عن أبيه. ورجاله ثقات غير الابن المذكور فلم أعرفه، وقد قال ابن كثير (5/ 230) : «قالوا: صوابه أبو سعيد بن المعلى» . (1) صحيح أخرجه البخاري: 8/ 116- 117. (2) يشير إلى حديث ابن عباس مرفوعا: هلموا أكتب لكم كتابا ... أخرجه البخاري: 8/ 110.

[أوامر ووصايا] :

[أوامر ووصايا] : وزادت وطأة المرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعانى من برحائه ألما مضاعفا، حتى تأذّت فاطمة ابنته من شدّة ما يلقى، فقالت: وا كرب أبتاه!. فقال: «لا كرب على أبيك بعد اليوم» «1» . وترامت الأخبار إلى جيش أسامة، فشاع الحزن والاضطراب في صفوفه، عن محمد بن أسامة عن أبيه قال: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة، فدخلنا على رسول الله، وقد أصمت لا يتكلم، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها عليّ، فعرفت أنه يدعو لي «2» . وأغمي عليه مرة فلدّه أهله «3» ، فلما أفاق كره ذلك منهم «4» . وكان إلى جواره قدح فيه ماء يغمس فيه يده ثم يمسح وجهه بالماء، ويقول: «اللهمّ أعنّي على سكرة الموت» «5» . وحين عجز النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بالناس استقدم أبا بكر ليؤمّهم. فخشيت عائشة أن يكره النّاس أباها، ويتشاءمون من طلعته. فقالت: إن أبا بكر رجل رقيق، وإنه متى يقم مقامك لا يطيق. فقال: «مروا أبا بكر فليصلّ بالناس» . فكرّرت عائشة اعتراضها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إنّكنّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» «6» . وصلّى أبو بكر بالناس سبع عشرة صلاة. وهذه الأيام التي تخلّف فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يؤم المسلمين، كانت من

_ (1) صحيح، رواه البخاري: 8/ 121، وغيره عن أنس. (2) صحيح، رواه الترمذي: 4/ 350، وحسّنه؛ وابن هشام: 2/ 370. (3) لدّه: جعل الدواء في جانب فمه. (ن) . (4) صحيح، رواه البخاري: 8/ 120، عن عائشة. (5) ضعيف، أخرجه الترمذي: 2/ 128، وغيره من طريق موسى بن سرجس عن القاسم بن محمد عن عائشة، وقال: «حديث غريب» يعني ضعيف؛ لأنّ موسى هذا لم يوثقه أحد فهو مجهول. (6) صحيح، أخرجه البخاري: 2/ 130؛ ومسلم: 2/ 20- 24، عن عائشة.

أشدّ الأيام ثقلا عليه، وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إنّي أوعك كما يوعك الرجلان منكم» «1» . ومع فيح الحمّى وحدّة مسّها لبدنه فقد ظلّ يقظ الذّهن، مهموما بتعاليم الرسالة، حريصا على تذكير الناس بها. وكان يخشى أن ترتكس أمته فتتعلّق بالأشخاص (الأضرحة) كما ارتكس أهل الكتاب الأولون. وشدته في إخلاص التوحيد لله هي التي جعلته وهو يعالج سكرات الموت، يرهّب المسلمين من هذا المزلق. عن عائشة وابن عباس قالا: لمّا نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمّ كشفها عن وجهه فقال- وهو كذلك-: «لعنة الله على اليهود والنّصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» - يحذّر مثل ما صنعوا- «2» . وكان يخشى أن تغلب شهوات الغيّ والكبر على أمته. فإن الذين يتبعون شهوات الغيّ ينسون الصلاة، والذين يتبعون شهوات الكبر يطغون على ما تحت أيديهم من خدم ومرؤوسين ورقيق. والأمة التي تستبدّ بها هذه الشهوات لا تصلح للحياة، ولا تصلح بها حياة. ومن اليسير أن يتركها الله تلقى جزاء ما تصنع، وهو خزي الدنيا وعذاب الاخرة. هذه الخشية حملت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة أن ينبّه المسلمين إلى معاقد الخير ليتمسّكوا بها. عن أنس بن مالك قال: كانت عامّة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم- حين حضره الموت-: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» ، حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه «3» .

_ (1) أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود. (2) صحيح، أخرجه البخاري: 1/ 422؛ ومسلم: 2/ 67. (3) صحيح، أخرجه ابن ماجه: 2/ 155؛ وأحمد: 3/ 117، وغيرهما عن قتادة عن أنس، وفيه خلاف على قتادة، بيّنه الحافظ ابن كثير في (البداية) : 5/ 238- 239؛ وذكر عن البيهقي أنه قال: «والصحيح ما رواه عفان عن همام عن قتادة عن أبي الخليل عن سفينة-

[حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته] :

[حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته] : وربما غلبه الشوق لحضور الجماعة ورؤية الأصحاب في أيامه الأخيرة فتحامل على جسمه المنهوك، وانسلّ إلى المسجد من حجرة عائشة، فصلّى بالناس وهو قاعد. قال ابن عباس: لما مرض النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يصلّي بالناس، ثم وجد خفّة فخرج. فلمّا أحسّ به أبو بكر أراد أن ينكص، فأومأ إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فجلس إلى جنب أبي بكر عن يساره، واستفتح من الاية التي انتهى إليها أبو بكر، فكان أبو بكر يأتمّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم والناس يأتمّون بأبي بكر «1» . على أنّ أبا بكر ظلّ يصلي بالناس هذه الأوقات التي مرض فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صبيحة اليوم الذي قبض فيه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم معلّق القلب بشؤون أمته. وكأنّ الله أراد أن يطمئنه على كمال انقيادها وحسن اتباعها، فأشهده اخر وقت حضره وهو في الدنيا، إذ أقبل المؤمنون من بيوتهم إلى المسجد فجر الإثنين الذي قبض فيه، واصطفوا لصلاتهم خشّعا مخبتين وراء إمام رقيق التلاوة، فيّاض الإخلاص، ورفع النبيّ صلى الله عليه وسلم الستر المضروب على منزل عائشة، وفتح الباب وبرز للناس. فكاد المسلمون يفتنون في صلاتهم ابتهاجا برؤيته، وتفرّجوا يفسحون له مكانا، فأشار بيده أن اثبتوا على صلاتكم، وتبسّم فرحا من هيئتهم في صلاتهم.

_ - عن أم سلمة به» . قلت: وهذا سند متصل صحيح. وله شاهد من حديث علي نحوه رواه ابن ماجه وأحمد، رقم (585) ، وإسناده صحيح. (1) صحيح، أخرجه أحمد رقم (2055، 3330، 3355) ؛ وابن ماجه: 1/ 373، من طريق أبي إسحاق عن الأرقم بن شرحبيل عن ابن عباس ورجاله ثقات، لكن أعلّه البوصيري بأن أبا إسحاق- وهو السبيعي- اختلط باخر عمره، وكان مدلّسا، وقد رواه بالعنعنة. قلت: لكن تابعه عبد الله بن الشخّير إلا أنه قال: عن ابن عباس عن العباس، فجعله من سند العباس، وهذا اختلاف يسير لا يضرّ في صحة الحديث إن شاء الله، وقد رواه من هذا الوجه أحمد أيضا، رقم (1784، 1785) .

[وفاته صلى الله عليه وسلم واثارها على المسلمين] :

قال أنس بن مالك: ما رأيت رسول الله أحسن هيئة منه في تلك الساعة «1» . ثم رجع وانصرف الناس، وهم يظنّون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفاق من وجعه. واطمأنّ أبو بكر لهذا الظنّ، فرجع إلى أهله بالسّنح في ضواحي المدينة «2» . قالت عائشة: وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد فاضطجع في حجري. ودخل علينا رجل من ال أبي بكر في يده سواك أخضر، فنظر رسول الله إلى يده نظرا عرفت منه أنّه يريده. فأخذته فألنته له، ثم أعطيته إياه. فاستنّ به كأشدّ ما رأيته يستنّ بسواك قبله، ثم وضعه. ووجدت رسول الله يثقل في حجري. فذهبت أنظر في وجهه. فإذا نظره قد شخص، وهو يقول: «بل الرفيق الأعلى من الجنّة» . قلت: خيّرت فاخترت، والذي بعثك بالحق.. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» . [وفاته صلى الله عليه وسلم واثارها على المسلمين] : وتسرّب النبأ الفادح من البيت المحزون وله طنين في الاذان، وثقل ترزح تحته النفوس، وتدور به البصائر والأبصار. وشعر المؤمنون أنّ افاق المدينة أظلمات، فتركتهم لوعة الثّكل حيارى لا يدرون ما يفعلون.

_ (1) صحيح، أخرجه البخاري: 2/ 130- 131، 8/ 117؛ ومسلم: 2/ 24- 25، وغيرهما عن أنس بنحوه، ورواه ابن هشام: 2/ 370- 371، عن ابن إسحاق عن الزهري عن أنس بلفظ الكتاب. وفيه انقطاع. (2) هو من تمام حديث أنس عن ابن إسحاق. (3) صحيح رواه ابن هشام: 2/ 371، عن ابن إسحاق بسنده الصحيح عنها، وهو في البخاري: 8/ 107، 111- 112، 113، 117، 118، نحوه مفرقا. وهذا اخر حديث في الكتاب. وبه ينتهي التخريج، والحمد لله على توفيقه، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألاإله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. دمشق: 28/ 5/ 1375 هـ. محمد ناصر الدين الألباني.

ووقف عمر بن الخطاب- وقد أخرجه الخبر عن وعيه- يقول: إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توفّي، وإنّ رسول الله ما مات، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع بعد أن قيل: قد مات. والله ليرجعنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنّه مات!. وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر وعمر يكلّم الناس، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة وهو مسجّى في ناحية البيت عليه برد حبرة. فأقبل حتى كشف عن وجهه، ثم أقبل عليه فقبّله، ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن يصيبك بعدها موت أبدا. وردّ الثوب على وجهه، ثم خرج، وعمر يكلّم الناس، فقال: على رسلك يا عمر فأنصت. لكنّ عمر ظلّ مهتاجا مندفعا في كلامه. فلمّا راه أبو بكر كذلك، أقبل على الناس وشرع يتكلّم، فلمّا سمعه النّاس انصرفوا عن عمر وأقبلوا عليه. وحمد أبو بكر الله، وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإنّ محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الاية: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) [ال عمران] .

خاتمة

خاتمة لم تمض أيام معدودات على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى اشتبك الإسلام في صراع رهيب مع الوثنية، التي عاودتها الحياة فجأة، والصليبية الرابضة في شمال الجزيرة تمنع الدخول في الإسلام، وتحبط دعايته بالقوة. ولم تشهد الصحراء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مثيلا لهذه المعارك الطاحنة؛ فقد اتسعت ميادينها، وتتابعت أمدادها، وفدحت مغارمها، وكثرت ضحاياها. إلا أنّ الرجال الذين ربّاهم محمد صلى الله عليه وسلم على معرفة الحق والفناء فيه، صدقوا الله في عملهم، ونهضوا كأعتى الأبطال بالأثقال الباهظة التي رموا بها. ضربوا الوثنية في الجزيرة ضربة كسرت فقارها، واعتصرت روحها، فهمدت إلى الأبد. وردوا الرومان عن الحدود التي تمردوا بها وتجبروا فيها. ثم عادوا إلى المدينة لا ليستجمّوا، بل لينتشروا خلال المعمور من أرض الله يومئذ في نظام رتيب، وبوحي شريعة محكمة. وما هي إلا سنوات قلائل حتى كان الإسلام ملء البر والبحر، ملء السمع والبصر. والان وقد مرت قرون أربعة عشر على هذه الحقبة الزاهرة؛ إن الإسلام بعد مجد كبير- لا يحكم أمته، فضلا عن أن يوجّه العالم إلى بر يذكر أو خير يشكر. والأديان الاخرى تعيش على هامش الحياة؛ فالحضارات القائمة أو المتربصة لا تمكّن الدين من زمامها. والوثنية في الهند، وفي الشرق الأقصى، وفي بقاع أخرى: لا تزال تظلل الجوانب الداكنة من حياة العامة ومسالك الجماهير. واليهودية تنحاز بأبنائها جانبا لتغرس في قلوبهم الحقد على البشر، والنفاذ من خلل الصفوف المتناحرة بأكبر غنم لإسرائيل.

أما الصليبية فهي كالنبات المتسلق في خط الاستواء؛ تعتمد في بقائها على الالتحاق بالفلسفات السائدة والنظم الغالبة، كي تضمن حياة- أي حياة- لدعائمها الأولى من تثاليث وقرابين. والمسلمون سرت إليهم لوثات الاحتراف، والتعلق بالقشور والمراسيم، وردتهم رذائل الضعف والجهالة إلى أحوال أشبه بما كان يسود اليهود والنصارى على عصر النبوة والخلافة الراشدة. وقلة يسيرة منهم هي التي بقيت إلى يوم الناس هذا تغالب الجاهلية وتتشبث بالحق «1» . وإذا كان مما يعين على الأمل أن الإسلام ظلّ من الناحية العلمية محفوظا في مصدريه الخطيرين: الكتاب والسنّة، فإنّ هذا العلم المصون لا يغني أبدا عن العمل. على أن الذين يعملون للإسلام عملا صحيحا يلقون مقاومة عنيفة من شتى الجبهات الاخرى، أعني الجبهات التي قاومت امتداده من أربعة عشر قرنا، ولم تبرد عداوتها له يوما. قد يسأل سائل: هل العالم اليوم بحاجة إلى الإسلام؟. ونقول: إذا كان العالم بحاجة إلى أن يعرف الله، ويستعد للقائه، ويقدم حسابا على ما أدى في هذه الدنيا، فلا بدّ له من الإسلام. إن الارتقاء المادي لا يغني فتيلا عن التقيد بهذه الحقائق الكبيرة. قد يقال: لكن من الناس من لا يؤمن بإله قائم أو يوم اخر!. ومنهم من يؤمن بذلك على نحو غير ما جاء به الإسلام. فدعوا الناس وما يرون ... ونقول: لير الناس ما يشاؤون، ولكن ليس من حقّ العميان أن يخلعوا عيني المبصر، أو يضيّقوا عليه الخناق، لأنه يرى ما لا يرون!. فليدعوه يمشي بهدي بصره، وليدعوه كذلك يصف ما يرى في طريقه وما يتوقع.

_ (1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» . رواه أحمد بإسناد حسن، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. (ن) .

فمن تبعه من غير استكراه فلينطلق معه، وإلا فليدعه، وليرفع من أمامه العوائق، وذلك ما يبغيه الإسلام فحسب. إن المبطلين يكرهون الإسلام لأنه حق ناطق، يجادل عن نفسه، ويستعلن بما فيه، ويرفض أن يتوارى أو يصمت. هذه الخاصة في الإسلام، خاصة إحقاق الحق وإبطال الباطل، أزعجت أعداءه، وجعلتهم يختلقون له التهم. فإذا رفض المهادنة فهو مهاجم، وإذا أبى أن يموت أمام كيد الخصوم فهو ينتشر بالإكراه!. وذاك سرّ الخرافة التي راجت أن الإسلام ساد بالسيف. والإسلام إنما امتشق الحسام لينجو به من غوائل الرّعاع والقطّاع. ولو ترك من غير ترويع، ما أثقل عاتقه برمح، ولا كتفى من السنان باللسان. نعم إنه كان في هذا السبيل صارما. وهل ينتظر منه إلا ذلك في ملاقاة خصوم يجرّون وراءهم كبرياء القرون الطوال وتعصبها، وضلالات تحتمي وراء غابات متشابكة من الرجال والسلاح؟!. إنه لولا هذه الصرامة ما بقيت أصوله العلمية والنفسية سليمة إلى اليوم، فإنّ الديانات التي ضعفت قبله أفلح أعداؤها في جرّها عن أصولها جرّا شنيعا فلم تعد إلى قواعدها سالمة.. أما الإسلام فإنك واجده اليوم ولو في كتابه إن لم يكن في أصحابه. قد تظنّ أنك درست حياة محمد صلى الله عليه وسلم إذا تابعت تاريخه من المولد إلى الوفاة، وهذا خطأ بالغ. إنك لن تفقه السيرة حقّا إلا إذا درست القران الكريم والسنّة المطهرة. وبقدر ما تنال من ذلك تكون صلتك بنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.

فهرس الموضوع الصفحة* المقدمة 5 حول أحاديث هذا الكتاب 11 (1) رسالة وإمام (مدخل إلى السيرة النبوية) الوثنية تسود الحضارة القديمة 17 طبيعة الرسالة الخاتمة 21 العرب حين البعثة 25 رسول معلّم 28 منزلة السنّة من الكتاب الكريم 37 النبي صلى الله عليه وسلم وخوارق العادات 47 (2) من الميلاد إلى البعث (العهد المكي) نسب النبي صلى الله عليه وسلم ومولده ورضاعه 59 نسبه ومكانته في قومه 59 قلّة ماله عليه الصلاة والسلام 60 تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم 61 كيفية استقبال جده لمولده 62 عرضه على المراضع 63 شق الصدر 65 بحيرا الراهب 69 حياة الكدح 71 أهداف التعليم 74 حرف الفجار 75 حلف الفضول 76

الموضوع الصفحة قوة ونشاط 78 خديجة رضي الله عنها 80 الزواج الميمون 81 الكعبة 83 باحثون عن الحق 86 في غار حراء 89 ورقة بن نوفل 91 (3) جهاد الدعوة (في مكة) محمد صلى الله عليه وسلم يحمل أعباء الدعوة إلى الله 97 إلام يدعو الناس؟ 100 الرعيل الأول 102 إظهار الدعوة 104 أبو طالب 107 الاضطهاد 110 عمار بن ياسر رضي الله عنه 111 بلال رضي الله عنه 112 خباب رضي الله عنه 112 مفاوضات 115 الهجرة إلى الحبشة 119 التحذير من الإسرائيليات 120 الهجرة الثانية إلى الحبشة 121 إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما 125 المقاطعة العامة 127 عام الحزن 131 في الطائف 134 في جوار المطعم بن عدي 135 الإسراء والمعراج 138 لماذا المسجد الأقصى؟ 140 حكمة الإسراء 142

الموضوع الصفحة إكمال البناء 143 سلامة الفطرة 145 فرض الصلاة 145 صور شتى لأجزية الصالحين والطالحين 146 قريش والإسراء 147 عرض الإسلام على القبائل 148 (4) الهجرة العامة: مقدّماتها ونتائجها (العهد المدني) تمهيد 151 التحول الجديد 151 بشارة اليهود بالنبي الجديد وكفرهم به 151 فروق بين البلدين 153 صنع اليهود 155 بيعة العقبة الأولى 157 بيعة العقبة الكبرى 159 طلائع الهجرة 165 في دار الندوة 169 هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم 171 درس في سياسة الأمور 173 في الغار 174 في الطريق إلى المدينة 176 دعاء 177 خبر الهجرة ينتشر في جوانب الصحراء 178 الوصول إلى المدينة 180 استقرار المدينة 181 النفس العظيمة 182 مشكلات وحلول إيجابية 183 (5) أسس البناء للمجتمع الجديد دعائم المجتمع الجديد 187

الموضوع الصفحة أولا: المسجد 188 ثانيا: الأخوة 190 ثالثا: غير المسلمين 193 المصطفون الأخيار 198 معنى العبادة 203 قيادة تهوي إليها الأفئدة 209 أوصافه وبعض أخلاقه صلى الله عليه وسلم 211 (6) الكفاح الدامي مرحلة الإعداد للجهاد 217 تمارين ومناورات ومعارك 218 سرايا 221 حكمة بعث السرايا 222 سرية عبد الله بن جحش 223 معركة بدر 226 فرار أبي سفيان بالقافلة واستصراخه أهل مكة 227 استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه 229 دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالنصر 231 بداية المعركة 233 مقتل أبي جهل 235 بشاشة الفوز تضحك للمؤمنين 237 محاسبة وعتاب (في الغنائم) 240 في الأسرى 242 في أعقاب بدر 244 بدء الصراع بين اليهود والمسلمين 246 طرد يهود بني قينقاع 247 سر نقمة اليهود على الإسلام والمسلمين 248 مقتل كعب بن الأشرف 249 مناوشات مع قريش 252 بين بدر وأحد 253 معركة أحد 256

الموضوع الصفحة عبر المحنة 265 من بطولات الصحابة وتضحياتهم 266 إصابة النبي صلى الله عليه وسلم 268 دروس وعبر 269 شهداء أحد 272 حمراء الأسد 275 اثار أحد 276 قصة الرجيع 278 شهداء القراء في بئر معونة 279 المصاب الفادح 281 استعادة هيبة المسلمين 281 إجلاء بني النضير 283 الثأر لأصحاب الرجيع وبئر معونة 285 بدر الاخرة 286 دومة الجندل 287 غزوة بني المصطلق 288 حديث الإفك 292 غزوة الأحزاب 297 مع بني قريظة 312 علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحمل راية المسلمين 314 نزول بني قريظة على حكم سعد 317 قتل أبي رافع عن أبي حقيق 319 (7) طور جديد عمرة الحديبية 325 عدم الرغبة في القتال 327 مفاوضات 327 محاولات للاعتداء 330 بيعة الرضوان 331 شروط صلح الحديبية 333 ردة فعل المسلمين على الشروط 335

الموضوع الصفحة أحداث ما بعد الحديبية 336 مع اليهود مرة أخرى (يهود خيبر) 341 حصون اليهود تتداعى 343 نماذج من الشهادة 346 أحداث ما بعد المعركة 347 الأرض لله يورثها من يشاء 349 عودة مهاجري الحبشة 351 تأديب الأعراب 353 مكاتبة الملوك والأمراء 356 كتابه إلى قيصر ملك الروم 356 ردّ ملك غسان 358 ردّ المقوقس ملك القبط 358 ردّ فعل كسرى ملك فارس 359 ردّ أمير البحرين 361 عمرة القضاء 365 غزوة مؤتة 367 التربية الجهادية للمجتمع المسلم 370 مكانة القادة الثلاثة في الجنة 371 ذات السلاسل 372 فقه عمرو 373 الفتح الأعظم 374 أبو سفيان يحاول إصلاح ما أفسده قومه 375 إنه شهد بدرا 376 إسلام العباس 377 تعمية أخبار الجيش 378 دعوة أبي سفيان إلى الاستسلام 380 دخول جيش المسلمين مكة 381 مشاهد بعد الفتح 383 ذكريات الشهداء 386 إسلام فيه دخن 387 معركة حنين 388

الموضوع الصفحة هزيمة 389 الثبات والنصر 390 الغنائم 392 حكمة هذا التقسيم 394 عودة وفد هوازن 397 حصار الطائف 397 إلى دار الهجرة 398 موقف المنافقين 400 غزوة تبوك 401 دعوة إلى البذل والعطاء 403 مصاعب وصبر وعزيمة 405 تحقيق أهداف الغزوة 407 المخلّفون 408 مسجد الضرار 412 طليعة الوفود 414 حج أبي بكر بالمسلمين 417 وفد للأميين، ووفد لأهل الكتاب 421 (8) أمهات المؤمنين زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأمهات المؤمنين 431 كلمة عن تعدد الزوجات 431 زواجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة 435 عائشة وحفصة وأم سلمة وسودة رضي الله عنهن 436 زواجه بالسيدة زينب 437 زوجات أخريات 440 (9) حجة الوداع استقرار 451 حجة الوداع 452 إلى المدينة 456

الموضوع الصفحة (10) الرفيق الأعلى شكوى النبي صلى الله عليه وسلم 461 اشتداد المرض 463 أوامر ووصايا 465 حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته 466 وفاته صلى الله عليه وسلم واثارها على المسلمين 468 خاتمة 470 * الفهرس 473

§1/1