فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة

رمضان البوطي

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربّنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأسأل الله أن يهدينا سواء صراطه المستقيم.

مقدمة الطبعة الجديدة

مقدمة الطبعة الجديدة قيّض الله لهذا الكتاب من الانتشار ومن إقبال الناس عليه، ما لم يقيضه لأيّ من الكتب الأخرى التي وفقني الله لتأليفها وإخراجها. ومرد ذلك، في يقيني، إلى المنهج الذي سلكته في كتابة السيرة النّبوية، والذي تضمن تصحيحا للأخطاء، بل للانحرافات، التي وقع فيها كثير من الكتّاب العصريين، لا سيما أولئك الذين يتعاملون مع الشعار العصري المشبوه: (قراءة معاصرة) . ولقد تحدثت عن هذه الأخطاء وعن العوامل الخفية والمصطنعة التي أدت إليها، كما تحدثت عن المنهج العلمي الذي يجب أن يتبع في كتابة السيرة النّبوية، مقارنا بالمدارس والمناهج الأخرى، وذلك في فصل أضفته، في إحدى الطبعات الأخيرة لهذا الكتاب، إلى المقدّمات الهامة التي افتتحته بها؛ وعنوانه (السّيرة النّبوية، كيف تطورت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم) . كثيرون هم الذين حلّلوا حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في كتاباتهم، على أنها عظمة إنسانية مجردة، كالتي اتّصف بها كثير من القادة والرجال الذين خلوا من قبله وجاؤوا من بعده؛ وكثيرون هم الذين أصرّوا على أن يفهموا الناس أن الفتح الإسلامي الذي قاده رسول الله؛ إنما هو ثورة يسار اقتصادي ضدّ يمين متطرف! .. وكثيرون هم الذين أوهموا الناس، أو حاولوا أن يوهموهم، أن الدوافع الخفية التي قادت رسول الله ومن معه إلى ما صنع، إنما تتمثل في الرغبة الطامحة إلى نقل الزعامة والسيادة من أيدي الأعاجم إلى أيدي العرب. وجنّدت لهذه الأغراض أقلام، ونثرت ابتغاء تحقيق ذلك أعطيات وأموال؛ ورشح مؤلف هذا الكتاب ذاته في يوم من الأيام، لسلوك هذا الطريق وكتابة سيرة رسول الله بالطريقة التي تخدم هذه الأغراض، وطلب منه ذلك مباشرة وعلانية. غير أن التّجربة أثبتت أن كلّا من الأسلوب أو المنهج أو حوك التصورات المصطنعة، لا يقوى على تحويل الحق إلى باطل أو الباطل إلى حق. فلقد انقشعت سحب هذه الكتابات كلها، على الرغم من كثافتها، وعادت شمس الحقيقة ساطعة من ورائها كما هي. وبقي الناس عامة والمثقفون خاصة، على يقين بأن عظمة رسول الله ثمرة من ثمار نبوته، قبل أن تكون من نسيج إنسانيته. وبأن الفتح الذي تمّ على يده، كان قياما بأمر الله، ولم يكن لحاقا وراء مال.. وبأن السيادة فوق هذه الأرض- فيما علّمنا إيّاه رسول الله- إنما هي للإنسان من حيث هو، فهو

المستخلف عن الله، وهو المكرّم بحكم الله؛ فإن تفاوت الناس وراء هذه السيادة، فإنما يتفاوتون بالتقوى والعمل الصالح، لا بأي من الامتيازات الأخرى التي قد يتباهى بها بعض الناس. لا جرم أن شدة إقبال الناس على ما كتبته من تصحيح لتلك الأغلاط أو الانحرافات، تعود إلى سبب واحد لا ثاني له، هو تعلّق الفطرة الإنسانية الأصيلة بالحق أينما لاح وأيّا كان المنادي به؛ وثقل الباطل عليها واشمئزازها منه، مهما كانت المغريات التي أنيط بها أو الزينة التي غمس فيها. ولعل هذا من بعض معنى قول الله عزّ وجلّ: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. هذا، إلى جانب ما هو بيّن واضح، من أن عقول أكثر الناس تتجه اليوم إلى البحث عن الحقيقة.. الحقيقة الصافية عن الشوائب والمتحررة من سلطان الأغراض والأسبقيات، لا سيما بعد أن ظهر للعيان كيف مني الإنسان بالمصائب الفادحة من جراء التلاعب بالحقائق والسعي إلى إخضاعها لحكم الرعونات والمصالح والأهواء. ولعل هذا من بعض العوامل الكامنة وراء ما نشاهده جميعا من الصحوة الإسلامية، على سائر الأصعدة، وبين جميع الفئات. *** أما هذه الطبعة، فإنها تمتاز- بعد العناية التي وفقنا الله لها في التّنضيد والإخراج- بقسم سابع يتضمن بيانا موجزا للخلافة الراشدة، وقد كان لا بدّ أن نسير في ذلك على المنهج المتّبع ذاته، فنتبع الحديث عن حياة كل خليفة وأهم الأحداث التي جرت في عهده بالعبر والعظات التي تؤخذ من ذلك. وبهذا نكون قد وفقنا لجعل هذا الكتاب مصدرا وافيا لسيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، مع التحليل الذي يضع القارئ أمام فقه ذلك كله، ويصله بالمعاني والمبادئ التي تعدّ ثمرة هذه الدراسة، وأهم الأغراض التي ينبغي أن تقصد من ورائها. والفضل أولا وآخرا في هذا التوفيق لله عزّ وجلّ وحده. كل ما أرجوه من الله عزّ وجلّ، بعد أن أكرمني بهذا التوفيق، أن يزيد من إنعامه فيكرمني بالإخلاص لوجهه الكريم، ويطهّر قلبي عما دون ذلك من الدوافع والأغراض. ويقيني الذي لا يدخله ريب، أن الأمر كله بيد الله، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله. دمشق 15 رمضان 1411 هـ 1 نيسان 1991 م محمد سعيد رمضان البوطي

مقدمة الطبعة الثانية

مقدمة الطبعة الثانية 1- هذه الطبعة الثانية لكتاب فقه السّيرة، أقدمها إلى الذين تعنيهم دراسة سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلم، ويهمهم الوقوف على فقه السّيرة ودروسها وعظاتها، بعد أن زدت في كثير من أبحاثه، وعدت بالتهذيب والتنقيح إلى بعض فصوله، رجاء أن يزداد الكتاب بذلك قربا إلى الكمال، مع اليقين بأن الكمال المطلق غاية لا تدرك، والعصمة من الزلل مستوى لا يصار إليه، اللهم إلا ما أكرم الله به من ذلك أنبياءه المقربين، فتلك مزية لهم لم تعط لغيرهم، وإنما أكرمهم الله بها لكي يتضح للناس الفرق بين من يعمل عقله في المسائل تأملا واجتهادا، وبين من أرشده الله إلى الحق فيها وحيا وإلهاما، مع ما أولاهم من العقل الكامل والبصيرة النيرة الصافية. 2- وما كنت أتوقع، يوم ظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب أن تنفد نسخها في هذه المدة اليسيرة، وأن تجد ما وجدته من الإقبال في مختلف البلاد العربية والإسلامية، وإن كنت أعلم أنني قد سلكت في كتابة السّيرة النّبوية والتعليق عليها مسلكا من شأنه أن يصحح أغلاط كثير ممن كتبوا فيها في هذا العصر، وأن يميط الغشاء عن المغالطات التي كانت ولا تزال تدسها أقلام كثير من الكاتبين والمستشرقين والمستغربين وهي أغلاط ومغالطات قامت لتغذيتها ورعايتها وترويجها مدرسة فكرية معينة نشأت في أواخر القرن التاسع عشر وراحت تمد من آثارها وظلالها، إلى أيامنا هذه. 3- ولقد أدركت، مما بلغني من حمد القراء للطريقة التي كتبت بها هذه الفصول، أن تلك المدرسة لم تعد تخدع إلا قلة من بقايا المفتونين باسمها واسم مؤسسيها ودعاتها، وأن الحقائق الناصعة في حياة المصطفى عليه الصلاة والسلام تظل هي المشرقة السائدة، ويظل العقل الحر نزاعا إليها موقنا بها غير مطمئن إلى أي تأويل أو تحليل يهدف إلى تحويرها أو التلاعب بها. 4- ولقد علم عامة الباحثين والمفكرين أن من أهم أسباب نشأة تلك المدرسة في حينها، ذلك الانبهار الذي أصيب به كثير من العقول العربية المسلمة من أنباء النهضة العلمية في أوربا. فقد راحت تلك العقول تتوهم- تحت تأثير ذلك الانبهار- أنه ليس بين المسلمين وبين أن ينهضوا مثل تلك النهضة إلا أن يفهموا الإسلام هنا كما فهمت أوربا النّصرانية هناك، وأن يضعوا حقائق الإسلام الغيبية من وراء اكتشافات العلوم المادية، فلا يؤمنوا بغيب لم يدركه علم، ولا يعرجوا على معجزة لم يؤيدها اكتشاف أو اختراع. فإذا فعلوا ذلك نهضوا نهضة أوربا في علومها ولحقوها في رقيها وفنونها.

ومن هنا أنشأ أقطاب تلك المدرسة ما زعموه (الإصلاح الديني) ، والدين الصحيح ما كان يوما ليفسد حتى يحتاج إلى مصلح أو إصلاح، وكان من مظاهر هذا (الإصلاح) ظهور أول تجربة تحاول تحليل حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم تحليلا يسير في خضوع منكسر وراء العقلية الأوربية وتحت لواء ما زعموه (العلم الحديث) . أجل فلقد كان كتاب (حياة محمد) لحسين هيكل التجربة الرائدة في هذا المضمار أعلن فيه الرجل أنه لا يريد أن يفهم حياة محمد عليه الصلاة والسلام إلا كما يأمر به (العلم) ، ولذلك فلا خوارق ولا معجزات في حياته عليه الصلاة والسلام؛ إنما هو القرآن، والقرآن فقط. وتذكر الكاتب أن يستشهد في هذا بقول البوصيري: لم يمتحنا بما تعي العقول به ... حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم ونسي أن يقف عند قوله في القصيدة ذاتها: جاءت لدعوته الأشجار ساجدة ... تمشي إليه على ساق بلا قدم وانبرى الشيخ المراغي شيخ الأزهر إذ ذاك، يقرظ الكتاب ويبارك الخطوة الرائدة، وانطلق محمد فريد وجدي هو الآخر ينشر سلسلة مقالاته داعيا فيها إلى فهم الإسلام والسّيرة النّبوية عن طريق (العلم) ، ولو اقتضى ذلك الإعراض عن الخبر الصادق الذي ثبت في الكتاب أو السّنة، وإنما كان يقصد ب (طريق العلم) أن لا يستسلم العقل للغيبيات ولا الخوارق والمعجزات وإن جاء بها الخبر الصادق المتواتر، كأن العلم إنما يتحقق بإنكار كل ما لم يقع تحت حسك وشعورك!! 5- ومعلوم كيف استغل الاحتلال البريطاني في مصر إذ ذاك، هذا الفهم الجديد للإسلام عند طائفة من أقطاب الفكر وحملة القلم، استغله في إضعاف الوازع الديني في أفئدة المسلمين، (وأي وازع ديني يبقى في نفس من أنكر فكرة المعجزة من أساسها في الدين، وهل الدين شيء غير معجزة الوحي الإلهي إلى رسله وأنبيائه؟) فراحت التربية الاستعمارية تباعد بين المسلمين ومنهجهم الإسلامي، وتقيم بينهم وبينه منهجا آخر، كل ما فيه من المؤيدات أنه منهج أوربي عريق! .. 6- ثم مرت الأزمنة وتوالت السّنوات، فتبيّن لكل باحث منصف، أن تلك المدرسة لم تكن على شيء من التأمل الفكري الحر ولا من البحث العلمي النّزيه، وإنما كانت ردّ فعل أثاره الانبهار والشعور بالضعف لدى طائفة من المسلمين، تهيأ لها بسبب ظروف خاصة أحاطت بها، أن تطلع على الحياة الأوربية فتستهويها زخرفها وملذّاتها، فاتّخذوا من نزوات نفوسهم حاكما مسلطا على عقولهم واصطنعوا بذلك مدرسة فكرية ظاهرها (الإصلاح الديني) وباطنها الاستخذاء النفسي والانبهار الفكري بين يدي نهضة الغرب.

وتبين لكل باحث أيضا أن تلك المدرسة لم تكسب أربابها ودعاتها أي نهضة علمية كالتي نهضتها أوربا كما كانوا يوهمون أو يتوهمون. كل ما جنته أيدي ذلك (الإصلاح الديني) فقدان الحقيقتين معا، فلاهم على حقيقتهم الدينية أبقوا ولا على النهضة العلمية عثروا «1» . 7- من أجل ذلك أردت أن يكون أهم عملي في هذا الكتاب هو الإقدام على إزالة بقية الأطلال القائمة لتلك المدرسة المذكورة. إن المسلم لا ينبغي أن يحاول لحظة واحدة، فهم حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أنه عبقري عظيم أو قائد خطير أو داهية محنّك. فمثل هذه المحاولة ليست إلا معاندة أو معابثة للحقائق الكبرى التي تزخر بها حياة محمد عليه الصلاة والسلام. فلقد أثبتت هذه الحقائق الجلية الناصعة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان متّصفا بكل صفات السّمو والكمال الخلقي والعقلي والنفسي، ولكن كل ذلك كان ينبع من حقيقة واحدة كبرى في حياته عليه الصلاة والسلام، ألا وهي أنه نبي مرسل من قبل الله عزّ وجلّ. وإن من العبث الغريب أن نضع الفروع في موضع الأصل ثم نتجاهل وجود الأصل مطلقا!. ولا ريب أن الرّد على ذلك لا يكون إلا بلفت النظر إلى الأصل. بل إلى الأصل وحده. كما أن المسلم لا ينبغي له أن يتصور أن المعجزة الوحيدة في حياته صلّى الله عليه وسلم إنما هي القرآن، مادام أنه لا ينكر أن له عليه الصلاة والسلام سيرة يحاول أن يفهم حياته من خلالها. أما إن كان ينكر وجود هذه السّيرة فإن عليه أن ينكر معجزة القرآن أيضا. إذ لم تبلغنا معجزات رسول الله المختلفة إلا من حيث بلغتنا منه معجزة القرآن. والإقدام على تأويل هذا وتسليم ذاك طبق ما يستهوي النفس ويتفق مع الغرض، إسفاف غريب في تصنع البحث والفهم، لا يقدم عليه من كان كريما على نفسه معتزا بعقله. 8- وكان فيما رأيته من الرضا والحماس اللذين استقبل بهما القرّاء عملي هذا، أعظم دليل على أن كل هذا الذي أنفقه دعاة السوء ومحترفو الغزو الفكري من مستشرقين ومستغربين وأذناب وجهال، من وقت طويل وجهد عظيم وكتابات مستفيضة متلاحقة، لا يمكنه أن يتسبب في تحويل شيء من الحق إلى الباطل أو من الباطل إلى الحق، وعلى أن الحقيقة الفكرية لا يمكن أن تغتال، ولئن أمكن مخادعتها أو التلبيس عليها، فلن يكون ذلك إلا إلى أمد.. ثم ينحسر الخداع ويزول التلبيس وتشرق الحقيقة مرة أخرى من جديد. ويستفيد المتأملون والباحثون من ذلك عبرة تمدّ أفكارهم بمزيد من الحذر والوعي.

_ (1) أفردت للحديث عن هذه المدرسة ونقدها وتفصيل القول فيها فصلا مستقلا في هذه الطبعة ستجده بين المقدمات التي جعلتها مدخلا لهذا الكتاب.

ومهما يكن صحيحا ما يقوله الناس من ابتعاد المسلمين عن منهجهم الإسلامي العظيم في هذه السنوات الأخيرة، فإن الذي أعتقده أن الناشئة المسلمة اليوم تملك من الوعي الإسلامي ودقة التأمل والملاحظة ما لم يكن يملكه المسلمون في أي عهد (قريب) مضى. ولن يمر زمن طويل حتى تجد أن هذا الوعي قد انقلب إلى حركة إيجابية عاملة، تصلح الانحراف، وتقوم الاعوجاج، وتعيد البناء الإسلامي من جديد. 9- ومن ناحية أخرى فقد فضلت أن أسير في كتابة هذه البحوث على المنهج المدرسي القائم على استنباط القواعد والأحكام، مبتعدا عن المنهج الأدبي التحليلي المجرد، وإن كان لكلّ مزيته وفائدته، ذلك لأن المجال الذي أقدم فيه الكتاب (وهو المجال الجامعي) إنما ينسجم ويتفق مع الطريقة الأولى. ولقد وجدت من رضا القرّاء عن هذا المنهج- على اختلافهم- ما دفعني إلى مزيد من التوسع في ذلك والدقة فيه. وإن كنت أعلم أنني لم أستوف البحث حقه ولم أعالج كل ما ينبغي معالجته. ومردّ ذلك: أولا، إلى عجزي وقصوري ولا شك. ثانيا، إلى أنني لا أريد أن أفيض في ذكر المسائل والأحكام ومتعلقاتها إلى الحد الذي يشق معه على القارئ أن يقرأ الكتاب كله لقاء جهد يسير. فإن الكتاب إذا تجاوز إلى هذا الحد، قلّت فائدته بنظري وأصبح مرجعا يستعان به عند المناسبات، بدلا من أن يكون كتابا سهلا سائغا يقتنى للقراءة والدرس في أعمّ الأحوال. *** 10- غير أن هنالك فئة أخرى من الناس، لم يعجبها هذا الذي صنعت، بل ذهب بعض أفرادها في نقده مذهبا تسربل فيه بلباس الضغينة والحقد، بدلا من أن يظهر في مظهر البحث العلمي المتجرد. ولوددت لو أنني نبهت إلى خطأ انحرفت إليه لدى البحث، أو غفلة أصابتني عند بيان حكم أو دليل من قبل أخ مخلص، لأشكر له تنبيهه وأدعو له بالمثوبة والأجر، ولكنني لم أقع بدلا من ذلك إلا على ما لا حصيلة له من القول المنبعث عن رغبة واضحة في الإساءة والتّشفي والانتصار للعصبة والعصبية. 11- فلقد وجدت- مثلا- في هدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعمل أصحابه ما أوضح بشكل لا خفاء فيه مشروعية التوسل برسول الله صلّى الله عليه وسلم حيّا وميتا، فقررت ذلك بعد أن عرضت بين يديه ما لا يمكن ردّه من الأدلة والبراهين. ووجدت في سيرته صلّى الله عليه وسلم ما أوضح مشروعية القيام إكراما للقادم، فذكرت هذه الأدلة وأوضحت ما ذكره العلماء من الفرق بين القيام للقادم والقيام على الرجل الجالس، وما أوضحته

السّنة في ذلك، ثم قررت مشروعية هذا القيام إذا انضبط بشروطه وقيوده التي بينتها السّنة الصحيحة، وقواعد الأصول والأحكام. ووجدت فيها ما أوضح مشروعية قضاء الصلاة الفائتة سواء فاتت بسهو أو عمد فعرضت الأدلة ثم قررت الحكم على ضوئها. ولو وجدت الأدلة قاضية بغير الذي اعتمدته، لقلت غير ذلك، ولا تبعت ما يرشد إليه الأصل والدليل، ولكنني لا أستطيع بأي حال أن أغمض العين عن مدرك الأحكام وأدلتها، لأقلد فئة من الناس اليوم، طاب لها أن تتخذ من مخالفة الأئمة وجمهور العلماء مذهبا جديدا، وألا يتورع الكثير منها عن انتقاصهم، بل عن لعنهم على رؤوس الأشهاد. ونعوذ بالله من أن ينقلب لدينا البحث العلمي في العقل، إلى مثل هذه العصبية المستحكمة في النفس! .. 12- ولوددت والله، لو أن هذه الفئة التي تظل تشغل أفكار الناس وأوقاتهم بآرائها واجتهاداتها الفرعية، حاولت أن تشتغل هي الأخرى بهذا الذي وقع الناس فيه من أمور ومشكلات جسيمة خطيرة تحتاج إلى بذل الطاقات الهائلة وحصر الجهود العظيمة في سبيل معالجتها وتخليص المسلمين من آفاتها. ولكنها تظل ويا للعجب متنكرة متجاهلة لكل هذا الذي يفور به الزمن من أحداث، ويحوم حول العقل من قوانص الدين والإيمان، لتضمن لنفسها العكوف الهادئ على هذا الذي تسعى لإثارته بين الناس من مسائل لا جديد فيها أكثر مما وقع من خلاف قديم، ولا فائدة ترجى من الخصومة فيها أكثر من إثارة الضغائن في النفوس. ولقد كان بوسع هذه الفئة أيضا- لو أنها كانت مخلصة لوجه الله في دأبها هذا- أن تعتنق الرأي الذي تطمئن إليه، ثم تترك الآخرين لما اطمأنوا هم أيضا إليه من المذهب والرأي، وتقلع عن الاستمرار في محاولة بسط سلطانها على الناس بالخصومة والعنف وتسفيه الأفكار. فلقد ظل جمهور المسلمين من قبلنا يجتمعون على التمسك بالأمور القطعية من اعتقادية وعملية، ويضفرون الجهود للاهتمام بها والذود عنها، فإذا ما بحثوا بعد ذلك في الأمور الاجتهادية الظنية لم يبالوا أن يختلفوا في صدد كثير منها إلى مذاهب متعددة دون أن يندفع أحد فيهم إلى محاولة بسط سلطانه على الآخرين واستعبادهم لما انقدح في ذهنه من الرأي. ولو أنهم رضي الله عنهم فعلوا شيئا من هذا، لقضي على الوحدة الإسلامية قبل أن تدرج من المهد، ولما عثرنا في تاريخنا الإسلامي على شيء مما نظل نزهى به اليوم من مظاهر القوة والحضارة والمجد. 13- وأنا إنما أدعو القارئ بصدد البحث في هذه المسائل التي خالفت فيها هذه الفئة المذكورة، والتقيت في فهمها بمذهب جمهور المسلمين إلى أن يمعن النظر في الدليل وسلامته وقوته،

بعد أن يكون على بيّنة منه ومن طريقة الاستدلال به. ولا عليه بعد ذلك أن يركن إلى ما يطمئن إليه فكره وعقله، دون أن يجعل لأي تعصب فكري إلى نفسه من سبيل. وإنما الخطورة كل الخطورة في أن يتحول الرأي في العقل إلى عصبية مستكنة في النفس، وليست الخطورة في أن يختلف اثنان حول مسألة انقدح لكل منهما فيها دليل مقنع. وأسأل الله سبحانه أن يجمعنا على الحق ويهدينا سواء السبيل، وأن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه إنه سميع مجيب. دمشق محمد سعيد بن ملا رمضان البوطي 17 جمادى الأولى 1388 10 أيلول 1968 م

القسم الأول مقدمات

القسم الأوّل مقدّمات أهميّة السّيرة النبويّة في فهم الإسلام ليس الغرض من دراسة السيرة النبوية وفقهها، مجرد الوقوف على الوقائع التاريخية، ولا سرد ما طرف أو جمل من القصص والأحداث ولذا فلا ينبغي أن نعتبر دراسة فقه السيرة النبوية من جملة الدراسة التاريخية، شأنها كشأن الاطلاع على سيرة خليفة من الخلفاء أو عهد من العهود التاريخية الغابرة. وإنما الغرض منها؛ أن يتصور المسلم الحقيقة الإسلامية في مجموعها متجسدة في حياته صلّى الله عليه وسلم، بعد أن فهمها مبادئ وقواعد وأحكاما مجردة في الذهن. أي إن دراسة السيرة النبوية، ليست سوى عمل تطبيقي يراد منه تجسيد الحقيقة الإسلامية كاملة، في مثلها الأعلى محمد صلّى الله عليه وسلم. وإذا أردنا أن نجرئ هذا الغرض ونصنّف أجزاءه، فإن من الممكن حصرها في الأهداف التفصيلية التالية: 1- فهم شخصية الرسول صلّى الله عليه وسلم (النبوية) من خلال حياته وظروفه التي عاش فيها، للتأكد من أن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يكن مجرد عبقري سمت به عبقريته بين قومه، ولكنه قبل ذلك رسول أيّده الله بوحي من عنده وتوفيق من لدنه. 2- أن يجد الإنسان بين يديه صورة للمثل الأعلى في كل شأن من شؤون الحياة الفاضلة، كي يجعل منها دستورا يتمسك به ويسير عليه ولا ريب أن الإنسان مهما بحث عن مثل أعلى في ناحية من نواحي الحياة فإنه واجد كل ذلك في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أعظم ما يكون من الوضوح والكمال. ولذا جعله الله قدوة للإنسانية كلها إذ قال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب 33/ 21] .

3- أن يجد الإنسان في دراسة سيرته عليه الصلاة والسلام ما يعينه على فهم كتاب الله تعالى وتذوق روحه ومقاصده، إذ إن كثيرا من آيات القرآن إنما تفسرها وتجلّيها الأحداث التي مرت برسول الله صلّى الله عليه وسلم ومواقفه منها. 4- أن يتجمع لدى المسلم من خلال دراسة سيرته صلّى الله عليه وسلم، أكبر قدر من الثقافة والمعارف الإسلامية الصحيحة، سواء ما كان منها متعلقا بالعقيدة أو الأحكام أو الأخلاق، إذ لا ريب أن حياته عليه الصلاة والسلام إنما هي صورة مجسدة نيرة لمجموع مبادئ الإسلام وأحكامه. 5- أن يكون لدى المعلم والداعية الإسلامي نموذج حيّ عن طرائق التربية والتعليم، فلقد كان محمد صلّى الله عليه وسلم معلما ناصحا ومربيا فاضلا لم يأل جهدا في تلمس أجدى الطرق الصالحة إلى كل من التربية والتعليم خلال مختلف مراحل دعوته. وإن من أهم ما يجعل سيرته صلّى الله عليه وسلم وافية بتحقيق هذه الأهداف كلها أن حياته عليه الصلاة والسلام شاملة لكل النواحي الإنسانية والاجتماعية التي توجد في الإنسان من حيث إنه فرد مستقل بذاته أو من حيث إنه عضو فعال في المجتمع. فحياته عليه الصلاة والسلام تقدم إلينا نماذج سامية للشاب المستقيم في سلوكه، الأمين مع قومه وأصحابه، كما تقدم النموذج الرائع للإنسان الداعي إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، الباذل منتهى الطاقة في سبيل إبلاغ رسالته، ولرئيس الدولة الذي يسوس الأمور بحذق وحكمة بالغة، وللزوج المثالي في حسن معاملته، وللأب في حنو عاطفته، مع تفريق دقيق بين الحقوق والواجبات لكل من الزوجة والأولاد، وللقائد الحربي الماهر والسياسي الصادق المحنك، وللمسلم الجامع- في دقة وعدل- بين واجب التعبد والتبتل لربه، والمعاشرة الفكهة اللطيفة مع أهله وأصحابه. لا جرم إذن، أن دراسة سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم ليست إلا إبرازا لهذه الجوانب الإنسانية كلها مجسدة في أرفع نموذج وأتم صورة.

السيرة النبوية كيف تطورت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم

السّيرة النبويّة كيف تطوّرت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم السيرة النبوية والتاريخ: لا ريب أن سيرة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم تشكل الركيزة الأساسية لحركة التاريخ العظيم الذي يعتز به المسلمون على اختلاف لغاتهم وأقطارهم. وانطلاقا من هذه السيرة دون المسلمون التاريخ ... ذلك لأن أول ما دونه الكاتبون المسلمون من وقائع التاريخ وأحداثه، هو أحداث السيرة النبوية، ثم تلا ذلك تدوين الأحداث التي تسلسلت على أثرها إلى يومنا هذا. حتى التاريخ الجاهلي الذي ينبسط منتشرا وراء سور الإسلام في الجزيرة العربية، إنما وعاه المسلمون من العرب وغيرهم، واتجهوا إلى رصده وتدوينه، على هدي الإسلام الذي جاء فحدد معنى الجاهلية، وعلى ضوء المعلمة التاريخية الكبرى التي تمثلت في مولد أفضل الورى سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم وسيرة حياته. إذن، فالسيرة النبوية تشكل المحور الذي تدور حوله حركة التدوين لتاريخ الإسلام في الجزيرة العربية. بل هي العامل الذي أثر في أحداث الجزيرة العربية أولا، ثم في أحداث سائر العالم الإسلامي ثانيا. ولقد امتلك فن الرواية لأحداث التاريخ عند العرب والمسلمين منهجا علميا دقيقا لرصد الوقائع وتمييز الصحيح منها عن غيره، لم يملك مثله غيرهم. غير أنهم لم يكونوا ليكتشفوا هذا المنهج، ولم يكونوا لينجحوا في وضعه موضع التنفيذ في كتاباتهم التاريخية، لولا السيرة النبوية التي وجدوا أنفسهم أمام ضرورة دينية تحملهم على تدوينها تدوينا صحيحا، على نحو لا يشوبها وهم ولا يتسلل إليها خلط أو افتراء.. ذلك لأنهم علموا أن سيرة سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسنته هما المفتاح الأول لفهم كتاب الله تعالى. ثم هما النموذج الأسمى لكيفية تطبيقه والعمل به. فكان أن نهض بهم دافع اليقين بنبوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبأن القرآن كلام الله تعالى، وبأنهم يحملون مسؤولية العمل بمقتضاه، وأن الله محاسبهم على ذلك حسابا دقيقا- نهض بهم اليقين بكل ذلك إلى تحمل أقسى الجهد في سبيل الوصول إلى منهج علمي تحصن فيه حقائق السيرة والسنة النبوية المطهرة. وإنما أقصد بالمنهج العلمي قواعد مصطلح الحديث، وعلم الجرح والتعديل. فمن المعلوم أن

كيف بدأت ثم تطورت كتابة السيرة:

ذلك إنما وجد أولا لخدمة السنة المطهرة التي لا بد أن تكون السيرة النبوية العامة قاعدة لها. ثم إنه أصبح بعد ذلك منهجا لخدمة التاريخ عموما، وميزانا لتمييز حقائقه عن الأباطيل التي قد تعلق به. يتبين لك من هذا أن كتابة السيرة النبوية، كانت البوابة العريضة الهامة التي دخل منها المسلمون إلى دراسة التاريخ وتدوينه عموما، وأن القواعد العلمية التي استعانوا بها لضبط الروايات والأخبار، هي ذاتها القواعد التي أبدعتها عقول المسلمين شعورا منهم بالحاجة الماسة إلى حفظ مصادر الإسلام وينابيعه الأولى من أن يصيبها أي دخيل يعكرها. كيف بدأت ثم تطورت كتابة السيرة: تأتي كتابة السيرة النبوية- من حيث الترتيب الزمني- في الدرجة الثانية بالنسبة لكتابة السنة النبوية. فلا جرم أن كتابة السنة، أي الحديث النبوي، كانت أسبق من كتابة السيرة النبوية عموما. إذ السنة بدأت كتابتها، كما هو معلوم، في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بإذن، بل بأمر منه عليه الصلاة والسلام. وذلك بعد أن اطمأن إلى أن أصحابه قد تنبهوا للفارق الكبير بين أسلوبي القرآن المعجز والحديث النبوي البليغ، فلن يقعوا في لبس بينهما. أما كتابة حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومغازيه بصورة عامة، فقد جاء ذلك متأخرا عن البدء بكتابة السنة، وإن كان الصحابة يهتمون بنقل سيرته ومغازيه شفاها.. ولعل أول من اهتم بكتابة السيرة النبوية عموما، هو عروة بن الزبير المتوفى 92 هـ ثم أبان بن عثمان المتوفى 105 هـ ثم وهب بن منبه المتوفى 110 هـ ثم شرحبيل بن سعد المتوفى 123 هـ ثم ابن شهاب الزهري المتوفى 124 هـ. إن هؤلاء يعدون، ولا ريب، في مقدمة من اهتموا بكتابة السيرة النبوية، كما تعد كتاباتهم طليعة هذا العمل العلمي العظيم، بل تعد الخطوة الأولى- كما ألمحنا- إلى كتابة التاريخ والاهتمام به عموما، هذا بقطع النظر عن أن الكثير من أحداث السيرة منثور في كتاب الله تعالى، وفي بطون كتب السنة التي تهتم من سيرته صلّى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله، لا سيما ما يتعلق منها بالتشريع. غير أن جميع ما كتبه هؤلاء قد باد وتلف مع الزمن، فلم يصل إلينا منه شيء. ولم يبق منه إلا بقايا متناثرة، روى بعضها الطبري. ويقال إن بعضها الآخر- وهو جزء مما كتبه وهب بن منبه- محفوظ في مدينة هايدلبرج بألمانيا. ولكن جاء في الطبقة التي تلي هؤلاء من تلقف كل ما كتبوه، فأثبتوا جلّه في مدوناتهم التي وصل إلينا معظمها بحمد الله وتوفيقه. ولقد كان في مقدمة هذه الطبقة محمد بن إسحاق المتوفى عام 152 هـ. وقد اتفق الباحثون على أن ما كتبه محمد بن إسحاق يعدّ من أوثق ما كتب في السيرة

المنهج العلمي في رواية السيرة النبوية:

النبوية في ذلك العهد «1» ولئن لم يصل إلينا كتابه (المغازي) بذاته، إلا أن أبا محمد عبد الملك المعروف بابن هشام قد جاء من بعده، فروى لنا كتابه هذا مهذبا منقحا، ولم يكن قد مضى على تأليف ابن إسحاق له أكثر من خمسين سنة. يقول ابن خلكان: «وابن هشام هذا، هو الذي جمع سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، من المغازي والسير لابن إسحاق، وهذبها، ولخصها، وهي السيرة الموجودة بأيدي الناس والمعروفة بسيرة ابن هشام» «2» . وعلى كل، فإن مصادر السيرة النبوية التي اعتمدها سائر الكتاب على اختلاف طبقاتهم محصورة في المصادر التالية: أولا- كتاب الله تعالى. فهو المعتمد الأول في معرفة الملامح العامة لحياة النبي صلّى الله عليه وسلم، وفي الاطلاع على المراحل الإجمالية لسيرته الشريفة، بقطع النظر عن أسلوب القرآن في بيان ذلك. ثانيا- كتب السنة النبوية، وهي تلك التي كتبها أئمة الحديث المعروفون بصدقهم وأمانتهم، كالكتب الستة وموطأ الإمام مالك ومسند الإمام أحمد وغيره، وإن كانت عناية هذه الكتب الأولى إنما تنصرف إلى أقوال رسول الله وأفعاله من حيث إنها مصدر تشريع، لا من حيث هي تاريخ يدوّن. ولذلك رتبت أحاديث كثير من هذه الكتب على الأبواب الفقهية، ورتب بعضها على أسماء الصحابة الذين رووا هذه الأحاديث، ولم يراع فيها التتابع الزمني للأحداث. ثالثا- الرواة الذين اهتموا بسيرة النبي صلّى الله عليه وسلم وحياته عموما، وقد كان في الصحابة الكثير ممن اهتم بذلك، بل ما من صحابي كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مشهد من مشاهد سيرته إلا ورواه لسائر الصحابة ولمن بعده أكثر من مرة. ولكن دون أن يهتم واحد منهم في بادئ الأمر بجمع هذه السيرة وتدوينها. وأحب أن ألفت النظر هنا إلى الفرق بين عموم ما يسمى كتابة وتقييدا، وخصوص ما يسمى تأليفا أو تدوينا. أما الأول فقد كان موجودا بالنسبة للسنة في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما ذكرنا آنفا، وأما الثاني، ويراد به الجمع والتنسيق بين دفتين، فقد ظهر فيما بعد، عندما ظهرت الحاجة إلى ذلك. المنهج العلمي في رواية السيرة النبوية: من المعلوم أن كتابة السيرة النبوية، تدخل في عموم ما يسمى تأريخا، وإن كانت السيرة النبوية، - كما أوضحنا- منطلقا للتأريخ وحافزا على رصد الوقائع والأحداث التي خلت قبلها والتي جاءت متسلسلة على أعقابها.

_ (1) انظر ما كتبه ابن سيد الناس في مقدمة كتابه عيون الأثر عن ابن إسحاق وترجمته. (2) وفيات الأعيان: 1/ 290 الطبعة الميمنية.

ولكن على أيّ منهج اعتمد كتّاب السيرة في تاريخها وتدوينها؟ لقد كان منهجهم المعتمد في ذلك اتباع ما يسمى اليوم بالمذهب الموضوعي في كتابة التاريخ، طبق قواعد علمية سنشير إليها. ومعنى هذا أن كتّاب السيرة النبوية وعلماءها، لم تكن وظيفتهم بصدد أحداث السيرة، إلا تثبيت ما هو ثابت منها، بمقياس علمي يتمثل في قواعد مصطلح الحديث المتعلقة بكل من السند والمتن، وفي قواعد الجرح والتعديل المتعلقة بالرواة وتراجمهم وأحوالهم. فإذا انتهت بهم هذه القواعد العلمية إلى أخبار ووقائع، وقفوا عندها، ودونوها، دون أن يقحموا تصوراتهم الفكرية أو انطباعاتهم النفسية أو مألوفاتهم البيئية إلى شيء من تلك الوقائع بأي تلاعب أو تحوير. لقد كانوا يرون أن الحادثة التاريخية التي يتم الوصول إلى معرفتها، ضمن نفق من هذه القواعد العلمية التي تتسم بمنتهى الدقة، حقيقة مقدسة، يجب أن تجلى أمام الأبصار والبصائر كما هي، كما كانوا يرون أن من الخيانة التي لا تغتفر أن ينصب من التحليلات الشخصية والرغبات النفسية التي هي في الغالب من انعكاسات البيئة ومن ثمار العصبية، حاكّم مسلّط يستبعد منها ما يشاء ويحوّر فيها كما يريد. ضمن هذه الوقاية من القواعد العلمية، وعلى ذلك الأساس من النظرة الموضوعية للتاريخ، وصلت إلينا سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلم بدءا من ولادته ونسبه، إلى طفولته، فصبوته اليافعة، إلى الإرهاصات الخارقة التي صاحبت مراحل طفولته وشبابه، إلى بعثته وظاهرة الوحي التي تجلت في حياته، إلى أخلاقه وصدقه وأمانته، إلى الخوارق والمعجزات التي أجراها الله تعالى على يده، إلى مراحل الدعوة التي سار فيها لتلبية أمر ربه؛ من سلم، فدفاع، فجهاد مطلق حيثما طاف بالدعوة إلى الله تعالى أيّ تهديد، إلى الأحكام والمبادئ الشرعية التي أوحي بها إليه، قرآنا معجزا يتلى، وأحاديث نبوية تشرح وتبين. لقد كان العمل التاريخي إذن بالنسبة إلى هذه السلسلة من سيرته صلّى الله عليه وسلم، ينحصر في نقلها إلينا محفوظة مكلوءة، ضمن تلك الوقاية العلمية التي من شأنها ضبط الرواية من حيث الإسناد واتصاله، ومن حيث الرجال وتراجمهم، ومن حيث المتن أو الحادثة وما قد يطوف بها من شذوذ ونحوه. أما عملية استنباط النتائج والأحكام والمبادئ والمعاني من هذه الأخبار (بعد القبول التام لها) فعمل علمي آخر لا شأن له بالتاريخ، وما ينبغي أن يمزج به بحال من الأحوال. إنه عمل علمي متميز، ومستقل بذاته، ينهض بدوره على منهج وقواعد أخرى، من شأنها أن

السيرة النبوية على ضوء المذاهب الحديثة في كتابة التاريخ:

تضبط عملية استنباط النتائج والمبادئ من تلك الأحداث، ضمن قالب علمي يقصيها عن سلطان الوهم وشهوة الإرادة النفسية التي يعبر عنها أمثال وليم جيمس بإرادة الاعتقاد. من هذه القواعد: القياس الاستقرائي، وقانون الالتزام بأنواعه المختلفة، والدلالات بأنواعها.. إلخ. ولقد استنبطت من أحداث السيرة النبوية طبقا لهذه القواعد أحكام كثيرة، منها ما يتعلق بالاعتقاد واليقين، ومنها ما يتعلق بالتشريع والسلوك. والمهم في هذا الصدد أن نعلم بأنها جاءت منفصلة عن التأريخ وتدوينه، بعيدة عن معناه ومضمونه، وإنما كانت نتيجة معاناة علمية أخرى نهضت في حد وجودها على البنيان التاريخي الذي قام بدوره على القواعد العلمية التي ذكرناها. السيرة النبوية على ضوء المذاهب الحديثة في كتابة التاريخ: في القرن التاسع عشر ظهرت طرائق كثيرة متنوعة في كتابة التاريخ وتدوينه، إلى جانب الطريقة الموضوعية، أو ما يسمونه بالمذهب العلمي، وقد تلاقى معظم هذه المذاهب فيما أطلق عليه اسم المذهب الذاتي. ويعد (فرويد) من أكبر الدعاة إليه والمتحمسين له. ولا يرى أقطاب هذا المذهب من ضير في أن يقحم المؤرخ نزعته الذاتية أو اتجاهه الفكري والديني أو السياسي، في تفسير الأحداث وتعليلها والحكم على أبطالها.. بل إنهم يرون أن هذا هو واجب المؤرخ، لا مجرد وصف الأخبار وتجميع الوقائع العارية. وهذه الطريقة تجعل كتابة التاريخ وتدوينه عملا فنيا مجردا، ولا تسمح بعدّه نهوضا بعمل علمي دقيق. ونحن، وإن كنا لسنا بصدد الحديث عن المذاهب التاريخية ونقدها، فإن علينا ألّا نخفي أسفنا من أن يجد هذا المذهب- في عصر العلم والاعتزاز به وبمنهجيته- دعاة إليه ومؤمنين به. ذلك لأن هذا المذهب كفيل أن يمزق جميع الحقائق والأحداث التي يحتضنها الزمن في هيكله القدسي القديم الماثل أمام الأجيال، بفعل سبحات من أخيلة التوسم وشهوة الذات وعصبية النفس والهوى. وكم من حقيقة مسخت، وأحداث نكّست، وأمجاد دثرت، وبرءاء ظلموا، تحت سلطان هذه المحكمة الوهمية الجائرة. فهل كان لهذا المذهب الجديد من تأثير على كتابة السيرة وطريقة تحليلها؟ والحقيقة أن هذا المذهب الجديد في كتابة التاريخ قد أصبح أساسا لمدرسة جديدة في دراسة السيرة النبوية وفهمها عند طائفة من الباحثين. فكيف نشأت هذه المدرسة؟ .. وما هي عوامل نشأتها؟ .. وما مصيرها اليوم؟ .. تعود نشأة هذه المدرسة إلى أيام الاحتلال البريطاني لمصر، لقد كانت مصر آنذاك منبر العالم

الإسلامي كما نعلم، يعنو إليه بتفكيره وعقله كلما أراد أن يعلم عن الإسلام علما، كما يعنو إلى كعبة الله بوجهه كلما أراد حجا أو صلاة. وكان في استمرار هذا الصوت العظيم من جانب، وفي استمرار إنصات العالم الإسلامي إليه من جانب آخر، ما لا يدع للاحتلال البريطاني فرصة هدوء أو استقرار. ومهما أخضعت بريطانيا لنفسها الوادي كله تحت سلطان من قوة الحديد والنار. فإنه خضوع موقوت لا يطمأن إليه، ما بقيت للأزهر هذه القيادة الحية. لذا فقد كان لابد للاحتلال البريطاني من الإقدام على أحد علاجين لا ثالث لهما: أولهما: أن يقطّع ما بين الأزهر والأمة، بحيث لا يبقى له عليها من سلطان. ثانيهما: أن يتم التسلل إلى مركز العمليات القيادية في الأزهر ذاته، فتوجّه قيادته الوجهة التي ترضي مصالح الاحتلال وتهيئ له أسباب الطمأنينة والاستقرار. ولم تتردد بريطانيا في اختيار العلاج الثاني، نظرا إلى أنه أقرب منالا وأبعد عن الملاحظة والانتباه «3» . وكان السبيل الوحيد إلى هذا التسلل نحو القيادة العلمية والفكرية داخل الأزهر، الاعتماد على نقطة ضعف أليمة كانت تعاني منها مشاعر الأمة الإسلامية عامة، بما فيها مصر وغيرها. وهي إحساس المسلمين بما انتابهم من الضيعة والتخلف والشتات، إلى جانب ملاحظتهم للنهضة العجيبة التي نهضها الغرب في شتى المجالات الفكرية والعلمية والحضارية! .. لقد كان المسلمون يتطلعون ولا ريب إلى اليوم الذي يتحررون فيه من الأثقال التي خلفتهم إلى الوراء، ليشتركوا مع الآخرين في رحلة الحضارة والمدنية والعلم الحديث. من هذا السبيل تسلل الهمس، بل الكيد الاستعماري إلى صدور بعض من قادة الفكر في مصر. ولقد كان مؤدى هذا الهمس أن الغرب لم يتحرر من أغلاله، إلا يوم أخضع الدين لمقاييس العلم ... فالدين شيء والعلم شيء آخر، ولا يتم التوفيق بينهما إلا بإخضاع الأول للثاني. وإذا كان العالم الإسلامي حريصا حقا على مثل هذا التحرر فلا مناص له من أن يسلك الطريق ذاته، وأن يفهم الإسلام هنا، كما فهم الغرب النصرانية هناك. ولا يتحقق ذلك إلا بتخلص الفكر الإسلامي من سائر الغيبيات التي لا تفهم ولا تخضع لمقاييس العلم الحديث. وسرعان ما خضع لهذا الهمس، أولئك الذين انبهرت أبصارهم بمظاهر النهضة الأوربية الحديثة. ممن لم تترسخ حقائق الإيمان بالله في قلوبهم، ولا تجلت حقائق العلم الحديث وضوابطه في

_ (3) انظر مذكرات اللورد كرومر، والاتجاهات الوطنية في الأدب الحديث للدكتور محمد محمد حسين.

عقولهم. فتنادوا فيما بينهم إلى التحرر من كل عقيدة غيبية لم تصل إليها اكتشافات العلم الحديث، ولم تدخل تحت سلطان التجربة والمشاهدة الإنسانية. فكان أن قاموا بما أسمي فيما بعد بالإصلاح الديني. واقتضى منهم ذلك، أمورا عديدة، منها تطوير كتابة السيرة النبوية وفهمها، واعتماد منهج جديد في تحليلها، يتفق وما قصدوا إليه من الإعراض عن كل ما يدخل في نطاق الغيبيات والخوارق التي لا يقف العلم الحديث منها موقف فهم أو قبول. ولقد كان لهم في الطريقة الذاتية في كتابة التاريخ خير ملجأ يعينهم على تحقيق ما قصدوا إليه. وبدأت تظهر كتب وكتابات في السّيرة النّبوية، تستبدل بميزان الرواية والسند وقواعد التحديث وشروطه، طريقة الاستنتاج الشخصي، وميزان الرّضا النفسي، ومنهج التوسم الذي لا يضبطه شيء إلا دوافع الرغبة، وكوامن الأغراض والمذاهب التي يضمرها المؤلّف. واعتمادا على هذه الطريقة أخذ يستبعد هؤلاء الكاتبون، كل ما قد يخالف المألوف، مما يدخل في باب المعجزات والخوارق، من سيرته صلّى الله عليه وسلم. وراحوا يروجون له صفة العبقرية والعظمة والبطولة وما شاكلها، شغلا للقارئ بها عن صفات قد تجره إلى غير المألوف من النّبوة والوحي والرسالة ونحوها مما يشكل المقومات الأولى لشخصية النّبي صلّى الله عليه وسلم. ويعدّ كتاب (حياة محمد) لحسين هيكل أبرز نموذج لهذا الاتجاه في كتابة السّيرة النّبوية. ويعبر مؤلّفه عن اتجاهه هذا بصراحة وفخر عندما يقول: «إنني لم آخذ بما سجلته كتب السّيرة والحديث، لأنني فضلت أن أجري في هذا البحث على الطريقة العلمية» ! .. ومن نماذج هذه الطريقة الحديثة في كتابة السّيرة وفهمها، تلك المقالات المتتابعة التي نشرها المرحوم محمد فريد وجدي في مجلة نور الإسلام تحت عنوان: (السّيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة) والتي يقول في بعض منها: «وقد لا حظ قرّاؤنا أننا نحرص فيما نكتبه في هذه السّيرة، على ألا نسرف في كل ناحية إلى ناحية الإعجاز، ما دام يمكن تعليلها بالأسباب العادية حتى ولو بشيء من التّكلف» . ومن نماذج هذه الطريقة أيضا تلك الكتابات الكثيرة التي ظهرت لطائفة من المستشرقين عن حياة سيّدنا محمد صلّى الله عليه وسلم، في نطاق أعمالهم وكتاباتهم التاريخية التي قامت على المنهج الذاتي الذي ألمحنا إليه آنفا. إنك لتراهم يمجدون شخص محمد صلّى الله عليه وسلم، وينوهون بعظمته وصفاته الحميدة، ولكن بعيدا عن

كل ما قد ينبّه القارئ إلى شيء من معنى النّبوة أو الوحي في حياته، وبعيدا عن الاهتمام بالأسانيد والروايات التي قد يضطرهم الأخذ بها إلى اليقين بأحداث ووقائع ليس من صالحهم اعتمادها أو الاهتمام بها. وهكذا وجد أبطال هذه المدرسة الجديدة، في اتّباع المذهب الذاتي في كتابة التاريخ، الميدان الفسيح الذي يمكنهم من نبذ كل ما لا يعجبهم من حقائق السّيرة النّبوية مهما جاءت مدعومة بدلائل العلم واليقين، متّخذين من ميولهم النفسية، ورغباتهم الشخصية وأهدافهم البعيدة، حاكما مطلقا على حقائق التاريخ وتحليل ما وراءه من العوامل، وحكما مطلقا لقبول ما ينبغي قبوله ورفض ما يجب رفضه. لقد رأينا- مثلا- أن كل خارقة مما قد جاء به متواتر السّنة، وربما صريح القرآن تؤول، ولو بتكلف وتمحل، بما يعيدها إلى الوفاق مع المألوف، وبما يجعلها تنسجم مع الغرض المطلوب. فطير الأبابيل يؤول- على الرغم من أنف الآية الصريحة الواضحة- بداء الجدري. والإسراء الذي جاء به صريح القرآن، يحمل على سياحة الروح وعالم الرؤى. والملائكة الذين أمدّ الله المسلمين بهم في غزوة بدر يؤولون بالدّعم المعنوي الذي أكرمهم الله به! ... وآخر المضحكات العجيبة التي جاءت على هذا الطريق، تفسير النّبوة في حياة سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وإيمان الصحابة به وعموم الفتح الإسلامي، بأن جميعه لم يكن إلا ثورة يسار ضد يمين، أثارتها النوازع الاقتصادية انتجاعا للرزق وطلبا للتوسع، وألهبتها ردود الفعل لدى الفقراء ضد الأغنياء وأصحاب الإقطاع! .. وبعد، فقد كانت هذه الطريقة في دراسة السّيرة النّبوية خصوصا، والتاريخ الإسلامي عموما، مكيدة خطيرة عشيت عن رؤيتها أعين البسطاء من بعض المسلمين وصادفت هوى وقبولا حسنا عند طائفة أخرى من المنافقين وأصحاب الأهواء. لقد غاب عن أعين أولئك البسطاء، أن ذلك الهمس الاستعماري الذي يدعو المسلمين إلى ما أسموه بثورة إصلاحية في شؤون العقيدة الإسلامية، إنما قصد في الحقيقة نسف هذه العقيدة من جذورها. وغاب عنهم أن تفريغ الإسلام من حقائقه الغيبية، إنما يعني حشوه بمنجزات ناسفة تحيله أثرا بعد عين. ذلك لأن الوحي الإلهي- وهو ينبوع الإسلام ومصدره- يعدّ قمة الخوارق والحقائق الغيبية كلها. ولا ريب أن الذي يسرع إلى رفض ما قد جاء في السّيرة النّبوية من خوارق العادات، بحجة اختلافها عن مقتضى سنن الطبيعة ومدارك العلم الحديث، يكون أسرع إلى رفض

مصير هذه المدرسة اليوم:

الوحي الإلهي كله بما يتبعه ويتضمنه من إخباراته عن النشور والحساب والجنة والنار بالحجة الطبيعية ذاتها. كما غاب عنهم أن الدين الصالح في ذاته لا يحتاج في عصر ما إلى مصلح يتدارك شأنه، أو إصلاح يغيّر من جوهره. غاب عن هؤلاء الناس هذا كله، مع أن إدراكهم له كان من أبسط مقتضيات العلم. لو كانوا يتمتعون بحقيقته وينسجمون مع منطقيته. لكن أعينهم عشيت في غمرة انبهارها بالنهضة الأوربية الحديثة وما قد حفّ بها من شعارات العلم وألفاظه، فلم تبصر من حقائق المنطق والعلم إلا عناوينها وشعاراتها، وقد كانوا بأمس الحاجة إلى فهم كامل لما وراء تلك العناوين وإلى هضم صحيح لمضمون تلك الشعارات. فلم يعد يستأثر بتفكيرهم إلا خيال نهضة (إصلاحية) تطور العقيدة الإسلامية هنا كما تطورت العقيدة النصرانية هناك. وهكذا، فقد كان عماد هذه المدرسة الحديثة التي أشرنا إليها بإيجاز، هياجا في النفس، أكثر من أن يكون حقيقة علمية مدروسة استحوذت على العقل. مصير هذه المدرسة اليوم: والحقيقة أن الاهتمام بهذه المدرسة في كتابة السّيرة وفهمها، والحماسة التي ظهرت يوما ما لدى البعض في الأخذ بها- إنما كان منعطفا تاريخيا ومرّ.. وعذر أولئك الذين كتب عليهم أن يمروا بذلك المنعطف أو يمر هو بهم، أنهم كانوا- كما قلنا- يفتحون أعينهم إذ ذاك على خبر النهضة العلمية في أوربا، بعد طول غفلة وإغماض. وإنه لأمر طبيعي أن تنبهر العين عند أول لقياها مع الضياء، فلا تتبين حقائق الأشياء، ولا تتميز الأشباه عن بعضها. حتى إذا مرّ وقت، واستراحت العين إلى الضياء، أخذت الأشياء تتمايز وبدت الحقائق واضحة جلية لالبس فيها ولا غموض. وهذا ما قد تمّ فعلا. فقد انجابت الغاشية، وصفت أسباب الرؤية السليمة أمام الأبصار؛ أبصار الجيل الواعي المثقف اليوم. فانطلق يتعامل مع حقيقة العلم وجوهره، بعد أولئك الذين أخذوا بألفاظه وانخدعوا بشعاراته، ثم عادوا وقد أيقنوا ببصيرة الباحث العليم والمفكر الحر، بأن شيئا مما يسمى بالخوارق والمعجزات لا يمكن أن يتنافى في جوهره مع حقائق العلم وموازينه. ذلك لأن هذه الخوارق سميت كذلك لخرقها لما هو مألوف أمام الناس. وما كان للإلف أو العادة أن يكون مقياسا علميا لما هو ممكن وغير ممكن. وهيهات أن يقضي العلم يوما ما بأن كل ما استأنست إليه عين الإنسان مما هو مألوف هو وحده ممكن الوقوع، وأن كل ما استوحشت منه عين الإنسان مما هو غير مألوف له غير ممكن الوقوع. ولقد علم كل باحث ومثقف اليوم بأن أحدث ما انتهت إليه مدارك العلماء في هذا الصدد،

هو أن العلاقة التي نراها بين الأسباب ومسبباتها، ليست إلا علاقة اقتران مطرد، اكتسبت تحليلا، ثم تعليلا، ثم استنبط منها القانون الذي هو تابع لظهور تلك العلاقة وليس العكس. فإن رحت تسأل القانون العلمي عن رأيه في خارقة أو معجزة إلهية، قال لك بلسان الحال الذي يفقهه كل عالم بل كل متبصر بثقافة العصر: ليست الخوارق والمعجزات من موضوعات بحثي واختصاصي، فلا حكم لي عليها بشيء. ولكن إذا وقعت خارقة من ذلك أمامي فإنها تصبح في تلك الحال موضوعا جاهزا للنظر والتحليل، ثم الشرح والتعليل، ثم تغطي تلك الخارقة بقانونها التابع لها «4» . وقد انقرض الزمن الذي كان بعض العلماء يظنون فيه أن أثر الأسباب الطبيعية في مسبباتها أثر حتمي يستعصي على التخلف والتغيير. وانتصر الحق الذي طالما نبّه إليه ودافع عنه علماء المسلمين عامة والإمام الغزالي خاصة، من أن علاقات الأسباب بمسبباتها ليست أكثر من رابطة اقتران مجردة. وما العلم في أحكامه وقوانينه إلا جدار ينهض فوق أساس هذا الاقتران وحده. أما سرّ هذا الاقتران فهو عند ذلك الإله العظيم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. ولقد رأينا العالم التجريبي (دافيد هيوم) كيف يجلّي هذه الحقيقة بأنصع بيان صارم. نعم، لا بد أن يشترط كل إنسان عاقل يحترم العقل والحقيقة، لقبوله أيّ خبر، سواء تضمن أمرا خارقا أو مألوفا، شرطا واحدا، ألا وهو أن يصل ذلك الخبر إليه عن طريق علمي سليم ينهض على قواعد الرواية والإسناد ومقتضيات الجرح والتعديل، بحيث يورث الجزم واليقين، وتفصيل القول في هذه الموازين العلمية العظيمة يستلزم كلاما طويل الذيل لسنا بصدد شيء منه الآن. إنّ رجل العلم اليوم. ليأخذ منه العجب كل مأخذ، عندما يقف أمام هذا الذي يقوله رجل مثل حسين هيكل في مقدمة كتابه (حياة محمد) : «وإنني لم آخذ بما سجلته كتب السّيرة والحديث، لأنني فضلت أن أجري في هذا البحث على الطريقة العلمية» ! .. أي أنه يطمئنك إلى أنه لم يأخذ حتى بما ثبت في صحيحي البخاري ومسلم، حفظا لكرامة العلم! .. إذن فإن ما يرويه الإمام البخاري ضمن قيود رائعة عجيبة من الحيطة العلمية النادرة في رواية الكلمة والخبر، انحراف عن جادة العلم.. على حين تكون طريقة الاستنتاج والحدس والتخمين وما يسمونه بمنهج التوسم، حفظا لكرامته والتزاما لميزانه وجادّته! .. أليس هذا من أفجع الكوارث النازلة برأس العلم؟ ..

_ (4) انظر تفصيل هذا البحث في كتاب كبرى اليقينيات الكونية لمؤلف هذا الكتاب: 329 وما بعد.

وأخيرا: كيف ندرس السيرة النبوية على ضوء ما قد ذكرناه:

وأخيرا: كيف ندرس السّيرة النّبوية على ضوء ما قد ذكرناه: من المعلوم أن محمدا صلّى الله عليه وسلم، عندما ظهر في الجزيرة العربية، قدّم نفسه إلى العالم على أنه نبي مرسل من قبل الله عزّ وجلّ إلى الناس كافة، ليؤكد لهم الحقيقة التي بعث بها الأنبياء الذين خلوا من قبل، وليحمّلهم المسؤوليات ذاتها التي حمّلها الأنبياء السابقون أقوامهم، موضحا أنه آخر نبيّ مرسل في سلسلة الرّسل الذين تعاقبوا مع الزمن، ثم زاد نفسه تعريفا لهم فأوضح أنه ليس إلا بشرا من الناس يسري عليه جميع سمات البشرية وأحكامها، ولكن الله ائتمنه- بوساطة الوحي- على تبليغ الناس رسالة تعرفهم بهوياتهم الحقيقية، وتنبههم إلى موقع هذه الحياة الدنيا من خارطة المملكة الإلهية زمانا ومكانا، وإلى مصيرهم الذي سيلقونه حتما بعد الموت، كما تلفت نظرهم إلى ضرورة انسجامهم في سلوكهم الاختياري مع هوياتهم التي لا مفرّ منها، أي أن عليهم أن يكونوا عبيدا لله بيقينهم وسلوكهم الاختياري، كما تحققت فيهم هذه العبودية بالواقع الاضطراري. ثم أكّد لهم بكل مناسبة أنه لا يملك أن يزيد أو ينقص أو يبدل شيئا من مضمون هذه الرسالة التي حمّله الله مسؤولية إبلاغها إلى الناس جميعا، بل أكّد البيان الإلهي ذاته هذه الحقيقة قائلا: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [سورة الحاقة 69/ 44- 47] . وإذن، فإن محمدا صلّى الله عليه وسلم لم يقدم نفسه إلى العالم زعيما سياسيا، أو قائدا وطنيا، أو رجل فكرة ومذهب، أو مصلحا اجتماعيا.. بل لم يتخذ لنفسه، خلال حياته كلها، أي سلوك قد يوحي بأنه يسعى سعيا ذاتيا إلى شيء من ذلك. وإذا كان الأمر هكذا، فإن الذي يفرضه المنطق علينا، عندما نريد أن ندرس حياة رجل هذا شأنه، أن ندرس حياته العامة من خلال الهوية التي قدّم نفسه إلى العالم على أساسها، لنستجلي فيها دلائل الصدق أو عدمه على ما يقول! .. وهذا يلزمنا، بلا ريب، أن ندرس جميع النواحي الشخصية والإنسانية في حياته، ولكن على أن نجعل من ذلك كله قبسا هاديا يكشف لنا ببرهان علمي وموضوعي عن حقيقة هذه الهوية التي قدّم نفسه إلى العالم على أساسها. نعم، ربما كان مقبولا أن نزعم بأننا لسنا مضطرين أن نشغل أفكارنا وعقولنا بهذا الذي أراد محمد صلّى الله عليه وسلم أن يشغل الناس به من معاني النّبوة والرّسالة في شخصه، لو أن الأمر لم يكن متعلقا بمصيرنا، ولم يكن له من شأن بحريتنا وسلوكنا. أما وإن القضية متعلقة بذواتنا، وتكشف- إن صحّ الأمر- عن واجبات في المعرفة والسلوك إن لم نسع إلى تحقيقها، وقعنا من ذلك في مغبة شقاء عظيم وهلاك وبيل، إذن فالمسألة أخطر من أن نتصور أنها لا تعنينا، أو أن نمرّ عليها معرضين عابثين! ..

من العبث البيّن عندئذ أن نعرض عن دراسة هذه الهوية التي عرّف محمد صلّى الله عليه وسلم العالم على نفسه من خلالها، ثم نتشاغل بالتأمل في جوانب أخرى من شخصه لا صلة لها بنا، وليس لها بتلك الهوية أي تعلق أو مساس. أجل، وأي عبث أعبث من أن يقف أمامنا هذا الرجل: محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلم، ليكشف لنا عن ذاته، ثم ليقول لنا محذرا بملء يقينه ومشاعره: «والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، وو الله إنها لجنة أبدا، أو لنار أبدا» ثم لا يهمنا من شخصه وكلامه إلّا التأمل في عبقريته أو فصاحته وحكمته؟! .. أليس هذا، كما لو أقبل إليك إنسان وأنت على مفترق طرق، يعرّفك منها على السبيل الموصل الهادي ويحذرك من المتاهات المهلكة، فلم تلتفت من كل ما يقوله لك إلا إلى مظهره ولون ثيابه وطريقة حديثه، ثم رحت تجعل من ذلك موضع درس وتحليل تستغرق فيه؟! .. إن المنطق يقضي أن ندرس حياة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم من شتى جوانبها: نشأته وأخلاقه، وحياته الشخصية والبيتية، وصبره وكفاحه، وسلمه وحربه، وتعامله مع أصدقائه وأعدائه، وموقفه من الدنيا وأهوائها وزخرفها، دراسة موضوعية تتوخى الصدق والدقة بناء على المنهج العلمي الذي يقضي باتّباع قواعد الرواية والإسناد وشروط الصحة فيها.. أقول إن المنطق يقضي بأن ندرس ذلك كله، ولكن على أن نتخذ منه سلّما للوصول إلى نهاية من البحث والدرس نتأكد فيها من نبوته، ونتبين فيها حقيقة الوحي في حياته. حتى إذا تجلّى لنا ذلك بعد البحث الموضوعي المتجرد عن أيّ هوى أو عصبية، أدركنا أنه صلّى الله عليه وسلم، لم يخترع لنا من عنده شرعة وأحكاما، وإنما كان أمينا على إبلاغها إيانا، قضاء مبرما من لدن ربّ العالمين، وعندئذ نتنبه إلى عظم مسؤولياتنا تجاه هذه الشرائع والأحكام رعاية وتنفيذا. ثم إن كل من ألزم نفسه من دراسة السّيرة النّبوية بالجوانب الإنسانية المجردة، وراح يحللها بعيدا عن الهوية التي قدم النّبي صلّى الله عليه وسلم نفسه للناس على أساسها، لا بدّ أن يحبس نفسه ضمن ألغاز مغلقة لا سبيل إلى الخروج منها بأي تحليل. لا بدّ مثلا أن يقف ذاهلا حائرا أمام لغز الفتح الإسلامي الذي قضى بأن يكون لطائفة من السّيوف القديمة التي طالما أكل بعضها بعضا سلطان سحري في القضاء على حصن الحضارة الفارسية وجبروت البأس الروماني. ولا بدّ مثلا أن يقف حائرا كل الحيرة أمام لغز القانون الذي تكامل في الجزيرة العربية قبل أن ينمو فيها نبت أي ثقافة، وقبل أن يمتد عليها رواق أي مدنية أو حضارة! .. تشريع متكامل توجت به الجزيرة العربية، وهي لا تزال في مرحلة المهد من سعيها إلى المعرفة والثقافة والحياة

الاجتماعية المعقدة، كيف يتفق ذلك مع ما هو بدهي عند علماء الاجتماع من أن نشأة القانون المتكامل في حياة الأمة ثمرة لنضجها الثقافي والحضاري، ونتيجة لتركيبها الاجتماعي المتطور؟! .. ألغاز مقفلة، لا يمكن لمن لم يضع نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم في الحسبان، أن يجد لها أي حلّ في نطاق الأسباب والتعليلات المادية المألوفة. وكم رأينا من باحثين- من هذا القبيل- يتطوحون بأفكارهم ذات اليمين وذات الشمال بحثا عن مخرج من الحيرة، دون أن يعودوا من سعيهم بأي طائل. ولكن سبيل المخرج من هذه الحيرة واضح مع ذلك. فالسبيل هو أن نكون منطقيين وموضوعيين في دراسة السّيرة النّبوية، نجعل من الهوية التي عرّف محمد صلّى الله عليه وسلم على نفسه من خلالها محورا لدراسة حياته العامة كما قلنا. حتى إذا أسلمتنا هذه الدّراسة إلى اليقين بأنه نبي مرسل من قبل الله عزّ وجلّ، أسلمتنا نبوّته بدورها إلى المخرج من الحيرة والوقوف على السّر بالنسبة لهذه الألغاز، إن النّبي الصادق في نبوته لا بدّ أن يكون مؤيدا من قبل الإله الذي أرسله، ولا بدّ أن يكون القرآن وحي هذا الإله إليه. فالقانون المتكامل إذن تنزيله وشرعته وليس من تأليف أمّة أميّة حتى يقع العجب وتطبق الحيرة. وهذا الإله يقول للمؤمنين في محكم تبيانه: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران 3/ 139] ، ويقول: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ. وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [سورة القصص 28/ 5] ، ويقول: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة الأنفال 8/ 9- 10] . فقد اتّضح المبهم، وظهر الحلّ، وانجابت الغاشية، وعاد الأمر طبيعيا إذ ينصر خالق القوى والقدر عباده المؤمنين به الملتزمين بمنهجه ويحقق لهم الفوز على من يشاء. بل الحيرة كل الحيرة كانت تقع لو أن الله التزم النصر لرسوله والتأييد لعباده المؤمنين، ثم لم تقع معجزة ذلك النصر والتأييد.

سر اختيار الجزيرة العربية مهدا لنشأة الإسلام

سرّ اختيار الجزيرة العربيّة مهدا لنشأة الإسلام ولا بدّ قبل أن ندخل في الحديث عن سيرته صلّى الله عليه وسلم، وعن الجزيرة العربيّة التي نشأ فيها واختاره الله منها- من أن نستجلي الحكمة الإلهية التي اقتضت أن تكون بعثته عليه الصلاة والسلام في هذه البقعة من العالم دون غيرها، وأن تكون نشأة الدعوة الإسلامية على يد العرب قبل غيرهم. ولبيان هذا ينبغي أولا أن نعلم خصائص العرب وطباعهم قبل الإسلام، وأن نتصور البقعة الجغرافية التي كانوا يعيشون فيها وموقعها مما حولها، وأن نتصور في مقابل ذلك ما كانت عليه الأمم الأخرى إذ ذاك؛ كالفرس والروم واليونان والهنود، من العادات والطباع والخصائص الحضارية. ولنبدأ أولا بعرض موجز لما كانت عليه الأمم التي تعيش من حول الجزيرة العربيّة قبيل الإسلام. كان يتصدر العالم إذ ذاك دولتان اثنتان، تتقاسمان العالم المتمدن هما: فارس والروم، ويأتي من ورائهما اليونان والهند. أما فارس فقد كانت حقلا لوساوس دينية فلسفية متصارعة مختلفة، كان فيها الزرادشتية التي اعتنقها ذوو السلطة الحاكمون، وكان من فلسفتها تفضيل زواج الرجل بأمه أو ابنته أو أخته. حتى إن يزدجرد الثاني الذي حكم في أواسط القرن الخامس الميلادي تزوج بابنته. هذا إلى جانب انحرافات خلقية مشينة مختلفة لا مجال لسردها هنا. وكان فيها (المزدكية) التي قامت كما يقول الإمام الشهرستاني على فلسفة أخرى هي حلّ النساء وإباحة الأموال وجعل الناس شركة فيها كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ، وقد حظيت هذه الدعوة باستجابة عظيمة لدى أصحاب الرعونات والأهواء وصادفت لديهم قبولا عظيما «5» . وأما الرومان، فقد كانت تسيطر عليها الروح الاستعمارية، وكانت منهمكة في خلاف ديني بينها من جهة وبين نصارى الشام ومصر من جهة أخرى، وكانت تعتمد على قوتها العسكرية وطموحها الاستعماري في مغامرة عجيبة من أجل تطويرها للمسيحية والتلاعب بها حسبما توحي به مطامعها وأهواؤها المستشرية. ولم تكن هذه الدولة في الوقت نفسه أقل انحلالا من دولة الفرس، فقد كانت تسودها حياة التبذل والانحطاط والظلم الاقتصادي من جراء كثرة الإتاوات، ومضاعفة الضرائب.

_ (5) راجع الملل والنحل للشهرستاني: 2/ 86 و 87

أما اليونان فقد كانت غارقة في هوسات من خرافاتها وأساطيرها الكلامية التي منيت بها دون أن ترقى منها إلى ثمرة أو نتيجة مفيدة. وأما الهند، فقد كانت كما قال عنها الأستاذ أبو الحسن الندوي: إنه قد اتفقت كلمة المؤلفين في تاريخها أن أحط أدوارها ديانة وخلقا واجتماعا ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس عشر الميلادي، فقد ساهمت الهند مع جاراتها وشقيقاتها في التدهور الأخلاقي والاجتماعي «6» . هذا، وينبغي أن نعلم أن القدر المشترك الذي أوقع هذه الأمم المختلفة فيما وقعت فيه من انحلال واضطراب وشقاء، إنما هو الحضارة والمدنية اللتان تقومان على أساس من القيم المادية وحدها دون أن يكون ثمة مثل أعلى يقود هذه الحضارة والمدينة في سبيلهما المستقيم الصحيح. ذلك أن الحضارة بمختلف مقوماتها ومظاهرها ليست سوى وسيلة وسبب.. فإن عدم أهلها التفكير الصائب والمثل الأعلى الصحيح استحالت الحضارة في أيديهم إلى وسيلة للنزول بها إلى درك الشقاء والاضطراب، أما إن أوتي أهلها مقياسا من العقل الرشيد الذي قلما يأتي إلا بواسطة الدين والوحي الإلهي. فإن القيم الحضارية والمدنية كلها تصبح وسائل جميلة سهلة إلى السعادة التامة في مختلف أنواعها ومظاهرها. أما الجزيرة العربية فقد كانت هادئة، بعيدة بل منعزلة عن مظاهر هذه الاضطرابات كلها. فلم يكن لدى أهلها من الترف والمدنية الفارسية ما يجعلهم يتفننون في خلق وسائل الانحلال وفلسفة مظاهر الإباحية والانحطاط الخلقي ووضعها في قوالب من الدين. ولم يكن لديهم من الطغيان العسكري الروماني ما يبسطون به أيديهم بالتسلط على أي رقعة من حولهم، ولم يؤتوا من ترف الفلسفة والجدل اليوناني ما يصبحون به فريسة للأساطير والخرافات. كانت طبائعهم أشبه ما تكون بالمادة (الخام) التي لم تنصهر بعد في أي بوتقة محوّلة، فكانت تتراآى فيها الفطرة الإنسانية السليمة، والنزعة القوية إلى الاتجاهات الإنسانية الحميدة، كالوفاء والنجدة والكرم والإباء والعفة. إلا أنه كانت تعوزهم المعرفة التي تكشف لهم الطريق إلى كل ذلك. إذ كانوا يعيشون في ظلمة من الجهالة البسيطة والحالة الفطرية الأولى، فكان يغلب عليهم- بسبب ذلك- أن يضلوا الطريق إلى تلك القيم الإنسانية فيقتلوا الأولاد بدافع الشرف والعفة، ويتلفوا الأموال الضرورية بدافع الكرم، ويثيروا فيما بينهم المعارك بدافع الإباء والنجدة. وهذه الحالة هي التي عبر الله عزّ وجلّ عنها بالضلال حينما وصفهم بقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [سورة البقرة 2/ 198] ، وهي صفة- إذا ما نسبت إلى حال الأمم الأخرى إذ ذاك-

_ (6) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: 28

تدل على الاعتذار لهم أكثر من أن تدل على تسفيههم أو تعييرهم بها. ذلك أن الأمم الأخرى كانت تستهدي لانحرافاتها العظيمة بمشاعل الحضارة والثقافة والمدنية. فكانت تتقلب في حمأة الفساد عن تبصر وتخطيط وفكر. ثم إن الجزيرة العربية تقع- بالنسبة لرقعتها الجغرافية- في نقطة الوسط بين هذه الأمم التي كانت تموج من حولها. والناظر إليها اليوم يجد- كما يقول الأستاذ محمد المبارك- كيف أنها تقف في الوسط التام بين حضارتين جانحتين: إحداهما حضارة الغرب المادية التي قدمت عن الإنسان صورة بتراء لا تقع حتى على جانب جزئي من الحقيقة، وأخراهما الحضارة الروحية الخيالية في أقصى الشرق كتلك التي كانت تعيش في الهند والصين وما حولهما «7» . فإذا تصورنا حالة العرب في جزيرتهم قبل الإسلام وحالة الأمم المختلفة الأخرى المحيطة بهم، سهل علينا أن نستجلي الحكمة الإلهية التي اقتضت أن تتشرف الجزيرة العربية دون غيرها بمولده وبعثته صلّى الله عليه وسلم، وأن يكون العرب هم الطليعة الأولى التي تحمل إلى العالم مشعل الدعوة إلى الدين الإسلامي الذي تعبد الله به الجنس البشري كله من أقصى العالم إلى أقصاه. وهي ليست، كما يظن البعض، أن أصحاب التدين الباطل والحضارات الزائفة يصعب فيهم العلاج والتوجيه لافتخارهم بما هم عليه من الفساد، لرؤيتهم إياه شيئا صالحا، أما الذين لا يزالون يعيشون في فترة البحث والتنقيب، لا ينكرون جهلهم ولا يدّعون ما لم يؤتوه من مدنية وعلم وحضارة، فهم أطوع للعلاج والتوجيه- نقول ليست هذه هي الحكمة، لأن مثل هذا التحليل يصدق بالنسبة لمن كانت قدرته محدودة وطاقته مخلوقة فهو يفرق بين ما هو سهل وصعب عليه، فيفضل الأول ويتهرب من الثاني طمعا في الراحة وكراهية للنصب. ولو تعلقت إرادة الله تعالى بأن يجعل مشرق الدعوة الإسلامية من جهة ما في أرض فارس أو الروم أو الهند، لهيأ لنجاح الدعوة فيها من الوسائل ماهيأ لها في الجزيرة العربية، وكيف يعزّ ذلك عليه وهو خالق كل شيء ومبدع كل وسيلة وسبب. ولكن الحكمة في هذا الاختيار، من نوع الحكمة التي اقتضت أن يكون الرسول أميّا لا يتلو من كتاب ولا يخطه بيمينه كما قال الله تعالى حتى لا يرتاب الناس في نبوته عليه الصلاة والسلام وحتى لا تتكاثر لديهم أسباب الشك في صدق دعوته. إن من تتمة هذه الحكمة الإلهية أن تكون البيئة التي بعث فيها عليه الصلاة والسلام أيضا بيئة أميّة بالنسبة للأمم الأخرى التي من حولها، أي لم يتطرق إليها شيء من الحضارات المجاورة لها، ولم تتعقد مناهجها الفكرية بشيء من تلك الفلسفات التائهة من حولها.

_ (7) الأمة العربية في معركة تحقيق الذات: 147

ذلك أنه كما يخشى من دخول الريبة في صدور الناس إذا ما رأوا النّبي متعلّما مطّلعا على الكتب القديمة وتاريخ الأمم البائدة وحضارات الدول المجاورة- كذلك يخشى من دخول هذه الريبة في الصدور إذا ما ظهرت الدعوة الإسلامية بين أمة لها شأن في الحضارة والمدنية والفلسفة وتاريخ ذلك، كدولة الفرس أو اليونان أو الرومان، إذ ربّ مرتاب مبطل يزعم أنها سلسلة التجارب الحضارية والأفكار الفلسفية أبدعت أخيرا هذه الحضارة الفذة والتشريع المتكامل. ولقد أوضح القرآن الكريم هذه الحكمة بصريح العبارة حينما قال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة 62/ 2] . فلقد اقتضت إرادة الله تعالى أن يكون رسوله أميّا، وأن يكون القوم الذين ظهر فيهم هذا الرسول أميّين أيضا في غالبيتهم العظمى، حتى تكون معجزة النّبوة والشريعة الإسلامية واضحة في الأذهان لا لبس بينها وبين الدعوات البشرية المختلفة. وهذا ينطوي- كما هو واضح- على رحمة عظيمة بالعباد. وهنالك حكم أخرى لا تخفى على الباحث نجملها فيما يلي: 1- من المعلوم أن الله عزّ وجلّ قد جعل البيت الحرام مثابة للناس وأمنا، وجعله أول بيت وضع للناس للعبادة وإقامة الشعائر الدينية، وحقق في ذلك الوادي دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ومن لوازم هذا كله ومتمماته أن تكون هذه البقعة المباركة نفسها مهدا للدعوة الإسلامية التي هي ملة أبينا إبراهيم وأن تكون بعثة خاتم الأنبياء ومولده فيها، كيف لا وهو من نسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام. 2- البقعة الجغرافية للجزيرة العربية ترشحها للقيام بعبء مثل هذه الدعوة، بسبب أنها تقع- كما قلنا- في نقطة الوسط بين الأمم المختلفة التي من حولها. وهذا مما يجعل إشعاعات الدعوة الإسلامية تنتشر بين جميع الشعوب والدول المحيطة بها في سهولة ويسر، وإذا أعدت النظر إلى سير الدعوة الإسلامية في صدر الإسلام وعصر الخلفاء الراشدين وجدت مصداق ذلك جليا واضحا. 3- اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون اللغة العربية هي لغة الدعوة الإسلامية، وأن تكون هي الأداة المباشرة الأولى لترجمة كلام الله عزّ وجلّ وإبلاغه إيانا. ولعلنا لو أمعنا في خصائص اللغات وقارّنا بينها، لوجدنا أن اللغة العربية تمتاز بكثير من الخصائص التي يعزّ وجودها في اللغات الأخرى. فأجدر بها أن تكون لغة المسلمين الأولى في مختلف ربوعهم وبلادهم.

محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وعلاقة دعوته بالدعوات السماوية السابقة

محمد صلّى الله عليه وسلم خاتم النّبيّين وعلاقة دعوته بالدّعوات السّماوية السّابقة محمد عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء، فلا نبي بعده. وهذا مما أجمع عليه المسلمون وعرف من الدين بالضرورة، قال عليه الصلاة والسلام: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النّبيين» «8» . أما دعوته صلّى الله عليه وسلم وعلاقتها بدعوات الأنبياء السابقين، فقائمة على أساس التأكيد والتتميم، كما يدلّ عليه الحديث المذكور. وبيان ذلك أن دعوة كل نبي تقوم على أساسين اثنين. الأول العقيدة والثاني التشريع والأخلاق. فأما العقيدة فلم يختلف مضمونها منذ بعثة آدم عليه السلام إلى بعثة خاتم النّبيين محمد صلّى الله عليه وسلم. إنما هي الإيمان بوحدانية الله وتنزيهه عن كل ما لا يليق به من الصفات، والإيمان باليوم الآخر والحساب والجنة والنار. فكان كل نبي يدعو قومه إلى الإيمان بهذه الأمور. وكان كل منهم يأتي مصدقا لدعوة من قبله ومبشرا ببعثة من سيأتي بعده. وهكذا فقد تلاحقت بعثتهم إلى مختلف الأقوام والأمم ليؤكّد الجميع حقيقة واحدة أمروا بتبليغها وحمل الناس على الإذعان لها، ألا وهي الدينونة لله عزّ وجلّ وحده، وهذا ما بيّنه الله تعالى بقوله في كتابه الكريم: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى 42/ 13] . بل إنه لا يتصور أن تختلف دعوات الأنبياء الصادقين في شأن العقيدة، لأن أمور العقيدة من نوع الإخبار، والإخبار عن شيء لا يمكن أن يختلف ما بين مخبر وآخر إذا فرضنا الصدق في خبر كل منهما، فمن غير المعقول أن يبعث أحد الأنبياء ليبلّغ الناس أن الله ثالث ثلاثة، سبحانه عما يقولون، ثم يبعث من بعده نبي آخر ليبلّغهم بأن الله واحد لا شريك له ويكون كل منهما صادقا فيما بلّغ عن الله تعالى. هذا عن العقيدة، أما التشريع وهو سنّ الأحكام التي يتوخى منها تنظيم حياة المجتمع والفرد، فقد كان يختلف في الكيف والكم ما بين بعثة نبي وآخر صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين،

_ (8) حديث متفق عليه واللفظ لمسلم.

وسبب ذلك أن التشريع من نوع الإنشاء لا الإخبار، فلا يرد فيه ما أوردناه على اختلاف العقيدة. ثم من المفروض أن يكون للتطور الزمني ولاختلاف الأمم والأقوام أثر في تطور التشريع واختلافه، بسبب أن أصل فكرة التشريع قائم على أساس ما تقتضيه مصالح العباد في دنياهم وآخرتهم، هذا إلى أن بعثة كل من الأنبياء السابقين كانت خاصة بأمة معينة ولم تكن عامة للناس كلهم، فكانت الأحكام التشريعية محصورة في إطار ضيق حسبما تقتضيه حال تلك الأمة بخصوصها. فقد بعث موسى عليه السلام مثلا إلى بني إسرائيل وكان الشأن يقضي- بالنسبة لحال بني إسرائيل إذ ذاك- أن تكون شريعتهم شديدة قائمة في مجموعها على أساس العزائم لا الرّخص. ولما مرت الأزمنة وبعث فيهم سيدنا عيسى عليه السلام كان يحمل إليهم شريعة أسهل وأيسر مما كان قد بعث به موسى من قبل، وانظر في هذا إلى قول الله تعالى على لسان عيسى عليه السلام وهو يخاطب بني إسرائيل: .. وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ.. الآية [آل عمران 3/ 50] . فقد بيّن لهم أنه فيما يتعلق بأمور العقيدة، مصدّق لما جاء في التوراة ومؤكّد له ومجدّد للدعوة إليه، أما بالنسبة للتشريع وأحكام الحلال والحرام، فقد كلف ببعض التغييرات وإيجاد بعض التسهيلات ونسخ بعض ما كانوا يعانونه من الشدة في الأحكام. وبناء على هذا فإن بعثة كل رسول تتضمن عقيدة وتشريعا: فأما العقيدة فعمله بالنسبة لها ليس سوى التأكيد للعقيدة ذاتها التي بعث بها الرسل السابقون دون أي اختلاف أو تغيير. وأما التشريع، فإن شريعة كل رسول ناسخة للشريعة السابقة إلا ما أيّده التشريع المتأخر، أو سكت عنه، وذلك على مذهب من يقول: شريعة من قبلنا شريعة لنا إذا لم يرد ما يخالفها. ويتّضح أنه لا توجد أديان سماوية متعددة. وإنما توجد شرائع سماوية متعددة نسخ اللاحق منها السابق إلى أن استقرت الشريعة السماوية الأخيرة التي قضت حكمة الله أن يكون مبلّغها هو خاتم الأنبياء والرّسل أجمعين. أما الدّين الحق فواحد، بعث الأنبياء كلهم للدعوة إليه وأمر الناس بالدينونة له منذ آدم عليه السلام إلى محمد صلّى الله عليه وسلم، ألا وهو الإسلام. به بعث إبراهيم وإسماعيل ويعقوب. يقول الله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ، وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ، قالَ

أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة 2/ 130- 132] . وبه بعث موسى إلى بني إسرائيل. يقول الله تعالى عن سحرة فرعون: قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ، وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ [سورة الأعراف 7/ 125- 126] . وبه بعث عيسى عليه الصلاة والسلام. يقول الله تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران 3/ 52] . قد يقال: فلماذا يحتفظ الذين يدّعون نسبتهم إلى موسى عليه الصلاة والسلام بعقيدة خاصة تختلف عن عقيدة التوحيد التي بعث بها الأنبياء كلهم؟ ولماذا يؤمن الذين يدّعون نسبتهم إلى عيسى عليه الصلاة والسلام بعقيدة خاصة أخرى؟ والجواب على هذا ما قاله الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [سورة آل عمران 3/ 19] . وما قاله أيضا في سورة الشورى عقب قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ... الآية: وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [سورة الشورى 42/ 14] . فالأنبياء كلهم بعثوا بالإسلام الذي هو الدين عند الله. وأهل الكتاب يعلمون وحدة الدين ويعلمون أن الأنبياء إنما جاؤوا ليصدق كل واحد منهم الآخر فيما بعث به من الدين، وما كانوا ليتفرقوا إلى عقائد متباينة مختلفة ولكنهم اختلفوا وتفرقوا واختلقوا على أنبيائهم ما لم يقولوه، رغم ما جاءهم من العلم في ذلك، بغيا بينهم كما قال الله تعالى.

الجاهلية وما كان فيها من بقايا الحنيفية

الجاهليّة وما كان فيها من بقايا الحنيفيّة وهذه أيضا مقدمة هامة لا بد من دراستها قبل الخوض في أبحاث السيرة وما فيها من فقه وعظات، إذ هي تنطوي على حقيقة لا يزال خصوم هذا الدين يطمسون عليها ويزيفونها بأشكال من الوهم والأباطيل. وخلاصة هذه الحقيقة أن الإسلام ليس إلا امتدادا للحنيفية السمحة التي بعث الله بها أبا الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد صرح بذلك كتاب الله جل جلاله في آيات كثيرة منها قوله: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا.. [الحج 22/ 78] . ومنها قوله: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران 3/ 95] . وأنت خبير أن العرب هم أولاد إسماعيل عليه الصلاة والسلام، فكان أن توارثوا ملة أبيهم ومنهاجه الذي بعث به من توحيد الله وعبادته والوقوف عند حدوده وتقديس حرماته، وفي مقدمة ذلك تعظيم البيت الحرام وتقديسه واحترام شعائره والذود عنه والقيام بخدمته وسدانته. فلما امتدت بهم القرون وطال عليهم الأمد، أخذوا يخلطون الحق الذي توارثوه بكثير من الباطل الذي تسلل إليهم، شأن سائر الأمم والشعوب عندما يغشاها الجهل ويبعد بها العهد ويندسّ بين صفوفها المشعوذون والمبطلون. فدخل فيهم الشرك واعتادوا عبادة الأصنام وتسللت إليهم التقاليد الباطلة والأخلاق الفاحشة، فابتعدوا بذلك عن ضياء التوحيد وعن منهج الحنيفية وعمت بينهم الجاهلية التي رانت عليهم أمدا من الدهر، ثم انقشعت عنهم ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام. وكان أول من أدخل فيهم الشرك وحملهم على عبادة الأصنام عمرو بن لحيّ بن قمعة جد خزاعة. روى ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، أن أبا صالح السمان حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن جون الخزاعي: «يا أكثم، رأيت عمرو بن لحيّ بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه، فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله؟ قال: لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه كان

أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيّب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي» «9» . وروى ابن هشام كيفية إدخال عمرو بن لحيّ هذا، عبادة الأصنام في العرب، فقال: «خرج عمرو بن لحي من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم (مآب) من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق- وهم ولد عملاق، ويقال عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح- رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها نستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟ فأعطوه صنما يقال له (هبل) فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه» «10» . وهكذا انتشرت عبادة الأوثان في الجزيرة العربية وشاع في أهلها الشرك، فانسلخوا بذلك عما كانوا عليه من عقيدة التوحيد واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، وانتهوا إلى مثل ما انتهت إليه الأمم الأخرى من الضلالات والقبائح في المعتقدات والأفعال. وكان من أهم ما دفعهم إلى ذلك كله الجهل والأمية والتأثر بمن كان حولهم من أشتات القبائل والأمم. غير أنه بقيت فيهم بقية من الناس- وإن كانت تقل مع الزمن- ظلت متمسكة بعقيدة التوحيد، سائرة على نهج الحنيفية: تصدق بالبعث والنشور وتوقن بأن الله يثيب المطيع ويعاقب العاصي، وتكره هذا الذي استحدثه العرب من عبادة الأوثان وضلالات الرأي والفكر، ولقد اشتهر من هذه البقية كثيرون، كقس بن ساعدة الإيادي ورئاب الشنّيّ وبحيرا الراهب. كما أنه بقيت في عاداتهم بقايا من عهد إبراهيم ومبادئ الدين الحنيف وشعائره- وإن كانت تتضاءل وتضعف مع الزمن- فكانت جاهليتهم تظلّ منصبغة، بقدر ما، بآثار من شعائر الحنيفية ومبادئها، وإن كانت هذه الشعائر والمبادئ لا تكاد تظهر في حياتهم إلا مشوّهة فاسدة. وذلك كتعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة وكالوقوف بعرفة وهدي البدن، فأصل ذلك كله مشروع ومتوارث لديهم من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولكنهم كانوا يطبقونه على غير وجهه ويقحمون فيه الكثير مما ليس منه، وكإهلالهم بالحج والعمرة، فقد كانت كنانة وقريش يقولون

_ (9) سيرة ابن هشام: 1/ 76 والقصب الأمعاء. وروى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار» . الحديث بألفاظ متقاربة. والبحيرة المبحورة ذات الأذن المبحورة أي المشقوقة وهي التي يمنع درها عن الناس للطواغيت. والسائبة التي كانوا يسيبونها لآلهتهم، والوصيلة الناقة تترك للطواغيت إذا بكرت بأنثى ثم ثنت بأنثى. والحامي الفحل من الإبل لا يركب ولا يحمل عليه إذا لقح ولد ولده. (10) سيرة ابن هشام: 1/ 77 وانظر كتاب الأصنام لابن الكلبي: 8 و 9

إذا أهلوا: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك» فيوحدونه- كما قال ابن هشام- بالتلبية، ثم يدخلون معه أصنامهم، ويجعلون ملكها بيده. والخلاصة أن نشأة التاريخ العربي إنما تمت في كنف الحنيفية السمحة التي بعث بها أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام فكانت تغمر حياتهم عقيدة التوحيد ونور الهداية والإيمان، ثم أخذ العرب يبتعدون عن ذلك الحق رويدا رويدا، بعامل امتداد الزمن وتطاول القرون وبعد العهد وأخذت حياتهم تنغمر بدلا من ذلك بظلمات الشرك وضلالات الفكر وعماهة الجهل، مع استمرار بقايا من معالم الحق القديم ومبادئه تخبّ في سير بطيء مع تاريخهم، تذوي وتضعف مع الدهر ويقل أنصارها ما بين سنة وأخرى. فلما استنارت شعلة الدين الحنيف من جديد، ببعثة خاتم الأنبياء محمد صلّى الله عليه وسلم، أقبل الوحي الإلهي إلى كل ما قد تكثف من ضلال وظلمات خلال تلك الحقبة الطويلة من الزمن فمحاه وأنار مكانه بقبس الإيمان والتوحيد ومبادئ العدالة والحق، وأقبل إلى تلك البقايا التي امتدت بها الحياة إلى مشرق النور الجديد، مما كان قد بعث به إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأقرته الشرائع الإلهية، فأقرها وأكدها وجدد الدعوة إليها. *** ولا ريب أن من نافلة القول وفضوله أن نؤكد بأن هذا الذي نقرره شيء معروف بالبداهة لمن اطلع على التاريخ. وأنه شيء ثابت بالبداهة لمن درس شيئا من الإسلام، غير أننا نضطر في هذا العصر إلى أن نضيع كثيرا من الوقت في تأكيد البدهيات وتوضيح الواضحات. وذلك بعد أن رأينا بأعيننا كيف يخضع بعض الناس اعتقاداتهم لمجرد ما قد يكون في نفوسهم من الرغبة والإرادة. أجل، فلقد عاشت هذه النوعية من الناس، ولم يعد يهمها أنها إنما تصفّد عقلها بأقسى أغلال العبودية والاسترقاق الفكري! .. وما أعظم الفرق بين أن تكون إرادتك من وراء عقيدتك، وبين أن تكون عقيدتك من وراء إرادتك. ما أعظم الفرق بينهما علوا وإسفافا، وعزة وانحطاطا! .. لقد وجد ناس يقولون- على الرغم من بداهة ما قلناه ووضوح براهينه-: إن العصر الجاهلي أخذ يستيقظ قبيل البعثة على السبيل الأمثل الذي يجب اتباعه، وأخذت الأفكار العربية تثور على مظاهر الشرك وعبادة الأصنام وما يحف بها ويتبعها من خرافات الجاهلية، ولقد تمثلت هذه اليقظة ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلم ودعوته الجديدة. ومعنى هذه الدعوة- كما لا يخفى عليك- أن التاريخ الجاهلي كان يزداد تفتحا على حقائق التوحيد ونور الهداية مع امتداد الزمن وتطاول الدهر، أي أنهم كلما ابتعدوا عن عهد إبراهيم

وقامت بينه وبينهم قرون أخرى، ازدادوا قربا إلى مبادئه ودعوته حتى بلغ هذا القرب مداه الأخير إبّان بعثة المصطفى عليه الصلاة والسلام! .. أفهكذا يقرر التاريخ، أم إنه يقرر عكس ذلك تماما في أبسط ما تنطق به (ألف باؤه) الواضحة المفهومة؟! كل باحث ومتأمل حرّ، يعلم أن العهد الذي بعث فيه محمد عليه الصلاة والسلام، إنما كان أبعد العهود الجاهلية عن هديه عليه الصلاة والسلام بالنسبة لسائر العهود السابقة الأخرى، والأطلال التي كانت لدى العرب عند بعثته من معالم الحنيفية ومبادئها، والتي كانت تتمثل في لمع خاطفة من كراهية الأصنام والترفع عن عبادتها وفي النزوع إلى بعض الفضائل والقيم التي أقرها الإسلام، هذه الأطلال لا تبلغ معشار ما كان بارزا واضحا منها لديهم قبل بضعة قرون. وقد كان المتوقع إذن حسب تصور هؤلاء الناس لمعنى النبوة والبعثة، أن تكون بعثته عليه الصلاة والسلام قبل الزمن الذي بعث فيه بعدة قرون وأجيال!! .. *** وأما أناس آخرون، فقد طاب لهم أن يقرروا بأن محمدا صلّى الله عليه وسلم لمّا لم يستطع القضاء على معظم ما كان معروفا لدى العرب من الأعراف والتقاليد والطقوس والاعتقادات الغيبية، عمد فأسبغ على كل ذلك ثوب الديانة وأخرجه مخرج التكليفات الإلهية، وبتعبير آخر: إنما أتى محمد عليه الصلاة والسلام ليضيف إلى جملة العقائد الغيبية عند العرب رقابة عليا قوامها شخصية إله قادر على ما يشاء، فعال لما يريد. فقد استمر العرب بعد الإسلام يؤمنون بالسحر وبالجن وبسائر العقائد المماثلة، كما أنهم ظلّوا على ما كانوا عليه من الطواف بالكعبة وتقديسها وأداء طقوس وشعائر معينة نحوها. وإنما ينطلق هؤلاء في دعواهم هذه من فرضيتين اثنتين لا يريدون أن يتصوروا خطأهما بحال، الفرضية الأولى أن محمدا عليه الصلاة والسلام ليس نبيا. الثانية أن ما كان لدى العرب من بقايا عهد إبراهيم التي تحدثنا عنها، إنما هو من مخترعاتهم وتقاليدهم التي ابتدعوها مع الزمن من عند أنفسهم، فليس احترام الكعبة وتقديسها أثرا من آثار دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما أمره بذلك ربه، وإنما هو شيء نسجته البيئة العربية فكان تقليدا من جملة التقاليد العربية المختلقة. وفي سبيل المحافظة على هاتين الفرضيتين أن لا يصيبهما أي خدش أو وهن، يغمض أربابهما العين عن جميع الأدلة والوقائع التاريخية الجلية الكبرى التي تقف في طريقهما أو التي تردّهما وتكشف عن زيفهما وبطلانهما.

غير أن من المعلوم أن البحث عن الحقيقة لا يمكن أن يوصل الباحث إليها مادام أنه لا يخط السبيل نحوها إلا ضمن ما تسمح به الفرضية التي وضعها في ذهنه سلفا وقبل أي بحث. إن من المعلوم أن مثل هذا البحث إنما هو صورة من أوضح صور العبث المضحك. ولذلك، فإننا لا نجد مناصا من أن نأخذ بعين الاعتبار كل دليل عقلي أو واقعة تاريخية لدى محاولة الوصول إلى أي حقيقة، مادمنا لا نقصد إلا الحقيقة الذاتية نفسها، وما دمنا لا نريد أن نكذب على أنفسنا وعلى الناس فنصطنع البحث الحر ابتغاء حمل الآخرين على فكرة معينة مهما كان شأنها ومهما كانت علاقتها بالحقيقة وواقع الأمر، لا لشيء إلا لمجرد التعصب لها. فنحن لا يمكننا بحال أن نغمض الفكر عن دلائل نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم المختلفة مثل ظاهرة الوحي ومعجزة القرآن وظاهرة التطابق بين دعوته ودعوة الأنبياء السابقين وجملة صفاته وأخلاقه، لمجرد أن تسلم لنا فرضية أن محمدا عليه الصلاة والسلام ليس بنبيّ. كما أنه لا يمكننا أن نغمض الفكر عن التاريخ الذي ينص على بناء إبراهيم للكعبة المشرفة بأمر ووحي من الله جل جلاله وعن جملة ما تعاقب الأنبياء على الدعوة إليه من توحيد الله عز وجل والإيمان به وبالمغيبات المتعلقة بيوم الحشر والجزاء وما يتبعه من جنة ونار، مما دلت عليه نصوص الكتب السماوية السابقة وصدقه التاريخ ووعته الدهور والأجيال، لمجرد أن تسلم لنا فرضية أن ما نسميه (بقايا عهد إبراهيم) في العهد الجاهلي لم يكن إلا تقاليد ابتدعها الفكر العربي وأن محمدا عليه الصلاة والسلام إنما جاء ليطليها بطلاء الدين. ومن الجدير أن تعلم أن الناس الذين يطيب لهم أن يزعموا هذا الزعم، لا يسوقون بين يدي زعمهم هذا ولا من خلفه أي برهان أو دليل مهما كان نوعه، إنما هو العرض المجرد لهذا التصور وبسطه في عبارات ممطوطة مكررة ليس إلا. ولعلك تطلب مني مثالا على ذلك. إذن فدونك فاقرأ كتاب بنية الفكر الديني للمستشرق الإنكليزي المعروف (جيب) فستبصر حينئذ مدى ما تفعله العصبية العمياء بهؤلاء الناس، تلك العصبية العجيبة التي كثيرا ما تحمل صاحبها على أن يتجرد حتى من مقومات كرامته وأن يتباله أمام شوامخ الأدلة والحقائق الناصعة كي لا يلزم بالخضوع لها. إن بنية الفكر الديني في الإسلام بنظر جيب إنما هي تلك العقائد والأفكار الغيبية عند العرب؛ (الإحيائية العربية) فقد تأمل محمد صلّى الله عليه وسلم فيها فغير ما أمكنه تغييره ثم عمد إلى الباقي مما لم يمكنه التخلص منه فكساه حلّة الدين والإسلام ثم لم ينس أن يدعمه بهيكل من الأفكار والمواقف الدينية الملائمة، وهنا واجهته المشكلة العظمى التي اعترضت سبيله، فهو يريد أن يبني هذه الحياة الدينية لا للعرب فقط بل لشعوب وأمم بأسرها، فكان أن أقام هذه الحياة ضمن منهج القرآن.

تلك هي خلاصة أفكاره في الكتاب. وتقرأ هذه الأفكار من أولها إلى آخرها فلا تجده يقدم إليك دليلا واحدا على شيء مما يقول. وتتأمل في هذا الذي يعرضه، فلا تشك في أن الرجل قد استودع قواه العقلية بعيدا عن المكان الذي جلس يكتب فيه، واستعاض عنها بأوهام وخيالات خصبة راح يستوحي منها كل ما يقرره ويحكم به. ويبدو أنه حينما جلس يكتب مقدمة الترجمة العربية له، تصور كيف أن القراء سينبذون أفكاره هذه عن الإسلام باحتقار، فراح يعتذر! .. راح يعتذر بأن قال: «إن الأفكار التي أسست عليها هذه الفصول ليست بنات دماغ هذا المؤلف، بل سبقني إليها ودلني عليها جماعة من المفكرين ومن أقطاب المسلمين، وقد يطول إحصاؤهم، فسأكتفي بذكر أحدهم بسبيل المثال، هو الشيخ الكبير شاه ولي الله الدهلوي» . ثم نقل نصا للشاه ولي الله الدهلوي عزاه إلى ج 1 ص 122 من كتابه حجة الله البالغة، ويبدو أنه اطمأن إلى أن أحدا من القراء لن يجشم نفسه مشقة الرجوع إلى الكتاب والتأكد من النص الذي فيه، فحرف على لسان الرجل ما شاء له هواه. واقتنص منه ما رآه كفيلا بتحوير معناه وتنكيس مقصده، حتى حمله بذلك من الوزر ما لم يحمل وأنطقه بما هو منه بريء. فأما النص كما انتزعه واقتنصه من أصله فهو ما يلي: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث بعثة تتضمن بعثة أخرى، فالأولى إنما كانت إلى بني إسماعيل.. وهذه البعثة تستوجب أن يكون مادة شريعته ما عندهم من الشعائر وسنن العبادات ووجوه الارتفاقات، إذ الشرع إنما هو إصلاح ما عندهم لا تكليفهم بما لا يعرفونه أصلا» «11» . وأما النص الكامل الثابت في كتاب حجة الله البالغة إلى جانب نفس العبارات التي اقتنصها ليحور معناها فهو ما يلي: «واعلم أنه صلّى الله عليه وسلم بعث بالحنيفية الإسماعيلية، لإقامة عوجها وإزالة تحريفها وإشاعة نورها، وذلك قوله تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ولما كان الأمر على ذلك، وجب أن تكون أصول تلك الملة مسلمة وسنتها مقررة، إذ النبي إذا بعث إلى قوم فيهم بقية سنة راشدة فلا معنى لتغييرها وتبديلها، بل الواجب تقريرها لأنه أطوع لنفوسهم وأثبت عند الاحتجاج عليهم، وكان بنو إسماعيل توارثوا منهاج أبيهم إسماعيل، فكانوا على تلك الشريعة إلى أن وجد عمرو بن لحيّ، فأدخل فيها أشياء برأيه الكاسد، فضل وأضل. وشرع عبادة الأوثان وسيّب السوائب وبحر البحائر، فهنالك بطل الدين واختلط الصحيح بالفاسد وغلب عليهم الجهل والشرك والكفر فبعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلم مقيما لعوجهم ومصلحا لفسادهم، فنظر صلّى الله عليه وسلم في شريعتهم فما كان منها موافقا لمنهاج

_ (11) انظر بنية الفكر الديني لجيب: 58

إسماعيل عليه السلام أو من شعائر الله أبقاه، وما كان منها تحريفا أو فسادا أو من شعائر الشرك أو الكفر أبطله وسجل على إبطاله» . ولا ريب أننا لا نسوق عمل مثل هذا (الباحث) وتحريفه، للنظر والمناقشة فمن العبث مناقشة لغو مفضوح مثل هذا اللغو، ولكننا نقصد أن يعلم القارئ مدى ما تفعله العصبية العمياء بصاحبها. كما نريد أن يقف على حقيقته ما يتمشدق به بعض الناس من منهجية البحث وموضوعيته لدى علماء الغرب ثم مدى ما يفعله التقليد الذليل الأعمى ببعض المسلمين أنفسهم! *** إذن فقد أدركت حقيقة العلاقة بين الإسلام والفكر الجاهلي الذي كان سائدا لدى العرب قبل ظهوره، كما أدركت العلاقة بين العصر الجاهلي والملة الحنيفية التي كان قد بعث بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وقد تجلى لك من ذلك، السبب الذي من أجله أقر رسول الله صلّى الله عليه وسلم كثيرا من العادات والمبادئ التي كانت سائدة عند العرب، في حين أنه ألغى سائرها وذهب في حربها والقضاء عليها كل مذهب. وبذلك نكون قد انتهينا من عرض هذه المقدمات التي لا بدّ منها بين يدي دراستنا لجوهر السيرة النبوية واستنباط فقهها وعظاتها. وستجد خلال أبحاثنا القادمة مزيدا من البراهين التي تؤكد ما أوضحناه وتزيد في تجليته والكشف عن حقيقته.

القسم الثاني من الميلاد إلى البعثة

القسم الثّاني من الميلاد إلى البعثة نسبه صلّى الله عليه وسلم وولادته ورضاعته أما نسبه صلّى الله عليه وسلم، فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، ويدعى شيبة الحمد، ابن هاشم بن عبد مناف واسمه المغيرة، ابن قصيّ ويسمى زيدا، ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان. فهذا القدر المتفق عليه من نسبه الشريف صلّى الله عليه وسلم، أما ما فوق ذلك فمختلف فيه، لا يعتمد عليه في شيء. غير أن مما لا خلاف فيه أن عدنان من ولد إسماعيل نبي الله ابن إبراهيم خليل الله عليهما الصلاة والسلام، وأن الله عز وجل قد اختاره من أزكى القبائل وأفضل البطون وأطهر الأصلاب، فما تسلل شيء من أدران الجاهلية إلى شيء من نسبه. روى مسلم بسنده عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى هاشما من قريش واصطفاني من بني هاشم» . وأما ولادته صلّى الله عليه وسلم فقد كانت في عام الفيل، أي العام الذي حاول فيه أبرهة الأشرم غزو مكة وهدم الكعبة فرده الله عن ذلك بالآية الباهرة التي وصفها القرآن. وكانت على الأرجح يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول. وقد ولد يتيما، فقد مات أبوه عبد الله وأمه حامل به لشهرين فحسب فعني به جده عبد المطلب واسترضع له- على عادة العرب إذ ذاك- امرأة من بني سعد بن بكر يقال لها حليمة بنت أبي ذؤيب. وقد أجمع رواة السيرة أن بادية بني سعد كانت تعاني إذ ذاك سنة مجدبة قد جفّ فيها الضرع ويبس الزرع، فما هو إلا أن صار محمد صلّى الله عليه وسلم في منزل حليمة واستكان إلى حجرها وثديها حتى عادت منازل حليمة من حول خبائها ممرعة مخضرّة فكانت أغنامها تروح منها عائدة إلى الدار شباعا ممتلئة الضرع.

العبر والعظات:

وقد حصلت أثناء وجوده صلّى الله عليه وسلم في بادية بني سعد (حادثة شق الصدر) التي رواها مسلم «1» ، ثم أعيد بعدها إلى أمه وقد تمّ له من العمر خمس سنوات. ولما أصبح له من العمر ست سنوات ماتت أمّه آمنة، وما أن تحول الرسول إلى كفالة جده عبد المطلب حتى وافته هو الآخر منيته فمات وقد تمّ للنبي صلّى الله عليه وسلم ثماني سنوات، فكفله عمه أبو طالب. العبر والعظات: يؤخذ من هذا المقطع من سيرته صلّى الله عليه وسلم مبادئ وعظات هامة نجملها فيما يلي: 1- فيما أوضحناه من نسبه الشريف صلّى الله عليه وسلم، دلالة واضحة على أن الله سبحانه وتعالى ميز العرب على سائر الناس، وفضل قريشا على سائر القبائل الأخرى. تجد هذه الدلالة واضحة في الحديث الذي رويناه عن مسلم، وقد وردت بمعناه أحاديث كثيرة أخرى. فمن ذلك ما رواه الترمذي أنه صلّى الله عليه وسلم قام على المنبر فقال: «من أنا؟ فقالوا: أنت رسول الله عليك السلام، فقال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا» «2» . واعلم أن مقتضى محبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، محبة القوم الذين ظهر فيهم والقبيلة التي ولد فيها، لا من حيث الأفراد والجنس بل من حيث الحقيقة المجردة. ذلك لأن الحقيقة العربية القرشية، قد شرف كل منها- ولا ريب- بانتساب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليها. ولا ينافي ذلك ما قد يلحق من سوء بكل من قد انحرف من العرب أو القرشيين، عن صراط الله عز وجل، وانحط عن مستوى الكرامة الإسلامية التي اختارها الله لعباده، لأن هذا الانحراف أو الانحطاط من شأنه أن يودي بما كان من نسبة بينه وبين الرسول صلّى الله عليه وسلم ويلغيها من الاعتبار. 2- ليس من قبيل المصادفة أن يولد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتيما، ثم لا يلبث أن يفقد جده أيضا، فينشأ النشأة الأولى من حياته بعيدا عن تربية الأب ورعايته محروما من عاطفة الأم وحنوها. لقد اختار الله عز وجل لنبيه هذه النشأة لحكم باهرة، لعلّ من أهمها أن لا يكون للمبطلين سبيل إلى إدخال الريبة في القلوب أو إيهام الناس بأن محمدا صلّى الله عليه وسلم إنما رضع لبان دعوته ورسالته التي

_ (1) راجع قصة استرضاعه في بادية بني سعد وخبر شق صدره في سيرة ابن هشام: 1/ 64 وانظر صحيح مسلم: 1/ 101 و 102 (2) الترمذي: 9/ 236 كتاب المناقب.

نادى بها منذ صباه، بإرشاد وتوجيه من أبيه وجده، ولم لا؟ وإن جده عبد المطلب كان صدرا في قومه، فلقد كانت إليه الرفادة والسقاية «3» . ومن الطبيعي أن يربي الجد حفيده أو الأب ابنه على ما يحفظ لديه هذا الميراث. لقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن لا يكون للمبطلين من سبيل إلى مثل هذه الريبة، فنشّأ رسوله بعيدا عن تربية أبيه وأمه وجدّه، وحتى فترة طفولته الأولى، فقد شاء الله عز وجل أن يقضيها في بادية بني سعد بعيدا عن أسرته كلها، ولما توفي جدّه وانتقل إلى كفالة عمه أبي طالب الذي امتدت حياته إلى ما قبل الهجرة بثلاث سنوات، كان من تتمة هذه الدلالة أن لا يسلم عمه، حتى لا يتوهم أن لعمه مدخلا في دعوته، وأن المسألة مسألة قبيلة وأسرة وزعامة ومنصب. وهكذا أرادت حكمة الله أن ينشأ رسوله يتيما، تتولاه عناية الله وحدها بعيدا عن الذراع التي تمعن في تدليله والمال الذي يزيد في تنعيمه، حتى لا تميل به نفسه إلى مجد المال والجاه، وحتى لا يتأثر بما حوله من معنى الصدارة والزعامة، فتلتبس على الناس قداسة النبوة بجاه الدنيا، وحتى لا يحسبوه يصطنع الأول ابتغاء الوصول إلى الثاني. 3- يدل ما اتفق عليه رواة السيرة النبوية من أن منازل حليمة السعدية عادت ممرعة مخضرّة بعد أن كانت مجدبة قاحلة، وعاد الدرّ حافلا في ضرع ناقتها الكبيرة المسنة بعد أن كان يابسا لا يتندى بقطرة لبن، يدل ذلك على علوّ شأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورفعة مرتبته عند ربّه حتى عندما كان طفلا صغيرا كغيره من الأطفال. فقد كان من أبرز مظاهر إكرام الله له أن أكرم بسببه بيت حليمة السعدية التي تشرفت بإرضاعه. وليس في ذلك من غرابة ولا عجب، فقد علمتنا شريعتنا الإسلامية أن نستسقي عند انحباس المطر ببركة الصالحين من الناس ومن أهل بيت محمد صلّى الله عليه وسلم رجاء استجابة الله لدعائنا «4» ، فكيف إذا تشرف المكان برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو طفل رضيع قد استكان إلى حجر حليمة والتقم ثديها؟ إن من الجدير أن تكون سببيته لا خضرار الأرض المجدبة من حوله أبلغ من سببية قطر السماء وينابيع الأرض. وما دام الكل بيد الله وهو وحده مسبب الأسباب جميعها فأجدر برسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يكون في مقدمة أسباب البركة والإكرام الإلهي ذلك أنه رحمة الله إلى الناس بصريح تبيانه سبحانه وتعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء 21/ 107] .

_ (3) الرفادة شيء كانت قريش تترافد به في الجاهلية، أي تتعاون به فيخرج كل إنسان بقدر طاقته فيجمعون مالا عظيما فيشترون به طعاما وزبيبا ونبيذا ويطعمون الناس ويسقونهم أيام موسم الحج حتى ينقضي. (4) يستحب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى وأهل بيت النبوة سواء في الاستسقاء وغيره: أجمع على ذلك جمهور الأئمة والفقهاء. انظر فتح الباري: 2/ 339 ونيل الأوطار: 2/ 7 وسبل السلام: 2/ 134 والمغني لابن قدامة الحنبلي: 2/ 265

4- تعد حادثة شق الصدر التي حصلت له عليه الصلاة والسلام أثناء وجوده في مضارب بني سعد من إرهاصات النبوة ودلائل اختيار الله إياه لأمر جليل، وقد رويت هذه الحادثة بطرق صحيحة وعن كثير من الصحابة منهم أنس بن مالك فيما يرويه مسلم في صحيحه: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرجه، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعاده إلى مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمه- مرضعته- ينادون: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو ممتقع اللون» «5» . وليست الحكمة من هذه الحادثة- والله أعلم- استئضال غدة الشر في جسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذ لو كان الشر منبعه غدة في الجسم أو علقة في بعض أنحائه، لأمكن أن يصبح الشرير خيرا بعملية جراحية. ولكن يبدو أنّ الحكمة هي إعلان أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم وتهييؤه للعصمة والوحي منذ صغره بوسائل مادية، ليكون ذلك أقرب إلى إيمان الناس به وتصديقهم برسالته. إنها إذن عملية تطهير معنوي، ولكنها اتخذت هذا الشكل المادي الحسي، ليكون فيه ذلك الإعلان الإلهي بين أسماع الناس وأبصارهم. وأيا كانت الحكمة، فلا ينبغي- وقد ثبت الخبر ثبوتا صحيحا- محاولة البحث عن مخارج لنخرج منها بهذا الحديث عن ظاهره وحقيقته إلى التآويل الممجوجة البعيدة المتكلفة. ولن تجد من مسوغ لمن يحاول هذا- على الرغم من ثبوت الخبر وصحته- إلا ضعف الإيمان بالله عز وجل. ينبغي أن نعلم بأن ميزان قبولنا للخبر إنما هو صدق الرواية وصحتها فإذا ثبتت الرواية ثبوتا بيّنا فلا مناص من قبوله موضوعا على الرأس، وميزاننا لفهمه حينئذ دلالات اللغة العربية وأحكامها. والأصل في الكلام الحقيقة، ولو أنه جاز لكل باحث وقارئ أن يصرف الكلام عن حقيقته إلى مختلف الدلالات المجازية ليتخير من بينها ما يروق له، لا نشلّت قيمة اللغة وفقدت دلالتها وتاه الناس في مفاهيمها. ثم فيم البحث عن التأويل ومحاولة استنكار الحقيقة؟ أما إن ذلك لا يأتي إلا من ضعف في الإيمان بالله، ثم من ضعف في اليقين بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وصدق رسالته، وإلا فما أسهل اليقين بكل ما صح نقله سواء عرفت الحكمة والعلة أم لم تعرف.

_ (5) مسلم 1/ 101 و 102 وثبت في الصحيح تكرار حادثة شق صدره صلّى الله عليه وسلم أكثر من مرة.

رحلته الأولى إلى الشام ثم كدحه في سبيل الرزق

رحلته الأولى إلى الشام ثم كدحه في سبيل الرزق ولما تمّ له صلّى الله عليه وسلم من العمر اثنتا عشرة سنة، سافر عمه أبو طالب إلى الشام في ركب للتجارة، فأخذه معه. ولما نزل الركب (بصرى) مروا على راهب هناك يقال له (بحيرا) وكان عليما بالإنجيل خبيرا بشؤون النصرانية وهناك أبصر بحيرا النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فجعل يتأمله ويكلمه، ثم التفت إلى أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ فقال: ابني (وكان أبو طالب يدعوه بابنه لشدة محبته له وشفقته عليه) فقال له بحيرا: ما هو بابنك وما ينبغي أن يكون أبو هذا الغلام حيا. فقال: هو ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به. قال بحيرا: صدقت. فارجع به إلى بلده واحذر عليه يهود فو الله لئن رأوه هنا ليبلغنّه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم. فأسرع به أبو طالب عائدا إلى مكة «6» ثم أخذ رسول الله يستقبل فترة الشباب من عمره فبدأ بالسعي للرزق وراح يشتغل برعي الغنم، ولقد قال عليه الصلاة والسلام عن نفسه فيما بعد: «كنت أرعى الغنم على قراريط لأهل مكة» «7» . وحفظه الله من كل ما قد ينحرف إليه الشبان من مظاهر اللهو والعبث. قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن نفسه: «ما هممت بشيء مما كانوا في الجاهلية يعملونه غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمني الله بالرسالة. قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: أفعل، فخرجت حتى إذا كنت عند

_ (6) باختصار عن سيرة ابن هشام: 1/ 180 ورواه الطبري في تاريخه: 2/ 287 ورواه البيهقي في سننه وأبو نعيم في الحلية. ويوجد بين هذه الروايات بعض الخلاف في التفصيل، وانفرد الترمذي بروايته مطولا على نحو آخر، ولعل في سنده بعض اللين، فقد قال هو نفسه بعد أن رواه: (هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) . وفي سنده عبد الرحمن بن غزوان قال عنه في الميزان: له مناكير، ثم قال: أنكر ماله حديثه عن يونس بن أبي إسحاق، في سفر النبي صلّى الله عليه وسلم وهو مراهق مع أبي طالب إلى الشام. وقال عنه ابن سيد الناس: في متنه نكارة (راجع عيون الأثر: 1/ 43) . والغريب أن الشيخ ناصر الدين الألباني قال عنه- رغم هذا- في تخريجه لأحاديث (فقه السيرة) للغزالي: إسناده صحيح.. ولم ينقل من تعليق الترمذي عليه إلا قوله: هذا حديث حسن.. ومن عادته أن يضعف ما هو أصح من هذا الحديث بكثير.. هذا وأما القدر المشترك من القصة فثابت بطرق كثيرة لا يلحقها وهن. (7) رواه البخاري.

العبر والعظات:

أول دار بمكة سمعت عزفا فقلت: ما هذا؟ فقالوا: عرس، فجلست أسمع، فضرب الله على أذني، فنمت فما أيقظني إلا حر الشمس، فعدت إلى صاحبي، فسألني فأخبرته، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ودخلت مكة فأصابني مثل أول ليلة، ثم ما هممت بعده بسوء» «8» . العبر والعظات: يدل حديث بحيرا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهو حديث رواه عامة علماء السيرة ورواتها وأخرجه الترمذي مطوّلا من حديث أبي موسى الأشعري- على أن أهل الكتاب من يهود ونصارى، كان عندهم علم ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام ومعرفة بعلاماته، وذلك بواسطة ما جاء في التوراة والإنجيل من خبر بعثته وبيان دلائله وأوصافه. والدلائل على ذلك كثيرة مستفيضة. فمنها ما رواه علماء السيرة من أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل مبعثه ويقولون: إن نبيا سيبعث قريبا سنتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، ولما نكثوا عهدهم أنزل الله في ذلك قوله: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ، وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [البقرة 2/ 89] . وروى القرطبي وغيره أنه لما نزل قول الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة 2/ 146] سأل عمر بن الخطاب عبد الله بن سلام وقد كان كتابيا فأسلم: أتعرف محمدا صلّى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك؟ فقال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، أما ابني فلا أدري ما الذي قد كان من أمّه. ولقد كان سبب إسلام سلمان الفارسي تتبع خبر النبي صلّى الله عليه وسلم وصفاته من الإنجيل والرهبان وعلماء الكتاب. ولا ينافي هذا أن كثيرا من أهل الكتاب ينكرون هذا العلم، وأنّ الأناجيل المتداولة خالية عن الإشارة إلى ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم. فمن المعلوم بالبداهة ما تقلّب على هذه الكتب من أيدي التبديل والتغيير المتلاحقة. وصدق الله إذ يقول في محكم تبيانه: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة 2/ 78، 79] . أما إقباله على رعي الأغنام لقصد اكتساب القوت والرزق ففيه ثلاث دلالات هامة:

_ (8) رواه ابن الأثير ورواه الحاكم عن علي بن أبي طالب وقال عنه: صحيح على شرط مسلم. ورواه الطبراني من حديث عمار بن ياسر.

الأولى: الذوق الرفيع والإحساس الدقيق اللذان جمّل الله تعالى بهما نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلم. لقد كان عمه يحوطه بالعناية التامة، وكان له في الحنوّ والشفقة كالأب الشفوق، ولكنه صلّى الله عليه وسلم ما إن آنس في نفسه القدرة على الكسب حتى أقبل يكتسب، ويجهد جهده لرفع بعض ما يمكن رفعه من مؤونة الإنفاق عن عمه. وربما كانت الفائدة التي يجنيها من وراء عمله الذي اختاره الله له، فائدة قليلة غير ذات أهمية بالنسبة لعمه أبي طالب، ولكنه على كلّ تعبير أخلاقي رفيع عن الشكر، وبذل للوسع، وشهامة في الطبع، وبرّ في المعاملة. الثانية: وتتعلق ببيان نوع الحياة التي يرتضيها الله تعالى لعباده الصالحين في دار الدنيا. لقد كان سهلا على القدرة الإلهية أن تهيئ للنبي صلّى الله عليه وسلم، وهو في صدر حياته، من أسباب الرفاهية ووسائل العيش ما يغنيه عن الكدح ورعاية الأغنام سعيا وراء القوت. ولكن الحكمة الإلهية تقتضي منا أن نعلم أن خير مال الإنسان ما اكتسبه بكدّ يمينه ولقاء ما يقدمه من الخدمة لمجتمعه وبني جنسه، وشر المال ما أصابه الإنسان وهو مستلق على ظهره دون أن يرى أي تعب في سبيله، ودون أن يبذل أي فائدة للمجتمع في مقابله. الثالثة: إن صاحب أي دعوة، لن تقوم لدعوته أي قيمة في الناس إذا ما كان كسبه ورزقه من وراء دعوته أو على أساس من عطايا الناس وصدقاتهم. ولذا فقد كان صاحب الدعوة الإسلامية أحرى الناس كلهم بأن يعتمد في معيشته على جهده الشخصي أو مورد شريف لا استجداء فيه حتى لا تكون عليه لأحد من الناس منة أو فضل في دنياه فيعوقه ذلك عن أن يصدع بكلمة الحق في وجهه غير مبال بالموقع الذي قد تقع من نفسه. وهذا المعنى وإن لم يكن قد خطر في بال الرسول صلّى الله عليه وسلم في هذه الفترة، إذ إنه لم يكن يعلم بما سيوكل إليه من شأن الدعوة والرسالة الإلهية، غير أن هذا المنهج الذي هيأه الله له ينطوي على هذه الحكمة ويوضح أن الله تعالى قد أراد أن لا يكون في شيء من حياة الرسول قبل البعثة ما يعرقل سبيل دعوته أو يؤثر عليها أي تأثير سلبي، فيما بعد البعثة. وفيما قصه النبي صلّى الله عليه وسلم عن نفسه من خبر حفظ الله إياه من كل سوء منذ صغره وصدر شبابه، ما يوضح لنا حقيقتين كل منهما على جانب كبير من الأهمية: الأولى: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان متمتعا بخصائص البشرية كلها، وكان يجد في نفسه ما يجده كل شاب من مختلف الميولات الفطرية التي اقتضت حكمة الله أن يجبل الناس عليها. فكان يحس بمعنى السمر واللهو ويشعر بما في ذلك من متعة، وتحدثه نفسه لو تمتع بشيء من ذلك كما يتمتع الآخرون. الثانية: أن الله عز وجل قد عصمه مع ذلك عن جميع مظاهر الانحراف وعن كل ما لا يتفق

مع مقتضيات الدعوة التي هيأه الله لها، فهو حتى عندما لا يجد لديه الوحي أو الشريعة التي تعصمه من الاستجابة لكثير من رغائب النفس، يجد عاصما آخر خفيا يحول بينه وبين ما قد تتطلع إليه نفسه مما لا يليق بمن هيأته الأقدار لتتميم مكارم الأخلاق وإرساء شريعة الإسلام. وفي اجتماع هاتين الحقيقتين لديه صلّى الله عليه وسلم دليل واضح على أن ثمة عناية إلهية خاصة تسيّره وتأخذ بيده بدون وساطة الأسباب المعروفة كوسائل التربية والتوجيه، ومن ذا الذي يوجهه في طريق هذه العصمة وكل الذين حوله من أهله وبني قومه وجيرانه، غرباء عن هذا الطريق، ضالون عن هذه الوجهة؟ لا جرم إذن أن هذه العناية الإلهية الخاصة التي جعلت لشباب النبي صلّى الله عليه وسلم طريقا دقيقا من النور يمخر عباب ظلام الجاهلية، من أعظم الآيات الدالة على معنى النبوة التي خلقه الله لها وهيأه لحمل أعبائها، وعلى أن معنى النبوة هو الأساس في تكوين شخصيته واتجاهاته النفسية والفكرية والسلوكية في الحياة. وكان من اليسير أن يولد الحبيب الأعظم صلّى الله عليه وسلم، وقد انتزعت من نفسه كل هذه الدوافع الغريزية إلى التمتع بالشهوات والأهواء، فلا يجد في نفسه ما يدفعه أصلا إلى ترك أغنامه أمانة عند زميله ليهبط إلى بيوت مكة فيبحث بينها عن قوم يسمرون أو يلهون ويمرحون. غير أن ذلك لا يدل حينذاك على أكثر من شذوذ في تركيبه النفساني، وهي ظاهرة يوجد لها نماذج في كل قوم وعصر، وإذن فليس ثمة ما يدل على العناية الخفية التي تصرفه عما لا يليق رغم وجود الدوافع الغريزية نحوه. وإنما اقتضت حكمة الله عز وجل أن يتبدى للناس من هذه العناية الإلهية بالرسول الكريم ما يسهل عليهم أسباب الإيمان برسالته ويبعد عن أفكارهم عوامل الريب في صدقه.

تجارته بمال خديجة وزواجه منها

تجارته بمال خديجة وزواجه منها كانت خديجة- كما يروي ابن الأثير وابن هشام- امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، فلما بلغها عن رسول الله صدق الحديث وعظم الأمانة وكرم الأخلاق، أرسلت إليه ليخرج في مالها إلى الشام تاجرا وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره، ومعه غلامها ميسرة. وقد قبل محمد عليه الصلاة والسلام هذا العرض فرحل إلى الشام عاملا في مالها ومعه ميسرة. فحالفه التوفيق في هذه الرحلة أكثر من غيرها، وعاد إلى خديجة بأرباح مضاعفة، فأدى لها ما عليه في أمانة تامة ونبل عظيم. ووجد ميسرة من خصائص النبي صلّى الله عليه وسلم وعظيم أخلاقه ما ملأ قلبه، دهشة له، وإعجابا به فروى ذلك لخديجة. فأعجبت خديجة بعظيم أمانته، ولعلها دهشت لما نالها من البركة بسببه، فعرضت نفسها عليه زوجة بواسطة صديقتها (نفيسة بنت منيّة) ، فوافق النبي عليه الصلاة والسلام، وكلم في ذلك أعمامه فخطبوها له من عمها عمرو بن أسد. وتزوجها عليه الصلاة والسلام وقد تمّ له من العمر خمسة وعشرون عاما ولها من العمر أربعون. وقد كانت تزوجت خديجة قبل زواجها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم برجلين الأول منهما عتيق بن عائذ التميمي، ثم خلفه عليها أبو هالة التميمي واسمه هند بن زرارة «9» . العبر والعظات: أما عمله صلّى الله عليه وسلم في مال خديجة، فهو استمرار لحياة الكدح التي بدأها برعي الأغنام، ولقد شرحنا طرفا مما يتعلق بذلك من الحكمة والعبرة. وأما فضلها ومنزلتها في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم فلقد ظلت لخديجة مكانة سامية عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم طوال حياته، وقد ثبت في الصحيحين أنها خير نساء زمانها على الإطلاق. روى البخاري ومسلم أن عليا رضي الله عنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد» «10» .

_ (9) رواه ابن سيد الناس في (عيون الأثر) وابن حجر في الإصابة، وغيرهما. وقد جرى خلاف في الأول منهما. والذي رجحه ابن سيد الناس ورواه قتادة وابن إسحاق أن الأول منهما هو عتيق بن عائذ والثاني هند بن زرارة. (10) الضمير في نسائها عائد- كما تدل رواية مسلم- إلى السماء بالنسبة لمريم وإلى الأرض بالنسبة لخديجة. وقال الطيبي: الضمير الأول راجع إلى الأمة التي كانت فيها مريم، والثاني إلى هذه الأمة. وانظر فتح الباري: 7/ 91

وروى البخاري ومسلم أيضا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما غرت على نساء النبي صلّى الله عليه وسلم إلا على خديجة، وإني لم أدركها، قالت: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة قالت: فأغضبته يوما فقلت: خديجة! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني قد رزقت حبّها» «11» . وروى أحمد والطبراني من طريق مسروق عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام، فأخذتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزا قد أبدلك الله خيرا منها؟ فغضب ثم قال: «لا والله ما أبدلني الله خيرا منها: آمنت إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء» . وأما قصة زواجه صلّى الله عليه وسلم منها، فإن أول ما يدركه الإنسان من هذا الزواج هو عدم اهتمام الرسول صلّى الله عليه وسلم بأسباب المتعة الجسدية ومكملاتها، فلو كان مهتما بذلك كبقية أقرانه من الشبان لطمع بمن هي أقل منه سنا أو بمن ليست أكبر منه على أقل تقدير. ويتجلى لنا أنه صلّى الله عليه وسلم إنما رغب فيها لشرفها ونبلها بين جماعتها وقومها حتى إنها كانت تلقب في الجاهلية بالعفيفة الطاهرة. ولقد ظل هذا الزواج قائما حتى توفيت خديجة عن خمسة وستين عاما، وقد ناهز النبي عليه الصلاة والسلام الخمسين من العمر، دون أن يفكر خلالها بالزواج بأي امرأة أو فتاة أخرى، وما بين العشرين والخمسين من عمر الإنسان هو الزمن الذي تتحرك فيه رغبة الاستزادة من النساء والميل إلى تعدد الزوجات للدوافع الشهوانية. ولكن محمدا صلّى الله عليه وسلم تجاوز هذه الفترة من العمر دون أن يفكر كما قلنا بأن يضم إلى خديجة مثلها من الإناث: زوجة أو أمة، ولو شاء لوجد الزوجة والكثير من الإماء، دون أن يخرق بذلك عرفا أو يخرج على مألوف أو عرف بين الناس، هذا على الرغم من أنه تزوج خديجة وهي أيم، وكانت تكبره بما يقارب مثل عمره. وفي هذا ما يلجم أفواه أولئك الذين يأكل الحقد أفئدتهم على الإسلام وقوة سلطانه، من المبشرين والمستشرقين وعبيدهم الذين يسيرون من ورائهم، ينعقون بما لا يسمعون إلا دعاء ونداء، كما قال الله عز وجل. فقد ظنوا أنهم واجدون في موضوع زواج النبي صلّى الله عليه وسلم مقتلا يصاب منه الإسلام ويمكن أن يشوّه من سمعة محمد صلّى الله عليه وسلم، وتخيلوا أن بمقدورهم أن يجعلوه عند الناس في صورة الرجل الشهوان الغارق في لذة الجسد العازف في معيشته المنزلية ورسالته العامة عن عفاف القلب والروح.

_ (11) متفق عليه واللفظ لمسلم.

ومعلوم أن المبشرين ومعظم المستشرقين، هم الخصوم المحترفون للإسلام، يتخذون القدح في هذا الدين صناعة يتفرغون لها ويتكسبون منها كما هو معلوم. أما الأغرار الذين يسيرون من ورائهم، فأكثرهم يخاصمون الإسلام على السماع والتقليد، ولا يعنيهم أن يفتحوا أذهانهم لبحث ولا فهم، إنما هو هواية التقليد والاتباع، فخصامهم للإسلام ليس إلا من نوع الشارة التي قد يعلقها الرجل على صدره لمجرد أن يعرف بها بين الناس انتماؤه لجهة معينة، ومعلوم أن الشارة ليست أكثر من رمز، فخصومة هؤلاء للإسلام ليست سوى الرمز الذي يعلنون به عن هويتهم بين الناس: أنهم ليسوا من هذا التاريخ الإسلامي في شيء، وأن ولاءهم إنما هو لهذا الفكر الاستعماري الذي يتمثل فيما يدعو إليه دعاة الاستعمار الفكري من مبشرين ومستشرقين. فهذا هو اختيارهم، من قبل أي بحث ودون محاولة أي فهم! .. أجل، فإن مخاصمتهم للإسلام ليست إلا مجرد شارة يسمون بها أنفسهم بين قومهم وبني جلدتهم، وليس عملا فكريا لقصد البحث أو الحجاج. وإلّا، فموضوع زواج النبي صلّى الله عليه وسلم من أهون ما يمكن أن يستدل منه المسلم المتبصر، العارف بدينه والمطلع على سيرة نبيه، على عكس ما يروجه خصوم هذا الدين تماما. يريدون أن يلصقوا به صلّى الله عليه وسلم صورة الرجل الشهواني الغارق في لذات الجسد! .. وموضوع زواجه عليه الصلاة والسلام هو وحده الدليل الكافي على عكس ذلك تماما. فالرجل الشهوان، لا يعيش إلى الخامسة والعشرين من العمر في بيئة مثل بيئة العرب في جاهليتها، عفيف النفس، دون أن ينساق في شيء من التيارات الفاسدة التي تموج من حوله. والرجل الشهوان، لا يقبل بعد ذلك أن يتزوج من أيم لها ما يقارب ضعف عمره، ثم يعيش معها دون أن تمتد عينه إلى شيء مما حوله وإن من حوله الكثير وله إلى ذلك أكثر من سبيل، إلى أن يتجاوز مرحلة الشباب، ثم الكهولة، ويدخل في مدارج الشيخوخة. أما زواجه بعد ذلك من عائشة ثم من غيرها، فإن لكل منهن قصة، ولكل زواج حكمة وسبب يزيدان من إيمان المسلم بعظمة محمد صلّى الله عليه وسلم ورفعة شأنه وكمال أخلاقه. وأيا كانت الحكمة والسبب فإنه لا يمكن أن يكون مجرد قضاء الوطر واستجابة للرغبة الجنسية، إذ لو كان كذلك لكان أحرى به أن يستجيب للوطر والرغبة النفسية في الوقت الطبيعي لهذه الرغبة وندائها.. خصوصا وقد كان إذ ذاك خالي الفكر ليس له من هموم الدعوة ومشاغلها ما يصرفه عن حاجاته الفطرية والطبيعية. ولسنا نرى الإطناب في الدفاع عن زواجه عليه الصلاة والسلام، على نحو ما يفعل كثير من الباحثين، إذ لا نعتقد أن ثمة مشكلة تحتاج إلى النظر أو البحث، وإن أوهم خصوم الإسلام ذلك. ورب حق من حقائق الإسلام، لا يطمع خصومه لإبطاله، بأكثر من استجرار المسلمين إلى مناقشة دفاعية في شأنه.

اشتراكه صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة

اشتراكه صلّى الله عليه وسلم في بناء الكعبة الكعبة أول بيت بني على اسم الله ولعبادة الله وتوحيده فيه، بناه أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد أن عانى من حرب الأصنام وهدم المعابد التي نصبت فيها.. بناها بوحي من الله تعالى وأمر له بذلك وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ، رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة 2/ 127] . وقد تعرضت الكعبة بعد ذلك للعوادي التي أوهت بنيانها وصدعت جدرانها، وكان من بين هذه العوادي سيل عرم جرف مكة قبل البعثة بسنوات قليلة، حيث زاد ذلك من تصدع جدرانها وضعف بنيانها، فلم تجد قريش بدا من إعادة تشييد الكعبة حرصا على ما لهذا البناء من حرمة وقداسة خالدة. ولقد كان احترام الكعبة وتعظيمها بقية مما ظل محفوظا من شرعة إبراهيم عليه السلام بين العرب. ولقد شارك الرسول صلّى الله عليه وسلم قبل البعثة في بناء الكعبة وإعادة تشييدها مشاركة فعالة، فلقد كان ينقل الحجارة على كتفه، ما بينها وبينه إلا إزاره، وكان له من العمر إذ ذاك خمس وثلاثون سنة في الأصح. وروى البخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «لما بنيت الكعبة، ذهب النّبي صلّى الله عليه وسلم والعباس ينقلان الحجارة، فقال العباس للنّبي صلّى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك، فخرّ إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء فقال: أرني إزاري فشدّه عليه» . ولقد كان له صلّى الله عليه وسلم أثر كبير في حلّ المشكلة التي تسببت عن اختلاف القبائل حول من يستحق أن ينال شرف وضع الحجر الأسود في مكانه، فقد خضع جميعهم لاقتراحه الذي أبداه حلّا للمشكلة، علما منهم بأنه الأمين والمحبوب من الجميع. العبر والعظات: نورد في تعليقنا على هذا المقطع من سيرته صلّى الله عليه وسلم أربعة أمور: أولها: أهمية الكعبة، وما جعل الله لها من شرف وقداسة في الأرض، وحسبك من الأدلة على ذلك أن الذي باشر تأسيسها وبناءها هو إبراهيم خليل الله، بأمر من الله تعالى لتكون أول بيت لعبادة الله وحده ومثابة للناس وأمنا. غير أن هذا لا يعني أو يستلزم أن يكون للكعبة تأثير على الطائفين حولها أو العاكفين

فيها، فهي- على مالها من قداسة ووجاهة عظيمة عند الله- حجارة لا تضر ولا تنفع. ولكن الله عزّ وجلّ لما بعث إبراهيم عليه الصلاة والسلام بتكسير الأصنام والطواغيت وهدم بيوتها والقضاء على معالمها ونسخ عبادتها، اقتضت حكمته جلّ جلاله أن يشيّد فوق الأرض بناء يكون شعارا لتوحيد الله وعبادته وحده، ويظل- مع الدهر- تعبيرا للعالم عن المعنى الصحيح للدين والعبادة وعن بطلان كل من الشرك وعبادة الأصنام. لقد قضت البشرية ردحا من الزمن، تدين بالعبادة للحجارة والأصنام والطواغيت وتنشئ لها المعابد، ولقد آن لها أن تدرك بطلان كل ذلك وزيفه، وآن لها أن تستعيض عن تلك المعابد هذا الرمز الجديد.. هذا المعبد الذي أقيم لعبادة الله وحده، يدخله الإنسان ليقف عزيزا لا يخضع ولا يذل إلا لخالق الكون كله، وإذا كان لا بدّ للمؤمنين بوحدانية الله والداخلين في دينه من رابطة يتعارفون بها، ومثابة يؤوبون إليها، مهما تفرقت بلدانهم وتباعدت ديارهم واختلفت أجناسهم ولغاتهم، إذا كان لا بدّ من ذلك فليس أجدر من هذا البيت الذي أقيم رمزا لتوحيد الله، وردّا على باطل الشرك والأصنام، أن يكون هو الرابطة وهو المثابة لهم جميعا، يتعارفون في حماه، ويلتقون على الحق الذي شيّد ليكون تعبيرا عنه. فهو الشعار الذي يجسد وحدة المسلمين في أقطار الأرض، ويعبر عن توحيد الله والعبادة له وحده مهما أقيم من آلهة زائفة وانتصب من متألهين باطلين على مرّ الأزمنة والعصور. وهذا معنى قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً، وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة 2/ 125] ، وهذا هو المعنى الذي يلحظه الطائف بالبيت الحرام، بعد أن يملأ قلبه من معنى العبودية لله تعالى والقصد إلى تحقيق أوامره من حيث إنها أوامر ومن حيث إنه عبد مكلّف بتلبية الأمر وتحقيق المأمور به. ومن هنا جاءت قداسة البيت وعظم مكانته عند الله تعالى وكانت ضرورة الحج إليه والطواف من حوله. ثانيها: بيان أهم ما تعاقب على الكعبة من الهدم والبناء. بنيت الكعبة خلال الدهر كله، أربع مرات بيقين، ووقع الخلاف والشك فيما قبل هذه المرات الأربع وبعدها. فأما المرة الأولى منها: فهي التي قام بأمر البناء فيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام يعينه ابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وذلك استجابة منه لأمر ربّه جلّ جلاله، ثبت ذلك بصريح الكتاب والسّنة الصحيحة. أما الكتاب فقوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ، رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة 2/ 127] . وأما السّنة: فأحاديث كثيرة، منها ما رواه البخاري بسنده عن ابن عباس، وجاء فيه:

«.. ثم قال- أي إبراهيم- يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال فاصنع ما أمرك ربك، قال وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني..» «12» . ونقل الزركشي عن تاريخ مكة للأزرقي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام جعل طول بناء الكعبة في السماء سبعة أذرع وطولها في الأرض ثلاثين ذراعا وعرضها في الأرض اثنين وعشرين ذراعا وكانت بغير سقف «13» ، وحكى السهيلي أن طولها في السماء كان تسعة أذرع «14» . أقول ولعل هذه أقرب من رواية الأزرقي. وأما المرة الثانية: فهي تلك التي بنتها قريش قبل الإسلام، واشترك في بنائها النّبي صلّى الله عليه وسلم كما ذكرنا. فجعلوا طولها في السماء ثمانية عشر ذراعا، ونقصوا من طولها في الأرض ستة أذرع وجزءا من الذراع تركوها في الحجر «15» . وفي ذلك يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما روته عائشة: «يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدّم فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابا شرقيا وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم» «16» . وأما المرة الثالثة: فقد كانت عندما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزتها جيوشه من أهل الشام، وخلاصة ذلك أنهم حاصروا عبد الله بن الزبير بمكة بقيادة الحصين بن نمير السكوني في آخر سنة ست وثلاثين هجرية، بأمر من يزيد، ورموا البيت بالمنجنيق، فتهدم واحترق، فانتظر ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم، فاستشارهم قائلا: أيها الناس أشيروا عليّ في الكعبة، أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهى منها، فقال له ابن عباس: أرى أن تصلح ما وهى منها وتدع بيتا أسلم الناس عليه وأحجارا أسلم الناس عليها. فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجدّه فكيف بيت ربّكم؟! إني مستخير ربّي ثلاثا ثم عازم على أمري. ثم باشر نقضه بعد ثلاثة أيام حتى بلغوا به الأرض فأقام ابن الزبير أعمدة من حوله وأرخى عليها الستور ثم باشروا في رفع بنائه وزاد فيه الأذرع الستة التي قد أخرجت منه، وزاد في طوله إلى السماء عشرة أذرع،

_ (12) صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء باب قوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا. (13) انظر إعلام الساجد للزركشي: 46 (14) عيون الأثر: 1/ 52 (15) روى ذلك البخاري في كتاب الحج باب فضل مكة وانظر إعلام الساجد للزركشي: 46 (16) متفق عليه واللفظ للبخاري.

وجعل له بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه. وإنما جرّأه على إدخال هذه الزيادة حديث عائشة السابق عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «17» . وأما المرة الرابعة: فقد كانت بعد مقتل ابن الزبير. روى الإمام مسلم بسنده عن عطاء أنه لما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أسّ نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أمّا ما زاد في طوله فأقرّه، وأمّا ما زاد فيه من الحجر فردّه إلى بنائه، وسدّ الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه «18» . قالوا: وقد عزم الرشيد بعد ذلك على أن ينقضها ويعيدها كما بناها ابن الزبير، فقال له مالك بن أنس رحمه الله: «أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك، لا يشاء أحد منهم أن يغيّره إلا غيّره، فتذهب هيبته من قلوب الناس، فصرفه عن رأيه فيه» «19» . فهذه هي المرات الأربع التي بنيت فيها الكعبة بيقين. أما الخامسة: التي وقع فيها الشك والخلاف: فهي تتعلق بما قبل بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، هل كانت الكعبة مبنية قبل ذلك أم لا؟ جاء في بعض الآثار والروايات أن أول من بناها إنما هو آدم عليه الصلاة والسلام، ومن أبرز ما ورد في ذلك ما رواه البيهقي في دلائل النّبوة من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بعث الله عزّ وجلّ جبريل صلّى الله عليه وسلم إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا لي بيتا، فخطّ لهما جبريل عليه الصلاة والسلام، فجعل آدم يحفر وحواء تنقل حتى أصابه الماء فنودي من تحته حسبك يا آدم فلما بنياه أوحى الله إليه أن يطوف به، وقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح صلّى الله عليه وسلم. ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه» . ثم قال البيهقي: تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعا، ومعلوم أن ابن لهيعة ضعيف لا يحتج به.

_ (17) انظر عيون الأثر لابن سيّد الناس: 1/ 53، وإعلام الساجد للزركشي: 46. والحديث رواه مسلم 2: 69، باب نقض الكعبة وبنائها، وفي رواية للطبري وغيره أنها إنما احترقت بشرارة انطلقت إليها من نار كانت توقد حولها وانظر تاريخ الطبري: 5/ 498 (18) مسلم: 4/ 99 (19) هذا وفي شرح النووي على مسلم والفتح على البخاري، أن الذي همّ بنقض الكعبة هو الرشيد، وذكر في عيون الأثر وإعلام الساجد أنه أبو جعفر المنصور، ومعلوم أن مالكا رحمه الله عاصر كلّا من المنصور وهارون الرشيد، فالاحتمال قائم.

وهنالك روايات وآثار أخرى قريبة في المعنى من هذا الذي رواه البيهقي إلا أن جميعها لا يخلو من ضعف أو نكارة. وقيل أيضا أن أول من بناه شيث عليه الصلاة والسلام. فتكون الكعبة- إذا اعتمدنا هذه الآثار والروايات الضعيفة- قد بنيت خمس مرات خلال الدهر كله. غير أن الأولى هو اعتماد ما ثبت يقينا من ذلك، وهو أنها بنيت أربع مرات كما أوضحنا، وأما ما وراء ذلك وما بين هذه المرات فنكل علمه إلى الله عزّ وجلّ، عدا عما لحقها من ترميمات وإصلاحات بعد ذلك. ثالثها: مدى حكمة النّبي صلّى الله عليه وسلم في تدبير الأمور، وسياسة القضايا، وقطع دابر الخصومات، وبين من؟ بين أقوام قلما قامت بينهم خصومة ثم نامت قبل أن تراق فيما بينهم بسببها الدماء. وقد وصل بهم الخلاف كما تعلم إلى درجة كاد أن ينشب فيما بينهم القتال، فقد قربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم، ومكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، دون أن يردها إلى الوفاق أي رأي أو تدبير، حتى كان خمود نار الفتنة على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ونحن ينبغي أن نحيل هذه المزية فيه عليه الصلاة والسلام، إلى ما اختاره الله له من القيام بعبء الرسالة والنّبوة، قبل أن نحيلها إلى العبقرية التي جبل عليها والذكاء الذي فطر عليه. فالأساس الأول في تكوينه عليه الصلاة والسلام، أنه رسول ونبي. ثم تأتي المزايا الأخرى كلها من عبقرية ودهاء وذكاء مبنية على هذا الأساس ولا حقة به. رابعها: مدى سمو منزلته بين رجال قريش على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم، فقد كان ملقبا عندهم بالأمين، وكان محبوبا منهم كلهم، وكانوا لا يرتابون في صدقه إذا حدث، وفي كريم أخلاقه إذا عومل، وفي عظيم إخلاصه إذا ما استعين به واعتمد عليه. وهذه ظاهرة تكشف لك عن مدى الحقد والعناد اللذين امتلأت بهما أفئدة هؤلاء أنفسهم، بعد أن جاءته الرسالة من عند الله، وأخذ يبلغها إلى هؤلاء الأقوام الذين قابلوه بالتكذيب والعناد والإيذاء.

اختلاؤه في غار حراء

اختلاؤه في غار حراء ولما أخذت سنّه تدنو نحو الأربعين، نشأ لديه حب للعزلة بين الفترة والأخرى، وحبب الله إليه الاختلاء في غار حراء- وحراء جبل يقع في جانب الشمال الغربي من مكة- فكان يخلو فيه، ويتعبد فيه الليالي ذوات العدد، فتارة عشرة وتارة أكثر من ذلك إلى شهر، ثم يعود إلى بيته فلا يكاد يمكث فيه قليلا حتى يتزود من جديد لخلوة أخرى ويعود الكرة إلى غار حراء، وهكذا إلى أن جاءه الوحي وهو في إحدى خلواته تلك. العبر والعظات: إن لهذه الخلوة التي حببت إلى قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبيل البعثة، دلالة عظيمة جدا، لها أهمية كبرى في حياة المسلمين عامة والداعين إلى الله بصورة خاصة. فهي توضح أن المسلم لا يكمل إسلامه مهما كان متحليا بالفضائل قائما بألوان العبادات، حتى يجمع إلى ذلك ساعات من العزلة والخلوة يحاسب فيها النفس، ويراقب الله تعالى، ويفكر في مظاهر الكون، ودلائل ذلك على عظمة الله. هذا في حق أي مسلم يريد لنفسه الإسلام الصحيح، فكيف بمن يريد أن يضع نفسه موضع الداعي إلى الله والمرشد إلى الطريق الحق. وحكمة ذلك أن للنفس آفات لا يقطع شرتها إلا دواء العزلة عن الناس، ومحاسبتها في نجوة من ضجيج الدنيا ومظاهرها. فالكبر، والعجب والحسد، والرياء، وحبّ الدنيا، كل ذلك آفات من شأنها أن تتحكم في النفس وتتغلغل إلى أعماق القلب، وتعمل عملها التهديمي في باطن الإنسان على الرغم مما قد يتحلى به ظاهره من الأعمال الصالحة والعبادات المبرورة، ورغم ما قد ينشغل به، من القيام بشؤون الدعوة والإرشاد وموعظة الناس. وليس لهذه الآفات من دواء إلا أن يختلي صاحبها بين كل فترة وأخرى مع نفسه ليتأمل في حقيقتها ومنشئها ومدى حاجتها إلى عناية الله تعالى وتوفيقه في كل لحظة من لحظات الحياة، ثم ليتأمل في الناس ومدى ضعفهم أمام الخالق عزّ وجلّ وفي عدم أي فائدة لمدحهم أو قدحهم، ثم ليتفكر في مظاهر عظمة الله وفي اليوم الآخر وفي الحساب وطوله، وفي عظيم رحمة الله وعظيم عقابه. فعند التفكير الطويل المتكرر في هذه الأمور تتساقط تلك الآفات اللاحقة بالنفس ويحيا القلب بنور العرفان والصفاء، فلا يبقى لعكر الدنيا من سبيل إلى تكدير مرآته.

وشيء آخر له بالغ الأهمية في حياة المسلمين عامة وأرباب الدعوة خاصة: هو تربية محبة الله عزّ وجلّ في القلب. فهو منبع التضحية والجهاد وأساس كل دعوة متأججة صحيحة، ومحبة الله تعالى لا تأتي من مجرد الإيمان العقلي به، فالأمور العقلانية وحدها ما كانت يوما ما لتؤثر في العواطف والقلوب. ولو كان كذلك، لكان المستشرقون في مقدمة المؤمنين بالله ورسوله، ولكانت أفئدتهم من أشد الأفئدة حبّا لله ورسوله. أو سمعت بأحد من العلماء ضحى بروحه إيمانا منه بقاعدة رياضية أو مسألة من مسائل الجبر؟!. وإنما الوسيلة إلى محبة الله تعالى- بعد الإيمان به- كثرة التفكير في آلائه ونعمه والتأمل في مدى جلاله وعظمته، ثم الإكثار من ذكره سبحانه وتعالى بالقلب واللسان. وإنما يتم كل ذلك بالعزلة والخلوة والابتعاد عن شواغل الدنيا وضوضائها في فترات متقطعة متكررة من الزمن. فإذا قام المسلم بذلك وتهيأ له أداء هذه الوظيفة، نبتت له من ذلك في قلبه محبة إلهية عارمة، تجعله يستصغر كل عظيم، ويحتقر كل مغرية من المغريات، ويستهين بكل إيذاء وعذاب، ويستعلي فوق كل إذلال أو استهزاء. فتلك هي العدة الكبرى التي ينبغي أن يتسلح بها الدعاة إلى الله، وتلك هي العدة التي جهز الله بها حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلم ليقوم بأعباء الدعوة الإسلامية. ذلك لأن الدوافع الوجدانية في القلب من خوف ومحبة ورجاء تفعل ما لا يفعله الفهم العقلي المجرد. ولقد أجاد الشاطبي رحمه الله حينما فرق في هذه الدوافع بين عامة المسلمين الذين دخلوا في ربقة التكاليف بدافع من عموم إسلامهم، وخواصهم الذين دخلوا في ربقة هذه التكاليف يسوقهم ما هو أشد من مجرد التعقل والفهم. يقول: «فالضرب الأول حاله حال من يعمل بحكم عهد الإسلام وعقد الإيمان من غير زائد، والثاني حاله حال من يعمل بحكم غلبة الخوف والرجاء أو المحبة، فالخوف سوط سائق، والرجاء حاد قائد، والمحبة تيار حامل، فالخائف يعمل مع وجود المشقة، غير أن الخوف مما هو أشق يحمل على الصبر على ما هو أهون وإن كان شاقا. والراجي يعمل مع وجود المشقة أيضا، غير أن الرجاء في تمام الراحة يحمل على الصبر على تمام التعب. والمحب يعمل ببذل المجهود شوقا إلى المحبوب، فيسهل عليه الصعب ويقرب عليه البعيد، وتفنى القوى ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ولا قام بشكر النعمة» «20» . واتّخاذ الوسائل المختلفة لتحقيق هذه الدوافع الوجدانية في القلب مما أجمع المسلمون على

_ (20) الموافقات للشاطبي: 2/ 141، وراجع كتاب (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) لمؤلف هذا الكتاب: ص 111- 112

بدء الوحي

ضرورته، وهو ما يسمى بالتصوف عند جمهور العلماء والباحثين، أو بالإحسان عند بعضهم، أو بعلم السلوك عند بعض آخر كالإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى «21» . والاختلاء الذي كان يمارسه صلّى الله عليه وسلم قبيل بعثته كان واحدة من هذه الوسائل لتحقيق هذه الدوافع نفسها. بيد أنه لا ينبغي أن يفهم معنى الخلوة كما شذّ البعض ففهموها حسب شذوذهم، وهو الانصراف الكلي عن الناس واتّخاذ الكهوف والجبال موطنا واعتبار ذلك فضيلة بحدّ ذاتها. فذلك مخالف لهديه صلّى الله عليه وسلم ولما كان عليه عامة أصحابه. إنما المراد هو استحباب اتخاذ الخلوة دواء لإصلاح الحال كما ذكرنا، والدواء لا ينبغي أن يؤخذ إلا بقدر، وعند اللزوم، وإلّا انقلب إلى داء ينبغي التوقي منه. وإذا رأيت في تراجم الصالحين من استمر على الخلوة والابتعاد عن الناس، فمردّ ذلك إلى حالة خاصة به، وليس عمله حجة على الناس. بدء الوحي روى الإمام البخاري عن السيدة عائشة تصف كيفية بدء الوحي وتقول: «أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال له اقرأ، فقال ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربّك الأكرم الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرجف فؤاده. فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وكان ابن عم خديجة، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل في العبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا

_ (21) انظر الجزء العاشر من فتاوى الشيخ ابن تيمية رحمه الله، لتجد قيمة التصوف الحقيقي عند هذا الإمام الجليل، ولتعلم كم يفتري عليه أولئك الذين يحاولون ترويج باطلهم عن طريق إلصاقه باسمه.

العبر والعظات:

ترى؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس (أي جبريل أو الوحي) الذي نزل على موسى يا ليتني فيها جذعا (شابا قويا) ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي. واختلف في الزمن الذي فتر فيه الوحي فقيل ثلاث سنوات، وقيل أقل من ذلك، والراجح ما رواه البيهقي من أن المدة كانت ستة أشهر «22» . ثم روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: «بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني، زملوني، فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ إلى قوله: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ فحمي الوحي وتواتر» . العبر والعظات: حديث بدء الوحي هذا، هو الأساس الذي يترتب عليه جميع حقائق الدين بعقائده وتشريعاته. وفهمه واليقين به هما المدخل الذي لا بدّ منه إلى اليقين بسائر ما جاء به النّبي صلّى الله عليه وسلم من إخبارات غيبية وأوامر تشريعية ذلك أن حقيقة (الوحي) هي الفيصل الوحيد بين الإنسان الذي يفكر من عنده ويشرع بواسطة رأيه وعقله، والإنسان الذي يبلغ عن ربّه دون أن يغيّر أو ينقص أو يزيد. من أجل هذا يهتم محترفو التشكيك بالإسلام، بمعالجة موضوع الوحي في حياته صلّى الله عليه وسلم، ويبذلون جهدا فكريا شاقّا، في تكلّف وتمحل، من أجل التلبيس في حقيقته والخلط بينه وبين الإلهام، وحديث النفس، بل وحتى الصرع أيضا. وذلك لعلمهم بأن موضوع (الوحي) هو منبع يقين المسلمين وإيمانهم بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم من عند الله. فلئن أتيح تشكيكهم بحقيقته، أمكن تكفيرهم بكل ما قد يتفرع عنه من عقائد وأحكام، وأمكنهم أن يمهدوا لفكرة أن كل ما دعا إليه محمد صلّى الله عليه وسلم من المبادئ والأحكام التشريعية ليس إلا من تفكيره الذاتي. من أجل هذه الغاية، أخذ محترفو الغزو الفكري، يحاولون تأويل ظاهرة الوحي وتحريفها عما يرويه لنا المؤرخون وتحدث به صحاح السّنة الشريفة، وإبعادها عن حقيقتها الظاهرة وراح كل منهم يسلك إلى ذلك ما يروق لخياله من فنون التصورات المتكلفة الغريبة. فمن متصور بأن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يزل يفكر.. إلى أن تكونت في نفسه بطريقة

_ (22) راجع فتح الباري: 1/ 21

الكشف التدريجي المستمر عقيدة كان يراها الكفيلة بالقضاء على الوثنية، ومن مفضل على ذلك إشاعة القول بأنه صلّى الله عليه وسلم إنما تعلم القرآن ومبادئ الإسلام من بحيرا الراهب، ومن قائل بأن الأمر ليس هذا ولا ذاك ولكن محمدا صلّى الله عليه وسلم كان رجلا عصبيا أو مصابا بداء الصرع «23» . ونحن حينما ننظر إلى مثل هذه التمحلات العجيبة التي لا يرى العاقل مسوغا لها إلا التهرب من الإقرار بنبوته عليه الصلاة والسلام، ندرك في جلاء ووضوح الحكمة الإلهية الباهرة من بدء نزول الوحي عليه صلّى الله عليه وسلم بهذه الطريقة التي استعرضناها الآن، في حديث الإمام البخاري. لماذا رأى رسول الله جبريل بعيني رأسه لأول مرة، وقد كان بالإمكان أن يكون الوحي من وراء حجاب؟ لماذا قذف الله في قلبه عليه الصلاة والسلام الرعب منه والحيرة في فهم حقيقته، وقد كان ظاهر محبة الله لرسوله وحفظه له يقتضي أن يلقي السكينة في قلبه ويربط على فؤاده فلا يخاف ولا يرتعد؟ لماذا خشي على نفسه أن يكون هذا الذي تمثل له في الغار أتيا من الجن، ولم يرجح على ذلك أن يكون ملكا أمينا من عند الله؟ لماذا انفصل الوحي عنه بعد ذلك مدة طويلة، وجزع النّبي صلّى الله عليه وسلم بسبب ذلك جزعا عظيما حتى إنه كان يحاول- كما يروي الإمام البخاري- أن يتردى من شواهق الجبال؟ هذه أسئلة طبيعية بالنسبة للشكل الذي ابتدأ به الوحي، ولدى التفكير في أجوبتها نجدها تنطوي على حكمة باهرة، ألا وهي أن يجد المفكر الحر فيها الحقيقة الناصعة الواقية عن الوقوع في شرك محترفي الغزو الفكري والتأثر بأخيلتهم المتكلفة الباطلة. لقد فوجئ محمد عليه الصلاة والسلام وهو في غار حراء بجبريل أمامه يراه بعينه، وهو يقول له اقرأ، حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمرا ذاتيا داخليا مردّه إلى حديث النفس المجرد، وإنما هي استقبال وتلقّ لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس وداخل الذات. وضمّ الملك إياه ثم إرساله ثلاث مرات قائلا في كل مرة: اقرأ، يعتبر تأكيدا لهذا التلقّي الخارجي ومبالغة في نفي ما قد يتصوّر، من أن الأمر لا يعدو كونه خيالا داخليا فقط. ولقد داخله الخوف والرعب مما سمع ورأى، حتى إنه قطع خلوته في الغار وأسرع عائدا إلى البيت يرجف فؤاده، لكي يتضح لكل مفكر عاقل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يكن متشوفا للرسالة التي سيدعى إلى حملها وبثّها في العالم، وأن ظاهرة الوحي هذه لم تأت منسجمة أو متممة لشيء مما قد يتصوره أو يخطر في باله، وإنما طرأت طروءا مثيرا على حياته، وفوجئ بها دون أي توقع

_ (23) راجع حاضر العالم الإسلامي: 1/ 38 و 39

سابق. ولا شك أن هذا ليس شأن من يتدرج في التأمل والتفكير إلى أن تتكون في نفسه- بطريقة الكشف التدريجي المستمر- عقيدة يؤمن بالدعوة إليها! .. ثم إن شيئا من حالات الإلهام أو حديث النفس أو الإشراق الروحي أو التأملات العلوية، لا يستدعي الخوف والرعب وامتقاع اللون. وليس ثمة أي انسجام بين التدرج في التفكير والتأمل من ناحية، ومفاجأة الخوف والرعب من ناحية أخرى. وإلا لاقتضى ذلك أن يعيش عامة المفكرين والمتأملين نهبا لدفعات من الرعب والخوف المفاجئة المتلاحقة. وأنت خبير أن الخوف والرعب ورجفان الجسم وتغير اللون- كل ذلك من الانفعالات القسرية التي لا سبيل إلى اصطناعها والتمثيل بها- حتى لو فرضنا إمكان صدور المخادعة والتمثيل منه عليه الصلاة والسلام، وفرضنا المستحيل من انقلاب طباعه المعروفة قبل البعثة إلى عكس ذلك. ويتجلى مزيد من صورة المفاجأة المخيفة لديه صلّى الله عليه وسلم، في توهمه بأن هذا الذي رآه وغطّه وكلّمه في الغار قد يكون أتيّا من الجن، إذ قال لخديجة بعد أن أخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسي» أي من الجانّ. ولكنها طمأنته بأنه ليس ممن يطولهم أذى الشياطين والجان لما فيه من الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة. وقد كان الله عزّ وجلّ قادرا أن يربط على قلب رسوله ويطمئن نفسه بأن هذا الذي كلّمه ليس إلا جبريل: ملك من ملائكة الله جاء ليخبره أنه رسول الله إلى الناس، ولكن الحكمة الإلهية اقتضت إظهار الانفصال التام بين شخصية محمد صلّى الله عليه وسلم قبل البعثة وشخصيته بعدها، وبيان أن شيئا من أركان العقيدة الإسلامية أو التشريع الإسلامي لم يطبخ في ذهن الرسول عليه الصلاة والسلام سابقا ولم يتصور الدعوة إليه سلفا. ثم إن فيما ألهم الله خديجة من الذهاب به عليه الصلاة والسلام إلى ورقة بن نوفل، وعرض الأمر عليه تأكيدا من جانب آخر بأن هذا الذي فوجئ به عليه الصلاة والسلام إنما هو الوحي الإلهي الذي كان قد أنزل على الأنبياء من قبله، وإزالة لغاشية اللبس التي كانت تحوم حول نفسه بالخوف والتصورات المختلفة عن تفسير ما رآه وسمعه. أما انقطاع الوحي بعد ذلك، وتلبّثه ستة أشهر أو أكثر، على الخلاف المعروف فيه، فينطوي على مثل المعجزة الإلهية الرائعة. إذ في ذلك أبلغ الرّد على ما يفسر به محترفو الغزو الفكري الوحي النّبوي من أنه الإشراق النفسي المنبعث لديه من طول التأمل والتكرار، وأنه أمر داخلي منبعث من ذاته نفسها. لقد قضت الحكمة الإلهية أن يحتجب عنه الملك الذي رآه لأول مرة في غار حراء، مدة طويلة، وأن يستبدّ به القلق من أجل ذلك، ثم يتحول القلق لديه إلى خوف في نفسه من أن

يكون الله عزّ وجلّ قد قلاه بعد أن أراد أن يشرّفه بالوحي والرسالة، لسوء قد صدر منه، حتى لقد ضاقت الدنيا عليه وراحت تحدثه نفسه، كلما وصل إلى ذروة جبل، أن يلقي بنفسه منها! .. إلى أن رأى ذات يوم الملك الذي رآه في حراء، وقد ملأ شكله ما بين السماء والأرض يقول: «يا محمد أنت رسول الله إلى الناس» . فعاد مرة أخرى وقد استبدّ به الخوف والرعب إلى البيت، حيث نزل عليه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ.. [المدثر 74/ 1- 2] . إن هذه الحالة التي مرّ بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، تجعل مجرّد التفكير في كون الوحي إلهاما نفسيا، ضربا من الجنون، إذ من البداهة بمكان أن صاحب الإلهامات النفسية والتأملات الفكرية لا يمر إلهامه أو تأمله بمثل هذه الأحوال. إذن فإن حديث بدء الوحي على النحو الذي ورد في الحديث الثابت الصحيح، ينطوي على تهديم كل ما يحاول المشككون تخييله إلى الناس في أمر الوحي والنبوة التي أكرم الله بها محمدا عليه الصلاة والسلام. وإذا تبين لك ذلك أدركت مدى الحكمة الإلهية العظيمة في أن تكون بداءة الوحي على النحو الذي أراده عزّ وجلّ. وربما عاد بعد ذلك محترفو التشكيك، يسألون: فلماذا كان ينزل عليه صلّى الله عليه وسلم الوحي بعد ذلك وهو بين الكثير من أصحابه فلا يرى الملك أحد منهم سواه؟ والجواب: أنه ليس من شرط وجود الموجودات أن ترى بالأبصار، إذ إن وسيلة الإبصار فينا محدودة بحدّ معين، وإلّا لاقتضى ذلك أن يصبح الشيء معدوما إذا ابتعد عن البصر بعدا يمنع من رؤيته. على أن من اليسير على الله جلّ جلاله- وهو الخالق لهذه العيون المبصرة- أن يزيد في قوة ما شاء منها فيرى ما لا تراه العيون الأخرى، يقول مالك بن نبي في هذا الصدد: «إن عمى الألوان مثلا يقدم لنا حالة نموذجية، لا يمكن أن ترى فيها بعض الألوان بالنسبة لكل العيون، وهنا لك أيضا مجموعة من الإشعاعات الضوئية دون الضوء الأحمر وفوق الضوء البنفسجي لا تراها أعيننا، ولا شيء يثبت علميا أنها كذلك بالنسبة لجميع العيون، فقد توجد عيون يمكن أن تكون أقل أو أكثر حساسية» «24» . ثم إن استمرار الوحي بعد ذلك يحمل الدلالة نفسها على حقيقة الوحي وأنه ليس كما أراد المشككون: ظاهرة نفسية محضة. ونستطيع أن نجمل هذه الدلالة فيما يلي: 1- التمييز الواضح بين القرآن والحديث، إذ كان يأمر بتسجيل الأول فورا، على حين يكتفي بأن يستودع الثاني ذاكرة أصحابه، لا لأن الحديث كلام من عنده لا علاقة للنّبوة به، بل لأن القرآن موحى به إليه بنفس اللفظ والحروف بواسطة جبريل عليه السلام. أما الحديث فمعناه

_ (24) الظاهرة القرآنية: 127

وحي من الله عزّ وجلّ، ولكن لفظه وتركيبه من عنده عليه الصلاة والسلام، فكان يحاذر أن يختلط كلام الله عزّ وجلّ الذي يتلقاه من جبريل بكلامه هو. 2- كان النّبي صلّى الله عليه وسلم يسأل عن بعض الأمور، فلا يجيب عليها، وربّما مرّ على سكوته زمن طويل، حتى إذا نزلت آية من القرآن في شأن ذلك السؤال، طلب السائل وتلا عليه ما نزل من القرآن في شأن سؤاله. وربما تصرف الرسول في بعض الأمور على وجه معين، فتنزل آيات من القرآن تصرفه عن ذلك الوجه، وربما انطوت على عتب أو لوم له. 3- كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أميّا.. وليس من الممكن أن يعلم إنسان بواسطة المكاشفة النفسية حقائق تاريخية، كقصة يوسف.. وأم موسى حينما ألقت وليدها في اليمّ.. وقصة فرعون.. ولقد كان هذا من جملة الحكم في كونه صلّى الله عليه وسلم أميّا: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت 29/ 48] . 4- إن صدق النّبي صلّى الله عليه وسلم أربعين سنة مع قومه واشتهاره فيهم بذلك، يستدعي أن يكون صلّى الله عليه وسلم، من قبل ذلك، صادقا مع نفسه، ولذا فلا بدّ أن يكون قد قضى في دراسته لظاهرة الوحي على أي شك يخايل لعينيه أو فكره. وكأن هذه الآية جاءت ردّا لدراسته الأولى لشأن نفسه مع الوحي: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ. لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ [يونس 10/ 94] . ولذا روي أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال بعد نزول هذه الآية: «لا أشك ولا أسأل» «25» .

_ (25) رواه ابن كثير عن قتادة.

القسم الثالث من البعثة إلى الهجرة مراحل الدعوة الإسلامية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

القسم الثالث من البعثة إلى الهجرة مراحل الدّعوة الإسلاميّة في حياة النّبي صلّى الله عليه وسلم مرّت الدّعوة الإسلامية في حياته عليه الصلاة والسلام، منذ بعثته إلى وفاته بأربع مراحل: المرحلة الأولى: الدّعوة سرّا، واستمرت ثلاث سنوات. المرحلة الثانية: الدّعوة جهرا، وباللسان فقط، واستمرت إلى الهجرة. المرحلة الثالثة: الدّعوة جهرا، مع قتال المعتدين والبادئين بالقتال أو الشّر، واستمرت هذه المرحلة إلى عام صلح الحديبية. المرحلة الرابعة: الدّعوة جهرا مع قتال كل من وقف في سبيل الدعوة أو امتنع عن الدخول في الإسلام- بعد فترة الدعوة والإعلام- من المشركين أو الملاحدة أو الوثنيين. وكانت هذه المرحلة هي التي استقر عليها أمر الشريعة الإسلامية وقام عليها، حكم الجهاد في الإسلام. الدّعوة سرّا بدأ النّبي صلّى الله عليه وسلم يستجيب لأمر الله، فأخذ يدعو إلى عباده الله وحده ونبذ الأصنام، ولكنه كان يدعو إلى ذلك سرّا حذرا من وقع المفاجأة على قريش التي كانت متعصبة لشركها ووثنيتها، فلم يكن عليه الصلاة والسلام يظهر الدّعوة في المجالس العمومية لقريش، ولم يكن يدعو إلا من كانت تشدّه إليه قرابة أو معرفة سابقة. وكان في أوائل من دخل الإسلام من هؤلاء: خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة مولاه عليه الصلاة والسلام ومتبنّاه، وأبو بكر بن أبي قحافة، وعثمان بن عفان، والزّبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.. وغيرهم، رضي الله عنهم جميعا. فكان هؤلاء يلتقون بالنّبي صلّى الله عليه وسلم سرّا، وكان أحدهم إذا أراد ممارسة عبادة من العبادات ذهب إلى شعاب مكة يستخفي فيها عن أنظار قريش.

العبر والعظات:

ثم لما أربى الذين دخلوا في الإسلام على الثلاثين- ما بين رجل وامرأة- اختار لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم دار أحدهم، وهو الأرقم بن أبي الأرقم، ليلتقي بهم فيها لحاجات الإرشاد والتعليم، وكانت حصيلة الدعوة في هذه الفترة ما يقارب أربعين رجلا وامرأة دخلوا في الإسلام، عامتهم من الفقراء والأرقاء وممن لا شأن له بين قريش «1» . العبر والعظات: 1- وجه السرّيّة في بدء دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام: لا ريب أن تكتّم النّبي صلّى الله عليه وسلم في دعوته إلى الإسلام، خلال هذه السنوات الأولى، لم يكن بسبب الخوف على نفسه، فهو حينما كلف بالدعوة ونزل عليه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ.. علم أنه رسول الله إلى الناس، وهو لذلك كان يوقن بأن الإله الذي ابتعثه وكلّفه بهذه الدعوة قادر على أن يحميه ويعصمه من الناس، على أن الله عزّ وجلّ لو أمره من أول يوم أن يصدع بالدعوة بين الناس علنا، لما توانى عن ذلك ساعة، ولو كان يتراءى له في ذلك مصرعه. ولكن الله عزّ وجلّ ألهمه- والإلهام للرسول نوع من الوحي إليه- أن يبدأ الدعوة، في فترتها الأولى، بسرّيّة وتكتّم، وأن لا يلقى بها إلا من يغلب على ظنه أنه سيصيخ لها ويؤمن بها، تعليما للدّعاة من بعده، وإرشادا لهم إلى مشروعية الأخذ بالحيطة والأسباب الظاهرة، وما يقرره التفكير والعقل السليم من الوسائل التي ينبغي أن تتخذ من أجل الوصول إلى غايات الدعوة وأهدافها. على أن لا يتغلب كل ذلك على الاعتماد والاتّكال على الله وحده، وعلى أن لا يذهب الإنسان في التمسك بهذه الأسباب مذهبا يعطيها معنى التأثير والفعالية في تصوّره وتفكيره. فهذا يخدش أصل الإيمان بالله تعالى، فضلا عن أنه يتنافى مع طبيعة الدعوة إلى الإسلام. ومن هنا تدرك، أن أسلوب دعوته عليه الصلاة والسلام، في هذه الفترة، كان من قبيل السياسة الشرعية بوصف كونه إماما، وليس من أعماله التبليغية عن الله تعالى بوصف كونه نبيّا. وبناء على ذلك فإنه يجوز لأصحاب الدعوة الإسلامية، في كل عصر أن يستعملوا المرونة في كيفية الدعوة- من حيث التكتّم والجهر، أو اللين والقوة- حسبما يقتضيه الظرف وحال العصر الذي يعيشون فيه، وهي مرونة حددتها الشريعة الإسلامية، اعتمادا على واقع سيرته صلّى الله عليه وسلم، ضمن الأشكال أو المراحل الأربعة التي سبق ذكرها، على أن يكون النظر في كل ذلك إلى مصلحة المسلمين ومصلحة الدعوة الإسلامية. ومن أجل هذا أجمع جمهور الفقهاء على أن المسلمين إذا كانوا من قلة العدد أو ضعف العدّة بحيث يغلب الظن أنهم سيقتلون من غير أي نكاية في أعدائهم، إذا ما أجمعوا قتالهم، فينبغي، أن

_ (1) راجع للتوسع في هذا البحث سيرة ابن هشام: 1/ 249- 261

2 - الأوائل الذين دخلوا في الإسلام والحكمة من إسراعهم إلى الإسلام قبل غيرهم:

تقدم هنا مصلحة حفظ النفس، لأن المصلحة المقابلة وهي مصلحة حفظ الدّين موهومة أو منفيّة الوقوع. ويقرّر العزّ بن عبد السلام حرمة الخوض في مثل هذا الجهاد قائلا: «فإذا لم تحصل النكاية وجب الانهزام، لما في الثبوت من فوات النفس مع شفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام، وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة، ليس في طيّها مصلحة» «2» . قلت: وتقديم مصلحة النفس هنا، من حيث الظاهر فقط. أمّا من حيث حقيقة الأمر ومرماه البعيد، فإنها في الواقع مصلحة دين، إذ المصلحة الدّينية تقتضي- في مثل هذه الحال- أن تبقى أرواح المسلمين سليمة لكي يتقدموا ويجاهدوا في الميادين المفتوحة الأخرى. وإلّا فإن هلاكهم يعتبر إضرارا بالدّين نفسه وفسحا للمجال أمام الكافرين ليقتحموا ما كان مسدودا أمامهم من السّبل. والخلاصة: أنه يجب المسالمة أو الإسرار بالدعوة إذا كان الجهر أو القتال يضرّ بها، ولا يجوز الإسرار في الدعوة إذا أمكن الجهر بها وكان ذلك مفيدا، ولا يجوز المسالمة مع الظالمين والمتربصين بها إذا توفرت أسباب القوة والدفاع عنها، ولا يجوز القعود عن جهاد الكافرين في عقر دورهم إذا ما توفرت وسائل ذلك وأسبابه. 2- الأوائل الذين دخلوا في الإسلام والحكمة من إسراعهم إلى الإسلام قبل غيرهم: وتحدثنا السّيرة أن الذين دخلوا في الإسلام، في هذه المرحلة، كان معظمهم خليطا من الفقراء والضعفاء والأرقاء، فما الحكمة في ذلك؟ وما السّر في أن تتأسس الدولة الإسلامية على أركان من مثل هؤلاء الناس؟ والجواب: إن هذه الظاهرة هي الثمرة الطبيعية لدعوة الأنبياء في فترتها الأولى، ألم تر إلى قوم نوح كيف كانوا يعيّرونه بأن أتباعه الذين من حوله ليسوا إلا من أراذل الناس ودهمائهم: ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ.. [هود 11/ 27] . وإلى فرعون وشيعته كيف كانوا يرون أتباع موسى أذلاء مستضعفين، حتى قال عنهم بعد أن تحدث عن هلاك فرعون وأشياعه: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأعراف 7/ 137] . وإلى ثمود الذين أرسل الله إليهم صالحا، كيف تولى عنه الزعماء المستكبرون، وآمن به الناس المستضعفون، حتى قال الله في ذلك: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الأعراف 7/ 75- 76] .

_ (2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/ 95، وانظر ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية للمؤلف: 261

والسّرّ في ذلك، أن حقيقة هذا الدّين الذي بعث الله به عامة أنبيائه ورسله، إنما هي الخروج عن سلطان الناس وحكمهم إلى سلطان الله وحكمه وحده. وهي حقيقة تخدش أول ما تخدش ألوهية المتألهين وحاكمية المتحكمين وسطوة المتزعمين، وتناسب أول ما تناسب حالة المستضعفين والمستذلين والمستعبدين، فيكون ردّ الفعل أمام الدعوة إلى الإسلام لله وحده هو المكابرة والعناد من أولئك المتألهين والمتحكمين، والإذعان والاستجابة من هؤلاء المستضعفين، وانظر، فإن هذه الحقيقة تتجلى لك بوضوح في الحديث الذي دار بين رستم قائد الجيش الفارسي في وقعة القادسية، وربعي بن عامر الجندي البسيط في جيش سعد بن أبي وقاص. فقد قال له رستم: «ما الذي دعاكم إلى حربنا والولوع بديارنا؟ فقال: جئنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. ثم نظر إلى صفوف الناس الراكعين عن يمين رستم وشماله، فقال متعجبا: لقد كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولكني لا أرى قوما أسفه منكم، إننا معشر المسلمين لا يستعبد بعضنا بعضا، ولقد ظننت أنكم تتواسون كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب لبعض.. فالتفت الدهماء المستضعفون إلى بعضهم يتهامسون: «صدق والله العربي» . أما القادة والرؤساء فقد وجدوا في كلام ربعي هذا ما يشبه الصاعقة أصابت كيانهم فحطمته، وقال بعضهم لبعض: «لقد رمى بكلام لا تزال عبيدنا تنزع إليه» «3» . ولا يعني هذا الكلام أن المستضعفين الذين أسرعوا إلى الإسلام قبل غيرهم لم يكن دخولهم فيه عن إيمان بل عن قصد ورغبة في التخلص من أذى المستكبرين وسلطانهم. ذلك لأن الإيمان بالله وحده والتصديق بما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، كان قدرا مشتركا بين زعماء قريش ومستضعفيها، فما منهم أحد إلا وهو يعلم صدق النّبي صلّى الله عليه وسلم فيما يخبر عن ربّه، غير أن الزعماء والكبراء فيهم كانت تصدّهم زعامتهم عن الانقياد والاتّباع له، وأجلى مثل على ذلك عمه أبو طالب. وأما الفقراء والمستضعفون فما كان ليصدهم عن التجاوب مع إيمانهم والانقياد له عليه الصلاة والسلام شيء. أضف إلى ذلك ما يشعر به أحدهم عند إيمانه بألوهية الله وحده من الاعتزاز به وعدم الاكتراث بسلطان غير سلطانه أو قوة غير قوته. فهذا الشعور الذي هو ثمرة للإيمان بالله عزّ وجلّ، يزيده في الوقت ذاته قوة ويجعل صاحبه في نشوة وسعادة غامرة. ومن هنا نعلم عظم الفرية التي يفتريها بعض محترفي الغزو الفكري في هذا العصر، حينما

_ (3) انظر تفصيل هذه القصة في كتاب: إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء، تأليف محمد الخضري: 100

الجهر بالدعوة

يزعمون بأن الدعوة التي قام بها محمد صلّى الله عليه وسلم، إنما هي من وحي بيئته العربية نفسها، وأنها إنما كانت تمثل حركة الفكر العربي إذ ذاك. فلو كان كذلك، لما كان رصيد هذه الدعوة بعد سنوات ثلاث من بدايتها، أربعين رجلا وامرأة، معظمهم من الفقراء والمستضعفين والموالي والأرقاء، وفي مقدمتهم أخلاط من مختلفي الأعاجم: صهيب الرومي، وبلال الحبشي. وسوف تجد في البحوث القادمة أن بيئته العربية نفسها هي التي أرغمته على الهجرة من بلاده وأرغمت أتباعه من حوله على التفرق هنا وهناك والخروج إلى بلاد الحبشة مهاجرين، وذلك كراهية منها للدعوة التي زعموا أنه إنما كان يمثل بها نوازعها وأفكارها. الجهر بالدعوة قال ابن هشام: «ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من النساء والرجال حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدّث به. فأمر الله رسوله أن يصدع بما جاءه من الحق، وأن يبادي الناس بأمره وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله أمره واستتر به إلى أن أمره الله بإظهار دينه ثلاث سنين من مبعثه. ثم قال الله له: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر 15/ 94] . وقال له: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء 26/ 214 و 215] . وحينئذ بدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتنفيذ أمر ربه. فاستجاب لقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بأن صعد على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عدي، حتى اجتمعوا، فجعل الذي لم يستطع أن يخرج يرسل رسولا لينظر: ما هو؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم.. ألهذا جمعتنا؟» . فنزل قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ «4» [المسد 111/ 1] . ثم نزل الرسول فاستجاب لقوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ بأن جمع من حوله جميع ذويه وأهل قرابته وعشيرته، فقال: «يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب: أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس: أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف: أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب: أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلّها ببلاها» «5» .

_ (4) متفق عليه. (5) متفق عليه واللفظ لمسلم، وقوله: سأبلّها ببلاها أي سأصلها بصلتها.

العبر والعظات:

وكان رد الفعل من قريش أمام جهره بالدعوة، أن أدبروا عنه وتنكروا لدعوته معتذرين بأنهم لا يستطيعون أن يتركوا الدين الذي ورثوه عن آبائهم وأصبح من تقاليد حياتهم. وحينئذ نبههم الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى ضرورة تحرير أفكارهم وعقولهم من عبودية الاتّباع والتقليد، واستعمال العقل والمنطق، وأوضح لهم أن آلهتهم التي يعكفون على عبادتها لا تفيدهم أو تضرهم شيئا، وأن توارث آبائهم وأجدادهم لعبادتها ليس عذرا في اتباعهم بدون دافع إلا دافع التقليد، كما قال عز وجل في حقهم: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ، قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ!؟ [المائدة 5/ 104] . فلما عاب آلهتهم، وسفه أحلامهم، وجرّ اعتذارهم عن تمسكهم بعبادة الأصنام أنها تقاليد آبائهم وأجدادهم، إلى وصف آبائهم بعدم العقل، أعظموا الأمر، وناكروه، وأجمعوا خلافه وعدوانه، إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام، وإلّا عمه أبا طالب الذي حدب عليه، ومنعه، وقام دونه. العبر والعظات: في هذا المقطع من سيرته عليه الصلاة والسلام دلالات ثلاث نجملها فيما يلي: أولا- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حينما صدع بالدعوة إلى الإسلام في قريش وعامة العرب، فاجأهم بما لم يكونوا يتوقعونه أو يألفونه. تجد ذلك واضحا في ردّ أبي لهب عليه، ثم في اتفاق معظم المشركين من زعماء قريش على معاداته ومقاومته. وفي ذلك الردّ القاطع على من يحاولون تصوير هذا الدين بشرعته وأحكامه، ثمرة من ثمار القومية ويدعون أن محمدا عليه الصلاة والسلام إنما كان يمثل بدعوته التي دعا إليها، آمال العرب ومطامحهم في ذلك الحين. وليس الباحث بحاجة إلى أن يتعب نفسه بأي ردّ أو مناقشة لهذه الدعوى المضحكة عندما يطلع على سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم. فالذين يروجون لها بين الناس هم أول من يعلم سخفها وبطلانها. ولكنها على كل حال دعوى لابد منها في نظرهم من أجل إزاحة الدين وسلطانه عن سبيل المبادئ والأفكار الأخرى. فليس المهم أن تكون الدعوى صحيحة حتى يمكن الترويج لها، ولكن المهم أن تكون مصلحتهم وأغراضهم تتطلب ترويج ذلك وادعاءه، ولعلك لم تنس ما ذكرناه مفصلا فى المقدمة الخامسة بصدد هذا الموضوع. ثانيا- كان من الممكن أن لا يأمر الله رسوله بإنذار عشيرته وذوي قرباه خاصة، اكتفاء بعموم أمره الآخر وهو قوله: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ إذ يدخل أفراد عشيرته وذوو قرباه في عموم الذين سيصدع أمامهم بالدعوة والإنذار، فما الحكمة من خصوصية الأمر بإنذار العشيرة؟

والجواب: أن في هذا إلماحا إلى درجات المسؤولية التي تتعلق بكل مسلم عموما وأصحاب الدعوة خصوصا. فأدنى درجة في المسؤولية هي مسؤولية الشخص عن نفسه. ومن أجل إعطاء هذه الدرجة حقها استمرت فترة ابتداء الوحي تلك المدة الطويلة التي رأيناها، أي ريثما يطمئن محمد صلّى الله عليه وسلم إلى أنه نبي مرسل، وأن ما ينزل عليه إنما هو وحي من الله عز وجل فيؤمن هو بنفسه أولا ويوطن ذاته لقبول كل ما سيتلقاه من مبادئ ونظم وأحكام. أما الدرجة التي تليها، فهي مسؤولية المسلم عن أهله ومن يلوذون به من ذوي قرباه. وتوجيها إلى القيام بحق هذه المسؤولية خصص الله الأهل والأقارب بضرورة الإنذار والتبليغ بعد أن أمر بعموم التبليغ والجهر به. وهذه الدرجة من المسؤولية يشترك في ضرورة تحمل أعبائها كل مسلم صاحب أسرة أو قربى. وليس من اختلاف بين دعوة الرسول في قومه ودعوة المسلم في أسرته بين أقاربه، إلا أن الأول يدعو إلى شرع جديد منزل عليه من الله تعالى، وهذا يدعو بدعوة الرسول الذي بعث إليه، فهو يبلغ عنه وينطق بلسانه. وكما لا يجوز للنبي أو الرسول في قومه أن يقعد عن تبليغهم ما أوحي إليه، فكذلك لا يجوز لرب الأسرة أن يقعد عن تبليغ أهله وأسرته ذلك، بل يجب أن يحملهم على اتباع ذلك حملا ويلزمهم به إلزاما. أما الدرجة الثالثة: فهي مسؤولية العالم عن حيه أو بلدته، ومسؤولية الحاكم عن دولته وقومه، وكل منهما ينوبان في ذلك مناب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذ هما الوارثان الشرعيان له، لقوله عليه الصلاة والسلام: «العلماء ورثة الأنبياء» . ولتسمية الإمام والحاكم خليفة، أي خليفة لرسول الله. على أن العلم والدراية من لوازم الإمام والحاكم في المجتمع الإسلامي، فليس من خلاف بين طبيعة المسؤولية المنوطة برسول الله صلّى الله عليه وسلم والمنوطة بالعلماء والحكام في الاتساع والشمول. إلا أن الرسول يبلغ- كما قلنا- شرعا جديدا يوحى إليه من الله عز وجل، أما هؤلاء فيمشون على قدمه ويهتدون بهديه ويلتزمون سنته وسيرته فيما يفعلون ويبلغون. وإذن فقد كان صلّى الله عليه وسلم يتحمل المسؤولية تجاه نفسه، بوصف كونه مكلفا. وكان يتحمل المسؤولية تجاه أسرته وأهله، بوصف كونه رب أسرة وذا آصرة قربى، ثم كان يتحمل المسؤولية تجاه الناس كلهم، بوصف كونه نبيا ورسولا مرسلا من الله عز وجل. ويشترك مع النبي صلّى الله عليه وسلم في الأولى، كل مكلف، وفي الثانية كل صاحب أسرة، وفي الثالثة العلماء والحكام. ثالثا- عاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم على قومه أن يأسروا أنفسهم للتقاليد الموروثة عن أبائهم

وأجدادهم دون تفكر منهم في مدى صلاحها أو فسادها، ودعاهم إلى تحرير عقولهم من أسر الاتباع الأعمى وعصبية التقاليد التي لا تقوم على شيء من أساس الفكر والمنطق. وفي هذا دليل على أن مبنى هذا الدين- بما فيه من عقائد وأحكام- إنما هو على العقل والمنطق، وأن المتوخى في التمسك به إنما هو مصلحة العباد العاجلة والآجلة- ولذلك كان من أهم شروط صحة الإيمان بالله وما يتبعه من أمور اعتقادية أخرى- أن يقوم على أساس من اليقين والفكر الحر، دون أدنى تأثر بأي عرف أو تقليد، حتى قال صاحب جوهرة التوحيد في أرجوزته المعروفة: فكل من قلد في التوحيد ... إيمانه لم يخل من ترديد ومن هنا تعلم أن الدين جاء حربا على التقاليد، والدخول في أسرها. إذ هو قائم في كل مبادئه وأحكامه على أساس العقل والمنطق السليمين، على حين أن التقاليد قائمة على مجرد باعث الاقتداء والاتباع، أي دون أن يكون فيه لعنصر البحث والتفكير الحر أي تأثير. إذ أن كلمة (التقاليد) إنما تعني، في وضع اللغة العربية وما تواضع عليه عرف علماء الاجتماع: «مجموع العادات التي يرثها الآباء عن الأجداد، أو التي تسري، بمجرد عامل الاحتكاك في بيئة من البيئات أو بلدة من البلدان بشرط أن يكون عامل التقليد المجرد هو العصب الرئيسي الذي يمتدّ في تلك العادات من أجل الحياة والبقاء» . فجميع ما اعتاده الناس من أنماط الحياة في مجتمعاتهم، ومن مظاهر اللهو في أفراحهم، ومن أشكال الحداد في مآسيهم وأحزانهم، مما حاكته عوامل التوارث القديم أو الاقتباس التلقائي عن طريق التأثر والاحتكاك جميع ذلك يسمى في اصطلاح اللغة وعلم الاجتماع (تقاليد) . إذا علمت هذا، أدركت أن الإسلام لا يمكن أن ينطوي على شيء مما يسمى بالتقاليد، سواء ما كان منه متعلقا بالعقيدة أو مختلف النظم والأحكام. إذ العقيدة قائمة على أساس العقل والمنطق. والأحكام قائمة على أساس المصالح الدنيوية والأخروية، وهي مصالح تدرك بالتفكير والتدبّر الذاتي وإن قصر عن إدراكها فهم بعض العقول لبعض العوارض والأسباب. وإذا تبين لك هذا، أدركت مدى خطورة الخطيئة التي يقع فيها من يطلقون كلمة (التقاليد الإسلامية) على مختلف ما يتضمنه الإسلام من العبادات والأحكام التشريعية والأخلاقية. إذ من شأن هذه التسمية الظالمة وترويجها، أن توحي إلى الأذهان أن قيمة السلوك والخلق الإسلامي ليست بسبب كونهما مبدأ إلهيا يكمن فيه سر سعادة البشر- كما هو الحق- وإنما بسبب أن كلّا من النظام والخلق الإسلامي إنما هو عادات قديمة موروثة من الآباء والأجداد. ولا ريب أن

النتيجة القطعية لهذا الإيحاء أن يضيق أكثر الناس ذرعا بهذا الميراث القديم الذي يراد فرضه على المجتمع في عصر كل ما فيه متطور ومتقدم وجديد. والواقع أن إطلاق هذا الشعار على الأحكام الإسلامية، ليس في مصدره خطيئة عفوية، وإنما هو حلقة في سلسلة حرب الإسلام بالشعارات الباطلة والمدسوسة. فالغرض الأول من ترويج كلمة (التقاليد الإسلامية) ، هو أن يؤتى بمعظم نظم الإسلام وأحكامه، ويسدل فوقها شعار (التقاليد) حتى إذا مرّ على ذلك زمن، وارتبط معنى التقاليد بنظم الإسلام وأحكامه في أذهان الناس، ونسوا أن هذه النظم إنما هي في حقيقتها مبادئ قائمة على أساس ما يقتضيه العقل والبحث السليم، أصبح من السهل على أعداء الإسلام أن يحاربوه من النقطة التي تنفذ إليها حرابهم وسهامهم. إن جميع ما أتى به الإسلام من نظم وتشريعات، إنما هو مبادئ والمبدأ هو ما يقوم على أساس من التفكير والعقل، ويستهدف الوصول إلى مقصد معين. وإذا كانت المبادئ البشرية قد تخطئ الصواب أحيانا لشذوذ في أفكار أصحابها، فإن مبادئ الإسلام لا تخطئ الصواب أبدا لأن الذي شرعها هو خالق العقول والأفكار. وفي هذا وحده دليل عقلي كاف للاقتناع بهذه المبادئ واليقين بوجاهتها وصوابها. إذ لا ريب أن المسلمين إذا استفاقوا ليجدوا معظم مبادئ الإسلام وأحكامه، كشؤون الزواج والطلاق، وحجاب المرأة وصيانتها، وعامة قضايا السلوك والأخلاق، قد أسبل من فوقه رداء (التقاليد) ، فإن من الطبيعي أن يجدوا بعد ذلك من يدعو إلى نبذ التقاليد والخروج عن أسرها وكسر قيودها، خصوصا في هذا العصر الذي أصبحت السيادة فيه لحرية الرأي والتفكير. ولكن الحقيقة أن الإسلام لا تقاليد فيه. إنه الدين الذي جاء لتخليص العقل من براثن التقاليد، كما رأينا في أولى خطوات الدعوة التي قام بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم. أما التقاليد، فإنما هي تلك التيارات السلوكية التي ينجرف فيها الناس تلقائيا بمجرد باعث المحاكاة والتقليد لدى الإنسان. المبادئ، هي الخط الذي يجب أن ينضبط به تطور الزمن، لا العكس. والتقاليد، هي مجموعة الطفيليات التي تنبت تلقائيا وسط الحقول الفكرية للمجتمع. فهي الحشائش الضارة التي لا بد من اجتثاثها وتنقية سبيل التفكير السليم عنها.

الإيذاء

الإيذاء ثم إن قريشا اشتدت في معاداتها لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه. أما رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقد لاقى من إيذائهم أنواعا كثيرة. من ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: «بينا النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي في حجر إسماعيل إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟» «6» . ومنه ما روى عبد الله بن عمر قال: «بينا النبي صلّى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش، جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور فقذفه على ظهر النبي صلّى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة رضي الله عنها فأخذته من ظهره ودعت على من صنع ذلك» 7، ومنه ما كانوا يواجهونه به من فنون الهزء والغمز واللمز كلما مشى بينهم أو مرّ بهم في طرقاتهم أو نواديهم. ومنه ما رواه الطبري وابن إسحاق أن بعضهم عمد إلى قبضة من التراب فنثرها على رأسه وهو يسير في بعض سكك مكة، وعاد إلى بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله يقول لها: «يا بنية لا تبكي، فإن الله مانع أباك» «8» . وأما أصحابه رضوان الله عليهم، فقد تجرع كل منهم ألوانا من العذاب، حتى مات منهم من مات تحت العذاب وعمي من عمي، ولم يثنهم ذلك عن دين الله شيئا. ويطول البحث لو ذهبنا نسرد نماذج عن العذاب الذي لاقاه كل منهم. ولكنا ننقل هنا ما رواه الإمام البخاري عن خبّاب بن الأرتّ أنه قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت يا رسول الله: ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر الوجه، فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه. وليتّمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله» «9» . العبر والعظات: أول ما قد يخطر في بال المتأمل، حينما يرى قصة ما لقيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين، من صنوف الإيذاء والتعذيب، هو أن يتساءل: فيم هذا العذاب الذي لقيه النبي وأصحابه وهم على الحق؟ ولماذا لم يعصمهم الله عز وجل منه وهم جنوده وفيهم رسوله يدعون إلى دينه ويجاهدون في سبيله؟

_ (6، 7) رواه البخاري. (8) انظر تاريخ الطبري: 2/ 344 وسيرة ابن هشام: 1/ 158 (9) انظر ما لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين في سيرة ابن هشام أو تهذيب السيرة وكتاب نور اليقين للخضري وغيرها من كتب السيرة.

والجواب: أن أول صفة للإنسان في الدنيا، أنه مكلف، أي أنه مطالب من قبل الله عز وجل بحمل ما فيه كلفة ومشقة. وأمر الدعوة إلى الإسلام والجهاد لإعلاء كلمته من أهم متعلقات التكليف، والتكليف من أهم مستلزمات العبودية لله تعالى، إذ لا معنى للعبودية لله تعالى إن لم يكن ثمة تكليف. وعبودية الإنسان لله عز وجل ضرورة من ضرورات ألوهيته سبحانه وتعالى. فلا معنى للإيمان بها إن لم ندرك عبوديتنا له. فقد استلزمت العبودية- إذن- التكليف، واستلزم التكليف تحمل المشاق ومجاهدة النفس والأهواء. ومن أجل هذا كان واجب عباد الله في هذه الدنيا تحقيق أمرين اثنين: أولهما: التمسك بالإسلام وإقامة المجتمع الإسلامي الصحيح. ثانيهما: سلوك السبل الشاقة إليه واقتحام المخاطر وبذل المهج والمال من أجل تحقيق ذلك. أي إن الله عز وجل كلفنا بالإيمان بالغاية، وكلفنا إلى جانب ذلك بسلوك الوسيلة الشاقة الطويلة إلى هذه الغاية مهما بلغت المسألة في خطورتها وصعوبتها. ولو شاء الله لجعل السبيل إلى إقامة المجتمع الإسلامي بعد الإيمان به، سهلا معبّدا، ولكن السير في هذه السبيل لا يدل حينئذ على شيء من عبودية السالك لله عز وجل وعلى أنه قد باع حياته وماله له عز وجل يوم أن أعلن الإيمان به، وعلى أن جميع أهوائه تابعة ومنقادة لما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولأمكن حينئذ أن يلتقي على هذه الجادة المؤمن والمنافق والصادق والكاذب، فلا يتمحص الواحد منهم عن الآخر. وإذن فإن ما يلاقيه الدعاة إلى الله تعالى والمجاهدون في سبيل إقامة المجتمع الإسلامي، سنة إلهية في الكون منذ فجر التاريخ تقتضيها حكم ثلاث: أولا: صفة العبودية الملازمة للإنسان، لله عز وجل، وصدق الله إذ يقول: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات 51/ 56] . ثانيا: صفة التكليف المتفرعة عن صفة العبودية، فما من رجل أو امرأة يبلغ أحدهما، عاقلا، سن الرشد، إلا وهو مكلف من قبل الله عز وجل بتحقيق شرعة الإسلام في نفسه وتحقيق النظام الإسلامي في مجتمعه، على أن يتحمل في سبيل ذلك كثيرا من الشدة والأذى، حتى يتحقق معنى التكليف. ثالثا: إظهار صدق الصادقين وكذب الكاذبين. فلو ترك الناس لدعوى الإسلام ومحبة الله تعالى على ألسنتهم فقط، لاستوى الصادق والكاذب. ولكن الفتنة والابتلاء، هما الميزان الذي يميز الصادق عن الكاذب. وصدق الله القائل في محكم كتابه:

الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت 29/ 1، 3] والقائل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران 3/ 142] . وإذا كانت هذه هي سنة الله في عباده، فلن تجد لسنة الله تبديلا حتى مع أنبيائه وأصفيائه. من أجل ذلك أوذي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأوذي من قبله جميع الأنبياء والرسل، ومن أجل ذلك أوذي أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى مات منهم من مات تحت العذاب، وعمي من عمي، رغم عظيم فضلهم وجليل قدرهم عند الله عز وجل. فإذا أدركت طبيعة العذاب الذي يلقاه المسلم في طريقه إلى إقامة المجتمع الإسلامي، علمت أنه ليس في حقيقته عقبات أو سدودا تصد السالك أو المجاهد عن بلوغ الغاية، كما قد يتوهم بعض الناس. بل هو سلوك في الطريق الطبيعي الذي خطه الله تعالى بين المسلم والغاية التي أمره بالسير إليها. أي أن المسلمين يقربون من الغاية التي كلفهم الله بالوصول إليها، بمقدار ما يجدونه في طريقهم إلى ذلك من العذاب، وبمقدار ما يتساقط منهم من الشهداء. ولذا، فإنه لا ينبغي للمسلم أن يتوهم اليأس، إذا ما عانى شيئا من المشقة أو المحنة. بل العكس هو الأمر المنسجم مع طبيعة هذا الدين. أي إن على المسلمين أن يستبشروا بالنصر كلما رأوا أنهم يتحملون مزيدا من الضر والنكبات سعيا إلى تحقيق أمر ربهم عز وجل. وتأمل فإنك ستجد برهان هذا جليا في قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ، وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة 2/ 214] . فقد كان جواب أولئك الذين لم يفهموا طبيعة العمل الإسلامي، وتوهموا أن هذا الذي يرونه من الأذى والعذاب إنما هو عنوان ودليل على ابتعادهم عن النصر، كان جواب هؤلاء من الله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ. وتجد برهان هذا جليا فيما رويناه من قصة خباب بن الأرتّ رضي الله عنه، حينما جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد غالبه العذاب الذي اكتوى به معظم جسده، يشكو إليه صلّى الله عليه وسلم ذلك ويسأله الدعاء للمسلمين بالنصر. فقد كان جواب رسول الله صلّى الله عليه وسلم له بهذا المعنى: «إن كنت تتعجب من العذاب والأذى وتستغرب أن ترى ذلك في سبيل الله عز وجل، فاعلم أن هذا هو السبيل.. وتلك هي سنة الله في جميع عباده الذين آمنوا به: مشّط الكثير منهم في سبيل دينه بأمشاط الحديد ما بين المفرق والقدم فما صدهم ذلك عن شيء من دين الله، وإن كنت ترى في العذاب دلائل اليأس والقنوط من النصر، فأنت متوهم. بل الحق هو أن تجد في

سياسة المفاوضات

العذاب والألم سيرا في الطريق ودنوا من النصر. وسينصرن الله هذا الدين حتى يسير الرجل من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله» وفي رواية بزيادة: «والذئب على غنمه» . وهذا المعنى نفسه هو السر في أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بشّر أصحابه بأن الله سيفتح لهم بلاد الفرس والروم، ومع ذلك فلم تفتح عليهم هذه البلاد إلا بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم بزمن غير يسير ولقد كان من مقتضى فضل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند ربه ومدى محبة الله عز وجل له، أن تفتح كل تلك البلاد في حياته وبقيادته وتحت إشرافه، بدلا من أن يسجل التاريخ فتحها بقيادة أحد أتباعه. لقد كان هذا قريبا من مقتضى محبة الله لرسوله، لولا أن النصر مرتبط بالقانون الذي ذكرناه. لم يكن المسلمون في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم قد دفعوا، من أجل انتصارهم في بلاد الشام والعراق، أقساط الثمن كله. ولا بد قبل النصر من دفع كامل الثمن. لا بدّ من ذلك ولو كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم موجودا بينهم. وليست المسألة أن ترتبط الفتوحات باسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتتم بقيادته وتحت إشرافه من أجل عظيم محبة الله تعالى له. ولكن المسألة هي أن يبرهن المسلمون الذين بايعوا الله ورسوله على صدقهم في هذه المبايعة، وأن يصدقوا فيما عاهدوا الله عليه يوم أن وقعوا بالقبول والرضا تحت قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة 9/ 111] . سياسة المفاوضات جاء في ما يرويه ابن هشام عن ابن إسحاق أن عتبة بن ربيعة- وكان سيدا ذا بصيرة ورأي في قومه- قال في نادي قريش: «يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه، وأعرض عليه أمورا لعلّه يقبل بعضها فنعطيه أيّها شاء ويكف عنا؟ فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلّمه، فجاء عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا بن أخي، إنك منا حيث قد علمت من الشرف في العشيرة والمكانة في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم.. فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد، أسمع. قال يا بن أخي: إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه.

فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم.. قال: فاسمع مني. ثم قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ، وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ. قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ، وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [فصلت 41/ 1- 6] . ثم مضى رسول الله في القراءة وعتبة يسمع حتى وصل إلى قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت 41/ 13] فأمسك عتبة بفيه وناشده الرحم أن يكف عن القراءة، وذلك خوفا مما تضمنته الآية من تهديد. ثم عاد عتبة إلى أصحابه فلما جلس بينهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا ما سمعت بمثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش: أطيعوني وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم» . وروى الطبري وابن كثير وغيرهما أن نفرا من المشركين فيهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل جاؤوا فعرضوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يعطوه من المال حتى يكون أغناهم وأن يزوجوه أجمل أبكارهم على أن يترك شتم آلهتهم وتسفيه عاداتهم، فلما رفض إلا الدعوة إلى الحق الذي بعث به، قالوا: فتعبد آلهتنا يوما ونعبد إلهك يوما، فرفض ذلك أيضا ونزل تعليقا على ذلك قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ، وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون 109/ 1- 6] . ثم إن أشراف قريش عادوا فكرروا المحاولة التي قام بها عتبة بن ربيعة فذهبوا إليه مجتمعين، وعرضوا عليه الزعامة والمال، وعرضوا عليه الطب إن كان هذا الذي يأتيه رئيّا من الجان. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليّ كتابا وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه علي، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» . فقالوا له: «فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليفجر لنا أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من

العبر والعظات:

مضى من آبائنا، وليكن فيمن بعث لنا منهم قصيّ بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل وليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي.. فإن صنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا منزلتك من الله وأنه بعثك رسولا كما تقول» . فقال لهم: «ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا» . ثم إنهم قالوا له- بعد طول كلام وخصام-: «إنا قد بلغنا أنه إنما يعلّمك هذا، رجل في اليمامة يقال له: الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلك أو تهلكنا. ثم قاموا وانصرفوا عنه» . العبر والعظات: في هذا المشهد الذي عرضناه من سيرته صلّى الله عليه وسلم ثلاث دلالات، كل واحدة منها على جانب كبير من الأهمية. الدلالة الأولى: وهي توضح لنا في تمحيص دقيق حقيقة الدعوة التي قام بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتفصلها عن كل ما قد يلتبس بها من الأهداف والأغراض التي قد يضمرها في أنفسهم عادة أرباب الدعوات الجديدة والمنادون بالثورة والإصلاح. هل النبي صلّى الله عليه وسلم يضمر من وراء دعوته الوصول إلى ملك؟ أو لعله يضمر الوصول إلى مستوى رفيع من الزعامة أو الغنى، أو لعل الأمر لا يعدو خيالات تتراءى له بسبب مرض يعانيه؟ كل هذه الاحتمالات، وسائل قد يتذرع بها محترفو الغزو الفكري وأعداء هذا الدين.. ولكن يا لأسرار الحياة العظيمة التي هيأها رب العالمين لرسوله! .. لقد ملأ الله عز وجل حياة رسوله بالمواقف والمشاهد التي تقطع دابر كل احتمال، وتقطع السبيل إلى كل وسواس، وتدع أرباب الغزو الفكري حيارى في الطريقة التي ينبغي لهم أن يسلكوها في حربهم الفكرية. كان من جليل حكمة الله تعالى أن يقوم مشركو قريش بسلسلة من المفاوضات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بعد أن صوروا في أنفسهم كل هذه الاحتمالات، وهم أدرى الناس بطبيعة دعوته والغاية البعيدة من رسالته وبأنه لن ينزل عند شيء من مغرياتهم. ولكن هكذا شاءت الإرادة الإلهية حتى ينطق التاريخ بتكذيب كل من سيأتي من محترفي التشكيك والغزو الفكري مع الزمن. لقد فكر أمثال كريمر وفان فلوتن طويلا.. ثم لم يجدوا من سبيل لأداء مهمة التشكيك والغزو إلا أن يغمضوا أعينهم عن الحقيقة ويزعموا أن دوافع محمد عليه الصلاة والسلام في دعوته إنما كانت الرغبة في السيادة والملك، وإن صدموا رؤوسهم في هذا الزعم بصخور عاتية تقذفهم وتردهم إلى الوراء أشواطا.

لقد سخر الله من قبلهم عتبة بن ربيعة وأمثاله، لحمل هذه الدوافع والآمال ووضعها بين يدي محمد عليه الصلاة والسلام لينالها قريبة سائغة وليبصر قريشا كلها وقد دانت له وألقت من يدها ما رفعته من السلاح ووسائل التعذيب في وجهه ووجه أصحابه، فلماذا لم يلن الرسول لهم، ولم يتحول إلى هذه الغنيمة التي سيقت إليه مادام أنها الدافع له من وراء رسالته ودعوته؟ وهل ينصت طالب الملك والزعامة لمن سعى يعرضهما عليه، في مفاوضة طويلة وتخويف ورجاء وتهديد، ليقول لهم أخيرا: «ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم. ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا.. فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردّوه عليّ، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» ؟!. ثم إن معيشته الحياتية كانت مطابقة لكلامه هذا، فهو لم يعرض عن الزعامة والملك بلسانه، ليصل إليهما خلسة بسعيه وعمله. بل كان صلّى الله عليه وسلم بسيطا في مأكله ومشربه، لا يعلو عما عليه حالة الفقراء والمساكين. قالت عائشة فيما يرويه البخاري: «لقد توفي النبي صلّى الله عليه وسلم وما في رفّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي فأكلت منه حتى طال عليّ» . ويقول أنس رضي الله عنه فيما يرويه البخاري أيضا: «لم يأكل النبي صلّى الله عليه وسلم على خوان حتى مات وما أكل خبزا مرققا حتى مات» . وكان بسيطا للغاية في ملبسه وأثاث بيته، يؤثر في جنبه الحصير وما عرف أنه نام قط على شيء وثير. حتى إن نساءه جئن إليه يوما وفيهن السيدة عائشة رضي الله عنها يشتكين إليه الفاقة ويطالبنه بمزيد من النفقة لزينتهن ولباسهن حتى لا تكون إحداهن أقل شأنا من مثيلاتها من نساء الصحابة، فأطرق مغضبا ولم يجب ثم نزل قول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب 33/ 28، 29] ، فتلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليهن هاتين الآيتين، ثم خيرهن بين قبول العيش معه على الحالة التي هو فيها، أو الإصرار على مطالبهن من النفقة وزيادة الزينة والمال وحينئذ يفارقهن ويسرحهن سراحا جميلا، فاخترن العيش معه على ما هو عليه «10» . فكيف يشك العقل- أيّ عقل- بعد هذا كله، في صدق نبوته، وكيف يصح أن يتوهم الفكر أو الخيال بأنه قد يكون مدفوعا برغبة الزعامة أو الطمع في الغنى؟ .. فهذه هي الدلالة. الأولى التي تؤخذ من هذا المشهد الذي ذكرناه.

_ (10) رواه البخاري، وانظر تفسير ابن كثير في تفسير هاتين الآيتين.

الدلالة الثانية: وهي تبين لنا معنى الحكمة التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتمسك ويتصف بها. هل الحكمة أن تضع أنت السياسة التي تراها في سير الدعوة مهما كانت كيفيتها ومهما كان نوعها؟ وهل أعطاك الشارع صلاحية أن تسلك أي سبيل أو وسيلة تراها ما دام هدفك من وراء ذلك هو الحق؟ لا.. إن الشريعة الإسلامية تعبدتنا بالوسائل كما تعبّدتنا بالغايات. فليس لك أن تسلك إلى الغاية التي شرعها الله لك إلا الطريق المعينة التي جعلها الله وسيلة إليها. وللحكمة والسياسة الشرعية معان معتبرة، ولكن في حدود هذه الوسائل المشروعة فقط. والدليل ما رويناه آنفا، فقد كان من المتصور في باب الحكمة والسياسة أن يرضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم معهم بالزعامة أو الملك على أن يجمع في نفسه اتخاذ الملك والزعامة وسيلة إلى تحقيق دعوة الإسلام فيما بعد، خصوصا وإن للسلطان والملك وازعا قويا في النفوس، وحسبك أن أرباب الدعوات والمذاهب ينتهزون فرصة الاستيلاء على الحكم كي يستعينوا بسلطانه على فرض دعوتهم ومذاهبهم على الناس. ولكن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يرض سلوك هذه السياسة والوسيلة إلى دعوته، لأن ذلك ينافي مبادئ الدعوة نفسها. لو جاز أن يكون مثل هذا الأسلوب نوعا من أنواع الحكمة والسياسة الرشيدة، لا نمحى الفرق بين الصادق الصريح في صدقه والكاذب الذي يخادع في كذبه، ولتلاقى الصادقون في دعوتهم مع الدجالين والمشعوذين، على طريق واحدة عريضة اسمها: الحكمة والسياسة. إن فلسفة هذا الدين تقوم على عماد الشرف والصدق في كل من الوسيلة والغاية. فكما أن الغاية لا يقوّمها إلا الصدق والشرف وكلمة الحق، فكذلك الوسيلة لا ينبغي أن يخطّها إلا مبدأ الصدق والشرف وكلمة الحق. ومن هنا يحتاج أرباب الدعوة الإسلامية في معظم حالاتهم وظروفهم إلى التضحية والجهاد، لأن السبيل التي يسلكونها لا تسمح لهم بالتعرج كثيرا ذات اليمين وذات الشمال. ومن الخطأ أن تحسب مبدأ الحكمة في الدعوة إنما شرع من أجل تسهيل عمل الداعي أو من أجل تفادي المآسي والأتعاب، بل السرفي مشروعية الحكمة في الدعوة إنما هو سلوك أقرب الوسائل إلى عقول الناس وأفكارهم. ومعنى هذا أنه إذا اختلفت الأحوال وقامت عثرات الصدّ والعناد دون سبيل الدعوة، فإن الحكمة حينئذ إنما هي إعداد العدة للجهاد والتضحية بالنفس والمال، إن الحكمة إنما هي أن تضع الشيء في مكانه. وهذا هو الفرق بين الحكمة والمخادعة، وبين الحكمة والمسالمة.

وأنت خبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما استبشر بما رآه مرة من دلائل إقبال بعض زعماء قريش على فهم الدين، انصرف إليهم بكليته مبتهجا يكلمهم ويشرح لهم ما يستفسرون عنه من حقائق الإسلام، حتى دعاه ذلك الاستبشار والطمع في هدايتهم إلى أن يعرض عن الصحابي الضرير عبد الله بن أم مكتوم حينما مرّ بهم فوقف إلى جانبهم يستمع، وأخذ هو الآخر يسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان ذلك منه عليه الصلاة والسلام حرصا على الفرصة أن لا تفوته وأملا في أن يجيب عبد الله بن أم مكتوم في أي وقت آخر. فعاتبه الله على ذلك في سورة: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى [عبس 80/ 1، 2] ، وأنكر عليه اجتهاده هذا، وإن كانت غايته مشروعة ونبيلة، ذلك لأن الوسيلة قد انطوت على كسر خاطر مسلم أو ما يدل على الإعراض عنه وعدم الالتفات إليه من أجل اجتذاب قلوب المشركين. فهي ليست بمشروعة ولا مقبولة. والخلاصة، أنه ليس لأحد من الناس أن يغير شيئا من أحكام الإسلام ومبادئه، أو يتجاوز شيئا من حدوده أو يستهين بها، باسم اتباع الحكمة في النصيحة والدعوة، لأن الحكمة لا تعتبر حكمة إلا إذا كانت مقيدة ومنضبطة ضمن حدود الشريعة ومبادئها وأخلاقها. الدلالة الثالثة: ونستفيدها من موقف الرسول عليه الصلاة والسلام من تلك المطالب التي طلبتها قريش منه صلّى الله عليه وسلم شرطا لاتباعها له. وهو موقف أيده الله فيه، ففيه- كما ذكر عامة المفسرين- نزل قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء 17/ 90- 93] . وليس السبب في عدم استجابة الله لهم ذلك، ما قد يظنه البعض من أن الرسول صلّى الله عليه وسلم ما أوتي من المعجزات إلا معجزة القرآن، ولذلك لم تستجب لهم مطالبهم، وإنما السبب أن الله عز وجل علم أنهم إنما يطالبون بذلك كفرا وعنادا وإمعانا في الاستهزاء بالنبي صلّى الله عليه وسلم، كما هو واضح في أسلوب طلبهم ونوع المطالب التي عرضوها. ولو علم الله عز وجل فيهم صدق الطلب وحسن النية وأنهم مقبلون في ذلك على محاولة التأكد من صدق النبي عليه الصلاة والسلام، لحقق لهم ذلك. ولكن أمر قريش في ذلك مطابق لما وصفه الله تعالى في آية أخرى وهي قوله: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر 15/ 14، 15] ، وإذا علمت ذلك، أدركت أنه لا تنافي بين هذا وما ثبت من إكرام الله لنبيه عليه الصلاة والسلام بالمعجزات الكثيرة المختلفة مما سنفصل القول فيه قريبا إن شاء الله.

الحصار الاقتصادي

الحصار الاقتصادي ورد بأسانيد مختلفة عن موسى بن عقبة، عن ابن إسحاق، وعن غيرهما، أن كفار قريش أجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكلموا في ذلك بني هاشم وبني المطلب، ولكنهم أبوا تسليمه صلّى الله عليه وسلم إليهم. فلما عجزت قريش عن قتله صلّى الله عليه وسلم أجمعوا على منابذته ومنابذة من معه من المسلمين ومن يحميه من بني هاشم وبني المطلب، فكتبوا بذلك كتابا تعاقدوا فيه على ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يدعوا سببا من أسباب الرزق يصل إليهم، ولا يقبلوا منهم صلحا ولا تأخذهم بهم رأفة، حتى يسلم بنو المطلب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليهم للقتل، وعلقوا الكتاب في جوف الكعبة. والتزم كفار قريش بهذا الكتاب ثلاث سنوات، بدءا من المحرم سنة سبع من البعثة إلى السنة العاشرة منها، وقيل بل استمر ذلك سنتين فقط. ورواية موسى بن عقبة تدل على أن ذلك كان قبل أمر الرسول أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، وإنما أمرهم بها أثناء هذا الحصار. أما رواية ابن إسحاق فتدل على أن كتابة الصحيفة كانت بعد هجرة أصحابه صلّى الله عليه وسلم إلى الحبشة وبعد إسلام عمر. وحوصر بنو هاشم وبنو المطلب ومن معهم من المسلمين، ومعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، في شعب بني المطلب، وإنما مكة شعاب متفرقة، واجتمع فيه من بني هاشم وبني المطلب المسلمون والكافرون، أما المسلمون فتدينا وأما الكافرون فحمية، إلا ما كان من أبي لهب، عبد العزى بن عبد المطلب، فإنه خرج إلى قريش، فظاهر النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه. فجهد النبي صلّى الله عليه وسلم والمسلمون جهدا شديدا في هذه الأعوام الثلاثة واشتد عليهم البلاء، وفي الصحيح أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر. وذكر السهيلي أنهم كانوا إذا قدمت العير مكة، يأتي أحد أصحاب رسول الله إلى السوق ليشتري شيئا من الطعام يقتاته لأهله، فيقوم أبو لهب فيقول: «يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا شيئا معكم» ، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافا، حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يده شيء يعللهم به. فلما كان على رأس ثلاث سنين من بدء هذا الحصار، تلاوم قوم من بني قصي، فأجمعوا أمرهم على نقض ما تعاهدوا عليه، وأرسل الله على صحيفتهم التي كتب فيها نص المعاهدة الأرضة، فأتت على معظم ما فيها من ميثاق وعهد، ولم يسلم من ذلك إلا الكلمات التي فيها ذكر الله عز وجل. وقد أخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمه أبا طالب، فقال له أبو طالب: «أربك أخبرك بذلك؟ قال: نعم، فمضى في عصابة من قومه إلى قريش، فطلب منهم أن يأتوه بالصحيفة موهما

العبر والعظات:

إياهم أنه نازل عند شروطهم فجاؤوا بها وهي مطوية، فقال أبو طالب: إن ابن أخي قد أخبرني. ولم يكذبني قط، أن الله تعالى قد سلط على صحيفتكم التي كتبتم الأرضة فأتت على كل ما كان فيها من جور وقطيعة رحم، فإن كان الحديث كما يقول فأفيقوا وارجعوا عن سوء رأيكم، فو الله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبنا ففعلتم به ما تشاؤون. فقالوا: قد رضينا بالذي تقول. ففتحوا الصحيفة فوجدوا الأمر كما أخبر الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلم. فقالوا: هذا سحر ابن أخيك!» .. وزادهم ذلك بغيا وعدوانا. ثم إن خمسة من رؤساء المشركين من قريش، مشوا في نقض الصحيفة، وإنهاء هذا الحصار، وهم: هشام بن عمرو بن الحارث، وزهير بن أمية، والمطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود. وكان أول من سعى إلى نقضها بصريح الدعوة زهير بن أمية، أقبل على الناس عند الكعبة فقال: «يا أهل مكة، أنأكل الطعام، ونلبس الثياب وبنو هاشم والمطلب هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم؟ .. والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة» . ثم قال بقية الخمسة نحوا من هذا الكلام. ثم قام المطعم بن عدي إلى الصحيفة فمزقها، ثم انطلق هؤلاء الخمسة، ومعهم جماعة، إلى بني هاشم وبني المطلب ومن معهم من المسلمين فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم. العبر والعظات: هذه القطعة الظالمة، تصور قمة الشدة التي لقيها النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه طوال ثلاثة أعوام. وقد رأيت أن المشركين من بني هاشم وبني المطلب، شاركوا المسلمين في تحملها، ولم يرضوا أن يتخلوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وليس لنا من حديث عن هؤلاء المشركين وسبب موقفهم هذا، فقد كان الذي دفعهم إليه حمية القرابة والرحم، وإباء الذل الذي كان يتلبس بهم لو أنهم خلوا بين محمد صلّى الله عليه وسلم ومشركي قريش من غير بني هاشم وبني المطلب يقتلونه ويفتكون به، بقطع النظر عن العقيدة والدين. فقد آثروا إذن أن يجمعوا بين رغبتين في صدورهم: الأولى: الثبات على الشرك والاستكبار على الحق الذي جاءهم به محمد صلّى الله عليه وسلم. الثانية: الانصياع للحمية التي تدعو إلى حماية القريب من بطشة الغريب وظلمه، بحق كان أو بباطل. أما المسلمون، وعلى رأسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنما صبّرهم على ذلك الانصياع لأمر الله وإيثار الآخرة على الدنيا، وهوان الدنيا عندهم في جنب مرضاة الله عز وجل، وهذا ما يهمنا أن نبحث فيه.

قد تسمع بعض المبطلين من محترفي الغزو الفكري، يقولون: «إن عصبية بني هاشم وبني المطلب، كانت تكمن خلف دعوة محمد صلّى الله عليه وسلم وكانت تحوطها بالرعاية والحفظ! .. والدليل على ذلك موقفهم السلبي من مشركي قريش في مقاطعتهم للمسلمين» . وإنها لمغالطة مكشوفة، لا يتماسك عليها حجاب أي منطق ولو كان صوريا. ذلك لأن من الطبيعي جدا أن تقود الحمية الجاهلية بني المطلب وبني هاشم إلى الذود عن حياة ابن عم لهم، عندما تتهددها يد غريبة ويدنو إليها بالسوء شخص دخيل. والحمية الجاهلية، إذ تدفع ذوي القرابة إلى مثل هذا التعصب، لا تنظر إلى مبدأ، ولا تتأثر في ذلك بحق أو بباطل، وإنما هي العصبية ولا شيء غير العصبية. ولذلك أمكن أن يجتمع في ذوي قرباه صلّى الله عليه وسلم صفتان متناقضتان بحسب الظاهر، الاستكبار على دعوته والجحود بها، والانتصار له ضدّ سائر المشركين من قريش. ومع ذلك، فأي فائدة حققوها للنبي صلّى الله عليه وسلم من وراء اعتصامهم معه؟ لقد أوذوا كما أوذي هو وأصحابه، ومضت قريش في قطيعتها للمسلمين بالضراوة والشراسة اللتين أرادتهما دون أن يخفف بنو هاشم وبنو المطلب من غلوائهما شيئا. والمهم أن تعلم بأن حماية أقارب رسول الله صلّى الله عليه وسلم له، لم تكن حماية للرسالة التي بعث بها، وإنما كانت حماية لشخصه من الغريب، وإذا أمكن أن تستغلّ هذه الحماية، من قبل المسلمين، وسيلة من وسائل الجهاد والتغلب على الكافرين والرد لمكائدهم وعدوانهم، فأنعم بذلك من جهد مشكور، وسبيل يتنبهون إليها. *** أما رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومعه أصحابه المؤمنون، فما الذي كان يمسكهم على هذا الضيق الخانق؟ .. وأي غاية كانوا يتأملونها من وراء الثبات على الشدة؟ .. بماذا يجيب على هذا السؤال، أولئك الذين يتأولون رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم وإيمان أصحابه بها على أنها ثورة يسار ضدّ يمين أي ثورة الفقراء المضطهدين ضدّ الأغنياء المترفين؟ تصور هذه السلسلة التي استعرضناها، من حلقات الإيذاء والتعذيب، لرسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين، ثم أجب على ضوئها، كيف يستقيم أن تكون دعوة الإسلام ثورة اقتصادية ألهبها الجوع وقادها الحقد على تجار مكة وأرباب الفعاليات الاقتصادية فيها؟ .. لقد عرض المشركون على محمد صلّى الله عليه وسلم الملك والثراء والزعامة، على أن يتخلى عن الدعوة إلى الإسلام، فلماذا لم يرض عليه الصلاة والسلام بذلك؟ ولماذا لم يثر عليه أصحابه ولم يضغطوا عليه

- وإن غايتهم الشبع بعد الجوع- كي يقبل بعرض قريش؟ وهل يطمع أصحاب الثورة اليسارية بشيء أكثر من الحكم يكون في أيديهم والمال يكون في جيوبهم؟ ولقد قوطع محمد صلّى الله عليه وسلم ومعه أصحابه المسلمون عن سبيل كل معايشة اقتصادية واجتماعية مع بني قومه، فلم تترك سلعة تتسلل إلى أيديهم، ولم يترك طعام يدخل إلى بيوتهم، حتى راحوا يأكلون ورق الشجر، وهم على ذلك صابرون، محدقون برسولهم عليه الصلاة والسلام. أفهكذا يصنع من تعتلج وراء صدره الثورة من أجل لقمة العيش؟! .. وعندما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، وهاجر إليها من قبله ومن بعده أصحابه، تركوا المال والأرض والممتلكات المختلفة واستقبلوا بوجوههم شطر المدينة المنورة، وقد تجردوا عن كل ما يتعلق به الطامعون في المال، لا يبتغون عن إيمانهم بالله بديلا، ولا يقيمون وزنا لدنيا فاتتهم ولملك أدبر عنهم، أفهذا هو الدليل على أنها ثورة يسارية قامت من أجل لقمة طعام؟! .. قد يكون دليل هؤلاء الناس على ما يتصورون، ملاحظة الأمرين التاليين: الأول: أن الجماعة الأولى من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم في مكة، كانت على الأغلب من الفقراء والموالي والمضطهدين، وهو يدل على أنهم ينفّسون باتباعهم محمدا صلّى الله عليه وسلم عن شيء من كربهم، وأنهم كانوا يتأملون مستقبلا اقتصاديا أفضل لأنفسهم في ظل الدين الجديد. الثاني: أن هؤلاء الأصحاب، ما لبثوا بعد حين أن فتحت عليهم آفاق الدنيا، وأقبل إليهم الثراء والمال، وهو دليل على أن خطة الرسول صلّى الله عليه وسلم كانت ترمي إلى تحقيق هذه الغاية. وأنت إذا تأملت في استدلالهم على ما يتصورونه، بهاتين الملاحظتين، أدركت كم هو نصيب الخيال والوهم من عقولهم ومنهج تفكيرهم. أمّا أن الجماعة الأولى من أصحابه صلّى الله عليه وسلم كانت على الأغلب من الفقراء والموالي، فنعم، ولكن ليس بين هذه الحقيقة وذلك الوهم أي علاقة أو نسب. إن شريعة تقضي بإرساء ميزان العدالة بين الناس، وبالضرب على يد كل ظالم وطاغية ومستكبر، من المسلم به أن يعرض عنها بل أن يحاربها أولئك الذين استمرؤوا حياة البغي والظلم، لأنها تحملهم المغارم أكثر من أن تقدم إليهم المغانم، كما أن من المسلم به أن يرحب بها كل مستضعف مظلوم، بل كل إنسان ليس له في تجارة البغي والاستغلال نصيب؛ لأنها تقدم لهم المغانم أكثر من أن تحملهم المغارم، أو لأنهم- على أقل تقدير- ليست لهم مع الناس مشكلات تجعلهم يستثقلون تبعاتها وتكاليفها. إن معظم من كان حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كان مستيقنا أنه على حق وأنه نبي مرسل، ولكن أرباب الزعامة وعشاق العظمة والسيطرة، وجدوا من طبيعتهم وظروفهم ما أصبح عائقا لهم عن

الاستسلام لهذا الحق والتفاعل معه، أما الآخرون فلم يجدوا ما يعوقهم عن الاستسلام لشيء آمنوا به واستيقنوه. فما العلاقة بين هذه الحقيقة التي يفهمها كل باحث، وما يزعمه أولئك الزاعمون؟ وأما أن خطة الدعوة الإسلامية التي سلكها رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانت تهدف إلى امتلاك المسلمين لمنابع الثروة واستيلاءهم على عروش الملوك واستلاب السيادة منهم، - بدليل أن المسلمين قد وصلوا فعلا إلى ذلك- فإنه والله أشبه بمحاولة الجمع بين المشرق والمغرب؟ .. إذا كان المسلمون قد تمكنوا من فتح بلاد الروم وفارس، في حقبة يسيرة من الزمن، بعد أن صدقوا الله في إسلامهم، أفيكون ذلك دليلا على أنهم ما أسلموا إلا طمعا بعرش الروم والفرس؟!. لو أنهم أرادوا من وراء إسلامهم الوصول إلى شهوة من شهوات الدنيا أيا كانت، لما تحقق لهم ولا الجزء اليسير من معجزة ذلك الفتح. لو كان عمر وهو يجهز جيش القادسية ويودع قائده سعد بن أبي وقاص، يطمع في كنوز كسرى، ويسيل لعابه رغبة في أن يتقلب في مثل نعيمه ويجلس على مثل عرشه، لما عاد إليه سعد إلّا بأثقال من الخيبة والهوان، ولكنهم صدقوا الله في الجهاد من أجل نصرة دينه، فصدقهم فيما أكرمهم به من تمليكهم زمام الحكم وإغنائهم بما لم يكونوا يحلمون. لو كان الحلم الذي يراود المسلمين في معركة القادسية، وصولا إلى ثروة وتقلبا في نعيم وتحقيقا للذائذ العيش، إذن لما دخل ربعي بن عامر رضي الله عنه سرادق رستم مزدريا مظاهر الترف التي غمس فيها السرادق غمسا يتوكأ بزج رمحه على البسط والنمارق الفاخرة حتى أفسدها، ولما قال لرستم: «إن دخلتم الإسلام تركناكم وأرضكم وأموالكم» ! .. أهكذا يقول من جاء ليستلب الملك والأرض والمال؟ لقد أكرمهم الله بمقدرات الدنيا كلها، لأنهم لم يكونوا يفكرون فيها، وإنما كان تفكيرهم منصرفا إلى تحقيق مرضاة الله. ولو كانوا يهدفون من جهادهم إلى هذه المقدرات لما وصلوا إلى شيء منها. المسألة بما فيها ليست إلا تحقيقا للقانون الإلهي الذي يقول: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص 28/ 5] . وإن تفهم هذا القانون لأيسر ما يكون على العقل أي عقل كان، بشرط واحد، هو أن يكون صاحبه حرا عن العبودية لأي رغبة أو غرض.

أول هجرة في الإسلام

أول هجرة في الإسلام ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء وأنه لا يقدر على أن يحميهم ويمنعهم مما هم فيه، قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنّ بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» . فخرج عند ذلك المسلمون إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام. وكان في مقدمة المهاجرين: عثمان بن عفان وزوجته، رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة وزوجته، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف ... حتى اجتمع في أرض الحبشة من أصحابه صلّى الله عليه وسلم بضعة وثمانون رجلا «11» . فلما رأت قريش ذلك، أرسلت إلى النجاشي عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص (ولم يكن قد أسلم بعد) بهدايا مختلفة كثيرة، إليه وإلى حاشيته وبطارقته، رجاء أن يرفض قبول هؤلاء المسلمين في جواره ويسلمهم مرة أخرى إلى أعدائهم. فلما كلّما النجاشي في ذلك- وكانا قد كلّما من قبله بطارقته وقدّما إليهم ما جاءا به من الهدايا- رفض النجاشي أن يسلم أحدا من المسلمين إليهما حتى يكلمهم في شأن دينهم الجديد هذا. فجيء بهم إليه، ورسولا قريش عنده، فقال لهم: «ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من الملل؟» . فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال: «أيها الملك: كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم، ونهانا عن الفواحش.. فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان.. فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك» . فسأله النجاشي أن يتلو عليه شيئا مما جاءهم به الرسول صلّى الله عليه وسلم من عند الله. فقرأ عليه جعفر صدرا من سورة مريم، فبكى النجاشي حتى اخضلّت لحيته، ثم قال لهم:

_ (11) هذا هو الصحيح كما ذكره ابن هشام في سيرته: 1/ 330 وانظر فتح الباري: 7/ 130

العبر والعظات:

«إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. ثم التفت إلى رسولي قريش قائلا: انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون» . ثم إنهما عادا فقالا للنجاشي: «أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون» . فأرسل إليهم، في ذلك، فقال جعفر بن أبي طالب: «نقول فيه الذي جاءنا به نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقول: «هو عبد الله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول» . فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا، ثم قال: «والله ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود» . ثم ردّ إليهما هداياهما، وزاد استمساكه بالمسلمين الذين استجاروا به، وعاد الرسل إلى قريش خائبين. وبعد فترة من الزمن بلغهم إسلام أهل مكة، فرجعوا لما بلغهم ذلك حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما قد سمعوه من إسلام أهل مكة باطل، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار، أو مستخفيا وكان جميعهم ثلاثة وثلاثين رجلا. وكان من بين من دخل بجوار، عثمان بن مظعون، دخل بجوار الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة دخل بجوار أبي طالب. العبر والعظات: نأخذ من حديث هجرة المسلمين إلى الحبشة ثلاث دلالات: الدلالة الأولى: إن الدين والاستمساك به وإقامة دعائمه، أساس ومصدر لكل قوة، وهو السياج لحفظ كل حق من مال وأرض وحرية وكرامة، ومن أجل هذا كان واجب الدعاة إلى الإسلام والمجاهدين في سبيله أن يجندوا كل إمكاناتهم لحماية الدين ومبادئه، وأن يجعلوا من الوطن والأرض والمال والحياة وسائل لحفظ العقيدة وترسيخها، حتى إذا اقتضى الأمر بذل ذلك كله في سبيلها، وجب بذله. ذلك أن الدين إذا فقد أو غلب عليه، لم يغن من ورائه الوطن والمال والأرض، بل سرعان ما يذهب كل ذلك أيضا من ورائه، أما إذا قوي شأنه وقامت في المجتمع دعائمه ورسخت في الأفئدة عقيدته، فإن كل ما كان قد ذهب في سبيله من مال وأرض ووطن يعود.. يعود أقوى من ذي قبل حيث يحرسه سياج من الكرامة والقوة والبصيرة.. ولقد جرت سنّة الله في الكون على مرّ التاريخ أن تكون القوى المعنوية هي الحافظة للمكاسب والقوى المادية. فمهما كانت الأمة غنية في خلقها وعقيدتها السليمة ومبادئها الاجتماعية الصحيحة، فإن سلطانها المادي يغدو أكثر تماسكا وأرسخ بقاء وأمنع جانبا. ومهما كانت فقيرة في

خلقها مضطربة في عقيدتها تائهة أو جانحة في نظمها ومبادئها فإن سلطانها المادي يغدو أقرب إلى الاضمحلال ومكتسباتها المادية أسرع إلى الزوال. وقد تصادف أن تجد أمة تائهة في عقيدتها عن جادة الصواب منحطة في مستواها الخلقي والاجتماعي، وهي مع ذلك واقفة على قدميها من حيث القوة والسلطان المادي، ولكنها في الحقيقة والواقع تمر بسرعة نحو هاوية سحيقة. والسبب في أنك لا تحس بحركة هذا المرور وسرعته هو قصر عمر الإنسان أمام طول عمر التاريخ والأحقاب. ومثل هذه الحركة إنما تبصرها عين التاريخ الساهرة لا عين الإنسان الغافل الساهي. وقد تصادف أن تجد أمة تعرّت عن كل مقوماتها المادية من ثروة ووطن ومال في سبيل الحفاظ على العقيدة الصحيحة وفي سبيل بناء النظام الاجتماعي السليم، ولكن ما هي إلا فترة قصيرة حتى تجد أرباب هذه العقيدة الصحيحة وما يتبعها من الخلق والنظام الاجتماعي السليمين قد استحوذوا على وطنهم المسلوب ومالهم المغصوب وعادت إليهم قوتهم مضاعفة معززة. وأنت لن تجد الصورة الصحيحة عن الكون والإنسان والحياة إلا في عقيدة الإسلام الذي هو دين الله لعباده في الأرض ولن تجد من نظام اجتماعي عادل سليم إلا في نظام الإسلام وهديه. ولذا فقد كان من أسس الدعوة إلى الإسلام التضحية بالمال والوطن والحياة في سبيله، فبذلك يضمن المسلمون لأنفسهم المال والوطن والحياة. ومن أجل هذا شرع مبدأ الهجرة في الإسلام. فأشار الرسول صلّى الله عليه وسلم على أصحابه- بعد أن نالهم من أذى المشركين ما خشي عليهم معه الفتنة في الدين- بالهجرة والخروج من الوطن. وأنت خبير أن هذه الهجرة نفسها ضرب غير يسير من ضروب العذاب والألم في سبيل الدين، فهي ليست في الحقيقة هربا من الأذى والراحة، بل هي تبديل للمحنة ريثما يأتي الفرج والنصر. وأنت خبير أيضا أن مكة لم تكن إذ ذاك دار إسلام حتى يقال: فكيف ترك أولئك الصحابة دار الإسلام وفروا ابتغاء سلامة أرواحهم إلى بلاد كافرة؟ فمكة والحبشة وغيرهما كانت سواء إذ ذاك، وأيها كانت أعون للصحابي على ممارسة دينه والدعوة إليه، فهي أجدر بالإقامة فيها. أما الهجرة من دار الإسلام فحكمها بين الوجوب والجواز والحرمة، أما الوجوب فيكون عند عدم تمكن المسلم من القيام بالشعائر الإسلامية فيها كالصلاة والصيام والأذان والحج.. وأما الجواز فيكون عندما يصيبه فيها بلاء يضيق به، فيجوز له أن يخرج منها إلى دار إسلامية أخرى. وأما الحرمة فتكون عندما تستلزم هجرته إهمال واجب من الواجبات الإسلامية لا يقوم به غيره «12» .

_ (12) انظر تفسير القرطبي 5/ 35 وأحكام القرآن لابن العربي 2/ 887

الدلالة الثانية: ونأخذ منها حقيقة العلاقة القائمة بين ما جاء به سيدنا محمد وسيدنا عيسى عليهما الصلاة والسلام، فقد كان النجاشي على دين عيسى عليه الصلاة والسلام، وكان مخلصا وصادقا في نصرانيته. ولقد كان من مقتضى إخلاصه هذا أن لا يتحول عنها إلى ما يخالفها وأن لا ينتصر لمن تختلف عقيدتهم عما جاء به الإنجيل وما جاء به سيدنا عيسى عليه السلام. أي فلو صحت تقولات أولئك الذين يزعمون انتماءهم إلى عيسى بن مريم وتمسكهم بالإنجيل، من أن عيسى ابن الله تعالى وأنه ثالث ثلاثة، لتمسك النجاشي- الذي كان من أخلص الناس لنصرانيته- بذلك، ولردّ على المسلمين كلامهم وانتصر لرسل قريش فيما جاؤوا من أجله. ولكنا رأينا النجاشي يعلق على ما سمعه من القرآن وترجمته لحياة عيسى بن مريم بقوله: «إن هذا والذي جاء به عيسى بن مريم ليخرج من مشكاة واحدة» . يقول ذلك على مسمع من بطارقة وعلماء الكتاب الذين من حوله. وهذا يؤكد ما هو بديهي الثبوت من أن الأنبياء كلهم إنما جاؤوا بعقيدة واحدة لم يختلفوا حولها بعضهم عن بعضهم قيد شعرة، ويؤكد لنا أن اختلاف أهل الكتاب فيما بينهم ليس إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا من عند أنفسهم كما قال الله تعالى. الدلالة الثالثة: أنه يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين إذا دعت الحاجة إلى ذلك، سواء أكان المجير من أهل الكتاب كالنجاشي إذ كان نصرانيا عندئذ، ولكنه أسلم بعد ذلك «13» ، أم كان مشركا كأولئك الذين عاد المسلمون إلى مكة في حمايتهم عندما رجعوا من الحبشة وكأبي طالب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكالمطعم بن عدي الذي دخل الرسول صلّى الله عليه وسلم مكة في حمايته عندما رجع من الطائف. وهذا مشروط- بحكم البداهة- بأن لا يستلزم مثل هذه الحماية إضرارا بالدعوة الإسلامية، أو تغييرا لبعض أحكام الدين، أو سكوتا على اقتراف بعض المحرمات، وإلا لم يجز للمسلم الدخول فيها. ودليل ذلك ما كان من موقفه صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما طلب منه أبو طالب أن يبقي على نفسه ولا يحمّله ما لا يطيق فلا يتحدث عن آلهة المشركين بسوء، فقد وطن نفسه إذ ذاك للخروج من حماية عمه وأبى أن يسكت عن شيء مما يجب عليه بيانه وإيضاحه.

_ (13) كان النجاشي ممن آمن برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولما مات نعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم للصحابة ثم خرج بهم إلى المصلى فصلى عليه. رواه مسلم.

أول وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

أول وفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفي غمرة ما كان يلاقيه النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه من العذاب والإيذاء وفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أول وفد من خارج مكة لفهم شيء عن الإسلام. وكانوا بضعة وثلاثين رجلا من نصارى الحبشة جاؤوا مع جعفر بن أبي طالب لدى عودته إلى مكة. فلما جلسوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم واطّلعوا على صفاته وأحواله وسمعوا ما تلي عليهم من القرآن، آمنوا كلهم، فلما علم بذلك أبو جهل أقبل إليهم قائلا: «ما رأينا ركبا أحمق منكم! .. أرسلكم قومكم تعلمون خبر هذا الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال. فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا» . فنزل في حقهم قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ، وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ، أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ «14» [القصص 28/ 52- 55] . العبر والعظات: يجب أن يسترعي انتباهنا من خبر هذا الوفد أمران اثنان: أولا: في قدوم هذا الوفد إلى مكة للقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم والتعرف على الإسلام، في غمرة ما كان المسلمون يعانونه من عذاب وإيذاء ومقاطعة وتضييق، دلالة باهرة على أن ما قد يلاقيه أرباب الدعوة الإسلامية في طريقهم من الآلام والمصائب لا يعني بحال ما الخيبة أو الإخفاق، ولا يستلزم الضعف أو التخاذل أو اليأس. بل العذاب كما قلنا طريق لابد من سلوكها للوصول إلى النجاح والنصر. لقد جاء هذا الوفد، وكانوا يزيدون على ثلاثين رجلا من النصارى، وقيل بل كانوا يزيدون على أربعين رجلا، جاؤوا يمخرون عباب البحر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ليعلنوا الولاء للدعوة الجديدة، وليعلنوا بلسان الحال أن أعداء الدعوة الإسلامية لن يستطيعوا- مهما ضيقوا عليها ومهما عذبوا وآذوا أربابها ومهما قاطعوهم وائتمروا بهم- أن يمنعوها من أن تؤتي ثمارها أو أن يحبسوها عن الانتشار في مشارق الأرض ومغاربها. وكأنما قد علم أبو جهل بهذه الحقيقة فتجلت آثارها على نفسه ولسانه في الكلمات الحاقدة التي واجه بها أفراد ذاك الوفد. ولكن ما عساه يصنع؟ إن كل ما يستطيع هو وأمثاله أن يصنعوه،

_ (14) رواه ابن إسحاق ومقاتل، والطبراني عن سعيد بن جبير. وانظر ابن كثير والقرطبي والنيسابوري عند تفسير هاتين الآيتين.

إنزال مزيد من التعذيب والإيذاء بالمسلمين. أما أن لا تبلغ الدعوة مداها وأن لا تؤتي ثمارها، فليس له إلى ذلك من سبيل. ثانيا: ما هي نوعية الإيمان الذي آمنه أفراد هذا الوفد؟ هل هو إيمان من يخرج من ظلمات الكفر إلى النور؟ الواقع أن إيمانهم كان مجرد استمرار لإيمانهم السابق، ومجرد سلوك بمقتضى ما كانوا يتمسكون به من عقيدة ودين. فقد كانوا (على حد تعبير رواة السيرة) أهل إنجيل يؤمنون به، ويسيرون على هديه. ولما كان الإنجيل يأمر باتباع الرسول الذي يأتي من بعد عيسى عليه السلام ويتحدث عن صفاته ومميزاته، فقد كان من مقتضى استمرار إيمانهم، الإيمان بهذا النبي وهو محمد عليه الصلاة والسلام. وإذن فإن إيمانهم به عليه الصلاة والسلام لم يكن عملية انتقال من دين إلى دين بسبب تفضيل أحدهما على الآخر، وإنما كان استمرارا لحقيقة الإيمان بعيسى عليه السلام وما أنزل إليه. وهذا هو معنى قولهم فيما تحكيه عنهم الآية الشريفة: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [القصص 28/ 53] أي إنا كنا مسلمين ومؤمنين بهذا الذي يدعو إليه محمد صلّى الله عليه وسلم، من قبل بعثته، لأنه مما يدعو الإنجيل إلى الإيمان به. وهذا هو شأن كل من تمسك تمسكا حقيقيا بما جاء به عيسى عليه الصلاة والسلام أو بما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام إذ الإيمان بالإنجيل والتوراة يستدعي الإيمان بالقرآن ومحمد عليه الصلاة والسلام. ولذلك أمر الله رسوله أن يكتفي من دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام بمجرد مطالبتهم بتطبيق ما في التوراة أو الإنجيل الذي يدّعون الإيمان به، فقال جلّ جلاله: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [المائدة 5/ 68] . وهذا يقتضي تأكيد ما بينّاه من أن الدين الحق واحد لم يتعدد، منذ خلق آدم عليه السلام إلى بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن كلمة (الأديان السماوية) التي يستعملها بعض الناس، كلمة لا معنى لها. نعم، هناك شرائع سماوية متعددة وكل شريعة سماوية ناسخة للشريعة التي قبلها. ولكن ينبغي أن لا نخلط بين (الدين) الذي يطلق أوّل ما يطلق على العقيدة و (الشريعة) التي تطلق على الأحكام السلوكية المتعلقة بالعبادات أو المعاملات.

عام الحزن

عام الحزن وهو العام العاشر من بعثته صلّى الله عليه وسلم، فقد توفيت فيه زوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وتوفي فيه عمه أبو طالب، ويقول ابن سعد في طبقاته: «كان بين وفاة خديجة وأبي طالب شهر وخمسة أيام» . وقد كانت خديجة رضي الله عنها، كما قال ابن هشام، وزير صدق على الإسلام، يشكو الرسول إليها ويجد عندها أنسه وسلواه. أما أبو طالب، فقد كان عضدا وحرزا في أمره، وكان ناصرا له على قومه. يقول ابن هشام: «فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا. ودخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لها: لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك» «15» . ولقد أطلق النبي صلّى الله عليه وسلم على هذا العام اسم (عام الحزن) لشدة ما كابد فيه من الشدائد في سبيل الدعوة. العبر والعظات: ترى، ما الحكمة في أن يتعجل قضاء الله تعالى في استلاب أبي طالب من الحياة، قبل أن يشتد ساعد المسلمين في مكة ويتكون لهم شيء من المنعة؟ ومعلوم أنه قد كان يحمي الرسول- قدر الإمكان- من كثير من المصائب والشدائد، وما الحكمة في أن يتعجل القضاء باستلاب زوجته خديجة رضي الله عنها، وقد كان يجد عندها أنسه وسلواه، وينفض بمساعدتها عن كاهله كثيرا من أحاسيس الشدائد والآلام؟ تبرز هنا ظاهرة هامة تتعلق بأساس العقيدة الإسلامية. فلو أن أبا طالب بقي إلى جانب ابن أخيه يكلؤه ويحميه إلى أن تقوم الدولة الإسلامية في المدينة وريثما ينجو الرسول من أذى المشركين وقبضتهم، لكان في ذلك ما قد يوهم أن أبا طالب كان من وراء هذه الدعوة، وأنه هو الذي كان يدفعها إلى الأمام ويحميها بمكانته وسلطانه بين قومه، وإن لم يظهر الإيمان بها والانضواء تحت لوائها، ولجاء من يطيل ويطنب في بيان الحظ

_ (15) رواه ابن إسحاق، وانظر تاريخ الطبري: 2/ 544

الحسن الذي تهيأ للرسول صلّى الله عليه وسلم أثناء قيامه في الدعوة، بسبب حماية عمه له، بينما لم يتهيأ هذا الحظ لغيره من المسلمين من حوله، فأوذوا وهو محفوظ الجانب، وتعذبوا وهو مستريح البال. لقد قضت حكمة الله تعالى أن يفقد الرسول عمه أبا طالب وزوجته خديجة بنت خويلد، ويفقد من حوله من كان في الظاهر حاميا له ومؤنسا، حتى تتجلّى حقيقتان هامتان: أولاهما: أن الحماية والعناية والنصر، إنما يأتي كل ذلك من الله عز وجل. ولقد تعهد الله أن يعصم رسوله من المشركين والأعداء، فسواء كان ثمة من يحميه من الناس أو لم يكن، فهو معصوم من الناس وستبلغ دعوته منتهاها من النصر والتوفيق. ثانيتهما: ليس معنى العصمة من الناس أن لا يرى منهم إيذاء أو عذابا أو اضطهادا، وإنما معنى العصمة التي تعهد بها الله عز وجل بقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] العصمة من القتل ومن أي صد أو عدوان من شأنه إيقاف الدعوة الإسلامية، فقد قضت حكمة الله تعالى أن يذوق الأنبياء من ذلك قدرا غير يسير، وذلك لا ينافي العصمة التي وعد بها أنبياءه ورسله. ولذلك يقول الله عز وجل لنبيّه بعد قوله: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، يقول له: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر 15/ 97، 98] . ومن الحكم الجليلة لما قضت به سنة الله عز وجل، من أن يلاقي الرسول ما لاقى من المحنة في طريق الدعوة، أن يستسهلها ويستخف بها عامة المسلمين في كل عصر ممن أنيطت بهم مسؤولية الدعوة الإسلامية. فلو أن النبي صلّى الله عليه وسلم نجح في دعوته بدون أي مشقة أو جهد، لطمع أصحابه والمسلمون من بعده بأن يستريحو كما استراح، ولا ستثقلوا المصائب والمحن التي قد يجدونها في طريقهم إلى الدعوة الإسلامية. أما، والحالة هذه، فإن مما يخفف وقع المحنة والعذاب على المسلمين شعورهم أنهم يذوقون مما ذاقه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنهم يسيرون في الطريق ذاتها التي أو ذي فيها رسول الله. ومهما أصابهم من ألم السخرية بهم وإهانة الناس لهم، فإن ذلك لا يفتّ في عضدهم بعد أن رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد ألقي التراب في السوق على رأسه حتى اضطر أن ينقلب إلى بيته لتقوم إحدى بناته فتغسل عن رأسه التراب، مع أنه حبيب الله وصفوته من خلقه. وسنجد في هجرته صلّى الله عليه وسلم إلى الطائف وما لاقاه إذ ذاك ما يجعل المسلمين يستسهلون كل محنة وعذاب في سبيل أن يضربوا مع رسولهم بنصيب مما قاساه وعاناه في سبيل الدعوة الإسلامية. هذا شيء.

والشيء الآخر، الذي يتعلق بهذا المقطع من سيرته عليه الصلاة والسلام هو أن بعض الناس يحسبون أن سبب تسمية الرسول لهذا العام عام الحزن إنما هو مجرد فقده صلّى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب وزوجته خديجة بنت خويلد، وربما استساغوا إقامة علائم الحزن والحداد على موتاهم مدة طويلة من الزمن مستدلين بهذا. والواقع أن هذا خطأ في الفهم والتقدير. فالنبي صلّى الله عليه وسلم لم يحزن على فراق عمه وفراق زوجه ذلك الحزن الشديد، ولم يطلق على تلك السنة: عام الحزن، لمجرد أنه فقد بعض أقاربه فاستوحش لفقدهم. بل سبب ذلك ما أعقب وفاتهما من انغلاق معظم أبواب الدعوة الإسلامية في وجهه، فقد كانت حماية عمه له تترك مجالات كثيرة للدعوة وسبلا مختلفة للتوجيه والإرشاد والتعليم.. وكان يرى في ذلك بعض النجاح في العمل الذي أمره به ربه. أما بعد وفاته، فقد سدّت في وجهه تلك المجالات، فمهما حاول وجد صدا وعدوانا، وحيثما ذهب وجد السبل مغلقة في وجهه، فيعود بدعوته كما ذهب بها؛ لم يسمعها أحد ولم يؤمن بها أحد، بل الكل ما بين مستهزئ ومعتد، ومتهكم به، فيحزنه أن يعود وهو لم يأت من الوظيفة التي كلفه الله بها بنتيجة، فمن أجله سمى ذلك العام عام الحزن. بل، لقد كان حزنه على أن لا يؤمن الناس بالحق الذي جاء به، شيئا غالبا على نفسه، في أكثر الأحيان. ومن أجل تخفيف هذا الحزن عليه كانت تنزل الآيات مواسية له ومسلية، ومذكّرة إياه بأنه ليس مكلفا بأكثر من التبليغ، فلا داعي إلى أن يذهب نفسه عليهم حسرات إذا لم يستجيبوا ولم يؤمنوا. استمع مثلا إلى هذه الآيات: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ، فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ [الأنعام 6/ 33- 35] .

هجرة الرسول إلى الطائف

هجرة الرسول إلى الطائف ولما نالت قريش من النبي صلّى الله عليه وسلم ما وصفناه من الأذى، خرج إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف ويرجو أن يقبلوا منه ما جاءهم به من عند الله عز وجل. ولما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ ساداته، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم من أجله، فردوا عليه ردا منكرا، وفاجؤوه بما لم يكن يتوقع من الغلظة وسمج القول. فقام رسول الله من عندهم وهو يرجوهم أن يكتموا خبر مقدمه إليهم عن قريش إذن، فلم يجيبوه إلى ذلك أيضا. ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى أن رجلي رسول الله صلّى الله عليه وسلم لتدميان، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى لقد شجّ في رأسه عدة شجاج «16» ، حتى وصل رسول الله إلى بستان لعتبة بن ربيعة، فرجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد عليه الصلاة والسلام، وقد أنهكه التعب والجراح، إلى ظل شجرة عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه. فلما اطمأنّ النبي صلّى الله عليه وسلم في ذلك الظلّ، رفع رأسه يدعو بهذا الدعاء: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك» . ثم إن ابني ربيعة- صاحبي البستان- تحركت الشفقة في قلبيهما، فدعوا غلاما نصرانيا لهما يقال له (عداس) فأرسلا إليه قطفا من العنب في طبق، فلما وضع عداس العنب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال له: كل، مدّ الرسول يده قائلا: بسم الله. ثم أكل، فقال عداس متعجبا: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له الرسول: ومن أي البلاد أنت؟ وما دينك؟ قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى (قرية بالموصل) ، فقال الرسول صلّى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ذلك أخي، كان نبيا وأنا نبي.. فأكبّ عداس على رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه» «17» .

_ (16) طبقات ابن سعد: 1/ 196 (17) انظر تفصيل ذلك في سيرة ابن هشام: 1/ 420

العبر والعظات:

قال ابن إسحاق: «ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعا إلى مكة، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمرّ به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولّوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا. وقد قصّ الله خبرهم عليه صلّى الله عليه وسلم في قوله: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ إلى قوله: وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف 46/ 29] ، وقوله: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ.. الآيات [الجن 72/ 1] . ثم عاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم- ومعه زيد بن حارثة- يريد دخول مكة. فقال له زيد: «كيف تدخل عليهم يا رسول الله وهم أخرجوك؟ فقال: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه» . ثم أرسل رجلا من خزاعة إلى مطعم بن عدي يخبره أنه داخل مكة في جواره، فاستجاب مطعم لذلك. وعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى مكة» «18» . العبر والعظات: إذا تأملنا، في هذه الهجرة التي قام بها النبي صلّى الله عليه وسلم، وما انطوت عليه من العذاب الواصب الذي رآه عليه الصلاة والسلام، ثم في شكل عودته إلى مكة، نستخلص الأمور التالية: أولا: إن ما كان يلاقيه النبي عليه الصلاة والسلام من مختلف ألوان المحنة، لا سيما هذا الذي رآه في ذهابه إلى الطائف، إنما كان من جملة أعماله التبليغية للناس.. فكما أنه جاء يبلغنا العقيدة الصحيحة عن الكون وخالقه، وأحكام العبادات والأخلاق والمعاملات، كذلك جاء يبلغ المسلمين ما كلفهم الله به من واجب الصبر، ويبين لهم كيفية تطبيق الصبر والمصابرة اللذين أمر بهما في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا [آل عمران 3/ 200] . ولقد علمنا النبي صلّى الله عليه وسلم القيام بالعبادات بالوسيلة التطبيقية، فقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . وقال: «خذوا عني مناسككم» . وبناء على هذا المبدأ نفسه قاسى أمرّ أنواع المحن في سبيل الدعوة ليقول بلسان حاله لجميع الدعاة من بعده: «اصبروا كما رأيتموني أصبر» . وليبين أن الصبر ومصارعة الشدائد من أهم مبادئ الإسلام التي بعث بها إلى الناس كافة. وربما يتوهم من اطلع على ظاهر سيرة هجرته عليه الصلاة والسلام إلى الطائف، أنه صلّى الله عليه وسلم قد غلب على أمره هناك، وأن الضجر قد نال منه، وأنه ربما استعظم كل تلك المحن والمشاق التي أصابته، ولذلك توجه إلى الله بذلك الدعاء بعد أن اطمأن في بستان ابني ربيعة.

_ (18) طبقات ابن سعد: 1/ 196 وسيرة ابن هشام: 1/ 381

ولكن الحقيقة أنه عليه السلام قد استقبل تلك المحن راضيا، وتجرع تلك الشدائد صابرا محتسبا، وإلا فقد كان بوسعه- لو شاء- أن ينتقم من السفهاء الذين آذوه ومن الزعماء الذين أغروا به أولئك السفهاء وردوه ذلك الرد المنكر، ولكنه عليه السلام لم يشأ ذلك. ودليل ذلك، ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت. قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليّ ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك. فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال رسول الله: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» . إذن فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يعلّم أصحابه وأمته من بعده بما كان يلاقيه، الصبر، بل وفن الصبر أيضا على جميع الشدائد والمكاره في سبيل الله عز وجل. ربما يقول قائل: فما معنى ارتفاع صوته بالشكوى إذن، وما معنى دعائه الذي تدل ألفاظه وصيغته على الضجر والملل من طول المحاولة التي لم تأت بنتيجة إلا الأذى والعذاب؟ والجواب، أن الشكوى إلى الله تعبد، والضراعة له والتذلل على بابه تقرب وطاعة. وللمحن والمصائب حكم، من أهمها أنها تسوق صاحبها إلى باب الله تعالى وتلبسه جلباب العبودية له، فليس إذن بين الصبر على المكاره والشكوى إلى الله تعالى أي تعارض، بل الواقع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يعلمنا في حياته كلا الأمرين، فكان بصبره الشديد على المحن يعلمنا أن هذه هي وظيفة المسلمين عامة والدعاة إلى الله خاصة، وكان بطول ضراعته والتجائه إلى الله تعالى يعلمنا وظيفة العبودية ومقتضياتها. على أن النفس البشرية مهما تسامت فهي لا تتجاوز دائرة بشريتها على كل حال، والإنسان مجبول في أصل فطرته على الإحساس والشعور.. الشعور بلذة النعيم والشعور بألم العذاب، وهو مجبول على الركون إلى الأول والفزع من الثاني. وهذا يعني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حتى وهو يوطّن نفسه لتلقي كل أنواع الضر والعذاب في سبيل ربه فهو مع ذلك بشر، يتألم للضر ويستريح للنعيم.

ولكنه مع هذا يفضل الضر مهما كانت آلامه، على النعيم مهما كانت لذائذه، إرضاء لوجه ربه وأداء لحق العبودية عليه. ولا ريب أن هذا هو مناط استحصال الثواب وظهور معنى التكليف للإنسان. ثانيا: إذا تأملت في مشاهد سيرته صلّى الله عليه وسلم مع قومه، وجدت أن ما كان يجده صلّى الله عليه وسلم من الأذى في هذه المشاهد قد يكون قاسيا شديدا، بيد أنك واجد في كل مشهد منها ما يعتبر ردا إلهيا على ذلك الإيذاء وما يهدف إليه أربابه. كي يكون في ذلك مواساة للرسول عليه الصلاة والسلام، وكي لا يتجمع في النفس من عوامل التألم والضجر ما يدخل إليها اليأس. ففي مشهد هجرته صلّى الله عليه وسلم إلى الطائف، وما قد اكتنفها من العذاب المضني: عذاب الإيذاء وعذاب الخيبة- مما قد مرّ ذكره- تجد ردا إلهيا واضحا على سفاهة أولئك الذين آذوه ولحقوا به واعتذارا له عن سفاهتهم وغلظتهم، تجد ذلك في مظهر الرجل النصراني (عداس) حينما جاء يسعى إليه وفي يده طبق فيه عنب، ثم انكب فجعل يقبل رأسه ويديه ورجليه وذلك عندما أخبره عليه الصلاة والسلام أنه نبي. وحسبنا لتصوير مشهد هذا الاعتذار من إيذاء أولئك السفهاء، أن ننقل لك كلام مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في ذلك، بعد أن ذكر القصة: «يا عجبا لرموز القدر في القصة! .. لقد أسرع الخير والكرامة والإجلال، فأقبلت تعتذر عن الشر والسفاهة والطيش، وجاءت القبلات بعد كلمات العداوة. وكان ابنا ربيعة من ألد أعداء الإسلام، وممن مشوا إلى أبي طالب عم النبي صلّى الله عليه وسلم من أشراف قريش يسألونه، أن يكفه عنهم أو يخلي بينهم وبينه، أو ينازلوه وإياه حتى يهلك أحد الفريقين. فانقلبت الغريزة الوحشية إلى معناها الإنساني الذي جاء به هذا الدين لأن المستقبل الديني للفكر لا للغريزة. وجاءت النصرانية تعانق الإسلام وتعزه. إذ الدين الصحيح من الدين الصحيح كالأخ من أخيه، غير أن نسب الأخوة الدم، ونسب الدين العقل. ثم أتم القدر رمزه في هذه القصة، بقطف العنب سائغا عذبا مملوءا حلاوة. فباسم الله كان قطف العنب رمزا لهذا العنقود الإسلامي العظيم الذي امتلأ حبّا، كل حبة فيه مملكة» «19» . ثالثا: وفيما كان يفعله زيد بن حارثة رضي الله عنه، من وقاية للرسول صلّى الله عليه وسلم بنفسه، من حجارة السفهاء، حتى إنه شج في رأسه عدة شجاج، نموذج لما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم

_ (19) وحي القلم: 2/ 30

بالنسبة لقائد الدعوة، من حمايته له بنفسه ودفاعه عنه وإن اقتضى ذلك التضحية بحياته. هكذا كانت حال الصحابة رضي الله عنهم بالنسبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. ولئن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم غير موجود اليوم بيننا، فلا يتصور الدفاع عنه على النحو الذي كان يفعله أصحابه رضي الله عنهم، فإن ذلك يتحقق على نحو آخر؛ هو أن لا نضن على أنفسنا بالمحن والعذاب في سبيل الدعوة الإسلامية وأن نسهم بشيء من تحمل الجهد والمشاق التي تحملها النبي عليه الصلاة والسلام. على أنه ينبغي أن يكون هنالك قادة للدعوة الإسلامية في كل عصر وزمن، يخلفون قيادة النبي صلّى الله عليه وسلم في الدعوة. فعلى المسلمين كلهم أن يكونوا من حولهم جنودا مخلصين لهم، يفدونهم بالمهج والأموال، كما كان شأن المسلمين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم. رابعا: فيما قصه علينا ابن إسحاق من استماع النفر من الجن إليه، وهو يصلي من جوف الليل بنخلة، دليل على وجود الجن وأنهم مكلفون، وأن منهم من آمن بالله ورسوله ومنهم من كفر ولم يؤمن. وقد ارتفعت هذه الدلالة إلى درجة القطع، بحديث القرآن عنهم في نصوص قاطعة صريحة، كالآيات التي في صدر سورة الجن، وكقوله تعالى في سورة الأحقاف: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ إلى قوله تعالى: وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف 46/ 29- 31] . واعلم أن هذه القصة التي ساقها ابن إسحاق ورواها ابن هشام في سيرته، قد ذكرها البخاري ومسلم والترمذي على نحو قريب وبتفصيل آخر. واللفظ الذي رواه البخاري بسنده عن ابن عباس «أنه صلّى الله عليه وسلم انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين فقالوا: ما لكم قد حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب؟ قال: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث، فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء؟ قال: فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنخلة وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا، وأنزل الله عز وجل على نبيه صلّى الله عليه وسلم: قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن، وإنما أوحي إليه قول الجن» «20» .

_ (20) البخاري: 6/ 73

واللفظ الذي رواه مسلم والترمذي، متفق مع هذا، ولكنهما زادا عليه في صدر الحديث: «ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق في طائفة..» الحديث. قال في الفتح: «فكأن البخاري حذف هذه اللفظة عمدا، لأن ابن مسعود أثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ على الجن، فكان ذلك مقدّما على نفي ابن عباس، وقد أشار إلى ذلك مسلم، فأخرج عقب حديث ابن عباس هذا حديث ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم، قال: أتاني داعي الجن فانطلقت معه فقرأت عليه القرآن، ويمكن الجمع بالتعدد» «21» أي يمكن الجمع بين الروايتين بتعدد الحادثة. ثم إن هذا الذي رواه مسلم والبخاري والترمذي يختلف عما رواه ابن إسحاق من ناحيتين: الأولى: أن رواية ابن إسحاق خالية عن الإشارة إلى أنه كان يصلي بأصحابه، بل هي تفيد أنه كان يصلي منفردا، في حين أن الروايات الأخرى ذكرت أنه كان يصلي بأصحابه. الثانية: أن رواية ابن إسحاق ليس فيها تقييد الصلاة بالفجر، والروايات الأخرى تنص على أنه كان يصلي الفجر. فأما رواية ابن إسحاق فلا إشكال فيها. غير أن الرواية الأخرى تشكل من ناحيتين: الأولى: أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن معه في ذهابه إلى الطائف ورجوعه منها إلا زيد بن حارثة، كما قد علمت، فكيف يستقيم أنه كان يصلي بطائفة من أصحابه؟ الثانية: أن الصلوات الخمس لم تشرع إلا ليلة الإسراء والمعراج، وإنما كان المعراج بعد ذهاب الرسول إلى الطائف، على ما ذهب إليه كثير من المحققين، فكيف يستقيم أنه كان يصلي الفجر؟ والجواب عن الإشكال الأول، أنه يحتمل أن يكون قد التقى ببعض من أصحابه عندما وصل إلى نخلة (وهو مكان قريب من مكة) فصلى بهم الفجر هناك. أما الإشكال الثاني، فجوابه، أن يقال بأن حادثة الجن واستماعهم للقرآن منه صلّى الله عليه وسلم تكرر أكثر من مرة، فقد رويت مرة عن ابن عباس ورويت بصورة أخرى عن ابن مسعود، وكل منهما صحيح، وهذا ما ذهب إليه جمهور المحققين «22» هذا على القول بأن حادثة الإسراء والمعراج كانت بعد الهجرة إلى الطائف أما على القول بأنها كانت قبل ذلك فلا إشكال ألبته. والذي يهمنا أن نعلمه بعد هذا كله، هو أن على المسلم أن يؤمن بوجود الجن، وبأنهم كائنات حية كلفها الله عز وجل بعبادته كما كلفنا بذلك، ولئن كانت حواسنا ومداركنا لا تشعر بهم، فذلك

_ (21) فتح الباري: 8/ 473 (22) انظر عيون الأثر لابن سيد الناس: 1/ 118 وفتح الباري: 8/ 473

لأن الله عز وجل جعل وجودهم غير خاضع للطاقة البصرية التي بثها في أعيننا، ومعلوم أن أعيننا إنما تبصر أنواعا معينة من الموجودات بقدر معين وبشروط معينة. ولما كان وجود هذه الخليقة مسندا إلى أخبار يقينية متواترة وردت إلينا من الكتاب والسنة، وكان أمرها معلوما من الدين بالضرورة أجمع المسلمون على أن إنكار الجن أو الشك في وجودهم يستلزم الردة والخروج عن الإسلام. إذ أن إنكارهم إنكار لشيء علم أنه من الدين بالضرورة، عدا أنه يتضمن تكذيب الخبر الصادق المتواتر الوارد إلينا عن الله عز وجل وعن رسوله. ولا ينبغي أن يقع العاقل في أشد مظاهر الغفلة والجهل من حيث يزعم أنه لا يؤمن إلا بما يتفق مع (العلم) ، فيمضي يتبجح بأنه لا يعتقد بوجود الجان، من أجل أنه لم ير الجان ولم يحسّ بهم. إن من البداهة بمكان أن مثل هذا الجهل المتعالم، يستدعي إنكار كثير من الموجودات اليقينية لسبب واحد هو عدم إمكان رؤيتها. والقاعدة العلمية المشهورة تقول: عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود؛ أي عدم رؤيتك لشيء تفتش عنه لا يستلزم أن يكون بحد ذاته مفقودا أو غير موجود. خامسا: ما موقع كل ما رآه النبي صلّى الله عليه وسلم في سياحته هذه في الطائف وما أثر كل هذا الذي عاناه، في نفسه؟ يتضح الجواب على هذا فيما قاله النبي عليه الصلاة والسلام لزيد بن حارثة، حينما سأله زيد متعجبا: «كيف تعود يا رسول الله إلى مكة وهم أخرجوك» ؟ فقد أجابه في ثقة واطمئنان قائلا: «يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيّه» . وإذن فإن كل ذاك الذي رآه وعاناه في الطائف، بعد القسوة والعذاب اللذين رآهما في مكة، لم يكن له أي تأثير على ثقته بالله تعالى أو على قوة العزيمة الإيجابية في نفسه. ولا والله، ليست هذه عزيمة بشر أوتي طبعه مزيدا من التحمل أو قوة الإرادة. ولكنه يقين النبوة كان ثابتا في قلبه صلّى الله عليه وسلم فهو يعلم أنه إنما ينفذ أمر ربه ويسير في الطريق التي أمره الله أن يسير فيها، ومما لا ريب فيه أن الله بالغ أمره، وقد جعل لكل شيء قدرا. والفائدة التعليمية لنا في هذا الأمر، هي أن لا تصدنا المحن والعقبات التي تكون في طريق الدعوة الإسلامية عن السير، وأن لا تبثّ فينا روح الدعة والكسل، ما دمنا نسير على هدى من

الإيمان بالله وتوفيقه فمن استمد القوة من الله جدير به أن لا يعرف لليأس والكسل معنى، إذ مادام هو الآمر، فلا شك أنه هو الناصر أيضا. وإنما يأتي التخاذل والكسل واليأس بسبب العقبات والمحن التي تعترض السبل والمبادئ الأخرى التي لم يأمر بها الله عز وجل، إذ في مثل هذه الحال يركن العاملون إلى قوتهم الخاصة بهم وجهودهم التي يستقلون بها. ومعلوم أن كل ذلك محدود بنطاق بشري معين، فمن الطبيعي أن ينقلب كل من القوة والتصميم بسبب طول المعاناة والآلام والمحن، إلى يأس وتخاذل نظرا لمقياس القوة البشرية المحدودة.

معجزة الإسراء والمعراج

معجزة الإسراء والمعراج ويقصد بالإسراء الرحلة التي أكرم الله بها نبيه من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس، أما المعراج فهو ما أعقب ذلك من العروج به إلى طبقات السماوات العلا ثم الوصول به إلى حد انقطعت عنده علوم الخلائق من ملائكة وإنس وجن، كل ذلك في ليلة واحدة. وقد اختلف في ضبط تاريخ هذه المكرمة الإلهية هل كانت في العام العاشر من بعثته صلّى الله عليه وسلم أم بعد ذلك. والذي رواه ابن سعد في طبقاته الكبرى أنها كانت قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا. وجمهور المسلمين على أن هذه الرحلة كانت بالجسم والروح معا، ولذلك فهي من معجزاته الباهرة التي أكرمه الله بها. أما قصة ذلك فقد رواها البخاري ومسلم بطولها. وفيها أنه صلّى الله عليه وسلم أتي بالبراق، وهو دابة فوق حمار ودون بغل، يضع حافره عند منتهى طرفه.. وفيها أنه صلّى الله عليه وسلم دخل المسجد الأقصى فصلى فيه ركعتين، ثم أتاه جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فاختار عليه الصلاة والسلام اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة.. وفيها أنه عرج به صلّى الله عليه وسلم إلى السماء الأولى فالثانية فالثالثة.. وهكذا حتى ذهب به إلى سدرة المنتهى وأوحى الله إليه عندئذ ما أوحى.. وفيها فرضت الصلوات الخمس على المسلمين، وهي في أصلها خمسون صلاة في اليوم والليلة «23» . ولما كانت صبيحة اليوم التالي وحدث رسول الله صلّى الله عليه وسلم الناس بما شاهد، طفق المشركون يجمع بعضهم بعضا ليتناقلوا هذا الخبر الطريف ويضحكوا منه. وتحداه بعضهم أن يصف لهم بقايا بيت المقدس ما دام أنه قد ذهب إليه وصلى فيه، والرسول حينما زاره لم يخطر في باله أن يجيل النظر في أطرافه ويحفظ أشكاله وعدد سواريه، فجلّى له الله عز وجل صورته بين عينيه وأخذ يصفه لهم وصفا تفصيليا كما يسألون. روى البخاري ومسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لما كذبتني قريش قمت في الحجر، فجلّى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه» .

_ (23) إذا أردت الوقوف على قصة الإسراء والمعراج، فاقرأها في صحيح مسلم أو البخاري أو أي مصدر من مصادر السنة الصحيحة. وحاذر أن تعتمد على مثل كتاب (معراج ابن عباس) فهو مليء بالكذب والأباطيل وابن عباس بريء من هذا الكتاب.

العبر والدلالات:

أما أبو بكر رضي الله عنه فقد حدثه بعض المشركين عما يقوله الرسول، رجاء أن يستعظمه فلا يصدقه، فقال: «إن كان قال ذلك لقد صدق، إني لأصدقه على أبعد من ذلك» . وفي صبيحة ليلة الإسراء جاء جبريل وعلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم كيفية الصلاة وأوقاتها. وكان عليه السلام قبل مشروعية الصلاة يصلي ركعتين صباحا ومثليهما مساء كما كان يفعل إبراهيم عليه السلام. العبر والدلالات: أولا- كلمة عن الرسول والمعجزات: يولع بعض الباحثين بالمبالغة في تصوير حياة النبي صلّى الله عليه وسلم على أنها حياة بشرية عادية، وذلك من خلال الإطناب في بيان أن حياته صلّى الله عليه وسلم، لم تكن معقدة وراء الخوارق والمعجزات، بل كان منكرا لها غير عابئ بها ولا ملتفت إلى المطالبين بها، وأنه كان يؤكد دائما أن المعجزات والخوارق ليست من شأنه وليس له إليها سبيل، ويكثرون في هذا من الاستشهاد بمثل قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ بحيث يخيل إلى القارئ أو السامع أن سيرته صلّى الله عليه وسلم كانت بعيدة كل البعد عن المعجزات والآيات التي يؤيد الله بها في العادة أنبياءه الصادقين. وإذا أمعنا في منبع هذه النظرية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، نجد أنها في الأصل فكرة بعض المستشرقين والباحثين الأجانب من أمثال غوستاف لوبون، وأوجست كونت، وهيوم، وجولد زيهر، وغيرهم. وأساس هذه النظرية عندهم وسببها، هو عدم الإيمان بخالق المعجزات أولا. ذلك لأن الإيمان بالله عز وجل إذا استقر في النفس، سهل الإيمان بكل شيء بعد ذلك ولم يبق شيء في الدنيا يستحق أن يسمى في الحقيقة معجزة. ثم تلقف هذه النظرية منهم، أناس من المسلمين، كان من سوء حظ العالم الإسلامي، أن جندوا كل مساعيهم وعلومهم للتبشير بأفكار أولئك الأجانب دون أي مؤيد سوى الافتتان بزخرف خداعهم وانخطاف أبصارهم بمظهر النهضة العلمية التي هبت في أنحاء أوربا. وكان من هؤلاء المسلمين الشيخ محمد عبده، ومحمد فريد وجدي، وحسين هيكل.. ثم نظر محترفو التشكيك وأرباب الغزو الفكري، فوجدوا في هذا الذي يقوله بعض من المسلمين أنفسهم ما يفتح لهم آفاقا وميادين جديدة لغزوهم الفكري وتشكيك المسلمين بدينهم، يغنيهم عن وسيلتهم العتيقة.. وسيلة الحرب المباشرة للعقيدة الإسلامية وغرس الأفكار الإلحادية في الرؤوس. فراحوا يروجون صفات معينة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم كالبطولة والعبقرية والقيادة في عبارات من الإعجاب والإطراء، ويبالغون في الوقت ذاته في تصوير حياته العامة بعيدة عن كل ما لا يدركه

العقل من المعجزات وخوارق العادات، كي يتم لهم إنشاء صورة جديدة للنبي صلّى الله عليه وسلم في أذهان المسلمين مع مرور الزمن، قد تكون صورة (محمد العبقري) أو تكون صورة (محمد القائد) أو تكون صورة (محمد البطل) ولكنها لا ينبغي أن تكون على أي حال من الأحوال صورة (محمد النبي والرسول) إذ تكون جميع حقائق النبوة بما يحف بها ويستلزمها من وحي.. وغيبيات وخوارق، قد قذف بها- بعامل هذا الترويج لألقاب العبقرية والبطولة البعيدين عن المعجزات والخوارق- إلى عالم ما يسمونه: الميثيولوجيا (الأساطير) ذلك لأن ظاهرة الوحي والنبوة تعتبران في رأس المعجزات. وحينئذ لا ينبغي أن يتصور- بطبيعة الحال- أي سبب لتكاثر مختلف الناس والأمم من حول الرسول وانضوائهم تحت لوائه وانسياقهم في دعوته، إلا التأثر بعبقريته ومقومات القيادة في حياته. وانظر! .. فإن هذا القصد الذي يهدفون إليه يتجلى واضحا في إشاعة كلمة (محمديين) كتسمية جديدة بدلا عن: مسلمين. ولكن ما هو موقع هذا التخيّل والتّصور من حقيقة أمر محمد صلّى الله عليه وسلم وشأنه، إذا ما حاولنا استجلاء الحقيقة على ضوء البحث المنطقي والموضوعي؟ أولا: إذا عدنا إلى التأمل في ظاهرة الوحي التي تجلت واضحة في حياته عليه الصلاة والسلام (وقد مرّ البحث فيها بتفصيل واف) رأينا أن أبرز صفة في حياته عليه الصلاة والسلام هي (النّبوة) لا شك في ذلك ولا ريب، والنّبوة هي من المعاني الغيبية التي لا تخضع لمقاييسنا المحسوسة وإذن فإن معنى المعجزة الخارقة قائم في أصل كيانه عليه الصلاة والسلام. فلا يتسنى نفي المعجزات والخوارق عنه صلّى الله عليه وسلم إلا بهدم معنى النّبوّة نفسها ونسخها من حياته، وذلك يساوي بالبداهة إنكار الدين نفسه. ولئن لم يصرح بهذه النتيجة بعض الباحثين من المستشرقين، مكتفين ببيان ذكاء الرسول ومدى عبقريته وشجاعته وسياسته للأمور، فذلك اكتفاء منهم برسم المقدمات عن بيان النتائج، إذ النتيجة تأتي بطبيعتها بعد التسليم بمقدماتها. على أن كثيرين صرّحوا بالنتيجة، بعد أن ضاقت بها صدورهم، مثل شبلي شميل حينما سمى الإيمان بالدين إيمانا بالمعجزة المستحيلة «24» ! .. وأنت خبير أنه لا معنى للبحث في إنكار جزئيات المعجزات أو إثباتها، إذا كان أصل الدين محل شك أو إنكار. ثانيا: إذا تأملنا في سيرته صلّى الله عليه وسلم ووقائع حياته، وجدنا أن الله سبحانه وتعالى أجرى

_ (24) يذكر الدكتور شبلي شميل هذا الكلام في مقدمته لتعريب كتاب (بوكنز) في شرح مذهب داروين عن نظرية النشوء والارتقاء.

معجزات كثيرة على يديه، لا مناص من قبولها ولا مجال لردها، لأنها نقلت إلينا بالأسانيد الصحيحة المتواترة التي ترتقي بالفكر والعقل إلى درجة القطع واليقين. فمن ذلك حديث نبع الماء من بين أصابعه الشريفة، أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، ومسلم في كتاب الفضائل، ومالك في الموطأ في كتاب الطهارة. وغيرهم من أئمة الحديث بطرق مختلفة كثيرة، حتى نقل الزرقاني عن القرطبي قوله: «إن نبع الماء من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلم تكرر في عدة مواطن في مشاهد عظيمة، وورد من طرق كثيرة يفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي» «25» . ومن ذلك حديث انشقاق القمر على عهده صلّى الله عليه وسلم حينما سأله المشركون ذلك، فقد أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، وأخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة، وأخرجه غيرهما من عامة علماء الحديث. وقال ابن كثير: «وقد وردت بذلك الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة..» . وهذا أمر متفق عليه بين العلماء: أنه وقع في زمان النّبي صلّى الله عليه وسلم، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات «26» . ومن ذلك حديث الإسراء والمعراج الذي نسوق هذا البحث بمناسبته، وهو حديث متفق عليه لا تنكر قطعية ثبوته. وهو بإجماع جماهير المسلمين من أبرز معجزاته. ومن العجيب أن هؤلاء الذين لا يفتأون يروجون صفة العبقرية، والعبقرية وحدها للرسول صلّى الله عليه وسلم ويبعدون اسم المعجزات والخوارق عن حياته يتجاهلون هذه الأحاديث المتواترة التي بلغت من الصحة درجة القطع، فلا يتحدثون عنها سلبا ولا إيجابا كأن كتب الحديث غير ممتلئة بها، يعدّ لكل منها ما قد يزيد على عشرة طرق. ومن الواضح أن سبب هذا التجاهل هو التهرب من الإشكال العويص الذي سيواجهونه لدى النظر في هذه الأحاديث: إذ هي تناقض في خط صريح واضح النظرية التي تطوف برؤوسهم «27» . ثالثا: المعجزة؛ كلمة لا يوجد لها معنى ذاتي عند التأمل والتدبّر، وما يراد بها إنما هو معنى نسبي مجرد. فالمعجزة فيما تواضع عليه اصطلاح الناس كل أمر خارج على المألوف والعادة. وكل من المألوف يتطور بتطور الأزمنة والعصور، ويختلف باختلاف الثقافات والمدارك والعلوم. فربّ

_ (25) راجع الزرقاني على الموطأ: 1/ 65 (26) راجع تفسير ابن كثير: 4/ 261 (27) من هؤلاء صاحب (حياة محمد) فقد ترنح ترنحا غريبا، وهو يحاول أن يفر من إلزامات هذه الأحاديث وأمثالها. كي لا يعكر على نفسه صفو نظريته الخيالية عن محمد.

أمر كان قبل فترة من الزمن معجزة فانقلب اليوم إلى شيء معروف ومألوف. وربّ أمر مألوف في بيئة متمدنة مثقفة، ينقلب معجزة بين أناس بدائيين غير مثقفين. بل الحق الذي يفهمه كل عاقل، أن المألوف وغير المألوف، معجزة في أصله. فالكواكب معجزة، وحركة الأفلاك معجزة، وقانون الجاذبية معجزة، والمجموعة العصبية في الإنسان معجزة، والدورة الدموية فيه معجزة، والروح التي فيه معجزة، والإنسان نفسه معجزة، وكم كان دقيقا ذلك العالم الفرنسي (شاتوبريان) الذي أطلق على الإنسان اسم (الحيوان الميتافيزيقي) أي الحيوان الغيبي المجهول. غير أن الإنسان ينسى- من طول الإلف واستمرار العادة- وجه المعجزة وقيمتها في هذا كله، فيحسب جهلا منه وغرورا أن المعجزة هي تلكم التي تفاجئ ما ألفه واعتاده فقط! .. ثم يمضي يتّخذ مما ألفه واعتاده مقياسا لإيمانه بالأشياء أو كفره بها! .. وهذا جهل عجيب من الإنسان مهما ترقى في مدارج المدنيّة والعلم! .. وتأمل يسير من الإنسان، يوضح له بجلاء أن الإله الذي خلق معجزة هذا الكون كله، ليس عسيرا عليه أن يزيد فيه معجزة أخرى أو أن يبدل ويغيّر في بعض أنظمته التي أنشأ العالم عليها ولقد تأمل مثل هذا التأمل المستشرق الإنكليزي (وليم جونز) ، حينما قال: «القدرة التي خلقت العالم، لا تعجز عن حذف شيء منه أو إضافة شيء إليه، ومن السهل أن يقال عنه أنه غير متصور عند العقل، لكن الذي يقال عنه أنه غير متصور، ليس غير متصور إلى درجة وجود العالم!» . يقصد أنه لو لم يكن هذا العالم موجودا، وقيل لواحد ممن ينكر المعجزات والخوارق ولا يتصور وجودها: سيوجد عالم كذا، فإنه سيجيب رأسا، إن هذا غير متصور، ويأتي نفيه لتصور ذلك أشد بكثير من نفيه لتصور معجزة من المعجزات. فهذا ما ينبغي أن يفهمه كل مسلم عن الرسول صلّى الله عليه وسلم وما أكرمه الله به من المعجزات. ثانيا: موقع معجزة الإسراء والمعراج من الأحداث التي كانت تمرّ برسول الله صلّى الله عليه وسلم في ذلك الحين. لقد عانى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ألوانا كثيرة من المحن التي لاقاها من قريش، وكان آخرها ما عاناه لدى هجرته إلى الطائف مما مرّ ذكره وبيانه. ولقد ظهر في دعائه الذي ناجى به ربّه بعد أن جلس يستريح في بستان ابني ربيعة ما يتعرض له كل بشر من الشعور بالضعف والحاجة إلى النصير وذلك هو مظهر عبودية الإنسان لله تعالى. وظهر في التجائه ذلك شيء من معنى الشكاة

إليه سبحانه وتعالى، والطمع منه في عافيته ومعونته، ولعله خشي أن يكون الذي يلاقيه إنما هو بسبب غضب من الله عليه لأمر ما. ولذلك كان من جملة دعائه قوله: «إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي» . فجاءت ضيافة الإسراء والمعراج من بعد ذلك تكريما من الله تعالى له، وتجديدا لعزيمته وثباته، ثم جاءت دليلا على أن هذا الذي يلاقيه عليه الصلاة والسلام من قومه ليس بسبب أن الله قد تخلّى عنه، أو أنه قد غضب عليه، وإنما هي سنّة الله مع محبيه ومحبوبيه. وهي سنّة الدعوة الإسلامية في كل عصر وزمن. ثالثا: المعنى الموجود في الإسراء به صلّى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس. إن في الاقتران الزمني بين إسرائه عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس والعروج به إلى السموات السبع، لدلالة باهرة على مدى ما لهذا البيت من مكانة وقدسية عند الله تعالى. وفيه دلالة واضحة أيضا على العلاقة الوثيقة بين ما بعث به كل من عيسى بن مريم ومحمد بن عبد الله عليهما الصلاة والسلام، وعلى ما بين الأنبياء من رابطة الدين الواحد الذي ابتعثهم الله عزّ وجلّ به. وفيه دلالة على مدى ما ينبغي أن يوجد لدى المسلمين في كل عصر ووقت، من الحفاظ على هذه الأرض المقدسة، وحمايتها من مطامع الدخلاء وأعداء الدين، وكأن الحكمة الإلهية تهيب بمسلمي هذا العصر أن لا يهنوا ولا يجبنوا ولا يتخاذلوا أمام عدوان اليهود على هذه الأرض المقدسة، وأن يطهروها من رجسهم، ويعيدوها إلى أصحابها المؤمنين. ومن يدري؟ فلعل واقع هذا الإسراء العظيم هو الذي جعل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله يستبسل ذلك الاستبسال العظيم ويفرغ كل جهده في سبيل صدّ الهجمات الصليبية عن هذه البقعة المقدسة حتى ردهم على أعقابهم خائبين. رابعا: وفي اختيار النّبي صلّى الله عليه وسلم اللبن على الخمر حينما قدمها له جبريل عليه السلام دلالة رمزية على أن الإسلام هو دين الفطرة، أي الدين الذي ينسجم في عقيدته وأحكامه كلها مع ما تقتضيه نوازع الفطرة الإنسانية الأصيلة، فليس في الإسلام شيء مما يتعارض والطبيعة الأصيلة في الإنسان ولو أن الفطرة كانت جسما ذا طول وأبعاد، لكان الدين الإسلامي الثوب المفصل على قدره. وهذا من أسرار سعة انتشاره وسرعة تقبّل الناس له. إذ الإنسان مهما ترقى في مدارج الحضارة وغمرته السعادة المادية، فإنه يظل نزاعا إلى استجابة نوازع الفطرة لديه، ميالا إلى الانعتاق عن

ربقة التكلفات والتعقيدات البعيدة عن طبيعته، والإسلام هو النظام الوحيد الذي يستجيب لأعمق نوازع الفطرة البشرية. خامسا: كان الإسراء والمعراج بكل من الروح والجسد معا. على ذلك اتّفق جمهور المسلمين من المتقدمين والمتأخرين. قال النووي في شرح مسلم ما نصه: «والحق الذي عليه أكثر الناس ومعظم السلف وعامة المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين أنه أسري بجسده صلّى الله عليه وسلم، والآثار تدل عليه لمن طالعها وبحث عنها، ولا يعدل عن ظاهرها إلا بدليل ولا استحالة في حملها عليه فيحتاج إلى تأويل» «28» . ويقول ابن حجر في شرحه على البخاري: «إن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسده وروحه، وإلى هذا ذهب جمهور من علماء الحديث والفقهاء والمتكلمين وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة ولا ينبغي العدول عن ذلك إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى تأويل» «29» . ومن الأدلة التي لا تقبل الاحتمال، على أن الإسراء والمعراج كانا بالجسد والروح، ما ذكرنا من استعظام مشركي قريش لذلك، وتعجبهم للخبر وسرعة تكذيبهم له. إذ لو كانت المسألة مسألة رؤيا وكان إخباره إياهم لذلك على هذا الوجه، لما استدعى الأمر منهم أي تعجّب أو استعظام أو استنكار، لأن المرئيات في النوم لا حدود لها، بل يجوز مثل هذه الرؤيا حينئذ على المسلم والكافر. ولو كان الأمر كذلك لما سألوه أيضا عن صفات بيت المقدس وأبوابه وسواريه بقصد الإلزام والتّحدي. أما، كيف تّمت هذه المعجزة، وكيف يتصورها العقل؟ فكما تتم كل معجزة غيرها من معجزات الكون والحياة! .. لقد قلنا آنفا أن كل مظاهر هذا الكون ليست في حقيقتها إلا معجزات، فكما تتصورها العقول في سهولة ويسر يمكن لها أن تتصور هذه أيضا في سهولة ويسر. سادسا: احذر وأنت تبحث عن قصة الإسراء والمعراج أن تركن إلى ما يسمى ب (معراج ابن عباس) فهو كتاب ملفّق من مجموعة أحاديث باطلة لا أصل لها ولا سند، وقد شاء ذاك الذي فعل فعلته هذه أن يلصق هذه الأكاذيب بابن عباس رضي الله عنه، وقد علم كل مثقف بل كل إنسان عاقل أن ابن عباس بريء منه، وأنه لم يؤلف أي كتاب في معراج الرسول صلّى الله عليه وسلم، بل وما ظهرت حركة التأليف إلا في أواخر عهد الأمويين.

_ (28) النووي على صحيح مسلم: 2/ 390 (29) فتح الباري على صحيح البخاري: 7/ 136 و 137

عرض الرسول نفسه على القبائل وبدء إسلام الأنصار

ولما وقف دعاة السوء على هذا الكتاب ووجدوا فيه من الأكاذيب المنسوبة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يكفل زعزعة إيمان الكثيرين من الناس، راحوا يروجون له ويدعون إليه (وكان في جملة من كتب عنه مادحا ومعظما الدكتور لويس عوض، وما أدراك من هو لويس عوض) ، مع أنهم يعلمون قبل سائر الناس أنه كتاب مكذوب على ابن عباس وأن أحاديثه باطلة، ولكن الكذب سرعان ما ينقلب عندهم صحيحا إذا كان فيه ما يشوش أفكار المسلمين ويلبس عليهم دينهم. عرض الرسول نفسه على القبائل وبدء إسلام الأنصار كان النّبي صلّى الله عليه وسلم، خلال هذه الفترة كلها، يعرض نفسه في موسم الحج من كل سنة على القبائل التي تتوافد إلى البيت الحرام، يتلو عليهم كتاب الله ويدعوهم إلى توحيد الله فلا يستجيب له أحد. يقول ابن سعد في طبقاته: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوافي الموسم كل عام يتّبع الحجاج في منازلهم في المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربّه ولهم الجنة، فلا يجد أحدا ينصره، ويقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتذلّ لكم العجم، وإذا آمنتم كنتم ملوكا في الجنة» ، وأبو لهب وراءه يقول: «لا تطيعوه فإنه صابئ كاذب» ، فيردون على رسول الله أقبح الرّد ويؤذونه» «30» . وروى ابن إسحاق عن الزهري: «أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلم أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء، قال، فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك» «31» . وفي السنة الحادية عشرة من البعثة عرض نفسه على القبائل شأنه كل عام، فبينما هو عند

_ (30) الطبقات الكبرى لابن سعد: 1/ 200 و 201، وروى ابن إسحاق نحوه، انظر سيرة ابن هشام: 1/ 423 (31) سيرة ابن هشام: 1/ 425، وتاريخ الطبري: 2/ 350

بيعة العقبة الأولى

العقبة (موضع بين منى ومكة منها ترمى جمرة العقبة) لقي رهطا «32» من الخزرج أراد الله بهم الخير، فسألهم: «من أنتم؟» . قالوا: نفر من الخزرج. قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. وكان مما مهّد أفئدتهم لقبول الإسلام، أن اليهود كانوا معهم في بلادهم، ومعلوم أنهم أهل كتاب وعلم، فكان إذا وقع بينهم وبين اليهود نفرة أو قتال، قال لهم اليهود: إن نبيّا مبعوث الآن قد أطلّ زمانه، سنتّبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم!. فلما كلّم الرسول هؤلاء النفر، ودعاهم إلى الإسلام، نظر بعضهم لبعض وقالوا: «تعلمون والله إنه للنّبي الذي توعّدكم به يهود، فلا يسبقنّكم إليه» . فأجابوه إلى ما دعاهم إليه من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك. ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك. ثم انصرفوا ووعدوه المقابلة في الموسم المقبل» «33» . بيعة العقبة الأولى وانتشر الإسلام خلال تلك السّنة في المدينة، ولما كان العام الذي يليه، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا، فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على بيعة النساء (أي على نمطها في البنود التي بايع النساء عليها، أي إنه لم يبايعهم فيها على الحرب والجهاد، وكانت بيعة النساء ثاني يوم الفتح على جبل الصفا بعد ما فرغ من بيعة الرجال) وكان منهم: أسعد بن زرارة، ورافع بن مالك، وعبادة بن الصامت، وأبو الهيثم ابن التيهان. وقد روى عبادة بن الصامت خبر هذه المبايعة، فقال: كنا اثني عشر رجلا، فقال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن

_ (32) كانوا ستة وهم: أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله. (33) رواه ابن إسحاق عن عاصم بن عمر عن أشياخ من قومه، وانظر سيرة ابن هشام: 1/ 428

العبر والعظات:

وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه» . قال عبادة بن الصامت: «فبايعناه على ذلك» «34» . فلما أرادوا الانصراف بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، فكان يسمى مقرئ المدينة. العبر والعظات: أرأيت كيف بدأ التحول في طبيعة ما كان يلاقيه النّبي صلّى الله عليه وسلم طوال هذه السنوات التي خلت من عمر بعثته صلّى الله عليه وسلم؟ لقد أينع الصبر، وبدأ الجهد يثمر، واستغلظ زرع الدعوة وأخذ يستوي على سوقه ليعطي النتيجة والثمار. ولكن، فلنلتفت مرة أخرى- قبل البحث عن الثمرة والبشائر- إلى طبيعة ذلك الصبر النّبوي العظيم، أمام كل تلك الشدائد المختلفة الجسام. لقد رأينا أن النّبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن يقصر الدعوة على قومه من قريش الذين لم يألوا جهدا في إذاقته كل أصناف المحن والمصائب. بل كان يدخل بين القبائل الآتية من خارج مكة من شتى الجهات والأطراف بمناسبة موسم الحج، فيعرض نفسه كدلال عليهم ويدعوهم إلى بضاعة الدّين وكنز التوحيد، ويذهب ويجيء بينهم فلا يرى مجيبا له. روى أحمد وأصحاب السّنن والحاكم وصححه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول: «هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا منعوني أن أبلّغ كلام ربّي؟!» «35» . إحدى عشرة سنة، والرسول صلّى الله عليه وسلم (بأبي هو وأمي) يعاني من حياة لا راحة فيها ولا استقرار، تتربص قريش في كل دقيقة منها بقتله، وتصب عليه ألوانا من المحن والشدائد، فلا ينقص ذلك شيئا من عزيمته ولا يضعف شيئا من قوته وسعيه. إحدى عشرة سنة، والرسول صلّى الله عليه وسلم يعاني من غربة هائلة مظلمة بين قومه وجيرانه وكافة الجماعات والقبائل المحيطة به، فلا ييأس ولا يضجر ولا يؤثر ذلك على شيء من أنسه بربّه عزّ وجلّ. إحدى عشرة سنة من الجهاد والصبر المتواصل في سبيل الله وحده، هي الثمن والطريق إلى

_ (34) رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب وفود الأنصار وبيعة العقبة. ومسلم في كتاب الحدود. وفي اشتراك عبادة في هذه البيعة كلام طويل، انظر تحقيق ذلك في فتح الباري عند شرح هذا الحديث. (35) فتح الباري: 7/ 156، وزاد المعاد: 2/ 50، وانظر الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد: 20/ 269

نشأة مدّ إسلامي زاخر عظيم ينتشر في مشرق العالم وغربه، تتساقط أمامه قوة الروم وتتهاوى بين يديه عظمة فارس، وتذوب من حوله قيم النظم والحضارات. ثمن من الجهاد والصبر والتعب وخوض الشدائد، كان من السهل جدا على الله عزّ وجلّ أن يقيم دعائم المجتمع الإسلامي بدونه. ولكن تلك هي سنّة الله في عباده، أراد أن يتحقق فيهم التعبّد له اختيارا، كما تحققت فيهم صفة العبودية له إجبارا. ولا يتحقق التعبّد بدون بذل الجهد، ولا يمحّص الصادق من المنافق بدون عذاب أو استشهاد، وليس من العدل أن يكسب الإنسان الغنم دون أن يبذل على ذلك شيئا من الغرم. من أجل ذلك كلّف الله الإنسان بأمرين اثنين: 1- إقامة شرعة الإسلام ومجتمعه. 2- السير إلى ذلك في طريق شائكة مجهدة غير معبدة. والآن فلنتأمل في هذه الثمار التي أخذت تبدو على رأس إحدى عشرة سنة من دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وطبيعتها، وكيفية نموها: أولا: جاءت هذه الثمار المنتظرة من خارج قريش بعيدة عن قومه عليه الصلاة والسلام على الرغم من جواره معهم واحتكاكه بهم، فلماذا؟ قلنا في أوائل هذا الكتاب: لقد اقتضت حكمة الله الباهرة أن تسير الدعوة الإسلامية في سبيل لا تدع أي شك للمتأمل في طبيعتها ومصدرها، حتى يسهل الإيمان بها، ولا يقع أي التباس بينها وبين غيرها من الدعوات الأخرى. من أجل ذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أميّا لا يقرأ ولا يكتب، ومن أجل ذلك بعث في أمة من الأميين الذين لم يقتبسوا حضارة ولم يعرفوا بمدنية أو ثقافة معينة، ومن أجل ذلك جعله الله مثال الخلق الكريم والأمانة والنزاهة. ومن أجل ذلك اقتضت حكمة الله عزّ وجلّ أن يكون أنصاره الأول من غير بيئته وقومه، حتى لا يظن ظان بأن دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم كانت في حقيقتها دعوة قومية حاكتها رغبات قومه وظروف بيئته. وهذا في الواقع من أجلّ الدلائل التي تكشف للمتأمل أن يدا إلهية تحوط حياة الدعوة النبوية وظروفها من كل جانب، كي لا توجد في أي جانب منها ثغرة لمطعن، يقوم به مشكك أو محترف غزو فكري. وهذا ما قاله واحد من الباحثين الأجانب أنفسهم، فقد جاء في كتاب حاضر العالم الإسلامي، نقلا عن «دينه» قوله: «إن هؤلاء المستشرقين الذين حاولوا نقد سيرة النّبي صلّى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب الأوربي المحض،

لبثوا ثلاثة أرباع قرن، يدققون ويمحصون بزعمهم، حتى يهدّموا ما اتفق عليه الجمهور من المسلمين من سيرة نبيّهم، وكان ينبغي لهم بعد هذه التدقيقات الطويلة العريضة أن يتمكنوا من هدم الآراء المقررة، والروايات المشهورة من السيرة النبوية، فهل تسنّى لهم شيء من ذلك؟ الجواب: لم يتمكنوا من إثبات أقل شيء جديد، بل إذا أمعنّا النظر في الآراء الجديدة التي أتى بها هؤلاء المستشرقون من فرنسيين وإنكليز وألمان وبلجيكيين وهولانديين، لا نجد إلا خلطا وخبطا، وإنك لترى كل واحد منهم يقرر ما نقضه غيره» «36» . ثانيا: يتجلى لدى التأمل فيما سردناه من كيفية بدء إسلام الأنصار، أن الله عزّ وجلّ قد مهّد حياة المدينة وبيئتها لقبول الدعوة الإسلامية، وأنه كان في صدور أهل المدينة تهيؤ نفسي لقبول هذا الدين، فما هي مظاهر هذا التهيؤ النفسي؟ لقد كان سكان المدينة المنورة خليطا من سكانها الأصليين وهم العرب المشركون واليهود المهاجرون إليها من أطراف الجزيرة، وكان المشركون ينقسمون إلى قبيلتين كبيرتين إحداهما الأوس، والثانية الخزرج. وكان اليهود ثلاث قبائل: بني قريظة، وبني النضير، وبني قنيقاع. ولقد احتال اليهود طويلا- كعادتهم- حتى زرعوا الضغائن بين قبيلتي الأوس والخزرج، فراح العرب يأكل بعضهم بعضا في حروب طاحنة متلاحقة. ويقول محمد بن عبد الوهاب في كتابه (مختصر سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم) : «أن الحرب لبثت بينهم مئة وعشرين سنة» «37» . وفي غمار هذه الخصومة الطويلة حالف كل من الأوس والخزرج قبيلة من اليهود، فحالف الأوس بني قريظة، وحالف الخزرج بني النضير وبني قنيقاع، وكان آخر ما بينهم من المواقع موقعة بعاث، وذلك قبل الهجرة بسنوات قليلة، وكان يوما عظيما مات فيه أكثر رؤسائهم. وفي أثناء ذلك، كان كلما وقع شيء بين العرب واليهود، هدد اليهود العرب بأنّ نبيّا قد آن أوان بعثته وأنهم سيكونون من أتباعه، ويقتلونهم معه قتل عاد وإرم. فهذه الظروف، جعلت لدى أهل المدينة تطلّعا إلى هذا الدين، وعلقت منهم آمالا قوية به، عسى أن تتوحد بفضله صفوفهم ويعود فيلتئم شملهم وتذوب وتمحى أسباب الشقاق مما بينهم. ولقد كان هذا مما صنعه الله لرسوله، كما يقول ابن القيم في زاد المعاد «38» : «حتى يمهد بذلك

_ (36) حاضر العالم الإسلامي: 1/ 33 (37) مختصر سيرة الرسول: 124 (38) زاد المعاد: 2/ 50، ط الحلبي.

لهجرته إلى المدينة، حيث اقتضت حكمة الله أن تكون هي المنطلق للمدّ الإسلامي في أرجاء الأرض كلها» . ثالثا: في بيعة العقبة الأولى، كان قد تمّ إسلام عدد من كبار أهل المدينة، كما ذكرنا. فكيف كانت صورة إسلامهم؟ وما هي حدود مسؤولياتهم التي حمّلهم الإسلام إياها؟ لقد رأينا أن إسلامهم لم يكن مجرد نطق بالشهادتين، بل كان إسلامهم هو الجزم القلبي والنطق اللساني بهما، ثم التزاما بالبيعة التي أخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليهم، أن ينصبغ سلوكهم بالصبغة الإسلامية عن طريق التمسك بنظمه وأخلاقه وعامة مبادئه، أخذ عليهم أن لا يشركوا بالله شيئا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أي معروف يأمرهم به. وهذه هي أهم معالم المجتمع الإسلامي الذي بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم لإنشائه. فليست مهمته أن يلقن الناس كلمة الشهادة ثم يتركهم يرددونها بأفواههم وهم عاكفون على انحرافاتهم وبغيهم ومفاسدهم. صحيح أن الإنسان يصدق عليه اسم المسلم إذا صدّق بالشهادتين وأحلّ الحلال وحرّم الحرام وصدّق بالفرائض، ولكن ذلك لأن التصديق بوحدانية الله ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام هو المفتاح والوسيلة لإقامة المجتمع الإنساني وتحقيق نظمه ومبادئه، وجعل الحاكمية في كل الأمور لله تعالى وحده. فحيثما وجد الإيمان بوحدانية الله تعالى ورسالة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام لا بدّ أن يتبعه الإيمان بحاكمية الله تعالى وضرورة اتّباع شريعته ودستوره. ومن أعجب العجب، ما يعمد إليه بعض الذين تأسرهم النظم والتشريعات الوضعية، ممن لا يريدون المجاهرة بنبذ الإسلام واطّراحه، حيث يحاولون أن يسلكوا مع خالق هذا الكون ومالكه مسلكا أشبه ما يكون بمسلك الصلح والمفاوضات. وسبيل المفاوضة عندهم، أن يقسموا مظاهر المجتمع بينهم وبين الإسلام، فللإسلام من المجتمع مساجده وسائر مظاهره العبادية، يحكم ضمن ذلك على الناس بكل ما يريد، ولهم منه نظمه وتشريعاته وأخلاقه يغيرون منها ويبدلون كما يريدون! .. ولو أن المتألهين والبغاة الذين أرسلت إليهم الرسل فكذبوا برسالاتهم تنبهوا لهذا الحلّ الطريف إزاء دعوتهم إلى الإسلام، لما توانوا عن الدخول فيه وإظهار الطواعية له، مادام أنه لا يكلفهم التنازل عن حاكميتهم ولا ترك شيء من قوانينهم وتنظيماتهم، ولما بخلوا في مقابل ذلك بكلمة يرددونها أو طقوس يتركون السبيل إليها. ولكنهم علموا أن هذا الدين يكلفهم أول ما يكلفهم الدخول في نظام وحكم جديدين، التشريع والحكم فيه إلى الله وحده، فمن أجل ذلك شاقوا الله ورسوله وعزّ عليهم أن يعلنوا إسلامهم لدعوة الله عزّ وجلّ.

وفي بيان هذه الحقيقة والتحذير من فهم الإسلام على أنه كلمات وعبادات فقط، يقول الله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً [النساء 4/ 60] . رابعا: ما من ريب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كان هو المتكفل بعبء الدعوة إلى دين الله، إذ هو رسوله إلى الناس كافة فلا بدّ له من تبليغ دعوة ربّه. ولكن ماذا عن أولئك الذين يدخلون في الإسلام وعن علاقتهم بعبء هذه الدعوة؟ إنك لتجد الجواب على هذا، في إرسال الرسول صلّى الله عليه وسلم مصعب بن عمير مع أولئك الإثني عشر إلى المدينة بدعوة أهل المدينة إلى الإسلام وتعليمهم قراءة القرآن وأحكامه وإقامة الصلاة. ولقد انطلق مصعب بن عمير سعيدا بتلبية أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، وراح يدعو أهل المدينة إلى الإسلام ويقرأ عليهم القرآن ويبلغهم أحكام الله، ولقد كان الرجل يدخل عليه وفي يده حربة يريد أن يقتله بها، فما هو إلا أن يتلو عليه شيئا من كتاب الله ويذكر له بعض أحكام الإسلام، حتى يلقي حربته ويتخذ مجلسه مع من حوله مسلما موحدا يتعلم القرآن وأحكام الإسلام، حتى انتشر الإسلام في دور المدينة كلها ولم يكن بينهم حديث إلا عن الإسلام. وهل تعلم من هو مصعب بن عمير هذا؟! إنه ذاك الذي كان أنعم غلام بمكة، وأجود شبانها حلّة وبهاء. فلما دخل الإسلام، طوى كل تلك الرفاهية وذلك النعيم، وانطلق في سبيل الدعوة الإسلامية من وراء رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتجرع كل شدة ويستعذب كل عذاب حتى قضى نحبه شهيدا في غزوة أحد، وليس له مما يلبسه إلا ثوب واحد، أرادوا أن يكفنوه به، فكانوا إذا غطوا به رأسه خرجت رجلاه وإذا غطوا رجليه خرج رأسه فأخبروا بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبكى للذي كان فيه من النعمة في صدر حياته، ثم قال: «ضعوه مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه شيئا من الإذخر» «39» . فليست مهمة الدعوة الإسلامية وقفا على الرسل والأنبياء وحدهم، ولا خلفائهم وورثتهم العلماء الذين يأتون من بعدهم، وإنما الدعوة الإسلامية جزء لا يتجزأ من حقيقة الإسلام نفسه، فلا مناص ولا مفر لكل مسلم من القيام بعبئها مهما كان شأنه أو عمله واختصاصه، إذ حقيقة الدعوة إنما هي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهو جماع معنى الجهاد كله في الإسلام، وأنت خبير أن الجهاد فرض من فروض الإسلام تستقر تبعته على كل مسلم.

_ (39) مسلم: 3/ 48، وانظر الإصابة لابن حجر: 3/ 403

بيعة العقبة الثانية

ومن هنا تعلم أنه لا معنى ولا مكان لكلمة رجال الدين، في المجتمع الإسلامي، حينما تطلق على فئة معينة من المسلمين. ذلك أن كل من دخل الإسلام فقد بايع الله ورسوله على الجهاد من أجل هذا الدين، ذكرا كان أم أنثى عالما أو جاهلا، ومهما كان شأنه أو اختصاصه، فالمسلمون كلهم رجال لهذا الدين، اشترى منهم الله أرواحهم وأموالهم بأن لهم الجنة يسخرونها في سبيل إقامة دينه ونصر شريعته. ومن المعلوم أن هذا كله لا علاقة له بما للعلماء من اختصاص البحث والاجتهاد وتبصير المسلمين بأحكام دينهم، وحلّ ما قد يجدّ من المشكلات في حياتهم، على ضوء نصوص الشريعة الثابتة مع الزمن. بيعة العقبة الثانية ثم إن مصعب بن عمير عاد إلى مكة في موسم العام التالي، ومعه جمع كبير من مسلمي المدينة، خرجوا مستخفين مع حجاج قومهم المشركين. قال محمد بن إسحاق يروي عن كعب بن مالك: «فواعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق. فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم لها، نمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم نتسلل تسلّل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو بن عدي. قال: فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، فتكلم القوم وقالوا: خذ منا لنفسك ولربّك ما أحببت.. فتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام ثم قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» . فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: «نعم، والذي بعثك بالحق نبيا لنمنّعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة (أي السلاح كله) ورثناها كابرا عن كابر» . فاعترض القول- والبراء يتكلم- أبو الهيثم بن التيّهان فقال: «يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها- يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟» . فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قال: «بل الدّم الدّم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم» .

وقد كان قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، فلما تخيّرهم قال للنقباء: أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي» . وكان أول من ضرب على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم البراء بن معرور ثم بايع القوم كلهم بعد ذلك. فلما بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ارفضّوا إلى رحالكم» ، فقال له العباس بن عبادة بن نفلة: «والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميّلن على أهل منى غدا بأسيافنا» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» . فرجعنا إلى مضاجعنا، فنمنا عليها حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا جلّة قريش، فقالوا: يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم» . فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله: «ما كان من هذا شيء وما علمناه. وقد صدقوا، لم يعلموه. قال: «وبعضنا ينظر إلى بعض» . ونفر الناس من منى، فتحرى القوم الخبر فوجدوا أن الأمر قد كان. فخرجوا في طلبنا فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر «40» ، والمنذر بن عمرو- وكلاهما كان نقيبا- فأما المنذر فأعجز القوم فهرب، وأما سعد فأخذوه، فربطوا يديه إلى عنقه بشراك رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجبهته، وكان ذا شعر كثير. قال سعد: فو الله إني لفي أيديهم يسحبونني، إذ أقبل إليّ رجل ممن كان معهم، فقال: «ويحك.. أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد؟» قلت: «بلى والله، لقد كنت أجير لكل من جبير بن مطعم والحارث بن أمية تجّارهما وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي» ، قال: «ويحك فاهتف باسمهما» ، قال ففعلت، فجاء مطعم بن عدي والحارث بن أمية فخلّصاه من أيديهم» . قال ابن هشام: «وكانت لبيعة الحرب حين أذن الله لرسوله في القتال شروطا سوى شرطه عليهم في بيعة العقبة الأولى. كانت الأولى على بيعة النساء، وذلك أن الله لم يكن أذن لرسوله صلّى الله عليه وسلم في الحرب، فلما أذن الله له فيها وبايعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في العقبة الأخيرة على حرب الأحمر والأسود أخذ لنفسه واشترط على القوم لربه، وجعل لهم على الوفاء بذلك الجنة» .

_ (40) أذاخر موضع قريب من مكة.

العبر والعظات:

قال عبادة بن الصامت: «بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيعة الحرب، على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول الحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم» . وكانت أول آية نزلت في الإذن بالحرب للرسول صلّى الله عليه وسلم قوله تبارك وتعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ «41» [الحج 22/ 39، 40] . العبر والعظات: هذه البيعة الثانية تتفق في جوهرها مع بيعة العقبة الأولى. فكل منهما إعلان عن الدخول في الإسلام أمام رسول الله، وأخذ للمواثيق والعهود على السمع والطاعة والإخلاص لدين الله، والانصياع لأوامر رسوله. إلا أننا نلحظ فارقين مهمين جديرين بالملاحظة والدرس، بين كل من بيعة العقبة الأولى، وبيعة العقبة الثانية. الفارق الأول: أن عدد المبايعين من أهل المدينة في المرة الأولى كان اثنى عشر أما عددهم في البيعة الثانية فقد كان بضعة وسبعين بينهم امرأتان. فقد عاد أولئك الاثنا عشر في السنة الأولى- ومعهم مصعب بن عمير- لا لينطوي كل على نفسه وينعزل في بيته، بلى ليبشر بالإسلام كل من كان حوله من رجال ونساء، يتلو عليهم قرآنه ويبين لهم أحكامه ونظامه. فمن أجل ذلك انتشر الإسلام تلك السنة في المدينة انتشارا عظيما حتى لم يبق دار إلا دخلها الإسلام، وأصبح حديث أهلها في عامة الأوقات عن الإسلام وخصائصه وأحكامه. وتلك هي وظيفة المسلم في كل عهد وفي كل مكان. الفارق الثاني: أن البنود المنصوص عليها في البيعة الأولى، خالية عن الإشارة إلى الجهاد بالقوة، ولكنها في البيعة الثانية تضمنت الإشارة بل التصريح بضرورة الجهاد والدفاع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم والدعوة إلى دينه بكل وسيلة. وسبب هذا الفارق أن أرباب البيعة الأولى انصرفوا وهم على موعد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المكان ذاته في الموسم التالي، ليعودوا إليه بعدد أوفر من المسلمين ويجددوا العهد والمبايعة، فلم يكن

_ (41) سيرة ابن هشام، ومسند الإمام أحمد، والطبري، والعمدة في كل ذلك على ابن إسحاق عن معبد بن كعب بن مالك.

ثمة ما يستوجب مبايعته على القتال، مادام أن الإذن به لم يأت بعد، وما دام أن هؤلاء المبايعين سيلتقون بعد عام مرة أخرى برسول الله. لقد كانت البيعة الأولى إذن بيعة مؤقتة، بالنسبة لاقتصارها على تلك البنود فقط، وهي البنود التي بايع عليها النساء فيما بعد. أما البيعة الثانية، فقد كانت الأساس الذي هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة بناء عليه، ولذا فقد كانت شاملة للمبادئ التي ستتم مشروعيتها بعد الهجرة إلى المدينة، وفي مقدمتها الجهاد والدفاع عن الدعوة بالقوة، وهو حكم وإن لم يكن قد أذن الله بشرعيته في مكة ولكن الله عز وجل قد ألهم رسوله صلّى الله عليه وسلم أن ذلك سيشرع في المستقبل القريب. ومن هنا تعلم أن مشروعية القتال في الإسلام لم تكن إلا بعد هجرته صلّى الله عليه وسلم على الصحيح، وليس كما قد يفهم من كلام ابن هشام في سيرته أنه إنما شرع قبل الهجرة عند بيعة العقبة الثانية. وليس في بنود تلك البيعة ما قد يدل على مشروعية القتال حينئذ، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم إنما أخذ على أهل المدينة عهد الجهاد نظرا للمستقبل، عندما سيهاجر إليهم ويقيم بينهم في المدينة. والدليل على هذا ما سبق ذكره أن العباس بن عبادة قال بعد البيعة: «والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم» . ومن المتفق عليه أن أول آية نزلت في الجهاد ومشروعيته هي قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، وقد روى الترمذي والنسائي وغيرهما عن ابن عباس قال: «لما أخرج النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة، قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكنّ. قال ابن عباس: فأنزل الله عز وجل أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ قال أبو بكر رضي الله عنه: فعرفت أن سيكون قتال» «42» . أما لماذا تأخرت مشروعية الجهاد بالقوة إلى هذه الفترة فللحكم التالية: 1- من المناسب أن يسبق القتال تعريف بالإسلام، ودعوة إليه وإقامة لحججه، وحل للمشكلات التي قد تقف في سبيل فهمه. ولا ريب أن هذه هي المراحل الأولى في الجهاد. ولذا كان القيام بتحقيقها فرض كفاية يشترك المسلمون في المسؤولية عنها. 2- اقتضت رحمة الله بعباده أن لا يحمّلهم واجب القتال، إلى أن توجد لهم دار إسلام، تكون لهم بمثابة معقل يأوون إليه، ويلوذون به. ولقد كانت المدينة المنورة أول دار في الإسلام.

_ (42) النسائي: 2/ 52 وتفسير ابن كثير: 3/ 224

كلمة عامة عن الجهاد ومشروعيته:

كلمة عامة عن الجهاد ومشروعيته: هذا، وما دام البحث سيسوقنا منذ الآن، إلى الحديث عن الجهاد والقتال، فمن الجدير أن نقف هنا قليلا، لنتبيّن فكرة صحيحة عن الجهاد ومشروعيته ومراحله. فقد كان الحديث عنه ولا يزال أهم تكأة يعتمد عليها محترفو الغزو الفكري في خلط حق بباطل وفي محاولة فتح الثغرات في جوانب صرح هذا الدين الحنيف بغية التشكيك فيه والنيل منه. ولن تعجب من الدوافع إلى حصر كل همهم في مشروعية (الجهاد) بخصوصه، إذا علمت بأن أخطر ركن من أركان الإسلام في نظر أعدائه يخيفهم ويرعبهم، إنما هو (الجهاد) !. فهم يدركون أن هذا الركن إذا استيقظ في نفوس المسلمين وأصبح ذا أثر في حياتهم في أي عصر من الزمن فلن تقف أي قوة بالغة ما بلغت من الأهمية، في وجه الدفع الإسلامي. ولذا ينبغي أن يكون البدء في القيام بأي عمل، بغية إيقاف المدّ الإسلامي، من هذه النقطة ذاتها.. وسنوضح في هذه الكلمة أولا معنى الجهاد وغايته في الإسلام والمراحل التي تدرج فيها ثم المرحلة التي استقر عندها. ثم نبين المغالطات التي دخلت مفهومه والتقسيمات المتكلفة التي حملت عليه مما لا وجه له البتة. أما معنى الجهاد: فهو بذل الجهد في سبيل إعلاء كلمة الله وإقامة المجتمع الإسلامي، وبذل الجهد بالقتال نوع من أنواعه. وأما غايته، فهو إقامة المجتمع الإسلامي وتكوين الدولة الإسلامية الصحيحة. وأما المراحل التي مرّ بها، فقد كان الجهاد في صدر الإسلام، كما علمنا، مقتصرا على الدعوة السلمية مع الصمود في سبيلها للمحن والشدائد. ثم شرع إلى جانبها- مع بدء الهجرة- القتال الدفاعي، أي رد كل قوة بمثلها. ثم شرع بعد ذلك قتال كل من وقف عقبة في طريق إقامة المجتمع الإسلامي، على أن لا يقبل من الملاحدة والوثنيين والمشركين إلا الإسلام وذلك لعدم إمكان الانسجام بين المجتمع الإسلامي الصحيح وما هم عليه من الإلحاد أو الوثنية، أما أهل الكتاب فيكفي خضوعهم للمجتمع الإسلامي وانضواؤهم في دولته على أن يدفعوا للدولة ما يسمى (الجزية) مكان ما يدفعه المسلمون من الزكاة. وعند هذه المرحلة الأخيرة استقر حكم الجهاد في الإسلام. وهذا هو واجب المسلمين في كل عصر إذا توفرت لديهم القوة والعدة اللازمة. وعن هذه المرحلة يقول الله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة 9/ 123] ، وعنها أيضا

يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله» «43» . ومن هنا تعلم أنه لا معنى لتقسيم الجهاد في سبيل الله إلى حرب دفاعية وأخرى هجومية إذ مناط شرعة الجهاد ليس الدفاع لذاته ولا الهجوم لذاته، إنما مناطه الحاجة إلى إقامة المجتمع الإسلامي بكل ما يتطلبه من النظم والمبادئ الإسلامية، ولا عبرة بعد ذلك بكونه جاء هجوما أو دفاعا. أما القتال الدفاعي المشروع، كدفاع المسلم عن ماله أو عرضه أو أرضه أو حياته، فذلك نوع آخر من القتال لا علاقة له بالجهاد المصطلح عليه في الفقه الإسلامي، وهو ما يسمى بقتال الصائل، وقد أفرد له الفقهاء بابا مستقلا في كتب الفقه وما أكثر ما يخلط الباحثون اليوم بينه وبين الجهاد الذي نتحدث فيه! .. هذه خلاصة معنى الجهاد وغايته في الشريعة الإسلامية. أما المغالطات والتشويهات التي دست عليه، فتتمثل في نظريتين متناقضتين في الظاهر، ولكنهما منسجمتان في باطن الأمر وحقيقته، إذ يتكون من كليهما وسيلة واحدة متسعة تهدف إلى إلغاء مشروعية الجهاد من أساسه. أما النظرية الأولى، فهي تلك التي تنادي بأن الإسلام لم ينتشر إلا بحد السيف وأن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه سلكوا مسلك الإكراه، فكان الفتح الإسلامي على أيديهم فتح قهر وبطش لا فتح قناعة وفكر «44» . وأما النظرية الثانية، فهي تلك التي تهتف بعكس ذلك تماما، أي أنه دين سلام ومحبّة، لا يشرع الجهاد فيه إلا لرد العدوان المداهم، ولا يحارب أهله إلا إذا أرغموا على ذلك وبودئوا به. وعلى الرغم من أن هاتين النظريتين متناقضتان كما ذكرنا، فإن أرباب الغزو الفكري أرادوا أن يستولدوا منهما غاية معيّنة، هي وحدها المقصودة من كلا هاتين الأطروحتين. وإليك إيضاح ذلك: لقد أشاعوا وروجوا أولا أن الإسلام دين بطش وحقد على الآخرين. ثم انتظروا إلى أن آتت هذه الشائعة ثمارها من ردود الفعل لدى المسلمين وإنكار هذا الظلم في حق الإسلام.. .. وبينما المسلمون يلتمسون الرد على هذا الباطل، قام من أولئك المشككين أنفسهم من اصطنع الدفاع عن الإسلام بعد طول علم وبحث متجردين، وراح يردّ هذه التهمة قائلا: «إن

_ (43) متفق عليه. (44) اقرأ هذه النظرية لفان فلوتن مثلا في كتابه: السيادة العربية من ص 5 فما بعد. ط. النهضة المصرية.

الإسلام ليس كما قالوا دين سيف ورمح وبطش، بل هو على العكس من ذلك: دين محبة وسلام لا يشرع فيه الجهاد إلا لضرورة رد العدوان المداهم، ولا يرغّب أهله في الحرب ما وجدوا إلى السلام من سبيل» . فصفق بسطاء المسلمين طويلا لهذا الدفاع (المجيد) في غمرة تأثرهم من الظلم الشنيع الأول، وصادف ذلك في نفوسهم المتحفزة للرد عليه قبولا حسنا، فأخذوا يؤيدون ويؤكدون، ويستخرجون البرهان تلو الآخر على أن الإسلام فعلا كما قالوا.. دين مسالمة وموادعة لا شأن له بالآخرين إلا إذا داهموه في عقر داره، وأيقظوه من هدأته وسباته. وفات أولئك البسطاء أن هذه هي النتيجة المطلوبة، وهذا بعينه هو الغرض الذي التقى عليه في السر كل من روّج الشائعة الأولى ثم أشاع الباطل الثاني. فالمقصود هو السلوك بمقدمات ووسائل مدروسة مختلفة، تنتهي إلى نسخ فكرة الجهاد من أذهان المسلمين، وإماتة روح الطموح في نفوسهم. ونحن نسوق لك شاهدا على هذا، ما ذكره زميلنا الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه (آثار الحرب في الفقه الإسلامي) ، على لسان المستشرق الإنكليزي المعروف (أندرسن) . ولننقل لك عبارته من مبدئها: «يخاف الغربيون لا سيما الإنكليز من ظهور فكرة الجهاد في أوساط المسلمين حتى لا تتوحد كلمتهم فيقفوا أمام أعدائهم، ولذلك يحاولون الترويج لفكرة نسخ الجهاد، وصدق الله العظيم إذ يقول فيمن لا إيمان لهم: فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ولقد قابلت المستشرق الإنكليزي (أندرسن) في مساء الجمعة 3 حزيران 1960، فسألته عن رأيه في هذا الموضوع فكان من نصيحته لي أن أقول: إن الجهاد اليوم ليس بفرض بناء على مثل قاعدة (تتغير الأحكام بتغير الأزمان) . إذ أن الجهاد في رأيه لا يتفق مع الأوضاع الدولية الحديثة لارتباط المسلمين بالمنظمات العالمية والمعاهدات الدولية، ولأن الجهاد هو الوسيلة لحمل الناس على الإسلام، وأوضاع الحرية ورقي العقول لا تقبل فكرة تفرض بالقوة» «45» . ونعود إلى ما كنا عليه من حديث بيعة العقبة الثانية: لأمر ما أراده الله عز وجل، انتهى إلى سمع المشركين من أهل مكة خبر هذه البيعة، وما تمّ فيها بين النبي صلّى الله عليه وسلم والمسلمين من أهل المدينة.

_ (45) آثار الحرب في الفقه الإسلامي، تعليق في ص 59

إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة

ولعل من حكمة ذلك تهييء أسباب هجرة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، فسنجد أن لهذا الخبر الذي انتهى إلى سمع المشركين أثرا كبيرا في تضييقهم الأمر على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإجماعهم الرأي على قتله والتخلص منه. ومهما يكن، فإن بيعة العقبة الثانية، كانت المقدمة الأولى لهجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة. إذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة قال ابن سعد في طبقاته يروي عن عائشة رضي الله عنها: «لما صدر السبعون من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم طابت نفسه، فقد جعل الله له منعة وقوما أهل حرب وعدة ونجدة، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج، فضيّقوا على أصحابه وتعبّثوا بهم، ونالوا ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى. فشكا ذلك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم واستأذنوه في الهجرة، فقال: «قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها» فجعل القوم يتجهزون ويتوافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك، فكان أول من قدم المدينة من أصحابه صلّى الله عليه وسلم أبو سلمة بن عبد الأسد ثم قدم بعده عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حشمة، فهي أول ظعينة «46» قدمت المدينة ثم قدم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرسالا فنزلوا على الأنصار في دورهم، فآووهم ونصروهم وآسوهم» «47» . ولم يهاجر أحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا متخفيا غير عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لما همّ بالهجرة تقلّد سيفه وتنكب قوسه، وانتضى في يده أسهما، واختصر عنزته (عصاه) ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها فطاف في البيت سبعا متمكنا مطمئنا، ثم أتى المقام فصلى، ثم وقف فقال: «شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن يثكل أمه أو يوتم ولده أو يرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي» . قال علي: فما اتّبعه إلا قوم من المستضعفين علّمهم ما أرشدهم ثم مضى لوجهه «48» . وهكذا تتابع المسلمون في الهجرة إلى المدينة حتى لم يبق بمكة منهم إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعلي، أو معذب محبوس، أو مريض أو ضعيف عن الخروج.

_ (46) الظعينة هي المرأة التي تكون في الهودج. (47) طبقات ابن سعد 1/ 210 و 211 وتاريخ الطبري 1/ 367 (48) أسد الغابة: 4/ 58

العبر والعظات:

العبر والعظات: كانت فتنة المسلمين من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، في مكة، فتنة الإيذاء والتعذيب وما يرونه من المشركين من ألوان الهزء والسخرية. فلما أذن لهم الرسول بالهجرة، أصبحت فتنتهم في ترك وطنهم وأموالهم ودورهم وأمتعتهم. ولقد كانوا أوفياء لدينهم مخلصين لربهم، أمام الفتنة الأولى والثانية. قابلوا المحن والشدائد بصبر ثابت وعزم عنيد. حتى إذا أشار لهم الرسول بالهجرة إلى المدينة، توجهوا إليها وقد تركوا من ورائهم الوطن وما لهم فيه من مال ومتاع ونشب، ذلك أنهم خرجوا مستخفين متسللين. ولا يتم ذلك إلا إذا تخلصوا من الأمتعة والأثقال، فتركوا كل ذلك في مكة ليسلم لهم الدين، واستعاضوا عنه بالإخوة الذين ينتظرونهم في المدينة ليؤووهم وينصروهم. وهذا هو المثل الصحيح للمسلم الذي أخلص الدين لله، لا يبالي بالوطن ولا بالمال والنشب في سبيل أن يسلم له دينه. هذا عن أصحاب رسول الله في مكة. أما أهل المدينة الذين آووهم في بيوتهم وواسوهم ونصروهم، فقد قدّموا المثل الصادق للأخوة الإسلامية والمحبة في الله عز وجل. وأنت خبير أن الله عز وجل قد جعل أخوة الدين أقوى من أخوة النسب وحدها، ولذلك كان الميراث في صدر الإسلام على أساس وشيجة الدين، وأخوته والهجرة في سبيله. ولم يستقر حكم الميراث على أساس علاقة القرابة إلا بعد أن تكامل الإسلام في المدينة، وصارت للمسلمين دار إسلام قوية منيعة. يقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا، أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا، ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الأنفال 8/ 72] . ثم إنه يستنبط من مشروعية هذه الهجرة حكمان شرعيان: 1- وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام. روى القرطبي عن ابن العربي: «أن هذه الهجرة كانت فرضا في أيام النبي صلّى الله عليه وسلم، وهي باقية مفروضة إلى يوم القيامة. والتي انقطعت بالفتح، إنما هي القصد إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فإن بقي في دار الحرب عصى» «49» . ومثل دار الحرب في ذلك كل مكان لا يتسنى للمسلم فيه إقامة الشعائر الإسلامية من صلاة وصيام وجماعة وأذان، وغير ذلك من أحكامه الظاهرة.

_ (49) تفسير القرطبي: 5/ 350

ومما يستدل به على ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ، لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا [النساء 4/ 97، 98] . 2- وجوب نصرة المسلمين بعضهم لبعضهم، مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكنا. فقد اتفق العلماء والأئمة على أن المسلمين إذا قدروا على استنقاذ المستضعفين أو المأسورين أو المظلومين من إخوانهم المسلمين، في أي جهة من جهات الأرض، ثم لم يفعلوا ذلك، فقد باؤوا بإثم كبير. يقول أبو بكر بن العربي: «إذا كان في المسلمين أسراء أو مستضعفون فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن، بأن لا تبقى منا عين تطرف، حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحد درهم من ذلك» «50» . وكما تجب موالاة المسلمين بعضهم لبعضهم، فإنه يجب أن تكون هذه الموالاة فيما بينهم، ولا يجوز أن يشيع شيء من الولاية أو التناصر أو التآخي بين المسلمين وغيرهم. وهذا ما يصرح به كلام الله عز وجل، إذ يقول: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ [الأنفال 8/ 73] . يقول ابن العربي: «قطع الله الولاية بين الكفار والمؤمنين، فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض، يتناصرون بدينهم ويتعاملون باعتقادهم» «51» . ولا ريب أن تطبيق مثل هذه التعاليم الإلهية، هو أساس نصرة المسلمين في كل عصر وزمن، كما أن إهمالهم لها وانصرافهم إلى ما يخالفها هو أساس ما نراه اليوم من ضعفهم وتفككهم وتألب أعدائهم عليهم من كل جهة وصوب.

_ (50) أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 876 (51) المرجع السابق: 2/ 876

هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم

هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلم جاء في صحاح السنة وما رواه علماء السيرة أن أبا بكر رضي الله عنه لما وجد المسلمين قد تتابعوا مهاجرين إلى المدينة، جاء يستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو الآخر في الهجرة. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي» فقال أبو بكر: «وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟» قال: «نعم» . فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده، وأخذ يتعهدهما بالرعاية أربعة أشهر «52» . وفي هذه الأثناء رأت قريش أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، فحذروا خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليهم وخافوا أن يكون قد أجمع لحربهم. فاجتمعوا له في دار الندوة (وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها) يتشاورون فيما يصنعون بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاجتمع رأيهم أخيرا على أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جلدا، ثم يعطى كل منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه، كي لا يقدر بنو عبد مناف على حربهم جميعا، وضربوا لذلك ميعاد يوم معلوم فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمره بالهجرة، وينهاه أن ينام في مضجعه تلك الليلة «53» . قالت عائشة فيما يروي البخاري: «فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في حرّ الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: «هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها» . فقال أبو بكر: «فدا له أبي وأمي. والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر» ، قالت: فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لأبي بكر: «أخرج من عندك» ، فقال أبو بكر: «إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله» . قال: «فإني قد أذن لي في الخروج» ، فقال أبو بكر: «فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيّ» ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بالثمن» . قالت عائشة: فجهزناهما أحثّ الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاق «54» . وانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأمره أن يتخلف بعده بمكة ريثما

_ (52) البخاري: 4/ 255 (53) سيرة ابن هشام: 1/ 155 وطبقات ابن سعد: 212 (54) في طبقات ابن سعد: أنها شقت نطاقها فأوكأت بقطعة منه الجراب، وشدت فم الجراب بالباقي فسميت ذات النطاقين.

يؤدي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، إذ لم يكن أحد من أهل مكة له شيء يخشى عليه إلا استودعه عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما يعلمون من صدقه وأمانته. وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمّع لهما ما يقوله الناس عنهما في بياض النهار، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون معه من الأخبار. وأمر عامر بن فهيرة (مولاه) أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما إذا أمسى، إلى الغار (غار ثور) ليطعما من ألبانها، وأمر أسماء بنته أن تأتيهما من الطعام بما يصلحهما في كل مساء. وروى ابن إسحاق والإمام أحمد، كلاهما عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: «لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخرج معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله معه: خمسة. آلاف درهم أو ستة آلاف درهم، قالت: وانطلق بها معه» . قالت: «فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قلت: كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا، قالت: فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه قال: لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكني أردت أن أسكت الشيخ بذلك» «55» . ولما كانت عتمة تلك الليلة التي هاجر فيها النبي صلّى الله عليه وسلم اجتمع المشركون على باب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتربصون به ليقتلوه، ولكنه عليه الصلاة والسلام خرج من بينهم وقد ألقى الله عليهم سنة من النوم بعد أن ترك عليا رضي الله عنه في مكانه نائما على فراشه، وطمأنه بأنه لن يصل إليه أي مكروه. وانطلق رسول الله وصاحبه أبو بكر إلى غار ثورليقيما فيه، وكان ذلك على الراجح في اليوم الثاني من ربيع الأول الموافق 20 أيلول سنة (622 م) بعد أن مضى ثلاث عشرة سنة من البعثة، فدخل أبو بكر قبل الرسول صلّى الله عليه وسلم فلمس الغار، لينظر أفيه سبع أو حية، يقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه، فأقاما فيه ثلاثة أيام، وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر يخبرهما بأخبار مكة، ثم يدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت بها، وكان عامر بن فهيرة يروح عليهما بقطعة من الغنم، فإذا خرج من عندهما عبد الله تبع عامر أثره بالغنم كي لا يظهر لقدميه أثر.

_ (55) سيرة ابن هشام: 1/ 488 وترتيب مسند الإمام أحمد: 20/ 282

أما المشركون فقد انطلقوا- بعد أن علموا بخروج النبي صلّى الله عليه وسلم- ينتشرون في طريق المدينة ويفتشون عنه في كل المظانّ، حتى وصلوا إلى غار ثور، وسمع الرسول وصاحبه أقدام المشركين تخفق من حولهم فأخذ الروع أبا بكر وهمس يحدث النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا» . فأجابه عليه الصلاة والسلام: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» «56» . فأعمى الله أبصار المشركين حتى لم يحن لأحد منهم التفاتة إلى ذلك الغار، ولم يخطر ببال واحد منهم أن يتساءل عما يكون بداخله.. ولما انقطع الطلب عنهما خرجا، بعد أن جاءهما عبد الله بن أرقط (وهو من المشركين، كانا قد استأجراه ليدلهما على الطرق الخفية إلى المدينة بعد أن اطمأنّا إليه، وواعداه مع الراحلتين عند الغار) فسارا متبعين طريق الساحل بإرشاد من عبد الله بن أرقط. وكان قد جعل مشركو مكة لكل من أتى برسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه دية كل منهما. وذات يوم، بينما كان جماعة من بني مدلج في مجلس لهم، وبينهم سراقة بن جعشم، إذ أقبل إليهم رجل منهم فقال: إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل، أراهما محمدا وأصحابه. فعرف سراقة أنهم هم، ولكنه أراه أن يثني عزم غيره عن الطلب، فقال له: إنك قد رأيت فلانا وفلانا، انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالّة لهم. ثم لبث في المجلس ساعة، وقام فركب فرسه ثم سار حتى دنا من الرسول فعثرت به فرسه فخرّ عنها، ثم ركبها ثانية وسار حتى صار يسمع قراءة النبي صلّى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، فساخت قائمتا فرس سراقة في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخرّ عنها ثم زجرها حتى نهضت، فلم تكد تخرج يديها حتى سطع لأثرهما غبار ارتفع في السماء مثل الدخان، فعلم سراقة أنه ممنوع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وداخله رعب عظيم، فناداهما بالأمان. فوقف عليه الصلاة والسلام ومن معه حتى وصل إليهم، فاعتذر إليه وسأله أن يستغفر له، ثم عرض عليهما الزاد والمتاع، فقالا له: لا حاجة لنا، ولكن عم عنا الخبر، فقال: كفيتم «57» . ثم عاد سراقة أدراجه إلى مكة وهو يصرف أنظار الناس عن الرسول ومن معه بما يراه من القول ... وهكذا انطلق إليهما في الصباح جاهدا في قتلهما، وعاد في المساء يحرسهما ويصرف الناس عنهما.

_ (56) متفق عليه. (57) متفق عليه، والتفصيل للبخاري: 4/ 225- 256

قدوم قباء

قدوم قباء ووصل رسول الله صلّى الله عليه وسلم قباء، فاستقبله من فيها وأقام فيها بضعة أيام نازلا على كلثوم بن هدم، حيث أدركه فيها علي رضي الله عنه بعد أن أدّى عنه الودائع إلى أصحابها. وأسس النبي صلّى الله عليه وسلم هناك مسجد قباء، وهو المسجد الذي وصفه الله بقوله: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ.. الآية [التوبة 9/ 108] . ثم واصل سيره إلى المدينة فدخلها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول على ما ذكره المسعودي «58» فالتفّت من حوله الأنصار، كل يمسك زمام راحلته يرجو النزول عنده فكان صلّى الله عليه وسلم يقول لهم: «دعوها فإنها مأمورة» ، فلم تزل راحلته تسير في فجاج المدينة وسككها حتى وصلت إلى مربد «59» لغلامين يتيمين من بني النجار أمام دار أبي أيوب الأنصاري، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ههنا المنزل إن شاء الله» . وجاء أبو أيوب فاحتمل الرحل إلى بيته، وخرجت ولائد من بني النجار- فيما يرويه ابن هشام- فرحات بمقدم النبي صلّى الله عليه وسلم، وجواره لهن، وهنّ ينشدن: نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار فقال عليه السلام لهنّ: «أتحببنني؟» فقلن: «نعم» فقال: «الله يعلم أن قلبي يحبكنّ» . صورة عن مقام النبي صلّى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب روى أبو بكر بن أبي شيبة وابن إسحاق والإمام أحمد بن حنبل من طرق متعددة بألفاظ متقاربة أن أبا أيوب رضي الله عنه قال وهو يحدث عن أيام رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنده: «لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيتي نزل في أسفل البيت وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في الأعلى، وننزل نحن نكون في السفل. فقال: يا أبا أيوب، إنه لأرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في أسفل البيت. قال: فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفله وكنا فوقه في المسكن، ولقد انكسرت جرّة لنا فيها ماء يوما، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا، ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء، تخوفا أن يقطر على رسول الله صلّى الله عليه وسلم منه شيء يؤذيه، فنزلت إليه وأنا مشفق، فلم أزل أستعطفه حتى انتقل إلى العلو. قال: وكنا نضع له العشاء، ثم نبعث به إليه، فإذا ردّ علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب

_ (58) مروج الذهب: 2/ 279، ط بيروت. (59) أرض يجفف فيها التمر.

العبر والعظات:

موضع يده، فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة، حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلا وثوما، فردّه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم أر ليده فيه أثرا، فجئته فزعا فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك، وكنت حينما ترد علينا فضل طعامك أتيمم أنا وأم أيوب موضع يدك نبتغي بذلك البركة. فقال: إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجى، فأما أنتم فكلوه. قال: فأكلناه، ثم لم نضع في طعامه شيئا من الثوم أو البصل بعد» «60» . العبر والعظات: تحدثنا في فصل سابق، عن معنى الهجرة في الإسلام، عند تعليقنا على هجرة المسلمين إلى الحبشة، وقلنا إذ ذاك ما خلاصته: «إن الله عز وجل جعل قداسة الدين والعقيدة فوق كل شيء، فلا قيمة للأرض والوطن والمال والجاه إذا كانت العقيدة وشعائر الدين مهددة بالحرب أو الزوال، ولذا فرض الله على عباده أن يضحوا بكل ذلك- إذا اقتضى الأمر- في سبيل العقيدة والإسلام» . وقلنا أيضا: «إن سنّة الله تعالى في الكون اقتضت أن تكون القوى المعنوية التي تتمثل في العقيدة السليمة والدين الحق هي الحافظة للمكاسب والقوى المادية، فمهما كانت الأمة غنية في خلقها السليم متمسكة بدينها الصحيح فإن سلطانها المادي المتمثل في الوطن والمال والعزة يغدو أكثر تماسكا وأرسخ بقاء وأمنع جانبا. ومهما كانت فقيرة في أخلاقها مضطربة تائهة في عقيدتها فإن سلطانها المادي المتمثل فيما ذكرنا يغدو أقرب إلى الاضمحلال والزوال. وقلنا: إن التاريخ أعظم شاهد على ذلك» . ولذلك شرع الله عز وجل مبدأ التضحية بالمال والأرض في سبيل العقيدة والدين عندما يقتضي الأمر ذلك. فبه يضمن المسلمون لأنفسهم المال والوطن والحياة، وإن بدا لأول وهلة أنهم تعروا عن كل ذلك وفقدوه. وحسبنا دليلا على هذه الحقيقة هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. لقد كانت بحسب الظاهر تركا للوطن وتضييعا له، ولكنها كانت في واقع الأمر حفاظا عليه وضمانة له، ورب مظهر من مظاهر الحفاظ على الشيء يبدو في صورة الترك له والإعراض عنه. فقد عاد بعد بضع سنوات من هجرته هذه- بفضل الدين الذي أقام صرحه ودولته- إلى وطنه الذي أخرج منه، عزيز الجانب، منيع القوة، دون أن يستطيع أحد من أولئك الذين تربصوا به ولا حقوه بقصد القتل أن يدنوا إليه بأي سوء..

_ (60) الإصابة لابن حجر: 1/ 405، وسيرة ابن هشام: 1/ 479، وترتيب مسند الإمام أحمد: 20/ 292

ولنعد الآن إلى التأمل فيما سردناه من قصة هجرته عليه الصلاة والسلام لنستنبط منها الدلالات والأحكام الهامة لكل مسلم: 1- من أبرز ما يظهر لنا من قصة هجرته عليه الصلاة والسلام، استبقاؤه لأبي بكر رضي الله عنه دون غيره من الصحابة كي يكون رفيقه في هذه الرحلة. وقد استنبط العلماء من ذلك مدى محبة الرسول صلّى الله عليه وسلم لأبي بكر وأنه أقرب أصحابه إليه وأولاهم بالخلافة من بعده، ولقد عززت هذه الدلالة أمور كثيرة أخرى مثل استخلافه عليه الصلاة والسلام له في الصلاة بالناس عند مرضه وإصراره على أن لا يصلي عنه غيره. ومثل قوله في الحديث الصحيح: «لو كنت متخذا خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا» «61» . ولقد كان أبو بكر رضي الله عنه- كما رأينا- على مستوى هذه المزية التي أكرمه الله بها، فقد كان مثال الصاحب الصادق بل والمضحي بروحه وكل ما يملك من أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولقد رأينا كيف أبى إلا أن يسبق رسول الله صلّى الله عليه وسلم في دخول الغاركي يجعل نفسه فداء له عليه الصلاة والسلام فيما إذا كان فيه سبع أو حية أو أي مكروه ينال الإنسان منه الأذى، ورأينا كيف جنّد أمواله وابنه وابنته ومولاه وراعي أغنامه في سبيل خدمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في هذه الرحلة الشاقة الطويلة. ولعمري، إن هذا هو الذي يجب أن يكون عليه حال كل مسلم آمن بالله ورسوله. ولذا يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» «62» . 2- قد يخطر في بال المسلم أن يقارن بين هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهجرة النبي عليه الصلاة والسلام، ويتساءل: لماذا هاجر عمر علانية متحديا المشركين دون أي خوف ووجل، على حين هاجر رسول الله مستخفيا محتاطا لنفسه؟ أيكون عمر بن الخطاب أشد جرأة من النبي عليه الصلاة والسلام؟! .. والجواب: أن عمر بن الخطاب أو أي مسلم آخر غير رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يعدّ تصرفه تصرفا شخصيا لا حجة تشريعية فيه، فله أن يتخير من الطرق والوسائل والأساليب ما يحلو له وما يتفق مع قوة جرأته وإيمانه بالله تعالى. أما رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فهو مشرّع، أي إن جميع تصرفاته المتعلقة بالدين تعتبر تشريعا لنا، ولذلك كانت سنته التي هي المصدر الثاني من مصادر التشريع مجموع أقواله وأفعاله وصفاته

_ (61) مسلم: 7/ 105 (62) متفق عليه.

وتقريره. فلو أنه فعل كما فعل عمر، لحسب الناس أن هذا هو الواجب! .. وأنه لا يجوز أخذ الحيطة والحذر، والتخفي عند الخوف. مع أن الله عز وجل أقام شريعته في هذه الدنيا على مقتضى الأسباب ومسبباتها، وإن كان الواقع الذي لا شك فيه أن ذلك بتسبيب الله تعالى وإرادته. لأجل ذلك، استعمل الرسول صلّى الله عليه وسلم كل الأساليب والوسائل المادية التي يهتدي إليها العقل البشري في مثل هذا العمل، حتى لم يترك وسيلة من هذه الوسائل إلا اعتدّ بها واستعملها، فترك علي بن أبي طالب ينام في فراشه ويتغطى ببرده، واستعان بأحد المشركين- بعد أن أمنه- ليدله على الطرق الفرعية التي قد لا تخطر في بال الأعداء، وأقام في الغار ثلاثة أيام متخفيا، إلى آخر ما عبّأه من الاحتياطات المادية التي قد يفكر بها العقل، ليوضح بذلك أن الإيمان بالله عز وجل لا ينافي استعمال الأسباب المادية التي أراد الله عز وجل بعظيم حكمته أن يجعلها أسبابا. وليس قيامه بذلك بسبب خوف في نفسه، أو شكّ في إمكان وقوعه في قبضة المشركين قبل وصوله المدينة. والدليل على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام بعد ما استنفد الأسباب المادية كلها، وتحلق المشركون حول الغار الذي يختبئ فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصاحبه- بحيث لو نظر أحدهم عند قدمه لأبصر الرسول صلّى الله عليه وسلم- استبد الخوف بقلب أبي بكر رضي الله عنه على حين كان يطمئنه عليه الصلاة والسلام قائلا: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» ، ولقد كان من مقتضى اعتماده على كل تلك الاحتياطات أن يشعر بشيء من الخوف والجزع في تلك الحال. لقد كان كل ما فعله من تلك الاحتياطات إذن، وظيفة تشريعية قام بها، فلما انتهى من أدائها، عاد قلبه مرتبطا بالله عز وجل معتمدا على حمايته وتوفيقه، ليعلم المسلمون أن الاعتماد في كل أمر لا ينبغي أن يكون إلا على الله عز وجل، ولكن لا ينافي ذلك احترام الأسباب التي جعلها الله في هذا الكون أسبابا. ومن أبرز الأدلة على هذا الذي نقوله أيضا، حالته صلّى الله عليه وسلم عندما لحق به سراقة يريد قتله وأصبح على مقربة منه. لقد كان من مقتضى كل تلك الاحتياطات الهائلة التي قام بها أن يشعر بشيء من الخوف من هذا العدوّ الذي يجدّ في اللحاق به. ولكنه لم يشعر بشيء من ذلك، بل كان مستغرقا في قراءته ومناجاته لربه لأنه يعلم أن الله الذي أمره بالهجرة سيمنعه من الناس ويعصمه من شرّهم كما بيّن في كتابه المبين. 3- وفي تخلف علي رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم في أداء الودائع التي كانت عنده إلى أصحابها دلالة باهرة على التناقض العجيب الذي كان المشركون واقعين فيه. ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويرونه ساحرا أو مخادعا لم يكونوا يجدون من حولهم من هو خير منه أمانة وصدقا،

فكانوا لا يضعون حوائجهم وأموالهم التي يخافون عليها إلا عنده! .. وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه، وإنما هو بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق الذي جاء به وخوفا على زعامتهم وطغيانهم من اتباعه. 4- ثم إننا نلمح في النشاط الذي كان يبذله عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه، ذاهبا آيبا بين الغار ومكة، يتحسس الأخبار وينقلها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبيه، وفيما بدا على أخته أسماء رضي الله عنها من مظاهر الاهتمام والجد في تهييء الزاد والراحلة واشتراكها في إعداد العدة لتلك الرحلة، نلمح في ذلك صورة مما يجب أن يكون عليه الشباب المسلم ذكورا وإناثا في سبيل الله عز وجل ومن أجل تحقيق مبادئ الإسلام وإقامة المجتمع الإسلامي. فلا يكفي أن يكون الإنسان منطويا على نفسه مقتصرا على عباداته، بل عليه أن يستنفد طاقاته وأوجه نشاطه كلها سعيا في سبيل الإسلام. وتلك هي مزية الشباب في حياة الإسلام والمسلمين في كل زمن وعصر. وإذا تأملت فيمن كان حول النبي صلّى الله عليه وسلم إبان دعوته وجهاده، وجدت أن أغلبيتهم العظمى كانوا شبانا لم يتجاوزوا المرحلة الأولى من عمر شبابهم، ولم يألوا جهدا في تجنيد طاقاتهم وقوتهم من أجل نصرة الإسلام وإقامة مجتمعه. 5- أمّا ما حدث لسراقة وفرسه وهو يلحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم فينبغي أن لا يفوتنا أنها معجزة خارقة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم اتفق أئمة الحديث على صحتها ونقلها. وفي مقدمتهم البخاري ومسلم. فأضفها إلى معجزاته الأخرى التي سبق الحديث عنها، فيما مضى. 6- ومن أبرز المعجزات الخارقة في قصة هجرته عليه الصلاة والسلام خروجه صلّى الله عليه وسلم من بيته وقد أحاط به المشركون يتربصون به ليقتلوه، فقد علق النوم بأعينهم جميعا حتى لم يحس به أحد منهم، وكان من تتمة السخرية بتآمرهم على حياته ما امتلأت به رؤوسهم من التراب الذي ألقاه رسول الله عليها إذ خرج من بينهم وهو يتلو قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس 36/ 8] . لقد كانت هذه المعجزة بمثابة الإعلان لهؤلاء المشركين وغيرهم في كل عصر ووقت، بأن ما قد يلاقيه الرسول وصحبه من ألوان الاضطهاد والعذاب على أيديهم مدة من الزمن في سبيل دينه، لا يعني أن الله قد تخلى عنهم وأن النصر قد ابتعد عن متناولهم. فلا ينبغي للمشركين وسائر أعداء الدين أن يفرحوا ويستبشروا بذلك، فإن نصر الله قريب وإن وسائل هذا النصر توشك أن تتحقق بين كل لحظة وأخرى. 7- وتكشف لنا الصورة التي استقبلت بها المدينة المنورة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن مدى المحبة الشديدة التي كانت تفيض بها أفئدة الأنصار من أهل المدينة رجالا ونساء وأطفالا. لقد كانوا

يخرجون كل يوم إلى ظاهر المدينة ينتظرون تحت لفح الشمس وصول رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليهم، حتى إذا هبّ النهار ليدبر، عادوا أدراجهم ليعودوا إلى الانتظار صباح اليوم الثاني، فلما طلع الرسول عليهم جاشت العواطف في صدورهم وانطلقت ألسنتهم تهتف بالقصائد والأهازيج فرحا لمرآه عليه الصلاة والسلام ومقدمه عليهم، ولقد بادلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المحبة ذاتها، حتى إنه جعل ينظر إلى ولائد بني النجار من حوله، وهن ينشدن ويتغنين بمقدمه، قائلا: «أتحببنني؟ والله إن قلبي ليحبكن» . يدلنا كل ذلك أن محبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليست في مجرد الاتّباع له، بل المحبة له هي أساس الاتباع وباعثه، فلولا المحبة العاطفية في القلب لما وجد وازع يحمل على الاتباع في العمل. ولقد ضلّ قوم حسبوا أن محبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس لها معنى إلا الاتباع والاقتداء. وفاتهم أن الاقتداء لا يأتي إلا بوازع ودافع، ولن تجد من وازع يحمل على الاتباع إلا المحبة القلبية التي تهز المشاعر وتستبد بالعواطف. ولذلك جعل الرسول صلّى الله عليه وسلم مقياس الإيمان بالله امتلاء القلب بمحبته عليه الصلاة والسلام، بحيث تغدو متغلبة على محبة الولد والوالد والناس أجمعين. وهذا يدلّ على أن محبة الرسول من جنس محبة الوالد والولد أي مصدر كل منهما العاطفة والقلب وإلا لم تصح المقارنة والمفاضلة بينهما. 8- أما الصورة التي رأيناها في مقامه صلّى الله عليه وسلم عند أبي أيوب الأنصاري في منزله، فتكشف لنا مظهرا آخر من محبة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم له. والذي يهمنا من ذلك هنا، هو التأمل في تبرك أبي أيوب وزوجه، بآثار أصابع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قصعة الطعام، حينما كان يردّ عليهما فضل طعامه. إذن فالتبرك بآثار النبي صلّى الله عليه وسلم أمر مشروع قد أقره. وقد روى البخاري ومسلم صورا كثيرة أخرى من تبرك الصحابة بآثار النبي عليه الصلاة والسلام والتوسل بها للاستشفاء أو العناية والتوفيق وما شابه ذلك. من ذلك ما رواه البخاري في كتاب اللباس، في باب (ما يذكر في الشيب) ، من أن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم كانت تحتفظ بشعرات من شعر النبي صلّى الله عليه وسلم في جلجل لها (ما يشبه القارورة يحفظ فيه ما يراد صيانته) فكان إذا أصاب أحدا من الصحابة عين أو أذى أرسل إليها إناء فيه ماء، فجعلت الشعرات في الماء، ثم أخذوا الماء يشربونه توسلا للاستشفاء والتبرك به. ومن ذلك ما رواه مسلم في كتاب الفضائل في باب طيب عرقه صلّى الله عليه وسلم أنه عليه الصلاة والسلام كان يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست هي في البيت، فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فجاءت أم سليم وقد عرق رسول الله صلّى الله عليه وسلم واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش

ففتحت عتيدتها «63» فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها، فأفاق النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «ما تصنعين يا أم سليم؟» فقالت: يا رسول الله، نرجو بركته لصبياننا، قال: «أصبت» «64» . ومن ذلك ما جاء في الصحيحين من استباق الصحابة إلى فضل وضوئه عليه الصلاة والسلام والتبرك بالكثير من آثاره كألبسته والقدح الذي كان يشرب به «65» . فإذا كان هذا شأن التوسل بآثاره المادية، فكيف بالتوسل بمنزلته عند الله جل جلاله؟ وكيف بالتوسل بكونه رحمة للعالمين؟ ولا يذهبن بك الوهم إلى أننا نقيس التوسل على التبرك، وأن المسألة لا تعدو أن تكون استدلالا بالقياس. فإن التوسل والتبرك كلمتان تدلان على معنى واحد وهو التماس الخير والبركة عن طريق المتوسّل به. وكل من التوسل بجاهه صلّى الله عليه وسلم عند الله والتوسل بآثاره أو فضلاته أو ثيابه، أفراد وجزئيات داخلة تحت نوع شامل هو مطلق التوسل الذي ثبت حكمه بالأحاديث الصحيحة، وكل الصور الجزئية له تدخل تحت عموم النص عن طريق ما يسمى ب (تنقيح المناط) عند علماء الأصول. ولنكتف من تعليقنا على قصة هجرته صلّى الله عليه وسلم عند هذا القدر، لنتحدث بعد ذلك عن الأعمال الجليلة التي بدأ يقوم بها صلّى الله عليه وسلم، في المجتمع الجديد في المدينة المنورة.

_ (63) العتيدة كالصندوق الصغير تجعل فيه المرأة ما يعز من متاعها. (64) مسلم: 1/ 83 (65) يرى الشيخ ناصر الألباني أن مثل هذه الأحاديث لا فائدة منها في هذا العصر، ذكر ذلك في نقد له على أحاديث كان قد انتقاها الأستاذ محمد المنتصر الكتاني لطلاب كلية الشريعة. ونحن نرى أن هذا كلام خطير ما ينبغي أن يتفوه به مسلم، فجميع أقوال الرسول وأفعاله وإقراراته تشريع، والتشريع باق مستمر إلى يوم القيامة ما لم ينسخه كتاب أو سنة صحيحة. ومن أهم فوائد التشريع ودلالاته معرفة الحكم والاعتقاد بموجبه. وهذه الأحاديث الثابتة الصحيحة لم ينسخها كتاب ولا سنة مثلها فمضمونها التشريعي باق إلى يوم القيامة. ومعنى ذلك أنه لا مانع من التوسل والتبرك بآثار النبي عليه الصلاة والسلام فضلا عن التوسل بذاته وجاهه عند الله تعالى، وإن ذلك ثابت ومشروع مع الزمن، فكيف يقال مع ذلك إنه لا فائدة منها في هذا العصر؟ .. أكبر الظن أن السبب الذي ألغى فائدتها بنظر الشيخ ناصر، أنها تخالف مذهبه في التوسل، غير أن ذلك وحده لا يكفي موجبا لنسخها وانتهاء فائدتها كما هو معلوم.

القسم الرابع أسس المجتمع الجديد

القسم الرابع أسس المجتمع الجديد الأساس الأول (بناء المسجد) لقد كانت هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، تعني نشأة أول دار إسلام إذ ذاك على وجه الأرض، وقد كان ذلك إيذانا بظهور الدولة الإسلامية بإشراف منشئها الأول محمد عليه الصلاة والسلام. ولذا فقد كان أول عمل قام به الرسول صلّى الله عليه وسلم، أن أقام الأسس الهامة لهذه الدولة ولقد كانت هذه الأسس ممثلة في هذه الأعمال الثلاثة التالية: أولا: بناء المسجد. ثانيا: المؤاخاة بين المسلمين عامة والمهاجرين والأنصار خاصة. ثالثا: كتابة وثيقة (دستور) حددت نظام حياة المسلمين فيما بينهم، وأوضحت علاقتهم مع غيرهم بصورة عامة واليهود بصورة خاصة. وسنبدأ، فنتحدث عن بناء المسجد أولا: «قلنا فيما مضى: إن ناقته صلّى الله عليه وسلم بركت في موضع كان لغلامين يتيمين من الأنصار، وكان أسعد بن زرارة قد اتخذه مصلّى قبل هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكان يصلّي بأصحابه فيه. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يبنى ذلك الموضع مسجدا، ودعا الغلامين- وكانا في كفالة أسعد بن زرارة رضي الله عنه- فسام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيه، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير «1» . وكان فيه شجر غرقد ونخل وقبور قديمة لبعض المشركين، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالقبور فنبشت وبالنخيل والشجر فقطعت، وصفّت في قبلة المسجد، وجعل طوله مما يلي القبلة إلى

_ (1) رواه البخاري: 4/ 258 وابن سعد في الطبقات: 2/ 4 وانظر إعلام الساجد في أحكام المساجد للزركشي: ص 223، وغيره من كتب السيرة. إلا أنه ليس في البخاري أن الرسول ابتاعه منهما بعشرة دنانير. قال في الفتح: ووقع عند موسى بن عقبة أنه اشتراه منهما بعشرة دنانير. وزاد الواقدي أن أبا بكر دفعها لهما عنه.

العبر والدلائل:

مؤخره مئة ذراع، وفي الجانبين مثل ذلك أو دونه، ثم بنوه باللبن، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يباشر البناء مع أصحابه وينقل معهم الحجارة بنفسه، وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وجعل عمده الجذوع، وسقفه بالجريد. وقيل له: «ألا نسقفه؟» . فقال: «عريش كعريش موسى: خشيبات وثمام- نبت ضعيف قصير- الشأن أعجل من ذلك» «2» أما أرضه، فقد بقيت مفروشة بالرمال والحصباء. وروى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك، أنه صلّى الله عليه وسلم كان يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم، قال: «ثم إنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملأ من بني النجار فجاؤوا، فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا، فقالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، فقال أنس: فكان فيه ما أقول لكم: كانت فيه قبور المشركين، وكانت فيه خرب، وكان فيه نخل. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت ثم بالخرب فسويت وبالنخل فقطع، قال: فصفوا النخل قبلة المسجد قال: وجعلوا عضادتيه حجارة وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون ورسول الله صلّى الله عليه وسلم معهم وهو يقول: اللهم لا خير إلا خير الآخرة فانصر الأنصار والمهاجرة» «3» . وقد ظل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم على هذا الشكل دون أي زيادة أو تغيير فيه مدة خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ثم زاد فيه عمر رضي الله عنه بعض التحسين. ولكنه بناه على بنائه في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا. ثم غيّره عثمان رضي الله عنه، فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة (الجص) «4» . العبر والدلائل: نأخذ من هذا الذي ذكرناه دلائل هامة نجملها فيما يلي: 1- مدى أهمية المسجد في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية: فقد أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بمجرد وصوله إلى المدينة المنورة واستقراره فيها، على إقامة مجتمع إسلامي راسخ متماسك، يتألف من هؤلاء المسلمين، الأنصار والمهاجرين الذين جمعتهم المدينة المنورة. فكان أول خطوة قام بها في سبيل هذا الأمر: بناء المسجد. ولا غرو ولا عجب، فإن إقامة المسجد أول وأهم ركيزة في بناء المجتمع الإسلامي، ذلك أن المجتمع المسلم إنما يكتسب صفة الرسوخ والتماسك بالتزام نظام الإسلام وعقيدته وآدابه. وإنما ينبع ذلك كله من روح المسجد ووحيه.

_ (2) طبقات ابن سعد: 2/ 5 (3) البخاري: 1/ 111 (4) إعلام الساجد: 224- 225

2 - حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد من الأطفال والأيتام:

إن من نظام الإسلام وآدابه شيوع آصرة الأخوة والمحبة بين المسلمين. ولكن شيوع هذه الآصرة لا يتم إلا في المسجد، فما لم يتلاق المسلمون يوميا، على مرات متعددة في بيت من بيوت الله، وقد تساقطت مما بينهم فوارق الجاه والمال والاعتبار، لا يمكن لروح التآلف والتآخي أن تؤلف بينهم. إن من نظام الإسلام وآدابه، أن تشيع روح المساواة والعدل فيما بين المسلمين في مختلف شؤونهم وأحوالهم. ولكن شيوع هذه الروح لا يمكن أن يتم ما لم يتلاق المسلمون كل يوم صفا واحدا بين يدي الله عز وجل، وقد وقفوا على صعيد مشترك من العبودية له، وتعلقت قلوبهم بربهم الواحد جلّ جلاله، ومهما انصرف كل مسلم إلى بيته يعبد الله ويركع له ويسجد دون وجود ظاهرة الاشتراك والاجتماع في العبادة، فإن معنى العدالة والمساواة لن يتغلب في المجتمع على معاني الأثرة والتعالي والأنانية. وإن من نظام الإسلام وآدابه، أن ينصهر أشتات المسلمين في بوتقة من الوحدة الراسخة يجمعهم عليها حبل الله الذي هو حكمه وشرعه، ولكن ما لم تقم في أنحاء المجتمع مساجد يجتمع فيها المسلمون على تعلم حكم الله وشريعته ليتمسكوا بهما عن معرفة وعلم، فإن وحدتهم تؤول إلى شتات، وسرعان ما تفرقهم عن بعضهم الشهوات والأهواء. فمن أجل تحقيق هذه المعاني كلها في مجتمع المسلمين ودولتهم الجديدة، أسرع رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل كل شيء فبادر إلى بناء المسجد. 2- حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد من الأطفال والأيتام: استدل بعض الفقهاء وهم الحنفية بهذا الحديث على صحة تصرف غير البالغ «5» ، ووجه الدلالة على ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم اشترى المربد من الغلامين اليتيمين، بعد أن ساومهما، ولو لم يصح تصرفهما لما اشترى منهما. غير أن الذين ذهبوا إلى عدم صحة تصرف غير البالغ سن الرشد- وهم جمهور الفقهاء- استدلوا بقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام 6/ 152] ، أما حديث شراء المربد فيجاب عنه بجوابين: أولهما: أنه جاء في رواية ابن عيينة أن النبي صلّى الله عليه وسلم كلم عمهما اللذين كانا في حجره وكفالته وابتاعه منهما بواسطته «6» فلا حجة فيه لما ذهب إليه الحنفية.

_ (5) إعلام الساجد: 223 (6) فتح الباري بشرح البخاري: 8/ 175

3 - جواز نبش القبور الدارسة، واتخاذ موضعها مسجدا إذا نظفت وطابت أرضها:

ثانيهما: أن للنبي صلّى الله عليه وسلم ولاية في مثل هذه الأمور، وأنه عليه الصلاة والسلام إنما اشترى الأرض منهما بوصف كونه وليا عاما لجميع المسلمين، لا بوصف كونه فردا منهم. 3- جواز نبش القبور الدارسة، واتخاذ موضعها مسجدا إذا نظفت وطابت أرضها: ذكر الإمام النووي تعليقا على هذا الحديث فقال: فيه جواز نبش القبور الدارسة وأنه إذا أزيل ترابها المختلط بصديدهم ودمائهم جازت الصلاة في تلك الأرض، وجواز اتخاذ موضعها مسجدا، إذا طيبت أرضه. كما أن الحديث يدل على أن الأرض التي دفن فيها الموتى ودرست، يجوز بيعها وأنها باقية على ملك صاحبها، وورثته من بعده إذا لم توقف «7» ، وقد قال علماء السيرة عن تلك القبور التي كانت في المربد أنها كانت قبورا قديمة دراسة، فلا يتأتى فيها تصور الصديد والدم، ومع ذلك فقد نبشت وأزيل ما فيها من بقايا. قلت: ومحل جواز نبش القبور الدارسة واتخاذ أرضها مسجدا، إذا لم تكن الأرض وقفا، أما إذا كانت كذلك فلا يجوز تحويلها إلى شيء آخر غير ما وقفت له. 4- حكم تشييد المساجد ونقشها وزخرفتها: والتشييد أن تقام عمارة المسجد بالحجارة وشبهها مما يزيد في قوة بنائه ومتانة سقفه وأركانه، والنقش والزخرفة ما جاوز أصل البناء من شتى أنواع الزينة. فأما التشييد فقد أجازه واستحسنه العلماء عامة، بدليل ما فعله عمر وعثمان رضي الله عنهما من إعادة بناء مسجده عليه الصلاة والسلام، وهو وإن كان شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إلا أن عدم فعله لم يدل على المفهوم المخالف. أي المنع من التشييد والتقوية، إذ لا يتعلق بهما وصف يخل بالحكمة التي من أجلها شرع بناء المساجد، بل إن في ذلك زيادة في العناية والاهتمام بشعائر الله تعالى. واستدل العلماء أيضا على ذلك بقوله تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة 9/ 18] ، والعمارة إنما تكون بالتشييد وتقوية البناء والعناية به. وأما النقش والزخرفة، فقد أجمع العلماء على كراهتهما، ثم هم في ذلك بين محرّم ومكرّه كراهة تنزيه، غير أن الذين قالوا بالحرمة والذين قالوا بالكراهة اتفقوا على أنه يحرم صرف المال الموقوف لعمارة المساجد على شيء من الزخرفة والنقش، أما إذا كان المال المصروف على ذلك من الباني نفسه فيرد الخلاف فيه، وقد ذكر الزركشي نقلا عن الإمام البغوي أنه لا يجوز نقش المسجد من غلة الوقف، ويغرم القيّم إن فعله، فلو فعله رجل بماله كره لأنه يشغل قلب المصلين «8» .

_ (7) إعلام الساجد: 236 (8) هذا عند فقهاء الشافعية، وأجاز ذلك الحنفية وغيرهم إذا اقتضت المصلحة.

والفرق بين عموم التشييد وخصوص الزخرفة والنقش واضح. فالأول كما قلنا لا يترتب عليه وصف أو معنى يخل بالحكمة التي من أجلها شرع بناء المسجد أما الزخرفة والنقش فإن كلّا منهما يترتب عليه معنى يخل بالحكمة، إذ من شأنه صرف قلوب المصلين عن الخشوع والتدبر وشغلها بمظاهر الدنيا، على حين يقصد من الدخول في المسجد الهرب من التصورات الدنيوية وتفريغ البال من زينتها ومغرياتها. وهذا ما نبه إليه عمر رضي الله عنه. فقد روى البخاري في صحيحه أنه أمر ببناء مسجد فقال: «أكنّ الناس من المطر وإياك أن تحمّر أو تصفّر، فتفتن الناس» . وقد اختلف العلماء في كتابة آية من القرآن في قبلة المسجد هل هي داخلة في النقش الممنوع أم لا؟ يقول الزركشي في كتابه إعلام الساجد: «ويكره أن يكتب في قبلة المسجد آية من القرآن أو شيئا منه، قال مالك، وجوزه بعض العلماء، وقال: لا بأس به، لما روي من فعل عثمان ذلك بمسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم ينكر ذلك عليه» «9» . ومما ذكرناه يتبين لك خطأ ما يعمد إليه كثير ممن يهتمون بتعمير المساجد وتشييدها اليوم، حيث ينصرفون بكل جهودهم إلى التفنن في تزيينها ونقشها وإضفاء مختلف مظاهر الأبهة عليها، حتى أن الداخل إليها لا يكاد يستشعر أي معنى من ذل العبودية لله عز وجل، وإنما يستشعر ما ينطق به لسان حالها من الافتخار بما ارتقى إليه فن الهندسة المعمارية، وفنون الزخرفة العربية. ومن أسوأ نتائج هذا التلاعب الشيطاني ببسطاء المسلمين، أن الفقراء لم يعودوا يستطيعون أن يتهربوا من مظاهر الإغراء الدنيوي إلى أي جهة، لقد كان في المساجد ما يعزي الفقير بفقره، ويخرجه من جو الدنيا وزخرفها إلى الآخرة وفضلها، فأصبحوا يجدون حتى في مظهر هذه المساجد ما يذكّرهم بزخارف الدنيا التي حرموها ويشعرهم بنكد الفقر وأوضاره. فيالله، ما أسوأ ما وقع فيه المسلمون من هجران لحقائق إسلامهم وانشغال بمظاهر كاذبة ظاهرها الدين وباطنها الدنيا بكل ما فيها من شهوات وأهواء.

_ (9) إعلام الساجد: ص 227

الأساس الثاني (الأخوة بين المسلمين)

الأساس الثاني (الأخوة بين المسلمين) ثم إن الرسول صلّى الله عليه وسلم آخى بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، آخى بينهم على الحق والمواساة، وعلى أن يتوارثوا بينهم بعد الممات، بحيث يكون أثر الأخوة الإسلامية في ذلك أقوى من أثر قرابة الرحم. فجعل جعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أخوين، وجعل حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة أخوين، وجعل أبا بكر الصديق رضي الله عنه وخارجة بن زهير أخوين، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين.. وهكذا.. «10» . ثم ربط النبي صلّى الله عليه وسلم هذا التآخي بين أفراد الصحابة بنطاق عام من الأخوة والموالاة، كما سنجد فيما بعد. وقد قامت هذه الأخوة على أسس مادية أيضا، وكان حكم التوارث فيما بينهم من بعض هذه الظواهر المادية. وظلت حقوق هذا الإخاء مقدمة على حقوق القرابة إلى موقعة بدر الكبرى، حيث نزل في أعقابها قوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال 8/ 75] ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها وانقطع أثر المؤاخاة الإسلامية في الميراث، ورجع كل إنسان في ذلك إلى نسبه وذوي رحمه، وأصبح المؤمنون كلهم إخوة. روى البخاري عن ابن عباس قال: «كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجريّ الأنصاريّ دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلّى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ نسخت. ثم قال: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء 4/ 33] أي من النصر والرفادة والنصيحة. وقد ذهب الميراث «11» . العبر والدلائل: وهذا هو الأساس الثاني الذي اعتمده رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سبيل بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية. وإن أهمية هذا الأساس تظهر في الجوانب التالية: أولا: إن أي دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلا على أساس من وحدة الأمة وتساندها،

_ (10) انظر سيرة ابن هشام: 1/ 504 وطبقات ابن سعد: 3/ 2 (11) رواه البخاري في كتاب التفسير: 5/ 178

ولا يمكن لكل من الوحدة والتساند أن يتم بغير عامل التآخي والمحبة المتبادلة. فكل جماعة لا تؤلف بينها آصرة المودة والتآخي الحقيقية، لا يمكن أن تتحد حول مبدأ ما، وما لم يكن الاتحاد حقيقة قائمة في الأمة أو الجماعة فلا يمكن أن تتألف منها دولة. على أن التآخي أيضا لا بد أن يكون مسبوقا بعقيدة يتم اللقاء عليها والإيمان بها، فالتآخي بين شخصين يؤمن كل منهما بفكرة أو عقيدة مخالفة للأخرى، خرافة ووهم، خصوصا إذا كانت تلك الفكرة أو العقيدة مما يحمل صاحبها على سلوك معين في الحياة العملية. ومن أجل ذلك، فقد جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أساس الأخوة التي جمع عليها أفئدة أصحابه، العقيدة الإسلامية التي جاءهم بها من عند الله تعالى والتي تضع الناس كلهم في مصاف العبودية الخالصة لله تعالى دون الاعتبار لأي فارق إلا فارق التقوى والعمل الصالح، إذ ليس من المتوقع أن يسود الإخاء والتعاون والإيثار بين أناس شتتتهم العقائد والأفكار المختلفة فأصبح كل منهم ملكا لأنانيته وأثرته وأهوائه. ثانيا: إن المجتمع- أي مجتمع- إنما يختلف عن مجموعة ما من الناس منتثرة متفككة، بشيء واحد، هو قيام مبدأ التعاون والتناصر فيما بين أشخاص هذا المجتمع، وفي كل نواحي الحياة ومقوماتها، فإن كان هذا التعاون والتناصر قائمين طبق ميزان العدل والمساواة فيما بينهم، فذلك هو المجتمع العادل السليم، وإن كانا قائمين على الحيف والظلم، فذلك هو المجتمع الظالم والمنحرف. وإذا كان المجتمع السليم إنما يقوم على أساس من العدالة في الاستفادة من أسباب الحياة والرزق، فما الذي يضمن سلامة هذه العدالة وتطبيقها على خير وجه؟ إن الضمانة الطبيعية والفطرية الأولى لذلك، إنما هي التآخي والتآلف، يليها بعد ذلك ضمانة السلطة والقانون. فمهما أرادت السلطة أن تحقق مبادئ العدالة بين الأفراد، فإنها لا تتحقق ما لم تقم على أساس من التآخي والمحبة فيما بينهم، بل إن هذه المبادئ لا تعدو أن تكون حينئذ مصدر أحقاد وضغائن تشيع بين أفراد ذلك المجتمع، ومن شأن الأحقاد والضغائن أن تحمل في طيها بذور الظلم والطغيان في أشد الصور، والأشكال. من أجل هذا، اتخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من حقيقة التآخي الذي أقامه بين المهاجرين والأنصار أساسا لمبادئ العدالة الاجتماعية التي قام على تطبيقها أعظم وأروع نظام اجتماعي في العالم. ولقد تدرجت مبادئ هذه العدالة فيما بعد بشكل أحكام وقوانين شرعية ملزمة، ولكنها كلها إنما تأسست وقامت على تلك (الأرضية) الأولى، ألا وهي الأخوة الإسلامية ولولا هذه الأخوة العظيمة، التي

تأسست بدورها على حقيقة العقيدة الإسلامية، لما كان لتلك المبادئ أي أثر تطبيقي وإيجابي في شدّ أزر المجتمع الإسلامي ودعم كيانه. ثالثا: المعنى التفسيري الذي صاحب شعار التآخي: لم يكن ما أقامه الرسول صلّى الله عليه وسلم بين أصحابه من مبدأ التآخي مجرد شعار في كلمة أجراها على ألسنتهم، وإنما كان حقيقة عملية تتصل بواقع الحياة وبكل أوجه العلاقات القائمة بين الأنصار والمهاجرين. ولذلك جعل النبي صلّى الله عليه وسلم من هذه الأخوة مسؤولية حقيقية تشيع بين هؤلاء الإخوة، وكانت هذه المسؤولية محققة فيما بينهم على خير وجه، وحسبنا دليلا على ذلك ما قام به سعد بن الربيع الذي كان قد آخى الرسول صلّى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، إذ عرض على عبد الرحمن بن عوف أن يشركه في بيته وأهله وماله في قسمة متساوية، ولكن عبد الرحمن شكره وطلب منه أن يرشده إلى سوق المدينة ليشتغل فيها، ولم يكن سعد بن الربيع منفردا عن غيره من الأنصار فيما عرضه على أخيه كما قد يظن، بل كان هذا شأن عامة الصحابة في علاقتهم وتعاونهم بعضهم مع بعض. خصوصا بعد الهجرة وبعد أن آخى النبي صلّى الله عليه وسلم فيما بينهم. ولذلك أيضا، جعل الله سبحانه وتعالى حق الميراث منوطا بهذا التآخي، دون حقوق القرابة والرحم. فقد كان من حكمة هذا التشريع أن تتجلى الأخوّة الإسلامية حقيقة محسوسة في أذهان المسلمين، وأن يعلموا أن ما بين المسلمين من التآخي والتحابب ليس شعارا وكلاما مجردين، وإنما هي حقيقة قائمة ذات نتائج اجتماعية محسوسة يتكون منها أهم الأسس اللازمة لنظام العدالة الاجتماعية. أما حكمة نسخ التوارث على أساس هذه الأخوة، فيما بعد، فهي أن نظام الميراث الذي استقر أخيرا، إنما هو نفسه قائم على أخوة الإسلام بين المتوارثين، إذ لا توارث بين ذوي دينين مختلفين، إلا أن الفترة الأولى من الهجرة وضعت كلّا من الأنصار والمهاجرين أمام مسؤولية خاصة من التعاون والتناصر والمؤانسة، بسبب مفارقة المهاجرين لأهلهم وتركهم ديارهم وأموالهم في مكة ونزولهم ضيوفا على إخوانهم الأنصار في المدينة، فكان ما أقامه الرسول صلّى الله عليه وسلم من التآخي بين أفراد المهاجرين والأنصار ضمانة لتحقيق هذه المسؤولية. ولقد كان من مقتضى هذه المسؤولية أن يكون هذا التآخي أقوى في حقيقته وأثره من أخوّة الرحم المجردة. فلما استقر أمر المهاجرين في المدينة وتمكن الإسلام فيها، وغدت الروح الإسلامية هي وحدها العصب الطبيعي للمجتمع الجديد في المدينة، أصبح من المناسب انتزاع القالب الذي كان قد صب فيه نظام العلاقة بين المهاجرين والأنصار إثر التقائهم في المدينة، إذ لا يخشى على هذا النظام

الأساس الثالث (كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم)

بعد اليوم من التفكك والتميع في ظل الأخوة الإسلامية العامة وما يترتب عليها من المسؤوليات المختلفة. ولا ضير حينئذ أن يعود تأثير قرابة الرحم بين المسلمين من حيث كونها مؤثرا زائدا على قرابة الإسلام وأخوته. ثم إن هذا التآخي الذي عقده رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار كان مسبوقا بمؤاخاة أخرى أقامها النبي صلّى الله عليه وسلم بين المهاجرين في مكة. قال ابن عبد البر: «كانت المؤاخاة مرتين: مرة بين المهاجرين خاصة، وذلك بمكة، ومرة بين المهاجرين والأنصار» «12» . وهذا يؤكد لنا أنّ مناط الأخوة وأساسها إنما هو رابطة الإسلام. غير أنها احتاجت إلى تجديد وتأكيد بعد الهجرة بسبب ظروفها وبسبب اجتماع المهاجرين والأنصار في دار واحدة. فهي ليست في الحقيقة شيئا آخر غير الأخوة القائمة على أساس جامعة الإسلام ووحدة العقيدة، وإنما هي تأكيد لها عن طريق التطبيق. الأساس الثالث (كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم) وهذا الأساس هو أهم ما قام به النبي عليه الصلاة والسلام مما يتعلق بالقيمة الدستورية للدولة الجديدة. روى ابن هشام أن النبي عليه الصلاة والسلام لم تمض له سوى مدة قليلة في المدينة حتى اجتمع له إسلام عامة أهل المدينة من العرب، ولم يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها، عدا أفرادا من قبيلة الأوس، فكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه اليهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم. وقد ذكر ابن إسحاق هذا الكتاب بدون إسناد، وذكره ابن خيثمة فأسنده: حدثنا أحمد بن جناب أبو الوليد، ثنا عيسى بن يونس، ثنا كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار، فذكر نحو ما ذكره ابن إسحاق «13» ، وذكره الإمام أحمد في مسنده فرواه عن سريج قال: حدثنا عباد عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار.. إلخ «14» . ونحن لن نأتي بنص الكتاب كله، فهو طويل، ولكننا نجتزئ منه البنود الهامة بنصوصها الواردة في كتابه عليه الصلاة والسلام، كي نقف من ورائها على مدى القيمة الدستورية للمجتمع

_ (12) انظر فتح الباري: 7/ 191 (13) انظر عيون الأثر لابن سيد الناس: 1/ 198 (14) انظر مسند أحمد: 21/ 10 شرح البنا.

الإسلامي ودولته الناشئة في المدينة. وهذه هي البنود مرتبة حسب ترتيبها في نص الكتاب نفسه: 1- المسلمون من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أمة واحدة من دون الناس. 2- هؤلاء المسلمون جميعا على اختلاف قبائلهم يتعاقلون بينهم، ويفدون عانيهم «15» بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 3- إن المؤمنين لا يتركون مفرحا «16» بينهم أن يعطوه في فداء أو عقل. 4- إن المؤمنين المتقين، على من بغى منهم أو ابتغى دسيعه «17» ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم. 5- لا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن. 6- إن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم. 7- ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، والمؤمنون بعضهم موالي بعض دون الناس 8- لا يحل لمؤمن أقرّ بما في الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا أو أن يؤويه، وإن من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة لا يؤخذ منه صرف ولا عدل. 9- اليهود ينفقون مع اليهود ما داموا محاربين. 10- يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ «18» إلا نفسه وأهل بيته. 11- إن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم. وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. 12- كل ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله. 13- من خرج من المدينة آمن ومن قعد آمن، إلا من ظلم وأثم. 14- إن الله على أصدق ما في الصحيفة وأبره، وإن الله جار لمن برّ واتقى.

_ (15) العاني: الأسير. (16) المفرح: المثقل بالديون الكثير العيال. (17) الدسيعة: العظيمة، وهي في الأصل ما يخرج من حلق البعير إذا رغا. (18) يوتغ: يهلك.

العبر والدلائل:

العبر والدلائل: لهذه الوثيقة دلالات هامة تتعلق بمختلف الأحكام التنظيمية للمجتمع الإسلامي. ونلخصها فيما يلي: 1- إن كلمة (الدستور) هي أقرب إطلاق مناسب في اصطلاح العصر الحديث على هذه الوثيقة. وهي إذا كانت بمثابة إعلان دستور فإنه شمل جميع ما يمكن أن يعالجه أي دستور حديث يعنى بوضع الخطوط الكلية الواضحة لنظام الدولة في الداخل والخارج؛ أي فيما يتعلق بعلاقة أفراد الدولة بعضهم مع بعض، وفيما يتعلق بعلاقة الدولة مع الآخرين. وحسبنا هذا الدستور الذي وضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بوحي من ربه واستكتبه أصحابه، ثم جعله الأساس المتفق عليه فيما بين المسلمين وجيرانهم اليهود. حسبنا ذلك دليلا على أن المجتمع الإسلامي قام منذ أول نشأته على أسس دستورية تامة، وأن الدولة الإسلامية قامت- منذ أول بزوغ فجرها- على أتم ما قد تحتاجه الدولة من المقومات الدستورية والإدارية. وظاهر أن هذه المقومات، أساس لابد منه لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في المجتمع. إذ هي في مجموعها إنما تقوم على فكرة وحدة الأمة الإسلامية وما يتعلق بها من البنود التنظيمية الأخرى، ولا يمكن أن نجد أرضية يستقر عليها حكم الإسلام وتشريعه ما لم يقم هذا التنظيم الدستوري الذي أوجده رسول الله صلّى الله عليه وسلم، على إنه في الوقت نفسه جزء من الأحكام الشرعية نفسها. ومن هنا تسقط دعاوى أولئك الذين يغمضون أبصارهم وبصائرهم عن هذه الحقيقة البديهية، ثم يزعمون أن الإسلام ليس إلا دينا قوامه ما بين الإنسان وربه، وليس له من مقومات الدولة والتنظيم الدستوري شيء. وهي أحبولة عتيقة، كان يقصد منها محترفو الغزو الفكري وأرقاء الاستعمار، أن يقيدوا بها الإسلام كي لا ينطلق فيعمل عمله في المجتمعات الإسلامية ولا يصبح له شأن قد يتغلب به على المجتمعات المنحرفة الأخرى. إذ الوسيلة إلى ذلك محصورة في أن يكون الإسلام دينا لا دولة، وعبادات مجردة، لا تشريعا وقوانين. وحتى لو كان الإسلام دينا ودولة في الواقع، فينبغي أن ينقلب فيصبح غير صالح لذلك ولو بأكاذيب القول. غير أن هذه الأحبولة تقطعت سريعا، لسوء حظ أولئك المحترفين، وأصبح الحديث عنها من لغو القول ومكشوف الحقد والضغائن. ولكن مهما يكن، فينبغي أن نقول، ونحن بصدد تحليل هذه البنود العظيمة: «إن مولد المجتمع الإسلامي نفسه إنما كان ضمن هيكل متكامل للدولة، وما تنزلت تشريعاته إلا ضمن قوالب من التنظيم الاجتماعي المتناسق من جميع جهاته وأطرافه، وهذه الوثيقة أكبر شاهد على ذلك» .

وهذا مع غض النظر عن قيمة الأحكام التشريعية نفسها من حيث إنها قطع وأجزاء إذا ضمّت إلى بعضها تكوّن منها تنظيم متكامل لبناء دستوري وإداري عظيم. 2- إن هذه الوثيقة تدل على مدى العدالة التي اتسمت بها معاملة النبي صلّى الله عليه وسلم لليهود، ولقد كان بالإمكان أن تؤتي هذه المسألة العادلة ثمارها فيما بين المسلمين واليهود، لو لم تتغلب على اليهود طبيعتهم من حب للمكر والغدر والخديعة، فما هي إلا فترة وجيزة حتى ضاقوا ذرعا بما تضمنته بنود هذه الوثيقة التي التزموا بها، فخرجوا على الرسول والمسلمين بألوان من الغدر والخيانة سنفصل الحديث عنها في مكانها المناسب إن شاء الله، فكان المسلمون بذلك في حل مما التزموا به تجاههم. 3- دلت هذه الوثيقة على أحكام هامة في الشريعة الإسلامية نذكر منها ما يلي: أولا: يدلنا البند الأول منها على أن الإسلام هو وحده الذي يؤلف وحدة المسلمين وهو وحده الذي يجعل منهم أمة واحدة، وعلى أن جميع الفوارق والمميزات فيما بينهم تذوب وتضمحل ضمن نطاق هذه الوحدة الشاملة، تفهم هذا جليا واضحا من قوله عليه الصلاة والسلام: «المسلمون من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أمة واحدة من دون الناس» . وهو أول أساس لا بد منه لإقامة مجتمع إسلامي متماسك سليم. ثانيا: يدلنا البند الثاني والثالث على أن من أهم سمات المجتمع الإسلامي ظهور معنى التكافل والتضامن فيما بين المسلمين بأجلى صوره وأشكاله، فهم جميعا مسؤولون عن بعضهم في شؤون دنياهم وآخرتهم. وإن عامة أحكام الشريعة الإسلامية إنما تقوم على أساس هذه المسؤولية، وتحدد الطرائق التنفيذية لمبدأ التكافل والتضامن فيما بين المسلمين. ثالثا: يدل البند السابع على مدى الدقة في المساواة بين المسلمين لا من حيث أنها شعار براق للزينة والعرض، بل من حيث أنها ركن من الأركان الشرعية الهامة للمجتمع الإسلامي، يجب تطبيقه بأدق وجه وأتم صورة، وحسبك مظهرا لتطبيق هذه المساواة بين المسلمين ما قرره النبي صلّى الله عليه وسلم في هذا البند بقوله: «ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم» ومعنى ذلك أن ذمة المسلم أيا كان محترمة، وجواره محفوظ لا ينبغي أن يجار عليه فيه، فمن أدخل من المسلمين أحدا في جواره، فليس لغيره حاكما أو محكوما أن ينتهك حرمة جواره هذا، والمرأة المسلمة لا تختلف في هذا عن الرجل إطلاقا، فلجوارها- أيا كانت- من الحرمة ما لا يستطيع أن ينتهكه أي إنسان مهما علت رتبته وبلغت منزلته، وذلك بإجماع عامة العلماء، وأئمة المذاهب، غير أنه يشترط لذلك شروط معينة ذكرها الفقهاء كأن لا تكون إجارة تضر بالمسلمين كإجارة جاسوس، وأن تكون لعدد محصور، وأن تكون لمدة محدودة بحيث لا تزيد على أربعة أشهر «19» .

_ (19) راجع مغني المحتاج: 4/ 238

روى الشيخان وغيرهما أن أم هانئ بنت أبي طالب ذهبت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عام الفتح فقالت: «يا رسول الله زعم ابن أمي عليّ أنه قاتل رجلا أجرته: فلان ابن هبيرة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» . وتستطيع أن تتأمل هذا فتعلم مدى الرفعة التي نالتها المرأة في حمى الإسلام وظله، وكيف أنها نالت كل حقوقها الإنسانية والاجتماعية كما نالها الرجل سواء بسواء، مما لم يحدث نظيره في أمة من الأمم. غير أن المهم أن تعلم الفرق بين هذه المساواة الإنسانية الرائعة التي أرستها شريعة الإسلام، والمظاهر التقليدية لها مما ينادي به عشاق المدنية الحديثة اليوم. تلك شريعة من المساواة الدقيقة القائمة على الفطرة الإنسانية الأصيلة، يتوخى منها سعادة الناس كلهم نساء ورجالا، أفرادا وجماعات. وهذه نزوات حيوانية أصيلة يتوخى من ورائها اتخاذ المرأة مادة تسلية ورفاهية للرجل على أوسع نطاق ممكن، دون أي نظر إلى شيء آخر. رابعا: يدلنا البند الثاني عشر على أن الحكم العدل الذي لا يجوز للمسلمين أن يهرعوا إلى غيره، في سائر خصوماتهم وخلافاتهم وشؤونهم إنما هو شريعة الله تعالى وحكمه، وهو ما تضمنه كتاب الله تعالى وسنة رسوله. ومهما بحثوا عن الحلول لمشكلاتهم في غير هذا المصدر فهم آثمون، معرضون أنفسهم للشقاء في الدنيا وعذاب الله تعالى في الآخرة. تلك هي أربعة أحكام انطوت عليها هذه الوثيقة التي أقام عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم الدولة الإسلامية في المدينة، وجعلها منهاجا لسلوك المسلمين في مجتمعهم الجديد، وإن فيها لأحكاما هامة أخرى لا تخفى لدى التأمل والنظر فيها. ومن تطبيق هذه الوثيقة، والاهتداء بما فيها، والتمسك بأحكامها، قامت تلك الدولة على أمتن ركن وأقوى أساس، ثم انتشرت قوية راسخة في شرق العالم وغربه تقدم للناس أروع ما عرفته الإنسانية من مظاهر الحضارة والمدنية الصحيحة.

القسم الخامس مرحلة الحرب الدفاعية

القسم الخامس مرحلة الحرب الدفاعية مقدمة هذه الغزوات التالية، التي وضعناها تحت عنوان: مرحلة الحرب الدفاعية، هي غزوات دفاعية فعلا، فكل منها- كما سترى- ردّ على مؤامرة أو عدوان بدأ به المشركون. ولذلك فهي إنما تمثل مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية في عصره صلّى الله عليه وسلم، وليست تعبيرا عن الحكم الذي استقر على أساسه الجهاد في الإسلام، إنها ليست إلا دورا من أدوار الدعوة التي تحدثنا عن قسم منها، كدور الدعوة سرّا ثم الدعوة المسالمة جهرا. وسنجد صورة المرحلة الأخيرة التي تشكّل مع ما قبلها جملة الحكم الإسلامي، في الأحداث التي تلت صلح الحديبية، ولقد أشار النّبي صلّى الله عليه وسلم إلى تلك المرحلة حينما قال لدى منصرفه عن غزوة بني قريظة، فيما رواه البخاري: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا» . وإليك الآن أحداث هذه المرحلة في عمر الدعوة الإسلامية الأولى، مكتفين منها بذكر ما يتعلق به حكم، أو يترتب عليه عظة أو درس، دون أن نعرّج على تفصيلات أو ذكر خلافات تطيل علينا البحث في غير ما طائل.

بدء القتال

بدء القتال أول غزوة غزاها رسول الله قلنا فيما مضى إن أصح ما دلت عليه الأحاديث والآثار أن بدء مشروعية القتال إنما كان بعد الهجرة، ولقد وضعت هذه المشروعية موضع التنفيذ في شهر صفر على رأس اثني عشر شهرا من هجرته صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة. فقد خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ ذاك لأول مرة بقصد الغزو. وكانت الغزوة إذ ذاك: غزوة ودان، يريد قريشا وبني حمزة، ولكنه عليه الصلاة والسلام كفي القتال فقد وادعه بنو حمزة، وعاد النّبي صلّى الله عليه وسلم وصحبه إلى المدينة دون قتال. غزوة بدر الكبرى وسببها أن النّبي صلّى الله عليه وسلم سمع بعير تجارية لقريش قادمة من الشام بإشراف أبي سفيان بن حرب، فندب المسلمين إليها، ليأخذوها لقاء ما تركوا من أموالهم في مكة، فخفّ بعضهم لذلك وتثاقل آخرون، إذ لم يكونوا يتصورون قتالا في ذلك. وتحسّس أبو سفيان الأمر وهو في طريقه إلى مكة، فبلغه عزم المسلمين على خروجهم لأخذ العير، فأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة ليخبر قريشا بالخبر ويستنفرهم للخروج محافظة على أموالهم. فبلغ الخبر قريشا، فتجهزوا سراعا، وخرج كلهم قاصدين الغزو، حتى إنه لم يتخلف من أشراف قريش أحد، وكانوا قريبا من ألف مقاتل. وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ليال مضت من شهر رمضان مع أصحابه وكانوا، فيما رواه ابن إسحاق، ثلاث مئة وأربعة عشر رجلا، وكانت إبلهم سبعين، يتعاقب على الواحدة منها اثنان أو ثلاثة من الصحابة، وهم لا يعلمون من أمر قريش وخروجهم شيئا، أما أبو سفيان فقد أتيح له أن يحرز عيره، إذ سلك طريق الساحل إلى مكة وجعل ماء بدر عن يساره، وأخذ يسرع حتى أنجى عيره وتجارته من الخطر. ثم إن النّبي صلّى الله عليه وسلم أتاه خبر مسير قريش إلى المسلمين، فاستشار من معه من أصحابه، فتكلم المهاجرون كلاما حسنا، وكان منهم المقداد بن عمرو، فقد قال: «يا رسول الله! امض لما أمرك الله فنحن معك» . ولكن النّبي صلّى الله عليه وسلم ظل ينظر إلى القوم ويقول لهم: «أشيروا عليّ أيها الناس» . فقال له سعد بن معاذ: «والله لكأنك تريدنا يا رسول الله» ، قال: «أجل» ، فقال

سعد: «لقد آمنّا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك» . فسرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقول سعد، ثم قال: «سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين.. والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» . ثم إن النّبي صلّى الله عليه وسلم أخذ يتحسس أخبار قريش وعددهم عن طريق العيون التي بثّها حتى علم المسلمون أنهم ما بين التسع مئة والألف، وأن فيهم عامة زعماء المشركين. وقد كان أرسل أبو سفيان إليهم أن يرجعوا إلى مكة، إذ إنه قد أحرز العير، ولكن أبا جهل أصرّ على المضيّ، وكان مما قال: «والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا» . ثم إنهم مضوا حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند أدنى ماء من مياه بدر. فقال الحباب بن المنذر: «يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم ولا أن نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الحرب والرأي والمكيدة، فقال: فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغوّر ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فنهض رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتحوّل إلى المكان والرأي اللذين أشار بهما الحباب رضي الله عنه» «1» . واقترح سعد بن معاذ أن يبنى عريش للنّبي صلّى الله عليه وسلم يكون بمأمن فيه رجاء أن يعود سالما إلى من تخلف من المسلمين في المدينة وأن لا ينكبوا بفقده، فوافق عليه الصلاة والسلام على ذلك. ثم أخذ يطمئن أصحابه بتأييد الله ونصره. حتى إنه كان يقول: «هذا مصرع فلان، ومصرع فلان (أي من المشركين) ، وهو يضع يده على الأرض هاهنا وهاهنا.. فما تزحزح أحدهم في مقتله عن موضع يده!» «2» . وراح رسول الله صلّى الله عليه وسلم يجأر إلى الله تعالى بالدعاء مساء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من شهر رمضان ويقول: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذّب رسولك. اللهم

_ (1) روى ابن هشام في سيرته حديث الحباب بن المنذر هذا عن إسحاق عن رجال من بني سلمة، فهي فيما رواه ابن هشام رواية عن قوم مجهولين. وذكر الحافظ بن حجر هذا الحديث في الإصابة فرواه عن ابن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير وغير واحد في قصة بدر. وهذا سند صحيح والحافظ بن حجر ثقة فيما ينقل ويروي. (راجع الإصابة: 1- 302) . (2) رواه مسلم: 6/ 170

العبر والعظات:

فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة» .. وظل يناشد الله متضرعا وخاشعا وهو يبسط كفيه إلى السماء حتى أشفق عليه أبو بكر رضي الله عنه، فالتزمه من ورائه وقال له: «يا رسول الله! أبشر فو الذي نفسي بيده لينجزن الله لك ما وعدك» . وأقبل المسلمون أيضا يستنصرون الله ويستغيثونه ويخلصون له في الضراعة «3» . وفي صبيحة يوم الجمعة لسنتين خلتا من الهجرة بدأ القتال بين المشركين والمسلمين، وأخذ النّبي صلّى الله عليه وسلم حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا وقال: «شاهت الوجوه» ، ثم نفحهم بها فلم يبق فيهم رجل إلا امتلأت عيناه منها، وأيّد الله المسلمين بالملائكة يقاتلون إلى جانبهم «4» ، وانحسر القتال عن نصر كبير للمسلمين، وقتل في تلك الموقعة سبعون من صناديد المشركين، وأسر سبعون، واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا. وألقيت جثث المشركين الذين صرعوا في هذه الغزوة- وفيهم عامة صناديدهم- في قليب بدر وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ضفة البئر فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: «يا فلان ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا، فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقا؟» ، فقال عمر: «يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» «5» . واستشار النّبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه في أمر الأسرى، فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يأخذ منهم فدية من المال تكون قوة للمسلمين ويتركهم عسى الله أن يهديهم، وأشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقتلهم لأنهم أئمة الكفر وصناديده، ولكن النّبي صلّى الله عليه وسلم مال إلى ما رآه أبو بكر من الرحمة بهم وافتدائهم بالمال، وحكم فيهم بذلك. غير أن آيات من القرآن نزلت عتابا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في ذلك، وتأييدا للرأي الذي رآه عمر من قتلهم، وهي من قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إلى قوله فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً «6» [الأنفال 8/ 67] . العبر والعظات: تنطوي غزوة بدر الكبرى على دروس وعظات جليلة، كما تتضمن معجزات باهرة تتعلق بتأييد الله ونصره للمؤمنين المتمسكين بمبادئ إيمانهم المخلصين في القيام بمسؤوليات دينهم.

_ (3) ابن هشام: 1/ 205، وزاد المعاد: 2/ 87، وحديث استغاثة الرسول بربّه في غزوة بدر متفق عليه. (4) حديث تأييد للمؤمنين بالملائكة في بدر متفق عليه. (5) البخاري: 5/ 8، وروى مسلم نحوه في 8/ 163 (6) صحيح مسلم: 5/ 157- 158

ونحن نجمل هذه الدلائل والدروس فيما يلي: 1- يدلنا السبب الأول لغزوة بدر أن الدافع الأصلي لخروج المسلمين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لم يكن القتال والحرب، وإنما كان الدافع قصد الاستيلاء على عير قريش القادمة من الشام تحت إشراف أبي سفيان، غير أن الله تبارك وتعالى أراد لعباده غنيمة أكبر، ونصرا أعظم، وعملا أشرف وأكثر انسجاما مع الغاية التي ينبغي أن يقصدها المسلم في حياته كلها، فأبعد عنهم العير التي كانوا يطلبونها، وأبدلهم بها نفيرا لم يكونوا يتوقعونه، وفي هذا دليل على أمرين: الأمر الأول: أن عامة ممتلكات الحربيين تعدّ بالنسبة للمسلمين أموالا غير محترمة، فلهم أن يستولوا عليها ويأخذوا ما امتدت إليه أيديهم منها، وما وقع تحت يدهم من ذلك اعتبر ملكا لهم. وهو حكم متفق عليه عند عامة الفقهاء، على أن للمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأبنائهم في مكة عذرا آخر في القصد إلى أخذ عير قريش والاستيلاء عليها، وهو محاولة التعويض- أو شيء من التعويض- عن ممتلكاتهم التي بقيت في مكة واستولى عليها المشركون من ورائهم. الأمر الثاني: أنه على الرغم من مشروعية هذا القصد، فإن الله تعالى أراد لعباده المؤمنين قصدا أرفع من ذلك وأليق بوظيفتهم التي خلقوا من أجلها، ألا وهي الدعوة إلى دين الله والجهاد في سبيل ذلك، والتضحية بالروح والمال في سبيل إعلاء كلمة الله، ومن هنا كان النصر العظيم حليف أبي سفيان في النجاة بتجارته، بمقدار ما كانت الهزيمة العظيمة حليف قريش في ميدان الجهاد بينهم وبين المسلمين. وإن هذه التربية الإلهية لنفوس المسلمين لتتجلى بأبرز صورها في قوله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ [الأنفال 8/ 7] . 2- وعندما نتأمل كيف يجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى أصحابه ليشاورهم في الأمر الذي فوجئوا به بعد أن أفلت منهم العير وطلع عليهم النفير العظيم المدجج بالسلاح الكامل، نقف على دلالتين شرعيتين لكل منهما أهمية بالغة: الدلالة الأولى: التزامه صلّى الله عليه وسلم بمبدأ التشاور مع أصحابه، وإذا استعرضنا حياته صلّى الله عليه وسلم، وجدنا أنه كان يلتزم هذا المبدأ في كل أمر لا نص فيه من كلام الله تعالى، مما له علاقة بالتدبير والسياسة الشرعية، ومن أجل هذا أجمع المسلمون على أن الشورى في كل ما لم يثبت فيه نص ملزم من كتاب أو سنّة، أساس تشريعي دائم لا يجوز إهماله. أما ما ثبت فيه نص من الكتاب أو حديث من السّنة أبرم به الرسول صلّى الله عليه وسلم حكمه، فلا شأن للشورى فيه ولا ينبغي أن يقضى عليه بأيّ سلطان.

الدلالة الثانية: خضوع حالات الغزو والمعاهدات والصلح بين المسلمين وغيرهم لما يسمى بالسياسة الشرعية أو ما يسميه بعضهم ب (حكم الإمامة) . وبيان ذلك أن مشروعية فرض الجهاد من حيث الأصل، حكم تبليغي لا يخضع لأي نسخ أو تبديل، كما أن أصل مشروعية الصلح والمعاهدات ثابت لا يجوز إبطاله أو اجتثاثه من أحكام الشريعة الإسلامية. غير أن جزئيات الصور التطبيقية المختلفة لذلك، تخضع لظروف الزمان والمكان وحالة المسلمين وحالة أعدائهم، والميزان المحكم في ذلك إنما هو بصيرة الإمام المتدين العادل وسياسة الحاكم المتبحر في أحكام الدين مع إخلاص في الدين وتجرد في القصد، إلى جانب اعتماد دائم على مشاورة المسلمين والاستفادة من خبراتهم وآرائهم المختلفة. فإذا رأى الحاكم أنّ من الخير للمسلمين أن لا يجابهوا أعداءهم بالحرب والقوة، وتثبّت من صلاحية رأيه بالتشاور والمذاكرة في ذلك، فله أن يجنح إلى سلم معهم لا يصادم نصّا من النصوص الشرعية الثابتة، ريثما يأتي الظرف المناسب والملائم للقتال والجهاد. وله أن يحمل رعيته على القتال والدفع إذا ما رأى المصلحة والسياسة الشرعية السليمة في ذلك الجانب. وهذا ما اتفق عليه عامة الفقهاء ودلّت عليه مشاهد كثيرة من سيرته صلّى الله عليه وسلم اللهم إلا إذا داهم العدو المسلمين في عقر دارهم وبلادهم، فإن عليهم دفعه بالقوة مهما كانت الوسيلة والظروف، ويعمّ الواجب في ذلك المسلمين والمسلمات كافة بشرط الحاجة وتوفر مقومات التكليف. ثم إن الصحيح الذي اتفق عليه عامة الفقهاء أن هذه الشورى مشروعة ولكنها ليست بملزمة، أي إن على الحاكم المسلم أن يستنير بها في بحثه ورأيه، ولكن ليس عليه أن يأخذ بآراء الأكثرية مثلا لو خالفوه في رأيه.. ويقول القرطبي في هذا: «المستشير ينظر في اختلاف الآراء، وينظر أقربها إلى الكتاب والسّنة إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منها عزم عليه، وأنفذه متوكلا عليه» «7» . 3- ولا شك أن الباحث ليتساءل: لماذا لم يقع جواب أبي بكر وعمر والمقداد موقعا كافيا من نفس الرسول صلّى الله عليه وسلم، وظل ينظر في وجوه القوم، حتى إذا تكلم سعد بن معاذ، اطمأن وطابت نفسه عند ذاك؟ والجواب، أن النّبي عليه الصلاة والسلام إنما كان يريد أن يعرف رأي الأنصار أنفسهم في ذلك الأمر: ترى هل سيصدرون في آرائهم وأحكامهم عن المعاهدة التي تمت بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام من حيث إنها معاهدة خاصة تستوجب الالتزام بها، وإذن فليس من حقه أن يجبرهم على القتال معه والدفاع عنه إلا في داخل المدينة كما تنص على ذلك المعاهدة. أم سيصدرون

_ (7) الجامع لأحكام القرآن: 4/ 252

عن مشاعرهم الإسلامية ومعاهدتهم الكبرى مع الله تعالى؟ إذن فمن حق النّبي صلّى الله عليه وسلم أن يكون الأمين فيهم على هذه المعاهدة ومن واجبهم أن يبذلوا حقوق هذه المعاهدة ويقوموا بمسؤولياتها كاملة. ولدى التأمل فيما أجاب به سعد بن معاذ، نعلم أن المبايعة التي ارتبط بها الأنصار مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة، لم تكن إلا مبايعة مع الله تعالى، ولم يكونوا يتصورون وهم يلتزمون الدفاع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حينما يهاجر إليهم إلا دفاعا عن دين الله تعالى وشريعته. فليست القضية مسألة نصوص معينة اتفقوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليها فهم لا يريدون أن يلتزموا بما وراءها، وإنما المسألة أنهم إنما وقّعوا بذلك تحت صك عظيم تضمن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ.. [التوبة 9/ 111] . ولذلك كان جواب سعد رضي الله عنه: «لقد آمنّا بك وصدّقناك وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق.. فامض لما أردت فنحن معك» . أي فنحن نسير معك وفق معاهدة أعظم من تلك التي اتفقنا عليها معا، في بيعة العقبة. 4- يجوز للإمام أن يستعين في الجهاد وغيره بالعيون والمراقبين، يبثهم بين الأعداء ليكتشف المسلمون خططهم وأحوالهم وليتبيّنوا ما هم عليه من قوة في العدة والعدد. ويجوز اتخاذ مختلف الوسائل لذلك، بشرط أن لا تنطوي الوسيلة على الإضرار بمصلحة هي أهم من مصلحة الاطلاع على حال العدو، وربما استلزمت الوسيلة تكتما أو نوعا من المخادعة أو التحايل. وكل ذلك مشروع وحسن من حيث إنه واسطة لا بد منها لمصلحة المسلمين وحفظهم. وقد جاء في كتب السيرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم لما نزل قريبا من بدر، ركب هو ورجل من أصحابه حتى وقف على شيخ من العرب فسأله النّبي صلّى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم. فقال الشيخ: «لا أخبر كما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إذا أخبرتنا أخبرناك، فقال: أذاك بذاك؟ قال: نعم. فأخبره الشيخ بما يعلم من أمر المشركين، وبما قد سمعه من أمر النّبي وأصحابه، حتى إذا فرغ من كلامه قال: فممن أنتما؟ فقال النّبي صلّى الله عليه وسلم: نحن من ماء، ثم انصرف عنه. فأخذ الشيخ يقول: ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟» . 5- (أقسام تصرفاته صلّى الله عليه وسلم) : ويدلنا الحديث الذي جرى بين رسول الله صلّى الله عليه وسلم والحباب بن المنذر في شأن المكان الذي نزل فيه (وهو حديث صحيح الإسناد كما رأيت) أن تصرفات النّبي صلّى الله عليه وسلم ليست كلها من نوع التشريع، بل هو في كثير من الأحيان يتصرف من حيث إنه بشر من الناس يفكر ويدبر كما يفكر غيره، ولا ريب أننا لسنا ملزمين باتباعه في مثل هذه

التصرفات، فمن ذلك نزوله عليه الصلاة والسلام في المكان الذي اختاره في هذه الغزوة. فقد وجدنا كيف أن الحباب أشار بالتحول عنه إلى غيره ووافقه عليه الصلاة والسلام في ذلك، وذلك بعد أن استوثق الحباب رضي الله عنه أن اختيار النّبي صلّى الله عليه وسلم لذلك المكان ليس بوحي من عند الله. ومن ذلك كثير من تصرفاته التي تدخل تحت السياسة الشرعية والتي يتصرف فيها النّبي صلّى الله عليه وسلم من حيث إنه إمام ورئيس دولة لا من حيث إنه رسول يبلغ عن الله تعالى، مثل كثير من عطاءاته وتدابيره العسكرية. وللفقهاء تفصيل واسع في هذا البحث، لا مجال لعرضه في هذا المقام. 6- (أهمية التضرع لله وشدة الاستعانة به) : لقد رأينا أن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان يطمئن أصحابه بأن النصر لهم، حتى إنه كان يشير إلى أماكن متفرقة في الأرض ويقول: «هذا مصرع فلان» ، ولقد وقع الأمر كما أخبر عليه الصلاة والسلام، فما تزحزح أحد في مقتله عن موضع يده كما ورد في الحديث الصحيح. ومع ذلك فقد رأيناه يقف طوال ليلة الجمعة في العريش الذي أقيم له، يجأر إلى الله تعالى داعيا ومتضرعا، باسطا كفيه إلى السماء يناشد الله عزّ وجلّ أن يؤتيه نصره الذي وعد حتى سقط عنه رداؤه وأشفق عليه أبو بكر، والتزمه قائلا: «كفى يا رسول الله، إن الله منجز لك ما وعد» . فلماذا كل هذه الضراعة ما دام أنه مطمئن إلى درجة أنه قال: «لكأني أنظر إلى مصارع القوم» ، وأنه حدّد مصارع بعضهم على الأرض؟ والجواب؛ أن اطمئنان النّبي صلّى الله عليه وسلم وإيمانه بالنصر، إنما كان تصديقا منه للوعد الذي وعد الله به رسوله، ولا شك أن الله لا يخلف الميعاد، وربما أوحي إليه بخبر النصر في تلك الموقعة. أما الاستغراق في التضرع والدعاء وبسط الكف إلى السماء، فتلك هي وظيفة العبودية التي خلق من أجلها الإنسان، وذلك هو ثمن النصر في كل حال. فما النصر- مهما توفرت الوسائل والأسباب- إلا من عند الله وبتوفيقه، والله عزّ وجلّ لا يريد منّا إلا أن نكون عبيدا له بالطبع والاختيار، وما تقرّب متقرّب إلى الله بصفة أعظم من صفة العبودية، وما استأهل إنسان بواسطة من الوسائط استجابة دعاء من الله تعالى، كما استأهل ذلك بواسطة ذلّ العبودية يتزيّى ويتبرقع به بين يدي الله تعالى. وما أنواع المصائب والمحن المختلفة التي تهدد الإنسان في هذه الحياة أو تنزل به، إلا أسباب وعوامل تنبهه لعبوديته، وتصرف آماله وفكره إلى عظمة الله سبحانه وتعالى وباهر قدرته، كي يفرّ إليه سبحانه وتعالى ويبسط أمامه ضعفه وعبوديته، ويستجير به من كل فتنة وبلاء، وإذا استيقظ الإنسان في حياته لهذه الحقيقة وانصبغ سلوكه بها، فقد وصل إلى الحدّ الذي أمر الله عباده جميعا أن يقفوا عنده وينتهوا إليه.

فهذه العبودية التي اتخذت مظهرها الرائع في طول دعاء النّبي صلّى الله عليه وسلم وشدة ضراعته ومناشدته لربّه أن يؤتيه النصر، هي الثمن الذي استحق به ذلك التأييد الإلهي العظيم في تلك المعركة. وقد نصّت على ذلك الآية الكريمة إذ تقول: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال 8/ 9] . ويقينا منه صلّى الله عليه وسلم بهذه العبودية لله عزّ وجلّ، كان واثقا بالنصر مطمئنا إلى أن العاقبة للمسلمين. ثم قارن مظهر العبودية التي تجلت في موقفه صلّى الله عليه وسلم ونتائج ذلك، مع مظهر ذلك الطغيان والتّجبر الذي تجلى في موقف أبي جهل حينما قال: «لن نرجع عن بدر أبدا حتى ننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرتنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا» ، وتأمل في نتائج ذلك التجبر والجبروت! .. لقد كانت نتيجة العبودية والخضوع لله تعالى، عزة قعساء ومجدا شامخا خضع لهما جبين الدنيا بأسرها، ولقد كانت نتيجة الطغيان والجبروت الزائفين قبرا من الضيعة والهوان أقيم لأربابهما حيث كانوا سيتساقون فيه الخمر وتعزف عليهم القيان. وتلك هي سنة الله في الكون كلما تلاقت عبودية لله خالصة مع جبروت وطغيان زائفين. 7- (الإمداد بالملائكة في غزوة بدر) : انطوت بدر على معجزة من أعظم معجزات التأييد والنصر للمسلمين الصادقين. فقد أمدّ الله المسلمين فيها بملائكة يقاتلون معهم. وهذه حقيقة ثبتت بدلالة صريحة من الكتاب والسّنة الصحيحة. روى ابن هشام أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلم خفق خفقة في العريش ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على النقع» ورواه البخاري أيضا بلفظ قريب منه «8» . ومن أوضح الأدلة القاطعة على أن التعبير بالملائكة في بيان الله عزّ وجلّ ليس المقصود به ما يتوهمه بعضهم من المدد الروحي أو القوة المعنوية أو نحو ذلك- أقول من أوضح الأدلة القاطعة على بطلان هذا الوهم- ضبط البيان الإلهي الملائكة بعدد محدود وهو الألف، في قوله عزّ وجلّ: فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال 8/ 9] . إذ العدد من مستلزمات الكم المنفصل في الأشياء، ولا يكون ذلك إلّا في الأشياء المادية المحسوسة. ومن هنا نعلم أن تقييد البيان الإلهي الملائكة بعدد معين ينطوي على حكم باهرة من أجلّها قطع السبيل على من يريد أن يتناول الآية، ويفسر الملائكة بالمعنى الذي يروق له وهو مجرد الدعم المعنوي.

_ (8) ولفظه في البخاري، أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: هذا جبريل آخذ بزمام فرسه عليه أداة حرب. راجع صحيح البخاري: 5/ 14

ثم إن نزول الملائكة للقتال مع المسلمين- إنما هو مجرد تطمين لقلوبهم، واستجابة حسية لشدة استغاثتهم اقتضاها أنهم يقفون مع أول تجربة قتال في سبيل الله، لأناس يبلغون ثلاثة أضعافهم في العدة والعدد. وإلا فإن النصر من عند الله وحده، وليس للملائكة أي تأثير ذاتي في ذلك. ومن أجل بيان هذه الحقيقة قال الله تعالى معلّلا نزول الملائكة: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال 8/ 10] . 8- (الحياة البرزخية للأموات) : في وقوف رسول الله صلّى الله عليه وسلم على فم القليب ينادي قتلى المشركين ويكلمهم بعدما ماتوا، وفيما قاله لعمر رضي الله عنه إذ ذاك، دليل واضح على أن للميت حياة روحية خاصة به، لا ندري حقيقتها وكيفيتها، وأن أرواح الموتى تظل حائمة حول أجسادهم، ومن هنا يتصور معنى عذاب القبر ونعيمه، غير أن ذلك كله إنما يخضع لموازين لا تنضبط بعقولنا وإدراكاتنا الدنيوية هذه، إذ هو مما يسمى بعالم الملكوت البعيد عن مشاهداتنا وتجاربنا العقلية والمادية. فطريق الإيمان بها إنما هو التسليم لها بعد أن تصلنا بطريق ثابت صحيح. 9- ثم إن مسألة الأسرى، بما تضمنته من مشاورة الرسول صلّى الله عليه وسلم في شأنهم، وما أعقبها من حكم افتدائهم بالمال ثم نزول آيات تعتب على النّبي صلّى الله عليه وسلم وعلى أصحابه اتخاذ ذلك الحكم، نقول إن لهذه المسألة دلالات هامة: أولا: (الأسرى واجتهاد الرسول صلّى الله عليه وسلم) : دلّتنا هذه الواقعة على أن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد، والذين ذهبوا إلى هذا- وهم جمهور علماء الأصول- استدلوا على ذلك بمسألة أسرى بدر. وإذا صحّ أن يجتهد، صحّ منه بناء على ذلك أن يخطئ في الاجتهاد ويصيب. غير أن الخطأ لا يستمر، بل لا بدّ أن تنزل آية من القرآن تصحح له اجتهاده، فإذا لم تنزل آية فهو دليل على أن اجتهاده صلّى الله عليه وسلم قد وقع على ما هو الحق في علم الله تعالى. قال شارح اللمع: «وقد كان الخطأ عليه جائزا، إلا أنه لا يقرّ عليه، بل ينبّه عليه سريعا» ، وقال أبو إسحاق الشيرازي: «ومن أصحابنا من قال: ما كان يجوز عليه الخطأ، وهذا خطأ، لقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ، لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فيدل على أنه أخطأ» «9» ، [التوبة 9/ 43] . وقال الأسنوي في شرحه على المنهاج: «واختار الآمدي وابن الحاجب أنه يجوز عليه الخطأ بشرط أن لا يقرّ عليه. ونقله الآمدي عن أكثر أصحابنا والحنابلة وأصحاب الحديث» «10» . وقال الإمام البيضاوي في تفسير قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى

_ (9) انظر شرح اللمع لأبي إسحاق الشيرازي: 824 (10) الأسنوي على المنهاج: 4/ 537

[الأنفال 8/ 67] الآية.. «والآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون، وأنه قد يكون خطأ ولكن لا يقرّون عليه» . وقد يستعظم البعض نسبة الخطأ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، متوهمين أن الخطأ هو الإثم أو الانحراف أو نحو ذلك مما يتنافى مع العصمة الثابتة للأنبياء. غير أن المقصود بالخطأ هنا عدم مطابقة اجتهاده صلّى الله عليه وسلم لما هو الكمال الثابت في علم الله عزّ وجلّ. وهو لا يتنافى مع عصمته صلّى الله عليه وسلم، بل هو مثاب من الله تعالى عليه. والناس مكلفون باتباعه في ذلك ما لم تتنزل عليه آية تصرفه إلى حكم آخر شأنه شأن الحاكم إذا اجتهد. وهكذا فإن اجتهاده صلّى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه وحي يتعلق به، له طرف ناظر إلى الناس، وطرف آخر يتعلق بعلم الله تعالى. فأما اجتهاده بالنسبة للطرف الأول، فلا يوصف بالخطأ البتة، لأن الناس مكلفون باتباعه على كل حال كاتباعهم لسائر المجتهدين من بعده، إذ لا سبيل لهم للاطلاع على الخفي الثابت في علم الله عزّ وجلّ. وأما اجتهاده بالنسبة للطرف الثاني أي المتعلق بعلم الله عزّ وجلّ، فخاضع لوصفي الصحة والخطأ، إذ هو قابل لموافقة ما هو الكمال الثابت في علمه عزّ وجلّ، ولعدم موافقته له. والكمال المطلق إنما هو لله عزّ وجلّ. ولقد كان عليه الصلاة والسلام يرقى في الكمالات متجاوزا المراحل التي كانت تبدو له نقصا وتقصيرا بالنسبة لما ارتقى إليه من بعد، وكان يستغفر الله من تلبسه بها كاستغفارنا من الذنوب، ويقول: «إنه ليغان على صدري فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة» . ثانيا: كما أن غزوة بدر هي أول تجربة للمسلمين في التضحية والقتال في سبيل الله تعالى وهم على ما كانوا عليه من الضعف والقلة، فكذلك هي أول تجربة لهم في رؤية الغنائم والأموال أمامهم في أعقاب المعركة، وهم على ما كانوا عليه من الفقر والحاجة. وقد عالجت الحكمة الإلهية تجربة القتال مع الضعف بأن ثبّت الله قلوبهم وطمأن نفوسهم- كما ذكرنا- بالخوارق الدالة على النصر. ثم عالجت الحكمة الإلهية تجربة رؤية الغنائم والأموال مع الحاجة والفقر، بوسائل تربوية دقيقة، جاءت في وقتها المناسب، وقد تجلى أثر هذه التجربة في مشهدين، على أعقاب هذه الغزوة. أما المشهد الأول فحينما انهزم المشركون وتركوا وراءهم أموالهم المختلفة، فقد تسابق بعض المسلمين إليها واختلفوا بعضهم مع بعض في كيفية استحقاقهم لها وكادوا يشتجرون على ذلك، ولم يكن قد نزل بعد حكم توزيع الغنائم بين المقاتلين فراحوا يسألون النّبي عليه الصلاة والسلام وينهون إليه خصومتهم في الأمر. وعندئذ نزل قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال 8/ 1- 2] .

فأنت تدري أن الآيتين لا تنطويان على جواب سؤالهم، بل فيهما صرف لهم عن الموضوع كله، إذ هي تقول: إن الأنفال ليست لأحد منهم، بل هي لله ورسوله، أما هم فعليهم إصلاح هذا الشقاق الذي وقع فيما بينهم وإطاعة الله في أوامره، واجتناب نواهيبه، فتلك هي وظيفتهم، أما المال والدنيا، فليعتمدوا فيهما على الله تعالى. فلما ثاب هؤلاء المسلمون إلى هدي هاتين الآيتين وصرفوا النظر عما اشتجروا من أجله نزلت آيات أخرى تقرر كيفية تقسيم الغنائم بين المقاتلين على اختلافهم. وهذه من أبرع الوسائل التربوية الدقيقة كما ترى. وأما المشهد الثاني، فهو عندما تشاور النّبي صلّى الله عليه وسلم مع أصحابه في شأن الأسرى، فقد سكنت نفوسهم إلى افتدائهم بالمال. وقد كانت الملاحظة في ذلك هي الجمع بين الرحمة والرفق بالأسرى، عسى أن يرعووا ويؤمنوا بالله، والتعويض عما فات المهاجرين من أموالهم التي تركوها في مكة عسى أن يقع موقعا لديهم ويساعدهم على إصلاح شؤون دنياهم. وهذا الرأي الذي سكنت إليه نفس رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدل على مدى شفقته على أصحابه. وهذه الشفقة هي التي جعلت يده صلّى الله عليه وسلم ترتفع بالدعاء للمهاجرين لما رآهم لدى خروجهم إلى بدر، وإن علائم الحاجة والفقر بادية عليهم قائلا: «اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، وإنهم جياع فأشبعهم» «11» . ولكن الحكمة الإلهية لم ترد للمسلمين أن يجعلوا من النظرة إلى المال ميزانا أو جزء ميزان للحكم في قضاياهم الكبرى التي قامت على أساس النظرة الدينية وحدها مهما كانت الحال والظروف، إذ يوشك، لو تركوا لهذه النظرة وهم أمام أول تجربة من هذا النوع، أن يجري ذلك مجرى القاعدة المطردة فتستولي النظرة المادية على مثل هذه الأحكام التي ينبغي أن تظل متسامية في علياء لا يطولها شيء من أغراض الدنيا على اختلافها، ومن الصعب لمن سار وراء الدنيا أشواطا واستطاب مذاقها أن يرتد عنها ويفطم نفسه عن مذاقها. روى مسلم عن عمر بن الخطاب أنه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن قضى بافتداء الأسرى فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان. فقلت يا رسول الله: «أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة» ، (شجرة قريبة من النّبي صلّى الله عليه وسلم) ، وأنزل الله عزّ وجلّ: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ- إلى قوله: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً «12» [الأنفال 8/ 67- 69] .

_ (11) أبو داود. عن جمع الفوائد: 2/ 90 (12) مسلم: 5/ 158

بنو قينقاع وأول خيانة يهودية للمسلمين

بنو قينقاع وأول خيانة يهودية للمسلمين قال ابن إسحاق: «كان من أمر بني قينقاع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جمعهم بسوق قينقاع ثم قال: يا معشر اليهود، احذروا من الله عزّ وجلّ مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وفي عهد الله إليكم. قالوا: يا محمد إنك ترى أنا كقومك؟! لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت فرصة، إنا والله لئن حاربتنا لتعلمن أنا نحن الناس» . وروى ابن هشام عن عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة عن أبي عوانة: «أن امرأة من العرب قدمت بجلب «13» لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها، فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا منها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، وشدّت اليهود على المسلم فقتلوه فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على يهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع. فكان هؤلاء أول يهود نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم» «14» ، وكان ذلك، فيما رواه الطبري والواقدي في منتصف شوال من السنة الثانية للهجرة «15» . فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم مدة من الزمن، حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول فقال: «يا محمد، أحسن في مواليّ! .. فلم يلتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكرر ثانية فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأدخل يده في جيب درعه صلّى الله عليه وسلم فقال له: أرسلني، وغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال له: وبحك أرسلني، قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ: أربع مئة حاسر وثلاث مئة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: هم لك، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات الشام، وهلك أكثرهم فيها» . وكان لعبادة بن الصامت من المحالفة مع هؤلاء اليهود مثل الذي لعبد الله بن أبي، فمشى إلى

_ (13) هو ما يجلب إلى السوق للبيع. (14) سيرة ابن هشام: 2/ 47 (15) الطبري: 2/ 480، وطبقات ابن سعد: 3/ 67

العبر والعظات:

رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائلا: «إنني أتولى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم» . ففيهما نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ، يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ [المائدة 5/ 51- 52] . العبر والعظات: هذه الواقعة تدل في جملتها، على مدى ما ركب في اليهود من طبيعة الغدر والخيانة، فلا تروق لهم الحياة مع من يجاورونهم أو يخالطونهم إلا بأن يبيتوا لهم شرّا أو يحيكوا لهم غدرا، وهم على أتمّ الاستعداد لأن يخلقوا جميع الوسائل والأسباب لذلك. ولدى دراستنا التفصيلية لهذه الحادثة نخرج بدروس ومبادئ نجملها فيما يلي: أولا: (حجاب المرأة المسلمة) ، لقد رأينا أن مصدر الحادثة هو إرادة اليهود المرأة العربية المسلمة على كشف وجهها، وذلك حينما دخلت في سوقهم لأمر يخصها.. ولا تنافي بين هذا السبب الذي رواه ابن هشام والسبب الآخر الذي رواه بقية رواة السيرة، من حقدهم على المسلمين عقب انتصارهم في غزوة بدر وقولهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنا والله لئن حاربتنا لتعلمن أنّا نحن الناس» ، فالأغلب أن السببين واقعان معا وكل منهما يتمم الآخر، إذ من البعيد أن ينبذ إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهدهم لمجرد ظهور بوادر الضغينة على وجوههم وفي كلماتهم، بل لابد أنهم قد تصرفوا مع ذلك تصرفا أساؤوا فيه إلى المسلمين على نحو ما رواه ابن هشام. وهو يدل على أن الحجاب الذي شرعه الإسلام للمرأة سابغ للوجه أيضا، وإلا لم يكن هنالك أي حاجة إلى أن تسير هذه المرأة في الطريق ساترة وجهها، ولو لم يكن سترها لوجهها تحقيقا لحكم ديني يأمرها بذلك، لما وجد اليهود ما يدفعهم إلى ما صنعوا، لأنهم إنما أرادوا من ذلك مغايظة شعورها الديني الذي كان يبدو جليا في مظهرها. وقد يقال: إن في هذه القصة التي تفرد بروايتها ابن هشام بعض اللين، فلا تقوى على الدلالة على مثل هذا الحكم، إلا أنه يشهد لها أحاديث كثيرة أخرى ثابتة لا مجال للطعن فيها. فمن ذلك ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، في باب ما يلبس المحرم من الثياب. قالت: «لا تلثّم- أي المرأة- ولا تتبرقع ولا تلبس ثوبا بورس ولا زعفران» . ومثله ما رواه مالك في الموطأ عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: «لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس

القفازين» «16» . فما معنى نهي المرأة عن أن تتبرقع أو تنتقب أثناء الإحرام بالحج، ولماذا كان هذا النهي خاصا بالمرأة دون الرجل؟ لا شك أن النهي فرع عما كانت تفعله المرأة المسلمة إذ ذاك من الانتقاب وإسدال البرقع على وجهها، فاقتضى الحكم استثناء ذلك في الحج. ومنه ما رواه مسلم وغيره من حديث فاطمة بنت قيس أنها لما طلقها زوجها، فبت طلاقها، أمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تعتدّ في بيت أم شريك، ثم أرسل إليها أن بيت أم شريك يغشاه أصحابي (أي أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلم) ، فاعتدي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم، فإنه ضرير البصر وإنك إذا وضعت خمارك لم يرك. هذا من حيث ما ورد من الأدلة على وجوب ستر المرأة وجهها وبقية جسمها عن الرجال الأجانب. أما من حيث الدليل على حرمة نظر الرجل إلى ذلك منها، فقد وردت بذلك أحاديث كثيرة أيضا. فمن ذلك ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن بريرة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة» ، ومن ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس أن النّبي صلّى الله عليه وسلم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه- وفيه قصة المرأة الخثعمية الوضيئة- فطفق الفضل ينظر إليها، فأخذ النّبي صلّى الله عليه وسلم بذقن الفضل فحوّل وجهه عن النظر إليها. فأنت ترى أنه قد اجتمع في هذه الأحاديث نهيان: نهي المرأة عن كشف وجهها أو شيء مما سواه أمام الأجانب، ونهي الرجل عن النظر إلى ذلك منها. وفي ذلك دلالة وافية متكاملة على أن وجه المرأة عورة في حق الأجانب عنها إلا في حالات خاصة مستثناة كضرورة التطبب والتعلم والشهادة ونحو ذلك. على أن من أئمة المذاهب من ذهب إلى أن الوجه والكفين من المرأة ليسا بعورة، فلا يجب سترهما وحملوا ما سبق من الأحاديث الدالة على خلاف ذلك على الندب دون الوجوب، غير أن الجميع اتفقوا على أنه لا يجوز النظر إلى شيء من جسم المرأة بشهوة، وعلى أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها إذا عمّ الفسق وأصبح أكثر الذين ينظرون إليها فسّاقا يتأملونها بنظرات محرمة. وإذا تأملت في حال المسلمين اليوم وما عمّ فيه من الفسق والفجور وسوء التربية والأخلاق، علمت أنه لا مجال للقول بجواز كشف المرأة وجهها والحالة هذه. إن هذا المنحدر الخطير الذي يسير فيه المجتمع الإسلامي اليوم يقتضي- لضمان السلامة والحفظ- مزيدا من الحذر في السير ومزيدا من

_ (16) البخاري: 3/ 146، والموطأ: 1/ 328

التشدد في أسباب الحيطة ريثما يتجاوز المسلمون مرحلة الخطر ويصبحون قادرين على امتلاك أمرهم وضبط أزمتهم بأيديهم. وبعبارة موجزة نقول: إن من شأن اتباع الرخص والتسهيلات الدينية، أن تصبح منزلقا، تحت أقدام أصحابها، إلى التحلل العام عن أصل الواجبات، ما لم يوجد تيار اجتماعي ديني سليم يضبط تلك الرخص ضمن منهج إسلامي عام ويحفظها عن أن تشتط وتتجاوز الحدود المشروعة. ومن عجيب أمر بعض الناس أنهم، يتعلقون بهذا الذي يسمونه: تبدل الأحكام بتبدل الأزمان في مجال التخفيف والتسهيل والسير مع مقتضيات التحلل من الواجبات فقط، ولكنهم لا يتذكرون هذه القاعدة إطلاقا عندما يقتضيهم الأمر عكس ذلك، وأنا فلست أجد مثالا تتجلى فيه ضرورة تبدل الأحكام بتبدل الأزمان مثل ضرورة القول بوجوب ستر المرأة وجهها نظرا لمقتضيات الزمن الذي نحن فيه، ونظرا لما تكاثر فيه من المنزلقات التي تستوجب مزيدا من الحذر في السير وتبصر مواقع الأقدام ريثما يهيئ الله للمسلمين مجتمعهم الإسلامي المنشود. ثانيا: هذه الحادثة التي صدرت من يهود قينقاع، تدل على حقد دفين في صدورهم على المسلمين. ولكن لماذا تأخرت دلائل هذا الحقد في الظهور والانكشاف خلال ثلاث سنين من الزمن استطاع اليهود خلالها أن يكظموا حقدهم ويبطنوا كيدهم؟ والجواب: أن الذي ألهب مشاعرهم وأثار الحقد الدفين في نفوسهم إنما هو ما وجدوه من انتصار المسلمين في بدر، وهو أمر لم يكونوا يتوقعونه بحال، فضاقت صدورهم بما احتوته من الغيظ والأحقاد ولم يجدوا إلا أن ينفسوا عنها بمثل هذا الذي أقدموا عليه، بل إن حقدهم على المسلمين تجلّى صراحة فيما رويناه من كلامهم وتعليقاتهم على انتصار المسلمين في غزوة بدر: روى ابن جرير أن مالك بن الصيف- أحد يهود المدينة- قال لبعض المسلمين عند رجوعهم من بدر: «أغرّكم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال؟ أما لو أسررنا نحن العزيمة أن نستجمع عليكم، لم يكن لكم يد على قتالنا» ... ولو أن اليهود احترموا ما بينهم وبين المسلمين من عهود ومواثيق، لما وجدوا من المسلمين من يسيء إليهم بكلمة أو يزعجهم في مسكن أو مقام، ولكنهم أبوا إلا شرّا، فكان مردّ الشرّ على نفوسهم. ثالثا- (معاملة المنافق في الإسلام) : - هذه الحادثة وما أعقبها من دفاع عبد الله بن أبي عن اليهود بالشكل الذي رأيناه، لا تكاد تخفي من أمر نفاق هذا الرجل شيئا. فقد اتضح من موقفه ذاك أنه كان يصطنع الإسلام نفاقا، وأنه في أعماق قلبه إنما يضمر شرّا بالإسلام وأهله.

غير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عامله مع ذلك كله على أنه مسلم، فلم يخفر ذمته، ولم يعامله معاملة المشرك أو المرتد أو الكاذب في إسلامه، وأجابه إلى ما أصرّ وألحّ في طلبه. وذلك يدل- كما أجمع العلماء- على أن المنافق إنما يعامل في الدنيا من قبل المسلمين على أنه مسلم، يعامل كذلك، وإن كان نفاقه مقطوعا به. وسبب ذلك أن الأحكام الإسلامية في مجموعها تتكون من جانبين: جانب يطبق في الدنيا ويكلف المسلمون بتطبيقه على مجتمعاتهم وفيما بينهم، ويشرف على ذلك الخليفة أو رئيس الدولة، وجانب آخر يطبق في الآخرة ويكون أمره عائدا إلى الله تعالى. فأما الجانب الأول، فيقوم أمره على الأدلة القضائية المادية والمحسوسة بحيث لا يترتب شيء من نتائج الأحكام إلا بموجبها، فليس للأدلة الوجدانية والقرائن الاستنتاجية أي أثر في هذا الجانب. وأما الجانب الثاني، فيقوم على ما استقرّ في القلوب واستكنّ في الصدور ومردّ القضاء في ذلك إلى الله تعالى. ولبيان هذه القاعدة يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن عمر رضي الله عنه: «إنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم» . ويقول فيما رواه الشيخان: «إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئا، فإنما هو قطعة من النار» . والحكمة من مشروعية هذه القاعدة، أن تظلّ العدالة بين الناس في مأمن من التلاعب بها والنيل منها إذ ربما اتّخذ بعض الحكام من حجية الأدلة الوجدانية والاستنتاجية وحدها ذريعة إلى الإضرار ببعض الناس بدون حق. وتطبيقا لهذه القاعدة الشرعية، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الرغم من اطّلاعه على كثير من أحوال المنافقين وما تسرّه أفئدتهم، بوحي من الله تعالى، يعاملهم معاملة المسلمين دون أي تفريق في الأحكام الشرعية العامة. وهذا لا ينافي أن يكون المسلمون في حذر دائم من المنافقين، وأن يكونوا في يقظة تامة أمام تصرفاتهم، فذلك من الواجبات البدهية على المسلمين في كل ظرف ووقت. رابعا: (ولاية غير المسلمين) : وإذا تأملنا في النتيجة التشريعية لهذه الحادثة، وهي الآيات القرآنية التي نزلت تعليقا عليها، علمنا أنه لا يجوز لأي مسلم أن يتخذ من غير المسلم وليّا له، أي صاحبا تشيع بينهما مسؤولية الولاية والتعاون. وهذا من الأحكام الإسلامية التي لم يقع الخلاف فيها بين المسلمين: إذ الآيات القرآنية الصريحة في هذا متكررة وكثيرة، والأحاديث النبوية في تأكيد ذلك تبلغ مبلغ التواتر المعنوي. ولا مجال هنا لسرد هذه الأدلة فهي معروفة غير خفية على الباحث.

ولا يستثنى من هذا الحكم إلا حالة واحدة، هي ما إذا ألجئ المسلمون إلى هذه الموالاة بسبب شدة الضعف التي قد تحملهم كرها على ذلك. فقد رخّص الله في ذلك إذ قال: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً [آل عمران 3/ 28] . وينبغي أن نعلم أن النهي عن موالاة غير المسلمين لا يعني الأمر بالحقد عليهم، فالمسلم منهي عن أن يحقد على أحد من الناس. وينبغي أن تعلم أن هنالك فرقا كبيرا بين أن يغضب الإنسان على أحد لله تعالى، وأن يحقد عليه، أما الأول فمصدره منكر لا يرضى عنه الله تعالى يستوجب من المسلم أن يغضب على فاعله بسببه، وأما الثاني فمصدره ذات الشخص نفسه، بقطع النظر عن تصرفاته وأعماله، وهو ما ينهى عنه الإسلام. والغضب لله، ليس في حقيقته إلا نتيجة شفقة على العاصي أو الكافر المستحق لذلك. إذ، إن المؤمن من شأنه أن يحب لجميع الناس ما يحب لنفسه، وليس شيء أحب إلى نفس المؤمن من أن يخلصها من عذاب يوم القيامة ويضمن لها السعادة الأبدية. فهو إذ يغضب على العصاة والكافرين إنما يحمله على ذلك الغيرة عليهم، والتأثر لما عرضوا أنفسهم له من الشقاء الأبدي وعقاب الله تعالى في الآخرة. وأنت خبير أن هذا ليس من الحقد في شيء، إلا إذا صحّ أن يكون غضب الأب على ابنه، أو الأخ على أخيه من أجل مصلحته وسعادته حقدا! ولا ينافي هذا مشروعية القسوة في معاملة الكافرين في كثير من الأحيان فكثيرا ما تكون القسوة هي الوسيلة الوحيدة للإصلاح وهي النتيجة التي لا بدّ منها للشفقة والرحمة، كما قال الشاعر: فقسا ليزدجروا ومن يك راحما ... فليقس أحيانا على من يرحم كذلك ينبغي أن تعلم أن النهي عن موالاة الكافرين لا يستدعي جواز التساهل في تحقيق مبدأ العدالة معهم واحترام المعاهدات التي قد تكون قائمة بين المسلمين وبينهم. فالعدالة ينبغي لها أن تكون مطبقة دائما، وليس للكراهية والغضب في الله تعالى أن يقفا حاجزا دون تحقيق مبادئ العدالة يوما ما. وفي ذلك يقول الله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة 5/ 8] . إنما المقصود أن تعلم أن المسلمين دون غيرهم أمة واحدة، كما نصّت على ذلك الوثيقة التي شرحناها فيما مضى. وإذا كان كذلك، فإن ولاءهم وتآخيهم ينبغي أن يكونا محصورين فيما بينهم. أما معاملتهم فينبغي أن تكون قائمة مع الناس كلهم على أساس دقيق من العدل ورغبة الخير للجميع والدعاء للناس جميعا بالصلاح والرشد.

غزوة أحد

غزوة أحد سببها أن بقية من زعماء قريش ممن لم يقتلوا في غزوة بدر، اجتمع رأيهم على الثأر لقتلاهم في بدر، وأن يستعينوا بعير أبي سفيان وما فيها من أموال لتجهيز جيش قوي لقتال رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فاجتمعت كلمة قريش على ذلك، وانضمّ إليهم غيرهم أيضا ممن يسمّون بالأحابيش، واستعانوا بعدد كبير من النسوة كي يمنعن الرجال من الفرار إذا أحدق بهم المسلمون. وخرجوا من مكة وقد بلغوا ثلاثة آلاف مقاتل. وسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالخبر فاستشار أصحابه وخيّرهم بين الخروج لملاقاتهم وقتالهم، والبقاء في المدينة، فإن دخلوا عليهم فيها قاتلوهم، فكان رأي بعض شيوخ من المسلمين عدم الخروج من المدينة، وكان عبد الله بن أبي بن سلول من أصحاب هذا الرأي، غير أن كثيرا من الصحابة ممن لم يكن لهم شرف القتال في بدر رغبوا في الخروج، وقالوا: «يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنّا جبنّا عنهم وضعفنا» .. ولم يزل أصحاب هذا الرأي برسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى وافقهم على ما أرادوا، فدخل بيته فلبس درعه وأخذ سلاحه وظن الذين ألحوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالخروج أنهم قد استكرهوه على ما لا يريد فندموا على ما كان منهم، ولما خرج عليهم قالوا: استكرهناك يا رسول الله، ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته (أي درعه) أن يضعها حتى يقاتل» «17» . ثم إن النّبي صلّى الله عليه وسلم خرج من المدينة في ألف من أصحابه، وذلك يوم السبت لسبع ليال خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من هجرته عليه الصلاة والسلام «18» ، حتى إذا كانوا بين المدينة وأحد انخذل عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش- وعامتهم من شيعته وأصحابه- وكرّ راجعا بهم وهو يقول: «عصاني وأطاع الولدان ومن لا رأي له، وما ندري علام نقتل أنفسنا؟» . وتبعهم عبد الله بن حرام يناشدهم الله أن لا يخذلوا نبيهم، فلم يستجيبوا لندائه، وقال زعيمهم: «لو نعلم قتالا لا تّبعناكم» . وروى البخاري رضي الله عنه أن المسلمين اختلفوا في أمر هؤلاء الذين انخذلوا عن المسلمين، ففرقة منهم تقول نقاتلهم، وأخرى تقول دعوهم، فنزل في ذلك قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَ

_ (17) رواه ابن إسحاق والإمام أحمد، وروى الطبري قريبا منه، وانظر سيرة ابن هشام: 2/ 62، وتاريخ الطبري: 2/ 500، وترتيب مسند الإمام أحمد: 22/ 52 (18) طبقات ابن سعد: 3/ 87، وسيرة ابن هشام: 2/ 62

اللَّهِ «19» [النساء 4/ 88] . واقترح بعض الصحابة الاستعانة باليهود، بناء على ما بينهم من ميثاق التناصر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك» «20» . وعسكر النّبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه- وهم لا يزيدون على سبع مئة مقاتل- في الشعب من أحد، فجعل ظهور المسلمين إلى أحد واستقبلوا المدينة، وجعل على الجبل خلف المسلمين خمسين راميا، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير وأوعز إليهم قائلا: «قوموا على مصافّكم هذه فاحموا ظهورنا، فإن رأيتمونا قد انتصرنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا» «21» . وألحّ كل من رافع بن خديج وسمرة بن جندب أن يشتركا مع النّبي صلّى الله عليه وسلم في القتال، وهما ابنا خمس عشرة سنة، فردّهما النّبي صلّى الله عليه وسلم لصغر سنّهما، فقيل له: «يا رسول الله إن رافعا رام، فأجازه، فجاء سمرة بن جندب يقول: فأنا والله أصرع رافعا، فأجازه هو أيضا» . وأمسك النّبي صلّى الله عليه وسلم بسيف فقال: «من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فأقبل أبو دجانة قائلا: أنا آخذه بحقه، فأعطاه إياه، فأخرج أبو دجانة عصابة حمراء فعصب بها رأسه (وكان ذلك شأنه عند ما كان يريد أن يقاتل حتى الموت) ، ثم راح يتبختر بين الصفوف. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن» «22» . ثم أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلم اللواء لمصعب بن عمير رضي الله عنه. وكان الذي يقود ميمنة المشركين خالد بن الوليد، وميسرتهم عكرمة بن أبي جهل. فاقتتل الناس، وحميت الحرب، وراح المسلمون يحسون المشركين في اندفاع مذهل، وكان في مقدمة المبارزين والمقاتلين أبو دجانة، وحمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير. وقتل مصعب بن عمير دون الرسول صلّى الله عليه وسلم فأخذ اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما هو إلا أن أنزل الله نصره على المسلمين، فانكشف المشركون منهزمين لا يلوون على شيء ونساؤهم يدعون بالويل. وتبعهم المسلمون يقتلون ويغنمون. فتكلم الرماة الذين كانوا على الجبل في النزول، واختلفوا فيما بينهم، فنزل كثير منهم ظنّا منهم بأن الحرب قد وضعت أوزارها، وراحوا يأخذون مع أصحابهم الغنائم، وثبت رئيسهم عبد الله بن جبير مع عدد يسير قائلا: لا أجاوز أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ونظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلّة أهله، فكرّ راجعا

_ (19) صحيح البخاري: 5/ 31 (20) طبقات ابن سعد: 3/ 80، وروى ابن إسحاق نحوه: 2/ 65 (21) ابن سعد: 3/ 80، وابن هشام بألفاظ قريبة من هذه. وروى نحوه البخاري: 5/ 29 (22) ابن هشام: 1/ 233. وروى نحوه مسلم عن طريق حماد بن سلمة، إلا أنه لم يرد في مسلم: أنها لمشية يبغضها الله.. (انظر صحيح مسلم: 7/ 15) .

بالخيل وتبعه عكرمة، فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم وأميرهم، وأخذوا يهجمون على المسلمين من الخلف «23» . وحينئذ انكشف المسلمون وداخلهم الرعب، وأخذ المسلمون يقتتلون على غير شعار أو هدى، وأوجع المشركون في المسلمين قتالا ذريعا، حتى خلص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرمي بالحجارة حتى رمي لشقه، وأصيبت رباعيته (السّن المجاورة للنّاب) وشجّ في وجهه، وجعل الدم يسيل على وجهه فيمسحه وهو يقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم وهو يدعوهم إلى ربّهم؟» ، وجاءت فاطمة رضي الله عنها تغسل عنه الدم وعليّ يسكب الماء بالمجن، فلما رأت أن الماء لا يزيد الدم إلّا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا ثم ألصقته بالجرح فاستمسك «24» . وأثناء ذلك شاع في الناس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد قتل، وكانت هذه الشائعة من أشدّ ما أدخل الرعب في قلوب بعض المسلمين، وهي التي جعلت ضعاف الإيمان يقولون: «فما مقامنا هنا إذا كان قد قتل الرسول؟» ، وذهبوا يولون الأدبار، وهي التي جعلت أنس بن النضر يقول: «بل ما فائدة حياتكم بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم أشار إلى بعض المنافقين وإلى ضعاف الإيمان قائلا: اللهم إني أبرأ إليك مما يقول هؤلاء، وأعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وانطلق فشدّ بسيفه على المشركين حتى قتل» «25» . وتجلّى في هذه الأثناء مظهر رائع للتضحية والفداء ممن كانوا حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الصحابة فراحوا يقدمون أرواحهم رخيصة دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى قتل معظمهم. روى البخاري أنه لما كان يوم أحد، انهزم الناس عن النّبي صلّى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي النّبي صلّى الله عليه وسلم مجوّب عليه (مترّس بنفسه عليه) بجحفة له (ترس من جلد) ، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع. يشرف النّبي صلّى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: «بأبي أنت وأمي لا تشرف، يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك» «26» . وترّس أبو دجانة نفسه دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والنّبل يتلاحق في ظهره وهو منحن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يتحول. وترّس زياد بن السكن نفسه دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى قتل هو وخمسة من أصحابه، وكان آخرهم على ما رواه ابن هشام عمارة بن يزيد بن السكن، فقاتل دونه

_ (23) طبقات ابن سعد: 3/ 83. ورواه البخاري عن البراء في كتاب الجهاد: 5/ 28 (24) متفق عليه بألفاظ متقاربة. (25) متفق عليه. (26) البخاري: 5/ 33

عليه الصلاة والسلام حتى أثبتته الجراح، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أدنوه مني، فوسّده قدمه، فمات وخده على قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم» . ثم إن الحرب هدأت بين الطرفين وانحسر المشركون منصرفين، وقد زهوا بالنصر الذي أحرزوه، وفزع الناس لقتلاهم، وكان فيهم حمزة بن عبد المطلب، واليمان، وأنس بن النضر، ومصعب بن عمير وعدد كبير غيرهم، وقد تأثر النّبي صلّى الله عليه وسلم لمقتل عمه تأثرا كبيرا، وقد مثّل به فبقر بطنه وجدع أنفه وأذناه. وأخذ النّبي صلّى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من القتلى في ثوب واحد ثم يقول: «أيّهما أكثر أخذا للقرآن؟» ، فإذا أشير له إلى أحدهما قدّمه في اللحد، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة. وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصلّ عليهم ولم يغسلوا» «27» . وأخذ اليهود والمنافقون يظهرون الشماتة بالمسلمين، وراح عبد الله بن أبي بن سلول يقول هو وأصحابه للمسلمين: «لو أطعتمونا ما قتل منكم من قتل» ، وأخذوا يتساءلون عن النصر الذي كانوا يتوهمونه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى آيات من سورة آل عمران تعليقا على إرجاف اليهود والمنافقين وبيانا لحكمة ما حصل في غزوة أحد، وهي تبدأ بقوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إلى قوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا، قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران 3/ 149- 168] . وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أحد مساء السبت، فبات تلك الليلة في المدينة هو وأصحابه، وبات المسلمون يداوون جراحاتهم. فلما صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصبح يوم الأحد، أمر بلالا أن ينادي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمركم بطلب العدو، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس.. ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلوائه وهو معقود لم يحل، فدفعه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وخرج القوم وهم ما بين مجروح وموهون، ومشجوج حتى عسكروا بحمراء الأسد (مكان من المدينة على بعد عشرة أميال) فأوقد المسلمون هناك نيرانا عظيمة، حتى ترى من المكان البعيد وتوهم كثرة أصحابها. ومرّ بهم معبد الخزاعي (وكان يومئذ من مشركي خزاعة) ثم تجاوزهم فمرّ على المشركين ولهم زجل ومرح وزهو بالنصر الذي لاقوه في أحد، وهم يأتمرون بالرجوع إلى المدينة للقضاء على المسلمين، وصفوان بن أمية ينهاهم. فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: «ما وراءك يا معبد؟ فقال: ويحكم! إن محمدا قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرّقا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط؟» .. فأدخل الله بذلك رعبا عظيما في قلوب المشركين،

_ (27) البخاري: 5/ 49

العبر والعظات:

وهبّو مسرعين عائدين إلى مكة. وأقام النّبي صلّى الله عليه وسلم في حمراء الأسد: الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة» «28» . العبر والعظات: تنطوي غزوة أحد على دروس بالغة الأهمية للمسلمين في كل عصر، ولكأن الحكمة من وقوعها على الشكل الذي بيّناه، أن يتكون منها درس تطبيقي عملي، يعلّم المسلمين كيفية البلوغ إلى النصر في معاركهم مع العدو، وكيفية التحرز من مزالق الفشل والهزيمة، فلنقف على هذه الدروس العظيمة ولنتأمل فيها، الواحدة إثر الأخرى: أولا: يتجلى هنا أيضا المبدأ الذي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأخذ به نفسه، وهو التزام التشاور مع أصحابه في كل أمر يحتمل المشاورة والبحث. ولكنا نقف هنا على فارق واحد لم نجده في المشاورة التي تمّت قبيل غزوة بدر. فقد لاحظنا أنه عليه الصلاة والسلام لم يشأ أن يعود عن موافقته لأصحابه الذين اقترحوا الخروج للقاء العدو خارج المدينة، بعد أن لبس درعه وأخذ أهبته للقتال، على الرغم من أنهم ندموا وعادوا عن رأيهم ورجوه البقاء إذا كان يرى ذلك. وربما كان النّبي صلّى الله عليه وسلم يميل- أو يظهر الميل- عند التشاور إلى البقاء في المدينة. ولعل الحكمة الجلية في هذا، أن البحث في الأمر بعد أخذ العدة للقتال، وبعد ظهور النّبي صلّى الله عليه وسلم في قومه وأصحابه لابسا دروعه آخذا سلاحه، شيء خارج عن حدود ما يقتضيه مبدأ التشاور خصوصا في القضايا الحربية التي تحتاج- مع المشورة- إلى قدر كبير من الحزم والعزم. ثم إن المعنى الذي قد يتولد عن تقاعسه صلّى الله عليه وسلم عن الخروج بعد أن طلع عليهم مستعدا لذلك، إنما هو الضعف والاضطراب في الإرادة وهو كثيرا ما يكون نابعا من الخوف والحذر اللذين لا معنى لهما. ولذلك أجابهم النّبي صلّى الله عليه وسلم عن كلامهم بعبارة فيها كل الحزم والعزم، دون أن يلتفت إلى لغط القوم وتعاتبهم فيما بينهم، قال: «ما ينبغي لنبيّ لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» . ثانيا: للمنافقين في هذه الغزوة مشهد بارز.. ولم لا يكون مشهدهم بارزا فيها، وهي إنما انطوت على حكم ومقاصد، من أهمها تمحيص المؤمنين عن أخلاطهم من المنافقين؟ وإن من وراء ذلك لفوائد كبيرة للمسلمين كانت ذخرا لهم فيما بعد. لقد رأينا كيف انخذل عبد الله بن أبي بن سلول بثلاث مئة من أتباعه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، بعد خروجهم من المدينة، وسبب ذلك في ظاهر ما تذرع به: أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلم إنما أخذ برأي الشبان الأغرار، ولم يأخذ برأي أمثاله من الشيوخ أرباب الحجى والأحلام. غير أن سبب ذلك في الحقيقة وواقع الأمر، هو أنه لا يريد قتالا. لأنه لا يريد أن يعرّض نفسه لمخاوفه

_ (28) طبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام وتاريخ الطبري.

ومغباته.. وتلك هي أبرز سمات المنافقين: يريدون أن يأخذوا ما في الإسلام من مغانم، ويبتعدوا عما فيه من مغارم وأتعاب! .. وإنما الذي يمسكهم على الإسلام أحد شيئين: غنيمة يتوقعونها، أو مصائب ومحن يتوقونها. ثالثا: أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يشأ أن يستعين بغير المسلمين في هذه الغزوة، على الرغم من قلة عدد المسلمين، وقال فيما روى ابن سعد في طبقاته: «لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك» «29» . وقد روى مسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لرجل تبعه في يوم بدر ليقاتل معه: «أتؤمن بالله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك» . وقد ذهب جمهور كبير من العلماء، بناء على هذا، إلى أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في القتال، وفصّل الإمام الشافعي في ذلك، فقال: «إن رأى الإمام أن الكافر حسن الرأي والأمانة في المسلمين وكانت الحاجة داعية إلى الاستعانة به جاز، وإلا فلا» «30» . ولعل هذا هو المتفق مع القواعد ومجموع الأدلة، إذ روي أنه عليه الصلاة والسلام قبل معونة صفوان بن أمية يوم حنين، والمسألة على ذلك داخلة في إطار ما يسمى بالسياسة الشرعية. وسنذكر الفرق بين ما فعله الرسول في حنين وما فعله في كل من بدر وأحد، في مناسبته إن شاء الله. رابعا: ومما يجدر التأمل فيه، حال سمرة بن جندب ورافع بن خديج، وهما طفلان لا يزيد عمر كل منهما على خمس عشرة سنة، وكيف جاءا يناشدان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يسمح لهما بالاشتراك في القتال، وأي قتال؟!. قتال قائم على التأهب للموت، لا تجد فيه أي معنى من التعادل بين الفريقين: المسلمون وعددهم لا يزيد على سبع مئة، والمشركون وهم يتجاوزون ثلاثة آلاف مقاتل. والعجيب حقا أن يقف بعض محترفي الغزو الفكري على مثل هذه الظاهرة، فيذهبوا في تحليلها إلى أن العرب كانوا أمة تعيش في ظل الحروب والغزوات الدائمة، فكانوا ينشؤون في أجوائها وظروفها، ولذلك كانوا ينظرون إليها (شيبا وشبانا وأطفالا) نظرة طبيعية لا تسبب لهم قدرا بالغا من المخاوف. لا ريب أن أرباب هذا التحليل، يغمضون أعينهم في إصرار عجيب، أثناء هذا الكلام عن

_ (29) قد يقال: إن هؤلاء الذين عرضوا مشاركتهم مع المسلمين في القتال يهود من أهل الكتاب، فكيف سماهم الرسول أهل الشرك. والجواب: أن إطلاق الشرك عليهم بمعنى غير المعنى الاصطلاحي الذي يطلق على الوثنيين من العرب وللشرك معنى عام يعتبر قدرا مشتركا يصدق على جميع الكافرين. (30) انظر مغني المحتاج: 4/ 221

تخاذل أمثال عبد الله بن أبي بن سلول مع ثلاث مئة من أصحابه، تحت وطأة الخوف من عواقب القتال، والرغبة في الجنوح إلى السلامة والأمن. وعن تخاذل أولئك الآخرين الذين استعذبوا ظل المدينة وثمارها ومياهها وسط حرارة الصيف، وأعرضوا عن نداء رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالخروج والقتال، قائلين: «لا تنفروا في الحر» . بل وعن هزيمة المشركين في غزوة بدر، على الرغم من ضخامة عددهم وقلة المسلمين، ووقوع الرعب في أفئدتهم، وهم هم العرب الذين نشؤوا في ظلال الحروب ورضعوا ألبانها واستهانوا بصعابها. من الصعوبة البالغة للمنصف أن يتهرب عما تحكم به البداهة الواضحة، من أن سرّ هذا الإقدام على الموت من مثل هؤلاء الأطفال، إنما هو الإيمان العظيم الذي استحوذ على القلب، والذي ترتبت عليه محبّة عارمة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. فحيثما وجد الإيمان ووجدت هذه المحبة، ظهر هذا الإقدام والاستبسال، وحيثما ضعف الإيمان، وضعفت المحبة في القلب انقلب الإقدام إحجاما والاستبسال كسلا وتقاعسا. خامسا: إذا تأملت حال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو ينظم صفوف أصحابه ويرتب أجنحتهم، ويضع الحامية اللازمة في مؤخرة المسلمين، ويأمر الرماة أن لا يغادروا أماكنهم مهما وجدوا من أمر إخوانهم المقاتلين حتى يتلقوا الأوامر منه صلّى الله عليه وسلم، نقول: إذا تأملت ذلك اتضحت حقيقة بارزة، ولاحت لك من ورائها ظاهرة هامة أخرى. أما الحقيقة البارزة، فهي البراعة العسكرية التي كانت تتصف بها قيادته صلّى الله عليه وسلم في الحروب، فقد كان في مقدمة المخططين لفنون القتال وطرائقه، ولا ريب أن الله تعالى قد جهزه بعبقرية نادرة في هذا المجال. ولكننا نقول: إن هذه العبقرية والبراعة إنما يأتي كل منهما من وراء نبوته ورسالته السماوية، فمركز النبوة والرسالة هو الذي اقتضاه صلّى الله عليه وسلم أن يكون عبقريا بارعا في فنون الحرب وغيرها، كما اقتضاه أن يكون معصوما بعيدا عن كل انحراف وزلل. وقد شرحنا هذا في القسم الأول من هذا الكتاب فلا حاجة إلى تكراره. وأما الظاهرة التي تلوح للمتأمل من خلال توصياته الدقيقة هذه لأصحابه عامة، وللرماة خاصة فهي ظاهرة ذات علاقة وثيقة بما قد تم بعد ذلك من خروج بعض أولئك الرماة على أوامره صلّى الله عليه وسلم. فكأن النبي صلّى الله عليه وسلم قد استشف بفراسة النبوة أو بوحي من الله تعالى هذا الذي قد حدث فيما بعد، فراح يؤكد التوصيات والأوامر، وكأنه في ذلك يجري مع أصحابه مناورة حية مع عدوّ لهم هو النفس وأهواؤها وما تنطوي عليه من طمع في المال والغنائم، والمناورة مهما كانت نتيجتها، تفيد فائدة عظيمة.. وربما كانت النتيجة السلبية أدعى للاستفادة من النتيجة الإيجابية. سادسا: أبو دجانة، الذي تناول السيف من يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بحقه، أخذه وراح يتبختر

بين الصفوف، فما أنكر عليه رسول الله، وإنما قال: «إن هذه مشية يكرهها الله إلا في مثل هذا الموضع!» . وهذا يدل على أن كل مظاهر الكبر المحرمة في الأحوال العامة، تزول حرمتها في حالات الحرب. فمن مظاهر الكبر المحرمة أن يسير المسلم في الأرض مرحا متبخترا، ولكن ذلك في ميدان القتال أمر حسن وليس بمكروه. ومن مظاهر الكبر المحرمة تزيين البيوت أو الأواني والأقداح بالذهب أو الفضة. غير أن تزيين آلات الحرب وأسلحتها بالفضة غير ممنوع. فمظهر الكبر هنا إنما هو في حقيقته افتخار بعزة الإسلام على أعدائه. ثم هو معنى من معاني الحرب النفسية التي ينبغي أن لا تفوت المسلمين أهميتها. سابعا: إذا تأملنا مدة الحرب التي استمرت بين المسلمين وأعدائهم في هذه الغزوة وجدناها تنقسم إلى شطرين: الشطر الأول: وفيه التزم المسلمون أماكنهم وأوامرهم التي كانوا قد تلقوها من قائدهم عليه الصلاة والسلام، فما الذي كان من ثمرة ذلك؟ لقد سارع النصر إلى المسلمين، وسارعت الهزيمة إلى صفوف المشركين، وما هو إلا أن اكتسح الرعب أفئدة الآلاف الثلاثة فانحسروا عن أماكنهم وأخذوا يولون الأدبار، وهذا الشطر هو الذي علقت عليه الآية الكريمة في قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران 3/ 152] . الشطر الثاني: وفيه أخذ المسلمون ينطلقون خلف المشركين ليجهزوا على من يدركونه منهم، وليأخذوا الغنائم والأسلاب، وحينئذ نظر الرماة من فوق الجبل الذي كانوا يتمركزون فيه، إلى إخوانهم وهم يضعون السيوف في أعدائهم اللائذين بالفرار ويعودون بالأموال والغنائم، فرغب بعضهم أن يشتركوا معهم في الغنيمة، وخيلت إليهم هذه الرغبة أنّ الفترة الزمنية للأوامر التي تلقوها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد انتهت، فهم في حلّ منها وهم في غنى عن انتظار إذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لهم بمغادرة أماكنهم وهو اجتهاد خالفهم فيه بعض زملائهم وفي مقدمتهم أميرهم عبد الله بن جبير، ولكنّ أصحاب هذا الاجتهاد نزلوا وانطلقوا يشاركون في أخذ الغنائم. فما الذي كان من نتيجة ذلك؟ لقد كان أن انقلب الرعب الذي داهم أفئدة المشركين إلى استبسال جديد! .. وكان أن تفتحت أسباب الحيلة والمكر لدى خالد بن الوليد الذي كان يولي هاربا، فنظر حوله متأملا، فوجد الجبل المحصّن قد خلا من حماته وحراسه، فلمعت الفكرة العسكرية في رأسه، وما هو إلا أن استدار إلى الجبل مع من معه من المشركين، فقتلوا من بقي ممن لم ينزل وأوجعوا المسلمين رميا بالسهام من خلفهم.. وجاء الرعب هذه المرة ليغزو أفئدة المسلمين كما رأينا. وهذا الشطر من المعركة هو الذي علقت عليه الآية الكريمة في قوله تعالى: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ،

وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آل عمران 3/ 152] . وانظر! .. كم كان وبال هذه الخطيئة جسيما، وكم كانت نتيجتها عامة! .. لقد عادت خطيئة أفراد قليلين في جيش المسلمين، بالوبال عليهم جميعا، بحيث لم ينج حتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، من نتائجها، وتلك هي سنة الله في الكون، لم يمنعها من الاستمرار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم موجود في ذلك الجيش، وأنه أحب الخلق إلى ربه جلّ جلاله. فتأمل أنت في نسبة خطيئة أولئك الأفراد، إلى أخطاء المسلمين المتنوعة اليوم، والمتعلقة بشتى نواحي حياتنا العامة والخاصة. تأمل هذا لتتصور مدى لطف الله بالمسلمين إذ لا يهلكهم بما تكسب أيديهم، وبتقاعسهم حتى عن أداء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاجتماع في كلمة واحدة على ذلك. وإذا تأملت في هذا، علمت الجواب عن سؤال بعضهم اليوم، عن الحكمة من أن الشعوب الإسلامية تظل مغلوبة على أمرها، أمام الدول الباغية الأخرى، على الرغم من أن هؤلاء كفرة وأولئك مسلمون. ثامنا: لقد رأينا أن النبي صلّى الله عليه وسلم أوذي كثيرا في هذه الفترة، فوقع لشقه، وشجّ رأسه، وكسرت رباعيته، وساح الدم غزيرا في وجهه، وكل ذلك جزء من نتائج تلك الخطيئة.. خطيئة أولئك المسلمين في الخروج على أوامر القائد. ولكن ما الحكمة في أن يشيع خبر مقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في صفوف المسلمين؟! .. والجواب: أن ارتباط المسلمين برسول الله صلّى الله عليه وسلم ووجوده فيما بينهم كان له من القوة بحيث لم يكونوا يتصورون فراقه ولم يكونوا يتخيلون قدرة لهم على التماسك من بعده، فكان أمر وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئا لا يخطر لهم في بال، وكأنهم كانوا يسقطون حساب ذلك من أذهانهم، ولا ريب أنهم لو استيقظوا من غفلتهم هذه على خبر وفاته الحقيقية، لصدّع الخبر أفئدتهم، ولزعزع كيانهم الإيماني بل لقوّضه في نفوس كثير منهم. فكان من الحكمة الباهرة أن تشيع هذه الشائعة، تجربة درسيّة بين تلك الدروس العسكرية العظيمة، كي يستفيق المسلمون من ورائها إلى الحقيقة التي ينبغي أن يوطنوا أنفسهم لها منذ الساعة، وأن لا يرتدوا على أعقابهم إذا وجدوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد اختفى مما بينهم. ومن أجل بيان هذا الدرس الجليل نزلت الآية تعليقا على ما أصاب كثيرا من المسلمين من ضعف وتراجع لدى سماعهم نبأ مقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وذلك إذ يقول الله تعالى:

وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران 3/ 144] . ولقد اتضح الأثر الإيجابي لهذا الدرس، يوم أن لحق رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعلا بالرفيق الأعلى، فقد كانت شائعة أحد هذه، مع ما نزل بسببها من القرآن، هي التي أيقظت المسلمين ونبهتهم إلى الحقيقة، فودعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقلوبهم الحزينة، ثم رجعوا إلى الأمانة التي تركها بين أيديهم، أمانة الدعوة والجهاد في سبيل الله، فنهضوا بها أقوياء بإيمانهم أشداء في عقيدتهم وتوكلهم على الله تعالى. تاسعا: ولنتأمل في وقع الموت على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهم من حوله يحمونه بأجسادهم من نبال المشركين وضرباتهم، يتساقطون الواحد منهم إثر الآخر تحت وابل السهام، وهم في نشوة عارمة وحرص حريص على حفظ حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لا يبالون بغير ذلك! .. فما هو مصدر هذه التضحية العجيبة؟. إنه الإيمان بالله ورسوله أولا، ثم محبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثانيا، فهما معا سبب هذه التضحية الرائعة العجيبة. والمسلم يحتاج إليهما معا، لا يكفيه أن يدّعي الإيمان بما ينبغي الإيمان به من أمور العقيدة، حتى يمتلئ قلبه بمحبة الله ورسوله أيضا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» «31» . وبيان ذلك أن الله عز وجل قد غرس في الإنسان عقلا وقلبا. أما الأول فلكي يفكر به فيؤمن بما يجب الإيمان به. وأما الثاني فلكي يستعمله في محبة من أمر الله بمحبته وبغض من أمر ببغضه. وإذا لم يشغل القلب بمحبة الله ورسوله والصالحين من عباده، فسيمتلئ ولا بد بمحبة الشهوات والأهواء والمحرمات. وإذا فاض القلب بمحبة الشهوات والأهواء فهيهات أن يصبح الاعتقاد وحده حاملا لصاحبه على أي عمل من أعمال التضحية أو الفداء. وهذه الحقيقة من الأوليّات التي أقرها علماء التربية، والأخلاق، ودلت عليها التجارب البدهية، واسمع ما يقوله في ذلك جان جاك روسو في كتابه (اميل) : «كم قيل وأعيد القول عن الرغبة في إقامة الفضيلة على العقل وحده، ويا له من أساس متين! .. أي أساس هذا؟! .. إن الفضيلة كما يقولون هي النظام، ولكن هل يستطيع الإيمان بالنظام أن يتغلب على مسرتي الخاصة؟ .. إن هذا المبدأ المزعوم ليس إلا لعبا بالألفاظ فالرذيلة هي حب النظام بشكل مختلف» «32» .

_ (31) متفق عليه. (32) راجع التوسع في هذا البحث كتابنا: تجربة التربية الإسلامية في ميزان البحث.

من أجل هذه الحقيقة لم تستطع الحكومة الأمريكية أن تلتزم بما آمنت به واعتقدت بفائدته يوم أقدمت على تحريم الخمر ومنع مداولتها في المجتمعات والنوادي، وذلك عام 1933 م، إذ لم تمض سوى فترة وجيزة حتى نكص المقننون على أعقابهم، وارتدّوا مترنحين من ألم الحرمان فألغوا القانون الذي التزموه وراحوا يعبّون أقداحهم من جديد.. هذا على حين أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهم من هم من الثقافة والمدنية ومعرفة الأضرار والفوائد بالنسبة للأمريكيين اليوم- عمدوا بمجرد أن سمعوا أمر الله عز وجل لهم باجتناب الخمر، إلى دنان الخمر فأراقوها وإلى الأقداح فكسروها، وارتفعت أصواتهم تقول: «انتهينا يا رب انتهينا!» ... والفرق بين الصورتين والواقعتين، أن ههنا شيئا قد وقر في القلب فكان هواه تبعا لأمر الله وأحكامه. هذه المحبة، بل هذا الهوى المستحوذ على قلوب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو الذي جعلهم يمدون نحورهم دون نحر رسول الله ويعانقون الموت في سبيل حفظ حياته عليه الصلاة والسلام. وكم في غزوة أحد من المشاهد الرائعة التي تكشف عن أثر هذه المحبة إذ تغمر قلب صاحبها. روى ابن هشام أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل سعد. فنظر، فإذا هو جريح في القتلى وبه رمق. فقال له: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات! .. قال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله عني السلام، وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم صلّى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف. قال الأنصاري: فلم أبرح حتى مات» . ويوم تمتلئ أفئدة المسلمين في عصرنا هذا بنحو من هذه المحبة، بحيث تبعدهم قليلا عن شهواتهم وأنانيتهم، وتتغلب عليها، أقول: يوم يحدث هذا في أفئدة المسلمين فإنهم يصبحون خلقا آخر جديدا، وسينتزعون انتصارهم من بين شدقي الموت وسيتغلبون على أعدائهم، مهما كانت العقبات والسدود. وإذا سألت عن السبيل إلى مثل هذه المحبة، فاعلم أنها في كثرة الذكر وكثرة الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفي كثرة التأمل والتفكر في آلاء الله ونعمه عليك، وفي سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخلاقه وشمائله، وهذا كله بعد الاستقامة على العبادات في خشية وحضور، والتبتل إلى الله عز وجل بين الحين والآخر.

عاشرا: وقد رأينا فيما يرويه البخاري رضي الله عنه، أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بدفن قتلى المسلمين بدمائهم ولم يصلّ عليهم، وجمع بين الرجلين في قبر واحد، وقد استدل من ذلك العلماء على أن الشهيد في معركة الجهاد لا يغسل ولا يصلى عليه، بل يدفن بدمائه. قال الشافعي رضي الله عنه: جاءت الأحاديث من وجوه متواترة أنه لم يصل عليهم، وأما ما روي أنه صلّى الله عليه وسلم، صلى عليهم عشرة عشرة، وفي كل عشرة حمزة، حتى صلى عليه سبعين مرة فضعيف وخطأ «33» . كما استدلوا بذلك أيضا على أنه يجوز عند الضرورة الجمع بين أكثر من واحد في القبر، أما بدون ضرورة فلا يجوز. حادي عشر: وإذا تأملنا فيما أقدم عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع أصحابه فور عودتهم إلى المدينة من الخروج ثانية للحاق بالمشركين، اتضح لنا درس معركة أحد اتضاحا كاملا، وتبين لنا كل من نتيجتيها: السلبية والإيجابية، وظهر لنا بما لا يدع مجالا للتوهم أن النصر إنما يكون مع الصبر وإطاعة أوامر القائد الصالح واستهداف القصد الديني المجرد. فقد رأينا أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكد يؤذّن في الناس للخروج مرة أخرى لطلب العدوّ، حتى تجمع أولئك الذين كانوا معه بالأمس، من بعد ما أصابهم القرح وأنهكتهم الجروح والآلام، ولم يسترح أحد منهم بعد في بيته أو يفرغ للنظر في حاله وجسمه، وانطلقوا خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبتغون المشركين الذين لم تخمد بعد في رؤوسهم جذوة النشوة بالنصر. ولم يكن فيهم هذه المرة من يطمع في غنيمة أو غرض دنيوي، وإنما هو التطلع إلى النصر أو الاستشهاد في سبيل الله، وهم يسوقون بين يدي ذلك جراحاتهم الدامية، وقروحهم المؤلمة. فما الذي كان من نتيجة ذلك؟ لا نشوة الظفر أو لذة الانتصار ربطت على قلوب المشركين ليتمموا نصرهم والتغلب على خصومهم، ولا وقع الهزيمة وآلام الجروح الكثيفة في المسلمين حال شيء من ذلك دون إقدامهم وانتصارهم. وكيف كان السبيل؟ .. لقد كان السبيل إلى ذلك آية إلهية خارقة لتتمم الدرس والموعظة للمسلمين، وقع الرعب فجأة في قلوب المشركين وتصوروا كما أخبرهم صاحبهم الذي كان قد لمح المسلمين عن بعد، أن محمدا صلّى الله عليه وسلم وصحبه قد جاؤوا هذه المرة ومعهم الموت المؤكد لينثروه فيما بينهم، فارتدوا على أعقابهم بعد أن كانوا متجهين صوب المدينة، وانطلقوا سراعا إلى مكة لا يلوون على شيء! .. أما كيف داخلهم هذا الرعب الغريب من المسلمين، وهم الذين كسروا شوكتهم ووضعوا

_ (33) راجع مغني المحتاج: 1/ 349

يوم الرجيع، وبئر معونة

السيف فيهم قبل ساعات فقط من الزمن، فمردّ ذلك إلى الإرادة الإلهية التي جعلت من هذه الموقعة كلها درسا بليغا للمسلمين، جمع بين كلا مظهريه الإيجابي والسلبي في آن واحد. وفي هذا الختام الأخير المتمم لموعظة أحد نزل قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ، الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران 3/ 172- 174] . يوم الرجيع، وبئر معونة أولا- يوم الرجيع (في السنة الثالثة) : قدم وفد من قبائل عضل والقارة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم يذكر أن أخبار الإسلام قد وصلتهم وأنهم بحاجة إلى من يعلمهم شؤون هذا الدين، فبعث الرسول صلّى الله عليه وسلم نفرا من أصحابه، وفيهم: مرثد بن أبي مرثد، وخالد بن البكير، وعاصم بن ثابت، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت. روى البخاري بسنده عن أبي هريرة، قال: «فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة، ذكروا لحيّ من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فتبعوهم بقريب من مئة رام، فاقتصوا آثارهم، حتى أتوا منزلا نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم فلما انتهى عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد، وجاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلا. فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصما في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب وزيد ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق. فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها فقال الرجل الثالث الذي معهما: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم فجرروه وعالجوه، على أن يصحبهم، فلم يفعل فقتلوه. وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة: فاشترى خبيبا بنو الحارث، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيرا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحدّ بها. قالت: فغفلت عن صبيّ لي، فدرج إليه حتى أتاه، فأجلسه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذاك مني، وفي يده الموسى. فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى. وكانت تقول: ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، لقد رأيته يأكل من

ثانيا - بئر معونة (في السنة الرابعة) :

قطف عنب، وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق بالحديد، وما كان إلا رزق رزقه الله. فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أنّ ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سنّ الركعتين قبل القتل. ثم قال: ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله. وبعثت قريش إلى عاصم ليأتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل المظلة من الدّبر، فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء» «34» . وزاد الطبري فروى عن أبي كريب قال: «حدثنا جعفر بن عون عن إبراهيم بن إسماعيل قال: وأخبرني جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعثه وحده عينا إلى قريش، قال: فجئت إلى خشبة خبيب وأنا أتخوف العيون، فرقيت فيها فحللت خبيبا، فوقع إلى الأرض، فانتبذت غير بعيد، ثم التفتّ فلم أر لخبيب رمّة فكأنما الأرض ابتلعته، فلم تذكر لخبيب رمة حتى الساعة» . قال ابن إسحاق: «وأما زيد، فابتاعه صفوان بن أمية، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيان: أنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك، نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي! فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا» «35» . ثانيا- بئر معونة (في السنة الرابعة) : قدم عامر بن مالك المشهور بلقب (ملاعب الأسنة) على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام، ولكنه لم يسلم ولم يظهر تجنبا عن الإسلام، بل قال: «يا محمد، لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك. فقال عليه الصلاة والسلام: إني أخشى عليهم أهل نجد قال عامر: أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك. فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبعين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين وكان ذلك على ما رواه ابن إسحاق وابن كثير في صفر على رأس أربعة أشهر من غزوة أحد. فساروا حتى نزلوا ببئر معونة، فلما نزلوها بعثوا أحدهم (حرام بن ملحان) بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عامر بن

_ (34) صحيح البخاري: 5/ 41 (35) انظر سيرة ابن هشام: 2/ 172

العبر والعظات:

الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه، وعدا عليه فقتله. روى البخاري عن أنس بن مالك، أن حرام بن ملحان لما طعن وانتضح الدم في وجهه، صاح: فزت ورب الكعبة «36» . ثم استصرخ عامر بن الطفيل بتي عامر يستعديهم على بقية الدعاة فأبوا أن يجيبوه وقالوا: لن نخفر أبا براء (عامر بن مالك) ، فاستصرخ عليهم قبائل من سليم من عصيّة ورعل وذكوان فأجابوه، وانطلقوا فأحاطوا بالقوم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم وقاتلوهم، فقتل المسلمون عن آخرهم. وكان في سرح الدعاة اثنان لم يشهدا هذه الموقعة الغادرة، أحدهما (عمرو بن أمية الضمري) ولم يعرف النبأ إلا فيما بعد، فأقبلا يدافعان عن إخوانهما فقتل زميله معهم، وأفلت هو فرجع إلى المدينة. وفي الطريق لقي رجلين من المشركين ظنهما من بني عامر فقتلهما، ثم تبيّن لما وصل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخبره الخبر أنهما من بني كلاب وأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان قد أجارهما. فقال عليه الصلاة والسلام: لقد قتلت قتيلين لأدينّهما. وتأثر النبي صلّى الله عليه وسلم لمقتل هؤلاء الدعاة الصالحين من أصحابه، وبقي شهرا يقنت في صلاة الصبح يدعو على قبائل سليم: رعل وذكوان وبني لحيان وعصيّة» «37» . العبر والعظات: في هاتين الحادثتين المؤثرتين دلالات هامة نجملها فيما يلي: أولا: يدل كل من حادثة الرجيع وبئر معونة على اشتراك المسلمين كلهم في مسؤولية الدعوة إلى الإسلام وتبصير الناس بحقيقته وأحكامه. فليس أمر الدعوة موكولا إلى الأنبياء والرسل وحدهم أو إلى خلفائهم والعلماء دون غيرهم. وإنك لتستشعر مدى أهمية القيام بواجب هذه الدعوة، من إرسال النبي صلّى الله عليه وسلم أولئك القراء الذين بلغت عدتهم سبعين شابا من خيرة أصحابه صلّى الله عليه وسلم، ولما يمض أمد طويل على مقتل أولئك النفر الستة الذين كان قد بعثهم في ذلك السبيل نفسه.. ولقد استشعر الخوف عليهم، وذكر ذلك لعامر بن مالك عندما اقترح عليه إرسال وفد لدعوة الناس إلى الدين ولكنه كان يرى أن القيام بأعباء التبليغ أهم من كل شيء، ولئن لم يمكن تحمل مسؤولية الدعوة والنهوض بها إلا بمثل هذه المغامرة وقبول ما قد ينتج عنها، فلتكن المغامرة، وليكن ما أراد الله تعالى في سبيل القيام بأمره وتبليغ دعوته.

_ (36) البخاري: 5/ 43 (37) انظر سيرة ابن هشام: 2/ 173، وخبر قنوت الرسول صلّى الله عليه وسلم ودعائه على قبائل سليم رواه البخاري ومسلم.

ثانيا: كنا قد قلنا في القسم الأول من هذا الكتاب، إنه لا يجوز للمسلم المقام في دار الكفر أو الحرب إن لم يمكنه إظهار دينه، ويكره له ذلك إن أمكنه إظهار دينه، والذي يدل عليه هذا المشهد من سيرته صلّى الله عليه وسلم أنه يستثنى من ذلك ما إذا كان مقام المسلم في دار الكفر ابتغاء القيام بواجب الدعوة الإسلامية هناك، فذلك من أنواع الجهاد الذي تتعلق مسؤوليته بالمسلمين كلهم على أساس فرض الكفاية الذي إن قام به البعض قياما تاما سقطت المسؤولية عن الباقين، وإلا اشتركوا كلهم في المأثم «38» . ثالثا: إذا تجاوزنا ما ينطوي عليه كل من حادثتي الرجيع وبئر معونة من دلالة واضحة على مدى ما كانت تفيض به أفئدة المشركين من غل وحقد على المؤمنين، حتى إنهم ارتضوا لأنفسهم أحط مظاهر الخيانة والغدر ابتغاء إطفاء غليل أحقادهم على المسلمين- أقول إذا تجاوزنا ذلك- وقفنا على صورة رائعة لعكس هذه الطبيعة تماما لدى أولئك المسلمين الذين راحوا ضحية تلك الخيانة والأحقاد. فقد رأيت كيف حبس خبيب رضي الله عنه أسيرا في بيت بني الحارث في انتظار ساعة قتله، وكان قد استعار شفرة ليصلح بها شأنه ويتطهر استعداد للموت، وفي البيت طفل صغير راح يدرج نحوه في غفلة من أمه، ولقد كانت هذه اللحظة، في حساب من يتعلق بالحياة ويفكر في الانتقام، فرصة رائعة لمساومة أو غدر في مقابل غدر. ولقد كان هذا هو حساب أهل البيت كلهم، فما إن انتبهت أم الطفل إلى انصرافه نحو خبيب حتى هبت مذعورة لتخلصه من براثن موت مؤكد! .. ولكنها وقفت مندهشة عندما رأت طفلها وقد أجلسه خبيب في حجره يلاطفه كأنه أب شفوق! .. ونظر إليها وقد ألّم بما في نفسها من الخوف، وقال لها في هدوء المؤمن الحليم: «أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله» . فانظر إلى معجزة التربية الإسلامية للإنسان!. خبيب هذا، وأولئك المشركون الحاقدون الذين راحوا يصنعون له الموت ظلما وعدوانا، عرب أنبتتهم أرض واحدة وأظلتهم طبائع وتقاليد واحدة، ولكن خبيبا اعتنق الإسلام فأخرجه الإسلام إنسانا آخر، وأولئك عكفوا على ضلالاتهم، فحبستهم ضلالاتهم في طبائعهم المتوحشة الغادرة، فما أعظم ما يفعله الإسلام في الطبيعة الإنسانية من تغيير وتحويل! .. رابعا: يستدل مما سبق أن للأسير في يد العدو أن يمتنع من قبول الأمان، ولا يمكّن من نفسه ولو قتل، ترفعا عن أن يجري عليه حكم كافر، كما فعل عاصم. فإن أراد الترخص، فله أن يستأمن، مترقبا الفرصة مؤملا الخلاص كما فعل خبيب وزيد.

_ (38) راجع مغني المحتاج: 4/ 239

ولكن لو قدر الأسير على الهرب لزمه ذلك في الأصح، وإن أمكنه إظهار دينه بينهم، لآن الأسير في يد الكفار مقهور مهان، فكان من الواجب عليه تخليص نفسه من هوان الأسر ورقه «39» . خامسا: إذا تأملنا في جواب زيد بن الدثنة لأبي سفيان، قبيل قتله، علمنا مدى المحبة التي كانت تنطوي عليها أفئدة الصحابة لرسولهم صلّى الله عليه وسلم، ولا ريب أن هذه المحبة من أهم الأسباب التي حببت إلى قلوبهم كل تضحية وبذل في سبيل دين الله تعالى والدفاع عن رسوله. ومهما بلغ المسلم في إيمانه، فإنه بدون مثل هذه المحبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم يعتبر ناقص الإيمان. وإنها لحقيقة صرح بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» «40» . سادسا: دلّ ما ذكرناه من أمر خبيب أيام كان أسيرا في مكة، أن كل ما أمكن أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي، مع فارق أساسي لا بدّ منه، وهو أن معجزة النبي تكون مقرونة بالتحدي ودعوى النبوة، أما كرامة الأولياء والصالحين فتأتي عفوا دون أن تقترن بأي نوع من التحدي. وهذا ما جرى عليه جمهور أهل السنة والجماعة. ولا أدلّ عليه من هذا الذي أكرم الله به خبيبا قبيل قتله، وهو ثابت كما رأيت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره. سابعا: قد يتساءل البعض: فما الحكمة في تمكين يد الغدر من هؤلاء الفتية المؤمنين الذين لم يخرجوا إلا استجابة لأمر الله ورسوله؟ وهلّا مكّنهم الله من أعدائهم ليتغلبوا عليهم؟ .. والجواب هو، ما كنا ذكرناه أكثر من مرة، من أن الله تعالى تعبّد عباده بتحقيق أمرين اثنين: إقامة المجتمع الإسلامي، والسعي إلى ذلك في طريق شائكة غير معبّدة. والحكمة من ذلك أن تتحقق عبودية الإنسان لله تعالى، وأن يمحّص الصادقون عن المنافقين، وأن يتخذ الله منهم شهداء، وأن يتجلّى المعنى التنفيذي للمبايعة التي جرت بين الله وعباده المؤمنين، والتي صرح بها قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ.. [التوبة 9/ 111] وأي معنى كان يبقى للتوقيع على صك هذه المعاهدة، لو أن كل ما جاء في مضمونها وهم لا يتحقق؟! بل وأي قيمة تبقى حينئذ لهذا التوقيع حتى يحرز به صاحبه الجنة والسعادة الأبدية الخالدة. والمشكلة في أساسها، إنما تطوف في رأس من قدر هذه الحياة العاجلة أكثر من قدرها الحقيقي وأولاها أكثر مما تستحق من الاهتمام، وضعف تعلقه في المقابل بالحياة الآخرة وشأنها. وتلك هي

_ (39) انظر نهاية المحتاج للرملي: 8/ 78 (40) متفق عليه.

إجلاء بني النضير

آية عدم الإيمان بالله تعالى أو ضعفه في النفس. ومثل هؤلاء الناس لا ينتظر منهم أن يغامروا بروح ولا مال. أما المؤمنون حقا فالمشكلة غير متصوّرة لديهم من أساسها، فلذّة الحياة الدنيا في يقينهم، أقل شأنا من أن تحبس المسلم عن أداء أصغر طاعة يتقرب بها إلى خالقه، وما التضحية بالروح في يقينهم إلا الانطلاقة من سجن الدنيا إلى نعيم الآخرة، وأنعم بها من غاية هي كل أمل المسلم في حياته التي يعيشها. وهذا الشعور يتجلى بأوضح صورة في الأبيات التي قالها خبيب عند مقتله، خاصة في آخر بيت منها، وهو قوله: ولست بمبد للعدو تخشعا ... ولا جزعا، إني إلى الله مرجعي إجلاء بني النضير وكان في شهر ربيع الأول، سنة أربع للهجرة. روى ابن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج يوم السبت، فصلى في مسجد قباء ومعه نفر من أصحابه من المهاجرين والأنصار، ثم أتى بني النضير، فكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيّين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمّري وكان لهما من رسول الله صلّى الله عليه وسلم جوار وعهد، وكان بين بني النضير وبين بني عامر عقد وحلف، وذلك على ما رواه ابن إسحاق وغيره، فقالوا: «نفعل يا أبا القاسم ما أحببت. وخلا بعضهم ببعض وهمّوا بالغدر. وقال عمرو بن جحاش النّضري: أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة- وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم واقفا إلى جنب جدار من بيوتهم-. وزاد ابن سعد أن سلام بن مشكم (وهو من يهود بني النضير) قال لهم: لا تفعلوا، والله ليخبرنّ بما هممتم به وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه «41» . فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخبر بما همّوا فنهض سريعا كأنه يريد حاجة، وتوجه إلى المدينة. ولحقه أصحابه، فقالوا: قمت ولم نشعر! .. قال: «همّت يهود بالغدر، فأخبرني الله بذلك فقمت» . ثم أرسل إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أن اخرجوا من بلدي فقد هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجّلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه. فأخذوا يتهيئون للخروج، ولكن عبد الله بن أبي بن سلول أرسل إليهم: أن لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصنكم، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم يقاتلون عنكم. فعادوا عما أزمعوا عليه من الخروج وتحصنوا في حصونهم، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم باعداد العدة لحربهم، والسير إليهم..

_ (41) طبقات ابن سعد: 3/ 99

العبر والعظات:

ثم سار رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليهم، وقد تحصن اليهود بحصونهم معهم النبل والحجارة. ولكن ابن أبيّ خذلهم فلم ينفذ وعده معهم، فحاصرهم النبي عليه الصلاة والسلام وأمر بقطع نخيلهم وإتلافها «42» . فنادوه: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من يصنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها؟ وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ [الحشر 59/ 5] . فعرضوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يخرجوا من المدينة كما أراد.. ولكنه صلّى الله عليه وسلم قال: لا أقبله اليوم إلا على أن تخرجوا بدمائكم فقط وليس لكم من أموالكم إلا ما حملته الإبل، عدا الحلقة (أي السلاح) . فنزل اليهود على ذلك، واحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل. قال ابن هشام: فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه (أي عتبته) فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، وتفرقوا ما بين خيبر والشام ولم يسلم منهم إلا رجلان: يامين بن عمير بن كعب ابن عم عمرو بن جحاش وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما» «43» . وقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأموال على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا اثنين من الأنصار أعطاهما لما ذكر له من فقرهما وهما سهل بن حنيف وأبو دجانة سماك بن خرشة. وكانت أموال بني النضير خالصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. وذكر البلاذري في (فتوح البلدان) أنه كان يزرع تحت النخل في أرضهم فيدخر من ذلك قوت أهله وأزواجه سنة، وما فضل جعله في الكراع والسلاح «44» . ونزل في بني النضير سورة الحشر بأكملها، ونزل تعليقا على سياسته صلّى الله عليه وسلم في تقسيم أموال بني النضير قوله تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ، وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [الحشر 59/ 6، 7] . العبر والعظات: وهذه صورة ثانية من طبيعة الغدر والخيانة المتأصلة في نفوس اليهود، وقد رأينا من قبلها صورة أخرى من خيانتهم فيما أقدم عليه يهود بني قينقاع. وتلك حقيقة تاريخية صدقتها الوقائع التي لا تحصى، وذلك هو سر اللعنة الإلهية التي حاقت بهم وسجلها بيان الله تعالى في قوله: لُعِنَ

_ (42) متفق عليه. (43) انظر طبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام وتاريخ الطبري وتفسير ابن كثير عند تفسير سورة الحشر. (44) عيون الأثر: 2/ 51

الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ، عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة 5/ 78] . ثم إن في هذه الواقعة لدروسا بليغة، ودلالات هامة تتعلق بكثير من أحكام الشريعة الإسلامية، نذكر منها ما يلي: أولا: الخبر الذي جاء من الله تعالى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكشف ما بيّته اليهود من الغدر به، يعدّ واحدة من الخوارق الكثيرة التي أكرم الله بها رسوله صلّى الله عليه وسلم قبل بعثته وأثناءها، وهي مما ينبغي أن يسترعي انتباهنا ليحملنا على مزيد من الإيمان بنبوته ورسالته، والاقتناع بأن شخصيته النبوية تعتبر الأساس الأول لوجوده وصفاته الشخصية الأخرى. وقد عبر بعض الكاتبين في السيرة وفقهها عن هذا الخبر الإلهي الذي نزل على الرسول صلّى الله عليه وسلم بفضح نوايا اليهود- عبر عن ذلك بأنه ألهم ما يبيته اليهود له-! وكلمة الإلهام تدل على معنى مشترك بين الناس كلهم فحاسّة الإلهام- عن طريق الإشارات والقرائن- حاسة طبيعية لا تختص بها فئة من الناس دون غيرهم. وكلمة (الخبر الإلهي) كما يستعملها علماء السيرة رحمهم الله تعالى، إنما تدل على معنى هو من سمات النبوة وخصوصياتها، ونحن نعلم أن هذا المعنى دون غيره هو الذي جعل النبي صلّى الله عليه وسلم يحس بالمكر، فهو الوفاء من الله تعالى بوعده القاطع لرسوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] . وإذا كان الأمر كذلك، ففيم التمويه في التعبير؟ .. أما إن هذا ليس إلا مظهرا من مظاهر إنكار معجزاته صلّى الله عليه وسلم. وقد علمت فيما مضى أن مصدر إنكار معجزاته عليه الصلاة والسلام- بعد ثبوتها بالقطع المتواتر- ليس إلا مظهر ضعف في الإيمان بنبوته عليه الصلاة والسلام. ثانيا: قطع نخيل بني النضير وإحراقها، ثبت بالاتفاق. والذي أتلفه الرسول صلّى الله عليه وسلم من ذلك إنما هو البعض ثم ترك الباقي. وقد نزل القرآن تصويبا لما أقدم عليه النبي صلّى الله عليه وسلم من ذلك: قطعا وإبقاء، وذلك في قوله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ ... [الحشر 59/ 5] . وقد استدل عامة العلماء بذلك، على أن الحكم الشرعي في أشجار العدو وإتلافها منوط بما يراه الإمام أو القائد من مصلحة النكاية بأعدائهم، فالمسألة إذن من قبيل ما يدخل تحت اسم السياسة الشرعية. قال العلماء: وإنما كان قصد الرسول صلّى الله عليه وسلم بتصرفه هذا في النخيل- قطعا أو كفا- تحقيق المصلحة وتلمس السبيل إليها، إرشادا وتعليما للأئمة من بعده. وبهذا أيضا علل الشافعي رحمه الله، أمر أبي بكر رضي الله عنه بالإحراق والقطع، حينما أرسل خالدا إلى طليحة وبني تميم، مع أنه نهى هو نفسه عن ذلك في حروب الشام. ويقول رحمه الله في هذا: «ولعل أمر أبي بكر بأن يكفوا عن أن يقطعوا شجرا مثمرا، إنما هو لأنه سمع

رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخبر أن بلاد الشام تفتح على المسلمين، فلما كان مباحا له أن يقطع ويترك، اختار الترك نظرا للمسلمين» «45» . وهذا الذي قلناه من إباحة قطع شجر الكفار وإحراقه إذا اقتضت المصلحة هو مذهب نافع مولى ابن عمر ومالك والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور الفقهاء. وروي عن الليث بن سعد وأبي ثور والأوزاعي القول بعدم جوازه «46» . ثالثا: اتّفق الأئمة على أن ما غنمه المسلمون من أعدائهم بدون قتال (وهو الفيء) يعود النظر والتصرف فيه إلى ما يراه الإمام من المصلحة، وأنه لا يجب عليه تقسيمه بين الجيش كما تقسم عليهم الغنائم التي غنموها بعد قتال وحرب، مستدلين على ذلك بسياسته صلّى الله عليه وسلم في تقسيم فيء بني النضير، فقد خص به- كما رأيت- المهاجرين وحدهم، وقد نزل القرآن تصويبا لذلك، في الآيتين اللتين ذكرناهما. ثم اختلفوا في الأراضي التي غنمها المسلمون بواسطة الحرب: فذهب مالك إلى أن الأرض لا تقسم مطلقا، وإنما يكون خراجها وقفا لمصالح المسلمين إلا أن يرى الإمام أن المصلحة تقضي القسمة فإن له ذلك، ويذهب الحنفية قريبا من هذا المذهب. أما الشافعي فذهب إلى أن الأرض المأخوذة عنوة تجب قسمتها كما تجب قسمة غيرها من الغنائم، وهو الظاهر من مذهب الإمام أحمد أيضا. ودليل ما ذهب إليه الشافعي، أن تصرف النبي صلّى الله عليه وسلم بأموال بني النضير، على خلاف ما تقتضيه القسمة بين الغانمين في الحرب، إنما كان بسبب عدم وجود أي قتال تسبّب عنه الحصول على تلك الغنائم. وقد نصت الآية على ذلك في معرض تعليل حكمه صلّى الله عليه وسلم، في فيء بني النضير، وهي قوله تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ [الحشر 59/ 6] وإذا كان هذا هو مناط جواز عدم القسمة لأراضي الفيء فمن الواضح أنه إذا ارتفع مناط الحكم، ارتفع الحكم معه، وعاد الحكم المنصوص عليه في حق الغنائم، سواء في ذلك الأراضي وغيرها. ودليل ما ذهب إليه مالك وأبو حنيفة أمور كثيرة، من أهمها عمل عمر رضي الله عنه حينما امتنع عن تقسيم سواد العراق، وجعلها وقفا يجري خراجها ريعا للمسلمين وليس المجال هنا متسعا لأكثر من هذا العرض المجمل في الموضوع. إنما الذي ينبغي أن ننتبه إليه من هذا البحث هنا، هو التعليل الذي ذكره الله تعالى في

_ (45) الأم: 7/ 324 وانظر في هذا الموضوع: ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية- للمؤلف 170- 171 (46) انظر شرح النووي على صحيح مسلم: 12/ 50

غزوة ذات الرقاع

الآيتين اللتين أوضحتا سياسته عليه الصلاة والسلام في تقسيم فيء بني النضير إذ اختص به أناسا دون آخرين. فقد ذكر الله تعالى في تعليل ذلك قوله: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي كي لا يكون تداول المال محصورا فيما بين طبقة الأغنياء منكم فقط. والتعليل بهذه الغاية يؤذن بأن سياسة الشريعة الإسلامية في شؤون المال، قائمة في جملتها على تحقيق هذا المبدأ. وإن كل ما تفيض به كتب الشريعة الإسلامية من الأحكام المتعلقة بمختلف شؤون الاقتصاد والمال يبتغى من ورائها إقامة مجتمع عادل تتقارب فيه طبقات الناس وفئاتهم ويقضى فيه على أسباب الثغرات التي قد تظهر فيما بينها، والتي قد تؤثر على سير العدالة وتطبيقها. ولو طبّقت أحكام الشريعة الإسلامية وأنظمتها الخاصة بشؤون المال من إحياء لشريعة الزكاة ومنع للربا وقضاء على مختلف مظاهر الاحتكارات لعاش الناس كلهم في بحبوحة من العيش، قد يتفاوتون في الرزق ولكنهم جميعا مكتفون، ليس فيهم كلّ على آخر وإن كانوا جميعا يتعاونون. والمهم أن تعلم أن الله تعالى لما جعل حكمة شريعته في الدنيا إقامة هذا المجتمع، شرع لذلك وسائل وأسبابا معينة ألزمنا باتّباعها وعدم الخروج عليها. أي، إن الله تعالى تعبدنا بكل من الغاية والوسيلة معا، فلا يجوز أن يقال: إن الغاية من الإسلام إقامة العدالة الاجتماعية، فلنسلك إلى ذلك ما نراه من السبل والأسباب، بل إن هذا يعد خروجا على كل من الغاية والوسيلة معا، فلن تتحقق الغاية التي أمرنا الله تعالى بتحقيقها إلا باتباع الوسيلة التي شرعها لنا سبيلا إلى تلك الغاية، والتاريخ أعظم دليل والوقائع أكبر شاهد. هذا وجدير بك أن تعود إلى سورة الحشر بكاملها، لتتأمل تعليق البيان الإلهي العظيم على هذه الحادثة بمجموعها وعامة ملابساتها: اليهود والمنافقون، سياسة الرسول في المال والحرب، وغير ذلك ... فهذه السورة من أهم ما يمكّنك من الوقوف على دروس هذه القصة وعظاتها. غزوة ذات الرقاع وقد كانت في السنة الرابعة للهجرة، بعد مرور شهر ونصف تقريبا على إجلاء بني النضير، على ما ذهب إليه أكثر علماء السير والمغازي. ورجّح البخاري وبعض المحدثين أنها كانت بعد غزوة خيبر. وسببها ما ظهر من الغدر لدى كثير من قبائل نجد بالمسلمين، ذلك الغدر الذي تجلى في مقتل أولئك الدعاة السبعين الذين خرجوا يدعون إلى الله تعالى، فخرج عليه الصلاة والسلام قاصدا

قبائل محارب وبني ثعلب، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري رضي الله عنه. وعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مكان بنجد من أرض غطفان يسمى (نخل) ، ولكن الله تعالى قذف في قلوب تلك القبائل الرعب- وقد كانت كما يقول ابن هشام جموعا كبيرة- فتفرقوا بعيدا عن المسلمين، ولم يقع أيّ قتال. غير أن في قصة هذه الغزوة- مع ذلك- مشاهد تستأهل النظر فيها وأخذ الدرس منها، فلنجتزئ عن ذكر القصة كلها، بذكر هذه المشاهد: أولا: روي في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، قال: فنقبت أقدامنا، فنقبت قدماي وسقطت أظافري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع، لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق. قال أبو موسى بهذا الحديث ثم كره ذلك، قال: كأنه كره أن يكون شيئا من عمله أفشاه» . ثانيا: روى البخاري ومسلم أنه صلّى الله عليه وسلم صلى في غزوة ذات الرقاع صلاة الخوف، وأن طائفة صفّت معه، وطائفة وجاه العدو. فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم، ثم سلّم بهم «47» . ثالثا: روى البخاري أيضا عن جابر رضي الله عنه: «أنه لما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة (وقت القيلولة) في واد كثير العضاه (نوع من الشجر) فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتفرق الناس يستظلون الشجر، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم تحت سمرة فعلق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدعونا فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال لي: من يمنعك مني؟ فقلت له: الله، فها هو ذا جالس ... ثم لم يعاقبه رسول الله صلّى الله عليه وسلم» «48» . رابعا: روى ابن إسحاق وأحمد عن جابر رضي الله عنه، قال: «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع فأصيبت امرأة من المشركين فلما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم

_ (47) رواه البخاري في 5/ 53 باب: غزوة ذات الرقاع، ورواه مسلم في 2/ 214 باب صلاة الخوف وزاد مسلم فروى بعد ذلك عن جابر أنه نودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، قال: فكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتين. قلت: ووجه التوفيق بين الحديثين أنه عليه الصلاة والسلام صلى بأصحابه صلاة الخوف أكثر من مرة، فصلاها مرة على النحو الأول وصلاها مرة أخرى على النحو الثاني وحديث مسلم يدل على أن المسافر يجوز له أن يتم الرباعية ويقصرها وهو مذهب الشافعي ومالك والإمام أحمد، خلافا للحنفية.. (48) صحيح البخاري: 5/ 52 و 53 و 54

قافلا وجاء زوجها وكان غائبا، فحلف أن لا ينتهي حتى يهريق دما في أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم، فخرج يتبع أثر النبي صلّى الله عليه وسلم، فنزل النبي صلّى الله عليه وسلم منزلا، فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟ قال: فانتدب رجل من المهاجرين وآخر من الأنصار «49» فقالا: نحن يا رسول الله، قال: فكونا بفم الشعب، قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه قد نزلوا إلى شعب من الوادي. فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب، قال الأنصاري للمهاجري: أيّ الليل تحب أن أكفيكه؟ أوله أم آخره؟ قال: بل اكفني أوله. فاضطجع المهاجري فنام، وقام الأنصاري يصلي، قال: وأتى الرجل فلما رأى شخص الأنصاري عرف أنه ربيئة القوم (الطليعة الذي يحرسهم) فرمى بسهم فوضعه فيه، فنزعه الأنصاري وثبت قائما يصلي، ثم رماه بسهم آخر فوضعه فيه، فنزعه وثبت قائما، ثم عاد له بالثالثة فنزعه، ثم ركع وسجد، وأهب صاحبه (أيقظه) قائلا: اجلس فقد أثبتّ، قال: فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذر به «50» فهرب، ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال: سبحان الله، أفلا أيقظتني أول ما رماك، قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها. فلما ثابر عليّ الرمي ركعت فآذنتك. وايم الله، لولا أن أضيع ثغرا أمرني رسول الله بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها» «51» . خامسا: روى البخاري ومسلم، وابن سعد في طبقاته، وابن هشام في سيرته، عن جابر بن عبد الله قال: «خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى غزوة ذات الرقاع على جمل لي ضعيف، فلما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلم جعلت الرفاق تمضي، وجعلت أتخلف حتى أدركني رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال: مالك يا جابر؟ قلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا. قال: أنخه فأنخته وأناخ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: أعطني هذه العصا من يدك، ففعلت، فأخذها فنخسه بها نخسات ثم قال: اركب، فركبت فخرج- والذي بعثه بالحق- يواهق «52» ناقته مواهقة. وتحدثت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال لي: أتبيعني جملك هذا يا جابر؟ قلت: يا رسول الله، بل أهبه لك، قال: لا ولكن بعنيه، قلت: فسمنيه يا رسول الله، قال: آخذه بدرهم! قلت: لا، إذن تغبنني يا رسول الله. قال: فبدرهمين؟ قلت: لا، فلم يزل يرفع لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ثمنه حتى بلغ الأوقية. فقلت: أفقد رضيت يا رسول الله؟ قال: نعم، قلت: فهو لك، قال: قد أخذته.. ثم قال: يا جابر هل تزوجت بعد؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: أثيّبا أم بكرا؟

_ (49) زاد ابن إسحاق: وهما عمار بن ياسر، وعباد بن بشر. (50) نذر به: أي اكتشف أمره. (51) رواه أحمد والطبري وأبو داود عن ابن إسحاق عن صدقة بن يسار عن عقيل بن جابر عن جابر بن عبد الله. (52) يواهق: أي يسابق.

العبر والعظات: تحقيق في تاريخ هذه الغزوة:

قلت: لا، بل ثيّبا، قال: أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ قلت: يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد وترك له بنات سبعا، فنكحت امرأة جامعة، تجمع رؤوسهن وتقوم عليهن. قال: أصبت إن شاء الله، أما إنا لوقد جئنا صرارا «53» أمرنا بجزور فنحرت، وأقمنا عليها يومنا ذاك، وسمعت بنا فنفضت نمارقها «54» ، فقلت: والله يا رسول الله، مالنا من نمارق!. قال: إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيّسا. قال جابر: فلما جئنا صرارا، أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بجزور فنحر، وأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى رسول الله صلّى الله عليه وسلم دخل ودخلنا المدينة. قال جابر: فلما أصبحت أخذت برأس الجمل، فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم جلست في المسجد قريبا منه، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرأى الجمل فقال: ما هذا؟ قالوا: يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر، قال: فأين جابر؟ فدعيت له فقال: يا ابن أخي، خذ برأس جملك فهو لك. ودعا بلالا فقال له: اذهب بجابر فأعطه أوقية، فذهبت معه فأعطاني أوقية وزادني شيئا يسيرا، فو الله ما زال ينمو عندي ويرى مكانه من بيتنا» «55» . العبر والعظات: تحقيق في تاريخ هذه الغزوة: اتفق علماء المغازي والسّير، كما أسلفنا، على أن غزوة ذات الرقاع كانت قبل خيبر. ثم رجّح معظمهم أنها كانت بعد غزوة بني النّضير في العام الرابع للهجرة. وذهب بعضهم كابن سعد وابن حبّان إلى أنها في العام الخامس. غير أن الإمام البخاري نصّ في صحيحه على أنها كانت بعد خيبر، ولكنها مع ذلك جاءت في ترتيب كتابه قبلها! .. ورجح الحافظ ابن حجر ما ذهب إليه البخاري مستدلا بأن صلاة الخوف كانت مشروعة في ذات الرقاع مع أنه لم يصلّها في الخندق وقد فاتته فصلاها قضاء، كما استدل بما روي في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري يصف كيف نقبت أقدامهم في ذات الرقاع حتى لفّوا عليها الخرق فلذلك سميت بذات الرقاع وأبو موسى الأشعري لم يعد من الحبشة إلا بعد غزوة خيبر. واستشكل ابن القيّم الأمر على ضوء هذه الأدلة فقال: إن هذا يدل على أن غزوة ذات الرقاع ربما كانت بعد غزوة الخندق «56» .

_ (53) صرار: اسم مكان في ضاحية المدينة. (54) جمع غرقة: الوسادة الصغيرة للاتكاء. يقصد أنها إذا علمت بقدومك قامت فهيأت البيت لوصولك ... (55) سياق القصة بهذا اللفظ لابن إسحاق كما رواه ابن هشام في السيرة. وهي في البخاري ومسلم قريب من ذلك. (56) انظر فتح الباري: 7/ 294، وعيون الأثر: 2/ 53، وزاد المعاد: 2/ 111

قلت: بل يتعين أن تكون غزوة ذات الرقاع هذه قبلها، إذ ثبت في الصحيح أن جابرا رضي الله عنه استأذن الرسول إلى بيته في غزوة الخندق وأخبر امرأته بما رأى من جوع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفيه قصة الطعام الذي دعا إليه النّبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، وفيه أنه صلّى الله عليه وسلم قال لزوجة جابر: «كلي هذا واهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة» . وثبت في الصحيحين أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سأل جابرا في غزوة ذات الرقاع: «هل تزوجت بعد؟ قال: نعم يا رسول الله» .. الحديث وقد مرّ مفصّلا. أي فلم يكن قد علم النّبي صلّى الله عليه وسلم بعد شيئا عن زواجه. فهذا يدل دلالة واضحة على أن ذات الرقاع كانت قبل الأحزاب فضلا عن خيبر. ولم أر من استدلّ بهذا على تأخر الأحزاب عن ذات الرقاع، ممن قال بذلك، ولا من أجاب عنه ممن قال بعكسه، ولكنه على كل حال، دليل يكاد يكون قاطعا على ما نقول. أمّا، ما استدل به الحافظ ابن حجر من أنه صلّى الله عليه وسلم لم يصلّ صلاة الخوف في الأحزاب وصلاها قضاء فيجاب عنه بأنه ربما كان سبب تأخير الرسول صلّى الله عليه وسلم لها إذ ذاك، استمرار الرمي بين المشركين والمسلمين بحيث لم يدع مجالا للانصراف إلى الصلاة، وربما كان العدو في جهة القبلة وصلاة الخوف التي صليت في ذات الرقاع كان العدو فيها في غير جهة القبلة كما قد رأيت، أو ربما أخّرها لبيان مشروعية قضاء الفائتة كيفما كانت. كما يجاب عن استدلاله بحديث أبي موسى الأشعري بما ذكره كثير من علماء السّير والمغازي من أن أبا موسى الأشعري إنما قصد بها غزوة أخرى سميت هي أيضا بذات الرقاع. بدليل أنه قال عنها: «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه» إلخ. وغزوة ذات الرقاع التي نتحدث عنها كان عدد المسلمين فيها أكثر من ذلك. وقد حاول الحافظ ابن حجر رحمه الله أن يردّ على هذا الكلام ولكن ليس ثمة داع إلى ذلك، خصوصا وقد ثبت الدليل القاطع على ما ذهب إليه علماء المغازي، مما ذكرناه من حديث جابر في كل من الغزوتين. هذا وسنفصّل الحديث عن تأخير النّبي عليه الصلاة والسلام الصلاة عن وقتها يوم الخندق وما يتعلق به من المسائل والأحكام، في مناسبته إن شاء الله. ثم إن هذه الغزوة لم يشتبك فيها المسلمون مع أحد من المشركين بقتال، كما رأيت من استعراض خلاصتها، ولكنها مع ذلك تنطوي على مشاهد ذات دلالات هامة يجب دراستها والاعتبار بها. ولقد ذكرنا منها خمسة مشاهد هي خلاصة أحداثها، فلنذكر ما يمكن أن يفهم من كل واحد منها: أولا: فيما رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري في بيان سبب تسمية هذه الغزوة أو غيرها، كما قلنا، بذات الرقاع صورة واضحة عن مدى ما كان يتحمله أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في تبليغ

رسالة ربّهم والجهاد في سبيله. لقد أوضحت الصورة أنهم كانوا فقراء لا يجدون حتى الظهر الذي يمتطونه لجهادهم وغزواتهم، فالستة أو السبعة يتبادلون ركوب بعير واحد في قطع مسافة بعيدة شاقة، ولكن الفقر لم يستطع مع ذلك أن يعوقهم عن أداء رسالتهم، رسالة الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله. فقد تحملوا في سبيل ذلك كل النتائج وكل ألوان المحن ... نقبت أقدامهم من طول سيرها على الوعثاء والقتاد، وتساقطت أظافرهم مما اصطدمت بالحجارة والصخور، وتعرّت أقدامهم فلم يجدوا إلا الخرق يلفونها عليها الواحدة فوق الأخرى!! .. ومع ذلك فما ضعفوا وما استكانوا واستهانوا بكل ذلك في جنب عظم المسؤولية الإلهية الملقاة على أعناقهم منذ أن أصبحوا مسلمين، فقد كانوا يتمثلون قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة 9/ 111] . ثم إنك ترى أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، كره من نفسه أن أباح بهذا الخبر، بعد أن أفلت من فمه، عندما سألوه عن سبب تسمية هذه الغزوة بذات الرقاع.. وإنما كره ذلك وندم عليه بسبب أنه أفشا شيئا من عمله الذي احتسب أجره عند الله تعالى. وهذا يدل، كما يقول الإمام النووي، على أنه يستحب للمسلم أن يخفي أعماله الصالحة وما قد يكابده من المشاقّ في طاعة الله تعالى، وأن لا يتعمّد إظهار شيء من ذلك إلا لمصلحة، مثل بيان حكم ذلك الشيء والتنبيه على الاقتداء به ونحو ذلك. وعلى مثل هذا يحمل ما وجد للسلف من الإخبار ببعض أعمالهم «57» . ثانيا: الطريقة التي صلى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم جماعة مع أصحابه في هذه الغزوة، هي الأساس الذي قامت عليه مشروعية صلاة الخوف. ولصلاة الخوف كيفيتان، إحداهما خاصة بأن يكون العدو في جهة القبلة، والثانية خاصة بأن يكون العدو في غير جهتها. والكيفية الثانية هي التي صلى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع. فقد حان وقت الصلاة، وأشتات العدو من حول المسلمين في أكثر من جهة القبلة وحدها، ويخشى أنهم يراقبون المسلمين من بعد، حتى إذا رأوهم أدبروا عنهم جميعا وانشغلوا بصلاتهم غدروا بهم وانحطوا فيهم بسيوفهم. فبدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصلاة مع فرقة من أصحابه، وإخوانهم يراقبون العدو في جهاته المختلفة، حتى إذا أتمّ الرسول صلّى الله عليه وسلم من صلاته نصفها، أي ركعة واحدة، فارقه من كانوا يصلون خلفه وأسرعوا فأتموا الركعة الثانية وحدهم، والرسول واقف في صدر ركعته الثانية، ثم ذهبوا

_ (57) انظر النووي على صحيح مسلم: 12/ 197 و 198

ليرابطوا مكان إخوانهم، حيث جاء هؤلاء فاقتدوا به صلّى الله عليه وسلم فصلى بهم الركعة الثانية التي بقيت من صلاته، ثم قاموا فأتموا وحدهم الركعة الثانية والنّبي صلّى الله عليه وسلم ينتظرهم جالسا، ثم سلّموا معه. والذي اقتضى هذه الكيفية من الصلاة مع إمكان أدائهم الصلاة بجماعتين، سببان اثنان: الأول: قصد اجتماعهم كلهم على الاقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتلك فضيلة لا يصار إلى غيرها عند إمكان تحقيقها. الثاني: استحباب وحدة الجماعة قدر الإمكان، فتجزئة القوم أنفسهم إلى عدة جماعات تتوالى لأداء فريضة من الفرائض مكروه بدون ضرورة. ولم يلاحظ السادة الحنفية إلا السبب الأول لها، ولذلك ذهبوا إلى أنه لا مسوغ لبقاء مشروعيتها بعد وفاة النّبي صلّى الله عليه وسلم. ثالثا: قصة المشرك الذي أخذ سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو نائم تحت الشجرة ... إلخ، قصة ثابتة صحيحة كما رأيت، وهي تكشف عن مدى رعاية الباري جلّ جلاله وحفظه لنبيه صلّى الله عليه وسلم، ثم هي تزيدك يقينا بالخوارق التي أخضعها الله جلّ جلاله له عليه الصلاة والسلام مما يزيدك تبصرا ويقينا بشخصيته النّبوية، فقد كان من السهل الطبيعي بالنسبة لذلك المشرك- وقد أخذ السيف ورفعه فوق النّبي صلّى الله عليه وسلم وهو أعزل غارق في غفلة النوم- أن يهوي به عليه فيقتله، وإنك لتلمس من ذلك المشرك هذا الاعتداد بنفسه والزهو بالفرصة الذهبية التي أمكنته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، في قوله: من يمنعك مني!؟ .. فما الذي طرأ بعد ذلك حتى عاقه عن القتل؟ .. إن الذي طرأ.. هو ما لم يكن في حساب المشرك وتقديره، ألا وهو عناية الله وحفظه لرسوله، فقد كانت العناية الإلهية كافية لأن تملأ قلب المشرك بالرعب وأن تقذف في ساعديه تيارا من الرجفة، فيسقط من يده السيف.. ثم يجلس متأدبا مطرقا بين يدي رسول الله. وأهم ما يجب أن تعلمه من هذه الحادثة أن هذا هو مصداق قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] . فليست العصمة المقصودة في الآية، أن لا يتعرض لأذى أو محنة من قومه، إذ تلك هي سنّة الله في عباده كما قد علمت. وإنما المراد من العصمة أن لا تطول إليه أي يد تحاول اغتياله وقتله لتغتال فيه الدعوة الإسلامية التي بعث لتبليغها. رابعا: إنما ذكرنا قصة جابر بن عبد الله وما كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم من المحادثة في طريق عودتهما إلى المدينة، مع أنها لا تتعلق بشيء من أمر الغزوة لما فيها من الصورة الكاملة الدقيقة لخلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع أصحابه، وما انطوى عليه خلقه الكريم هذا من لطف في المعاشرة ورقة في الحديث وفكاهة في المحاورة ومحبة شديدة لأصحابه. فأنت إذا تأملت جيدا في هذه القصة التي سردناها، علمت أن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان متأثرا بالمحنة

التي طافت على بيت جابر بن عبد الله. فقد استشهد والده في أحد، فقام هو- وهو أكبر أولاد أبيه- على شأن الأسرة ورعاية الأطفال الكثيرين الذين خلّفهم له والده من ورائه، وهو على ذلك رقيق الحال ليس له نصيب وافر من الدنيا. وكأنما استشعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم في تأخر جابر عن القوم بسبب جمله الضعيف الذي لا يملك غيره، مظهرا لحالته العامة هذه.. (وقد كان من عادته صلّى الله عليه وسلم إذا سار مع صحبه في طريق، أن يتفقد أصحابه كلهم ويطمئن عليهم بين كل فترة وأخرى) ، فانتهزها فرصة وتخلف حتى التقى معه وراح يواسيه بأسلوبه الرقيق الفكه الذي رأيت، في طريق ليس معهما فيه ثالث. عرض عليه صلّى الله عليه وسلم شراء بعيره، وهو إنما يريد أن يجعل من ذلك ذريعة ومناسبة لإكرامه ومساعدته على وضعه الذي هو فيه، ثم سأله عن الزوجة والبيت، في أسلوب فكه رقيق، وراح يطمئن الزوج الجديد، أنهم إذا وصلوا قريبا من المدينة أقاموا ساعات هناك، حتى يتسامع أهل المدينة بمقدمهم، فتسمع زوجته، فتصلح له من شأنها، وتهيء له البيت بزينته ونمارقه. وينساق معه جابر في الأسلوب نفسه فيقول: «والله يا رسول الله ما لنا من نمارق!» .. فيجيبه عليه الصلاة والسلام قائلا: «إنها ستكون» . صورة رائعة، عن لطف معشره، وأنس حديثه، والفكاهة الحلوة في محاورته لأصحابه، لم يكتب لنا أن نراها ونسعد بها في مجالسه صلّى الله عليه وسلم وغزواته وأسفاره، ولكن ها نحن نستشفها من سيرته وأخباره العطرة فيهزنا الشوق إلى رؤيته التي حرمناها ومجالسه التي سمعنا بها ولم نرها، وغزواته التي قرأناها ولم يكن لنا شرف الاشتراك فيها، اللهم عوضنا عن ذلك كله بلقاء معه في جنان خلدك، وهيّئنا لذلك بتوفيق من لدنك للتمسك بهديه واقتفاء أثره في تحمل كل محنة وضيم في سبيل دينك وتحقيق شريعتك. خامسا: لابدّ من أن يقف المسلم وقفة متأملة طويلة، أمام خبر ذينك الصحابيين، وهما يقومان على الثغر الذي أمرهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم بحراسته، ليعلم طبيعة الجهاد الإسلامي وكيف كان يمارسه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. لم يكن الجهاد عملا حركيا يقوم على أساس المقاومة المجردة، ولم يتصور واحد من أولئك المسلمين هذه الصورة الشوهاء له ولا في لحظة واحدة. إنما الجهاد- كما علّمه الرسول أصحابه وكما فهمه الصحابة منه- عبادة كبرى يتعلق فيها كيان المسلم كلّه بخالقه جلّ جلاله خاشعا مستغيثا متبتلا. وما ساعة يكون فيها المؤمن أقرب إلى ربّه جلّ جلاله من تلك الساعة التي يستدبر فيها الدنيا ويستقبل بوجهه شطر الموت والاستشهاد. ولذلك، كان من الطبيعي جدا بالنسبة لذلك الأنصاري، (عباد بن بشر) رضي الله عنه،

غزوة بني المصطلق وتسمى بغزوة المريسيع

أن يشغل شطر حراسته من الليل بركعات خاشعة يقف فيها بين يدي ربّه جلّ جلاله، وقد انصرفت مشاعره كلها إلى مناجاته بآيات من كتابه الكريم. وكان من الطبيعي جدا أن لا يبالي بذلك السهم الذي أسرع فانحطّ في جسمه، ولا بالسهم الثاني الذي تبعه، لأن بشريّته كلها إنما كانت في تلك الساعة مطويّة ضمن مشاعره المنصرفة إلى ربّه جلّ جلاله وقد غمرتها لذّة المناجاة بين العبد وخالقه. ولما ارتدّ شعوره إليه وأخذ يهتم بما قد أصابه، لم يكن ذلك لمزيد من الألم بدأ يشعر به، وإنما للمسؤولية المنوطة به مخافة أن يضيّعها بضياع حياته واستمرار سكوته. فكان ذلك هو الذي اضطره إلى أن يلتفت فيوقظ صاحبه ليستلم منه أمانة الثغر الذي أنيط بهما حفظه. وتأمل يا أخي المسلم في قوله رضي الله عنه: «وايم الله، لولا أن أضيع ثغرا أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها» (أي الصلاة) . تلك هي طبيعة الجهاد الذي تكفل الله لأربابه بالنصر والفوز، مهما كانت القوى المتألبة عليهم المتجمعة من حولهم. فقارن- ليتقطع منك الكبد حسرة وأسى- بين ذلك الجهاد و (الجهاد) الآخر الذي نفخر باسمه وشعاراته اليوم. قارن، لتقف على مدى عدالة الله في الأرض، ولتعلم أن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون. ثم ارفع يديك إلى السماء متوسلا أن لا يهلكنا الله بما فعل المبطلون، واجهد أن تسكب قطرات حارة من دمع عينيك فيهما. فلعل في ذلّ العبودية إذ نتسربل به صادقين أمام الله، ما يردّ عنا نقمة حقت علينا بتقصيرنا وما جنيناه من سيء الأعمال على نفوسنا. غزوة بني المصطلق وتسمى بغزوة المريسيع ذكر ابن إسحاق وبعض علماء السيرة أنها كانت في العام السادس من الهجرة، والصحيح الذي ذهب إليه عامة المحققين أنها كانت في شعبان من العام الخامس للهجرة، ومن أبرز أدلة ذلك أن سعد بن معاذ كان حيا في هذه الغزوة، وله ذكر في قصة الإفك التي سيأتي تفصيلها إن شاء الله، وقد توفي سعد بن معاذ في غزوة بني قريظة متأثرا بجرحه الذي أصيب به في الخندق، وقد كانت

غزوة بني قريظة سنة خمس من الهجرة كما سيأتي بيان ذلك. فكيف يكون سعد حيّا بعد عام من وفاته «58» ؟! وسببها ما بلغ النّبي صلّى الله عليه وسلم من أن بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن ضرار، فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء يقال له (المريسيع) . فتزاحم الناس واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم. وقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعة أخماس الغنيمة على المقاتلين للراجل سهم وللفارس سهمان «59» . وخرج مع المسلمين في هذه الغزوة عدد كبير من المنافقين، كان يغلب عليهم التخلف في الغزوات السابقة، وذلك بما رأوا من اطراد النصر للمسلمين وطمعا في الغنيمة. وقد روى البخاري ومسلم من طريقين مختلفين أن بعض الصحابة استفتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في شأن العزل في هذه الغزوة- وذلك عند ما قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينهم السبي- فقال لهم: «ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة، إلا وهي كائنة» . وروى ابن سعد في طبقاته وابن هشام في سيرته، أن غلاما لعمر بن الخطاب رضي الله عنه اسمه جهجاه بن سعيد الغفاري تنازع مع سنان بن وبر الجهني، وهما مع جمع عند ماء المريسيع أثناء مقام النّبي صلّى الله عليه وسلم هناك، وكادا أن يقتتلا، فصرخ الجهني: «يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فسمع بالأمر عبد الله بن أبي بن سلول، فغضب وقال للرهط ممن معه: أو فعلوها؟! .. قد نافرونا وكاثرونا في دارنا والله ما أعدنا وجلابيب قريش (يقصد المسلمين من قريش) إلا كما قالوا: سمّن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ» . وكان ممن سمع كلامه زيد بن أرقم، فمشى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخبره الأمر، وكان عنده عمر رضي الله عنه، فقال: «يا رسول الله مر به عبّاد بن بشر فليقتله، فقال له عليه الصلاة والسلام: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا. ولكن أذن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس. ومشى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذنتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما. وإنما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي» .

_ (58) راجع للوقوف على تفصيل الدليل في هذا فتح الباري: 7/ 304، وزاد المعاد لابن القيم: 2/ 112، وعيون الأثر لابن سيّد الناس: 2/ 93 (59) طبقات ابن سعد: 3/ 106، وسيرة ابن هشام: 2/ 290

خبر الإفك

ونزلت سورة المنافقين تصديقا لقول زيد بن أرقم عن عبد الله بن سلول، وفيها يقول الله تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ «60» [المنافقون 63/ 8] . وجاء عبد الله بن عبد الله بن أبي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم- بعد أن رجعوا إلى المدينة- فقال: «إنه بلغني أنك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه. فإن كنت لابدّ فاعلا، فمرني فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني وإني أخشى أن تأمر غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله فأقتل رجلا مؤمنا بكافر فأدخل النار. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا. وجعل بعد ذلك إذا حدث عبد الله بن أبي بالحديث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويعنفونه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: «كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. فقال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري» . خبر الإفك وفي منصرف المسلمين من هذه الغزوة كان حديث عائشة وقول أهل الإفك فيها. ونحن نسوق لك خلاصة ما جاء في الصحيحين من ذلك. فقد روت رضي الله عنها أنها خرجت مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة.. قالت: «فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل، آذن ليلة بالرحيل. فقمت إلى بعض شأني، فلما رجعت إلى الرحل، لمست صدري فإذا عقدي قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، قالت وأقبل الرهط الذين كانوا يرحّلوني فاحتملوا هودجي- وكان ذلك بعد نزول آية الحجاب- فرحّلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه.. فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فيممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليّ، وكان صفوان بن المعطل من وراء الجيش فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان، فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب. وكنت قد غلبتني عيناي فنمت، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني. فخمّرت وجهي بجلبابي،

_ (60) رواه بهذا الشكل ابن إسحاق مرسلا، ورواه مختصرا عن هذا ابن سعد، والبيهقي عن جابر، وأحمد وابن جرير عن زيد بن أرقم، وابن أبي حاتم عن عمرو بن ثابت الأنصاري وجميع الروايات متقاربة في التفصيل، متفقة في الخلاصة وكلها ما عدا مرسل ابن إسحاق موصولة السند وراجع تفسير ابن كثير: 4/ 370، وتاريخ ابن جرير: 2/ 606، والفتح الرباني: 21/ 70 و 18/ 306، وسيرة ابن هشام: 2/ 291

وو الله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه. وهوى حتى أناخ راحلته، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة، وهم نزول، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول. قالت واشتكيت حين قدمنا المدينة شهرا، والناس يفيضون في قول الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك غير أني لا أعرف من رسول الله عليه الصلاة والسلام اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ فلما نقهت خرجت ذات ليلة مع أم مسطح لقضاء حاجة- ولم نكن قد اتّخذنا الكنف- فلما رجعنا عثرت أم مسطح في مرطها، فقالت تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا قد شهد بدرا؟!. قالت أولم تسمعي ما قال؟ قالت فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي.. وبكيت تلك الليلة حتى أصبحت، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستشير بعض أصحابه في الأمر وفي فراق أهله، فمنهم من يقول: يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، ومنهم من يقول: لم يضيق الله عليك، النساء كثير، واسأل الجارية- يعني بريرة- تصدقك. فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بريرة، وسألها: هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ فأخبرته أنها لم تعلم عنها إلا الخير. فقام عليه الصلاة والسلام على المنبر، فقال: يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي؟ فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا. فقام سعد بن معاذ، فقال أنا أعذرك منه يا رسول الله. إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. فتلاغط الناس في المسجد حتى أسكتهم رسول الله. ثم دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبواي عندي، وهما يظنان أن البكاء فالق كبدي، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء. قالت: فتشهد حين جلس، ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه. قالت: فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة. فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال والله لا أدري ما أقول. فقلت لأمي: أجيبي عني، فقالت والله ما أدري ما أقول، فقلت: والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به، فإن قلت لكم إني بريئة- والله يعلم أني برئية- لا تصدقوني في ذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر- والله يعلم أني بريئة- لتصدقنني. إني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ، قالت: ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشي. قالت: فو الله ما رام رسول الله صلّى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد، حتى أنزل الله

العبر والدلالات:

عزّ وجلّ على نبيّه صلّى الله عليه وسلم: فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه، قالت: فسري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة أمّا الله فقد برّأك، فقالت أمي: قومي إليه (أي اشكريه) ، فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي. قالت فأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ، لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ إلى آخر عشر آيات [النور 24/ 11] . قالت: وكان أبي ينفق على مسطح لقرابته منه ولفقره، فقال: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله عز وجل: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى إلى قوله: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور 24/ 22] فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه. ثم خرج صلّى الله عليه وسلم إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله تعالى من القرآن في ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، فضربوا حدهم «61» . العبر والدلالات: نأخذ من هذه الغزوة ما يلي: أولا: مشروعية تقسيم الغنائم بين المقاتلين، بعد استثناء السلب والخمس من الغنيمة، فأما السلب (وهو ما يكون مع المقتول من سلاح ونحوه) فيجوز أن يأخذه القاتل لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلا فله سلبه» وأما الخمس فهو لمن ذكرهم الله تعالى في كتابه: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال 8/ 41] ، وأما الأخماس الأربعة فتوزع على المقاتلين كما كان يفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وهذا متفق عليه بين الأئمة في الأموال المنقولة، أما الأرض فقد وقع في أمر تقسيمها خلاف عرضنا له عند الحديث عن أمر بني النضير. ثانيا: حكم العزل عند الجماع أو (تحديد النسل) . ويتبع ذلك إسقاط النطفة أو العلقة قبل نفخ الروح فيها، كما يتبع ذلك عموم ما يسمى اليوم بتحديد النسل.

_ (61) رواه أبو داود وابن ماجه وابن إسحاق وغيرهم.

والحديث الذي ذكرناه في هذا صريح بجواز العزل. فقد قال لهم حينما استفتوه في ذلك: «ما عليكم أن لا تفعلوا» ، (وفي رواية مسلم: لا عليكم أن لا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة) . أي ليس عليكم أن تتركوا العزل، لأن ما قد قدر الله واقع لا ريب فيه، فلا يمكن أن يمتنع المقدر بعملكم. وأصرح من هذا الحديث ما رواه الشيخان عن جابر رضي الله عنه أنه قال: «كنا نعزل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم والقرآن ينزل» . وقد ذهب جمهور الأئمة بناء على هذا إلى جواز ممارسة العزل، ولكنهم اشترطوا لذلك موافقة الزوجة، لما قد يكون من الضرر بها، غير أنه يكره ذلك إذا كان سببه خشية النفقة وقلة ذات اليد. وخالف ابن حزم الجمهور، فذهب إلى حرمة العزل مطلقا، مستدلا بما رواه مسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن العزل، فقال: «ذلك الوأد الخفي» ، واستدل بأحاديث أخرى كلها موقوفة على الصحابة. فمن ذلك ما رواه بسنده عن نافع أن ابن عمر كان لا يعزل، وقال: «لو علمت أحدا من ولدي يعزل لنكلته» . ومنه ما رواه من طريق الحجاج بن المنهال أن علي بن أبي طالب كان يكره العزل. وأجاب ابن حزم عن حديث جابر الذي استدل به الجمهور بأنه منسوخ «62» . وذكر ابن حجر في فتح الباري رأي ابن حزم هذا ثم قال: «وهذا معارض بحديثين أحدهما أخرجه الترمذي والنسائي وصححه من طريق معمر عن يحيى بن كثير.. عن جابر قال: «كانت لنا جواري وكنا نعزل، فقالت اليهود: إن تلك الموؤودة الصغرى، فسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: كذبت اليهود، لو أراد الله خلقه لم تستطع رده» ، قال: والحديث الثاني في النسائي من وجه آخر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة «63» . أقول: وواضح أن قول النبي صلّى الله عليه وسلم عن العزل: «الوأد الخفي» ، لا يعني التحريم، بل الأظهر أن يحمل كلامه هذا- على ضوء الأحاديث الثابتة الأخرى- على النهي التنزيهي كما ذهب إلى ذلك الجمهور. ودعوى ابن حزم أن الأحاديث المبيحة للعزل منسوخة، يردّها ما رواه الستة خلا أبا داود من حديث جابر: «كنا نعزل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم والقرآن ينزل» . زاد مسلم: «فبلغ ذلك نبي الله صلّى الله عليه وسلم فلم ينهنا فلولا أن حكم إباحة العزل ظل مستمرا إلى وفاته صلّى الله عليه وسلم، لما قال جابر رضي الله عنه ذلك، ولأوضح آخر ما استقر عليه الحكم الشرعي» .

_ (62) انظر المحلى لابن حزم: 10/ 87 (63) راجع فتح الباري: 9/ 245

وحكم إسقاط النطفة قبل نفخ الروح فيها يتبع ما ذكرنا من حكم العزل. إلا أن بعضا من الجماهير الذين أفتوا بالعزل حرموا الإسقاط، ولعلهم تحرجوا عن القياس في ذلك، واعتبروا المضغة أقرب إلى التخلق والذات الإنسانية من النطفة قبل العلوق، وهو تحرج لا يتضح سببه، اللهم إلا أن يكون مبعث التحرج ضررا صحيا يلحق الحامل بسبب الإسقاط. إذا علمت هذا، علمت الحكم الشرعي الذي يتعلق بتحديد النسل وهو اتباع وسيلة علاجية لمنع الحمل بدلا من العزل فهو جائز إذا اتبعت له الوسائل التي أجازها جمهور الأئمة، بشرط أن لا يظن فيه أي ضرر للزوجة وبشرط أن يكون ذلك برغبة متفقة من الزوجين، ولست أعلم ما يخالف هذا الحكم عند أحد من أئمتنا الفقهاء رحمهم الله، إلا ما روى من ذلك الحافظ ولي الدين العراقي، عن الشيخ عماد الدين بن يوسف والشيخ عز الدين بن عبد السلام، فقد روى عنهما القول بحرمة استعمال المرأة دواء ما، من شأنه أن يمنع الحمل قال ابن يونس: «ولو رضي به الزوج» «64» . أقول وهذا الرأي محجوج بمقتضى دلالة السنة، وبما ذهب إليه بناء على ذلك الجمهور. غير أن من أهم ما ينبغي أن تعلمه في هذا الصدد، أن الحكم بإباحة العزل أو عموم ما يسمى اليوم، تحديد النسل، منوط برضى كل من الزوجين أنفسهما دون أن يكون عليهما سلطان أو أي توجيه من الخارج. إذ إن ما يجوز ممارسته للفرد صاحب العلاقة، قد لا يجوز تشريعه بشكل إلزامي للجماعة، وهذه قاعدة من القواعد الفقهية المتفق عليها. فالطلاق مما يجوز للفرد المتزوج ممارسته عند الحاجة أو المصلحة التي يراها. ولكن ليس للحاكم أن يأمر الناس، أمرا إلزاميا أو أدبيا أو توجيها، بأن يمارسوا هذا الحق، فيطلقوا زوجاتهم. وتحديد النسل، شأنه في ذلك شأن الطلاق تماما. وهذه القاعدة الهامة لا بد من أن تعيها وتفهمها جيدا، كي لا يلبّس عليك أحد ممن يحترفون اليوم صناعة الفتوى قائلين: «لقد أباحت السنة تحديد النسل» ، وهذا دليل على أن للدولة أن تحمل الناس- بما تراه من السبل- على ذلك. والحقيقة أنه لا علاقة إطلاقا بين ذلك الدليل وهذا المدلول إلا علاقة التلبيس والتمويه. فالخلاصة، أن أمر العزل أو تحديد النسل، إذا نظر إليه من حيث علاقة الزوجين ببعضهما وما يشيع بينهما من حقوق ويجمعهما من مصالح، أمر سهل لا مشكلة فيه كما قد رأيت. ولكنه إذا نظر إليه، على أساس أن يكون مبدأ يدعى إليه عامة ويغرى الناس به بناء على فلسفة توجيهية تنشط وسائل الإعلام والتوجيه في بثها، فإنه يغدو حينئذ أمرا على جانب كبير

_ (64) انظر طرح التثريب وشرحه للحافظ العراقي: 8/ 62

من الأهمية والخطورة وهو يستدعي حينئذ من المسلمين أن ينشطوا في محاربته محاربة واعية فعالة، تقوم على أساس فهم الخطط الماكرة المختلفة التي يبيتها أعداء المسلمين للإجهاز عليهم. وعليهم أن لا ينخدعوا بما يشاع من مشكلات الإنتاج والاقتصاد فذلك جزء من التخطيط نفسه. ثالثا: تدلنا معالجة النبي صلّى الله عليه وسلم للمشكلة التي استغلها عبد الله بن أبيّ بن سلول، بالشكل الذي رأيناه، على مدى ما قد آتاه الله من براعة فائقة في سياسة الأمور وتربية الناس والتغلب على مشاكلهم. لقد كان ما سمعه صلّى الله عليه وسلم من كلام ابن سلول مسوغا كافيا لأن يأمر بقتله بحسب الظاهر، ولكنه صلّى الله عليه وسلم استقبل الأمر بصدر أرحب من ذلك، وسمع عن اللغط الذي جرى، والتناوش الذي وقع، والجيش فيه عدد كبير من المنافقين الذين يبحثون عن شيء مثل هذا ليقوموا ويقعدوا به، فلم يعالج الأمر بعاطفة متأثرة، وإنما ترك الحكمة وحدها هي التي تدبر. فكان أن أمر القوم بالمسير في وقت لم يكونوا يعتادونه، حتى يشغلهم السير عن الاجتماع على المحادثة والكلام. وظل يسير بهم بقية اليوم والليل كله وصدرا من اليوم الثاني، لا يدع لهم مجالا يفرغ فيه المنافقون للخوض فيما يريدون من باطل، فلما انحطوا بعد ذلك على الأرض لم يدع لهم التعب فرصة الحديث عن شيء، وذهب الجميع في سبات عميق. وانتظر الناس أن يجدوا من الرسول صلّى الله عليه وسلم، إذا وصل إلى المدينة، شدة على المنافقين لا ريب أنها تتجلى في قتل عبد الله بن أبيّ بن سلول، فلذلك جاء إليه ابنه عبد الله رضي الله عنه يعرض على الرسول صلّى الله عليه وسلم أن يتولى هو قتل أبيه إذا كان يريد أن يحكم بذلك، ولكنه فوجئ من رسول الله صلّى الله عليه وسلم بما لم يكن متوقعا حينما قال: «بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا» . وانظر إلى تعليل ذلك فيما قاله لعمر رضي الله عنه: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟» . ولقد كان من نتيجة هذه الحكمة أن انحسر عن عبد الله بن أبيّ قومه فكانوا هم الذين يعنّفونه ويفضحون أمره إذا ما أراد أن يحدث شيئا، وأنت خبير أن المنافق يعتبر في الأحكام القضائية الدنيوية مسلما مع وجوب الحيطة والحذر منه. وقبل أن تستغرق في التأمل فيما كان يتصف به صلّى الله عليه وسلم من البراعة في الحكمة والسياسة وتدبير الأمور، ينبغي أن أذكرك مرة أخرى، بأن كل هذه الصفات إنما تأتي من وراء صفة النبوة فيه، فهي كلها متفرعة عن كونه نبيا ورسولا إلى الناس، ومن الخطأ الفادح أن يعمد باحث فيحلل مثل هذه الصفات في حياته صلّى الله عليه وسلم، دون أن يربطها بمصدرها الأساسي الأول، وهو نبوته ورسالته صلّى الله عليه وسلم. وتلك خطة- كما بيّنا ذلك سابقا- يختارها محترفو الغزو الفكري لشغل المسلمين

عن التأمل بنبوته عليه الصلاة والسلام، ويتلقفها منهم أولئك الذين فاقوا حتى القردة في إتقان فن التقليد الأعمى. رابعا: وأما قصة الإفك، فإنها حلقة فريدة من سلسلة فنون الإيذاء والمحن التي لقيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أعداء الدين. ولقد كانت هذه الأذيّة أشد في وقعها على نفسه صلّى الله عليه وسلم من كل تلك المحن السابقة، وتلك هي طبيعة الشر الذي يصدر من المنافقين، فهو دائما يكون أقسى من غيره وأبلغ في المكيدة والضرر، إذ تكون الفرص والأسباب خاضعة لهم أكثر من غيرهم. وخبر الإفك صورة فريدة للأذى الذي تفرد به المنافقون. وإنما كانت هذه القصة أبلغ من غيرها في إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم، لأن كل ما كان قد كابده قبل ذلك من المحن التي تحدثنا عن طرف منها، أمور كان يتوقعها، وقد وطن نفسه لقبولها وتحملها، بل كان منها على ميعاد في طريق الدعوة، أما هذه فقد فوجئ بها.. لأنها ليس مما قد اعتاده، أو توقعه. إنها اليوم شيء آخر.. إنها شائعة، لو صحت لكانت طعنة نجلاء في أخص ما يعتز به، إنسان، أخصّ ما يتصف به الشرف والكرامة، وما الذي أدراه أنها شائعة صحيحة أو باطلة؟! .. من هنا كانت هذه الأذية أبلغ في تأثيرها من كل ما عداها، لأنها جاءت لتلقي بشعوره النفساني في اضطراب مثير لا مناص منه. ومع ذلك فلو أن الوحي سارع إلى كشف الحقيقة وفضح إفك المنافقين لكان في ذلك مخلص من هذا الاضطراب والشكوك المثيرة، ولكن الوحي تلبث أكثر من شهر لا يعلّق على ذلك، فكان ذلك مصدرا آخر للقلق والشكوك. ومع ذلك فإن محنة الإفك هذه، جاءت منطوية على حكمة إلهية اتجهت إلى إبراز شخصية النبي صلّى الله عليه وسلم، وإظهارها صافية مميزة عن كل ما قد يلتبس بها. إن معنى النبوة في حياته صلّى الله عليه وسلم كان من المحتمل أن يبقى مشوبا، في وهم بعض المؤمنين به، والكافرين، على السواء، لو لم تأت حادثة الإفك هذه لتهز شخصية النبي صلّى الله عليه وسلم، هزا قويا يفصل إنسانيته العادية عن معنى النبوة الصافية فيه، ثم لتجلي معنى النبوة والوحي تجلية تامة أمام الأنظار والأفكار، حتى لا يبقى أي مجال التباس بينه وبين أي معنى من المعاني النفسية أو الشعورية الأخرى. لقد فاجأت هذه الشائعة سمع النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو في طور من إنسانيته العادية، يتصرف ويتأمل ويفكر كأي أحد من الناس ضمن حدود العصمة المعروفة للأنبياء والمرسلين، فاستقبلها كما يستقبل مثلها أي بشر من الناس، ليس له اطلاع على غيب مكنون ولا ضمير مجهول، ولا على قصد ملفّق كاذب. فاضطرب كما يضطربون، وشك كما يشكون، وأخذ يقلّب الرأي على وجوهه، ويستنجد في ذلك بمشورة أولي الرأي من أصحابه. وكان من مقتضى الحكمة الإلهية في إبراز هذا الجانب الإنساني المجرد فيه صلّى الله عليه وسلم، أن يتأخر

الوحي كل هذه الفترة التي تأخرها، كي تتجلى للناس حقيقتان، كل منهما على غاية من الأهمية: أما الحقيقة الأولى، فهي أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يخرج بنبوته ورسالته عن كونه بشرا من الناس، فلا ينبغي لمن آمن به أن يتصور أن النبوة قد تجاوزت به حدود البشرية، فينسب إليه من الأمور أو التأثير في الأشياء ما لا يجوز نسبته إلا لله وحده. وأما الحقيقة الثانية، فهي أن الوحي الإلهي ليس شعورا نفسيا ينبثق من كيان النبي صلّى الله عليه وسلم كما أنه ليس شيئا خاضعا لإرادته أو تطلعه وأمنياته. إذ لو كان كذلك، لكان من السهل عليه أن ينهي هذه المشكلة من يوم ميلادها ويريح نفسه من ذيولها ونتائجها، ويجعل مما يعتقد من الخير والاستقامة في أهله قرآنا يطمئن به أصحابه المؤمنين، ويسكت الآخرين من أصحاب الفضول. ولكنه لم يفعل، لأنه لا يملك ذلك. ولننقل لك ما يقوله في بيان هذه الحقيقة الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (النبأ العظيم) يقول: «ألم يرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه عائشة رضي الله عنها، وأبطأ الوحي وطال الأمر والناس يخوضون، حتى بلغت القلوب الحناجر، وهو لا يستطيع إلا أن يقول بكل تحفظ واحتراس: «إني لا أعلم عنها إلا خيرا» ثم إنه بعد أن بذل جهده في التحري والسؤال واستشارة الأصحاب ومضى شهر بأكمله والكل يقولون: «ما علمنا عليها من سوء» ، لم يزد على أن قال لها آخر الأمر: «يا عائشة أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله» . هذا كلامه بوحي ضميره، وهو كما ترى كلام البشر الذي لا يعلم الغيب، وكلام الصديق المتثبت الذي لا يتبع الظن ولا يقول ما ليس له به علم، على أنه لم يغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتى نزل صدر سورة النور معلنا براءتها ومصدرا الحكم المبرم بشرفها وطهارتها. فماذا كان يمنعه- لو أن أمر القرآن إليه- أن يتقول هذه الكلمات الحاسمة من قبل ليحمي بها عرضه ويذبّ بها عن عرينه وينسبها إلى الوحي السماوي، لتنقطع ألسة المتخرّصين؟ ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «65» [الحاقة 69/ 44- 47] . ولقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها، أول من تجلّت لها هاتان الحقيقتان، حتى ذهبت في توحيدها وعبوديتها لله وحده مذهبا أنساها ما سواه ومن سواه، فلذلك أجابت أمّها حينما طلبت إليها أن تقوم فتشكر النبي صلّى الله عليه وسلم قائلة: «لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي» .

_ (65) النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز: ص 17

إن هذا الكلام من السيدة عائشة قد يبدو وكأن فيه شيئا من عدم اللباقة تجاه النبي صلّى الله عليه وسلم، غير أن الظرف والحالة، هما اللذان أمليا عليها هذا الكلام، فهي إنما انساقت بوحي الحالة التي كونتها الحكمة الإلهية تثبيتا لعقيدة المؤمنين، وقطعا لإفك المنافقين والملحدين، وإظهارا لمعنى التوحيد والعبودية الشاملة لله وحده. وهكذا فقد انطوت قصة الإفك على حكمة إلهية باهرة استهدفت تثبيت العقيدة الإسلامية، وردّ ما قد يعرض من شبه عليها، وتلك هي الخيرية التي عبر الله عنها بقوله: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور 24/ 11] . خامسا: في قصة الإفك هذه، ما يدلنا على مشروعية حد القذف. فقد رأينا أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بأولئك الذين تفوّهوا بصريح القذف، فضربوا حد القذف وهو ثمانون جلدة. وليس في هذا من إشكال. إنما الإشكال في أن ينجو من الحد الذي تولى كبر هذه الشائعة وتسييرها بين الناس، وهو عبد الله بن أبيّ بن سلول، والسبب، كما قال ابن القيم: أنه كان يعالج الحديث من الإفك بين الناس بخبث، فكان يستوشي الكلام فيه ويجمعه ويحكيه في قوالب من لا ينسب إليه «66» . وأنت خبير أن حد القذف إنما يقع على من يتفوّه به بصريح القول. هذا ولنختم الحديث عن قصة الإفك ودروسها، بذكر الآيات العشرة التي نزلت ببراءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وإدانة المنافقين والخاطئين. يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً، وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ، لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ، فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ، إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [النور 24/ 11- 20] .

_ (66) راجع زاد المعاد لابن القيم: 2/ 115

غزوة الخندق

غزوة الخندق وتسمّى بغزوة الأحزاب، وقد كانت في شوال سنة خمس على ما جزم به ابن إسحاق وعروة بن الزبير وقتادة والبيهقي وجمهور علماء السيرة، وقيل في سنة أربع من الهجرة. وقد تفرد به موسى بن عقبة ورواه عنه البخاري وتابعه في ذلك مالك «67» . سببها: أن نفرا من زعماء اليهود من بني النضير خرجوا حتى قدموا مكة، فدعوا قريشا إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقالوا: «سنكون معكم حتى نستأصله، وقالوا لهم إن ما أنتم عليه خير من دين محمد صلّى الله عليه وسلم» ففيهم نزل قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً [النساء 4/ 51، 52] ، فاتفقوا مع قريش على حرب المسلمين وتواعدوا لذلك. ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاؤوا غطفان فدعوهم إلى مثل ما دعوا قريشا إليه، ولم يزالوا بهم حتى وافقوهم على ذلك ثم التقوا ببني فزارة وبني مرة، وتمّ لهم مع هؤلاء جميعا تواعد في الزمان والمكان لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم «68» . تهيؤ المسلمين للحرب، فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخبر وسمع بخروجهم من مكة، ندب الناس وأخبرهم خبر عدوهم وشاورهم في الأمر، فأشار عليه سلمان الفارسي بالخندق، فأعجب ذلك المسلمين (والخندق مما لم يكن يعلمه العرب من وسائل الحرب) فخرجوا من المدينة وعسكر بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفح جبل سلع فجعلوه خلفهم، ثم هبوا جميعا يحفرون الخندق بينهم وبين العدو. كان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف، وعدد ما اجتمع من قريش والأحزاب والقبائل الأخرى عشرة آلاف «69» . مشاهد من عمل المسلمين في حفر الخندق: روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: «لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني التراب جلدة بطنه وكان كثير الشعر» ، وروي عن أنس رضي الله عنه أن الأنصار والمهاجرين كانوا يرتجزون وهم يحفرون الخندق وينقلون التراب على متونهم: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الإسلام ما بقينا أبدا فيجيبهم النبي صلّى الله عليه وسلم:

_ (67) انظر ذلك في فتح الباري: 7/ 275 والفتح الرباني بترتيب الإمام أحمد: 21/ 76 (68) سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد باختصار. (69) طبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام.

«اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة، فبارك في الأنصار والمهاجرة» «70» . وروى البخاري أيضا في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: «إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة، فجاؤوا النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا، فأخذ النبي صلّى الله عليه وسلم المعول فضرب، فعاد كثيبا أهيل (أو أهيم) فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت، فقلت لا مرأتي: رأيت بالنبي صلّى الله عليه وسلم شيئا ما كان لي في ذلك صبر، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق «71» . فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة «72» ، ثم جئت النبي صلّى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافي «73» قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيّم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان. قال: كم هو؟ فذكرت له، قال: كثير طيب، فقل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي. ثم نادى المهاجرين والأنصار فقال لهم قوموا.. وفي طريق أخرى: فصاح النبي صلّى الله عليه وسلم: يا أهل الخندق، إن جابرا قد صنع سورا «74» فحيّ هلا بكم. فلما دخل جابر على امرأته قال: ويحك جاء النبي بالمهاجرين والأنصار ومن معهم! .. قالت: هل سألك كم طعامك؟ قال: نعم، قالت: الله ورسوله أعلم. ثم جاء النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا. فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمّر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية! قال: كلي هذا واهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة (وفي رواية أخرى) فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوا وانصرفوا، وإن برمتنا لتغطّ كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو» «75» . موقف المنافقين من العمل في الخندق: روى ابن هشام أنه أبطأ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعن المسلمين في عملهم في الخندق رجال من المنافقين، وجعلوا يورّون بالضعيف من العمل، ويتسللون إلى أهلهم بغير علم من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لابد له منها يستأذنه في اللحوق بحاجته فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله. وفي ذلك نزل قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى

_ (70) البخاري: 5/ 46 وروى مسلم عن البراء نحوه بألفاظ قريبة: 6/ 187 (71) هي الأنثى من المعز. (72) البرمة: القدر. (73) الأثافي: الحجارة التي توضع عليها القدر. (74) السور: بضم السين بدون همزة يطلق على الصنيع العام من الطعام. (75) صحيح البخاري: 6/ 46 وانظر فتح الباري: 7/ 279 و 280

أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور 24/ 62] . نقض بني قريظة للعهد: وخرج حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي فأغراه بنقض العهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال له: «جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمي إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه. فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر.. ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. ولم يزل حيي بكعب حتى أقنعه بالخيانة ونقض العهد» . وانتهى الخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأرسل سعد بن معاذ ليتحقق من الخبر وأوصاه أن يلحن له بإشارة يفهمها إذا كان الخبر حقا، وأن لا يفت في أعضاد الناس وإن كان كذبا فليجهر به في الناس. فلما استطلع سعد الخبر ورآه حقا عاد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له: «عضل والقارة» ، أي كغدر عضل والقارة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين» «76» . ما ال إليه حال المسلمين إذ ذاك: بلغ المسلمين خبر نقض بني قريظة للعهد، وذر قرن المنافقين بينهم يفتّون في عضد المسلمين، وجاءهم العدو من فوقهم ومن أسفل منهم، وراح المنافقون يرجفون في المدينة حتى إن أحدهم ليقول: «كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط» . ولما وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأمر كذلك وأن البلاء قد اشتد بالمسلمين بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما في أن يصالح قبيلة غطفان على ثلث ثمار المدينة كي ينصرفوا عن قتال المسلمين، فقالا له: «يا رسول الله، أهو أمر تحبه فنصنعه، أم شيء أمرك به الله، أم شيء تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم كي أكسر عنكم من شوكتهم. وحينئذ قال له سعد بن معاذ: والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فتهلل وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال له: فأنت وذاك» . قال ابن إسحاق يروي عن عاصم بن عمرو بن قتادة وعن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري: «ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح (أي بين المسلمين وغطفان) إلا المراوضة في ذلك» «77» . أما المشركون فقد فوجئوا بالخندق حينما وصلوا إليه، وقالوا إن هذه لمكيدة ما كانت العرب

_ (76) طبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام. (77) انظر سيرة ابن هشام: 2/ 223 وتاريخ الطبري: 2/ 573

تكيدها. فعسكروا حول الخندق يحاصرون المسلمين، ولم يحدث قتال غير أن بعض المشركين أخذوا يتيممون مكانا ضيقا من الخندق فاقتحموا منه، فأخذ عليهم المسلمون الثغرة التي اقتحموا منها، فارتد بعضهم وقتل البعض. وكان ممن قتلوا إذ ذاك عمرو بن ودّ، قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. هزيمة المشركين بدون قتال: وكفى الله المؤمنين القتال فهزم جموع المشركين بوسيلتين لا دخل للمسلمين فيهما. أما أولاهما فرجل من المشركين اسمه نعيم بن مسعود أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مسلما وعرض عليه تنفيذ أي أمر يريده النبي صلّى الله عليه وسلم فقال له: «إنما أنت رجل واحد فينا، ولكن خذّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» . فخرج نعيم بن مسعود، فأتى بني قريظة فأقنعهم- وهم يحسبونه لا يزال مشركا- أن لا يتورطوا مع قريش في قتال حتى يأخذوا منهم رهائن، كي لا يولوا الأدبار، فيبقوا وحدهم في المدينة دون أي نصير لهم على محمد وأصحابه، فقالوا له: إنه للرّأي! .. ثم خرج حتى أتى قريشا فأنبأهم أن بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا وأنهم قد اتفقوا خفية مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أن يختطفوا عددا من أشراف قريش وغطفان فيسلموهم له ليقتلهم، فإن أرسلت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فإياكم أن تسلموهم رجلا منكم. ثم خرج حتى أتى غطفان فقال لهم مثل الذي قال لقريش. وهكذا تألب بعضهم على بعض، واختفت الثقة مما بينهم، وأصبح كل فريق منهم يتهم الفريق الآخر بالغدر والخيانة. أما الوسيلة الثانية، فهي ريح هو جاء مخيفة في ليلة مظلمة باردة، جاءت فقلبت قدورهم واقتلعت خيامهم، وقطعت أوتادهم، وذلك بعد بضعة عشر يوما من المحاصرة التي ضربها المشركون على المسلمين. روى مسلم بسنده عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: «لقد رأيتنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، وأخذتنا ريح شديدة وقرّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة، فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة فسكتنا فلم يجبه منا أحد، (ردد ذلك رسول الله ثلاثا) ثم قال: قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم، فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم. قال: اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي. فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام، حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهما في كبد القوس، فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ولا تذعرهم علي، ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام. فلما

العبر والعظات:

أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت، فألبسني رسول الله صلّى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى أصبحت، قال: قم يا نومان» «78» . ورواه ابن إسحاق بزيادة: فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقرّ لهم قدرا ولا نارا ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه؟ قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جانبي فقلت له من أنت؟ قال: فلان بن فلان. ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون.. فارتحلوا فإني مرتحل» «79» . وفي صباح اليوم الثاني، كان المشركون كلهم قد ولوا الأدبار، وعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصحبه إلى المدينة. وكان لا يفتر عليه الصلاة والسلام طيلة هذه الأيام والليالي عن الاستغاثة والتضرع والدعاء لله تعالى أن يؤتي المسلمين النصر. وكان من جملة دعائه عليه الصلاة والسلام في ذلك: «اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم» «80» . وفي هذه الغزوة فاتت النبي صلّى الله عليه وسلم الصلاة في وقتها فقضاها بعد خروج الوقت، فقد ورد في الصحيحين أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش، فقال: «يا رسول الله، ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب! .. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: والله ما صليتها، فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب» «81» وزاد مسلم على هذا حديثا آخر أنه صلّى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، ثم صلاها بين العشاءين: بين المغرب والعشاء» . العبر والعظات: وهذه الغزوة أيضا- كما ترى- قامت على أساس من غدر اليهود وكيدهم، فهم الذين أثاروا، وألّبوا، وجمعوا الجموع والأحزاب، ولم يتوقف ذلك على بني النضير الذين كانوا قد أخرجوا من

_ (78) رواه مسلم: 5/ 177. ورواية البخاري توهم أن الذي خرج إنما هو الزبير، غير أن ذلك يتعلق بحادثة أخرى، فقد أرسله النبي صلّى الله عليه وسلم ليعلم له علما عن بني قريظة. أما الذي خرج إلى الأحزاب فهو حذيفة كما نص على ذلك عامة علماء السيرة، وانظر عيون الأثر لابن سيد الناس وفتح الباري لابن حجر. (79) سيرة ابن هشام: 2/ 231 (80) رواه البخاري. (81) متفق عليه واللفظ للبخاري.

المدينة، بل اشترك معهم بنو قريظة الذين كانوا لا يزالون مرتبطين بعهود ومواثيق مع المسلمين، دون أن يجدوا منهم أي مكروه من شأنه أن يدعوهم إلى نقض تلك العهود والمواثيق! .. ولم نعد بحاجة إلى أن نعلّق على هذا ونحوه، ونستنبط منه العظات أو الدروس، فهو من جليات الأمور التي أصبحت من المقولات التاريخية المعروفة في كل زمان ومكان. ولنعد الآن إلى هذا الذي استعرضناه من وقائع هذه الغزوة ومشاهدها لنقف على ما تنطوي عليه من دروس وعظات وأحكام، وسنلخصها في الأمور التالية: أولا: لقد كان من جملة الوسائل الحربية التي استعملها المسلمون في هذه الغزوة حفر الخندق، ولقد كانت غزوة الأحزاب أول غزوة في التاريخ العربي والإسلامي يحفر فيها الخنادق، إذ هو مما كان متعارفا بين الأعاجم فقط، وقد رأيت أن الذي اقترح ذلك في غزوة الأحزاب إنما هو سلمان الفارسي، وقد رأيت أن النبي صلّى الله عليه وسلم أعجب بهذه الوسيلة الحربية وسرعان مادعا أصحابه إلى القيام بتحقيقها. وهذا من جملة الأدلة الكثيرة التي تدل على أن الحكمة هي ضالة المؤمن، فحيثما وجدها التقطها بل هو أولى بها من غيره، وأن الشريعة الإسلامية بمقدار ما تكره للمسلمين اتباع غيرهم وتقليدهم على غير بصيرة، تحب لهم أن يجمعوا لأنفسهم أطراف الخير كله والمبادئ المفيدة جميعها، أينما لاح لهم ذلك، وحيثما وجد. فالقاعدة الإسلامية العامة في هذا الصدد، هي أن لا يعطل المسلم عقله الحر وتفكيره الدقيق في سلوكه وعامة شؤونه وأحواله، وإذا كان المسلم كذلك، فهو ولا ريب، لا يمكن أن يربط في عنقه زماما يسلّم طرفه للآخرين فيقودوه حيثما أرادوا بدون وعي ولا بصيرة، وهو أيضا لا يمكن أن يتجاهل أي مبدأ أو عمل أو نظام يسلّم به العقل النيّر والفكر الحر وينسجم مع مبادئ الشريعة الإسلامية، ليتجاوزه ولا يتعب نفسه بأخذه والاستفادة منه. وهذا السلوك الذي شرعه الله للمسلم، إنما ينبع من أصل أساسي هو الكرامة التي فطر الله الإنسان عليها إذ قضت مشيئته أن يكون هو سيد المخلوقات. وما ممارسة العبودية لله تعالى والتزام أحكام شريعته إلا ضمان لحفظ هذه الكرامة والسيادة. ثانيا: وفيما استعرضناه من مشهد عمل الصحابة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حفر الخندق، عبرة بالغة كبرى، توضح لك حقيقة المساواة التي يرسيها المجتمع الإسلامي بين جميع أفراده المسلمين، وتكشف لك أن العدالة والمساواة، ليستا في الاعتبار الإسلامي مجرد شعارات يزين بها ظاهر المجتمع أو يوضع منه في إطار لامع براق، وإنما العدالة والمساواة هما الأساس الواقعي الذي تنبثق منه القيم والمبادئ الإسلامية عامة ظاهرا وباطنا.

فأنت تجد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يندب المسلمين إلى حفر الخندق، ثم ذهب يراقبهم في قصر منيف له مستريحا هادئا، ولا أقبل إليهم في احتفال صاخب رنان ليمسك معول أحدهم بأطراف أصابعه، فيضرب به ضربة واحدة في الأرض إيذانا ببدء العمل وتخييلا لهم أنه قد شاركهم في ذلك، ثم يلقي المعول ويدير إليهم ظهره، ينفض عن حلته ما قد علق بها من ذرات غبار.. ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد انخرط في العمل كأي واحد من أصحابه، حتى لبس ثوبا من الأتربة والغبار على جسمه فما تفرقه عن أي عامل آخر من صحبه وإخوانه، يرتجزون لينشط بعضهم بعضا، فيرتجز معهم، ويتعبون ويجوعون فيكون أولهم تعبا وجوعا. وتلك هي حقيقة ما أقامته الشريعة الإسلامية من مساواة بين الحاكم والمحكوم والغني والفقير والصعلوك والأمير، وأنت لا تجد فرعا من فروع الشريعة وأحكامها إلا قائما على هذا الأساس ضامنا لهذا الحق. وأعيذك أن تخطئ، فتسمي هذا ديموقراطية في السلوك أو الحكم، فشتان ما بينهما من الفرق. مصدر هذه العدالة والمساواة في الدين الإسلامي، هو العبودية لله تعالى. وهي صفة عامة شاملة للناس كلهم، تضعهم في صف واحد من المكانة والاعتبار. ومصدر ما يسمونه بالديموقراطية، تحكيم رأي الأكثرية أي تأليه رأي الأكثرية على الآخرين، مهما كانت طبيعة ذلك الرأي ومرماه. من أجل هذا، لا تعوج الشريعة الإسلامية على شيء مما يسمى بالامتيازات لأي طبقة أو فئة من الناس، ولا تخص جماعة منهم بحصانة ما مهما كانت الدوافع والأسباب، لأن صفة العبودية من شأنها أن تذيب كل ذلك وتلغيه من الاعتبار. ثالثا: وفي هذا المشهد نفسه أيضا عظة وعبرة أخرى تكشف لك عن مظهر النبوة في شخصية النبي صلّى الله عليه وسلم، وتضعك أمام مدى ما كانت تمتلئ به نفسه من محبة أصحابه والشفقة عليهم وتعطيك مثالا آخر للخوارق والمعجزات التي أكرم الله بها نبيه صلّى الله عليه وسلم. فأما ما يتجلى من شخصيته النبوية في هذا المشهد، فذلك يبدو في مكابدته صلّى الله عليه وسلم للجوع الشديد أثناء عمله مع أصحابه، حتى إنه ليشد الحجر على بطنه، يتقي بذلك ما يجده الجائع من ألم الفراغ في معدته، ترى ما الذي يمكن أن يحمله على معاناة مثل هذه المشقة والجهد؟ أهو التطلع إلى الزعامة! .. أم هي الرغبة في المال والملك! .. أم هو الطموح إلى أن يجد من حوله شيعة وأتباعا! .. كل هذه المطامع، تناقض مناقضة صارخة هذا الذي يكابده ويعانيه، وما أبعد الرجل الذي يطمع في جاه أو ملك أو سلطان عن الصبر على تحمل مثل هذه الآلام. إن الذي يحمله على تحمل كل ذلك إنما هو مسؤولية الرسالة والأمانة التي كلف بتبليغها

والسير بها إلى الناس في طريق هذه طبيعتها. فهذه الشخصية النبوية التي تتجلى في عمله مع أصحابه في حفر الخندق. وأما ما يبدو خلال ذلك من محبته الشديدة لأصحابه والشفقة عليهم، فإنك لتجده واضحا في موقفه صلّى الله عليه وسلم من دعوة جابر له إلى طعامه القليل، ذاك الذي صنعه له. لقد كان الذي دفع جابرا إلى دعوته صلّى الله عليه وسلم، ما اكتشفه من شدة جوعه عليه الصلاة والسلام حينما رأى الحجر المربوط على بطنه الشريف، ولم يكن في بيته من الطعام إلّا ما يكفي لبضعة أشخاص، فاضطر إلى أن يجعل الدعوة على قدر ما عنده من الطعام. ولكن كيف يتصور أن يترك النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه في غمرة العمل وهم يتضورون مثله جوعا، لينفرد عنهم مع ثلاثة أو أربعة من أصحابه يستريحون ويأكلون، وإنه لأشفق على أصحابه من شفقة الأم على أولادها؟! أما جابر فقد كان مضطرا إلى ما فعل، وكان ذلك منه طبيعيا، إذ إنه- كأي مفكر من الناس- لم يكن يملك إلا أن يتصرف حسب ما لديه من الأسباب المادية، والطعام الذي لديه، لا يكفي فيما يجمع عليه عرف البشر إلا لهذا العدد اليسير، فليختصّ به إذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن يشاء من بعض أصحابه في حدود ضيقة. ولكنه عليه الصلاة والسلام، لم يكن من شأنه أن يتأثر بنظرة جابر هذه، فهو أولا لا يمكن أن يتميّز عن أصحابه بشيء من النعمة أو الراحة. وهو ثانيا لا يمكن أن يأسر نفسه تحت سلطان الأسباب المادية وحدودها التي ألفها البشر، فالله وحده مسبب الأسباب وخالقها، ومن اليسير عليه سبحانه أن يجعل من الطعام اليسير كثيرا، وأن يبارك في القليل منه حتى يكفي القوم كلهم. ومهما يكن، فقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلم أنه وأصحابه متضامنون متكافلون يتقاسمون النعمة بينهم مهما قلت كما يتقاسمون بينهم المحنة مهما عظمت وكثرت! .. فمن أجل ذلك أرسل جابرا إلى داره ليهيئ لهم الطعام، وانفتل هو إلى عامة القوم يناديهم أن يقبلوا جميعا إلى صنيعة كبرى لهم في دار جابر. وأما المعجزة الخارقة في هذه القصة، فهي ما رأيت من انقلاب شاة جابر الصغيرة إلى طعام وفير كثير، شبع منه مئات الصحابة وبقيت منه بقية كثيرة تركوها بعد أن اقترح النبي صلّى الله عليه وسلم على أهل البيت أن يتصدقوا بها! .. لقد كانت هذه الخارقة العجيبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم تقديرا إلهيا لمدى محبته صلّى الله عليه وسلم لأصحابه وإعراضه عن الأسباب المادية وشأنها في جنب قدرة الله وسلطانه. والذي أريده من القارئ، أن ينتبه بفكره إلى مثل هذه المؤيدات الإلهية التي كان يؤيّد بها النبي صلّى الله عليه وسلم من وراء قيمة الأسباب المادية وسلطانها، فهي من أهم ما يبرز معالم شخصيته النبوية

للدارس المتأمل. أريد من القارئ أن ينتبه بفكره إلى هذه الحقيقة، بمقدار ما يمعن بعضهم في الإعراض عنها، وإن قابلتهم وجها لوجه أثناء البحث، بأدلة ثابتة لا تقبل الشك. رابعا: ما هي الحكمة، ترى، في استشارته عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه، في أن يعرض صلحا على غطفان، قوامه إعطاؤهم ثلث ثمار المدينة على أن ينصرفوا عن تأييد قريش ومن معهم، ويرجعوا عن حرب المسلمين، وما هي الدلالة التشريعية التي تؤخذ من تفكيره هذا؟ .. أما الحكمة، فهي أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يريد أن يطمئن إلى مدى ما يتمتع به أصحابه الصادقون، من القوة المعنوية والاعتماد على نصر الله وتوفيقه على الرغم من هذا الذي فوجئوا به من اجتماع أشتات المشركين عليهم في كثرة ساحقة، إلى جانب ما طلعت به بنو قريظة في الوقت نفسه من نقض العهود والمواثيق. وقد كان من عادته صلّى الله عليه وسلم- كما قد رأيت- أنه لم يكن يحب أن يسوق أصحابه إلى حرب أو مغامرة لا يجدون في أنفسهم شجاعة كافية لخوضها، أو لا يؤمنون بجدواها، وقد كان هذا من أبرز أساليبه التربوية صلّى الله عليه وسلم لأصحابه. فمن أجل ذلك، عرض على أصحابه هذا الرأي، وأنبأهم أنه ليس تبليغا من الله تعالى، وإنما هو شيء يبديه لهم كي يكسر عنهم شوكة المشركين، إذا كانوا لا يجدون في أنفسهم طاقة على مقابلتهم. وأما الدلالة التشريعية في هذه الاستشارة، فهي محصورة في مجرد مشروعية مبدأ الشورى في كل ما لا نص فيه. وهي بعد ذلك لا تحمل أي دلالة على جواز صرف المسلمين أعداءهم عن ديارهم إذا ما اقتحموها، باقتطاع شيء من أرضهم أو خيراتهم لهم. إذ مما هو متفق عليه في أصول الشريعة الإسلامية أن الذي يحتج به من تصرفاته صلّى الله عليه وسلم إنما هو أقواله، وأفعاله التي قام بها، ثم لم يرد اعتراض عليها من كتاب الله تعالى، فأما ما كان من ذلك في حدود الاستشارة والرأي المجردين فلا يعتبر دليلا بحال. إذ الاستشارة أولا: يمكن أن يكون المقصود منها مجرد استطلاع لما في النفوس كما ذكرنا، أي فهي ممارسة لعمل تربوي بحت، وهي ثانيا: حتى ولو انتهت بعمل تنفيذي، يمكن أن يرد عقبه اعتراض من كتاب الله تعالى، فلا تبقى فيه أي دلالة تشريعية. على أن علماء السيرة نصّوا، كما قد رأيت، على أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يبرم صلحا مع غطفان ولم تقع شهادة ولا عزيمة على الصلح وإنما كان الأمر مراوضة لم يتجاوزها. نقول هذا، لأن فئة مجهولة في عصرنا هذا، أخذت تزعم زعما شنيعا في منتهى الغرابة، وهو: أنه يجب على المسلمين أن يدفعوا (الجزية) ! إلى غير المسلمين إذا اقتضت الحاجة، مستدلة على ذلك بأنه صلّى الله عليه وسلم قد استشار أصحابه في غزوة الأحزاب أن يفعل ذلك! .. وبقطع النظر عن هذا الذي أوضحناه من أن مضمون الرأي المعروض على بساط الاستشارة

لا يعتبر دليلا تشريعيا، فلسنا ندري ما الصلة بين (الجزية) وما يمكن أن يتصالح عليه فريقان متحاربان؟!. فإن قلت: فهب أن المسلمين اضطروا- بسبب من أسباب الضعف- إلى الخروج عن بعض أموالهم، حفظا على حياتهم وحذرا من أن تستأصل شأفة المسلمين، أفليس لهم أن يفعلوا ذلك؟ فالجواب أن هنالك حالات كثيرة تستلب فيها أموال المسلمين وتصبح غنائم لأعدائهم، ويستعدي فيها الكافرون على بلاد الإسلام وخيراتهم فيتمكنون فيها ويسيطرون عليها. ومعلوم- بالبداهة- أن المسلمين لا يخضعون لشيء من ذلك عن طريق الاختيار واتباع الفتوى، وإنما يلجؤون إلى ذلك إلجاء ويحملون عليه كرها، وهم مع ذلك يتربصون بأعدائهم الفرص السانحة. وأنت خبير أن أحكام الشريعة الإسلامية إنما يخاطب بها من لم يكن مكرها ولا ملجأ ولا صبيا أو مجنونا. وإذن فمن العبث انتزاع هذه الحالة التي هي من وراء حدود التكليف كيما يقرّر على أساسها حكم تكليفيّ يختار على أساس الرأي والمصلحة والمراوضة. خامسا: كيف وبأي وسيلة انتصر المسلمون وانهزم المشركون في هذه الغزوة؟ لقد رأينا أن الوسيلة التي التجأ إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة بدر، هي نفسها التي التجأ إليها في الخندق.. إنها وسيلة التضرع إلى الله والإكثار من الإقبال عليه بالدعاء والاستغاثة، بل لقد كان هو العمل المتكرر الدائم الذي ظل يفزع إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كلما لقي عدوا أو سار إلى جهاد، وهي الوسيلة التي تعلو في تأثيرها على كل الأسباب والوسائل المادية الأخرى، وهي الوسيلة التي لا تصلح حال المسلمين إلا إذا قامت على أساسها بعناية كاملة. أما كيف انهزم المشركون على كثرتهم، بعد ثبات المؤمنين وصبرهم وصدق التجائهم إلى الله تعالى، فقد وصف الله الكيفية في كتابه المبين إذ قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً، إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا إلى قوله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [الأحزاب 33/ 9- 25] . إن هذا المعنى الذي يتكرر في غزوات الرسول صلّى الله عليه وسلم، ليس يعني إغراء المسلمين بالمغامرة والجهاد دون استعداد ولا تأهب، وإنما هو لإيضاح أن على المسلم أن يعلم أن في مقدمة أسباب النصر المختلفة، صدق الالتجاء إلى الله وإخلاص العبودية له، فلن تجدي وسائل القوة كلها إذا لم تتوفر هذه الوسيلة بعينها. وإذا تحققت في أعمال المسلمين هذه الوسيلة فحدّث عن معجزات النصر ولا حرج.

وإلا فمن أين جاءت هذه الريح العاصفة تعصف بمعسكر المشركين وحدهم، دون أن يشعر بها المسلمون إلى جانبهم؟! .. هي هناك تقلب قدورهم وتطير خيامهم وتقلع أوتادها، وتزلزل أفئدتهم بالرعب، وهي هنا ريح باردة رخاء، تنعش ولا تؤذي أحدا! .. سادسا: لقد فاتت النبي صلّى الله عليه وسلم صلاة العصر كما قد رأيت في هذه الموقعة، لشدة انشغاله، حتى صلّاها قضاء بعدما غربت الشمس. وفي روايات أخرى غير الصحيحين أن الذي فاته، أكثر من صلاة واحدة، صلّاها تباعا بعدما خرج وقتها وفرغ لأدائها. وهذا يدل على مشروعية قضاء الفائتة. ولا ينقض هذه الدلالة ما ذهب إليه البعض من أن تأخير الصلاة لمثل ذلك الانشغال كان جائزا إذ ذاك ثم نسخ حينما شرعت صلاة الخوف للمسلمين رجالا وركبانا عند التحام القتال بينهم وبين المشركين، إذ النسخ- على فرض صحته- ليس واردا على مشروعية القضاء، وإنما هو وارد على صحة تأخير الصلاة بسبب الانشغال. أي أن نسخ صحة التأخير ليس نسخا لما كان قد ثبت من مشروعية القضاء أيضا، بل هي مسكوت عنها، فتبقى على مشروعيتها السابقة. على أن الذي يقتضيه الدليل القطعي، هو أن صلاة الخوف شرعت قبل هذه الغزوة كما مرّ تحقيق ذلك عند الحديث عن غزوة ذات الرقاع «82» . ومن أدلة هذه المشروعية أيضا ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال بعد منصرفه إلى المدينة من غزوة الأحزاب، لا يصلين أحد العصر (أو الظهر) إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم وقت الصلاة في الطريق فقال البعض: «لا نصلي حتى نأتيها» ، وقال بعضهم: «بل نصلي، لم يرد منا ذلك» . فصلاها الفريق الأول بعد وصولهم إلى بني قريظة قضاء. وإذا ثبت وجوب قضاء المكتوبة بعد فواتها، فسيان أن يكون سبب الفوات نوما أو إهمالا أو تركا متعمدا، إذ لم يرد- بعد ثبوت الدليل العام على وجوب قضاء الفائتة عموما- أي دليل يخصص مشروعية القضاء ببعض أسباب التفويت دون بعضها الآخر، والذين تركوها في طريقهم إلى بني قريظة، لم يكونوا نائمين ولا ناسين. فمن الخطأ إذن أن تخصص مشروعية قضاء الفائتة المكتوبة- مع ذلك- بما عدا التفويت المتعمد، وهو أشبه ما يكون بمن يخصصها ببعض المكتوبات دون بعض بدون أي مخصص شرعي. وربما توهم بعضهم أنه قد ثبت دليل يخصص عموم أدلة مشروعية القضاء، وهو المفهوم المخالف لحديث: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلّها إذا ذكرها» ، ولكن هذا وهم لا ينبغي أن يدخل على طالب علم متبصّر. فالمقصود بالحديث ليس هو أمر الناسي والنائم بقضاء الصلاة، دون غيرهما، ولكن المقصود التركيز على القيد، وهو «إذا ذكرها» وذلك للتنبيه إلى أنه لا يشترط لمن

_ (82) انظر ص 195 من هذا الكتاب.

غزوة بني قريظة

فاتته صلاة وأراد تداركها أن ينتظر حلول وقتها من اليوم الثاني ثم يؤديها إذ ذاك. بل عليه أن يبادر إلى قضائها بمجرد التذكر، في أي وقت كان. فإذا عرفت أن هذا هو مقصود رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما تدل على ذلك صيغة الحديث نفسها وكما ذكر ذلك علماء الحديث وشراحه «83» عرفت أنه لا دلالة تشريعية تتعلق بالمفهوم المخالف للنوم أو النسيان في الحديث. غزوة بني قريظة جاء في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما رجع من الخندق ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فقال: «قد وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه، فاخرج إليهم قال: فإلى أين؟ قال: ههنا، وأشار إلى بني قريظة، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلم إليهم» «84» . ونادى صلّى الله عليه وسلم في المسلمين «ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فسار الناس، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلّي، ولم يرد منا ذلك. فذكروا ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فلم يعنف أحدا منهم» «85» . وحاصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني قريظة (وهم متحصنون في حصونهم) خمسا وعشرين ليلة وقيل خمسة عشر يوما «86» حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب. روى ابن هشام أن كعب بن أسعد قال لليهود: لما رأى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم: «يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم. قالوا: فما هي؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فو الله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأبنائكم ونسائكم. قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، قال: فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، قالوا: فما ذنب المساكين؟ قال: فإن أبيتم هذه أيضا فإن الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فأنزلوا لعلنا نصيب منهم غرة، فأبوا ذلك أيضا» . ثم إنهم نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيهم- وقد كانت بنو قريظة حلفاء للأوس- فأحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يكل الحكم عليهم إلى واحد من رؤساء الأوسيين، فجعل الحكم فيهم إلى سعد بن

_ (83) انظر فتح الباري: 2/ 47 ونيل الأوطار: 2/ 27 (84) متفق عليه واللفظ للبخاري. (85) رواه البخاري. (86) الذي رواه ابن هشام أن مدة الحصار كانت خمسة وعشرين يوما. وجزم ابن سعد في طبقاته أنها كانت خمسة عشر فقط.

العبر والعظات:

معاذ، وكان قد أصيب بسهم في الخندق فكان يداوى في خيمة هناك. فلما حكّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بني قريظة وأرسل إليه بذلك، أتى على حمار. فلما دنا من المسجد «87» ، قال للأنصار: قوموا إلى سيدكم أو خيركم. ثم قال: إن هؤلاء نزلوا على حكمك. قال: تقتل مقاتلهم وتسبي ذريتهم، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: قضيت بحكم الله تعالى «88» . ثم قال سعد رضي الله عنه: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك صلّى الله عليه وسلم، وأخرجوه. اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني له حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها، واجعل موتي فيها. فانفجرت من لبّته، فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل إليهم. فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات منها رضي الله عنه «89» ، وفي رواية أحمد أن جرحه حينما انفجر كان قد برئ إلا مثل الخرص (حلي يوضع في الأذن) أي إلا شيء يسير قد بقي منه. ثم استنزل اليهود من حصونهم فسيقوا إلى خنادق في المدينة، فقتل مقاتلهم (أي رجالهم) وسبي ذراريهم. وكان في جملة من سيق إلى القتل فقتل: حيي بن أخطب الذي كان قد سعى حتى أقنع بني قريظة بالغدر ونقض العهد. روى ابن إسحاق أنه جيء به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويداه مجموعتان إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل، ثم جلس فضربت عنقه» . العبر والعظات: استنبط علماء الحديث والسيرة من قصة بني قريظة هذه أحكاما هامة نجملها فيما يلي: أولا: (جواز قتال من نقض العهد) ، وقد جعل الإمام مسلم رحمه الله هذا الحكم عنوانا لغزوة بني قريظة، فالصلح والمعاهدة والاستئمان بين المسلمين وغيرهم، كل ذلك ينبغي احترامه على المسلمين، ما لم ينقض الآخرون العهد أو الصلح أو الأمان. وحينئذ يجوز للمسلمين قتالهم إن رأوا المصلحة في ذلك. ثانيا: (جواز التحكيم في أمور المسلمين ومهامهم) ، قال النووي رحمه الله: فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين وفي مهامّهم العظام والرجوع في ذلك إلى حكم مسلم عادل صالح للحكم،

_ (87) ليس المراد به مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المدينة، بل مكان اختطه صلّى الله عليه وسلم في بني قريظة للصلاة فكان مسجدا، كما قال شراح الحديث. (88) متفق عليه. (89) متفق عليه واللفظ للبخاري.

وقد أجمع العلماء عليه في شأن الخوارج، فإنهم أنكروا على عليّ التحكيم، وأقام الحجة عليهم. وفيه جواز مصالحة أهل قرية أو حصن على حكم حاكم مسلم عدل صالح للحكم أمين على هذا الأمر، وعليه الحكم بما فيه مصلحة المسلمين، وإذا حكم بشيء لزم حكمه، ولا يجوز للإمام ولا لهم الرجوع، ولهم الرجوع قبل الحكم «90» . ثالثا: (مشروعية الاجتهاد في الفروع وضرورة وقوع الخلاف فيها) ، وفي اختلاف الصحابة في فهم كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا لا يصلّين أحد العصر إلا في بني قريظة» على النحو الذي روينا، مع عدم تعنيف النبي صلّى الله عليه وسلم أحدا منهم أو معاتبته، دلالة هامة على أصل من الأصول الشرعية الكبرى، وهو تقرير مبدأ الخلاف في مسائل الفروع، واعتبار كل من المتخالفين معذورا ومثابا، سواء قلنا أن المصيب واحد أو متعدد كما أن فيه تقريرا لمبدأ الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية. وفيه ما يدل على أن استئصال الخلاف في مسائل الفروع التي تنبع من دلالات ظنية، أمر لا يمكن أن يتصور أو يتم، فالله سبحانه وتعالى تعبّد عباده بنوعين من التكاليف: أولهما: تطبيق أوامر معينة واضحة تتعلق بالعقيدة أو السلوك. ثانيهما: البحث وبذل الجهد ابتغاء فهم المبادئ والأحكام الفرعية من أدلتها العامة المختلفة، فليس المطلوب ممن أدركته الصلاة في بادية التبست عليه جهة القبلة فيها، أكثر من أن تتجلى عبوديته لله تعالى في أن يبذل كل ما لديه من وسع لمعرفة جهة القبلة حسب فهمه وما يبدو له من أدلة، حتى إذا سكنت نفسه إلى جهة ما، استقبلها فصلّى إليها. ثم إن هنا لك حكما باهرة لمجيء كثير من الأدلة والنصوص الشرعية ظنية الدلالة غير قطعية. من أبرزها، أن تكون الاجتهادات المختلفة في مسألة ما، كلها وثيقة الصلة بالأدلة المعتبرة شرعا، حتى يكون للمسلمين متسع في الأخذ بأيّها شاؤوا حسبما تقتضيه ظروفهم ومصالحهم المعتبرة وتلك من أجلى مظاهر رحمة الله بعباده، في كل عصر وزمن. وإذا تأملت هذا، علمت أن السعي في محاولة القضاء على الخلاف في مسائل الفروع، معاندة للحكمة الربانية والتدبير الإلهي في تشريعه، عدا أنه ضرب من العبث الباطل. إذ كيف تضمن انتزاع الخلاف في مسألة ما مادام دليلها ظنيا محتملا؟ .. لو أمكن ذلك أن يتم في عصرنا، لكان أولى العصور به عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولكان أولى الناس بأن لا يختلفوا هم أصحابه، فما بالهم اختلفوا مع ذلك كما قد رأيت؟!. رابعا: (تأكد اليهود من نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم) ، لقد رأيت من مجرى كلام كعب بن أسد مع إخوانه اليهود، أنهم كانوا على يقين من نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وعلى اطلاع تام على ما أثبتته التوراة من

_ (90) النووي على مسلم 12/ 92

الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم وعن علاماته وبعثته، ولكنهم كانوا عبيدا لعصبيتهم وتكبرهم. وذلك هو سبب الكفر عند كثير ممن يتظاهر بعدم الإيمان والفهم، وذلك هو الدليل البين على أن الإسلام في عقيدته وعامة أحكامه إنما هو دين الفطرة البشرية الصافية، ينسجم في عقيدته مع العقل وينسجم في تشريعاته وأحكامه مع حاجات الإنسان ومصالحه، فلن تجد من عاقل سمع باسم الإسلام وألّم بحقيقته وجوهره ثم كفر به كفرا عقليا صادقا. إنما هو أحد شيئين: إما أنه لم يسمع بالإسلام على حقيقته وإنما قيل له عنه كلام زائف باطل، وإما أنه وقف على حقيقته واطلع على جوهره، فهو يأباه إباء نفسيا لحقد على المسلمين أو غرض أو هوى يخشى فواته. خامسا: (حكم القيام إكراما للقادم) ، أمر النبي صلّى الله عليه وسلم الأنصار حينما أقبل نحوهم سعد بن معاذ راكبا دابته أن يقوموا إليه تكريما له، ودلّ على هذا التعليل قوله: لسيدكم أو خيركم، وقد استدل عامة العلماء بهذا وغيره على مشروعية إكرام الصالحين والعلماء بالقيام إليهم في المناسبات الداعية إلى ذلك عرفا. يقول الإمام النووي في تعليق على هذا الحديث: «فيه إكرام أهل الفضل وتلقيهم بالقيام لهم إذا أقبلوا. هكذا احتج به جماهير العلماء لاستحباب القيام. قال القاضي: وليس هذا من القيام المنهي عنه، وإنما ذلك فيمن يقومون عليه وهو جالس ويمثلون قياما طول جلوسه. قلت: القيام للقادم من أهل الفضل مستحب، وقد جاء فيه أحاديث، ولم يصح في النهي عنه شيء صريح» «91» . ومن الأحاديث الثابتة الدالة أيضا على ذلك، ما جاء في حديث كعب بن مالك المتفق عليه، وهو يقص خبر تخلفه عن غزوة تبوك، قال: «فانطلقت أتأمم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، ويقولون لي: لتهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله جالس حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره- فكان كعب لا ينساها لطلحة» . ومن ذلك أيضا ما رواه الترمذي وأبو داود والبخاري في الأدب المفرد عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت أحدا من الناس كان أشبه بالنبي صلّى الله عليه وسلم كلاما ولا حديثا ولا جلسة من فاطمة، قالت: وكان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا رآها أقبلت رحب بها ثم قام إليها فقبلها، ثم أخذ بيدها فجاء بها حتى يجلسها في مكانه، وكانت إذا أتاها النبي صلّى الله عليه وسلم رحبت به ثم قامت إليه فقبلته» «92» . واعلم أن هذا كله لا يتنافى مع ما صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحبّ أن يتمثل له

_ (91) النووي على مسلم: 12/ 93 (92) هذا اللفظ للبخاري والروايات الأخرى لا تختلف عن هذه إلا بألفاظ أو زيادات بسيطة.

الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار» . لأن مشروعية إكرام الفضلاء وتوقيرهم لا تستدعي السعي منهم إلى ذلك أو تعلق قلوبهم بمحبته، بل إن من أبرز صفات الصالحين والفضلاء أن يكونوا متواضعين لإخوانهم زهّادا في طلب هذا الشيء. أرأيت إلى الفقير المحتاج؟ إن الأدب الإسلامي يوصيه ويعلمه الترفع عن المسألة وإظهار الفاقة والحاجة للناس، ولكن هذا الأدب الإسلامي نفسه يوصي الأغنياء بالبحث عن هؤلاء الفقراء المتعففين ويأمرهم بإكرامهم وإعطائهم من فضول أموالهم. فلكل أدب ووظيفة، ولا ينبغي أن نخلط بينهما، أو ننسخ الواحد بالآخر فإن ذلك من أسوأ مظاهر التسرع والجهل. غير أن من أهم ما ينبغي أن تعلمه في هذا الصدد أن لهذا الإكرام المشروع حدودا إذا تجاوزها، انقلب الأمر محرما واشترك في الإثم كل من مقترفه والساكت عليه. فمن ذلك ما قد تجده في مجالس بعض المتصوفة من وقوف المريدين عليهم وهم جلوس، يقف الواحد منهم أمام شيخه في انكسار وذل مطرقا لا يطرف إلى أن يأذن له بالجلوس، ومنه ما يفعله بعضهم من السجود على ركبة الشيخ أو يده عند قدومه عليه. أو ما يفعله من الحبو إليه عندما يغشى المجلس. ولا يخدعنك ما قد يقال في تسويغ ذلك من أنه أسلوب من التربية للمريد! .. فالإسلام قد شرع مناهج وأساليب للتربية وحظر على المسلمين الخروج عليها، وليس بعد الأسلوب النبوي في التربية من أسلوب يقرّ أو يعاج عليه. سادسا: (مزايا خاصة لسعد بن معاذ) ، وإنك لتقف خلال اطلاعك على هذه الغزوة، على مزية كبرى لسيدنا سعد بن معاذ رضي الله عنه، فإنك لتجد ذلك أولا، في إعطاء النبي صلّى الله عليه وسلم له صلاحية الحكم بما يشاء على بني قريظة، وجعل موقفه منه- وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلم- موقف الموافق والمؤيد لكل ما سيحكم به. ونجد ذلك ثانيا في أمر النبي صلّى الله عليه وسلم للأنصار بالقيام إليه حينما أقبل إليهم، وتلك مزية كبرى لسعد حينما يكون هذا الأمر صادرا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم تجد ذلك في قصة الجرح الذي كان قد أصابه في كاحله في غزوة الخندق. لقد رفع يديه يدعو الله تعالى يوم أن أصابه هذا الجرح قائلا: «اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك صلّى الله عليه وسلم، وأخرجوه، اللهم فإن بقي من حرب قريش شيء فأبقني له حتى أجاهدهم فيك» وقد استجيب دعاء سعد فتحجر جرحه وتماثل للشفاء، حتى كانت غزوة بني قريظة، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحكم فيهم إليه، وكفى الله المؤمنين شرّ اليهود وتطهرت المدينة من أرجاسهم، رفع سعد يده يدعو الله ثانية يقول: «اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم (يعني قريشا والمشركين) فإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها» ، وقد استجيب دعاؤه فانفجر جرحه تلك الليلة ومات رحمه الله تعالى.

قال ابن حجر في الفتح: «والذي يظهر لي أن ظن سعد كان مصيبا وأن دعاءه في هذه القصة كان مجابا، وذلك أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش من بعد وقعة الخندق حرب يكون ابتداء القصد فيها من المشركين، فإنه صلّى الله عليه وسلم تجهز إلى العمرة فصدوه عن دخول مكة، وكادت الحرب أن تقع بينهم فلم تقع كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح 48/ 24] . ثم وقعت الهدنة، واعتمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قابل، واستمر ذلك إلى أن نقضوا العهد، فتوجه إليهم غازيا، ففتحت مكة» «93» . وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في منصرفه عن غزوة الأحزاب، فيما رواه البخاري: «الآن نغزوهم هم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم» ، وأخرج البزار بإسناد حسن من حديث جابر أنه صلّى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب، وقد جمعوا له جموعا كثيرة: «لا يغزونكم بعد هذا أبدا ولكن أنتم تغزونهم» . وأخيرا، فإن قصة سعد هذه، بملابساتها التي ذكرناها، تذكرك بما كنا قررناه سابقا من أن الحرب الدفاعية في الإسلام ما كانت إلا مرحلة من مراحل الدعوة التي سار فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد جاءت من بعدها مرحلة دعوة الناس كلهم إلى الإسلام بحيث لا يقبل من الملاحدة والمشركين إلا الإسلام، ولا يقبل من أهل الكتاب إلا الدخول فيه أو الخضوع تحت حكمه العام، مع قتال كل من وقف دون هذه السبيل، ما دام ذلك ممكنا، وبعد استنفاد وسائل الدعوة السلمية المعروفة. وليس بعد تكامل الحكم الإسلامي فيما يتعلق بالجهاد والدعوة، أي معنى لما يسمى بالحرب الدفاعية التي شاعت أخيرا على ألسنة بعض الباحثين وإلا فما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: «ولكن أنتم تغزونهم؟» .

_ (93) فتح الباري: 7/ 292

القسم السادس الفتح: مقدماته ونتائجه مرحلة جديدة من الدعوة

القسم السادس الفتح: مقدّماته ونتائجه مرحلة جديدة من الدّعوة صلح الحديبية كان في شهر ذي القعدة، آخر سنة ست للهجرة. وسببها أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلم أعلن في المسلمين أنه متوجّه إلى مكة معتمرا، فتبعه جمع كبير من المهاجرين والأنصار بلغ عددهم ألفا وأربع مئة تقريبا. وأحرم صلّى الله عليه وسلم بالعمرة في الطريق، وساق معه الهدي ليأمن الناس من حربه وليعلموا أنه إنما خرج زائرا البيت ومعظما له. وأرسل صلّى الله عليه وسلم وهو عند ذي الحليفة عينا له من قبيلة خزاعة اسمه بشر بن سفيان ليأتيه بخبر أهل مكة، وسار النبي صلّى الله عليه وسلم حتى وصل إلى غدير الأشطاط، فأتاه العين الذي كان قد أرسله، فقال له: «إن قريشا جمعت لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت ومانعوك، فقال: أشيروا أيها الناس.. فقال له أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدّنا عنه قاتلناه. قال: امضوا على اسم الله. ثم قال: من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟ فقال له رجل من بني أسلم: أنا يا رسول الله. فسلك بهم طريقا وعرا بين الشعاب، وسار النّبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه حتى إذا كانوا في ثنية المرار (وهي طريق في الجبل تشرف على الحديبية) بركت به راحلته، فقال الناس: حل، حل (اسم صوت كانوا يزجرون به الجمال) فلم تتحرك، فقالوا: خلأت القصواء، فقال صلّى الله عليه وسلم: ما خلأت، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على حفيرة قليلة الماء، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فو الله ما زال يجيش لهم

بالريّ حتى صدروا عنه «1» ، فبيما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر معه، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل «2» ، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرّت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلّوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جمّوا (أي استراحوا) ، وإن هم أبوا فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره. فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق بديل فحدّث قريشا بما سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقام عروة بن مسعود يعرض على المشركين أن يأتي النّبي صلّى الله عليه وسلم فيكلمه في تفصيل ما جاءهم به بديل بن ورقاء. فقالوا له دونك فاذهب. فذهب، فكلّمه النّبي صلّى الله عليه وسلم بمثل ما كلّم به بديلا، فقال له عروة: أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخرى، فإني والله لا أرى وجوها، وإني لأرى أشوابا من الناس (أي أخلاطا منهم) خليقا أن يفرّوا ويدعوك. فقال له أبو بكر رضي الله عنه: امصص بظر اللات أنحن نفرّ عنه وندعه! .. فالتفت قائلا: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. فقال: أما إنه لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك «3» . ثم جعل يكلّم النّبي صلّى الله عليه وسلم فكلما تكلّم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النّبي صلّى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النّبي صلّى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف، وقال له أخّر يدك عن لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس «4» ؟ ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلم بعينيه، قال: فو الله ما تنخّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر

_ (1) هذه من رواية البخاري في كتاب الشرط وابن إسحاق وغيرهما. وقد ذكر البخاري في كتاب المغازي هذا الحديث. وقال: إنه جلس على البئر ثم دعا بإناء فمضمض ودعا الله ثم صبّه فيها. ثم قال دعوها ساعة، ثم إنهم ارتووا بعد ذلك. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: ويمكن الجمع بينهما بأن يكون الأمران واقعين معا. وأما حديث أنه صلّى الله عليه وسلم وضع يده في ركوة ماء فجعل الماء يفور من بين أصابعه فتلك واقعة أخرى غير هذه. وكل ذلك ثابت صحيح. (2) العوذ جمع عائذ، وهي الناقة ذات اللبن والمطافيل الأمهات من النوق إذا كان معها أطفالها. يريد أنهم خرجوا بكل ما يحتاجون حتى لا يرجعوا إلا بعد أن يمنعوا المسلمين من دخول مكة. (3) اليد النعمة، واليد التي يقصدها عروة، أن عروة كانت تحمل دية فأعانه أبو بكر فيها بعون حسن. (4) أراد عروة بذلك أن المغيرة بن شعبة قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلا فودى له عروة المقتولين.

وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم محمدا! .. وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. ثم إنهم أرسلوا إليه سهيل بن عمرو ممثلا عنهم ليكتب بينهم وبين المسلمين كتابا بالصلح، فلما جلس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: هات أكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا النّبي صلّى الله عليه وسلم الكاتب (وكان الكاتب عليا رضي الله عنه- فيما رواه مسلم) فقال النّبي صلّى الله عليه وسلم: أكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل: أما «الرحمن» فو الله ما أدري ما هي، ولكن أكتب باسمك اللهم، فقال المسلمون: والله لا نكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلم: أكتب باسمك اللهم. ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب «محمد بن عبد الله» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني! .. اكتب محمد بن عبد الله. (وفي رواية مسلم: فأمر عليا أن يمحوها، فقال عليّ لا والله لا أمحوها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أرني مكانها، فأراه مكانها فمحاها) ، فقال له النّبي صلّى الله عليه وسلم: على أن تخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف به. فقال سهيل: والله، لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام القادم وليس مع المسلمين إلا السيوف في قرابها. فكتب. فقال سهيل: وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، ومن جاء منكم لم نرده عليكم، فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يردّ إلى المشركين وقد جاء مسلما؟! (والتفتوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسألونه: أنكتب هذا يا رسول الله؟! قال: نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا) «5» . وكانت مدة الصلح بناء على هذه الشروط- على ما رواه ابن إسحاق وابن سعد والحاكم- عشر سنين لا إسلال فيها ولا إغلال (أي لا سرقة ولا خيانة) وأنه من أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. فتواثبت خزاعة فقالوا: «نحن في عقد محمد وعهده» . وتواثبت بنو بكر فقالوا: «نحن في عقد قريش وعهدهم» . ولما فرغ من الصلح والكتابة، أشهد على الكتاب رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين. وفي الصحيحين أن عمر بن الخطاب قال: «فأتيت نبي الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألست على حق وعدونا على باطل؟ قال: بلى، قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قلت: فلماذا نعطي الدنيّة في ديننا إذن؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به. فلم

_ (5) ما بين القوسين تفصيل لرواية مسلم. والحديث بطوله من لفظ البخاري مع زيادات لمسلم.

بيعة الرضوان

يصبر عمر حتى أتى أبا بكر رضي الله عنه فسأله مثل ما سأل النّبي صلّى الله عليه وسلم، فقال له يا ابن الخطاب، إنه رسول الله ولن يعصي ربّه ولن يضيّعه الله أبدا. فما هو إلا أن نزلت سورة الفتح على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياها. فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟! .. قال: نعم، فطابت نفسه» «6» . ثم إن النّبي صلّى الله عليه وسلم أقبل على أصحابه فقال لهم: «قوموا فانحروا ثم احلقوا- وكرر ذلك ثلاثا- فوجم جميعهم وما قام منهم أحد، فدخل على زوجته أم سلمة، وذكر لها ما لقي من الناس، فقالت له: يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل الآخر لفرط الغم. ثم جاء نسوة مؤمنات (بعد انصرافه إلى المدينة) مهاجرات بدينهن، بينهن أم كلثوم بنت عقبة، فأنزل الله تعالى قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ، فَامْتَحِنُوهُنَّ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة 60/ 12] . فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يردهنّ بدينهن إلى الكفار» «7» . بيعة الرضوان وكان قد أرسل النّبي صلّى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى قريش قبل كتابة الصلح ليكلمهم في الأمر، فاحتبسته قريش عندها مدة، وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ ذاك أن عثمان بن عفان قد قتل، فقال لا نبرح حتى نناجز القوم، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت شجرة هنا لك. فكان صلّى الله عليه وسلم يأخذ بيد أصحابه الواحد منهم تلو الآخر يبايعونه على أن لا يفرّوا. وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيد نفسه، وقال: «هذه عن عثمان» . ولما تّمت البيعة، انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن الذي بلغه من مقتل عثمان باطل. العبر والعظات: كلمة وجيزة عن حكمة هذا الصلح: قبل أن نخوض في تفصيل ما ينبغي أن نقف عليه من دروس صلح الحديبية وعظاتها وأحكامها، نقول في كلمة وجيزة: إن أمر هذا الصلح كان مظهرا لتدبير إلهي محض تجلى فيه عمل النبوة وأثرها كما لم يتجلّ في أي عمل أو تدبير آخر. فقد كان نجاحه سرّا مرتبطا بمكنون الغيب

_ (6) متفق عليه. (7) صحيح البخاري.

المطوي في علم الله وحده، ولذلك انتزع- كما قد رأيت- دهشة المسلمين أكثر مما اعتمد على فكرهم وتدبيرهم. ومن هنا، فإنّا نعتبر أمر هذا الصلح، بمقدماته ومضمونه ونتائجه، من الأسس الهامة في تقويم العقيدة الإسلامية وتثبيتها. ولنتحدث أولا عن طرف من الحكم الإلهية العظيمة التي تضمنها هذا الصلح، والتي تجلت للعيان فيما بعد، حتى أضحت آية من آيات الله الباهرة، ثم نتحدث بعد ذلك عن الأحكام الشرعية التي تضمنتها وقائع هذا الصلح. فمن الحكم الباهرة، أن صلح الحديبية كان مقدمة بين يدي فتح مكة. فقد كانت هذه الهدنة- كما يقول ابن القيّم- بابا له ومفتاحا. وتلك هي عادة الله سبحانه وتعالى، يوطّئ بين يدي الأمور التي تعلقت إرادته بإنجازها، مقدمات تؤذن بها وتدل عليها. ولئن، لم يكن المسلمون قد تنبهوا لهذا في حينه، فذلك لأن المستقبل غائب عنهم، فأنّى لهم أن يفهموا علاقة الواقع الذي رأوه بالغيب الذي لم يتصوروه بعد؟ ولكن ما إن مضت فترة من الزمن، حتى أخذ المسلمون يستشفّون أهمية هذه الهدنة وعظيم ما قد انطوت عليه من خير. فإن الناس أمن بعضهم بعضا، واختلط المسلمون بالكفار ونادوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان متخفيا بالإسلام. روى ابن هشام عن ابن إسحاق عن الزهري قال: «ما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه (أي من صلح الحديبية) إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلّم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر» . ولذلك أطلق القرآن اسم الفتح على هذا الصلح، وذلك في قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح 48/ 27] . ومن الحكم الجليلة أيضا، أن الله جلّ جلاله أراد بذلك أن يبرز الفرق واضحا بين وحي النّبوة وتدبير الفكر البشري، بين توفيق النّبي المرسل وتصرّف العبقري المفكّر، بين الإلهام الإلهي الذي يأتي من فوق دنيا الأسباب ومظاهرها، والانسياق وراء إشارة هذه الأسباب وحكمها. أراد الله عزّ وجلّ أن ينصر نبوة نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلم أمام بصيرة كل متأمل عاقل، ولعل هذا من بعض تفسير قوله تعالى: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً، أي نصرا فريدا في بابه، من شأنه أن ينبّه الأفكار السادرة والعقول الغافلة.

فمن هنا أعطى المشركين كل ما سألوه من الشروط، وتساهل معهم في أمور لم يجد أحد من الصحابة ما يسوّغ التساهل فيها، ولقد رأيت كيف استبدّ الضيق والقلق بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى إنه قال عن نفسه فيما بعد- فيما رواه أحمد وغيره-: ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، ولقد رأيت كيف ساد الوجوم القوم حينما أمرهم الرسول صلّى الله عليه وسلم بالحلق والنحر، ليعودوا إلى المدينة، رغم أنه كرر عليهم الأمر ثلاث مرات، لقد كان السّر في ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم إنما كانوا يتأملون في تصرفات النّبي صلّى الله عليه وسلم، وهم يقفون على أرض من البشرية العادية، فلا يتبصرونها إلا بمقدار ولا يفهمون منها إلا ما تفهمه عقولهم البشرية القائمة على الخبرات المحسوسة، على حين كان النّبي صلّى الله عليه وسلم واقفا من تصرفاته هذه فوق مستوى البشرية وخبراتها وأسبابها، كانت النّبوة المطلقة هي التي توجهه وتلهمه وتوحي إليه، وكان تنفيذ الأمر الإلهي هو وحده الماثل أمام عينيه. يتضح لك هذا من جوابه لعمر بن الخطاب حينما أقبل إليه سائلا ومتعجبا، بل وربما مستنكرا. فقد قال له: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. ويتضح لك هذا أيضا من وصية النّبي صلّى الله عليه وسلم، لعثمان حينما أرسله إلى مكة ليكلم قريشا فيما جاء له النّبي صلّى الله عليه وسلم، فقد أمره أيضا أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله عزّ وجلّ مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان. فلا غرو أن يدهش المسلمون لموقف رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي تمحض عن المفاهيم البشرية ومقاييسها في تلك الآونة. ولكن سرعان ما انتهت الدهشة وزال الغم واتضح المبهم، حينما تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليهم سورة الفتح التي تنزلت عليه عقب الفراغ من أمر الصلح. وتجلى للصحابة رضي الله عنهم أن احتمالهم لتلك الشروط كان عين النصر لهم، وأن المشركين ذلّوا من حيث تأملوا العزّ، وقهروا من حيث أظهروا القدرة والغلبة. وظهر من وراء ذلك كله النصر العظيم لرسوله والمؤمنين دون أن يكون في ذلك أي اقتراح للعقول والأفكار. فهل في أدلة العقيدة دليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم أبلغ من هذا الدليل وأظهر؟ .. ولقد تضايق المسلمون بادئ الأمر من موافقة النّبي صلّى الله عليه وسلم على الشرط الذي أملاه سهيل بن عمرو: «من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردّ عليه» . وازداد ضيقهم لما أقبل أبو جندل (ابن سهيل بن عمرو) فارّا من المشركين يرسف في الحديد، فقام إليه أبوه آخذا بتلابيبه وهو يقول: «يا محمد، قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال صدقت، فجعل ينتره ويجرّه ليردّه إلى قريش، وأبو جندل يصرخ بأعلى صوته يا معشر المسلمين أأردّ إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا أبا جندل، اصبر

واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا أعطينا القوم عهودا، وإنا لا نغدر بهم» . ولقد أخذ الصحابة ينظرون إلى هذا الأمر، وقد داخلهم من ذلك همّ عظيم. ولكن، فما الذي تمّ بعد ذلك؟ .. «لقد جاء إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم بعد ذهابه إلى المدينة رجل آخر قد أسلم من قريش اسمه: أبو بصير، فأرسلوا في طلبه رجلين من المشركين ليستردّوه، فسلّمه الرسول صلّى الله عليه وسلم إليهما، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فغافل أبو بصير أحد حارسيه وأخذ منه سيفه فقتله، ففرّ الآخر. ثم عاد أبو بصير إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمّتك، قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم، ثم إنه خرج حتى أتى سيف البحر، وتفلت أبو جندل، فلحق به هناك، وأصبح ذلك المكان مثابة للمسلمين من أهل مكة، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير وإخوانه، فما كانوا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوا المشركين وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم أن يقبلهم عنده ويضمهم إليه، فجاؤوا إلى المدينة» «8» . ولما كان فتح مكة، كان أبو جندل هذا، هو الذي استأمن لأبيه وعاش رضي الله عنه حتى استشهد في وقعة اليمامة «9» . وهكذا صحا أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلم من همهم ذاك، على مزيد من الإيمان بالحكمة الإلهية ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، روي في الصحيح أن سهيل بن سعيد رضي الله عنه قال يوم صفين: «أيها الناس، اتهموا رأيكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم لرددته!» . ومرة أخرى نكرر ونقول: هل في أدلة العقيدة دليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم أبلغ من هذا الدليل وأظهر؟ ومن الحكم الجليلة أيضا، أن الله جلّت قدرته إنما أراد أن يجعل فتح مكة لنبيّه فتح مرحمة وسلم، لا فتح ملحمة وقتال، فتحا يتسارع الناس فيه إلى دين الله أفواجا، ويقبل فيه أولئك الذين آذوه وأخرجوه، يلقون إليه السلم ويخضعون له الجانب مؤمنين آيبين موحدين. فجعل من دون ذلك هذا التمهيد، تؤوب فيه قريش إلى صحوها وتحاسب فيها نفسها وضميرها، وتشترك هي الأخرى مع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أخذ العبرة من أمر هذا الصلح ومقدماته ونتائجه، فتنضج الآراء في الرؤوس وتتهيأ لقبول الحق الذي لا ثاني له. وهكذا كان الأمر، كما ستعلم تفصيله في مكانه إن شاء الله تعالى.

_ (8) من تتمة حديث البخاري السابق ذكره. (9) راجع الإصابة: 4/ 24

الأحكام المتعلقة بذلك:

الأحكام المتعلقة بذلك: هذا عن بعض الحكم الإلهية المتعلقة بأمر صلح الحديبية، أما ما يتعلق بذلك من الدلالات والأحكام فإنه لكثير، وسنقتصر من ذلك على ما يلي: أولا: (الاستعانة بغير المسلمين فيما دون القتال) ، قلنا إن النّبي صلّى الله عليه وسلم أرسل بشر بن سفيان عينا إلى قريش ليأتيه بأخبارهم. وبشر بن سفيان كان مشركا من قبيلة خزاعة. وفي هذا تأكيد لما كنا قد ذكرناه سابقا من أن أمر الاستعانة بغير المسلم يتبع الظرف وحالة الشخص الذي يستعان به. فإن كان ممن يطمأنّ إليه ولا تخشى منه بادرة غدر أو خديعة، جازت وإلا فلا. وعلى كل فإن النّبي صلّى الله عليه وسلم، في كل الحالات، إنما استعان بغير المسلمين بما دون القتال، كإرساله عينا على الأعداء أو استعارة أسلحة منهم وما شابه ذلك. والذي يبدو أن الاستعانة بغير المسلمين في القضايا السلمية أشبه بالجواز منها في أعمال القتال والحرب. ثانيا: (طبيعة الشورى في الإسلام) ، لقد رأينا في عامة تصرفات الرسول صلّى الله عليه وسلم ما يدل على مشروعية الشورى وضرورة تمسك الحاكم بها، وعمل النّبي صلّى الله عليه وسلم هنا، يدل على طبيعة هذه الشورى والمعنى الذي شرعت من أجله، فالشورى في الشريعة الإسلامية مشروعة ولكنها ليست ملزمة، وإنما الحكمة منها استخراج وجوه الرأي عند المسلمين، والبحث عن مصلحة قد يختص بعلمها بعضهم دون بعض، أو استطابة نفوسهم. فإذا وجد الحاكم في آرائهم ما سكنت نفسه إليه على ضوء دلائل الشريعة الإسلامية وأحكامها، أخذ به، وإلا كان له أن يأخذ بما شاء بشرط أن لا يخالف نصّا في كتاب ولا سنّة ولا إجماعا للمسلمين. ولقد وجدنا أن النّبي صلّى الله عليه وسلم استشار أصحابه في الحديبية، وأشار عليه أبو بكر بما قد علمت، قال له: «إنك يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت، فتوجه له، فمن صدّنا عنه قاتلناه» . ولقد وافقه النّبي صلّى الله عليه وسلم في بادئ الأمر، ومضى مع أصحابه متجها إلى مكة حتى إذا بركت الناقة، وعلم أنها ممنوعة.. ترك الرأي الذي كان قد أشير به عليه، وأعلن قائلا: «والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» . وحينئذ تحول العمل عن ذلك الرأي الذي أبداه أبو بكر، إلى أمر الصلح والموافقة على شروط المشركين، دون أن يستشير في ذلك أحدا، بل ودون أن يصيخ إلى استعظام واستنكار المستنكرين كما قد رأيت. فهذا يعني أن أمر الشورى يأتي من وراء حكم الوحي الذي هو اليوم: الكتاب والسّنة وإجماع الأئمة، رضوان الله عليهم، كما يدلّ أيضا على أن الشورى إنما شرعت للتبصر بها، لا للإلزام أو التصويت على أساسها. ثالثا: (التوسل والتبرك بآثار النّبي صلّى الله عليه وسلم) ، قلنا، إن عروة بن مسعود، جعل يرمق

أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلم بعينيه، قال: «فو الله ما تنخّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم فذلك بها وجهه وجلده. وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيما له» . إنها صورة بارزة حيّة، أوضحها عروة بن مسعود لمدى محبة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم له. وإن فيها لدلالات هامة يجب أن يقف عليها كل مسلم. إنها تدل أولا، على أنه لا إيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلم بدون محبة له، وليست المحبة له معنى عقلانيا مجردا، وإنما هي الأثر الذي يستحوذ على القلب فيطبع صاحبه بمثل الطابع الذي وصف به عروة بن مسعود أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وهي تدل ثانيا، على أن التّبرك بآثار رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر مندوب إليه ومشروع. ولقد وردت أحاديث صحيحة ثابتة عن تبرّك الصحابة رضي الله عنهم بشعر النّبي صلّى الله عليه وسلم، وعرقه، ووضوئه، وبصاقه، والقدح الذي كان يشرب فيه، وقد ذكرنا تفصيل بعض هذه الأحاديث فيما مضى «10» .

_ (10) انظر ص 140، 141 من هذا الكتاب. حدثني صديق أجلّه أن رجلا عمد إلى الصفحة التي فيها كلام عروة هذا، من كتابي هذا: (فقه السيرة) فاستنسخ منها ما شاء من الصور بال (فوتوكوبي) وجعل يدور بها على الناس، متخذا منها وثيقة اتهام، بل انتقاص لرسول الله صلّى الله عليه وسلم! .. وأقول: أمّا ما عمد إليه هذا الرجل من استكثاره لهذه الصفحة التي تضمنت هذا البيان، ونشرها في الناس، ولفت أنظارهم إلى ما قد دلّت عليه، فلا ريب أنه مشكور على ذلك ومأجور، لو خلصت النية وصفا القصد.. فإنّ عمله هذا ليس إلّا تأكيدا لحقيقة ثابتة قد يجهلها كثير من الناس اليوم، ألا وهي شدة تعظيم الصحابة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، والمبلغ الذي بلغه حبهم العجيب له! .. وما أكثر الألغاز الجاثمة التي تتحدى العقل، في معالم الفتح الإسلامي وأحداثه، لو لم يفسرها هذا الحب العظيم الذي هيمن على مجامع القلوب، وامتد إلى أغوار النفوس، والذي جاء ثمرة اليقين العقلي الجازم بأن محمدا صلّى الله عليه وسلم هو رسول الله ورحمته المهداة إلى الناس أجمعين. وأمّا ما قصد إليه هذا الإنسان، من وراء ذلك، من تشويه مكانة محمد عليه الصلاة والسلام في القلوب، وإظهاره في أعين الناس في مظهر المدلّ على أصحابه، المتلذذ برؤية هذا الذي يتسابقون إليه، وإبرازه في صورة الثقيل السمج، دأبه أن يري الناس من نفسه ما كان خليقا به أن يستره عنهم، يروّضهم بذلك على حبّه والاستئناس بكل ما قد يتصل به أو ينفصل عنه ... أقول: أمّا ما قد قصد إليه هذا الرجل من ذلك، فقد أبعد النّجعة، وأخطأ الطريق، وخانه الهدف! ... كثيرون هم الذين سعوا هذا السعي؛ واعتصروا الفكر، واستنجدوا بالحيلة، وناشدوا التاريخ، كي يتاح لهم أن ينسجوا صورة من هذا القبيل لمحمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فما عادوا من سعيهم أو محاولتهم بأي طائل. وظلّ كل من العقل والتاريخ والفكر الحرّ أمينا على الكلمة الجامعة التي وصف الله بها محمدا عليه الصلاة والسلام: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. اقرأ ما تشاء من صفحات أي كتاب في شمائل هذا الرسول العظيم، تجد نفسك أمام المثل الأعلى، والنموذج الأتم

وإذا علمت أن التّبرك بالشيء إنما هو طلب الخير بواسطته ووسيلته علمت أن التوسل بآثار النّبي صلّى الله عليه وسلم أمر مندوب إليه ومشروع، فضلا عن التّوسل بذاته الشريفة.

_ للإنسانية السامية الصافية عن الشوائب، وللذوق الرفيع في مقاييس المعاملة والسلوك، وللإحساس المرهف في رعاية الآخرين والاهتمام بهم، وللنظافة والرتابة وأناقة الشكل والمظهر، وللتواضع المتناهي أمام كل فئات أصحابه. لم يكن يستقبل الوافدين إليه إلا بأنظف الثياب وأبهى الحلل. كان أشدّ ما يكون حرصا على أن لا يرى الناس منه إلا ما تسرّ به العين، وأن لا تقع أنوفهم منه إلا على أطيب رائحة. وقد ثبت أنه كان ينفق جلّ ماله في الطيب. لم يكن يأكل ثوما أو بصلا، أو أي طعام يتأذى الناس منه برائحة كريهة. ولما كان ضيفا في دار أبي أيوب الأنصاري، في أيامه الأولى من هجرته إلى المدينة، وعادت قصعة الطعام من عنده مرّة دون أن يطعم منها شيئا، فزع أبو أيوب وهرع إلى رسول الله يسأله عن سبب ذلك، فقال: «لقد شممت فيه رائحة تلكم الشجرة (أي الثوم) وأنا أناجى (أي يزورني الناس وأحادثهم) أما أنتم فكلوا» . وكان إذا مضى لقضاء حاجة، أبعد، ثم أبعد، حتى لا يقع الناس منه على أثر. وكان يرجّل شعره، ويتعهد فمه وأسنانه؛ وربما أبصر صفرة في أسنان بعض جلسائه، فتوجه إلى الجميع بنصيحة عامة ونقد رفيق، وقال: «مالكم تأتونني قلحا لا تتسوكون؟» . هذا هو محمد عليه الصلاة والسلام، في بعض ما تتحدث عنه شمائله المعبرة عن سموّ أخلاقه، ورقة شعوره، وشفافية ذوقه، ونبل إحساسه. فهل ترى في هذه اللوحة الإنسانية النموذجية، مساحة ما، لقبول أي عبث أو تزوير وتشويه؟ إذن فليس في شيء من حديث عروة بن مسعود عن حبّ الصحابة لرسولهم، ما يلحق بالرسول أي منقصة في طبعه، أو يصمه بأي غلظة في تعامله وسلوكه، أو يبرزه في مظهر المدلّ زهوا على أصحابه، أو الدافع لهم إلى ما فعلوا. *** فإن أراد هذا الرجل أن يتحول، بعدئذ، بالنقد والاشمئزاز إلى أولئك الناس الذين ساقهم الحب إلى ما صنعوا، فإنّ عليه أن يتبيّن قبل كل شيء خصمه الحقيقي الذي أثار في نفسه بواعث النقد والاشمئزاز حتى لا يتهم البرآء ظلما وعدوانا. وإنما خصمه في هذه الدعوى هو الحب! ... الحب هو الذي حمل أولئك الناس على فعل ما وصفه عروة بن مسعود، وفعل ما هو أبلغ من ذلك! .. والحب، هو الذي ليّن تحت سلطانهم الحديد، وقرب إليهم البعيد، وجعل المستحيل بين أيديهم ممكنا، وجعل القبح جميلا، والملح الزّعاق حلوا طيب المذاق! .. هذا هو شأن الحب، وذلك هو جبروته وسلطانه. فإن علم هذا الرجل، أن في نواميس هذه الحياة سلطانا أقوى نفوذا إلى النفوس، وهيمنة على القلوب من سلطانه، فليشكه إليه، وليستعده عليه، وليصف له اشمئزاز نفسه، من هذا الذي يفعله الحب، بنفوس الناس، ومن العمل الذي يحملهم عليه! ... ولكن يا عجبا! .. يرى ويعلم هذا الرجل وأمثاله ما يفعله الحب الأرعن بأصحابه، أعني ذلك الحب الذي يتسلل إلى القلب في غفلة من العقل، أو مع تحدّ للعقل وأحكامه، إذ يسوقه إلى شذوذات عجيبة في السلوك ويزجّه في أوحال من المهانة والقذارة التي يشمئز من بيانها البيان، فلا يستعظم من ذلك شيئا، ولا تشعره نفسه الحساسة بأي قرف أو

وليس ثمة فرق بين أن يكون ذلك في حياته صلّى الله عليه وسلم أو بعد وفاته، فآثار النّبي صلّى الله عليه وسلم وفضلاته، لا تتصف بالحياة مطلقا، سواء تعلق التّبرك والتّوسل بها في حياته أو بعد وفاته، كما ثبت في صحيح البخاري في باب شيب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ومع ذلك، فقد ضلّ أقوام لم تشعر أفئدتهم بمحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وراحوا يستنكرون التّوسل بذاته صلّى الله عليه وسلم بعد وفاته، بحجة أن تأثير النّبي صلّى الله عليه وسلم قد انقطع بوفاته، فالتّوسل به، إنما هو توسل بشيء لا تأثير له ألبتة! وهذه حجة تدل- كما ترى- على جهل عجيب جدا! .. فهل ثبت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم تأثير ذاتي في الأشياء في حال حياته، حتى نبحث عن مصير هذا التأثير من بعد وفاته؟!. إن أحدا من المسلمين لا يستطيع أن ينسب أي تأثير ذاتي في الأشياء لغير الواحد الأحد جلّ جلاله، ومن اعتقد خلاف هذا يكفر بإجماع المسلمين كلهم. فمناط التّبرك والتّوسل به أو بآثاره صلّى الله عليه وسلم، ليس هو إسناد أي تأثير إليه، والعياذ بالله وإنما المناط، كونه صلّى الله عليه وسلم أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق، وكونه رحمة من الله للعباد فهو التّوسل

_ اشمئزاز، بل ما أكثر ما يبارك كتاب، وأدباء، وشعراء، هذا الشذوذ (الوردي) ، وما أسهل أن يتصوروه أو يصوروه تجسيدا رائعا للهيجان الخمري المعتّق! .. حتى إذا رأى صورة ذلك الحب العلوي الذي ينسكب في المشاعر من القلب والعقل معا، وأبصر شيئا من آثاره في حياة صاحبه وسلوكه، تعجب واستغرب، واصطنع التأفف والاشمئزاز، وأخذ يندب اللباقة والذوق الرفيع! ... ألا، فليعلم هذا الرجل وأمثاله أن كل شيء في الدنيا يخضع لقانون مستقل عنه، إلا الحب، فلن تراه خاضعا إلا لقانونه ذاته! .. والويل كل الويل لمن كان حب قلبه تمردا على عقله. وليهنأ ذاك الذي كان حبه القلبي تجاوبا مع قراره العقلي. وحسب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم شرفا وفخرا أن الحب الذي استبد بقلوبهم لرسول الله، كان شعاع إيمانهم العقلي بصدق نبوته، وسمّو مكانته عند رب العالمين جلّ جلاله. فليفعل بهم هذا الحب ما يشاء، وليحملهم على التبرك والتمسّح بعرقه وبصاقه وما يتساقط من شعره وما يتقاطر من ماء وضوئه.. فإنما هي لغة الحب.. ولا تصاغ لغة الحب إلا في داخل بوتقته ولا يتحكم بها غيره. وإني لأعلم أن في الناس اليوم من لو رأت أعينهم محمدا صلّى الله عليه وسلم، يمشي على الأرض، لهاج بهم هائج الحب، ولخرّوا إلى الأرض، يلعقون الثرى الذي سما وازدهى تحت قدمي رسول الله! .. ولا يخاصم منطق الحب هذا إلا من يقارعه بمنطق الكراهية والبغض. وخصومة كهذه، لا يقرها منطق ولا يدعمها عقل، إذ من البدهي أن الجدل حول أمر ما، لا يتحرك ويتفاعل إلا فوق أرض من اليقين بحقيقة مشتركة بين الطرفين. وقد التقطت حكمة الدهر كلمة قيل إن مجنون بني عامر قالها يوم سمع أن في الناس من يعيب عليه وينتقده لتعلقه بليلى، وهي فيما زعموا سمراء دميمة. فقال: لو نظروا إليها بعيني لعلموا أنهم مخطئون.

بقربه صلّى الله عليه وسلم إلى ربّه، وبرحمته الكبرى للخلق. وبهذا المعنى توسل الأعمى به صلّى الله عليه وسلم في أن يردّ عليه بصره، فردّه الله عليه «11» ، وبهذا المعنى كان الصحابة يتوسلون بآثاره وفضلاته دون أن يجدوا منه أي إنكار، وقد مرّ في هذا الكتاب بيان استحباب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى وأهل بيت النّبوة في الاستسقاء وغيره، وأن ذلك مما أجمع عليه جمهور الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة الحنبلي والصنعاني وغيرهم «12» . والفرق، بعد هذا، بين حياته وموته صلّى الله عليه وسلم، خلط عجيب وغريب في البحث لا مسوّغ له. رابعا: (حكم الوقوف على الإنسان وهو قاعد) ، لقد علمت مما سبق أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، كان واقفا على رأس النّبي صلّى الله عليه وسلم ومعه السيف، وكلما أهوى عروة بن مسعود بيده إلى لحية النّبي صلّى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف، قائلا: «أخّر يدك عن وجه رسول الله» . وقد كنّا ذكرنا فيما مضى عند الحديث عن غزوة بني قريظة- أنه لا يشرع القيام على رأس أحد وهو قاعد، وأن ذلك من مظاهر التعظيم الذي تعارفه الأعاجم فيما بينهم وأنكره الإسلام، وإنه التمثّل الذي نهى عنه الرسول صلّى الله عليه وسلم في قوله: «من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار» . فكيف كان الأمر على خلاف ذلك هنا؟ والجواب، أنه يستثنى من عموم المنع، مثل هذه الحالة بخصوصها، أي في حالة قدوم رسل للعدو إلى الإمام أو الخليفة، فلا بأس حينئذ من قيام حرس أو جند على رأسه، إظهارا للعزة الإسلامية، وتعظيما للإمام ووقاية له مما قد يفاجأ به من سوء «13» . أما في أعم الأحوال فلا يجوز ذلك لمخالفته مقتضى التوحيد والعقيدة الإسلامية، دون أي ضرورة إليه. ويشبه هذا، ما مرّ بيانه، عند الحديث عن أبي دجانة في غزوة أحد، فقد قلنا: إن كل ما يدل على التكبر أو التجبر في المشي ممنوع شرعا ولكنه جائز في حالة الحرب بخصوصها بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم عن مشية أبي دجانة: إنها مشية يكرهها الله إلا في هذا الموضع. خامسا: (مشروعية الهدنة بين المسلمين وأعدائهم) ، استدل العلماء والأئمة بصلح الحديبية

_ (11) حديث توسل الأعمى برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ورجوع بصره إليه، حديث صحيح رواه الترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلا أعمى جاء إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم وهم جلوس معه، فشكا إليه ذهاب بصره فأمره بالصبر. فقال ليس لي قائد وقد شقّ عليّ فقد بصري. فقال: «ائت الميضأة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبيّك محمد نبيّ الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي اللهم فشفّعه فيّ» . وفي بعض الروايات بزيادة: فإن كان لك حاجة فمثل ذلك. قال عثمان بن حنيف: فو الله ما تفرق بنا المجلس حتى دخل علينا فكان بصيرا. (12) انظر ص 46 من هذا الكتاب. (13) انظر زاد المعاد لابن القيم: 2/ 114

على جواز عقد هدنة بين المسلمين وأهل الحرب من أعدائهم إلى مدة معلومة، سواء أكان ذلك بعوض يأخذونه منهم أم بغير عوض، أما بدون عوض فلأن هدنة الحديبية كانت كذلك، وأما بعوض فبقياس الأولى لأنها إذا جازت بدون عوض، فلأن تجوز بعوض أقرب وأوجه. وأما إذا كانت المصالحة على مال يبذله المسلمون، فهو غير جائز عند جمهور المسلمين، لما فيه من الصغار لهم، ولأنه لم يثبت دليل من الكتاب أو السّنة على جواز ذلك، قالوا: إلا إن دعت إليه ضرورة لا محيص عنها وهو أن يخاف المسلمون الهلاك أو الأسر فيجوز، كما يجوز للأسير فداء نفسه بالمال. سادسا: ذهب الشافعي وأحمد رضي الله عنهما وكثير من الأئمة إلى أن الصلح لا ينبغي أن يكون إلا إلى مدة معلومة، وأنه لا يجوز أن تزيد المدة على عشر سنوات مهما طالت، لأنها هي المدة التي صالح النّبي صلّى الله عليه وسلم قريشا عليها عام الحديبية. سابعا: الشروط في عقد الهدنة تنقسم إلى صحيحة وباطلة، فالصحيح كل شرط لا يخالف نصّا في كتاب الله أو سنّة نبيّه، مثل أن يشترط عليهم مالا أو معونة للمسلمين عند الحاجة، أو أن يشترط لهم أن يرد من جاءه من الرجال مسلما أو بأمان، ولقد أطلق الأئمة صحة هذا الشرط الأخير، ما عدا الشافعي رضي الله عنه، فقد شرط لذلك أن تكون له عشيرة تحميه بين الكافرين، وحمل على ذلك موافقة النّبي صلّى الله عليه وسلم على هذا الشرط لقريش «14» . والباطل، كل شرط فيه معارضة لحكم شرعي ثابت، ومنه أن يشترط ردّ النساء المسلمات أو مهورهن إليهم، أو إعطائهم شيئا من سلاح المسلمين أو أموالهم. وأساس الاستدلال على هذا عدم ردّ النّبي صلّى الله عليه وسلم النساء اللاتي جئن هاربات بدينهن، ونهي القرآن صراحة عن ذلك، كما مرّ بيانه في حينه. ولعلك تقول: أفلم يخالف رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك عهدا قطعه على نفسه، وذلك إذ وافق على ردّ كل من أتاه مسلما من مكة؟ .. والجواب أن ذلك ليس نصّا في خصوص النساء، بل يحتمل أنه لا ينحطّ إلا على الرجال وحدهم. ومهما يكن فقد علمت فيما سبق أن تصرفات النّبي صلّى الله عليه وسلم لا تكتسب قوة الحكم الشرعي إلا إذا أقرها الكتاب بالسكوت عليها أو التأكيد لها. ولقد أقرّ الكتاب كل بنود المصالحة، إلا ما يتعلق بردّ النساء إلى بلد الكفر، فلم يقرّه، وذلك على فرض دخوله في بنود الاتفاقية وشروطها. ثامنا: (حكم الإحصار في العمرة والحج) ، ودلّ عمل الرسول صلّى الله عليه وسلم بعد الفراغ من أمر

_ (14) راجع للتوسع في موضوع الهدنة، مغني المحتاج: 4/ 260، والمغني لابن قدامة: 9/ 290، والهداية: 2/ 103، وبداية المجتهد: 1/ 374

غزوة خيبر

الصلح، من التحلل والنحر والحلق، على أن المحصر يجوز له أن يتحلل، وذلك بأن يذبح شاة حيث أحصر أو ما يقوم مقامها ويحلق ثم ينوي التحلّل مما كان قد أهلّ به، سواء كان حجّا أو عمرة. كما دلّ ذلك على أن المتحلّل لا يلزم بقضاء الحج أو العمرة إذا كان متطوعا، وخالف الحنفية فرأوا أن القضاء بعد المباشرة واجب. بدليل أن جميع الذين خرجوا معه صلّى الله عليه وسلم في صلح الحديبية خرجوا معه في عمرة القضاء التي سيأتي ذكرها، إلا من توفي أو استشهد منهم في غزوة خيبر. غزوة خيبر ثم سار النّبي صلّى الله عليه وسلم إلى خيبر، في أواخر المحرم للسنة السابعة من الهجرة، وخيبر مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع تقع على بعد مئة ميل شمال المدينة جهة الشام. وكان مع النّبي صلّى الله عليه وسلم في هذه الغزوة ألف وأربع مئة مقاتل ما بين فارس وراجل. قال ابن هشام: «فلما أشرف النّبي صلّى الله عليه وسلم على خيبر قال لأصحابه قفوا، ثم قال: «اللهم ربّ السماوات وما أظللن، وربّ الأرضين وما أقللن، وربّ الشياطين وما أضللن، وربّ الرياح وما أذرين، فإنّا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها وشرّ ما فيها. اقدموا باسم الله» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا غزا قوما، لم يغر عليهم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك وإن لم يسمع أذانا أغار، فبات رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأقبل، فرآه عمال خيبر وقد خرجوا بمساحيهم وفؤوسهم ومكاتلهم، يقصدون مزارعهم، فلما رأوه صلّى الله عليه وسلم، صاحوا: محمد والخميس، ثم ولّوا هاربين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» «15» . قال ابن سعد: «فوعظ رسول الله صلّى الله عليه وسلم الناس، وفرق بينهم الرايات، وابتدأت المعارك بين رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأهل خيبر- وقد تحصّنوا بحصونهم- وأخذ المسلمون يفتحونها حصنا حصنا: إلا الحصنين الأخيرين: الوطيح، والسّلالم، فقد حاصرهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة» . روى أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث بريدة بن الخطيب، قال: «لما كان يوم خيبر أخذ أبو بكر اللواء، فرجع ولم يفتح له، فلما كان الغداة أخذه عمر، فرجع ولم يفتح له، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلم لأدفعنّ لوائي غدا إلى رجل يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله. قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم (أي يتساءلون ويختلفون) : أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس، غدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها. فقال أين علي بن أبي طالب؟ فقيل هو

_ (15) متفق عليه.

يا رسول الله يشتكي عينيه، قال فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق رسول الله صلّى الله عليه وسلم في عينيه ودعا، فبرأ، حتى كأن لم يكن به وجع. فأعطاه الراية، فقال عليّ يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا (أي مسلمين) ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم. ثم خرج فقاتل، فكان الفتح على يديه «16» ، وغنم المسلمون كل ما في تلك الحصون من الأموال. أما ذانك الحصنان، فقد ظل المسلمون يحاصرونهما، حتى إذا أيقن من فيه بالهلاك، سألوه صلّى الله عليه وسلم أن يخرجهم ويجليهم ويحقن دماءهم ويتركوا له الأموال، فوافقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ذلك. ثم إنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تبقى خيبر تحت أيديهم يعملون فيها ويزرعونها لأنهم أعرف بأراضيهم وأعمر لها. ولهم شطر ما يخرج منها، فصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ذلك وقال لهم: على أنّا إن شئنا أن نخرجكم أخرجناكم» «17» . قال ابن إسحاق: «فلما اطمأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم، شاة مصليّة (مشوية) وكانت قد سألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السّم، ثم سمّت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، تناول الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله فلفظها. ثم قال: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم، ثم دعا بها فاعترفت، فقال ما حملك على ذلك؟ قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيّا فسيخبر فتجاوز عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومات بشر من أكلته» «18» . والذي جزم به الزهري وسليمان التيمي في مغازيه أنها أسلمت. واختلفوا بعد ذلك، هل قتلها النّبي صلّى الله عليه وسلم قصاصا عن بشر أم لا، فأخرج ابن سعد بأسانيد متعددة أنه صلّى الله عليه وسلم دفعها إلى أولياء بشر فقتلوها، غير أن الصحيح ما رواه مسلم أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال لها: «ما كان الله ليسلّطك على ذاك (أي على قتلي) ، قالوا: ألا نقتلها يا رسول الله؟ قال: لا» . وقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم غنائم خيبر بين المسلمين، للراجل سهم وللفرس سهمان، وفسّر ذلك

_ (16) الحديث متفق عليه ابتداء من قوله: لأدفعن لوائي غدا ... إلخ. (17) متفق عليه. (18) سياق القصة بهذه الصيغة لابن إسحاق، والقصة متفق عليها عند البخاري ومسلم.

قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة

نافع رضي الله عنه، فيما رواه البخاري، بأنه إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن، فله سهم واحد. وكانت صفية بنت حيي بن أخطب- زعيم اليهود- بين من أسر من نساء خيبر، فأعتقها رسول الله صلّى الله عليه وسلم- بعد أن أسلمت- وتزوجها، وجعل مهرها عتقها «19» . قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الحبشة وهو في خيبر جعفر بن أبي طالب ومن معه وهم ستة عشر رجلا وامرأة وجمع آخر كانوا في اليمن. فأسهم لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الغنائم، بعد أن استأذن في ذلك المسلمين. قال ابن هشام: «فلما قدم جعفر بن أبي طالب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبّل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين عينيه والتزمه، وقال: ما أدري بأيهما أسرّ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر» «20» . ولما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عائدا إلى المدينة استعمل على خيبر رجلا من الأنصار قيل إنه سواد بن غزيّة، من بني عدي. فجاءه منها بتمر جنيب «21» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أكلّ تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، بالثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا» «22» . العبر والعظات: أول ما ينبغي أن يسترعي انتباهنا من أمر هذه الغزوة، ملاحظة الفرق بين طبيعتها، وطبيعة الغزوات السابقة التي تحدثنا عنها. لقد كانت الغزوات السابقة كلها قائمة على أسباب دفاعية، اقتضت المسلمين أن يدافعوا بها عن وجودهم وأن يردوا بها هجمات أعدائهم، كما قد رأيت، لدى بيان سبب كل غزوة منها. أما هذه الغزوة، وهي أول غزوة تأتي بعد وقعة بني قريظة وصلح الحديبية، فإن لها وضعا آخر، وإنها لتختلف اختلافا جوهريا عن تلك التي كانت من قبلها، وهي تدل بذلك على أن الدعوة الإسلامية قد دخلت في مرحلة جديدة من بعد صلح الحديبية.

_ (19) متفق عليه. (20) خبر قدوم جعفر بن أبي طالب واشتراكه في الغنائم من رواية البخاري وغيره، وليس في البخاري تفصيل كيفية استقباله صلّى الله عليه وسلم له. (21) التمر الجنيب هو التمر الجيد. (22) رواه البخاري وانظر فتح الباري: 7/ 347 والجنيب الجيد من التمر.

فغزوة خيبر أول غزوة بدأها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأغار بها فجأة على اليهود الذين استوطنوا بقاع خيبر، دون أن يبدأوا المسلمين بأي محاربة أو قتال. لقد كان السبب الوحيد لها هو دعوة اليهود إلى الإسلام، ومحاربتهم على كفرهم وعنادهم عن قبول الحق وأحقادهم المعتلجة في صدورهم على الرغم من الدعوة السلمية التي قامت مدة طويلة على الأدلة والبراهين. ولذلك بات رسول الله صلّى الله عليه وسلم الليلة الأولى من وصوله إلى خيبر دون أن يشعر أحدا بوجوده أو أن يقاتل أحدا، وانتظر حتى إذا أصبح ولم يسمع أذانا إلى الصلاة- وهي الشعيرة الإسلامية الكبرى- أغار عليهم وقاتلهم على ذلك. وقد قلنا إنه كان إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك، وإن لم يسمع أذانا أغار. ويزداد هذا السبب وضوحا إذا تأملت في سؤال علي رضي الله عنه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن أعطاه اللواء: «أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ وفي جوابه صلّى الله عليه وسلم إذ قال: أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه» . ولقد استنبط العلماء من غزوة خيبر هذه الدلالات وأحكاما كثيرة مختلفة، نذكر فيما يلي جملة منها: أولها: (جواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة الإسلامية وحقيقتها، بدون إنذار سابق أو دعوة مجددة) ، وهو مذهب الشافعية وجمهور الفقهاء، فذلك ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم في إغارته على خيبر. وأما بلوغ الدعوة وتفهّم الإسلام فهما صحيحا على وجهه فهو شرط بالاتفاق. ثانيهما: (تقسيم الغنائم على الأساس الذي ورد ذكره) ، وهو تقسيم أربعة أخماسها بين الغانمين يعطى للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم؛ سهم له واثنان لفرسه «23» . والخمس الباقي يوزع أخماسا على من نصت عليهم الآية القرآنية: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال 8/ 41] ، وسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من هذا الخمس يوزع من بعده على مصالح المسلمين كما ذهب إلى ذلك الشافعية والحنفية، وقيل يختص به الخليفة فيصرفه فيما يراه، والقولان متقاربان. ثالثها: (جواز إشراك غير المقاتلين في الغنيمة ممن حضر مكان القتال) ، وذلك بعد استئذان أصحاب الحق فيها. فقد أشرك النبي صلّى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب ومن معه في الغنائم، بإذن من الصحابة، حينما عادوا من الحبشة واليمن. واعلم أن رواية البخاري في هذا خالية عن التقييد باستئذان المسلمين، ولكن زاد البيهقي في

_ (23) ذهب أبو حنيفة إلى أن للفارس سهمين، سهم له وآخر لفرسه. وهو محجوج بما ذكرنا من تقسيم النبي صلّى الله عليه وسلم لغنائم خيبر.

روايته أن النبي صلّى الله عليه وسلم قبل أن يقسم لهم كلّم المسلمين فأشركوهم، وزيادة العدل مقبولة. والذي زاد من قيمة القيد الذي رواه البيهقي أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يسهم لأبان بن سعيد، وقد كان أرسله على سرية قبل نجد فعاد منها إلى خيبر بعد انتهاء القتال، وقال له: «اقسم لنا يا رسول الله، فلم يقسم له، وإنما يجمع بين الخبرين بحمل الأول منهما على إذن الجماعة في القسمة، والثاني على عدمه» «24» . ولعلك تسأل: فما مصير حكم الغنائم هذا، مع ما تطورت إليه اليوم حالة الحروب والجند وسياسة عطاءاتهم ومرتباتهم؟ والجواب: أنك قد علمت مما سبق أن الأموال غير المنقولة من الغنائم لا توزع بين المحاربين عند مالك وأبي حنيفة على نحو ما مرّ بيانه إلا إذا دعت المصلحة أو الضرورة. أما الأموال المنقولة منها فيجب أن توزع على الغانمين بالطريقة ذاتها التي كان يسلكها رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع ملاحظة ما تطورت إليه وسائل القتال وطرائقه في تفاوت درجات المقاتلين. ولا مانع من أن توزع عليهم حصصهم على شكل علاوات أو مرتبات متلاحقة إنما المهم أن الدولة لا يجوز لها أن تستملك شيئا من هذه الأموال لنفسها. رابعها: (مشروعية عقد المساقاة) ، وهي أن يعامل مالك الأرض غيره على ما فيها من شجر ليتعهده بالسقي والتربية على أن الثمار تكون بينهما، وقد ذهب مالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم إلى صحة هذا العقد مستدلين على ذلك بمعاملته صلّى الله عليه وسلم أهالي خيبر، وانفرد أبو حنيفة رضي الله عنه، فلم يجز ذلك، قال: ولا دليل في الحديث، لأن خيبر فتحت عنوة فكان أهلها عبيدا له صلّى الله عليه وسلم، فما أخذه فهو له وما تركه فهو له، وخالفه الصاحبان فاتفقا مع الجمهور على صحته. ثم اختلف العلماء: «هل ينبغي أن يقال بصحة هذا العقد على كل أنواع الشجر أم هو خاص بالنخيل والعنب؟ وقوفا عند مورد الدليل، إذ كانت عامة أشجار خيبر نخيلا وعنبا، والذي ذهب إليه كثير من الفقهاء هو التعميم في كل أنواع الشجر» . أما المزارعة فقد منعها قسم كبير ممن صحح عقد المساقاة، منهم الشافعية، وهي أن يعامل مالك الأرض شخصا آخر على أن يعمل فيها بالزراعة والاستنبات بجزء مما ستخرجه الأرض، قال جمهور الشافعية هو غير صحيح، لما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة قالوا: إلا أن يكون عقد المزارعة تبعا للمساقاة أي بأن يكون بين الشجر بياض اتفق الطرفان على زراعته ضمن اتفاقهما على عقد المساقاة.

_ (24) راجع فتح الباري: 7/ 340 و 349

والراجح لدى التأمل في مجموع الأدلة، صحة كل من عقد المساقاة والمزارعة فقد قالوا في بيانه: إن النهي كان في أول الأمر لحاجة الناس وكون المهاجرين ليست لهم أرض، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلم الأنصار بالتكرم بالمواساة، ويدل له ما أخرجه مسلم من حديث جابر قال: «كان لرجال من الأنصار فضول أرض، وكانوا يكرونها بالثلث والربع فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسكها» ، ثم بعد توسّع حال المسلمين زال الاحتياج فأبيحت لهم المزارعة وأن يتصرف المالك في ملكه كما يشاء. ويدل على ذلك ما وقع من المزارعة والمؤاجرة في عهده صلّى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء من بعده. خامسها: (مشروعية تقبيل القادم والتزامه) ، وهو مما لا نعلم فيه خلافا معتدا به إذا كان قادما من سفر أو طال العهد به، واستدل العلماء في ذلك بتقبيل رسول الله صلّى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب بين عينيه والتزامه إياه عند قدومه من الحبشة، والحديث رواه أبو داود بسند صحيح، وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيتي فأتاه فقرع الباب، فقام إليه النبي صلّى الله عليه وسلم يجرّ ثوبه، فاعتنقه وقبله» . ويشكل عليه في الظاهر ما رواه الترمذي أيضا عن أنس رضي الله عنه قال: «قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا، قال: أفيلتزمه ويقبله؟؟ قال: لا. قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم» . وجواب الإشكال أن سؤال الرجل في هذا الحديث عن اللقاءات العادية المتكررة بين الرجل وصاحبه، والتقبيل أو الالتزام أمر غير مرغوب فيه في مثل هذه الحال، أما ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ذلك بالنسبة لجعفر وزيد فإنما كان ذلك- كما قد علمت- على أثر قدوم من سفر فالحالتان مختلفتان. سادسها: (حرمة ربا الفضل في المطعومات) ، وهو أن يتبادل اثنان مطعومين من جنس واحد مع تفاضل بينهما. وقد نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأحاديث كثيرة صحيحة منها ما رواه مسلم عن عبادة بن الصامت قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو استزاد فقد أربى» . ومنها ما رويناه عن البخاري من نهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن مبادلة التمر الجيد بالتمر الرديء مفاضلة. وليس هذا مجال البحث في الحكمة من تحريم هذا التبادل واعتباره ربا محرما، فمجال ذلك المطولات من كتب الفقه. ولكن الذي ينبغي التنبيه إليه هنا، هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم أرشد من يريد أن يستبدل تمرا جيدا

برديء أو غيره من المطعومات بمثله، إلى وسيلة أخرى سائغة لا ربا فيها، وهي أن يبيع الرديء بالدراهم ثم يشتري بها الجيد الذي يبتغيه. ولا يضيره في شيء، إنه إنما يريد أن يتوسل بالبيع، إلى شيء آخر كان محرما في الأصل وأنه لا يقصد البيع لذاته، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم سوغ ذلك. وإنما المحرم ما قد نهى عنه الكتاب أو نهت عنه السنة نهيا جازما. والحكم الذي يستنتج من هذا، أنه يجوز التوصل إلى استباحة حكم محرّم بواسطة مشروعة لذلك، ولا يعتبر ذلك حيلة محرمة، فيجوز أن ينكح الرجل امرأة مطلقة بقصد تحليلها لزوجها السابق إذا لم يشترط ذلك في العقد، ويجوز أن يعطي صاحب الدين زكاة ماله للمدين الذي عجز عن إبراء ذمته نحوه، ثم يسترده منه عن دينه. ولا عبرة لمخالفة ابن القيم في هذا، محتجا بأن الأعمال بمقاصدها، وأن الذي باع، قاصدا شيئا آخر غير ما شرع له البيع، والذي نكح قاصدا غير الذي شرع له النكاح، متلبسان بفعل باطل لأنهما حوّلا الحكم عن غايته إلى غاية أخرى لم يشرع لها ذلك الحكم، نقول لا عبرة لكلامه هذا، لأنه يناقض حديث البخاري الذي ذكرناه مناقضة صريحة والقواعد الفقهية إنما تأتي من وراء النصوص لا من فوقها، ولأن ابن القيم ناقض نفسه مناقضة في منتهى الغرابة والعجب بصدد هذا البحث في كتابه أعلام الموقعين. فقد أطال في ذم تحريم بعض الصور التي سماها حيلا محرمة وأطنب في تفنيد آراء الأئمة القائلين بصحتها، وتوعد بأن لهم مواقف عصيبة بين يدي الله يوم القيامة. ثم ما لبث بعد بضع صفحات أن راح يسوّغها ويضرب المثل بها للحيل الشرعية الصحيحة، وكأنه ليس هو الذي أطنب قبل قليل في تفنيدها والتحذير منها «25» . *** ثم إن في هذه الغزوة حادثتين، كل منهما ثابت بالحديث الصحيح، تعدان من الخوارق العظيمة التي أيد الله بها محمدا صلّى الله عليه وسلم. الأولى: أنه صلّى الله عليه وسلم تفل في عين علي رضي الله عنه وقد كان يشتكي منها، فبرأت في الوقت نفسه حتى كأن لم يكن به وجع. الثانية: ما أوحى الله إليه من أمر الشاة المسمومة عندما أراد الأكل منها. ولأمر ما سبق قضاء الله تعالى فابتلع بشر بن البراء لقمته قبل أن ينطق رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأنها مسمومة، فكان

_ (25) انظر أعلام الموقعين: 3/ 292 ط التجارية عندما يتحدث عن حيلة التوسل بالخلع لدرء الطلاق قائلا: هذه الحيلة باطلة شرعا.. إلخ ثم انظر 4/ 110 منه، لتجد كيف يسوغ هذه الحيلة ويوجهها بعشرة أوجه من الأدلة المعتبرة عنده. وانظر ما قبل ذلك وبعده لتجد صورا من التناقض العجيب! وإذا أردت التوسع في بحث ما يسمى بالحيل الشرعية وأثر المقاصد في العقود والأحكام، فارجع إلى تفصيل ذلك في كتابي: ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية من ص 293 إلى 324

سرايا إلى القبائل.. وكتب إلى الملوك

قضاؤه في ذلك، ولعل في ذلك مزيدا من بيان ما اختص الله تعالى به نبيه عليه الصلاة والسلام من الحفظ والعصمة من أيدي الناس وكيدهم، تنفيذا لوعده جلّ جلاله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 5/ 67] . ولقد ذكرنا أن الرواة اختلفوا: هل أسلمت المرأة اليهودية أم لا؟، والذي يغلب- على ما جزم به الزهري وغيره- أنها قد أسلمت، ولذلك لم يقتلها صلّى الله عليه وسلم على ما ذكره مسلم. لا يقال، إن القصاص كان يقتضي قتلها، لأن القاعدة المتفق عليها: أن الإسلام يجبّ ما قبله، فالقتل الذي استوجب القصاص، هو ما كان واقعا بعد إسلام القاتل أما ما قبله فالأمر في ذلك راجع إلى الحرابة، ومعلوم أن الحرابة تنتهي بالدخول في الإسلام. ثم إن يهود خيبر مكثوا يزرعون الأرض على النصف من نتاجها، إلى أن كانت خلافة عمر رضي الله عنه، فقتلوا أحد الأنصار وعدوا على عبد الله بن عمر ففدعت يداه، فقال رضي الله عنه للناس: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان قد عامل يهود خيبر على أن نخرجهم إذا شئنا، وقد عدوا على عبد الله بن عمر ففدعوا يديه كما قد بلغكم، مع عدوهم على الأنصاري قبله، لا نشك أنهم أصحابه، ليس لنا عدو غيرهم فمن كان له مال بخيبر فليلحق به، فإني مخرج يهود» . وهكذا تمّ إخراج اليهود من الجزيرة العربية، ولولا بغيهم وعدوانهم واستكبارهم على الحق لما طوردوا ولما أخرجوا. ولكن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين. سرايا إلى القبائل.. وكتب إلى الملوك ثم أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبعث السرايا من أصحابه إلى مختلف قبائل الأعراب المنتشرة في الجزيرة العربية لتقوم بوظيفة الدعوة إلى الإسلام فإن لم يستجيبوا قاتلوهم على ذلك. ولقد كانت هذه السرايا خلال العام السابع للهجرة، وتبلغ عدتها عشرة سرايا أرسلها النبي صلّى الله عليه وسلم بإمرة مختلف الصحابة. وفي هذه الفترة نفسها، بدأ النبي عليه الصلاة والسلام يبعث كتبا إلى مختلف ملوك ورؤساء العالم يدعوهم فيها إلى الإسلام ونبذ ما هم عليه من الأديان الباطلة. روى ابن سعد في طبقاته: «أنه صلّى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست، أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وكتب إليهم كتبا، فقيل: يا رسول الله، إن الملوك لا يقرؤون كتابا إلا مختوما. فاتخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يومئذ خاتما من فضة نقشة ثلاثة أسطر: محمد رسول الله، وختم به الكتب. فخرج ستة نفر في يوم واحد، وذلك في المحرم سنة سبع، وكان كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم.

فكان أول رسول بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فأخذ كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فوضعه على عينيه ونزل من سريره، فجلس على الأرض تواضعا ثم أسلم وشهد شهادة الحق، وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته» «26» . وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم دحية بن خليفة الكلبي إلى هرقل ملك الروم، فدفع دحية بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل، فقرأه وكان فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين «27» ، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون» «28» . قال ابن سعد في طبقاته: «فقال هرقل بعد أن قرأ الكتاب لجمع من عظمائه وحاشيته: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت لكم ملككم وتتبعون ما قال عيسى بن مريم، قالت الروم: وما ذاك أيها الملك؟ قال: تتبعون هذا النبي العربي. قالوا فحاصوا حيصة حمر الوحش، وتناجزوا ورفعوا الصليب. فلما رأى هرقل ذلك منهم يئس من إسلامهم وخاف على نفسه وملكه، فسكّتهم ثم قال: إنما قلت لكم ما قلت لأختبركم لأنظر كيف صلابتكم في دينكم، فقد رأيت منكم الذي أحب. فسجدوا له. وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام، وأرسل معه إليه كتابا، قال: فدفعت إليه الكتاب، فقرئ عليه، ثم أخذه فمزقه، فلما بلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: مزق الله ملكه. وكتب كسرى إلى باذان عامله على اليمن أن ابعث من عندك برجلين جلدين إلى هذا الرجل فليأتياني به، فبعث إليه برجلين جلدين، وكتب إليه معهما كتابا، فقدما المدينة ودفعا كتاب باذان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: ارجعا عني يومكما هذا حتى تأتياني الغد فأخبركما بما أريد. فجاءاه من الغد فقال لهما: «أبلغا صاحبكما أن ربي قد قتل ربه كسرى في هذه الليلة لسبع ساعات مضت منها» - قال ابن سعد- وهي ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الأولى سنة سبع «وأن الله تبارك وتعالى سلط عليه ابنه شيرويه

_ (26) طبقات ابن سعد: 2/ 23 باختصار. (27) الأريسيين، قال ابن حجر: جمع أريسي وهو منسوب إلى أريس، وهو الفلاح، والمقصود بالكلمة الأتباع وعامة الشعب. (28) متفق عليه عند البخاري ومسلم.

العبر والعظات:

فقتله» ، فرجعا إلى باذان بذلك، فأسلم هو والأبناء الذين باليمن» «29» . وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي إلى عظيم بصرى من قبل الروم شرحبيل بن عمرو الغساني، فأوثقه رباطا وقتله، قالوا ولم يقتل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم رسول غيره «30» . وبعث صلّى الله عليه وسلم برسل وكتب أخرى كثيرة إلى كثير من الأمراء العرب المتفرقين في مختلف المناطق، فأسلم منهم الكثير، وعاند البعض منهم. وفي هذه الفترة أيضا تلاحقت الوفود تفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مختلف الجهات تعلن إسلامها وتدخل في دين الله تعالى. وممن أسلم في هذه الفترة من كبار العرب وقادتهم: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص» . روى ابن إسحاق، عن عمرو بن العاص، قال: «خرجت عامدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلقيت خالد بن الوليد، وذلك قبل الفتح، وهو مقبل من مكة. فقلت: أين تريد يا أبا سليمان؟ قال: أذهب والله لأسلم، فحتى متى؟! قلت له: وما جئت إلا لأسلم، فقدمنا جميعا، فتقدم خالد فأسلم وبايع، ثم دنوت فبايعته» . العبر والعظات: معالم المرحلة الجديدة: حديث هذه السرايا التي بعثها رسول الله صلّى الله عليه وسلم منتشرة في القبائل، والكتب التي أرسلها إلى مختلف ملوك ورؤساء العالم، جزء من المظاهر التي تميز هذه المرحلة من الدعوة في حياته عليه الصلاة والسلام، عن المرحلة التي قبلها. لقد كانت المرحلة التي تسير فيها الدعوة من بدء الهجرة إلى صلح الحديبية، مرحلة دفاعية كما قلنا، إلى جانب القيام بمهام الدعوة السلمية. فلم يحدث خلال تلك المرحلة أن بدأ النبي صلّى الله عليه وسلم هجوما أو شن غزوة على فئة ما من الناس، ولم يحدث أن أرسل سرية إلى قبيلة ما ليدعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا قاتلوهم عليه. فلما أبرم صلح الحديبية بين المشركين من قريش والمسلمين في المدينة، واطمأنت أفئدة المسلمين واستراحوا من متاعب قريش ومناوشاتهم، تفرغ النبي صلّى الله عليه وسلم للدخول في مرحلة جديدة

_ (29) خبر كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى كسرى بهذا التفصيل من رواية ابن سعد في طبقاته وقد ذكر ذلك البخاري أيضا مختصرا، وفيه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعا عليهم- لما بلغه أنه مزق كتابه- أن يمزقوا كل ممزق، وقد أسند الشيخ ناصر، في تعليقاته على كتاب فقه السيرة للغزالي، إلى ابن سعد، زيادة على ما ذكرته، لم أجدها في طبقاته، وهي: أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى شواربهما (أي الرجلين اللذين أرسلهما إليه باذان) مفتولة وخدودهما محلوقة فأشاح عنهما وقال: ويحكما، من أمر كما بهذا؟ قالا: أمرنا ربنا: يعنيان كسرى. فهذه الزيادة، لم أجدها في رواية سعد، وإنما هي من رواية ابن جرير. (30) رواه الواقدي، عن عمر بن الحكم، قال ابن حجر: وذكره أيضا ابن شاهين من طريق محمد بن يزيد.

حكمة مشروعية هذه المرحلة:

لابدّ منها في حكم الشريعة الإسلامية التي بعث لتبليغها وتطبيقها، ألا وهي مرحلة قتال أولئك الذين بلغتهم الدعوة فوعوها وفهموها، ولكنهم استكبروا عن الإيمان بها والإذعان لها حقدا وعدوانا. إنها المرحلة التي بها أنجز رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعوة ربه، وهي المرحلة التي أصبحت- بعمله وقوله- حكما شرعيا باتفاق المسلمين في كل عصر إلى يوم القيامة، وهي المرحلة التي يحاول محترفو الغزو الفكري أن يطمسوا عليها ويغيبوها عن أعين المسلمين، بزعم أن كل ما يتعلق بالجهاد في الشريعة الإسلامية إنما هو قائم على أساس الحرب الدفاعية وردّ العدوان، وها هي ذي هيأة الأمم قامت لتتولى الدفاع وردّ العدوان عن المستضعفين، فلا حاجة إلى استبقاء مبدأ الحرب الدفاعية أيضا. وليس سرا خافيا أن الأمر الذي يدعوهم إلى هذا الكيد والتضليل في البحث، إنما هو الخوف الشديد لدى الدول الأجنبية- غربيها وشرقيها على السواء- من أن يعود فيستيقظ في نفوس المسلمين معنى الجهاد في سبيل الله، ثم يتصل هذا المعنى بجذوة الإيمان في قلوبهم! .. فلئن تمّ هذا، فسيتم عندئذ لا محالة انهيار الحضارة الغربية مهما تطاول بنيانها. ولقد نضجت عقلية الرجل الأوروبي لمعانقة الإسلام بمجرد أن يسمع دعوة خالصة إليه، فكيف بالدعوة الخالصة تتلوها تضحية وجهاد؟! .. حكمة مشروعية هذه المرحلة: ولعلك تسأل الآن، فما هي الحكمة من أن يساق المشرك أو الملحد إلى الإسلام سوقا؟ وكيف يمكن أن تفهم عقلية القرن العشرين مثل هذه الشرعة؟! .. والجواب أنا نتساءل: فما الحكمة من أن يحمل الفرد الواحد من الدولة حملا على الخضوع لنظامها وفلسفتها، رغم ما يملكه من الحرية الحقيقية وما يتمتع به من حقيقة المساواة مع غيره من عامة أفراد الدولة حكاما ورعايا؟! .. إن الإنسان إنما خلق فوق هذه الأرض ليقيم عليها دولة الله تعالى وحكمه فتلك هي حكمة وجوده وهي المعنى المقصود بالخلافة في قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة 2/ 30] . وفلسفة هذه الدولة قائمة على حقيقة العبودية لله تعالى وحده، ونظامها قائم على الإذعان بأن الحاكمية هي لله وحده، لأنه وحده مالك الإنسان ومالك كل شيء لأنه هو وحده قيوم السموات والأرض. فكيف يعقل أن يكون لدولة يقوم عليها عبيد مملوكون لله، حق إلزام رعاياهم بالخضوع لما يرونه لهم من النظم والمبادئ والأحكام، ثم لا يكون لخالق هؤلاء كلهم الحق في أن يلزمهم بالخضوع

لسلطانه والتحول عن كل عقيدة ودين إلى دينه؟! .. وإذا كان الإنسان هو خليفة الله تعالى في تطبيق أوامره وأحكامه في الأرض، فهل يكون الإلزام بالخضوع لسلطانه وحكمه إلا بواسطة الإنسان إذ يدخل في دينه ويبايع الله تعالى على بذل النفس والمال في سبيل إقامة الحكم والمجتمع الإسلامي اللذين إنما خلق الإنسان لإقامتهما. وليس من المهم بعد أن تفهم هذا، أن يكون في القرن العشرين عقول لا تريد أن تستسيغ هذا أو تفهمه، لأن من الطبيعي أن تكون ثمة عقول من هذا النوع، ما دام أن هناك أمشاجا وأخلاطا من الناس يحترفون مهمة الغزو الفكري بغية حقن الشعور الإسلامي في العالم بالحقن المتوالية المخدرة والمنومة. وهم ليسوا مشفقين على الحرية الإنسانية بمقدار ما يتربصون بها. وليت شعري أي قيمة توجد للحرية عند أولئك الذين يظلون يكذبون على أنفسهم وعلى شعوبهم، إذ يصورون لهم الإسلام بالصور الكاذبة المنفرة، ويصورون لهم المسلمين همجا من الناس لا يزالون يعيشون في البوادي مع الإبل والأنعام، كي يصدوا بذلك تطلعاتهم الفكرية إلى فهم الإسلام ويحبسوا دوافع البحث عندهم ضمن خيوط عنكبوتية حقيرة. حتى لا يطلعوا على حقيقة الإسلام فيؤمنوا به، فتدول بذلك دولة البغي على الإنسان في أتعس أشكاله القذرة. على أنه ينبغي أن لا يفوتك أن الدعوة السلمية بالحكمة والمناقشة والموعظة الحسنة في كل مجال ومكان، أمر لا بد منه إلى أمد طويل قبل ذلك وحينما ينفذ المسلمون أمر هذه الدعوة على حقيقتها ستزداد يقينا بأن الإسلام دين الفطرة وأن الناس- من أي قوم كانوا- سيجدون في هذا الدين ضالتهم المنشودة. ولن يستمر على التخلف عنه إلا الحاقدون، وذلك أكبر دليل على عدوان مبيت في نفوسهم على الإسلام ودعاته. كما ينبغي أن لا يفوتك أن أمر هذا الإلزام الذي ذكرناه، إنما هو خاص بالملحدين والمشركين والوثنيين ومن لف لفهم. أما أهل الكتاب فلا يلزمون- كما تعلم- إلا بالخضوع لنظام المجتمع الإسلامي، اعتمادا على أن إيمانهم بالله تعالى مع احتكاكهم بالمسلمين ومعايشتهم له سينبههم إلى جادة الصواب ويحملهم على تقويم العقيدة. ثم إن في قصة الكتب التي أرسلها صلّى الله عليه وسلم إلى الملوك والرؤساء دلالات وأحكاما كثيرة نجملها فيما يلي: أولا: أن الدعوة التي بعث بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إنما بعث بها إلى الناس كافة، لا إلى قوم بأعيانهم، وأن رسالته إنما هي إنسانية شاملة ليس لها طابع عنصرية أو قومية أو جماعة معينة، ولذلك اتجه صلّى الله عليه وسلم بدعوته يبلغها إلى كل حكام الأرض وملوكها، روي عن أنس رضي الله عنه:

«أن النبي صلّى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار، يدعوهم إلى الله تعالى» . ثانيا: يدلك موقف هرقل مع أتباعه الذين كانوا يزعمون أنهم كانوا على دين عيسى عليه الصلاة والسلام، على مدى التكبر على الحق والتعنت في الباطل عند كثير من أهل الكتاب، وهم الذين تحول الدين في تصورهم إلى تقاليد وعصبية، فلا ينظرون إليه من حيث إنه حق أو باطل بمقدار ما يتمسكون به من حيث إنه جزء من تقاليدهم ومظهر لعصبيتهم وشخصيتهم وليكن بعد ذلك إذا شاء حقا أو باطلا. ولقد بدى موقف هرقل بادئ الأمر في مظهر المتدبر المقدر لحقائق الأمور، ولكن يبدو أنه كان يسوس بذلك رعيته وحاشيته ويجس نبضهم، ليطمئن إلى ما ينبغي أن يفعله حفظا على ملكه وسلطانه حيال هذا الأمر. ثالثا: دلّ عمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا على مشروعية اتخاذ الخاتم، وكان خاتمه صلّى الله عليه وسلم من فضة، كما دلّ على مشروعية نقش اسم صاحبه عليه وقد استدل كثير من العلماء بذلك على استحباب وضع خاتم من فضة في الأصبع التي كان صلّى الله عليه وسلم يضع خاتمه فيها، وهي أصبع الخنصر. رابعا: ويدل أيضا عمله صلّى الله عليه وسلم على أنه ينبغي على المسلمين أن يهيئوا للدعوة الإسلامية في كل أرجاء الأرض وسائلها وأسبابها. ومن أهم أسباب ذلك، المعرفة بلغة الأمم والأقوام الذين يقومون بدعوتهم إلى الإسلام، وتعريفهم بمبادئه وأحكامه. فقد رأينا أنه صلّى الله عليه وسلم بعث ستة رجال من أصحابه في يوم واحد ليتفرقوا إلى الملوك الذين أرسلهم النبي صلّى الله عليه وسلم إليهم وكان كل واحد منهم يتقن لغة القوم الذين بعثه إليهم. خامسا: يدل عمله صلّى الله عليه وسلم هذا، مع ملاحظة التوقيت الذي جاء فيه على أن على المسلمين أن يقوموا أولا بمسؤولية الدعوة فيما بينهم، وأن يصلحوا من أنفسهم، حتى إذا قطعوا من ذلك شوطا كبيرا وفرغوا من تطبيق نظام الإسلام على حياتهم وسلوكهم، آن لهم حينئذ أن يقوموا بهذا الواجب الثاني. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم قادرا أن يرسل عددا من أصحابه إلى هؤلاء الرؤساء والملوك قبل هذا التاريخ بكثير، غير أن ذلك ينطوي على الإخلال بهذا الواجب الذي ذكرناه. وينبغي أن نعلم أن إصلاح المسلمين أنفسهم هو نفسه جزء عظيم من دعوة غيرهم إلى الإسلام، فالناس كانوا ولا يزالون يبحثون عن المثل الصالح في السلوك والخلق، ليقتفوا أثره ويتبعوه. ولو أن المسلمين اليوم كانوا معتزين بإسلامهم مطبقين مبادئه وأحكامه لرأيت ذلك الشعاع الهادي متوغلا بضيائه في مجاهل إفريقيا وأقاصي أوروبا. هذا وقد كان زمن إرسال هذه الرسائل والكتب، خلال العام السابع للهجرة، كما ذكرنا، أي قبل الفتح، وذلك هو الحين الذي أجمع عليه عامة علماء السيرة. ولا يخلّ بذلك ما دلّ عليه

عمرة القضاء

صنيع الإمام البخاري في صحيحه، فقد أورد خبر كتبه صلّى الله عليه وسلم بعد غزوة تبوك، وذلك يدل على أنه إنما كان في العام التاسع. قال ابن حجر: «إن الجمع بين القولين أنه صلّى الله عليه وسلم، كاتب قيصر مرتين وهذه الثانية قد وقع التصريح بها في مسند الإمام أحمد، وكاتب النجاشي الذي أسلم، وصلى عليه لما مات، ثم كاتب النجاشي الذي ولّي بعده، وكان كافرا» . عمرة القضاء ثم إن الرسول صلّى الله عليه وسلم خرج في ذي القعدة من السنة السابعة قاصدا مكة، وهو الشهر الذي صدّه فيه المشركون عن دخولها، فاعتمر عمرة القضاء. وذكر ابن سعد في طبقاته: «أن المعتمرين بها معه عليه الصلاة والسلام كانوا ألفين، وهم أهل الحديبية ومن انضاف إليهم، ولم يتخلف عنها من أهل الحديبية إلا من مات أو استشهد بخيبر» «31» . قال ابن إسحاق: «وتحدثت قريش بينها بأن محمدا وأصحابه في عسرة وجهد وشدة. قال: فصفّ له المشركون عند دار الندوة، لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه، وأخرج عضده اليمنى ثم قال: رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة. ثم استلم الركن وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه، حتى هرول كذلك ثلاثة أطواف. ومشى سائرها. قال: فكان ابن عباس يقول: كان الناس يظنون أنها ليست عليهم (أي ليست سنة عامة) وذلك أن الرسول إنما صنعها لهذا الحي من قريش للذي بلغه عنهم، حتى إذا حج حجة الوداع فلزمها، فمضت السنة بها» «32» . وتزوج صلّى الله عليه وسلم إذ ذاك بميمونة بنت الحارث. فقيل أنه تزوجها وهو محرم (عقد نكاحه عليها فقط) وقيل بل عقد عليها بعد التحلل وكان الذي زوّجه إياها العباس بن عبد المطلب زوج أختها أم الفضل «33» . ولما مضى من دخوله عليه الصلاة والسلام مكة ثلاثة أيام (وهي المدة التي قاضى قريشا على الإقامة بها) أتوا عليّا رضي الله عنه فقالوا: «قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلم» «34» .

_ (31) طبقات ابن سعد: 3/ 167 (32) سيرة ابن هشام: 2/ 370 ومضمون ذلك متفق عليه بروايات متقاربة عند الشيخين. (33) انظر عيون الأثر: 2/ 148 (34) رواه البخاري: 5/ 85

العبر والعظات:

وبنى عليه الصلاة والسلام بميمونة في طريقه إلى المدينة في مكان اسمه (سرف) قرب التنعيم. ثم انصرف إلى المدينة في ذي الحجة. العبر والعظات: هذه العمرة تعتبر تصديقا إلهيا لما وعد به عليه الصلاة والسلام أصحابه من دخولهم مكة وطوافهم بالبيت. وقد رأيت كيف سأل عمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أثناء صلح الحديبية: «أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ فأجابه: بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ قال: لا. قال: فإنك آتيه ومطوّف به» . فهذا هو مصداق وعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقد نبه الله عز وجل عباده إلى هذا التصديق في قوله: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح 48/ 27] . ثم إن هذه العمرة انطوت على معنى تمهيدي للفتح الكبير الذي جاء من بعده. فقد كان لمرأى ذلك العدد الوفير من الأنصار والمهاجرين وهم محدقون برسول الله صلّى الله عليه وسلم في طوافهم وسعيهم وسائر مناسكهم، في حماس ونشاط غير مأمولين منهم فيما كان يتصوره المشركون، كان لذلك أثر بعيد في نفوسهم، فقد داخلتها الرهبة منهم إذ فوجئوا بعكس ما كانوا يتصورون فيهم من الضعف والخمول بسبب ما قد يحتمل أن يكونوا قد أصيبوا به من حّمى يثرب وسوء مناخها. روى الإمام مسلم عن ابن عباس أن المشركين لما رأوا رمل المسلمين حول الكعبة وفي المسعى قالوا بعضهم لبعضهم: «هؤلاء الذين زعمتم أن الحّمى قد وهنتهم؟! .. هؤلاء أجلد من كذا وكذا» «35» . لا جرم أن كان لهذه العمرة إذن- بالشكل الذي تمت به- أثر بالغ في نفوس المشركين مهّد لفتح مكة فتحا سلميا كما سترى فيما بعد. ثم إننا نأخذ من عمرة القضاء ما يلي: أولا: استحباب الاضطباع والهرولة في طواف الأشواط الثلاثة الأولى، اتباعا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في ذلك. وإنما يستحب ذلك في طواف يعقبه سعي لأن الطواف الذي رمل فيه النبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك. والاضطباع هو جعل الرجل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن وطرفيه على منكبه الأيسر. ويسن أن يفعل ذلك أيضا بين الميلين عند السعي بين الصفا والمروة للاتباع. غير أن شيئا من ذلك لا يستحب للمرأة.

_ (35) مسلم: 5/ 65

غزوة مؤتة

ثانيا: ذهب بعض الفقهاء إلى جواز عقد النكاح حالة الإحرام بحج أو عمرة، اعتمادا على الرواية التي نقلت أنه صلّى الله عليه وسلم، عقد على ميمونة أثناء إحرامه. والذي عليه جماهير الفقهاء أنه لا يجوز للمحرم أن يعقد نكاحا لا لنفسه ولا وكالة عن غيره مطلقا «36» . وذهبت الحنفية إلى أنه لا يحرم للمحرم أن يتولى عقد النكاح مطلقا ذلك لأنهم يفسرون (النكاح) في قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن المحرم لا ينكح ولا ينكح» «37» بالجماع. هذا وقد اعتمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربع عمرات وحجّ حجة واحدة روى مسلم بسنده عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته: عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة وعمرة في حجته «38» . غزوة مؤتة وقد كانت في شهر جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة. ومؤتة قرية على مشارف الشام، وهي التي تسمى اليوم: الكرك. وسببها ما ذكرناه من مقتل الحارث بن عمير الأزدي، رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى ملك بصرى، ولم يقتل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم رسول غيره. فندب الناس للخروج إلى الشام، وسرعان ما اجتمع من المسلمين ثلاثة آلاف مقاتل قد تهيؤوا للخروج إلى مؤتة. ولم يخرج النبي صلّى الله عليه وسلم معهم، وبذلك تعلم أنها في الحقيقة ليست بغزوة وإنما هي سرية، ولكنّ عامة علماء السيرة أطلقوا عليها اسم الغزوة لكثرة عدد المسلمين فيها ولما كان لها من أهمية بالغة. وقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أمير الناس زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، فإن قتل فليرتض المسلمون منهم رجلا فليجعلوه عليهم «39» . وأوصاهم صلّى الله عليه وسلم أن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا، وإلا استعانوا عليهم بالله وقاتلوهم» . قال ابن إسحاق: «ودّع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه المسلمين وأمراءهم عند خروجهم من المدينة، وفي تلك الأثناء بكى عبد الله بن رواحة، فقالوا له: ما يبكيك؟ قال: أما والله ما بي حبّ الدنيا ولا صبابة بكم ولكني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله تعالى يذكر فيها

_ (36) انظر مغني المحتاج: 2/ 218 (37) رواه مسلم. (38) مسلم: 5/ 60 وروى البخاري نحوه. (39) رواه البخاري، وأحمد وابن سعد في طبقاته، ولكن ليس في البخاري: فإن قتل فليرتض المسلمون منهم رجلا.

النار: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود. وناداهم المسلمون وهم يسيرون: صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين. فقال عبد الله بن رواحة: لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات قرع تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حرّان مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقال إذا مرّوا على جدثي ... أرشده الله من غاز، وقد رشدا ولما فصلوا من المدينة سمع العدو بمسيرهم، فجمعوا لهم: جمع هرقل لهم أكثر من مئة ألف مقاتل من الروم، وجمع شرحبيل بن عمرو مئة ألف مقاتل آخر من قبائل لخم وجذام والقين وبهراء. وسمع المسلمون بذلك فأقاموا في معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا. فشجعهم عبد الله بن رواحة وقال لهم: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة. وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة، ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور أو شهادة. والتقى المسلمون بأعدائهم قبيل الكرك، وقد اجتمع منهم ما لا قبل لأحد به من العدد والسلاح والعتاد، فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل وقاتل المسلمون معه حتى قتل رضي الله عنه طعنا بالرماح. ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب فأبلى بلاء عظيما، حتى إذا ألحمه القتال نزل عن فرسه فعقرها ثم انطلق يشتد في قتال القوم وهو يرتجز: يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وباردا شرابها والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها عليّ إذ لاقيتها ضرابها وظل يقاتل حتى قتل رضي الله عنه، ضربه رجل من الروم فقدّه نصفين، فوجد في جسمه خمسون طعنة، ليس منها شيء في ظهره «40» ! .. ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة وانطلق يرتجز قائلا: أقسمت يا نفس لتنزلنّه ... لتنزلن أو لتكرهنّه إن أجلب الناس وشدوا الرنة ... ما لي أراك تكرهين الجنّة

_ (40) رواه البخاري.

العبر والعظات:

قد طال ما قد كنت مطمئنة ... هل أنت إلا نطفة في شنّة ولم يزل يقاتل حتى قتل رضي الله عنه. ثم اتفق الناس على إمرة خالد بن الوليد فأخذ اللواء، وقاتل المشركين حتى انهزموا، فانحاز بجيشه حينئذ عائدا إلى المدينة» . روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفر وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذ الراية ابن رواحة فأصيب- وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم» . وهذا الحديث يدل كما ترى، على أن الله أيد المسلمين بالنصر أخيرا، وليس كما قال بعض رواة السيرة أن المسلمين انهزموا وتفرقوا، وعادوا بعد ذلك إلى المدينة. ولعل مقصود الذين قالوا هذا، أن المسلمين لم يتبعوا الروم ومن معهم في هزيمتهم، واكتفوا بانكشافهم عن مواقعهم، خوفا على المسلمين، وانقلبوا عائدين إلى المدينة، ولا شك أنه تدبير حكيم من خالد بن الوليد رضي الله عنه. قال ابن حجر: وقع في المغازي لموسى بن عقبة- وهي أصح المغازي- قوله: «ثم أخذه (يعني اللواء) عبد الله بن رواحة فقتل، ثم اصطلح المسلمون على خالد بن الوليد، فهزم الله العدو وأظهر المسلمين» . قال العماد بن كثير: «ويمكن الجمع بأن خالدا حاز المسلمين وبات، ثم أصبح وقد غير هيأة العسكر فجعل الميمنة ميسرة والميسرة ميمنة، ليتوهم العدو أن مددا قد جاء المسلمين. فحمل عليهم خالد فولّوا فلم يتبعهم ورأى الرجوع بالمسلمين هي الغنيمة الكبرى «41» . ولما دنوا من المدينة، تلقاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولقيهم الصبيان يسرعون، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر!. فأتي بعبد الله فأخذه فحمله بين يديه.. وجعل الناس يصيحون بالجيش: يا فرار، فررتم في سبيل الله.. فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله» . العبر والعظات: أهم ما يثير الدهشة، في هذه الغزوة، تلك النسبة الكبيرة من الفرق بين عدد المسلمين فيها وعدد مقاتليهم من الروم والمشركين العرب! .. لقد رأيت أن عدد المشركين ومن معهم من الروم قد بلغ ما يقرب مئتي ألف مقاتل! .. وذلك على ما رواه ابن إسحاق وابن سعد وعامة كتاب السيرة «42» على حين أن عدد المسلمين لم يتجاوز ثلاثة آلاف. ومعنى ذلك أن عدد المشركين والروم

_ (41) انظر فتح الباري: 7/ 361 و 362 (42) انظر طبقات ابن سعد: 3/ 175 وسيرة ابن هشام: 2/ 375

قد بلغوا ما لا يقل عن خمسين ضعفا لعدد المسلمين! .. وهي نسبة إذا ما تصورتها، تجعل رقعة الجيش الإسلامي، أمام حشود الروم والمشركين، أشبه ما تكون بساقية ماء صغيرة بالنسبة إلى بحر خضم مائج، هذا إلى ما كان قد جهز به جيش الأعداء من العدة والذخيرة والسلاح ومظاهر الأبهة والبذخ، على حين أن المسلمين كانوا يعانون من ذلك القلة والفقر! .. ومكان الدهشة في الأمر، أن تجد المسلمين بعد هذا كله- وهم سرية ليس فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم- مقبلين غير مدبرين، لا يقيمون لكل هذه الحشود الهائلة أمامهم وزنا، مع أنها- فيما يبدو ويظهر- لو التفّت من حولهم وطوقتهم من جهاتهم، لانقلبوا إلى ما يشبه نواة صغيرة في جوف قطعة أرض سوداء! .. ثم إن مكان الدهشة بعد ذلك، أن يصمد المسلمون لقتال هذا اليمّ المتلاطم. يقتل أميرهم الأول، ثم الثاني، فالثالث، وهم يقتحمون أبواب الشهادة في نشوة بالغة وإقبال عجيب، حتى يدخل الرعب الإلهي في أفئدة كثير من المشركين، دون أن يكون له سبب ظاهر، فينكشفون عن مواقعهم ويدبر منهم الكثير، وتقتل منهم خلائق لا تكاد تحصى! .. ولكن الدهشة كلها تزول، والعجب ينتهي، إذا تذكرنا ما يفعله الإيمان بالله، والاعتماد عليه، واليقين بوعده. بل إن المدهش بالنسبة للمسلمين- إذا كانوا مسلمين- أن لا يكونوا كذلك والعجيب فيهم حقا، أن يكونوا مسلمين ثم يكون لأرقام العدد والعدّة حساب مع ذلك في أفكارهم، إلى جانب ما وعد الله به من نصر وتأييد، أو جنة ونعيم خالدين! .. فالمسلمون- كما قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه- لا يقاتلون بعدد ولا قوة، ولا كثرة، وإنما يقاتلون بهذا الدين الذي أكرمهم الله به. ثم إن هذه الغزوة، تنطوي، على عظات ودلالات باهرة كثيرة، نذكر منها ما يلي: أولا: دلت توصية النبي صلّى الله عليه وسلم، على أنه يجوز للخليفة أو رئيس المسلمين أن يعلق إمارة أحد الناس بشرط وأن يولّي المسلمين عدة أمراء بالترتيب، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم في تولية زيد ثم جعفر ثم عبد الله بن رواحة، قال العلماء: «والصحيح أنه إذا أمر الخليفة بذلك فإن ولاية الكل تنعقد، بوقت واحد، في الحال، ولكنها لا تنفذ إلا مرتبة» «43» . ثانيا: دلت توصية الرسول صلّى الله عليه وسلم أيضا، على مشروعية اجتهاد المسلمين في اختيار أميرهم، إذا غاب أميرهم، أو وكل إليهم الخليفة اختيار من يرون. وقال الطحاوي: «هذا أصل يؤخذ منه

_ (43) انظر فتح الباري: 7/ 361

فتح مكة

أن على المسلمين أن يقدموا رجلا إذا غاب الإمام يقوم مقامه إلى أن يحضر» . كما دلت هذه التوصية على مشروعية اجتهاد المسلمين في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم. ثالثا: لقد رأيت أن النبي صلّى الله عليه وسلم نعى لأصحابه زيدا وجعفر وابن رواحة وعيناه تذرفان وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبينهم مسافات شاسعة بعيدة! .. وهذا يدل على أن الله تعالى قد زوى لرسوله الأرض، فأصبح يرى من شأن المسلمين الذين يقاتلون على مشارف الشام، ما حدث أصحابه به، وهي من جملة الخوارق الكثيرة التي أكرم الله بها حبيبه صلّى الله عليه وسلم. كما يدل هذا الحديث نفسه على مدى شفقته على أصحابه، فلم يكن شيئا قليلا أن يبكي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو واقف في أصحابه يحدثهم عن خبر هؤلاء الشهداء. وأنت خبير أن بكاءه صلّى الله عليه وسلم عليهم، لا يتنافى مع الرضى بقضاء الله تعالى وقدره فإن العين لتدمع والقلب ليحزن- كما قال عليه الصلاة والسلام- وتلك رقة طبيعية ورحمة فطر الله الإنسان عليهما. رابعا: وحديث نعيه صلّى الله عليه وسلم لهؤلاء الشهداء الثلاثة، يسجل فضلا خاصا لخالد بن الوليد رضي الله عنه، فقد قال لهم في آخر حديثه: «حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح عليهم» . وتلك أول وقعة يحضرها خالد رضي الله عنه في صف المسلمين، إذ لم يكن قد مضى على إسلامه إلا مدة يسيرة. ومن هنا تعلم أن الرسول صلّى الله عليه وسلم، هو الذي سجل لقب سيف الله، لخالد رضي الله عنه. ولقد أبلى رضي الله عنه، في هذه الغزوة بلاء رائعا، روى البخاري عنه رضي الله عنه قال: «لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية» . قال ابن حجر: وهذا الحديث يدل على أن المسلمين قد قتلوا من المشركين كثيرا. هذا، وأما سبب قول الناس للمسلمين بعد رجوعهم إلى المدينة: «يا فرّار، فررتم في سبيل الله» ، فهو أنهم لم يتبعوا الروم ومن معهم في هزيمتهم، وتركوا الأرض التي قاتلوا فيها كما هي ولم يكن ذلك شأنهم في الغزوات الأخرى، واكتفى خالد بذلك فكرّ عائدا إلى المدينة. ولكنه كما رأيت كان تدبيرا حكيما من خالد بن الوليد رضي الله عنه حفظا للمسلمين وهيبتهم التي انطبعت في أفئدة الروم، ولذلك ردّ النبي صلّى الله عليه وسلم عليهم قائلا: «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار، إن شاء الله» . فتح مكة وكان ذلك في شهر رمضان سنة ثمان من هجرة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة. وسببها أن أناسا من بني بكر، كلموا أشراف قريش في أن يعينوهم على خزاعة بالرجال والسلاح. (وخزاعة كانت قد دخلت في عهد المسلمين) ، فأجابوهم إلى ذلك، وخرج حشد من

قريش متنكرين متنقبين، فيهم صفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص، فالتقوا مع بني بكر في مكان اسمه الوتير، وبيتوا خزاعة ليلا وهم مطمئنون آمنون، فقتلوا منهم عشرين رجلا. وعندئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخبرونه بما أصابهم، فقام وهو يجر رداءه قائلا: «لا نصرت إن لم أنصر بني كعب، مما أنصر منه نفسي» وقال: «إن هذا السحاب ليستهلّ بنصر بني كعب» «44» . وندمت قريش على ما بدر منها، فأرسلت أبا سفيان بن حرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليجدد الهدنة ويماددها. وقدم أبو سفيان على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكلمه فلم يردّ عليه شيئا، فذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «ما أنا بفاعل» . ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال: «أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به (والذر صغار النمل) » . وانطلق أبو سفيان عائدا إلى مكة خائبا، لم يأت بشيء!. وتجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد أخفى أمره، وقال: «اللهم خذ على أبصار فريش فلا يروني إلا بغتة» «45» . ولما أجمع النبي صلّى الله عليه وسلم المسير، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يحذرهم من غارة عليهم من المسلمين. قال علي رضي الله عنه: «فبعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا والزبير، والمقداد. فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة (امرأة) معها كتاب فخذوه منها. قال: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة. قلنا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجنّ الكتاب أو لنلقين الثياب. قال: فأخرجته من عقاصها. فأتينا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، إني كنت امرءا ملصقا في قريش- أي كنت حليفا لهم ولست منهم- وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنه قد صدقكم، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال:

_ (44) روى ذلك ابن سعد وابن إسحاق. وهذا النص من رواية ابن سعد. قال ابن حجر: ورواه البزار والطبراني وموسى بن عقبة، وغيرهم.. (45) رواه ابن إسحاق وابن سعد بألفاظ متقاربة.

إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم. فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ... الآيات إلى قوله تعالى: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ «46» . واستخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم على المدينة كلثوم بن حسين، وخرج يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من شهر رمضان بعد العصر، وأرسل صلّى الله عليه وسلم إلى من حوله من العرب: أسلم وغفار ومزينة، وجهينة وغيرهم، فالتقى كلهم في الظهران- مكان بين مكة والمدينة- وقد بلغ عدد المسلمين عشرة آلاف. ولم تكن الأنباء قد وصلت قريشا بعد، ولكنهم كانوا يتوقعون أمرا بسبب فشل أبي سفيان فيما جاء به إلى المدينة، فأرسلوا أبا سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء ليلتمسوا الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأقبلوا يسيرون، حتى دنوا إلى مر الظهران فإذا هم بنيران عظيمة، فبينما هم يتساءلون فيما بينهم عن هذه النيران، إذ رآهم أناس من حرس رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتوا بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان» «47» . قال ابن إسحاق يروي عن العباس تفصيل إيمان أبي سفيان: «فلما أصبح، غدوت به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! .. والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد. وقال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه والله، فإن في النفس منها حتى الآن شيئا. فقال له العباس: ويحك! .. أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق فأسلم. قال العباس: فقلت يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا، قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فلما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم المسير مقبلا إلى مكة، قال للعباس: احبس أبا سفيان بمضيق الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها قال: فخرجت فحبسته عند مضيق الوادي حيث أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أحبسه، ومرت القبائل عليها راياتها، كلما مرت قبيلة، قال: يا عباس من

_ (46) متفق عليه واللفظ للبخاري. (47) إلى هنا من رواية البخاري، وليس فيها كما ترى إشارة إلى إسلام صاحبيه أيضا. والذي ذكره علماء السيرة، وفي مقدمتهم موسى بن عقبة، أن بديلا وحكيما أسلما بمجرد دخولهما على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتأخر أبو سفيان بإسلامه حتى أصبح. فلذلك عنيت رواية البخاري بذكر أبي سفيان وأهملت ذكر صاحبيه.

هذه؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم؟ .. وهكذا، حتى مرّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في كتيبة فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار! .. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما! .. فقال: يا أبا سفيان إنها النبوة، قال: فنعم إذن» «48» . ثم قال له العباس: «النجاة إلى قومك! .. فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة قبل أن يصلها رسول الله، وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فأقبلت إليه امرأته هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه وهي تقول: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس، قبّح من طليعة قوم! .. فقال: ويلكم لا تغرنكم هذه من نفوسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد» «49» . وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن سعد بن عبادة قال لأبي سفيان عندما رآه في مضيق الوادي: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فلم يرض عليه الصلاة والسلام بقوله هذا، وقال: بل اليوم يوم الرحمة، اليوم يعظم الله الكعبة. وأمر قادة جيوشه أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم» «50» إلا ستة رجال وأربعة نسوة، أمر بقتلهم حيثما وجدوا، وهم: عكرمة بن أبي جهل، وهبّار بن الأسود، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومقيس بن صبابة الليثي، والحويرث بن نقيد، وعبد الله بن هلال، وهند بنت عتبة، وسارة مولاة عمرو بن هشام، وفرتنى وقرينة (وكانتا جاريتين تتغنيان دائما بهجاء النبي صلّى الله عليه وسلم) «51» . ودخل النبي صلّى الله عليه وسلم مكة من أعلاها (كداء) وأمر خالد بن الوليد أن يدخل بمن معه من أسفلها: (كدى) . فدخل المسلمون مكة من حيث أمرهم، ولم يجد أحد منهم مقاومة، إلا خالد بن الوليد، فقد لقيه جمع من المشركين فيهم عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية،

_ (48) رواه ابن سعد، وابن إسحاق، وابن جرير، وروى نحوه البخاري، والألفاظ متقاربة. (49) ابن إسحاق. (50) رواه البخاري وابن إسحاق وغيرهما. (51) رواه ابن سعد وابن إسحاق، قال ابن حجر: وقد جمعت أسماء هؤلاء الرجال الستة والنسوة الأربع من متفرقات الأخبار.

فقاتلهم خالد فقتل منهم أربعة وعشرين من قريش، وأربعة نفر من هذيل. ورأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بارقة السيوف من بعيد، فأنكر ذلك، فقيل له: إنه خالد قوتل فقاتل، فقال: «قضاء الله خير» «52» . روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر والحاكم عن أنس، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجرا (متعمما) بشقة برد حبرة، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل. وروى البخاري عن معاوية بن قرة قال: سمعت عبد الله بن مغفل يقول: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح، يرجّع، وقال: لولا أن يجتمع الناس حولي لرجّعت كما رجع. ودخل صلّى الله عليه وسلم مكة متجها إلى البيت، وحوله ثلاث مئة وستون صنما، فجعل يطعنها الواحدة تلو الأخرى بعود في يده، وهو يقول: «جاء الحق وزهق الباطل. جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد» «53» . وكان في جوف البيت أيضا آلهة، فأبى أن يدخل وفيه الآلهة، وأمر بها فأخرجت وأخرجت صور لإبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط. ثم دخل البيت فكبّر في نواحي البيت وخرج ولم يصل فيه» «54» . وكان قد أمر صلّى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة (وهو من حجبة البيت) أن يأتيه بالمفتاح، فجاءه به، ففتح البيت، ثم دخل النبي صلّى الله عليه وسلم البيت، ثم خرج فدعا عثمان بن طلحة فدفع إليه المفتاح، وقال له: خذوها خالدة مخلدة، إني لم أدفعها إليكم (أي حجابة البيت) ولكن الله دفعها إليكم، ولا ينزعها منكم إلا ظالم. يشير بقوله هذا إلى قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «55» [النساء 4/ 58] . وأمر رسول الله بلالا فصعد فوق ظهر الكعبة فأذن للصلاة. وأقبل الناس كلهم يدخلون في دين الله أفواجا. قال ابن إسحاق: وأمسك النبي صلّى الله عليه وسلم بعضادتي باب الكعبة وقد اجتمع الناس من حوله ما يعلمون ماذا يفعل بهم، فخطب فيهم قائلا: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا

_ (52) رواه ابن سعد في الطبقات، وروى ابن حجر عن موسى بن عقبة نحوه، وفي سيرة ابن هشام أن الذين قتلوا من المشركين ثلاثة عشر أو أربعة عشر. والحديث رواه البخاري باختصار، راجع فتح الباري: 8/ 8 و 9. (53) متفق عليه. (54) رواه البخاري. وروى مسلم أنه صلّى الله عليه وسلم دخل البيت فصلى فيه، وسنذكر تحقيق ذلك في التعليق إن شاء الله. (55) رواه الطبراني من مرسل الزهري، وابن أبي شيبة، وابن إسحاق. وانظر فتح الباري: 8/ 14

كل مأثرة أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج.. يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم من تراب، وتلا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ. ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» «56» . وروى الشيخان عن أبي شريح العدوي أنه صلّى الله عليه وسلم قال فيما خاطب به الناس يوم الفتح: «إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها أناس، لا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرا، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيها، فقولوا له: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن له فيه ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب» . ثم إن الناس اجتمعوا بمكة لمبايعة رسول الله صلّى الله عليه وسلم على السمع والطاعة لله ورسوله، فلما فرغ صلّى الله عليه وسلم من بيعة الرجال بايع النساء، واجتمع إليه نساء من نساء قريش، فيهن هند بنت عتبة متنقبة متنكرة لما كان من صنيعها بحمزة رضي الله عنها، فلما دنون منه ليبايعنه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: تبايعنني على أن لا تشركن بالله شيئا، فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما أخذته على الرجال، وسنؤتيكه، قال: ولا تسرقن. قالت: والله إن كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنة، وما أدري أكان ذلك حلّا لي أم لا؟ فقال أبو سفيان، وكان شاهدا لما تقول: أمّا ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل. فقال عليه الصلاة والسلام: وإنك لهند بنت عتبة؟ فقالت: أنا هند بنت عتبة، فاعف عما سلف عفا الله عنك. قال: ولا تزنين، قالت: وهل تزني الحرة!. قال: ولا تقتلن أولادكن، قالت: قد ربيناهم صغارا وقتلتهم يوم بدر كبارا، فأنت وهم أعلم. فضحك عمر من قولها حتى استغرب. قال: ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، فقالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل. قال: ولا تعصينني في معروف. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعمر: بايعهن واستغفر لهن رسول الله، فبايعهن عمر. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يصافح النساء ولا يمس امرأة ولا تمسه، إلا امرأة أحلّها الله له» «57» . وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام، بهذه الآية: لا يشركن بالله شيئا، قالت: وما مست يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة

_ (56) وروى نحوه ابن سعد أيضا في طبقاته. (57) رواه ابن إسحاق وابن جرير.

العبر والعظات:

يملكها» . وروى مسلم عن عائشة بنحوه «58» . «وأجارت أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، يوم الفتح، رجلا من المشركين، وكان علي رضي الله عنه يريد قتله، قالت: فجئت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فوجدته يغتسل، وفاطمة بنته تستره بثوب، قالت: فسلّمت عليه، فقال: من هذه؟ فقلت: أم هانئ بنت أبي طالب. فقال: مرحبا بأم هانئ. فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد، ثم انصرف. فقلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي عليّ أنه قاتل رجلا أجرته، فلان: ابن هبيرة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» «59» . وأما أولئك النفر الذين كان رسول الله قد هدر دمهم، فقد قتل بعضهم وأسلم الآخرون: قتل الحويرث وعبد الله بن خطل ومقيس بن حبابة، وقتلت إحدى الجاريتين المغنيتين وأسلمت الأخرى. وشفع في عبد الله بن سعد بن أبي سرح وحسن إسلامه، وأسلم عكرمة، وهبار، وهند بنت عتبة. روى ابن هشام أن فضالة بن عمير الليثي «60» أراد قتل النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أفضالة؟ قال: نعم، فضالة يا رسول الله، قال: واذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله. فضحك النبي صلّى الله عليه وسلم ثم قال: استغفر الله. ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه. فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إليّ منه» . ومرّ فضالة عائدا إلى بيته بامرأة كان يميل إليها ويتحدث معها، فقالت له: هلمّ إلى الحديث، فانبعث يقول: قالت هلم إلى الحديث فقلت: لا ... يأبى عليّ الله والإسلام لو ما رأيت محمدا وقبيله ... بالفتح يوم تكسر الأصنام لرأيت دين الله أضحى بينا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام وأقام النبي صلّى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري عن ابن عباس، تسعة عشر يوما يقصر فيها الصلاة: يصلي ركعتين. العبر والعظات: الآن، وقد رأيت أحداث الفتح العظيم الذي أكرم الله به نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلم وأصحابه،

_ (58) انظر البخاري: 8/ 135 ومسلم: 6/ 29 (59) متفق عليه. (60) ذكر هذه القصة ابن هشام في سيرته، وأوردها ابن القيم في زاد المعاد.

تستطيع أن تبصر قيمة الدعوة السابقة وأحداثها وأن تبصر أسرارها وحكمها الإلهية مجسدة أمام عينيك. الآن، وقد اطلعت على قصة فتح مكة، تستطيع أن تدرك قيمة الهجرة منها قبل ذلك. تستطيع أن تدرك قيمة التضحية بالأرض والوطن والمال والأهل والعشيرة في سبيل الإسلام. فلن يضيع شيء من ذلك كله إن بقي الإسلام.. ولكن ذلك كله لن يغني عن صاحبه شيئا إن لم يكن قد بقي له الإسلام. الآن، وقد تأملت أحداث هذا الفتح الأكبر، تستطيع أن تدرك تماما قيمة الجهاد والاستشهاد والمحن التي تمت من قبله، إن شيئا من ذلك لم يذهب بددا، ولم ترق نقطة دم لمسلم هدرا، ولم يتحمل المسلمون كل ما لا قوه، مما قد رأيت في غزواتهم وأسفارهم، لأن رياح المصادمات فاجأتهم بها. ولكن كل ذلك كان جاريا وفق حساب.. وكل ذلك كان يؤدي أقساطا من ثمن الفتح والنصر.. وتلك هي سنة الله في عباده؛ لا نصر بدون إسلام صحيح، ولا إسلام بدون عبودية له، ولا عبودية بدون بذل وتضحية وضراعة على بابه وجهاد في سبيله. والآن، وقد رأيت خبر هذا الفتح، تستطيع أن تدرك القيمة الكبرى لصلح الحديبية، وأن تستشف من وراء ظاهرها الذي أدهش عمر وكثيرا من الصحابة، السر الإلهي الرائع، وأن تقف باطمئنان تام على المعنى الذي من أجله أطلق الله على ذلك الصلح اسم الفتح: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً وإذا أدركت هذا، أدركت مزيدا من حقائق النبوة التي كانت تقود حياة النبي صلّى الله عليه وسلم. أتذكر يوم خرج النبي صلّى الله عليه وسلم من وطنه، مكة، مستخفيا في بطون الشعاب والأودية، مهاجرا إلى يثرب، وقد سبقه من قبله ولحقه من بعده أصحابه القلة المستضعفون يتسللون مهاجرين، وقد تركوا المال والأهل والأرض من أجل أن يبقى لهم الدين؟ .. هاهم أولاء وقد رجعوا إلى الوطن والأهل والمال، وقد كثروا بعد قلة، وتقووا بعد ضعف، واستقبلهم أولئك الذين أخرجوهم بالأمس خاشعين أذلاء خاضعين.. ودخل أهل مكة في دين الله أفواجا، وأقبل بلال الحبشي وهو الذي طالما عذب في رمضاء مكة على أيدي المشركين، فصعد على الكعبة المشرفة ينادي بأعلى صوته: الله أكبر.. الله أكبر. ذلك الصوت الذي كان يهمس يوما ما تحت أسواط العذاب: أحد، أحد، أحد، ها هو اليوم يجلجل فوق كعبة الله تعالى قائلا: لا إله إلا الله محمد رسول الله والكل خاشع منصت خاضع! ..

أولا - ما يتعلق بالهدنة ونقضها:

ألا إنها لحقيقة واحدة لا ثانية لها: هي الإسلام، فما أحمق الإنسان وما أجهله، حينما يكافح أو يناضل أو يجاهد في غير سبيل الإسلام، إنما يكافح حينئذ عن وهم لا حقيقة له ولا طائل. *** وبعد، فإن أحداث هذا الفتح العظيم تنطوي على دلالات وأحكام كثيرة مختلفة، يجب تبصرها والوقوف عليها. وسنذكر ما تيسر ذكره من ذلك حسب ترتيب الأحداث نفسها. أولا- ما يتعلق بالهدنة ونقضها: 1- يدلنا سبب فتح مكة، على أن أهل العهد والهدنة مع المسلمين، إذا حاربوا من هم في ذمة المسلمين وجواره، صاروا حربا لهم بذلك. ولم يبق بينهم وبين المسلمين من عهد. وهذا ما اتفق عليه علماء المسلمين. 2- تدلنا الطريقة التي قصد بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكة، على أنه يجوز لإمام المسلمين ورئيسهم أن يفاجئ العدو بالإغارة والحرب لدى خيانته العهد ونبذه له، ولا يجب عليه أن يعلمهم بذلك. فقد رأيت أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما أجمع الخروج إلى مكة دعا قائلا: «اللهم خذ على أبصار قريش فلا يروني إلا بغتة» ، وهذا ما اتفق عليه عامة العلماء. أما إذا لم تقع الخيانة، وإنما خيف منهم ذلك، بسبب علائم ودلائل قوية، فلا يجوز حينئذ للإمام أن ينبذ عهدهم ويفاجئهم بالحرب والقتال، بل لابد من إعلامهم جميعا بذلك أولا، بدليل قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [الأنفال 8/ 58] أي أعلمهم كلهم عن نبذك لعهدهم. 3- وفي عمله صلّى الله عليه وسلم أيضا دليل على أن مباشرة البعض لنقض العهد، بمثابة مباشرة الجميع لذلك، ما لم يبد الآخرون استنكارا حقيقيا له. فالنبي صلّى الله عليه وسلم اكتفى بسكوت عامة قريش وإقرارهم لما بدر من بعضهم من الإغارة على حلفاء المسلمين، دليلا على أنهم قد دخلوا بذلك معهم في خيانة العهد. وهذا لأنه لما دخلت عامة قريش في أمر الهدنة تبعا لكبارهم وممثليهم، اقتضى الأمر أن يخرج أيضا هؤلاء العامة عن الهدنة، تبعا لما قام به كبارهم وزعماؤهم وممثلوهم. وقد قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم جميع مقاتلة بني قريظة دون أن يسأل كلّا منهم هل نقض العهد أم لا؟، وكذلك فعل ببني النضير فقد أجلاهم كلهم بسبب خيانتهم للعهد الذي بينهم وبين المسلمين، وإنما كان الذين باشروا الخيانة بضعة أشخاص منهم فقط. ثانيا- حاطب بن أبي بلتعة وما يتعلق بعمله: 1- إننا نجد أنفسنا أمام مظهر جديد آخر لنبوته صلّى الله عليه وسلم، وما كان يؤيّد به من الوحي من قبل ربه جلّ جلاله. لقد قال لبعض أصحابه: «اذهبوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة

معها كتاب فخذوه منها» ، فمن الذي أخبره بأمر هذا الكتاب وأطلعه على ما دار بين الظعينة وحاطب بن أبي بلتعة في شأنه؟ إنه الوحي.. وإذن فهي النبوة، وهي التأييد من الله تعالى لنبيه حتى يتم المخطط الإلهي للفتح العظيم الذي أكرم الله به نبيه والمسلمين. 2- هل يجوز تعذيب المتهم بمختلف الوسائل، حملا له على الاعتراف؟ لقد استدل بعضهم بما قاله علي رضي الله عنه لتلك المرأة: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، استدلوا بذلك على أنه يجوز للإمام أو نائبه أن يسلك من الوسائل ما يراه كفيلا بكشف الجريمة وإظهارها. كما استدلوا على ذلك بما روي من أن اليهود غيبوا أموالا في غزوة خيبر لحييّ بن أخطب فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعمه: «ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟ (المسك وعاء من جلد) فقال: أذهبته النفقات والحروب. فقال: العهد قريب والمال أكثر من ذلك، فدفعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الزبير فمسه بعذاب، فقال لهم: قد رأيت حيي يطوف بخربة هنا، فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة» . وبعض الباحثين اليوم، يسندون مثل هذا الرأي إلى الإمام مالك رضي الله عنه. والحق الذي عليه كل الأئمة الأربعة وجمهور الباحثين والعلماء، أنه لا يجوز تعذيب المتهم الذي لم تثبت عليه الجريمة ببينة شرعية كافية، حملا له على الإقرار، فالمتهم بريء ما لم تثبت جريمته. وخبر الظعينة التي أرسلها حاطب إلى مكة، وتهديد علي رضي الله عنه لها، ليس من هذا في شيء، وذلك للسببين التاليين: أولا: ليست تلك المرأة مجرد متهمة بما ووجهت به، بل هي حقيقة ثابتة، دلّ عليها خبر أصدق الناس محمد عليه الصلاة والسلام، وهو أقوى في دلالته من بينة الاعتراف والإقرار، فكيف يقاس عليها من حامت حوله التهم لمجرد ظنون وشكوك من أناس غير معصومين؟ وما يقال عن هذه المرأة، يقال أيضا عن عم حيي بن أخطب. ثانيا: ليس إلقاء الثياب للتفتيش عن الكتاب، كأمر التعذيب أو الحبس، فالفرق بينهما كبير واضح، وإذا ثبت أن الكتاب معها لا محالة، ولم يكن من سبيل إلى الوصول إليه إلا بالتنقيب في ثيابها، فذلك أمر مشروع ولا ريب، بل هو واجب استلزمه أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وأما تعذيب الزبير لعم حيي بن أخطب، فهو أولا: قائم كما قلنا على الحقيقة لا التهمة، ثم هو ثانيا متعلق بأمر الجهاد والحرابة بين المسلمين وغيرهم، فكيف يقاس عليه تعامل المسلمين بعضهم مع بعض؟!. وأما زعم أن هذا مذهب ذهب إليه مالك رضي الله عنه في فقهه، فهو زعم باطل مخالف لما هو معروف واضح من مذهبه.

ثالثا - أمر أبي سفيان وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه:

جاء في المدوّنة وهو من رواية سحنون عن مالك رضي الله عنه قوله: «قلت أرأيت إذا أقر بشيء من الحدود بعد التهديد أو القيد أو الوعيد أو الضرب أو السجن، أيقام عليه الحد أم لا؟ قال: قال مالك: من أقر بعد التهديد أقيل، فالوعيد والقيد والتهديد والسجن والضرب تهديد عندي كله وأرى أن يقال» ثم قال: «قلت فإن ضرب وهدد فأقرّ فأخرج القتيل أو أخرج المتاع الذي سرق، أيقيم عليه الحدّ فيما أقر به أم لا وقد أخرج ذلك؟ قال: لا أقيم عليه الحد إلا أن يقرّ بذلك آمنا لا يخاف شيئا» «61» . 3- دلنا حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم لحاطب وجوابه له، ثم القرآن الذي نزل بسببه، على أنه لا يجوز للمسلمين- في أي ظروف كانوا- أن يتخذوا من أعداء الله تعالى أولياء لهم يلقون إليهم بالمودة، أو أن يمدوا نحوهم يد الإخاء والتعاون، وذلك رغم ما كان قد اعتذر به حاطب من أنه لصيق بقريش ليس له فيها شيعة تدافع عنه أو يحتمي بها، فهو يريد أن يتخذ عندهم يدا يحتمي بها، عندما يحتمي غيره بما له بينهم من قرابة وأهل. إن الآيات القرآنية نزلت صريحة تأمر المسلمين أن يجعلوا ولاءهم لله وحده، وأن يقيموا علاقاتهم مع الناس، أيّا كانوا، على أساس ما يقتضيه ولاؤهم لهذا الدين الحنيف والإخلاص له وإلا كيف يتصور أن يضحي المسلمون بأموالهم وأنفسهم وشهواتهم وأهوائهم في سبيل الله تعالى؟!. وتلك هي مشكلة كثير ممن يعدون أنفسهم مسلمين في هذا العصر. يقبلون إلى المساجد للصلاة، ويتمتمون بالكثير من الأذكار والأوراد، وتظل مسابحهم تطقطق حباتها في أيديهم، ولكنهم يقيمون علاقاتهم مع الناس على أساس الولاء للأهل والعشيرة، أو مصلحة المال والدنيا، أو وحي الشهوات والأغراض. ولا يهمّهم أن يبيعوا بذلك الحق بالباطل أو أن يجعلوا من دين الله غلافا للأماني الدنيوية الحقيرة! .. أولئك هم المنافقون الذين بسببهم يعاني المسلمون من صنوف التأخر والتفرق والضعف، وتلك هي الواجهة التي تقام في كل مرة في وجه المؤامرات المختلفة التي تحاك ضدّ إسلام المسلمين ودينهم! .. ثالثا- أمر أبي سفيان وموقف رسول الله صلّى الله عليه وسلم منه: والعجيب في أمر أبي سفيان يوم الفتح، أن يكون هو أول وطليعة المحذرين لقومه من قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأن يكون في مقدمة الداخلين في دين الله أفواجا يومئذ، وهو الذي لم تخرج غزوة من مكة لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إلا بإشرافه وتوجيهه وتهييجه! .. ولعل الحكمة الإلهية شاءت أن تفتح مكة بدون قتال يذكر، وأن يدين أهلها

_ (61) المدونة: 16/ 93

لرسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهم الذين أخرجوه وآذوه وقاتلوه- بدون أيّ جهد أو مغامرة من المسلمين، فتهيأت أسباب إسلام أبي سفيان قبل غيره، وذلك في اللقاء الذي تمّ بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عند (مرّ الظهران) ، كي يعود إلى قومه في مكة، فينتزع من رؤوسهم فكرة الحرب والقتال، ويهيئ جو مكة لسلم يكون مآله دفن حياة الجاهلية والشرك وبزوغ شمس التوحيد والإسلام. ولقد كان من مظاهر التمهيد لهذا الأمر ما أمر به الرسول صلّى الله عليه وسلم من إعلان: أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، وذلك بعد أن أعلن إسلامه، إلى جانب ما في ذلك من تألف قلبه على الإسلام وتثبيته عليه. وأنت خبير أن الإسلام إنما هو الاستسلام لأركانه العملية والاعتقادية، ولا بد للمسلم بعد ذلك من رسوخ الإيمان في قلبه، وإنما يكون ذلك بمداومته على التمسك بمبادئ الإسلام وأركانه، ومن أهم ما يحفزه على المداومة والاستمرار، تألّف المسلمين لقلبه بمختلف الوسائل والأسباب المشروعة، ريثما تستقر جذور الإيمان في قلبه ويغدو إسلامه قويا صلدا لا تهزه أو تزعزعه الأعاصير. لقد غابت هذه الحكمة من أذهان بعض الصحابة من الأنصار، حينما سمعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فظنوا أنه صلّى الله عليه وسلم شعر بالميل والعاطفة نحو بلدته وجماعته، فهو من أجل ذلك قال هذا الكلام، وأظهر وجه المسالمة والصفح! .. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلّى الله عليه وسلم لما قال هذه الكلمة، قال الأنصار بعضهم لبعض: «أما الرجل فقد أدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته، قال أبو هريرة: وجاء الوحي، وكان إذا جاء الوحي لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى ينقضي الوحي، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار، قالوا: لبيك يا رسول الله، قال: قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، قالوا: قد كان ذلك، قال: كلا، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم والممات مماتكم! .. فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا إلا ضنا بالله ورسوله» . وهذا الذي قلناه من الفرق بين الإسلام والإيمان، هو الذي يكشف لك ما قد تستشعره من الإشكال في الشكل الذي تمّ عليه إسلام أبي سفيان رضي الله عنه. فقد رأيت أنه أجاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حينما قال له: «ألم يأن لك أن تعلم أنني رسول الله؟ بقوله: أمّا هذه والله، فلا يزال في النفس منها شيء! .. فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك!. وحينئذ شهد شهادة الحق» . والإشكال في هذا أنه قد يقال: فما هي قيمة إسلام لم يأت إلا بالتهديد، إذ قد كان من قبل

بلحظة واحدة يقول، إن في نفسه من نبوة رسول الله شيئا؟! .. ولكن الإشكال يزول بما قد علمت، من أن المطلوب في الدنيا من المشرك أو الكافر ليس هو استقرار الإيمان كاملا في فؤاده، في اللحظة التي يراد منه فيها الدخول في الإسلام، وإنما المطلوب منه أن يستسلم كيانه ولسانه لدين الله تعالى فيخضع لتوحيد الله تعالى ويذعن لنبوة رسوله وكل ما جاء به من عند الله تبارك وتعالى. أما الإيمان فيربو بعد ذلك في قلبه مع استمرار تمسكه بالإسلام وخضوعه له. ولذلك يقول الله تعالى في كتابه الكريم: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات 49/ 14] . ولذلك أيضا لا يجوز للمسلم أثناء القتال أن يحمل إسلام أحد من الكفار في أثناء المعركة على الخوف من السلاح أو الرغبة في الغنيمة، أو التظاهر بما لا يوقن به، مهما كانت القرائن دالة على ذلك، لأن المطلوب ليس الاستيلاء على ما في الضمائر والقلوب ولكن المطلوب إصلاح ما هو مكشوف وظاهر. وفي ذلك يقول الله تعالى تعليقا على ما بدر من بعض الصحابة في إحدى السرايا التي أرسلها رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ قتل شخصا أعلن إسلامه ظنا منه أنه إنما أعلن ذلك مخافة السلاح: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا، وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً، تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا؟ فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ، كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء 4/ 94] . وانظر كيف ذكرهم بحالهم يوم أن دخلوا الإسلام جديدا، فقد كان كثير منهم إذ ذاك مثل هذا الذي لا يثقون بإسلامه اليوم، ثم منّ الله عليهم فحسن إسلامهم وتصفّى مع الاستمرار في ممارسة أحكامه، من الدّخل والشوائب. ولقد كان من حكمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن أعلن أبو سفيان إسلامه، أن أمر العباس أن يقف به عند مضيق الوادي، الذي ستمر فيه جنود الله تعالى، حتى يبصر بعينه كيف أصبحت قوة الإسلام، وإلام انقلبت حال أولئك الذين هاجروا من مكة قلة مشتتين مستضعفين! .. وحتى تكون هذه العبرة البالغة أول مثبت لدينه ومؤكد لعقيدته. وأخذ أبو سفيان يتأمل الكتائب التي تمر، واحدة إثر أخرى، وهو في دهشة وذهول مما يرى! .. والتفت يقول للعباس، وهو لا يزال تحت تأثير بقايا من الفكر الجاهلي وأوهامه: «لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما!» . فأيقظه العباس من بقايا غفلته السابقة قائلا: «يا أبا سفيان إنها النبوة» . أيّ ملك هذا الذي تقول؟ .. لقد ألقى الملك والمال والجاة تحت قدميه يوم أن عرضتم كل

رابعا - تأملات في كيفية دخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة:

ذلك عليه في مكة، وهو يعاني من تعذيبكم وإيذائكم له، وهل ألجأتموه إلى الهجرة من بلده إلا لأنه رفض أن يستبدل الملك الذي عرضتموه عليه بالنبوة التي كان يدعوكم إلى الإيمان بها؟ إنها النبوة! .. تلك هي الكلمة التي أدارتها الحكمة الإلهية على لسان العباس، حتى تصبح الردّ الباقي إلى يوم القيامة على كل من يتوهم أو يوهم أن دعوة النبي صلّى الله عليه وسلم إنما كانت ابتغاء ملك أو زعامة، أو إحياء قومية أو عصبية وهي كلمة جاءت عنوانا لحياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، فقد كانت ساعات عمره ومراحله كلها دليلا ناطقا على أنه إنما بعث لتبليغ رسالة الله إلى الناس، لا لإشادة ملك لنفسه في الأرض. رابعا- تأملات في كيفية دخوله صلّى الله عليه وسلم إلى مكة: 1- لقد رأينا فيما يرويه البخاري عن عبد الله بن المغفل أنه صلّى الله عليه وسلم كان وهو على مشارف مكة يقرأ سورة الفتح، يرجّع في تلاوته لها، والترجيع كيفية معينة في القراءة يترنم بها القارئ. وهذا يدل- كما نرى- أنه صلّى الله عليه وسلم كان مستغرقا في حالة شهود مع الله تعالى أثناء دخوله مكة، فما كانت لنشوة الظفر والنصر العظيم إلى نفسه من سبيل ولم يكن شيء من التعاظم أو التجبر ليستولي على شيء من مشاعره، إنما هو الانسجام التام مع شهود الله تعالى والشكر على نصره وتأييده. ويزيد في تصوير هذا المعنى ما رواه ابن إسحاق من أنه صلّى الله عليه وسلم لما وصل إلى ذي طوى كان يضع رأسه تواضعا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل. وهذا يعني أنه صلّى الله عليه وسلم كان مندمجا في حالة من العبودية التامة لله تعالى إذ رأى ثمرة القيام بأمر ربه، ونظر إلى نتيجة كل ما قد كان لقيه من العذاب من قومه، وكيف أن الله أعاده إلى البلدة التي أخرجته عزيزا منصورا مكرما! .. إنها الساعة التي ينبغي أن تمتلئ بشكر الله تعالى وحده، وينبغي أن يفيض الزمن كله فيها بمعنى العبودية التامة لله تعالى. وهكذا يجب أن تكون حال المسلمين دائما، عبودية مطلقة لله في السراء والضراء، في الرخاء والشدة، عند الضعف والقوة. وليس من شأن المسلمين إطلاقا، أن يتظاهروا بالذل لله تعالى كلما حاقت بهم مصيبة أو كرب، حتى إذا انكشف الكرب وزال الضر، أسكرتهم الفرحة بل أسكرهم الطغيان عن كل شيء، ومرّوا من جنب أوامر الله تعالى وأحكامه ساهين لاهين، كأن لم يدعوه ويتذللوا له في كشف ضر مسّهم! .. 2- يدلنا أيضا هذا الذي رواه البخاري، على مشروعية الترنم والتغني بقراءة القرآن، وهو المعنى الذي عبر عنه عبد الله بن المغفل بالترجيع. وهو الحق الذي عليه عامة العلماء من الشافعية

خامسا - ما اختص به الحرم المكي من الأحكام:

والحنفية وكثير من المالكية وغيرهم. ولقد حمل هؤلاء الأئمة ما روي عن كثير من الصحابة أو التابعين مما يدل على النهي عن التطريب والتغني في تلاوة القرآن، على التطريب الذي يطغى على سلامة الأداء ويذهب بالحروف والكلمات عن مخارجها العربية الصحيحة، إذ إن مثل هذه التلاوة غير جائزة باتفاق. 3- لقد كان من التدبير الحكيم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، ما أمر به أصحابه من أن يتفرقوا في مداخل مكة، فلا يدخلوها من طريق ومدخل واحد، وذلك بغية تفويت فرصة القتال على أهل مكة إن أرادوا ذلك إذ يضطرون إلى تشتيت جماعاتهم وتبديد قواهم في جهات مكة وأطرافها فتضعف لديهم أسباب المقاومة ومغرياتها. وإنما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك، حقنا للدماء ما أمكن، وحفظا لمعنى السلامة والأمن في البلد الحرام، ومن أجل هذا أمر المسلمين أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وأعلن أن من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن. خامسا- ما اختص به الحرم المكي من الأحكام: 1- حرمة القتال فيه: لقد رأينا أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن قتال أحد، إلا أن يبدأ أناس المسلمين بالقتال، وإلا ستة أنفار أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقتلهم أينما وجدوا. ولقد رأينا أنه صلّى الله عليه وسلم أنكر على خالد بن الوليد قتاله لبعض أهل مكة حينما رأى بارقة السيوف على بعد، فقيل له أنه قوتل فقاتل فقال: قضاء الله خير، ولم يقع فيما عدا ذلك قتال ما في مكة. كما رأينا أنه صلّى الله عليه وسلم قال فيما خطب به الناس يوم الفتح: «إن مكة حرّمها الله، ولم يحرمها الناس، لا يحل لا مرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرا، فإن أحد ترخص في قتال فيها فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن له ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس» . وقد أخذ عامة العلماء من هذا أنه لا يجوز القتال في مكة وما يتبعها من الحرم، وهو صريح أمر النبي صلّى الله عليه وسلم في خطبة يوم الفتح. ولكنهم بحثوا بعد هذا، في كيفية تطبيق هذا الأمر، وسبيل التوفيق بينه وبين النصوص التي تأمر بقتال المشركين والبغاة وقتل من ثبت عليهم القصاص. فقالوا: «أما المشركون والملحدون فلا يتصور أن تقع المشكلة بالنسبة لقتالهم، فقد ثبت شرعا أنه لا يجوز تمكين أحد يدين بغير الإسلام من الاستيطان بمكة» وذلك باتفاق الأئمة، بل ومن

مجرد الدخول إليها عند الشافعية وكثير من المجتهدين، وذلك لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة 9/ 28] . وعلى من فيها أن يقاتلوا هؤلاء قبل وصولهم إليها والدخول فيها، هذا إلى أن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظ حرمه من أن يدنس بإقامة أي كافر أو مشرك فيه، وذلك مظهر من مظاهر إعجاز هذا الدين يتجلى في صدق الوعد الذي جاء في كتابه وعلى لسان نبيه. وأما البغاة- وهم الذين يعلنون البغي على الإمام الصالح- فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنهم يقاتلون على بغيهم إذا لم يمكن ردّهم عن بغيهم إلا بالقتال، لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى التي لا يجوز إضاعتها، فحفظها أولى في الحرم من إضاعتها. قال النووي: «وهذا الذي نقل عن الجمهور هو الصواب وقد نصّ عليه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث» . قال الشافعي: «ويجاب عما يقتضيه ظاهر الأحاديث من منع القتال مطلقا (أي حتى للبغاة) بأن القتال المقصود بالتحريم إنما هو نصب القتال عليهم وقتالهم بما يعمم كالمنجنيق وغيره، إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك. وأما إذا تحصن الكفار في بلد آخر فإنه يجوز قتالهم حينئذ على كل وجه وبكل شكل» . وذهب بعض الفقهاء إلى أنه يحرم قتال البغاة بل يضيّق عليهم في كل الوجوه حتى يضطروا إلى الخروج من الحرم أو الرجوع إلى الطاعة «62» . وأما إقامة الحدود، فقد ذهب مالك والشافعي إلى أن الحدود تقام في الحرم المكي لما رواه البخاري من أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة» «63» . وذهب أبو حنيفة- وهو رواية عن أحمد- إلى أنه آمن مادام في الحرم، ولكن يضيّق عليه ويضطر إلى الخروج منه، حتى إذا خرج استوفي منه الحد أو القصاص، ودليل هؤلاء عموم ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم في يوم الفتح. قال الزركشي: «فوجه الخصوصية إذن للحرم المكي، أن الكفار أو البغاة لو تحصنوا بغير مكة من البلدان الأخرى جاز نصب حرب عامة شاملة عليهم على أي وجه وبأي شكل تقتضيه المصلحة، ولكنهم لو تحصنوا بها لم يجز قتالهم على ذلك الوجه «64» . قلت: هذا إلى جانب أن الله تعالى قد تعهد بأن يكون هذا الحرم موئلا ومثابة للمسلمين وحدهم، وإذا كان الواقع كذلك ففيم يقوم سبب القتال فيه إذن اللهم إلا لإقامة الحدود وردّ البغي وقد عرفت حكم كل منهما.

_ (62) انظر شرح مسلم للنووي: 9/ 124 و 125، والأحكام السلطانية للماوردي: 166 (63) قال في النهاية: الخربة أصلها العيب، والمراد به هنا الذي يفرّ بشيء يريد أن ينفرد به ويتغلب عليه مما لا تجيزه الشريعة. (64) انظر إعلام الساجد في أحكام المساجد للزركشي: 162 وطرح التثريب: 5/ 86

2- تحريم صيده: وهذا ثابت بالإجماع لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده» . فإذا حرم التنفير فالإتلاف أولى. فإن أصاب صيدا فيه وجب عليه إرساله، وإن تلف في يده ضمنه بالجزاء كالمحرم. ويستثنى من عموم حيوانات الحرم خمسة أصناف استثناها صلّى الله عليه وسلم من عموم المنع وسماها الفواسق وهي: الغراب، الحدأة، العقرب، الفأرة، الكلب العقور، وقد قاس العلماء عليها ما يشاركها في صفة الإيذاء من الحيوانات الأخرى كالحية والسباع الضارية. 3- تحريم قطع شيء من نباته: ودليله قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «لا يعضد شوكه» وضابط ذلك قطع كل نبات أنبته الله تعالى دون أن يغرسه أحد من الناس مادام رطبا. فلا يحرم ما غرسه الآدميون، كما لا يحرم فيه ذبح الأنعام، واسترعاء خلاه ونباته وقطع ما يبس من أشجاره وأعشابه، وروى الزركشي عن أبي حنيفة وأحمد منع رعي البهائم في الحرم «65» ! واستثنى الجمهور من عموم النباتات ما كان مؤذيا منها قياسا على الفواسق الخمسة التي استثناها صلّى الله عليه وسلم، فهو من قبل تخصيص النص بالقياس «66» . 4- وجوب دخوله محرما: فمن قصد مكة- أو قصد شيئا من حرمه كما قال النووي- وكان ممن لا يتكرر دخوله كالتجار والحطابين ومن تجبرهم مهنتهم على استمرار الدخول إلى الحرم والخروج منه، فإن عليه أن لا يدخل إلا محرما بحج أو عمرة. وقد اختلف العلماء هل يتعلق الطلب بذلك وجوبا أم ندبا؟ المشهور عن الأئمة الثلاثة وهو المفتى به عند الحنفية والمروي عن ابن عباس أن الطلب على سبيل الوجوب. وذهب جمهور الشافعية إلى أنه على سبيل الندب. وسبب الخلاف أن النبي صلّى الله عليه وسلم حينما دخل مكة يوم الفتح لم يكن محرما بدليل ما رواه مسلم وغيره أنه صلّى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء بغير إحرام. فالذين قالوا إن الإحرام مندوب استدلوا بهذا الحديث، والذين صححوا الوجوب، قالوا: إن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل خائفا من غدر الكفار فكان متهيأ لقتال من سيقاتله منهم، وهي من الحالات التي تستثنى من عموم حالات الوجوب.

_ (65) راجع إعلام الساجد للزركشي: 157 (66) راجع ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية للمؤلف: 200

سادسا - تأملات فيما قام به صلى الله عليه وسلم من أعمال عند الكعبة المشرفة:

5- حرمة تمكين غير المسلمين من الإقامة فيه: وقد أوضحنا هذا الحكم مع بيان دليله عند ذكر الحكم الأول، وهو حرمة القتال فيه. سادسا- تأملات فيما قام به صلّى الله عليه وسلم من أعمال عند الكعبة المشرفة: 1- الصلاة داخل الكعبة: ذكرنا ما رواه البخاري عن ابن عباس من أنه صلّى الله عليه وسلم لم يدخل البيت حتى أخرج ما كان فيه من أصنام وأخرجت صورة لإبراهيم وإسماعيل وفي أيديهما الأزلام.. ثم دخل البيت فكبّر في نواحيه ولم يصل. وقد روى مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي، فأغلقها عليه ثم مكث فيها. قال ابن عمر: فسألت بلالا حين خرج ما صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: «جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه» ، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، ثم صلى. وقد روى البخاري عن ابن عمر قريبا من هذا. وقد قال العلماء إنه لا تعارض بين الحديثين، وذلك لأن ابن عباس- وهو راوي حديث عدم الصلاة- لم يكن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم داخل الكعبة، وإنما أسند نفي الصلاة- كما يقول ابن حجر- تارة إلى أسامة وتارة إلى أخيه الفضل، على أن الفضل أيضا لم يكن معهم في الكعبة. أما بلال، وهو الذي نقل إثبات الصلاة، فقد كان معه صلّى الله عليه وسلم، وبناء على هذا ينبغي أن يقدم حديث ابن عمر عن بلال، لسببين: الأول: أنه مثبت فمعه زيادة علم، والمثبت مقدم على النافي. الثاني: أن رواية بلال عن تثبت ومشاهدة لأنه كان معه صلّى الله عليه وسلم في داخل الكعبة، أما رواية ابن عباس فهي كما علمت إنما تستند إلى نقل لا مشاهدة، وهو مرة ينقل عن أسامة، ومرة ينقل عن أخيه الفضل، والفضل لم يكن موجودا معه. قال النووي: «أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال، لأنه مثبت فمعه زيادة علم، فواجب ترجيحه» «67» . وقد ذهب الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجمهور العلماء إلى أن الصلاة تصح في داخل الكعبة إذا اتجه المصلي إلى أحد جدرانها، سواء في ذلك النافلة والفريضة. وفرق مالك: «فصحح النفل المطلق دون الفرض والرواتب» «68» . 2- حكم التصوير واتخاذ الصور: وقد رأيت فيما نقلناه من حديث البخاري نفسه أنه صلّى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة حتى أخرج كل ما فيها من صور وأصنام، وقد روى أبو داود عن جابر رضي الله

_ (67) راجع فتح الباري: 3/ 304، وشرح مسلم للنووي: 9/ 82 (68) انظر النووي على مسلم. وطرح التثريب للحافظ العراقي: 5/ 175

عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب، وهو بالبطحاء، أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها حتى محيت الصور، وقد روى البخاري في كتاب الحج عن أسامة أنه صلّى الله عليه وسلم دخل الكعبة فرأى صورة إبراهيم، فدعا بماء فجعل يمحوها. وهذه الأحاديث، في مجموعها، تدل على أنه صلّى الله عليه وسلم، أمر بالرسوم المخطوطة على الجدران فمحيت، كما أمر بالصورة المجسمة القائمة في جوفها فأخرجت، ويبدو أنه حينما دخل بعد ذلك وجد آثارا لتلك الرسوم على بعض جدرانها فدعا بماء وجعل يبالغ في حتها ومحوها. وهذا يدل بوضوح على حكم الإسلام في حق التصوير والصور المجسمة وغير المجسمة. ولننقل لك في ذلك نص الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرحه على صحيح مسلم، قال: «قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد الحرمة، وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره، فصنعته حرام على كل حال، لأن فيه مضاهاة بخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها. أما تصوير الشجر ورحال الإبل وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان، فليس بحرام. هذا حكم نفس التصوير. وأما حكم اتخاذ المصوّر فيه صورة حيوان، فإن كان معلقا على الحائط أو ثوبا ملبوسا أو عمامة ونحو ذلك، مما لا يعد ممتهنا، فحرام. وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها، مما يمتهن، فليس بحرام. ولكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت؟ فيه كلام نذكره فيما بعد إن شاء الله. ولا فرق في هذا كله بين ما له ظلّ وما لا ظلّ له. هذا تلخيص مذهبنا في هذه المسألة. وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم. وقال بعضهم: «إنما ينهى عما كان له ظل ولا بأس بالصورة التي ليس لها» ، وهذا مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكر النبي صلّى الله عليه وسلم الصور فيه «69» ، لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل، مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة» . ثم قال رحمه الله تعالى: «وأجمعوا على منع ما كان له ظل، ووجوب تغييره. قال القاضي إلا ما ورد في اللعب بالبنات (اللّعب) لصغار البنات، ففي ذلك رخصة» «70» .

_ (69) يقصد بذلك ما رواه مسلم عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام فيه صور (أي متخذة ستائر رقيقة عليها صور) فتلون وجهه ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله. (70) النووي على صحيح مسلم: 14/ 81

قلت: ويستشكل الناس حكم الصور الفوتوغرافية اليوم: هل هي في حكم الرسوم والصور التي ترسم وتخطط بمهارة اليد، أم لها حكم آخر. وقد فهم بعضهم من علة التصوير التي ذكرها النووي فيما نقلناه من كلامه أن التصوير الفوتوغرافي ليس في حكم الرسم باليد، إذ العمل الفوتوغرافي لا يقوم على أي مهارة في الصنعة أو اليد، بحيث تتجلى فيها محاولة المضاهاة بخلق الله تعالى، إذ هو يقوم على تحريك بسيط لناحية معينة في جهاز التصوير، يتسبب عنه انحباس الظل في داخله بواسطة أحماض معينة؛ وهي حركة بسيطة يستطيع أن يقوم بها أي طفل صغير والحق أنه لا ينبغي تكلف أي فرق بين أنواع التصوير المختلفة حيطة في الأمر، ونظرا لإطلاق لفظ الحديث. نقول هذا على سبيل التورع والحيطة، أما الخوض في حقيقة حكمه الشرعي فيحتاج إلى بحث ودراسة مفصلة. هذا فيما يتعلق بالتصوير. أما الاتخاذ فلا فرق بين الفوتوغرافي وغيره، فيما يبدو. والله أعلم. ولكن مهما يكن، فإن لنوع الصور أثرا في الحكم على التصوير واتخاذه. فإن كان الشيء المصور من قبيل المحرمات كصور النساء وما شابه ذلك فهو محرم ولا شك، وإن كان مما تدعو المصلحة والحاجة إلى تصويره فربما كانت في ذلك رخصة؛ والله أعلم. ثم إنه ربما يعجب بعض الناس اليوم من أن يكون التصوير أو النحت محرما في الإسلام، مع أنهما يعدّان من المقومات الفنية الكبرى لدى سائر الأمم المتحضرة في هذا العصر! .. وسرّ العجب عند هؤلاء الناس، أنهم يتوهمون الإسلام متفقا مع هذه الحضارة الغربية اليوم، وإنما هو يخالف منها هذه المظاهر الجزئية فيعجبون للتناقض. مع أن الإسلام حينما لا يقر هذه المظاهر من الفن ويحرمها فإنما ذلك لأن للإسلام منطلقا حضاريا آخر مستقلا بذاته لا يتفق ومنطلقات هذه الحضارة التي فرضت نفسها علينا من نافذة التقليد الأعمى، ولم تتقدم إلينا عن طريق المحاكمة العقلية الصافية، فهم يحتجون على الإسلام باسم الفن، مع أن للفن في الحكم الإسلامي مضمونا آخر غير هذا المضمون الذي تلقيناه من فلسفة أخرى لا شأن لها بعقيدتنا. 3- حجابة البيت: وبناء على ما ذكرناه من أنه صلّى الله عليه وسلم أعاد مفتاح البيت إلى عثمان بن طلحة وقال له: «خذوها خالدة مخلدة- يقصد بني عبد الدار وبني شيبة- لا ينزعها منكم إلا ظالم» ، فقد ذهب عامة العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن ينتزع حجابة البيت وسدانته منهم إلى يوم القيامة. قال النووي نقلا عن القاضي عياض: «هي ولاية لهم عليها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتبقى دائمة لهم ولذرياتهم أبدا، ولا ينازعون فيها ولا يشاركون ما داموا موجودين صالحين لذلك. أقول: وهي لا تزال اليوم في أيديهم طبق وصية النبي صلّى الله عليه وسلم وأمره.

سابعا - تأملات في خطابه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:

4- تكسير الأصنام: وإنه لمظهر رائع لنصر الله وعظيم تأييده لرسوله، إذ كان يطعن تلك الآلهة الزائفة المنثورة حول الكعبة بعصا معه، وهو يقول: «جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد» . وقد روى ابن إسحاق وغيره أن كل صنم منها كان مرصصا من أسفله حتى يثبت قائما على الأرض، فما يكاد يطعن الواحد منها بعصاه حتى ينكفئ على وجهه أو ينقلب على ظهره جذاذا!. ولماذا لا تنقلب لإشارته صلّى الله عليه وسلم ولا تتكسر، وقد قلب الله له جبروت قريش خضوعا وذلا، وجعل مكة كلها وبمن فيها تدين للدين الذي جاء به وتذعن للحق الذي نادى به!! .. سابعا- تأملات في خطابه صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح: والآن.. ها هي ذي مكة: البلدة التي هاجر منها قبل ثمان سنوات، خاضعة له مؤمنة برسالته وهديه، وهاهم أولاء، الذين طالما ناصبوه العداء وساموه أصناف الأذية والعذاب، مجتمعون حوله في خشوع وترقب وإطراق، فما الذي سيقوله صلّى الله عليه وسلم لهم اليوم؟!. إن عليه قبل كل شيء أن يبدأ بالثناء على ربه الذي نصره وأيده وصدق وعده، وهكذا استفتح خطابه بقوله: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» . ثم عليه بعد ذلك أن يعلن أمام قريش وغيرهم من سائر الناس، عن المجتمع الجديد وشعاره وهو الشعار الذي يتجلى في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات 49/ 13] وإذن فلتدفن تحت أقدام المسلمين بقايا تلك المآثر الجاهلية العتيقة العفنة، من التفاخر بالآباء والأجداد، والتباهي بالقومية والقبلية والعصبيات، والاعتداد بفوارق الشكل واللغة والأنساب، فالناس كلهم لآدم، وآدم من تراب. لقد طويت منذ اللحظة جاهلية قريش، فلتطو معها سائر عاداتها وتقاليدها، ولتدفن في غياهب الماضي الذي أدبر، ولتغتسل قريش من بقية أدرانها لتنضم إلى القافلة وتسير مع الركب ... فإن الموعد عما قليل هناك.. عند إيوان كسرى، وداخل بلاد الروم، وإن مكة ستصبح بعد اليوم مشرق حضارة ومدنية جديدتين تلبس منهما الدنيا كلها حلة من السعادة الإنسانية الشاملة. وهكذا دفنت فعلا في تلك الساعة بقايا المآثر الجاهلية تحت الأقدام، وبايعت قريش رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الإسلام، على أنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وعلى أنه لا تعاظم إلا بحلّة الإسلام ولا مباهاة إلا بالتمسك بنظامه. وبناء على ذلك ملّكهم الله زمام العالم وأخضع لهم الدنيا.

ثامنا: بيعة النساء وما يتعلق بها من أحكام:

فاعجب بعد ذلك لجيفة منتنة تبعث اليوم من رمسها بعد مضي أربعة عشر قرنا على موتها ودفنها! .. ثامنا: بيعة النساء وما يتعلق بها من أحكام: نأخذ منها ما يلي: أولا: اشتراك المرأة مع الرجل- على أساس من المساواة التامة- في جميع المسؤوليات التي ينبغي أن ينهض بها المسلم. ولذلك كان على الخليفة أو الحاكم المسلم أن يأخذ عليهن العهد بالعمل على إقامة المجتمع الإسلامي بكل الوسائل المشروعة الممكنة، كما يأخذ العهد في ذلك على الرجال. ليس بينهما فيه فرق ولا تفاوت. ومن هنا كان على المرأة المسلمة أن تتعلم شؤون دينها، كما يتعلّم الرجل، وأن تسلك كل السّبل المشروعة الممكنة إلى التسلح بسلاح العلوم والوعي والتنبه إلى مكامن الكيد وأساليبه لدى أعداء الإسلام الذين يتربصون به، حتى تستطيع أن تنهض بالعهد الذي قطعته على نفسها وتنفذ عقد البيعة الذي في عنقها. وواضح أن المرأة لا تستطيع أن تنهض بشيء من هذا إذا كانت جاهلة بحقائق دينها غير منتبهة إلى أساليب الكيد الأجنبي من حولها. ثانيا: علمت مما ذكرناه من كيفية بيعة النّبي صلّى الله عليه وسلم للنساء، أن مبايعتهن إنما كانت بالكلام فقط من غير أخذ الكف، وذلك على خلاف بيعة الرجال، فدلّ ذلك على أنه لا يجوز ملامسة الرجل بشرة امرأة أجنبية عنه، ولا أعلم خلافا في ذلك عند علماء المسلمين، اللهم إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورة كتطبيب وفصد وقلع ضرس ونحو ذلك. وليس من الضرورة شيوع العرف بمصافحة النساء، كما قد يتوهم بعض الناس، فليس للعرف سلطان في تغيير الأحكام الثابتة بالكتاب أو السّنة إلّا حكم كان قيامه من أصله بناء على عرف شائع. فإن تبدل ذلك العرف من شأنه أن يؤثر في تغيير ذلك الحكم، إذ هو في أصله حكم شرطي مرهون بحالة معينة. وليس موضوع البحث من هذا في شيء. ثالثا: دلّت أحاديث البيعة التي ذكرناها على أن كلام الأجنبية يباح سماعه لدى الحاجة، وأن صوتها ليس بعورة، وهو مذهب جمهور الفقهاء ومنهم الشافعية. وذهب بعض الحنفية إلى أن صوتها عورة للأجنبي. وهم محجوجون في ذلك بما صحّ من أحاديث بيعته صلّى الله عليه وسلم للنساء، وأحاديث كثيرة أخرى. تاسعا: هل فتحت مكة عنوة أم صلحا؟ اختلف العلماء في ذلك، فذهب الشافعي وأحمد رضي الله عنهما وآخرون إلى أنه دخلها

غزوة حنين

صلحا، وكان الممثل لقريش في هذا الصلح هو أبو سفيان، وكان الاتفاق والشرط فيه على أنه: من أغلق بابه فهو آمن، ومن أسلم فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، إلا ستة أنفس هدر دمهم. وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه دخلها عنوة، واستدلوا على ذلك بالطريقة التي دخل بها المسلمون مكة، وبما كانوا يحملونه من السلاح وعدة الحرب. واتفق الكل على أنه صلّى الله عليه وسلم لم يغنم منها مالا ولم يسب فيها ذرية، فأما من ذهب إلى أنها فتحت صلحا فسبب ذلك واضح، وأما من ذهب إلى أنها فتحت عنوة فقد قالوا إن الذي منع الرسول صلّى الله عليه وسلم من قسمتها شيء آخر تمتاز به مكة عن بقية البلاد، فإنها دار النسك ومتعبّد الحق وحرم الرّب تعالى، فكأنه وقف من الله تعالى على العالمين، ولهذا ذهب بعض العلماء ومنهم أبو حنيفة إلى منع بيع أراضي ودور مكة المكرمة «71» . هذه خلاصة عن بعض الأحكام والعبر التي تؤخذ من أحداث الفتح الكبير لمكة المكرمة، وحسبنا هذا القدر من ذلك والله أعلم. غزوة حنين وقد كانت في شوال سنة ثمان من هجرة النّبي صلّى الله عليه وسلم. وسببها أن الله جلّ جلاله، حينما فتح على رسوله مكة، ودانت له قريش بعد بغيها وعدوانها، مشت أشراف هوازن وثقيف بعضها إلى بعض، وقد توغر صدورهم للنصر الذي آتاه الله رسوله والمؤمنين. فحشدوا حشودا كبيرة، وجمع أمرهم مالك بن عوف سيّد هوازن، وأمرهم فجاؤوا معهم بأموالهم ونسائهم وأبنائهم، حتى نزلوا بأوطاس (مكان بين مكة والطائف) ، وإنما أمرهم بذلك حتى يجد كل منهم ما يحبسه عن الفرار، وهو الدفاع عن الأهل والمال والولد! .. وأجمعوا المسير إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فخرج إليهم صلّى الله عليه وسلم لست ليال خلون من شوال «72» في اثني عشر ألفا من المسلمين، عشرة آلاف من أهل المدينة، وألفين من أهل مكة «73» . وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي ليذهب فيدخل بين المشركين ويقيم فيهم ويعلم أخبارهم ثم يعود بذلك إليه صلّى الله عليه وسلم. فانطلق حتى دخل بينهم وطاف بمعسكرهم ثم جاءه بخبرهم.

_ (71) راجع الأحكام السلطانية: 164، وزاد المعاد لابن القيم: 2/ 174 (72) طبقات ابن سعد: 4/ 200 (73) طبقات ابن سعد: 4/ 300، وسيرة ابن هشام.

وكان قد ذكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أن عند صفوان بن أمية أدراعا وأسلحة، فأرسل إليه- وهو يومئذ مشرك- فطلب منه تلك الدروع والأسلحة. فقال صفوان: «أغصبا يا محمد؟! .. قال: بل عارية، وهي مضمونة حتى نؤديها إليك. فأعطاه مئة درع بما يكفيها من السلاح» «74» . وعلم مالك بن عوف بمقدم الرسول صلّى الله عليه وسلم، فعبأ أصحابه في وادي حنين وانتشروا يكمنون في أنحائه، وأوعز إليهم أن يحملوا على محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، حملة واحدة. ووصل المسلمون إلى وادي حنين، فانحدروا فيه في غبش الصبح، فما راعهم إلا الكتائب خرجت إليهم من مضايق الوادي وشعبه وقد حملوا حملة واحدة على المسلمين، فانكشفت الخيول وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد منهم على آخر. وانحاز رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات اليمين، ثم نادى في الناس: «إليّ يا عباد الله، أنا النّبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» . روى مسلم عن العباس رضي الله عنه قال: «شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم حنين، فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ولم نفارقه، وهو على بغلة له بيضاء، فلما التقى المسلمون والكفار ولّى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلّى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار. قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكفّها، إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: ناد أصحاب السمرة «75» (وكان رجلا صيّتا) فقلت بأعلى صوتي يا أصحاب السمرة، قال: فو الله لكأنّ عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا: يا لبيك، يا لبيك.. وأقبلوا يقتتلون مع الكفار، وكان النداء: يا للأنصار، وأشرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينظر إلى قتالهم قائلا: الآن حمي الوطيس. ثم أخذ حصيّات من الأرض فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا وربّ محمد» «76» . وقذف الله في قلوب المشركين الرعب، فانهزموا لا يلوي واحد منهم على أحد، واتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون، فما رجع الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وفي هذه الغزوة أعلن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائلا: «من قتل قتيلا له عليه بيّنة فله سلبه» «77» . فروى ابن إسحاق وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لقد استلب أبو طلحة يوم حنين عشرين رجلا وحده، هو قتلهم.

_ (74) رواه ابن إسحاق بسند صحيح، ورواه عن طريقه ابن جرير وابن سيّد الناس. (75) هي الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان عام الحديبية. (76) رواه مسلم، وروى نحوه باختصار البخاري أيضا، وترويه بتفصيل كل كتب السيرة. (77) متفق عليه.

وروى ابن إسحاق وابن سعد بسند صحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم التفت فرأى أم سليم بنت ملحان، وكانت مع زوجها أبي طلحة، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أم سليم! .. قالت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك؟ - وكان معها خنجر- فقال لها أبو طلحة: ما هذا الخنجر معك يا أم سليم؟ قالت: خنجر أخذته إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به» . «ومرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بامرأة وقد قتلها خالد بن الوليد، والناس مجتمعون عليها، فقال ما هذا؟ قالوا امرأة قتلها خالد بن الوليد. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لبعض من معه: أدرك خالدا فقل له إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليدا أو امرأة أو عسيفا» «78» . وفرّ مالك بن عوف ومن معه من رجالات قومه حتى وصلوا إلى الطائف فامتنعوا بحصنها وقد تركوا وراءهم مغانم كثيرة. «وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالغنائم كلها فحبست في الجعرانة، وجعل عليها مسعود بن عمرو الغفاري، واتجه صلّى الله عليه وسلم بمن معه إلى الطائف فحاصروها، وأخذت ثقيف تقذف المسلمين من حصونها بالنبال، فقتل بذلك ناس منهم، وظل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حصاره للطائف بضعة عشر يوما، وقيل بضعة وعشرين يوما. ثم بدا له أن يرتحل. روى عبد الله بن عمرو أنه صلّى الله عليه وسلم أعلن في أصحابه: إنا قافلون إن شاء الله، فقال بعض أصحابه: نرجع ولم نفتتحه؟ فقال لهم: اغدوا على القتال- أي فقاتلوا إن شئتم- فغدوا عليه، فأصابهم جراح، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنا قافلون غدا، فأعجبهم ذلك، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم» «79» . ولما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عائدا، قال لأصحابه: قولوا «آيبون، تائبون، عابدون، لربّنا حامدون» ، وقال له بعض الصحابة: يا رسول الله ادع الله على ثقيف، فقال: «اللهم اهد ثقيفا وأت بهم» «80» . قلت: وقد هدى الله ثقيفا بعد ذلك بقليل، فقد جاء وفدهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة لإعلان إسلامهم.

_ (78) أخرجه أبو داود وابن ماجه، وروى الشيخان بمعناه، والعسيف: الأجير والعبد. (79) متفق عليه. (80) رواه ابن سعد في الطبقات، وأخرجه الترمذي في سننه. وقد رواه ابن سعد عن عاصم الكلابي عن الأشهب، عن الحسن.

أمر الغنائم وكيفية تقسيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها

أمر الغنائم وكيفية تقسيم رسول الله صلّى الله عليه وسلم لها وعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الجعرانة، وفيها السبي والغنائم التي أخذت من هوازن في غزوة حنين، فقسم السبي هناك. ثم قدم عليه وفد من هوازن مسلمين، وسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «معي من ترون، وأحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال، وقد كنت استأنيت بكم (أي أخّرت قسم السبي والغنائم آملا إسلامكم) . وكان النّبي صلّى الله عليه وسلم قد أنظرهم بضع عشرة ليلة حين رجع من الطائف. فقالوا: يا رسول الله خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا فالحسب أحب إلينا، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المسلمين، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإن إخوانكم قد جاؤوا تائبين، وإني رأيت أن أردّ إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيّب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء علينا فليفعل «81» . فنادى الناس جميعا: قد طيّبنا ذلك يا رسول الله. فقال عليه الصلاة والسلام: إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيّبوا، وأذنوا» «82» ، فأعيد إلى هوازن سبيها. وسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفد هوازن- فيما رواه ابن إسحاق- عن مالك بن عوف ما فعل؟ فقالوا بالطائف مع ثقيف، فقال لهم: «أخبروه أنه إن أتى مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مئة من الإبل، فأخبر مالك بذلك، فجاء يلحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أدركه فيما بين الجعرانة ومكة، فردّ عليه أهله وماله وأعطاه مئة من الإبل، وأسلم فحسن إسلامه» . وخصّ النّبي صلّى الله عليه وسلم المؤلّفة قلوبهم- وهم أهل مكة- بمزيد من الغنائم والآعطيات يتألف قلوبهم على الإسلام، فوجد بعض الأنصار في نفوسهم من ذلك وقالوا: «يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم!» «83» . فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأرسل إلى الأنصار فاجتمعوا في مكان أعد لهم، ولم يدع معهم أحدا غيرهم، ثم قام فيهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:

_ (81) أي بأن يردّ السبي بشرط أن يعطى عوضه فيما بعد. (82) رواه البخاري، ورواه الطبري والبيهقي وابن سيّد الناس كلهم عن طريق ابن إسحاق بمزيد من التفصيل. (83) متفق عليه.

«يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألّفكم الله بي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي» ، (كلما قال لهم من ذلك شيئا قالوا بلى، الله ورسوله أمن وأفضل) ، ثم قال: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟» قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المنّ والفضل. فقال صلّى الله عليه وسلم: «أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدّقتم: أتيتنا مكذّبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك» ، فصاحوا: بل المنّ علينا لله ورسوله. ثم تابع رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائلا: «أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم من أجل لعاعة «84» من الدنيا تألّفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، والذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار. وإنكم ستلقون أثرة من بعدي فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» . فبكى القوم حتى اخضلّت لحاهم، وقالوا رضينا بالله ورسوله قسما ونصيبا «85» . وتبعه صلّى الله عليه وسلم ناس من الأعراب يسألونه مزيدا من العطاء، حتى اضطروه إلى سمرة تعلق بها رداؤه، فالتفت إليهم قائلا: «أعطوني ردائي أيها الناس، فو الله أن لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم لا تجدونني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا «86» ، أيها الناس والله ما لي من فيئكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» «87» . وأدركه أعرابي فجذبه صلّى الله عليه وسلم جذبة شديدة من برده، وكان عليه برد نجراني غليظ، حتى أثّرت حاشية الرداء في صفحة عنقه، وقال له، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء «88» . قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الجعرانة معتمرا، فلما فرغ، انصرف راجعا إلى المدينة، واستخلف على مكة عتاب بن أسيد.

_ (84) اللعاعة: بقلة خضراء تستهوي العين، شبّه بها الدنيا.. (85) رواه البخاري ومسلم، وابن إسحاق، وابن سعد، بنصوص متقاربة في الزيادة والنقصان. (86) رواه البخاري. (87) هذه الزيادة أخرجها أبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو. (88) متفق عليه.

العبر والعظات:

العبر والعظات: تعتبر غزوة حنين هذه درسا في العقيدة الإسلامية وقانون الأسباب والمسببات من نوح ذلك الدرس الذي أوحت به غزوة بدر، بل متمما له. فإذا كانت وقعة بدر قررت للمسلمين أن القلة لا تضرهم شيئا في جنب كثرة أعدائهم، إذا كانوا صابرين ومتقين، فإن غزوة حنين قد قررت للمسلمين أن الكثرة أيضا لا تفيدهم إذا لم يكونوا صابرين ومتقين. وكما نزلت آيات من كتاب الله تعالى في تقرير عبرة (بدر) ، فقد نزلت آيات منه أيضا في تقرير العبرة التي ينبغي أن تؤخذ من (حنين) . كان المسلمون في بدر أقل عددا منهم في أي موقعة أخرى ومع ذلك فلم تضرهم القلة شيئا بسبب صدق إسلامهم ونضج إيمانهم وشدة ولائهم لله ولرسوله. وكان المسلمون في حنين أكثر عددا منهم في أي موقعة أخرى خاضوها من قبل. ومع ذلك فلم تنفعهم الكثرة شيئا، بسبب تلك الجماهير التي لم يتمكن الإيمان بعد في نفوسها، ولم يتغلغل معنى الإسلام بعد في أعماق أفئدتها. لقد انضمت تلك الجماهير إلى الجيش بجسومهم وأشكالهم، بينما لا تزال الدنيا وأهواؤها تتخطف أفئدتهم ومستولي على نفوسهم. وهيهات أن يكون لتعداد الجسوم والأشكال أي أثر في النصر والتوفيق. فمن أجل ذلك أدبرت هذه الجماهير وارتدت على أعقابها متفرقة في متاهات وادي حنين، حينما فوجئوا بكمائن العدو تخرج في وجوههم، وربما امتدت ظلال هذا الهلع إلى أفئدة كثيرة من المؤمنين الصادقين أيضا بادئ الأمر. ولكن ما هو إلا أن سمع الأنصار والمهاجرون صيحات رسول الله صلّى الله عليه وسلم ونداءه لهم حتى كرّوا عائدين، يلتفون حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويخوضون معه معركة حامية الوطيس، ولم يكن هؤلاء يزيدون على المئتين! .. ولكن بهؤلاء المئتين عاد النصر إلى المسلمين، ونزلت السكينة على قلوبهم، وهزم الله عدوهم شرّ هزيمة، بعد أن كانوا اثني عشر ألفا فيهم كثير من الأمشاج الذين لم يغنوا عن أنفسهم شيئا! .. وأنزل الله تعالى هذه العظة البليغة في كتابه الكريم: ... وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً، وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة 9/ 25- 27] .

وإليك الآن ما يؤخذ من هذه الغزوة من العظات والأحكام. أولا- بثّ العيون بين الأعداء لمعرفة شأنهم وأخبارهم: سبق أن ذكرنا أن هذا عمل جائز، بل هو واجب إن دعت إليه الحاجة، وهذا ما قام به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في هذه الغزوة، فقد بعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي ليتحسس أخبار العدو ويأتي المسلمين بالخبر عن عددهم وعدّتهم، وهو ما لم يقع فيه خلاف بين الأئمة. ثانيا- للإمام أن يستعير أسلحة من المشركين لقتال أعداء المسلمين: ومثل الأسلحة في ذلك ما يحتاجه الجيش من عدّة الحرب والقتال، ومثل الاستعارة تملكها منهم مجانا أو بثمن، وهذا ما فعله رسول الله في هذه الغزوة، حينما استعار أسلحة من صفوان بن أمية وكان لا يزال مشركا إذ ذاك. وهذا داخل في عموم حكم الاستعانة بالكفار عند الحرب، وكنا قد ذكرنا هذه المسألة عند تعليقنا على غزوة أحد. ويتبين لك الآن أن الاستعانة بالكفار تنقسم إلى نوعين: النوع الأول: الاستعانة بأشخاص منهم للقتال مع المسلمين، وهذا ما مضى الحديث عنه في غزوة أحد، وقد قلنا إذ ذاك إنه جائز إذا دعت الحاجة إليه، واطمأن المسلمون إلى صدق وأمانة أولئك الذين سيقاتلون معهم. النوع الثاني: الاستعانة ببعض ممتلكاتهم كالسلاح وأنواع العدّة، ولا خلاف في أن ذلك جائز بشرط أن لا يكون فيه خدش لكرامة المسلمين، وأن لا يتسبب عن ذلك دخول المسلمين تحت سلطان غيرهم أو تركهم لبعض واجباتهم وفروضهم الدينية. وأنت تجد أن صفوان بن أمية حينما أعار الأسلحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم كان في وضع المغلوب الضعيف وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المركز الأقوى «89» . ثالثا- جرأته صلّى الله عليه وسلم في الحرب: وإنك لتبصر صورة نادرة حقا لهذه الجرأة، عندما تفرقت جموع المسلمين في الوادي وقد ولوا الأدبار، ولم يبق إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسط حومة الوغى حيث تحف به كمائن العدو التي فوجئوا بها. فثبت ثباتا عجيبا امتد أثره إلى نفوس أولئك الفارّين من أصحابه، فعادت إليهم من ذلك المشهد رباطة الجأش وقوة العزيمة. روى ابن كثير في تفسيره خبر غزوة حنين ثم قال: «قلت: وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة. إنه في مثل هذا اليوم، في حومة الوغى، وقد انكشف عن جيشه، وهو مع هذا على بغلة، وليست سريعة الجري ولا تصلح لفرّ

_ (89) انظر زاد المعاد: 2/ 190، ومغني المحتاج: 4/ 221

ولا لكرّ ولا لهرب، وهو مع هذا أيضا يركضها إلى وجوههم وينوّه باسمه ليعرفه من لم يعرفه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين، وما هذا كله إلا ثقة بالله وتوكلا عليه وعلما بأنه سينصره ويتمّ ما أرسله به، ويظهر دينه على سائر الأديان» «90» . رابعا- خروج المرأة للجهاد مع الرجال: فأما خروجها لمداواة الجرحى وسقي العطاش، فقد ثبت ذلك في الصحيح، في عدة غزوات: وأما خروجها للقتال، فلم يثبت في السّنة وإن كان الإمام البخاري قد ذكر في كتاب الجهاد بابا جعل عنوانه: باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال. إذ إن الأحاديث التي ساقها في هذا الباب ليس فيها ما يدل على اشتراك النساء مع الرجال في القتال، قال ابن حجر: «ولم أر في شيء من ذلك (أي الأحاديث الواردة في هذا الموضوع) التصريح بأنهن قاتلن» «91» . أما ما ذكره الفقهاء في حكم خروج المرأة للقتال، فهو أن العدو إن داهم بلدة من بلاد المسلمين وجب على جميع أهلها الخروج لقتاله بما فيهم النساء، إن تأملنا منهن دفاعا وبلاء، وإلا فلا يشرع ذلك «92» ، أما الخنجر الذي كان مع أم سليم فقد كان لمجرد الدفاع عن نفسها كما قالت. وعلى هذا ينزّل ما رواه البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنها استأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال: «جهادكن الحج» ، فالمقصود الذي استأذنت به عائشة رضي الله عنها، إنما هو المشاركة في القتال لا الحضور للمداواة والخدمة وما أشبه ذلك، فهو مشروع، إذا توفرت شروطه، باتفاق. وعلى كل فإن خروج المرأة مع الرجال إلى الجهاد مشروط بأن تكون في حالة تامة من الستر والصيانة، وأن يكون خروجها لحاجة حقيقية إلى ذلك، فأما إذا لم تكن ثم حاجة حقيقية أو كان ذلك يعرضها للوقوع في المحرمات فخروجها محرم لا يجوز إقراره. والمهم أن تعلم أن الأحكام الإسلامية منوطة بعضها ببعض، فلا ينبغي تخيّر ما توحي به الأهواء منها لأسباب معينة مع الإعراض عما يتعلق به من الأحكام والواجبات الأخرى. إن مثل هذا يعتبر بلا ريب مصداقا واضحا لقول الله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة 2/ 85] . ومن المكر القبيح لدين الله تعالى ما يعمد إليه بعض الناس لأغراض دنيوية حقيرة، من

_ (90) تفسير ابن كثير: 2/ 45 (91) راجع فتح الباري: 6/ 51 (92) راجع مغني المحتاج: 4/ 219

التقاط ما قد يطلب منهم من الفتاوى الشرعية بعد أن يشذبوا منها كل القيود والشروط ويقطعوا عنها ما قد يتعلق بها من التتمات، حتى تخرج موافقة للمطلوب خاضعة لأهواء السادة الموحهين. ثم يقدمون هذه الفتاوى إليهم على طبق من المداهنة والنفاق! .. خامسا- تحريم قتل النساء والأطفال والأجراء والعبيد في الجهاد: فقد دلّ على ذلك حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما رأى المرأة التي قتلها خالد بن الوليد، وقد اتفق العلماء والأئمة كلهم على ذلك. ويستثنى منه ما إذا اشتركوا في القتال وباشروا في مقاتلة المسلمين، فإنهم يقتلون مقبلين، ويجب الإعراض عنهم مدبرين. كما أنه يستثنى ما إذا تترس الكفار بصبيانهم ونسائهم، ولم يمكن ردّ غائلتهم إلا بقتلهم، فإن ذلك جائز، وعلى الإمام أن يتبع ما تقتضيه المصلحة «93» . سادسا- حكم سلب القتيل: قلنا إن النبي صلّى الله عليه وسلم أعلن في هذه الغزوة أن من قتل قتيلا فله سلبه، قال ابن سيد الناس: «فصار ذلك حكما مستمرا» . قلت: وهذا متفق عليه، ولكن وقع الخلاف بين الأئمة في نوع هذا الحكم الثابت المستمر، أهو من أحكام الإمامة أم الفتوى؟ أي هل أعلن الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك مبلغا عن الله عز وجل حكما لا خيرة له ولا لأحد فيه كتبليغه أحكام الصلاة والصيام أم أعلنه حكما مصلحيا قضى به بوصف كونه إمام المسلمين يقضي فيهم بما يرى أنه الخير والمصلحة لهم؟ فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه حكم قائم على أساس التبليغ والفتوى وعليه فإن المجاهد له في كل عصر أن يأخذ سلب من قتل على يده من أهل الحرب ولا حاجة في ذلك إلى إذن الإمام أو القائد. وذهب أبو حنيفة ومالك رحمهما الله إلى أنه حكم قضائي قائم على أساس الإمامة فقط، فيتوقف جواز أخذ السلب في كل عصر على إذن إمامه. فإن لم يأذن، أضيفت الأسلاب إلى الغنائم وسرى عليها حكمها «94» .

_ (93) الأحكام السلطانية: 4، مغني المحتاج: 4/ 223 (94) انظر الأحكام السلطانية: 139 والأحكام للقرافي: 38

سابعا- الجهاد لا يعني الحقد على الكافرين: وقد دلّ على ذلك ما ذكرناه من أن بعض الصحابة قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عند منصرفهم من حصار الطائف: «ادع الله على ثقيف، فقال: اللهم اهد ثقيفا وأت بهم» . وهذا يعني أن الجهاد ليس إلا ممارسة لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما هي مسؤولية الناس كلهم بعضهم تجاه بعض، لمحاولة إعتاق أنفسهم من العذاب الأبدي يوم القيامة. ومن ثم فإن الدعاء من المسلمين لا ينبغي أن يتجه إلى غيرهم إلا بالهداية والإصلاح، لأن هذه الغاية هي الحكمة من مشروعية الجهاد. ثامنا- متى يتملك الجند الغنائم؟ ذكرنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لوفد هوزان حينما جاؤوه مسلمين: لقد استأنيت بكم، أي أخرت قسم الغنائم آملا في إسلامكم. وهذا يدلّ على أن الجند إنما يملكون الغنائم بعد تقسيم الحاكم أو الإمام لها، فمهما دامت قبل القسمة فهي لا تعتبر ملكا للمقاتلين. وتلك هي فائدة تأخير النبي صلّى الله عليه وسلم لتقسيمها بين المسلمين. كما أن هذا يدل أيضا على أن للإمام أن يعيد الغنائم إلى أصحابها إذا جاؤوه مسلمين إذا لم يكن قد قسمها بين الجند، وقد كان هذا ما يفضله رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ويدل موقفه صلّى الله عليه وسلم من وفد هوازن وأموالهم التي غنمها المسلمون، على أن ما قسم من هذه الأموال بينهم، لا يجوز للإمام أن يسترد شيئا منه إلا بطيب نفس من صاحبه دون أن يتأثر بأي جبر أو إكراه. وتأمل في مدى دقته صلّى الله عليه وسلم في أمر هذا الاستئذان من أصحاب الأموال فإنه عليه الصلاة والسلام لم يشأ أن يكتفي بصيحاتهم الجماعية المرتفعة: قد طيبنا ذلك يا رسول الله (أي طابت بإرجاعه نفوسنا) ؛ بل أصرّ على أن يعلم أمر هذا الرضى ويستوثق منه بواسطة السماع من كل شخص على حدة أو السماع من وكلائهم وعرفائهم. وهذا يعني أنه ليس للحاكم أن يستعمل شيئا من صلاحياته وسلطانه في حمل الناس على أن يتنازلوا عن شيء من حقوقهم وممتلكاتهم المشروعة، بل إن الشارع لم يعطه شيئا من هذه الصلاحيات والامتيازات، حتى ولو كان رسولا. وتلك هي العدالة والمساواة الحقيقية الرائعة! .. فلتدفن نفسها في الرغام كل دعوى باطلة تريد أن تخب- بالألفاظ والشعارات- وراء هذه المثل والقيم الإلهية العظيمة. تاسعا- سياسة الإسلام نحو المؤلفة قلوبهم: لقد رأيت أن النبي صلّى الله عليه وسلم اختص أهل مكة الذين أسلموا عام الفتح بمزيد من الغنائم عن

غيرهم، ولم يراع في تلك القسمة قاعدة المساواة الأصلية بين المقاتلين. وهذا العمل منه صلّى الله عليه وسلم من أهم الأدلة التي استدل بها عامة الأئمة والفقهاء على أنه يجوز للإمام أن يزيد في عطاء من يتألف قلوبهم على الإسلام بالقدر الذي تدعو إليه مصلحة تألف قلوبهم، بل يجب عليه ذلك عندما تدعو إليه المصلحة، ولا مانع من أن يكون هذا العطاء من أصل الغنائم. ومن هنا كان لهؤلاء الناس سهم خاص باسمهم في الزكاة، يجتمع تحت يد الحاكم ليعطي منه (كلما دعت الحاجة) لمن يرى أن المصلحة الإسلامية تدعو إلى تألف قلوبهم. عاشرا- فضل الأنصار ومدى محبة الرسول صلّى الله عليه وسلم لهم: صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ قال: «إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم» ، فقد أراد الشيطان أن يبث في نفوس جماعة من الأنصار معنى النقد على السياسة التي اتبعها عليه الصلاة والسلام في توزيع الغنائم، وربما أراد لهم الشيطان أن يتصوروا أن النبي صلّى الله عليه وسلم قد أدركته محبة قومه وبني وطنه فنسي في جنبهم الأنصار! .. فماذا قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام لما أخبر بذلك؟ إن الخطاب الذي ألقاه عليهم جوابا على هذه الوساوس، ليفيض بمعاني الرقة والذوق الرفيع، ومشاعر المحبة الشديدة للأنصار، وهو يفيض في الوقت ذاته بدلائل التألم من أن يتهم من قبل أحب الناس إليه بنسيانهم والإعراض عنهم. عد إلى خطابه هذا فتأمله.. فسترى أنه قد ضمنه أدق خفقات قلبه وألطف إحساساته!. ولقد لا مست هذه الرقة والخفقات مشاعر الأنصار فهزتها هزا، ونفضت منها ما كان قد علق بها من الوساوس والهواجس، فارتفعت أصواتهم بالبكاء فرحا بنبيهم وابتهاجا بقسمتهم ونصيبهم. فما المال وما الشياه والغنائم، في جنب حبيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ يعودون به ويعود بهم إلى ديارهم ليكون المحيا والممات فيما بينهم؟ وأي برهان منه عليه الصلاة والسلام ينطق بالوفاء وخالص المحبة والود أكثر من هذا.. أي أكثر من أن يدع وطنه ومسقط رأسه ليقضي بقية أيامه فيما بينهم؟! ثم متى كان المال في ميزان رسول الله صلّى الله عليه وسلم دليلا على التقدير والحب؟! إنه أعطى قريشا كثيرا من الأموال والغنائم.. فهل خصّ نفسه بشيء من ذلك أم جعل نصيبه منه كنصيب الأنصار؟ لقد عمد إلى (الخمس) الذي جعله الله خاصا برسوله يضعه حيث شاء، فوزعه بين أولئك الأعراب الذين كانوا من حوله. وتأمل فيما قاله لهم، وهم يحدقون به ويستزيدون في العطاء: «أيها الناس، والله ما لي من فيئكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» .

غزوة تبوك

صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله وعلى أصحابك البررة من الأنصار والمهاجرين. وجمعنا تحت لوائك المحمود، وجعلنا مع أولئك الذي سيلقونك على الحوض يوم القيامة. غزوة تبوك وسببها على ما رواه ابن سعد وغيره، أنه بلغ المسلمين من الأنباط الذين كانوا يتنقلون بين الشام والمدينة للتجارة، أن الروم قد جمعت جموعا وأجلبت إلى جانبها لخم وجذام وغيرهم من نصارى العرب الذين كانوا تحت إمرة الروم، ووصلت طلائعهم إلى أرض البلقاء. فندب النبي صلّى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج، وروى الطبراني من حديث ابن حصين أن جيش الروم كان قوامه أربعين ألف مقاتل «95» . وكان ذلك في شهر رجب سنة تسع من الهجرة، وكان الفصل صيفا، وقد بلغ الحر أقصاه، والناس في عسرة من العيش، وكانت ثمار المدينة- في الوقت نفسه- قد أينعت وطابت، فمن أجل ذلك أعلن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الجهة التي سيتجهون إليها، وذلك على خلاف عادته في الغزوات الأخرى. قال كعب بن مالك: «لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حرّ شديد واستقبل سفرا ومفازا وعدوا كثيرا، فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم» «96» . وهكذا، فقد كانت الرحلة في هذه الغزوة ثقيلة على النفس، فيها أقسى مظاهر الابتلاء والامتحان، فأخذ نفاق المنافقين يعلن عن نفسه هنا وهناك، على حين أخذ الإيمان الصادق يعلن عن نفسه في صدور أصحابه. أخذ أقوام من المنافقين يقولون لبعضهم: لا تنفروا في الحر.. وجاء آخر «97» يقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: ائذن لي ولا تفتني، فو الله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر. فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأذن له فيما أراد «98» وعسكر عبد الله بن أبي بن سلول في ضاحية بالمدينة مع فئات من أصحابه وحلفائه، فلما سار النبي صلّى الله عليه وسلم، تخلف بكل من معه!.

_ (95) انظر طبقات ابن سعد: 3/ 218، وفتح الباري: 8/ 87 (96) متفق عليه. (97) هو الجد بن قيس. (98) رواه ابن إسحاق وابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس، ورواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، وانظر الإصابة: 1/ 230

ومما نزل في ذلك قوله تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة 9/ 81] وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي، أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [التوبة 9/ 49] . أما المؤمنون فأقبلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من كل صوب، وكان قد حض أهل الغنى على النفقة وتقديم ما يتوفر لديهم من الدواب للركوب فجاء الكثيرون منهم بكل ما أمكنهم من المال والعدة، وجاء عثمان رضي الله عنه بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها «99» وبألف دينار نثرها في حجره، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يضر عثمان ما فعل بعدها» «100» . وجاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله، وجاء عمر بنصف ماله، روى الترمذي عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: «سمعت عمر بن الخطاب يقول: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نتصدق ووافق ذلك عندي مالا، فقلت اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يوما. قال: فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شيء أبدا» «101» . وإذا صح هذا الحديث فلا بد أن يكون هذا الندب بمناسبة غزوة تبوك كما قال ذلك فريق من العلماء. وأقبل رجال من المسلمين أطلق عليهم (البكاؤون) يطلبون من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ظهورا يركبونها للخروج إلى الجهاد معه، فقال لهم: «لا أجد ما أحملكم عليه» . فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا لديهم ما ينفقونه في أسباب خروجهم للغزو. وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما يقارب ثلاثين ألفا من المسلمين «102» ، وتخلف عنه نفر من المسلمين عن غير شك ولا ارتياب، منهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وأبو خيثمة. وكانوا- كما قال ابن إسحاق- نفر صدق لا يتهم في إسلامهم. غير أن أبا خيثمة لحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم في تبوك.

_ (99) رواه الطبراني وأخرجه الترمذي والحاكم والإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن خباب، والأحلاس جمع حلس وهو الكساء الذي يوضع على ظهر البعير. (100) رواه الترمذي في سننه والإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الرحمن بن سمرة. (101) رواه الترمذي والحاكم وأبو داود. وفي سنده هشام بن سعد عن زيد بن أسلم وقد ضعفه الإمام أحمد والكسائي. واعتبره الحافظ ابن حجر من المرتبة الخامسة، فقال عنه: صدوق له أوهام، إلا أن الذهبي نقل عن أبي داود أنه أثبت الناس إذا روى عن زيد بن أسلم كما في هذا الحديث ونقل عن الحاكم أن مسلما أخرج له في الشواهد. (102) روى ذلك ابن سعد وابن إسحاق وغيرهما.

روى الطبراني وابن إسحاق والواقدي أن أبا خيثمة زجع، بعد أن سار رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعدة أيام، إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين (أي خيمتين) لهما في بستان له، قد رشّت كل واحدة منهما عريشها وبردت له ماء فيه وهيأت له فيه طعاما، فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: «رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الشمس والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم؟! ما هذا والله بالنصف. ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم فهيأتا له زادا، ثم قدّم ناضحة فارتحله وخرج في طلب رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك، ولما دنا أبو خيثمة من المسلمين قالوا: هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كن أبا خيثمة» ! فقالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة، فلما أناخ أقبل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال له عليه الصلاة والسلام: أولى لك يا أبا خيثمة! .. ثم أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخبر فدعا له صلّى الله عليه وسلم بخير» . وعانى المسلمون في هذه الرحلة جهودا شاقة وأتعابا جسيمة. روى الإمام أحمد وغيره أن الرجلين والثلاثة كانوا يتعاقبون على بعير واحد، وأصابهم عطش شديد حتى جعلوا ينحرون إبلهم لينفضوا أكراشها ويشربوا ماءها «103» . وروى الإمام أحمد في مسنده، عن أبي هريرة قال: «لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادّهنا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: افعلوا، فجاء عمر فقال: يا رسول الله إنهم إن فعلوا قل الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ثم ادع لهم بالبركة لعلّ الله أن يجعل فيه ذلك، فدعا عليه الصلاة والسلام بنطع فبسطه، ثم دعاهم بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف الذرة، والآخر بكف التمر والآخر بالكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، ثم دعا عليه بالبركة، ثم قال لهم: خذوا في أوعيتكم قال: فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا من المعسكر وعاء إلا ملؤوه وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت منه فضلة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاكّ فتحجب عنه الجنة» «104» . ولما انتهوا إلى تبوك، لم يجدوا هناك كيدا ولا قتالا، فقد اختفى وتفرق أولئك الذين كانوا قد تجمعوا للقتال. ثم أتاه يوحنه حاكم (أيلة) فصالح رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الجزية، وأتاه أهل جرباء وأذرح فأعطوه أيضا الجزية، وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك لهم كتابا.

_ (103) ورواه ابن سعد في طبقاته 3/ 220 (104) رواه أحمد في مسنده، وأورده الحافظ ابن كثير في تاريخه، ثم قال: ورواه مسلم عن أبي كريب عن أبي معاوية عن الأعمش.

أمر المخلفين

ومرّ الجيش مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالحجر (وهي منازل ثمود) فقال لأصحابه: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين، ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي «105» . ثم إن النبي صلّى الله عليه وسلم قفل راجعا إلى المدينة، فلما أشرفوا على المدينة قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: «هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه «106» وقال لأصحابه: إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم. قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر» «107» . وقدم المدينة عليه الصلاة والسلام في رمضان من السنة نفسها، فيكون قد غاب قرابة شهرين.. أمر المخلفين ولما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد، فصلّى فيه ركعتين، ثم جلس للناس فجاءه المخلفون وطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا. فقبل منهم علانيتهم واستغفر لهم، وأرجأ أمر كعب بن مالك وصاحبيه إلى أن نزلت آيات بقبول توبتهم. وقد روى كعب رضي الله عنه خبره في ذلك- في حديث طويل رواه البخاري ومسلم- وجاء فيه قوله: «كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة.. وطفقت أغدو لكي أتجهز مع المسلمين، فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه (أي لن يعوقني شيء عن سرعة التجهز) فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجدّ ولم أقض من جهازي شيئا. ولم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو (أي خرجوا وفاتوا) وهممت أن أرتحل فأدركهم- وليتني فعلت- فلم يقدّر لي ذلك. فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلم فطفت فيهم، أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموسا بنفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء.. ولما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همّي، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول بماذا سأخرج من سخطه غدا؟! .. واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، ولما قيل إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أقبل، زاح عني الباطل وأجمعت أن أصدقه، فجئته، فلما سلمت عليه تبسّم تبسّم المغضب، ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت

_ (105) متفق عليه. (106) متفق عليه. (107) متفق عليه، البخاري: 5/ 136، ومسلم: ز/ 49

ظهرك؟ فقلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عفو الله. والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت عنك!. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. فقمت، وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني يؤنبونني (أي يعتبون عليه أنه لم يعتذر كالآخرين) فقلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ فقالوا: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية. فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدرا لي فيهما أسوة.. ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أي الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكّرت لي الأرض فما هي بالتي أعرفها فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه أسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليّ، وإذا التفتّ نحوه أعرض عني. وبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطيّ من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إليّ كتابا من ملك غسان، فإذا فيه: «أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله في دار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك» ، فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرته بها. حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك. فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.. فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كلامنا. فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا. فبينا أنا جالس على الحال الذي ذكر الله (قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت) سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر. فخررت ساجدا، وعرفت أنه قد جاء فرج، وآذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون.. ولما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة. ودخلت المسجد، فإذا

العبر والعظات:

رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس حوله الناس فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك. قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله. فقلت: يا رسول الله! إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. فقلت: يا رسول الله إنما نجاني الصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت. وأنزل الله تعالى على رسوله: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ إلى قوله: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ «108» [التوبة 9/ 117- 119] » . العبر والعظات: أولا- كلمة على هامش هذه الغزوة: لقد أخذ الإسلام يستقر في الجزيرة العربية، واستولى سلطانه على الأفئدة والنفوس وهذا ما كانت نصارى الروم تراقبه من بعيد في خوف وقلق. فالرومان، لم يعانقوا النصرانية إيمانا منهم بها، وإنما كانوا قد اتخذوها ذريعة إلى استعمار شعوب تلك المنطقة، ولأجل ذلك تلاعبوا بها كما أرادوا، وغيروا منها وبدلوا، فخلطوا هديها بوثنيتهم وأضافوا إلى ما فيها من الحق الكثير من باطلهم. والإسلام- وهو الدين الذي تكررت الدعوة إليه على لسان جميع الرسل والأنبياء- إنما جاء ليخرج به الناس عن كل سلطان غير سلطان الله تعالى، فلا يكون لأحد عليهم من سيادة ولا سلطان ولا حكم إلا سلطان الله وحكمه. وهم- وقد علموا من النصرانية كل حقائقها- أدرى الناس بخطورة هذه الرسالة الأخيرة وما تحمل في طيها من تهديد لحكم الطغاة وسلطان المتسلطين وبغي الباغين. فلا غرو أن يكون هذا الدين- وقد استقر أمره في الجزيرة العربية- مصدر قلق وتخوف لدى طغاة الروم وأتباعهم الذين ما دخلوا النصرانية إلا ظاهرا، وما أرادوا من ذلك إلا ضمان بسط سلطانهم على المستضعفين. فمن أجل ذلك تلقوا خبر فتح مكة ونبأ انتصار الإسلام في الجزيرة العربية بالذعر، ثم أخذوا يجمعون جموعهم بين الشام والحجاز، علّهم يقفون في وجه هذا الدين الذي سيكون في انتشاره القضاء عليهم وعلى سلطانهم.

_ (108) البخاري ومسلم، باختصار.

ثانيا - العبر والأحكام:

ولقد كان من مقتضى هذا الاهتمام لدى الروم، أن يكون الاشتباك بينهم وبين المسلمين عظيما وخطيرا. ولكن حكمة الله عز وجل تشاء أن يكتفى من جهاد المسلمين في هذه الغزوة بالجهد العظيم الذي بذلوه والمشقات الجسيمة التي تحملوها، إذ قطعوا تلك المسافات المضنية بين المدينة وتبوك ذهابا وإيابا، ولقد كانت- كما رأيت- رحلة عجيبة في عذابها وأتعابها ومشاهد العسر التي فيها.. وما الجهاد الذي أمر الله به؟ هل هو إلا بذل النفس والجهد في سبيل شرعة الله ودينه؟ .. إن هذا هو كل ما يريد الله من عباده، ومعاذ الله أن يكون بحاجة من وراء ذلك إلى معونتهم لردّ كيد الكافرين أو إدخال معنى الهداية والإيمان في قلوب الجاحدين. وقد بذل (جيش العسرة) في هذه الغزوة العسيرة المضنية، المال والجهد وضحّوا بالراحة في أجمل فرصها، واستبدلوا به العذاب في أقسى صوره وأشكاله. ولقد برهنوا بذلك على صدق إيمانهم بالله ومحبتهم له، فحقّ لهم النصر والتأييد، وأن يكفيهم الله القتال، برعب من لدنه يقذفه في قلوب أعدائهم، فيتفرقون عنهم ويخضعون لحكم الله فيهم. وهكذا فقد كان يسر خضوع الروم لحكم الجزية وقيودها، في مقابل العسر الذي تحمله المسلمون مع رسولهم صلّى الله عليه وسلم في مرضاة ربهم جلّ جلاله. ثانيا- العبر والأحكام: وإنك لتجد في هذه الغزوة دروسا وأحكاما كثيرة، نجمل منها ما يلي: 1- (أهمية الجهاد بالمال) ، فالجهاد ضد أعداء الإسلام ليس محصورا بالخروج للغزو، بل ولا يكفي منه ذلك وحده. فحيثما توقف أمر الجهاد بالقتال والسلاح على نفقات ومال، وجب على المسلمين كلهم أن يقدموا من ذلك ما يقع موقعا من الكفاية، بشرط أن يكون ذلك بنسبة ما يتفاوتون به من كفاية وغنى. ولقد قرر الفقهاء أن الدولة إذا ما اضطرت إلى النفقات للجهاد، كان لها أن تفرض على الناس حاجتها من ذلك بالشكل الذي ذكرناه، غير أنهم اتفقوا على أن ذلك مشروط بأن لا يكون في أموال الدولة ما يوضع في نفقات كمالية أو غير مشروعة. إذ أن أموال الناس ليست أولى من أموال الدولة بأن تصرف إلى حاجات الجند والقتال. هذا، ولقد رأيت كيف أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قد جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام بثلاثمائة بعير بكل ما تحتاجه من الأقتاب والأجلاس وبمئتي أوقية من الفضة حتى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم» . وفي هذا بيان لفضل عثمان رضي الله عنه. بل وإن في هذه الكلمة التي قالها عنه عليه الصلاة والسلام: «ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم» زجرا وتأديبا لكل من أراد أن يطيل لسانه على عثمان من أمثال أولئك الذين يتشدقون بالنقد على

سياسته أيام خلافته، يكتبون الصفحات الطوال عما يسمونه بمظهر الضعف أو التحيز في سياسته، مقتفين في ذلك ما يطيب للمستشرقين القيام به من إمطار التاريخ الإسلامي بوابل النقد والكذب والتضليل تحقيقا لغاية مرسومة معروفة يتطلعون إليها ويغذون السير للوصول إليها. إن هؤلاء الذين يضعون أنفسهم في أبراج عالية من النزاهة النادرة، لينطقوا من هناك بأحكامهم على عثمان وسياسته، هم أحوج ما يكونون إلى أن يتحسسوا أمراضهم المختلفة ثم يداووها بدراسة شيء من مناقب هذا الخليفة العظيم والاهتداء بسيرته وسلوكه. ومهما يكن من شأن عثمان في خلافته، فأي بقية من الأدب توجد عند من يسمع كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم» ، ثم يمضي بعد ذلك منتشيا بنقده وتسفيه سياسته؟!. 2- (كلمة عن حديث أبي بكر وما اختلقه البعض من زيادة فيه، ليسوغوا بها بدعة من أهم البدع المحرمة) . ذكرنا الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود، عن تقديم أبي بكر ماله كله للرسول صلّى الله عليه وسلم، وأنه أجابه عليه الصلاة والسلام حينما سأله، ما أبقيت لأهلك: «أبقيت لهم الله ورسوله» . وقد اختلق بعضهم زيادة على الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: «يا أبا بكر إن الله راض عنك فهل أنت راض عنه؟. فاستفزّه السرور والوجد، وقام يرقص أمام رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائلا: كيف لا أرضى عن الله؟!» .. ثم ذهبوا يجعلون من هذه الزيادة المختلقة دليلا على مشروعية الرقص والدوران في حلق الذكر على نحو ما يفعل (المولوية) وطوائف أخرى من المتصوفة. فأما الدليل الذي يستندون إليه، فهو دليل مختلق كما ذكرت، ولم يثبت في حديث صحيح ولا ضعيف أن أبا بكر قام بفعل ذلك بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كل ما ورد في الأمر هو ما ذكرته من نص حديث الترمذي والحاكم وأبي داود، على ما فيه من احتمالات الضعف التي بينتها في تخريج الحديث. وأما المدلول، فلا نقول: إنه لم يثبت دليل عليه، بل الحق الذي ينبغي أن يقال: إن الدليل قد ثبت على حرمته. وإليك بيان ذلك. ذهب الجمهور إلى أن الرقص محرم، إن كان مع التثني، واتفقوا على أنه مكروه إن كان بدون ذلك، فإدخال الرقص- مهما كانت كيفيته- في ذكر الله تعالى، إقحام لما هو مكروه أو محرم في عبادة مشروعة، وتحويل له بذلك إلى عبادة يتقرب بها إلى الله دون دليل عليها، أو على أنها قد خرجت عن الكراهة أو التحريم.

أضف إلى ذلك ما يتلبس به حال هؤلاء (الذاكرين) من التفوه بأصوات ليست من ألفاظ الذكر في شيء، وإنما هي حمحمات وهمهمات تصّاعد من حلوقهم، ليتكون منها دويّ متناسق معين ينسجم مع تواقيع المنشدين والمطربين، فتحدث بذلك مزيدا من النشوة والطرب في النفوس. فكيف يكون هذا ذكرا لله تعالى كالذي أمر الله به والذي كان يفعله الرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه؟! .. وكيف يكون هذا العمل عبادة، والعبادة- كما تعلم- هي ما شرعه الله تعالى في كتابه أو سنة رسوله لا يزاد عليها ولا ينقص منها؟! .. واعلم أن هذا الذي نقوله، هو ما أجمع عليه علماء الشريعة الإسلامية في مختلف العصور، لم يشذّ عنه إلا قلة مبتدعة شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله فكم من محرمات استحلوها ومن موبقات ارتكبوها، باسم الوجد أو التواجد آنا، وباسم الانعتاق من ربقة التكاليف آنا آخر. وإليك ما يقوله في هذا إمام من أجل أئمة المسلمين دينا وعلما وورعا وتصوفا وهو العز بن عبد السلام: (وأما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة لرعونة الإناث، لا يفعلها إلا راعن أو متصنع كذاب، كيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبّه وذهب قلبه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» ولم يكن واحد من هؤلاء الذين يقتدون بهم يفعل شيئا من ذلك) «109» . ويقول مثل هذا الكلام ابن حجر أيضا في كتابه: كف الرعاع، وابن عابدين في حاشيته المشهورة المعتمدة عند السادة الأحناف، مفرقا بين الوجد القاهر والتواجد المصطنع. أما الإمام القرطبي فيتوسع في التحذير من هذه البدعة وبيان حرمتها توسعا كبيرا. وإذا أردت أن تقف على كلامه في ذلك فارجع إلى تفسيره، عند قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ، وقوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا [الإسراء 17/ 37] . ولولا الإطالة فيما ينبغي الاختصار فيه لسردت لك نصوص كثير من الأئمة في هذا الشأن، لتعلم أن هذا هو الحق الذي اتفق عليه عامة الأئمة من سلف وخلف لا خلاف فيه ولا نزاع «110» .

_ (109) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 2/ 186 (110) قد يعجب البعض من أني أنكر على الوهابية الكثير من آرائهم، مع ما أفعله هنا من الانحياز إليهم، لاستنكار ما يراه الآخرون. ولا ريب أن هذا العجب إنما هو نتيجة تصور خاطئ لما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم. فليس من الإسلام في شيء أن يتحول لدينا البحث العلمي في العقل إلى عصبية مستحكمة في النفس. وهيهات أن يكون من الإسلام في شيء ما يفعله بعضهم من الانتصار لما عرف به من مذهب ورأي، مصطنعا بذلك الانتصار للإسلام، وهو يعلم في قرارة

ومن الواضح أنه يستثنى من عموم ما ذكرناه، ما إذا خرج الذاكر عن طوره بأن سيطرت عليه حال لم يملك معها شعوره وزمام نفسه، إذ لا يتعلق به حكم تكليفي في ذلك الطور، وعليه يحمل ما قد قيل من أن العز بن عبد السلام نفسه قد هاج مرة فقام يقفز، إذ كيف يفعل ذلك باختيار وقصد وهو صاحب النص الذي نقلناه عن كتابه؟ «111» . 3- (المنافقون: طبيعتهم ومدى خطورتهم على الإسلام) ، نال أمر هذه الغزوة من حديث كتاب الله عنها وتعليقه عليها ما لم تنله أي غزوة أخرى، وإنك لتقرأ عنها في سورة التوبة آيات بل صفحات كثيرة. وتركز معظم هذه الآيات على بيان أهمية الجهاد بالنفس والمال في سبيل الله وأنه الدليل الوحيد على صدق إسلام المسلم، وأنه أهم فارق بين المؤمنين والمنافقين، وأن على المسلمين- إذا كانوا مسلمين- أن لا يركنوا إلى الدعة والراحة وأن يستهينوا بما قد يتعرضون له من عذاب وشدة في سبيل الله تعالى. كما أطالت في الحديث عن المنافقين وفضح نواياهم والخفيّ من مقاصدهم. والدرس الذي في ذلك هو بيان خطورة أمر النفاق والمنافقين على المسلمين في كل عصر، وإيضاح أن الإسلام دعوى لابدّ أن يصدقها الجهاد والتعرض للمحن، حتى يتميز الصادق عن الكاذب، ويمحّص إيمان المؤمنين عن دجل المنافقين. ولقد كانت تبوك أعظم مادة لهذا الدرس

_ نفسه أنه إنما ينتصر للرأي الذي أصبح جزءا من شخصيته وكيانه بين الناس. لا ينبغي للمسلم (لدى البحث العلمي) ، أن يضع أي شيء نصب عينيه إلا كتاب الله وسنة رسوله، ولا يجوز له أن يدع أي سلطان من دون سلطانهما يتسلل بالتأثير على نفسه وفكره. ولا ينبغي، إذا التزم هذا المسلم الحق، أن يضيق أحد من المسلمين بكلامه، أو أن يغضب لأحكامه. وإذا كنت قد بحثت في هذا الكتاب مسائل انتهيت فيها إلى مخالفة بعض الناس، فليس ذلك- يشهد الله- حبا بمخالفتهم ولكن حبا بالتزام كتاب الله وسنة رسوله، وربما أخطئ في الحكم والاستنتاج ولكن هذا هو الدافع. وإذا كنت أبحث الآن في مسألة انتهيت فيها إلى موافقة أولئك البعض ومخالفة كثير من عوام المسلمين أو المتصوفة فيهم، فليس ذلك أيضا حبا بمخالفتهم أو شهوة لنقدهم، ولكن رغبة خالصة في أن لا أحيد عن كتاب الله وسنة رسوله، مع تقديري لكثير من هؤلاء السادة، ويقيني بصلاحهم وصفاء نياتهم. وعذري أن هذا التقدير لا يسوغ تجاوز النصوص أو القواعد أو التأويل لها. ولو بحث المسلمون عن الحق الذي يجب اتباعه، عن طريق هذا الميزان، لما قامت فئات تتخاصم وتتجافى عن بعضها رغم ما قد يقع بينها من خلاف في الرأي والاجتهاد، ولكن العصبية والغلو هما اللذان أوديا بالمسلمين إلى هذا الذي نراه. يحاسب المتصوفة خصومهم على ما يرونه عندهم من تطرف وغلو، ولا يحاسبون أنفسهم على ما يتلبسون به هم من الغلو والبدع التي لا وجه في الإسلام يسوغها!. أفهذا هو الحق الذي ينبغي أن يكون؟ .. إن الغلو في الأمر لا يأتي إلا من غلو آخر يقابله فمن أراد الانتصار لدين الله وهدي رسوله فليقطع دابر كل غلو واختراع وبدعة، فإن ذلك خير علاج لما قد يوجد من غلو معاكس لدى الآخرين. (111) انظر كتاب كف الرعاع: 48 على هامش الزواجر لابن حجر.

القرآني، إذ كان اختبار المسلمين بها أعظم اختبار إلهي كشف اللثام عن النفاق في المدينة وميّز المنافقين عن المسلمين الصادقين أعظم تمييز، ثم نزلت الآيات المتوالية في كتاب الله تعالى تضبطهم بجرائمهم وتعلن للمسلمين سرائرهم وتحذرهم منهم في كل زمان ومكان. فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ، وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ، فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ، فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ [التوبة 9/ 81- 83] . وأنت إذا رجعت إلى ما قبل هذه الآيات وما بعدها، رأيت فيها اهتماما غريبا بشأن المنافقين والحديث عنهم والتحذير منهم. وما ذلك إلا أن المسلمين لا يؤتون، في معظم ما يصيبهم من نكبات، إلا من قبل المنافقين، فلا يتسنى لعدوهم أن يتسلل إليهم إلا من خلال ثغرات النفاق والمنافقين، ولا ينخدع المسلمون بعدوّ لهم كما ينخدعون للمنافقين منهم، ولا يصابون بعدوى الضعف والخبال والتفرق كما يصابون به من قبل المنافقين، وصدق الله تعالى إذ يقول: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة 9/ 47] . ومكمن الخطورة فيهم، أنهم إنما يحاربون الإسلام باسمه، ويكيدون له بسلاحه، يتلاعبون بما فيه من أحكام باسم الإصلاح والمرونة والتمسك بروح التشريع ويستخرجون منه الفتاوى الملفقة المصطنعة تحقيقا لأمانيهم أو تقربا إلى سادتهم وأولياء نعمتهم. والعظة التي ينبغي أن يأخذها المسلمون من هذا الدرس، هو أن يحذروا عدوّهم الخارجي مرة على أن يحذروا المنافقين فيهم ألف مرة، وأن يحاربوا أول ما يحاربون.. ما قد يشيع بينهم من النفاق. 4- (الجزية وأهل الكتاب) ، في هذه الغزوة دليل على مشروعية أخذ الجزية من أهل الكتاب، وأنهم يحرزون بذلك دماءهم وأموالهم، فقد رأيت أن الروم اختفوا وتفرقوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حينما وصل إلى تبوك، وجاءه متنصرة العرب فصالحوه صلّى الله عليه وسلم على الجزية، وكتب لهم عليه الصلاة والسلام بذلك كتابا. والجزية ضريبة مالية تقوم بالنسبة لأهل الكتاب مقام الزكاة بالنسبة للمسلمين والفرق الذي بينها وبين الزكاة أن الجزية تقوم على أساس قضائي مجرد على حين تقوم مشروعية الزكاة على أساس من الديانة والقضاء معا.

ويعتبر الخاضعون لحكم الجزية داخلين في حكم الإسلام القضائي في المجتمع الإسلامي وإن لم يدينوا به عقيدة في نفوسهم. ولذلك فإن عليهم أن لا يجاهروا في مخالفة شيء من قوانينه وأحكامه العامة إلا ما يتدينون من ذلك بخلافه في زعمهم كشرب الخمر ونحوه. هذا، والفرق بين الكتابيين وغيرهم من الملاحدة والوثنيين، في أمر الجزية، هو أن الكتابيين يمكنهم أن ينسجموا مع المجتمع الإسلامي ونظامه العام مع احتفاظهم بما يدينون. أما الملاحدة والوثنيون وأشباههم فلن تجد بينهم وبين المجتمع الإسلامي قدرا مشتركا يضمن الانسجام، إذ لا يمكن لفكرة الإلحاد والوثنية أن تلتقي مع الحكم والنظام الإسلامي في أي فرع من الفروع، لقيام التناكر والتخالف بينهم في أعمق الأسس والجذور. 5- يدلنا ما ذكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم عندما مرّ بمنازل ثمود أنه يكره للمسلم أن يدخل ديار الأمم الخالية ممن أهلكهم الله بكفرهم أو أن يمر على شيء من آثارهم، إلا وهو معتبر بحالهم يتأمل في مآلهم يسأل الله تعالى العافية والرحمة له وللمسلمين. إذ هي منازل شهدت مظهرا من غضب الله تعالى، وسجّلت على أطلالها آثار من ذلك الغضب، فهي باقية عليها مع الدهر، ولا ريب أن الله عز وجل إنما ترك هذه الآثار في الأرض لتكون عبرة لأولي البصيرة والألباب، كما أوضح ذلك في كثير من آياته. فمن الخطأ الكبير أن يمرّ الإنسان عليها ساهيا لاهيا، لا يعبأ منها بغير مظهر الشكل أو البناء والنقوش. وكم في الأرض من عبر وعظات من هذا القبيل، تظل تدوي بلسان حالها على أسماع الناس أن اعتبروا يا أولي الأبصار، ولكن الناس لا يستمعون منها إلا إلى ما يوسوس إليهم شياطينهم على ألسنتها، ولا يقبلون منها إلا على مظاهر الفن والقيمة الأثرية والتاريخية! .. 6- وعلينا الآن أن نتأمل في الفرق بين سياسته صلّى الله عليه وسلم مع المنافقين وسياسته مع أصحابه المؤمنين الصادقين. لقد تخلف- كما رأيت- كثير من المنافقين عن هذه الغزوة، وجاؤوا يعتذرون له صلّى الله عليه وسلم بشتى الأعذار المختلفة، ومع ذلك فقد صفح عنهم وقبل علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل. وتخلف عدد يسير من المؤمنين من غير ريبة ولا نفاق، ثم جاؤوا إليه صلّى الله عليه وسلم لا يصطنعون عذرا ولا كذبا يسألونه العفو والصفح، ومع ذلك فقد عاقبهم ولم يصفح عنهم. وقد رأيت مدى قسوة العقوبة التي أنزلها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بهم! .. فلماذا؟! .. لماذا اختار مع المنافقين اللين والصفح، واختار للمسلمين الصادقين الشدة والعقوبة؟! .. والجواب: أن الشدة والقسوة في هذا المقام مظهر للإكرام والتشريف، وهو مالا يستأهله

المنافقون، وكيف يستأهل المنافقون أن تنزل آيات في توبتهم وعفو الله عنهم؟!. ثم إن المنافقين محكوم عليهم- على أي حال- أنهم كفرة، ولن ينشلهم شيء مما يتظاهرون به في الدنيا، من الدرك الأسفل في النار يوم القيامة، وقد أمر الشارع جلّ جلاله أن ندعهم لما تظاهروا به ونجري الأحكام الدنيوية حسب ظواهرهم، ففيم التحقيق عن بواطن أعذارهم وحقيقة أقوالهم، وفيم معاقبتهم في الدنيا على ما قد يصدر عنهم من كذب ونحن إنما نعطيهم الظاهر فقط من المعاملة والأحكام، كما يبدون لنا هم أيضا، الظاهر فقط من أحوالهم، وعقائدهم. قال ابن القيم: «وهكذا يفعل الرب سبحانه بعباده في عقوبات حرائمهم، فيؤدب عبده المؤمن الذي يحبه وهو كريم عنده، بأدنى زلة وهفوة، فلا يزال مستيقظا حذرا. وأما من سقط من عين الله وهان عليه فإنه يخلي بينه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنبا أحدث له نعمة» «112» . واعلم أن في حديث كعب الطويل الذي ذكرناه عبرا ودلالات هامة نذكر منها ما يلي: أولا: مشروعية الهجر لسبب ديني، فقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم المسلمين عن مكالمة كعب وصاحبيه طوال تلك المدة، قال ابن القيم: «وفيه دليل أيضا على أن ردّ السلام على من يستحق الهجر ليس بواجب» «113» ، إذ كان مما قاله كعب: «فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين.. وآتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول هل حرك شفتيه بردّ السلام عليّ أم لا؟» فلو كان ردّ السلام عليه واجبا لكان لابدّ من إسماعه. ثانيا: وابتلاء آخر امتحن الله به كعبا رضي الله عنه، ومن الجدير التأمل فيه لتعلم كيف ينبغي أن يكون إيمان المسلم بربه جلّ جلاله. فقد رأيت أن ملك غسان أرسل إليه معظما ومبجلا يدعوه إلى ترك هؤلاء الذين آذوه وأعرضوا عنه، واللحاق ببلاده، ليجد عنده الإكرام والسعادة، وكان قد بلغ الكرب إذ ذاك بكعب أشده، ولكن هذا الابتلاء لم يكشف إلا عن المزيد من إيمانه بربه وشدة إخلاصه ومحبته له. وكم من أقدام زلت، وتزل اليوم، في هذا المنزلق الذي وضع أمام كعب رضي الله عنه لابتلائه به واختباره، فمرّ من فوقه عزيزا قويا بإسلامه، لم يتأثر به ولا انزلق فيه. ثالثا: سجود الشكر لله تعالى عبادة مشروعة، دلّ عليها سجود كعب رضي الله عنه حينما سمع صوت المبشر بتوبة الله عليه. قال ابن القيم: «وقد سجد أبو بكر الصديق لما جاءه قتل مسيلمة الكذاب، وسجد عليّ بن أبي طالب لما وجد ذا الثدية مقتولا في الخوارج، وسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم حينما بشره جبريل أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا» «114» .

_ (112) زاد المعاد: 3/ 20 (113) المرجع السابق: 3/ 20 (114) المرجع السابق: 3/ 22

حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس سنة تسع

رابعا: ذهب الحنفية، ما عدا زفر، إلى أن الرجل إذا نذر ماله كله صدقة على المساكين، لم يلزمه التصدق إلا بالأموال الزكوية فقط، ولهم أدلة على ذلك، لعلّ من جملتها ما أجاب به رسول الله صلّى الله عليه وسلم كعبا حينما قال له: «إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة لله ورسوله، فقد قال له: أمسك عليك بعض مالك» . والذين ذهبوا إلى أن كلّ ماله يصبح صدقة إذا نذره كله، قالوا: إن قول كعب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس في حقيقته إنشاء لصيغة نذر، ولكنه استشارة له عليه الصلاة والسلام، فأخبره صلّى الله عليه وسلم أن بعض ذلك يجزيه «115» . ولعل هذا هو الأقرب في فهم سياق كلام كعب رضي الله عنه وجواب الرسول صلّى الله عليه وسلم له. حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس سنة تسع لما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عائدا من تبوك، أراد الحج، ثم قال: «إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك» . فأرسل أبا بكر رضي الله عنه وأردفه بعليّ رضي الله عنه، ينهيان المشركين عن الحج بعد ذلك العام، ويعطيانهم مهلة للدخول في الإسلام أربعة أشهر، ثم ليس بينهم وبين المسلمين إلا القتال. روى البخاري في كتاب المغازي عن أبي هريرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعث في الحجة التي أمّره عليها النبي صلّى الله عليه وسلم، قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس: «لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» . وروى محمد بن كعب القرظي وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع من الهجرة، وبعث علي بن أبي طالب بثلاثين أو أربعين آية من براءة، فقرأها على الناس، يؤجل المشركين- أي يمهلهم- أربعة أشهر يسيحون في الأرض، فقرأها عليهم يوم عرفة، أجّلهم عشرين من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وشهر ربيع الأول، وعشرا من ربيع الآخر، وقرأها عليهم في منازلهم وقال: «لا يحجّنّ بعد عامنا مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان» . وروى الإمام أحمد عن محرز بن أبي هريرة عن أبيه قال: «كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ببراءة، فقال: ما كنتم تنادون؟ قال: كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهد فإن أجله أو مدته أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد عامنا هذا مشرك، قال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي» .

_ (115) راجع المبسوط للسرخسي: 12/ 93، وزاد المعاد لابن القيم: 3/ 23، وضوابط المصلحة للمؤلف: 244 و 84 م

العبر والعظات:

فذلك هو المقصود بقوله تعالى: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التوبة 9/ 3] . وروى ابن سعد أن النّبي صلّى الله عليه وسلم عندما استعمل أبا بكر على الحج، خرج في ثلاثمائة رجل من أهل المدينة، وبعث معه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعشرين بدنة قلدها وأشعرها. العبر والعظات: 1- المشركون وتقاليدهم في الحج: لقد عرفت فيما مضى أن الحج إلى بيت الله الحرام كان مما ورثه العرب عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فكان من بقايا الحنيفية التي ما زالوا محافظين عليها. إلا أن كثيرا من أدران الجاهلية وأباطيل الشرك قد تسلل إليه، حتى غدا مظهرا من مظاهر الشرك أكثر من أن يكون عبادة قائمة على عقيدة التوحيد. ذكر ابن عائذ أن المشركين كانوا يحجون مع المسلمين، ويعارضهم المشركون بإعلاء أصواتهم ليغلطوهم بذلك، فيقولون: «لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك» . وكان رجال منهم يطوفون عراة ليس على رجل منهم ثوب، يرون ذلك تعظيما للبيت! .. وكان يقول أحدهم: «أطوف بالبيت كما ولدتني أمي، ليس عليّ شيء من الدنيا خالطه الظلم» «116» . وظلت هذه الأرجاس إلى نهاية العام التاسع من الهجرة، حيث كان حج أبي بكر رضي الله عنه والإنذار الذي أبلغه كل من أبي بكر وعلي رضي الله عنهما لسائر المشركين، إيذانا بطهارة المسجد الحرام عن تلك الأرجاس، وزوالها إلى غير رجعة. 2- انتساخ العهد بإعلان الحرابة: ثم اعلم أن المشركين كانوا إذ ذاك صنفين، كما قال محمد بن إسحاق وغيره: أحدهما كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهد إلى ما دون أربعة أشهر من الزمن، فأمهل هذا الصنف إلى تمام المدة، وثانيهما كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهد مفتوح، أي بغير أجل، فاقتصر به القرآن في سورة براءة على أربعة أشهر، ثم هو بعد ذلك الحرب بينهم وبين المسلمين، يقتل أحدهم حيث أدرك، إلا أن يسلم ويتوب، وابتداء هذا الأجل من يوم عرفة من العام التاسع، وانقضاؤه إلى عشر من شهر ربيع الآخر. وقيل- وهو رأي الكلبي-: إنما كانت الأشهر الأربعة مدة لمن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهد دون أربعة أشهر. فأما من كان عهده أكثر من ذلك، فقد أمر الله أن يتم عهده إلى مدته، فذلك هو معنى قوله عزّ وجلّ: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة 9/ 4] .

_ (116) انظر عيون الأثر لابن سيّد الناس: 2/ 231

والقول الأول أصح وأوجه، إذ ليس في سورة براءة شيء جديد على رأي الكلبي، وإنما هي تأكيد للعهود القائمة بين الرسول صلّى الله عليه وسلم والمشركين، لم تغير منها شيئا ولم تأت بجديد، فأي معنى عندئذ في قراءة عليّ رضي الله عنه للسورة على مسامع المشركين ينذرهم بها، وأي جديد في أن يبعث النّبي صلّى الله عليه وسلم عليّا بذلك؟ 3- تأكيد آخر لحقيقة معنى الجهاد: وإنك لتلحظ في هذا تأكيدا جديدا على أن الجهاد في الشريعة الإسلامية ليس حربا دفاعية كما يصوّر المستشرقون! .. تأمل في قوله عزّ وجلّ وهو ينذر فلول المشركين وبقاياهم حول مكة، من أهل نجد وغيره. بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ، وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة 9/ 1- 5] . إن هذه الآيات الواضحة القاطعة، لم تبق في الذهن أي مجال لتصور ما يسمى بالحرب الدفاعية، أساسا لمعنى الجهاد في الإسلام. وأنت تعلم أن سورة براءة من أواخر ما نزل من القرآن، فأحكامها- وأكثر أحكامها تتعلق بالجهاد- مستقرة باقية. ولست أرى ما يدعو إلى القول بأن هذه الآيات نسخت ما قبلها من الآيات التي تقرر الجهاد الدفاعي، كقوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج 22/ 39] . ذلك لأن الجهاد في أصل مشروعيته غير ناظر إلى هجوم ولا إلى دفاع، إنما هو يهدف إلى إعلاء كلمة الله تعالى وإشادة صرح المجتمع الإسلامي السليم وإقامة دولة الله في الأرض، فأيّا كانت الوسيلة المتعينة إلى ذلك وجب اتباعها. قد تكون الوسيلة، لظرف ما، المسالمة وبثّ النصيحة والتعليم والإرشاد، وعندئذ لا يفسر الجهاد إلا بذلك. وقد تكون الوسيلة، لظرف آخر، الحرب الدفاعية مع النصح والإرشاد والتوجيه، فهذا هو الجهاد المشروع حينئذ.

مسجد الضرار

وقد تكون الوسيلة المتعينة، لظروف أخرى، الحرب الهجومية، فهي عندئذ ذروة الجهاد وأشرفه. وإنما يقدر الظرف ويعين الوسيلة ويحددها، الحاكم المسلم المتبصر الواعي المخلص لله ولرسوله ولعامة المسلمين. وهذا يعني أن جميع هذه الوسائل الثلاث مشروعة في تحقيق الجهاد، على أن لا يطبق منها إلا ما تقتضيه المصلحة الآنية التي يقدرها الحاكم المخلص، وتبادل التطبيق ليس من النسخ في شيء. ثم إن حج أبي بكر هذا كان تعليما للمسلمين أصول المناسك وكيفية أدائها، ثم كان تمهيدا لحجة الإسلام وحجة الوداع التي كان قائدها محمدا عليه الصّلاة والسلام. مسجد الضرار روى ابن كثير عن سعيد بن جبير وقتادة وعروة وغيرهم أنه كان في المدينة رجل من الخزرج اسمه أبو عامر الراهب، وكان قد تنصّر في الجاهلية وله مكانة كبيرة في الخزرج. فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية، شرق أبو عامر بريقه وأظهر العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم خرج فارّا إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم إنه لما رأى أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم في تقدم وارتفاع، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النّبي صلّى الله عليه وسلم، فوعده ومنّاه، فأقام عنده وكتب إلى جماعة من قومه من منافقي المدينة يعدهم بما وعده به هرقل، وأمرهم أن يتّخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك. فشرعوا في بناء مسجد قريب من مسجد قباء، فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاؤوا فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته. وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلّة في الليلة الشاتية. فعصمه الله من الصلاة فيه وقال: «إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله» ، فلما قفل عليه الصّلاة والسلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه إلى المدينة «117» . ونزل قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً،

_ (117) تفسير ابن كثير: 2/ 387 و 388، ورواه ابن هشام في سيرته على نحو قريب في: 2/ 322

العبر والعظات:

لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة 9/ 107- 108] . ومعنى قوله تعالى ضِراراً أنهم إنما بنوه ضرارا لمسجد قباء. وقوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ إشارة إلى مسجد قباء. العبر والعظات: تعتبر قصة هذا المسجد، قمة الكيد الذي وصل إليه المنافقون بالنسبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه المسلمين. وليس هو هذه المرة نفاقا فحسب، بل هو مؤامرة وكيد يدبّر ضدّ المسلمين.. ولذلك، لم يكن موقف النّبي صلّى الله عليه وسلم من هذا الأمر، استمرارا لموقف التجاهل والإهمال، وإنما كان له موقف آخر، استلهمه بوحي من ربّه جلّ جلاله. وكان هذا الموقف هو الكشف عن حقيقة المنافقين وتعرية أهدافهم عن تلك الأقنعة التي ستروها بها، ثم هدم وتحريق ذلك البناء الذي زعموه مسجدا، وهم إنما بنوه مرصدا لنفاق المنافقين وموئلا لتنظيم المكائد ضد المسلمين، وذريعة للتفريق. وإن قصة هذا الكيد الأخير من المنافقين، مع القصص السابقة لنفاقهم وكيدهم- تعطينا صورة كاملة عن مجموع حكم الشريعة الإسلامية في حقهم. فهم في كل ما يصدر عنه من كذب وإظهار لغير ما يظنون، يتركون لظواهرهم في الدنيا، وتوكل ضمائرهم إلى الله عزّ وجلّ وحكمه فيهم يوم القيامة. ولكنهم فيما قد يصدرون عنه من مؤامرات ومساع ضدّ المسلمين، يؤخذون من النواصي متلبسين بجريمتهم، كما ينبغي أن يدكّ ويهدم كل ما قد بنوه من مكائد ومؤامرات. وقد دلّ على ذلك مجموع سياسته صلّى الله عليه وسلم ومعاملته مع هؤلاء المنافقين، وهو ما اتفق عليه عامة الأئمة الباحثين استنادا إلى هديه صلّى الله عليه وسلم في ذلك. هذا وإنك إذا تأملت في خطوات هذا الكيد المتلصص من المنافقين، وكيفيته ووسائله، علمت أن طبيعة النفاق واحدة في كل عصر وزمان، وأن وسيلة المنافقين لا تتبدل ولا تختلف، وأنهم هم دائما في جبنهم الذليل وكيدهم الحقير وفي ابتعادهم عن النور وتعلقهم بالظلام. فهم الذين دائما يسجدون بجباههم على أقدام المستعمر الأجنبي ليعينهم في وسيلة حرب ضدّ إسلام المسلمين في بلدهم، حتى إذا انفتلوا إلى بني قومهم من المسلمين المؤمنين، تظاهروا بالإسلام واصطنعوا مظهر الإعجاب به والدعوة إليه. فإذا أمكنتهم الفرصة من خنق حقيقة من حقائق هذا الدين والقضاء على بعض دعاته أعلنوا أنهم يقومون برسالة تطويره وأنهم إنما يقضون على مستغليه من أعداء الأمة!

وفد ثقيف ودخولهم في الإسلام

وبعد، فقد دلّ عمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا، على ضرورة تعطيل أو هدم أو تحريق أماكن المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وإن اختبأت حقيقة هذه الأماكن عن أنظار الناس وراء مظاهر الخير والبر. وإذا كان هذا هو ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بمسجد الضرار، فما بالك بأماكن المعاصي والفواحش التي يعصى الله فيها جهارا وعلنا؟! وقد أحرق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرية بكاملها كان يباع فيها الخمر، وحرق حانوت رويشد الثقفي وسمّاه فويسقا «118» ، وهذا ما لم يقع فيه أي خلاف بين علماء المسلمين. وفد ثقيف ودخولهم في الإسلام وروى ابن إسحاق أنه صلّى الله عليه وسلم قدم المدينة من تبوك في شهر رمضان، وفي ذلك الشهر قدم عليه وفد ثقيف. وكانوا قد تشاوروا بينهم، ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايع كلهم وأسلموا. فأرسلوا وفدا منهم يرأسهم كنانة بن عبد ياليل، فلما دنوا من المدينة لقيهم المغيرة بن شعبة- وهو منهم- فاستقبلهم وعلّمهم كيف يحيّون رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند دخولهم عليه، ولكنهم لم يفعلوا إلا بتحيّة الجاهلية. وأنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد وبنى لهم خياما لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلّوا، ومكث الوفد أياما عديدة يختلفون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويختلف إليهم وهو يدعوهم إلى الإسلام «119» . روى ابن سعد: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان يأتيهم كل ليلة بعد العشاء، فيقف عليهم يحدثهم حتى يراوح بين قدميه» (أي يقوم على كل قدم مرة من التعب) «120» . روى موسى بن عقبة في مغازيه: «أن عثمان بن أبي العاص كان في ذلك الوفد، وكان أصغرهم، فكانوا إذا ذهبوا إلى مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم خلفوه على رحالهم، فكان عثمان كلما رجع الوفد، وقالوا في الهاجرة، عمد فذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسأله عن الدين واستقرأه القرآن، واختلف إليه عثمان على ذلك مرارا حتى فقه في الدّين، وكان إذا وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم نائما عمد فذهب إلى أبي بكر، وكان يكتم ذلك من أصحابه، فأعجب ذلك منه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأحبّه. وأخيرا دخل الإسلام أفئدتهم، ولكن كنانة بن عبد ياليل قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: أفرأيت

_ (118) راجع زاد المعاد لابن القيم: 3/ 17 (119) ابن هشام: 2/ 324 (120) طبقات ابن سعد: 2/ 78

تتابع وفود العرب ودخولهم في دين الله

الزنى، فإنا قوم نغترب ولا بدّلنا منه، قال: هو عليكم حرام، فإن الله يقول: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء 17/ 32] . قالوا: أفرأيت الرّبا، فإنه أموالنا كلها، قال: لكم رؤوس أموالكم إن الله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة 2/ 278] . قالوا: أفرأيت الخمر، فإنه عصير أرضنا لا بدّ لنا منها، قال: إن الله حرمها، وقرأ آية تحريم الخمر «121» . قال ابن إسحاق: وسألوه أيضا أن يضع عنهم الصلاة فقال صلّى الله عليه وسلم لهم: لا خير في دين بلا صلاة. فخلا بعضهم إلى بعض يتشاورون في الأمر ثم عادوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد خضعوا لذلك كله، ولكنهم سألوه أن يدع لهم وثنهم الذي كانوا يعبدونه (اللات) ثلاث سنين لا يهدمها، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم، حتى سألوه شهرا واحدا بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها إلى أي أجل، قال ابن إسحاق: وإنما أرادوا بذلك أن يتخلصوا من أذى سفهائهم ونسائهم وذراريهم، وكراهية منهم أن يردعوا قومهم بهدمها حتى يدخل الإسلام قلوبهم. فقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: فتولّ أنت إذن هدمها، فأما نحن فإنا لا نهدمها أبدا. فقال لهم: فسأبعث لكم من يكفيكم ذلك. ثم استأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأذن لهم، وأكرمهم وحيّاهم، وأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص لما رأى من حرصه على الإسلام، وكان قد تعلم سورا من القرآن قبل أن يخرج. وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليهم وفدا على أثرهم أمّر عليهم خالد بن الوليد وفيهم المغيرة بن شعبة وأبو سفيان بن حرب، فعمدوا إلى اللات فهدموها، وخرجت نساء ثقيف حسّرا يبكين عليها ويرثينها، وكلما ضربها المغيرة بفأسه قال أبو سفيان: واها لك، آها لك «122» ! .. يسخر منه ويصانع حزن تلك النسوة اللاتي يندبن ويبكين عليه» . قال ابن سعد في طبقاته- يروي عن المغيرة رضي الله عنه- فدخلت ثقيف في الإسلام، فلا أعلم قوما من العرب، بني أب ولا قبيلة، كانوا أصحّ إسلاما، ولا أبعد أن يوجد فيهم غش لله ولكتابه، منهم «123» . تتابع وفود العرب ودخولهم في دين الله قال ابن إسحاق: «لما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكة وفرغ من تبوك وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه، وإنما كانت العرب تتربص بالإسلام أمر هذا

_ (121) انظر زاد المعاد: 3/ 26، 28 (122) ابن هشام: 2/ 327 (123) طبقات ابن سعد: 2/ 78

العبر والعظات:

الحيّ من قريش، إذ كانوا إمام الناس وأهل البيت والحرم، وصريح ولد إسماعيل عليه السلام وقادة العرب. فلما افتتحت مكة ودانت له قريش ودوّخها الإسلام، عرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا عدوانه، فدخلوا في دين الله تعالى أفواجا، كما قال تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النصر 110] . ونحن لا نرى حاجة- في هذا المجال- إلى سرد تفاصيل هذه الوفود وأخبارها، إذ لا يوجد كبير غرض لنا في هذا التفصيل. العبر والعظات: أتذكر خبر أولئك الذين استقبلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم أن هاجر إلى الطائف، شرّ استقبال، وأخرجوه من ديارهم شرّ إخراج، وألحقوا به سفهاءهم وصبيانهم يضربونه ويؤذونه ويسخرون منه؟ .. تلك هي ثقيف التي سعت اليوم إليه ودخلت في دين الله تعالى صادقة طائعة. وهل تذكر إذ قال زيد بن حارثة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد عاد أدراجه من الطائف إلى مكة: «كيف تدخل عليهم يا رسول الله وهم أخرجوك؟ فأجابه عليه الصلاة والسلام: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيّه» !. إن ما حدث اليوم هو مصداق ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزيد، فتلك هي الطائف، وهذه مكة وشتى قبائل وبطون العرب قد سعت جمعيها تدخل في دين الله أفواجا. ثم تعال فتأمل! .. تأمل في كل ذلك الإيذاء الذي رآه من ثقيف والخيبة التي فوجئ بها بعد أن هاجر ساعيا على قدميه يعبر إليهم جبالا وأودية قاصية مؤملا عندهم استقبالا كريما أو استجابة حسنة. إن أدنى ما يترك ذلك في نفس الإنسان- أيّا كان- من الناس من الأثر، أن يفكر في الانتقام أو أن يقابل إساءة بمثلها. ولكن أين تجد هذا- أو حتى شيئا من هذا- في نفس رسول الله صلّى الله عليه وسلم تجاه ثقيف، لقد حاصر الطائف أياما ثم أمر أصحابه بالرجوع، فقيل له: ادع على ثقيف، فأبى ذلك ورفع يديه يقول: «اللهم اهد ثقيفا وأت بهم مؤمنين» ! .. ولما استجاب الله دعاء رسوله فجاء وفد ثقيف إلى المدينة، تسابق أبو بكر الصديق والمغيرة بن شعبة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبشّرانه بذلك، لما يعلم كل منهما من شدة سرور النّبي صلّى الله عليه وسلم بنبأ إسلام ثقيف وهدايتهم، فخرج يستقبلهم في بشر وإكرام، وراح يحبس عليهم وقته كله يعلّمهم ويرشدهم وينصح لهم.

طالما أرادوا به الكيد وشفوا بإيذائه غليل أحقادهم عليه، وهو لا يريد بهم إلّا الخير والسعادة والرشد في الدنيا والآخرة، طالما فرحوا بمنظر النكبة والضّر يرى متلبسا بهما، ولكنه لم يفرح لهم إلا بنعمة الخير والإسلام إذ أكرمهم بهما الله! .. ترى، أهذا كله طبيعة بشرية في إنسان، يدعو إلى مبدأ يراه أو عقيدة قد تخيّرها؟! أما إنها ليست إلا طبيعة النبوّة.. وليست إلا من أثر تطلّعه عليه الصلاة والسلام إلى هدف واحد فقط، هو أن تؤتي هذه الدعوة ثمارها فيلقى ربه وهو عنه راض. وما أهون الآلام والنكبات كلها في هذا السبيل، وما أعظم الفرحة إذ يجتاز العبد تلك المفاوز كلها ويستقر عند هذا الهدف الجليل! .. وذلك هو الإسلام: لا يعرف حقدا ولا ضغينة ولا يريد شرا بإنسان. يأمر بالجهاد، ولكن في غير ضغينة وحقد. يعلّم القوة، ولكن في غير أنانية وكبر. يدعو إلى الرحمة، ولكن في غير مهانة أو ضعف. ويعلّم الحب، ولكن في سبيل الله وحده. إذن، لقد كان وفد ثقيف، والوفود الأخرى التي تلاحقت متجهة إلى المدينة داخلة في الإسلام، كان كل ذلك وفاء بوعد (النصر العزيز) الذي وعد الله به رسوله. *** تلك هي العبرة التي ينبغي أخذها من قصة هذه الوفود. أما الدروس والأحكام فإليك منها ما يلي: أولا- جواز إنزال المشرك في المسجد إذا كان يرجى إسلامه وهدايته: فقد رأيت أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يستقبل وفد ثقيف في مسجده لمحادثتهم وتعليمهم، وإذا كان هذا جائزا للمشرك، فجوازه للكتابيّ أولى. وقد استقبل النبي صلّى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران، حينما جاؤوه لسماع الحق ومعرفة الإسلام. قال الزركشي: واعلم أن الرافعي والنووي رحمهما الله أطلقا أنه يجوز للكافر أن يدخل المساجد غير الحرم بإذن المسلم، بقيود: أولها: أن لا يكون قد شرط عليه في عقد الذمة عدم الدخول، فإن كان قد شرط عليه ذلك، لم يؤذن له. ثانيها: أن يكون المسلم الذي أذن له مكلفا، كامل الأهلية. ثالثها: أن يكون دخوله لسماع قرآن أو علم ورجي إسلامه، أو دخل لإصلاح بنيان ونحوه، وقضية كلام القاضي أبي علي الفارقي أنه لو دخل لسماع القرآن أو العلم وهو ممن لا يرجى

إسلامه أنه يمنع وليس لنا أن نأذن له في الدخول، أي كما إذا كانت الحالة تشعر بالاستهزاء أو بالمجاملة السياسية ابتغاء غرض معين كما هو شأن كثير من الأجانب اليوم. فأما إذا استأذن لنوم أو أكل ونحوه، قال في الروضة: ينبغي أن لا يؤذن له في دخوله لذلك، وظاهره الجواز: وقال غيره- أي غير النووي- لا يجوز لنا أن نأذن له في ذلك. قال الفارقي: «وفي معنى ذلك، الدخول لتعلم الحساب واللغة وما كان في معناه. ولا خفاء أن موضع التجويز إذا لم يخش على المسجد ضرر ولا تنجيس ولا تشويش على المصلين» «124» . قلت: وأهم من ضرر التشويش ضرر الفتنة التي قد يتعرض لها المصلون بدخول نساء كافرات وهن بأزيائهن الفاضحة. ومثل الدخول للنوم والأكل في المنع، الدخول للنظر في معالم البناء ونقوشه. ثانيا- حسن معاملة الوفود والمستأمنين: والفرق بين الوفد والمستأمن، أن الأول قادم رسولا عن قومه وهو يكون دائما مكونا من عدة أفراد، أما الثاني فقادم لنفسه يطلب الأمان في بلاد المسلمين ريثما يأخذ علما عنهم وعن الإسلام. فأما المستأمن فقد أمر الله بحسن استقباله والمحافظة عليه ثم إبلاغه مأمنه عندما يريد ذلك، وذلك بصريح قوله: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ.. [التوبة 9/ 6] . وأما الوفود، فقد دلّ على هذا الحكم أيضا في حقهم، القياس على المستأمن، وعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حسن سياسته ومعاملته معهم، فقد رأيت كيف أكرم الرسول صلّى الله عليه وسلم وفد ثقيف في القدوم والإقامة. ثالثا- أحق الناس بالولاية والإمامة أعلمهم بكتاب الله تعالى: ولذلك أمر النبي صلّى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص على ثقيف، فقد أعجبه ما رأى فيه من الحرص على فهم كتاب الله تعالى ولقد أصبح خلال الفترة التي أقامها في المدينة مع أصحابه، أعلمهم بكتاب الله وأفقههم في الإسلام. والإمارة والولاية ليس كل منهما إلا مسؤولية دينية يراد منها إقامة الحكم والمجتمع الإسلامي فلا بدّ من توفر هذا الشرط فيهما. رابعا- وجوب هدم الأوثان والتماثيل: وليس من شرط وجوب ذلك أن يكون هناك من يعبدها أو يقدسها، بل الحكم في ذلك عام وشامل لكل حالة، لعموم الدليل هنا، ولدليل أمره صلّى الله عليه وسلم بتحطيم تلك التماثيل التي استخرجت من جوف الكعبة، مع أنها لم تكن تعبد كتلك

_ (124) إعلام الساجد للزركشي: 319- 321 باختصار.

الأصنام الأخرى، وهذا يدل على ما كنا قد ذكرناه من حرمة صنع التماثيل على اختلاف أنواعها وأشكالها، وعلى حرمة اقتنائها مهما كانت أسباب ذلك «125» . *** هذا ولنكتف بهذا الذي ذكرناه من خبر وفد ثقيف، عن تفصيل ذكر أخبار الوفود الكثيرة الأخرى، التي قدمت خلال هذا العام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لعدم تعلق غرض كبير في هذا المقام بذلك. غير أن مما ينبغي أن تعلمه، أن هذه الوفود كانت في مجموعها تمثل فئتين: إحداهما فئة المشركين، والثانية فئة أهل الكتاب. فأما المشركون، فقد دخل عامتهم في الإسلام، وما رجعت وفودهم إلا وهي تحمل مشعل الإيمان والتوحيد إلى قومها. وأما أهل الكتاب فقد بقي أكثرهم على ما هم عليه، من اليهودية أو النصرانية. ولقد كان الوفد الذي جاء يمثل نصارى نجران مؤلفا من ستين رجلا، ولقد لبثوا عنده صلّى الله عليه وسلم أياما يجادلهم ويجادلونه في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ووحدانية الله تعالى. وكان آخر ما عنده صلّى الله عليه وسلم لهم أن تلا عليهم قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ: تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ، فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [آل عمران 3/ 59، 60، 61] . فلما أبوا أن يقروا، دعاهم إلى المباهلة «126» كما أمره الله بذلك، وذهب عليه الصلاة والسلام فأقبل مشتملا على الحسن والحسين رضي الله عنهما في خميل له، وفاطمة رضي الله عنها تمشي خلفه، للمباهلة. فأبى رئيس وفدهم، وهو شرحبيل بن وداعة، المباهلة أيضا وحذر أصحابه من عاقبة ذلك عليهم. فأقبلوا إليه صلّى الله عليه وسلم يحكّمونه فيما دون كلّ من الإسلام والمباهلة، وينزلون عند حكمه في ذلك. فصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الجزية وكتب لهم بذلك كتابا، والتزم فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم لهم- إن دفعوا الجزية المتفق عليها- أن لا تهدم لهم بيعة، ولا يفتنوا عن دينهم ما لم يحدثوا حدثا- أي غدرا أو خيانة- أو يأكلوا الربا «127» ***

_ (125) انظر ص 279 فما بعد من هذا الكتاب. (126) المباهلة: أي الدعوة إلى أن يبتهل كل طرف إلى الله أن يجعل لعنته على الطرف الكاذب. (127) رواه الحاكم والبيهقي في دلائل النبوة بتفصيل مطول، وروى خبر المصالحة على الجزية، أبو داود أيضا في كتاب الخراج، باب أخذ الجزية، وانظر قصة وفد نصارى نجران في تفسير ابن كثير: 1/ 368، 369

خبر إسلام عدي بن حاتم

خبر إسلام عدي بن حاتم كان عدي بن حاتم نصرانيا، وهو ابن حاتم الجواد المشهور، وكان امرءا شريفا في قومه، وكان يأخذ من قومه المرباع، (وهو ربع ما يصلهم من غنائم الحروب. كان العرب يجعلون ذلك للرئيس منهم) فلما سمع برسول الله صلّى الله عليه وسلم ودعوته، كره دعوته، وترك قومه ولحق بنصارى الشام. قال عديّ: «فكرهت مكاني هناك أشد من كراهتي له (أي لرسول الله صلّى الله عليه وسلم) فقلت: لو أتيته فإن كان ملكا أو كاذبا لم يخف عليّ، وإن كان صادقا اتبعته. فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده، فسلّمت عليه، فقال: من الرجل؟ فقلت: عديّ بن حاتم! فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فانطلق بي إلى بيته، فو الله إنه لعامد بي إليه (أي قاصد بي إلى الدار) إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته، فوقف لها طويلا، تكلمه في حاجتها، فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك! ثم مضى بي رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بي بيته، تناول وسادة من أدم محشوّة ليفا فقذفها إليّ فقال: اجلس على هذه، قلت: بل أنت فاجلس عليها. فقال: بل أنت. فجلست عليها، وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الأرض. فقلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك. ثم قال: إيه يا عديّ بن حاتم، هل تعلم من إله سوى الله؟ قلت: لا. ثم قال: هل تعلم شيئا أكبر من الله؟ قلت: لا. قال: ألم تكن ركوسيا؟ (قوم لهم دين بين النصارى والصابئة) قلت: بلى. قال: أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قلت: بلى. قال: فإن ذلك لم يكن يحلّ في دينك. قلت: أجل والله. ثم قال: لعلك يا عديّ إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجة أهله، فو الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوّهم وقلة عددهم، فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم! .. قال: فأسلمت.

العبر والعظات:

قال عديّ: فرأيت اثنتين: الظعينة، وكنت في أول خيل أغارت على كنوز كسرى، وأحلف بالله لتجيئن الثالثة» «128» . العبر والعظات: كان قدوم عديّ بن حاتم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وخبر إسلامه، في الفترة التي قدم عليه فيها الوفود من كل جهة وصوب ونستطيع أن نعده في مجيئه هذا واحدا من تلك الوفود الكثيرة التي سعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم تعلن إسلامها. غير أنّا آثرنا إفراد خبر عديّ بالتفصيل والتأمل، لما فيه من العبر الهامة المتعلقة بأسس العقيدة الإسلامية، ولما فيه من تحليل دقيق، بل وتجسيد واضح لشخصية سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، تلك الشخصية التي ظهرت جلية واضحة لعديّ بن حاتم، مصفّاة عن شوائب الزعامة والملك وحب الإمارة أو الكبرياء والجاه، لا يتراءى فيها سوى الإعلام بأنه رسول رب العالمين إلى الناس أجمعين، فكانت أساس إيمانه وسرّ هدايته. فلنتأمل فيما تأمل فيه عدي.. ولنعتبر بما اعتبر به عديّ، لنزداد إيمانا ويقينا بنبوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ولنزداد يقينا بمعنى المكيدة التي تكمن خلف دراسات محترفي الغزو الفكري في العالم الإسلامي.. ولنقف قليلا أمام السمة التي صوّر بها عديّ شخصية النبي عليه الصلاة والسلام كما رآها فتأثر بها، فكانت سرّ إيمانه. يقول عديّ: «فو الله إنه لعامد بي إلى داره، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها، فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك» . أجل فما أبعد الطامع بالملك أو المؤمل في الزعامة والمجد الدنيوي، عن الصبر على مثل هذه الوقفة. ولئن صابر نفسه فتصنع لذلك وقسرها على ما تكره، فما أسرع ما تظهر دلائل المصانعة من ضجر وتأفف. أما رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقد كانت هذه سجيته وطبيعته، في كل حال. فما كان يتميز على أصحابه في مجلس، وما كان يعلو في معيشته وحياته من مستوى الفقراء والمساكين، وما أثر أنه صلّى الله عليه وسلم أكل على خوان قط، وما رؤي أصحابه صلّى الله عليه وسلم يكدّون في عمل شاق إلا كان النبي صلّى الله عليه وسلم منهمكا فيه معهم. كانت هذه صفته صلّى الله عليه وسلم حتى فارق الدنيا والتحق بالرفيق الأعلى، فأي سرّ يمسكه على هذه الحال (مع ما فيه من الخصال التي لو أحب أن يتعلق بها لرفعته إلى مكانة عالية لا ينتهي إليها أحد غيره) غير سرّ النبوة التي أكرمه الله بها؟! ويقول عديّ: «فلما دخل بي بيته، تناول وسادة من أدم محشوة ليفا. فقذفها إليّ فقال:

_ (128) رواه ابن إسحاق، والإمام أحمد، والبغوي في معجمه بألفاظ متقاربة، وانظر الإصابة للحافظ ابن حجر: 2/ 461، وترتيب مسند الإمام أحمد: 21/ 108

اجلس على هذه ... فجلست عليها، وجلس هو على الأرض! .. فقلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك» . ولعل عديا- وهو الذي كان ذا مكانة مرموقة في قومه- كان يحسب أن يجد بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ينطق بشيء من المعنى الذي كان هو يتمتع به، ولكنه فوجئ بعكس ذلك، وفوجئ برسول الله صلّى الله عليه وسلم يتربع جالسا أمامه على أرض يابسة! .. ونظر، فإذا بالدار تنطق بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس من تلك المظاهر التي كان يتوقع رؤيتها، في شيء! .. أفيكون مع ذلك ينشد من وراء دعوته هذه ملكا ويسعى وراء ثروة أو مجد؟! .. ويصف عدي رضي الله عنه بعد ذلك، حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكيف استشف فيه الغيب المتعلق بمستقبل الإسلام والمسلمين. قال له: «ليوشكن المال أن يفيض في المسلمين حتى لا يوجد من يأخذه» . وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقد بعث عمر بن عبد العزيز عامله بأموال الزكاة لتوزيعها على المستحقين في جهات من إفريقية ولكنه عاد بها ثانية لأنه لم يجد من يأخذها، فاشترى بها أرقاء وأعتقهم. وقال له: «ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف» . وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقد امتد فوق هذه الرقعة أمن الإسلام وسلامه، فما من عابر سبيل فيها يخاف شيئا غير الله عز وجل والذئب على غنمه، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر. وقال له: «وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت على المسلمين» ، وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقد سمعنا بذلك ورأينا، والحمد لله الذي أنجز ما وعد به رسوله عليه الصلاة والسلام. لقد وجد عدي سمات النبوة الصادقة في مظهر معيشته وحياته، ووجد هذه السمات أيضا في لون حديثه وكلامه، ووجد مصداق ذلك فيما بعد، في وقائع الزمن والتاريخ، فكان ذلك سبب إسلامه، وانخلاعه عن مظاهر الأبهة والترف التي كان قد أسبغها عليه قومه. وإذا توفر عقل مفكر، وتوفرت معه حرية في التأمل، فلا مفر إذن من قبول الحق والإيمان به مهما شقّ السبيل إلى ذلك. أما إذا فقدت حريّة الفكر وضاعت قدسية العقل، ونبتت في مكانها قدسية الحقد الهوي، فلا مناص من العكوف على الباطل، ولا مفر من معانقة الجهل أو التجاهل، ولا نعمة تفوق نعمة العمى أو التعامي. وصدق رب العالمين إذ يبين لنا صفات هؤلاء: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت 41/ 5] .

بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس لتعليمهم مبادئ الإسلام

بعوث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الناس لتعليمهم مبادئ الإسلام وكما أقبلت الوفود تسعى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم لإعلان إسلامها: فقد أخذ هو أيضا يبعث رسله يتفرقون في شتى الجهات، وخاصة في جنوب الجزيرة، لتعليم الناس مبادئ الإسلام وأحكامه. فقد انتشر أمر الإسلام في الجزيرة ومختلف أطرافها، وأصبحت الحاجة داعية إلى معلمين ودعاة ومرشدين يشرحون للناس حقائق الإسلام حتى يستقر في قلوبهم بعد أن انتشر في ربوعهم. فأرسل صلّى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى نجران ليدعو من هناك إلى الإسلام ويعلمهم مبادئه وأحكامه، كما أرسل عليا رضي الله عنه إلى اليمن «129» . وأرسل صلّى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن أيضا بثّ كلّا منهما إلى طرف من أطرافها، ووصّاهما قائلا: «يسرا ولا تعسّرا، وبشرا ولا تنفّرا، وتطاوعا» «130» وقال لمعاذ: «إنك ستأتي قوما من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» «131» . وفي مسند الإمام أحمد أنه صلّى الله عليه وسلم خرج مع معاذ إلى ظاهر المدينة يوصيه ومعاذ راكب، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته. ثم قال: «يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا! ولعلك أن تمرّ بمسجدي هذا وقبري» فبكى معاذ لفراق رسول الله صلّى الله عليه وسلم «132» . ولبث معاذ في اليمن إلى ما بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكان الأمر كما أخبر به عليه الصلاة والسلام. العبر والعظات: أهم ما ينبغي على المسلم أن يفهمه من أمر هؤلاء الرسل وأمثالهم الذين بعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم

_ (129) طبقات ابن سعد، وسيرة ابن هشام، وفي البخاري: أرسل خالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب إلى اليمن، وانظر صحيح البخاري: 5/ 110 (130) متفق عليه. (131) متفق عليه. (132) مسند الإمام أحمد: 21/ 214

لأمر الدعوة إلى الإسلام وتعليم مبادئه وأحكامه أن مسؤولية الإسلام في أعناق المسلمين في كل عصر وزمن ليست من السهولة واليسر كما يتصور معظمهم اليوم. فلا يكفي أن ندّعي الإسلام بألسنتنا المجردة، كما لا يكفي أن يكون نصيبه من حياتنا بعض أعمال يسيرة، كانت في أصلها جليلة، ثم تحولت في حياتنا إلى عادات وتقاليد، بل ولا يكفي أن يتمسك الواحد منا بالإسلام لنفسه فقط، ثم يغلق بابه دونه لا يسأل عن شيء. لا ترتفع مسؤولية الإسلام عن أعناق المسلمين حتى يضيفوا إلى هذا، القيام بواجب الدعوة إليه والتبشير به، والسفر في سبيل ذلك إلى شتى الجهات والقرى والبلدان. تلك هي الأمانة التي ألقاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أعناقنا، وذلك هو الواجب الذي لا محيص عنه في كل عصر ومكان. وقد أجمع العلماء والأئمة الأربعة أن القيام بحق هذه الدعوة في داخل البلدة التي يقيم بها المسلمون وخارجها، فرض كفاية على كل المسلمين، ولا يتحللون من مسؤوليته وجريرة التقصير فيه إلا بقيام جمهرة منهم تنتشر فيما تستطيع أن تنتشر فيه من الجهات والبلدان داعية إلى الله تعرض حجج الإيمان وبراهين الإسلام وتزيل ما قد يعترض أذهان الناس إلى ذلك من الشبه والوساوس المختلفة، بحيث تقع أعمال هذه الجمهرة موقعا من الكفاية في القيام بهذا الواجب. وما لم تتوفر هذه الفئة في كل بلدة من بلاد الإسلام فجميع أهل تلك البلدان آثمون. والصحيح الذي ذهب إليه جمهور الأئمة والفقهاء، أن هذا الواجب الخطير لا يتعلق بأعناق الذكور من المسلمين فقط، بل هو عام يشمل الرجال والنساء والأحرار والعبيد، ما داموا داخلين في ربقة التكليف قادرين على القيام بأعباء الدعوة والتوجيه، كل حسب حدود إمكاناته ووسائل استطاعته 13» . *** ثم إن التوصية التي زود بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم معاذا وأبا موسى الأشعري، تدل على بعض الآداب التي يجب أن يتحلى بها الداعي إلى الله تعالى أثناء ما يقوم به من توجيه وتعليم. فمن ذلك أن يغلّب جانب التيسير على التشديد والتضييق، وأن يعتمد على التبشير أكثر من الإنذار أو التهديد، وهو ما سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالتنفير. وقد أوضح ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمثال تطبيقي، فأمر معاذا أن يدعو الناس أولا إلى الإقرار بالشهادتين، فإن هم استجابوا لذلك، فليدعهم إلى إقام الصلاة، فإن هم استجابوا لذلك، فليدعهم إلى دفع الزكاة.. وهكذا.

_ (133) انظر مغني المحتاج: 4/ 211، والأحكام السلطانية للماوردي.

حجة الوداع وخطبتها

غير أن مظاهر التيسير والتبشير، ينبغي أن لا تتجاوز حدود المشروع والمباح، فليس من التيسير المطلوب أو المشروع تبديل بعض الأحكام أو التلاعب بمفاهيم الإسلام بغية التيسير على الناس، وليس منه الإقرار على المعصية مهما كان شأنها، وإن كان للتيسير المشروع دخل في اختيار الوسيلة التي ينبغي أن تستعمل لإنكارها. ومن آداب الدعوة إلى الله، (وهي من آداب الإمارة والولاية أيضا) الاحتراز عن التلبس بظلم أي إنسان، وخاصة ما يكون منه بأخذ شيء من أموال الناس بغير حق، وهو نوع خطير من الظلم قد يتعرض له الدعاة إلى الله تعالى إذا ما غفلوا عن حقيقة مسؤولياتهم ومراقبة الله عز وجل لهم، كما يتعرض له أرباب الولاية والسلطان. ولما كان معاذ رضي الله عنه متسما بكلا الصفتين لدى إرسال الرسول صلّى الله عليه وسلم له إلى اليمن: أي صفة الدعوة، وصفة الإمارة والولاية، فقد شدّد النبي عليه في التحذير من الوقوع في أي نوع من أنواع الظلم، قائلا: «واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» . حجة الوداع وخطبتها روى الإمام مسلم بسنده عن جابر رضي الله عنه قال: «مكث رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة تسع سنين لم يحجّ، ثم أذّن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلّى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله. وخرج صلّى الله عليه وسلم من المدينة لخمس ليال بقين من ذي القعدة «134» ، قال جابر: فلما استوت به ناقته في البيداء، نظرت إلى مدّ بصري بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن» .

_ (134) اختلف الرواة في اسم اليوم الذي خرج فيه صلّى الله عليه وسلم، فقد ذكر ابن حزم أنه كان يوم الخميس، ونقل آخرون أنه كان يوم الجمعة، والصحيح ما رواه ابن سعد في طبقاته أن ذلك كان يوم السبت، وهو ما جزم به ابن حجر في الفتح. وقد كان يوم الخميس هو أول ذي الحجة، فيكون شهر ذي القعدة على ذلك تسعة وعشرين. ويحمل قول من روى أن خروجه صلّى الله عليه وسلم كان لخمس ليال بقين من ذي القعدة على ظن أن الشهر سيكون ثلاثين.

واختلف الرواة، فأهل المدينة يروون أنه صلّى الله عليه وسلم أهلّ بالحج مفردا، ويروي غيرهم أنه قرن مع حجته عمرة، وروى بعضهم أنه دخل مكة متمتعا بعمرة ثم أضاف إليه حجة. ودخل مكة من أعلاها من طريق كداء حتى انتهى إلى باب بني شيبة، فلما رأى البيت قال: «اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وزد من عظّمه ممن حجّه واعتمره تشريفا وتكريما ومهابة وتعظيما وبرا» «135» . ثم مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حجه، فعلّم الناس مناسكهم وبيّن لهم سنن حجهم «136» . وألقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في يوم عرفة خطبة جامعة في جموع المسلمين الذين احتشدوا حوله في الموقف، هذا نصها: «أيها الناس: اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا. أيها الناس، إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا وإن كلّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإنّ أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث وربا الجاهلية موضوع، وأوّل ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كلّه. أيها الناس، إنّ الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم. أيها الناس، إنّ النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرم الله فيحلوا ما حرّم الله ويحرموا ما أحل الله، وإنّ الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. اتقوا الله في النساء، فإنكم إنما أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله. إنّ لكم عليهنّ حقا ولهنّ عليكم حقا: لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه «137» فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرّح، ولهن عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف. فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنة رسوله. يا أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا وإن أمّر عليكم عبد حبشي مجدّع ما أقام فيكم كتاب الله تعالى.

_ (135) رواه الطبراني، وابن سعد. (136) انظر حديث حجة رسول الله صلّى الله عليه وسلم من رواية جابر في صحيح مسلم: 4/ 37 (137) المقصود بذلك أن لا يأذن لأحد ممن يكرهون دخوله عليهن، وليس وطء الفراش كناية عن الزنا كما قد يتوهم.

العبر والعظات:

أرقاءكم أرقاءكم.. أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون، وإن جاؤوا بذنب لا تريدون أن تغفروه، فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم «138» . أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمنّ أن كلّ مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمنّ أنفسكم، اللهم هل بلغت؟ وستلقون ربكم فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلّغ الشاهد الغائب، فلعلّ بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت. فقال بأصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد (ثلاث مرات) » «139» . ثم لم يزل النبي صلّى الله عليه وسلم في عرفات حتى غربت الشمس، وحينئذ دفع بمن معه إلى المزدلفة، وهو يشير بيده اليمنى قائلا: «أيها الناس، السكينة، السكينة» ، فصلى في المزدلفة المغرب والعشاء جمع تأخير، وبات تلك الليلة في المزدلفة ثم دفع قبل أن تطلع الشمس إلى منى فرمى جمرة العقبة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة ثم أعطى عليا فنحر ما غبر (أي تتمة المئة) . ثم ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، وأتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال: «انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» ، فناولوه دلوا فشرب منه «140» . ثم قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عائدا إلى المدينة. العبر والعظات: أولا- عدد حجات الرسول صلّى الله عليه وسلم وزمن مشروعية الحج: اختلف العلماء: هل حجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم غير هذه الحجة في الإسلام؟ فقد روى الترمذي وابن ماجه أنه صلّى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج قبل هجرته إلى المدينة. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وهو مبنيّ على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج. فإنهم قدموا أولا فتواعدوا، ثم قدموا ثانيا فبايعوا البيعة الأولى، ثم قدموا ثالثا فبايعوا البيعة الثانية «141» . ومنهم من روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يحج كل سنة قبل أن يهاجر. وأيّا ما كان

_ (138) هاتان الفقرتان جاءتا في رواية ابن سعد في الطبقات. (139) نقلنا نص هذه الخطبة من صحيح مسلم، وأضفنا إليها زيادة جاءت في البخاري هي: «وستلقون ربكم..» إلى «من سمعه» كما أضفنا إليها زيادات بسيطة أخرى وردت في ابن إسحاق وطبقات ابن سعد وغيرهما. (140) من حديث جابر في صفة حجته صلّى الله عليه وسلم، رواه مسلم وغيره. (141) انظر فتح الباري: 8/ 74

ثانيا - المعنى الكبير لحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

الأمر، فإن مما لا شك فيه أن وجوب الحج إنما شرع في العام العاشر من الهجرة، فلم يكن واجبا قبل ذلك ولم يحج النبي صلّى الله عليه وسلم بعدها غير هذه الحجة. ولذلك كان يطلق كثير من الصحابة على حجة الوداع هذه اسم حجة الإسلام، أو حجة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبها عنون الإمام مسلم حديث هذه الحجة. ومن الأدلة على ذلك، ما رواه الشيخان من خبر وفد عبد القيس الذين قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقد جاء فيه أنهم قالوا له صلّى الله عليه وسلم: سرنا بأمر فصل نأخذ به ونأمر به من وراءنا وندخل به الجنة، قال: «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع» ، وعدّد لهم الأوامر الأربعة فقال: «آمركم بالإيمان بالله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من الغنم» . ويبدو أنه إنما ذكر الأمر بالإيمان زيادة على الأربعة، إذ هو معروف لهم، غير أنه أعاد الأمر به للتأكيد ولبيان أنه أساس الأوامر الأربعة التي ذكرها بعد. وقد كان مجيء هذا الوفد في السنة التاسعة للهجرة. فلو كان الحج مفروضا إذ ذاك، لعدّه في جملة الأوامر التي وجهها إليهم. ثانيا- المعنى الكبير لحجة رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن لحجة رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه معنى جليلا يتعلق بالدعوة الإسلامية ويتعلق بحياته صلّى الله عليه وسلم ويتعلق بالمنهج العام للنظام الإسلامي. لقد تعلم المسلمون من رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاتهم وصيامهم وأمر زكاتهم وعامة ما يتعلق بهم من عبادات وواجبات، وبقي أن يعلمهم مناسكهم وكيفية أدائهم شعائر الحج بعد أن طويت تلك التقاليد الجاهلية المتوارثة أيام موسم الحج من تصدية وصفير وعري أثناء الطواف، وقضي عليها مع القضاء على الأوثان وتطهير بيت الله الحرام منها. وإن الدعوة إلى الحج لبيت الله الحرام ستظل قائمة إلى يوم القيامة، فهي دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأمر من ربه سبحانه وتعالى. ولكنّ انحرافات الجاهلية وضلالات الوثنية قد زادت فيه تقاليد باطلة وصبغته بكثير من مظاهر الكفر والشرك، وقد جاء الإسلام ليغسل هذه الشعيرة مما قد علق بها من أدران، ويعيدها نقية صافية تشع بنور التوحيد وتقوم على أساس العبودية المطلقة لله تعالى. من أجل ذلك أذّن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الناس أنه حاجّ إلى بيت الله الحرام، ومن أجل ذلك أقبل الناس من كل حدب وصوب يريدون أن يأتموا به ليتعلموا الأعمال الصحيحة للحج فلا يقعوا في رواسب التقاليد الجاهلية البائدة. ويبدو أنه قد ألقي في روعه صلّى الله عليه وسلم، أن مهمته في الأرض توشك ان تنتهي، فقد أدى

ثالثا - تأملات في خطبة الوداع:

الأمانة، وأينعت أرض الجزيرة بغرس التوحيد وانتشر الإسلام يغزو الأفئدة والقلوب في كل مكان. وإن بالناس- وهم اليوم كثرة متفرقون- لشوقا إلى مزيد من اللقاء مع رسولهم والاستفادة من هديه ونصائحه، وبه هو أيضا صلّى الله عليه وسلم شوقا إلى مزيد من اللقاء معهم، لا سيما تلك الحشود التي دخلت في الإسلام حديثا من مختلف جهات الجزيرة العربية، ممن لم تتح لهم فرص اللقاء الكافي معه صلّى الله عليه وسلم. وإن أكبر وأجمل فرصة لذلك إنما هي فرصة اللقاء في الحج إلى بيت الله الحرام، وفي سفوح عرفات، لقاء بين أمة ورسولها في ظل شعيرة من أكبر شعائر الإسلام، لقاء اتضح أنه كان في علم الله تعالى وإلهام رسوله، لقاء توصية ووداع. ويريد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيضا أن يلتقي بهؤلاء الحشود المسلمة، الذين جاؤوا ثمرة جهاد استمر ثلاثة وعشرين عاما، ليلخص لهم تعاليم الإسلام ونظامه في كلمات جامعة وموعظة مختصرة يضمّنها كوامن وجدانه ونبرات محبته لأمته، وليستطلع من وجوههم صورة نسلهم وأعقابهم الذين سيأتون من بعد فينهي إليهم نصائحه وتوصياته من خلف حواجز الزمن ووراء أسوار القرون. تلك هي بعض معاني حجة رسول الله صلّى الله عليه وسلم: حجة الوداع، وإنك لتراها متجسدة في خطبته التي ألقاها في وادي عرنة في يوم عرفة. ثالثا- تأملات في خطبة الوداع: ولله ما أروعها من كلمات، تلك التي ألقاها في سفوح عرفات، وراح يخاطب فيها الأجيال والتاريخ بعد أن أدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد في سبيل الدعوة إلى ربه ثلاثة وعشرين عاما لا يكلّ ولا يملّ.. ولله ما أروعها من ساعة، تلك التي اجتمع حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيها الآلاف المؤلفة، اجتمعوا حوله خاشعين متضرعين، وطالما تربّصوا به قبل ذلك متآمرين ومحاربين. آلاف مؤلفة يملؤون ما يمتد به النظر من كل الجهات، تردد بلسان حالها قول الله عز وجل: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر 40/ 51] . وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينظر من خلال وجوههم إلى الأجيال المقبلة، إلى العالم الإسلامي الكبير الذي سيملأ شرق الأرض وغربها. وراح يلقي على مسامع هذا العالم خطابه المودع: «أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا ... » . وأنصتت الدنيا لتسمع قوله، وأنصت الحجر والقفر والمدر إلى الكلمة المودعة ينطق بها فم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن أنست وسعدت به الدنيا كلها ثلاثة وستين عاما، ها هو اليوم يلمّح بالرحيل، بعد أن قام بأمر ربه وغرس الأرض بغراس الإيمان. وها هو الآن يلخص المبادئ التي جاء بها وجاهد في سبيلها في كلمات جامعة، وبنود معدودة، يلقي بها إلى سمع العالم.

فماذا كان أول بند منها؟ يا سبحان الله ما أجلّ وأروع!. لكأنه صلّى الله عليه وسلم إنما كان يستلهم توصياته تلك من واقع المنزلقات التي سيتنكب فيها أقوام من أمته خلال الزمن تائهين وراء غيرهم ضائعين عن القبس الذي سيتركه بين أيديهم فلقد كان أول بند منها هو قوله: «أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم، كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا» . ولقد كرر هذه التوصية نفسها مرة أخرى في خاتمة خطابه، وأكد ضرورة الاهتمام بها وذلك عندما قال: «تعلمنّ أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين إخوة، فلا يحلّ لا مرئ من أخيه إلّا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمنّ أنفسكم. ألا هل بلغت؟» . ونحن نقول: أجل والله، لقد بلغت يا سيدي.. ولعلنا اليوم أولى من ينبغي أن يجيبك: اللهم لقد بلّغت! .. وإن كنا في ذلك إنما نسجل مسؤولية على أعناقنا قصرنا كل التقصير في القيام بحقها. أما البند الثاني: فلم يكن مجرد توصية، ولكنه قبل ذلك قرار أعلن عنه للملأ كله.. لأولئك الذين كانوا من حوله، والأمم التي ستأتي من بعده. وهذه هي صيغة القرار: «ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية، تحت قدميّ موضوع! .. دماء الجاهلية موضوعة.. وربا الجاهلية موضوع..» . فما المعنى الذي تتضمنه صيغة هذا القرار؟ .. إنه يقول: إن كل ما كانت الجاهلية تفخر وتتمسّك به من تقاليد العصبية والقبلية، وفوارق اللغة والأنساب والعرق، واستعباد الإنسان أخاه بأغلال الظلم والمراباة، قد بطل أمره ومات اعتباره، فهو اليوم جيفة منتنة غيبتها شريعة الله في باطن الأرض، وأصبح مكانها من حياة المسلم اليوم تحت موطئ الأقدام. إنه رجس ولّى، وعماهة أدبرت، وغاشية بادت. فمنذا الذي يرجع بعد ذلك لينبش التراب عن الجيفة المنتنة فيعانقها؟ .. وأي عاقل يتقمم الأدران التي تخلص منها ليتمسح ثانية بها؟ .. وأيّ أبيّ يعمد إلى القيد الذي كسره البارحة وألقاه، ليصلحه ويعود فيتقيّد به اليوم؟! .. أرجاس من تقاليد الجاهلية، أبعدها الرسول صلّى الله عليه وسلم عن منطلق الإنسانية وتقدمها الفكري والحضاري، وأعلن أنها قد عادت حثالة مدفونة تحت قدميه، كي يثبت للدنيا كلها ويسجل على مسمع القرون والأجيال، أنه ما من تائه يزعم التقدم الفكري إذ يعمد فينبش شيئا من هذا الدفين

القديم، إلّا وهو يرجع القهقرى يسبح فى أغوار قصية من التاريخ المظلم القديم، وإن خيّل إليه وهمه أنه إنما يتقدم صعدا ويخطو مترقيا. وأما البند الثالث: فقد أعلن فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن تطابق الزمن إذ ذاك مع أسماء الأشهر المقسّم عليها، وذلك بعد طول تلاعب بها من العرب في الجاهلية وصدر الإسلام. فقد كانوا- كما قال مجاهد وغيره- يجعلون حجهم كل عامين في شهر معين من السنة، فيحجون في ذي الحجة عامين، ثم يحجون في المحرم عامين وهكذا. فلما حجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا العام، وافق حجه شهر ذي الحجة وأعلن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ ذاك أن الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السموات والأرض. أي فلا تتلاعبوا بالأشهر تقديما وتأخيرا، ولا حجّ بعد اليوم إلا في هذا الزمن الذي استقر اسمه: ذو الحجة. وذكر بعضهم أن المشركين كانوا يحسبون السنة اثنى عشر شهرا وخمسة عشر يوما. فكان الحج في رمضان وفي شوال وذي القعدة.. وفي كل شهر من السنة، وذلك بحكم استدارة الشهر بسبب زيادة الخمسة عشر يوما. ولقد كان حجّ أبي بكر في السنة التاسعة من الهجرة واقعا في شهر ذي القعدة بسبب ذلك، فلما كان العام المقبل، (وفيه قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بحج الوداع) وافق حجّه ذا الحجة في العشر منه وطابق الأهلة. وأعلن حينئذ عليه الصلاة والسلام نسخ الحساب القديم للزمن وأن السنة إنما تعتبر بعد اليوم اثنى عشر شهرا فقط، فلا تداخل بعد اليوم. قال القرطبي: وهذا القول أشبه بقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الزمان استدار..» أي إن زمان الحج عاد إلى وقته الأصلي الذي عينه الله يوم خلق السموات والأرض، بأصل المشروعية التي سبق بها علمه «142» وفي البند الرابع: أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيرا بالنساء، وأكد في كلمة مختصرة جامعة القضاء على الظلم البائد للمرأة في الجاهلية، وتثبيت ضمانات حقوقها وكرامتها الإنسانية التي تضمنتها أحكام الشريعة الإسلامية. ولقد كانت هذه الحقيقة جديرة بتأكيد التوصية بها، بسبب أولئك المسلمين الذين كانوا قريبي عهد بتقاليدهم الجاهلية التي تقضي بإهمال شأن المرأة وعدم الاعتراف بأي حق لها، ولعل هنالك حكمة أخرى لهذه التوصية والاهتمام بها. وهي أن يكون المسلمون في كل عهد وطور من الزمن، على بيّنة من الفرق الكبير بين كرامة المرأة وحقوقها الطبيعية التي ضمنتها شرعة الإسلام، وما يهدف إليه بعضهم من استباحة الوسائل المختلفة إلى التمتع والتلهي بها، وهو ما حاربه الإسلام. وفي البند الخامس: وضع النبي صلّى الله عليه وسلم الناس من جميع المشكلات التي قد تعترض حياتهم،

_ (142) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 8/ 137 و 138

أمام مصدرين لا ثالث لهما، ضمن لهم بعد الاعتصام بهما، الأمان من كل شقاء وضلال، هما: كتاب الله وسنة رسوله. وإنك لتجده يتقدم بهذا التعهد والضمان إلى جميع الأجيال المتعاقبة من بعده، ليبيّن للناس أن صلاحية التمسك بهذين الدليلين ليس وقفا على عصر دون آخر، وأنه لا ينبغي أن يكون لأيّ تطور حضاري أو عرف زمني أي سلطان أو تغلب عليهما. وأما البند السادس: فقد أوضح فيه صلّى الله عليه وسلم ما ينبغي أن يكون عليه علاقة الحاكم أو الخليفة أو الرئيس مع الرعية أو الشعب. إنها علاقة السمع والطاعة من الشعب للحاكم مهما كان نسبه وشأنه ومظهره ما دام يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، فإذا حاد عنهما فلا سمع ولا طاعة، فلا مناط لولاء الحاكم وضرورة اتباعه إلا سيره على نهج الكتاب والسنة، وليكن بعد ذلك إن شاء عبدا حبشيا مجدّعا، فلا يخفضه ذلك قيد شعرة عن غيره عند الله تعالى. ولقد أوضح لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بهذا، أنه لا امتياز للحاكم من وراء حدود كتاب الله تعالى وسنة نبيه، ولا يمكن لحاكميته أن ترفعه قيد شعرة فوق مستوى المنهج والحكم الإسلامي، إذ هو في الحقيقة ليس بحاكم ولا يتمتع بأي حاكمية حقيقية، ولكنه أمين من قبل المسلمين على تنفيذ حكم الله تعالى. ومن هنا لم تتعرف الشريعة الإسلامية على شيء مما يسمى بالحصانة أو الامتيازات لطبقة ما بين المسلمين في شؤون الحكم أو القانون والقضاء. وفي الختام ... يشعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه أخرج مسؤولية الدعوة وتبليغها من عنقه، فها هو الإسلام قد انتشر، وها هي ضلالات الجاهلية والشرك قد تبدّدت، وها هي أحكام الشريعة الإلهية قد بلّغت، وها هو الوحي ينزل عليه صلّى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى مخاطبا البشر كلهم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة 5/ 3] . ولكنه صلّى الله عليه وسلم يريد أن يطمئن إلى شهادة أمته بذلك أمام الله تعالى يوم القيامة عندما يسألون.. فأعقب توصياته هذه لهم بأن نادى فيهم قائلا: إنكم ستسألون عني، فما أنتم قائلون؟ وارتفعت الأصوات من حوله تصرخ: نشهد أنك قد بلّغت، وأديت، ونصحت. وحينئد اطمأن الرسول العظيم صلّى الله عليه وسلم! ... لقد كان يريد أن يستوثق من هذه الشهادة التي سيلقى بها وجه ربه عز وجل.. ولقد اطمأن الحبيب الأعظم صلّى الله عليه وسلم إذ ذاك، وشعشع الرضى في عينيه، ونظر بهما إلى الأعلى مشيرا بسبابته إلى السماء ثم إلى الناس يقول: «اللهم اشهد ... اللهم اشهد ... اللهم اشهد» . ويا ما أعظمها من سعادة!؟ .. سعادة رسول الله عليه الصلاة والسلام بشبابه الذي أبلاه

وعمره الذي أمضاه في سبيل نشر شريعة ربه جلّ جلاله، وذلك حينما ينظر فيرى حصيلة الجهد الذي قدّم والعمر الذي بذل، أصواتا ترتفع وتعج بتوحيد الله، وجباها تعنو ساجدة لدين الله وقلوبا خفاقة تجيش بحب الله. ألا ما أسعد حبيب الله إذ ذاك بذكرى ما لقيه من ظمأ الهواجر، وشتات السفر في القفار، وعذاب السخرية والإيذاء، في سبيل هذا الإيمان الذي شاده فوق أرض الله! .. فلتكتحل به عيناك يا سيدي سعادة وسرورا، وليبارك لك ربك في وجيب قلبك اليوم حمدا ونشوة وحبورا. ولا والله، ما كان ذلك شهادة تلك الآلاف المحتشدة من حولك فحسب، يا سيدي رسول الله. ولكنها شهادة المسلمين في كل جيل وعصر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها تعلن بلسان حالها ومقالها: نشهد يا رسول الله أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجزاك الله عنا خير ما جوزي نبي عن أمته. ولكن مسؤولية الدعوة قد انتقلت من بعدك إلى أعناقنا، وما أبعدنا اليوم عن القيام بحقها، وما أشد خيبتنا بلقائك يا سيدي غدا، وإن علينا أوزارا من التقاعس والتكاسل والركون إلى زهرة الحياة الدنيا، بينما يلتفّ من حولك أصحابك البررة الكرام وإن في أيديهم وعلى أبدانهم شهادة الدم الذي سفكوه والجهد الذي بذلوه والدنيا التي حطموها تحت أقدامهم نصرة لشريعتك ودفاعا عن دعوتك وتأسيا بجهادك. أصلح الله حالنا وحال المسلمين جميعا، وأيقظنا من سكرة الدنيا ونشوة الشهوات والأهواء، وتغمدنا بلطفه وكرمه وجوده. وأتم صلّى الله عليه وسلم حجه، وتضلع من شرب ماء زمزم، وعلّم الناس مناسكهم، ثم عاد أدراجه إلى المدينة، ليواصل السعي والجهاد في سبيل دين الله عز وجل.

شكوى الرسول صلى الله عليه وسلم ولحاقه بالرفيق الأعلى

شكوى الرّسول صلّى الله عليه وسلم ولحاقه بالرّفيق الأعلى بعث أسامة بن زيد إلى البلقاء ما إن عاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة حتى أمر المسلمين بالتهيؤ لغزو الروم، واختار رسول الله صلّى الله عليه وسلم لإمرة هذا الغزو أسامة بن زيد رضي الله عنه، وكان رضي الله عنه شابا حدثا، فأمره صلّى الله عليه وسلم أن يسير إلى موضع مقتل أبيه زيد بن حارثة، وأن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، وذلك مع بدء شكواه صلّى الله عليه وسلم من مرضه الذي توفي فيه. ولكن المنافقين راحوا يقولون مستنكرين: أمّر غلاما حدثا على جلّة المهاجرين والأنصار «1» ! فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الناس وقد عصب رأسه وخطب فيهم قائلا: «إن تطعنوا في إمارة أسامة بن زيد فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله. وايم الله إن كان لخليقا بها، وايم الله إن كان لأحب الناس إليّ، وايم الله إنّ هذا لها لخليق- يريد أسامة بن زيد-، وايم الله إن كان لأحبّهم إليّ من بعده فأوصيكم به فإنه من صالحيكم» «2» . فتجهز الناس، وأوعب مع أسامة المهاجرين والأنصار، وخرج أسامة بجيشه إلى ظاهر المدينة، فعسكر بالجرف (مكان على فرسخ من المدينة) . (شكوى رسول الله صلّى الله عليه وسلم) وفي هذه الأثناء، اشتدت برسول الله صلّى الله عليه وسلم شكواه التي قبضه الله فيها، فأقام الجيش هناك، ينظرون ما الله قاض في هذا الأمر. وكان ابتداء شكواه ما رواه ابن إسحاق وابن سعد عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم من جوف الليل، فقال: يا أبا مويهبة، قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع، فانطلق معي. فانطلقت معه، فلما وقفنا عليهم قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن مثل قطع الليل المظلم يتبع آخرها أولاها، الآخرة شرّ من الأولى. ثم أقبل عليّ فقال: إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها،

_ (1) كان أسامة إذ ذاك ابن ثماني عشرة سنة أو عشرين، على اختلاف في ذلك. (2) متفق عليه، واللفظ لمسلم 7/ 131

فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة. فقلت: بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا وتخلّد فيها، ثم الجنة. قال: لا والله أبا مويهبة، قد اخترت لقاء ربي والجنة. ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف فابتدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وجعه الذي قبض فيه» «3» . وكان أول وجعه صلّى الله عليه وسلم صداعا شديدا يجده في رأسه، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنه صلّى الله عليه وسلم لما رجع من البقيع استقبلته وهي تقول: وارأساه، فقال لها صلّى الله عليه وسلم: «بل أنا والله يا عائشة وارأساه» «4» . ثم ثقل عليه الوجع فكان حمّى شديدة تنتابه، وكان بدء ذلك في أواخر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة وكانت عائشة ترقيه صلّى الله عليه وسلم خلال ذلك بمعوذات من القرآن. روى البخاري ومسلم عن عروة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه، طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث وأمسح بيد النبي صلّى الله عليه وسلم عنه. وشعرت نساؤه صلّى الله عليه وسلم برغبته في أن يمرّض في بيت عائشة رضي الله عنها، لما يعلمن من محبته لها وارتياحه إليها، فأذنّ له في ذلك، فخرج إلى بيتها من عند ميمونة يتوكأ على الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وفي بيت عائشة رضي الله عنها اشتد به وجعه، وكان قد شعر بقلق أصحابه وحزنهم عليه، فقال: «أهريقوا عليّ من سبع قرب لم تحلل أو كيتهن لعلّي أعهد إلى الناس (أي أخرج إليهم لأكلمهم) » قالت عائشة رضي الله عنها: فأجلسناه في مخضب (ما يشبه الإجّانة يغسل فيها الثياب) ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتنّ. ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم «5» ، خرج صلّى الله عليه وسلم عاصبا رأسه، فجلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم ثم قال: «عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده» فبكى أبو بكر رضي الله عنه (إذ علم ما يقصده النبي صلّى الله عليه وسلم) وناداه قائلا: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فقال صلّى الله عليه وسلم: «على رسلك يا أبا بكر، أيها الناس إن أمن الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت

_ (3) رواه ابن إسحاق وابن سعد، وأحمد في مسنده وروى نحوه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عائشة وأبي هريرة. وذلك كله غير الحديث الذي رواه مسلم ومالك في الموطأ في باب الطهارة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلّى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لا حقون، وددت أني قد رأيت إخواننا، فقالوا: يا رسول الله ألسنا بإخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي.. الحديث وربما توهم البعض أن هذا الذي رواه مسلم ومالك، هو ما رواه الآخرون عند قرب وفاته صلّى الله عليه وسلم، روياه على نحو آخر. وقد ثبت أنه صلّى الله عليه وسلم كان من عادته أن يذهب كل ليلة إلى البقيع يدعو ويستغفر لأهله. (4) رواه ابن إسحاق وابن سعد، وروى بنحوه الإمام أحمد في حديث طويل. (5) رواه البخاري.

متخذا خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام. لا تبقينّ في المسجد خوخة إلا خوخه أبي بكر «6» ، وإني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم وإني والله ما أخاف أن تشركوا من بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها» «7» . وعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى بيته، وما هو إلا أن اشتد به وجعه، وثقل عليه مرضه. روت عائشة رضي الله عنها قالت: «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مرضه: ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك، حتى أكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنّى متمنّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» «8» . وروى ابن عباس رضي الله عنه قال: «لما اشتد برسول الله صلّى الله عليه وسلم المرض، قال لرجال كانوا في البيت: هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، فقال بعضهم: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول قرّبوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قوموا» «9» . ولم يعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يطيق الخروج إلى الصلاة مع الناس، فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف (رقيق) وإنه إذا قام مقامك لم يكد يسمع الناس، فقال: «إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس» «10» . فكان أبو بكر هو الذي يصلي بالناس بعد ذلك، وخرج النبي صلّى الله عليه وسلم خلال ذلك مرة- وقد شعر بخفة- فأتى فوجد أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس، فاستأخر أبو بكر، فأشار إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن كما أنت، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو جالس، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر «11» .

_ (6) هو الباب الصغير بين البيتين. والحديث إلى هنا متفق عليه واللفظ لمسلم. (7) متفق عليه. (8) رواه مسلم في باب فضل أبي بكر: 7/ 110 وروى البخاري نحوه. (9) رواه البخاري في باب مرض النبي ووفاته: 5/ 138 (10) متفق عليه. (11) رواه البخاري في كتاب الصلاة باب من أقام إلى جنب الإمام لعلة، ومسلم في كتاب الصلاة باب استخلاف الإمام. ومالك في الموطأ كتاب صلاة الجماعة باب صلاة الإمام وهو جالس، وغيرهم. ومن العجب أن الشيخ ناصرا أخرج هذا الحديث في تخريجه لأحاديث كتاب فقه السيرة للغزالي، فعزاه إلى الإمام أحمد وابن ماجه فقط. وزاد على هذا أن أخذ يحقق في نسبة ضعف إليه بسبب أن فيه أبا إسحاق السبيعي. مع أن الحديث متفق عليه وله طرق غير هذا الذي اهتم بتحقيقه!. اللهم إلا أن رواية أحمد وابن ماجه فيها «واستفتح من الآية التي بلغها أبو بكر» وليس في رواية الشيخين هذه الجملة.

رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكرة الموت

واستبشر الناس خيرا بخروجه صلّى الله عليه وسلم إذ ذاك، ولكن البرحاء اشتدت عليه، وكان ذلك آخر مرة خرج يصلي فيها مع الناس. روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: «دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يوعك، فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك لتوعك وعكا شديدا فقال صلّى الله عليه وسلم: أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ .. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أجل، ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطّ الله به سيئاته كما تحطّ الشجرة ورقها» «12» . كان صلّى الله عليه وسلم أثناء ذلك يطرح خميصة (غطاء) له على وجهه، فإذا اغتم وضايقه الألم كشفها عن وجهه فقال: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» 13، كأنه صلّى الله عليه وسلم يحذّر المسلمين من أن يصنعوا صنيعهم به. رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسكرة الموت وذلك هو حكم الله في عباده كلهم: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر 39/ 30] . فقد دخل فجر يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول من العام الحادي عشر للهجرة، وبينما الناس في المسجد يصلون حلف أبي بكر رضي الله عنه، إذا بالستر المضروب على حجرة عائشة قد كشف، وبرز رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ورائه، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبه ليصل الصف، فقد ظن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهمّ المسلمون أن يفتنوا في صلاتهم فرحا برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده صلّى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر «14» . وانصرف الناس من صلاتهم، وهم يحسبون أن النبي صلّى الله عليه وسلم قد نشط من مرضه. ولكن تبين أنها كانت نظرة وداع منه صلّى الله عليه وسلم إلى أصحابه، فقد عاد عليه الصلاة والسلام فاضطجع إلى حجر عائشة رضي الله عنها، وأسندت رضي الله عنها رأسه إلى صدرها، وجعلت تتغشاه سكرة الموت، قالت: «وكان بين يديه ركوة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات» «15» . وكانت فاطمة رضي الله عنها إذا رأت منه ذلك قالت:

_ وعلى كل فالحادثة واحدة والحديث واحد ولا ينبغي عند التخريج الاقتصار على ذكر الطريق الضعيف والسكوت عن الطريق الصحيح أو المتفق عليه، لما في ذلك من الإبهام الواضح الذي يتحاشاه علماء الحديث. (12) و (13) متفق عليه. (14) رواه الشيخان. (15) رواه البخاري في باب مرض الرسول صلّى الله عليه وسلم ووفاته، وفي باب سكرة الموت من كتاب الرقاق: 7/ 192، ورواه الترمذي والنسائي وأحمد بطريق آخر بلفظ: «اللهم أعني على سكرات الموت» .

«واكرب أباه؟ .. فيقول لها عليه الصلاة والسلام: ليس على أبيك كرب بعد هذا اليوم» «16» . قالت عائشة رضي الله عنها: «إن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل عليّ عبد الرحمن وبيده السواك وأنا مسندة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك، فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه، فقلت: أليّنه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته فأمرّه، وبين يديه ركوة فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات. ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، حتى قبض، ومالت يده» «17» . وانتشر خبر وفاته صلّى الله عليه وسلم في الناس، وأقبل أبو بكر رضي الله عنه على فرس من مسكنه في السّنح (وكان قد ذهب إلى منزله هناك آملا أنه صلّى الله عليه وسلم قد عوفي من وجعه) ، حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكبّ عليه فقبله. وبكى، ثم قال: «بأبي أنت وأمي لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها» «18» . ثم خرج رضي الله عنه، وعمر يكلم الناس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يمت، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران وأنه صلّى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله المنافقين؛ فأقبل أبو بكر يقول له: على رسلك يا عمر، أنصت ولكنه استمر في كلامه مهتاجا، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس فأقبلوا إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد أيها الناس، من كان منكم يعبد محمدا صلّى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت، قال الله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آل عمران 3/ 144] . فكأن الناس لم يعلموا أن الله نزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما سمعها بشر من الناس إلا وأخذ يتلوها. قال عمر رضي الله عنه: «والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقرت ما تقلّني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها وعلمت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قد مات» «19» .

_ وقد خرجه الشيخ ناصر فقال: ضعيف أخرجه الترمذي وغيره عن طريق موسى بن سرجس بن محمد عن عائشة ... إلخ. وإنما هو ضعيف بهذا اللفظ فقط، أما أصل الحديث فقد رواه البخاري بطريق صحيح وإذا كان للحديث الواحد طريقان فلا ينبغي الاقتصار في تخريجه على ذكر الضعيف منهما لما فيه من الإيهام. كما سبق بيانه في صفحة (494) ولا يضير اختلاف يسير في اللفظ ما دامت الحادثة واحدة. (16) رواه البخاري. (17) رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري. (18) رواه البخاري. (19) رواه ابن إسحاق وغيره، كما رواه البخاري أيضا مع فرق بسيط في بعض الألفاظ.

العبر والعظات:

وقد أجمع الرواة وأهل العلم أنه صلّى الله عليه وسلم توفي عن ثلاثة وستين عاما من العمر، قضى أربعين منها قبل البعثة، وثلاثة عشر عاما يدعو إلى الله في مكة وعشر سنين قضاها في المدينة بعد الهجرة. وكانت وفاته في أول العام الحادي عشر. وروى البخاري عن عمرو بن الحرث، قال: «ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة» . العبر والعظات: في أحداث هذا القسم الأخير من سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلم، تلوح قصة الحقيقة الكبرى في هذا الوجود!. الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين وعناد الملحدين، وطغيان البغاة والمتألهين. إنها الحقيقة التي تمدّ صفحة هذا الوجود المائج كله، بغاشية الانتهاء والفناء. وتصبغ الحياة البشرية بصبغة العبودية والذل لقهار السموات والأرض. حقيقة تسربل بها (طوعا أو كرها) العصاة والطائعون، والرؤساء والمتألهون، والرسل والأنبياء، والمقربون والأصفياء، والأغنياء والفقراء، ودعاة العلم والاختراع!. إنها الحقيقة التي تعلن على مدى الزمان والمكان، وفي أذن كل سامع وعقل كل مفكر: «أن لا ألوهية إلا لله وحده، وأن لا حاكمية إلا لذاك الذي تفرد بالبقاء، فهو الذي لا مردّ لقضائه، ولا حدود لسلطانه، ولا مخرج عن حكمه، ولا غالب على أمره» . أيّ حقيقة تنطق بهذه الدلالة نطقا لا لبس فيه ولا غموض أعظم من حقيقة الموت وسكرة الموت إذ قهر الله بهما سكان الدنيا كلها منذ فجر الوجود إلى أن تغيب شمسه؟! .. لقد مرّ في معبر هذه الدنيا كثير من أولئك المفتريّن الذين غرقوا في شبر من القوة التي أوتوها، أو العلوم التي فهموها، أو المخترعات التي اكتشفوها، ولكن هذه الحقيقة الكبرى سرعان ما انتشلتهم وألقت بهم في بيداء العبودية وأيقظتهم إلى صحو التذلل لقيوم السماوات والأرض مالك الملك كله، فقدموا إلى الله عبيدا أذلاء خاضعين. كل نفس ذائقة الموت! .. إطلاق لا قيد فيه، وعموم لا مخصص له، وشمول ليس للدنيا كلها أن تجعل له حدّا. فليأت دعاة العلم الجديد، والرقي الحديث، ومتوثبو الغزو الفضائي فليجمعوا أمرهم وليضفروا جميع إمكاناتهم المختلفة وليحشدوا كل أقمارهم المصنوعة ومراكبهم المشروعة، فليستعينوا بذلك كله على أن يزيحوا عن أنفسهم شيئا من سلطان هذا الموت الذي قهرهم واستذلهم، وليبطلوا بذلك ولو جزءا من هذا التحدي الإلهي: كل نفس ذائقة الموت. فإن فعلوا ذلك فإن لهم حينئذ أن يشيدوا لأنفسهم صروحا عالية من الجبروت والطغيان والتأله والكفران، وإلا فأحرى بهم أن يتفرغوا

أولا - لا مفاضلة في حكم الإسلام إلا بالعمل الصالح:

للتأمل في تلك القبور التي سيغيبون في أحشائها والتربة التي سيمتدون من تحتها، وفي القبضة التي سوف لن ينجوا من حكمها. ولقد كان من اليسير على الله عز وجل أن يجعل مرتبة رسوله صلّى الله عليه وسلم فوق مستوى الموت وآلامه، ولكن الحكمة الإلهية شاءت أن يكون قضاء الله تعالى في تجرع هذا الكأس بشدتها وآلامها عاما لكل أحد مهما كانت درجة قربه من الله جلّ جلاله، حتى يعيش الناس في معنى التوحيد وحقيقته، وحتى يدركوا جيدا أن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، فليس لأحد أن يتمطى ليعلو بنفسه عن مستوى العبودية بعد أن عاش رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاضعا لحكمها ونزل به قضاؤها. وليس لأحد أن لا يكثر من ذكر الموت وسكرته، بعد أن عانى حبيب الله تعالى من برحائها وغشيته آلامها. وهذا المعنى هو ما أوضحه كلام الله جلّ جلاله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر 39/ 30] . وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ، أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ [الأنبياء 21/ 134، 135] . وإذن فنحن في هذا القسم الأخير من سيرته عليه الصلاة والسلام أمام مشهد لحقيقتين هما دعامتا الإيمان بالله عز وجل، بل هما دعامتا الحقيقة الكونية كلها: حقيقة توحيد الله عز وجل، وحقيقة العبودية الشاملة التي فطر الله الناس كلهم عليها، ولا تبديل لحكم الله وأمره. *** والآن.. فلنستعرض ما يوجد في ثنايا هذا البحث من الدروس الأحكام. أولا- لا مفاضلة في حكم الإسلام إلا بالعمل الصالح: فقد كان زيد بن حارثة رقيقا وهو والد أسامة هذا، وهو في أصله مولى، وكان أسامة كما قلنا فتى صغيرا بين الثامنة عشر والعشرين من العمر. ومع ذلك فلا الصغر ولا الرق القديم منع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أن يجعله أميرا على عامة الصحابة في غزوة مهمة كبرى! .. ولئن وجد المنافقون في هذا مثارا للتعجب أو الاستنكار، فإن شريعة الإسلام لا تستغرب ذلك ولا تستنكره، فما جاء الإسلام إلا ليحطم مقاييس الجاهلية التي كانوا بها يتفاضلون ويتفاوتون. ولعلّ النبي صلّى الله عليه وسلم وجد في أسامة ميزة جعلته أولى من غيره بقيادة الجيش في هذه الغزوة. وليس على المسلمين في هذا الحال إلا السمع والطاعة وإن أمّر عليهم عبد حبشي، ولذلك كان أول عمل قام به أبو بكر رضي الله عنه في خلافته هو إنفاذ جيش أسامة. وخرج رضي الله عنه فشيّع جيشه بنفسه ماشيا وأسامة راكب، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، لتركبن أو لأنزلن. فقال أبو بكر: والله

ثانيا - مشروعية الرقية وفضلها:

لا نزلت ولا ركبت، وما عليّ أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله؟ ولقد رجع أسامة رضي الله عنه من هذه الغزوة منصورا ظافرا وكان في تسيير ذلك الجيش نفع عظيم للمسلمين «20» . ثانيا- مشروعية الرّقية وفضلها: وهي التعويذة. ودليل ذلك ما رويناه من حديث البخاري ومسلم أنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوّذات ومسح عنه بيده.. إلخ. وقد كان صلّى الله عليه وسلم يرقي أصحابه بالقرآن آنا، وبالأذكار والأدعية أخرى. روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: أذهب البأس ربّ الناس، واشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما» ، وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النّبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها. ومن أوضح الأدلة على مشروعية الرقية بالقرآن الكريم قوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء 17/ 82] . والفرق بين الدعاء والرقية أن الرقية تزيد عليه المسح باليد والنفث بالفم، وهو النفخ بدون ريق، في الأصح ثم إنه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور إلى جواز أخذ الأجر على الرقية، وفصّل أبو حنيفة فمنعها على تعليم القرآن وأجازها على الرقية «21» ، ودليل ذلك حديث البخاري ومسلم أن ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانوا في سفر، فمروا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فلم يضيفوهم، فقالوا لهم: «هل فيكم راق، فإن سيّد الحي لديغ أو مصاب، فقال رجل منهم نعم، فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب، فشفي الرجل، فأعطي قطيعا من غنم فأبى أن يقبلها، وقال: حتى أذكر ذلك للنّبي صلّى الله عليه وسلم، فأتى النّبي صلّى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: يا رسول الله، والله ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب، فتبسّم وقال: وما أدراك أنها رقية؟ ثم قال: خذوا منهم واضربوا لي بسهم معكم» . وقد نقل النووي والحافظ ابن حجر وغيرهما الإجماع على مشروعية الرّقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، وأن يكون باللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثّر بذاتها، بل بذات الله تعالى «22» .

_ (20) تاريخ الطبري: 3/ 22 (21) انظر شرح النووي على مسلم: 14/ 118 (22) راجع النووي على مسلم: 14/ 169، وفتح الباري لابن حجر: 10/ 152

السحر والرقية منه:

وقد دلّت على هذه الشروط أحاديث صحيحة مثل ما رواه مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنّا نرقي في الجاهلية، فقلنا: «يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرّقى ما لم يكن فيه شرك» . السحر والرّقية منه: ولقد كان من أهم ما رقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم نفسه بالمعوّذات منه، السحر الذي سحره به لبيد بن الأعصم في الحديث الذي رواه الشيخان. ولقد ذكر العلماء أن جمهور المسلمين على إثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة، ودليله هذا الحديث، وذكر الله تعالى له في كتابه، وأنه مما يتعلم، وذلك لا يكون إلا فيما له حقيقة ما. وقوله سبحانه وتعالى عنه فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة 2/ 102] ، والتفريق بين المرء وزوجه شيء حقيقي كما هو معروف. وقد يستشكل بعضهم هذا الذي نقول لسببين: الأول: كون السحر بحد ذاته حقيقة ثابتة، إذ هو فيما يتوهمه البعض أمر مناف لقضية التوحيد وانحصار التأثير لله وحده. الثاني: أن يقال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد سحر، فذلك مما يحط (في وهمهم) من منصب النّبوة ويشكّك الناس فيها. والحقيقة أنه لا إشكال في الأمر ألبتة. أما الجواب عن الوهم الأول، فهو أن اعتبار السحر حقيقة ثابتة لا يعني كونه مؤثرا بذاته بل هو كقولنا السّمّ له مفعول حقيقي ثابت، والدواء له مفعول حقيقي ثابت، فهذا كلام صحيح لا ينكر. غير أن التأثير في هذه الأمور الثابتة إنما هو لله تعالى. وقد قال الله تعالى عن السحر وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة 2/ 102] ، فقد نفى الله عزّ وجلّ عن السحر التأثير الذاتي، ولكنه أثبت له في الوقت نفسه مفعولا ونتيجة منوطة بإذن الله تعالى. وأما الجواب عن الوهم الثاني، فهو أن السحر الذي أصيب به صلّى الله عليه وسلم إنما كان متسلطا على جسده وظواهر جوارحه كما هو معروف. لا على عقله وقلبه واعتقاده. فمعاناته من آثاره كمعاناته من آثار أي مرض من الأمراض التي يتعرض لها الجسم البشري لأي كان، ومعلوم أن عصمة الرسول صلّى الله عليه وسلم لا تستلزم سلامته من الأمراض والأعراض البشرية المختلفة. قال القاضي عياض: «وأما ما جاء في الحديث من أنه صلّى الله عليه وسلم كان يخيّل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه صلّى الله عليه وسلم داخلة نقص أو عيب في شيء من تبليغه أو شريعته، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا (أي مما يدخل أي داخلة نقص في تبليغ الشريعة) ، وإنما هذا فيما يجوز طروّه من أمور الدنيا التي لم يبعث بسببها ولا فضّل من أجلها،

وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر. فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها مالا حقيقة له ثم ينجلي عنه كما حصل» «23» . قلت: وهو كما يحصل للمريض عند شدّة الحّمى، فمن الأعراض الطبيعية لذلك أن تطوف بالذهن أخيلة وأوهام غير حقيقية لشدة وطأة الحرارة، والأمر في ذلك وأشباهه من الأعراض البشرية التي يستوي فيها الأنبياء والرسل مع غيرهم من الناس. على أن خبر سحره صلّى الله عليه وسلم، إنما يدخل في جملة الخوارق التي أكرم الله بها رسوله صلّى الله عليه وسلم، فهو ليس مثار نقيصة له، وإنما هو دليل جديد من أدلة إكرام الله له، وحفظه إياه. فقد دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وظل يكثر من الدعاء حين شعر بهذه الأعراض في جسمه إلى أن أطلعه الله على المكيدة التي صنعها له لبيد بن الأعصم في السّر، فذهب إلى حيث قد طوى الرجل أمشاطه وأسباب سحره فأبطل رسول الله صلّى الله عليه وسلم كل ذلك وإليك نص الحديث: روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «سحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله. حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنه دعا ودعا. ثم قال يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه. أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب (أي مسحور) ، قال: من طبّبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة «24» وجف طلع نخل ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان. فأتاها النّبي صلّى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه.. فجاء فقال: يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء، وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين! .. قلت يا رسول الله: أفلا استخرجته، قال: لقد عافاني الله فكرهت أن أثير على الناس فيه شرّا، فأمر بها (أي البئر) فدفنت» . فأنت ترى أن هذا الحديث دليل إكرام وعصمة من الله لرسوله أكثر من كونه دليل أذى قد أصابه في جسمه أو أي جانب يتعلق ببشنريته. بقي أن أحدا قد يستشكل قائلا: فكيف تتميز المعجزة الإلهية إذن عن السحر ومظاهره مادام أن له حقيقة؟ والجواب، أن المعجزة التي تحصل على يد النّبي صلّى الله عليه وسلم إنما تكون مقترنة بدعوى النّبوة والتحدي بها كدليل على صدق دعواه. وليس السحر كذلك فلا يمكن أن يتم على يد الساحر مع

_ (23) شرح الشفاء للقاضي عياض: 4/ 278، 279، وانظر أيضا شرح النووي على مسلم: 14/ 174 (24) المشط معروف، والمشاطة: ما يخرج من الشعر إذا مشط، وجف الطلع: هو الغشاء الذي يكون على الطلع.

ثالثا - مظاهر من فضل أبي بكر رضي الله عنه:

دعوى أنه نبي «25» . هذا إلى أن سلطان السحر محدود، فهو وإن كان له حقيقة كما قلنا، غير أن حقيقته لا تتجاوز حدودا معينة، ولا يمكن أن يتوصل به إلى قلب الحقائق وتبديل جواهر الأشياء، ولذلك عبر الله سبحانه وتعالى عن السحر الذي صنعه سحرة فرعون بقوله: قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه 20/ 66] ، فعبر عما رآه موسى، من صنيعهم بالخيال، أي فالحبال لم تنقلب في الحقيقة إلى ثعابين بسحرهم الذي فعلوه، وإنما الذي اتجه إليه سحرهم هو أبصار المشاهدين فقط فهي التي سحرت لا الحبال والعصيّ. وهذا ما أوضحته الآية الأخرى وهي قوله تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف 7/ 66] . وإذا تأملت في هذا الذي نقول، علمت أنه لا تنافي بين ما ذكرناه من أن السحر حقيقة ثابتة، وقوله تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه 20/ 66] ، إذ إن انقلاب 8 الحبال ثعابين تسعى، خيال. أما تأثّر العين بهذا الخيال وضعفها عن رؤية الحقيقة فذلك هو مفعول السحر وحقيقته لما أصاب العين هذا الذي أصابها، وهذا التحقيق يؤكد لك أيضا أن مناط السحر دائما هو جسم الإنسان أو حواسه وجوارحه، تظهر بسببه بعض المرئيات أو المحسوسات على غير حقيقتها. ثالثا- مظاهر من فضل أبي بكر رضي الله عنه: وفيما أسلفنا من قصة مرضه صلّى الله عليه وسلم أربع دلائل على ما لأبي بكر رضي الله عنه من المزية والفضل عند رسول الله. الأولى: حينما بدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطابه بقوله: «عبد خيّره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده» . فقد أدرك أبو بكر ما يعنيه عليه الصلاة والسلام ولذلك أخذه البكاء وصرخ قائلا: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، ولم ينتبه أحد غيره إلى هذا الذي استشعره رضي الله عنه من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام. فقد جاء في بعض طرق هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري أنه لما بكى أبو بكر لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قلت في نفسي: «ما يبكي هذا الشيخ أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخبرنا عن عبد خيّر فاختار؟ قال: فكان رسول الله هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا به» . الثانية: قوله عليه الصلاة والسلام: إن أمن الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر.. الحديث، وإنها لكلمات خوالد ما سجّل مثلها لغير أبي بكر رضي الله عنه. الثالثة: ما ذكرناه من رواية مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنه صلّى الله عليه وسلم قال لها: «ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمنّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» . وإن هذا الحديث ليعدّ بمثابة النص على استخلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلم له من

_ (25) راجع النووي على صحيح مسلم: 14/ 175

رابعا - النهي عن اتخاذ القبور مساجد:

بعده، ولئن كانت الحكمة الإلهية اقتضت أن لا يأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أصحابه عهدا بذلك وأن لا يسجل لهم كتابا به، فكل ذلك كي لا يصبح توارث الحكم والخلافة سنّة متبعة من بعده، وفي ذلك من مفسدة القضاء على اتباع شروط الصلاح في الحاكم ما هو غير خاف على أحد. الرابعة: استخلافه رضي الله عنه للصلاة بالناس في مكانه، ولقد رأيت مدى شدته في تعيين أبي بكر لذلك وردّه الشديد على عائشة رضي الله عنها فيما راجعته به. ولئن كنا نقول إن هذه المزايا الثابتة في صحاح الأحاديث لأبي بكر رضي الله عنه، هي التي رجحت مبايعة المسلمين له بالخلافة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فهذا لا يغض من خصائص وميز الصحابة والخلفاء الآخرين خصوصا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد رأيت أنه صلّى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر: «لأعطينّ هذه الراية غدا لرجل يحبه الله ورسوله» ، فذهب الناس يتساءلون في تلك الليلة من سيكون صاحب الراية. فكان صاحبها هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولقد انتهى أمر الخلافة وأبرم المسلمون الحكم فيها عقب وفاته صلّى الله عليه وسلم، دون أن يستلزم ذلك أي تفرق أو شقاق بينهم من وراء حدود المذاكرة والمناقشة التي لا بدّ منها. وظل كل من أبي بكر وعلى رضي الله عنهما مظهرا ولسانا ناطقا بفضل الآخر. ولا ريب أن من تافه القول والعمل أن نعمد بعد مرور ما يقارب أربعة عشر قرنا على ذلك التاريخ فنضيع الوقت ونستثير الشحناء والبغضاء، في سبيل القول بأن هذا كان أولى بالخلافة أم ذاك، مع أن أصحاب العلاقة أنفسهم لم يقم بينهم أي شقاق من هذا القبيل، وما مضوا للقاء ربّهم إلا وهم ينبضون بقلب واحد حبّا وتضامنا. رابعا- النهي عن اتخاذ القبور مساجد: ولقد رأيت من صيغة الحديث الدّال على ذلك شدة النهي والمبالغة في التحذير من الإقدام على هذا العمل. قال العلماء: «وإنما نهى النّبي صلّى الله عليه وسلم عن اتّخاذ قبره وقبر غيره مسجدا خوفا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية» . وتتحقق صورة النهي عنه بأن يشاد فوق القبر مسجد فيصبح ما حول القبر مصلى بذلك للناس، أو بأن يصلّى عند القبر وأن يتخذ مسجدا. والعلماء في حكمهم على الصلاة عند القبور، بين محرم ومكره، والذين قالوا بالكراهة شددوا بها عندما تكون الصلاة إلى القبر، أي بأن يكون القبر بين المصلي والقبلة، ولكنها صحيحة على كلّ، لأن الحرمة لا تستلزم البطلان. فيكون حكمها كحكم الصلاة في الأرض المغصوبة. قال الإمام النووي: «ولما احتاج الصحابة رضوان الله عليهم والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيها،

خامسا - شعوره صلى الله عليه وسلم وهو يعاني سكرة الموت:

ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين على ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر» «26» . خامسا- شعوره صلّى الله عليه وسلم وهو يعاني سكرة الموت: وإنا لنستطيع أن ندرك شعوره وما كان قد انصرف إليه تفكيره وهمّه في تلك الساعة مما ذكرنا. فقد رأينا أنه بينما كان الناس مصطفين لصلاة فجر يوم الإثنين إذا بالستر المضروب على حجرة عائشة رضي الله عنها قد كشف، وبرز رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ورائه، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسّم يضحك، حتى نكص أبو بكر على عقبه ليصل الصف وكاد الناس أن يفتنوا في صلاتهم فرحا به صلّى الله عليه وسلم، ولكنه أشار إليهم بيده أن أتّموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر. لقد كان تفكيره إذن منصرفا تلك الساعة إلى أمته، وإلى ما سيكون عليه حالهم من بعده.. وإنك لتشعر من نظرته الباسمة إلى أصحابه وهم يقفون خاشعين بين يدي الله تعالى، بمعنى الحب العظيم يفيض به فؤاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم لهم، بل وإنك لتجد في ابتسامته مظهرا لما كان يخفق به قلبه من حبّهم والدعاء لهم والتوجه إليهم. لقد أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم (بأبي هو وأمي) وهو يمرّ بآخر دقائق عمره أن يتزود من أصحابه رضوان الله عليهم بآخر نظره، وأن يطمئن إلى الحق الذي تركهم عليه والهداية التي أرشدهم إليها.. فأراه الله منهم ما طابت به نفسه وقرّت له عينه، حتى غلب ذلك المشهد آلام الموت السارية في جسده فغلبها، وإذا بالبشر والسرور والرضا يطفح كل ذلك على وجهه، حتى خيّل للصحابة أنه صلّى الله عليه وسلم قد نشط من أوجاعه، وعوفي من آلامه. ولكنهم ما عرفوا إلا أخيرا أنه إنما وقف ينظر إليهم تلك النظرة لينقلب بها إلى سكرة الموت، وهي آخر لوحة تسجل في ذهنه لمشهد أصحابه، بل وأمته كلها، كي تكون هي العهد الباقي بينهم وبين الله عزّ وجلّ، ولتكون هي الهمزة الواصلة بين لحظة الوداع لأمته في الدنيا ولحظة الاستقبال لها في الآخرة على حوضه الموعود. ولقد شاءت حكمة الله أن يكون هذا المشهد هو الصلاة! .. وشاءت إرادة الله تعالى أن تكون هي العهد الأخير.. فيا أخي المسلم: العهد العهد الذي فارقت عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو راض يتبسّم.

_ (26) النووي على مسلم: 5/ 13، 14

خاتمة في بعض صفاته صلى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره

خاتمة في بعض صفاته صلّى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره كفّن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، ولما أدرج في أكفانه، وضع على سريره على شفير القبر ثم دخل الناس أرسالا يصلون عليه فوجا فوجا لا يؤمهم أحد، فأولهم صلاة عليه العباس ثم بنو هاشم ثم المهاجرون ثم الأنصار، ثم سائر الناس. ودفن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مكانه الذي توفي فيه في حجرة عائشة. توفي عليه الصلاة والسلام عن تسع من النساء هن: سودة، وعائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وجويرية، وصفية، وميمونة، ولم يتزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكرا غير عائشة رضي الله عنها. له صلّى الله عليه وسلم ثلاثة بنين: القاسم (وبه يكنى) ولد قبل النبوة وتوفي وهو ابن سنتين، وعبد الله وسمي الطيب والطاهر، ولد بعد النبوة، وإبراهيم ولد بالمدينة سنة ثمان ومات بها سنة عشر. وكان له أربع بنات: زينب، وفاطمة، ورقية، وأم كلثوم. وكان وفاة رقية يوم بدر في رمضان سنة اثنين من الهجرة، وتوفيت أم كلثوم في شعبان سنة تسع من الهجرة وكلتاهما كانتا عند عثمان بن عفان رضي الله عنه. كان صلّى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان أحسنهم خلقا وخلقا، وألينهم كفا وأطيبهم ريحا، وأحسنهم عشرة، وأشدهم لله خشية. لا يغضب لنفسه ولا ينتقم لها وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله فلا يقوم لغضبه شيء حتى ينتصر للحق. وكان خلقه القرآن، وكان أكثر الناس تواضعا يقضي حاجة أهله ويخفض جناحه للضعفة، وكان من أشد الناس حياء، وما عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه، ولا يأكل متكئا ولا على خوان، وكان يحب الحلواء والعسل ويعجبه الدبّاء (اليقطين) . وكان يأتي الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوته نار. وكان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. وكان يخصف النعل ويرقع الثوب ويعود المريض ويجيب من دعاه من غني وفقير. كان فراشه من أدم حشوه ليف، وكان متقللا من أمتعة الدنيا كلها، وقد أعطاه الله تعالى مفاتيح خزائن الأرض كلها فأبى أن يأخذها واختار الآخرة عليها. وكان كثير الذكر دائم الفكر، جلّ ضحكه التبسم، وكان يمزح ولا يقول إلا حقا.

وكان يتألف أصحابه ويكرم كريم كل قوم ويولّيه أمرهم. ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحته، ولقد خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي قط أفّ. ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله ألا فعلت كذا؟» . واعلم أن زيارة مسجده وقبره صلّى الله عليه وسلم، من أعظم القربات إلى الله عز وجل، أجمع على ذلك جماهير المسلمين في كل عصر إلى يومنا هذا. لم يخالف في ذلك إلا ابن تيمية غفر الله له، فقد ذهب إلى أنّ زيارة قبره صلّى الله عليه وسلم غير مشروعة. ودليل ما أجمع عليه المسلمين من دونه عدة وجوه: الوجه الأول: مشروعية زيارة القبور عموما واستحبابها، وقد ذكرنا فيما سبق أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يذهب كل ليلة إلى البقيع يسلّم على أهله ويدعو ويستغفر لهم، ثبت ذلك في الصحيح. والأحاديث الثابتة في تفصيل ذلك كثيرة. ومعلوم أن قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم داخل في عموم القبور فيسري عليه حكمها. الوجه الثاني: ما ثبت من إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على زيارة قبره صلّى الله عليه وسلم والسلام عليه كلما مروا على الروضة الشريفة، روى ذلك الأئمة الأعلام وجماهير العلماء بمن فيهم ابن تيمية رحمه الله. الوجه الثالث: ما ثبت من زيارة كثير من الصحابة قبره صلّى الله عليه وسلم، منهم بلال رضي الله عنه رواه ابن عساكر بإسناد جيد، وابن عمر فيما رواه مالك في الموطأ وأبو أيوب فيما رواه أحمد، دون أن يؤثر عنهم أو عن أحد منهم أي استنكار أو نقد لذلك. الوجه الرابع: ما رواه أحمد رضي الله عنه بسند صحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما خرج يودع معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: «يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمرّ بمسجدي هذا وقبري» ، فكلمة (لعل) تأتي في أعمّ الأحوال للرجاء، وإذا دخلت (أن) على خبرها تمخضت للعرض والرجاء. فالجملة تنطوي بصريح البيان على توصية معاذ بأن يعرج عند رجوعه إلى المدينة على مسجده صلّى الله عليه وسلم وقبره ليسلم عليه «1» . إذا تبين هذا، فاعلم أنه لا وجه لما انفرد به ابن تيمية رحمه الله من دفع هذه الأوجه كلها في غير ما دافع والقول بأن زيارة قبره صلّى الله عليه وسلم عمل غير مشروع! ..

_ (1) هنالك أيضا طائفة من الأحاديث الواردة عنه صلّى الله عليه وسلم في فضل زيارة قبره، لا يخلو معظمها من ضعف أو لين. وهي وإن كانت ترتقي في مجموعها إلى درجة القوة، فقد آثرنا أن لا نسوقها مع هذه الدلائل التي ذكرناها حتى لا يتعلق المخالفون بما قد يطيب لهم التعلق به من لين أو ضعف فيها، فيجدوا بذلك منفذا للانتصار لرأي ابن تيمية على ما فيه من شذوذ.

وجملة ما اعتمده ابن تيمية في ذلك، قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى» ، وقوله: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وقوله: «لا تجعلوا قبري عيدا» . وليس في شيء من هذه الأحاديث الثلاثة ما يصلح أن يكون مستندا لما انفرد به. 1- فقوله عليه الصلاة والسلام: لا تشد الرحال.. إلخ استثناء مفرغ كما هو معلوم والمستثنى منه محذوف، وإنما يقدر المستثنى من جنس المستثنى منه، وإلا كان استثناء منقطعا، وهو استثناء مجازي، ولا يجوز إضمار المجاز إلّا عند الضرورة التي لا تصلح معها الحقيقة. فتقدير الحديث: لا تشد الرحال إلى المساجد إلا إلى ثلاثة منها.. إلخ فالمستثنى منه هو المساجد، والمعنى أن جميع المساجد في الفضل سواء، إلا هذه المساجد الثلاثة، فلا وجه لتفضيل بعضها على البعض في زيارة أو اعتكاف أو نحو ذلك. وعملا بهذا الحديث قال الفقهاء: إنه لو نذر الاعتكاف وسمى مسجدا معينا غير هذه المساجد الثلاثة، لم يجب عليه قصد ذلك المسجد بخصوصه ولم يسنّ، بل يغنيه أن يعتكف في أي مسجد من مساجد الدنيا. أما حديثنا فهو عن زيارة قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو ليس داخلا لا في المستثنى ولا في المستثنى منه، فالحديث بمعزل عن أي إشارة إليه، وهو كما لو قلت: لا يجوز أن تشد الرحال إلى زيارة الأرحام أو إلى العلماء لنتعلم منهم، لحديث لا تشد الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد.. إلخ!! .. ثم إننا نسأل بعد هذا: أفيفهم ابن تيمية من كلمة (شدّ الرحال) معناها الحقيقي، أم المعنى المجازي الذي هو القصد والعزم على الشيء؟ فإن كان يفهم منها المعنى الحقيقي، فينبغي ألا تحرم زيارة غير هذه المساجد الثلاثة من المساجد الأخرى إلّا إذا شدّ لذلك رحلا ثم مضى إليه بواسطة الرحل، قربت المسافة أو بعدت، فإن سعى إليه بوسيلة أخرى غير شدّ الرحال لم يعد ذلك حراما، وهل يقول عاقل بذلك؟ وإن كان يفهم من الكلمة معناها المجازي- وإنما المعنى المجازي لها هو الاتجاه إلى الشيء لا يقصد غيره- فإن عمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعارضه ويرده. فقد كان صلوات الله عليه يزور مسجد قباء في كل أسبوع، وفي رواية كل يوم سبت، وقد كان مسجد قباء خارج المدينة. والخلاصة، أن المستثنى منه في الحديث هو المساجد، وزيارة الأرحام والقبور والأشخاص والمعالم غير داخلة في المستثنى منه، فلا شأن للحديث بها. ومعنى الحديث: إن أولى المساجد بالاهتمام للتوجه إليها من مسافات بعيدة هذه المساجد الثلاثة. 2- وقوله صلّى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» لا شأن له بموضوع الزيارة

إطلاقا. إذ هو نهي عن اتخاذ قبور الأنبياء وما حولها مصلى على نحو ما مرّ بيانه قريبا، تعلم هذا من قوله (مساجد) إذ المساجد أماكن الصلاة. ولو استقام أن يكون مجرد زيارة القبر اتخاذا له مسجدا، لكان من مقتضى ذلك أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلم قد جعل من البقيع كله مسجدا له، إذ كان يزوره دائما. 3- أما قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا قبري عيدا» ، فإنما معناه لا تتخذوا لزيارة قبري وقتا معينا لا يزار إلا فيه كما هو شأن العيد، كما فسره بذلك الحافظ المنذري وغيره من علماء الحديث، ولا مانع أن يضاف إليه أيضا النهي عن إظهار الصخب واللهو ومظاهر الزينة عنده على نحو ما يكون في الأعياد. أما أن تدل الكلمة على النهي عن زيارة قبره، فإنها عن ذلك بمعزل وما كان النبي صلّى الله عليه وسلم لينهى الناس عن اتخاذ قبره عيدا بهذا المعنى المزعوم ثم يعمد هو فيتخذ من البقيع في كل يوم عيدا! .. ثم اعلم أن لزيارة قبره آدابا لابدّ من اتباعها، فإذا أكرمك الله تعالى بالتوجه إلى زيارته، فاعقد العزم أولا على زيارة مسجده ثم انو مع ذلك زيارة قبره الشريف. ثم اغتسل قبيل دخولك المدينة، والبس أنظف ثيابك، واستحضر في قلبك شرف المدينة وأنك في البقعة التي شرّفها الله بخير الخلائق. فإذا دخلت المسجد فاقصد الروضة الكريمة، وصلّ ركعتي تحية المسجد ما بين القبر والمنبر. فإذا دنوت إلى القبر الشريف بعد ذلك، فإياك أن تهجم عليه أو تلتصق بالشبابيك أو تتمسح بها كما يفعل كثير من الجهال، فتلك بدعة توشك أن تكون محرمة. بل قف بعيدا عن القبر نحو أربعة أذرع ناظرا إلى أسفل ما يستقبلك من جدار القبر، وأنت غاضّ الطرف تستشعر الهيبة والإجلال، ثم سلّم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بصوت خفيض قائلا: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أشهد أنك قد بلغت رسالة ربك ونصحت لأمتك ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وعبدت الله حتى أتاك اليقين فصلى الله عليك وعلى آلك وأصحابك كثيرا كما يحبّ ربنا ويرضى» . ثم استقبل القبلة وانحرف إلى اليمين قليلا حتى تكون بين القبر والأسطوانة التي عند أول القبر وارفع كفيك بدعاء خاشع إلى الله جلّ جلاله، ولا تتوهم أن في هذا سوء أدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأن الدعاء ينبغي أن يكون مع استقبال القبر، فإن الدعاء خطاب لله عز وجل والخطاب لله لا يجوز أن يشرك فيه غيره. وخير اتجاه إلى الله عز وجل لدعائه هو اتجاه القبلة، ولا تلتفت إلى كثرة من قد تراهم يخالفون هذا من الجهال والمبتدعين. وابدأ دعاءك قائلا: اللهم إنك قلت وقولك الحق: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء 4/ 64] ، وقد أتيتك مستغفرا من ذنوبي مستشفعا برسولك إليك،

فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته. ثم أكثر من الدعاء لما تشاء من أمر دينك ودنياك ولإخوانك وعامة المسلمين. ولا تنس يا أخي أن تخصّني أنا أيضا بشيء من دعائك، قل: «اللهم إذا جمعت الأولين والآخرين لليوم الذي لا ريب فيه فأسبل جميل سترك على عبدك المذنب محمد سعيد بن ملا رمضان وأدخله بمحض منّك وفضلك في عبادك المغفورين، وامنحه شربة هنيئة من حوض نبيك محمد صلّى الله عليه وسلم يوم يقف عليه مشرق الوجه باسم المحيا يستقبل أصحابه الذين عرفهم وإخوانه الذين لم يرهم واشتاق إليهم، ولا تجعله من المطرودين أو المحرومين» . عهد يسألك الله عنه يا أخي المسلم أيا كنت، أن تدعو لأخيك عند ختمك لهذا الكتاب. فما أحوجني إلى دعاء خالص من أخ لي في ظهر الغيب. وأحمد الله تعالى وأشكره على توفيقه لتتميم هذا الكتاب، وأتضرع إليه سبحانه وتعالى أن يرزقني حسن التمسك بسنة حبيبه المصطفى صلّى الله عليه وسلم، وأسأله سبحانه أن يتجاوز بالصفح عما قد أكون تلبست به في هذا الكتاب من زلات وأخطاء وأن يجعل شفيعي في ذلك سلامة القصد وبذل الجهد، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأميّ وعلى آله وصحبه أجمعين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

خلاصة عن تاريخ الخلافة الراشدة

خلاصة عن تاريخ الخلافة الراشدة خلافة أبي بكر الصديق اجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة، بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتشاوروا فيمن ينبغي أن يخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قيادة المسلمين ورعاية أمورهم، وبعد المذاكرة والمداولة واستعراض طائفة من الاقتراحات، اجتمعت كلمتهم جميعا على أن يكون أول خليفة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم من بعده، خليفته في الصلاة بالمسلمين أيام مرضه، وصدّيقه الأكبر، ومؤنسه في الغار، أبو بكر رضي الله عنه. ولم يكن لعليّ رضي الله عنه رأي مخالف لهذا الإجماع، وتأخّر مبايعته له كان لأمر يتعلق بالخلاف الذي وقع بين أبي بكر وفاطمة رضي الله عنهما، من أجل مسألة ميراثها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم «1» . أهم ما قام به في مدة خلافته: أولا- تجهيزه وتسييره لجيش أسامة. ما إن استقر الأمر لأبي بكر رضي الله عنه، حتى بدأ فسيّر جيش أسامة الذي كان قد أقام بمكان قرب المدينة يقال له (ذو خشب) لما بلغ أسامة مرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ولم يبال رضي الله عنه بالآراء التي كانت تفضل تجميد هذا الجيش نظرا لانتشار الرّدة في بعض الصفوف، ولا بالآراء التي ارتأت أن يستبدل بأسامة غيره.. وخرج الصدّيق رضي الله عنه يودّع الجيش، وعلى رأسه أسامة، ماشيا. ولما أراد أسامة أن ينزل ليركب أبو بكر، قال له: والله لا نزلت ولا ركبت.. وأوصاهم أن لا يخونوا ولا يغدروا ولا يغلّوا ولا يمثّلوا ولا يقتلوا طفلا أو امرأة أو شيخا، وأن لا يحرقوا نخلا ولا يقطعوا شجرة، ولا يذبحوا شاة ولا بعيرا إلّا للأكل. وقال لهم: إذا مررتم بقوم تفرغوا للعبادة في الصوامع فدعوهم وما تفرغوا له. ثم قال الصدّيق رضي الله عنه لأسامة: إن رأيت أن تأذن لعمر بالمقام عندي حتى أستعين برأيه على أمور المسلمين. فقال له أسامة: الأمر بيدك. ثم سار أسامة، فكان لا يمرّ بقبيلة انتشر فيها الارتداد إلّا أرجعها، لقد كانت الرهبة تشيع في أفئدتهم، موقنين أن المسلمين لو لم يكونوا من القوّة بمكان لما خرجوا في هذا الوقت بمثل هذا الجيش

_ (1) انظر البداية والنهاية لابن كثير: 6/ 301

إلى الروم. ولما وصل أسامة بجيشه إلى بلاد الروم حيث قتل أبوه، قاتلوهم، ونصرهم الله عليهم، ثم عادوا ظافرين «2» . ثانيا- جهّز الجيوش لقتال أهل الرّدة ومانعي الزكاة، وعقد أحد عشر لواء، وأمر صاحب كل لواء بالتوجه إلى جهة، وتوجه هو على رأس لواء إلى (ذي القصة) . ولكن عليا رضي الله عنه أصرّ عليه وناشده أن يرجع، وقال له- وقد أمسك بزمام راحلته-: يا خليفة رسول الله أقول لك ما قال رسول الله يوم أحد: لمّ سيفك وأمتعنا بنفسك. فو الله لئن نكب المسلمون بك لن تقوم لهم قائمة من بعدك. فعاد أبو بكر وكلّف باللواء غيره «3» . وقد أيّد الله المسلمين وانقطع دابر الارتداد، واستقر الإسلام في أنحاء الجزيرة، وخضعت القبائل لدفع الزكاة. ثالثا- جهّز الصدّيق رضي الله عنه خالدا إلى العراق، وبعث معه المثنى بن حارثة الشيباني، ففتحوا بلادا كثيرة، وعادوا منتصرين غانمين. رابعا- حدثته نفسه بغزو بلاد الروم، فجمع الصحابة وشاورهم في ذلك، فاستصوبوا رأيه فالتفت إلى عليّ وقال له: ما ترى يا أبا الحسن؟ فقال أرى أنك مبارك الأمر مفوق منصور إن شاء الله، فسرّ لذلك أبو بكر وشرح الله صدره للأمر. فجمع الناس وقام خطيبا فيهم يحثّهم على الجهاد، وكتب كتبا إلى الولاة وأمرهم بالحضور، فاجتمع جمع كبير وأقبلت القبائل أفواجا، فعقد أبو بكر الألوية وأمّر الأمراء وبعثهم إلى الشام متتابعين، وجعل أبا عبيدة أميرا على الجيوش، وكلما اتجه أمير يودعه ويوصيه بتقوى الله وحسن الصحبة والمواظبة على الصلوات بالجماعة في أوقاتها، وأن يصلح كل منهم نفسه حتى يصلح الله له الناس، وأن يكرموا رسل العدوّ إذا قدموا عليهم، وأن يعملوا على تقليل لبثهم عندهم حتى يخرجوا من عسكرهم وهم جاهلون بأمر المسلمين.. وتوجه المسلمون إلى بلاد الروم.. واجتمعوا في اليرموك، وأرسلوا إلى أبي بكر يخبرونه بكثافة جموع الروم، فكتب رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد بالعراق يأمره بالتوجه إلى الشام، وأن يأخذ نصف الجيش المرابط في العراق ليكون ردءا لجيش أبي عبيدة، وأن يستخلف على النصف الباقي المثنى بن حارثة، وأمره أن يتولّى جيوش الشام بمجرد أن يصل إليها. فسار خالد حتى وصل إلى المسلمين في الشام، وكتب كتابا لأبي عبيدة يقول له فيه: أما بعد، فإني أسأل الله لي ولك الأمن يوم الخوف، والعصمة في دار الدنيا من كل سوء. فقد أتاني كتاب خليفة رسول الله يأمرني فيه بالمسير إلى الشام وبالقيام على جندها والتولي لأمرها. وو الله

_ (2) باختصار عن البداية والنهاية: 6/ 304 وما بعد. (3) رواه ابن كثير في البداية والنهاية، من حديث عبد الله بن عمر ومن حديث عائشة رضي الله عنها.

وفاة أبي بكر رضي الله عنه:

ما طلبت ذلك ولا أردته، فأنت على حالك التي كنت عليها، فلا نعصيك ولا نخالفك ولا نقطع دونك أمرا.. فلما قرأ أبو عبيدة كتاب خالد، قال: بارك الله بخليفة رسول الله فيما رأى وحيّا الله خالدا على ما صنع. وكان الصدّيق قد كتب لأبي عبيدة كتابا يقول فيه: أما بعد، فإني قد ولّيت خالدا على قتال العدو بالشام فلا تخالفه واسمع وأطع له. فإني يا أخي لم أبعثه عليك لأجل أنه عندي خير منك، ولكنني ظننت أن له فطنة في الحرب في هذا المكان الحرج، أراد الله بنا وبك الخير والسلام. ثم التقى المسلمون والروم، والتحم القتال بينهم، في سلسلة من المعارك، دامت مدة من الزمن. وكان نهايتها النصر للمسلمين، وقتل من الروم عدد كبير يصعب إحصاؤهم، كما أسر منهم عدد كبير أيضا. وفي هذه الأثناء وصل إلى خالد بن الوليد خبر يفيد أن أبا بكر قد توفي، وقد بويع بعده بالخلافة لعمر. كما تضمّن الكتاب أمرا بعزل خالد وتولية أبي عبيدة على الجيش. فأسرّ خالد الخبر في نفسه كي لا يقع اضطراب في صفوف المسلمين. ولما بلغ الخبر أبا عبيدة أسرّه هو الآخر ولم يعلم به أحدا للسبب ذاته «4» . وفاة أبي بكر رضي الله عنه: كانت وفاته في السنة الثالث عشرة من الهجرة ليلة الثلاثاء لسبع بقين من جمادى الآخرة عن ثلاث وستين من عمره. وكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام. ودفن في بيت عائشة بجانب قبر النّبي صلّى الله عليه وسلم. عهده بالخلافة إلى عمر: شاور أبو بكر رضي الله عنه قبيل وفاته طائفة من المتقدمين ذوي النظر والمشورة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاتفقت كلمتهم على أن يعهد بالخلافة من بعده إلى عمر بن الخطاب. فكان أبو بكر بذلك أول من عهد بالخلافة من بعده إلى رجل معين، ونصّب خليفة بمقتضى ذلك. ولعلّ الخير أن نقول كلمة في تفصيل ذلك: ذكر الطبري وابن الجوزي وابن كثير أن أبا بكر رضي الله عنه خشي على المسلمين أن يختلفوا من بعده ثم لا يجتمعوا على رأي، فدعاهم- لما ثقل عليه المرض- إلى أن يبحثوا لأنفسهم عن خليفة من بعده، ورغب أن يكون ذلك في حياته وبمعرفته. إلا أن المسلمين لم يتفقوا فيما بينهم على من يخلف أبا بكر في تلك الفترة القصيرة. فوضعوا

_ (4) باختصار عن الطبري 3/ 343 وما بعد، والبداية والنهاية لابن كثير: 6/ 343 وما بعد، وتاريخ الخلفاء للسيوطي: 67

على أي أساس أصبح عمر خليفة؟

الأمر بين يديه، وقالوا له: رأينا إنما هو رأيك. وعندئذ أخذ يستشير أعيان الصحابة، كلّا منهم على انفراد، ولما رأى اتفاقهم على جدارة عمر وفضله، طلع على الناس وأخبرهم أنه لم يأل جهدا في اختيار من هو أصلح لهم من بعده، وأنه قد استخلف عليهم عمر، فقالوا جميعا: سمعنا وأطعنا «5» . على أيّ أساس أصبح عمر خليفة؟ قد يظن البعض أن هذه الطريقة في تنصيب الخليفة تشبه أن تكون باختيار شخص واحد بعيدا عن الشورى التي ينبغي أن تعتمد على أهل الحل والعقد من عامة المسلمين. غير أنّا إذا أمعنا النظر رأيناها في مضمونها قائمة على مشورة أهل الحلّ والعقد. إذ إن أبا بكر لم يستخلف عليهم إلا بعد أن استشار أعيان الصحابة فارتأوا جميعا عمر وزكّوه له. ومع ذلك فإن استخلافه له لم يصبح في حكم المنعقد والمستقر، إلّا بعد أن خطب في الصحابة وسألهم أن يسمعوا ويطيعوا لعمر، فقالوا جميعا سمعنا وأطعنا، وبعد أن أجمع المسلمون بعد وفاته على صحة ما فعله أبو بكر وشرعية استخلافه. فكان ذلك دليلا من الإجماع على انعقاد الإمامة عن طريق العهد والاستخلاف بشروطه الشرعية المعتبرة «6» . كتاب العهد إلى عمر: بعد أن رأى أبو بكر موافقة الناس جميعا على استخلافه عمر عليهم، دعا عثمان بن عفان وأملى عليه الكتاب التالي: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد به أبو بكر خليفة رسول الله عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويوقن فيها الفاجر؛ إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن صبر وعدل فذلك علمي به ورأيي فيه، وإن جار وبدّل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرئ ما اكتسب، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون» . ثم ختمه، وخرج به عثمان فقرأه على الناس، وبايعوا عمر بن الخطاب. وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة. العبر والعظات: يدلّنا ما ذكرناه من الأحداث التي وقعت في خلافة أبي بكر رضي الله عنه على أمور ومبادئ كثيرة نجملها فيما يلي: أولا- إنما تّمت خلافة أبي بكر رضي الله عنه عن طريق الشورى، وقد اشترك في الأخذ بها سائر أهل الحلّ والعقد من الصحابة بمن فيهم سيّدنا علي رضي الله عنه. وقد دلّ ذلك على أن شيئا

_ (5) انظر تاريخ الطبري: 3/ 428، وسيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي: 36 (6) البداية والنهاية لابن كثير: 7/ 18

من النصوص في القرآن أو السّنة لم يقض بحقّ الخلافة بعد رسول الله لأحد. إذ لو كان في النصوص ما قضى بذلك، لما كان للشورى إلى ذلك من سبيل، ولما جاز للصحابة أن يتجاوزوا ما قضى به النص إلى ما اقتنعوا به واتفقوا عليه عن طريق الشورى. ثانيا- إن الخلاف الذي دار في سقيفة بني ساعدة، بين كبار الصحابة، بصدد التشاور في اختيار خليفة لهم، أمر طبيعي يقتضيه طرح القضية على بساط البحث والمشورة. وهو دليل بيّن قاطع على حماية الشارع للآراء والاقتراحات المختلفة، من أي مصادرة أو تقييد، في كل ما لم يرد به نصّ ثابت صريح. وإنما سبيل الوصول إلى الحق في كل ما سكت الشارع عنه، هو طرح أكثر من رأي، ومناقشتها جميعا بموضوعية وحرية وصدق. ولقد كانت المصيبة كبيرة، والمشكلة عويصة، لو أن الصحابة رضي الله عنهم، لم يجدوا أنفسهم إلا أمام خيار واحد، طرحوه للتصويت ثم انفضوا عن اتفاق عليه. إذن لكانت هذه الشورى عندئذ شورى مزيفة، ولكان الاتفاق مدفوعا إليه بجبر خارجي. والعجب ممن ينشدون الشورى في الإسلام، ويتهمونه بالاستبداد، حتى إذا رأوا مظاهر الشورى ماثلة أمام أعينهم، سموها، جهلا منهم أو تجاهلا: صراعا وشقاقا. إذن فما هي الشورى التي في أذهانهم، وما هي صورتها، وكيف ينبغي أن تكون؟ ثالثا- نصيحة عليّ لأبي بكر، رضي الله عنهما، أن لا يتوجه بنفسه لقتال المرتدين، خوفا على المسلمين إن أصابه سوء، تدلّ دلالة واضحة على شدة محبة علي لأبي بكر، وعلى قناعته التامة بخلافته لرسول الله وجدارته بتولي أمر المسلمين، كما تدلّ على المستوى الباسق من التعاون والإخلاص الساريين فيما بينهما. ومهما قيل عن تأخّر مبايعة علي لأبي بكر رضي الله عنهما، ومهما ورد من خلاف في مدة تأخّر هذه المبايعة، فإن شيئا من ذلك لا يتعارض مع هذه الحقيقة الثابتة ولا يعكرها. ومن المعروف أن تأخّر مبايعة علي، إنما كانت مسايرة، أو مجاملة، لمشاعر فاطمة رضي الله عنها، التي كانت مقتنعة، من خلال اجتهادها، بأنها ترث من أبيها رسول الله، كما ترث كل أنثى من أبيها. ولم يكن هذا التأخّر بسبب حفيظة في نفس عليّ على أبي بكر. وأنى لصاحب هذه الحفيظة أن يقف هذا الموقف المليء بمعاني الغيرة والتعاون والحب؟! .. رابعا- لا يتأمل مسلم في الموقف الذي وقفه أبو بكر، من القبائل المرتدة، والعزيمة الماضية التي تمتع بها في مقاومة هذه القبائل، والتي أبرزته في وضع متميز تقاصر عنه في بادئ الأمر جلّ الصحابة، بل جميعهم إلّا ويستيقن حكمة الله عزّ وجلّ التي وضعت الرجل المناسب في الوقت المناسب وأمام المهمة المناسبة. إن أيّا منّا لا يكاد يتصور أن في الصحابة كلهم من كان أجدر من أبي بكر بالوقوف في وجه تلك العاصفة، وردّها من حيث جاءت.

وحتى عمر الذي عرف بين الصحابة بشدته ومضاء عزمه، تقاصر عزمه وتراجعت شدته، أمام هذه العاصفة عن القوة التي تمتع بها أبو بكر. فمنذا الذي يرى هذه الحكمة الإلهية الباهرة، ثم يعتب على التاريخ وأهله، خضوعهما لسلطان هذه الحكمة الإلهية العادلة؟! .. خامسا- قد يظن بعض الناس أن مجرد العهد والاستخلاف، يعدّ طريقة من طرق ثبوت الإمامة والحكم، مستدلّا بما عمل أبو بكر رضي الله عنه من العهد بالخلافة إلى عمر. ولكن الأمر ليس كذلك، بل إن ثبوت الإمامة لا يتم إلا بعرض الأمر على المسلمين، ثم إعلانهم الرضا عن إمامة هذا الذي قد عهد إليه بها. فاستقرار الإمامة إنما يتم بهذا الرضا، أي فلو أن أبا بكر عهد بالخلافة إلى عمر، ولم يرض الناس به، فلا قيمة لذلك العهد. ومن هنا نعلم، كما ذكرنا من قبل، أن خلافة عمر إنما قامت على مشورة ضمنية، اندرجت في إجماع الصحابة على الرضا عمن اختاره لهم أبو بكر.

خلافة عمر بن الخطاب

خلافة عمر بن الخطاب هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، لقّبه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالفاروق، لأنه فرق بين الحق والباطل، بويع له بالخلافة في اليوم الذي توفي فيه الصدّيق. فقام بمثل سيرته وجهاده وصبره، وأعز الله به الإسلام. وكان أول عمل قام به عزله لخالد عن الإمارة وتولية أبي عبيدة مكانه. وشهد فتح بيت المقدس، وأقام بها عشرة أيام، ثم رجع إلى المدينة وأخذ معه خالدا، ولما عاتبه خالد على معاملته له، قال له: والله يا خالد إنك عليّ لكريم وإنك إليّ لحبيب «1» ، وكتب إلى البلاد والأمصار يقول لهم: إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكن عزلته شفقة على النفوس من سرعة هجماته وشدة صدماته 2، وكان خالد ابن خالة عمر رضي الله عنهما، وتوفي في خلافة عمر بحمص. وقد تمّ فتح دمشق ما بين صلح وعنوة، وفتح حمص وبعلبك صلحا، والبصرة والأبلّة كلاهما عنوة، وكان ذلك كله في سنة أربع عشرة. وفي هذه السنة جمع عمر الناس على صلاة التراويح عشرين ركعة. وفي سنة خمس عشرة فتحت الأردن كلها عنوة إلا طبرية فإنها فتحت صلحا. وفيها كانت وقعة اليرموك والقادسية. قال ابن جرير في تاريخه: وفيها مصّر سعد الكوفة، وفيها فرض عمر الفروض ودوّن الدواوين وأعطى العطاء بمقتضى السابقة في الإسلام «3» . وفي سنة ست عشرة فتحت الأهواز والمدائن، وأقام بها سعد الجمعة في إيوان كسرى، وهي أول جمعة جمعت بالعراق. وقد استشار عمر الصحابة وفيهم عليّ رضي الله عنه في أن يخرج بنفسه لقتال الفرس والروم، فكان فيما أشار عليه عليّ رضي الله عنه قوله: «إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دين الله الذي أظهره وجنده الذي أعدّه وأمدّه حتى بلغ ما بلغ وطلع حيث طلع.. ومكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه. فإن انقطع النظام تفرق الخرز وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا.. فكن قطبا واستدر الرحا بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب،

_ (1، 2) البداية والنهاية: 7/ 81، والطبري: 3/ 435 (3) تاريخ الطبري: 3/ 598 و 613

طاعون عمواس:

فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك» «4» . وفيها كانت وقعة جلولاء، وهزم فيها يزدجرد بن كسرى وتقهقر إلى الريّ، وفيها فتحت تكريت، وفيها سار عمر ففتح بيت المقدس وخطب بالجابية خطبته المشهورة، وفيها فتحت قنسرين عنوة، وحلب وأنطاكية ومنبج صلحا، وفي ربيع الأول من هذا العام، كتب التاريخ الهجري بمشورة عليّ رضي الله عنه. أما في سنة سبع عشرة، فقد زاد في المسجد النبوي، وفيها كان عام الرمادة، واستسقى عمر للناس، متوسلا بالعباس، فارتفع القحط. وقد روى ابن سعد أن عمر لما خرج يستسقي، خرج وعليه برد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وفي هذه السنة أيضا فتحت الأهواز صلحا «5» . طاعون عمواس: وفي سنة ثماني عشرة وقع بالشام طاعون أتى على كثير من جند المسلمين، وبلغ عمر خبره وهو متجه إلى الشام للمرة الثانية، فاستشار الصحابة فاختلفوا في بادئ الأمر، ثم أقبل عبد الرحمن بن عوف فأخبرهم أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم بالوباء ببلد فلا تقدموا عليه وإذا وقع ببلد وأنتم فيه فلا تخرجوا فرارا منه» ، فعاد عمر بالناس إلى المدينة. وفي سنة تسع عشرة فتحت قيسارية عنوة. وفي سنة عشرين فتحت مصر عنوة، وقيل بل فتحت كلها صلحا إلا الإسكندرية فعنوة. وفيها فتحت المغرب عنوة، وفيها هلك قيصر عظيم الروم، وفيها أجلى عمر اليهود عن خيبر وعن نجران. وفي سنة إحدى وعشرين فتحت الإسكندرية عنوة ونهاوند، ولم يكن للأعاجم بعدها جماعة. وفي سنة اثنتين وعشرين فتحت أذربيجان عنوة وقيل صلحا والدينور عنوة، وهمدان عنوة، وطرابلس الغرب والرّي، وفي سنة ثلاث وعشرين فتحت بقية بلاد الفرس: كرمان وسجستان، وأصبهان ونواحيها. وفي أواخرها حجّ عمر رضي الله عنه، قال سعيد بن المسيب: لما نفر عمر من منى أناخ بالأبطح، ثم استلقى، ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط. فما انسلخ شهر ذي الحجة من ذلك العام حتى قتل «6» . وقد أخرج البخاري عن أسلم أن عمر دعا قائلا: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك.

_ (4) البداية والنهاية: 7/ 107، ونهج البلاغة: 203 (5) تاريخ الخلفاء: 123 وما بعد. (6) البداية والنهاية: 7/ 137، وتاريخ الخلفاء: 124

مقتل عمر رضي الله عنه:

مقتل عمر رضي الله عنه: وقد كان مقتل عمر على يد غلام مجوسي اسمه عبد المغيرة يكنى أبا لؤلؤة. وقد ذكر في سبب قتله له أنه جاء إلى عمر يشكو من شدة الخراج وكثرته، فقال له: ما خراجك بكثير. فانصرف ساخطا يقول: يسع الناس كلّهم عدله غيري!! .. وأضمر قتله. واتّخذ خنجرا وشحذه وسمّه، وقد كان صاحب صناعات ومهارات شتى، فكمن له في إحدى زوايا المسجد، ولما خرج عمر كعادته إلى صلاة الفجر، هجم عليه فطعنه ثلاث طعنات سقط منها رضي الله عنه، ثم جعل يطعن كل من دنا إليه، فألقى عليه أحدهم ثوبا، ولما رأى أن قد تقيّد وتعثر فيه قتل نفسه بخنجره «7» . وهذا ما ذكره الرّواة في خبر مقتله، ولعل وراء ذلك مؤامرة ذات أطراف واسعة، تلاقت على حوكها أصابع يهودية ونجوسية وزنادقة من فئات شتى. ويبعد أن تكون هذه الجريمة نتيجة تصرف أو ضيق شخصي بسبب كثرة الخراج، والله أعلم. ولما أخبر عمر رضي الله عنه بأن قاتله هو أبو لؤلؤة قال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام. ثم قال لابنه: يا عبد الله انظر ما عليّ من الدّين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألف درهم. فقال: إن وفى مال آل عمر فأدّه من أموالهم، وإلّا فاسأل في بني عديّ، فإن لم تف أموالهم فاسأل في قريش. ثم قال له: اذهب إلى أمّ المؤمنين عائشة، فقل: يستأذن عمر أن يدفن مع صاحبيه، فذهب إليها، فقالت: كنت أريده- تعني المكان- لنفسي، ولأوثرنّه اليوم على نفسي. فلما رجع وأخبر بذلك عمر حمد الله عزّ وجلّ. استخلاف عمر لواحد من أهل الشورى: قال بعض الصحابة لعمر استخلف من تراه صالحا من بعدك. فجعل الأمر من بعده شورى بين ستة أشخاص، وهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم. وتحرّج أن يجعلها لواحد من هؤلاء على التّعيين، وقال: لا أتحمل أمرهم حيّا وميتا، وإن يرد الله بكم خيرا يجمع أمركم على خير هؤلاء كما جمعكم على خيركم بعد نبيّكم صلّى الله عليه وسلم. وهكذا، فإن عمر أول من شكّل هذه الفئة من الصحابة، وسميت بأهل الشورى. وعهد بأمر الخلافة من بعده إليها، فكانوا بذلك بمثابة أعلى هيئة سياسية في الحكم. وقد أوصى عمر رضي الله عنه أن يحضر مجلسهم عبد الله بن عمر مستشارا وناصحا فقط، لا مرشّحا أو منتخبا، كما أوصى أن يصلي بالناس صهيب الرومي ثلاثة أيام، ريثما ينقضي التشاور في الأمر ويجتمع المسلمون على خليفة لهم.

_ (7) انظر تفصيل ذلك في تاريخ الطبري: 4/ 190، والبداية والنهاية لابن كثير: 7/ 137

كيف تم اختيار عثمان:

كيف تمّ اختيار عثمان: اجتمع أهل الشورى الذين عيّنهم عمر في بيت من البيوت يتشاورون في هذا الأمر، ووقف طلحة بوابا يمنع دخول الناس عليهم، وانتهوا إلى أن فوّض ثلاثة منهم الأمر إلى الثلاثة الآخرين، ففوّض الزبير الأمر إلى عليّ، وفوّض سعد إلى عبد الرحمن بن عوف، وترك طلحة حقه إلى عثمان. فقال عبد الرحمن لعليّ وعثمان: أيكما يبرأ من هذا الأمر فنفوّض الأمر إليه؟ فسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن: إني أترك حقي من ذلك، والله عليّ والإسلام أن أجتهد فأوليّ أولا كما بالحق، فقالا: نعم، ثم خاطب كلّا منهما بما فيه من الفضل، وأخذ عليه العهد والميثاق لئن ولّاه ليعدلنّ، ولئن ولّي عليه ليسمعن ويطيعن، فقال كل منهما نعم، ثم تفرقوا. ثم نهض عبد الرحمن بن عوف يستشير الناس فيهما، فاستشار رؤوس الناس وقادتهم جميعا وأشتاتا، مثنى وفرادى ومجتمعين، سرّا وجهرا، وانتهى إلى النساء المخدّرات في حجبهن، ثم سأل الولدان في المكاتب، وسأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة، طوال ثلاثة أيام بلياليها. فلم يجد اثنين يختلفان في تقديم عثمان بن عفان، إلا ما ذكر من أن عمار بن ياسر والمقداد أشارا بعليّ رضي الله عنه، ثم انضمّا إلى رأي عامة الناس. ثم اجتمع عبد الرحمن في اليوم الرابع بعليّ وعثمان في دار ابن أخته المسور بن مخرمة. فقال: إني سألت الناس عنكما فلم أجد أحدا يعدل بكما أحدا. ثم خرج بهم إلى المسجد وبعث إلى وجوه الناس من الأمصار والمهاجرين، فامتلأ المسجد حتى غصّ بالناس. ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتكلم ودعا دعاء طويلا، ثم قال: أيها الناس إني سألتكم سرّا وجهرا بأمانيكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد من هذين الرجلين، إما علي وإما عثمان. فقم إليّ يا عليّ، فقام إليه فأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعل أبي بكر وعمر؟ فقال: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي. فأرسل يده وقال: قم إليّ يا عثمان. فأخذ بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة رسوله وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم. قال فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان قائلا: اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد خلعت ما في رقبتي من ذلك وجعلته في رقبة عثمان. فازدحم الناس يبايعون عثمان تحت المنبر، وبايعه عليّ رضي الله عنه أول الناس وقيل آخرهم «8» . العبر والعظات: أولا- علمنا أن من أول الأعمال التي قام بها عمر رضي الله عنه عزله لخالد بن الوليد. ولقد

_ (8) ملخصا عن البداية والنهاية لابن كثير: 7/ 147

لغا كثير من الكتاب المعاصرين في أمر هذا العزل، محاولين أن يجعلوا منه سبيلا للانتقاص من مكانة خالد رضي الله عنه. غير أن تفسير هذا العزل واضح في عمل عمر نفسه، وفي كلامه الذي قاله عن خالد، وما تضمنه من الثناء عليه. فقد قال له، كما أسلفنا: والله يا خالد إنك عليّ لكريم وإنك إليّ لحبيب. وكتب إلى أهل المصر يوضح سبب عزله له قائلا: إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكن عزلته شفقة على النفوس من سرعة هجماته وشدة صدماته «9» . ولما أخبر عمر بمرض خالد، وكان عمر على مسيرة ثلاثة أيام من المكان الذي فيه خالد وهو المدينة، طوى هذه المسافة في ليلة واحدة. فأدركه وقد قضى نحبه، فاسترجع ورقّ عليه، وجلس عند باب داره حتى تمّ تجهيزه. ولما بكته البواكي قيل لعمر ألا تسمع؟ ألا تنهاهن؟ فقال: وما على نساء قريش أن يبكين أبا سليمان ما لم يكن نقع ولا لقلقة؟ ولما خرج عمر في جنازته رأى امرأة محرمة تبكيه فقال: من هذه؟ فقيل له: أمه. فقال: أمّه؟ واها له، قالها ثلاثا. ثم قال: وهل قامت النساء عن مثل خالد «10» ؟ ثانيا- هذا الذي ذكرناه يقتضي أن خالدا توفي ودفن في المدينة. وإلى ذلك ذهب بعض المؤرخين. غير أن الجمهور ذهبوا إلى أن الصحيح أنه توفي ودفن في حمص، وهو ما رجّحه ابن كثير في البداية والنهاية. إذ الثابت أن خالدا اعتمر بعد أن عزله عمر ثم رجع إلى الشام فلم يزل بها حتى مات سنة إحدى وعشرين. وعلى كل حال، فإن لسان عمر كان لسان ثناء على خالد، سواء في حياته وبعد مماته. روى ابن كثير عن الواقدي أن عمر رأى حجاجا قد قدموا من حمص، فقال: هل من خبر نعرفه؟ قالوا: نعم، مات خالد. فاسترجع عمر، ثم قال: كان والله سدادا لنحور العدوّ ميمون النقيبة. غير أن ثناءه عليه لا يتعارض مع بعض المواقف الاجتهادية التي قد يختلف فيها رأي كل منهما عن الآخر، فيعمل كل منهما بالرأي الذي يراه. وليت أن الذين ينتقصون من مكانة خالد لموقف عمر منه أو ينتقصون من مكانة عمر للموقف ذاته، يحيطون بالأمر من أطرافه، ويفرقون بين الموقف الاجتهادي المأجور عليه على كل حال، والانحراف الفكري أو السلوكي الذي يتنزه عنه أصحاب رسول الله. ثالثا- من أبرز ما يلاحظه المتأمل في خلافة عمر، ذلك التعاون المتميز الصافي، بين عمر وعلي رضي الله عنهما، فقد كان عليّ هو المستشار الأول لعمر في سائر القضايا والمشكلات.

_ (9) البداية والنهاية: 7/ 81 (10) المرجع ذاته.

وما اقترح عليّ على عمر رأيا إلّا واتّجه عمر إلى تنفيذه عن قناعة، وحسبك في ذلك قوله: لولا عليّ لهلك عمر. أمّا علي فقد كان يمحضه النصح في كل شؤونه وأحواله، وقد رأيت أن عمر استشاره في أن يذهب بنفسه على رأس جيش لقتال الفرس، فنصحه نصيحة المحب له الغيور عليه والضنين به، أن لا يذهب، وأن يدير رحى الحرب بمن دونه من العرب وهو في مكانه. وحذّره من أنه إن ذهب، فلسوف ينشأ وراءه من الثغرات ما هو أخطر من العدو الذي سيواجهه. أرأيت لو أن رسول الله أعلن أن الخلافة من بعده لعلي، أفكان لعلي أن يعرض عن أمر رسول الله هذا، وأن يؤيد المستلبين لحقه بل لواجبه في الخلافة، بمثل هذا التعاون المخلص البناء؟ بل أفكان للصحابة كلهم أن يضيعوا أمر رسول الله، بل أفكان من المتصور أن يجمعوا- وفي مقدمتهم عليّ رضي الله عنه- على ذلك؟ رابعا- كما أن خلافة أبي بكر جاءت في ميقاتها، الذي لم يكن يصلح له إلا أبو بكر، فكذلك خلافة عمر جاءت في ميقاتها الذي كان عمر من أصلح الناس له. لقد كان من أجلّ ما قام به أبو بكر إعادة تثبيت الإسلام بناء في الدولة ويقينا في النفوس بعد الاضطراب الذي نابه بسبب وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ولقد كان من أجلّ ما قام به عمر مدّ الفتوحات الإسلامية إلى أقصى بلاد الفرس والشام والمغرب، وبناء المدن وتدوين الدواوين، وتوطيد دعائم الدولة الإسلامية كأقوى دولة حضارية فوق الأرض. وهذا يدلّ على مدى حكمة الله تعالى في رعاية عباده وتحقيق أسباب الخير والسعادة لهم في حياتهم الفردية والاجتماعية. خامسا- نقول عن الطريقة التي تمت على أساسها خلافة عثمان، ما قلناه عن ذلك بالنسبة لخلافة عمر. فقد كان العهد بها هو السبيل لخلافة كل منهما، إلا أن الفرق بينهما هو أن أبا بكر عهد بالخلافة إلى عمر بعينه. أما عمر فقد عهد بالخلافة إلى واحد من ستة أشخاص هم أهل الشورى، وفوّض إلى المسلمين اختيار من يشاؤونه منهم. وقد رأيت أن اختيار عثمان من بين هؤلاء الستة كان بمشورة من هؤلاء الستة أنفسهم، ثم كان بمشورة فمبايعة من عامة المسلمين أو أهل الحلّ والعقد منهم. وقد كان عليّ رضي الله عنه واحدا من هؤلاء الستة، وكان في مقدمة من بايع عثمان رضي الله عنهما. بوسعنا أن نعلم إذن، بكل بداهة، أن المسلمين إلى هذا العهد، بل إلى نهاية عهد عليّ رضي الله عنه كانوا جماعة واحدة، ولم يكن في ذهن أي من المسلمين أي إشكال بشأن الخلافة

أو بشأن من هو أحقّ بها. اللهم إلا ما كان يقتضيه الوضع، بالبداهة، من التشاور والمراوضة في كل مناسبة لاختيار الخليفة بالطريقة الشرعية السليمة. ومهما أصغيت السمع، فإنك لن تقف على أي جدل أو حوار، في هذه العهود كلها، حول أن القرآن أو الرسول نصّ على الخليفة بعد رسول الله أو لم ينص. ولن تقف على أي نقد أو تخطئة للطريقة التي تمّ بها نصب أي من هؤلاء الخلفاء الثلاثة. إذن، فمتى، وبأيّ دافع حصل هذا الشدخ الذي قسم جماعة المسلمين بشأن الخلافة- بعد اتّحادها وتعاونها طوال هذه العهود الثلاثة- إلى فئتين مختلفتين؟ سنذكر ذلك، في مناسبته، عند التعليق على خلافة سيدنا علي رضي الله عنه، والأحداث التي وقعت في عهده.

عثمان بن عفان

عثمان بن عفان في السنة الأولى من خلافة عثمان- وهي سنة أربع وعشرين- فتحت الرّيّ، وكانت قد فتحت ثم نقض فتحها، وأصاب الناس فيها رعاف كثير، وكان منهم عثمان رضي الله عنه حتى تخلف بسبب ذلك عن الحج وأوصى، وفيها ولّى عثمان على الكوفة سعد بن أبي وقاص وعزل المغيرة بن شعبة. وفي سنة خمس وعشرين عزل عثمان سعدا عن الكوفة وولّى عليها الوليد بن عقبة بن أبي معيط- وهو صحابي أخو عثمان لأمه- وذلك أول ما نقم عليه لأنه آثر أقاربه بالولاية. وفي سنة ست وعشرين زاد عثمان في المسجد الحرام ووسّعه، واشترى أماكن من أصحابها وضمها إلى المسجد. وفي سنة سبع وعشرين غزا معاوية قبرص، فركب البحر بالجيوش، وكان معهم عبادة بن الصامت وزوجته أم حرام بنت ملحان الأنصارية، فسقطت عن دابتها وماتت ودفنت هناك- وكان النّبي صلّى الله عليه وسلم أخبرها بهذا الجيش ودعا لها أن تكون من أفراده «1» -. وفيها عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وولّى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فغزا أفريقية فافتتحها سهلا وجبلا، وفتحت الأندلس في العام ذاته. وفي سنة تسع وعشرين فتحت مدن كثيرة أخرى، وفيها زاد عثمان في مسجد المدينة المنورة ووسّعه وبناه بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة وسقفه بالساج وجعل طوله ستين ومئة ذراع، وعرضه خمسين ومئة ذراع. وفي سنة ثلاثين فتحت بلاد كثيرة أخرى من أرض خراسان، وكثر الخراج من جراء ذلك، وأتى المال من كل وجه، ووسّع الله على المسلمين في كل البلاد. وفي سنة اثنتين وثلاثين توفي العباس بن عبد المطلب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، وكان قد تولى قضاء الشام لمعاوية، وأبو ذرّ جندب بن جنادة الغفاري، وزيد بن عبد الله رضي الله عنهم جميعا. وفي سنة ثلاث وثلاثين غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح الحبشة. سياسة عثمان في اختيار الولاة والأعوان وما نشأ عن ذلك. من المعلوم أن عثمان رضي الله عنه كان يقرّب إليه في التوظيف والاستعانة، أقاربه من بني

_ (1) تاريخ الخلفاء: 145، البداية والنهاية: 7/ 153

أميّة، وقد اقتضى ذلك أن يعزل عددا من الصحابة من وظائفهم ليحلّ محلّهم من يفضله من ذوي قرابته. وقد جرّت عليه هذه السياسة نقمة كثير من الناس، وكان ذلك هو المنطلق والمعتمد الأول لليهودي المعروف عبد الله بن سبأ وأعوانه، في بثّ أسباب الفتنة وإيقاد نيرانها. وروى ابن كثير ما خلاصته أن جمهورا من أهل الكوفة ثاروا على سعيد بن العاص أمير الكوفة، وتألبوا عليه، وبعثوا إلى عثمان من يناظره فيما فعل وفيما اعتمد من عزل كثير من الصحابة وتوظيف جماعة من بني أمية في مكانهم. فدخلوا عليه وأغلظوا عليه في القول.. فشقّ ذلك على عثمان وبعث إلى أمراء الأجناد فأحضرهم عنده يستشيرهم. فاجتمع إليه معاوية بن أبي سفيان أمير الشام، وعمرو بن العاص أمير مصر، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير المغرب، وسعيد بن العاص أمير الكوفة، وعبد الله بن عامر أمير البصرة، فاستشارهم فيما حدث من الأمر وافتراق الكلمة.. وأدلى كلّ برأيه. وانتهى عثمان من استعراض الآراء ومناقشتها إلى إبقاء عمّاله كلّ على عمله الذي هو فيه، وأن يتألف قلوب الثائرين والمتألّبين عليه بالمال، وأمر بهم فبعثوا إلى الغزو والثغور «2» . نشأ على أعقاب ذلك بمصر طائفة من أبناء الصحابة يؤلّبون الناس على عثمان وينكرون عليه الكثير من أعماله، وذلك بعدما عاث عبد الله بن سبأ فسادا بمصر، فاستنفر نحوا من ست مئة راكب متجهين إلى المدينة في صفة معتمرين، وإنما قصدهم أن يثيروا فتنة في داخل المدينة. ولما اقتربوا من المدينة أمر عثمان عليّا أن يخرج إليهم فيكلّمهم ويردّهم إلى بلادهم، فانطلق إليهم علي رضي الله عنه وهم بالجحفة، وكانوا يعظمونه ويبالغون في أمره إذ كان قد عبث عبد الله بن سبأ بعقولهم عبثا منكرا وملأها بما شاء من الخرافة والزيغ، فردّهم عليّ رضي الله عنه وأنّبهم وشتمهم، فرجعوا على أنفسهم بالملامة، وقالوا: هذا الذي تحاربون الخليفة بسببه وتحتجون به عليه؟! .. ثم إنهم رجعوا خائبين من حيث أتوا ولم ينالوا شيئا مما كانوا قد أمّلوا وراموا. ولما رجع عليّ على عثمان، أخبره برجوعهم، ثم أشار عليه أن يخطب في الناس خطبة يعتذر إليهم فيها مما كان قد وقع منه من الأثرة لبعض أقاربه، وأن يعلن لهم أنه قد تاب من ذلك. فقبل عثمان مشورته، وخطب الناس يوم الجمعة، وقال فيما قال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، اللهم إني أول تائب مما كان مني، واستعبر باكيا، وبكى المسلمون أجمعون.. وعاد فأكّد لهم نزوعه عما نقم الناس عليه من أجله، وأنه سينحي عنهم مروان وذويه. ولكن مروان بن الحكم دخل عليه بعد ذلك عاتبا بل ناقما، وقال له فيما قال: لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممنّع منيع، فكنت أول من رضي بها وأعان عليها، ولكنك قلت حين

_ (2) البداية والنهاية: 7/ 167، وتاريخ الطبري: 4/ 333

أول الفتنة، ومقتل عثمان:

جاوز الحزام الطبيين وبلغ السيل الزبى. والله لإقامة على خطيئة يستغفر منها، خير من توبة خوفا عليها.. وإنك لو شئت لعزمت التوبة ولم تقرّ لنا بالخطيئة. ثم أخبره مروان أن بالباب جمعا من الناس، ففوضه عثمان أن يخرج إليهم فيكلّمهم كما يشاء، فخرج مروان وقال كلاما سيئا أفسد به ما أصلحه عثمان بحديثه إلى الناس، فقد قال لهم فيما قال: «جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا، اخرجوا عنا، أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم أمر يسوؤكم ولا تحمدون غبّه» . ولما علم عليّ بالخبر، جاء مغضبا حتى دخل على عثمان فقال له: «أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلّا بتحويلك عن دينك وعقلك؟ والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا في نفسه. وايم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك، وما أنا بعائد بعد هذا لمعاتبتك» . فلما خرج عليّ دخلت نائلة على عثمان، وكانت تسمع كلام عليّ له، فقالت له: أتكلم أم أسكت؟ فقال تكلمي. قالت: سمعت قول عليّ أنه ليس يعاودك، وقد أطعت مروان حيث شاء. قال: فأشيري عليّ. قالت: تتقي الله وحده لا شريك له، وتتبع سنّة صاحبيك من قبلك. فإنك متى أطعت مروان قتلك. ومروان ليس له عند الله قدر ولا رهبة ولا محبة. فأرسل إلى عليّ فاستصلحه فإن له قرابة منك وهو لا يعصى. فأرسل عثمان إلى عليّ، فأبى أن يأتيه. وقال: لقد أعلمته أني لست بعائد. كان هذا الموقف بداية العقدة التي أشعلت نيران الفتنة، ويسرت للمختبئين والمتربصين، سبيلا وأي سبيل لإذكاء وقودها، والوصول بها إلى أسوأ المآرب المطلوبة. أول الفتنة، ومقتل عثمان: تولى عثمان الخلافة اثنتي عشرة سنة، لا ينقم الناس عليه شيئا، بل كان أحب إلى كثير من القرشيين، من عمر بن الخطاب، لأن عمر كان شديدا عليهم، أما عثمان فلان لهم وواصلهم.. ولكنهم تغيروا له لما أخذ يستعمل أقاربه وأهل بيته- كما سبق أن أوضحنا-. وكان يتأول عثمان في ذلك صلة الرحم التي أمر الله بها، وقد انتهى هذا الأمر بمقتل عثمان رضي الله عنه. وقد أخرج ابن عساكر عن الزهري قال: قلت لسعيد بن المسيب، هل أنت مخبري كيف قتل عثمان؟ وما كان شأن الناس وشأنه؟ فقال ابن المسيب: قتل عثمان مظلوما، ومن قتله كان ظالما، ومن خذله كان معذورا. ثم إن ابن المسيب قصّ على الزهري أسباب مقتله وكيفية ذلك، ونحن نذكره هنا مختصرا: جاء أهل مصر يشكون من ابن أبي سرح، فكتب عثمان إليه كتابا ينصحه ويتهدده فيه. فأبى ابن أبي سرح أن يقبل ما نهاه عنه عثمان وأغلظ في معاملة من ذهبوا فشكوه..

ثم إن كبار الصحابة، كعليّ وطلحة وعائشة، اقترحوا على عثمان عزل ابن أبي سرح وأن يولّي على مصر غيره. فقال لهم: اختاروا رجلا أوليه مكانه. فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر، فكتب عثمان عهدا بذلك وولّاه، وتوجّه معه عدد من الأنصار والمهاجرين إلى مصر لتنفيذ الأمر وفيهم محمد بن أبي بكر. فلما كانوا على مسيرة ثلاثة أيام من المدينة، إذا هم بغلام أسود على بعير يخبطه ويستعجله. فاستوقفه أصحاب رسول الله وقالوا له: ما قصتك وما شأنك كأنك هارب أو طالب؟ فقال لهم: أنا غلام أمير المؤمنين وجّهني إلى عامل مصر، ولما قيل له: غلام من أنت؟ تلعثم وأخذ يقول مرة: أنا غلام أمير المؤمنين، ويقول أخرى: أنا غلام مروان.. ثم استخرجوا من أمتعته كتابا، فجمع محمد بن أبي بكر من كان عنده من الأنصار والمهاجرين وغيرهم، ثم فضّ الكتاب بمحضرهم فإذا فيه: إذا أتاك محمد وفلان وفلان.. فاحتل في قتلهم وأبطل كتابه، وقرّ على عملك حتى يأتيك رأيي واحبس من يجيء إليّ يتظلم منك. فرجع هؤلاء الصحابة بالكتاب إلى المدينة، وجمعوا طائفة من أبرز رجال الصحابة وأطلعوهم على الكتاب وقصة الغلام، فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان.. فلما رأى علي رضي الله عنه ذلك دعا بعضا من كبار البدريين منهم طلحة والزبير، وسعد وعمار، ودخل بهم على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير. فقال له علي: هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم. قال: والبعير بعيرك؟ قال: نعم. قال: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا، وحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به ولا علم لي به. قال له علي: فالخاتم خاتمك؟ قال: نعم. قال: كيف يخرج غلامك ببعيرك وبكتاب عليه خاتمك لا تعلم به؟ فحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به ولا وجهت هذا الغلام إلى مصر قط. ثم نظروا في الخط، فعلموا أنه خط مروان، فسألوه أن يدفع إليهم مروان، فأبى. وكان مروان عنده في الدار. فخرج الجمع من عنده غضابا، وعلموا أن عثمان لا يحلف كاذبا، إلا أنهم غضبوا من عدم تسليم عثمان مروان لهم. وانتشر الخبر في المدينة، وأقبل الناس فحاصروا عثمان ومنعوه الماء، ولما اشتدّ به وبأهله الظمأ أشرف عليهم قائلا: ألا أحد يبلغ عليا فيسقينا ماء؟ فبلغ الخبر عليا فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه إلا بجهد. وبلغ عليا أن في الناس من يريد قتل عثمان، فقال: إنما أردنا منه مروان، فأما قتل عثمان، فلا. وقال للحسن والحسين: اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان، فلا تدعا أحدا يصل إليه، وفعل مثل ذلك عدد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وتزاحم الغوغاء على باب عثمان يريدون الوصول إليه لقتله، فيصدهم عن ذلك السبطان ومن معهما من بعض الصحابة.

مبايعة علي والبحث عن قتلة عثمان:

وعندئذ تسوروا عليه الدار، وسقطوا عليه من أعلى المنزل، وأقبلوا عليه تتناوشه سيوفهم حتى قتلوه.. وبلغ الخبر عليا رضي الله عنه فأقبل مغضبا، وقال لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ورفع يده فلطم الحسن وضرب صدر الحسين وشتم محمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير. وهكذا، فقد كان مقتل عثمان بابا لسلسلة من الفتن امتدت حلقاتها إلى غير نهاية. مبايعة عليّ والبحث عن قتلة عثمان: خرج عليّ رضي الله عنه من دار عثمان مغضبا لما قد وقع، وجاءه الناس يهرعون إليه وقالوا له: لابدّ لنا من أمير، فمدّ إلينا يدك نبايعك. فقال لهم عليّ: ليس ذلك إليكم، وإنما ذلك إلى أهل بدر، فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة. فلم يبق أحد من أهل بدر إلّا أتى عليا، فقالوا له: ما نرى أحدا أحقّ بها منك، مدّ يدك نبايعك، فبايعوه. وما أن استتب الأمر لعليّ وتمت مبايعته، حتى هرب مروان وولده. وجاء عليّ إلى امرأة عثمان يسألها عن قاتلي عثمان، فقالت: لا أدري، دخل عليه رجلان لا أعرفهما ومعهما محمد بن أبي بكر، فدعا عليّ محمدا فسأله عما ذكرته امرأة عثمان، فقال محمد: لم تكذب قد والله دخلت عليه وأنا أريد قتله، فذكّرني أبي فقمت عنه، وأنا تائب إلى الله تعالى، والله ما قتلته ولا أمسكته. فقالت امرأته: صدق، ولكنه أدخلهما. وأخرج ابن عساكر عن كنانة مولى صفية وغيره، قالوا: قتل عثمان رجل من أهل مصر، أزرق أشقر. وأخرج ابن عساكر أيضا عن أبي ثور الفهمي، قال: دخلت على عثمان وهو محاصر، فقال: لقد اختبأت عند ربي عشرا، إني لرابع أربعة في الإسلام، وجهزت جيش العسرة، وأنكحني رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابنته، ثم توفيت فأنكحني ابنته الأخرى، وما تغنيت، ولا تمنيت، ولا وضعت يميني على فرجي منذ بايعت بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وما مرت بي جمعة منذ أسلمت إلا وأنا أعتق فيها رقبة، إلا أن يكون عندي شيء فأعتقها بعد ذلك، ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام قط، ولا سرقت في جاهلية ولا إسلام قط، ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. والصحيح أن قتل عثمان كان في أوسط أيام التشريق من عام خمسة وثلاثين. العبر والعظات: أولا- من أهم الفضائل والمزايا التي يتسم بها عهد عثمان، كثرة الفتوحات واتساعها في هذا العهد، فقد فتحت خراسان كلها، وفتحت أفريقيا، وامتدّ الفتح إلى الأندلس. هذا إلى جانب أعمال جليلة أخرى، قام بها عثمان، كجمعه الناس على الرسم القرآني الموثق، بعد أن سرت العجمة

إلى الألسن، وخيف على القرآن من جراء ذلك. وكتوسيعه الكبير لمسجد المدينة المنورة. وما ضرّ أن اعتمد عثمان في كثير من فتوحاته على عبد الله بن سعد بن أبي سرح وأمثاله فإن الإسلام يجبّ ما قبله، ولعلّ ابن سرح، كفّر بأعماله الجليلة هذه ما كان قد بدر منه من قبل. والمعلوم أنه قد استقام من بعد على سبيل الرشد، وكان من أفضل الناس دينا. ثانيا- مهما توجه النقد إلى عثمان رضي الله عنه، بسبب اختياره الولاة والأعوان أو أكثرهم، من أقاربه من بني أمية، فإنّ علينا أن نعلم أن ذلك كان اجتهادا منه، وقد دافع عن رأيه في ذلك أمام كثير من الصحابة. ومهما كان موقفنا من رأيه ودفاعه عنه، فما ينبغي أن يدفعنا النقد إلى سوء أدب في التحليل أو القول، وما ينبغي أن ينسينا خطؤه في ذلك- إن اعتبرناه خطأ- مكانته الرفيعة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وسابقته في الإسلام، وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم له يوم تبوك: «ما ضرّ عثمان ما صنع بعد اليوم» . وينبغي أن نعلم أن مناقشة الصحابة له واعتراضهم عليه فيما فعل من ذلك، شيء، واجترارنا اليوم للأمر ذاته، بدافع من النقد والانتقاص شيء آخر. اعتراض الصحابة عليه، معالجة لأمر قائم يمكن تغييره وإصلاحه؛ فالبحث فيه وإن كان على أساس النقد والتخطيء، عمل إيجابي مفيد. أما حديثنا نحن اليوم، وقد طوي الأمر وأصبح حدثا من أحداث التاريخ، فإنه إنما يغدو مجرد تطاول رخيص على الصحابة الذين أثنى عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحذّر من الإساءة إليهم، لا سيما الخلفاء الراشدون. ويكفي، لمن ابتغى الأمانة العلمية في رواية الأحداث، أن يقف من بيانها والحديث عنها عند الحدود التي التزم بها الكتّاب والمؤرخون الثقات من أمثال الطبري وابن كثير وابن الأثير.. ثالثا- مع ظهور مقدمات الفتنة في أواخر عهد عثمان، يظهر اسم عبد الله بن سبأ على مسرح الأحداث، ويبرز دوره جليا في تأجيج نيران هذه الفتنة. وعبد الله بن سبأ في أصله يهودي من اليمن. جاء إلى مصر في عهد عثمان، وأخذ يستثير الناس على عثمان ويتظاهر بحب عليّ وآل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وكان يقول للناس فيما يقول: أليس محمد أفضل من عيسى عند الله عز وجل؟ .. إذن فإن محمدا أحق بالعودة إلى الناس من عيسى، وإنما يعود محمد إليهم في شخص ابن عمه عليّ الذي هو أقرب الناس إليه «3» . وقد استطاع أن يخدع بهذا التدجيل أناسا في مصر، بعد أن ردد أقواله هذه في اليمن دون أن يؤيده فيها أحد. وهؤلاء الذين خدعوا بكلامه، هم الذين توجه بهم إلى المدينة ليثوروا على عثمان، ولكن الذي ردّهم على أعقابهم إنما هو عليّ رضي الله عنه كما قد رأيت.

_ (3) البداية والنهاية: 7/ 167

ومن هنا تعلم أن ميلاد انشطار الأمة الإسلامية إلى شطريه: السني والشيعي، إنما بدأ في هذه الفترة، وأن ذلك إنما تمّ على يد عبد الله بن سبأ. وهذا بقطع النظر عن الأذى أو الظلم الذي حلّ بآل البيت أو بشيعتهم بعد ذلك على يد الأمويين وغيرهم. المهم أن أيا من هذين الواقعين اللذين يدخلان في ألف باء الحقائق التاريخية ما ينبغي أن ينسينا الواقع الآخر. رابعا- مرة أخرى ينبغي أن نتبيّن حقيقة العلاقة التي كانت قائمة بين عثمان وعليّ في مدة هذه الخلافة الثالثة، وحقيقة الموقف الذي كان يقفه عليّ من عثمان رضي الله عنهما. لقد رأيت أن عليا رضي الله عنه بادر إلى مبايعة عثمان بالخلافة، بل لقد ذهب كثير من المؤرخين، كما قال ابن كثير إلى أنه كان أول المبايعين له.. ثم رأيت كيف قال عليّ لعثمان- وقد سمع بالحشد الذي توجه به عبد الله بن سبأ إلى المدينة ليؤلب الناس عليه-: أنا أكفيك شرهم، فانطلق إليهم رضي الله عنه ووافاهم عند الجحفة، فردّهم وأنّبهم وشتمهم، فرجعوا وهم يلومون أنفسهم، وقال بعضهم: هذا الذي تحاربون الخليفة بسببه وتحتجّون به عليه؟! «4» ولقد رأيت كيف كان يمحضه النصح في شفقة بالغة وغيرة صادقة وكيف وقف إلى جانبه إلى آخر لحظة، ورأيت كيف جنّد ابنيه الحسن والحسين لحراسته من أولئك الذين أحدقوا به. إذن، فلقد كان عليّ خير دعامة لعثمان في خلافته، وكان خير نصير له في محنته، وما قسا عليه أخيرا في النصح إلّا حبا له وغيرة عليه. فاعلم هذا جيدا، لتعلم أن عظيما من الناس كعليّ ينبغي أن يكون إنسان عين كل مؤمن بالله ورسوله، وأن يكون مهوى فؤاد كل إنسان سويّ في إنسانيته وشعوره. وإنما دليل الحب صدق الاتباع والاستقامة على الاقتداء. وقد كانت هذه هي سيرة علي رضي الله عنه، مع من كان قبله من الخلفاء، فلتكن سيرته خير قدوة لنا، وأبلغ بيان يعبر عن صادق حبنا له.

_ (4) البداية والنهاية: 7/ 171

خلافة علي رضي الله عنه

خلافة عليّ رضي الله عنه بويع لعلي رضي الله عنه بالخلافة في أواسط شهر ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين، غداة مقتل عثمان رضي الله عنه كما ذكرنا. وقد تخلف جمع من الصحابة عن مبايعته؛ منهم سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد والمغيرة بن شعبة والنعمان بن بشير وحسان بن ثابت.. وقد كانت أيام خلافته كلها سلسلة من الفتن والحروب والاضطرابات، ابتدأت بوقعة الجمل، تلتها وقعة صفين، والخصومات التي قامت بين جمهور المسلمين ومعاوية، تلتها فتنة الخوارج التي لم تنته إلّا بجريمتهم النكراء، بمقتل عليّ رضي الله عنه. ونحن نذكر ذلك كله ملخصا: الثأر لعثمان ووقعة الجمل: مما لا شك فيه أن قتل عثمان كان بأيدي طائفة من البغاة، ومن ورائهم يد يهودية ماكرة. ولقد كان طبيعيا أن يتحمل القتلة جريرة عدوانهم، وأن يخضعوا لسلطان القصاص الشرعي، ومن ثم فقد كان توجه جميع المسلمين وفي مقدمتهم عليّ رضي الله عنه، إلى العمل على القصاص من قتلة عثمان. غير أن عليا رضي الله عنه استمهل المستعجلين، ريثما تستقر له الأمور أو ينجز ما قد يراه ضروريا من المقدمات التي تضمن سلامة التنفيذ وإبعاد أسباب الفتنة. وقد أجمع المؤرخون أن عليا كان يكره أولئك البغاة الذين قتلوا عثمان، وكان يتربص بهم الدوائر ويودّ لو تمكن منهم في أسرع وقت ليأخذ حق الله منهم، غير أن الأمر لم يجر على النحو الذي كان يتمناه «1» . وخلاصة ما وقع، أن كلّا من طلحة والزبير ومعهما ثلّة من الصحابة، كان من رأيهم أن الإسراع في ملاحقة القتلة والاقتصاص منهم هو الأضمن لسلامة الأمر ودرء الفتنة، وعرضوا على عليّ خدماتهم في ذلك، وأن يستقدموا له الجنود من البصرة والكوفة ليكونوا سندا له. ولكنه استمهلهم ريثما يرتب خطته المفضلة لتنفيذ الأمر «2» . والذي تم بعد ذلك، هو أن كلا من الطرفين سلك اجتهاده في اتباع السبيل الأمثل إلى الأخذ بدم عثمان. فكان أن تلاقى أولئك الذين رأوا الإسراع في الاقتصاص، في البصرة، وفيهم

_ (1) البداية والنهاية 7/ 234 وما بعد. (2) البداية والنهاية 7/ 235 وفتح الباري لابن حجر: 13/ 46

عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير وجمع كبير من الصحابة. ولم يكن عمل هؤلاء ولا قصدهم سوى تذكير لأهل البصرة بضرورة التعاون لمحاصرة قتلة عثمان والثأر منهم. وعندئذ توجه جيش من قبل عليّ رضي الله عنه إلى هناك لإصلاح الأمر وجمع الكلمة. فتواجه الكلّ على ذلك الصعيد، وليس في عزم أيّ منهم أن يبدأ قتالا أو يفجر فتنة. توجه القعقاع بن عمرو، رسولا من قبل علي رضي الله عنه إلى عائشة قائلا: أي أماه ما أقدمك هذا البلد؟ فقالت: الإصلاح بين الناس. ثم توجه إلى كل من طلحة والزبير فسألهما السؤال ذاته فقالا: ونحن كذلك ما جئنا إلا للإصلاح بين الناس.. وتكلم الجميع وتبادلوا الرأي واتفقوا على أن يترك الأمر بين يدي علي رضي الله عنه، على أن لا يدّخر وسعا في إقامة حدّ الله على قتلة عثمان فور تمكنه من ذلك. ورجع القعقاع إلى علي وأخبره بما تمّ الاتفاق عليه، وأشرف القوم على الصلح، وخطب علي في الناس حامدا الله على نعمة الصلح والوفاق، وأعلن أنه مرتحل من الغد.. «3» . ولكن فما الذي تمّ بعد ذلك؟ ما إن أعلن عليّ رضي الله عنه الصلح والوفاق وأبلغ الناس أنه مرتحل من الغد، حتى اجتمع رجال من رؤوس الفتنة فيهم الأشتر النخعي وشريح بن أوفى وعبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء وسالم بن ثعلبة وغلام بن الهيثم.. ولم يكن فيهم بحمد الله واحد من الصحابة، كما قال ابن كثير، فتذاكروا في خطورة أمر التصالح عليهم وأن اتفاق الصحابة يعني إحداق الخطر بهم.. وقال منهم قائل: فلنلحق إذن عليا بعثمان! .. ولكن عبد الله بن سبأ سخّف هذا الرأي وحذّر منه، ثم قال لهم: إن نجاتكم في مخالطة الناس، فإذا التقى الناس فأنشبوا الحرب والقتال بين الناس، ولا تدعوهم يجتمعون! وسيمتنع من حولكم بالقتال، دفاعا عن نفسه.. وتفرق رؤوس الفتنة بعد أن اتفقوا على هذا الرأي. وتوجه عليّ في اليوم الثاني مرتحلا، وتوجه على أثره كل من طلحة والزبير، وقد تأكد الصلح والاتفاق، وبات الناس بخير ليلة، وبات قتلة عثمان بشرّ ليلة. أما عبد الله بن سبأ وصحبه فقد اتفقوا على أن يثيروا الحرب من الغلس ويستدرجوا الناس إليها مهما كلف الأمر. ونهض هؤلاء المتآمرون قبل طلوع الفجر، وهم قريب من ألفي رجل، فانصرف كل فريق إلى قراباتهم، فباغتوهم وهجموا عليهم بالسيوف، فثارت كل طائفة إلى قومهم ليمنعوهم، وهبّ الناس من رقادهم إلى السلاح، وقالوا: طرقتنا أهل الكوفة ليلا وبيتونا وغدروا بنا، ظانين أنها

_ (3) البداية والنهاية: 7/ 239

أمر معاوية ووقعة صفين:

خطة مدبرة من عليّ رضي الله عنه. وبلغ الأمر عليا وقال: ما للناس؟ فتصايح من حوله: بيّتنا أهل البصرة وغدروا بنا. فثار كل فريق إلى سلاحه ولبسوا اللأمة وركبوا الخيل، دون أن يعلم أحد بواقع الأمر وحقيقته. وكان طبيعيا أن تقوم الحرب على ساق وأن يتبارز الفرسان، وقد اجتمع مع علي عشرون ألفا، والتفّ على عائشة ومن معها قرابة ثلاثين ألفا. هذا والسائبة أصحاب ابن السوداء قبّحه الله لا يفترون عن القتل، ومنادي عليّ ينادي: ألا كفوا، ألا كفوا، فلا يسمع أحد «4» . وفي تلك الأثناء، ومع شدّة الهرج والقتل، كان إذا تلاقت الوجوه المتعارفة تحت مظلة الإيمان والمشدودة إلى صحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، تحاجزوا وكفّ كل منهم عن الآخر، من أي الأطراف كانوا. روى البيهقي موصولا قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن القاضي يروي بسنده عن حرب بن الأسود الدؤلي قال: لما دنا عليّ وأصحابه من طلحة والزبير ودنت الصفوف بعضها من بعض، خرج عليّ وهو على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنادى: ادعوا لي الزبير بن العوام، فدعي له الزبير، فأقبل حتى اختلفت أعناق دوابّهما. فقال عليّ: يا زبير نشدتك الله أتذكر يوم مرّ بك رسول الله ونحن في مكان كذا وكذا، فقال: يا زبير ألا تحبّ عليا؟ فقلت: ألا أحبّ ابن خالي وابن عمي وعلى ديني؟ فقال: يا زبير أما والله لتقاتلنّه وأنت له ظالم. فقال الزبير: بلى، والله لقد نسيته منذ أن سمعته من رسول الله، ثم ذكرته الآن، والله لا أقاتلك أبدا. ورجع الزبير على دابته يشقّ الصفوف. ولما سقط بعير عائشة رضي الله عنها على الأرض، وحمل هودجها بعيدا عن ساحة الهرج، جاء إليها عليّ رضي الله عنه مسلّما ومستفسرا عن حالها، وقال لها: كيف أنت يا أمه؟ قالت: بخير. فقال: يغفر الله لك. ثم جاء وجوه الناس والصحابة يسلّمون عليها ويطمئنون على حالها «5» . أمر معاوية ووقعة صفّين: رجع عليّ رضي الله عنه إلى الكوفة التي جعلها مقرّ خلافته، وأرسل فور وصوله جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية بالشام يدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، ويعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته؛ ولكن معاوية كان يرى أن بيعة عليّ لم تنعقد لافتراق أهل الحل والعقد من الصحابة في الآفاق، ولا تتم البيعة إلا بهم جميعا، فامتنع من الاستجابة لدعوته رضي الله عنه، حتى يقتل قتلة عثمان، ثم يختار المسلمون لأنفسهم إماما.

_ (4) تاريخ الطبري: 4/ 506، والبداية والنهاية: 7/ 240 (5) البداية والنهاية: 7/ 241

أما عليّ رضي الله عنه، فقد كان على يقين بأن البيعة قد تمت له باتفاق أهل المدينة، دار الهجرة النبوية، وأنها بذلك تلزم من تأخر عنها ممن كان خارج المدينة.. أما الثأر من قتلة عثمان فقد قلنا أن عليا رضي الله عنه كان من أشد المتحمسين لذلك، ولكنه كان يخطط لذلك بما يضمن سلامة النتائج. ولما بلغه الرفض من معاوية، عدّه باغيا خارجا على جماعة المسلمين وإمامهم. فخرج رضي الله عنه بمن معه لثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين، فعسكر بالنخيلة، وقدم عليه ابن عباس من البصرة بعد أن استخلف عليها، وعبأ رضي الله عنه جيوشه متوجها لمحاربة أهل الشام وإجبارهم على الخضوع لجماعة المسلمين «6» . ولما علم معاوية بذلك، سار إليه في جيوشه من الشام، والتقى الطرفان في سهل صفين على نهر الفرات.. وتردد بينهما الرسل قرابة شهرين أو يزيد، عليّ رضي الله عنه يدعو معاوية ومن معه إلى مبايعته، ويطمئنه أن القصاص من قتلة عثمان آت في ميقاته القريب، ومعاوية يدعو عليا قبل كل شيء إلى ملاحقة قتلة عثمان الذي هو ابن عمه وهو أولى الناس بالمطالبة بدمه. وربما قام بينهم خلال ذلك بعض القتال والمناوشات. وظلّ الطرفان على هذه الحال إلى أن دخل شهر محرم من السنة السابعة والثلاثين، فاتفق معاوية وعليّ على هدنة مدتها شهر، أملا في التصالح. ولكن مدّة الهدنة انقضت دون أي فائدة. وعندئذ أمر عليّ مناديا ينادي: يا أهل الشام يقول لكم أمير المؤمنين قد استدمتكم لتراجعوا الحق وتنيبوا إليه، فلم تنتهوا عن طغيانكم ولم تجيبوا إلى الحق وإني قد نبذت إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين «7» . وعندئذ نهض معاوية وعمرو بن العاص فعبيا الجيش ميمنة وميسرة، وعبّى علي رضي الله عنه جيشه من ليلته فجعل على خيل أهل الكوفة الأشتر النخعي وعلى خيل أهل البصرة سهل بن حنيف. ثم أوصى عليّ من معه أن لا يبدؤوا أحدا بقتال حتى يبدأ أهل الشام، وأن لا يذفف على جريح ولا يتبع مدبر ولا يكشف ستر امرأة ولا تهان. واقتتل القوم في اليوم الأول قتالا شديدا، واقتتلوا في اليوم الثاني أيضا قتالا شديدا. واستمر القتال سبعة أيام لا يتغلب أحد من الطرفين على أحد. ولكنّ وطأة القتال اشتدت أخيرا على معاوية ومن معه وأوشك جيش علي رضي الله عنه على النصر. وعندئذ تشاور كل من معاوية وعمرو بن العاص في الأمر، فأشار عليه عمرو، أن يدعو أهل العراق إلى تحكيم كتاب الله، فأمر معاوية الناس برفع المصاحف على الرماح، وأن ينادي مناد

_ (6) البداية والنهاية 7/ 254 (7) المرجع المذكور 7/ 260

باسمه: هذا كتاب الله عز وجل بيننا وبينكم. فلما رأى ذلك أصحاب علي- وكان قد أشرفوا على النصر- اختلفوا: ففريق يقول نجيب إلى تحكيم كتاب الله، وفريق يأبى إلا القتال لعلمهم بأن الأمر خدعة.. وكان هذا هو رأي علي رضي الله عنه. غير أنه اضطر أن يتبع رأي مخالفيه لكثرتهم. فأرسل الأشعث بن قيس إلى معاوية يسأله عما يريد، فكان جواب معاوية: لنرجع نحن وأنتم إلى كتاب الله، ولنختر منا رجلا نرضاه ولتختاروا منكم رجلا ترضونه، ولنأخذ جميعا العهد عليهما أن يحكما بما يأمر به كتاب الله، فمهما قررا اتبعناهما جميعا، فاختار أهل الشام عمرو بن العاص، واختار أهل العراق أبا موسى الأشعري. فاجتمعت كلمة الفريقين- بعد أن كتبا بينهما كتابا بهذا الخصوص- على أن يؤجل البت في الأمر إلى شهر رمضان، على أن يجتمع الحكمان عندئذ بدومة الجندل. ثم انفض الناس. ورجع أمير المؤمنين علي من صفين إلى الكوفة، وقد تسرب الشقاق الخطير إلى جيشه، ولما وصل علي رضي الله عنه إلى الكوفة؛ اعتزله جماعة ممن رأوا التحكيم ضلالا واجتمعوا في حروراء، وكانوا قرابة اثني عشر ألفا. فأرسل إليهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس ليحاورهم وينصحهم، ولكنه لم يعد من سعيه معهم بأي طائل.. فخرج إليهم علي رضي الله عنه بنفسه. ولما اجتمع إليهم قال لهم: ما سبب خروجكم هذا؟ قالوا: حكومتك يوم صفين، قال: ولكني اشترطت على الحكمين أن يحيييا ما أحيا القرآن وأن يميتا ما أمات القرآن.. قالوا: فخبرنا أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟ فقال: إنا لم نحكّم الرجال وإنما حكّمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خطّ مسطور بين دفتين لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال.. قالوا: فلم جعلتم الأجل بينكم؟ قال: ليعلم الجاهل ويثبت العالم، ولعلّ الله يصلح بهذه الهدنة هذه الأمة. وعندئذ رجعوا إلى رأيه، فقال: ادخلوا مصركم رحمكم الله، فدخلوا عن آخرهم. ولما انقضى الأجل المضروب وحلّ شهر رمضان من السنة السابعة والثلاثين أرسل عليّ رضي الله عنه أبا موسى الأشعري في جمع من الصحابة وأهل الكوفة وأرسل معاوية عمرو بن العاص في جمع من أهل الشام، واجتمع الفريقان في دومة الجندل، وبعد أن حمدا الله وأثنيا عليه وتناصحا، اتفقا على أن يدعى بصحيفة وكاتب وأن يمليا عليه ما قد يتفقان عليه.. ولكنهما لم يتفقا أخيرا على من يوليانه أمر هذه الأمة. فإن أبا موسى الأشعري رضي بخلع عليّ ومعاوية، ولم يختر للخلافة إلا عبد الله بن عمر، غير أنه رضي الله عنه لم يرض الدخول في هذا الأمر. وعندئذ اصطلح الحكمان على أن يخلعا عليا ومعاوية، ويتركا الأمر شورى بين المسلمين، ليتفقوا على من يختارونه لأنفسهم. ثم توجها إلى جموع الناس من الطرفين، فقدّم عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري ليعلن على الناس ما اتفقا عليه، فتقدّم وحمد الله وصلى على رسول الله، ثم

أمر الخوارج ومقتل علي رضي الله عنه:

قال: «أيها الناس إنا نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أمرا أصلح لها ولا ألّم لشعثها من رأي اتفقت أنا وعمرو عليه، وهو أنا نخلع عليا ومعاوية» ثم تنحّى وجاء عمرو فقام مقامه وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إن هذا قد قال ما سمعتم، وإنه قد خلع صاحبه وإني قد خلعته كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فإنه وليّ عثمان بن عفان والطالب بدمه وهو أحق الناس بمقامه» . وتفرق الناس، على إثر هذا، كل إلى بلده. وأما عمرو وأصحابه فدخلوا على معاوية فسلموا عليه بالخلافة، وأما أبو موسى فاستحيى من علي فذهب إلى مكة. ورجع ابن عباس وشريح بن هانئ إلى عليّ فأخبراه بالأمر «8» . أمر الخوارج ومقتل علي رضي الله عنه: لما بعث علي أبا موسى ومن معه من الجيش إلى دومة الجندل، اشتدّ أمر الخوارج وبالغوا في النكير على عليّ بل صرّحوا بكفره لقبوله التحكيم، مع أنهم كانوا من أحرص الناس عليه. ولم يجد شيئا محاورة علي رضي الله عنه لهم ونصيحته إياهم، فقال لهم أخيرا: «إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ما لم تخرجوا علينا، ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا» . ثم توجه عليّ رضي الله عنه بجيش كبير قاصدا الشام لحرب معاوية، بعد أن أعلن عن رفضه لحكم الحكمين.. ولكن بلغه أن الخوارج قد عاثوا في الأرض فسادا وسفكوا الدماء وقطعوا السبل واستحلوا المحارم، وقتلوا فيمن قتلوا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وامرأته وهي حبلى! .. وعندئذ خشي علي رضي الله عنه ومن معه إن هم ذهبوا إلى بلاد الشام واشتغلوا بقتال معاوية ومن معه أن يتسلط هؤلاء الخوارج على أهليهم وذراريهم بهذا الصنيع، فاتفقوا مع علي رضي الله عنه أن يبدؤوا بهؤلاء. فاتجه إليهم عليّ رضي الله عنه بمن معه من أصحابه، ولما قارب المدائن أرسل إلى الخوارج في النهروان: أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم، حتى نقتلهم، ثم إنا تاركوكم، وسائرون إلى الشام فلعلّ الله أن يردّكم إلى خير مما أنتم عليه. فبعثوا إلى عليّ يقولون: كلنا قتل إخوانكم وإنا مستحلّون دماءهم ودماءكم، وعندئذ تقدّم إليهم عليّ فنصحهم ووعظهم وأنذرهم، فلم يكن لهم من جواب إلا أن تنادوا فيما بينهم أن يتهيؤوا للقتال وللقاء ربّ العالمين. وقبل أن يبدأ القتال أمر عليّ أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية الأمان للخوارج، وأن يقول لهم: من جاء إلى هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن، فانصرف منهم

_ (8) باختصار عن البداية والنهاية: 7/ 282 و 284

العبر والعظات:

طوائف كثيرون، ولم يبق منهم إلا ألف تقريبا يرأسهم عبد الله بن وهب الراسبي، وكان الخوارج هم أول من بدأ القتال، فقتلوا عن آخرهم، وقيل أكثرهم. ولم يقتل من أصحاب علي إلا سبعة نفر. ثم إن الأمور تنغصت على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، واضطرب جيشه، وخالفه كثير من أهل العراق واستفحل أمر الشام وصالوا وجالوا يمينا وشمالا، كما يقول ابن كثير، زاعمين أن الأمر استتبّ لمعاوية بمقتضى حكم الحكمين، هذا مع العلم بأن أهل الشام كلما ازدادوا قوة ازداد أهل العراق ضعفا وخذلانا؛ ومع ما كانوا يعرفونه من أن أميرهم عليا رضي الله عنه خير أهل الأرض في ذلك الزمان، أعبدهم وأزهدهم وأعلمهم وأخشاهم لله عز وجل، فقد خذلوه وتخلّوا عنه، حتى كره الحياة وتمنى الموت. وحتى كان يكثر أن يقول: «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لتخضبنّ هذه من هذه (أي لحيته من رأسه) فما يحبس أشقاها؟» . وكان عبد الرحمن بن ملجم، وهو واحد من رؤوس الخوارج، قد خطب امرأة يقال لها قطام فائقة الجمال، وكان قد قتل أبوها وأخوها يوم النهروان، فاشترطت عليه أن يقتل عليا رضي الله عنه، فقال: والله ما جاء بي إلى هذه البلدة إلا قتل عليّ، فتزوجها ودخل بها، وأخذت تحرّضه على قتل عليّ رضي الله عنه. وفي ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان عام 40 للهجرة، كمن عبد الرحمن بن ملجم- ومعه اثنان من أعوانه- مقابل السدة التي يخرج منها عليّ رضي الله عنه عادة، وخرج كعادته يوقظ الناس لصلاة الفجر، ففاجأه ابن ملجم وضربه بالسيف على قرنه فسال دمه على لحيته رضي الله عنه. وقال لأصحابه، وقد علم أن ابن ملجم هو الذي فعل به ذلك: إن متّ فاقتلوه وإن عشت فأنا أعلم كيف أصنع به. ولما احتضر رضي الله عنه جعل يقول: لا إله إلا الله، لا يقول غيرها. وقد توفي عن ثلاثة وستين عاما. وكانت مدة خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر. والذي رجحه ابن كثير أنه دفن بدار الإمارة في الكوفة، وأكثر المؤرخين على أن أقاربه وأصحابه عمّوا قبره خيفة عليه من الخوارج، والأقوال في مكان دفنه وأنه نقل إلى البقيع أو إلى أماكن أخرى كثيرة جدا. والله أعلم. أما ابن ملجم فقد تولّى قتله الحسن رضي الله عنه، ثم أحرقت جثته بالنار «9» . العبر والعظات: أولا- هل كان بين عليّ رضي الله عنه وأولئك الذين كانوا يستعجلون في طلب الثأر من قتلة عثمان، أيّ خلاف جذري في هذه المسألة؟

_ (9) تاريخ الطبري 5/ 133 وما بعدها، والبداية والنهاية 7/ 385 وما بعدها.

لعلك علمت مما ذكرناه آنفا، أن ملاحقة قتلة عثمان بالقصاص، لم يكن محل خلاف قط، كل ما في الأمر أن عائشة وطلحة والزبير ومن معهم، كانوا حريصين على أن يكون تنفيذ القصاص في حق أولئك القتلة، أول الأعمال التي يفتتح بها عليّ رضي الله عنه خلافته وعهده.. أما عليّ فكان يرى ضرورة البدء بتوطيد الأمور وإعادة النظام، ثم السعي إلى اقتناص قتلة عثمان والإحاطة بهم، بطرق أكثر هدوءا ولباقة. وهذا الذي كان يراه عليّ رضي الله عنه ويحرص عليه، هو الأساس الذي جنح إليه الطرف الآخر، وتمّ بموجبه الصلح، وقرر الجميع، بمن فيهم عائشة وطلحة والزبير- بكل ثقة وطمأنينة- وضع الأمر بين يدي علي يعالجه بما يرى من الحكمة، ما دام الكل متفقين على ضرورة ملاحقة القتلة وإنزال القصاص بهم. وعلى هذا الأساس اتفقت الأطراف على أن يتخلوا عن هذه المهمة التي حملوا أنفسهم مسؤولية إنجازها، وقرروا الرجوع، كلّ إلى داره وبلده. ثانيا- إذن، فما الذي عاقهم عن تطبيق هذا الذي اتفقوا عليه، وصدّهم عن المضيّ فيما قرروه من وضع الأمر بين يدي عليّ والتعاون معه في كل شيء؟ لقد رأيت أن الذي عاقهم إنما هو الكيد الذي خطط له أبطال الفتنة، وفي مقدمتهم (ابن السوداء) عبد الله بن سبأ، فقد قرروا- وقد أفزعهم اتفاق المسلمين- أن يندسّوا بين الصفوف، ثم يفاجؤوا الطرفين، في غبش الظلام، بالسيوف ينهالون بها عليهم على غير هدى، لتزول الثقة وتندلع الفتنة فيما بينهما، وليحسب كل طرف أن الطرف الآخر فاجأه بالمكيدة من وراء ستار الصلح والتظاهر به. وهذا ما قد تمّ بالضبط. ومثل هذا الكيد عمل سهل رخيص، لا يتوقف على أكثر من طبيعة لئيمة، وإنسانية ممسوخة متراجعة. ولكن ماذا كان يمكن أن يفعل أولئك الصحابة الذين صفت نفوسهم من كل مكيدة وزغل، سوى أن يردوا عنهم تلك الهجمات المباغتة، وما الذي يمكنهم أن يفهموه من تفسيرها سوى أنها غارة مبيتة خطط لها من الطرف الآخر؟ .. ومع ذلك فقد رأيت أن الواحد منهم كان إذا تعرّف على من يواجهه، كفّ كل منهما يده عن صاحبه وقابله بالاعتذار والندم. إذن، فإن هذه الفتنة لم تنبعث من رعونة هيمنت على نفوس الصحابة رضوان الله عليهم، سواء أكانوا من هذا الطرف أو ذاك، وإنما انبعثت من دخلاء مدسوسين، كانوا يمكرون، بلؤم، بحقّ الصحابة كلهم، دون أي تفريق بين طرف وآخر. والعجيب، بعد هذا، أنك تقرأ كثيرا مما كتب عن هذه الفتنة، فلا تجد شيئا منها ينبه إلى أصابع الفتنة هذه ويكشف عن دورها الخطير في كل هذا الذي قد حدث؛ وإنما يتحدث الكل عن

السطح الظاهري مفصولا عن جذوره وعوامله! .. يوسعون ضحايا هذه الفتنة هجوما وتجريحا ونقدا واتهاما، ولا يلتفتون بكلمة واحدة إلى صناع هذه الفتنة وحراسها والنافخين في نيرانها بدءا من التخطيط لقتل عثمان وانتهاء بقتل علي رضي الله عنه! .. أليست الكتابة عن هذه الفتنة بهذا الأسلوب، جزءا لا يتجزأ من المكيدة ذاتها؟ .. ثالثا- يقينا منا بإخلاص سيدنا عليّ كرم الله وجهه فيما يفعل ويذر، وبأنه لا يتبع في شيء من ذلك هوى نفسه أو مصلحة شخصه، ويقينا منا بعلمه الغزير، وبأنه كان المرجع والمستشار الأول لكلّ من الخلفاء الثلاثة الذين خلوا من قبله، ونظرا إلى أنه قبل مبايعة الناس له بعد مقتل عثمان، واعتبر مخالفة معاوية له وإصراره على ذلك بغيا، وعامله بعد طول نقاش وحوار على أساس ذلك- فإننا نقرر ما قرره جمهور علماء المسلمين وأئمتهم من أن معاوية كان باغيا في خروجه على عليّ، وأن عليّا هو الخليفة الشرعي بعد عثمان. غير أننا يجب أن لا ننسى أن الباغي مجتهد ومتأول، وإذا جاز لصاحب الاجتهاد المقابل أن يحذره ثم ينذره ثم يقاتله، فإنه لا يجوز لنا وقد انطوى العهد بما فيه أن نتخذ من انتقاص معاوية ديدنا وأن نقف منه، دون أي فائدة مرجوة، موقف الندّ من عدوه اللدود. وحسبنا، في مجال العقيدة، أن نعلم طبقا لما تقتضيه قواعد التشريع، أن الخليفة بعد عثمان هو عليّ رضي الله عنه؛ وأن معاوية، كان يمثل في تمرده عليه طرف البغي، ثم نكل الأمر فيما وراء ذلك إلى الله عزّ وجل. رابعا- لا يشك المتتبع لمواقف الخوارج، وانقلابهم من أقصى درجات التأييد لعليّ والدفاع عنه، إلى أقصى درجات التمرد عليه والتربص به والعدوان عليه، أنهم إنما ذهبوا ضحية التطرف. وقد علمت أن الإسلام إنما يقوم في عقائده وسلوكه على الوسطية. وإنما تفهم حدود الوسطية فيه بضوابط العلم وموازينه. فمن استقى العلم من مصادره، واستكان إلى قواعده ومقتضياته، والتمس له الحلم والأناة، عوفي من الانجراف إلى أي من طرفي الإفراط والتفريط. وقد كان جلّ الخوارج من أجلاف البادية وقساة الأعراب؛ فلم يكن لشيء من موازين العلم وما تستدعيه من تحلم وأناة، من سبيل إلى عقولهم أو نفوسهم. فكان لا بدّ أن يستسلموا لرعوناتهم النفسية وجلافتهم الطبيعية. وقد تجلّى ذلك في تكفيرهم عليا رضي الله عنه بسبب قبوله للتحكيم، وقد انبثق عن موقفهم هذا تكفيرهم الناس بارتكاب الكبائر، بل ذهب كثير منهم إلى التكفير بارتكاب المعصية مهما كانت. ولا تزال آثار هذا التطرف ممتدة إلى عصرنا هذا، فهواية التكفير لأبسط الأسباب إنما تمثل عقلية التطرف هذه؛ وهي- كما قلنا- عقلية ترفض العلم وتتمرد على قواعده وضوابطه.

فهرس الموضوعات الفقهية باب الصلاة مشروعية صلاة الخوف. (الحرب) 199 وجوب قضاء المكتوبة الفائتة 223 الصلاة داخل الكعبة وحكمها 279 سجود الشكر ودليل مشروعيته 307 الجنائز الشهيد لا يغسل ولا يصلى عليه 184 أحكام المساجد: جواز نبش القبور لاتخاذ موضعها مسجدا 145 حكم تشييد المساجد ونقشها 145 جواز إنزال المشرك في المسجد رجاء إسلامه 316 النهي عن اتخاذ القبور مساجد 344 باب الحج حكم المحصر في الحج والعمرة 242 استحباب الاضطباع والهرولة في الطواف 257 عقد النكاح حال الإحرام بحج أو عمرة 258 خصائص الحرم المكي 1- حرمة القتال فيه 276 2- تحريم صيده وقطع نباته 278 3- وجوب الإحرام عند الدخول إليه 278 4- حرمة تمكين غير المسلمين من الإقامة فيه وتفصيل القول في ذلك 279 حجابة البيت وحكمها 281 مشروعية زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلم ومسجده وآدابها 346

باب الربا حرمة ربا الفضل في المطعومات 248 المساقاة: مشروعية عقد المساقاة 247 باب النكاح (العزل) وما يتبعه من مظاهر تحديد النسل 206 عقد النكاح حالة الإحرام بحج أو عمرة 258 باب الجنايات مشروعية حد القذف وشروطه 212 باب الإباحة والحظر حجاب المرأة المسلمة 168 حكم القيام إكراما للقادم 227 حكم الوقوف على الإنسان وهو قاعد 241 مشروعية تقبيل القادم والتزامه 248 مشروعية اتخاذ الخاتم ووضعه في اليد 255 مشروعية الترجيع والترنم في تلاوة القرآن 275 حكم التصوير وموقف الإسلام مما يسمى بالفنون 279 مصافحة المرأة الأجنبية 283 هل صوت المرأة عورة 283 الرقص أثناء الذكر 302 مشروعية الهجر بسبب ديني 307 وجوب هدم الأوثان والتماثيل 317 مشروعية الرقية 340 السحر: حقيقته وتأثيره 341 باب الجهاد والصلح والمعاهدات هل يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غيرهم؟ 94 مشروعية الجهاد 126 وجوب الهجرة من دار الحرب 130

وجوب انتصار المسلمين لبعضهم مهما تباعدت الديار 131 ملكية الحربي غير محترمة 159 خضوع حالات الغزو والمعاهدات والصلح للسياسة الشرعية 160 يجوز للإمام أن يستعين بالعيون والمراقبين 161- 290 موالاة غير المسلمين وحكمها في الإسلام 171- 272 الاستعانة بغير المسلمين في القتال 178 المرح والتبختر مكروهان إلا في حالة القتال 179 تجوز الإقامة بدار الكفر ابتغاء القيام بواجب الدعوة 188 يجوز للأسير المسلم الامتناع عن قبول الأمان ولو علم أنه يقتل 188 يجوز إتلاف شجر العدو وثماره إن رأى الإمام المصلحة في ذلك 192 حكم ما أخذ من العدو بغير قتال، وحكم الأرض المأخوذة بقتال 193 مشروعية تقسيم الغنائم بين المقاتلين 206 لا يجوز الصلح مع الكفار على دفع مال لهم 221 جواز قتال من نقض العهد وشروط ذلك 225 الاستعانة بغير المسلمين فيما دون القتال 237- 290 مشروعية الهدنة بين المسلمين وأعدائهم 241 للصلح مدة لا يجوز تجاوزها، والشروط التي يجوز اشتراطها لدى عقد الصلح والتي 242 لا يجوز اشتراطها جواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة دون إنذار 246- 270 سياسة تقسيم الغنائم، وإشراك غير المقاتلين فيها 246 كيف تقسم الغنائم اليوم 247 من أحكام الهدنة ونقضها 270 حكم خروج المرأة والقتال مع الرجال 291 تحريم قتل النساء والأجراء والعبيد 292 حكم السّلب 292 متى يمتلك الجند الغنائم؟ 293 سياسة الإسلام مع المؤلفة قلوبهم 293 الجزية وأهل الكتاب 305 حسن معاملة الوفود والمستأمنين 317

باب الإمامة الكبرى من المعنى التفسيري لمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الإسلام 153- 283 الشورى مشروعيتها، شروطها وقيودها، هل هي ملزمة أم لا؟ 159- 177 221- 237 أقسام تصرفاته صلّى الله عليه وسلم 161 معاملة المنافق في الحكم الإسلامي 170- 306 312 التحكيم في أمور المسلمين 225 تولية الإمام الأمراء 261 اختيار المسلمين إماما لهم 261 بيعة النساء وأحكامها 283 أحق الناس بالولاية أعلمهم بكتاب الله عزّ وجل 317 باب القضاء هل يجوز تعذيب المتهم قبل ثبوت الاتهام عليه؟ 271 باب الحجر والأهلية حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد 144 باب النذور ذهب الحنفية إلى عدم لزوم نذر من نذر التصدق بكل ماله 308

فهرس أبحاث الكتاب الموضوع الصفحة مقدمة الطبعة الجديدة 7 مقدمة الطبعة الثانية 9 القسم الأول: مقدمات 15 أهمية السيرة النبوية في فهم الإسلام 15 كيف تطورت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم- السيرة النبوية والتاريخ 17 كيف بدأت ثم تطورت كتابة السيرة 18 المنهج العلمي في رواية السيرة النبوية 19 السيرة النبوية على ضوء المذاهب الحديثة في كتابة التاريخ 21 مصير هذه المدرسة اليوم 25 كيف ندرس السيرة النبوية على ضوء ما قد ذكرناه 27 سرّ اختيار الجزيرة العربية مهدا لنشأة الإسلام 30 محمد صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيين وعلاقة دعوته بالدعوات السماوية السابقة 34 الجاهلية وما كان فيها من بقايا الحنيفية 37 القسم الثاني: من الميلاد إلى البعثة 44 نسبه صلّى الله عليه وسلم وولادته ورضاعته: 44 1- بيان فضل العرب وفضل قريش من أجل الإسلام وبسبب انتساب 45 الرسول صلّى الله عليه وسلم إليهما 2- ليس من قبيل المصادفة أن يولد الرسول صلّى الله عليه وسلم يتيما 45 3- من مظاهر إكرام الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم إكرامه منازل حليمة السعدية التي 46 عادت ممرعة خضراء. وبيان ما في ذلك من المبادئ والأحكام 4- حادثة شق صدره من أبرز الإرهاصات النبوية وما يتعلق بذلك من أبحاث 47 رحلته الأولى إلى الشام ثم كدحه في سبيل الرزق 48 كان لدى أهل الكتاب علم ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام 49

الموضوع الصفحة الحكمة من رعيه صلّى الله عليه وسلم للأغنام 49 المعنى البارز في عصمة الله تعالى رسوله من كل سوء في شبابه 50 تجارته بمال خديجة وزواجه منها: 52 بيان فضل خديجة رضي الله عنها في الإسلام 53 قصة زواجه صلّى الله عليه وسلم منها. وكلمة عن زواجه عليه الصلاة والسلام بنسائه الأخريات 54 بعد ذلك اشتراكه في بناء الكعبة 55 كلمة عن أهمية الكعبة وما جعل الله لها من شرف وقداسة 55 بيان ما تعاقب على الكعبة من الهدم والبناء 56 مدى حكمة النبي صلّى الله عليه وسلم في تدبير الأمور 59 اختلاؤه في غار حراء 60 كلمة عن أهمية العزلة والاختلاء في تربية المسلم بشروط لا بدّ منها 60 بدء الوحي 62 كلمة عن ظاهرة الوحي في حياته عليه الصلاة والسلام وبيان حقيقته 63 القسم الثالث: من البعثة إلى الهجرة 68 مراحل الدعوة الإسلامية في حياة النبي عليه الصلاة والسلام 68 الدعوة سرّا 68 1- وجه السريّة في بدء الدعوة 69 2- الأوائل الذين دخلوا في الإسلام والحكمة من إسراعهم إلى الإسلام قبل غيرهم 70 الجهر بالدعوة: 72 أولا- حينما جهر النبي صلّى الله عليه وسلم بالدعوة فاجأهم بما لم يكونوا يتوقعون واشتد عليه 73 الإيذاء منهم. وفيه الرد القاطع على من يطيب لهم أن يجعلوا الإسلام ثمرة من ثمار الحضارة ثانيا- ما هي الحكمة من أمر الله رسوله بأن ينذر عشيرته الأقربين وهم داخلون في 73 عموم الناس الذين أمر أن يدعوهم إلى الإسلام ثالثا- لا تقاليد في الإسلام، وبيان مدى خطورة الكلمة الدارجة (التقاليد 74 الإسلامية) وما يكمن وراءها

الموضوع الصفحة الإيذاء: 77 كلمة في بيان الحكمة من تحمل الرسول صلّى الله عليه وسلم لأشد أصناف الإيذاء مع أنه على الحق 77 ومع أن الله قادر على حمايته سياسة المفاوضات وفيها الدلالات التالية: 80 الدلالة الأولى: بيان حقيقة الدعوة الإسلامية وتميزها عن كل ما يلتبس بها من 82 الأهداف والأغراض الدنيوية الدلالة الثانية: معنى الحكمة وحدودها 84 الدلالة الثالثة: السبب في عدم استجابة الرسول صلّى الله عليه وسلم لقريش فيما طلبت من 85 الخوارق وبيان أن ذلك لا ينافي ما قد أكرمه الله به من المعجزات الحصار الاقتصادي- القطيعة والشدة التي لقيها النبي صلّى الله عليه وسلم 86 نفي دعوى أن عصبية بني هاشم والمطلب كانت خلف دعوة محمد صلّى الله عليه وسلم 87 أول هجرة في الإسلام ودلالاتها: 91 الدلالة الأولى: إنما يكون الوطن والأرض سياجا لحفظ العقيدة والعكس خطأ 92 كبير الدلالة الثانية: بيان حقيقة العلاقة بين ما جاء به سيدنا محمد وسيدنا عيسى عليهما 94 الصلاة والسلام الدلالة الثالثة: يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غيرهم بشروط 94 أول وفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفيه دلالتان: 95 أولا- ما يلاقيه أرباب الدعوة الإسلامية من المصائب والآلام لا يعني الفشل 95 أو الخيبة ثانيا- نوع الإيمان الذي آمنه أفراد هذا الوفد استمرارا لإيمانهم السابق بعيسى بن 96 مريم عام الحزن: 97 ما الحكمة في أن يتعجل قضاء الله في استلاب كل من أبي طالب عم النبي صلّى الله عليه وسلم 97 وزوجته خديجة في عام واحد مع ما كان له من أنس بهما؟ معنى كلمة (عام الحزن) التي أطلقها الرسول صلّى الله عليه وسلم، وهل فيها دلالات مشروعية 99 الحداد على موت الأقارب على نحو ما يفعله الناس اليوم

الموضوع الصفحة هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الطائف: 100 أولا- إن ما كان يلاقيه النبي عليه الصلاة والسلام من مختلف ألوان المحنة من جملة 101 أعماله التبليغية ثانيا- اللطف الإلهي فيما لقيه عليه الصلاة والسلام في هجرته إلى الطائف وما فيه 103 من رد على كيد المشركين ثالثا- ما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم مع قائد الدعوة 103 رابعا- الجن، وجودهم، تكليفهم، رؤية النبي صلّى الله عليه وسلم لهم، وتحقيق ما ورد في ذلك 104 خامسا- ما هو موقع ما رآه النبي عليه الصلاة والسلام في سياحته هذه نفسه 106 معجزة الإسراء والمعراج: 108 أولا- كلمة هامة عن الرسول والمعجزات 109 ثانيا- ما موقع معجزة الإسراء والمعراج من الأحداث التي مرت به عليه الصلاة 112 والسلام في حينها ثالثا- المعنى الموجود في الإسراء به إلى بيت المقدس 113 رابعا- في اختياره عليه الصلاة والسلام اللبن على الخمر دلالة رمزية على أن الإسلام 113 دين الفطرة خامسا- كان الإسراء والمعراج لكل من الروح والجسد معا 114 سادسا- احذر أن تركن إلى ما يسمى بمعراج ابن عباس 114 عرض الرسول صلّى الله عليه وسلم نفسه على القبائل وبدء إسلام الأنصار: 115 بيعة العقبة الأولى: 116 كيف أينع الصبر وبدأ الجهد يثمر 117 لماذا جاءت الثمرات من خارج قريش بعيدة عن قومه الذين احتك بهم؟ 118 الممهدات التي مهد الباري جلّ جلاله بها المدينة لقبول الإسلام 119 المسؤوليات التي تحملها مسلمو المدينة بعد بيعة العقبة الأولى وما في ذلك من 120 الدلالات اشتراك المسلمين كلهم في عبء الدعوة الإسلامية 121 بيعة العقبة الثانية: 122 الفرق بين البيعتين 124

الموضوع الصفحة كلمة عامة عن الجهاد ومشروعيته 126 إذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة: 129 لم تكن هجرة المسلمين هربا من الدعوة بل محنة جديدة أخرى في سبيل الإسلام؟ 130 وجوب الهجرة من دار الحرب 130 وجوب انتصار المسلمين مهما تباعدت الديار 131 هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة 132 قدوم قباء 135 صورة عن مقام النبي صلّى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب 135 دلائل فضل أبي بكر في استبقاء الرسول صلّى الله عليه وسلم له رفيقا في السفر 137 لماذا هاجر عمر علنا وهاجر النبي صلّى الله عليه وسلم مستخفيا؟ 137 التناقض العجيب الذي كان لدى المشركين في اعتقادهم بالرسول 138 عليه الصلاة والسلام واجب الشبان حيال الدعوة الإسلامية 139 معجزة انحباس فرس سراقة عن اللحاق به عليه الصلاة والسلام 139 معجزة نوم المشركين الذين تربصوا برسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن أغشاهم الله 139 طبيعة المحبة التي ينبغي أن تعمر قلب المسلم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم 139 التبرك والتوسل بآثار الرسول صلّى الله عليه وسلم ومنزلته عند الله وحكم ذلك 140 القسم الرابع: أسس المجتمع الجديد 142 الأساس الأول: بناء المسجد 142 1- مدى أهمية المسجد في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية 143 2- حكم التعامل مع من لم يبلغوا سن الرشد 144 3- جواز نبش القبور الدارسة لاتخاذ موضعها مسجدا 145 4- حكم تشييد المساجد ونقشها وزخرفتها 145 الأساس الثاني: الأخوّة بين المسلمين 147 أولا- أثر التآخي في وحدة الأمة وتحقيق النظام والقانون 147 ثانيا- لا ضمانة لتطبيق العدل إلا على أساس قيام معنى الولاء والتناصر بدافع من 148 الشعور القلبي

الموضوع الصفحة ثالثا- المعنى التفسيري الذي صاحب شعار التآخي 149 الأساس الثالث: كتابة الوثيقة 150 1- المجتمع الإسلامي قام منذ أول نشأته على أسس دستورية 152 2- تدل هذه الوثيقة على مدى العدالة التي اتسمت بها معاملة النبي صلّى الله عليه وسلم لليهود 153 3- دلت هذه الوثيقة على أحكام شرعية هامة: 153 أولا- الإسلام وحده هو الأساس لوحدة الأمة الإسلامية 153 ثانيا- أهمية التكافل والتضامن في المجتمع الإسلامي 153 ثالثا- المعنى التفسيري للمساواة في الإسلام 153 رابعا- ليس للمسلمين أن يحكّموا فيهم أي شرعة غير شرعة الإسلام 154 القسم الخامس: مرحلة الحرب الدفاعية 155 مقدمة: أول غزوة غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم 155 غزوة بدر الكبرى: الدلالات: 156 1- لم يكن الدافع الأصلي لخروج المسلمين القتال وإنما كان أخذ العير وفيه دليل 159 على أمرين: الأمر الأول: ممتلكات الحربيين أموال غير محترمة 159 الأمر الثاني: بالرغم من مشروعية القصد إلى أخذ العير فإن الله أراد لعباده قصدا 159 أرفع 2- في مشاورة الرسول أصحابه قبل القتال دلالتان: 159 الدلالة الأولى: الشورى أصل تشريعي ثابت في كل ما لا نص فيه من الكتاب 159 أو السنة الدلالة الثانية: خضوع حالات الغزو والمعاهدات والصلح لما يسمى بالسياسة 160 الشرعية 3- لماذا لم يقع جواب المهاجرين موقعا كافيا من نفس الرسول 160 عليه الصلاة والسلام، وظل متطلعا إلى رأي الأنصار؟ 4- يجوز للإمام أن يستعين بالعيون والمراقبين 161 5- أقسام تصرفاته صلّى الله عليه وسلم 161 6- أهمية التضرع لله وشدة الاستغاثة به في الحرب 162

الموضوع الصفحة 7- الإمداد بالملائكة في غزوة بدر 163 8- الحياة البرزخية للأموات 164 9- مفاداة الأسرى والمشورة وفيهما دلالتان على: 164 أولا- جمهور العلماء على أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يجتهد 164 ثانيا- التربية الإلهية للمسلمين لدى أول تجربة لرؤية الغنائم والحصول عليها 165 بنو قينقاع وأول خيانة يهودية للمسلمين- الدلالات: 167 أولا- حجاب المرأة المسلمة وحدوده وحكمه 168 ثانيا- دلالة هذه الحادثة على الحقد العجيب لدى اليهود 170 ثالثا- معاملة المنافق في الإسلام 170 رابعا- موالاة غير المسلمين وحكمها في الإسلام 171 غزوة أحد- الدلالات: 173 أولا- الشورى وأهميتها وحدودها 177 ثانيا- ظهور موقف المنافقين في هذه الغزوة وسبب ذلك 177 ثالثا- حكم الاستعانة بغير المسلمين في القتال 178 رابعا- التأمل في حال سمرة بن جندب ورافع بن خديج وهما طفلان يقتحمان 178 القتال خامسا- في تنظيم النبي عليه الصلاة والسلام لفصائل الجيش: دلالة على براعته 179 العسكرية. وكأنه ألهم ما سيقع فيه بعض أصحابه من الأخطاء سادسا- المرح والتبختر في المشي مكروهان فيما عدا حالة القتال 179 سابعا- العبرة الكبرى وآثارها 180 ثامنا- الحكمة الإلهية في أن يشيع خبر وفاته عليه الصلاة والسلام 181 تاسعا- تأملات في وقع الموت على أصحابه عليه الصلاة والسلام وهم يحمونه 182 بأجسادهم عاشرا- الشهيد لا يغسل ولا يصلى عليه 184 حادي عشر- ظهور العبرة الكبرى من غزوة أحد عند رجوع الصحابة إلى حمراء 184 الأسد وكيف انقلبت الهزيمة نصرا يوم الرجيع وبئر معونة- الدلالات: 185

الموضوع الصفحة أولا- المسلمون كلهم مشتركون في مسؤولية الدعوة 187 ثانيا- يجوز الإقامة بدار الكفر ابتغاء القيام بواجب الدعوة الإسلامية 188 ثالثا- كيف هذب الإسلام نفس العربي المسلم وظهور ذلك في موقف خبيب من 188 أعدائه رابعا- يجوز للأسير في يد العدوان أن يمتنع عن قبول الأمان ولو علم أنه يقتل 188 بذلك خامسا- أثر محبة النبي صلّى الله عليه وسلم في القلب وضرورة تذكيتها 189 سادسا- كل ما كان معجزة للنبي جاز أن يكون كرامة لولي 189 سابعا- قد يتساءل البعض: فما الحكمة في تمكين يد الغدر من هؤلاء الفتية المؤمنين؟ 189 والجواب عليه إجلاء بني النضير- الدلالات: 190 أولا- واحدة من الخوارق التي أكرم الله بها محمدا عليه الصلاة والسلام 192 ثانيا- يجوز إتلاف أشجار العدو وثماره إذا رأى الإمام المسلم المصلحة في ذلك 192 ثالثا- اتفق الأئمة على أن ما غنمه المسلمون بدون قتال يعود النظر فيه إلى ما يراه 193 الإمام المسلم. واختلفوا في الأرض التي يغنمونها بواسطة الحرب غزوة ذات الرقاع 194 تحقيق في تاريخ هذه الغزوة، والدلالات: 197 أولا- سبب تسمية هذه الغزوة بذات الرقاع وما في ذلك من دلالة هامة 198 ثانيا- مشروعية صلاة الخوف وكيفيتها 199 ثالثا- تجسد معنى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ في قصة المشرك الذي أخذ سيف 200 رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليقتله وهو نائم رابعا- صورة رائعة من لطف معاملته عليه الصلاة والسلام لأصحابه في قصته مع 200 جابر خامسا- لا بدّ أن يقف المسلم وقفة تأمل أمام مشهد ذينك الصحابيين وهما يحرسان 201 الثغر غزوة بني المصطلق 202 خبر الإفك- الدلالات: 204

الموضوع الصفحة أولا- مشروعية تقسيم الغنائم بين المقاتلين 206 ثانيا- حكم العزل عند الجماع (أو تحديد النسل) 206 ثالثا- البراعة التي آتاها الله نبيه عليه الصلاة والسلام في سياسة الأمور وتربية 209 الناس رابعا- قصة الإفك حلقة فريدة من سلسلة الإيذاء للنبي عليه الصلاة والسلام 210 الحكمة من تأخر الوحي لكشف حقيقتين هامتين 211 معنى قول عائشة: لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله 211 خامسا- مشروعية حدّ القذف وشروطه 212 غزوة الخندق (الأحزاب) - الدلالات: 213 أولا- الشريعة الإسلامية بمقدار ما تكره للمسلمين تقليد غيرهم على غير هدى، تحب 218 لهم أن يجمعوا أطراف الخير كله حيثما كان ثانيا- المساواة في الإسلام حقيقة مجسدة وليست شعارات كاذبة 218 ثالثا- صورة رائعة يتجلى فيها مظهر النبوة في شخص الرسول عليه الصلاة 219 والسلام، ويتجلى فيها شدة حبه لأصحابه وشفقته عليهم رابعا- معنى استشارته عليه الصلاة والسلام لأصحابه أن يعقد صلحا مع غطفان 221 والقيمة التشريعية فيها. فئة مشبوهة مجهولة في عصرنا أخذت تزعم أن على المسلمين أن يدفعوا (الجزية) لغيرهم إذا اقتضت الحاجة خامسا- كيف وبأي وسيلة انتصر المسلمون في هذه الغزوة 222 سادسا- وجوب قضاء المكتوبة الفائتة سواء تركت عمدا أو سهوا 223 غزوة بني قريظة- الدلالات: 224 أولا- جواز قتال من نقض العهد 225 ثانيا- جواز التحكيم في أمور المسلمين 225 ثالثا- مشروعية الاجتهاد في الفروع وضرورة وقوع الخلاف فيها 226 رابعا- تأكد اليهود من نبوة محمد عليه الصلاة والسلام 226 خامسا- حكم القيام إكراما للقادم وما يتبعه من مظاهر التعظيم 227 سادسا- مزايا خاصة لسعد بن معاذ 228 القسم السادس- الفتح، مقدماته ونتائجه: 230

الموضوع الصفحة صلح الحديبية 230 بيعة الرضوان 233 كلمة وجيزة في حكمة هذا الصلح- الدلالات: 233 أولا- الاستعانة بغير المسلمين فيما دون القتال 237 ثانيا- طبيعة الشورى المشروعة في الإسلام 237 ثالثا- التوسل والتبرك بالنبي صلّى الله عليه وسلم وآثاره 237 رابعا- حكم الوقوف على الإنسان وهو قاعد 241 خامسا- مشروعية الهدنة بين المسلمين وأعدائهم وشروط ذلك 241 سادسا- للصلح مدة معلومة لا يجوز أن يتجاوزها 242 سابعا- بيان الشروط التي يجوز اشتراطها لدى عقد الصلح والتي لا يجوز 242 اشتراطها ثامنا- حكم المحصر في الحج والعمرة 242 غزوة خيبر 243 قدوم جعفر بن أبي طالب من الحبشة 245 أول ما ينبغي ملاحظة اختلاف طبيعة هذه الغزوة عن الغزوات السابقة وسبب 245 ذلك- الدلالات: أولها- جواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة بدون إنذار مسبق 246 ثانيها- سياسة تقسيم الغنائم 246 ثالثها- جواز إشراك غير المقاتلين في الغنيمة ممن حضر القتال 246 لعلك تسأل: فما مصير حكم الغنائم مع ما تطورت إليه اليوم حال الحرب والجند 247 وسياسات العطاءات؟ رابعها- مشروعية عقد المساقاة 247 خامسها- مشروعية تقبيل القادم والتزامه 248 سادسها- حرمة ربا الفضل في المطعومات، والطريقة الشرعية لتسويغ ذلك 248 لا عبرة لمخالفة ابن القيم في هذا فكلامه في ذلك متناقض تناقضا عجيبا 249 خارقتا النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة؛ أولاهما: تفل في عين علي 249 رضي الله عنه فبرأت وكانت رمداء. ثانيهما: ما أوحى الله إليه من أمر الشاة المسمومة

الموضوع الصفحة سرايا إلى القبائل ... وكتب إلى الملوك- الدلائل: 250 معالم المرحلة الجديدة 252 حكمة مشروعية هذه المرحلة 253 أولا- الدعوة التي بعث بها النبي عليه الصلاة والسلام هي إلى الناس كافة 254 ثانيا- موقف هرقل وقومه من دعوة النبي عليه الصلاة والسلام وما فيه من 255 دلائل العصبية المحضة ثالثا- مشروعية اتخاذ الخاتم ووضعه في اليد واستحبابه عند بعضهم 255 رابعا- ضرورة تهييئ أسباب الدعوة الإسلامية، ومن ذلك تعلّم لغة الأقوام التي 255 يدعون إلى الإسلام خامسا- إصلاح المسلمين أنفسهم من أهم دعائم الدعوة الإسلامية 255 عمرة القضاء- الدلالات: 256 هذه العمرة مصداق لما وعد الله به المسلمين من دخول مكة وطوفهم بالبيت 257 أولا- استحباب الاضطباع والهرولة في أجزاء الطواف وحكمة ذلك 257 ثانيا- جواز عقد النكاح حالة الإحرام بحج أو عمرة 258 غزوة مؤتة- الدلالات: 258 أهم ما يثير الدهشة في هذه الغزوة الفرق الكبير بين عدد المسلمين والأعداء الهائلة 260 لخصومهم أولا- يجوز للخليفة أو رئيس المسلمين أن يعلق إمارة أحد من الناس بشرط 261 وأن يولي عدة أمراء بالترتيب ثانيا- مشروعية اجتهاد المسلمين في اختيار أمير لهم 261 ثالثا- كيف زوى الله عز وجل لنبيه الأرض فروى مقتل زيد وجعفر 262 وما يتعلق بذلك رابعا- فضل خالد بن الوليد وأهمية تسمية الرسول صلّى الله عليه وسلم له: سيف الإسلام 262 فتح مكة- الدلائل: 262 في أحداث الفتح العظيم تتجسد قيمة الدعوة الإسلامية من قبلها وتتجلى كثير من 268 الأسرار والحكم الإلهية لأحداث سابقة أولا- أحكام تتعلق بالهدنة ونقضها 270

الموضوع الصفحة 1- إذا حارب أهل العهد والهدنة المسلمين صار جميعهم أهل حرب 270 2- يجوز للإمام أو نائبه أن يفاجئ العدو بالإغارة 270 3- مباشرة البعض لنقض العهد تعتبر مباشرة من الكل بشرط 270 ثانيا- حاطب بن أبي بلتعة وما يتعلق بعمله 270 1- مظهر جديد لنبوته عليه الصلاة والسلام فيما أوحي له به من أمر حاطب 270 الذي أقدم عليه في السر 2- هل يجوز تعذيب المتهم قبل أن تثبت عليه التهمة؟ تحقيق بيان الحكم 271 الشرعي في ذلك 3- لا يجوز للمسلمين في أي الظروف كانت أن يتخذوا من أعداء الله أولياء لهم 272 ثالثا- أمر أبي سفيان وموقف الرسول صلّى الله عليه وسلم منه وطبيعة إسلامه والفرق بين الإسلام 272 والإيمان رابعا- تأملات في كيفية دخوله صلّى الله عليه وسلم إلى مكة 275 1- مشروعية الترجيع والترنم في تلاوة القرآن بشروط 275 2- اندماجه صلّى الله عليه وسلم في حالة الشهود والخضوع لربّه جلّ جلاله عند دخول مكة 275 وما فيه من الدلائل 3- كان تدبيرا حكيما أمره عليه الصلاة والسلام لأصحابه بالتفرق في مداخل 276 المدينة خامسا- ما اختص به الحرم المكي من أحكام 276 1- حرمة القتال فيه، وتفصيل القول في حكم المشركين والملحدين والبغاة ومن 276 استوجبوا القصاص ممن كانوا في الحرم المكي 2- تحريم صيده 278 3- تحريم قطع شيء من نباته 278 4- وجوب دخوله محرما ويفصل القول في ذلك 278 5- حرمة تمكين غير المسلمين من الإقامة فيه 279 سادسا- تأملات في ما قام به صلّى الله عليه وسلم من أعمال عند الكعبة المشرفة 279 1- الصلاة داخل الكعبة وحكمها 279 2- حكم التصوير واتخاذ الصور سواء الفوتوغرافي وغيره وموقف الإسلام مما 279 تسميه الحضارة الغربية بالفن

الموضوع الصفحة 3- حجابة البيت 281 4- تكسير الأصنام 282 سابعا- تأملات في خطابه صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح 282 ثامنا- بيعة النساء وما يتعلق بها من أحكام 283 1- اشتراك المرأة مع الرجل في جميع المسؤوليات الإسلامية العامة 283 2- بيعة النساء بالكلام فقط، لا يجوز مصافحة المرأة الأجنبية إلا لضرورة وبيان 283 معنى الضرورة 3- صوت المرأة الأجنبية ليس عورة ودليل ذلك 283 تاسعا- هل فتحت مكة عنوة أم صلحا؟ 283 غزوة حنين- الدلائل: 284 أمر الغنائم وكيفية تقسيم رسول الله صلّى الله عليه وسلم لها 287 تعتبر هذه العزوة درسا عظيما في العقيدة 289 أولا- حكم بثّ العيون بين الأعداء لمعرفة شأنهم 290 ثانيا- للإمام أن يستعير أسلحة من المشركين للجهاد 290 ثالثا- جرأته صلّى الله عليه وسلم في الحرب 290 رابعا- حكم خروج المرأة للجهاد مع الرجال 291 خامسا- تحريم قتل النساء والأطفال والأجراء والعبيد 292 سادسا- حكم السلب 292 سابعا- الجهاد لا يعني الحقد على الكافرين 293 ثامنا- متى يمتلك الجند الغنائم؟ 293 تاسعا- سياسة الإسلام نحو المؤلفة قلوبهم 293 عاشرا- فضل الأنصار ومدى محبة الرسول صلّى الله عليه وسلم لهم 294 غزوة تبوك 295 أمر المخلفين 298 أولا- كلمة على هامش هذه الغزوة 300 ثانيا- العبر والأحكام 301 1- أهمية الجهاد بالمال 301

الموضوع الصفحة 2- كلمة عن حديث أبي بكر وما اختلقه البعض من زيادة فيه ليسوغوا بها 302 بدعة من أهم البدع المحرمة وهي الرقص أثناء الذكر 3- المنافقون. طبيعتهم ومدى خطورتهم على الإسلام في كل عصر 304 4- الجزية وأهل الكتاب. معناها وحكمة مشروعيتها 305 5- لا ينبغي أن يمر المسلم بديار الأمم الخالية إلا وهو متعظ معتبر 306 6- الفرق بين سياسة النبي عليه الصلاة والسلام مع المنافقين وسياسته مع 306 المؤمنين الصادقين وسبب ذلك في حديث كعب بن مالك دلالات هامة منها: أولا- مشروعية الهجر بسبب ديني 307 ثانيا- الابتلاء الآخر الذي امتحن الله به كعبا 307 ثالثا- سجود الشكر ودليل مشروعيته 307 رابعا- ذهب الحنفية إلى أن الرجل إذا نذر ماله كله صدقة لم يلزمه التصدق به 308 كله حج أبي بكر رضي الله عنه بالناس، سنة تسع 308 1- المشركون وتقاليدهم في الحج 309 2- انتساخ العهد بإعلان الحرابة 309 3- تأكيد آخر لحقيقة معنى الجهاد 310 مسجد الضرار 311 تعتبر قصة هذا المسجد قمة الكيد الذي وصل إليه المنافقون، وبيان حكم أماكن 312 المعاصي والفواحش وفد ثقيف ودخولهم في الإسلام: 313 تتابع الوفود ودخولها في دين الله: 314 مقارنة بين اليوم الذي هاجر فيه الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الطائف وهذا اليوم الذي جاءت 315 فيه وفود الطائف لتسعى إلى الإسلام أولا- جواز إنزال المشرك في المسجد إذا كان يرجى إسلامه 316 ثانيا- حسن معاملة الوفود والمستأمنين 317 ثالثا- أحق الناس بالولاية والإمامة أعلمهم بكتاب الله 317

الموضوع الصفحة رابعا- وجوب هدم الأوثان والتماثيل 317 خبر إسلام عدي بن حاتم 319 تجسد شخصية النبي عليه الصلاة والسلام (كنبي يوحى إليه) أمام عديّ 320 بعوث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الناس لتعليمهم مبادئ الإسلام 322 مسؤولية الدعوة الإسلامية المنوطة بأعناق المسلمين وأهميتها 323 شيء من آداب الدعوة الإسلامية 323 حجة الوداع وخطبتها 324 أولا- عدد حجات النبي عليه الصلاة والسلام وزمن مشروعية الحج 326 ثانيا- المعنى الكبير لحجة الرسول عليه الصلاة والسلام 327 ثالثا- تأملات في خطبة الوداع وتحليل بنودها 328 شكوى الرسول صلّى الله عليه وسلم ولحاقه بالرفيق الأعلى 333 بعث أسامة بن زيد إلى البلقاء 333 شكوى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: 333 رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسكرة الموت ودلائل ذلك 336 في أحداث هذا القسم الأخير من سيرته صلّى الله عليه وسلم تلوح قصة الحقيقة الكبرى في الوجود 338 أولا- لا مفاضلة في الإسلام إلا بالعمل الصالح 339 ثانيا- مشروعية الرقية وأحكامها وشروطها 340 السحر: حقيقته، وتأثيره، وهل سحر النبي صلّى الله عليه وسلم وعلاقة ذلك بالعقيدة 341 ثالثا- مظاهر من فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه 343 رابعا- النهي عن اتخاذ القبور مساجد 344 خامسا- شعوره صلّى الله عليه وسلم وهو يعاني سكرة الموت 345 خاتمة في بعض صفاته صلّى الله عليه وسلم وفضل زيارة مسجده وقبره، وبيان رأي ابن تيمية الذي 346 شذّ به عن الجمهور، ومناقشة فيما ذهب إليه خلاصة عن الخلافة الراشدة 351 خلافة أبي بكر الصديق 351 أهم ما قام به في مدة خلافته: 351 أولا- تجهيزه وتسييره لجيش أسامة 351

الموضوع الصفحة ثانيا- جهز الجيوش لقتال أهل الردة ومانعي الزكاة 352 ثالثا- جهز الصديق رضي الله عنه خالدا إلى العراق 352 رابعا- حدثته نفسه بغزو بلاد الروم 352 وفاة أبي بكر رضي الله عنه 353 عهده بالخلافة إلى عمر 353 على أي أساس أصبح عمر خليفة؟ 354 كتاب العهد إلى عمر 354 الأحداث التي وقعت في خلافة أبي بكر تدل على أمور كثيرة: 354 أولا- تمت خلافة أبي بكر عن طريق الشورى 354 ثانيا- الخلاف الذي دار في سقيفة بني ساعدة 355 ثالثا- نصيحة علي لأبي بكر رضي الله عنهما 355 رابعا- لا يتأمل مسلم في الموقف الذي وقفه أبو بكر من القبائل المرتدة ... 355 خامسا- قد يظن بعض الناس أن مجرد العهد والاستخلاف يعد طريقة من 356 طرق ثبوت الإمارة والحكم خلافة عمر بن الخطاب 357 طاعون عمواس 358 مقتل عمر رضي الله عنه 359 استخلاف عمر لواحد من أهل الشورى 359 كيف تمّ اختيار عثمان- الدلائل: 360 أولا- أول عمل قام به عمر رضي الله عنه عزله لخالد بن الوليد عن الإمارة 360 ثانيا- أن خالدا توفي ودفن في المدينة 361 ثالثا- التعاون المتميز الصافي بين عمر وعلي رضي الله عنهما 361 رابعا- خلافة أبي بكر جاءت في ميقاتها 362 خامسا- الطريقة التي تمت على أساسها خلافة عثمان 362 خلافة عثمان بن عفان 364 سياسة عثمان في اختيار الولاة والأعوان وما نشأ من ذلك 364 أول الفتنة، ومقتل عثمان 366

الموضوع الصفحة مبايعة علي والبحث عن قتلة عثمان ... الدلائل: 368 أولا- من أهم الفضائل والمزايا التي يتسم بها عهد عثمان كثرة الفتوحات واتساعها في 368 هذا العهد ثانيا- توجه النقد إلى عثمان رضي الله عنه بسبب اختياره الولاة والأعوان من 369 أقاربه ثالثا- ظهور مقدمات الفتنة في أواخر عهد عثمان 369 رابعا- حقيقة العلاقة التي كانت قائمة بين عثمان وعلي في مدة الخلافة 370 خلافة علي رضي الله عنه 371 الثأر لعثمان ووقعة الجمل 371 أمر معاوية ووقعة صفين 373 أمر الخوارج ومقتل علي رضي الله عنه 376 أولا- هل كان بين علي رضي الله عنه، وأولئك الذين يستعجلون في طلب الثأر من 377 قتلة عثمان، أي خلاف جذري في هذه المسألة ثانيا- ما الذي عاقهم عن تطبيق الذي اتفقوا عليه 378 ثالثا- إخلاص علي كرم الله وجهه فيما يفعل ويذر 379 رابعا- انقلاب مواقف الخوارج من تأييد لعلي والدفاع عنه إلى أقصى درجات التمرد 379 عليه والتربص به فهرس الموضوعات الفقهية 380 فهرس أبحاث الكتاب 384

§1/1