فقه السيرة النبوية لمنير الغضبان

منير الغضبان

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة أم القرى معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي مركز بحوث الدراسات الإسلامية مكة المكرمة ـ[سلسلة بحوث الدراسات الإسلامية (5)]ـ فقه السيرة النبوية تأليف منير غضبان

جامعة أم القرى 1419هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر. غضبان، منير محمد فقه السيرة النبوية- مكة المكرمة 752 ص 24. 17 سم (سلسلة بحوث الدراسات الإسلامية"5"). ردمك: 5 - 444 - 03 - 9960 1 - السيرة النبوية 2 - الحديث - أحكام أ- العنوان ب- السلسلة ديوي 239 3470/ 19 رقم الايداع 3470/ 19 ردمك: 5 - 444 - 03 - 9960

بسم الله الرحمن الرحيم

بين يدي البحث

بين يدي البحث الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار بسيرته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد: فهذا كتاب في فقه السيرة النبوية تم تأليفه وفق منهج مرسوم محدد. حرصنا فيه على أن يحقق الهدف المرجو من وراء تأليفه. ولن أدخل بين الكتاب والقارئ إلا بمقدار ما أرسم له بعض المعالم يستضيء بها وهو يعيش معه. 1 - لا شك أن الطابع التعليمي يحكمه إذ هو معد أصلا ليكون بين يدي الدارسين. 2 - لكن هذا لا يمنع أبدا أن تشارك العاطفة العقل في العمل. فليس الحديث في السيرة عن نظرية في الكيمياء أو مسألة في الرياضيات أو بحث في تاريخ الرومان. إنه حديث عن أحب ما في هذا الوجود لقلب المسلم. والذي لا يكمل إيمانه ولا يجد لذة لهذا الإيمان إلا به. فأين تخنق العاطفة والمشاعر. وأنت تتحدث عمن هو أحب إليك من ولدك ووالدك والناس أجمعين، وحتى من نفسك التي بين جنبيك؟

3 - ولكن هذه العاطفة الموارة بقيت ضمن وهج المنهج المحدد، وحرصت على أن يكون المنبع الثر الأول هو القرآن الكريم. والمنبع الثر الثاني هو الحديث النبوي الشريف، فكان العمود الفقري لكل بحث من خلال كتب الحديث، لا كتب السيرة. 4 - وحرصت على توثيق ما أكتبه - ما وسعني ذلك - وإعادته إلى مصادره. وعندما يكون الحديث، خارج إطار كتابي إمامي المحدثين البخاري ومسلم فإني أعتمد البحث عن درجة الحديث وصحته، وقد أسعفني الجامع الصغير وتخريج الأستاذ الألباني عليه في أحاديث الكتب الستة، ثم مجمع الزوائد للهيثمي في بقية الكتب. بحيث كان جل اعتمادي على هذين المصدرين. 5 - وبعد الانتقال من رياض الحديث النبوي الشريف كنت أحرص على إتمام البناء من خلال كتب السيرة المنوعة. وكانت السيرة لابن كثير ذات الاهتمام الأول. لأنها كذلك اعتمدت كتب الحديث أساسا في العرض، وخاصة البيهقي في سننه ودلائله، ومسند الإمام أحمد. 6 - ولا شك أن ابن إسحاق رحمه الله في سيرته التي وصلتنا من خلال ابن هشام يبقى أكبر وأوسع مصدر للسيرة. وما من إمام كتب في السيرة إلا وكان ابن إسحاق عمدته، وله فضل عليه. لكني أضفت جديدا هو محاولة توثيق روآيات ابن إسحاق التي تعتمد السند، وتعتمد تصريح ابن إسحاق عمن حدث عنه. فيرتفع التدليس، وتصبح الحادثة موثقة بشكل أكثر.

7 - ولم يمنعني بعد استيفاء البناء للحدث والحادثة أن أستأنس بروآيات غير محققة أو فيها شيء خفيف من الضعف، لا تعارض الصحيح المعتمد لتجلي جوانب مبهمة من السيرة، وتغذي التربية المطلوبة للنفس. وقد درج العلماء الثقات الأفذاذ على الأخذ بها في مجال السيرة. 8 - لا بد أن أشير إلى أن الخطأ والنقص قرينان للنفس البشرية، فقد يكون الزلل في فهم أو استنتاج أو عرض أو رؤية لا أعلمه ويعلمه إخوان آخرون مضطلعون في هذا العلم، فأرجو أن يسعفوني بنصحهم وملاحظاتم، ورحم الله امرءا أهدى إلي عيوبي. 9 - "ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله " (¬1)؛ فللمسؤولين في جامعة أم القرى، وافر الشكر والتقدير على ما هيأوا لي من مصادر ومراجع وتوجيهات، وعلى رأسهم معالي مديرها الدكتور راشد الراجح حفظه الله، وللمسؤولين في معهد البحوث العلمية في الجامعة وافر الشكر والتقدير كذلك وعلى رأسهم سعادة الدكتور حمزة الفعر عميد المعهد، على ما أولاني من عناية ورعاية ليأخذ هذا البحث طريقه إلى النور. وسعادة الدكتور رويعي الرحيلي مدير مركز الدراسات الإسلامية، الذي ذلل الصعوبات وبذل جهده متابعا حتى تمت طباعة الكتاب. 10 - وأخيرا أرجو الله جلت قدرته أن يجعل هذا الكتاب في صحيفة حسناتي ¬

(¬1) نص حديث نبوي رواه أحمد والترمذي. الجامع الصغير 2/ 655 ح 9096.

يوم القيامة يوم تعز الحسنات، وأن ينفع به ويكون خالصا لوجهه سبحانه، ويغفر لي ما به من زلات، فلا معصوم إلا المصطفى صلوات الله عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،،، الباحث في جامعة أم القرى منير محمد غضبان في 10/ 2/ 1408 هـ

أولا مباحث تمهيدية

أولا مباحث تمهيدية

الفصل الأول معنى السيرة النبوية وأهميتها

الفصل الأول معنى السيرة النبوية وأهميتها تعريف بالسيرة النبوية: السيرة لغة: السنة والطريقة والهيئة والحالة التي يكون عليها الإنسان وغيره. والسيرة النبوية وكتب السيرة: مأخوذة من السيرة بمعنى الطريقة، وأدخل فيها الغزوات وغير ذلك. ويقال قرأت سيرة فلان: أي تاريخ حياته (¬1). السيرة النبوية المطهرة تبحث: - أولا: في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ إرهاصات مولده حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى. - ثانيا: في حياة صحابته الذين جاهدوا معه، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه. - ثالثا: في تاريخ انتشار هذا الدين الذي ابتدأ بكلمة اقرأ في غار حراء نزل بها الأمين جبريل عليه السلام على الأمين محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى أن دانت الجزيرة العربية به، ودخل الناس في دين الله أفواجا. ¬

(¬1) انظر القاموس المحيط، باب الراء، فصل السين للفيروزأبادي /528 ط. مؤسسة الرسالة. والمعجم الوسيط 1/ 467 ط. دار الفكر.

أهمية السيرة النبوية

أهمية السيرة النبوية: أما الموضوع الأول؛ وهو حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمثل حياة سيد ولد آدم على ظهر هذه المعمووة «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومنذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول شافع، وأول مشفع، ولا فخر» (¬1). وهل في الدنيا حدث أعظم من حياة سيد ولد آدم فيها، ندرسه ونطلع عليه ونتابع كل صغيرة وكبيرة فيه؟! والموضوع الثاني وهو حياة صحابته الذين جاهدوا معه، فهم الذين شهد الله تعالى لهم أنهم خير أمة أخرجت للناس {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ..} (¬2). وشهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ...» (¬3). والموضموع الثالث وهو انتشمار الإسلام على هذه الأرض؛ الإسلام الذي كمله الله تعالى ورضيه لهذه الأمة إلى يوم القيامة، كما يقول عز وجل: ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد والترمذى وابن ماجه عن أبي سعيد. انظر صحيح الجامع الصغير للألباني م1 ج2 ح 1481 ص 21. (¬2) من الآية 110 من سورة آل عمران. (¬3) متفق عليه. البخاري 5/ 190 في الشهادت ومسلم ح 2535 في الفضائل.

دراسة السيرة عبادة

{... اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ...} (¬1). فنحن إذا حين ندرس السيرة النبوية المطهرة. ندرس سيرة خير نبى اصطفاه ربه، وندرس سيرة خير أمة أخرجت للناس، وندرس تاريخ خير رسالة أنزلت للناس. دراسة السيرة عبادة: يقول تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (¬2). فنحن مكلفون بالاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولن نتمكن من الاقتداء والتأسي به ما لم نفقه سيرته وندرسها ونتعرف عليها. وإن كانت السيرة النبوية هي ما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، فأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - تبرز أكثر ما يكون في السيرة. ونحن مكلفون باتباع خيرة هذه الأمة، وأن لا نخرج على سنتهم وهديهم {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} (¬3) ¬

(¬1) من الآية 3 من سورة المائدة. (¬2) الأحزاب: 21. (¬3) التوبة:100.

مصادر السيرة

كيف نتبع سلف هذه الأمة ما لم نطلع على أعمالهم وجهادهم وسلوكهم؟! ومن القواعد الشرعية المقررة: إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ وقد اهتم الجيل الأول من الصحابة والتابعين وتابعيهم بهذه السيرة، كما روى محمد ابن عمر الواقدي عن عبد الله بن عمر بن علي بن الحسين عن أبيه قال: سمعت علي بن الحسين يقول: كنا نعلم مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - كما نعلم السورة من القرآن (¬1). مصادر السيرة: أولا: القرآن الكريم: فكتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو المصدر الأول والأهم والأوثق في هذا الوجود للسيرة، وما نزل من القرآن قبل الهجرة يحمل بين ثناياه صورا واضحة عن السيرة النبوية. عن طفولة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن بعثته، وعن جهاده للمشركين، وعن الحوار المستمر بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخصومه، ودعوتهم لدين الله تعالى، ومواقفهم من هذه الدعوة، ويعرض الجوانب النفسية والفكرية، عندهم، ويعرض صورا من ثبات المؤمنين، وتضحياتهم وإخلاصهم وجهادهم في سبيل الله بالكلمة الطيبة، وتحمل الأذى في الله ورسوله. وما نزل من القرآن بعد الهجرة كذلك يعرض صورا واضحة من السيرة. ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن أكثر 3/ 241.

ثانيا كتب السنة

فمواقف اليهود من الدعوة في المدينة، والرد على افتراءاتهم ودسهم وإثارة الشبه بما عندهم من علم في الكتاب يحرفون به الكلم عن مواضعه، ويكتمون ما آتاهم الله من البينات والهدى، ويؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض. ومواقف المنافقين من الرسول - صلى الله عليه وسلم ودعتهه والدين الذي جاء به، وتآمرهم على جماعة المؤمنين، وكيدهم لها، وإظهار الإيمان، وإبطان الكفر، وتلاحمهم في السر مع اليهود والمشركين ضد المسلمين، وأساليبهم الماكرة في الغدر وكشف هوياتهم ليكون المؤمنون منهم علاى حذر. ومواقف المؤمنين وثباتهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكيف برزت جلية في بدر واحد والخندق والحديبية وتبوك .. كيف كان يعتريهم الضعف البشري، وتنزل بهم المحن، ثم يتداركهم الله برحمته ويصفهم بقوله: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} (¬1). ثانيا كتب السنة: وهي الأصل الثاني بعد القرآن الكريم التي تستقى منها أحداث السيرة النبوية، إذ لا يوجد كتاب من الصحاح أو المسانيد إلا وأفرد للسيرة بابا يتناول فيه أحداثها وقد تم توثيقها فيما تم من نقد الأحاديث على ضوء علم مصطلح الحديث والجرح والتعديل. هذا غير الأحاديث المتناثرة في أبواب أخرى مما يتعلق بالسيرة النبوية ¬

(¬1) الأحزاب: 23.

ثالثا: كتب السير والتراجم

المطهرة، كتب المناقب المنبثة في كتب الحديث تعتبر رافدا رئيسيا من روافد السيرة النبوية. وتحسن الإشارة إلى محاولتين مهمتين في مجال استخلاص السيرة من القرآن والسنة: - الأولى: هي محاولة استخلاص السيرة النبوية من القرآن الكريم وقد قام بها الأستاذ عزة دروزة تحت عنوان: السيرة النبوية، صور مقتبسة من القرآن الكريم. ووفق في ذلك إلى حد بعيد. ولا شك أن كتب التفسير- وخاصة الطبري وابن كثير في تفسيرهما لآيات الجهاد- والتي وردت فيها غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أغنت السيرة غناء كبيرا. ولعل ما كتبه صاحب الظلال سيد قطب رحمه الله في ظلال هذه الآيات يعتبر من أجود ما كتب في السيرة في العصر الحديث. - الثانية: ما كتبه المحدث ابن الديبع الشيباني في السيرة وسماه حدائق الأنوار ومطالع الأسرار، اعتمد أوثق الروايات وأصحها فقط في عرض السيرة النبوية. ولكنه لم يتمكن من سد الفجوات كلها في عرض السيرة النبوية المطهرة. ثالثا: كتب السير والتراجم: وهي المصدر المباشر الذي تستقى منه أحداث السيرة عادة. والسيرة النبوية لابن هشام تعتبر من الناحية العلمية أوفى كتاب يتداوله الناس، وأقدم

رابعا: كتب الدلائل والشمائل والمعجزات والخصائص

كتاب بين أيدينا كذلك، وسنعرض له فيما بعد ضمن الحديث عن اهتمام المسلمين بالسيرة. وفي مجال التراجم فالطبقات الكبرى لابن سعد، والإصابة في تاريخ الصحابة هما الكتابان العمليان اللذان يرفدان السيرة النبوية في توضيح بعض الجوانب الغامضة فيها. رابعا: كتب الدلائل والشمائل والمعجزات والخصائص: وهذه تتناول جانبا من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكنها تعرض السيرة بشكل غير مباشر وبصورة مختصرة في كثير من الأحيان، ومن أشهرها: دلائل النبوة للبيهقي، والشمائل للترمذي، والخصائص الكبرى للسيوطي. خامسا: كتب التاريخ والأدب: وهي أكثر من أن تحصى، ومعظم كتب التاريخ الإسلامي تفرد للسيرة النبوية جزءا أو أكثر تعرضها بتسلسلها التاريخي، وإن كانت السيرة النبوية لابن كثير قد أفردت في طبعة مستقلة حققها الدكتور مصطفى عبد الواحد حفظه الله، وتتميز السيرة عند ابن جرير الطبري رحمه الله بوجود السند المتصل فيها، لكن هذه الأسانيد لم تنل حظها من العناية والتوثيق شأنها شأن كتب التاريخ الإسلامي كله. مدى عناية المسلمين بها: لما كانت أيام معاوية، أحب أن يدون في التاريخ كتاب، فاستقدم

عبيد بن شرية الجرهمي من صنعاء، فكتب له كتاب الملوك لأخبار الماضين. (بعد هذا رأينا أكثر من واحد من العلماء يتجهون إلى علم التاريخ من ناحيته الخاصة لا العامة وهي سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم، ولعلهم وجدوا في تدوين ما يتعلق به عليه الصلاة والسلام شيئا يحقق ما في أنفسهم من تعلق به، وحب لتخليد آثاره، فجاء أكثر من رجل كلهم محدث، فدونوا في السيرة كتبا نذكر منهم عروة بن الزبير بن العوام (¬1) الفقيه المحدث، الذي مكنه نسبه من قبل أبيه الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر أن يروي الكثير من الأخبار والأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحياة صدر الإسلام. وحسبك أن تعلم أن ابن إسحاق، والواقدي، والطبري أكثروا من الأخذ عنه، ولا سيما فيما يتعلق بالهجرة إلى الحبشة، والمدينة، وغزوة بدر، وكانت وفاة عروة- فيما يظن- سنة 92 هـ. ثم أبان بن عثمان بن عفان (¬2) المدني المتوفى سنة 105 هـ فألف في السيرة ¬

(¬1) أخرج الدكتور محمد مصطفى الأعظمي كتاب المغازي لعروة بن الزبير برواية أبي الأسود عنه وعلى هذا الأساس فهي أقدم سيرة بين أيدينا على الإطلاق. وهي من القرن الأول للهجرة، ولا بد من الإشارة إلى أن الدكتور الأعظمي استخرجها استخراجا من كتب الحديث والسيرة. ولم تصل إلى يده النسخة المخطوطة. وابن الزبير في عرضه للسيرة النبوية لا يعتمد السند كثيرا، بل يقدم معلوماته في هذا الموضوع، وهو عند المحدثين ثقة فقيه مشهور، وقد روى له السته في صحاحهم ومسانيدهم. تقريب التهذيب 2/ 19. (¬2) قال (يحيى بن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه، أنه لم يكن عنده خط مكتوب من الحديث إلا مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها من أبان بن عثمان، فكان كثيرا ما تقرأ عليه وأمرنا بتعلمها) ابن سعد 5/ 156. وتقول بعض الروايات أنه كتبها لسليمان بن عبد الملك. وأتلفها سليمان. وأبان ابن عثمان عند المحدثين مدني ثقة روى له البخاري في الأدب المفرد ومسلم والأربعة. التقريب 1/ 31.

صحفا جمع فيها أحاديث حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ثم وهب بن منبه (¬1) اليمني المتوفى سنة 110 هـ، وفي مدينة هيدلبرج بألمانيا قطعة من كتابه الذي ألفه في المغازي. وغير هوتاء كثير، ممن قضى نحبه قرب تمام الربع الأول من القرن الثاني كشرحبيل بن سعد (¬2) المتوفى سنة 123 هـ، وابن شهاب الزهري (¬3) المتوفى سنة 124 هـ، وعاصم بن عمر بن قتادة (¬4) المتوفى سنة 120 هـ، ومنهم من جاوزه بسنين كعبد الله بن أبي بكر بن حزم (¬5) المتوفى سنة 135 هـ، وكان هوتاء الأربعة ممن عنوا بأخبار المغازي، وما يتصل بها. ومنهم من عاش حتى أوشك أن يدرك منتصف القرن الثاني أو جاوزه بقليل؛ كموسى بن عقبة (¬6) المتوفى سنة 141 هـ، ثم معمر بن راشد (¬7) المتوفى ¬

(¬1) وهب بن منبه اليماني ثقة من الثالثة، روى له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. التقريب 2/ 329. (¬2) شرحبيل بن سعد صدوق اختلط بآخره روى له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود وابن ماجه. التقريب 1/ 348. (¬3) محمد بن مسلم الزهري الفقيه الحافظ المتفق على جلالته وإتقانه روى له الستة، وقد استخرج الدكتور سهيل زكار المغازي النبوية للزهري من كتاب المصنف لعبد الرزاق وصار بين أيدينا إضافة إلى مغازي عروة بن الزبير رضي الله عنهما. مغازي الزهري في الربع الأول من القرن الثاني وقبل السيرة لابن إسحاق علما بأن الزهري استقى معظم معلوماته عن السيرة من عروة بن الزبير رضى الله عنهما. تقريب التهذيب 2/ 207. (¬4) عاصم بن عمر بن قتادة ثقة عالم بالمغازي روى له الستة. تقريب التهذيب 1/ 385. (¬5) عبد الله بن أبي بكر بن حزم ثقة من الخامسة روى له الستة. تقريب التهذيب 1/ 405. (¬6) موسى بن عقبة بن أبي عياش ثقة فقيه إمام في المغازي روى له الستة. التقريب 2/ 286. (¬7) معمر بن راشد ثقة ثبت فاضل إلا أن في روايته عن ثابث والأعمش وهشام بن عروة شيئا وكذا فيما حدث به في البصرة روى له الستة. التقريب 2/ 266.

كلمة عن ابن إسحاق وسيرته

سنة 150 هـ، ثم شيخ رجال السيرة محمد بن إسحاق (¬1) المتوفى سنة 152 هـ. وجاء بعد هوتاء غيرهم، نذكر منهم زيادا البكائي (¬2) المتوفى سنة 183 هـ، والواقدي (¬3) صاحب المغازي المتوفى سنة 207 هـ، ومحمد بن سعد (¬4) صاحب الطبقات الكبرى المتوفي سنة 230 هـ، وقبل أن تستأثر المنية بابن سعد عدت على ابن هشام في سنة 218 وابن هشام هو الرجل الذي انتهت إليه سيرة ابن إسحاق فعرفت أو شاع ذكره بها) (¬5). كلمة عن ابن إسحاق (¬6) وسيرته (ولد ابن إسحاق في المدينة، وترجح كتب التاريخ أن مولده كان سنة 85 هـ أما وفاته فالأقوال فيها محصورة بين سنة 150 هـ وبين 153 هـ لا تكاد ¬

(¬1) محمد بن إسحاق صدوق يدلس روى له البخاري تعليقا والترمذى وابن ماجة التقريب 2/ 321. (¬2) زيادة بن عبد الله البكائي صدوق ثبت في المغازي، روى له البخاري تعليقا ومسلم والترمذي وابن ماجه. التقريب 2/ 144. (¬3) محمد بن عمر الواقدي متروك مع سعة علمه روى له ابن ماجه. التقريب 2/ 194. (¬4) محمد بن سعد صدوق فاضل وروى له أبو داود وهو كاتب الواقدي. تقريب التهذيب 2/ 163. (¬5) من مقدمة السيرة النبوية لابن هشام للسقا والأبياري والشلبي ط 2 1975م. (¬6) هو محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار المدني القرشي مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف. كان جده يسار من سبي عين التمر غربي الكوفة افتتحها المسلمون أيام أبي بكر رضي الله عنه سنة 12 هـ على يد خالد بن الوليد، وبكنيسة عين التمر وجد خالد بن الوليد جد ابن إسحاق هذا بين الغلمة الذين كانوا رهنا في يد كسرى، فجيء بيسار إلى المدينة. عن الطبقات 7/ 321.

تعدو هذه السنين الأربع. ترك ابن إسحاق المدينة ورحل إلى غيرها متنقلا في أكثر من بلد، وفي ظننا أن رحلته إلى الإسكندرية التي كانت سنة 115 هـ هي أولى رحلاته التي بدأ بها. وفي الإسكندرية حدث عن جماعة من أهل مصر منهم: عبيد الله بن المغيرة، ويزيد بن أبي حبيب، وثمامة بن شغي، وعبيد الله بن أبي جعفر، والقاسم بن قزمار، والسكن بن أبي كريمة، وانفرد ابن إسحاق برواية أحاديث عنهم لم يروها لهم غيره. ثم كانت رحلته إلى الكوفة والجزيرة والري والحيرة وبغداد، وفي بغداد على الأرجح ألقى عصا الترحال ... ورواة ابن إسحاق من هذه البلدان أكثر ممن رووا عنه من أهل المدينة، بل المعروف أنه لم يرو له من أهل المدينة غير إبراهيم ابن سعد، وعاش ببغداد ما عاش حتى وافته منيته فدفن في مقبرة الخيزران) (¬1). كان ابن إسحاق من أعلام القرن الثاني، وكان له علمه الواسع، وإطلاعه الغزير في أخبار الماضين، وشاءت المقادير أن يدخل ابن إسحاق على المنصور، ببغداد- وقيل بالحيرة- وبين يديه ابنه المهدي، فقال له المنصور: أتعرف هذا يابن إسحاق؟ قال: نعم، هذا ابن أمير المؤمنين، قال: اذهب فصنف له كتابا منذ خلق الله تعالى آدم عليه السلام إلى يومك هذا. فذهب ابن إسحاق، فصنف له هذا الكتاب، فقال له: لقد طولته ¬

(¬1) من مقدمة السيرة النبوية تحقيق السقا وزملائه ص 14.

يابن إسحاق، اذهب فاختصره، فاختصره، وألقي الكتاب الكبير في خزانة أمير المؤمنين. ولكن بعض الدارسين يرى أن ابن إسحاق لم يؤلف كتابه بأمر من الخليفة، ولا في بغداد أو الحيرة، وإنما ألفه في المدينة قبل إقامته لدى العباسيين. (وتبين من سيرة ابن هشام، وما اقتطفه الطبري وغيره من سيرة ابن إسحاق أنها كانت أصلا مقسمة إلى ثلاثة أجزاء: المبتدأ، المبعث، والمغازي. أما المبتدأ فيتناول تاريخ ما قبل الإسلام، وينقسم إلى أربعة فصول: يتناول أولها تاريخ الرسالات السابقة على الإسلام، وثانيها تاريخ اليمن في الجاهلية، وثالثها تاريخ القبائل العربية وعباداتها، والرابع تاريخ مكة وأجداد الرسول - صلى الله عليه وسلم. ولا يعنى ابن إسحاق في هذا الجزء بأسانيد أخباره إلا نادرا. ويستقى من الأساطير والإسرائيليات. أما المبعث فيشمل حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة، ونرى المؤلف فيه يصدر الأخبار الفردية بموجز حاو لها .. ويعنى بالترتيب الزمني للحوادث، كما تزداد عنايته بأسانيد الأخبار. وأما المغازي، فتتناول حياة النبي في المدينة، وما جرى فيها. على أن يبدأ الخبر بموجز حاو لمحتوياته، ثم يتبعه بخبر من جميع الأقوال التي أخذها من رواته، ثم يكمله بما جمعه هو نفسه من المصادر المختلفة .. ويلتزم إيراد الإسناد، والترتيب الزمني) (¬1) ¬

(¬1) من مقدمة المحققين للسيرة النبوية. السقا الأبياري وشلبي ص 10.

ومحمد بن إسحاق رحمه الله ثبت في الحديث عند أكثر العلماء، وأما في المغازي والسير فلا تجهل إمامته فيهما (¬1). (قال ابن شهاب الزهري: من أراد المغازي فعليه بابن إسحاق. ذكره البخاري في التاريخ وذكر عن سفيان بن عيينة أنه قال: ما أدركت أحدا يتهم ابن إسحاق في حديثه، وذكر أيضا عن شعبة بن الحجاج أنه قال: ابن إسحاق أمير المؤمنين، يعني في الحديث) (¬2). وذكر أبو يحيى الساجي رحمه الله بإسناد له عن الزهري أنه قال: خرج ¬

(¬1) يقول ابن سيد الناس في كتابه عيون الأثر م1 ص 22: وقد ذكره أبو حاتم ابن حبان في كتاب الثقات له، فأعرب عما في الضمير، فقال تكلم فيه رجلان هشام ومالك. فأما هشام فأنكر سماعه من فاطمة والذى قال ليس مما يجرح به الإنسان في الحديث، وذلك أن التابعين كالأسود وعلقمة سمعوا من عائشة من غير أن ينظروا إليها بل سمعوا صوتها، وكذلك ابن إسحاق كان يسمع من فاطمة والستر بينهما مسبل، قال وأما مالك فإنه كان ذلك منه مرة واحدة ثم عاد له إلى ما يحب وذلك أنه لم يكن بالحجاز أحد أعلم بأنساب الناس منه وأيامهم من ابن إسحاق. وكان يزعم أن مالك من موالي ذي أصبح، وكان مالك يزعم أنه من أنفسها، فوقع بينهما لذلك مفاوضة فلما صنف مالك الموطأ قال ابن إسحاق: ائتوني به فأنا بيطاره، فنقل ذلك إلى مالك فقال: هذا دجال من الدجالة يروى عن اليهود. وكان بينهما ما يكون بين الناس. حتى عزم محمد على الخروج إلى العراق فتصالحا حينئذ وأعطاه عند الوداع خمسين دينارا ونصف ثمرته تلك السنة، ولم يكن يقدح فيه مالك من أجل الحديث، إنما كان ينكر عليه تتبعه غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - من أدلاء اليهود الذين أسلموا وحفظوا قصة خيبر وقريظة والنضير وما أشبه ذلك من الغرائب عن أسلافهم وكان ابن إسحاق يتبع ذلك عنهم ليعلم ذلك من غير أن يحتج بهم. وكان مالك لا يرى الرواية إلا عن معتمد صدوق. (¬2) التاريخ الكبير للبخاري م1 ق1 ت 61 ص 41.

إلى قريته باذام، فخرج إليه طلاب الحديث، فقال لهم: أين أنتم من الغلام الأحول (يعني ابن إسحاق). وذكر عن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد أنهم وثقوا ابن إسحاق واحتجوا بحديثه. وذكر علي بن عمر الدارقطني في السنن حديث القلتين من جميع طرقه وما فيه من الاضطراب ثم قال في حديث جرى: وهذا يدل على حفظ محمد بن إسحاق وشدة إتقانه. قال الموتف: وإنما لم يخرج البخاري عنه وقد وثقه، وكذلك وثقه مسلم ابن الحجاج ولم يخرج عنه أيضا- إلا حديثا واحدا في الرجم- من أجل طعن مالك فيه. وإنما طعن فيه مالك فيما ذكر أبو عمر رحمه الله عن عبد الله ابن إدريس الأودي؛ لأنه بلغه أن ابن إسحاق قال: هاتوا حديث مالك فأنا طبيب بعلله؛ فقال مالك: وما ابن إسحاق إن هو إلا دجال من الدجاجلة أخرجناه من المدينة. وذكر الخطيب أحمد بن علي بن ثابت في تاريخه أنه روى عن سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وأبي سلمة بن عبد الرحمن. وروى عنه سفيان الثوري والحمادان، حماد بن سلمة بن دينار، وحماد بن زيد بن درهم، وشعبة. وذكر عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق (¬1). وأما الرواة الذين رووا هذا الكتاب عنه فكثيرون منهم يونس (¬2) بن بكير ¬

(¬1) مقدمة ابن سيد الناس لكتابه عيون الأثر من ص 8 إلى ص 21 وهذه ترجمة مختصرة عنه. (¬2) يونس بن بكير الشيباني: يخطئ روى له البخاري معلقا ومسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذى. التقريب 2/ 384.

الشيباني، ومحمد بن فليح (¬1)، والبكائي، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (¬2)، وعبد الله بن إدريس (¬3)، وسلمة بن الفضل الأسدي (¬4). ونذكر البكائي لأنه شيخ ابن هشام وهو: أبو محمد زياد بن عبد الله بن طفيل بن عامر القيسي العامري وهو ثقة خرج له البخاري في كتاب الجهاد، وخرج له مسلم في مواضع من كتابه، وحسبك بهذا تزكية، وقد روى زياد عن حميد الطويل، وذكر البخاري في التاريخ عن وكيع قال: زياد أشرف من أن يكذب في الحديث (¬5). قام العلامة الأستاذ محمد بن حميد الله بنشر أجزاء من سيرة ابن إسحاق الأصلية والتي وجدت مخطوطاتها في المغرب ودمشق. وليس بين يدينا من سيرة ابن إسحاق إلا هذه القطع المتناثرة، وهي لم يدخلها تهذيب ابن هشام بل بقيت على الأصل، وكان هذا في عام 1396 للهجرة، ويوجد بعض المخطوطات المتناثرة يقال أنها من سيرة ابن إسحاق في قسم المخطوطات بجامعة أم القرى في مكتبة معهد البحوث العلمية تحتاج إلى تحقيق وتوثيق. ¬

(¬1) محمد بن فليح: صدوق يهم روى له البخاري والنسائي وابن ماجه. التقريب 2/ 201. (¬2) إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قيل له رؤية (أي من الصحابة) روى له البخاري ومسلم وأبو دود والنسائي. التقريب 1/ 38. (¬3) عبد الله بن إدريس ثقه فقيه عابد روى له الستة في كتبهم. التقريب 1/ 401. (¬4) سلمة بن الفضل الأسدي صدوق كثير الخطأ روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه في التفسير (التقبريب 1/ 268). (¬5) التاريخ الكبير للبخارى 3/ 361، ترجمة رقم 1218.

وكلمة عن ابن هشام وعمله في سيرة ابن إسحاق

وكلمة عن ابن هشام وعمله في سيرة ابن إسحاق: هو أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري .. نشأ في البصرة، ثم نزل مصر .. والقول في وفاته غير مقطوع فيه برأي بين 213 هـ أو 218 هـ وكان إماما في النحو واللغة العربية، ويحدثنا عنه الذهبي وابن كثير أنه حين جاء إلى مصر اجتمع به الشافعي، وتناشدا من أشعار العرب: أشياء كثيرة. وأما عمله في السيرة فكما قال عن نفسه: وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم ومن ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ولده، وأولادهم لأصلابهم، الأول فالأول، من إسماعيل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما يعرض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل على هذه الجهة للاختصار إلى حديث أسرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتارك بعض ما يذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سببا لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيرا له ولا شاهدا عليه، لما ذكرت من الاختصار، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته ومستقص إن شاء الله تعالى ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له والعلم به. السيرة النبوية خلال القرون: كان المشتغلون بالسيرة أولا محدثين ناقلين. ثم رأينا من جاء بعدهم جامعين مبوبين، ولما استوى للمتأخرين ما جمع المتقدمون، جاء طور النقد

والتعليق وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر: 1 - المغازي لمحمد بن عمر الواقدي المتوفى سنة 207 هـ وقد طبعت بتحقيق الدكتور مارسذن جونس. 2 - ابن فارس اللغوي المتوفى بالري سنة 395 هـ وللسيرة التي كتبها نسختان مخطوطتان بدار الكتب المصرية ونسخة في مكتبة السليمانية باستانبول. 3 - جوامع السير لابن حزم المتوفى سنة 456 هـ. 4 - الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر المتوفى سنة 463 هـ. 5 - الاكتفاء في مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء للكلاعي المتوفى سنة 643 هـ. 6 - ابن سيد الناس المصري الشافعي وكتابه عيون الأثر، والمتوفى سنة 734 هـ. 7 - شهاب الدين الرعيني الغرناطي المتوفى سنة 779 هـ له رسالة في السيرة والمولد النبوي بدار الكتب الوطنية بمصر. 8 - ابن جابر الأندلسي المتوفى سنة 780 هـ وكتابه رسالة في السيرة والمولد بدار الكتب المصرية. 9 - محمد بن يوسف الصالحي صاحب السيرة الشامية، ويطبعها مجمع البحوث الإسلامية في ثلاثة عشر جزءا المتوفى سنة 942 هـ. 10 - علي بن برهان الدين صاحب السيرة الحلبية والمتوفى سنة 1044 هـ. ***

الفصل الثاني النبوة

الفصل الثاني النبوة حاجة البشر إلى الأنبياء: خلق الله تعالى آدم عليه السلام، وأهبطه إلى الأرض، وأهبط الشيطان معه {قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (¬1). وإبليس منذ أن عصى ربه: {قال أنظرني إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين * قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} (¬2). وقد أوصى إبليس ذريته بهذه المهمة أن يفسدوا فطرة بني آدم ويضلوهم ويغووهم «.. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم (¬3) عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» (¬4). ¬

(¬1) البقرة: 38، 39. (¬2) الأعراف.: 14 - 17. (¬3) اجتالتهم: استخفتهم فذهبت بهم. (¬4) مسلم. كتاب الجنه 63.

وشاءت حكمته تعالى أن لا يدع البشر نهبة للشياطين، إنما أرسل إليهم الرسل {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ..} (¬1). وبذلك تقوم الحجة على الخلق كافة {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ..} (¬2) .. {... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} (¬3) .. {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ..} (¬4). (ومن ها هنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول، وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضا الله البتة إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم. وما جاؤوا به، فهم الميزان الراجح الذين على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأعمال والأخلاق، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فرضت، فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير) (¬5). ¬

(¬1) البقرة من الآية 213. (¬2) النحل من الآية 36. (¬3) فاطر من الآية 24. (¬4) النساء من الآية 165. (¬5) زاد المعاد فصل: اضطرار العباد لبعثة الرسل 28.

حاجتهم إلى خاتم الأنبياء

حاجتهم إلى خاتم الأنبياء: وشاءت إرادته سبحانه أن يختم الأنبياء والرسل في الأرض بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لأن يختم الرسالات بالإسلام الذي نزله عليه، لأن يكون بشيرا ونذيرا للناس كافة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ويوم أن كانت بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت الأرض قد ظهر فيها الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ونخرت الأرض بالضلالات. حتى آذن الله تعالى بإشراق شمس الإسلام التي بددت الظلمات المتكاثفة بعضها فوق بعض، وكانت البعثة النبوية إيذانا ببزوغ فجر جديد ليضيئ بنوره الخافقين «وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم (¬1) عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب (¬2) وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان ..» (¬3). لقد كانت البشرية على شفا الهاوية فأنقذها الله بمحمد - صلى الله عليه وسلم - {... وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (¬4). (وما ظنك بمن إن غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي «وما لجرح بميت إيلام»، وإذا كانت ¬

(¬1) فمقتهم: المقت أشد البغض. (¬2) بقايا من أهل الكتاب. المراد بهم الباقون على التمسك بدينهم الحق من غير تبديل. (¬3) مسلم. كتاب الجنة 63. (¬4) آل عمران من الآية 103.

الإيمان هو الأصل والشرك طارئ

السعادة معلقة بهديه - صلى الله عليه وسلم - فيجب على كل من أحب نجاة نفسه أن يعرف هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به من خطة الجاهلين) (¬1). الإيمان هو الأصل والشرك طارئ: خلق الله تعالى الخلق كافة على الفطرة، قد جبلها الله على التوحيد {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} (¬2). ولا عذر لمشرك بعد هذا الميثاق، وبعد التذكير به على لسان الرسل جميعا على مدار التاريخ والمخلوق الذي يخلق إنما يخلق حنيفا مسلما على فطرة التوحيد ابتداء «كل مولود يولد على الفطرة، حتى يعرب لسانه، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» (¬3). والشياطين هي التي اجتالت بني آدم وحرفتهم عن التوحيد إلى الشرك كما مر في الحديث السابق وأحلت لهم ما حرم عليهم، وحرمت عليهم ما أحل الله لهم، وأمرتهم أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا. ويستوي في ذلك شياطين الإنس والجن {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا ¬

(¬1) مختصر زاد المعاد 8. (¬2) الأعراف 172، 173. (¬3) صحيح الجامع الصغير وزيادته وقد رواه أبو يعلى والطبراني عن الأسود بن سريع.

النبوة اجتباء من الله تعالى واصطفاء

شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} (¬1). وهذه صورة من صور هذا الإيحاء: (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد .. أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت) (¬2). (وذكر الطبري هذا المعنى وزاد: أن سواعا كان ابن شيث، وأن يغوث كان ابن سواع، كذلك يعوق ونسر كلما هلك الأول، صورت صورته، وعظمت لموضعه من الدين، ولما عهدوا في دعائه من الإجابة، فلم يزالوا هكذا حتى خلفت الخلوف، وقالوا: ما عظم هوتاء آباؤنا إلا لأنها ترزق وتنفع وتضر، واتخذوها آلهة) (¬3). النبوة اجتباء من الله تعالى واصطفاء: {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون} (¬4). ¬

(¬1) الأنعام 112. (¬2) البخاري: كتاب التفسير، سورة نوح م 2. طبعة دار الشعب. (¬3) الروض الأنف للسهيلي ج 1/ 103. (¬4) القصص: 68.

والمراد بالاختيار الاجتباء والاصطفاء. وهو المتفرد بالخلق، وهو المتفرد بالاختيار فإنه أعلم بمواقع اختياره، كما قال تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته ..} (¬1)، وكما قال: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (¬2) * أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ..} (¬3). فأنكر سبحانه عليهم تخيرهم، وأخبر أن ذلك إلى الذي قسم بينهم معيشتهم ورفع بعضهم فوق بعض درجات .. وكما خلقهم اختار منهم هوتاء، وهذا الاختيار راجع إلى كلمته سبحانه وعلمه بمن هو أهل له لا إلى اختيار هوتاء واقتراحهم. وهذا الاختيار العام من أعظم آيات ربوييته، وأكبر شواهد وحدانيته وصفات كماله وصدق رسله. ومن هذا اختياره من الملائكة المصطفين منهم كما قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (¬4). كذلك اختياره سبحانه الأنبياء من ولد آدم، لاختياره الرسل منهم ¬

(¬1) الأنعام من الآية 124. (¬2) المقصود بعظيمي القريتين أبو جهل (عظيم قريش) أو الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود (عظيم ثقيف). (¬3) الزخرف من الآية 67. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه 770 في صلاة المسافر من حديث عائشة رضي الله عنها.

واختياره أولي العزم منهم، وهم الخمسة المذكورون في سورتي الأحزاب والشورى (¬1) واختياره منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا - صلى الله عليه وسلم - أجمعين، ومن هذا اختياره سبحانه ولد إسماعيل من أجناس بني آدم، ثم اختار منهم بني كنانة من خزيمة، ثم اختار من ولد كنانة قريشا، ثم اختار من قريش بني هاشم، ثم اختار من بني هاشم سيد ولد آدم محمدا - صلى الله عليه وسلم -، واختار أمته على سائر الأمم. كما في المسند عن معاوية بن حيدة مرفوعا: «أنتم توفون سبعون أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله» (¬2). ... ¬

(¬1) إشارة لقوله تعالى: {إذ أخذنا} 93/ 7 و {شرع لكم} 42/ 13. (¬2) الإمام أحمد 5/ 5 ط. المكتب الإسلامي.

الفصل الثالث لمحة عن أصل العرب وعقيدتهم

الفصل الثالث لمحة عن أصل العرب وعقيدتهم أصل العرب وعقيدتهم: قال ابن هشام: (فالعرب كلها من ولد إسماعيل وقحطان. وبعض أهل اليمن يقول: قحطان من ولد إسماعيل، ويقول: إسماعيل أبو العرب كلها) (¬1). (ومن جعل العرب من إسماعيل قالوا فيه " أي في قحطان " هو ابن تيمن بن قيذر بن إسماعيل، وقد احتجوا لهذا القول بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «ارموا يا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا» قال هذا القول لقوم من أسلم بن أفصى. وأسلم أخو خزاعة وهم من سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان) (¬2). وأي الرأيين كان في انتساب العرب كلها لإسماعيل عليه الصلاة والسلام، أو لقحطان وإسماعيل فإن مما لا شك فيه أن أول من نطق بالعربية الفصحى هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة» (¬3) (وإسماعيل بن ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 8 ت. طه عبد الرؤوف سعد. (¬2) الروض الأنف للسهيلي 1/ 19 ت. طه عبد الرؤوف سعد. (¬3) الشيرازى في الألقاب عن علي والطبراني عن ابن عباس. انظر الأحاديث الصحيحة للألباني م1 ج 2 ص 355.

طروء الشرك عليهم

إبراهيم نبي الله تعالى أرسله الله تعالى إلى أخواله من جرهم، وإلى العماليق الذين كانوا بأرض الحجاز فآمن بعض وكفر بعض) (¬1). ولا شك أن إسماعيل وبنيه هم أشرف العرب فهم الذين اختارهم الله تعالى ليكونوا أصل النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الصحيح «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة ..» (¬2). طروء الشرك عليهم: وبقي المؤمنون على دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام موحدين حنفاء إلى أن جاء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف فأدخل الشرك في الحنيفية السمحاء. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأكثم ابن الجون الخزاعي: «يا أكثم، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه (¬3) في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، ولا بك منه» فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه يارسول الله؟ قال: «لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه كان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان (¬4)، وبحر ¬

(¬1) الروض الأنف للسهيلي 1/ 17. (¬2) رواه أحمد والترمذي وقال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح. راجع سنن الترمذي م 5 المناقب 50، ح 3607 ص 583. (¬3) قصبه: أمعاءه. (¬4) الأوثان ج وثن وهو ما يعبد من دون الله إذا كان من غير صخرة كالنحاس وغيره.

البحيرة (¬1)، وسيب السائبة (¬2)، ووصل الوصيلة (¬3)، وحمى الحامي (¬4)». قال ابن هشام: (حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق .. رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنما، فأسير به إلى أرض العرب، فيعبدوه؟ فأعطوه صنما يقال له هبل، فقدم به مكة، فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه) (¬5). (وكان عمرو بن لحي حين غلبت خزاعة على البيت، ونفت جرهم من مكة قد جعلته العرب ربا لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها لشرعة لأنه كان يعظم الناس ويكسو في الموسم، فربما نحر في الموسم عشرة آلاف بدنة، وكسا عشرة آلاف حلة، حتى ليقال: إنه اللات التي يلت السويق للحجيج على صخرة معروفة تسمى صخرة اللات، ويقال أن الذي يلت كان من ثقيف، فلما مات ¬

(¬1) البحيرة: الناقة تشق أذنها فلا يركب ظهرها، ولا بجز وبرها، ولا يشرب لبنها وتهمل للآلهة. (¬2) السائبه: التي ينذر الرجل أن يسيبها إن برئ من مرضه أو أصاب أمرا يطلبه، ولا ينتفع بولدها. (¬3) الوصيلة: التي تلد أمها اثنتين في كل بطن، فيجعل صاحبهما الإنات منها للآلهة. (¬4) الحامي: الفحل إذا أنتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمي ظهره فلم يركب، ولم يجز وبره. (¬5) رواه ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ورجاله ثقات. وللإمام أحمد عن أبى هريرة: رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبة في النار وكان أول من سيب السوائب وبحر البحيرة. والحديث صحيح.

قال لهم عمرو إنه لم يمت ولكن دخل في الصخرة، ثم أمرهم بعبادتها، وأن يبنوا عليها بيتا يسمى اللات، ويقال دام أمره وأمر ولده على هذا بمكة ثلاثمائة سنة، فلما هلك سميت تلك الصخرة: اللات مخففة التاء واتخذ صنما يعبد) (¬1) .. وكانت التلبية في عهد إبراهيم: لبيك لا شريك لك، حتى كان عمرو بن لحي. فبينما هو يلبي تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه. فقال عمرو: لبيك لا شريك لك. فقال الشيخ: إلا شريكا هو لك. فأنكر ذلك عمرو وقال: وما هذا؟ فقال الشيخ: قل: تملكه وما ملك، فإنه لا بأس: بهذا، فقالها عمرو، فدانت بها العرب) (¬2). إنها الطاعة العمياء التي تقود إلى الضلال، فإعظام العرب عمرو بن لحي دفعهم إلى طاعته في كل ما شرع، ودفعهم إلى الشرك بالله. كما كان الأحبار والرهبان يفعلون باليهود والنصارى. يقول ابن تيمية: (وقال سبحانه عن النصارى (4: 171): {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله}.وقال (5: 16 و 72): {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} إلى غير ذلك من المواضع. ثم إن الغلو في الأنبياء والصالحين: قد وقع في طوائف من ضلال المتعبدة والمتصوفة حتى خالط كثيرا منهم من مذاهب الحلول والاتحاد ما هو أقبح من قول النصارى أو مثله أو دونه. وقال تعالى: (9: 31) {اتخذوا ¬

(¬1) الروض الأنف للسهيلي 1/ 101. (¬2) الروض الأنف للسهيلي 1/ 102.

عناية الإسلام بسد ذرائع الشرك

أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ..} وفسره النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم رضي الله عنه بأنهم «أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم»، كثير من أنواع المتعبدة يطيع بعض المعظمن عنده في كل ما يأمره به، وإن تضمن تحليل تحريم أدر تحريم حلال) (¬1). عناية الإسلام بسد ذرائع الشرك: وبعد أن بعث الله تعالى نبيه محمدا بالحق والهدى، وبالآيات البينات، سد طرائق الشرك وذرائع الشيطان التي يتوصل بها للانحراف بالناس. فلقد حفظ كتابه من الزيادة والتحريف وتكفل جل وعلا به بينما كان الربانيون والأحبار من أهل الكتاب هم المستحفظون على كتبهم {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ..} (¬2). أما القرآن الكريم فـ {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} (¬3) {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (¬4). والسنة النبوية المصدر الثاني للتشريع قد تكفل العلماء بجمعها وتحقيقها، فقاموا بهذا الأمر خير قيام، وأدوا أمانة الاستحفاظ عليها خلال القرون، ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 9، 10. (¬2) المائدة: 44 (¬3) فصلت: 42. (¬4) الحجر:9.

وحفظوها من كيد الكائدين: وغرض المغرضين، وبذلك بقيت أصول الشريعة نقية من كل شائبة، محفوظة من كل دخل، لتقوم الحجة على الناس إلى قيام الساعة «تركتكم على البيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ» (¬1). «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض» (¬2). وفي حفظ أصول الشريعة وينابيعها يكشف كل زيغ وضلال وشرك. وربط الله تعالى طاعة أولي الأمر وقادة الأمة بطاعة الله تعالى ورسوله، فهم يطاعون بما ينفذون من حكم الله، ولا يطاعون لأشخاصهم وأعيانهم، وفي القرآن الكريم: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} (¬3). وفي الوقت الذي يأمر الله تعالى ورسوله المؤمنين بطاعة أولي الأمر مهما كانوا ما أقاموا كتاب الله، ونفذوا شريعته: «ولو كان عبدا حبشيا كأن رأسه زبيبة» (¬4). وفي الوقت نفسه يأمر الله تعالى ورسوله المؤمنين أن يأخذوا على يد الظالم ¬

(¬1) رواه ابن ماجه المقدمة 6/ 543. (¬2) رواه الحاكم وصححه، صحيح الجامع الصغير 1/ 39. (¬3) النساء:59. (¬4) الحديث الذي رواه البخاري وأحمد وابن ماجه (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة).

وأن يقاتلوا من خرج على شريعة الله، وأنتهك حرمات الله تعالى. بل يجعل أقرب القربات له سبحانه أن يقتل المسلم وهو يذود عن دينه في وجه الطغاة والمتنفذين «سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر أمره فنهاه فقتله» (¬1) «ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا» (¬2). والصالحون من الأمة مهما على شأنهم في الدنيا فهم عبيد لله تعالى، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد العابدين «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم فإنما عبد الله ورسوله» (¬3). وإذا كان هو عليه الصلاة والسلام في أعظم مقامات العبودية، فلن يرتفع مخلوق فوقه في هذا الوجود عن هذا المقام. وإذا كان سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام وهو بشر لن يرتفع عن مقام العبودية، فالأشياء مهما سمت من مواقع وأماكن هي من آثاره - صلى الله عليه وسلم -، فليس لها قداسة ترتفع بها إلى أن تعبد من دون الله. وأعظم ما في هذا الوجود من الأشياء هو بيت الله الحرام، والكعبة المشرفة، والحجر الأسود هو قمة التشريف فيها. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبله فقط. ¬

(¬1) رواه الحاكم في المستدرك صحيح الجامع الصغير 1/ 219. (¬2) أبو داود. الملاحم 17 وابن ماجه. (¬3) البخاري ك. الأنبياء ب. 47.

(وهذا كما أنه قد ثبت باتفاق أهل العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حج البيت لم يستلم من الأركان إلا الركنين ايمانيين. فلم يستلم الركنين الشامين ولا غيرهما من جوانب البيت، ولا مقام إبراهيم ولا غيره من المشاعر، وأما التقبيل فلم يقبل إلا الحجر الأسود. وقد اختلف في الركن اليماني فقيل: يقبله، وقيل: يستلمه ويقبل يده، وقيل: لا يقبله ولا يقبل يده .. والأقوال الثلاثة مشهورة في مذهب أحمد ورغيره. والصواب: أنه لا يقبله ولا يقبل يده، فإن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل هذا ولا هذا كما تنطق به الأحاديث الصحيحة. ثم هذه مسألة نزاء، وأما مسائل الإجماع فلا نزاع بين الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة العلم أنه لا يقبل الركنين الشاميين، ولا شيئا من جانب البيت. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، وعلى هذا عامة السلف. وقد روي «أن ابن عباس ومعاوية طافا بالبيت فاستلم معاوية الأركان الأربعة، فقال ابن عباس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال معاوية: ليس شيئا من البيت متروكا. فقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فرجع إليه معاوية») (¬1). ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 426، 427.

الفصل الرابع نبذة عن حياة العرب

الفصل الرابع نبذة عن حياة العرب أصول العرب: وأما أصول العرب فقد قسمها المؤرخون إلى ثلاثة أقسام بحسب السلالات التي ينحدرون منها: (1) العرب البائدة: وهما العرب القدامى الذين لم يمكن الحصول على تفاصيل كافية عن تاريخهم مثل عاد وثمود وطسم وجديس وعملاق وسواها. (2) العرب العاربة: وهم العرب المنحدرة من صلب يعرب بن يشجب بن قحطان وتسمى بالعرب القحطانية. (3) العرب العدنانية: قال ابن إسحاق: فمن عدنان تفرقت القبائل من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، أما العرب العاربة- وهي شعب قحطان- فمهدها بلاد اليمن، وقد تشعبت قبائلها وبطونها فاشتهرت منها قبيلتان: (أ) حمير: وأشهر بطونها زيد الجمهور، وقضاعة، والسكاسك. (ب) كهلان: وأشهر بطونها همدان، وأنمار، وطيئ ومذحج وكندة ولخم، وجذام والأزد والأوس والخرزج وأولاد جفنة ملوك الشام.

وهاجرت بطون كهلان عن اليمن، وانتشرت في أنحاء الجزيرة، وكانت هجرة معظمهم قبيل سيل العرم حين فشلت تجارتهم لضغط الرومان وسيطرتهم على طريق التجارة البحرية، وإفسادهم طريق البر بعد احتلالهم بلاد مصر والشام. وأما قيدار بن إسماعيل فلم يزل أبناؤه بمكة يتناسلون هناك حتى كان منه عدنان وولده معد، ومنه حفظت العرب العدنانية أنسابها. وعدنان هو الجد الحادي والعشرون في سلسلة النسب النبوي، وقد ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا انتسب فبلغ عدنان يمسك ويقول: (كذب النسابون) (¬1) فلا يتجاوز. وروي عن عروة بن الزبير أنه قال: ما وجدنا أحدا يعرف ما بين عدنان وإسماعيل، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون (1). وولد عدنان رجلين معد بن عدنان، وعك بن عدنان. قال ابن هشام: فصارت عك في دار اليمن .. وترتفرقت بطون معد من ولده نزار. فكان لنزار أربعة أولاد تشعبت منهم أربع قبائل عظيمة: إياد وأنمار وبيعة ومضر وهذان الأخيران هما اللذان كثرت بطونهما واتسعت أفخاذهما. فكان من ربيعة: أسد، وعنزة، وعبد القيس، وابنا وائل بكر وتغلب وحنيفه وغيرها .. ¬

(¬1) هناك جمع من العلماء كابن إسحاق والطبراني والبخاري يضعفون الحديث، ويرفعون النسب إلى إسماعيل عليه الصلاة والسلام. أما السيوطى فقد صححه ورواه عن ابن عساكر وابن سعد، انظر فيض القدير 4/ 6237/ ص 550.

وتشعبت قبائل مضر إلى شعبتين عظيمتين: قيص عيلان بن مضر وبطون إلياس بن مضر. فمن قيس عيلان: بنو سليم، وبنو هوازن، وبنو غطفان، ومن غطفان: عبس وذبيان وأشجع وغنى. ومن إلياس بن مضر: تميم بن مرة، وهذيل بن مدركة، وبنو أسد بن خزيمة، وبطون كنانة بن خزيمة، ومن كنانة قريش وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. وأنقسمت قريش إلى قبائل شتى من أشهرها جمح وسهم وعدي ومخزوم وتيم وزهرة وبطون قصي بن كلاب وهي عبد الدار بن قصي وأسد بن عبد العزى بن قصي، وعبد مناف بن قصي. وكان من عبد مناف أربع فصائل: عبد شمس ونوفل والمطلب وهاشم .. وبيت هاشم هو الذي اصطفى الله منه سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم - صلى الله عليه وسلم -). قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (¬1). ولما تكاثر أولاد عدنان تفرقوا في أنحاء شتى من بلاد العرب متتبعين مواقع القطر ومناقب العشب. فهاجرت عبد القيس، وبطون من بكر بن وائل، وبطون من تميم إلى البحرين فأقاموا بها وخرجت بني حنيفة إلى اليمامة فنزلوا بحجر قصبة اليمامة، ¬

(¬1) رواه مسلم باب فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - 2/ 245.

الحالة الدينية

وأقامت سائر بكر بن وائل في طول الأرض من ايمامة إلى البحرين إلى سيف كاظمة إلى البحر، فأطراف سواد العراق فهيت. وأقامت تغلب بالجزيرة الفراتية. ومنها بطون كانت تساكن بكرا. وسكنت بنو تميم ببادية البصرة، وأقامت بنو سليم بالقرب من المدينة، من وادي القرى إلى خيبر إلى شرقي المدينة إلى حد الجبلين إلى ما ينتهي إلى الحرة. وسكنت ثقيف بالطائف، وهوازن في شرق مكة بنواحي أوطاس وهي على الجادة بين مكة والبصرة، وسكنت بنو أسد شرقي تيماء وغربي الكوفة بينهم وبين تيماء ديار بحتر من طيئ وبينهم وبين الكوفة خمس ليال. وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حوران. وبقي بتهامة بطون كنانة، وأقام بمكة وضواحيها بطون قريش وكانوا متفرقين لا تجمعهم جامعة حتى نبغ فيهم قصي بن كلاب، فجمعهم وكون لهم وحدة شرفهم ورافقت من أقدارهم) (¬1). الحالة الدينية: انتشرت عبادة الأصنام عند العرب حتى ملأت كل فج فيهم. فهذيل بن مدكة اتخذوا سواعا، وكلب بن وبرة اتخذوا ودا بدوحة الجندل، وأنعم من طيىء وأهل جرش من مذحج اتخذوا يغوث الجرش، وخيوان بطن من همدان اتخذوا يعوق، وذو الكلاع من حمير اتخذوا نسرا بأرض حمير، ¬

(¬1) أخذنا هذا التلخيص الجيد عن صفي الرحمن المباكفوري في كتابه الرحيق المختوم 25 - 27.

الطواغيت

ولبني ملكان صنم اسمه سعد ولقريش هبل صنم على جوف الكعبة. واتخذوا أسافا ونائلة على موضع زمزم. (وكان أساف ونائلة رجلا وامرأة من جرهم، فوقع أساف على نائلة في الكعبة فمسخهما الله حجرين). (قال ابن إسحاق: واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه، فإذا أراد الرجل سفرا تمسح به حين يركب. فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره. وإذا قدم من سفره تمسح به فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله. فلما بعث الله رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد قالت قريش: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب. الطواغيت: وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدي لها كما تهدي الكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها. وهي تعرف فضل الكعبة عليها لأنها قد عرفت أنها بيت إبراهيم الخليل ومسجده) (¬1). فكانت لقريش وبني كنانة العزى بنخلة، وكان سدنتها وحجابها بنو شيبان من سليم حلفاء بني هاشم. وكانت اللات لثقيف بالطائف. وكان سدنتها وحجابها بنو معتب من ثقيف. وكانت مناة للأوس والخزج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر. ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 83.

الحالة السياسية

وكان ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة. وكانت فلس لطيىء ومن يليها بجبلي طيىء. وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له رئام. وكان رضاء بيتا لبني ربيعة بن كعب. وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب ابني وائل. أما اليهودية والنصرانية، فقد انتشرتا على نطاق واسع في اليمن، وفي يثرب كان لليهود تجمع ضخم. وفي خيبر كذلك. ولهم وجود على مستوى فردي في غير هذه الأمكنة. وللنصرانية وجود كذلك عند الغساسنة وقبائل تغلب وطيىء. وأعتنقها بعض ملوك الحيرة. والحنفاء هم الذين كانوا لا يقرون عبادة الأصنام ويؤمنون بالله الواحد الأحد، وبعضهم كان من أهل الكتاب، وبعضهم كان يعتبر نفسه على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وينتظر قدوم نبي يأتيه الوحي من السماء ليتبعه. الحالة السياسية: (أ) الملك باليمن: لقد مر الملك باليمن بمراحل متعددة: الأولى: في عهدهم الزاهر أيام السد {لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور} (¬1). ¬

(¬1) سبأ:15.

ويقدر المؤرخون أن هذا الأمر كان قبل قرابة سبعة قرون قبل الميلاد، واستمر ثلاثة قرون بعده. الثانية: وهي خلال عهدهم الزاهر أيام ملك سليمان عليه السلام وقصة ملكة سبأ مذكورة في القرآن وكانوا قد انحرفوا عن التوحيد وصاروا يعبدون الشمس. {فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين * إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} (¬1). ويشير القرآن الكريم إلى لباقة بلقيس وحصافه عقلها، وحزمها وانتشار الشووى الواعية في حكمها {قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم * إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين * قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون * قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين * قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون * وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون} (¬2). ثم يحدثنا عن إسلامها ودخولها في دين الله {قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} (¬3). ويحدتنا ابن هشام عن عك بن عدنان الذين رحلوا إلى اليمن وعاشوا أيام ¬

(¬1) النمل: 22 - 24. (¬2) النمل: 29 - 35. (¬3) النمل: 44

السد، وعن خروج عمرو بن عامر لما رأى ملامح انهياره. والذي يوضحه القرآن أنهم كانوا على هدى من الله، وبارك الله لهم في أرضهم وزرعهم وضرعهم. الثالثة: بعد أن انهار السد وتفرق كلهم في كل صقع {فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور * وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين * فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور * ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين * وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ} (¬1). ويقدر المؤرخون أن هذا الأمر قد تم قبل ثلاثة قرون من البعثة النبوية، وهي صورة لحضارة قامت على أساس العقيدة وانهارت حين خرجت على منهج الله بعد أن عاشت قرنا طوالا. الرابعة: وهي مرحلة استيلاء أبي كرب تبان أسعد على ملك اليمن، وامتداد نفوذه حتى وصل إلى مكة والمدينة وهو الذي ساق الحبرين من يهود المدينة إلى اليمن. وعمر البيت الحرام وكساه، وكان ملكه قبل ملك ربيعة بن نصر. وهو الذي أدخل النصرانية إلى اليمن. وجاء بعده ابنه حسان الذي امتد نفوذه إلى العراق وبعده أخوه عمرو. ¬

(¬1) سبأ:16 - 21.

الخامسة: مرحلة دخول النصرانية إلى نجران والتي صادفت وجود ذي نواس على رأس الحكم والذي كان يهوديا، وسار بجنوده فدعاهم إلى اليهودية وخيرهم بين القتل وبين الدخول في دينه فاختاروا القتل. وقصة الغلام والساحر والراهب والملك التي رواها الإمام مسلم (¬1) والترمذي تدل على عظمة هوتاء المسلمين وثباتهم على الحق في وجه الطاغية ذي نواس. وحكى الله قصتهم في قوله سبحانه: {قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد * الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد * إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} (¬2). السادسة: انهيار حكمهم بعد ذلك وابتداء استيلاء الأجنبي على أرضهم حيث استولى الأحباش عليها ثأرا من ذي نواس باسم النصرانية عام 525 م. وبقوا على ذلك حتى استعادوا استقلالهم بمعونة الفرس بقيادة معد يكرب بن سيف بن ذي يزن الحميري، الذي اغتيل من الحبشة الذين أبقاهم لخدمته، وبموته انقطع الملك عن بيت ذي يزن، وولى كسرى غلاما فارسيا على صنعاء وجعل اليمن ولاية فارسية فلم تزل الولاة من الفرس تتعاقب على اليمن حتى كان آخرهم باذان الذي اعتنق الإسلام سنة 638 م. وبإسلامه انتهى نفوذ فارس على بلاد اليمن. ¬

(¬1) مسلم ب. الزهد ح 73 ج 4 ص 2299. (¬2) البروج: 4 - 10.

الملك بالحيرة

الملك بالحيرة (¬1): في عهد ملوك الطوائف قبل قرنين من الميلاد هاجر القحطانيون وسكنوا ريف العراق. وتبعهم بعض العدنانيين وعندما استعاد الفرس قوتهم عام 226 م على عهد أردشير استولوا على العرب المقيمين على تخوم ملكه ورأى أنه لا يستطيع أن يحكم العرب ما لم يجعل عليهم رجلا منهم له عصبة تؤيده وتمنعه. وكان عمرو بن عدي أول ملوك الحيرة وتتابع الملوك بعد وكان أشدهم النعمان بن المنذر الذي غضب عليه كسرى بسبب وشاية دبرها له زيد بن عدي العبادي، وكانت وقعة ذي قار المشهورة بين العرب والعجم حيث انتصر فيها العرب وكان ذلك في أيام ولادة النب - صلى الله عليه وسلم -. وولى كسرى بعدها على الحيرة حاكما فارسيا ثم أعاد الملك إلى آل لخم عام 632 م حتى تولى المنذر الملقب بالمعرور ولم تزد ولايته على ثمانية أشهر حتى قدم خالد بن الوليد رضي الله عنه بعساكر المسلمين. لقد كان لهم مظاهر الملك، أما في حقيقة الأمر فكانوا صنيعة بيد الفرس، يحاربون بهم الغساسنة العرب في الشام لتهيئة مصالح فارس، ولا نزال ¬

(¬1) يحدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي عن فروة بن مسيك المرادي رضي الله عنه قال: (وأنزل في سبأ ما أنزل فقال رجل يا رسول الله وما سبأ أرض أو امرأة قال: ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد له عشرة من العرب فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة. فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وعسان. وأما الذين تيامنوا: فالأزد والأشعريون وحمير ومذحج وإنمار وكندة. فقال رجل: يا رسول الله وما أنمار؟ قال الذين منهم خثعم وبجيلة. وقال الترمذي: وروى هذا عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: هذا حديث حسن غريب. ك. تفسير القرآن ج 2 باب 35 ص 361. وهكذا نرى أن أصل الغساسنة والمناذرة من أصل واحد وينتمون إلى سبأ، ومعظم قبائل اليمن كذلك.

الملك بالشام

نذكر قول المثنى بن حارثة الشيباني الذي التقى مع وفد بني شيبان قبل الإسلام برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: (... وإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب دون ما يلي أنهار كسرى فعلنا. فإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا، ولا نؤوي محدثا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم في الصدق، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من أحاط به من جميع جوانبه. أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وأموالهم ويغرسكم نساءهم تسبحون الله وتقدسونه» فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذا ..) (¬1). الملك بالشام: (لما خرج عمرو بن عامر إلى اليمن مع قومه تفرقوا في البلدان فنزل آل جفنة ابن عمرو بن عامر الشام ونزلت الأوس الخزرج يثرب. ونزلت خزاعه مرا، ونزلت أزد السراة السراة. رنزلت أزد عمان عمان، ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه) (¬2). وانتهت ولاية الضجاعمة من قضاعة على الشام بعد قدوم آل جفنة (الغسانيين) إليها فولتهم الروم ملوكا على عرب الشام، وكانت قاعدتهم دومة الجندل. ولم تزل تتوالى الغساسنة على الشام بصفتهم عمالا لملوك الروم حتى كانت وقعة اليرموك سنة 13 هـ. وانقاد للإسلام آخر ملوكهم جبلة بن الأيهم ¬

(¬1) السيرة الحلبية 2/ 157. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 13.

الإمارة بالحجاز

الغساني في عهد عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه. وهو الذي ارتد وذهب إلى قيصر عندما أراد عمر رضي الله عنه أن ينتصف للأعرابي منه. وقال له: الإسلام سوى بينكما. الإمارة بالحجاز: بقي إسماعيل عليه الصلاة والسلام وولداه ثابت ثم قيدار على إمرة مكة، ثم رجع أمر مكة إلى مضاض بن عمرو الجرهمي جدهما. وبقي الأمر في جرهم قرابة عشرين قرنا من الزمان ثم غلبتهم خزاعة بعد بغيهم وصار أمر مكة لها حيث استمرت ثلاثمائة عام. إلى أن جاء قصي بن كلاب الذي تزوج بنت حليل بن حبشة الخزاعي. وانتقل أمر مكة له بعد حرب عنيفة احتكموا بعدها ليعمر بن عوف أحد بني بكر، فقضى بأن قصيا أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وكان هذا في القرن الخامس للميلاد. ونظم قصي بعبقريته أمر مكة، وقطعها رباعا بين قومه، وأسس دار الندوة، وكانت مجمع قريش وفيها تفصل مهام أمورها وتفض مشاكلها، وجمع مآثر قومه، بيده اللواء فلا تعقد الحرب إلا بيده. والحجابة فلا يفتح باب الكعبة أحدا إلا هو. وسقاية الحاج، حيث يملأ حياض مكة بالماء ويقذف التمر والزبيب ليشرب من شاء أن يشرب، ورفادة الحاج وهو طعام يصنع للحجاج على طريقة الضيافة، ثم توزعت هذه المآثر بعدها في قريش، فكانت السقاية والرفادة لهاشم بن عبد مناف، والحجابة واللواء لبني عبد الدار، حتى جاء الإسلام فأبقى الحجابة لهم كما قال عليه الصلاة والسلام في فتح مكة: «ألا وإن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مال أو مأثرة فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج» (¬1). ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي 1/ 386.

الحياة الاجتماعية والخلقية

الحياة الاجتماعية والخلقية: لا شيء أوضح في وصف الحالة الاجتماعية والخلقية من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بين يدي يزدجرد: يقول يزدجرد: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفونناكم، لا تغزون فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم. فإن كان عدكم قد كثر، فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتا إلى خصبكم وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم، فأسكت القوم. فقام المغيرة بن شعبة فقال: أيها الملك .... فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالا منا. وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، ونرى ذلك طعامنا. وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل، وأشعار الغنم ديننا أن يقتل بعضنا بعضا، وأن يبغي بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنت هـ وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه، وكانت حالتنا قبل اليوم على ما ذكرت لك ..) (¬1). وقول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بين يدي النجاشي: (أيها الملك .. كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف ..) (¬2). ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير ج 7/ 46. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 336.

وما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها في موضوع النكاح والزنا يضيء جانبا آخر: فعن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته فيصدقها ثم ينكحها. ونكاح آخر أن يقول الرجل لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها لا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إن أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع. ونكاح آخر يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع منهم رجل أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت وهو ابنك يا فلان فتسمي من أحبت منهم باسمه، فيلحق به ولدها. ونكاح رابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا. كن ينصبن على أبوابهن رايات يكن علما لمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت فوضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلا نكاح الإسلام اليوم) (¬1). ¬

(¬1) البخاري ك. 67 ب. 37 ج 7 ص 20 وسنن أبي داود ك. النكاح باب وجود النكاح التي كان يتناكح بها أهل الجاهلية ك. 3 ب. 32.

الحالة الاقتصادية

هذا وضع الطعام واللباس والمأوى والنكاح في المجتمع الجاهلي ووضع الحكم كذلك، حيث يبغي بعضهم على بعض ويأكل القوي الضعيف وأحيانا على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا والعصبية الجاهلية لها الحكم الفصل والتي مثلها ومثلهم المشهور: انصر أخاك ظالما أو مظلوما. والخضوع لأعراف القبيلة وتقاليدها سواء أكانت حسنة أم قبيحة وما إنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد وكانت أهدافهم لا تعدو ملذاتهم خمر وسيف ونساء ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وحقك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزيد (¬1) وتبكير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهنكة تحت الفراش المورد (¬2) وكري إذا نادى المضاف مجنبا ... كسيد الغضا نبهته المتورد) (¬3) (¬4) الحالة الاقتصادية: أما الزراعة فكانت قائمة في أطراف الجزيرة العربية وخاصة في اليمن ¬

(¬1) يصف تشرابه للخمر المعتق الذي اختلط بالماء. (¬2) يصف لذته الجنسية مع خليلة له وقد اختلى بها. (¬3) يصف إجابته لمنادي القتال واندفاعه للمعركة. (¬4) من معلقة طرفة بن العبد ص 82، 83 شرح المعلقات السبع للزوزني ط. المكتبة الفيصلية.

والشام، وبعض الواحات المنتشرة في الجزيرة العربية. لكن الغالب على البادية رعي الإبل والغنم وقصد مواقع الكلأ والتنقل لانتجاعه حيث لا يعرفون الاستقرار إلا في مضارب خيامهم، بينما كان أهل المدن الكبرى يعملون أحيانا في الزراعة. وأما الصناعات فكانوا أبعد الأمم عنها، وكانوا يأنفون منها، ويتركون العمل فيها للأعجام والموالي، ويكفي أن نعلم أنهم عندما أرادوا بنيان الكعبة، وهي أقدس شيء عندهم استعانوا برجل قبطي نجار كان مقيما في مكة كما يذكر ابن إسحاق (¬1) ويقول الأموي في مغازيه: كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم تحمل آلات البناء من الرخام والخشب والحديد سرحها قيصر مع باقوم الرومي إلى الكنيسة التي أحرقها الفرس للحبشة، فلما بلغت مرساها في جدة بعث الله عليها ريحا فحطمتها) (¬2). لكن التجارة كان لها النصيب الأوفى وخاصة في مكة وقريش كما ذكر القرآن الكريم: {لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف * فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} (¬3). غير أن هذه التجارة غير آمنة، وهي تتعرض للسلب والنهب في أي وقت، وقد تقع الحروب العنيفة من أجل ذلك، وما حرب الفجار عنا ببعيد، والتي قامت لأن عروة الرحال من هوازن أجار تجارة للنعمان بن المنذر على بني ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 193. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير 2/ 325. (¬3) سورة قريش.

الحالة الخلقية

كنانة، وقتل عروة الرحال على يدي البراض بن قيس، وهاجت الحرب بين القبيلتين (¬1)، وقد أدت هذه التجارة إلى تكوين طبقة من الأثرياء والمترفين مقابل طبقة من الفقراء والمعدمين المنبوذين. ولا أدل على ذلك مما يعرضه القرآن من صورة الملأ المكذبين بالدين المترفين مقابل ما يعانيه الفقراء والمعذبون الذين تمثلوا بالمساكين والذين لا يجدون قوتهم الضروري ولا كسوتهم التي تقيهم حر الصيف وقر الشتاء. بل أوقف الملأ من قريش سماعهم للدعوة على ضوء إبعاد العبيد والموالي والفقراء من مجلسهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬2). الحالة الخلقية: (لا ينكر أن أهل الجاهلية كانت فيهم دنايا ورذائل وأمور ينكرها العقل السليم ويأباها الوجدان، ولكن كانت فيهم من الأخلاق الفاضلة المحمودة ما يروع الإنسان ويفضي به إلى الدهشة والعجب، فمن تلك الأخلاق: (1) الكرم، وكانوا يتبارون في ذلك ويفتخرون به، وقد استنفذوا فيه نصف أشعارهم بين ممتدح به ومثن على غيره. كان الرجل يأتيه الضيف في شدة البرد والجوع، وليس عنده من المال إلا ناقته التي هي حياته وحياة ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 184. (¬2) وأنزل الله قوله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين} الأنعام: 52

أسرته، فتأخذه هزة الكرم، فيقوم إليها ويذبحها لضيفه، ومن آثار كرمهم أنهم كانوا يتحملون الديات الهائلة والحمالات المدهشة، يكفون بذلك سفك الدماء، وضياع الإنسان، ويمتدحون بها مفتخرين على غيرهم من الرؤساء والسادات. وكانت من نتائج كرمهم أنهم كانوا يمتدحون بشرب الخمور، لا لأنها مفخرة في ذاتها، بل لأنها سبيل من سبل الكرم .. وإذا نظرت إلى دواوين شعراء الجاهلية تجد ذلك بابا من أبواب المديح والفخر، يقول عنترة بن شداد العبسي في معلقته: ولقد شربت من المدامة ... بعدما ركد الهواجر بالمشوف المعلم فإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي، وعرضي وافر لم يكلم وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي تكرمي (¬1) ومن نتائج كرمهم اشتغالهم بالميسر، فإنهم كانوا يرون أنه سبيل من سبل الكرم لأنهم كانوا يطعمون المسكين ما ربحوه، أو ما كان يفضل عن سهام الرابحين. ولذلك ترى القرآن الكريم لا ينكر نفع الخمر والميسر وإنما يقول {وإثمهما أكبر من نفعهما} (¬2). (2) ومن تلك الأخلاق الوفاء بالعهد، فقد كان العهد عندهم دينا يتمسكون به، ويستهينون في سبيله بقتل أولادهم، وتخريب ديارهم، وتكفي في ¬

(¬1) شرح المعلقات السبع للزوزني، معلقة عنترة ص 203. (¬2) البقرة من الآية 219.

معرفة ذلك قصة هانئ بن مسعود الشيباني، والسموأل بن عادياء، وحاجب ابن زراة التميمى (¬1). (3) ومنها عزة النفس وإباء عن قبول الخسف والضيم، وكان من نتائج هذا فرط الشجاعة، وشدة الغيرة، وسرعة الانفعال، فكانوا لا يسمعون كلمة يشمون منها رائحة الذل والهوان إلا قاموا إلى السيف والسنان، وأثاروا الحرب العوان وكانوا لا يبالون بتضحية أنفسهم في هذا السبيل. (4) ومنها المضي في العزائم، فإذا عزموا على شيئ يرون فيه المجد والافتخار لا يصرفهم عنه صارف، بل كانوا يخاطرون بأنفسهم في سبيله. (5) ومنها الحلم والأناة والتؤدة، كانوا يمتدحون بها إلا أنها كانت فيهم عزيزة الوجود، لفرط شجاعتهم وسرعة إقدامهم على القتال. (6) ومنها السذاجة البدوية، عدم التلوث بلوثات الحضارة ومكائدها. وكان من نتائجه الصدق والأمانة والنفور من الخداع والغدر. نرى أن هذه الأخلاق الثمينة- مع ما كان للجزيرة العربية من الموقع الجغرافي بالنسبة إلى العالم- كانت سببا في اختيارهم لحمل عبء الرسالة العامة، وقيادة الأمة الإنسانية والمجتمع البشري، لأن هذه الأخلاق وإن كانت ¬

(¬1) قصة هانئ بن مسعود الذي استودع عنده حرم النعمان وسلاحه، ورفض تسليمها لكسرى. وكان هذا من مما هيج حرب ذي قار بين العرب والفرس. انظر أيام العرب يوم ذي قار 6 - 34. وكذلك قصة حاجب بن زرارة التميمي الذي منع الحارث بن ظالم المري حين التجأ إليه، وخاض حربا ضروسا مع بني عامر حفاظا على ذمته وهو يوم رحرحان. انظر أيام العرب 344. وإجارة السمؤال بن عاديا لأمرئ القيس وأهله. أيام العرب 120.

بعضها يفضي إلى الشر، ويجلب الحوادث الموتمة إلا أنها كانت في نفسها أخلاقا ثمينة، تدر المنافع العامة للمجتمع البشري بعد شيء من الإصلاح، وهذا الذي فعله الإسلام) (¬1). يقول ابن تيمية رحمه الله: (وسبب هذا الفضل إما بالعلم النافع، وإما بالعمل الصالح .. وأما العمل فإن مبناه على الأخلاق، وهي الغرائز المخلوقة في النفس، وغرائزهم (أي العرب) أطوع للخير من غيرهم. فهم أقرب للسخاء والحلم والشجاعة والوفاء، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة، لكن كانوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير، معطلة عن فعله، ليس عندهم علم منزل من السماء، ولا شريعة موروثة من نبي، ولا هم أيضا مشتغلون ببعض العلوم العقلية المحضة .. فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى .. وتلقوه عنه بعد مجاهدته الشديدة لهم، ومعالجتهم على نقلهم من تلك العادات الجاهلية، والظلمات الكفرية، التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فطرتها .. فأخذوا هذا الهدي العظيم بتلك الفطرة الجيدة، فاجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم، والكمال الذي أنزله الله إليهم: بمنزلة أرض جيدة في نفسها، لكن هي معطلة عن الحرث، أو قد نبت فيها شجر العضاه والعوسج، وصارت مأوى الخنازير والسباع، فإذا طهرت من المؤذي من الشجر والدواب، وازدرع فيها أفضل الحبوب والثمار جاء فيها من الحرث ما لا يوصف مثله. فصار السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل خلق الله بعد الأنبياء، وصار أفضل الناس بعدهم من تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة من العرب والعجم) (¬2). ¬

(¬1) الرحيق المختوم للمباركفوري 52 - 54. (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 161، 162.

محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة

محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة

الفصل الخامس اختياره من بيت شرف ونسب

الفصل الخامس اختياره من بيت شرف ونسب عن شداد أنه سمع واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (¬1). عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم، فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، من خير فرتهم وخير الفريقين، ثم تخير القبائل فجعلني من خير قبيلة، ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفعسا وخيرهم بيتا) (¬2). وعن المطلب بن أبي وداعة قال: جاء العباس إلى رسول الله فكأنه سمع شيئا. فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فقال: «من أنا؟! قالوا: أنت رسول الله عليك السلام، قال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة.، ثم ¬

(¬1) مسلم ب. الفضائل 43، ب. فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - 1/ ح 1 - 2276 ج 4 ص 1782. (¬2) الترمذي باب فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - 50/ 1/ 3607. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا» (¬1). (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إنا لقعود بفناء النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ مرت بنا امرأة فقال بعض القوم: هذه ابنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فقال أبو سفيان: مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن، فانطلقت المرأة فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرف في وجهه الغضب، فقال: «ما بال أقوال تبلغني عن أقوام؟ إن الله خلق السموات سبعا فاختار العليا منها، وأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق فاختار بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم. فأنا خيار من خيار من خيار فمن أحب العرب فبحبي أحبهم ومن ابغض العرب فببغص ابغضهم») (¬2). وعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك» قلت: يا رسول الله، كيف أبغضك، وبك هداني الله، قال: «تبغض العرب فتبغضني» (¬3). ... ¬

(¬1) المصدر السابق 50/ 1/ 3608، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن. (¬2) ذكره ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم 155 وقال: ومن الأحاديث التي تذكر في هذا المعنى ما رويناه من طرق معروفة إلى محمد بن اسحاق الصنعاني، وفي مجمع الزوائد. قال الهيمثي: رواه الطبراني في الكبير والأوسط (8/ 215) وفيه حماد بن واقد وهو ضعيف يعتبر به، وبقية رجاله وثقوا. (¬3) الترمذي: باب مناقب في فضل العرب 50/ 70/ 3927 قال: هذا حديث حسن غريب.

أي شك بعد هذه الأحاديث الصريحة الواضحة يمكن أن يرد في شرف نسب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟؟ إنه سيد ولد آدم، وخيرهم خلقا، وخيرهم فرقة، وخيرهم قوما، وخيرهم بيتا، وخيرهم نفسا .. وما كان أحد يماري في هذا الفضل في جاهلية ولا إسلام إلا أن يكون مبغضا حاسدا، أو ذا غرض وهوى. لقد كانت العرب تعرف لهم هذا الفضل. (.. ودفع - صلى الله عليه وسلم - هو وأبو بكر رضي الله عنه إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم وقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة (¬1) قال: وأي ربيعة من هامتها أو لهازمها (¬2)؟ قالوا: بل الهامة العظمى، قال: من أيها؟ قالوا: من ذهل الأكبر. قال: منكم حامي الذمار ومانع الجار فلان؟ قالوا: لا. قال: منكم قاتل الملوك وسالبها فلان؟ قالوا: لا. قال: منكم صاحب العمامة المفردة فلان؟ قالوا: لا. قال: فلستم من ذهل الأكبر، أنتم ذهل الأصغر. فقام إليه شاب حين بقل وجهه (أي طلع شعر وجهه) فقال له: إن على سائلنا أن نسأله. يا هذا إنك قد سألتنا فأخبرناك، فمن الرجل؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أنا من قريش، فقال الفتى: بخ بخ أهل الشرف والرياسة، فمن أي قريش أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة. فقال الفتى: أمكنت. ثم قال: ¬

(¬1) الشعبان العظيمان اللذان تتناسل منهما العرب العدنانية هما ربيعة ومضر وكان - صلى الله عليه وسلم - من مضر. (¬2) الهامة: رأس كل شيء، واللهزم عظمان ناتئان تحت الأذنين والمقصود من أصولها أو من فروعها.

أمنكم قصي (¬1) الذي كان يدعى مجمعا، قال: لا. قال: منكم هاشم (1) الذي هشم الثريد لقومه؟ قال: لا. قال: فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب مطعم طير السماء الذي كأن وجهه القمر يضيء في الليلة الظلماء؟ قال: لا ...) (¬2). فقد كانت ربيعة تعلم فضل مضر وقريش وبني هاشم. والمشهور أن (عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وضع ديوان العطاء «كتب الناس على قدر أنسابهم فبدأ بأقربهم نسبا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما انقضت العرب ذكر العجم» هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين وسائر الخلفاء من بني أمية وولد العباس إلى أن تغير الأمر بعد ذلك) (¬3). وعندما وضع عمر الديوان رضي الله عنه «قالوا: يبدأ أمير المؤمنين بنفسه، فقال: لا. ولكن ضعوا عمر بحيث وضعه الله تعالى. فبدأ بأهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم من يليهم. حتى جاءت نوبته في بني عدي وهم متأخرون عن أكثر بطون قريش» (¬4). وهذه الشهادة كذلك قدمها جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي «حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه» (¬5). ¬

(¬1) قصي وهاشم وعبد المطلب من أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويلتقي النبي مع أبي بكر رضي الله عنه في مرة جد قصي. (¬2) السيرة الحلبية لابن برهان الدين 2/ 155 وقد رواه أبو نعيم والحاكم والبيهقي عن عكرمة عن ابن عباس. (¬3) و (¬4) اقتضاء الصراط المستقيم 159 و 161. (¬5) السيرة لابن هشام 1/ 661.

وقدمها المغيرة بن شعبة الثقفي بين يدي يزدجرد: أيها المك، إن هوتاء رؤوس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وإنما يكرم الأشراف الأشراف، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف. ثم قال: (فبعث الله إلينا رجلا معروفا، نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا. وهو بنفسه كان خيرنا ..) (¬1). وعندما قال لوط عليه الصلاة والسلام لقومه وقد أرادوا إيذاءه في ضيفه: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} (¬2). قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعقيبا على قوله: «رحم الله لوطا كان يأوي إلى ركن شديد، وما بعث الله بعده نبيا إلا وهو في ثروة من قومه» (¬3). وشعيب عليه الصلاة والسلام كان في منعة من قومه وهم الذين خافهم الكافرون فقالوا: {يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز} (¬4). ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 7/ 46 فصل في غزوة القادسية. (¬2) هود: 80 والركن الشديد هو لجوؤه إلى الله تعالى. (¬3) رواه الحاكم، وهو حديث حسن كما ذكر الألباني في صحيح الجامع الصغير 3/ 176/ 3493. (¬4) هود:91.

إنها سنة الله تعالى إذن في رسله أن يبعث الرسول في منعة من قومه، وأن يكون من بيت حسب ونسب وشرف. وشاءت إرادته تعالى أن يحوز محمد عليه الصلاة والسلام الشرف كله في المخلوقات ثم الشعوب ثم القبائل ثم البيوت ثم النفوس. فهو أشرف مخلوق في هذا الوجود. ومن أجل هذا رأينا المرحلة المكية كلها والتي استمرت ثلاثة عشر عاما، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحياها في منعة من قومه وعشيرته الأدنين، من بني هاشم والمطلب، بينما وقف بنو عبد شمس وبنو نوفل على الحياد، وهما من بني عبد مناف، وخاضت قريش بعدها الحرب ضد النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكنها لم تتمكن من النيل منه وهو في هذه الأرومة. وأشد ما رأينا من كيد قريش يوم كتبوا الصحيفة القاطعة الظالمة: تعاقدوا فيها على (ألا يناكحوا بني هاشم وبني عبد المطلب ولا يبايعوهم ولا يكلموهم لا يجالسوهم حتى يسلموا إليهم محمدا - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فماذا كان الموقف؟ وماذا فعلت العصبة القبلية؟ «انحازت بنو هاشم وبنو عبد المطلب مؤمنهم وكافرهم ليلة هلال المحرم سنة سبع من النبوة- إلا أبا لهب وولده فإنهم ظاهروا قريشا على بني هاشم- فصاروا في شعب أبي طالب محصورين مضيقا عليهم أشد التضييق نحوا من ثلاث سنين، وقد قطعوا عنهم الميرة والمادة فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم حتى بلغهم الجهد، وكان حكيم بن حزام (¬2) بن خويلد تأتيه العير تحمل ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي 1/ 25. (¬2) حكيم بن حزام بن خويلد عمته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها. فكان دافع القرابة هو الذي يدفع لذلك.

الحنطة من الشام فيقبلها الشعب ثم يضرب أعجازها فيدخل عليهم. فيأخذون ما عليها من الحنطة، (¬1). وما انتهى الحصار بعد ثلاث سنين إلا من خلال العصبية القبلية: «ثم سعى في نقض الصحيفة أقوام من قريش، وكان أحسنهم في ذلك بلاء هشام بن عمرو (¬2) مشى في ذلك إلى زهير بن أبي أمية (¬3)، وإلى مطعم بن عدي (¬4)، وإلى أبي البختري بن هشام (¬5)، وإلى زمعة بن الأسود (¬6). وكان سهل بن بيضاء (¬7) الفهري هو الذي مشى إليهم حتى اجتمعوا عليه، واتعدوا خطم الحجون بأعلى مكة وتعاهدوا هناك على نقض الصحيفة وما زالوا حتى شقوها ..» (¬8). وأن ينحاز المسلمون إلى شعب أبي طالب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويلقوا ما يلقوا من الجهد فأمر طبيعي مع الدعاة في الأرض. لكن صبر كفار بنى هاشم ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي 1/ 25، 26. (¬2) هشام بن عمرو، كان أبوه عمرو أخا نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، فتحرك بدافع القرابة فهاشم عمه. (¬3) زهير بن أبي أمية كانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب عمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فبنو هاشم أخواله. (¬4) المطعم بن عدي سيد بني نوفل وبنو نوفل هم الفرع الثالث من بني عبد مناف وأقرب الناس لبني هاشم وبني المطلب. (¬5) و (¬6) أبو البختري بن هشام من بني أسد بن عبد العزى بن قصى وهم أقرب البطون لبني عبد مناف وكذلك زمعة بن الأسود. (¬7) سهل بن بيضاء كان مسلما مستخفيا بإسلامه يوم سعى بهذا الأمر، الطبقات الكبرى لابن سعد. (¬8) إمتاع الأسماع للمقريزي 1/ 26، وابن هشام 1/ 350، 351 و 374 - 376.

وكفار بني المطلب على هذا الجهد ثلاث سنين- حتى كانوا يأكلون الخبط (¬1) وورق السمر (¬2) حتى أن أحدهم ليضع كما تضع الشاة كما في الصحيح) (¬3) - هذا الصبر بدافع العصبية القبلية. هو الأمر الذي يستحق العجب. ولولا عظمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفوسهم وإجلاله في قلوبهم- على الرغم من ثباتهم على كفرهم- لما صبروا على هذا البلاء العظيم طيلة ثلاث سنين، وقد نزل بهم الجهد كما وصف سعد حالهم رضي الله عنه: (خرجت ذات يوم أبول فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها ثم رضضتها، وسففتها بالماء فقويت بها ثلاثا) (¬4). (وكانوا إذا قدمت العير مكة يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئا من الطعام لعياله فيقوم أبو لهب عدو الله فيقول: يا معشر التجار: غالوا على أصحاب محمد. حتى لا يدركوا معكم شيئا، فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي. فأنا ضامن أن لا خسار عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة، قيمتها أضعافا حتى يرجع إلى أطفاله، وهم يتضاغون من الجوع، وليس في يديه شيء يطعمهم به) (¬5). ¬

(¬1) الخبط: ورق شجر في البادية يخبط عليه في المخابط حتى يسقط ويجفف ويطحن ويخلط بدقيق وماء ويقدم للإبل. (¬2) هو شجر الطلح ومفرده سمرة. (¬3) الروض الأنف للسهيلي 2/ 127. (¬4) و (¬5) المصدر نفسه 2/ 127.

إنها معادن الرجال النفيسة التي حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها، وحين زال عنها الران وانكشفت الحجب. كانت تظهر بجودة جوهرها ونفاسة معدنها: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» (¬1). وعندما فقه العشيرة الأقربون، وعندما فقهت قريش أصبحت هي عز الإسلام وموطنه، والذائدة عنه والحامية له. أما بنو المطلب وبنو هاشم، فقد مضوا في التاريخ جميعا من أهل البيت جزاء هذه المواقف العظيمة من نصرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال عليه الصلاة والسلام «أما بنو المطلب فلم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام». وأما قريش. فقد مضيا في التاريخ سادة المسلمين في الأرض. فالعرب لا تدين إلا لقريش. والقرشية شرط أساسي من شروط الخلافة العظمى- علما أرجح الآراء اعتمادا على الحديث الصحيح-. و «الأئمة من قريش، أبرارها أمراء أبرارها، وفجارها أمراء فجارها، وإن أمرت عليكم قريش عبدا حبشيا مجدعا فاسمعوا له وأطيعوا، ما لم يخير أحدكم بين إسلامه وضرب عنقه. فإن خير بين إسلامه وضرب عنقه فليقدم عنقه» (¬2). وما أحوج الدعاة إلى الله تعالى اليوم أن يفقهوا هذا المعنى في تخيرهم ¬

(¬1) رواه مسلم م 8/ 41، 42 باب الأرواح في جنود مجندة. (¬2) رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 406/ 2754.

للمعادن النفيسة من الرجال والنساء فيضمونهم إلى ركب الدعاة فينتصرون للإسلام، وينتصرون به. والمعنى الأدق من ذلك أن في صفوف الكافرين نماذج تحمل الصفات الخلقية الكريمة وذات مواقع حساسة من القوة في المجتمع الجاهلي، وشخصية الداعية التي تجذب هذه النماذج بخلقها وتضحياتها، وتغزوها في أعماقها. تدفع هذه النماذج من الكافرين إلى أن يكونوا حماة- للدعوة والداعية. ومن خلال مركز القوة الذي تملكه ومن خلال بعض الأعراف والقوانين الجاهلية، تستطيع أن تحتضن الدعوة، وتفسح لها مجال الحرية الطلق لتنمو، وإن كانت في عقيدتها على خلاف عقيدة الإسلام، أو تستطيع هذه النماذج الخيرة أن تحبط شرا يحيق بالمسلمين. ومنعة العشيرة وشرف القبيلة فيما مضى، والذي كان يرعى الدعوة حتى تبلغ أشدها يمكن أن يظهر في عصرنا الحاضر بشرف النظام ومنعة القانون عند الذين يحرصون عليه من جهة وقد بهرتهم الدعوة من جهة أخرى، ولاقت جوهرا نفيسا عندهم وهم في مواقع المسئولية. ***

الفصل السادس يتم النبي - صلى الله عليه وسلم -

الفصل السادس يتم النبي - صلى الله عليه وسلم - المشهور في السيرة أن أبا الرسول - صلى الله عليه وسلم - توفي ولم يزل عليه الصلاة والسلام في بطن أمه. وأن أمه توفيت ولما يناهز السادسة من عمره. لقد كان عليه الصلاة والسلام يتيم الأب وهو الجنين في بطن أمه، ويتيم الأم وهو ابن سبع سنين. (مات عبد الله بن عبد المطلب- ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمل في بطن أمه- بالمدينة وقيل بالأبواء بين مكة والمدينة والأول هو المشهور. وقيل مات بعد ولادته بثمانية وعشرين يوما، وقيل بسبعة أشهر، وقيل بسنة، وقيل بسنتين، وقيل بشهرين، والأول أثبت) (¬1). (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أمه آمنة بنت وهب وجده عبد المطلب بن هاشم في كلاءة الله وحفظه، ينبته الله نباتا حسنا. لما يريد به من كرامته، فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ست سنين توفيت أمه آمنة بنت وهب. قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي 1/ 5.

رضاعه صلى الله عليه وسلم

أن أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمنة توفيت ورسول الله ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة. كانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم. فماتت وهي راجعة به إلى مكة) (¬1). وعن خالد بن معدان الكلاعي: (أن نفرا من أصحاب رسول الله قالوا له: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك؟ قال: «نعم أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، واسترضعت في بني سعد بن بكر» (¬2). رضاعه صلى الله عليه وسلم: عن حليمة بنت الحارث أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السعدية التي أرضعته قالت: (خرجت في نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضعاء بمكة على أتان لي قمراء (¬3) قد أذمت بالركب. قال: وخرجنا في سنة شهباء (¬4) لم تبق شيئا ومعي زوجي الحارث بن عبد العزى، ومعنا شارف (¬5) لنا والله إن يبض (¬6) علينا بقطرة من لبن، ومعي صبي لي إن ننام (¬7) ليلتنا مع بكائه ما في ثديي ما ¬

(¬1) السيرة النبويه لابن هشام 1/ 168. (¬2) المصدر نفسه 1/ 160. وفي الجامع الصغير: أنا دعوة إبراهيم وكان آخر من بشر بي عيسى ابن مريم وصححه الألباني. (¬3) قمراء: بيضاء كلون القمر. وأذمت بالركب: أعيت وتأخرت عن جماعة الإبل. (¬4) شهباء: كناية عن العام المجدب. (¬5) شارف: ناقة مسنة هرمة. (¬6) إن تبض بقطرة لبن: ما تسيل بقطرة. (¬7) إن ننام ليلتنا: ما ننام ليلتنا.

يمصه وما في شارفنا من لبن نغذوه إلا أنا نرجو. فلما قدمنا مكة لم يبق منا امرأة إلا عرض عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتأباه، وإنما كنا نرجو كرامة رضاعه من والد المولود. وكان يتيما فكنا نقول: ما عسى أن تصنع أمه. حتى لم يبق من صواحب امرأة إلا أخذت صبيا غيري، وكرهت أن أرجع ولم آخذ شيئا، وقد أخذ صواحبي فقلت لزوجي: والله لأرجعن إلى ذلك فلآخذنه. قالت: فأتيته فأخذته فرجعته إلى رحلي. فقال زوجي: قد أخذتيه. فقلت: نعم والله ذاك أني لم أجد غيره. قال: قد أصبت فعسى الله أن يجعل فيه خيرا. فقالت: والله ما هو إلا أن جعلته في حجري. قالت: فأقبل عليه ثديي بما شاء من اللبن. قالت: فشرب حتى روي، وشرب أخوه- تعني ابنها- حتى روي، وقام زوجي إلى شارفنا من الليل، فإذا هي حافل فحلبت لنا ما شئنا، فشرب حتى روي، وشربت حتى رويت، فبتنا ليلتنا تلك بخير شباعا رواء وقد نام صبينا. قال: يقول أبوه:- يعني زوحها-: والله يا حليمة ما أراك إلا أصبت نسمة مباركة قد نام صبينا وروي. قالت: ثم خرجنا- فوالله لخرجت أتاني (¬1) أمام الركب قد قطعته حتى ما يبلغونها حتى أنهم ليقولون: ويحك يا بنت الحارث كفي علينا. أليس هذه بأتانك التي خرجت عليها فأقول: بلى والله وهي قدامنا حتى قدمنا منازلنا من حاضر بني سعد بن بكر. فقدمنا على أجدب أرض الله. فوالذي نفس حليمة بيده إن كانوا ليسرحون أغنامهم إذا أصبحوا، ويسرح راعي غنمي فتروح غنمي بطانا (¬2) لبنا حفلا (¬3)، وتروح أغنامهم جياعا هالكة ما بها من لبن. قالت: ¬

(¬1) أتاني: حمارتي. (¬2) بطانا: شباعا. (¬3) حفلا: مملوءة أضراعها لبنا.

فشربنا ما شئنا من لبن. وما في الحاضر أحد يحلب قطرة ولا يجدها، فيقولون لرعاتهم: ويلكم ألا تسرحون حيث يسرح راعي حليمة، فيسرحون في الشعب الذي يسرح فيه رأعينا. قالت: وكان - صلى الله عليه وسلم - يشب في اليوم شباب الصبي في شهر، ويشب في الشهر شباب الصبي في سنة. فبلغ ستا وهو غلام جفر (¬1). قال: فقدمنا أمه، فقلنا لها: وقال لها أبوه: لو تركت بني عندي حتى يغلظ. فإنا نخشى عليه وباء مكة. قالت: ونحن أضن بشأنه لما رأينا من بركته، فلم نزل بها حتى قالت: ارجعا به، فرجعنا به، فمكث عندنا شهرين. قال: فبينا هو يلعب وأخوه يوما خلف البيوت يرعيان بهما لنا إذ جاءنا أخوه يشتد فقال لي ولأبيه: أدركا أخي القرشي. قد جاءه رجلان فأضجعاه فشقا بطنه. فخرجنا نحوه نشتد، فانتهينا إليه وهو قائم منتقع لونه، فاعتنقه أبوه واعتنقته. ثم قلنا: ما لك أي بني. قال: أتاني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني ثم شقا بطني، فوالله ما أدري ما صنعا. قالت: فاحتملناه فرجعنا به. قالت: يقول أبوه: والله يا حليمة ما أرى هذا الغلام إلا قد أصيب، فانطلقي فلنرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف عليه. قالت: فقلت: لا والله إنا كفلناه وأدينا الحق الذي يجب علينا فيه، ثم تخوفت الأحداث عليه. فقلت: يكون في أهله. قالت: فقالت أمه: والله ما ذاك بكما فأخبراني خبركما وخبره. قالت: فوالله ما نالت بنا حتى أخبرناها خبره فقالت: ¬

(¬1) جفر: الصبي إذا انتفخ لحمه وأكل. وستا هنا- والله أعلم- المقصود ستة أشهر، وإن كانت في رواية ابن هشام فلم يبلغ سنتين.

فتخوفتما عليه؛ كلا والله إن لابني هذا لشأنا، ألا أخبركما عنه! إني حملت به فلم أر حملا كان أخف ولا أعظم بركة منه، ثم رأيت نورا كأنه شهاب خرج مني حين وضعته أضاءت لي أعناق الإبل ببصرى، ثم وضعته فما وقع كما تقع الصبيان، وقع واضعا يده بالأرض، رافعا رأسه إلى السماء، دعاه والحقا بشأنكما) (¬1). قال ابن إسحاق: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أنا أعربكم، أنا قرشي واسعترضعت في بني سعد بن بكر». وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه (¬2)، ثم أعاده إلى مكانه وجاء الغلمان يسمعون إلى أمه (يعنى ظئره) (¬3) فقالوا: إن محمدا قد قتل. فاستقبلوه وهو منتقغ اللون (¬4) قال أنس: كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره) (¬5). وعن كندي بن سعد عن أبيه قال: ¬

(¬1) رواه أبو يعلى والطبراني بنحوه ورجالهما ثقات .. وانظر مجمع الزوائد 8/ 220، 221. وهو عند ابن هشام في السيرة 1/ 162 - 165. (¬2) لأمه: ضمه بعضه إلى بعض. (¬3) ظئره: مرضعته. (¬4) منتقع لونه: متغير لونه. (¬5) رواه مسلم ك. الإيمان 1/ 74/ 261.

(حججت في الجاهلية، فإذا رجل يطوف في البيت وهو يرتجز ويقول: رب رد راكبي محمدا ... رده لي واصطنع عندي يدا قلت: من هذا يعني. قال: عبد المطلب بن هاشم ذهبت إبل له فأرسل ابن ابنه في طلبها فاحتبس عليه، ولم يرسله في حاجة قط إلا جاء بها. قال: فما برحت حتى جاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاء بالإبل. فقال: يا بني: لقد حزنت عليك كالمرأة حزنا لا يفارقني أبدا) (¬1). «وعن أم أيمن قالت: (كنت أحضن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أي أقوم بتربيته) فغفلت عنه يوما فلم أدر إلا بعبد المطلب قائما على رأسي يقول: يا بركة. قلت: لبيك. قال: أتدرين أين وجدت ابني؟ قلت: لا أدري. قالت: وجدته مع غلمان قريبا من السدرة، لا تغفلي عن ابني فإن أهل الكتاب ومنهم سيف بن ذي يزن (1) يزعمون أنه نبي هذه الأمة، وأنا لا آمن عليه منهم. وكان لا يأكل- يعني عبد المطلب- طعاما إلا يقول: علي بابني فأحضروه. وكان عبد المطلب إذا أتى بطعام أجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنبه، وربما أقعده على فخذه، فيؤثره بأطيب طعامه) (¬2). (قال ابن إسحاق: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع جده عبد المطلب بن هاشم، وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون ¬

(¬1) مجمع الزوائد 8/ 224 وقال الهيثمي: رواه أبو يعلي والطبراني وإسناده حسن. (¬2) السيرة الحلبية 1/ 180.

حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له. قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي وهو غلام جفر، حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب: إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني فوالله إن له لشأنا، ثم يجلس معه على الفراش، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه ويصنع) (¬1). (قال ابن إسحاق: فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثماني سنين هلك عبد المطلب بن هاشم وذلك بعد الفيل بثمان سنين) (¬2). (وقد قيل له - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله أتذكر موت عبد المطلب؟ قال:: ((نعم: وأنا يومئذ ابن ثمان سنين)) (¬3). (وعن أم أيمن أنها كانت تحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبكي خلف سرير عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين) (¬4). (وقد جاء أنه - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة ونظر إلى تلك الدار- التي نزل بها مع أمه- عرفها وقال: (ها هنا نزلت بي أمي، وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله، وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار)) (¬5). ... ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 168. (¬2) المصدر نفسه 1/ 169. (¬3) السيرة الحلبية 1/ 184. (¬4) سبل الهدى والرشاد للصالحي 2/ 183. (¬5) السيرة الحلبية 1/ 82.

ومن فقه طفولته ويتمه في هذه المرحلة نلحظ ما يلي: 1 - شاءت إرادة الله تعالى أن يجعل نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - يتيما، حتى لا تتدخل يد بشرية في تربيته وتوجيهه كما قال الله تعالى لموسى {واصطنعتك لنفسي ..} (¬1) {.. ولتصنع على عيني} (¬2) فيكون الله تعالى هو الذي يتولى تربيته، ولا يتلقى أو يتلقن من مفاهيم الجاهلية وأعرافها شيئا، إنما يتلقى من لدن الحكيم الخبير. 2 - وحتى يكون من أفصح الخلق، كما قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله ما رأيت أفصح منك. فقال:: ((وما يمنعني، وأنا من قريش وأرضعت من بني سعد)) (¬3)، هيأ الله تعالى له تلك الرضاعة ليحمل إلى البشرية أفصح كتاب في أنصع بيان، واحتاج موسى عليه الصلاة والسلام وهارون وزيرا له ليبلغ الدعوة عنه {وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون} (¬4). 3 - وهناك في الصحراء حيث فصاحة اللسان، وسلامة الجسد وعافيته من وباء المدينة، كان كذلك شق صدره عليه الصلاة والسلام وإخراح العلقة السوداء منه وهي حظ الشيطان منه، ليكون ربانيا خالصا لله سبحانه، فلا أثر لشيطان جن أو شيطان إنس عليه، ويمثل مجامع الحمد في هذا الوجود. ¬

(¬1) سورة طه: 41. (¬2) سورة طه من الآية 39. (¬3) الروض الأنف للسهيلي 1/ 188. (¬4) القصص: 34.

4 - وعاد إلى مكة وقد خلص من حظ الشيطان لينعم بجوار والدته قرابة سنتين، فيلقى حنان الأم ويعاني بعدها فقدان هذا الحنان، ويشهد وفاة أمه في الصحراء حيث يشهد يتما جديدا. وتحتضنه أم أيمن لقد أحسن عليه الصلاة والسلام بمرارة اليتم ذكرى بالنسبة للأب، لكن معاناة بالنسبة للأم، وبكى لفقدان أمه، ثم بكى لفقدان جده، كما شهدته الحاضنة الرؤوم أم أيمن، وبذلك يحس واقعا لا حديثا بآلام اليتامى وأنات المعذبين، فيكون أبا لكل يتيم في هذا الوجود، ويقول كلمته الخالدة:: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)) (¬1). 5 - ولقد من الله تعالى على نبيه بهذا الفضل: {... ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى} (¬2) وذلك وحد أن كرمه بأعظم ما يكربم به مخلوق {ولسوف يعطيك ربك فترضى} (¬3). إنه ابتداء يتيم الأب والأم، فالله تعالى هو الذي آواه، وسخر له جده وعمه لتهيئة الجانب المادي، بينما كانت التربية النفسية الخلقية والفكرية تعهدا ربانيا، ورعاية إلهية، حتى ليشق بطنه، ويغسل بالثلج وماء زمزم بعد نزع حظ الشيطان منه بيد جبريل عليه الصلاة والسلام، وقد وجده الله ضالا فهداه. أو عندما ضل ولقيه ورقة بن نوفل آخذا بغصن شجرة. أو يوم بعثه جده ليحضر الإبل المفقودة وتأخر عنه. أما الجوع والفاقة: ¬

(¬1) أحمد والبخاري. انظر البخاري 9/ 389 في الطلاق وفي الأدب. (¬2) سورة الضحى: 6 - 8. (¬3) سورة الضحى: 5.

(وذكر كون النبي - صلى الله عليه وسلم - في كفالة عمه يكلؤه ويحفظه فمن حفظ الله له في ذلك أنه كان يتيما ليس له أب يرحمه، ولا أم ترأمه (¬1) لأنها ماتت وهو صغير، وكان عيال أبى طالب ضففا (¬2)، وعيشهم شظفا (¬3). فكان يوضع الطعام له وللصبية من أولاد أبي طالب، فيتطاولون إليه، ويتقاصر هو، وتمتد أيديهم، وتنقبض يده تكرما منه لاستحياء ونزاهة نفس، وقناعة قلب، فيصبحون غمصا رمصا (¬4) مصفرة ألوانهم، ويصبح هو- عليه السلام- صقيلا دهينا كأنه في أنعم عيش، وأعز كفاية لطفا من الله- عز وجل- به، كذلك ذكره القتيبي في غريب الحديث) (¬5). وشاء الله تعالى لعبده وأحب خلقه إليه اليتم والفقر ليكون على يديه فيما بعد هداية الإنسانية وشفائها من آلامها المادية كاليتم والفقر، والمعنوية التي تتمثل بالضلال والتيه. ولهذا كان التوجيه الرباني له على ضوء عطائه له. {فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث} (¬6) والدعاة الذين لم يعانوا من هذه الآلام والهموم والمحن، غير ¬

(¬1) ترأمه: تلحظه بعين العطف. (¬2) الضفف: الكثرة. (¬3) الشظف: الظيق. (¬4) غمصا رمصا: عيونهم تسيل من الوسخ والألم. (¬5) الروض الأنف للسهيلي 1/ 192. (¬6) سورة الضحى: 9 - 11.

قادرين على فهمها والإحساس فيها بله معالجتها عندما يملكون ناصية المعالجة. 6 - وفي طفولة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن ننسى تلك البركة التي رافقته منذ المهد. فقد اعشوشبت الأرض، وحفلت أضراع الناقة باللبن، وقويت الأتان، ودر ثدي حليمة رضي الله عنها بعد أن كان ما يبض بقطرة، وكان جده يعرف ذلك منه، وعمه يعرف ذلك منه، وقومه يعرفون ذلك منه. وعندما استسقى عبد المطلب لقومه أخذ بيد ابنه محمد - صلى الله عليه وسلم - معه (¬1)، وعندما استسقى أبو طالب لقريش (أخذه فألصق ظهره بالكعبة ولاذ أي طاف بإصبعه الغلام .. فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدودق، وانفجر له الوادي .. وفي ذلك يقول أبو طالب من قصيدة يمدح بها النبى - صلى الله عليه وسلم -: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل (¬2) والبركة فيض رباني يعطيه الله تعالى لمن أحب من خلقه وكان على طاعته {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} (¬3). ¬

(¬1) الروض الأنف للسهيلي 2/ 28، وقد رواه البستي عن رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم. (¬2) السيرة الحلبية 1/ 190، وعن عائشة رضي الله عنه أنها تمثلت بهذا البيت وأبو بكر رضي الله عنه ينصت: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل فقال أبو بكر رضي الله عنه: ذاك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. انظر مجمع الزوائد 8/ 272 وقال الهيثمي فيه: رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات. (¬3) سورة الأعراف 3/ 96.

الفصل السابع عمله بالرعي والتجارة

الفصل السابع عمله بالرعي والتجارة الرعي: (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:: ((ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم)) فقال أصحابه: وأنت؟ فقال:: ((نعم كنت أرعاها على قراريط (¬1) لأهل مكة)) (¬2). قال ابن إسحاق: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من نبي إلا وقد رعى الغنم)) قيل:: ((وأنت يا رسول الله؟ قال: ((وأنا)) (¬3). قال السهيلى: (وذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من نبي إلا وقد رعى الغنم)) قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: ((وأنا)) وإنما أراد ابن إسحاق بهذا الحديث رعايته الغنم في بني سعد مع أخيه من الرضاعة، وقد ثبت في الصحيح أنه رعاها بمكة أيضا على قراريط لأهل مكة ذكره البخاري، وذكر البخاري عنه أيضا أنه قال: ((ما هممت بشيء من أمر الجهلية إلا مرتين)) ¬

(¬1) قراريط جمع قيراط ويختلف وزنه من مكان لآخر وهو في مكة ربع سدس دينار. (¬2) رواه البخاري ك. الإجارة 2 م 1/ ج 3/ ص 115. ورواه كذلك الإمام أحمد ومالك وأبو داود. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 167.

التجارة

وروى أن إحدى المرتين كان في غنم يرعاها هو وغلام من قريش. فقال لصاحبه: اكفنى أمر الغنم حتى آتي مكة ... وفي المرة الثانية قال لصاحبه مثل ذلك. وألقى عليه النوم فيها كما ألقى في المرة الأولى. ذكر هذا المعنى ابن إسحاق في غير رواية البكائى. وفي غريب الحديث للقتبي:: ((بعث موسى - صلى الله عليه وسلم - وهو راعي غنم، وبعث داود - صلى الله عليه وسلم - وهو راعي غنم، وبعثت وأنا راعي غنم أهلي بأجياد)). وإنما جعل الله هذا في الأنبياء تقدمة لهم، ليكونوا رعاة الخلق، ولتكون أممهم رعايا لهم. وقد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنه ينزع على قليب (¬1) وحولها غنم سود، وغنم عفر (¬2). قال: ثم جاء أبو بكر رضي الله عنه فنزع نزعا ضعيفا والله يغفر له. ثم جاء عمر فاستحالت غربا (¬3) (يعني الدلو)، فلم أر عبقريا يفري فريه)) (¬4) فأولها الناس الخلافة لأبي بكر وعمر رضي الله عنه، ولولا ذكر الغنم السود والعفر لبعدت الرؤيا عن معنى الخلافة والرعاية، إذ الغنم السود والعفر عبارة عن العرب والعجم. وأكثر المحدثين لم يذكروا الغنم في هذا الحديث، ذكره البزار في مسنده، وأحمد بن حنبل في مسنده، وبه يصح المعنى، والله أعلم) (¬5). التجارة: عن جابر بن سمرة أو رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كان النبي ¬

(¬1) ينزع على قليب: يمتح الماء من البئر. (¬2) عفر: ما خالط بياض حمرة. (¬3) استحالت غربا: أي علت وفاضت. (¬4) يمتح في سقيه ودلائه. (¬5) الروض الأنف للسهيلي 1/ 193.

- صلى الله عليه وسلم - يرعى غنما، فاستعلى الغنم، فكان في الإبل هو وشريك له فأكريا (¬1) أخت خديجة، فلما قضوا السفر بقي لهم عليها شيء. فجعل شريكه يأتيها فيتقاضاها ويقول لمحمد انطلق فيقول اذهب أنت فإني أستحي، فقالت مرة وأتاهم: فأين محمد؟ قال: قد قلت له فزعم أنه يستحي فقالت: ما رأيت رجلا أشد حياء ولا أعف ولا ولا فوقع في نفس أختها خديجة ..) (¬2). قال الكلاعي: (وذكر الواقدي بإسناد له إلى نفيسة بنت منية أخت ليلى بن منية. وقد رويناه أيضا من طريق أبي علي بن السكن، وحديث أحدهما داخل في حديث الآخر مع تقارب اللفظ، وربما زاد أحدهما الشيء اليسير، وكلاهما ينمي إلى نفيسة: قالت: لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسا وعشرين سنة وليس له بمكة اسم إلا الأمين، لما تكاملت فيه من خصال الخير، قال أبو طالب: يابن أخي أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد علي الزمان، وألحت علينا سنون منكرة، وليس لنا مادة ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيرها، فيتجرون لها في مالها ويصيبون منافع. فلو جئتها، فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضلتك على غيرك، لما بلغها عنك من طهارتك، وإن كنت لأكره أن تأتي الشام وأخاف عليك من يهود، ولكن لا تجد من ذلك بدا. وكانت خديجة رضي الله عنها امرأة تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة ¬

(¬1) أكريا: من الكراء، الاستئجار. أي استأجرتهم أخت خديجة رضي الله عنها لرعي الإبل. (¬2) مجمع الزوائد 9/ 221. وقال الهيثمي: رواه الطبراني دالبزار، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير أبي خالد الوالبي وهو ثقة. ورجال البزار أيضا إلا أن شيخه أحمد بن يحيى الصوفي ثقة ولكنه ليس من رجال الصحيح.

تبعث بها إلى الشام، فيكون عيرها كعامة عير قريش، وكانت تستأجر الرجال وتدفع لهم المال مضاربة، وكانت قريش قوما تجارا، ومن لم يكن تاجرا من قريش فليس عندهم بشيء. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فلعلها ترسل إلي في ذلك)) فقال أبو طالب: إني أخاف أن تولي غيرك، فتطلب أمرا مدبرا. فافترقا وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له. وقبل ذلك ما قد بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته وكرم أخلاقه، فقالت: ما علمت أنه يريد هذا. ثم أرسلت إليه فقالت: إنه دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك. ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقي أبا طالب، وذكر له ذلك فقال: إن هذا لرزق ساقه الله إليك. فخرج مع غلامها ميسرة حتى قدم الشام، وجعل عمومته يوصون به أهل العير .. ثم حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوق بصري فباع سلعته التي خرج بها وأشترى سلعة .. ثم انصرف أهل العير جميعا .. ودخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخبرها بما ربحوا فسرت بذلك .. قالوا: وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتجارتها، فربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت له ما سمت له) (¬1). ... ¬

(¬1) الإكتفاء في مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء لأبي الربيع الكلاعي 1/ 198، وهي في سيرة ابن هشام بدون عرض أبي طالب 1/ 187 - 189.

من فقه عمله كسبه عليه الصلاة والسلام: 1 - ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم. حكمة ربانية يتعلم النبي من خلالها رعاية الأمم صبرا وعناية ورحمة وحماية. بل يرافقه خلق اللين والعطف والحدب {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ..} (¬1) ((السكينة في أهل الشاء)) (¬2). وكما ذكر عليه الصلاة والسلام أن موسى وداود ومحمدا عليهم الصلاة والسلام بعثوا وهم يرعون الغنم. 2 - ورعيه - صلى الله عليه وسلم - كان في طفولته في بادية بني سعد، ثم كان في فتوته بأجياد في مكة على قراريط. وهو أجر زهيد يتكسب به - صلى الله عليه وسلم - ويعف نفسه، ثم كان في التجارة في شبابه وهي دعوة كريمة لكل شاب مسلم وداعية، أن يعمل بجهده، ويكسب من عرق جبينه. فالعمل شرف ولا يضر نوع العمل ولو كان عند الناس وضيعا. لكنه عظيم عند الله عز وجل. فـ ((إن الله يحب المؤمن المحترف)) (¬3) ويحب الذي يأكل من كسب يده ((وأن نبي الله تعالى داود كان يأكل من كسب يده)) (¬4). والداعية الذي يتكفف الناس، ويتطلع إلى أموالهم وأرزاقهم، وينتظر إحسانهم. لن يتمكن من كسب قلوبهم، وتغيير واقعهم، ومن ¬

(¬1) آل عمران: 59. (¬2) رواه البزار وقال الألباني عنه صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 3/ 223 - 3583. (¬3) رواه الطبراني في الكبير والبيهقي عن ابن عمر ح 1873. انظر الجامع الصغير 1/ 224. (¬4) رواه البخاري ك. 34 ب. 15.

أجل هذا وجدنا سنة الله تعالى في الأنبياء جميعا أن يقولوا: {... قل ما سألتكم من أجر فهو لكم ..} (¬1) {وما تسألهم عليه من أجر ..} (¬2) {ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله ..} (¬3) {يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون} (¬4). 3 - ولا شك أن العمل الحر بالنسبة للداعية إلى الله تعالى أعون له على دعوته، وأقوم له على أن يقول الحق ويصدع فيه، وكم من الناس يطأطئون للطغاة، ويسكتون على باطلهم، ويجارونهم في أهوائهم خوفا على وظائفهم عندهم، إنهم يدهنون في دينهم، ويبيعون دينهم بدنياهم، بل يصل الانحراف إلى صميم عقيدتهم حين يرون أن هوتاء الطغاة يرزقون أو يمنعون رزقا، والرازق هو الله تعالى. 4 - وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسادات هوتاء الأصحاب، كانوا يعملون بأيديهم، ويتاجرون للحصول على الرزق الحلال، وذاك عمر رضي الله عنه يقول: (أخفي على أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!! ألهاني الصفق في الأسواق) (¬5). ¬

(¬1) سبأ من الآية 47. (¬2) يوسف:104. (¬3) هود: 29. (¬4) هود:51. (¬5) البخاري ك.34/ 9.

ويقول قتادة رضي الله عنه: (كان القوم يتبايعون ويتجرون، ولكنهم إذا نابهم حق من حقوق الله لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتى يؤدوه إلى الله) (¬1). وتقولي عائشة رضي الله عنها: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمال أنفسهم) (¬2). ... ¬

(¬1) البخاري ك. 34/ 9. (¬2) البخاري ك. 34/ 15.

الفصل الثامن حفظ الله تعالى لنبيه قبل البعثة

الفصل الثامن حفظ الله تعالى لنبيه قبل البعثة لقاؤه مع بحيرا الراهب: عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال: (خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكان قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت قال: فهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أشياخ من قريش ما علمك، فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجدا ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف في كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاما، فلما أتاهم به وكان هو في رعيه الإبل. قال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيىء الشجرة، فلما جلس مال فيىء الشجرة عليه. فقال: انظروا إلى فيىء الشجرة مال عليه، قال: فبينما هو قائم عليهم وهو يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إذا رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه. فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في

أمره بستر عورته

هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس. وإنا قد أخبرنا خبره بعثنا إلى طريقك هذا. فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنما اخترنا خيرة لك لطريقك هذا. قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا. قال: فبايعوه وأقاموا معه. قال: أنشدكم الله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب. فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالا (¬1). وزوده الراهب من الكحل والزيت) (¬2). أمره بستر عورته: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (لما بنيت الكعبة ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي- صلى الله عليه وسلم -: اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة. فخر إلى الأرض، وطمحت عيناه إلى السماء، ثم أفاق فقال: ((إزاري إزاري))، فشد عليه إزاره) (¬3). وقال ابن إسحاق: (وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي- يحدث عما كان الله يحفظه في صغره وأمير جاهليته أنه قال: ((لقد رأيتني في غلمان ¬

(¬1) يقول ابن القيم في كتابه زاد المعاد 1/ 31: ووقع في كتاب الترمذي وغيره أنه بعث معه بلالا. وهذا من الغلط الواضح، فإن بلالا إذ ذاك لم يكن موجودا، وإن كان فلم يكن مع عمه ولا أبي بكر. وذكر البزار في مسنده هذا الحديث ولم يقل: وأرسل معه بلالا، ولكن قال: رجلا. (¬2) رواه الترمذي ك. 64 ب. 3، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وهو في السيرة النبوية لابن هشام قريب من هذا 1/ 180 - 182، وكان سنه - صلى الله عليه وسلم - في الثانية عشرة من عمره. (¬3) رواه البخاري ك. 63 ب. 25.

أمر الجاهلية

قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان (¬1)، كلنا قد تعرى، وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة. فإني لأقبل معهم وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة ثم قال: شد عليك إزارك: فأخذته وشددته علي. ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري علي من بين أصحابي)) (¬2). أمر الجاهلية: (وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من الغناء إلا ليلتين، كلتاهما عصمني الله عز وجل فيهما، قلت ليلة لبعض فتيان مكة- ونجن في رعاء غنم أهلها- فقلت لصاجي: أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة أسمر فيها كما يسمر الفتيان. فقال بلى. قال: فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة، فسمعت عزفا بالغرابيل والمزامير فقلت: ما هذا؟ قالوا: تزوج فلان فلانة. فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فولله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئا، ثم أخبرته بالذي رأيت. ثم قلت ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر ففعل، فدخلت، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فسألت فقيل ¬

(¬1) يقول السهيلي: وهذه القصة إنما وردت في الحديث الصحيح في حين بنيان الكعبة، وحديث ابن إسحاق إن صح أنه كان ذلك في صغره، إذ كان يلعب مع الغلمان فحمله على أن هذا الأمر كان مرتين: مرة في حال صغره، ومرة في أول اكتماله عند بنيان الكعبة. انظر الروض الأنف للسهيلي 1/ 308، 309. وقد أورده البخاري في ك: مناقب الأنصار. باب بناء الكعبة م 2، ج 5، ص 51. كما أورده في كتاب الصلاة وكتاب الحج. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 183.

نكح فلان فلانة. فجلست أنظر، وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: لا شيء ثم أخبرته الخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله تعالى بنبوته)) (¬1). وذكر الواقدي عن أم أيمن قالت: كانت بوانة صنما تحضره قريش وتعظمه وتنسك له، وتحلق عنده، وتعكف عليه يوما إلى الليل كل سنة، فكان أبو طالب يحضره مع قومه، ويكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحضر ذلك العيد معهم فيأبى ذلك، قالت: حتى رأيت أبا طالب غضب عليه، ورأيت عماته غضبن يومئذ أشد الغضب وجعلن يقلن: إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا. ويقلن: ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا، ولا تكثر لهم جمعا؟! فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله، ثم رجع مرعوبا فزعا، فقلن له: ما دهاك؟ قال: ((إني أخشى أن يكون بي لمم)). فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك. فما الذي رأيت؟ قال: ((إني كلما دنوت من صنم تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: وراءك يا محمد لا تمسه)). ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثر 1/ 311، 312، وقد رواه عن البيهقي بسنده عن ابن إسحاق وقال: وشيخ ابن إسحاق هذا ذكره ابن حبان في الثقات. و (زعم) بعضهم أنه من رجال الصحيح، قال شيخنا في تهذيبه: ولم أقف على ذلك والله أعلم. وقد رواه الحاكم وقال عنه صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبى 4/ 254.

وقوفه بعرفات

قالت: فما عاد إلى عيد لهم حتى نبىء صلوات الله عليه) (¬1). وذكر البخاري عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما هممت بسوء من أمر الجاهلية إلا مرتين)). وقوفه بعرفات: وثبت في الحديث أنه كان لا يقف بالمزدلفة ليلة عرفة. بل كان يقف مع الناس بعرفات. كما قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق ... عن جبير ابن مطعم قال: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على دين قومه، وهو يقف على بعير له بعرفات (¬2) من بين قومه حتى يدفع معهم، توفيقا من الله عز وجل .. وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن .... عن جبير بن مطعم قال: أضللت بعيرا لي بعرفة فذهبت أطلبه، فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - واقف. فقلت: إن هذا من الحمس ما شأنه هاهنا؟ وأخرجاه من حديث سفيان بن عيينة عنه) (¬3). ... وهذه الرعاية الربانية في غنى عن أي تعليق. فهو مصطفاه الذي برأه ورعاه منذ أن كان يتنقل في الأرحام الطاهرات، وما ناله من سفاح الجاهلية شيء إلى أن تولاه بالوحي والرسالة، إلى أن مضى إلى الرفيق الأعلى. ¬

(¬1) الاكتفاء للكلاعي 1/ 194. (¬2) كانت قريش تقف بمزدلفة بدل الوقوف بعرفات تمييزا لنفسها عن غيرها ابتداعا من عندها وخروجا على ملة إبراهيم. (¬3) البدايه والنهاية لابن كثير 1/ 312.

الفصل التاسع مشاركته في أحداث قومه

الفصل التاسع مشاركته في أحداث قومه حضوره حرب الفجار (¬1): قال ابن إسحاق: هاجت حرب الفجار ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن عشرين سنة وإنما سمي حرب الفجار؛ بما استحل هذان الحيان- كنانة وقيس عيلان- فيه من المحارم بينهم وكان قائد قريش وكنانة حرب بن أمية بن عبد شمس، وكان الظفر في أول النهار لقيص على كنانة، حتى إذا كان وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس) (¬2). (وقال ابن هشام: فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة فيما حدثني به أبو عبيدة النحوي عن أبي عمرو بن العلاء هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معهم من كنانة وبين قيس عيلان ...) (¬3). وشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض أيامهم أخرجه أعمامه معهم. وقال ¬

(¬1) الفجار (بكسر الفاء) بمعنى المفاجرة كالقتال بمعنى المقاتلة، وسميت بذلك لأن قتالهم كان في الشهر الحرام ففجروا جميعا. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 186، 187. (¬3) المصدر نفسه 1/ 184.

شهوده حلف الفضول

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كنت أنبل على أعمامي أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها)) (¬1). (ووضعت الحرب أوزارها، فانصرفت قريش وقيس. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر الفجار فقال: ((قد حضرته مع عمومتي، ورميت فيه بأسهم، وما أحب أني لم أكن فعلت)) (¬2). (وكان أبو طالب يحضر أيام الفجار، وكانت أربعة أيام ومعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غلام، فإذا جاء هزمت قيس، وإذا لم يجيىء هزمت كنانة، فقالوا: لا أبا لك لا تغب عنا ففعل) (¬3). شهوده حلف الفضول: قال ابن هشام: وأما حلف الفضول فحدثني زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق قال: (تداعت قبائل قريش إلى حلف، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان .. لشرفه وسنه، فكان حلفهم عنده: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلهما من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته. فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول) (¬4). ¬

(¬1) المصدر نفسه 1/ 186. (¬2) الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 81. (¬3) السيرة الحلبية 1/ 208. (¬4) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 134.

(قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبيد الله بن عوف الزهري يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت)) (¬1). (قال السهيلي: ولكن في الحديث ما هو أقوى منه وأولى. روى الحميدي عن سفيان عن عبد الله عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن ترد الفضول إلى أهلها، وألا يعز ظالم مظلوما)). وكان حلف الفضول بعد الفجار، وذلك أن حرب الفجار كانت في شعبان، وكان حلف الفضول في ذي القعدة قبل المبعث بعشرين سنة) (1). وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب. وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب، وكان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل فحبس عنه حقه. فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف (¬2) .. فأبيا أن يعينوه وزبروه- أي انتهروه- فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي ما قبيس عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة فنادى بأعلى صوته: ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 134. (¬2) عدد من القبائل في مكة تحالفت مع بعضها وسميت بذلك وهي مخزوم وعدي وسهم وجمح وعبد الدار وكعب.

بناء الكعبة والتحكيم

يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحجر والحجر إن الحرام لمن تمت كرامته ... ولا حرام لثوب الغادر الفجر فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مترك. فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما، وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه .. ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه) (¬1). (وعن عبد الرحمن بن عوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه)) (¬2). بناء الكعبة والتحكيم: (ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خسما وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة. قال موسى بن عقبة: وإنما حمل قريشا على ذلك أن السيل كان أتى من فوق الردم الذي صنعوا فأخربه، فخافوا أن يدخلها الماء) (¬3). ¬

(¬1) الروض الأنف للسهيلي 1/ 155، 156. (¬2) رواه أحمد وأبو يعلى والبزار ورجاله رجال الصحيح، انظر مجمع الزوائد 8/ 172. (¬3) الاكتفاء بمغازي المصطفى للكلاعي 1/ 205.

قال ابن إسحاق: وكانوا يهمون بذلك ويهابون هدمها. وإنما كانت رضما (¬1) فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها. وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة .. وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها، فأعدوه لتسقيفها. وكان بمكة رجل قبطي نجار، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها. فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها قام أبو وهب بن عمرو بن .. مخزوم، فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلاطيبا، لا يدخل فيها من بغي ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس. ثم إن قريشا جزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم، وقبائل من قريش انضموا إليهم. وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار ولبني أسد ولبني عدي وهو الحطيم. ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن، فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى تحاوزوا (¬2) وتحالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم، فكانت قريش ¬

(¬1) رضما: حجارة ينضد بعضها فوق بعض. (¬2) تحاوزوا: انحازت كل قبيلة إلى جهة.

على ذلك أربع ليال أو خمسا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد، وتشاوروا وتناصفوا. فزعم أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة .. وكان عامئذ أسن قريش كلها قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا، فكان أول داخل عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما رأوه قالوا: هذا الأمين. رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((هلم إلي ثوبا)) فأتي به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا حتى إذا بلغوا موضعه، وضعه هو بيده، ثم بنى عليه) (¬1). وقال الإمام أحمد: عن السائب بن عبد الله، أنه كان فيمن بنى الكعبة في الجاهلية قال: وكان لي حجر، أنا نحته أعبده من دون الله، كنت أجيىء باللبن الخاثر الذي آنفه على نفسي فأصبه عليه، فيجيىء الكلب فيلحسه، ثم يشغر فيبول عليه قال: فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر ولا يرى الحجر أحد. فإذا هو وسط أحجارنا مثل رأس الرجل، يكاد يترايا منه وجه الرجل. فقال بطن من قريش نحن نصنعه. وقال آخرون نحن نصنعه. فقالوا: اجعلوا بينكم حكما. فقالوا: أول رجل يطلع من الفج. فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أتاكم الأمين. فقالوا له. فوضعه في ثوب، ثم دعا بطونهم فرفعوا نواحيه فوضعه هو - صلى الله عليه وسلم -) (¬2). ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 192 - 197. (¬2) مسند الإمام أحمد 3/ 425.

وإلى قضية التحكيم يشير هبيرة بن أبي وهب المخزومي: تشاجرت الأحياء في فصل خطبة ... جربت بينهم بالنحس من بعد أسعد تلاقوا بها بالبغض بعد مودة ... وأوقد نارا بينهم شر موقد فلما رأينا الأمر قد جد جده ... ولم يبق شيء غير سل المهند رضينا وقلنا العدل أو طالع ... يجيء من البطحاء من غير موعد ففاجأنا هذا الأمين محمد ... فقلنا رضينا بالأمين محمد (¬1) ... ومن فقه هذين الفصلين نلحظ ما يلي: 1 - ظاهرة بشارة أهل الكتاب والكهان برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بلغت حد التواتر ومعرفته بشخصه - صلى الله عليه وسلم - أنه نبي هذه الأمة، ومحاولات اليهود والكهان قتله، أمر أصبح من الشهرة والاستفاضة بحيث لا يغيب على بال أي باحث. ومحمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المقدسة. أصبح موضع تآليف كتب في هذا المجال، والقاعدة الأساسية فيه ذكر القرآن الكريم لهذا الأمر: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} (¬2) وما لقاء بحيرا الراهب مع رسول الله في هذا السن المبكر، ولقاء نسطورا الراهب بعد ذلك، وموقف ورقة بن نوفل إلا بعض النماذج التي تؤكد هذا المعنى. ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام هامش 1/ 197. (¬2) البقرة: 146.

2 - وحفظ الله تعالى نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - من أمر الجاهلية. سواء أكان ذلك في ستر عورته أم كان في إلقاء النوم عليه يوم قرر السمر في مكة، أم كان في بعده عن الأصنام وبغضه لها، أم كان في وقوفه في عرفات من دون قومه، وهو درس لكل داعية في الأرض أن يكون على منهج الله تعالى في سلوكه وعمله، ولو كلفته الاستقامة على هذا المنهج، العنت من الناس، واللوم والإعراض منهم، والأذى والتشهير كذلك. وبعد الآيات البينات من القرآن الكريم والسنة المطهرة فلا عذر للداعية في مجاراة قومه في منكر عاداتهم، وضلال سلوكهم، وانحراف عقيدتهم. وما لم يكن الداعية قواما على الحق في قومه، فلن يستطيع أن يقودهم إلى النور، ويخرجهم من الظلمات، والتميز والمفاصلة في السلوك والموقف والعقيدة. أمر أساسي بالنسبة للدعاة إلى الله. والذين يضعفون أمام إغراءات الجاهلية يسقطون في مجتمعاتهم قبل أن يسقطوا في نفوسهم. 3 - لكن هناك خطا فاصلا واضحا يحسن أن يتبينه الدعاة إلى الله؛ هذا الخط هو الذي يحدد التعامل مع المجتمع الذي يعيشون فيه، فالمشاركة في أمور الخير والعمل لدفع الأذى والظلم، والعطف على آلام الناس والشعور بأحاسيسهم والتعايش مع أفراحهم، والموأساة في أحزانهم- ما لم يكن في ذلك منكر أو إثم- هذه واجبات على الداعية أن يؤديها، ويساهم فيها، وليست تفضلا يتفضل به على الناس.

هذا الخط الواضح يمكن أن نعبر عنه بكلمة جامعة هو المشاركة في الفضائل، والتنزخ عن الجهالات (¬1) والرذائل، والترفع عن سفاسف الأمور، ومباذلها الرخيصة. نفقه ذلك من خلال مشاركة النبى - صلى الله عليه وسلم - لقومه في حرب الفجار، وبناء الكعبة وحلف الفضول، والتحكيم في الحجر الأسود، وهو المحفوظ من الله تعالى، والمصنوع على عينه. فلو كان في هذه الأمور خطأ أو خلل لنزه الله تعالى نبيه عن ذلك، كما رأينا في الفقرة الأولى في صرفه عليه الصلاة والسلام من ربه عن انحرافات الجاهلية وعباداتها وعقائدها وممارساتها. 4 - والمشاركة للناس في أفراحهم وأحزانهم خاصة، لها أثر طيب في نفوسهم. وليس الأصل الامتناع عن المشاركة حين يكون فيها بعض المنكرات، بل الأصل محاولة إزالة هذه المنكرات، والمشاركة بعد ذلك وقد يكون جاه الداعية في مجتمعه لاحترامه وتقديره هو الذي يحول دون وجود هذه المنكرات لو حضر مثل هذه المناسبات، لكنه عندما ينعزل عن مجتمعه وبيئته يستسهل الناس اقتراف المنكر، والتسمك بالعادات الذميمة، وفي الوقت نفسه تكبر الفجوة بينهم وبين الداعية ويسقطونه من حسابهم. ¬

(¬1) لا بد من الإشارة إلى أننا متعبدون فيما ورد به نص بعد الوحي من أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما من قضية حفظ الله تعالى بها نبيه ووجهه إليها إلا كان لها التأييد من الكتاب والسنة. فيما بعد .. وحين يتعارض نص شرعي من الكتاب والسنة مع سلوك نبوي قبل البعثة فالأصل الالتزام بالنص.

لقد بقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - يلعب مع الغلمان مشدودا عليه إزاره وحده من دون رفاقه، وبقي يشارك في بناء الكعبة مع لداته وأعمامه وقد شد عليه إزاره وستر عورته- ولم يكن أوحي إليه بعد أو أمر بالتبليغ والدعوة-. 5 - بينما ألقي عليه النوم - صلى الله عليه وسلم - حين مضى يسمر في مكة مع السامرين. وحيل بينه وبين سماع اللهو والمعازف، فلا ينفع في هذه الأمور الحلول الوسط، والتساهل من الدعاة في هذه الجوانب هو الذي مكن من التساهل في استعمال التلفاز في كل بيت، وهو الذي يحوي الغث والثمين، والمعازف فيه تكاد تملأ معظم برامجه، وقلما ينجو من إثم هو أو أحد أهل بيته وهو يستمع لها أو يسكت على سماعها. 6 - وحضور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحلف الفضول وهو من الممثلين لبني هاشم فيه مع أعمامه وهو الفتى الحدث، فقد كان عمره قرابة العشرين عاما، ليدل دلالة واضحة على رجحان وزنه في قومه، ومدى شعوره بالتزامه بمبادىء هذا الحلف، خاصة أن الذي دعا له عمه الزبير بن عبد المطلب. ولو أعطي حمر النعم فلن ينكث فيه، ولو دعي فيه في الإسلام لأجاب، فقد كان الحلف المذكور واحة في تيه الجاهلية التي تنطلق من نصرة الأخ ظالم أو مظلوم. وكان توطئة لقدوم الإسلام الذي ضرب الجاهلية من جذورها وأتاهما من قواعدها. وما أحوج الدعاة إلى الله أن يفقهوا هذا الدروس، فيكونوا المنارة الهادية في مجتمعهم في محاربة الظلم، ومواجهة الظالمين، ودفع الأذى عن المضطهدين والمظلومين.

فقد يكون الدعاة في مجتمع لا تحكمه شريعة الله، وقد يكونون في مجتمع يحارب الدعاة إلى الله ويسعى الطغاة فيه لإبادتهم، فلا يجوز أن يقف الدعاة في مثل هذه الحالة مكتوفي الأيدي، ينتظرون التصفية والإبادة، لا بد أن يتحركوا تحت أي ستار يصلون من خلاله إلى حمايتهم، وحماية دعوتهم، وإذا كانت القوانين السائدة، والأعراف الحاكمة تهيىء لهم هذه الحماية، وتمنع عنهم هذه التصفية، فحري بهم أن يستفيدوا منها، ويدفعوا المجتمع إلى التحرك من خلالها لحماية الدعوة ونصر المستضعفين. إن الظلم مرفوض بأي صورة من الصور، ولا يشترط الوقوف ضد الظالمين فقط عندما ينالون من الدعاة إلى الله، بل مواجهة الظالمين قائمة، ولو وقع الظلم على أقل الناس، وأبعدهم عن الدعوة، لأن منع الظلم في كل أشكاله هو الذي يحول دون وصوله إليهم ونحرهم بمديته. ويبقى هذا المبدأ العظيم الخالد هو الذي يحكم الدعاة في كل عصر. (أ) ((ما أحب أن لي به حمر النعم)) لما يحقق من عدل، ويمنع من ظلم، أو النكث به مقابل حمر النعم. (ب) ((ولو دعيت به في الإسلام لأجبت)) طالما أنه يردع الظالم عن ظلمه. وأن يكون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمر النعم، وتكون قد فاتته هذه المآثر لما أحب ذلك. 7 - والخلق الكريم الذي حبا الله تعالى به نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وما زال يزكو وينمو

حتى أصبح محط أنظار مجتمعه، وصار مضرب المثل فيهم، حتى ليلقبوه بالأمين. وتهفو قلوب الرجال والنساء إليه على السواء- رغم العجيج الفارغ للمتبذلين والفاسقين- يعطينا صورة حية عن قيمة الأخلاق في المجتمع، وعن احترام صاحب الخلق ولو في المجتمع المنحرف. وهذه المقدمات هي التي مكنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - من إيقاف حرب مدمرة في قومه من خلال التحكيم في وضع الحجر الأسود، فقد اغتبط الجميع أن كان الداخل الأمين، وأعلنوا رضاءهم بحكمه قبل أن يصدر حكمه لثقتهم بنزاهته، وتجرده وموضوعيته. كيف استطاع بعبقريته - صلى الله عليه وسلم - أن يطرح بهذه البداهة والحكمة والحزم فكرة وضع الحجر في الثوب، ومساهمة الجميع في حمله وتشرفهم في وضعه في مكانه. لقد كان جزءا من قومه حين وقع الاعتداء عليهم، فدافع عنهم، ورمى بأسهم وأنبل لأعمامه في حرب الفجار. وكان جزءا من قومه يوم شارك في عقد حلف الفضول وأن يكونوا يدا واحدة على الظالم، وحمى قومه من حرب عنيفة قد تأكل الأخضر واليابس، وأحل الوئام مكان الخصام، وغدا قلب مجتمعه، وصاحب السيادة فيه. ولا بد أن يكون الداعية في مجتمعه إذن إيجابيا فاعلا، يفتقده الناس إذا غاب، ويصغون له ويطيعونه إذا حضر، لا أن يكون رقما من الأرقام على هامش الأحداث في بيئته ومجتمعه.

وحين يكون صاحب الكلمة الفصل فيهم عن حب وإعجاب واحترام، يكون قادرا على أن يوظف هذا الجاه كله لخدمة دعوته، ولنشر الإسلام في صفوف عشيرته وقومه، ويكون قد هيأ الأرض الخصبة للبذرة الصالحة التي يغرسها فتنمو وتترعرع، ثم تزهر وتثمر، وتعطي أحسن الجني، وأطيب الثمار. 8 - ويستوقف المسلم قول أبي وهب بن عمرو بن مخزوم: (لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس). فقد كان الجاهليون يدكرون في حسهم مفهوم الحلال والحرام، وحين يقدمون على أمثال هذه المعاملات- المذكورة آنفا- يعلمون أنهم يقدمون على إثم أو على شيء خبيث، ومن أجل ذلك وتشريفا للكعبة- زادها الله شرفا- حرصوا على أن لا يدخل في بنائها هذا المال الحرام، الذي هو ثمرة زنا أو ربا أو مظلمة لأحد من الناس، وهذا خبيث كله لأن غيره هو الكسب الطيب. وإن كان الجاهليون يدركون هذه المعاني من حيث الفطرة السوية التي تنفر من هذا الخبيث كله، والتي تعرف أنه ظلم وبغي، أو يدركونه من بقايا الحنيفية دين إبراهيم، وهي الفطرة الأولى {ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} (¬1) فالنتيجة واحدة، والممارسات الخاطئة ¬

(¬1) الأنعام من الآية 161.

لا تحول الخبيت طيبا، والحرام حلالا، وما يدعيه اليوم دعاة الجاهلية الحديثة في تبرير الزنا، وأنه عملية بيولوجية بحتة، لا علاقة لها بالآخرين، طالما أنها تمت برضا الطرفين، ويشرعون القوانين في تحليلها وما يدعونه في تبرير الربا وأنه حق مكتسب للمال ويشرعون القوانين لإحلاله .. ليس هذا الادعاء أو هذا التشريع قناعة قائمة في النفس، بمقدار ما هو تغطية وتبرير للظلم، يعرفون في أعماقهم حرمته {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} (¬1). ... ¬

(¬1) النمل من الآية 14.

الفصل العاشر زواجه من خديجة

الفصل العاشر زواجه من خديجة (قال ابن إسحاق: (.. فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به، فأضعف أو قريبا، وحدثها ميسرة عن قول الراهب .. وعما كان يرى من إظلال الملكين له، وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة، مع ما أراد الله بها من كرامته. فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها به، بعثت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له- فيما يزعمون-: يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك، وسطتك (¬1) في قومك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، كل قومها كان حريصا على ذالك منها لو يقدر عليه. فلما قالت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر ذلك لأعمامه فخرج معه عمه حمزة (¬2) بن عبد المطلب رضي الله عنه، حتى دخل على خويلد بن أسد، ¬

(¬1) سطتك في قومك: شرفك وسامي منزلتك. (¬2) ويقال إن الذي نهض معه - صلى الله عليه وسلم - هو أبو طالب وهو الذي خطب خطبة النكاح، وكان مما قاله في تلك الخطبة: أما بعد فإن محمدا لا يوازن به فتى من مريش إلا رجح به شرفا ونبلا وعقلا =

فخطبها إليه فتزوجها) (¬1) .. (وعن نفيسة بنت منية قالت: كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة، وهي يومئذ أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة، كل قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوها وذكروا لها الأموال فلم تقبل. فأرسلتني دسيسا (¬2) إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد أن رجع في عيرها من الشام، فقلت: يا محمد ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ((ما بيدي ما أتزوج به)) قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاية ألا تجيب؟ قال: ((فمن؟)) قلت: خديجة. قال: ((وكيف لي بذلك؟)) قلت: بلى وأنا أفعل، فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه أن ائت الساعة كذا كذا، فأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها، فحضرت، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمومته فزوجه أحدهم) (¬3). وعن ابن عباس فيما يحسب حماد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ذكر خديجة وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه، فصنعت طعاما وشرابا فدعت أباها ونفرا من قريش فطعموا وشربوا حتى ثملوا، فقالت خديجة: إن محمد بن عبد الله يخطبني ¬

= وفضلا. وإن كان في المال قل، فإنما المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد، ولها فيه مثل ذلك. فقال عمرو (أخوها): هو الفحل الذي لا يقدع أنفه فأنكحها منه. الروض الأنف للسهيلي 1/ 213. (¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 188، 189. (¬2) دسيسا: خفية. (¬3) السيرة الحلبية 1/ 223، 224.

فزوجني إياه فزوجها إياه فخلقته (¬1)، وألبسته حلة، وكذلك كانوا يفعلون بالآباء. فلما سري عنه سكره نظر فإذا هو مخلق وعليه حلة. فقال: ما شأني؟ ما هذا؟ قالت: زوجتني محمد بن عبد الله. فقال: أنا أزوج يتيم أبي طالب لا لعمري. قالت خديجة: ألا تستحي تريد أن تسفه نفسك عند قريش تخبر الناس أنك كنت سكران، فلم تزل به حتى رضي) (¬2). (وعن عمار بن ياسر أنه كان إذا سمع يتحدث به الناس من تزوج رسول الله خديجة يقول: أنا أعلم الناس بتزويج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياها. كنت من إخوانه، فكنت له خدنا وإلفا في الجاهلية، وإني خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فمررنا على أخت خديجة، وهي جالسة على أدم لها، فنادتني، فانصرفت إليها، ووقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: أما لصاحبك في تزوج خديجة حاجة؟ فأخبرته، فقال: ((بلى لعمري))، فرجعت إليها فأخبرتها بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالت: أغد علينا إذا أصبحت غدا، فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة، وألبسوا أبا خديجة حلة، وضربوا عليه قبة، فكلمت أخاها فكلم أباها، وأخبرته برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبمكانه، وبأنه سأل أن يزوجه خديجة، فزوجه، فصنعوا من البقرة طعاما، فأكلنا منه، ونام أبوها ثم استيقظ، فقال: ما هذه الحلة، وهذه القبة، وهذا الطعام. قالت له ابنته التي كلمت عمارا هذه الحلة كساكها محمد بن عبد الله ختنك، وهذه بقرة أهداها لك فذبحناها حين زوجته خديجة، فأنكر أن يكون زوجه. وخرج ¬

(¬1) فخلقته: أي ضمخته بطيب. (¬2) مجمع الزوائد 9/ 220 وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد والطبراني رجال الصحيح.

حتى جاء الحجر، وجاءت بنو هاشم حين جاؤوا. فقال: أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته. فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونظر إليه قال: إن كنت زوجته، وإلا فقد زوجته) (¬1). (وعن جابر بن سمرة أو رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرعى غنما، فاستعلى الغنم فكان في الإبل هو وشريك له فأكريا أخت خديجة، فلما قضوا السفر بقي لهم عليها شىء، فجعل شريكه يأتيها فيتقاضاها ويقول لمحمد: انطلق. فيقول: ((اذهب أنت فإني أستحي)). فقالت مرة وأتاهم، فأين محمد؟ قال: قد قلت له فزعم أنه يستحي. فقالت: ما رأيت رجلا أشد حياء ولا أعف ولا ولا .. فوقع في نفس أختها خديجة، فبعثت إليه فقالت: ائت أبي فاخطبني، قال: ((أبوك رجل كثير المال وهو لا يفعل)) قالت: انطلق فالقه فكلمه فأنا أكفيك، وائت عند سكره، ففعل فأتاه فزوجه، فلما أصبح جلس في المجلس فقيل له: أحسنت زوجت محمدا. فقال: أوقد فعلت؟ قالوا: نعم. فقام فدخل عليها فقال: إن الناس يقولون إني قد زوجت محمدا. قالت: بلا، فلا تسفهن رأيك فإن محمدا كذا فلم تزل به حتى رضي، ثم بعثت إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - بأوقيتين من فضة، أو ذهب وقالت: اشتر حلة واهدها لي، وكبشا وكذا وكذا ففعل) (¬2). ¬

(¬1) مجمع الزوائد 9/ 221. وقال الهيثمي رواه الطبراني والبزار وفيه عمر بن أبي بكر المؤملي وهو متروك. (¬2) مجمع الزوائد 9/ 221 وقال الهيثمي: رواه الطبراني والبزار ورجال الطبراني رجال الصحيح غير أبي خالد الوالبي وهو ثقة، ورجال البزار أيضا إلا أن شيخه أحمد بن يحيى الصوفي ثقة، ولكنه ليس من رجال الصحيح.

قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نوفل- وكان ابن عمها وكان نصرانيا قد تتبع الكتب، وعلم من علم الناس- ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب، وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه. فقال ورقة: لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الأمة. قد عرفت إنه كائن لهذه الأمة نبي هذا زمانه. فجعل ورقة يستبطئ الأمر، ويقول: حتى متى؟! وقال في ذلك: لججت وكنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعثالنشيجا ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا ببطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا بما خبرتنا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا بأن محمدا سيسود يوما ... ويخصم من يكون له حجيجا) (¬1) 1 - (وكانت خديجة يومئذ أوسط قريش نسبا وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه). ولا غرو فهي التي كانت تسمى الطاهرة في قومها. وقد أعدها الله تعالى لنبيه. لتكون أكبر سند له في دعوته، ويكون مالها قربى في سبيل الله، ويكفيهما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها: ((خير نسائها مريم بنت عمران، ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 191، 192.

وخير نسائها خديجة)) (¬1) وأشار وكيع إلى السماء والأرض وقوله: ((حسبك من نساء العالمين: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون)) (¬2). وحاجة الداعية المجاهد في سبيل الله إلى المرأة العاقلة الشريفة التي تستوعبه وتعيش همومه أكثر من حاجته إلى الفتاة الصغيرة التي تحتاج لرعايته وعنايته وتربيته. 2 - (يابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك في قومك، وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك ...) فهي التي اختارت زوجها رضي الله عنها، وهيأت الأسباب والرسل لزواجها، وذللت الصعاب، والعوائق أمامها لإتمام هذا الزواج، وسخرت أختها وصديقتها نفيسة بنت منبه وأخاها لذلك، وهي الطاهرة المصونة العفيفة التي يحلم كل قرشي بها، ولم يمنعها فقر النبي - صلى الله عليه وسلم - من زواجها، بل بعثت له بما يحتاجه لخطبتها. إنه درس لكل امرأة مسلمة داعية، أن تعرف من تختار ليكون زوجا لها، وعلى من توافق ليكون شريك حياتها ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) (¬3). ¬

(¬1) متفق عليه البخاري 6/ 339 ومسلم (2430). (¬2) إسناده صحيح وأخرجه الترمذي (3888) وصححه. انظر شرح السنة للبغوي 4/ 157/ 3955. (¬3) الترمذي والحاكم عن أبي هريرة، وقال الألباني: حديث حسن. صحيح الجامع الصغير وزيادته 1/ 134 ح 267.

ولا ينقص من شأنها أن تسعى لذلك، ولا يخرم مروءتها أن تهيىء السبل لذلك، وأن لا يكون المال أو المنصب أو الجاه أو الجمال فقط هي القيم التي تنطلق منها المرأة المسلمة. إنه الدين أولا، والخلق ثانيا. ولو كان ذا فقر مدقع أو غرم مفظع. 3 - (أما بعد فإن محمدا مما لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به شرفا ونبلا وعقلا وفضلا. وإن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة). فقد أدرك هذا المعنى أبو طالب على جاهليته، وكان لقيم الخلق والشرف والنبل وزن أكبر من المال الوفير والجاه العريض، وقيمه أبو طالب بأنه ظل زائل، وعارية مسترجعة. فهل يدرك إخواننا وأخواتنا هذه المعاني التي أدركها الجاهليون قبل الإسلام، وينطلقون في زواجهم من هذه الأحكام؟! 4 - إن الجانب الديني في سعي خديجة الحثيث، رضي الله عنها لتتزوج من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبدو واضحا إلا من خلال الفقرة الأخيرة. فهي تتابع الإرهاصات واحدة تلو الأخرى (¬1)، لقاء الراهب ¬

(¬1) ذكر الفاكهي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان عند أبي طالب، فاستأذن أبا طالب في أن يتوجه إلى خديجة- أي ولعله بعد أن طلبت منه - صلى الله عليه وسلم - الحضور إليها وذلك قبل أن يتزوجها- فأذن له، وبعث بعده جارية له يقال لها نبعة. فقال: انظري ما تقول له خديجة، =

نسطورا، قصة الملكين اللذين يظللانه كما روى لها ميسرة خادمها. حديث ورقة، وأمله أن تكون قد تزوجت بنبي هذه الأمة. كما رواه ابن إسحاق يؤكد هذا المعنى. وفي السيرة الحلبية. (كانت لنساء قريش عيد يجتمعن فيه في المسجد، فاجتمعن يوما فيه، فجاءهن يهودي وقال: أيا معشر نساء قريش، إنه يوشك أن يكون فيكن نبي قرب وجوده. فأيكن استطاعت أن تكون له فراشا فلتفعل. فحصبته النساء، وقبحنه، وأغلظن له. وأغضت خديجة على قوله، ووقع ذلك في نفسها، فلما أخبرها ميسرة بما رآه من الآيات وما رأته هي (أي وما قاله لها ورقة لما حدثته بما حدثها به ميسرة بما تقدم) قالت: إن كان ما قاله اليهودي حقا، ما ذاك إلا هذا) (¬1). ... ¬

= فخرجت خلفه. فلما جاء - صلى الله عليه وسلم - إلى خديجة أخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها ثم قالت: بأبي أنت وأمي والله ما أفعل هذا لشيء، ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي سيبعث، فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي، وادع الإله الذي سيبعثك لي، فقال لها: والله لئن كنت أنا هو لقد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبدا، وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدا. فرجعت نبعة وأخبرت أبا طالب بذلك. السيرة الحلبية 1/ 228. (¬1) المصدر نفسه 1/ 227، 228. وقد ذكر الصالحي في سبل الهدى والرشاد نقله عن ابن اسحاق في المبتدأ 20/ 222.

العهد المكي للدعوة

العهد المكي للدعوة

الفصل الحادي عشر الوحي

الفصل الحادي عشر الوحي (عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث به وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها. حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ((ما أنا بقارئ)). قال ((فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ: قلت: ما أنا بقارئ)) قال: ((فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني)) فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم}. فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: ((زملوني، زملوني)) فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة وأخبرها بالخبر: ((لقد خشيت على نفسي)) فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرءا تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة: يابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا (¬1)، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله: ((أومخرجي هم؟)) قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي) (¬2). وقال ابن إسحاق: وحدثني وهب بن كيسان (¬3) مولى آل الزبير قال: سمعت عبد الله بن الزبير (¬4) وهو يقول لعبيد بن عمير (¬5) بن قتادة الليثي: حدثنا يا عبيد، كيف كان ما ابتدىء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النبوة حين جاءه جبريل عليه السلام؟ قال: فقال عبيد وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير، ومن عنده من الناس: كان رسول الله يجاور في حراء من كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية (والتحنث: التبرر) فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجاور ذلك ¬

(¬1) جذعا: شابا قويا. (¬2) صحيح البخاري ك. 1 ب. 1. (¬3) وهب بن كيسان: ثقة من كبار الرابعة. (¬4) عبد الله بن الزبير أول مولود ولد في الاسلام من المهاجرين. (¬5) عبيد بن عمير بن قتادة، مجمع على ثقته.

الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جواره، من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به- إذا انصرف من جواره- الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا، أو ما شاء الله من ذلك ثم يرجع إلى بيته. حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى ما أراده من كرامته، من السنة التي بعثه الله تعالى فيها، وذلك الشهر: شهر رمضان. خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حراء كما كانت يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى فيها برسالته ورحم العباد بها، جاءه جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فجاءني جريل وأنا نائم، بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ. قلت: ما أقرأ؟)) قال: ((فغتني به، حتى ظننت أنه الموت. ثم أرسلني فقال: اقرأ)) قال: ((قلت ما أقرأ؟)) قال: ((فغتني به حتى طنت أنه الموت، ثم أرسلني. فقال: اقرأ)) قال: ((قلت: ماذا اقرأ؟)) قال: ((ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي، فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} قال: ((فقرأتها، ثم انتهى، فانصرف عني، وهببت من نومي، فكأنما كتبت في قلبي كتابا)) قال: ((فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل)) قال: ((فرفعت رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل)) قال: ((فوقفت أنظر إليه ما أتقدم ولا أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء)) قال: ((فلا أنظر في ناحية منها

إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني، وانصرفت راجعا إلى أهلي، حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفا إليها فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا لي، ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يابن عم واثبت فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة))، تم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وهو ابن عمها، وكان ورقة قد تنصر، وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل، وأخبرته بما أخبرها به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى وسمع فقال ورقة بن نوفل: قدوس قدوس والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتينني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته بقول ورقة بن نوفل، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جواره وانصرف صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة، فقال يابن أخى أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له ورقة: والذي نفسى بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه، ولتؤذينه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا بعلمه، ثم أدنى رأسه منه، فقبل يافوخه، ثم

انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى منزله) (¬1). ... 1 - المجتمع المكي يعج بالوثية، وبالطقوس الدينية التي لا تنتهي من النذور والقرابين لغير الله، ومن التمسح بالأحجار والأوثان، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبغض شيئا كما يبغض هذه الأمور، وقد رأينا كيف أحرج مرة في حضور عيد لقومه عند صنم بوانة، ثم رفض وابتعد، فما حضر لهم عيدا قط، كيف قال لبحيرى الراهب عندما سأله: - يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه؟ - ((لا تسألني باللات والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما)). إنه يحس عليه الصلاة والسلام بالنفور التام من هذا المجتمع الوثني، ولم ير بدا من الخلوة بعيدا بعيدا عن هذه الأجواء الملوثة يتفكر ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 235 - 239، ويقول السهيلي في تعليقه بعض نقاط الاختلاف بين الروايتن: (وذكر نزول جبريل على رسول - صلى الله عليه وسلم -. قال في الحديث، فأتاني وأنا نائم)) وقال في آخره: ((فهببت في نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا)). وليس ذكر النوم في حديث عائشة ولا غيرها، بل في حديث عائشة ما يدل ظاهره على أن نزول جبريل حين نزل بسورة اقرأ كان في اليقظة لأنها قالت في أول الحديث: (أول ما بدىء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا الصادقة، كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ..) وقد يمكن الجمع بين الحديثين بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه جبريل في المنام قبل أن يأتيه في اليقظة، توطئة وتيسيرا عليه ورفقا به، لأن أمر النبؤه عظيم، وعبؤها ثقيل، والبشر ضعيف، وسيأتي في حديث الإسراء من مقالة العلماء ما يؤكد هذا ويصححه). انظر الروض الأنف للسهيلي 1/ 268، 269.

في خلق السموات والأرض. ووجد بغيته في غار حراء، ولم يحافظ على شيء من تلك الطقوس إلا على حبه للكعبة وطوافه بها كلما أمضى ليالي وعاد إليها يدفعه الحنين، ويحدوه التقديس العظيم لها حتى قبل أن يلقى أهله، ويدخل بيته. وكانت هذه المقدمات تهيئة له عليه الصلاة والسلام ليتلقى الوحي، بحيث يتجه بكل كيانه ووجدانه إلى ربه عز وجل، بعيدا عن مشاغل الدنيا، وفتن العصر، موصول القلب بالله فاطر السموات والأرض محررا من كل قيود الدنيا وأوهاقها وتبعياتها، صافي الذهن والسريرة لتلقي الوحي الرباني من العلي الأعلى، وكانت زوجه رضي الله عنها تهيىء له هذا الجو المتفرد، وتكفيه زاده وطعامه، وتحثه على التحنث بالغار. وفي شهر رمضان الذي اختاره عليه الصلاة والسلام ليكون موعد تعبده، وفي حراء، حيث تبدو مكة والكعبة للناظر إليها دون عائق. نحن بحاجة لتصحيح كثير من مفاهيمنا، ولإعادة النظر فيها في جو شبيه بجو حراء، فيما شرعه الله لنا من اعتكاف، نراجع القناعات، ما كان به لوثة من زحام الأرض، وفلسفات أهلها، فنطرحه بعيدا عنا، وننقي الشوائب التي علقت بالقلوب والوجدان، فكرية أو عاطفية، ونصحح واقعنا كله على ضوء الكتاب والسنة .. إنها وقفات على الطريق، ولفتات إلى الوراء، نراجع الرصيد، ونفتش السلوك، ونمحص الرأي، ونهذب القلب، وننفي الضمير، لنتابع المسير بعد ذلك على الطريق، على بينة وهدى. 2 - وما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطمح إلى الوحي، ولا يعرف شيئا عنه، ولم يكن

بذهنه انتظار جبريل. لقد كان الأمر جديدا كل الجدة عليه حتى ليمضي فزعا إلى خديجة رضي الله عنها، يخاف أن يصيبه مس من الشيطان، ويخشى على عقله مما رأى وسمع. ولعل أمر النبوة في حس خديجة رضي الله عنها أكبر منه في حس النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهي تأمل وتنتظر، وورقة من طرف آخر، يأمل ويتوق وينتظر: أتبكر أم أنت العشية رائح ... وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح لفرقة قوم لا أحب فراقهم ... كأنك عنهم بعد يومين نازح وأخبار صدق خبرت عن محمد ... يخبرها عنه إذا غاب ناصح وظني به أن سوف يبعث صادقا ... كما أرسل العبدان هود وصالح وموسى وإبراهيم حتى يرى له ... بهاء ومنشور من الذكر واضح (¬1) لقد كان الوحي مفاجأة كاملة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. بينما كان عند أم المؤمنين خديجة تحقيقا لانتظار طال .. فخديجة وابن عمها ورقة كأنهم يرونه وأي العين أهلا لهذه النبوة. أما هو - صلى الله عليه وسلم - فما كان يخطر له على بال أن يكون النبي المبعوث رحمة للعالمين. لقد سمع ورأى، وكان الحجر والشجر يسلم عليه كما ثبت في الأحاديث الصحيحة. لكنه لم يكن يدري كيف تكون الرسالة، كيف يكون الوحي، فلم يقرأ في كتاب، ولم يجلس إلى راهب يحدثه عن هذا الأمر، ولم يسمع بشيء عن مفهوم الوحي والرسالة. يؤكد هذا المعنى كتاب الله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك ¬

(¬1) رواه ابن إسحاق عن يونس بن بكر، الاكتفاء للكلاعي 1/ 203، 204.

روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} (¬1). {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم * قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون} (¬2). {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (¬3). {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} (¬4) وحتى عندما جاءه الوحي مرة ثانية. قال ابن شهاب وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: ¬

(¬1) الشورى: 52، 53. (¬2) يونس: 15، 16. (¬3) يوسف: 3. (¬4) هود: 49.

(بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري، فاذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه فرجعت، فقلت زملوني زملوني، فأنزل الله تعالى {يا أيها المدثر * قم فأنذر} إلى قوله {والرجز فاهجر} فحمي الوحي وتتابع)) (¬1). وحكمة الله تعالى في ذلك أن لا يكون متطلعا لمثل هذا الأمر، فتسول له نفسه مثل هذه الأمور، فلم يكن يقرأ كتبا، ولا يجالس كهنة، ولا يختلف إلى راهب، ليكون جاهزا للتلقي من الله تعالى دون وساطة، ودون تدخل بشري مطلق، ويكون قلبه الشريف وعاء لوحي الله تعالى وحده، فلا تتدخل التصورات البشرية فيه، والتفسيرات الوضعية، ولا القصور الإنساني في ماهيته. {الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} (¬2) {وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين} (¬3). 3 - وهذه الآيات الكريمة التي أنزلها الله تعالى على قلب نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} (¬4) لتكون أول ما ¬

(¬1) صحيح البخاري ك. 1 ب. 1. (¬2) إبراهيم: 1. (¬3) الشعراء: 192 - 196. (¬4) العلق: 1 - 5.

ينطبع في قلبه من وحي الله تعالى، ((فهببت من نومي كأنما كتبت في قلبي كتابا))، لتدل دلالة واضحة على عظمة ودور العلم في حياة البشرية، العلم من لدن الحكيم الخبير، والذي يعتمد على القراءة والكتابة بالقلم أسلوبا رئيسيا له. وهذا العلم كثيرا ما يدخل في متاهات التفسير البشيري القاصر، وإن المسلم ليعجب من هذه التفسيرات القاصرة، والقرآن الكريم ما ترك مجالا لها، وقد أوضح المقصود الأساسي منها، حتى لنجد كثرة التأثر بالعلم الغربي البشري في أيامنا المعاصرة، والانبهار الكبير بآثاره ونتائجه يدفع الكثيرين من الكتاب- عن حسن نية- إلى حصر العلم بهذا العلم البشري القاصر- على اتساع آفاقه وكبير آثاره- ويحرفون كل الأحاديث والآيات الواردة في العلم. لتكون نصا على هذا العلم البشري. نحن بحاجة إلى تصحيح هذه النظرة، وإلى العودة إلى القواعد الأولى في هذا الدين. فالعلم كما ورد في القرآن الكريم لا يعني وبهذا التعريف- العلم- إلا الوحي {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ..} (¬1)، {(.. ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير} (¬2)، {وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما ¬

(¬1) آل عمران: 61. (¬2) البقرة: 120.

جاءهم العلم بغيا بينهم ...} (¬1)، {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ..} (¬2). لكن عندما يذكر غير الوحي تأتي كلمة العلم نكرة- علم- لأنها تمثل جانبا من الحقيقة، أما الحق الثابت في هذا الوجود هو الوحي فقط. {قال إنما أوتيته على علم عندي ...} (¬3) {قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} (¬4)، {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} (¬5). ويبقى العلم البشري الذي يصل إليه الإنسان بجهده وفكره وذكائه، وحتى ما يجتهد فيه مما يتلقاه من الشرع ويجتهد في فهمه - علم- قابل للصواب والخطأ. أما العلم الثابت اليقيني الحق في هذا الوجود هو كتاب الله تعالى، وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - .. وكل علم دونه يعتبر حقا بمقدار ما يتوافق مع هذا العلم المطلق، مع وحي الله تعالى في كتابه ووحيه لرسوله الذي قال الله تعالى عنه {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} (¬6). يقول السهيلي: (وقوله: ((ما أنا بقارئ))؛ أي إني أمي، فلا ¬

(¬1) الجاثية: 17. (¬2) القصص: 80. (¬3) القصص: 78. (¬4) النمل: 40. (¬5) الحج: 8. (¬6) النجم: 3، 4.

أقرأ الكتب، قالها ثلاثا، فقيل له: {اقرأ باسم ربك}، أي: إنك لا تقرؤه بحولك ولا بصفة نفسك، ولا بمعرفتك، ولكن اقرأ مفتتحا باسم ربك مستعينا، فهو يعلمك كما خلقك، وكما نزع عنك علق الدم، ومغمز الشيطان بعد ما خلقها فيك، كما خلقه في كل إنسان، والآيتان المتقدمتان لمحمد، والآخرتان لأمته، وهما قوله تعالى: {الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم}، لأنها كانت أمة أمية لا تكتب، فصاروا أهل كتاب، وأصحاب قلم، فتعلموا القرآن بالقلم، وتعلمه نبيهم تلقينا من جبريل نزله على قلبه بإذن الله ليكون من المرسلين) (¬1). 4 - (ولا شك أن موقف خديجة رضي الله عنها هو من أعظم المواقف التي شهدها تاريخ الأمة المسلمة، فكانت كما قال ابن هشام: (وآمنت به خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله، ووازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله ورسوله، وصدق بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن نبيه - صلى الله عليه وسلم -، لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه، وتصدقه، وتهون عليه أمر الناس، رحمها الله تعالى) (¬2). واستحقت على هذه المواقف العظيمة أن يقرئها ربها السلام، ويقرئها جبريل السلام، تحية من عند الله مباركة طيبة. ¬

(¬1) الروض الأنف للسهيلي 1/ 270، 271. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 240.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك، فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب (¬1) لا صخب (¬2) فيه ولا نصب (¬3)) (¬4). وقال ابن هشام: (حدثني من أثق به أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اقرىء خديجة السلام من ربها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا خديجة هذا جبريل يقرئك السلام من ربك) فقالت خديجة: الله السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام) (¬5). وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خاف على نفسه عندما جاءه جبريل، لكن خديجة التي خبرت سيد ولد آدم، ما تطرق لها الشك، وقد عرفته خلقا ودينا وسموا. فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدا وتحدثت عن فضائله العظمى التي لا تتناسب مع خذلان الله له (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضعيف، وتعين على نوائب الحق) .. وعاشت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنوات المحنة العجاف، وكانت سلوانه وعونه، ومن أجل هذا مضى في التاريخ ¬

(¬1) القصب: لؤلؤ مجوف واسع. (¬2) الصخب: اختلاط الأصوات. (¬3) النصب: التعب. (¬4) أخرجه مسلم وقال فيه البغوي: هذا حديث متفق على صحته، شرح السنة 14/ 156/ 3953. ورواه البخاري في فضائل الصحابة 7/ 105. (¬5) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 240.

الإسلامى عام وفاتها باسم عام الحزن، حين فقدها، وفقد عمه أبا طالب في العام نفسه. وبقيت حية في ذاكرته، لا ينساها أبدا، حتى لا ينسى كل ما يمت إليها بصلة، رغم أنه تزوج بعد وفاتها رضي الله عنها بالكثير من نسائه، وتلك عائشة رضي الله عنها تقول: (ما غرت على أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرت على خديجة، وربما قلت يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاه، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، وربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا امرأه إلا خديجة، فيقول: ((إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد))) (¬1). وتحدثنا عائشة رضي الله عنها كذلك قالت: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعرف استئذان خديجة فارتاح لذلك فقال: ((اللهم هالة بنت خويلد)) فغرت فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر، فأبدلك الله خيرا منها) (¬2). وزاد أحمد في رواية قالت: (فتمعر وجهه تمعرا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي ..). وإسناده على شرط مسلم، وفي أخرى له: (قال: ((ما أبدلني الله خيرا منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، ¬

(¬1) رواه البخاري في فضائل الصحابة 7/ 102، ومسلم في فضائل خديجة 4/ 75/ 2435. (¬2) رواه مسلم 4/ 78/ 2437.

وصدقت إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء)) (¬1). إنه درس للمرأة المسلمة الداعية، أن تكون دعوة الله ورسوله هي التي تملأ عليها كيانها، وحياتها، ووجودها، أمام أسوتها خديجة، وأن تجعل حياتها ومالها وجاهها في سبيل الله تحمل الراية بجوار زوجها الداعية، وتكون عونا له لا عبئا عليه، تخفف عنه آلامه وهمومه، لا تثبطه وتوهنه وتجره أن يثاقل إلى الأرض. ودرس للرجل المسلم الداعية، أن يعرف لزوجه فضلها ومحنتها في جواره، وصبرها على متاعبه، إن يتمثل عظمة الوفاء النبوي في وصل صديقات خديجة بعد وفاتها، وفي هشه وبشه لاستئذان هالة أخت خديجة. 5 - ونقف أخيرا عند الجواب العظيم لورقة بن نوفل وهو يحدد خط سير الدعوة. (ولتكذبنه، ولتؤذينه، ولتقاتلنه. قال ((أومخرجي هم)) قال: نعم، ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك، لأنصرنك نصرا مؤزرا). فبمقدار عظمة التكريم، والبشارة بأنه نبي هذه الأمة، بمقدار الثمن الباهظ الذي يدفعه ثمنا لذلك، فلن يقبل الناس أفواجا على هذا الدين منذ أول الطريق. ¬

(¬1) تعليق الألباني على مختصر صحيح مسلم 845/ 1674.

إن الأمين سيكذب، ولا يكتفى بتكذيبه، بل سيؤذى فوق ذلك، وهدأت نفس النبي (ص) للأذى لكنه فوجيء أن سيكون الإخراج له من أحب أرض الله إليه .. من مكة المكرمة .. وأكد له ورقة أنه خط ثابت لأصحاب الدعوات لا مناص منه .. فما جاء أحد بما جئت به إلا عودي .. {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكنكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} (¬1). فلا بد أن يوطن الداعية نفسه على الصبر على مشاق الطريق، وتحمل تبعاته، وأن يعلم أن هذا الدين، وإن كان يمثل الفطرة السوية للبشر، لكنه يتعارض مع أهوائهم ومصالحهم وطغيانهم، ولن يدع الطغاة للدعاة الطريق مفروشا بالرياحين، بل بملؤونه بالدماء والأشلاء والآلام، ومهمة الداعية أن يقتلع هذه الأشواك، ويواجه المحن مهما اكتظت والخطوب مهما ادلهمت، لأنه وضع نفسه على خطا النبيين، ولا بد أن يكوين على مستوى المسئولية: وإذا النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام ¬

(¬1) إبراهيم: 13، 14.

الفصل الثاني عشر مراحل الدعوة

الفصل الثاني عشر مراحل الدعوة (قال ابن القيم: فصل في ترتيب الدعوة ولها مراتب: المرتبة الأولى: النبوة. الثانية: إنذار عشيرته الأقربين. الثالثة: إنذار قومه. الرابعة: إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة. الخامسة: إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر. وأقام (ص) بعد ذلك ثلاث سنين يدعو إلى الله سبحانه مستخفيا، ثم نزل عليه: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} فأعلن (ص) بالدعوة وجاهر قومه بالعداوة، واشتد الأذى عليه وعلى المسلمين حتى أذن لهم بالهجرتين) (¬1). وقال ابن إسحاق: (ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به، ثم إن الله عز وجل أمر رسوله (ص) أن يصدع بما جاءه منه، وأن يبادي الناس بأمره، وأن يدعو ¬

(¬1) زاد المعاد 1/ 34.

إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله (ص) أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين - فيما بلغني - من مبعثه، ثم قال الله تعالى له: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} (¬1) وقال تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} (¬2). {وقل إني أنا النذير المبين} (¬3)) (¬4). وعن أبي هريرة ورضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعا رسول الله (ص) قريشا، فاجتمعوا، فعم وخص فقال: {يا بني كعب بن لؤي انقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب انقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس انقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة بنت محمد انقذي نفسك من النار. فإني لا أملك من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها)) (¬5). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله {وأنذر عشيرتك الأقربين} أتى النبي (ص) الصفا فصعد عليه ثم نادى: ((يا صجاحاه)) فاجتمع الناس إليه؛ بين رجل يجيئ وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله (ص): ((يا بني عبد المطب، يا بني فهر، يا بني كعب: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أصدقموني؟)) قالوا: نعم، ¬

(¬1) الحجر: 94. (¬2) الشعراء: 214، 215. (¬3) الحجر: 89. (¬4) السيرة النبوية لابن هشام 260 - 263. (¬5) مسلم ك. 3ب. 348/ 89.

قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)) فقال أبو لهب - لعنه الله -: تبا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا؟! وأنزل الله عز وجل: {تبت يدا أبي لهب}) (¬1). وقال الحافظ أبو بكر البيهقي في الدلائل: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية على رسول الله (ص): {وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} قال رسول الله (ص): ((عرفت أني إن بادرت بها قومي رأيت منهم ما أكره، فصمت، فجاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك بالنار)) قال علي: فدعاني فقال: ((يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فعرفت أني إن بادرتهم بذلك رأيت منهم ما أكره، فصمت عن ذلك، ثم جاءني جبريل فقال: يا محمد إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك، فاصنع لي يا علي شاة على صاع من طعام وأعد لنا عس (¬2) لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب)) ففعلت فاجتمعوا له يومئذ وهم أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب الكافر الخبيث. فقدمت إليهم تلك الجفنة. فأخذ رسول الله (ص) منها جذبة فشقها في أسنانه ثم رمى بها في نواحيها، وقال: ((كلوا بسم الله)) فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما يرى إلا آثار أصابعهم. والله إن كان الرجل ليأكل مثلها، ثم قال رسول الله (ص): ((اسقهم يا علي)) فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعا. وايم الله إن كان أحدهم ليشرب مثله. فلما أرد رسول الله (ص) أن يتكلم بدره أبو ¬

(¬1) البخاري ك. التفسير، سورة الشعراء 6/ 139، ومسلم ك. 1 ب. 89 ح. 355. (¬2) عس لبن: قدح لبن.

لهب لعنه الله فقال: لهد (¬1) ما سحركم صاحبكم. فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله .. فلما كان من الغد قال: ((عد لنا مثل الذي كنت قد صنعت لنا)) .. فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله .. و .. فلما كان من الغد قال رسول الله (ص): ((يا علي عد لنا بمثل الذي كنت صنعت لنا) .. ففعلت ثم قال رسول الله (ص): ((يا بني عبد المطب إني والله ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة) (¬2). قال ابن كثير: (والمقصود أن رسول الله (ص) استمر يدعو إلى الله تعالى ليلا ونهار، وسرا وجهرا، لا يصرفه عن ذلك صارف، لا يرده عن ذلك راد، لا يصده عن ذلك صاد. يتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم، ومحافلهم، وفي المواسم، ومواقف الحج .. يدعو من لقيه من حر وعبد وضعيف وقوي وغني وفقير .. جميع الخلق في ذلك عنده شرع سواء) (¬3). ... 1 - لقد ابتدأت الدعوة سرا، واستمرت ثلاث سنين، انضم إليها في هذه المرحلة ما يقرب من ستين ما بين رجل وامرأة، وكانت الدعوة تتم عن طريق الاصطفاء والتخير. وبذلك تكونت القاعدة الأساسية للدعوة، وتمت تربيتها في دار الأرقم، وفي شعاب مكة حيث يخرجون للصلاة. والوحي يتنزل عليه (ص) من دون أن يكون هناك مواجهة بينهم وبين ¬

(¬1) لهد: أي لنعم ما سحركم. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير 2/ 44 عن دلائل النبوة للبيهقي 2/ 179، 180. (¬3) البداية والنهاية لابن كثير 2/ 45.

الكفار. اللهم إلا ما ذكر عن سعد رضي الله عنه، عندما طلع عليهم بعض الكفار وهم يصلون (فناكروهم، وعابو عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلا من المشركين بلحى بعير فشجه. فكان أول دم هريق في الإسلام) (¬1). 2 - وحين نراجع هذا الرصيد من المؤمتين في هذه المرحلة، نلاحظ أنهم العمود الفقري في الإسلام. وهم الذين حملوا عبء قيادة المجتمع الإسلامي فيما بعد .. وكم كانت عظمة التربية التي تلقوها تؤهلهم ليكونوا صناع التاريخ الإسلامي فيما بعد. وإن كان أغلبهم في هذه المرحلة في حوالي سن العشرين أو أقل. وكان قرابة ثلثهم من النساء. 3 - وما أعلن القوم عن وجودهم إلا بعد الأمر بالصدع بالدعوة، حيث قام أبو بكر خطيبا بالمشركين في الكعبة، ولم تكن المحن، والتعذيب الذي يلقونه، والفتنة التي يتعرضون لها، لتصدهم عن سبيل الله، أو تفتنهم عن دينهم بل كانت تزيدهم صلابة في الحق، وثباتا على المبدأ، ولم يعرف تاريخ هذه العصبة المؤمنة، التي أصبحت مستعصية على الإبادة، من انحراف أو تزلزل أو ضعف أو وهن، إلا ما ذكر عن عبيد الله بن جحش (¬2). 4 - وكان الانتقال إلى مرحلة الجهر بالدعوة بعد أن أصبحت القاعدة الصلبة ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 263/ 1. (¬2) عبيد الله بن جحش، هو الذي ارتد عن الإسلام في الحبشة، ودخل النصرانية، ومات كافرا، وكان ممن هاجر مع المسلمين إلى الحبشة.

مستعصية على الإبادة، ولها من القوة والصلابة والجذور في الأعماق ما يجعلها أقوى من الإفناء. ولو كان الصدام قد ابتدأ منذ اللحظات الأولى وفي المرحلة السرية لأوشك أن يقضي على كل قواعد الدعوة. 5 - ومع ذلك فلم يكن الانتقال مفاجئا بأن تكون الدعوة إلى كل العرب، لقد كانت المرحلة الثانية .. هي دعوة الأقربين {وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين}. وكما أوردنا فيما ذكر من قبل على أن الدعوة كانت على مرحلتين: - الأولى: للأقربين الأدنين من بني هاشم وبني عبد المطلب. - الثانية: لقريش كلها، وهي التي تمثل معظم أهل مكة في ذلك الوقت. وقد وضحت الحكمة أكثر ما تكون في هذه المرحلة، فقد كان رصيد الدعوة مكونا من فريقين: - الفريق الأول: المؤمنين المخلصين {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} وهم الرعيل الأول الذين تحدثنا عنهم، وكانوا مبثوبين في كل عشائر مكة. - الفريق الثاني: من الأقربين الأدنين وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب بشكل أخص، وبنو المطلب. وكان أبو طالب سيد هؤلاء جميعا. وعندما ادلهمت الخطوب جمعهم جميعا ليكونوا صفا وحدا لحماية الرسول (ص) - قائد الدعوة - مسلمهم ومشركهم على السواء، ولم يشذ عن ذلك إلا أبو لهب لعنه الله، الذي بادى رسول الله (ص)

بالعداوة وانضم لقريش في حربها للإسلام، وقد رأيناهم جميعا يوم تم قرار المقاطعة من قريش، حيث تناول أتباع محمد المؤمنين من جهة، وبني هاشم وبني المطلب حماة رسول الله (ص) من جهة ثانية، وكان الفريقان في شعب أبي طالب. 7 - والذي نشأ عن تعميم الدعوة لقريش كلها، أن انضم إلى الدعوة روافد جديدة من بطون قريش التي بلغت اثنا عشر بطنا (¬1) رفعت رصيد الدعوة إلى قرابة الثلاثمائة (¬2) بين رجل وامرأة، رغم الحرب التي خاضتها قريش بقياداتها الرسمية ضد رسول الله (ص) ودينه ودعوته. وبغض النظر عن أعداد العدو، فإن كل مسلم في هذه المرحلة من البناء يعدل العشرات من المشركين بل المئات. 8 - ويوم توجه رسول الله إلى العرب الذين ما آتاهم من نذير يدعوهم إلى الإسلام، كان هذا الرصيد الكبير من قريش، والأفراد المبثوثين من القبائل العربية الأخرى، كان درعا واقيا للدعون، وقادرا على الموجهة مهما عظمت تكاليفها، وإن كانت المواجهة المسلحة لم تتم مع قريش، إلا بعد انضمام الرصيد الأكبر من الأنصار والذي واجه العرب قاطبة يوم غزوة الأحزاب. ¬

(¬1) هذه البطون الاثنا عشر هي: مخزوم، تيم، سهم، جمح، زهرة، عدي، عبد شمس، نوفل؛ هاشم، المطلب، الحارث، عبد الدار. (¬2) الذين آخى رسول الله (ص) بينهم من المهاجرين إلى المدينة كانوا قرابة تسعين رجلا، والذين هاجروا إلى الحبشة كانوا ثمانين رجلا واثني عشر امرأة. وكثير من المسلمين بقي مسلما في قومه حتى انتصرت الدعوة.

9 - هذا وإن كل دعوة للإسلام اليوم تنطلق بين أن تتبع خطا الدعوة الأولى في انتهاج المرحلية والتدرج في الأمر، سوف يكون الإخفاق حليفها ولا يعفيها صدق النية وسلامة الطوية من جسامة المسؤولية. ***

الفصل الثالث عشر من أسلوب المخالفين في مواجهة الدعوة

الفصل الثالث عشر من أسلوب المخالفين في مواجهة الدعوة أولا: التشويه: (أ) (عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا .. ولا تختلفوا فيه فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قول بعضكم بعضا. فقيل: يا أبا عبد شمس: فقل وأقم لنا رأيا نقول به. قال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع. فقالوا: نقول كاهن. فقال: ما هو بكاهن، رأيت الكهان، فما هو بزمزمة الكهان. فقالوا: نقول مجنون. فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولإ تخالجه ولا وسوسته. فقالوا: نقول شاعر. فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول هو ساحر. قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لغدق، وإن فرعه

لجنى، فما أنتم بقائلين شيئا من هذا إلا عرف أنه باطل. وإن أقرب القول لأن تقولوا هذا ساحر، فتقولون هو ساحر يفرق بين المرء ودينه، وبين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وعشيرته .. فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون للناس حتى قدموا الموسم، فلا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره) (¬1). (ب) قال ابن إسحاق: (وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله (ص)، وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم وأسبنديار. فكان إذا جلس رسول الله (ص) مجلسا فذكر فيه بالله، وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله. خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلم إلي، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وأسبنديار ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا مني) (¬2). (قال ابن هشام: وهو الذي قال فيما بلغني: سأنزل مثل ما أنزل الله) (¬3). قال ابن إسحاق: (وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول فيما ¬

(¬1) البداية ونهاية لابن كثير 2/ 67، 68. (¬2) و (¬3) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 300.

بلغني: نزل فيه ثمان آيات من القرآن؛ قول الله عز وجل: {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن) (¬1). وعن ابن عباس قال: (قدم ضماد مكة، وهو رجل من أزدشنؤة، وكان يرقى (¬2) من هذه الرياح (¬3)، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: أين هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي؟ فلقيت محمدا فقلت: إني أرقي من هذه الرياح، وإن الله يشفي على يدي من شاء فهلم. فقال محمد: ((إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له)) ثلاث مرات. فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله (ص) ثلاث مرات. قال، فقال: لقد سممت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء فما سممت مثل كلماتك هؤلاء. ولقد بلغن قاموس البحر. قال، قال: هات يدك أبايعك على الإسلام. قال: فبايعه. فقال رسول الله (ص): ((وعلى قومك؟))، قال: وعلى قومي) (¬4). هذا وما يلقاه الإسلام اليوم من حرب دعائية من خصومه، بحيث تسلط الأجهزة اليهوية والصليبية والشيوعية كل وسائلها الإعلامية المسموعة منها ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 300. (¬2) يرقى: من الرقية وهي العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة (أي يداويه بها). (¬3) الريح: المراد بالريح هنا الجنون ومس الجن. (¬4) مسلم ك. 7 الجمعة ب. 13 ح. 868، ورواه البيهقي كذلك 3/ 215.

ثانيا: التهديد

والمرئية لتشويه الإسلام وتصويره دينا وثنيا أو إرهابيا أو متخلفا يمثل حضارة الجمل والصحراء لأكبر دليل على استمرار هذا الخط الدعائي ضد الإسلام. هذا من جهة، ومن جهة ثانية تصوير المسلمين بأنهم متخلفون لأنهم متمسكون بإسلامهم، وتحميل الإسلام كل التخلف الحضاري عند المسلمين، وتمثيل الصحوة الإسلامية المعاصرة بأنه يقودها الأصوليون والمتطرفوق الذين يريدون تدمير كل منتجات الحضارة البشرية المعاصرة، والعودة بالبشرية إلى القرون الوسطى وعهود الرق والتخلف. ثانيا: التهديد: (قال ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنفه. فبلغ ذلك رسول الله (ص) فقال: ((لو فعل لأخذته الملائكة عيانا))) (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر أبو جهل بالنبي (ص) وهو يصلي، فقال: ألم أنهك أن تصلي يا محمد؟ لقد علمت ما بها أحد أكبر ناديا مني، فانتهره النبي (ص)، فقال جبريل: {فليدع ناديه سندع الزبانية} والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب) (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال فقيل: نعم. فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ¬

(¬1) البخاري ك. التفسير ب. سورة العلق ورواه الإمام أحمد. (¬2) الإمام أحمد 256/ 1 والترمذي والنسائي.

ذلك لأطأن على عنقه، أو لأعفرن وجهه في التراب. قال: فأتى رسول الله (ص) وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته. قال: فما فجئهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه. قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لختدقا من نار وهولا وأجنحة. فقال رسول الله (ص): ((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا)) قال: فأنزل الله عز وجل - لا ندري في حديث أبي هريرة أم شيء بلغه - {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ..} إلى آخر السورة) (¬1). وقال محمد بن إسحاق: (أبو جهل الفاسق الذي يغري بهم في رجال من قريش، إذ سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولنقيلن رأيك، ولنضعن شرفك، وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدة تجارتك، ولنهلكن مالك، وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به) (¬2). وقال يونس بن بكير: حدثني محمد بن إسحاق .. عن ابن عباس في قصة طويلة جرت بين مشركي مكة وبين رسول الله (ص). (فلما قام رسول الله قال أبو جهل بن هشام: يا معشر قريش! إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وسب آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم (¬3). ¬

(¬1) مسلم ك. المنافقين ب. قوله {إن الإنسان ليطغى} ح. 38. ورواه أحمد والنسائي والبيهقي. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 320. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام 298/ 1.

أسلوب التهديد يمثل الحرب النفسية التي تنصب على الداعية، بحيث تخور عزيمته وتضعف نفسه، ويستسلم للطواغيت، ويتراجع ويفتن عن دينه. ومن أنواع التهديد: التلويح بالعذاب والسجن لمن يعلن كلمة الحق، أو يسلك مسلك الدعاة في عبادتهم أو لباسهم، أو عفتهم عن الحرام، فتطلق الإشاعات وتبث بين الناس أن من يفعل ذلك فهو منضم لهؤلا الدعاة، ولا نجاة إلا بالتبرؤ منهم، ومخالفتهم عقيدة وسلوكا، والداعية الحق لا يرهبه التهديد ولا يثنيه الوعيد. بل يمضي قدما على طريق الحق منطلقا من قول الله عز وجل: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله ..} (¬1). وقد رأينا تهديد أبي جهل رسول الله (ص) ينهاه عن صلاته ويتوعد بوطأ عنقه إذا سجد، فكيف أخزى الله أبا جهل بما هدد. ومن أهم أنواع التهديد كذلك: التهديد بقطع الرزق، والإخراج من الوظيفة، وتحطيم السمعة، والنيل من الجاه، والمركز الاجتماعي المرموق .. وهذه التهديدات لن تثني المسلم الحق عن دينه، وكيف تثنيه وهو يعلم أن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} (¬2). وأنه: (لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)) (¬3). ¬

(¬1) يونس: 107. (¬2) هود: 6. (¬3) صحيح الجامع الصغير وزيادته 2/ ص 209 ح. 2081.

ثالثا: التعذيب

وشاهدنا هذا النموذج من فرعون هذه الأمة أبي جهل يوم يقول للشريف: (لنسفهن حلمك، ولنقيلن رأيك، ولنضعن شرفك) ويقول للتاجر: (لنكدسن تجاربك، ولنهلكن مالك). ومن أهم أنواع التهديد كذلك: التهديد بقطع الأعناق بعد الأرزاق، والترويع بالقتل لو استمر المسلم على دينه ودعوته. ولن تنال هذه التهديدات من عزيمة المسلم الذي يعرف من أولويات دينه أن الذي يحيي ويميت هو الله رب العالمين. وأن الأجل لا يتقدم لحظة أو يتأخر {.. فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (¬1) وهذا كله بيد الله سبحانه. {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعلمون وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحذكم الموت توفته رسلنا ولا يفرطون} (¬2). ثالثا: التعذيب: 1 - عن ابن مسعود قال: (بينما رسول الله (ص) يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس وقد نحرت جزور (¬3) بالأمس، فقال أبو ¬

(¬1) الأعراف: 34. (¬2) الأنعام: 60، 61. (¬3) جزور: ناقة.

جهل: أيكم يقوم إلى سلا (¬1) جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه فلما سجد النبي (ص) وضعه بين كتفيه. قال: فاستضحكوا (¬2) وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا قائم أنظر، لو كان لي منعة (¬3) طرحته عن ظهر رسول الله (ص)، والنبي (ص) ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويربة فطرحته عنه ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبي (ص) صلاته رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا، دعا ثلاثا، وإذا سأل سأل ثلاثا. ثم قال: ((اللهم عليك بقريش)) - ثلاث مرات - فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته ثم قال: ((اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والويد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط ..)) وذكر السابع فلم أحفظه، فوالذي بعث محمدا بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب (¬4) قليب بدر) (¬5). 2 - (وعن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله (ص)، قال: بينا رسول الله ¬

(¬1) سلا: هو اللفافة التي يكون فيها الولد في بطن الناقة. (¬2) استضحكوا: حملوا أنفسهم على الضحك والسخرية. (¬3) منعة: أي لو كان لي قوة تمنع أذاهم. (¬4) القليب: هي البئر التي لم تطو. (¬5) مسلم كتاب الجهاد والسير 38 ب. 39 ح. 107.

(ص) يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله (ص) ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا. فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه، ودفع عن رسول الله وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم) (¬1). 3 - وعن ابن مسعود قال: (كان أول من أظهر الإسلام سبعة رسول الله (ص)، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله (ص) فمنعه الله بعمه، وأبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم دروع الحديد، وصهروهم في الشمس فما منهم من أحد إلا وقد أتاهم على ما أرادو، إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى، وهان على قومه فأخذوه، فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد، أحد) (¬2). 4 - (وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: ألا أحدثكما عنه - يعني عمار - أقبلت مع رسول الله (ص) آخذا بيدي نتمشى بالبطحاء حتى أتى على أبيه وأمه وعليه يعذبوه فقال أبو عمار: يا رسول الله الدهر هكذا فقال له النبي (ص): ((اصبر)) ثم قال: ((اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت)) (¬3). ¬

(¬1) البخاري كتاب التفسير، سورة غافر ج. 6/ 659. (¬2) رواه ابن ماجه وقال: في الزوائد إسناده ثقات، رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك. (¬3) مجمع الزوائد 9/ 293، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

5 - وقال الإمام أحمد عن مجاهد: (أول شهيد كان في أول الإسلام استشهد أم عمار سمية طعنها أبو جهل بحربة في قلبها، وهذا مرسل) (¬1). 6 - (قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله (ص) من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله! إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له: أهذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهد) (¬2). 7 - قال ابن إسحاق: (ثم أعتق معه (أي بلال) قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب بلال سابعهم عامر بن فهيرة .. وأم عبيس، وزنيرة، وأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى؛ فقالت: كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان فرد الله بصرها، وأعتق النهدية وبنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار، فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: حل (¬3) يا أم فلان؟ فقالت: ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 320. (¬3) حل: أي تحللي من يمينك واستثني فيها.

حل. أنت أفسدتهما فأعتقهما؛ قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا، قال: قد أخذتهما وهما حرتان. أرجعا إليها طحينها، قالتا: أونفرغ يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال: وذلك إن شئتما. ومر بجارية بني مؤمل حي من بن عدي بن كعب، وكانت مسلمة، وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك وهو يضربها حتى إذا مل قال: إني أعتذر إليك، إني لم أتركك إلا عن ملالة، فتقول: كذلك فعل الله بك، فابتاعها أبو بكر، فأعتقها) (¬1). 8 - (قال عبد الله بن محمد: فحدثني أبي محمد بن عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة، قالت: لما اجتمع أصحاب النبي (ص) - وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا - ألح أبو بكر على رسول الله (ص) في الظهور. فقال: ((يا أبا بكر إنا قليل)) فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله (ص)، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته. وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله (ص) جالس. فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله (ص)، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فصربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا، ووطىء أبو بكر وضرب ضربا شديدا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه في نعلين مخصوفتين، ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وجاء بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 318، 319.

بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر، فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله (ص)؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه: أم الخير: انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله (ص)؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد ابن عبد الله. فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك، قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله (ص)؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلا شيء عليك منها. قالت: سالم صالح. قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم. قال: فإن لك علي أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شربا أو آتي رسول الله (ص). فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجتا به يتكىء عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله (ص)، قال: فأكب عليه رسول الله (ص) فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله (ص) رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال هذا الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع الله

لها عسى أن يستنقذها بك من النار. فدعا لها رسول الله (ص)، ودعاها إلى الله فأسلمت. وأقاموا مع رسول الله (ص) في الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون رجلا) (¬1). 9 - وعن خباب رضي الله عنه قال: (لقد رأيتني يوما وقد أوقدو لي نارا ووضعوها على ظهري فما أطفأها إلا ودك (¬2) ظهري) (¬3). وخباب رضي الله عنه هو الذي يحدثنا عن رسول الله (ص) فيقول: (أتيت النبي (ص) وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة ولقد لقينا من المشركين شدة فقلت: ألا تدعو لنا فقعد وهو محمر وجهه، فقال: ((لقد كان من قلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخشى إلا الله - زاد بيان - والذئب على غنمه))) (¬4). ... 1 - إذا كان التعذيب ولاعتداء الآثم، قد نال شخص رسول الله (ص)، فلم يعد هناك أحد لكرامته هو أكبر من الابتلاء والمحنة، وليست الأسوة ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 24،23/ 3. (¬2) الودك: الدهن. (¬3) السيرة الحلبية 483/ 1. (¬4) البخاري ك. مناقب الأنصار، باب ما لقي رسول الله وأصحابه من المشركين ج. 5 ص. 56.

الحسنة للدعاة برسول الله (ص) في جانب واحد دون جانب. ليست في إقبال الناس وتكريمهم لهم فقط. أما عند المحنة فيبحثون عن مبرر شرعي للهروب منها. إن الأسوة الحسنة في الصبر على الضراء وفي البأساء، وحين البأس، كما هي في الشكر على السراء كذلك، ومن حكمة الله تعالى أن جاء الحديث في القرآن عن الصبر على الحق والاستشهاد في سبيل الله بعد ذكر جانب الأسوة {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} (¬1). وتلك سنة الله تعالى في الدعوات؛ (فعن مسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في ديه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي حسب دينه. فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)) (¬2). 2 - وأن يتمكن السفهاء من سيد الخلق، وتضاحكو، ويلقو سلا البعير عليه، أو يحاولوا خنقه - عليه الصلاة والسلام - هو في حس المؤمن ¬

(¬1) الأحزاب: 21 - 23. (¬2) ابن ماجه ب. الصبر على البلاء 2/ ص. 1334 ح. 4023 وفي الصحيحين بعضه.

أعظم من كل بلاء في الدنيا، وهو أكرم مخلوق على الله تعالى وهذا يهون على المؤمن كل ما يمكن أن يصيبه من محاولات الانقاص من قيمته. وهو المحترم في قومه، والمفدى في أهله. إن الجاب المعنوي في هذا الموضوع أكبر من الجانب المادي، ولابد أن يوطن الداعية نفسه للجانبين معا. وتروي بعض كتب السيرة (أن عقبة بن أبي معيط وطئ على رقبته الشريفة، وهو ساجد حتى كادت عيناه يتبرزان) (¬1)، والله تعالى قادر على حماية نبيه، وعلى إهلاك عدوه، ولكنها الأسوة المستمرة إلى قيام الساعة بحيث لا يهن المؤمن ولا يحزن مهما نزل به من ضر أو هون وقد أصاب نبيه ذلك. 3 - والعاقبة للمتقين، فهؤلاء الذين حاربوا الدعوة والدعاة في مكة، وأنزلوا بالمؤمنين صنوف العذاب، قد تحطموا أمام صبر المؤمنين وثباتهم، وسقطوا صرعى جميعا في بدر، وأشدهم أذية لرسول الله (ص) عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، شاءت إرادة الله تعالى أن يكونا أسيرين في بدر، ويقتلا من دون الأسرى جميعا. وشفى الله تعالى صدر نبيه والمؤمنين، وأذهب غيظ قلوبهم بقتلهما بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام. 4 - والعذاب الجسدي من الجر في الهاجرة على بطحاء مكة، ووضع ¬

(¬1) السيرة الحلبية 1/ 472.

الصخرة العظيمة، والتعذيب بالنار لخباب وعمار، والسجن لأبي بكر وطلحة حيث سميا بالقرينين .. كل هذه الأمور نماذج مما يمكن أن يلقاه المسلم من التعذيب في سبيل دينه. ولا شك أن تطور وسائل التعذيب لدى أعداء الإسلام أصبح حافلا بما تذهل العقول من شدته، من الصعق بالكهرباء، وإقلاع الأظافر، والحيلولة دون النوم أياما متتاليات، وتسليط الكلاب المسعورة على الأجساد الطاهرة، وثلم العرض للعفيفات الحرائر .. كل هذه الأمور، التي استحدثها الأعداء في الأرض هدفها أن تئد هذه الدعوة وهذا الدين .. ولكن الله غالب على أمره، ولكن أكبر الناس لا يعلمون .. فقد انهار الطغاة أمام صبر الدعاة، ولقي أعداء الإسلام وزبانيتهم من الجلادين والأقزام أسوأ المصير، وما أعطى المسلم عطاء أعظم من الصبر. 5 - ولا يغيب عن الذهن عظمة الوزير الأول أبي بكر رضي الله عنه، يوم وقف أول خطيب لله ورسوله في الأرض، وكاد أن يقدم روحه ثمنا لهذه الخطبة .. ووضع جاهه وماله ونفسه فداء رسول الله (ص)، كما فعل يوم رأى المشركين وقد أقبلوا على رسول الله (ص)، يريدون قتله، فراح يضاربهم حتى تحول التعذبب والأذى له، لا يغيب عن الذهن كيف يفدي الدعاة قياداتهم الرائدة المجاهدة في سبيل الله بأرواحهم وأنفسهم وحياتهم. 6 - كما لا يغيب عن الذهن كذلك ذلك الوعي العظيم من أم جميل بنت

رابعا: الترغيب

الخطاب، وهي تحافظ على سرية الدعوة الإسلامية، فتنكر أن تعرف رسول الله (ص) وأبا بكر، ثم تتدارك الموضوع في الذهاب إليه، ولا تتكلم أمام أم أبي بكر، حتى يأذن لها أبو بكر، بل تذكره بوجودها حفاظا على سرية الدعوة، وثقة أبي بكر بأمه - قبل أن تسلم -وذهابها لدار الأرقم. وهي على شركها تعطي ضوءا على إمكانية الثقة ببعض النوعيات التي تتعاطف مع الدعوة رغم أنها لا تؤمن بمبادئها، لكنها تحترم رجالها وتكن لها الحب والود والفداء. رابعا: الترغيب: قال ابن كثير: (وقال الإمام عبد بن حميد في مسده .. عن جابر بن عبد الله قال: (اجتمع قريش يوما، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه، ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله (ص). فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله (ص). قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم، فتكلم حتى نسمع قولك. إنا بالله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك؛ فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم: أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى.

أيها الرجل: إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك - الباه - فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا. فقال رسول الله (ص): ((فرغت؟)) قال: نعم! فقال رسول الله (ص): {بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ...} إلى أن بلغ {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فقال عتبة: حسبك! ما عندك غير هذا؟ قال: ((لا)) فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم. ثم قال: لا والذي نصبها بنية (¬1) ما فهمت شيئا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قالوا: ويحك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟ قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة). وقد رواه البيهقي وغيره عن الحاكم عن الأصم عن عباس الدوري عن يحيى بن معين .. وفيه كلام: وزاد (وإن كنت إنما بك الرياسة، عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسا ما بقيت) (¬2). وفي رواية ابن إسحاق: (فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة .. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه. فولله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم. فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب ¬

(¬1) نصبها بنية: أي أقام بناءها وهي الكعبة. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير 3/ 68، 69.

المال

فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به؛ قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم) (¬1). وتقدم هذا العرض كذلك من ملأ قريش كلهم: حيث قالوا: (... فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن تراه قد غلب عليك بذلنا أمولنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك. فقال رسول الله (ص): ((ما بي ما تقولون، ما جئتكم أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشير ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيننا وبينكم ..)) (¬2). ... عندما رأت قريش أن محمدا (ص) قد امتنع بعمه أبي طالب وبعشيرته، ابتدأت هذه المساومات والعروض المغرية عليه والتي تحددت بثلاثة أنواع وهي: 1 - المال: (جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا) وكم سقط من الدعاة على الطريق تحت بريق المال، في الإغراء به أو الخوف من ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 294/ 1. (¬2) المصدر نفسه296/ 1،297.

الجاه

ذهابه، وكم عرضت الآلاف المؤلفة من الأموال، على الدعاة ليكفوا عن دعوتهم، والذين ثبتوا أمام إغراء المال هم المؤتسون برسول الله (ص). أما الذين ذلوا لبريق المال فقد انحرفوا عن الطريق. فليكن الداعية على حذر، فتلبيس إبليس لا ينتهي، وهو يزين للداعية اللين مع الطوغيت الذين يحكمون بغير شريعة الله، حتى لا يخسر لقمة الخبز، أو الوظيفة التي يتكسب منها، أو المصدر الذي يدر عليه الربح، إنه المنحر الأول. 2 - الجاه: وأي جاه يعرض لرسول الله (ص) أكبر من أن يملكوه عليهم فلا يقطعون أمرا دونه، وتعقد له الألوية ويتوج ملكا عليهم. وتعدد الصور على طريق الدعاة وتبرز في أثواب زاهية، أخطر ما فيها تلك العروض القائلة إنه من خلال المنصب والوظيفة، أو من خلال الرياسة أو الوزارة سوف يحكم بالإسلام، أو يدفع الغائلة عن دعاته، وبالمركز المرموق، يستطيع الدعوة إلى الله .. إنها الأساليب الرخيصة التي تتكرر على مدار التاريخ، فإذا الداعية إلى الله بعد وظيفته عبد وظيفته يخشى عليها من الفوت، وإذا المستوزر الرخيص عبد وزارته، يقر بكل ما فيها من فساد وانحراف بحجة إيقافه بعضا من الفساد فيها .. ولا يدري أنه قد أفسد الجيل كله يوم نام على الإثم، ورضي بالحكم بغير شريعة الله حتى لا تنتزع منه الوزارة فيسقط هملا على الطريق، وقد فقد دنياه ودينه .. وسقط عند إخوانه وأعدائه. ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر .. وإغواء

النساء

الشيطان في هذا المجال أضخم منه بكثير في مجال التهديد والتعذيب، فهناك الأمر واضح أما التلبيس هنا والخديعة فهي أكبر وأمكر وأفجر. والداعية الحق هو الذي لا ينسى أبدا الهدف الذي عاش له، ومات له .. {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت ..} (¬1). 3 - النساء: ((ما تركت فتنة على أمتي أضر على الرجال من النساء)) (¬2) وسواء أكن الدور في تثبيط الهمة من الزوج والولد أن ينصرف المسلم عن دعوته رغبة في راحته وإرضاء لصبوته، أو كانت في تسليط بعض الفاجرات عليه ليسقطنه في أحابيلهن أم في تهيئة أجواء البغي والإثم والمجون ليرتادوها خطوة بعد خطوة، أيا كانت هذه الأساليب فإنها تنتهي إلى منبع واحد. فها هي قريش تعرض على رسول الله (ص) نسائها، يختار عشرا منها، أجملهن وأحسنهن يكن زوجات له .. إن كان عاجزا عن الزواج من أكثر من واحدة. إن خطر المرأة حين لا تستقيم على منهج الله أشد من خطر السيف المصلت على الرقاب .. وعلى ضعفها فهي تستمد قوتها من إغرائها، وكما يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما رأيت من ناقصات عقل ¬

(¬1) الأنعام: 162،163. (¬2) أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، صحيح الجامع الصغير ج. 5 ص. 138.

ولا دين أغلب لذي لب منكن)) (¬1)، فعلى نقص تفكيرها تملك القدرة على سلب ذي العقل الحصيف عقله، وتجره في حبائلها حتى تورده موارد التهلكة، ابتداء من صرفه عن الدعوة خوفا عليه وعليها وعلى رزقه وقوته، وانتهاء بجره إلى السقوط في مستنقع الرذيلة حتى يستجيب لشهوته ونزوته، ولا يغيب عن ذهننا أبدا قول يوسف عليه الصلاة والسلام: {قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاسجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم} (¬2). والموقف الذي يجب أن يكون عليه الدعاة أمام هذه الإغراءات جميعا هو موقف سيد الدعاة، يوم قال له عمه أبو طالب: (يابن أخي، إن قومك قد جاؤوني، فقالوا لي كذا وكذا، فابق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله (ص) أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال: ((يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته ..)) (¬3). ¬

(¬1) أحمد ومسلم وأبو داود. صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني ج. 5 ص. 144 ح. 550. (¬2) يوسف: 33،34. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 267.

خامسا: التعجيز

خامسا: التعجيز: قال ابن إسحاق: ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء، وقريش تحبس من قدرت على حبسه، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين، ثم إن أشرف قريش من كل قبيلة، كما حدثني بعض أهل العلم (¬1) عن سعيد بن جبير عن عكرمة مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: اجتمع عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث أخو بني عبد الدار، وأبو البختري بن هشام ولأسود بن المطلب بن أسد وزيعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهمبان وأمية بن خلف، أو من اجتمع منهم (¬2)، اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثو إليه: إن أشرف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فأتهم؛ فجاءهم رسول الله (ص) سريعا، وهو يظن أنه قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالو له: (يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله لا نعلم رجلا من ¬

(¬1) ذكره ابن كثير في رواية البيهقي وهو محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة 67/ 3. (¬2) الملاحظ أنه ليس فيهم هاشمي واحد.

العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فما بقي من أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك - أو كما قالوا - فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا (¬1) ... إلخ. وقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلادا، ولا أقل ماء، ولا أشد عيشا منا، فسل ربك الذي بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عنا تقول أهو حق أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك، وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول. فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: ((ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوا فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي، أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم)) قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك: سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم في الأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. ¬

(¬1) سبق أن ذكرناه في الفقرة السابقة فلا داعي لإعادته.

فقال لهم رسول الله (ص): ((ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا - أو كما قال -فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه أصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم)). قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل .. فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل، قال: فقال رسول الله (ص): ((ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل)). قالوا: يا محمد، أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا، إذ لم نقبل منك ما جئتنا به! إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد. وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك لرسول الله (ص) قام عنهم. وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة وهو ابن عمته - فهو لعاتكة بنت عبد المطلب - فقال له: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا منزلتك عند الله كما تقول، ويصدقوك ويتبعوك، فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل. فوالله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فيها وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتي معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وايم الله لو فعلت هذا ما ظننت أني أصدقك، ثم انصرف عن رسول الله (ص). وانصرف رسول الله (ص) حزينا

آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه) (¬1). وقال الإمام أحمد حدثنا ... عن ابن عباس قال: (سأل أهل مكة رسول الله (ص) أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا؛ فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم الأمم، قال: ((لا. بل أستأني بهم))، فأنزل الله تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} (¬2)) (¬3). وقال أحمد حدثنا ... عن ابن عباس قال: (قالت قريش للنبي (ص): ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك، قال: ((أوتفعلوه؟)) قالوا: نعم، قال: فدعا فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح الصفا لهم ذهبا، فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين .. وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة. قال: ((بل افتح لهم أبواب التوبة))) (¬4). ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 294/ 3 - 298 وأنزل الله تعالى قوله: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشر رسولا} الإسراء: 90 - 93. (¬2) الإسراء: 59. (¬3) مسند الإمام أحمد 1/ 258. (¬4) مسند الإمام أحمد 1/ 345.

سادسا: الاغتيال

(قال ابن كثير: وهذان إسنادان جيدان، وقد جاء مرسلا عن جماعة من التابعين منهم سعيد بن جبير وقتادة وابن جرير، وغير واحد) (¬1). ... وغني عن البيان أن هذا الأسلوب لا ينقطع مع الدعاة إلى الله. فهم يطلبون منهم الخوارق والمعجزات حتى يؤمنوا معهم، وحكمة الله تعالى أن يكون الإيمان بهذا الدين عن غير هذا الطريق، أن يكون بهذا القرآن المعجز، وبما يدعو إليه هذا القرآن، عن طريق الحوار والإقناع الذي يملكه المسلمون في شتى أعصارهم وأمصارهم، لأنه خاتمة الأديان. ولأنه لكل جيل، ولكل زمان، ولكل مكان .. ومعجزة هذا الدين تتحقق يوم يحكم في هذه الأرض بأناس قد تربوا عليه، وعاشوا له وماتوا في سبيله، يومها يتم التحول العجيب في دنيا الناس (فيخرجون من جور الأديان إلى عدل الإسلام، من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة) كما قال ربعي بن عامر رضي الله عنه. سادسا: الاغتيال: 1 - (فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجرا كما وصف، ثم جلس لرسول الله (ص) ينتظره، وغدا رسول الله (ص) كما كان يغدو .. فقام رسول 1لله (ص) يصلي، وقد غدت قريش، فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله (ص) احتمل أبو جهل الحجر، ثم ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 3/ 57.

أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه، رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه عل حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش، فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟ .. قال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل لا والله ما رأيت مثل هامته .. ولا مثل قصرته (¬1) ولا أنيابه لفحل قط، فهم بي أن يأكلني. قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله (ص) قال: (ذلك جبريل عليه السلام، لو دنا لأخذه) (¬2). 2 - (... فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله (ص) ورهطا من أصحابه قد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا في مبيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء ومع رسول الله (ص) عمه حمزة بن عبد المطلب .. في رجال من المسلمين رضي الله عنهم ممن أقام مع رسول الله (ص)، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة، فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا هذا الصابىء، الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله؛ فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ..) (¬3). ¬

(¬1) القصرة: أصل العنق. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 299. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 344.

3 - (عن عروة بن الزبير قال: لما أقبل عمرو بن العاص من الحبشة من عند النجاشي إلى مكة قد أهلك الله صاحبه ومنعه حاجته، اشتد المشركون على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، وعمد المشركون من قريش فأجمعوا مكرهم وأمرهم على أن يقتلوا رسول الله (ص) علانية .. فلما رأى ذلك أبو طالب، جمع بني عبد المطلب، فأجمع لهم أمرهم، على أن يدخلوا رسول الله (ص) شعبهم، ويمنعوه ممن أردوه، فاجتمعو على ذلك كافرهم ومسلمهم منهم من فعله حمية ومنهم من فعلة إيمانا ويقينا ..) (¬1). قال موسى بن عقبة عن الزهري: ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، وجمعت قريش في مكرها أن يقتلو رسول الله (ص) علانية، فلما رأى أبو طالب عمل القوم، جمع بني عبد المطلب، وأمرهم أن يدخلوا رسول الله (ص) شعبهم، وأمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله، فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانا ويقينا) (¬2). 4 - فقال أبو جهل بن هشام إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد، فقالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسبطا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم ¬

(¬1) مغازي رسول الله (ص) لعروة بن الزبير 114. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير 3/ 92.

إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فرضوا منا بالعقل، فعقلناه لهم، قال يقول الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل. هذا الرأي ولا رأي غيره، فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له ..) (¬1). ... لقد كان رسول الله (ص) هو الهدف الأول عند مشركي قريش، والمحاولات الفردية التي قام بها جبارا قريش أبو جهل بن هشام وعمر بن الخطاب، وما كان ليجرؤ عليها غيرهما وهما اللذان دعا رسول الله (ص) أن يعز الإسلام بأحدهما، ((اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب)) (¬2). أو المحاولات الجماعية التي تمت بعد إسلام عمر واعتزاز المسلمين بأرض الحبشة، والتي تمت ليلة الهجرة، لتؤكد أن قضية اغتياله عليه الصلاة والسلام، قد أجمع عليها أهل مكة جميعا، ما عدا رهط النبي (ص) الأدنين بني هاشم وبني المطلب. وهذا الدرس لا بد أن يعيه الدعاة، في أن قيادة الدعوة هي الهدف الأصلي التي يجتمع عليها المخططون، ويدرك الدعاة كذلك أن الأمر لا يتم إلا غيلة، وليس مواجهة، ويعرف خصوم الإسلام كذلك مدى خسارة الدعوة حين تفقد قائدها، وهو خط سار عليه أعداء الإسلام منذ فجر التاريخ. فقد ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 482/ 1. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 345.

قال فرعون للملأ حوله: {وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} (¬1). والمحاولات التي تمت في أحد لقتل النبي (ص) كادت أن تعصف بالمسلمين فأنزل الله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} (¬2). وكثيرا من المعارك تحسم بالقضاء على قائدها {فهزموعم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ..} (¬3). وكان مقتل قائد جيش المسلمين في بواتية (¬4) نقطة تحول كبرى في التاريخ، حيث أوقفت المد الإسلامي في أوروبا بعد ذلك. ومن أجل هذا فلا بد أن يأخذ المسلمون حذرهم في هذا الأمر، ويحافظوا على حياة قائدهم حماية وذودا ودفاعا، ففي حياته حياة الدعوة. وقد يؤدي مقتله أحيانا إلى ضربة قد تقضي على وجود الحركة ولو إلى حين. ¬

(¬1) غافر:26. (¬2) آل عمران: 144. (¬3) البقرة: 251. (¬4) انظر الأعلام عبد الرحمن الغافقي 3/ 312، وابن الأثير 5/ 64.

سابعا: المقاطعة

سابعا: المقاطعة: (... فلما عرفت قريش أن القوم قد اجتمعوا ومنعوا الرسول، واجتمعوا على ذلك كافرهم ومسلمهم، اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا أمرهم على أن لا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يبايعوهم، ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله (ص) للقتل، وكتبوا بمكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق أن لا يقبلوا من بني هاشم صلحا، ولا تأخذهم بهم رأفة ولا هوادة حتى يسلموا رسول الله (ص) للقتل، فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم فيهن البلاء والجهد، وقطعوا عليهم الأسواق، فلا يتركون طعاما يدنو من مكة، ولا بيعا إلا بادروا إليه ليقتلهم الجوع، يريدون أن يتناوبوا بذلك سفك دم رسول الله (ص). وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله (ص) فأتى فراشه حتى يراه من أراد به مكرا أو غائلة، فإذا نوم الناس أخذ أحد بنيه أو أخواته أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله (ص)، وأمر رسوله أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها. فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف ورجال من قصي ورجال ممن سواهم، وذكروا الذي وقعوا فيه من القطيعة، فأجمعوا أمرهم في ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه، والبراءة منه .. فبعث الله عز وجل على صحيفتهم التي فيها المكر برسول الله (ص) الأرضة فلحست كل شيء كان فيها، وكانت معلقة في سقف الكعبة، وكان فيها عهد الله وميثاقه، فلم تترك فيها شيئا إلا لحسته، وبقي فيها ما كان من شرك أو ظلم أو بغي، فأطلع الله

تعالى رسوله على الذي صنع بالصحيفة، فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبني، فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش، فلما رأوهم أتوا بجماعة أنكروا ذلك، فظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء وأتوهم ليعطوهم رسول الله (ص). فتكلم أبو طالب فقال: قد حدثت بينكم أمور لم تذكرها لكم، فأتوا بصحيفتكم التي فيها مواثيقكم، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها. قال أبو طالب: إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا فيه نصف بيني وبينكم، هذه الصحيفة التي في أيديكم إن ابن أخي قد أخبرني، ولم يكذبني أن الله عز وجل بعث عليها دابة، فلم تترك فيها اسما لله إلا لحسته، وترك فيها غدرهم وتظاهركم علينا بالظلم. فإن كان الحديث كما يقول فأفيقوا فوالله لا نسلمه حتى نموت عن آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبنا، فقتلتم أو استحييتم، قالوا: لقد رضينا بالذي تقول. وفتحت الصحيفة، فوجدوا الصادق المصدوق قد أخبر خبرها قبل أن تفتح. فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب: قالوا: ما كان إلا سحرا من صاحبكم فارتكسوا وعادوا لشر ما كانوا عليه من كفره. والشدة على رسول الله (ص) وأصحابه ورهطه والقيام على ما تعاقدو عليه. فقال أولئك النفر من بني عبد المطلب: إن الأولى بالكذب والسحر غيرنا، فكيف ترون، فإنا نعلم أن الذي أجمعتم عليه من قطيعتنا أقرب للخبث والسحر، ولولا الذي أجمعتم فيه من السحر لم تفسد الصحيفة وهي في أيديكم، فما كان لله عز وجل من اسم هو فيها طمسه، أفنحن السحرة أم أنتم، فندم المشركون من قريش عند ذلك.

وقال رجال: منهم أبو البحتري وهو العاص بن هشام بن الحارث بن عبد العزى بن قصي، ومنهم المطعم بن عدي، وهشام بن عمرو أخو بني عامر بن لؤي، وكانت الصحيفة عنده، وزهبر بن أمية، وزمعة بن الأسود في رجال من قريش ولدتهم نساء من بني هاشم كانوا قد ندمو على الذي صنعوا فقالو: نحن برآء من هذه الصحيفة. قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل) (¬1). (... وأنشأ أبو طالب يقول الشعر في شأن صحيفتهم، ويمتدح النفر الذين تبرؤوا منها وقضوا ما كان فيها من عهد ويمتدح النجاشي) (¬2). وقال ابن هشام عن زياد وعن محمد بن إسحاق: (فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله (ص) قد نزلوا بلدا أصابوا منه أمنا وقرارا. وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم. فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله (ص) وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل، اجتمعوا إليهم وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم. فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك. ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم .. فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب. فدخلوا معه في ¬

(¬1) مغازي رسول الله (ص) لعروة بن الزيبر 115؛116. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير 94/ 3، وقد أوردها متقاربة تماما من مغازي موسى بن عقبة عن الزهري.

شعبه واجتمعو إليه. وخرج من بني هاشم أبو لهب إلى قريش فظاهرهم) (¬1). 1 - أسلوب المقاطعة الذي مر آنفا من أغرب الأساليب وأخطرها في مواجهة الدعوة، وهو يتكافأ مع مدى القوة التي وصلت إليها الدعوة في محاولة من المحاولات اليائسة للإجهاز عليها وإفنائها، وإن كان أسلوب الاغتيال ينال شخص قائد الدعوة وعصبها الرئيسي، فأسلوب المقاطعة يتناول كل فرد فيها، بل يتناول كل فرد يناصرها أو يذوذ عنها أو يتعاطف معها. 2 - وما يفعله الطغاة اليوم في مواجهة الدعاة إلى الله من حرمانهم من أبسط حقوق حياتهم؛ حق العمل لكسب القوت، يطردونهم من وظائفهم ليموتوا جوعا، ويستلبون بيوتهم وممتلكاتهم، والحكم بالسجن والقتل على كل من تتحرك له دوافع الإنسانية في أن يجمع مالا لإطعام عائلاتهم المنكوبة، واعتباره مجرما مثلهم، بل يحرمونهم حتى من حق الهجرة أو الفرار فيحتجزون وثائقهم وجوازات سفرهم، ويوزعون صورهم وأسماءهم على كل مكان أو مركز من مراكز مغادرة بلدهم، ليفنوهم عن آخرهم .. كل هذه الأمور في الحقيقة صور من صور المقاطعة لإبادة الدعاة إلى الله واستئصالهم عن بكرة أبيهم. 3 - ولا يشتفي الطغاة بذلك حيث يمتد سلطانهم فيعملون لدى حلفائهم لإخراجهم من دولهم، أو تسليمهم لهم، ويصادرون أفكارهم وكتبهم في ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 350، 351.

كل مكان، والدعاة محصورون في كل أرض، وتحت كل سماء، لا يجرؤ أحد أن يمد لهم يد العون حتى لا يلقى مصيرهم نفسه {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} (¬1). 4 - أما ظاهرة أبي طالب، وبني هاشم، وبني المطلب فهي ظاهرة فريدة كذلك، فقد ربط أبو طالب مصيره بمصير ابن أخيه محمد (ص)، بل واستفاد من كونه عميد بني هاشم أن ضم بني هاشم وبني المطلب إليه في حلف واحد على الحياة والموت تأييدا لرسول الله (ص) مسلمهم ومشركهم على السواء، وأرسل القصائد الضخمة التي تهز كيان المجتمع القرشي هزا في الموقف الصلب الذي يقفه: كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما نقاتل دونه ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل. 5 - وانتصر بعد ذلك في غزو أعماق المجتمع القرشي حيث تحرك لنقض الصحيفة من ذكرنا من قبل؛ أولئك الخمسة الذين يمتون بصلة قرابة أو رحم لبني هاشم وبني المطلب. وكان فرعون الأمة زعيم المقاطعة أبو جهل في صراع عنيف مع أبي طالب وحلفائه، يخشى أن تنهار المقاطعة، ويلاحق كل من يتعامل معهم، فلما لقي (حكيم بن حزام بن خويلد ومعه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة وهي عند رسول الله (ص) في الشعب، فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تذهب أنت وطعامك ¬

(¬1) التوبة/32.

حتى أفضحك بمكة، فجاءه أبو البختري بن هاشم بن الحارث بن أسد فقال: ما لك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم، فقال له أبو البختري: طعام كان لعمته عنده بعثت به إليه أتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خل سبيل الرجل؛ فأبى أبو جهل ذلك حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحي بعير فضربه وشجه، ووطئه وطئا شديدا، وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله (ص) وأصحابه فيشمتوا بهم) (¬1). ونحن إذن أمام ظاهرة هؤلاي الخمسة الذين انبثقوا من المجتمع الجاهلي، صحيح أنهم لم يكونوا على مستوى بني هاشم وبني عبد المطلب، لكنهم استطاعوا أن يرفعوا هذه الظلامة وهذا الحيف عن المسلمين وأنصارهم وحلفائهم وخططوا له ونجحوا به. والذي نود الإشارة إليه أن كثيرا من النفوس والتي تبدو في ظاهر الأمر من أعمدة الحكم الجاهلي، قد تملك في أعماقها رفضا لهذا الظلم والبغي، وتستغل الفرصة السانحة لمواجهته، وواجب الدعوة إلى الله أن ترصد هذه النوعيات، وتنفذ إلى أعماقها، وتشرح لهم قضيتها، وتفضح الحقد الذي يحرك خصومها، فقد تستطيع من خلالها أن تغير وضعا كاملا، أو تهيئ لانقلاب في الأوضاع والأشخاص يجعل الدعاة إلى الله والدعوة من أمن وحرية وقوة. تعجز من خلال المواجهة المباشرة عن تحقيقه. ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 354/ 1.

6 - ولا يفوتنا من طرف آخر، أن نتحدث عن أبي لهب كظاهرة تتكرر في خط سير الدعوة، ويقف في الطرف النقيض من أبي طالب. وكان المأمول به أن يكون سند الدعوة الأول، فلا بد أن تحذر الدعوة أمثال هذا النماذج، فقد تجد من أقرب حلفائها من يقلب لها ظهر المجن، ويبالغ في إيذاء الدعاة، وحربهم أكثر بكثير مما تلقاه من خصومها الألداء الأشداء. ***

الفصل الرابع عشر سنة الله تعالى في الابتلاء

الفصل الرابع عشر سنة الله تعالى في الابتلاء بسم الله الرحمن الرحيم {الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذي صدقوا وليعلمن الكاذبين} (¬1). إنها سنة الله تعالى في الدعوات والدعاة، أن يقع الابتلاء على المؤمنين، وأن لا يترك الأمر للادعاء فقط، فهذا يتساوى به الجميع، إنما يتم الاختبار من خلال المحنة، فيكشف الدعي من الصادق. تماما كما يتم اختبار المعدن النفيس بالنار، وكلما ازداد صهره انكشفت جودته أو خساسته. فليت الفتنة إذن منفصلة عن الهدف، وأن تقع على العباد الربانيين أحب جنود الله تعالى إليه بلا سبب فغير معقول {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما} (¬2). فما هي الحكمة إذن من الابتلاء؟ ¬

(¬1) العنكبوت 1 - 3. (¬2) النساء 147.

تزكية الفرد

1 - تزكية الفرد: فالجيل الأول الذي تربى من خلال المحنة، هو جيل فريد، أقدم على اختيار طريق الإسلام ويعرف تكاليف هذا الطريق، يستوي في هذا الأمر الحر الكريم في قومه، والعبد والمرأة والصبي. (أ) (فذاك أبو بكر سيد عشيرته، لقيه سفيه من سفهاء قريش، وهو عامد إلى الكعبة، فحثا على رأسه ترابا، فمر بأبي بكر الوليد بن المغيرة أو العاص بن وائل فقال أبو بكر: ألا ترى إلى ما يصنع هذا السفيه؟ قال: أنت فعلت هذا بنفسك. قال وهو يقول: أي رب ما أحلمك! أي ربي ما أحلمك! أي رب ما أحلمك!) (¬1). (ب) وذاك راعي الغنم عبد الله بن مسعود قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه قال: كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله (ص) بمكة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اجتمع يوما أصحاب رسول الله (ص) فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا؛ قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعوه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني فإن الله ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 374، وقد رواه ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم عن ابن القاسم بن محمد ن أبي بكر، فكل رجاله ثقات.

سيمنعني. قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} رافعا بها صوته {الرحمن علم القرآن} ثم استقبلها يقرؤها. قال: فتأملوه فجعلوا يقولون ماذا قال ابن أم عبد؟ ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه، فجعلوا يضربونه في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه، وقد أثروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا؟ قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون) (¬1). وذاك فتى مكة جمالا ومالا مصعب بن عمير رضي الله عنه (جـ) (فعن إبراهيم بن محمد العبدري عن أبيه قال: كان مصعب بن عمير فتى مكة شبابا وجمالا وسبيبا، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه مليئة كثيره المال، تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقه. وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرمي من النعال. فكان رسول الله (ص) يذكره ويقول: ((ما رأيت بمكة أحدا أحسن لمة ولا أرق حلة، ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير)). فبلغه أن رسول الله (ص) يدعو إلى الإسلام في دار أرقم بن أبي الأرقم، فدخل عليه فأسلم وصدق به، وخرج. فكتم إسلامه خوفا من أمه وقومه، فكان يختلف إلى رسول الله (ص) سرا. فبصر به عثمان بن طلحة يصلي، فأخبر أمه وقومه، فأخذوه ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 314.

فحبسوه، فلم يزل محبوسا حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى، ثم رجع مع المسلمين حين رجعوا، فرجع متغير الحال قد حرج (يعني غلظ) فكفت أمه عنه من العذل) (¬1). وعن عمر بن عبد العزيز قال: أقبل مصعب بن عمير ذات يوم، والنبي (ص) جالس في أصحابه، عليه قطعة نمرة (¬2) قد وصلها بإهاب (¬3)، قد ردنه (¬4) ثم وصله إليها. فلما رآه أصحاب رسول الله (ص) نكسوا رؤوسهم رحمة له، ليس عندهم ما يغيرون عنه، فسلم فرد عليه النبي (ص)، وأحسن عليه الثناء وقال: ((الحمد لله ليقلب الدنيا بأهلها، لقد رأيت هذا (يعني مصعبا) وما بمكة فتى من قريش أنعم عند أبويه نعيما منه، ثم أخرجه من ذلك الرغبة في الخير، في حب الله ورسوله)) (¬5). (د) وتلك فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها وقد دخل عمر عليها فقال: (ما هذه الهيمنة التي سمعت؟ قالت له: ما سمعت شيئا؛ قال: بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بختنة سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها، فضربها، فشجها؛ فلما فعل قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا ¬

(¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 82/ 3. (¬2) نمرة: بردة من صوف تلبسها الأعراب. (¬3) إهاب: قطعة من جلد. (¬4) ردنه: جعل له كما. (¬5) الطبقات الكبرى لابن سعد 82/ 3.

نفي الخبث عن الدعوة

وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك ..) (¬1) 2 - نفي الخبث عن الدعوة: وذلك لأن الذين يداهنون وينافقون يسقطون وتسقط دعوتهم معهم، ولا يلقون عند الناس إلا الاستخفاف، حتى عند خصومهم الذين يحاربونهم ليفتنوهم عن دينهم فحين يفتنون ويسيرون في ركاب الطغاة، يصبحون في حس هؤلاء الطغاة عبيدا أذلاء، لا يمكن أبدا أن يتأثروا بهم. أو يسمعوا إليهم، بينما يكبر فى عين الناس أولئك المجاهدون الذين يضحون بأرواحهم وحياتهم وأموالهم في سبيل دعوتهم، ويرتفعون هم ودعوتهم في قلوب الناس: الأصدقاء والخصوم، ويبحث الناس عن سر هذه الدعوة التي جعلت هؤلاء الناس يضحون بحياتهم في سبيلها. (فعن المغيرة بن شعبة قال: أول يوم عرفت رسول الله (ص) أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله (ص) فقال رسول الله (ص) لأبي جهل: ((يا أبا الحكم! هلم إلى الله وإلى رسوله، أدعوك إلى الله)) فقال أبو جهل: يا محمد هل أنت منته عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت؟ فنحن نشهد أن قد بلغت، فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك، فانصرف رسول الله (ص)، وأقبل علي فقال: والله إني لأعلم أن ما يقوله حق، ولكن يمنعني شيء، إن بني قصي قالوا فينا الحجابة، فقلنا: نعم، ثم قالوا فينا السقاية، فقلنا نعم، ثم قالوا: فينا ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 344.

الدعاية لها

الندوة، فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا اللواء، فقلنا: نعم. ثم أطعموا فأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي والله لا أفعل) (¬1). وعن أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه قال فيما رواه عن قيصر: (... وسألتك أشرف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل، وسألتك: أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب .. فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين .. فقلت لأحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملوك بني الأصفر، فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام (¬2). 3 - الدعاية لها: فصبر المؤمنين على الابتلاء دعوة صامتة لهذا الدين وهي التي تدخل الناس في دين الله، ولو وهنوا أو استكانوا لما استجاب لهم أحد. لقد كان ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 71/ 3، (ثم قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس؛ حدثنا أحمد، حدثنا يونس عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن المغيرة بن شعبة قال) ثم ذكر الحديث. انظر دلائل النبوة 207/ 2. (¬2) البخاري ك. الإيمان ج 1 ص 6.

الفرد الواحد يأتي إلى النبي (ص) فيسلم، ثم يأتيه أمر النبي (ص) أن يمضي إلى قومه، يدعوهم، ويصبر على تكذيهم وأذاهم، ويتابع طريقه حتى يعود بقومه إلى رسول الله (ص). (فعن عبد الواحد بن أبي عون الدوسي قال: كان الطفيل بن عمرو الدوسي رجلا شريفا شاعرا مليئا كثير الضيافة. فقدم مكة ورسول الله (ص) بها، فمشى إليه رجال من قريش فقالوا: يا طفيل إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وفرق جماعتنا وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه، وبين الرجل وزوجته، إنا نخشى عليك وعلى قومك مثل ما دخل علينا منه فلا تكلمه ولا تسمع منه. قال الطفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا لا أكلمه، فغدوت إلى المسجد، وقد حشوت أذني كرسفا (يعني قطنا) فرقا (¬1) من أن يبلغني شيء من قوله .. فغدوت يوما إلى المسجد فإذا رسول الله (ص) قائم يصلي عند الكعبة فقمت قريبا منه فسمعت كلاما حسنا فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحاء تركته .. فمكثت حتى انصرف إلى بيته ثم اتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت معه فقلت: يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا ¬

(¬1) فرقا: خوفا.

- للذي قالوا لي - فوالله ماتركوني يخوفوني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك. ثم إن الله أبى إلا أن يسمعنيه فسمعت قولا حسنا فاعرض علي أمرك. فعرض عليه رسول الله (ص) الإسلام وتلا عليه القرآن. فقال: لا والله ما سمعت قولا قط أحسن من هذا ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، فقلت: يا نبي الله: إني امرؤ مطاع في قومي وأنا راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يكون عونا عليهم فيما أدعوهم إليه .... ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطاؤوا علي، ثم جئت رسول الله (ص) بمكة فقلت: يا رسول الله قد غلبتني دوس فادع الله عليهم. فقال: ((اللهم اهد دوسا وائت بها)) فقال لي رسول الله (ص): ((اخرج إلى قومك فادعهم وارفق بهم)) فخرجت إليهم. فلم أزل بأرض دوس أدعوها حتى هاجر رسول الله (ص)، ومضى بدر وأحد والخندق. ثم قدمت على رسول الله (ص) بمن أسلم من قومي، ورسول الله (ص) بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين بيتا أو ثمانين بيتا من دوس، ثم لحقنا رسول الله (ص) بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين ..) (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنه يذكر إسلام أبي نذر قال: (.... حتى دخل على النبي (ص) ودخل معه، فسمع من قومه وأسلم مكانه. فقال له النبي (ص): ((ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري)) فقال: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم. فخرج حتى أتى ¬

(¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 176/ 3.

جذب بعض العناصر القوية إليها

المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. ثم قام فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس فأكب عليه، فقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار؟ وأن طريق تجارتكم إلى الشام؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد بمثلها فضربوه وثاروا إليها فأكب العباس عليه ..) (¬1). وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (... ثم أتيت رسول الله (ص) فقال: ((إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب. فهل أنت مبلغ عني قومك؟ عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم ... فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا. فأسلم نصفهم، وكان يؤمهم إيمان بن رحضة الغفاري، وكان سيدهم، وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله (ص) المدينة أسلمنا، فقدم رسول الله (ص) المدينة، فأسلم نصفهم الباقي، وجاءت أسلم فقالوا: يا رسول الله: إخوتنا نسلم على الذي أسلموا عليه، فأسلموا. فقال رسول الله (ص): ((غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله))) (¬2). 4 - جذب بعض العناصر القوية إليها: وأمام ثبات المؤمنين وتضحياتهم، تتوق النفوس القوية إلى هذه العقيدة، ومن خلال الصلابة الإيمانية، تكبر عند هذه الشخصيات الدعاة والدعوة، فيسارعون إلى الإسلام دون تردد. ¬

(¬1) البخاري: ك. مناقب الأنصار. ب. إسلام أبي ذر م 2 ج 5 ص 61. (¬2) مسلم ك. فضائل الصحابة 44/ ب من فضائل أبي ذر ج 4 ح 132.

وأعظم الشخصيات التي اعتز بها الإسلام عبرت إلى الإسلام من خلال هذا الطريق: (فعن محمد بن كعب القرظي قال: كان إسلام حمزة رضي الله عنه حمية، وكان يخرج من الحرم فيصطاد، فإذا رجع مر بمجلس قريش وكانوا يجلسون عند الصفا والمروة، فيمر بهم، فيقول: رميت كذا وكذا، وصنعت كذا وكذا، ثم ينطلق إلى منزله، فأقبل من رميه ذات يوم فلقيته امرأة فقالت: يا أبا عمار ماذا لقي ابن أخيك من أبي جهل: شتمه وتناوله وفعل وفعل، فقال: هل رآه أحد؟ قالت: أي والله لقد رآه ناس فأقبل حتى انتهى إلى ذلك المجلس عند الصفا والمروة. فإذا هم جلوس وأبو جهل فيهم فاتكأ على قومه وقال رميت كذا وكذا، وفعلت كذا وكذا، ثم جمع يديه بالقوس فضرب بها بين أذني أبي جهل فدق سنتها ثم قال: خذها بالقوس، وأخرى بالسيف. أشهد أنه رسول الله (ص) وأنه جاء بالحق من عند الله. قالو: يا أبا عمار إنه سب آلهتنا وإن كنت أنت وأنت أفضل منه، ما أقررناك وذاك وبا كنت يا أبا عمار فاحشا) (¬1). وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: (وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه، وقالوا: ما نراك يا حمزة إلا قد صبوت، قال حمزة: ومن يمنعني. وقد استبان ¬

(¬1) مجمع الزوائد ج 9 ب. ما جاء في فضل حمزة ص266، وقال الهيثمي: رواه الطبراني مرسلا ورجاله رجال الصحيح.

لي منه ما أشهد أنه رسول الله وأن الذي يقول حق؟ فالله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين. فقال أبو جهل: دعوا أبا عمار، فإني والله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله (ص) قد عز وامتنع. فكفوا عما كانوا ينالون منه. قال ابن إسحاق: ثم رجع حمزة إلى بيته فأتاه الشيطان فقال له: أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابىء، وتركت دين آبائك، للموت خير لك مما صنعت. فأقبل حمزة على نفسه وقال: ما صنعت؟ اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا، فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان، حتى أصبح فغدا على رسول الله (ص) فقال: يابن أخي! إني وقعت في أمر ولا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلي على ما لا أدري ما هو أرشد أم غي شديد. فحدثني حديثا فقد اشتهيت يابن أخي أن تحدثني، فأقبل رسول الله (ص) فذكره ووعظه، وخوفه وبشره، فألقى الله في قلبه الإيمان بما قال رسول الله (ص)، فقال: أشهد أنك الصادق شهادة الصدق فأظهر يا بن أخي دينك فوالله ما أحب أن لي ما أظلته السماء، وأني على ديني الأول. فكان حمزة ممن أعز الله به الدين. وهكذا رواه البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير به) (¬1). عن ثوبان قال: قال رسول الله (ص): ((اللهم أعز الإسلام بعمر بن ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 37/ 3 عن دلائل النبوة للبيهقي 2/ 213؛ 214.

الخطاب)) وقد ضرب أخته أول الليل وهي تقرأ: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} حتى ظن أنه قتلها ثم قام من السحر فسمع صوتها تقرأ {اقرأ باسم ربك الذي خلق} فقال: والله ما هذا بشعر ولا همهمته. فذهب حتى أتى رسول الله (ص) فوجد بلالا على الباب، فدفع الباب فقال بلال: من هذا؟ قال: عمر بن الخطاب. فقال: حتى أستأذن لك على رسول الله (ص). فقال بلال: يا رسول الله عمر في الباب. فقال رسول الله (ص): ((إن يرد الله بعمر خير يدخله في الدين)) فقال لبلال: ((افتح)) وأخذ رسول الله (ص) بضبعيه وهزه وقال: ((ما الذي تريد، وما الذي جئت به؟)) فقال له عمر: اعرض علي الذي تدعو إليه. فقال: ((تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله)) فأسلم عمر مكانه. فقال: ((اخرج)) (¬1). وعن أسلم مولى عمر قال: قال عمر بن الخطاب: أتحبون أن أعلمكم أول إسلامي؟ قلنا: نعم. قال: كنت أشد الناس على رسول الله (ص)، فبينا أنا في يوم شديد الحر في بعض طرق مكة إذ رآني رجل من قريش. فقال: أين تذهب يابن الخطاب؟ قلت: أريد هذا الرجل. قال: ابن الخطاب قد دخل هذا الأمر في منزلك وأنت تقول هذا؟ قلت: وما ذاك؟ فقال: إن أختك قد ذهبت إليه. قال: فرجعت مغضبا حتى قرعت عليها الباب - وكان رسول الله (ص) إذا أسلم بعض من لا شيء له ضم الرجل والرجلين إلى ارجل ينفق عليه - وكان ضم رجلين من أصحابه إلى زوج ¬

(¬1) رواه الطبراني وفيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو متروك وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. مجمع الزوائد 62/ 9.

أختي، فقرعت الباب فقيل لي: من هذا؟ قلت: عمر بن الخطاب وقد كانوا يقرأون كتابا في أيديهم. فلما سمعوا صوتي قاموا حتى اختبأوا في مكان وتركوا الكتاب. فلما فتحت لي أختي الباب قلت: أيا عدوة نفسها صبوت؟! وأرفع شيئا فأضرب به على رأسها، فبكت المرأة، وقالت: يابن الخطاب اصنع ما كنت صانعا فقد أسلمت. فذهبت وجلست على السرير، فإذا بصحيفة وسط الباب. قلت: ما هذه الصحيفة هاهنا؟ فقالت لي: دعها عنك يابن الخطاب فإنك لا تغتسل من الجنابة ولا تتطهر، وهذا لا يمسه إلا المطهرون. فما زلت بها حتى أعطتنها. فإذا فيها {بسم الله الرحمن الرحيم} فلما قرأت الرحمن الرحيم تذكرت من أين اشتق. ثم رجعت إلى نفسي فقرأت {سبح لله ما في السموات وما في الأرض .. وهو العزيز الحكيم} حتى بلغ: {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فخرج القوم متبادرين، فكبروا واستبشروا بذلك ثم قالو لي: أبشر يابن الخطاب فإن رسول الله (ص) دعا يوم الاثنين فقال: ((اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك عمر بن الخطاب وأبي جهل بن هشام)) وإنا لنرجو أن تكون دعوة رسول الله (ص) لك. فقلت: دلوني على رسول الله (ص) أين هو؟ فلما عرفوا الصدق دلوني عليه في المنزل الذي هو فيه فجئت فقرعت الباب، فقالوا: من هذا؟ قلت: عمر بن الخطاب، وقد علمو شدتي على رسول الله (ص) ولم يعلموا إسلامي، فما اجترأ أحد منهم أن يفتح لي، حتى قال لهم رسول الله (ص): ((افتحوا له، فإن يرد الله به خيرا يهده)). قال: ففتح لي الباب، فأخذ رجلان بعضدي حتى دنوت من رسول

الله (ص) فقال لهم ((أرسلوه)) فأرسلوني، فجلست بين يديه، فأخذ بمجامع قميصي ثم قال: ((أسلم يابن الخطاب اللهم اهده)) فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال: فكبر المسلمون تكبيرة سمعت في طرق مكة، وقد كانوا سبعين قبل ذلك. وكان الرجل إذا أسلم فعلموا به الناس يضربونه ويضربهم. قال: فجئت إلى رجل فقرعت عليه الباب. فقال: من هذا؟ قلت: عمر بن الخطاب. فخرج إلي. قلت له: أعلمت أني قد صبوت. قال: أوقد فعلت؟ قلت: نعم. قال: لا تفعل ودخل البيت وأجاف (¬1) الباب دوني. فقلت: ما هذا بشيء، فإذا أنا لا أضرب ولا يقال لي شيء. فقال الرجل: أتحب أن يعلم إسلامك؟ قلت: نعم. قال: إذا جلس الناس في الحجر فائت فلانا. فقل له فيما بينك وبينه: أشعرت أني صبوت؟ فإنه قلما يكتم الشيء. فجئت إليه وقد اجتمع الناس في الحجر، فقلت له فيما بيني وبينه: أشعرت أني قد صبوت. قال: فقال: أفعلت؟ قلت: نعم. فنادى بأعلى صوته: ألا إن عمر قد صبا. قال: فثار إلي أولئك الناس، فما زالوا يضربونني وأضربهم، حتى أتى خالي، فقيل له: إن عمر قد صبا. فقام على الحجر فنادى بأعل صوته: ألا إني قد أجرت ابن أختي، فلا يمسه أحد. قال: فانكشفوا عني. فكنت لا أشاء أن أرى أحدا من المسلمين يضرب إلا رأيته. فقلت: ما هذا بشيء إن الناس يضربون ولا أضرب. ولا يقال لي شيء. فلما جلس الناس في الحجر جئت إلى خالي، فقلت: اسمع جوارك عليك رد. فقال: لا تفعل فأبيت، فما زلت أضرب حتى أظهر الله الإسلام) (¬2). ¬

(¬1) أجاف: أغلق. (¬2) مجمع الزوائد 9/ 64 وقال الهيثمي رواه البزار وفيه أسامة بن زيد بن أسلم وهو ضعيف.

وجوب الصبر على الابتلاء

وعن عمر أنه أتى النبي (ص) فقال: يا رسول الله إني لا أدع مجلسا جلسته في الكفر إلا أعلنت فيه الإسلام. فأتى المسجد وفيه بطون قريش متحلقة. فجعل يعلن الإسلام. ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فثار المشركون فجعلوا يضربونه ويضربهم. فلما تكاثروا عليه خلصه رجل، فقلت لعمر من الرجل الذي خلصك من المشركين؟ قال: العاص بن وائل (¬1). وجوب الصبر على الابتلاء إذا كان الابتلاء لا بد قائما بالنسبة للمؤمن، فالصبر عليه وعلى مشاقه واجب، ومن فقد الصبر فافتتن في دينه أو ارتد على عقبه فقد وقع في سخط الله عز وجل. {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين أمنوا وليعلمن المنافقين} (¬2). (وأكمل الخلق عند الله من كمل مراتب الجهاد كلها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكمل الخلق، وأكرمهم عند الله خاتم أنبيائه ورسله، فإنه كمل مراتب الجهاد، وجاهد في ¬

(¬1) المصدر نفسه 9/ 65 وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات. (¬2) العنكبوت.1، 11.

الله حق جهاده، وشرع في الجهاد من حين بعث إلى أن توفاه الله عز وجل، فإنه لما نزل عليه: {يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر ..} (¬1) شمر عن ساق الدعوة وقام في ذات الله أتم قيام، ودعا إلى الله ليلا ونهارا، وسرا وجهارا. فلما نزل عليه: {فاصدع بما تؤمر} (¬2) فصدع بأمر الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، فدعا إلى الله الصغير والكبير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، والأحمر والأسود، والجن والإنس، ولما صدع بأمر الله، وصرح لقومه بالدعوة، وناداهم بسب آلهتهم، وعيب دينهم، اشتد أذاهم له، ولمن استجاب له من أصحابه، ونالوهم بأنوع الأذى، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه كما قال تعالى: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} (¬3) وقال: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن} (¬4) وقال: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} (¬5)، فعزى الله تعالى نبيه بذلك وأن له أسوة بمن سبقه من المرسلين، وعزى أتباعه بقوله: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} (¬6) .. فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه، فابتلى بما يؤلمه، وإن لم يؤمن بهم ولم يطعهم، عوقب في ¬

(¬1) المدثر: 1 - 4. (¬2) الحجرات 94. (¬3) فصلت 41. (¬4) الأنعام 112. (¬5) الذاريات 52. (¬6) البقرة 214.

الدنيا والآخرة، فحصل له ما يؤلمه. وكان هذا المؤلم أعظم وأدوم من ألم اتباعهم، فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت، أو رغبت عن الإيمان. لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمعرض عن الإيمان يحصل له اللذة ابتداء، ثم يصير في الألم الدائم، وسئل الشافعي رحمه الله: أيما أفضل للرجل: أن يمكن أو يتلى؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى، والله تعالى ابتلى أولي العزم من الرسل، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة. وإنما تفاوت أهل الآلام في العقول، فأعقلهم من باع ألما مستمرا عظيما بألم متقطع يسير، وأشقاهم من باع الألم المنقطع اليسير، بالألم العظيم المستمر) (¬1). ... ¬

(¬1) زاد المعاد لابن القيم 2/ 45، 46.

الفصل الخامس عشر الاستفادة من قيم الجاهلية

الفصل الخامس عشر الاستفادة من قيم الجاهلية كما سبق وذكرنا من قبل، فليس الهدف هو التعذيب والألم نفسه، إنما الهدف هو تمحيص الصف المؤمن، وتميز الصادق من المنافق، وتميز الخبيث من الطيب. {ما كان الله ليذر المؤمدن على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيت من الطيب وما كان الله يطلعكم على الغيب ..} (¬1). {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} (¬2). فإذا هيئت للدعوة ظروف، ترفع الأذى عن المسلمين، وتكشف المحنة دون مساومات أو تنازلات من الدعوة فللدعاة الاستفادة من هذه الظروف. ولعل ظاهرة الجوار تبدو مثلا صارخا في هذا المجال، ولننظر كيف تعامل المسلمون مع هذه الظاهرة. ¬

(¬1) آل عمران 179. (¬2) الأنفال 37.

1 - لقد كان القدوة والأسوة رسول الله (ص) هو الذي استفاد من هذه الظاهرة ابتداء حين أجاره عمه أبو طالب. (أ) (فلما بادى رسول الله (ص) قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله، لم يبعد منه قومه، ولم يردوا عليه - فيما بلغني - حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه، وأجمعوا خلافه وعدوانه إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون، وحدب على رسول الله عمه أبو طالب، ومنعه وقام دونه. ومضى رسول الله (ص) على أمر الله، مظهرا لأمره لا يرده عنه شيء، فلما رأت قريش أن رسول الله (ص) لا يعتبهم من شيء (¬1) أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه فلم يسلمه لهم مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب .. فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا، وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه) (¬2). لقد حاول أبو طالب أن يتحاشى الاصطدام مع قريش، لعل ابن أخيه محمدا يغير شيئا من منهجه ويكف عن عيب الآلهة، وابن أخيه في ¬

(¬1) لا يعتبهم من شيء: أي لا يرضيهم. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 263/ 1.

نفسه أكبر من العتب. • وكانت هذه المحاولة الأولى. (ب) (... ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين - أو كما قالوا له - ثم انصرفوا عنه. فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله (ص) ولا خذلانه ... فبعث إلى رسول الله (ص) فقال له: يابن أخي، إن قومك قد جاؤوني، فقالوا لي كذا وكذا - للذي كانوا قالوا له - فابق علي وعل نفسك، ولا تحملي من الأمر ما لا أطيق. قال: فظن رسول الله (ص) أنه قد بدا لعمه فيه بداء (¬1) أنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه. فقال رسول الله: ((يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته)) ثم استعبر رسول الله فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: اقبل يابن أخي، فأقبل عليه رسول الله (ص) فقال: اذهب يابن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا) (¬2). ¬

(¬1) بدا له فيه بداء: ظهر له رأي آخر. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 266.

(وعن عقيل بن أبي طالب قال: جاءت قريش إلى أبي طالب، فقالوا: إن ابن أخيك قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا، فقال: يا عقيل انطلق فائتني بمحمد، فانطلقت إليه فاستخرجته من كنس - يقول بيت صغير - فجاء به في الظهيرة في شدة الحر، فلما أتاهم قال: إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم: فانته عن أذاهم. فحلق رسول الله ببصره إلى السماء، فقال: ((ترون هذه الشمس؟)) قالوا: نعم. قال: ((فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشتعلوا منه شعلة)) فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط فارجعوا) (¬1). وفشلت المحاولة الثانية في أن تزحزح محمدا (ص) قيد شعرة عن دعوته ودينه فإذا كان الجوار ولابد، فعلى أن يمضي رسول الله (ص) في أمره كما أمره الله، ولو أعطي النيرين الشمس والقمر، وعلى الرواية الأخرى: أخذ شعلة من الشمس، أسهل من ترك كلمة حق يصدع يها في سبيل الله. ثم كانت المحاولة الثالثة: (ج) (ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله (ص) وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مشوا إليه بعمار بن الوليد ابن المغيرة، فقالوا له - فيما بلغني - يا أبا طالب هذا عمار بن ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 46/ 3،47. وقال: رواه البخاري في التاريخ والبيهقي واللفظ له. الدلائل 186/ 2،187.

الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك، واسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم، فنفتله، فإنما هو رجل برجل. فقال: والله لبئس ما تسومونني! أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله لا يكون أبدا. قال: فقال المطعم بن عدي: والله يا أبا طالب، لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا، فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني، ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك - أو كما قال - فحقب الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وبادى بعضهم بعضا) (¬1). إن اجتماع قريش كلها على مبادلة عمارة بن الوليد بمحمد بن عبد الله في محاولة يائسة، لتتمكن من قتل محمد والتخلص منه، هو من أغرب ما روى تاريخ السيرة، واعتبر المطعم بن عدي أن القوم أنصفوا أبا طالب في هذا العرض، بينما وقف أبو طالب كالطود في وجه هذا العرض. أو أن يبادل محمدا بأحد في هذه الأرض. وانتهى من ذهن أبي طالب أن يناقش ابن أخيه محمدا بكلمة واحدة إنه على قول ما أحب، ولو كان عيب الآلهة، وسب الدين، وتضليل الآباء، إنها إجارة مفتوحة لا تقبل ذرة من التعديل أو التغيير. ولاحظ أبو طالب أن قريشا كلها وقفت ضده بما في ذلك فرعا ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 266/ 1، 267.

بني عبد مناف، بنو نوفل وعميدهم المطعم بن عدي، وبنو عبد شمس، وسادتهم عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وتمزق كلمة بني عبد مناف، وانقسامهم تجعل العبء أضخم، وتجعل أبا طالب وإخوانه من بني هاشم وحدهم في الساحة. أرى أخوينا من أبينا وأمنا ... إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا ... هما نبذانا مثل ما ينبذ الجمر وأمام ضراوة الحرب، فقد عمد أبو طالب إلى بني هاشم وبني المطلب، فرعي بني عبد مناف ليكونوا يدا واحدة وراء محمد (ص). إنها أعراف جاهلية بحتة، تقوم على أساس القبلية والحسب والنسب، وتسخر كلها لخدمة دين الله ودعوته ورسوله. (وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه، من منع رسول الله (ص) والقيام دونه فاجتمعا إليه وقاموا معه، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبي لهب، عدو الله الملعون. فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جهدهم معه، وحدبهم عليه، جعل يمدحهم، ويذكر قديمهم، ويذكر فضل رسول الله (ص) فيهم، ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم، وليحدبوا معه على أمره، فقال: إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر ... فعبد مناف سرها وصميمها وإن حصلت أشراف عبد منافها ... ففي هاشم أشرافها وقديمها

وإن فخرت يوما فإن محمدا ... هو المصطفى من سرها وكريمها تداعت قريش غثها وثمينها ... علينا فلم تظفر وطاشت حلومها وكنا قديما لا نقر ظلامة ... إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها) (¬1) لقد حرص أبو طالب على الإشادة ببني عبد مناف ليشارك بنو المطلب بهذا الفضل مع بني هاشم، وليفسح المجال مفتوحا أمام أخويهم بني عبد شمس بن عبد مناف، وبني نوفل بن عبد مناف لينضما لحلف أبي طالب، لحماية عميد بني عبد مناف محمد بن عبد الله (هو المصطفى من سرها وكريمها)، واستطاع بهذا الموقف أن يهيىء حرية الدعوة إلى الله للرسول (ص) في كل أرض وفي كل ناد، وفي كل موسم. وحين حاول أبو جهل أن يخفر جوار أبي طالب - كما رأينا من قبل - تصدى له حمزة، فشجه بقوسه وقال له: تشتم محمدا وأنا على دينه، فرد علي ذلك إن استطعت. إنها ظاهرة فذة أن تقوم الجاهلية بحماية من يسب آلهتها، ويعيب دينها، ويسفه أحلامها، وباسم هذه القيم يقدمون المهح والأرواح، ويخوضون المعارك والحروب، ولا يمس محمد بسوء. (د) (فلما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرمة مكة، وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 269/ 1.

على ذلك يخبرهم وغيرعم في ذلك من شعره، أنه غير مسلم رسول الله (ص)، ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه. فقال: ولما رأيت القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل وقد حالفوا قوما علينا أظنة ... يعضون غيظا خلفنا بالأنامل صبرت لهم نفسي بسمراء (¬1) سمحة ... وأبيض (¬2) عضب من تراث المقاول وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل) (¬3) ونراه يتعوذ بالبيت وبكل المقدسات فيه، ويقسم فيه كذلك، أنه لن يسلم محمدا ولو سالت الدماء أنهارا، واحتدم سير المعارك: كذبتم وبيت الله نبزي (¬4) محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل ونسلمه (¬5) حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا ولحلائل (¬6) وينهض قوم في الحديد إليكم ... نهوض الروايا (¬7) تحت ذات الصلاصل (¬8) ولا ينسى أن يقرع زعماء بني عبد مناف بأسمائهم لخذلانهم إياه، فلعتبة بن ربيعه يقول: ¬

(¬1) سمراء: كناية عن الرمح. (¬2) أبيض عضب: كناية عن السيف. (¬3) السيبرة النبوية لابن هشام 1/ 273. (¬4) نبزي: أي نسلمه ونغلب عليه. (¬5) ونسلمه حتى نصرع حوله: أي كذبتم أن نسلمه قبل أن نصرع حوله. (¬6) الحلائل: الزوجات. (¬7) الروايا: الإبل التي تحمل الماء للسقاية. (¬8) الصلاصل: المزادات لها صلصلة الماء.

فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح (¬1) ... حسود كذوب مبغض ذي دغاول (¬2) ولأبي سفيان بن حرب يقول: ومر أبو سفيان عني معرضا ... كما مر قيل (¬3) من عظام المقاول يفر إلى نجد وبرد مياهه ... ويزعم أني لست عنكم بغافل وللمطعم بن عدي سيد بني نوفل يقول: أمطعم لم أخذلك في يوم نجدة ... ولا معظم عند الأمور الجلائل أمطعم إن القوم ساموك خطة ... فإني متى أوكل فلست بوائل (¬4) جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... عقوبة شر عاجلا غير آجل) (¬5) (هـ) وكانت أعنف المعارك حين كتبت الصحيفة: (قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله (ص) قد نزلوا بلدا أصابوا منه أمنا وقرارا، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم، فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله (ص) وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني ¬

(¬1) الكاشح: مضمر العداوة. (¬2) الدغاول: الدواهي. (¬3) قيل: الرئيس الكبير في اليمن. (¬4) لست بوائل: لست بناج. (¬5) السيرة النبوية لابن هشام مقتطفان من 273/ 1 - 280.

المطلب، على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم .. فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب، فدخلوا معه في شعبه، واجتمعوا إليه) (¬1). وقال عروة بن الزبير: (.... وعمد المشركون من قريش، فأجمعوا مكرهم وأمرهم على أن يقتلوا رسول الله علانية، فلما رأى ذلك أبو طالب، جمع بني عبد المطلب، فأجمع لهم أمرهم على أن يدخلوا رسول الله (ص) شعبهم، ويمنعوه ممن أراد ... فلما عرفت قريش أن القوم قد اجتمعوا ومنعوا الرسول، واجتمعوا على ذلك كافرهم ومسلمهم، اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا أمرهم على أن لا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يبايعوهم، ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله (ص) للقتل .. فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم فيهن البلاء والجهد، وقطعوا عليهم الأسواق ..) (¬2). وأكد أبو طالب أنه وبنو هاشم وبنو المطلب، على العهد، فداء لرسول الله (ص) مهما نزل بهم من جهد وبلاء: ألا أبلغا عني على ذات بيننا ... لؤيأ وخصا من لؤي بني كعب ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 350، 351. (¬2) المغازي لعروة بن الزبير /114.

فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا ... لعزاء (¬1) منعض (¬2) الزمان ولا كرب ولم تبن (¬3) منا ومنكم سوالف (¬4) ... وأيد أترت (¬5) بالقساسية (¬6) الشهب أليس أبونا هاشم شد أزره ... وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب ولسنا نمل الحرب حتى تملنا ... لا نشتكي ما قد ينوب من النكب (و) وكانت الحلقة الأخيرة يوم حضرت أبو طالب الوفاة: قال ابن إسحاق: ولما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشا ثقله، قالت قريش بعضها لبعض إن حمزه وعمر قد أسلما، وبد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب، فليأخذ لنا على ابن أخيه، وليعطه منا، والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا. فقال أبو طالب: يابن أخي هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك، فقال رسول الله (ص): ((نعم كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم)) فقال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات، قال: ((تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعدون من دونه)) قال: فصفقوا بأيديهم ثم قالوا: أتريد يا ¬

(¬1) العزاء: الشدة. (¬2) عض الزمان: شدته (إشارة لما نزل بهم من البلاء). (¬3) تبن: تنقطع. (¬4) سوالف: صفحات الأعناق. (¬5) أترت: قطعت. (¬6) القساسية الشهب: سيوف تنسب إلى قساس.

محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا إن أمرك لعجب. ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا ومضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرقوا. فقال أبو طالب لرسول الله (ص): ما رأيتك سألتهم شططا، فلما قال أبو طالب طمع رسول الله في إسلامه، فجعل يقول له: ((أي عم، فأنت فقلها، أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة)) قال: فلما رأى حرص رسول الله (ص) عليه، قال: يابن أخي، والله لولا مخافة السبة عليك، وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها) (¬1). وحكي عن هشام بن السائب أو ابنه أنه قال: لما حضرت أبو طالب الوفاة جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال: ..... فأوصيكم بمحمد خيرا، فإنه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به .. وايم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب، وأهل البر في الأطراف قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت .. قد محضته العرب ودادها، وأصغت له فؤادها، وأعطته قيادها، دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم كونوا له ولاة، ولحزبه حماة ...) (¬2). قال ابن إسحاق: ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 417. (¬2) الروض الأنف للسهيلي 171/ 2.

(ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله (ص) المصائب بهلك خديجة وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها، وبهلك عمه أبي طالب وكان له عضدا وحرزا في أمره، ومنعة وناصرا على قومه، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين، فلما هلك أبو طالب، نالت قريش من رسول الله (ص) من الأذى، ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابا. قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، قال: لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله (ص) ذلك التراب، دخل رسول الله (ص) بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل التراب عن رأسه وتبكي، ورسول الله (ص) يقول لها: ((لا تبكي يا بنية، فإن الله مانع أباك)) قال: ويقول بين ذلك: ((ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب)) (¬1). 2 - ويأتي دور المطعم بن عدي بعد دور أبي طالب، وقد رأينا كيف كان المطعم خارجا على بني عبد مناف ومع قريش، لكنه لم يجد مفرا من إجارة محمد (ص) وقد طلب منه ذلك، وعرض نفسه للموت من أجله. قال ابن كثير: (وقد ذكر الأموي في مغازيه: أن رسول الله (ص) بعث أريقط إلى الأخنس (¬2) بن شريق، فطلب منه أن يجيره بمكة، فقال: إن ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 416/ 1. (¬2) الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة أخوال النبي (ص) وهو الذي خنس ببني زهرة يوم بدر فلم يحضرها زهري واحد.

حليف قريش لا يجير على صميمها. ثم بعثه إلى سهيل بن عمرو (¬1) ليجيره. فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير بني كعب بن لؤي. فبعثه إلى المطعم بن عدي ليجيره. فقال: نعم! قل له فليأت .. فذهب إليه رسول الله (ص)، فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج معه هو وبنوه ستة، أو سبعة، متقلدي السيوف جميعا، فدخلو المسجد وقال لرسول الله (ص): طف. واحتبوا بحبائل سيوفهم في المطاف، فأقبل أبو سفيان إلى مطعم فقال: أمجير أم تابع؟ قال: بل مجير. قال: إذا لا تخفر. فجلس معه حتى قضى رسول الله (ص) طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه، وذهب أبو سفيان إلى مجلسه. قال: فمكث أياما، ثم أذن في الهجرة، فلما هاجر رسول الله (ص) إلى المدينة توفي المطعم بن عدي من بعده بيسير، فقال حسان بن ثابت: والله لأرثينه، فقال فيما قال: فلو كان مجد خلد اليوم واحدا ... من الناس نحى مجده اليوم مطعما أجرت رسول الله منهم فأصبحوا ... عبادك ما لبى محل وأحرما فلو سئلت عنه معد بأسرها ... وقحطان أو باقي بقية جرهما لقالوا هو الموفي بخفرة جاره ... وذمته يوما إذا ما تجشما وما تطلع الشمس المنيرة فوقهم ... على مثله فيهم أعز وأكرما إباء إذا يأبى وألين شيمة ... وأنوم عن جار إذا الليل أظلما ¬

(¬1) سهيل بن عمرو من بني عامر بن لؤي وهو بعيد في النسب، ولهذا قال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، وكان محببأ سهلا في قومه، وهو الذي قال عنه الرسول (ص) يوم الحديبية: لقد أرادت قريش الصلح حيث بعثت بهذا.

قلت: ولهذا قال النبي (ص) يوم أساري بدر: ((لو كان المطعم بن عدي حيا ثم سألني في هؤلاء النقباء وهبتهم له)) (¬1). 3 - وحين يمس الجوار حرية الدعوة فتختلف الصورة، وتختلف إمكانية الاستفادة منه. ونجد النموذج المتجسد في ذلك من خلال جور ابن الدغنة سيد القارة (¬2) لأبي بكر رضي الله عنه. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (.... لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله (ص) طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجرا قبل الحبشة، حتى إذا بلغ الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر، فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي. قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج، فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار فارجع، فاعبد ربك ببلادك، فارتحل ابن الدغنة، فرجع مع أبي بكر، فطاف في أشراف كفار قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 3/ 151. وقد أورد الإمام البخاري حديث المطعم بهذا النص: لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له. ك. المغاني ج 5 ص. 11. (¬2) القارة: هي القبائل التي كانت تسكن خارج مكة وهم بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة وبنو المصطلق خزاعة، والهون ابن خزيمة بن مدركة.

المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف .. ويعين على نوائب الحق؟ فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة، وآمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر، فليعبد ربه في بيته، فليصل، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا. قال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بالصلاة والقراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وبرز، فكان يصلي فيه، فيتقصف (¬1) عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظروق إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأجزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في دار، وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن الصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فأته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك، فله أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة أبا بكر، فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. قال أبو بكر: إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله) (¬2). 4 - هذا، ولا يعني جواز الاستفادة من هذه المظاهر والقيم الجاهلية ¬

(¬1) يتقصف: يتجمع ويزدحم. (¬2) البخاري ك. الإجارة ب. جوار أبي بكر ج 3 ص 126.

حين لا تتعارض مع حرية الدعوة، أن على المسلم أن يفعلها، فقد يؤثر المسلم الداعية الصبر على الأذى في سبيل الله، ولا يدع في عنقه منا ومعروفا لمشرك، كما فعل عثمان بن مظعون رضي الله عنه. قال ابن إسحاق: (وكان ممن دخل معهم بجوار عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة .. ولما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب نول الله (ص) من البلاء، وهو يروح ويغدو في أمان الوليد بن المغيرة، قال: والله إن غدوي ورواحي في جوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى ما لا يصيبني، لنقص كبير في نفسي، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك. قال: لم يابن أخي؟ لعله آذاك أحد من قومي، قال: لا ولكني أرضى بجوار الله عز وجل ولا أريد أن أستجير بغيره. قال: فانطلق إلى المسجد فاردد علي جواي علانية كما أجرتك علانية. قال: فانطلقا، فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد بن المغيرة: هذا عثمان قد جاء يرد علي جواري، قال: صدق قد وجدته وفيا كريم الجوار، ولكن قد أحبيت أن لا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره، ثم انصرف عثمان، ولبيد بن ربيعة في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان، فقال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. قال عثمان: صدقت. فقال لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل. قال عثمان: كذبت نعيم الجنة لا يزول. قال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا،

فلا تجدن في نفسك من قوله، فرد عليه عثمان حتى شري (¬1) أمرهما. فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فخضرها (¬2) والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان. فقال: أما والله يابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمة منيعة. قال يقول عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعز منك، وأقدر يا أبا عبد شمس، فقال له الوليد: هلم يابن أخي إن شئت فعد إلى جوارك، فقال: لا) (¬3). وهو الموقف نفسه الذي وقفه عمر رضي الله عنه حين وفض جوار خاله. والملاحظ أن ظاهرة الجوار هذه تمس الأحرار فقط، أما العبيد والموالي فلا حق لهم بذلك، ومن أجل هذا، وجدنا التعذيب الذي كان ينزل على المستضعفين في مكة، ولا ينقذهم منه إلا عتقهم أو شراؤهم. ونشير كذلك إلى أن رسول الله (ص) لقي من الأذى ما لقيه أصحابه رغم منعة وجوار أبي طالب، فهم يعلمون أن منبع الخطر كله منه، وهو ليس كواحد من أصحابه. ونلاحظ أن الوفاء بالجوار، واحترامه كان قائما في حدود معقولة، ¬

(¬1) شري: زاد وعظم. (¬2) فحضرها: جعلها خضرء من أثر الضربة. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 370،371.

وإخفار الجوار يعني إعلان الحرب، وما أحوجنا إلى تسخير قيم الجاهلية وقوانينها، وأعرافها في عصرنا الحاضر لحماية الدعوة من الحرب وحماية الدعاة من الإبادة؟!! ***

الفصل السادس عشر وطن الداعية حيث مصلحة الدعوة

الفصل السادس عشر وطن الداعية حيث مصلحة الدعوة رغم مظاهر الجوار التي شهدناها في الفصل السابق، لكن هذه المظاهر كانت تتركز على الحماية الشخصية للداعية دون أن يملك حريته كاملة في الدعوة لدينه، والعبادة في مجتمعه، وليس كل جنود الدعوة يملكون حتى هذه الحماية المحدودة. وحين يقوى ساعد الدعوة، كان الإرهاب يزداد، والأذى يشتد، ويبذل المشركون كل ما يملكون في حرب هذا الدين الجديد. وكان رسول الله (ص) يتفطر قلبه لما يصيب أصحابه من هذا، وهو غير قادر على منعه، وكان لا بد أن يبحث عن موطن آمن لأصحابه ودعوته، فكان التوجيه الأول منه (ص) إلى الحبشة. (فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما ضاقت مكة وأوذي أصحاب رسول الله (ص) وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله (ص) لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله (ص) في منعة من قومه ومن عمه لا يصل إليه شيء مما يكره، ومما ينال أصحابه فقال لهم رسول الله (ص): ((إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم

الهجرة إلى الحبشة

فيه)) فخرجنا إليها إرسالا حتى اجتمعنا بها) (¬1). الهجرة إلى الحبشة: وكان أول من هاجر صهر رسول الله (ص) وابنته. فعن أنس بن مالك قال: خرج عثمان بن عفان ومعه امرأته رقية بنت نرسول الله (ص)، إلى أرض الحبشة فأبطأ على رسول الله (ص) خبرهما، فقدمت امرأة من قريش، فقالت: يا محمد قد رأيت ختنك ومعه امرأته، قال: ((على أي حال رأيتهما؟)) قالت: رأيته قد حمل امرأته على حمار من هذه الدبابة، وهو يسوقها، فقال رسول الله (ص): ((صحبهما الله، إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط عيه السلام))) (¬2). قال ابن إسحاق: وكان أول من خرج من المسلمين من بني أمية بن عبد شمس عثمان بن عفان ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 79/ 3، وهي كما قال ابن كثير: وأما رواية أم سلمة فقد قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة. فرجاله رجال الصحيح، وابن إسحاق قد حدث عن رواته ولم يدلس. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير 73/ 3، وقد رواه البيهقي كما رواه الطبراني وقال الهيثمي فيه الحسن بن زياد البرجمي لم أعرفه وبقية رجاله ثقات 81،80/ 9.

معه امرأته رقية بنت رسول الله (ص). ومن بني عبد شمس: أبو حذيفة بن عتبة، معه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي. ومن بني أسد بن عبد العزى بن قصي، الزبير بن العوام بن خويلد. ومن بني عبد الدار بن قصي مصعب بن عمير. ومن بني زهرة بن كلاب عبد الرحمن بن عوف. ومن بني مخزوم أبو سلمة بن عبد الأسد، ومعه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة. ومن بني جمح عثمان بن مظعون. ومن بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة حليف آل الخطاب، من عنز بن وائل، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة. ومن بني عامر بن لؤي أبو سبرة بن أبي رهم. ومن بني الحارث بن فهر سهيل بن بيضاء. فكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة: وكان عليهم عثمان بن مظعون فيما ذكر لي بعض أهل العلم) (¬1). والملاحظ في هذه الطليعة الأولى من المهاجرين أنها من أكرم البيوتات المكية وأعرقها. ولعل رسول الله (ص) أراد أن يرتاد المكان هناك، ويعرف إمكانية الإقامة لجنده في الحبشة، ومن أجل هذا كان بينهم خيرة أصحابه؛ فثلاثة من المبشرين بالجنة كانوا بين هؤلاء العشرة، وهم عثمان بن عفان، والزبير ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 322/ 1، 323.

بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف. وليس فيهم من الموالي أو العبيد أو المغمورين أحد. وعندما كانت الأخبار تفد بحسن المقام، وطيب الجوار، توافد المسلمون أرسالا حتى بلغوا ثلاثة وثمانين رجلا واثنتي عشرة أمرأة. ويمكن القول أن جل أصحاب رسول الله (ص) قد مضى إلى الحبشة، فعندما أسلم عمر رضي الله عنه بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة كان عدد المسلمين أربعين في رواية وفي الروية الأخرى سبعين. ولم تكن هجرة من هاجر إلى الحبشة مقصورة على الفرار من الفتنة فقط، بل صحبها محاولة إقامة قاعدة صلبة للدعوة هناك تحميهم. وحيث أن الحماية ليست متوفرة في مكة إلا لنفر محدود، ولم تعد مكة أرضا آمنة لها، فلا بد من البحث عن موقع آخر يمكن أن يكون عاصمة ثانية لها. يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: (ولقد سبق الاتجاه إلى يثرب، لتكون قاعدة للدعوة الجديدة ... سبقها الاتجاه إلى الحبشة حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل. والقول بأنهم هاجروا لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية. فلو كان الأمر كذلك، لهاجر إذن أقل الناس جاها وقوة ومنعة من المسلمين، غير أن الأمر كان على الضد من هذا، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا، إنما هاجر رجال ذوو عصبيات، لهم من عصبيتهم - في بيئة قبلية - ما يعصمهم من الأذى، ويحميهم من الفتنة؛ وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين، منهم جعفر بن أبي طالب، (وأبوه

وفتيان بني هاشم معه الذين كانوا يحمون النبي (ص)) ومنهم الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة المخزومي، وعثمان بن عفان الأموي ... وغيرهم. وهاجرت نساء كذلك من أوساط البيوت الكبيرة في قريش، وأبناؤها الكرام المكرمون، يهاجرون بعقيدتهم، فرارا من الجاهلية، تاركين وراءهم كل وشائج القربى، في بيئة قبلية تهزها هذه الهجرة على هذا النحو هزا عنيفا، وبخاصة حين يكون من بين المهاجرين مثل أم حبيبة، بنت أبي سفيان زعيم الجاهلية، وأكبر المتصدين لحرب العقيدة الجديدة وصاحبها .. ولكن مثل هذه الأسباب، لا ينفي احتمال أن تكون الهجرة إلى الحبشة أحد الاتجاهات المتكررة في البحث عن قاعدة حرة، أو آمنة على الأقل للدعوة الجديدة .. وبخاصة حين نضيف إلى هذا الاستنتاج ما ورد عن إسلام نجاشي الحبشة، ذلك الإسلام الذي لم يمنعه من إشهار إلا ثورة البطارقة عليه، كما ورد في روايات صحيحة) (¬1). ونستطيع أن نتأكد من هذه المعاني من خلال المقابلة العظيمة التي تمت بين جعفر والنجاشي بعد المحاولة الضخمة التي قامت بها قريش لتحطيم هذه القاعدة الآمنة الجديدة. قال ابن إسحاق: ثم خرج جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وتابع المسلمون حتى ¬

(¬1) في ظلال القرآن م 1 ج 29/ 1.

قريش تحاول إعادة المهاجرين إليها

اجتمعوا بأرض الحبشة، فكانوا بها، منهم من خرج بأهله معه، ومنهم من خرج بنفسه لا أهل له معه. فكان جميع من لحق بأرض الحبشة، وهاجر إليها من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا وولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلا إن كان عمار ابن ياسر فيهم. وكان مما قيل من الشعر في الحبشة، أن عبد الله بن الحارث بن سهم، حين أمنوا بأرض الحبشة وحمدوا جوار النجاشي، وعبدوا الله لا يخافون على ذلك أحدا، وقد أحسن النجاشي جوارهم حين نزلوا به، قال: يا راكبا بلغن عني مغلغلة (¬1) ... من كان يرجو بلاغ الله والدين كل امرىء من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور ومفتون أنا وجدنا بلاد الله واسعة ... تنجي من الذل والمخزاة والهون فلا تقيموا على ذل الحياة وخز ... ي في الممات وعيب غير مأمون إنا تبعنا رسول الله واطرحوا ... قول النبي وعالوا في الموازين فاجعل عذابك بالقوم الذين بغوا ... وعائذا بك أن يعلو فيطغوني) (¬2) قريش تحاول إعادة المهاجرين إليها: وما كان لمكة أن تصبر على هذا الموقع الجديد الذي به محمد (ص)، حتى ولو كان في الحبشة. ¬

(¬1) مغلغلة: رسالة تنتقل من بلد إلى بلد. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 323/ 1 و 330، 331.

قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام المخزومي، عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج رسول الله (ص) قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا فيها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤدى، ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا النجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعحب ما يأتيه الأدم (¬1)، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا بطريقا من بطاريتقه إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن بخير دار عند خير جار، فلم يبق بطريق إلا دفعا إليه هديته، قبل أن يكلما النجاشي .. ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي، فقبلها منهم، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى (¬2) بهم عينا، ¬

(¬1) الأدم: الجلود، وهو اسم جمع. (¬2) أعلى بهم عينا: أبصر بهم.

وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله ابن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي، قالت: فقال بطارقته حوله: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما. فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لاها الله، إذن لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانو كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانو على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله (ص) فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعو ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا (ص) كائنا في ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوا وقد دعا النجاشي أساقفته (¬1) فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم: ما هذا الذي فارقتم به قومكم، ولم تدخلو به في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟ فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب. فقال له: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي ¬

(¬1) أساقفة: علماء النصارى الذين يقيمون لهم دينهم.

الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت: فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، ولم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا. فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه علي، قالت: فقرأ عليه صدر من {كهيعص} قالت: فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته (¬1)، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما. ¬

(¬1) اخضلت لحيته: ابتلت.

تخطيط ذكي جديد

تخطيط ذكي جديد: قالت: فلما خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا عنهم بما استأصل خضراءهم (¬1) فقال له عبد الله بن أبي ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. قالت: ثم غدا عليه من الغد فقال له: أيها الملك: إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم ليسألهم عنه. قالت: ولم ينزل بنا مثلها قط، فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله، وجاءنا به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن. قالت: فلما دخلوا عليه، قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ قالت: فقال جعفر: نقول فيه الذي جاء به نبينا (ص)، يقول: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي بيده في الأرض، فأخذ منها عودا ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود. قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال: فقال: وإن نخرتم والله اذهبوا فأنتم شبوم بأرضي .. والشبوم: الآمنون، من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم. ما أحب أن لي ¬

(¬1) استأصل به خضزاهم: شجرتهم التي منها تفرعوا.

مؤامرة جديدة تتحطم

دبرا (¬1) من ذهب، وأني آذيت رجلا منكم. ردوا عليهم هداياهم، فوالله ما أخذ الله الرشوة مني حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه. وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين، مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار. مؤامرة جديدة تتحطم: قالت: فوالله إنا لعلى ذلك، إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، قالت: فوالله ما علمنا حزنا حزنا قط. كان أشد علينا من حزن حزنا عند ذلك. تخوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. قالت: وسار إليه النجاشي، وبينهما عرض النيل. قالت: فقال أصحاب رسول الله (ص): من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا. قالوا: فأنت. وكان من أحدث القوم سنا. فنفخوا له قربة فجعلها في صدره. ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: فدعونا الله تعالى للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده. قالت: فوالله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن، إذ طلع الزبير وهو يسعى، فلمع (¬2) بثوبه وهو يقول: ألا أبشروا فقد ظفر النجاشي، وأهلك الله ¬

(¬1) دبرا من ذهب: جيلا من ذهب. (¬2) فلمع بثوبه: إذا رفعه وحركه ليراه غيره.

عدوه، ومكن له في بلاده. قالت: فوالله ما علمتنا فرحنا فرحة مثلها. قالت: ورجع النجاشي، وقد أهلك الله عدوه، ومكن له في بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله (ص) وهو بمكة) (¬1). ... ونقف عند هذا الحدث لنفقه بعض دروسه لأهميته: 1 - رسول الله هو الذي وجه الأنظار إلى الحبشة، وهو الذي اختار المكان الآمن لجماعته ولدعوته، كي يحميها من الإبادة. وهذا يقتضي من قيادة الدعوة الإسلامية في كل عصر أن تخطط بحكمة وعمق بالغين لحماية الدعوة والدعاة، وتبحث عن الأرض الآمنة، التي تكون عاصمة احتياطية للدعوة، ومركزا من مراكز انطلاقها فيما لو تعرض المركز الرئيسي للخطر، أو وقع احتمال اجتياحه. فجنود الدعوة هم الثروة الحقيقية، وهم الذين تنصب الجهود كلها لحفظهم وحمايهم، دون أن يتم أي تفريط بأرواحهم وأمنهم، وداعية واحد يعادل كل كفار الأرض بل يرجح عليهم. 2 - واختيار النوعيات الجيدة لهذه المهمات، كذلك هو الذي يضمن نجاح مثل هذه المهمة - وهي مهمة شاقة ولا شك أن تفتح أرضا جديدة وتكسب موقعا جديدا - فقرة عين أصحاب محمد (ص) توجهوا لهذه ¬

(¬1) مجمع الزوائد 6/ 25 - 27 وقال الهيثمي رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح إلا ابن إسحاق وقد صرح بالسماع، فالحديث صحيح. وهو في السيرة النبوية لابن هشام 334/ 1 - 338.

المهمة، وكانت على دفعتين، ومنذ أن تم التأكد من سلامة الموقع الجديد راح أكثر الصحب إليه. وقد أوكل الأمر لجعفر رضي الله عنه بعد عثمان بن مظعون. 3 - ووجود ابن عم رسول الله وصهر رسول الله، وابنة رسول الله (ص) ذو دلالة عميقة على أن الأخطار لا بد أن يتجشمها المقربون إلى القائد وأهله ورحمه. أما أن يكون خواص القائد في منأى عن الخطر، ويدفع إليه الأبعدون غير ذوي المكانة، فهو خط خارج على منهح سيد الدعاة صلوت الله عليه، لقد كان عثمان ورقية كما قال عليه الصلاة والسلام عنهما: ((إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط عليه السلام)). 4 - ويجب أن لا يغيب عن الذهن طبيعة المعركة بين الإسلام والكفر وأنها عملية بقاء أو فناء. فلم ترض قريش بخروج أكثر أصحاب محمد عنها، رغم نأي الحبشة وبعدها، ولم تسكت، إنما راحت تلاحقهم إلى هناك، خشية امتدادهم وقوتهم، وتحاول أن تنزع هذا الموقع منهم في تخطيط محكم ذكي. فالهدايا إلى النجاشي، والهدايا إلى بطارقته، ووضع الخطة داخل مكة، كيف توزع الهدايا، وماذا يرافق التوزيع من الكلام، ونوعيات الرسل في ذلك، فعمرو من أصدقاء النجاشي، وهو قادر على تأدية الدور الفعال في هذه المهمة. وما أحوجنا إلى أن لا نستصغر عدونا، وأن لا ننام عن مخططاته، وأن نعطيه حجمه الحقيقي وندرس كل تحركاته، لنعرف كيف نواجه هذه التحركات.

5 - وكان وعي القيادة النبوية، وقيادة المسلمين في الحبشة على مستوى الأحداث والمهمات التي انطلقوا من أجلها، وبعثوا لصنعها. فأبو طالب أسرع برسالته إلى النجاشي منذ اللحظة التي تحرك وفد قريش فيها إليه. ألا ليت شعري كيف في النأي (¬1) جعفر ... وعمرو وأعداء العدو الأقارب وهل نالت أفعال النجاشي جعفرا ... وأصحابه أو عاق ذلك شاغب (¬2) تعلم - أبيت اللعن - أنك ماجد ... كريم فلا يشقى لديك المجانب (¬3) تعلم بأن الله زادك بسطة ... وأسباب خير كلها بك لازب (¬4) وأنك فيض ذو سجال عزيزة ... ينال الأعادي نفعها ولأقارب) (¬5) والمسلمون على وعي بما يجري، ولعل الأخبار قد وصلت إليهم بتحرك الوفد، لكنهم غير قادرين على الدخول على الملك، أو الوصول إلى حاشيته فلا يملكون الهدايا التي يقدمون، ولا يملكون الصداقة التي تحرك خصومهم من خلالها. فقد يملك العدو من الوسائل ما يعجز عنه الصف المؤمن في ¬

(¬1) النأي: البعد. (¬2) عاق ذلك شاعب: منع الخير مشاغب أو مفرق. (¬3) المجانب: الداخل في حمى الإنسان المنضوي إلى جانبه. وأبيت اللعن: تحية يحيا بها الملوك في الجاهلية. (¬4) لازب: لاصق. (¬5) السيرة النبوية لابن هشام 333/ 1، 334.

تحرك هذا العدو لحرب هذا الدين، لكن هذا لا يعذر الصف المؤمن أن يقف مكتوف الأيدي أمام إمكانات خصمه. 6 - ورغم أن الخطة نفذت بحذافيرها كاملة، غير أنها باءت بالفشل، لأن شخصية النجاشي العظيمة - والتي تم اختيار جوارها - رفضت أن تسلم المسلمين قبل أن تسمع منهم. وبذلك أتاحت الفرصة أمام الدعاة إلى الله ليثبتوا وجودهم. ولعلها تكون فرصة فريدة إن أحسن الدعاة الاستفادة منها، فتحت أمامهم آفاقا جديدة للنصر - وإن ضيعوها كانوا لسوها أضيع - ومن أجل ذلك اجتمع الصحب حين جاءهم رسول النجاشي للحضور، وتدارسوا الموقف من جميع وجوهه، ةاستقر الرأي عندهم أن يعرضوا مبادىء الدين أمام النجاشي، كما علمهم ربهم ونبيهم، والله تعالى حسبهم، فما خرجوا إلا لأجل هذا الدين. وفي مثل هذه المواقف تنزلق الأقدام، وتزل القلوب، فكثيرا ما يتوهم الدعاة أنهم لو صارحوا بحقيقة مبادئهم لخسروا حياتهم ومركزهم، وتبدأ نقطة الانحراف صغيرة، ثم تنفرج الزاوية، فإذا بالدعاة إلى الله ينسون رسالتهم التي لاقوا ما لاقوا من أجلها، وتصبح القضية عندهم أمنهم وراحتهم، وحياتهم، لا حياة دعوتهم، وانتشار دينهم. وعصم الله تعالى صحب نبيه من هذه الزلة، ولا غرو، فهم صفوة الصحب الذين تربوا بين يدي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. 7 - ولا بد هنا من الوقوف مليا للتفريق بين نقطتين:

النقطة الأولى: الفكرة والمبدأ الذي يجب أن يعرض. النقطة الثانية: أسلوب عرض المبدأ والفكرة. وكثيرا ما يختلط الأمر لدى الدعاة إلى الله، فيطيحون بالأسلوب جانبا، ويقدمون ما يحفظون من نص، مهما كان أسلوب عرضه، فيخفقوا لعدم وجود الحكمة التي أمرهم الله تعالى بها {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (¬1)، فيعودوا بالإخفاق على الناس وباللوم منهم وسبابهم، دون أن يدركوا أنهم هم الذين نفروا الناس بأسلوبهم الفج، ولم يكونوا دعاة إلى الله ورسوله. ولعل الوقوف أمام الأسلوب الرائع الأخاذ الذي عرض به جعفر رضي الله عنه دين الله تعالى، يبصر دعاة اليوم، بمنهج الدعوة، وطريقها. 8 - وقبل المضي في الحديث عن الأسلوب يحسن الوقوف أمام شخصية جعفر رضي الله عنه، الذي تم اختياره من المسلمين ليكون خطيبا لله ورسوله بين يدي الملوك، بين يدي النجاشي، وليتمكن من مواجهة داهية العرب عمرو بن العاص، وبليغهم كذلك الذي كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب المثل بفصاحته حين يرى عييا يتكلم فيقول: سبحان الله خالق هذا، وخالق عمرو بن العاص واحد. (أ) فجعفر بن أبي طالب، ألصق الناس برسول الله (ص)، ¬

(¬1) النحل 125.

فقد عاش معه في بيت واحد، فهو أخبر الناس بقائد الدعوة وسيد الأمة بين كل المهاجرين إلى الحبشة. (ب) وهذا الموقف بين يدي النجاشي يحتاج إلى فصاحة وبلاغة، وبنو هاشم قمة قريش نسبا وفضلا وجعفر في الذؤابة من بني هاشم. والله تعالى قد اختار هاشما من بني كنانة، واختار نبيه من بني هاشم، فهم أفصح الناس لسانا وأوسطهم نسبا. (ج) وجعفر ابن عم رسول الله (ص)، ولا شك حين يتكلم أمام النجاشي ابن عم المبعوث رحمة للعالمين وأقرب الناس إليه، يجعل النجاشي أكثر اطمئنانا وثقة بما يعرض عن ابن عمه. ولنسمع لجانب من هذه الرواية حول أهمية قرابة جعفر: قال عمير بن إسحاق: حدثني عمرو بن العاص قال: لما رأيت جعفرا وأصحابه آمنين بأرض الحبشة حسدته، قلت: لأستقيلن لهذا وأصحابه فأتيت النجاشي فقلت: ائذن لعمرو بن العاص فأذن لي، فدخلت فقلت: إن بأرضنا ابن عم لهذا (يعني جعفرا) يزعم أنه ليس للناس، إلا إله واحد، وإنا والله إن لم ترحنا منه وأصحابه لاقطعت إليك هذه النطفة ولا أحد من أصحابي أبدا. فقال: وأين هو؟ قلت: إنه يجيء مع رسولك. إنه لا يجيء معي. فأرسل معي رسولا، فوجدناه قاعدا بين أصحابه فدعاه فجاء، فلما أتيت الباب ناديت ائذن لعمرو بن العاص ونادى خلفي ائذن

لحزب الله عز وجل. فسمع صوته. فأذن له قبلي فدخل ودخلت. وإذا النجاشي على السرير، قال: فذهبت حتى قعدت بين يديه وجعلته (أي جعفر) خلفي. وجعلت بين كل رجلين من أصحابه رجلا من أصحابي، فقال النجاشي: نجروا (أي تكلموا) قلت: إن بأرضك رجلا ابن عمه في أرضنا، ويزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد، وإنك إن لم تقطعه وأصحابه لا أقطع إليك هذه النطفة أنا ولا أحد من أصحابي أبدا. قال جعفر: صدق ابن عمي، وأنا على دينه. فصاح صياحا وقال: أوه، حتى قلت: ما لابن الحبشية لا يتكلم. فقال: أناموس كناموس موسى؟ قال: ما تقولون في عيسى بن مريم. قال: أقول هو روح الله وكلمته، قال: فتناول شيئا من الأرض. فقال: ما أخطأ في أمره مثل هذا. فوالله لولا ملكي لاتبعتكم. وقال لي: ما كنت أبالي أنك لا تأتيني أنت ولا أحد من أصحابك أبدا. (وقال لجعفر): أنت آمن في أرضي، من ضربك قتلته، ومن سبك غرمته، وقال لآذنه: متى استأذنك هذا فائذن له إلا أن أكون عند أهل، فإن أتى فأذن له) (¬1). ¬

(¬1) مجمع الزوائد 28/ 6 وقال الهيثمي: رواه الطبراني والبزار، وعمير بن إسحاق وثقه ابن حبان وغيره، وفيه كلام لا يضر، وبقية رجاله رجال الصحيح، وروى أبو يعلى بعضه.

(د) ويكفينا عن هذه الأمور جميعا أهم جانبين في جعفر بن أبي طالب، شهد له بهما رسول الله (ص) وهما: خلق جعفر القابس من مشكاة النبوة، وجمال خلقه المنحدر من أصلاب النبوة. فعن عبد الله بن أسلم مولى رسول الله (ص) أن رسول الله (ص) قال لجعفر: ((أشبهت خلقي وخلقي)) (¬1). فالخطيب بين يدي النجاشي عنده سمة النبي (ص) في هيئته، وسمته في خلقه، وكفى بذلك خرا، فطاقات النجاح المهمة إذن متوفرة لديه. 9 - اختار جعفر رضي الله عنه للإجابة التي وجدها فرصة سانحة بين يدي النجاشي الأسلوب الأمثل في العرض من خلال الخطوات التالية: (أ) وصف ما كان عليه أهل الجاهلية، وركز على الصفات الذميمة التي لا تنتزع إلا بنبوة. (ب) عرض شخصية الرسول (ص) في هذا المجتمع الآسن المليىء بالرذائل. وكيف كان بعيدا عن هذه النقائص كلها، ومعروفا بنسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فهو المؤهل للرسالة. (ج) تحدث عن المبادىء العامة للدعوة أو عرض أخلاقيات هذا الدين التي تلتقي مع كل أخلاقيات دعوات الأنبياء، نبذ عبادة الأوثان، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن ¬

(¬1) مجمع الزوائد 273/ 9 وقال الهيثمي: رواه أحمد وإسناده حسن.

الجوار، والكف عن المحارم والدماء، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وكون النجاشي وبطارقته موغلون في النصرانية فهم يدركون أن هذه رسالات الأنبياء التي بعثوا بها من لدن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام. (د) فضح ما فعلته قريش بهم لأنهم رفضوا عبادة الحجارة وآمنوا بما نزل على محمد وتخلقوا بخلقه. (ش) أحسن الثناء على الملك بما هو أهله أنه لا يظلم عنده أحد، وأنه يقيم العدل في قومه. (و) وأوضح أنهم اختاروه كهفا من دون الناس فرارا من ظلم هؤلاء الذين يطالبون بهم. وبهذه الخطوات البينة الواضحة، دحر بلاغة عمرو فصاحته، واستأثر بلب النجاشي وعقله، وكذلك استأثر بلب وعقل البطارقة والقسيسين الحاضرين. (ز) وعندما طلب الملك النجاشي شيئا مما نزل على محمد، جاء صدر سور مريم في غاية الإحكام والروعة، والتأثير، حتى بكى النجاشي وأساقفته وبلوا لحاهم ومصاحفهم من الدموع. إن عبقرية جعفر رضي الله عنه في حسن اختيار الموضوع، والزمن المناسب، والقلب المتفتح، والشحنة العاطفية، أدت إلى أن يربح الملك إلى جانبه ليكون جنديا من جنود الدعوة. 10 - ولا أرى بأسا من عرض رواية ثالثة كذلك تعطينا إضاءات أكثر حول الداعية العظيم جعفر رضي الله عنه. لتكون نبراسا بين يدينا نتأسى بها ونحن على طريق الدعوة.

(فعن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: (... فبعثت قريش في آثارعم عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص السهمي، وأمروهما أن يسرعا السير حتى يسبقاهم إلى النجاشي. ففعلا، فقدما على النجاشي فدخلا عليه، فقالا له: إن هذا الرجل الذي بين أظهرنا، وأفسد فينا، تناولك ليفسد عليك دينك، وملكك، وأهل سلطانك، ونحن لك ناصحون .. وأنت لنا عيبة صدق، تأتي إلى عشيرتنا بالمعروف، ويأمن تاجرنا عندك، فبعثنا قومنا إليك لننذرك فساد ملكك، وهؤلاء نفر من أصحاب الرجل الذي خرج فينا، ونخبرك بما نعرف من خلافهم الحق، أنهم لا يشهدون أن عيسى بن مريم إلها ولا يسجدون لك إذا دخلوا عليك، فادفعهم إلينا فلنكفيكهم. فلما قدم جعفر وأصحابه وهم على ذلك من الحديث، وعمر وعمارة عند النجاشي وجعفر وأصحابه على ذلك الحال، قال: فلما رأوا أن الرجلين قد سبقا ودخلا، صاح جعفر على الباب: يستأذن حزب الله. فسمعها النجاشي، فأذن لهم، فدخلوا عليه، فلما دخلوا وعمرو وعمارة عند النجاشي، قال: أيكم صاح عند الباب؟ فقال جعفر: أنا هو. فأمره، فعاد لها، فلما دخلوا وسلموا تسليم أهل الإيمان، ولم يسجدوا له، فقال عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد: ألم نبين لك خبر القوم؟ فلما سمع النجاشي ذلك أقبل عليهم فقال:

أخبروني أيها الرهط ما جاء بكم؟ وما شأنكم؟ ولستم بتجار، ولا سؤال؟ وما نبيكم هذا الذي خرج؟ وأخبروني ما لكم، لم لا تحيوني كما يحييني من أتاني من أهل بلادكم؟ وأخبروني ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ فقام جعفر بن أبي طالب وكان خطيب القوم، فقال: إنما كلامي ثلاث كلمات، إن صدقت فصدقني، وإن كذبت فكذبني، فأمر أحدا من الرجلين فليتكلم ولينصت الآخر، قال عمرو: أنا أتكلم. قال النجاشي أنت يا جعفر فتكلم قبله. فقال جعفر: إنما كلامي من ثلاث كلمات، سل هذا الرجل، أعبيد نحن أبقنا من أربابنا؟ فارددنا إلى أربابنا؟ فقال النجاشي: أعبيد هم يا عمرو؟ قال عمرو: بل أحرار كرام. قال جعفر: سل هذا الرجل هل أهرقنا دما بغير حقه؟ فادفعنا إلى أهل الدم. فقال. هل أهرقوا دما بغير حقه؟ فقال: ولا قطرة واحدة من دم. ثم قال جعفر: سل هذا الرجل أخذنا أموال الناس بالباطل؟ فعندنا قضاء. فقال النجاشي: يا عمرو إن كانت على هؤلاء قنطار من ذهب فهو علي. قال عمرو: ولا قيراط. فقال النجاشي: ما تطلبونهم به؟ قال عمرو: فكنا نحن على دين واحد، وأمر واحد فتركوه،

ولزمناه. فقال النجاشي: ما هذا الذي كنتم عليه فتركتموه، وتبعهتم غيره؟ فقال جعفر: أما الذي كنا عليه فدين الشيطان وأمر الشيطان، نكفر بالله ونعبد الحجارة، فأما الذي نحن عليه فدين الله عز وجل، نخبرك: أن الله بعث إلينا رسولا كما بعث إلى الذين من قبلنا، فأتانا بالصدق والبر ونهانا عن عبادة الأوثان، فصدقناه، وآمنا به واتبعناه. فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا، وأرادوا قتل النبي الصادق، وردنا في عبادة الأوثان، ففررنا إليك بديننا ودمائنا، ولو أقرنا قومنا لاستقررنا، فذلك خبرنا. وأما شأن التحية، فقد حييناك بتحية رسول الله (ص) والذي يحيي به بعضنا بعضا، أخبرنا رسول الله (ص) أن تحية أهل الجنة السلام، فحييناك بالسلام. وأما السجود، فمعاذ الله أن نسجد إلا لله، وأن نعدلك به. وأما في شأن عيسى بن مريم، فإن الله عز وجل أنزل في كتابه على نبينا أنه رسول قد خلت من قبله الرسل، ولدته الصديقة العذراء البتول الحصان، وهو روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وهذا شأن عيسى بن مريم. فلما سمع النجاشي قول جعفر، أخذ بيده عودا ثم قال لمن حوله: صدق هؤلاء النفر، وصدق نبيهم، والله ما يزيد عيسى بن مريم على ما يقول هذا الرجل، ولا وزن هذا العود. فقال لهم النجاشي:

امكثوا فإنكم سيوم - آمنون - قد منعكم الله. وأمر لهم بما يصلحهم، فقال النجاشي: أيكم أدرس للكتاب الذي نزل على نبيكم؟ قالوا: جعفر، فقرأ عليهم جعفر سورة مريم، فلما سمعها عرف أنه الحق، وقال: صدقتم، وصدق نبيكم (ص)، أنتم والله صديقون، امكثوا على اسم الله وبركته آمنين ممنوعين، وألقى عليكم المحبة من النجاشي) (¬1). ... (أ) لقد كان عمرو بن العاص رضي الله عنه - وهو يمثل في تلك المرحلة عداوة الله ورسوله - على مستوى نادر من الذكاء والعبقرية، وكان في عرضه لأمر جعفر قد شحن كل ما لديه من حجة، وألقى بها بين يدي النجاشي من خلال النقاط التالية: (ب) تحدث عن بلبلة جو مكة، وفساد ذات بينها من خلال دعوة محمد (ص)، وهو وافد مكة وممثلها بين يدي النجاشي، فكلامه مصدق لا يعتريه الشك، وهو عند النجاشي موضع ثقته. (ج) طرق على أخطر وتر يخافه الحاكم وهو خطر زوال السلطة، وأتباع محمد الذين جاؤوا إلى الحبشة سيزلزلون الأض تحت قدمي النجاشي، كما أفسدوا جو مكة، ولولا حب قريش للنجاشي وصداقتها معه، ما تعنوا هذا العناء لنصحه (وأنت لنا عبية صدق، تأتي إلى عشيرتنا بالمعروف ¬

(¬1) مغازي رسول الله (ص) لعروة بن الزبير / 111 - 113 - وقد رواه عن عروة عمرو بن خالد (ثقة) عن ابن لهيعة (صدوق في حديثه ضعف) عن أبي الأسود (ثقة).

ويأ من تاجرنا عندك) فلا أقل من رد المعروف بمثله. لا أقل من أن نفي حسن الجوار والعلاقة بين مكة والحبشة من تحذيره من هذه الفتنة المخيفة. (د) وأخطر ما في أمرهم، هو خروجهم على عقيدة النجاشي، وكفرهم بها (فهم لا يشهدون أن عيسى بن مريم إلها، فليسوا على دين قومهم، وليسوا على دينك، وهم مبتدعة دعاة فتنة). (هـ) ودليل اسصغارهم لشأن الملك، واستخفافهم به، أن كل الناس يسجدون للملك لكنهم لا يفعلون ذلك، فكيف يتم إيواؤهم عندك. وهو عودة إلى إثار الرعب في نفسه من عدم احترام الدعاة له، حين يستخفون بملكه ولا يسجدون له. وما فعله عمرو في هذا الموقف يمثل في كل جيل دقة التخطيط في حرب الإسلام ودعاته، وتغذية الحاكمين بهذا السم الزعاف الذي ينفثونه على الدعاة ليقتلوهم به، هو أن الدعوة الإسلامية ورجالاتها خطر على النظام الحاكم، وخارجة عليه، وسوف تبتلع النظام والحاكم، ما لم يبادر إلى وأدها في مهدها. وتحت هذه الراية أبيد - الذين يأمرون بالقسط من الناس - في كل مكان في الأرض، وعادات الحاكم ويقاليده عرف ودين، ومخالفتها أخطر من مخالفة الدين نفسه. يساق للسجن إن سب المليك وإن ... سب الإله فكل الناس أحرار (و) لم يكن حزب الله غافلا عن المؤمرة، وكان يراقب تحركات العدو، ومن

أجل ذلك أسرع فاسلم زمام المبادرة، ووصل جعفر ووفده، ولم ينتظر حتى تأتي الظروف المواتية لأنها قد لا تأتي، وقد تقع الكارثة، ما لم تتم المبادرة الواعية، ومن أجل ذلك، كان على الباب يستأذن. وبم يستأذن؟ حزب الله يستأذن عليك. فقد لامس بحكمة ولباقة واعية، الجانب الديني في نفس النجاشي، وأراد مباشرة أن يكسر الطوق الذي أحكمه عمرو، في أن قريشا والنجاشي تحت راية واحدة. لقد حطم تلك الراية، ونفذ إلى أعماق النجاشي ليؤكد له أن جعفر ومن معه هم والنجاشي تحت راية واحدة، راية التوحيد، والوحي من الله، والكتاب المنزل من عنده، بينما تخرج قريش خارج هذه الحظيرة، وهم يعبدون الأوثان والأصنام ويقدسونها من دون الله. (ز) ومن أجلها لم يتمالك النجاشي نفسه من الإذن بلا وعي، فهل يتأخر عن الإذن لحزب الله؟! ولانسجامه مع هذا النداء الذي لامس أوتار قلبه، طلب ثانية إعادة الاستئذان من الرجل الذي صرخ (حزب الله يستأذن عليك). (ح) والمعركة على ضراوتها بين عمرو وجعفر، فاهتبل عمرو فرصة عدم سجود جعفر ووفده للملك، وقال مباشرة: ألم نبين لك خبر القوم؟ فقد صدق الواقع قولهم، حين لم يسجدوا للملك، وإذن فكل ما قالوه صحيح، بعد ثبوت جزء من قولهم، وصحته .. وصار

النجاشي في وضع محير، وإن كان لا يزال ألصق بقلبه لعمرو وعمارة. فكانت الأسئلة، وكأنها تحديد الاتهامات المطروحة، بأسلوب لبق من النجاشي: ما شأنكم؟ وما نبيكم الذي خرج؟ وأخبروني لم لا تحيوني كما يحييني من جاءني من أهل بلادكم؟ وأخبروني ماذا تقولون في عيسى بن مريم .. (ط) وبدلا من أن يستسلم جعفر لهذا الهجوم، ويأخذ في الدفاع كان واعيا لكل ما يجري حوله، واستلم ثانية زمام المبادر، ونقل الاتهام إلى عمرو وقومه في كلمات موضحة محددة: إن مطالبة قريش بهم باطلة بشهادة سفير قريش نفسه. ثلاث كلمات دون أن يضيع الوقت في غيرها .. أعبيد هم؟ هل أهرقوا دما بغير حقه؟ هل أخذوا أموال الناس بالباطل؟ وكان الجواب كله لصالح حزب الله، فما كان الجاهليون ليكذبوا في ذلك الوقت: (بل أحرار كرام .. ولا قطرة واحدة من دم .. ولا قيراط). وذلك ليأمن ابتداء من سلامة الأرض التي يقف عليها، قبل الخوض في أمر الدين، فذلك له حديث آخر يأتي في موضعه. (ي) وحين يعرف النجاشي أن القوم أحرار كرام، لم يزهقوا نفسا، ولم يأكلوا

مالا بشهادة أعدائهم أنفسهم، فسيكون سماعه بعدها لعرضهم يختلف عما لو لم تتضح الصورة الآنفة الذكر. لقد هدم جعفر بناء ضخما أقامه عمرو، حين أكد نظافة حزب الله من كل لوثة بإقرار سفير قريش، وأوجد الجو المناسب للحديث عن العقيدة. فليس هدف جعفر فقط أن يحقق الأمان لحزب الله، ولو كان كذلك لانتهى الأمر عند هذا الحد .. الهدف هو النجاشي نفسه، قلبه وعقله وعاطفته، أن يدعى إلى الله على بصيرة، وبغاية الحكمة والدقة .. دون أدنى ذرة من التفريط في دين الله، فربح النجاشي على حساب العقيدة هو خسارة لها في حقيقة الأمر، وليكن .. فسلامة الأسلوب وحسنه لا يعني التحريف في العقيدة ليرضى النجاشي، ويأمن القوم. ونحدد الكلام أكثر، فليس الهدف النجاشي نفسه أن يحمي المؤمنين وينصرهم، بل الهدف أن ينضم النجاشي للدعوة الجديدة .. فما كان الأسلوب إذن انحرافا. (ك) نعم .. هم لا يؤلهون عيسى بن مريم، لكنهم كذلك لا يخوضون في عرض مريم عليها السلام كما يخوض الأفاكون، بل عيسى بن مريم كلمته وروحه ألقاها إلى مريم البتول العذراء الطاهرة. وليس عند النجاشي زيادة عما قاله جعفر، ولا مقدار هذا العود. (ل) نعم .. وهم لا يسجدون للنجاشي، فهم معاذ الله أن يعدلونه بالله، ولا

ينبغي السجود إلا لله. (م) وانتهى الأمر بأن أعلن النجاشي صدق القوم، لكن يود أن يطمئن قلبه، فإذا كان هذا شأن الرسالة، فلا بد من سماع كلام مباشر لوحي الله تعالى. فروح الوحي الرباني يتضح لكل ذي عينين مبصر. وتلا جعفر صدر سورة مريم .. فكان برد اليقين الذي نزل على قلب النجاشي .. فهؤلاء صديقون، وحواريون كحواي عيسى، وهو المؤمن الصادق الذي يتمنى أن يكون في خدمة رسول الله الذي يأتيه الناموس كناموس موسى، وهو يتقرب إلى الله بحمايتهم، ويؤكد بعدها لعمرو أنه لا يضيره تجارة قريش، ولا مال قريش ولا جاهها، ولو قطعت علاقتها معه، فهو حامي حمى حزب الله عز وجل. إن هذا العرض الحي، لأكبر نجاح حققته الدعوة في ذلك الوقت أن تضم إليها ملكا حاكما، لم يتم عرضا وبسهولة، لقد تم بحركة ووعي، وعبقرية في التخطيط والتنفيذ، وحول الكارثة المتوقعة الوشيكة إلى أكبر غنم ظفر به المؤمنون آنذاك حتى ذلك الحين. ومن أجل هذا عندما تعرض النجاشي للخطر، قلق المسلمون، وعرفوا أن اسقرارهم مرتبط بمصيره، وبعثوا الزبير فتى القوم، ليشهد نتائج الثورة على النجاشي، فهم يسابقون الأحداث ويعيشونها .. فلم يشهدو غما حضرهم كالغم في ثورة القوم على النجاشي، ولم يشهدوا فرحة نزلت بهم كفرحهم بفوز النجاشي على خصومه .. هذا وتشير بعض الروايات إلى جانب دقيق في هذا الموضوع، هو أن

ثانيا: عرض رسول الله (ص) نفسه على ثقيف

النجاشي قد أخفى إيمانه يوم ثارت الأحباش ضده، ليبقي مكز الحبشة آمنا للمسلمين (¬1). كما تشير كذلك إلى أنه أعد سفينتين للمسلمين في تصور أسوأ الاحتمالات، فيما لو فاز خصومه عليه، فلا تهمه نفسه، لكن تهمه سلامة الدعاة فيهاجروا بها عند الخطر، وينجوا بأنفسهم من الطغيان (¬2). ثانيا: عرض رسول الله (ص) نفسه على ثقيف قال ابن إسحاق فحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: لما انتهى رسول الله (ص) إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف هم ¬

(¬1) و (¬2) انظر السيرة النبوية لابن هشام وهذا هو نص الرواية: (قال ابن إسحاق، وحدثني جعفر بن محمد عن أبيه قال: اجتمعت الحبشة، فقالوا للنجاشي: إنك قد فارقت ديننا، وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا، وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم. وإن ظفرت، فاثبتوا، ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى بن مريم عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن وخرج إلى الحبشة وصفوا له، فقال: يا معشر الحبشة، ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى. قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة. قال: فما بالكم؟ قالوا: فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبد. قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله، فقال النجاشي، ووضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى بن مريم، لم يزد على هذا شيئا، وإنما يعني ما كتب. فرضوا وانصرفوا عنه، فبلغ ذلك النبي (ص)، فلما مات النجاشي صلى عليه واستفغر له) 1/ 341.

يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، هم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود بن عمرو، وحبيب بن عمرو. وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح. فجلس إليهم رسول الله (ص)، فدعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: هو يمرط (¬1) ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك. وقال الآخر: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسولا من الله كما تقول: لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك، فقام رسول الله (ص) من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم - فيما ذكر لي -: ((إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني)) وكره رسول الله أن يبلغ قومه عنه، فيذئرهم (¬2) ذلك عليه. فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس، ولجؤوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وهما فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، وقد لقي رسول الله (ص) - فيما ذكر لي - المرأة التي من بني جمح، فقال لها: ((ماذا لقينا من أحمائك))) (¬3). ¬

(¬1) يمرط: يمزق. (¬2) فيذئرهم عليه: يثيرهم عليه ويجرؤهم. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 419 وقد رواه ابن إسحاق عن يزيد بن زياد (ثقة) عن محمد بن كعب القرظي (ثقة).

وعن عبد الله بن جعفر قال: لما توفي أبو طالب خرج النبي (ص) إلى الطائف ماشيا على قدميه يدعوهم إلى الإسلام، فلم يجيبوه فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك، أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا قوة إلا بك)) (¬1). قال ابن إسحاق (بسنده السابق): فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة، وما لقي، تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهم نصرانيا يقال له عداس، فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له: يأكل منه، ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله (ص) ثم قال له: كل. فلما وضع رسول الله (ص) فيه يده قال: ((بسم الله)) ثم أكل، فنظر عداس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله (ص): ((ومن أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟)) قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال رسول الله (ص): ¬

(¬1) مجمع الزوائد للهيثمي 36/ 6 وقال: رواه الطبراني وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات.

((من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟)) فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله (ص): ((ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي)) فأكب عداس على رسول الله (ص) يقبل رأسه ويديه وقدميه. قال: يقول ابنا رييعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي؟ قالا له: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه) (¬1). وزاد التيمي: (أن عداسا حين سمعه يذكر يونس بن متى قال: والله لقد خرجت منها (يعني نينوى) وما فيها عشرة يعرفون ما متى، فمن أين عرفت أنت متى، وأنت أمي وفي أمة أمية ..) (¬2). وعن عروة بن الزبير قال: (... واجتمعوا يستهزئون برسول الله (ص). وقعدوا له صفين على طريقه فأخذوا بأيديهم الحجارة، فجعل لا يرفع رجله ولا يضعها إلا رضخوها بالحجار، وهم في ذلك يستهزئون ويسخرون، فلما خلص من صفيهم وقدماه تسيلان الدماء، عمد إلى حائط كرومهم فأتى ظل حبلة من الكرم (¬3) فجلس ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 421/ 1. (¬2) الروض الأنف للسهيلي179/ 2. (¬3) الحبلة من العنب: بالضم الكرم من العنب أو أصل من أصوله.

في أصلها مكروبا موجعا تسيل قدماه الدماء ..) (¬1). وقد روى الإمام أحمد عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن خالد بن أبي جبل العدواني: (أنه أبصر رسول الله (ص) في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس - أو عصى - حين أتاهم يبتغي عندهم النصر، فسمعته يقول: {والسماء والطارق} حتى ختمها. قال: فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك، ثم قرأتها في الإسلام. قال: فدعتني ثقيف فقالوا: ماذا سمت من هذا الرجل؟ فقرأتها عليهم، فقال من معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا، لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه) (¬2). وعن عروة بن الزبير رضي الله عنه (أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي (ص) حدثته أنها قالث للنبي (ص): هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: ((لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقة إذ عرضت نفسي على عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت، وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب (¬3)، فرفعت رأسي، فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد. فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (¬4)؟) ¬

(¬1) مغازي رسول الله (ص) لعروة بن الزبير 118. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير 3/ 50. (¬3) قرن الثعالب: هو قرن المنازل وهو ميقات أهل نجد، تلقاء مكة على يوم وليلة منها. (¬4) الأخشبين: الجبلين العظيمين. والأخشبان: جبلا مكة: أبو قبيس والأحمر؛ أو قعيقعان.

فقال النبي (ص): ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)) (¬1). قال ابن إسحق (بسنده السابق): ثم إن رسول الله (ص) انصرف من الطائف راجعا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة (¬2). قام من جوف الليل يصلي، فمر عليه النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى. وهم - فيما ذكر لي - سبعة نفر من جن أهل نصيبين، فاستمعو له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا، وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله خبرهم عليه (ص) قال الله عز وجل: {وإذا صرفها إليك نفرا من الجن ..} إلى قوله تعالى: {... ويجركم من عذاب أليم} (¬3). ... 1 - مع وفاة أبي طالب أخذت المحنة أبعادا جديدة، ومضت قريش دون قيد في صب الأذى على النبي (ص). وكما قال عليه الصلاة والسلام: ((ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب)) (¬4). كان لا بد من البحث عن موقع جديد تنطلق منه الدعوة، بعد ¬

(¬1) البخاري ك. بدء الخلق 59 ب. إذا قال أحدكم آمين ح 7 م 2 ص 140 واللفظ له ومسلم ك. الجهاد والسير 32 ب. ما لقي النبي (ص) 39 ح 111 و 3 ص 1420. (¬2) نخلة: أحد واديين على مسيرة ليلة من مكة. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام 422/ 1. (¬4) رواه ابن إسحاق عن هشام بن عروة عن عروة بن الزبير كلهم ثقات - وأورده البيهقي في الدلائل (ما زالت قريش كاعين (جبناء) عني حتى مات أبو طالب) 349/ 2.

أن وصلت في مكة إلى الطريق المسدود، ولا شك أن أنسب مكان لذلك هو الطائف، موطن ثقيف، فثقيف من حيث المنعة والعدة والعدد تضارع قريشا، ومن حيث الموقع كذلك، فاتجه رسول الله (ص) إلى رؤساء ثقيف يعرض عليهم الإسلام والنصر، وكان الرد العنيف والتجهم الشديد، والأذى الرهيب هو حصيلة هذا الاتجاه، وكما ذكر عليه الصلاة والسلام حين سألته عائشة: هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ ((لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على عبد ياليل)). فنستطيع القول إذن، وعلى تقدير الرسول عليه الصلاة والسلام، أن المحنة قد بلغت ذروتها في الطائف، وإن أشد ما لاقاه عليه الصلاة والسلام، كان من ثقيف، وكما تقول الروايات المتعددة: (... فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس، وألجؤوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ..). (.. واجتمعوا يستهزؤون برسول الله (ص)، وقعدوا له صفين على طريقه فأخذوا بأيديهم الحجارة، فجعل لا يرفع رجله ولا يضعها إلا رضخوها بالحجارة، وهم في ذلك يستهزئون، ويسخرون، فلما خلص من صفيهم وقدماه تسيلان الدماء، عمد إلى حائط كرومهم، فأتى ظل حبلة من الكرم مكروبا موجعا تسيل قدماه الدماء ..). بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وربك يرعاك ويحوطك، ولتصنع

على عين الله، وقد اصطنعك الله لنفسه، وأصابك ما أصابك، والله تعالى يسمع ويرى، وهو الذي شاء أن تبلغ المحنة ذروتها لحكمة بالغة، وقدر نافذ. 2 - فماذا كان موقف إمام الأنبياء وسيد الدعاة من المحنة؟ كان هذا الدعاء الخالص المتبتل إلى الله سبحانه من ذلك القلب الموصول بالله ((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي .. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ اللهم إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا قوة إلا بك)) (¬1). فهو دعاء المستعيذ بالله، المستجير به، وكل ما كان يخشاه عليه الصلاة والسلام أن تكون هذه المحنة غضبا من الله جل شأنه، وإلا فلا يضيره في الله شيء وكل شيء في جنب الله قليل. هذه هي نفسية سيد الخلق، واضحة جلية، مع المحنة، وقد بلغت ذروتها، ووصلت قمتها، وهذا هو توجهه عليه الصلاة والسلام. وهو أبلغ درس لنا نحن الدعاة، حين نلقى شيئا مما لقيه عليه ¬

(¬1) سبل الهدى والرشاد للإمام الصالحي 2/ 576 وقال: رواه الطبراني برجال ثقات من عبد الله ابن جعفر.

الصلاة والسلام، فلابد من إعادة الحساب، ومراجعة الرصيد .. هل هي عقوبة على معصية؟ هل هي غضب رباني لمخالفات وانحرافات؟ ومن نحن أمام رسول الله رب العالمين، حتى نرى أنفسا أرفع من ذلك، ونعيد المحنة فقط إلى خطأ الآخرين وانحرافاتهم. لا بد أن نطامن كثرا من غلوائنا ونتقاصر أمام هذه الجمل الخالدة: اللهم إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا قوة إلا بك)). 3 - وبقي هذا الأمر مثار القلق للنبي (ص)! هل هذا الامتحان عضبا من الله جل شأنه، فماذا كان الجواب الرباني. كان ابتداء أن انتقل عليه الصلاة والسلام ممن يرضخه بالحجارة ويسيل منها الدماء إلى من يواسيه فيقبل هذه الأرجل الطاهرة التي تسيل منها الدماء، ومن يمسح جراحه بضمه ومن يثلح صدرو بإيمانه. انتقل عليه الصلاة والسلام في اللحظة الواحدة ممن يقول: أنا أمرط ثياب الكعبة .. إن كان الله قد أرسلك .. إلى من يقول: والله ما على ظهر الأرض خير من هذا. وأي مواساة أعظم من هذه المواساة .. فلئن آذاه قومه، فهذا وافد العراق، وافد نينوى، الذي جاب الأرض، يكب على يديه ورجليه ويقبلهما، ويشهد له بالرسالة.

إنها الاستجابة الربانية بالتو واللحظة .. أن يسوق من شمال العراق، من نينوى من يؤمن بالله ورسوله حين كان الصد من أقرب الناس إليه. وهو أول دليل يجبر الخاطر الكسير للرسول عليه الصلاة والسلام، أنه ليس في غضب الله وفي سخطه، إنه في رضوانه، وفي حبه، فإذا كان الصد قد وقع، فهذا الإيمان قد وقع كذلك. 4 - ثم ماذا كانت المكافأة الربانية على هذا الصبر العظيم من حبيب رب العالمين؟ من حائط عتبة وشيبة إلى قرن الثعالب، والسحابة، إلى صديقه الحميم جبريل رسول رب العالمين إليه، ها قد حضر ليطمئنه أنه ليس في غضب الله، وليس في سخطه، لقد جاء في أوانه. فماذا قال للحبيب المصطفى (ص)؟ أقرأه السلام من ربه، ومعه ضيف جديد هو ملك الجبال: ((إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك). رب إني مظلوم فانتصر. وليس نوح ولا هود ولا لوط ولا شعيب، أكرم على الله تعالى من محمد عليه الصلاة والسلام. (وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فهذه الجبال بإمرة النبي (ص)، وكل هؤلاء المكذبين ذرات صغيرة في بطون هذه الجبال. وكان الإكرام أعظم، والحفاوة أكبر، أن يكون الأمر مباشرة من

رسول رب العالمين لملك الجبال، ملك الجبال حضر، ليتلقى الأمر من محمد (ص)، ليشهد ثأره بنفسه، ويقر عينه بأن يكون الأمر مباشرة منه عليه الصلاة والسلام: ((فناداني ملك الجبال، فسلم علي ثم قال: يا محمد: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشين فعلت)). لقد جأر إخوانه الأنبياء قبله بالدعاء إلى ربهم أن يفتح بينهم وبين قومهم بالحق، وانتصر ربهم لهم. {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (¬1). هل آن الأوان لأن ينتهي تاريخ الدعوة. فيطبق الأخشبان على قريش وثقيف، كما جرى مع من أخذته الصيحة، ومن خسفت به الأرض، ومن غرق. ثم ماذا بعد ذلك؟ إن المعجزة الأعظم من إطباق الأخشبين، أن يقف عليه الصلاة والسلام وحده من دون الخلق كافة، وفوق الأنبياء جميعا، لا يقبل العرض، ولما تزل الدماء تنزف من رجليه، ولا يصدر الأمر لملك الجبال، ولا تزال كلمات بني ياليل يرن صداها في أعماقه الجريحة: (أما وجد الله أحدا يرسله غيرك؟!). (والله لا أكلمك أبدا .. لئن كنت رسولا من الله كما تقول: ¬

(¬1) العنكبوت 40.

لأنت أعظم من أن أكلمك. ولئن كنت تكذب على الله، فما ينبغي لي أن أكلمك) .. أن يقف ليقول: ((بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئا)) .. أي خلق هذا؟ وأي سمو هذا؟ إنه على استعداد أن يستمر في المحنة تدمي رجليه ووجهه ويصد عن القريب والبعيد من العدو الذي ملك أمره فلم يدخل مكة إلا بجوار، ومن البعيد الذي يتجهمه .. إلى متى؟! حتى يفنى هذا الجيل، وينشأ الجيل الآخر من أصلابهم، يقول: لا إله إلا الله .. أيها الدعاة إلى الله في هذا الوجود .. هل سمعتم عن داعية إلى الله أعظم من هذا الداعية .. وبيده الآن الأمر .. بالله تعالى بعث له ملك الجبال ليكون بإمرته، ويقصم عدوه، وينتصر عليه، ويفنى ويباد ويدمر. ولكن الدعو إلى الله، وأن ينال محمد عليه الصلاة والسلام ثمرة دعوته وجهاده مع هؤلاء المعاندين المستكبرين وأن يتجرع أشد الغصص حتى يصل إلى هذه الثمرة، وأشهى على قلبه من نشوة النصر على عدوه. إن نشوة النصر بالجيل الذي يخرج من أصلابهم ويحمل لواء الدعوة إلى الله أعظم بكثير من أن يرى مصرع القوم بين يديه. يا له من قمة شامخة إلى السماء قدماها على الأرض، ولا يرتقي

لها مخلوق في هذا الوجود. وأنتم أيها الدعاة إلى الله، هل لكم أن تفقهوا عظمة هذا الدرس حين تملك الدعوة على المسلم كل قلبه ومشاعره وحياته .. ويكون انتصار الدعوة هو الهدف الأول والأخير؟! 5 - وأنك لعلى خلق عظيم .. وبعد هذا الإكرام، وبعد هذا السمو .. ماذا كان الإكرام الرباني؟! كان أن انتقلت دعوته إلى الثقلين، هذه الدعوة التي رفضها أولاد ياليل في هذه البقعة النائية من الأرض، المنسية من التاريخ، والتي حفل الأولاد والسفهاء فيها بتعذيب سيد الدعاة وإيذائه ورضخه بالحجارة .. أن انتقلت إلى عالم آخر .. عالم الجن. {فاسفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب} (¬1). هؤلاء الجن يتلقون دعوة النبي (ص)، دون أن يدري، فيأخذوها ويمضوا بها إلى قومهم، إلى عالم الجن، عالم لا يعرفه رسول الله (ص)، وجد الدعاة، ووجد الصحابة، ووجد الحواريين في عالم الجن يبلغون دعوة رسول الله (ص) إلى قومهم. {يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم} (¬2). ¬

(¬1) الصافات 11. (¬2) الأحقاف 31.

لقد غدا اسم محمد (ص) تهفو به قلوب الجن، وليس قلوب الإنس فقط .. ليس قلب أبي بكر وعمر وعبد الرحمن وسعد، وطلحة والزبير، العشرة المبشرون .. هناك التسعة الحواريون من عالم الجن، حملوا اللواء والراية، ووطنوا أنفسهم دعاة إلى الله .. {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ..} (¬1). ... وبعد .. فما أحوج الدعاة إلى الله ليقفوا وقفات التأمل هذه عند هذه الحادثة الفذة الخالدة، يتعلمون منها: - الصبر على الأذى، والتحمل لأعباء الدعوة وتكاليفها. - ومراجعة الطريق، وتصحيح المسار، أن يكون به خلل يغضب الله ورسوله، فيحول دون التوفيق، ويؤدي إلى استمرار المحنة .. - وأن يبقى الهدف الأول والأسمى هو انتصار دعوتهم ودينهم، وليس انتصار أنفسهم، هو هداية عدوهم، واحتلال قلوبهم بعظمة هذا الدين، وليس الثأر لذاتهم وشخصيتهم. وأن يوطنوا أنفسهم على طول الطريق، وبعد الغاية، والنظر للدعوة من خلال الأجيال، لا من خلال اللحظات العنيفة القائمة، (عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله). ¬

(¬1) الجن 2،1.

ثالثا: عرض نفسه على القبائل

ولعله لا يكون دورهم إلا تسليم الراية لمن بعدهم يتابع المسير، ولعل النصر من نصيب جيل جديد، هم حداته ومقدمته. ثالثا: عرض نفسه على القبائل قال موسى بن عقبة عن الزهري: (فكان رسول الله (ص) في تلك السنين، يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤوه ويمنعوه ويقول: ((لا أكره أحدا منكم على شيء، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد أن تحوزوني فيما يراد لي من القتل، حتى أبلغ رسالة ربي، وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء)) فلم يقبله أحد منهم، وما يأتي أحدا من تلك القبائل إلا قال: قوم الرجل أعلم به .. أترون أن رجلا يصلحنا، وقد أفسد قومه ولفظوه؟! وكن ذلك مما ذخره الله للأنصار وأكرمهم به) (¬1). وعن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: (لما أفسد الله عز وجل صحيفة مكرهم خرج النبي (ص) وأصحابه فعاشوا وخالطوا الناس ورسول اللهء (ص) في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ويكلم كل شريف، لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤوه أو ¬

(¬1) البداية والهاية لابن كثير 3/ 154.

يمنعوه، ويقول: ((لا أكره منكم أحدا على شيء، من رضي الذي أدعو إليه قلبه، ومن كرهه لم أكرهه، إنما أريد أن تحوزوني مما يراد بي من القتل، فتحوزوني حتى أبلغ رسالات ربي، ويقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء)) فلم يقبله أحد منهم، ولا أتى على أحد من تلك القبائل إلا قالوا: قوم الرجل أعلم به، أفترى رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه، وذلك لما أذخر الله عز وجل للأنصار من البركة) (¬1). ... إنها صورة واضحة بينة تؤنكد بحث رسول الله (ص) عن مكان آمن في أرض العرب يحميه حتى يؤدي رسالة ربه سواء أآمن هذا المجير به أم لم يؤمن، ولم تعد مكة دار أمان لرسول الله (ص)، فلا بد من البحث عن موقع جديد، والحبشة تصلح موقعا احتياطيا لا رئيسيا لبعدها عن مركز الانطلاق، وتجمع العرب، ومن الصعب أن تنتشر الدعو ابتداة خارج البيئة العربية. ومن نماذج هذا العرض ما روه جابر بن عبد الله ضي الله عنهما قال: كان رسول الله (ص) يعرض نفسه على الناس بالموقف، فيقول هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل، فأتاه رجل من همذان فقال: ((ممن أنت؟)) فقال الرجل: من همذان. فقال: ((هل عند قومك من منعة؟)) قال: نعم. ثم قال: إن الرجل خشي أن يخفره قومه، فأتى رسول الله (ص) فقال: آتيهم أخبرهم، ثم آتيك ¬

(¬1) مغازي رسول الله (ص) لعروة بن الزبير 117.

من قابل، قال: ((نعم)) وجاء وفد الأنصار في رجب) (¬1). (وعن ربيعة بن عباد قال: إني لمع أبي شاب أنظر إلى رسول الله (ص) يتبع القبائل، ووراءه رجل أحمر وضيء ذو جمة، يقف رسول الله على القبيلة، يقول: ((يا بني فلان إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تصدقوني وتمنعوني، حتى أنفذ عن الله ما بعثني به)) فإذا فرغ من مقالته، قال الآخر من خلفه: يا بني فلان إن هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه، فقلت لأبي: من هذا، فقال: عمه أبو لهب) (¬2). (وعن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل، قال: لما قدم أبو اليسر أنس بن رافع مكة، ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج سمع بهم رسول الله (ص)، فأتاهم، فجلس إليهم، فقال لهم: ((هل لكم إلى خير مما جم إيه؟)) قالوا: وما ذاك. قال: ((أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأنزل علي كتابا)) ثم ذكر الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا: أي قومي هذا والله خير مما جئتم إليه. ¬

(¬1) مجمع الزوائد 34/ 6. وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله ثقات، وراه رجال السنن الأربعة وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬2) المصدر نفسه 36/ 6. وقال الهيثمي: رواه عبد الله بن أحمد الطبراني وفيه حسين بن عبد الله وهو ضعيف وقد وثقه ابن معين.

قال: فأخذ أبو اليسر، أنس بن رافع حفنة من البطحاء، فضرب بها وجه إياس، وقام رسول الله (ص) عنهم، وانصرفوا إلى المدينة فكات وقعة بعاث بين الأوس والخزرج ..) (¬1). ... كانت المقاومة عنيفة من قريش، ولم تفز بشيء فوزها بأبي لهب - لعنه الله - الذي كان يمضي مع رسول الله (ص) إلى كل مكان يكذبه ويؤذيه، فكانت هذه أضخم دعاية ضد النبي (ص) حين يرون عمه يرد عليه قوله، ويسفه رأيه، ومن أجل هذا رأينا رسول الله (ص) يستعمل الوسيلة نفسها، فيأتي إلى عمه العباس ليرافقه في دعوته. فقد روى الحافظ أبو نعيم عن العباس قال: قال لي رسول الله (ص): ((لا أرى لي عندك ولا عند أخيك منعة: فهل أنت مخرجي إلى السوق غدا، حتى نقر في منازل قبائل الناس؟)) وكانت مجمع العرب. قال: فقلت: هذه كندة ولفها، وهي أفضل من يحج البيت من اليمن، وهذه منازل بكر بن وائل، وهذه منازل بني عامر بن صعصعة، فاختر لنفسك. قال: فبدأ بكندة فأتاهم، فقال: ((ممن القوم؟)) قالوا: من أهل اليمن، قال: ((من أي اليمن؟)) قالوا: من كندة، قال: ((من أي كندة؟)) قالوا: من بني عمرو بن معاوية. قال: ((فهل لكم إلى خير؟)) ¬

(¬1) مجمع الزوائد 36/ 6 وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات.

قالوا: وما هو؟ قال: ((تشهدون أن لا إله إلا الله، وتقيمون الصلاة، وتؤمنون بما جاء من عند الله)). قال عبد الله بن الأجلح: وحدثني أبي عن أشياء في قومه أن كندة قالت له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك؟ فقال رسول الله (ص): ((إن الملك لله يجعله حيث يشاء)) قالوا: لا حاجة لنا فيما جئتنا به. وقال الكلبي فقالوا: أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا، وننابذ العرب؟ الحق بقومك فلا حاجة لنا بك. فانصرف من عندهم. فأتى بكر بن وائل، فقال: ((ممن القوم؟)) قالوا: من بكر بن وائل. فقال: ((من أي بكر بن وائل؟)) قالوا: من بني قيس بن ثعلبة. قال: ((كيف العدد؟) قالوا: كثير مثل الثرى. قال: ((فكيف المنعة؟)) قالوا: لا منعة، جاورنا فارس فنحن لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم. قال: ((فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم، وتستنكحوا نساءهم، وتستعبدوا أبناءهم، أن تسبحوا لله ثلاثا وثلاثين، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين، وتكبروه أربعا وثلاثين؟) قالوا: ومن أنت؟ قال: ((أنا رسول الله)) ثم انطلق. فلما ولى عنهم - قال الكلبي: وكان عمه أبو لهب يتبعه فيقول للناس لا تقبلوا قوله -مر أبو لهب فقالوا: هل تعرف هذا الرجل؟ قال: نعم، هذا في الذروة منا. فعن أي شأنه تسألون؟ فأخبروه بما دعاهم إليه، وقالوا: زعم أنه رسول الله، قال: ألا لا ترفعوا برأسه قولا، فإنه مجنون يهذي من أم رأسه، قالوا: وقد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر. قال الكلبي: فأخبرني عبد الرحمن المعايري عن أشياخ من قومه، قال: أتانا رسول الله (ص) عكاظ، فقال: ((ممن القوم؟)) قلنا: من بني عامر بن

صعصعة. قال: ((من أي عامر بن صعصعة؟)) قالوا: بنو كعب بن ربيعة. قال ((كيف المنعة؟)) قلنا: لا يرام ما قبلنا، ولا يصطلى بناربا. قال: فقال لهم: ((إني رسول الله وآتيكم لتمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي، ولا أكره أحدا منكم على شيء)) قالوا: ومن أي قريش أنت؟ قال: ((من بني عبد المطلب)) قالوا: فأين أنت من عبد مناف؟ قال: ((هم أول من كذبني وطردني)) قالوا: ولكنا لا نطردك، ولا نؤمن بك، وسنمنعك حتى تبلغ رسالة ربك. قال: فنزل إليهم والقوم يتسوقون، إذ أتاهم بحيرة بن فراس القشيوي، فقال: من هذا الرجل أراه عندكم أنكره؟ قالوا: محمد بن عبد الله القرشي، قال: فما لكم وله؟ قالوا: زعم أنه رسول الله (ص) فطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه، قال: ماذا رددتم عليه؟ قالوا: بالترحيب والسعة، نخرجك إلى بلادنا، ونمنعك مما نمنع منه أنفسنا، قال بحيرة: ما أعلم أحدا من أهل هذه السوق يرجع بشيء أشد من شيء ترجعون به بدءا، ثم لتنابذوا الناس، وترميكم العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به، لو آنسوا منه خيرا لكانوا أسعد الناس به. أتعمدون إلى زعيق (¬1) قد طرده قومه وكذبوه، فتؤونه وتنصرونه؟! فبئس الرأي رأيتم. ثم أقبل على رسول الله (ص) فقال: قم فالحق بقومك فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك. فقام نول الله (ص) إلى ناقته فركبها فغمز الخبيث بحيرة شاكلتها (¬2)، فقمصت برسول الله (ص) فألقته. وعند بني عامر يومئذ ضباعة ابنة عامر بن قرط، كانت من النسوة ¬

(¬1) زهيق: مطرود ومضيق عليه. (¬2) شاكلتها: خاصرتها.

اللاتي أسلمن مع وسول الله () بمكة، جاءت زائرة إلى بني عمها، فقالت: يا آل عامر - ولا عامر لي - أيصنع هذا برسول الله بين أظهكم، لا يمنعه أحد منكم؟ فقام ثلاثة من بني عمها إلى بحيرة، واثنين أعاناه. فأخذ كل رجل منهم رجلا فجلد به الأرض ثم جلس على صدره، ثم علوا وجوههم لطما. فقال رسول الله (ص): ((اللهم بارك على هؤلاء، والعن هؤلاء)) قال: فأسلم الثلاثة الذين نصروه، وقتلوا شهداء وهم غطيف وغطفان ابنا سهل، وحزن بن عبد الله بن سلمة رضي الله عنهم، وقد روي هذا الحديث بتمامه الحافظ سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في مغازيه عن أبيه به) (¬1) اه .. ... 1 - لقد كان جواب كندة متناسقا مع طبيعتهم، فهم ملوك العرب في اليمن، ومن أجل ذلك كان جل تفكيرهم ينصب على هذا الملك، واشترطوا على رسول الله (ص) ليمنعوه أن يكون لهم الأمر والملك من بعده. وقصاري ما يفكرون به هو استقرار هذا الأمر بيدهم إن نصروا رسول الله (ص) على عدوه فانتصر. غير أن الجواب النبوي المنطلق من مبادىء هذا الدين: ((الأمر لله يضعه حيث يشاء)). فليس الأمر صراعا على الحكم أو تسابقا على السلطة، إن الأمر انتشار هذه الدعوة وتبليغها، وسوف تكون العاقبة للمتقين، فالحماية المشروطة بشرط مغاير لمبادىء هذا الدين، حماية مرفوضة. ويقظة الدعاة إلى الله في هذا الأمر، وفقههم لهذه القضية هو ¬

(¬1) البداية النهاية لابن كثير 3/ 154، 155.

الذي يعصهمهم من الانزلاق في منحدرات السياسة، التي تضع الحكم غاية، والعقيدة والدين وسيلة من وسائله. 2 - وحين لا يحقق الداعية هدفه في تأمين الحماية من سلطة جاهلية، لا ينسى نفسه أنه داعية قبل كل شيء، وأن عليه أن ينقل روح هذا الدين التي تؤكد أنه غالب وحاكم مهما تكاثفت المحن، وادلهمت الخطوب، وأن الباطل زاهق لا محالة. {قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد} (¬1). وثقة الداعية بالنصر لدين الله - لا لشخصه - سمة أساسية من سمات الدين نفسه لا تنفك عن أن تكون جزءا من منهج الداعية وهو يدعو إلى الله. ولهذا رأينا رسول الله (ص) ولم يصل إلى المنعة التي يريد، أراد أن يعلم هؤلاء القوم الذين ترهبهم سلاطين الأرض من فارس، أنه ستكون لهم الدولة عليهم إن آمنو بالله ورسوله. وكان هذا الأمر عندما طرح عليهم، وهم في ظل فارس ضربا من الجنون، وبه استشهدو على جنون رسول الله (ص) حين قال لهم: ((فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم، وتستنكحوا نساءهم، وتستعبدوا أبناءهم، أن تسبحو لله ثلاثا وثلاثين ...). فلم يكن العربي في ذلك الوقت يطمح في أكثر من أن يحظى برضاء كسرى أو قيصر، وأن يكون عميلا مخلصا له، ولم تتحرر هذه ¬

(¬1) سبأ 49.

النفوس إلا بالإسلام، وبرسول الإسلام الذي زرع في النفوس هذه الثقة العظيمة التي غيرت واقع الأرض كله. والذين يباهون بذي قار، ولمجد العربي فيه، يجب عليهم أن يعرفوا أن الفضل في النصر فيها لهذا اللقاء المذكور، والذي يرد تفصيلات عنه بعد في رواية أخرى. قال: (فلم يلبث رسول الله (ص) إلا يسيرا حتى خرج إلى أصحابه فقال لهم: ((احمدوا الله كثيرا، فقد ظفرت اليوم أبناء ربيعة بأهل فارس، قتلوا ملوكهم، واستباحوا عسكرهم وبي نصروا)) (¬1). وقد ورد هذا من طريق أخرى، وفيه أنهم لما تحاربوا هم وفارس والتقوا معهم بقراقر - مكان قريب من الفرات - جعلوا شعارهم اسم محمد (ص). فنصروا على فارس بذلك، وقد دخلوا بعد ذلك في الإسلام) (¬2). فهذه الأمة قد ابتعثها الله تعالى من القرآن، وأخرجت إخراجا من أثر هذا الكتاب المنزل على محمد بن عبد الله (ص). ولم يمر على هذا الوعد الذي وعد به رسول الله (ص) بالنصر عشرون عاما حتى كانت بنات كسرى سبايا في المدينة، ثم كان أن نكحهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن أبي بكر، ¬

(¬1) دلائل النبوة لأبي نعيم ص 243. ورواه عن خالد بن سعيد عن أبيه عن جده. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير 3/ 159.

فأنجبن سادة أهل الأرض علما وفقها وفضلا - آنذاك - علي بن الحسين زين العابدين، وسالم بن عبد الله بن عمر، والقاسم بن محمد بن أبي بكر. 3 - (((إني رسول الله وآتيكم لتمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي، ولا أكرهكم على شيء) قالوا: ولكننا لا نطردك، ولا نؤمن بك، وسنمنعك حتى تبلغ رسالة ربك). فنحن أمام خط أصيل من خطوط الدعوة، ومرحلة من المراحل تمر فيها، بل تسعى إلى الوصول إليها. وهو أن توجد السلطة المحايدة التي تضمن حرية الدعوة، وحرية التبليغ، والحماية لها من الإبادة والقتل. ولا شك أن النظام الذي ينطلق في مفاهيمه ومبادئه وأعرافه من حرية الناس في ما يدعون ويعتقدون، ويضمن لهم هذه الحرية، وهو خير قطعا من النظام الذي يقتل الناس على معتقداتهم، ويخنق حرية التعبير عندهم وحرية الرأي. وقد تجد الدعوة الإسلامية نفسها في مرحلة من المراحل، تسعى وتساهم للوصول إلى هذا النظام، وهو مرحلة سابقة لحكم الإسلام، بل يمكن القول: أن حكم الإسلام غالبا يتم عن هذا الطريق، طريق القوة المحايدة، سواء أآمنت بالإسلام أم لم تؤمن - والتي تخلي بين الناس وبين ما يعتقدون، وعندئذ ستكون الغلبة للإسلام - لا بقوة السيف وإرهاب السلطة، إنما بقناعات الناس وتدينهم لهذا الدين، وعندئذ إذا

خالط الإسلام بشاشة القلوب، فلن يرضى أهله بديلا من حكمه فيهم. ومن أجل هذا يحسن أن يفقه الدعاة هذا الجانب، فلا تكون الانطلاقة من الحدة والتعميم المتعسف أن كل الأنظمة التي لا تحكم بالإسلام سواء. ويجب حربها جميعا، وإزاحتها، لأنها أنظمة كافرة جاهلية. لا بد من الوعي لدروس السيرة النبوية وفقهها، أن الحكم على النظام والسلطة - بغض النظر عن الحكم الذي ينطلق منه - إنما يكون من خلال موقف هذا النظام من الدعوة والدعاة، وإمكانية التعايش معه أو مساندته قائمة بمقدار ما يتيح الحرية لهذه الدعوة أن تنتشر وتبلغ، وضرورة المواجهة معه قائمة حين يفرض الحرب المدمرة على دعاة الإسلام لإبادتهم واستئصالهم. 4 - وتبقى هذه النماذج المذكورة نبراسا أمام الدعاة في الصبر على مشاق الدعوة، وتحمل تبعاتها، فلا يهن الدعاة لصد يواجههم، ولا يستكينوا لمقاومة تود تحطيمهم وتحطم دعوتهم، وأن يوطنوا هذه النفوس على مثل هذه الاحتمالات من المواجهة، والمحاربة، والتشويه، فليس أحد أكرم على الله تعالى من رسوله وقد لاقى ما لاقى. حتى ليهدد بضرب عنقه، ويرمى عن ناقته، وتعبأ المجالس بالدعاية ضده بجنونه وسحره، فهذا هو قدر الدعاة، وهذا هو طريق النصر {إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شي قدرا} (¬1). ¬

(¬1) الطلاق 3.

بنو شيبان

بنو شيبان: (وأغرب من ذلك وأطول ما رواه أبو نعيم والحاكم والبيهقي - والسياق لأبي نعيم - رحهم الله من حديث أبان بن عبد الله البجلي (¬1) عن أبان بن تغلب (¬2) عن عكرمة (¬3) عن ابن عباس، حدثني علي بن أبي طالب قال: ثم انتهينا إلى مجلس عليه السكينة والوقار، وإذا مشايخ لهم أقدار وهيئات، فتقدم أبو بكر فسلم. قال علي: وكن أبو بكر مقدما في كل خير، فقال لهم أبو بكر: ممن القوم؟ قالو: من بني شيبان بن ثعلبة، فالتفت إلى رسول الله (ص) فقال: بأبي أنت وأمي، ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم، وهؤلاء غرر في قومهم، وكان في القوم: مفروق بن عمرو، وهانىء ابن قبيصة، والمثنى بن الحارثة، والنعمان بن شريك، وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق بن عمرو وكان مفروق بن عمرو قد غلب عليهم بيانا ولسانا، وكانت له غديربان تسقطان على صدره، فكان أدنى القو مجلسا من أبي بكر، فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال له: إنا لنزيد على ألف، ولن تغلب ألف (¬4) عن قلة. فقال له: فكيف المنعة فيكم؟ فقال: علينا الجد ولكل قوم جد. فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال ¬

(¬1) أبان بن عبد الله البجلي: صدوق في حفظه لين (تقريب التهذيب). (¬2) أبان بن تغلب: ثقة تكلم فيه للتشيع (تقريب التهذيب). (¬3) عكرمة: ثقة ثبت عالم بالتفسير (تقريب التهذيب). (¬4) يحسن أن لا يغيب عن الذمن، أن قريشا حين جيشت جيشها يوم بدر لم يكن ليزيد عن الألف، وفيه صناديدها وأبطالها، أما الأعداد الأكبر فيما تلا، فمن حلفائها من القبائل العربية المجاورة.

مفروق: إنا أشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا (¬1) مرة ويديل علينا، لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا، فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، ثم التفت إلى رسول الله فجلس، وقام أبو بكر يظله بثوبه، فقال (ص): ((أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وأن تؤووني وتنصروني، حتى أؤدي إلى الله الذي أمرني به، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد)) قال له: وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله (ص) {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} (¬2). فقال له مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك. وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانىء بن قبيصة، فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا، وصاحب ديننا، فقال له هانىء: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وصدقت قولك، وإني أرى أننا إن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك، لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، لم نتفكر في أمرك وننظر في ¬

(¬1) الإدالة: الغلبة. ودالت الأيام: دارت. (¬2) النحل 90.

عاقبة ما تدعو إليه، زلة في الرأي، وطيشة في العقل، وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، وإن من ورائنا قوما نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر. وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى: قد سمعت قولك، واستحسنت مقالتك يا أخا قريش، وأعجبني ما تكلمت به، والجواب هو جواب هانىء بن قبيصة. وتركنا ديننا، واتباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا، وإنا إنما نزلنا بين صرين (¬1) أحدهما اليمامة والآخر السماوة. فقال له رسول الله (ص): ((وما هذان الصريان؟)) فقال له: أما أحدهما فطفوف البر وأرض العرب، وأما الآخر فأرض فارس وأنهار كسرى، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا، ولا نؤوي محدثا ولعل هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك، فأما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وأما ما كان مما يلي بلاد فارس، فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول. فإن أردت أن ننصرك ونمنعك مما يلي العرب فعلنا. فقال له رسول الله (ص): ((ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق. إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه)). ثم قال رسول الله (ص): ((أرأيم إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم، ويفرشكم بناتهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟)) فقال له النعمان بن شريك: اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش. فقلا رسول الله (ص): {إنا ¬

(¬1) الصريان: مثنى صرى، وهو كل ماء مجتمع.

أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} (¬1) ثم نهض رسول الله (ص) قابضا على يدي أبي بكر، قال علي: ثم التفت إلينا رسول الله (ص) فقال: ((أية أخلاق للعرب كانت في الجاهلية - ما أشرفها -بها يتحاجزون في الحياة الدنيا)) قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا النبي (ص). .... فلم يلبث رسول الله (ص) إلا يسيرا حتى خرج إلى أصحابه فقال لهم: ((احمدوا الله كثيرا، فقد ظفرت أبناء ربيعة بأهل فارس، قتلوا ملوكهم، واستباحوا عسكرهم، وبي نصروا) قال: وكانت الوقعة بقراقر إلى جنب ذي قار، وفيها يقول الأعشى ... هذا حديث غريب جدا كتبناه لما فيه من دلائل النبوة، ومحاسن الأخلاق، ومكارم الشيم، وفصاحة العرب، وقد ورد هذا من طريق أخرى، وفيه: أنهم لما تحاربوا هم وفارس والتقوا معهم بقراقر (¬2) - مكان قريب من الفرات - جعلوا شعارهم اسم محمد (ص)، فنصروا على فارس بذلك. وقد دخلوا بعد ذلك في الإسلام) (¬3). (وذكر غير ابن إسحاق ما لم يذكر ابن إسحاق مما رأيت املاء بعضه في هذا الكتاب تتمة لفائدته، ذكر قاسم بن ثابت والخطابي عرضه نفسه على بني ذهل بن ثعلبة، ثم على بني شيبان بن ثعلبة، فذكر الخطابي وقاسم جميعا ما كان من كلام أبي بكر مع دغفل بن حنظلة الذهلي، زاد قاسم تكملة ¬

(¬1) الأحزاب 45، 46. (¬2) قراقر: موضع بين الكوفة وواسط وكذلك ذو قار. (¬3) البداية والنهاية لابن كثير 157/ 3 - 159.

الحديث، فرأينا أن تذكر زيادة قاسم، فإنها مما تليق بهذا الكتاب قال: (ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار ...) (¬1). وذكر الراوية الآنفة الذكر. (وروي في حديث مسند إلى طارق قال: رأيت رسول الله مرتين: رأيته بسوق ذي المجاز يعرض نفسه على القبائل يقول: ((يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) وخلفه رجل له غديرتان يرجمه بالحجارة حتى أدمى كعبيه، يقول: يا أيها الناس لا تسمعوا منه فإنه كذاب فسألت عنه فقيل: هو غلام عبد المطلب. قلت: ومن الرجل يرجمه؟ فقيل لي: هو عمه عبد العزى أبو لهب، وذكر الحديث بطوبه، خرجه الدارقطني، ووقع أيضا في السيرة من رواية يونس) (¬2). (وقد استقصى الإمام محمد بن عمر الواقدي، فقص خبر القبائل واحدة واحدة، فذكر عرضه عليه السلام نفسه على بني عامر، وغسان، وبني فزارة، وبني مرة، وبني حنيفة، وبني سليم، وبني عبس، وبني نضر بن هوازن، وبني ثعلبة بن عكاية، وكندة، وكلب، وبني الحارث بن كعب، وبني عذرة، وقيس بن الحطيم، وغيرهم .. وسياق أخبارها مطولة، وقد ذكرنا من ذلك طرفا صالحا، ولله الحمد والمنة) (¬3). ¬

(¬1) الروض الأنف للسهيلي 181/ 2. (¬2) الروض الأنف للسهيلي 182/ 2. (¬3) البداية والنهاية لابن كثير 3/ 160.

1 - لقاء رسول الله (ص) لم يدخلهم في الإسلام ولكنه غزاهم في أعماقهم، وعندما التقوا مع الفرس تشجعوا لذلك اللقاء، كما سمعوا الوعد من الصادق المصدوق (ص) ((أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم ..)) ومن أجل هذا جعلوا شعارهم: محمد (ص). وبه انتصروا، وكانت هذه المقدمة للنصر الحقيقي للإسلام وشريعته. وما تحرك المثنى بن حارثة الشيباني رضي الله عنه ابتداء، ومن ذاته بعد أن دخل بالإسلام، وجرأته على فارس، ثم إقرار الصديق له، ومده بخالد بن الوليد، إلا ثمرة ذلك اللقاء. ونخلص من هذه السمة إلى أن الداعية قد لا يلقى أثر دعوته مباشرة، وقد لا يحصل التجاوب المطلوب منذ اللحظات الأولى - كما يبدو لأول وهلة - ولكن حسن عرضه لدعوته لا بد أن يضع بصمة واضحة أو نقطة بارزة في نفس المدعو، تعمل بعدها في نفسه، وتدفع في قلبه لتقوده إلى حظيرة الإيمان. فلا يزهدن الداعية بأي فرصة، مهما بدت احتمالات القبول ضعيفة، فهي إن لم تغز القلوب، فلا بد أن تفتح مغاليقها، وتكسر أقفالها تهيئة لهذا القبول. 2 - (إن هذا الأمر مما تكرهه الملوك) فلا شك أن النظرة الفاحصة للمثنى رضي الله عنه تدل على عمق فهمه لهذا الدين، لأنه جاء ليزيل الطغيان من هذه الأرض، ويزيح البغي والطاغوت فيها، ولا شيء يغيظ الملوك

المتجبرين مثل وعي جماهيرهم بحقيقة هذا الدين، ورفضهم الانصياع لهم بعد سماع دعوة التوحيد التي تقول: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. والحاكم الذي لا يريد أن يفيء إلى ما أنزل الله لن يجد خطرا عليه أعظم من هذا الخطر، لأنه يدعو كما قال ربعي رضي الله عنه (لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله ..). ومن أجل هذا يواجه الطغاة هذا الدين ويحاربونه حفاظا على سلطانهم، وخوفا من أن تنثل عروشهم، وتميد الأرض من تحتهم. 3 - ((إنه لا يقوم بدين الله إلا من أحاطه من جميع جوانبه) سمة أخرى من سمات هذا الدين .. فإن يخضع المسلم في آن لأحد لله وللطاغوت، فهذا ما لا يكون أبدا. وعرف رسول الله (ص) أن هذه المنعة المبتورة الناقصة، المنعة من العرب دون العجم لا تعني. لأن الفرس لا ترضى بهذا الدين بجوارها، ولذلك فلا يتعهد بنو شيبان بحماية رسول الله (ص) منهم، وقد يسلمونه حين يرون أنهم غير ملزمين بحمايته، بينما رأينا الأنصار - كما سيظهر فيما بعد - يقول قائلهم: (تحاربون به الأحمر والأسود من الناس) قد أحاطوا بهذا الأمر من جميع جوانبه. لا بد من الرأي الواضح المحدد في أي موقف يقفه الحلفاء من الدعوة. وأن نتأكد من صدق الموقف، والاستعداد الحقيقي لتحمل تبعاته، لا أن ترمي بثقلها في مكان، ثم تكون بعد ذلك لقمة سائغة للعدو فيه.

4 - وعرض رسول الله (ص) لمبادىء العقيدة الأساسية بحيث استأثر بقلب مفروق فقال: (دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك). ليدل دلالة واضحة على عظمة هذا الداعية وهذه الدعوة، بحيث تكون قادرة على اجتذاب القلوب إليها، والسيوف لحمايتها، يوم يزول الغبش والتشويه، والعوائق من طريقها .. والداعية العظيم هو الذي يقتفي أثر سيد الدعاة محمد (ص) في فن الدعوة وأصولها. 5 - ولا يترك رسول الله (ص) القوم، إلا أصدقاء لهذه الدعوة وهذا الدين ولم يعلنوا استجابتهم له، حين لا يجد حرجا من الثناء عليهم - على كفرهم - بقوله: ((ما أسأتم الرد حين أفصحتم بالصدق)) وفي غيابهم قال عليه الصلاة والسلام: ((أية أخلاق للعرب كانت في الجاهلية ما أشرفها بها يتحاجزون في الحياة الدنيا)). ودعاة اليوم نناديهم أن يتعلموا هذه الأصول في فقه التخاطب مع الرجال والجماعات، والأصدقاء والأعداء، لا أن يكون همهم السب والشتم للجاهلية، بكل ما فيها، لينفروا منها الناس كافة ولا يبقوا لهم صديقا يتعاطف معهم، ليكونوا كما قال الله تعالى لهم: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} (¬1). 6 - ونود أخيرا أن يبقى في ذهن الدعاة، ظاهرة أبي طالب، وظاهرة أبي ¬

(¬1) المائدة 8.

لهب، وكلا الرجلين في النار .. ولكن شتان بين من كان يجمع كل قومه وولده لحماية رسول الله (ص) من القتل، بل يضع أولاده في فراش رسول الله (ص)، فيما لو تعرض لغيلة، ويضحي بهم، ولا يرضى لمحمد (ص) إلا أن يكون بجواره، وبحماية سيفه. وبين من يلاحق رسول الله (ص) إلى كل موقف، كل ناد للقوم، ليكذبه، ويرد رأيه، ويرجمه بالحجارة، ويتابع كل مجلس يجلسه، ليقذفه بالكذب والجنون. فهل يدرك الدعاة هذه الظواهر، وهم يتحركون في سبيل الله، فيصبرون على مرها، ويجنون شهدها، دون تشنج أو انزلاق أو استسلام؟ ***

الفصل السابع عشر الإسراء والمعراج ودلالتهما

الفصل السابع عشر الإسراء والمعراج ودلالتهما بعد عشر سنوات من الدعوة، ابتدأت بتلقي الوحي في حراء، ومضت تشق طريقها في قلب الفتيان من قريش، وفي عالم الجن على يد وفد جن نصيبين، وتتجاوب أصداؤها في قبائل العرب كلها من خلال لقاءات رسول الله. مع وفود العرب في أسواقهم ومواسمهم، وتصل ينابيعها إلى جذور النجاشي في الحبشة فتثمر إسلامه وحمايته. وفي الصورة المقابلة حيث كانت قريش تبث دعايتها وسمومها في كل مكان ضد الدعوة الجديدة، وتؤلب العرب ضد رسول الله (ص)، وتقذفه بالكهانة والسحر والجنون، وتمد يدها إلى كل القبائل العربية لتكون بجوارها في حرب محمد (ص)، وترسل وفودها إلى الحبشة لملاحقة هذه الدعوة، ولا تدع فرصة للانقضاض على الدعوة ورجالاتها إلا واهتبلتها إيذاء وتشريدا، وقتلا وملاحقة، وتبدو الساحة للوهلة الأولى أنها ملك قريش، وأنها المنتصرة في هذه الجولة، فقد سدت الطريق في مكة، وفي ثقيف، وفي قبائل العرب، وأحكمت الحصار من كل جانب ضد الدعوة، ورجالاتها، وأصبح محمد (ص) على وشك القضاء عليه، بعد هلاك عمه أبي طالب أكبر حماته.

حديث الإسراء

ورسول الله (ص) ماض في طريقه، صابر لأمر ربه، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا حرب محارب، ولا كيد مستهزىء. آن الأوان لأن يقر الله تعالى عين نبيه، فيعرج به من دون الخلائق جميعا إليه، ويكرمه على صبره وجهاده، ويلتقي به مباشرة دون رسول ولا حجاب، ويطلعه على عوالم الغيب دون الخلق كافة، ويجمعه مع إخوانه من الرسل في صعيد واحد فيكون الإمام والقدوة لهم وهو خاتمهم وآخرهم، ويحدثنا عليه الصلاة والسلام عن هذه الرحلة الخالدة فيقول: حديث الإسراء (عن أنس بن مالك أن رسول الله (ص) قال: ((أتيت بالبراق)) (وهو أبيض طويل فوق الحمار دون البغل يضع حافره عفد منتهى طرفه) قال: ((فركبته حتى أتيت بيت المقدس)) قال: (فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء)) قال: ((ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن. فقال جبريل (ص): اخترت الفطرة ..)) (¬1). (وهن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله (ص) يقول: ¬

(¬1) مسلم باب الإسراء 74 ك. الأيمان 1 ح 259.

(لما كذبني قريش قمت من الحجر، فجلا الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه)) (¬1). (قال الحسن (¬2) في حديثه: فمضى رسول الله (ص) ومضى جبريل عليه السلام معه، حتى انتهى به إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء فأمهم رسول الله (ص) فصلى بهم، ثم أتي بإناءين في أحدهما خمر وفي الآخر لبن. قال: فأخذ رسول الله (ص) إناء اللبن، فشرب منه، وترك إناء الخمر. قال: فقال جبريل: هديت للفطرة، وهديت أمتك يا محمد، وحرمت عليكم الخمر، ثم انصرف رسول الله (ص) إلى مكة. فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر، فقال أكثر الناس: هذا والله الأمر البين، والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهرا مقبلة. أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة، ويرجع إلى مكة؟! قال: فارتد كثير ممن كان أسلم. وذهب الناس إلى أبي بكر، فقالوا له: هل لك يا أبا بكر في صاحبك، يزعم أنه جاء هذه الليلة بيت المقدس، وصلى فيه، ورجع إلى مكة. فقال أبو بكر: والله لئن كان قال لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك؟!. فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه. فهذا أبعد مما تعجبون منه. ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله (ص) فقال: يا نبي الله، أحذثت هؤلاء القوم أنك أتيت المقدس هذه الليلة؟ قال: ((نعم)) قال: يا نبي الله، فصفه لي فإني قد جئته. قال ¬

(¬1) البخاري ك. مناقف الأنصار 63ب. حديث الإيراء ص 66 م 2 ج 5 - رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر به. ومن حديث عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة. (¬2) الحسن: هو الحسن البصري رحمه الله.

الحسن: فقال رسول الله (ص): (فرفع لي حتى نظرت إليه) فجعل رسول الله (ص) يصفه لأبي بكر، ويقول أبو بكر: صدقت أشهد أنك رسول الله كلما وصف له منه شيئا، قال: صدقت أشهد أنك رسول الله .. حتى انتهى. قال رسول الله (ص) لأبي بكر: ((وأنت يا أبا بكر الصديق)) فيومئذ سماه الصديق. قال الحسن: وأنزل الله تعالى فيمن ارتد عن إسلامه لذلك: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا} (¬1)) (¬2). (قال محمد بن إسحاق: وكان - فيما بلغني - عن أم هانىء بنت أبي طاب رضي الله عنها واسمها هند في مسرى رسول الله (ص)، أنها كانت تقول: ما أسرى برسول الله (ص) إلا وهو في بيتي، نائم عندي تلك الليلة في بيتي، فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا، فلما كان قبيل الفجر، أهبنا رسول الله (ص) فلما صلى الصبح، وصلينا معه، قال: ((يا أم هانىء لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي. ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم قد صليت صلاة الغداة معكم، الآن كما ترين)) ثم قام ليخرج فأخذت بطرف ردائه، فتكشف عن بطنه كأنه قبطية سطوية (¬3)، فقلت له: يا نبي الله، لا تحدث بهذا الناس فيكذبوك ¬

(¬1) الإسراء 60. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 398/ 1، 399. (¬3) قبطية سطوية: نوع من أنواع الملابس الواردة من مصر.

ويؤذوك. قال: ((والله لأحدثهموه)) قالت: فقلت لجاية لي حبشية: ويحك اتبعي رسول الله (ص) حتى تسمعي ما يقول للناس، وما يقولون له. فلما خرج رسول الله (ص) إلى الناس أخبرهم، فعجبوا وقالوا: ما آية ذلك يا محمد؟ فإنا لم نسمع بمثل هذا قط. قال: ((آية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة، فند (¬1) لهم بعيرهم فدللتهم عليه، وأنا موجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان مررت بعير بني فلان، فوجدت القوم نياما، ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه، وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان. وآية ذلك أن عيرهم الآن تصوب من البيضاء، ثنية التنعيم يقدمها جمل أورق، عليه غرارتان إحداهما سوداء، والأخرى برقاء)) قالت: فابتدر القوم الثنية، فلم يلقهم أول من الجمل كما وصف لهم، وسألوهم عن الإناء، فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءا ماء ثم غطوه، وأنهم هبوا فوجدوه مغطى كما غطوه، ولم يجدوا فيه ماء. وسألوا الآخرين وهم بمكة، فقالوا: صدق والله، لقد أنفرنا في الودي الذي ذكره، وند لنا بعير، فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه حتى أخذناه) (¬2). (وفي رواية يونس: أنه وعد قريشا بقدوم العير التي أرشدهم إلى البعير، وشرب إنائهم وأنهم سيقدمون ويخبرون بذلك. فقالوا: يا محمد متى يقدمون؟ فقال: ((يوم الأربعاء)) فلما كان ذلك اليوم ولم يقدموا، حتى قربت الشمس أن تغرب، فدعا الله فحبس الشمس حتى قدموا كما وصف. ¬

(¬1) ند: هرب. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 402/ 1، 403.

قال: ولم يحبس الشمس إلا له ذلك اليوم وليوشع بن نون) (¬1). يقول ابن كثير: (وقد عاين في تلك الليلة من الآيات والأمور التي لو رآها (¬2) - أو بعضها - غيره لأصبح مندهشا أو طائش العقل، ولكنه (ص) أصبح واجما - أي ساكنا - يخشى إن بدأ فأخبر قومه بما رأى أن يبادروا إلى تكذيبه، فتلطف بإخباجم أولا بأنه جاء بيت المقدس في تلك الليلة، وذلك أن أبا جهل - لعنه الله - رأى رسول الله (ص) في المسجد الحرام وهو جالس واجم، فقال له: هل من خبر؟ فقال: ((نعم)) فقال: ما هو؟ قال: ((إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس)) قال: إلى بيت المقدس؟! قال: ((نعم)) فأراد أبو جهل جمع قريش ليسمعوا منه ذلك، وأراد رسول الله جمعهم ليخبرهم بذلك ويبلغهم فقال أبو جهل: هيا معشر قريش، وقد اجتمعوا من أنديتهم، فقال: أخبر قومك بما ¬

(¬1) الروض الأنف للسهيلي 149/ 2. (¬2) اختلف العلماء حول الإسراء كان يقظة أو مناما. يقول السهيلي: (وذهبت طائفة ثالثة منهم شيخنا القاضي أبو بكر رحمه الله إلى تصديق المقالتين، وتصحيح الحديثين، وأن الإسراء كان مرتين، إحداهما كان في نومه توطئة له، وتيسرا عليه، كما كان بدء نبوته الرؤيا الصادقة ليسهل عليه أمر النبوة، فإنه عظيم تضعف عنه القوى البشرية .. ورأيت المهلب في شرح البخاري قد حكى هذا القول عن طائفة من العلماء وأنهم قالوا: كان الإسراء مرتين: مرة في نومه، ومرة في يقظته ببدنه (ص). قال المؤلف: وهذا القول هو الذي يصح، وبه تتفق معاني الأخبار .. ورواة الحديثين حفاظ، فلا يستقيم الجمع بين الروايتين، إلا أن يكون الإسراء مرتين .. والرواة أثبات، ولا سبيل إلى تكذيب بعضهم ولا توهينهم) الروض الأنف للسهيلي 149/ 3، 150.

أخبرتني به، فقص عليهم رسول الله (ص) خبر ما رأى، وأنه جاء بيت المقدس هذه الليلة وصلى فيه، فمن بين مصدق وبين مصفر، تكذيبا له، واستبعادا لخبره. وطار الخبر بمكة، وجاء الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه، فأخبروه أن محمدا يقول كذا وكذا، فقال: إنكم تكذبون عليه، فقالوا: والله إنه ليقوله. فقال: إن كان قاله فلقد صدق. ثم جاء إلى رسول الله (ص) وحوله مشركو مكة، فسأله ذلك فأخبره، فاستعلمه عن صفات بيت المقدس، ليسمع المشركون ويعلموا صدقه فيما أخبرهم به) (¬1). ... 1 - من دلالات الإسراء برسول الله (ص) هو أن رسالة الله واحدة إلى خلقه وهي الإسلام {إن الدين عند الله الإسلام} وبه جاء الأنبياء من لدن آدم ونوح إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فهو يصلي إماما بالأنبياء، ويؤم بيت المقدس، الذي أقيم للناس ليعبدوا الله تعالى فيه بعد بيت الله الحرام. وهو القبلة الأولى للمسلمين، وأهميته بالنسبة للمسلمين وثيقة مثل أهمية بيت الله الحرام، ولو تحولت القبلة عنه، فمحمد (ص) خاتم النبيين وإمامهم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: ((أنا أولى الناس بابن مريم، الأنبياء أولاد علات، وليس بيني وبين ابن مريم نبي)) قال: كان أبو هريرة يقول: قال رسول الله (ص): ((مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه، ترك منه موضع لبنة، ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 3/ 124.

فطاف بها النظار يتعجبون من حسن بنائه إلا موضع تلك اللبنة لا يعيبون سواها، فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان، وختم بي الرسل)) (¬1). وقال رسول الله (ص): ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة)) قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: ((الأنبياء إخوة من علات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد، وليس بيننا نبي)) (¬2). 2 - وشرب رسول الله (ص) اللبن حين خير بينه وبين الخمر، وبشارة جبريل عليه الصلاة والسلام: هديت للفطرة. تؤكد أن هذا الإسلام دين الفطرة البشرية الذي ينسجم معها فالذي خلق الفطرة البشرية خلق لها هذا الدين الذي يلبي نوازعها واحتياجاتها ويحقق طموحاتها، ويكبح جموحها {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (¬3). وحين نرى الناس يجنحون عن هذا الدين، فلا شك أن فطرتهم قد فسدت. ومهمة الداعية أن يعالج فساد هذه الفطرة بما حوت من ركام، ¬

(¬1) شرح السنة للبغوي 3621/ 13 وقال فيه: هذا حديث متفق على صحته رواه محمد عن قتيبة 408/ 6 وأخرجه مسلم عن قتيبة كلاهما عن إسماعيل بن جعفر 2286/ 22. (¬2) شرح السنة للبغوي 13/ 3619 وقال فيه: هذا حديث متفق على صحته أخرجاه من طريق عن أبي هريرة. البخاري 352/ 6 ومسلم 2365/ 145 في الفضائل. (¬3) الروم من الآية 30.

يزيل تلك الأقفال عن القلوب، يعالج تلك القشرة القاسية الجاسية، ليصل إلى القلب قبل الران عليه، فينشرح صدرا بالإسلام، يرفع رأسا به. 3 - وحرص رسول الله (ص) على إخبار قومه بما من الله تعالى عليه بهذا الإكرام رغم توقع التكذيب درس واضح كذلك أن علينا أن نمضي في سبيل الله، لا نعبأ بمن يحارب أو يستعد للمحاربة، لأننا ماضون على خطا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين} (¬1). لقد اهتبلها أبو جهل فرصة لكيد النبي (ص)، حتى يكذبه الناس، فما عبأ عليه الصلاة والسلام بما يلاقي رغم إشفاق أم هانىء عليه أن لا يحدث به الناس حتى لا يكذبوه. لا بد أن تجلى حقائق هذا الدين للناس جميعا، وإخفاء الحقائق حرصا على إرضاء نزوات الناس انحراف عن منهح الله، وكتمان لما أمر الله تعالى بتبليغه، لكن اختيار الوقت والطريقة الأنسب للتبليغ موضوع آخر. فلم يبلغ رسول الله (ص) بما رأى في المعراج من آيات ربه إلا بعد لأي، وبدأ بإبلاغهم ما يعرفون، وما يقدر على إثباته لهم، حيث ¬

(¬1) المائدة 67.

رفع الله تعالى له بيت المقدس ليصفه للناس رأي عين. وجاء بدلائل من الوقائع الحسية لتصديق خبره. لقد كان رسول الله (ص) في غنى عن الشرب، وفي غنى عن الدلالة على البعير الذي ند وهو ماض في أعظم رحلة تكريم له، ولكنها الوقائع الحسية لدفع حجتهم، وإثبات صحة الخبر. وما يفعله الدعاة اليوم، بالاستشهاد بحقائق العلم التي جاءت مصداقا لما جاء به الله تعالى ورسوله، وتحقيقا لقول الله عز وجل: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ..} (¬1) هو منطلق سليم وطيب. لكن الفرق كبير بين إثبات حقائق الدين من خلال الإيمان المطلق بحقائق العلم، وكأنما الدين مفتقر لذلك حتى يصح، وبين اليقين بأن الله تعالى الذي أنزل الدين هو الذي علم الناس ما يجهلون، وفقههم في دينه من خلال تجلية آياته في الأنفس وفي الآفاق. 4 - {وما جعبا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ..} فالرسول (ص) مقدم على مرحلة جديدة، مرحلة الهجرة، والانطلاق لبناء الدولة ويريد الله تعالى للبنات الأولى في البناء أن تكون سليمة قوية متراصة متماسكة. وجعل الله تعالى هذا الاختبار والتمحيص، ليخلص الصف من الضعاف المترددين والذين في قلوبهم مرض، ويثبت المؤمنين الأقوياء والخلص. ¬

(¬1) فصلت من الآية 57

حديث المعراج

فارتد كثير من المسلمين. بينما وقف في الصف المقابل، الصديق أبو بكر رضي الله عنه كالطود الشامخ في كلمته الخالدة التي حددت منهج الإيمان: (إن كان قالها فقد صدق). و (فولله إنه ليخبرني الخبر يأتيه من السماء ساعة من ليل أو نهار فأصدق). وفاز أبو بكر رضي الله عنه بلقب الصديق - يومها - فهو صديق هذه الأمة، وهو الذي علمنا كيف يكون التعامل مع ما يأتي من الله ورسوله، فلا مجال للرأي بعد ثبوت نقله، ولا جدال في مورد النص. حديث المعراج عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما أن نبي الله (ص) حدثهم عن ليلة أسري به قال: ((بينما أنا في الحطيم - وربما قال في الحجر - مضطجعا، إذ أتاني آت فقد)) قال: وسعته يقول فشق ((ما بين هذه إلى هذه)) فقلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني به؟ قال: من ثغرة نحره إلى شعرته. وسمعته يقول من قصه إلى شعرته ((فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبي ثم حشي، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض)) فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم يضع خطوه عند أقصى طرفه

(فحملت عليه فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحا به فنعم المجيء جاء. ففتح، فلما خلصت فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه. فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم صعد حتى السماء الثانية فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحا به فنعم المجيء جاء. ففتح، فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما. فسلمت فردا السلام ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى السماء الثالثة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء. ففتح، فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه. فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى السماء الرابعة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء. ففتح، فلما خلصت إلى إدريس، فقال: هذا إدريس فسلم عليه. فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى السماء الخامسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء. ففتح، فلما خلصت فإذا هارون؛ فقال: هذا هارون. فسلم عليه. فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى السماء السادسة

فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء. ففتح، فلما خلصت فإذا موسى، فقال: هذا موسى فسلم عليه. فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحباء بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر من يدخلها من أمتي، ثم صعد بي حتى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. قال: مرحبا به، فنعم المجيء جاء. فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام. قال: مرحبا بالإبن الصالح، والنبي الصالح. ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. قال هذه سدرة المنتهي، وإذا أربعة أنهار، نهران باطنان ونهران ظاهران. فقلت: ما هذان يا جبريل. قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع لي البيت المعمور، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن، وإناء من عسل. فأخذت اللبن فقال: هي الفطرة أنت عليها وأمتك، ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة، والله لقد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. فرجعت: فوضع عني عشرا. فرجعت إلى موسى، فقال لي مثله، فرجعت، فوضع عني عشرا، فرجت إلى موسى، فقال لي مثله، فرجعت: فأمر بعشر صلوات كل

يوم. فرجعت، فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى، فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم. قال: فلما جاوزت نادى سمناد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي))) (¬1). (قال ابن شهاب: فأخبر ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: قال النبي (ص): ((فعرض الله على أمتي خمسين صلاة .. ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى، وغشيها ألون لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة، فإذا بها حبائل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك)) (¬2). (وعن عبد الله قال: لما أسري برسول الله (ص)، انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها قال: إذ يغشى السدرة ما يغشى قال: فراش من ذهب قال: فأعطي رسول الله (ص) ثلاثا: أعطي الصلوت الخمس، وأعطي خواتم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات) (¬3). ¬

(¬1) البخاري 7/ 162 في فضائل أصحاب النبي (ص) باب المعراج، وأخرجه مسلم عن محمد بن المثنى ورواه الترمذي والنسائي من طرق عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة. (¬2) شرح السنة للبغوي 13/ 3754 وقال: هذا حديث متفق على صحته أخرجه مسلم من حرملة بن يحيى. (¬3) شرح السنة للبغوي 13/ 3756 وقال: هذا حديث صحيح، المقحمات: أراد الدنوب العظام التي تقحم أصحابها في النار. وهو في صحيح مسلم 173 في ك. الإيمان ب. سدرة المنتهى.

(وعن الشيباني قال: سألت زرا عن قوله عز وجل {فكان قاب قوسين أو أدنى} قال: أخبرنا عبد الله أنه محمد رأى جبريل له ستمائة جناح) (¬1). (وعن أنس قال: قال رسول الله (ص) ((لما أسري بي إلى السماء رأيت موسى عليه الصلاة والسلام يصلي في قبره)) (¬2). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله (ص) قال: ((لما دخلت السماء الدنيا، رأيت بها رجلا جالسا تعرض عليه أرواح بني آدم فيقول لبعضها إذا عرضت عليه خيرا، ويسر به، ويقول: روح طيبة خرجت من جسد طيب، ويقول لبعضها إذا عرضت عليه: روح خبيثة خرجت من جسد خبيث. قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك آدم، تعرض عليه أرواح ذريته .. ثم رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل في أيديهم قطع من نار كالأفهار يقذفونها في أفواههم، فتخرج من أدبارهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما. ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون يمرون عليهم كالإبل المهيومة حين يعرضون على النار، يطؤوهم لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك))، قال: ((قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء هم آكلة الربا. ¬

(¬1) المصدر السابق 13/ 3757 وقال: هذا حديث متفق على صحته أخرجه مسلم والبخاري. (¬2) المصدر السابق 13/ 3760 وقال: هذا حديث صحيح أخرجه مسلم 2375 في الفضائل باب من فضائل موسى عليه السلام.

ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم ثمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيب) قال: ((قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء، ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن. ثم رأيت نساء معلقات بثديهن، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم)) (¬1). ... 1 - لقد كان افتتاح الإسراء والمعراج بشق صدره عليه الصلاة والسلام، وبملئه بالإيمان، وغسل القلب كذلك، وهو أمر من معجزاته (ص)، تقتضيه تلك الرحلة إلى الحضرة الإلهية، والاطلاع على عوالم من عوالم الغيب. لن يستطيعها بشر، ولن يطيقها مخلوق. ومن أجل هذا هيىء قلبه عليه الصلاة والسلام، لمثل هذا المعراج، وهذا الأمر يعفينا من كثير من الخواطر حول إمكانية رؤية رسول الله لربه، والأمر كله أكبر من قياسه على العقل البشري. والطاقة البشرية الضعيفة، ومن من خلق الله تعالى أعد هذا الإعداد لمثل هذه المواجهات غير رسول الله (ص)؟ منذ طفولته وهو ابن الرابعة حين شق صدره لأول مرة، وانتزع منه العلقة السوداء، حظ الشيطان منه، وعند بعثته ليكون مهيأ لتلقي كلام رب العالمين، حيث شق صدرع وملىء قلبه بالإيمان، وهذه المرة الثالثة التي أعد للقاء مع الأنبياء والملائكة، والمثول بين يدي رب العالمين. ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 405، 406.

2 - ثم كان افتتاح السموات العلا، واحدة إثر الأخرى بعد الاستئذان من جبريل عليه الصلاة والسلام، وإعلامهم بمصاحبة النبي (ص) له، ثم لقاؤه مع النبي المقرر اللقاء معه في هذه السماء، هو إشعار النبي (ص) أن حدوده ليست مكة وقريش وثقيف .. إنه نبي هذا الوجود كله، الذي يستبشر بقدومه ملائكة السماء وحفظتها، وينتظرون بعثته، ويتهيؤون لاستقباله، والأنبياء هم مستبشرون به، وعارفون لفضله، ومقروق بنبوته وفضله، إنه هو العبد الذي يسير بصحبة جبريل عليه الصلاة والسلام إلى أماكن لم تخطر على خلد بشر، يرى عليه الصلاة والسلام هذه الآفاق وهذا الملكوت وحدوده قبل هذه الرحلة بصرى في الشام والطائف في الحجاز. 3 - وإذا كان جبريل عليه الصلاة والسلام هو الذي يجوب بمحمد (ص) آفاق السموات والأرض، ويقدمه للملائكة والنبيين، فلجبريل نفسه حدود لا يتجاوزها، فعند سدرة المنتهى رأى رسول الله (ص) جبريل للمرة الثالثة كذلك على صورته التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح، فلئن رآه قبل في حراء وفي الأبطح. وهو الفرد العادي إنه يراه الآن، حيث يقف جبريل ويتقدم النبي (ص)، إلى المثول بين يدي الرب الأعلى، يتلقى منه مباشر دون واسطة، ودون رسول .. يسمع من ربه، ويحفل به الله تعالى، فيريه من الآيات ما لا يستطيع أحد وصفه، وتتجلى أنوار الحضرة الإلهية عليه، فأنى التفت وأنى سار يرى النور. 4 - وفي هذا اللقاء المنفرد، شاء رب العزة من كل أحكام هذه الشريعة، أن يتلقى رسوله أمر الصلوات الخمس هناك، وكأنما الهدف من هذا اللقاء هو هذا

التلقي، وكيف كانت خمسين صلاة ابتداء. فما أعظم هذه الصلوت في حس المسلم، حين يذكر شرفها وعظمتها أين تم تلقيها .. وواجب المسلم أن يقتدي برسول الله (ص)، فيعطي هذه الصلاة حقها، لأنها في حسه هي الصلة اليومية المفروضة بين الله تعالى وعباده. (وأما فرض الصلاة عليه هنالك، ففيه التنبيه على فضلها، حيث لم تفرض إلا في الحضرة المقدسة، ولذلك كانت الطهارة من شأنها، ومن شرائط أدائها، والتنبيه على أنها مناجاة الرب، وأن الرب تعالى مقبل بوجهه على المصلي يناجيه يقول: حمدني عبدي، أثنى علي عبدي .. إلى آخر السورة، وهذا مشاكل لفرضها عليه في السماء السابعة حيث سمع كلام الرب وناجاه ولم يعرج به حتى طهر ظاهره وباطنه بماء زمزم كما يتطهر المصلي للصلاة، وأخرج عن الدنيا بجسمه كما يخرج المصلي عن الدنيا بقلبه، ويحرم عليه كل شيء إلا مناجاة ربه، وتوجهه إلى قبلته في ذلك الحين، وهو بيت المقدس، ورفع إلى السماء، كما يرفع المصلي يديه إلى جهة السماء إشارة إلى القبلة العليا فهي البيت المعمور، وإلى جهة عرش من يناجيه ويصلي له سبحانه) (¬1). وكأنما الصلاة للمؤمن معراج مصغر يتجه المؤمن بقلبه إلى الله ¬

(¬1) الروض الأنف للسهيلي 159/ 2.

تعالى ويمثل بين يديه، ذكرا وتسبيحا واستغفارا وثناء على الله جل وعلا، كما كرم سيد الخلق بأن كان معراجه ومثوله بين يدي ربه بجسده الشريف وقلبه. وإذا كان فرض الصلوات هناك، فلا بد أن يكون حس المؤمن متجها إلى هناك، إلى حيث فرضت يوم فرضت، بلا وساطة، ولا حاجب ولا حجاب. ومن أجل هذا كان ترك الصلاة من الكبائر التي تقود إلى الكفر. ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) (¬1). وما كان السلف يرون أمرا تركه كفر غير الصلاة، قال عبد الله ابن شفيق: كان أصحاب محمد (ص) لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة (¬2). 5 - وما هيأه الله تعالى لنبيه (ص) من أن يكون موسى عليه الصلاة والسلام على طريق عودته، ويتذاكر معه فيما فرض عليه ربه، فيلح موسى على محمد (ص) العودة إلى ربه ومناجاته، وطلب التخفيف عن أمته، وكيف كان يمضي ثم يعود، فيسقط الله تعالى عنه عشرا، وكيف وقف عند الخمس بعد ذلك، ويستحي من ربه عز وجل العودة، فيسمع نداء ربه: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي. ¬

(¬1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، شرح السنة 2/ 180 هامش 7. (¬2) المصدر نفسه 181/ 2.

(.. وكذلك قال في آخر الحديث: ((هي خمس، وهي خمسون، والحسنة بعشر أمثالها))، فتأول رسول الله (ص)، على أنها خمسون بالفعل، فلم يزل يراجع ربه حتى بين له أنها خمسون في الثواب لا بالعمل، فإن قيل: فما معنى نقصها عشرا بعد عشر، قلنا: ليس كل الخلق يحضر قلبه في الصلاة من أولها إلى آخرها، وقد جاء في الحديث أنه يكتب له منها ما حضر قلبه منها، وأن العبد يصلي الصلاة فيكتب له نصفها وربعها حتى انتهى إلى عشرها، ووقف، فهي خمس في حق من كتب له غشرها، وعشر في حق من كتب له أكثر من ذلك، وخمسون في حق من كملت صلاته وأداها بما يلزمه من تمام خشوعها، وكمال سجودها وركوعها) (¬1). وحيث بقيت الصلاة خمسا من حيث الأداء، فلم يعد من عذر لمسلم بترك واحدة منها، وفوات صلاة واحدة من غير نسيان، ذنب لا يعادله ذنب، لأنها تخل عن مناجاة الرب جل وعلا، والوقوف والمثول بين يديه. وحري بالمسلم، وقد سمع ما أكرم الله تعالى به نبيه حين أحضره إليه وعرض عليه عليه الصلاة والسلام، وما كان من تلك المراجعة المستمرة من أجل التخفيف عنه حتى عدت خمسا في العمل وخمسين في الثواب، حري بالمسلم وقد سمع هذا كله أن يحافظ على هذه الصلوات الخمس ويتطهر بها يوميا من ذنوبه. ¬

(¬1) الروض الأنف للسهيلي 2/ 160.

((أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)) (¬1). هذا من حيث الأجر لمن أداها بحقها، أما من حيث الوزر لمن تخلى عنها أو فرط في حقها، فهو مطرود من الحضرة الإلهية، ومبعوث مع المجرمين العتاة الكفرة. فيكفينا أن نرى صلاة النبي (ص) في الأنبياء في بيت المقدس، لتؤكد أن الصلاة جزء من دين الله تعالى الذي أنزل على كل نبي من أنبيائه، وليست خاصة بالمسلمين وحدهم. وقد شهدنا كيف كان موسى عليه الصلاة والسلام يشفق على أمة محمد (ص)، من أجل الصلوات الخمسين فيلح على أخيه محمد عليه الصلاة والسلام أن يطلب التخفيف من ربه، بعد أن بلا بني إسرائيل وشهد تقصيرهم، وإن كانت كيفيتها تختلف من رسالة إلى أخرى، لكنها كلها تتجه إلى الله تعالى. فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه. فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي (ص) أنه ذكر الصلاة يوما فقال: ((من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها، لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان ¬

(¬1) البخاري 2/ 9 في مواقيت الصلاة ومسلم 667 في المساجد.

يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)) (¬1). 6 - ورؤية رسول الله (ص) ليلة الإسراء والمعراج للزناة وأكلة الربا، وأكلة مال اليتامى هو دليل على خطر هذه الكبائر، وأنها تقود إلى النار، عصاة المؤمنين الذين يرتكبونها، فالتهاون فيها، والتفريط فيها يجعل المرء يخوض في نار جهنم خوضا ولا يدري، وقد توعد الله تعالى بالنار من يرتكب مثل هذه الجرائم: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} (¬2). {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة، ويخلد فيه مهانا، إلا من تاب ..} (¬3). {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقو النار التي أعدت للكافرين} (¬4). ¬

(¬1) رواه أحمد بإسناد صحيح 2/ 169. (¬2) النساء 10. (¬3) الفرقان 68،69. (¬4) آل عمران 130، 131.

الفصل الثامن عشر الهجرة إلى المدينة

الفصل الثامن عشر الهجرة إلى المدينة أولا: أسبابها: (عن عطاء بن رباح قال: زرت عائشة مع عبيد الله بن عمرو الليثي فسألناها عن الهجرة فقالت: لا هجرة اليوم. كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى وإلى رسوله (ص) مخافة أن يفتن عليه. أما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، واليوم يعبد ربه حيث شاء) (¬1). (قال ابن إسحاق (¬2): قال كعب بن مالك: ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله (ص) العقبة، من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج .. فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله (ص) نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب أم عمارة، إحدى نساء بني مازن ¬

(¬1) البخاري باب هجرة النبي (ص) م 2 ج 5 ص 72. (¬2) رواه ابن إسحاق عن معبد بن كعب (مقبول) من أخيه بن عبد الله بن كعب (ثقة) عن كعب بن مالك رضي الله عنه.

ابن النجار، وأسماء ابنة عمرو بن عدي إحدى نساء بني سلمة وهي أم منيع. فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله (ص) حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج .. إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وأنه قد أبى إلا الانحياز لكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة في بلده. قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. قال: فتكلم رسول الله (ص)، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام ثم قال: ((أبايعكم على أن تمنعوني بما تمنعون به نساءكم وأبناءكم)) قال: فأخذ البراء بن معرور بيده وقال: نعم، والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا (¬1). فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة (¬2)، ورثناها كابرا عن كابر (¬3). قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله (ص) أبو الهيثم بن التيهان ¬

(¬1) أزرنا: نساءنا، والمرأة يكنى عنها بالإزار. (¬2) الحلقة: السلاح. (¬3) كابرا عن كابر: كبيرا عن كبير، كناية: جيلا بعد جيل.

فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا (¬1)، وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك ويدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله (ص) ثم قال: ((بل الدم الدم والهدم الهدم (¬2)، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)). قال كعب: وقد كان قال رسول الله (ص): ((أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا، ليكونوا على قومهم بما فيهم))، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس) (¬3). (قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قادة (¬4): (أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله (ص) قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري، أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالو: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن فدعوه، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال، وقتل ¬

(¬1) حبال: العهد والذمة والأمان. (¬2) الدم الدم والهدم الهدم: قال ابن قتيبة: كانت العرب تقول عند عقد الحلف والجوار: دمي دمك، وهدمي هدمك. أي ما هدمت من الدماء هدمته أنا. وقال ابن هشام: الهدم: الحرمة، أي: ذمتي ذمتكم، وحرمتي حرمتكم. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام 442/ 1، وقد روه أحمد والطبراني بنحوه وقال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح، غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع. (¬4) عاصم بن عمر بن قتادة: ثقة عالم بالمغازي.

الأشراف، فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف؟ فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: ((الجنة)) قالو: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه. وأما عاصم بن عمر بن قتادة فقال: والله ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد لرسول الله (ص) في أعناقهم، وأما عبد الله بن أبي بكر فقال: ما قال ذلك العباس إلا ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي بن سلول، فيكون أقوى لأمر القوم، فالله أعلم أي ذلك كان) (¬1). وقل الإمام أحمد عن جابر قال: مكث رسول الله (ص) بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، بعكاظ ومجنة في المواسم بمنى يقول: ((من يؤويني، من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي، وله الجنة)) فلا يجد أحدا يؤويه، ولا ينصره .. حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر فيأتيه قومه، وذوو رحمه فيقولون له: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمضي بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله (ص) يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا، حتى قدموا عليه الموسم، فوإعدناه العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: ((تبايعوني على السمع ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 446.

والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني، إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة)) فقمنا إليه فبايعناه. وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو من أصغرهم - وفي رواية البيهقي: وهو أصغر السبعين إلا أنا - فقال: رويدا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل، إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مناوأة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله، قالوا: أمط (¬1) عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة، ولا نسلبها (¬2) أبدا، قال: فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة) (¬3). ... 1 - كما سبق وقلنا من قبل أن الدعوة في مكة وصلت إلى الطريق المسدود، وأن الحبشة على بعدها عن الأرض العربية لا تصلح قاعدة رئيسية للدعوة بمقدار ما تصلح قاعدة احتياطية، ومن الصعب أن تكون قاعدة انطلاق. وكانت المحاولات التي قام بها النبي (ص) مع القبائل العربية المجاورة والنائية ولكن دون جدوى، فقد أعد الله تعالى الخير لأهل يثرب، ¬

(¬1) أمط: أي نح يدك وأبعدها. (¬2) نسلبها: لا نرفضها ولا نتركها. (¬3) مسند الإمام أحمد ج 3/ 322، و 339. وقال ابن كثير: وقد رواه الإمام أحمد أيضا والبيهقي عن طريق داود بن عبد الرحمن العطار، زاد البيهقي عن الحاكم بسنده، وهذا إسناد جيد على شرط مسلم، ولم يخرجاه.

ولم يكن عليه الصلاة والسلام يعرف ذلك كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام: ((رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب)) (¬1). وسبق هذه العقبة لقاءان لرسول الله (ص) مع نفر من يثرب كانوا ستة في العام الأول واثني عشر في العام الثاني، حيث بايعوا بيعة العقبة الأولى (¬2). والذي دفعهم إلى الاستجابة لرسول الله (ص) ما كانوا يسمعونه من اليهود عن النبي، (فقال بعضهم لبعض: (تعلموا بالله أنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه) فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، وتعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك) (¬3). والملاحظ أن دعوة النبي (ص) للأنصار، كانت دعوة عرضية، ولم تكن مقصودة، كما رأينا في سعيه لوفود القبائل العربية الضخمة من قبل، وكان وفد يثرب صغيرا مكونا من ستة أشخاص وليس قادرا على أن يتحمل مسؤولية الحماية والنصرة، فلقيهم رسول الله (ص) ودعاهم، وهو ¬

(¬1) البخاري: ك. مناقب الأنصار 63.ب. هجرة النبي (ص) 45. (¬2) انظر السيرة النبوية لابن هشام 428/ 1 - 435. (¬3) المصدر نفسهه 428/ 1،429.

لا يعرف ابتداء لأي قبيلة ينتسبون. (قال لهم: ((من أنتم؟)) قالوا: نفر من الخزرج. قال: ((أمن موالي اليهود؟)) قالو: نعم. قال: ((أفلا تجلسون أكلمكم؟)) قالو: بل. فجلسو معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن ..) (¬1). فنصر الله تعالى يأتي للداعية من حيث لا يحتسب، والتخطيط البشري واجب، لكن الله تعالى هو الذي يختار لدعوته ودينه ما يحب، والشر الذي كان في يثرب وحرب بعاث فيهم، كانت شرا في ظاهرها، لكن كان من ورائها خير الدهر، أن دفعت أهل يثرب لمبايعة النبي (ص)، عسى أن تجتمع كلمتهم عليه، بعد أن عجزوا عن وحدة كلمتهم في الحروب التي كانت تأكلهم، وإرعاب يهود لهم بالنبي المبعوث الذي يقتلونهم به قتل عاد وإرم. كان في ظاهره بلاء عليهم، لكن كان وراءه خيري الدنيا والآخرة بأن تسارعوا للانضمام إليه قبل أن تسبقهم يهود إليه. إنها التقادير الربانية يوم يأذن الله تعالى بالفرج من عنده أو التمكين والنصر أن يأتي من قلب المحنة، ويأتي النور من كبد الظلمة، والله تعالى هو المؤيد والناصر، والبشر عاجزون أمام موعود الله. ولقد سدت السبل أمام سيد الخلق (ص)، بين عدو يتجهمه، وقريب يملك أمره، وكلما كان قاب قوسين أو أدنى من الحماية والنصر، يحال بينه وبين ذلك، بعدو جديد، أو افتراء جديد، أو ¬

(¬1) الرواية السابقة 428/ 1.

حرب عنيفة من أبي لهب وغيره، وحيث لم يكن يتوقع نصرا ولا قوة لا حماية، لا هجرة جاءه نصر الله وعونه وتمكينه. والداعية بحاجة دائما إلى أن يستحضر هذا المعنى، وهو يدعو إلى الله، والدعاة في الأرض بحاجة إلى أن يفقهوا هذا الأمر، وهم تتطلع نفوسهم إلى التمكين والنصر من أفق معين، إلى أن نصر الله تعالى قد يأتيهم من أفق آخر، من حيث لا يحلمون لا يتطلعون ولا يحتسبون. ولا أدل على ذلك من أن رسول الله (ص) لم يطلب منهم الحماية والنصرة، في الوقت الذي أمضى السنوات يرتاد المواسم كما روى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه وهو يسأل: ((من يؤويني؟ من ينصرني؟)) فلا يجد أحدا يؤويه). وهنا لم يسألهم عن شيء من ذلك، إنما عرض عليهم الإسلام، وقرأ عليهم القرآن فقبلوه. 2 - وبدت بارقة أمل بين يدي رسول الله (ص)، انتظر عليها حتى العام القادم حيث قدم النفر الاثنا عشر، وبايعوه البيعة الأولى على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض الحرب (على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة ....) (¬1). ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 433، وقد رواه ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب (ثقة فقيه) عن مرتد بن عبد الله بن اليزني (ثقة فقيه) عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنايحي (ثقة من كبار التابعين) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

فالعام الثاني إذن لم تطرح فيه قضية الحماية والنصرة، فليس في الأفق ما يدل على ذلك واثنا عشر رجلا لا يحمون دعوة ولا داعية، في بلد تعج باليهود، وتضطرب بالصراع والخصومات، واكتفى رسول الله (ص) بإسلامهم وبيعتهم على الإسلام بيعة النساء، دون أية مسؤولية. إنه مهما كانت المهام أمام الدعاة إلى الله، فلا يجوز أن ينسوا أنهم دعاة إلى الله، وأن انضمام أي فرد إلى هذا الدين هو كنز عظيم وربح كبير ((لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم)) (¬1). ومن أجل ذلك، فلا يجوز أن يتحول الداعية إلى رجل سياسة فقط، أو رجل حرب يسعى ليحكم، وانتهى الأمر، فمهمته في الدعوة مرافقة له طيلة حياته، وهذا ما قبله رسول الله (ص) من رجال العقبة الأولى. لكن أصبح لرسول (ص) موطىء قدم في المدينة، بهؤلاء الأفراد الذين انضموا لهذا الدين، ولا بد له من أن يستفيد من هذه الظروف الجديدة، وهذا الموقع الجديد، ولن يكتفي بدراسة الأمر من قبلهم ولن يغامر بنفسه إلى هناك. وكما كانت مسؤولية جعفر رضي الله عنه في الحبشة، كان مسؤولية مصعب بن عمير في المدينة (فلما انصرف القوم بعث رسول الله (ص) ¬

(¬1) البخاري م 2 ج 5 ص 171 ب. غزوة خيبر، ك. المغازي والسير.

معهم مصعب بن عمير .. وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمى المقرىء بالمدينة). 3 - والتطور السريع الذي تم في المدينة دفع رسول الله (ص) أن يغير خطته، فبعد أن كان طلب الحماية والنصرة هو الهدف الرئيسي، عند القبائل سواء أأسلموا أم لم يسلموا إذا بالمدينة تصبح قلعة ضخمة من قلاع الإسلام، ولم يتم هذا الأمر مع ذلك بسهولة، ولتشهد تطور الأمر فيها كيف تم. فعن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: (... ثم بعثوا إلى رسول الله (ص) أن ابعث إلينا رجلا من قبلك يدعو الناس بكتاب الله فإنه أدنى أن يتبع. فبعث إليهم رسول الله (ص) مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار، فنزل في بني غنم على أسعد بن زرارة، فجعل يدعو الناس ويفشو الإسلام ويكثر أهله، وهم في ذلك مستخفون بدعائهم. ثم إن أسعد بن زرارة أقبل هو ومصعب بن عمير حتى أتيا بئر مرى أو قريبا منها، فجلسوا هنالك، وبعثوا إلى رهط من أهل الأرض، فأتوهم مستخفين، فبينما مصعب بن عمير يحدثهم ويقص عليهم القرآن أخبر بهم سعد بن معاذ، فأتاهم فيه ومعه الرمح حتى وقف عليه فقال: علام يأتينا في دونا بهذا الوحيد الطريد الطريح الغريب يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم لا أراكما بعد هذا بشيء من جوارنا، فرجعوا، ثم إنهم عادوا الثانية ببئر مرى أو قريبا منها، فأخبر بهم سعد بن معاذ الثانية، فواعدهم بوعيد دون الوعيد الأول، فلما رأى أسعد منه لينا قال: يابن خالة اسمع من قوله، فإن سمعت منه منكرا فاردده يا هذا منه، وإن

سمعت منه خيرا فأجب الله، فقال: ماذا يقول: فقرأ عليهم مصعب ابن عمير: {حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} فقال سعد: وما أسمع إلا ما أعرف، فرجع وقد هداه الله تعالى، ولم يظهر أمر الإسلام، حتى رجع. فرجع إلى قومه فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام وأظهر إسلامه، وقال فيه: من شك فيه من صغير أو كبير أو ذكر أو أنثى فليأتينا بأهدى منه نأخذ به، فوالله لقد جاء أمر لتحزن فيه الرقاب. فأسلمت بنو عبد الأشهل عند إسلام سعد ودعائه إلا من لا يذكر. فكانت أول دور من دور الأنصار أسلمت بأسرها، ثم إن بني النجار أخرجوا مصعب بن عمير، واشتدوا على أسعد بن زرارة، فانتقل مصعب بن عمير إلى سعد بن معاذ، فلم يزل يدعو، ويهدي على يديه حتى قل دار من دور من الأنصار إلا أسلم فيها ناس لا محالة، وأسلم أشرافهم، وأسلم عمرو بن الجموح وكسرت أصنامهم، فكان المسلمون أعز أهلها، وصلح أمرهم، ورجع مصعب بن عمير إلى رسول الله (ص) وكان يسمى المقرى) (¬1). ولئن كون إسلام عمر رضي الله عنه قوة للمسلمين، وكذلك إسلام النجاشي، لكن إسلام سعد بن معاذ أدخل قبيلته كلها في الإسلام إلى جانب القوة للمسلمين في كل مكان، وأدى إسلام الكثير من الأشراف في المدينة إلى أن يصبح الإسلام كما قال عروة رضي الله عنه ¬

(¬1) مجمع الزوائد 42،41/ 6 وقال الهيثمي رواه الطبراني وفيه ابن لهيعة وفيه ضعف وهو حسن الحديث، وبقية رجال ثقات، وقال ابن حجر في تقريب التهذيب عن ابن لهيعة (صدوق خلط بعد احتراق كتبه، وله في مسلم بعض شيء مقرون).

(فكان المسلمون أعز أهلها). وعودة مصعب بن عمير رضي الله عنه، وقد خبر المكان والرجال إلى رسول الله (ص) قبل انتهاء العام، والموعد المقرر في أيام التشريق، حيث جاء وفد ضخم من أهل يثرب قرابة الثلاثمائة بينهم ما ينوف عن السبعين من المسلمين يؤكد انطلاقة جديدة للدعوة، وهؤلاء السبعون ونيف إنما يمثلون التجمع الإسلامي الضخم في المدينة، يصلحون للحماية والنصرة، خاصة وهم يحملون مبادىء الدين الجديد. ورغم أن القوم مسلمون، وجنود ينفذون أوامر الله تعالى ورسوله، لكن هذا لم يمنع من الحوار الدقيق حول المهمة المطلوبة، ومدى قدرتهم على تنفيذها. 4 - ومن قدر الله أن يكون المفاوض الأول العباس بن عبد المطلب عم رسول الله (ص) وهو على دين قومه (¬1) ومن أجل ذلك لن يكون الحديث إلا سياسيا بحتا، يتناول موضوع الحماية والنصرة، لا موضوع المبدأ والعقيدة. وأكد الناطق الرسمي باسم الرسول (ص) شرطه الأول، هو القدر على الحماية والمنعة، وأرادالمسلمون أن يسمعوا من قائدهم رسول الله (ص): (فخذ لنفسك ولربك ما أحببت). ¬

(¬1) لا يبعد أن يكون العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قد أخفى إسلامه ليبقى قادرا على حماية الرسول (ص)، لكننا نتعامل مع ظاهر النص الذي يؤكد حضوره البيعة؛ وهو على دين قومه.

كانت البداية في تلاوة القرآن، والدعوة إلى الله، والترغيب في الإسلام. أما موضوع البيعة، فكان محددا: ((تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم)). وفي الرواية الثانية: كان هناك شروط خمسة للبيعة هي: (أ) ((تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل)). (ب) ((والنفقة في العسر واليسر)). (ج) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)). (د) ((تقولون في الله لا تخافون لومة لائم)). (هـ) ((أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم)). وكان الجواب بالإيجاب: (نعم والذي بعثك بالحق نبيا، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن أبناء الحروب، وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر). ولأول مرة يجد رسول الله (ص) من يبدي استعداده للحماية والنصر، دون قيد أو شرط. إن قضية الجهاد في سبيل الله، والاستعداد التام لحماية الدعوة، لا بد أن تتم من خلال العهد والبيعة والميثاق، ولا يكفي فيها الكلام العائم. وقد علمنا رسول الله (ص) ذلك، حين تمت تلك البيعة بينه

وبين جنوده الذين دخلوا في الإسلام، ولم يكن الدخول في الإسلام، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، ومع رسول الله (ص) يكفي ضمانا لطلب المواجهة مع العدو، والدفاع عن الإسلام ورسول الإسلام. بل لا بد من النص الصريح في ذلك. ويخطىء الدعاة إلى الله في عصرنا الحاضر حين يظنون أن قضية الجهاد، ومواجهة الطاغوت والدفاع عن الدعوة والدين تأتي من خلال الكلام العائم، والالتزام بالدعوة. لقد وجدنا الفرق شاسعا بين بيعة العقبة الأولى والثانية، فالأولى لا تتجاوز التمسك بمبادىء الإسلام، وعدم المعصية، ولكن هذه هي بيعة النساء فيما بعد. أما العقبة الثانية ففيها تكاليف أضخم، ومشاق أشد. السمع والطاعة في النشاط والكسل، وهي أكبر من أن لا نعصيه في معروف. والنفقة في العسر واليسر، فتكاليف بذل المال في العسر واليسر شيء، وأن لا يسرق المسلم شيء آخر. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكاليفه وما ينشأ عنه من خطر ومواجهة ومحن شيء وأن يمتنع المسلم عن الزنا والبهتان شيء آخر. وأن يقول الحق لا يخاف في الله لومة لائم، ولو كلفه قول الحق روحه وحياته وجسده، شيء وأن لا يقتل الرجل ولده شيء آخر. وأن يمنع رسوله (ص) ويحميه، وينصره كما لو تعرض في نفسه وزوجه وعرضه للموت أو الاعتداء شيء، وأن يمتنع عن الزنا شيء آخر.

إن البون شاسع جدا بين البيعتين، وكلاهما قد تم بين الأنصار وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام. ومن أجل ذلك حين كان الأمر بهذه الخطورة، لم يكن حرجا أن يفتتح الحديث العباس بن عبد المطلب - وهو على دين قومه -ويوضح خطور البيعة ونتائجها. إن وضوح الهدف أمام الدعاة إلى الله ووضوح تكاليفه هو الذي يصل بهم إليه، وإن مشاق الطريق لا بد أن تكون محسوبة في أي تخطيط للتمكين في الأرض من الدعاة ولمجاهدين. 5 - وزيادة في التوثيق وتبصرة في نتائح هذا الأمر وخطورته، رأينا موقف العباس بن عبادة بن نضلة في الرواية الأولى، والبراء بن معرور في الرواية الثانية، وذلك حتى لا تكون العواطف هي التي تحكم الأمر. إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس. وعلى نهكة الأموال وقتل الأشرف. إخراجه مناوأة العرب كافة. وقتل الخيار، وعض السيوف. نقاط محددة لا بد أن تكون واضحة في البيعة، وهذه النتائج كلها متوقعة، ومن أجل هذا ذكر بها السيدان العظيمان. وقبل السبعون البيعة على مناوأة العرب كافة، وحرب الأحمر والأسود من الناس ونهكة الأموال، وقتل الأشرف، وعض السيوف.

ولا بد أن تكون في حس الدعاة إلى الله إن أرادوا أن يكونوا مستخلفين في الأرض، وأن يعملوا لتمكين هذا الدين فها .. هذه المعاني واضحة بجلاء وبصيرة دون لجلجة، ولا غموض. وهذا هو طريق الأنبياء والذين يأمرون بالقسط من الناس. أما الدعوة بلا تكاليف، والتبليغ بلا ثمن، فهو أمر آخر غير قضية الحكم بما أنزل الله، وتحكيم شريعة الله في الوجود. 6 - فما لنا إن من وفينا بذلك، قال: ((الجنة)) قالوا: ابسط يدك نبايعك. يقابل هذا المعنى تماما: وإن نحن فعلنا ذلك فهل يكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: ((الأمر بيد الله يؤتيه من يشاء)) هذا هو الخط الإسلامي الأصيل، فلا ثمن لهذه التضحيات إلا الجنة، والتمكين هو للدين لا للأشخاص، وذاك هو الخط الجاهلي، الذي يطلب الثمن، نصرا سريعا، ووزرا، ووظيفة، وموقعا، وحكما. 7 - ومع عظمة سيد الدعاة رسول الله (ص) في حس جنوده، وهم يفدونه بأرواحهم وآبائهم وأمهاتهم لم يمنعهم ذلك من أن يشترطوا لأنفسهم حين تحدث أبو الهيثم رضي الله عنه عن قطع العهود مع اليهود، وربطها بمحمد (ص)، فهل هو خاذلهم بعدها وتاركهم ليهود؟ وكان التزام القائد الأعظم (ص) أمام جنوده بالوفاء ((بل الدم الدم، والهدم بالهدم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم)). فأي قائد في هذا الوجود بعد رسول الله (ص) أكبر من هذا الالتزام؟!

ثانيا: التخطيط لها وأهميتها في تاريخ الدعوة

8 - وليست قضية النقباء الاثني عشر، إلا تحديدا للمسؤولية، كل واحد من عشيرته وقومه، مقابل كفالة رسول الله (ص) عن المهاجرين، وبذلك تشكلت القيادة التي تحمل التبعية الكاملة للحرب. ثانيا: التخطيط لها وأهميتها في تاريخ الدعوة: 1 - (عن عائشة زوج النبي (ص) قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهم يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله (ص) طرفي النهار بكرة وعشية .. وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله (ص): ((على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي)) فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: ((نعم)) فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله (ص) ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر - وهو الخبط - أربعة أشهر. قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله (ص) متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فدى له أبي وأمي، والله ما جاء به هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء رسول الله (ص)، واستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي (ص) لأبي بكر: ((أخرج من عندك)) فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: ((فإني قد أذن لي في الخروج)) قال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله (ص): (نعم)) قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى

راحلتي هاتين، قال رسول الله (ص): ((بالثمن)) قالت عائشة: فجهزنا أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة من جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين. قالت: ثم لحق رسول الله (ص) وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف (¬1) لقن (¬2)، فيدلج (¬3) من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش، بمكة كبائت، فلا يسمع أمر يكتادان (¬4) به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة (¬5) من غنم، فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل (¬6)، وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله (ص) وأبو بكر رجلا من بني الديل - وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه، فدفعا إليه ¬

(¬1) شاب ثقف: شاب ذو فطنة. (¬2) لقن: حسن التلقن لما يسمعه، واللقن: الفهم. (¬3) يدلج السحر: إذا سار سحرا. (¬4) يكتادان به: من الكيد. (¬5) منحة من غنم: التي جعل له منها لبنها وبرها ولحمها. (¬6) في رسل: وهو لبن منحتهما ورضيفهما: اللبن المرضوف وهو الذي طرحت منه الرضفة: وهي الحجارة المحماة لتذهب وخامته.

راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، فانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل (¬1). 2 - قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله (ص) لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله (ص) وأبا بكر ثياب بياض، ويسمع المسلمون في المدينة مخزج رسول الله (ص) من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانطلقوا أيضا بعدما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه. فبصر برسول الله (ص) وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون .. فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله (ص) بظهرة الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله (ص) صامتا، فطفق من جاء من الأنصار يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله (ص)، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس عند ذلك رسول الله (ص)، فلبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله (ص) ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول (ص) بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، ¬

(¬1) البخاري: ك. فضائل أصحاب النبي (ص) مناقب الأنصار 62 و 63 ب. هجرة النبي (ص) وأصحابه إلى المدينة 45 م 2 ج 5 ص 73،74.

وكان مربدا للتمر، لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله (ص) حين بركت راحلته: ((هذا إن شاء الله المنزل)) ثم دعا رسول الله الغلامين، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله (ص) أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا، وطفق رسول الله (ص) ينقل معهم اللبن في بنيانه، ويقول وهو ينقل اللبن: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر ويقول: اللهم إن الأجر أجر الآخرة ... فارجم الأنصار والمهاجرة فتمثل بيت رجل من المسلمين لم يسم لي، قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله (ص) تمثل ببيت شعر تام غير هذه البيت (¬1). 3 - (وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق حدثهم قال: نظرت إلى أقدام المشركين فوق رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه أبصرنا فقال: ((يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) (¬2). 4 - سمعت البراء بن عازب يقول: جاء أبو بكر إلى أبي في منزله، فاشترى ¬

(¬1) البخاري ك. فضائل الأنصار 63 ب. الهجرة 45 م 2 ج 5 ص 77. (¬2) شرح السنة النبوية 13/ 366،وقال: هذا حديث متفق على صحته. البخاري 9/ 7، 10 فضائل أصحاب النبي (ص) ومسلم في فضائل الصحابة 2381:باب فضائل أبي بكر.

منه رحلا فقال لعازب: ابعث ابنك يحمله معي، قال: فحملته معه، وخرج أبي ينتقد ثمنه، فقال له أبي يا أبا بكر حدثنا كيف صنعتما حين سريت مع رسول الله (ص)؟ قال: نعم أسرينا ليلتنا من الغد حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس فنزلنا عنده وسويت للنبي (ص) مكانا بيدي فنام عليه وبسطت عليه فروة وقلت: نم يا رسول الله وأنا أنفض من حولك، فنام، وخرجت أنفض (¬1) ما حوله، فإذا أنا براع يقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منها مثل الذي أردنا. فقلت: لمن أنت يا غلام؟ قال: لرجل من أهل المدينة أو مكة، قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم. قلت: أفتحلب؟ قال: نعم، فأخذ شاة فقلت: انفض الضرع من التراب والشعر والقذى، قال: فرأيت البراء يضرب إحدى يديه على الأخرى ينفض، فحلب في قعب (¬2) كثبة (¬3) من لبن، ومعي إداوة حملتها للنبي (ص) يرتوي فيها، يشرب ويتوضأ، فأتيت النبي (ص)، فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ، فصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفله، فقلت: اشرب يا رسول الله، قال: فشرب حتى رضيت ثم قال: ((ألم يأن الرجل؟)) قلت: بلى. قال: فارتحلنا بعدما زالت الشمس، واتبعنا سراقة بن مالك. فقلت: أتينا يا رسول الله (ص) فقال: ((لا تحزن إن الله ¬

(¬1) أنفض من حوله: أحرس وأطوف حولك. (¬2) القعب: القدح الصغير. (¬3) كثبة من لبن: قليل منه.

معنا)) فدعا عليه النبي (ص)، فارتطمت به فرسه إلى بطنها، أرى في جلد (¬1) من الأرض - شك زهير - فقال: إني أراكما قد دعوتما علي، فادعوا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا له النبي (ص) فنجا فجعل لا يلقى أحدا إلا قال: كفيتكم ما هنا، فلا يلقى أحدا إلا رده، قال: ووفى لنا) (¬2). 5 - (وعن أسماء رضي الله عنها قالت: صنعت سفرة للنبي (ص) وأبي بكر حين أرادا المدينة، فقلت لأبي: ما أجد شيئا أربطه إلا نطاقي، قال: فشقيه، ففعلت، فسميت ذات النطاقين) (¬3). 6 - (وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أقبل نبي الله (ص) إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف ونبي الله (ص) شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، قال: فيحسب الحاسب إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير ..) (¬4). 7 - (وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله (ص) المدينة نزل في علو المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام ¬

(¬1) الجلد: الأرض الغليظة الصلبة. (¬2) البخاري ك. المناقب 61 ب. علامات النبوة في الإسلام 25 م 2 و 4 ص 246،245. ومسلم ك. الزهد والرقائق 53 ب. في حديث الهجرة 19 ح 2009 ج 4. (¬3) البخاري ك. مناقب الأنصار 63 ب. هجرة النبي (ص) إلى المدينة 45 م 2 ج 3 ص 73. (¬4) المرجع نفسه ص 79.

فيهم أربعة عشر ليلة، ثم أرسل إلى ملأ بني النجار، قال: فجاؤوا متقلدي سيوفهم، قال: وكأني أنظر إلى رسول الله (ص) على رحلته وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب) (¬1). 8 - (وعن سهل بن سعد قال: ما عدو من مبعث النبي (ص)، ولا من وفاته، ما عدوا إلا من مقدمه المدينة) (¬2). 9 - قال معمر: قال قتادة: دخلوا في دار الندوة يأتمرون بالنبي (ص)، فقالوا: لا يدخل معكم أحد ليس منكم، فدخل معهم الشيطان في صورة شيخ من أهل نجد، فقال بعضهم ليس عليكم من هذا عين، هذا رجل من أهل نجد، قال: فتشاوروا، فقال رجل منهم: أرى أن تركبوه بعيرا ثم تخرجوه، فقال الشيطان: بئس ما رأى هذا، هو هذا قد كان يفسد ما بينكم وهو بين أظهركم، فكيف إذا أخرجتموه فأفسد الناس، ثم حملهم عليكم يقاتلونكم، فقالوا: نعم ما رأى هذا الشيخ، فقال قائل آخر: فإني أرى أن تجعلوه في بيت وتطينوا عليه بابه، وتدعوه فيه حتى يموت، فقال الشيطان. بئس ما رأى هذا، أفترى قومه يتركونه فيه أبدا، لا بد أن يغضبوا له، فيخرجوه، فقال أبو جهل: أرى أن تخرجوا من كل قبيلة رجلا، ثم يأخذوا أسيافهم، فيضربونه ضربة واحدة، فلا يدري من قتله، فتدونه، فقال الشيطان: نعم ما رأى هذا. ¬

(¬1) المرجع نفسه ص 86. (¬2) المرجع نفسه ص 87.

فأطلع الله نبيه (ص) على ذلك، فخرج هو وأبو بكر إلى غار في الجبل، يقال له ثور ونام علي على فراش النبي (ص)، وباتوا يحرسونه يحسبون أنه النبي (ص) فلما أصبحوا، قام علي لصلاة الصبح، بادروا إليه فإذا هم بعلي فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري فاقتصوا أثره، حتى بلغوا الغار ثم رجعوا، فمكث فيه هو وأبو بكر ثلاث ليال (¬1). 10 - (وعن قيس بن النعمان قال: لما انطلق رسول الله (ص) وأبو بكر مستخفيان نزلا بأبي معبد فقال: والله ما لنا شاة، وإن شاءنا لحوامل فما بقي لنا لبن، فقال رسول الله (ص): أحسبه: ((فما تلك الشاة)) فأتي بها. فدعا رسول الله (ص) بالبركة عليها ثم حلب عسا (¬2) فسقاه، ثم شربوا، فقال: أنت الذي تزعم أنك صابىء. قال: ((إنهم يقولون))، قال: أشهد أن ما جئت به حق، ثم قال: أتبعك؟ قال: ((لا، حتى تسمع أنا قد ظهرنا)) فاتبعه بعد) (¬3). 11 - (وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما خرج رسول الله (ص) وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر معه ماله كله خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم، فانطلق بها معه. قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: إني والله لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه. ¬

(¬1) المغازي النبوية للزهري 100 وهي عن معمر (ثقة ثبت فاضل) عن قتادة (ثقة ثبت) وقد روى لهما الستة. (¬2) العس: القدح العظيم. (¬3) مجمع الزوئد للهيثمي 6/ 58 وقال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.

قلت: كلا يا أبت، قد ترك لنا خيرا كثيرا، قالت: فأخذت أحجارا فجعلتها في كوة (¬1) في البيت كان أبي يجعل فيها ماله، ثم جعلت عليها ثوبا، ثم أخذت يده، فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس إن كان ترك لكم هذا لقد أحس وفي هذا لكم بلاغ. قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك) (¬2). 12 - (قال ابن إسحاق: ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله (ص) أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق، وآل أبي بكر، أما علي فإن رسول الله (ص) - فيما بلغني - أخبره بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة، حتى يؤدي عن رسول الله (ص) الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته (ص) (¬3). 13 - (قال ابن إسحاق: فحدثت عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: لما خرج رسول الله (ص) وأبو بكر رضي الله عنه، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: لا أدري، والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشا خبيثا، فلطم خدي لطمة طرح منها ¬

(¬1) الكوة: الثقب في الحائط. (¬2) رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق. وقد صرح بالسماع. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 485.

تهيئة الركب

قرطي) (¬1). 14 - قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله (ص) في الغار ثلاثا ومعه أبو بكر، وجعلت قريش حين فقدوه مائة ناقة، لمن يرده عليهم، وكان عبد الله بن أبي بكر في قريش نهاره معهم، يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله (ص) وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر، وكان عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر رضي الله عنه يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر، فاحتلبا وذبحا، فإذا عبد الله بن أبي بكر غدا من عندهما إلى مكة اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يقفى عليه، حتى إذا مضت الثلاث، وسكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيرهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاما، فلما ارتحلا ذهجت لتعلق السفرة فإذا ليس لها عصام، فتحل نطاقها فتجعله عصاما، ثم علقتها به) (¬2). ... لقد كان الجهد البشري في التخطيط للهجرة في القمة، ويكفي أن نلحظ الفقرات التالية: 1 - تهيئة الركب: منذ أن فاتح أبو بكر رضي الله عنه رسول الله (ص) بالرغبة في الهجرة، كانت الإشارة النبوية ((.. على رسلك فإني أرجو أن يؤذن ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 487/ 1. (¬2) المصدر نفسه 486/ 1.

شراء البعيرين وعلفهما

لي)) فحبس أبو بكر نفسه على صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن لم يفاتح صراحة بذلك، لكن الرغبة النبوية الكريمة بتأخير هجرة أبي بكر تعني ذلك. 2 - شراء البعيرين وعلفهما: ومن تمام الخطة تهيئة وسائل الهجرة وأهمها البعيران للكوب، وقد بقيا منذ أن أشار الرسول (ص) برجائه ربه، أن يأذن له حتى تمت الهجرة، أربعة أشهر (وعلف راحلتين كانتا عنده، ورق السمر أربعة أشهر) وفي ذلك الغاية في الاستعداد والتهيؤ لهذه الهجرة النبوية الكريمة. 3 - جاء في نحر الظهيرة: فاختيار الوقت غير المطروق الذي يأوي فيه الناس إلى بيوتهم هربا من حر الظهيرة، هو اختيار بتخطيط محكم، حيث لا يرى أحد رسول الله (ص) ساعة انطلاقه للهجرة، ويحافظ على الكتمان التام فيه. 4 - مجيئه مقنعا: وجاء عليه الصلاة والسلام في نحر الظهيرة مقنعا قد أخفى وجهه، بحيث لو أن بعض الناس رأى ذلك الرجل فلا يمكن أن يعرف وقد تقنع بثوبه. 5 - الأمر بإخراج الناس من البيت: محافظة على الكتمان كذلك وليحرص أبو بكر رضي الله عنه على أن لا يسمع أحد بما يريد. 6 - تهيئة الزاد: فمجرد أن عرف الصديق الهجرة والصحبة كان كل شيء معدا في وقته المناسب، فالرحلتان على أتم الجاهزية، كانت أسماء رضي الله عنها على مستوى القضية. فهيأت الزاد المناسب، لأن الرحلة ستتم

الخروج من خوخة أبي بكر

في التو واللحظة ولن تتأخر، وعندما لم تجد ما تربط به الطعام بادرت بذكائها وشقت نطاقها قسمين كان أحدهما وكاء للطعام. 7 - الخروج من خوخة أبي بكر: فلم يكن الخروج من الباب العادي الذي يخرج منه آل أبي بكر لاحتمالات المراقبة من العدو، إنما كان من مخرج احتياطي. 8 - كتمان الأمر: وحصر أمر الهجرة تحديدا بآل أبي بكر لمشاركتهم في الإعداد للهجرة، وهم عائشة وأسماء، وأم رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وبعلي بن أبي طالب، حتى لا يتسرب الأمر، وكل واحد من هؤلاء له دور ما في عملية الهجرة. 9 - الخروج إلى الغار: ولم تكن الهجرة مباشرة، إنما كان القرار النبوي العظيم ابتداء بالذهاب إلى غار ثور للإقامة به، وقد حدد عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام للاختباء فيه، حتى يهدأ الطلب من مكة، وتكف عن الملاحقة لقناعتها أنها عاجزة عن اللحاق به. 10 - عبد الله يتلقط الأخبار: وكان دوره واضحا محددا هو أن يمضي سحابه يجه يستمع لأخبار قريش وقرارتها، والخطط المناسبة للحيلولة دون الهجرة، وإبلاغها للقيادة النبوية حيث يتصرف عليه الصلاة والسلام بما يحبط هذه الخطط، ويدمر هذا الكيد، وكان اختيار عبد الله لهذه المهمة عن قصد فكما وصفته عائشة رضي الله عنه أنه شاب لقن فطن.

عامر بن فهيرة يعفو على الأثر

11 - عامر بن فهيرة يعفو على الأثر: وقدوم عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه إلى الغار، قد هيىء عامر رضي الله عنه والغنم لإعفاء أثره بعد عودته من الغار بحيث لا يستطيع العدو أن يتابع الأثر، ويصل إلى موقع الصاحبين فيه. 12 - ابن فهيرة وغنمه للزاد كذلك: كما تقول رواية ابن إسحاق (فاحتلبا وذبحا) حتى تبقى الأمور بمنتهى السرية، ويمكن للواحد أن يحمل أكثر من مهمة في هذه العملية حفاظا على التكتم التام فيها، وخوفا من دخول عناصر جديدة، قد تفسد خطة العملية. 13 - رسول الله (ص) لا يبيت على فراشه: ولعل هذا الأمر كان ليلة اتجاه النبي (ص) للغار، حيث قد أحكم القوم أمرهم وقرروا قتل النبي (ص) بقرار قرشي شامل تحمل كل قريش مسؤوليته. 14 - مبيت علي رضي الله عنه في الفراش: ومن إحكام الخطة ودقتها وذكائها كذلك إيهام قريش أن النبي (ص) راقد في فراشه، فلم يترك الفراش خاليا، حتى لا تبعث مكة رسلها في طلب النبي (ص)، ويكون قد مضى حيث يريد وهم آمنون مطمئنون ينتظرون انبلاج الصباح لينقضوا على رسول الله بالسيوف. 15 - اختيار الدليل المناسب: فلا بد من خبير في الطريق، ولو كان هذا الخبير غير مسلم، إن كان موطن الثقة وأهلا للمسؤولية، واختيار أبي بكر بضي الله عنه لابن أريقط، لم يكن ليتم لولا الثقة التامة به، وباستعداده لتنفيط المخطط كاملا دون حرج.

اختيار طريق الساحل

إن ابن أريقط كان قادرا على تسليم رسول الله (ص) وأبي بكر للمشركين، حيث كان الموعد المقرر له معهما ومع راحلتيهما، وإحباط مخطط الهجرة كله. لكنه كان موطن الثقة، مثل عنصر العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وحضوره أخطر بيعة في التاريخ النبوي. 16 - اختيار طريق الساحل: وهذا من عظمة التخطيط النبوي كذلك حيث أن النبي (ص) لم يمض من الطريق المعتاد، الذي تمضي منه القوافل الذاهبة والغادية من الشام وإليها، إنما اختار طريقا آخر، قد يكون أقصر من الطريق العادي، ومن أجل هذا احتاج الركب إلى الدليل الخبير في مجاهل الطرق ومساربها. 17 - الهادي على الطريق: وتحسبا لأي طارىء، وعندما كان الصاحبان يلتقيان مع أحد على الطريق، وأبو بكر معروف لكثرة تردده على الطرق للتجارة، كان يسأل عمن معه فيجيب: هذا الرجل يهديني السبيل. وصدق رضي الله عنه فهو عنى فضل النبي (ص) في هدايته سبل الرشاد ويحسب الرجل العادي أن محمدا (ص) هو خبير الطريق ودليله. فلا يقع الكذب، وتقع التورية، ويتم الكتمان التام على الأمر حرصا على إنجاحه. 18 - حيلة أسماء في المال: حيث كات تخشى من جدها أبي قحافة الذي لم يكن قد أسلم، فهيأت الحجارة في الكوة وأخذت بيد جدها الضرير، وألقت بثوب على الحجارة، وتحسس أبو قحافة على الحجارة فحسبها دنانير ودراهم، فاطمأن باله، وسكت على الأمر، طالما أن أهل أبي

بكر في أمان (ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك). ... لقد كان التخطيط البشري إذن على أعلى مستوى يملكه البشر في هذا المجال، ومع ذلك، فقد وقعت الحادثتان المشهورتان، كان يمكن أن يكون بهما إحباط الخطة، وإنهاء الجماعة المسلمة في الأرض، كما كان أبو بكر رضي الله عنه يتحسب (فجعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، حتى فطن رسول الله (ص) فقال: ((يا أبا بكر ما لك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي؟)) فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأذكر الرصد فأمشي بين يديك، فقال: ((يا أبا بكر لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟)) قال: نعم) (¬1) (إن قتلت فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة) (¬2). وكانت الحادثة الأولى: وصول المشركين للغار، كما ذكرنا في الصحيح (لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ((يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟))). لقد كان رسول الله (ص) في حالة من الأمن والطمأنينة، لم يصل إليها بشر في الأرض، وهو يرى نفسه بين يدي عدوه، لا يحول بينهما إلا التفاتة واحدة. وعمدما تجمع قوى الأرض على حرب محمد (ص)، فالله تعالى ناصره، وهو في الغار وبين يدي العدو. ¬

(¬1) البيهقي في الدلائل 476/ 2. (¬2) الروض الأنف للسهيلي232/ 2.

{إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} (¬1). لقد كان دخول الغار ذروة نصر الله تعالى في حماية عبده من عدوه، حين تطبق مكة كلها على قتله، وتصل إلى قاب قوسين منه، وأدنى من ذلك، فيصرف الله البصر عن النظر حتى إلى ما تحت القدمين، ويصد الجحفل الجرار المتلمظ للقتل، بأضعف جنود الله في الأرض .. بالعنكبوت. فعن ابن عباس في قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك ..} (¬2) قال: (تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فاثبتوه بالوثائق - يريدون النبي (ص) - وقال بعضهم: بل اقلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه (ص) على ذلك فبات علي على فراش النبي (ص) تلك الليلة، وخرج النبي حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي (ص)، فلما أصبحوا ثاروا عليه، فلما رأوا عليا رد الله عليهم مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ فقال: لا أدري، فاقتفو أثره. فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالو: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسيج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال) (¬3). ¬

(¬1) سورة التوبة 40. (¬2) الأنفال من الآية 30. (¬3) البداية والنهاية لابن كثير 3/ 198. وقال: رواه الإمام أحمد ثم أتبع (وهذا إسناد حسن وهو أجود ما روي في قصة نسج العنكبوت، وذلك من حماية الله رسوله (ص)).

وصدق الشاعر إذ يقول: نسج داود ما حمى صاحب الغا ... ر وكان الفخار للعنكبوت وكانت الحادثة الثانية، يوم أدركهم سراقة بن مالك، فساخت قوائم فرسه في الأرض حتى أيقن بالهلاك هو وفرسه، فطلب منهم الأمان لنفسه، وكان هو النصر الثاني لرسول الله (ص) بعد أن كان العدو الألد. (فكان أول النهار جاهدا على نبي الله (ص)، وكان آخر النهار مسلحة (¬1) له) (¬2). ... وما أحوجنا إلى وقفة مستأنية أمام هذه الصور: إن كثيرا من الدعاة في عصرنا الحاضر - على صدق نياتهم وسلامة قلوبهم - حين يرون المحن تترى عليهم والتمكين يفوتهم، يعيدون الأسباب دوما لأقدار الله، في قوة أعدائهم، وإلى سنة الله في الدعوات والتمحيص فيها، وهم يتحدثون عن جانب من الحقيقة، ويغفلون عن جانب مهم آخر. إنهم لا يراجعون مسيرهم أبدا، وكأنما هم لا يخطئون، ولا يقفون وقفة مراجعة لأعمالهم، وكأنما هم لا يقصرون، والمسؤولية دائما على غيرهم، ولو ذكروا بالخطأ الذي وقعوا به، أو التقصير الذي قاد للمحنة، لالتمسوا المعاذير، وتمسكوا بالتبريرات الواهية ليدفعوا عنهم هذا الخطأ والتقصير. وإذا حوصروا بنقص الإعداد والتخطيط، أو ووجهوا بالتسرع قبل الأوان، للجؤوا إلى باب التوكل على الله، وأنه لا ضرورة لهذا الإعداد، أو لا ¬

(¬1) مسلحة له: سلاحا له يدافع عنه ويرد عنه الطلب. (¬2) من حديث رواه البخاري ك. 63 ب. 45 ج 5 ص 79.

حرج في هذا التسرع. إننا يوم نقف هذا الموقف، وتتمثل بنا الهزيمة تلو الهزيمة، ونعيد الأسباب دائما لقوة أعدائنا وتكالبهم علينا، وأن الهزيمة التي تنزل بنا لم تقع لنقص في التخطيط، أو نقص في الإعداد، أو تسرع في الخطا. نكون نحن الخارجين على منهح الله تعالى، ويكون توكلنا على الله تعالى الذي ينصر حزبه ويعز جنده ليس هو التوكل الصحيح الذي أمرنا الله تعالى به، ودعانا إليه. فإمام المتوكلين على الله تعالى، وأتقاهم لله، وأخشاهم له، كان توكله على الله بعد أن أعد كل الأسباب التي يملكها في عالم البشر، ومن أجل الهجرة رأينا الإعداد يمتد شهورا، حتى أذن الله تعالى بذلك وهاجر. وحين أدى ما يملكه في عالم الأسباب، ووقعت المحنة في شيء خارج عن طاقته وقدرته، كانت ثقته بالله لا تحد، وتدخلت المعجزة الربانية مرتين، فحمته بأضعف خلق الله من الجبارين والطغاة في المرة الأولى، وكان نصر الله تعالى في الغار، بجنود لم نرها، وأضعف جند الله قادر على تحطيم مخططات أعداء الله. وتحول الفارس الفاتك بعد أن رأى هلاكه أمامه إلى صديق في المرة الثانية، يصد كل محالات الوصول إلى رسول الله (ص)، ومن حيث كان الخطر الأكبر، صار الأمن الأكبر. (ولما رجع سراقة جعل لا يلقى أحدا من الطلب إلا رده، وقال:

أهمية الهجرة في تاريخ الدعوة

كفيتم هذا الوجه، فلما ظهر أن رسول الله (ص) قد وصل إلى المدينة جعل سراقة يقص على الناس ما رأى وشاهد) (¬1). أهمية الهجرة في تاريخ الدعوة: وهكذا لم تكن الهجرة في الحس الإسلامي مجرد نجاة من عدو، أو هروب من محنة، لقد كانت الهجرة فاتحة تاريخ جديد، وكانت بالنسبة للمسلمين في الأرض، ابتداء وجودهم وتاريخهم، فصار التاريخ الهجري، المبتدىء في هجرة الرسول (ص) هو سمة هذه الأمة، على مدار القرون، وبه ومن خلاله تعرف. يقول ابن كثير رحمه الله: (اتفق الصحابة رضي الله عنهم في سنة ستة عشر - وقبل سبع عشرة، أو ثماني عشرة - في الدولة العمرية على جعل ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة، وذلك أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رفع إليه صك - أي حجة - لرجل على آخر، وفيه أنه يحل عليه في شعبان، فقال عمر: أي شعبان؟ أشعبان هذه السنة التي نحن فيها، أو السنة الماضية، أو الآتية؟ ثم جمع الصحابة، فاستشارهم في وضع تاريخ يتعرفون به حلول الديون وغير ذلك. فقال قائل: أرخوا كتاريخ الفرس، فكره ذلك، وكان الفرس يؤرخون بملوكهم واحدا بعد واحد. ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 204/ 3.

وقال قائل: أرخوا بتاريخ الروم، وكانوا يؤرخون بملك اسكندر المقدوني، فكره ذلك. وقال آخرون: أرخوا بمولد الرسول (ص). وقال آخرون: بل بمبعثه. وقال آخرون: بل بهجرته. وقال آخرون: بل بوفاته .. فمال عمر رضي الله عنه إلى التاريخ بالهجرة لظهوره واشتهاره واتفقوا على ذلك) (¬1). وكما ذكرنا عن البخاري رحمه الله عن سهل بن سعد (ما عدوا من مبعث النبي (ص) ولا من وفاته ما عدوا إلا من مقدمه المدينة). ويقول السهيلي رحمه الله بصدد حديثه عن قول الله عز وجل {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم ..} (¬2). (وفي قوله سبحانه {من أول يوم} وقد علم أنه ليس أول الأيام كلها، ولا إضافة إلى شيء في اللفظ. الظاهر فيه من الفقه صحة ما اتفق عليه الصحابة مع عمر رضي الله عنهم حيث شاورهم في التاريخ، فاتفق رأيهم أن يكون التاريخ من عام الهجرة، لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام، والذي أمر فيه النبي (ص) وأسس المساجد، وعبد الله آمنا كما يجب، فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل، وفهمنا الآن ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 3/ 226. (¬2) التوبة من الآية 108.

ثالثا: دور الشباب والمرأة في الهجرة

بفعلهم أن قوله سحانه {من أول يوم} أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي يؤرخ به الآن. فإن كان أصحاب رسول الله (ص) أخذو هذا من الآية، فهو الظن بأفهامهم، فهم أعلم الناس بكتاب الله وتأويله، وأفهمهم بما في القرآن من إشارت وإفصاح، وإن كان ذلك منهم عن رأي واجتهاد، فقد علم ذلك منهم قبل أن يكونوا، وأشار إلى صحته قبل أن يفعل. إذ لا يعقل قول القائل فعلته أول يوم إلا بإضافة إلى عام أو شهر معلوم أو تاريخ معلوم. وليس هاهنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ أو قرينة حال، فتدبره ففيه معتبر لمن ذكر، وعلم لمن رأى بعين فؤاده واستبصر والحمد لله) (¬1). ثالثا: دور الشباب والمرأة في الهجرة: وحين نراجع الرصيد الضخم من أحداث الهجرة، نلاحظ أن الذين نفذوا مخطط الهجرة، والعناصر التي اعتمدها عليه الصلاة والسلام للتنفيذ من غرر الشباب والنساء، ونلحظ ذلك فيما يلي: 1 - فالذي تحمل ابتداء مسؤولية المواجهة والدعوة في المدينة والذي أنزل مصعب بن عمير عنده، والذي عرض حياته للخطر والموت، هو أسعد ¬

(¬1) الروض الأنف لليهيلي 246/ 2. واعتبار بداية التاريخ من الهجرة ثابت لكن ابتداء من ربيع الأول هو رواية السهيلي عن الإمام مالك. وجمهور الأئمة على أن المحرم منصرف الناس من الحج هو الشهر الذي ابتدىء به التاريخ. انظر البداية والنهاية لابن كثير 3/ 227.

ابن زرارة رضي الله عنه أبو أمامة. وهو نفسه الذي كان من رجال العقبة الأولى والثانية والثالثة، وهو الذي اختاره بنو النجار نقيبا لهم، وهو الذي وقف يوضح لقومه خطورة البيعة، حتى يشدد العهد ويوثقه. (وأخذ بيده أسعد بن زرارة .. فقال: رويدا يا أهل يثرب فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف إما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خبيئة فتبينوا ذلك فهو أعذر لكم، قالوا: أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبدا). نقرأ هذا عن أسعد ونقرأ أنه كان أصغر القوم سنا (وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغرهم، وفي رواية البيهقي عن جابر: وهو أصغر السبعين إلا أنا). 2 - (وذاك جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: كنا مع رسول الله (ص) ليلة العقبة قال جابر: وأخرجني خالاي وأنا لا أستطيع أن أرمي بحجر) (¬1). وقد قتل أبوه في أحد ولا يناهز السابعة عشر، فقد بايع رسول الله، وقبل بيعته، وهو في أول فتوته. ¬

(¬1) مجمع الزوائد للهيثمي 48/ 6 وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

3 - ولا ننسى أبدا في تاريخ الدعوة، وتاريخ التضحيات، أن من الذين حضروا بيعة العقبة الثانية امرأتان هما أم عمارة، وأم منيع. وقد وفتا بالبيعة وشهدتا المشاهد مع رسول الله (ص) ويكفي لأم عمارة شهادة رسول الله (ص): ((ما التفت يمينا ولا شمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني)) (¬1). 4 - وحتى المجموعة المبايعة، كان الشباب فيها قرابة النصف: (قال عروة بن الزبير وموسى بن عقبة: كانو سبعين رجلا وامرأة واحدة، وقال: منهم أربعون من ذوي أسنانهم، وثلاثون من شبابهم) (¬2). 5 - والذين اختارهم الرسول (ص) لتنفيذ مخطط الهجرة كذلك، جميعهم من الشباب وليس فيهم إلا كهل واحد هو أو بكر رضي الله عنه، وإن كان قد قدم أولاده الثلاثة: ليشاركوا في هذا الشرف العظيم. 6 - فعبد الله بن أبي بكر كما وصفته عائشة رضي الله عنهما: (وهو غلام شاب ثقف لقن). وهو الذي حمل مسؤولية نقل الأخبار لرسول الله (ص) كل يوم بعد أن يختلط بقريش طيلة النهار، ويعود بها ليلا بعيدا عن أعين الرقباء، وفي قلب الخطر المحدق. ¬

(¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 303 عن يعقوب بن محمد عن موسى بن ضمرة بن سعيد عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير 176/ 3.

7 - وتلك أسماء رضي الله عنها، وهي أصغر من عبد الله بن أبي بكر، ولا تزال في ميعة الصبا، ولم تنجب من الزبير بعد، تشارك في الأحداث بكل ما أوتيت من نباهة وذكاء، فتضع نطاقها وكاء للطعام والشراب، وتسارع في حل مشكلة المال المحمول مع أبيها فتخترع قصة الحجارة حتى تسكن الشيخ وتهدىء من روعه. وهي تعلم أن أباها قد حمل المال كله وتركهم لله ورسوله. ويصفعها الخبيث أبو جهل على وجهها فيطير قرطها من أذنها، وهي مصرة على قولها: والله لا أدري أين ذهب أبي. 8 - وذاك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو ابن العشرين ونيف، ينام في فراش رسول الله (ص)، ويعلم أن السيوف قد تنتاشه وتحتوشه في كل لحظة، ويقدم نفسه فداء لرسول الله (ص)، ويبقى في موطن الخطر ثلاثة أيام متوليات يوزع الأمانات لأهلها، ويمضي مهاجرا وحيدا إلى الله ورسوله وقد دميت قدماه من أهوال الطريق. 9 - وذاك عامر بن فهيرة، الذي كان يحمل مسؤولية رعي الغنم، وإعفاء أثر عبد الله بن أبي بكر، ثم يمضي في ركاب المصطفى وركاب أبي بكر يخدمهما في الطريق، كان في عرامة الشباب وفتوته. 10 - وحتى عندما وصل رسول الله (ص) إلى المدينة كان الملأ من بني النجار وشبابهم يحفون برسول الله (ص) بالسلاح، ولا يمر بقوم إلا ويقولون: يا رسول الله هلم إلينا، إلى العدد والعدة والمنعة. 11 - ولا شيء أروع من مشاركة فتاة الثامنة في أحداث الهجرة، وهي عائشة

رضوان الله عليها، فقد قال النبي (ص) لأبي بكر: ((أخرج من عندك} فقال أبو بكر: (هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله). ورضي رسول الله (ص) أن يتحدث بموضوع الهجرة أمامها وهي زوجه، وهي في هذا السن، ونقلت لنا الأحداث ووعتها وكأنها جزء منها، ولم يتسرب خبر واحد عن طريقها، وهي الصبية التي لا تزال تلعب مع رفيقاتها، وتكون واحدة من المجموعة التي تعد على أصابع اليد، وتعرف بموضوع الهجرة النبوية. ولا ننسى دور أم معبد رضي الله عنها، وقد احتفت برسول الله (ص) واستضافته، ثم وصفه لزوجها في أروع بيان وأبهى وصف. 12 - وحتى الزبير رضي الله عنه وهو في عرامة الشباب قيض الله تعالى له أن يشارك في عملية الهجرة، فيكسو رسول الله (ص) وصاحبه أبا بكر الثياب البيض، يقدمان بها إلى المدينة. 13 - ولا ننسى بعد ذلك أبدا الهجرات الفردية التي قام بها شباب الصحابة وكهولهم يقطعون الفيافي والقفار بلا راحلة، أو بلا زاد، ونفسهم تتوق لرؤيا مهاجر رسول الله (ص)، وأن يعبدوا الله بلا فتنة ولا خوف ولا إرهاب. لقد كان عليه الصلاة والسلام يمثل القائد الفذ في الوجود، الذي يختار أقدر العناصر على تأدية الدور المطلولب منها فيفجر طاقاتها، ويعطيها من الدور ما يتناسب مع إمكاناتها، سواء كانت الطاقات أطفالا (جابر وعائشة) أو رجالا وفتيات (أسماء وعبد الله) أو نساء (أم عمار وأم منيع)، فيؤدي كل

واحد دوره في المخطط الكبير الذي يقف وحده على كل تفاصيله مع وزيره أبي بكر رضي الله عنه، ويرضى عليه الصلاة والسلام لعملية الهجرة ثاني اثنين فقط .. أبو بكر الصديق .. وهو مع كهولته، تتصاغر الشباب والرجال أمام همته، فهو الذي يحرس الطريق من الأمام والخلف، وهو الذي يرتاد المنزل ويهيىء المقيل، وهو الذي يصرف الطلب بقوله: هاد يدلني الطريق، وهو الذي يهيىء الزاد، ولا يقدمه لرسول الله (ص) حتى يستيقظ، وهو الذي يظلل رسول الله (ص) حين تلفحه الشمس، وهو كما قال عمر رضي الله عنه (والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير آل عمر) وهو يعني ليلة الغار، ويكفي أنها نزلت في كتاب الله عز وجل: {... ثاني اثنين إذ هما في الغار ..} وهو الذي يبكي وقد رأى الطلب، ويقول: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك. ... وإن أي دعوة إلى الله تعالى تقوم، لا بد أن يكون عمادها ودمها عنصر الشباب الحي المضحي، الذي يرتاد المخاطر ويقتحم الصعاب، ويستسهل المشاق، ويتلذذ بالجهاد، لا يعرف الخوف أو الخور أو الوهن سبيلا إليه، ولا يقل دور الفتاة المسلمة عن دور الفتى المسلم، فقد رأيناها شريكة في البيعة، شريكة في الهجرة، شريكة في الجهاد، شريكة في الإعداد، شريكة في الائتمان على السر. ولكن هذا كله، إنما يتم ضمن المخطط الواعي الذي يضع اللبنة في مكانها الأصيل، ويضع الحدود والمعايير للاستفادة من كل طاقة، ومن كل إمكانية في عملية التنفيذ العملي لإقامة شريعة الله في الأرض.

والشباب المسلم والمرآة المسلمة، إنما تتمثل فيهم خصائص الجيل الأول حين يكونون على المستوى المطلوب في الطاعة والانضباط، والانقياد لأمر أولي أمرهم دون أن يجمح بهم الغرور، ويتنطعوا لغير مواقعهم، فيفسدوا جهدهم وجهادهم، وينقضوا البناء بدل أن يساهموا فيه كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. ... وبودع العهد المكي بهذا المنظر المثير الذي ينقله لنا الطفل العظيم أنس بن مالك، وذلك حين حل رسول الله (ص) في ربوع المدينة. قال: (إني لأسعى في الغلمان يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئا، ثم يقولون جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئا .. حتى جاء رسول الله (ص) وصاحبه أبو بكر، فكمنا في بعض خراب المدينة، ثم بعثا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما الأنصار، فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما، فقالت الأنصار: انطلقا آمنين مطاعين. فأقبل رسول الله (ص) وصاحبه بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة حتى أن العواتق لفوق البيوت يتراءينه، يقلن: أيهم هو؟ أيهم هو؟ فما رأينا منظرا شبيها به. قال أنس: فلقد رأيته يوم دخل علينا، ويوم مضى، ويوم قبض، فلم أر يومين أشبه بهما) (¬1). وفي رواية الإمام أحمد: فما رأيت يوما قط أنور ولا أحسن من يوم دخل رسول الله (ص) وأبو بكر المدينة (¬2). ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 3/ 216 عن الإمام أحمد والبيهقي في الدلائل 557/ 2. (¬2) مسند الإمام أحمد 122/ 3.

وقال البيهقي، عن ابن عائشة يقول: لما قدم رسول الله (ص) المدينة جعل النساء والصبيان يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع (¬1) وقال البيهقي عن أنس: قدم رسول الله (ص) المدينة، فلما دخلنا جاء الأنصار برجالها ونسائها فقالو إلينا يا رسول الله، فقال: ((دعوا الناقة فهي مأمورة)) فبركت على باب أبي أيوب، فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدفوف وهن يقلن: نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار فخرج إليهم رسول الله (ص) فقال: ((أتحبونني؟)) فقالوا: أي والله يا رسول الله. فقال: ((وأنا والله أحبكم)) (¬2). ... ¬

(¬1) المصدر نفسه 3/ 217 عن البيهقي في الدلائل 2/ 505، 506. (¬2) المصدر نفسه 3/ 219 عن البيهقي في الدلائل 2/ 505، 506.

العهد المدني للدعوة

العهد المدني للدعوة

الفصل التاسع عشر تنظيم المجتمع النبوي

الفصل التاسع عشر تنظيم المجتمع النبوي أولا: بناء المسجد: (عن أنس قال: قدم النبي (ص) المدينة، فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فأقام النبي (ص) أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى بني النجار، فجاؤوا متقلدي السيوف، كأني أنظر إلى النبي (ص) على راحلته وأو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب. وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، وإنه أمر ببناء المسجد. فأرسل إلى ملأ بني النجار فقال: ((يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا؟)) قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا من الله. قال أنس: فكان فيه ما أقول لكم قبور المشركين. وفيه خرب وفيه نخل، فأمر النبي (ص) بقبور المشركين فنبشت، ثم بالخرب فسويت، وبالنخل فقطعت. فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضاديته الحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر، وهم يرتجزون، والنبي (ص) معهم وهو يقول: اللهم لا خير إلا خير الآخرة ... فاغفر الأنصار والمهاجرة) (¬1) ¬

(¬1) شرح السنة للبغوي 366/ 13 وقال: هذا حديث متفق على صحته أخرجه مسلم ك. المساجد ب. 1 ح 524. والبخاري: ك. مناقب الأنصار 63 ب. هجرة النبي (ص) 45 وفي رواية البخاري: فانصر الأنصار والمهاجرة ج 5 ص 86.

لقد كانت الخطوة الأولى في المدينة، بعد وصول الرسول (ص) واستقراره، وفي اليوم الأول الذي نزل فيه هو بناء المسجد النبوي. وهو عنوان هذه الأمة، وهو الذي يمثل رمز انتصاراتها. لقد أمضى في مكة ثلاثة عشر عاما يعبدون الله على خوف ووجل. ويضطهدون إن أعلنوا شعائرهم، ويؤذون إن صلوا وجهروا بصلاتهم، وكان أول ركن تقوم دولة الإسلام عليه، ومن أجله هو الصلاة {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوههم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} (¬1). {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتاو الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (¬2). فكان قيام المسجد النبوي وإعلان التوحيد في المدينة، هو إعلان قيام دولة الإسلام، ورسول الله (ص) يعقد هذا الأمر في دور بني النجار، وبعيون الملأ منهم، وفي ظلال سيوفهم. فالدولة الآن دولة الإسلام وهم حماتها، واختيار رسول الله بني النجار، هو اختيار عميق، يحمل معنى عميقا كذلك، فبنو النجار أخوال رسول الله (ص)، وهو في جوارهم، والمسجد في أرضهم، ولن يروم حماهم أحد .. وحيث يمكن أن يقع صراع في أي قبيلة بين مؤيد ومعارض. ففي بني النجار، فلا .. لأنهم أهل رسول الله (ص)، وكما كان بنو هاشم وبنو المطلب في مكة، فبنو النجار في المدينة، ونقيبهم ¬

(¬1) النور 55. (¬2) الحج 41.

أسعد بن زرارة، صاحب العقبات الثلاث، والشاب الذي يتوقد قوة وحيوية، الذي خاض غمار المواجهة في المدينة حتى أرسى دعائم الإسلام فيها. وشهد رسول الله (ص) لبني النجار بالخيرية فقال: ((إن خير دور الأنصار دار بني النجار. ثم عبد الأشهل، ثم دار بني الحارث، ثم بني ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير} (¬1). وبلغ من إكرام الرسول (ص) لهم أن كان نقيبهم بعد وفاه نقيبهم أسعد بن زراره. فقد ذكر ابن إسحاق عن عاصم عن عمر بن قتادة أن بني النجار سألوا رسول الله (ص) أن يقيم لهم نقيبا بعد أسعد بن زرارة، فقال: ((أنتم أخوالي وأنا بما فيكم وأنا نقيبكم)) وكره أن يخص بها بعضهم دون بعض، فكان من فضل بني النجار الذي يعتدون به على قومهم أن كان رسول الله (ص) نقيبهم) (¬2). وسبيقى المسجد بالنسبة للمسلمين رمز انتصاراتهم، لا على أنه دار عبادة فحسب، بل هو دار حياة المسلم، وحين نرى المساجد الضخمة اليوم تملأ الآفاق في كل أصقاع الأرض، ونرى زينتها وزحرفها وتفوقها كثيرا في البناء، لكننا لا نجد في داخلها تلك الحيوية التي تمثل انطلاقة الإسلام، فالمسجد يحكم البيت، ويحكم الشارع، ويحكم الحاكم، ويحكم الحياة .. لكنه تحول في واقعنا إلى بيت للصلاة فقط، وفي بعض البلدان هو بيت الخوف والرعب، فالشاب الذي يدخله معرض للفتنة والابتلاء والموت، نذكر هذه المساجد أمام القلعة الأولى للإسلام في المدينة، والتي تحركت منها الكتائب التي حكمت ثلثي الأرض آنذاك .. هذه القلعة نستمع إلى وصف دقيق لها: ¬

(¬1) البخاري ك. مناقب الأنصار 63 ب. فضل دور الأنصار 7 ج 5 ص 41. (¬2) البداية والنهاية 3/ 251.

ثانيا: المؤاخاة

(وأسسوا المسجد، فجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخرة مائة ذراع، وفي هذين الجانبين مثل ذلك فهو مربع .. وجعلوا الأساس قريبا من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجار، ثم بنوه باللبن .. وجعل له ثلاثة أبواب .. وجعل طول الجدار بسطة، وعمده الجذوع، وسقفة جريدا، فقيل له: ألا تسقفه؟ فقال: ((عريش كعريش موسى خشيبات وثمام، الشأن أعجل من ذلك))) (¬1). ثانيا: المؤاخاة: 1 - (عن عاصم قال: قلت لأنس بن مالك: أبلغك أن النبي (ص) قال: ((لا حلف في الإسلام)) فقال: قد حالف النبي (ص) بين قريش والأنصار في داري) (¬2). 2 - (وآخى رسول الله (ص) بين أصحابه من المهاجرس والأنصار، فقال فيما بلغنا - ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل - ((تآخوإ في الله أخوين أخوين)) ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال: ((هذا أخي)) فكان رسول الله (ص) سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الذي ليس خطير ولا نظير في العباد. وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أخوين، وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله ¬

(¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 1 ق. 2/ 2. (¬2) البخاري ك. الأدب 78 ب. الإخاء والحلف 67 و 8 ص 27. وقد رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود.

(ص) وعم رسول الله (ص)، وزيد بن حارثة مولى رسول الله (ص) أخوين. وإليه أوصى حمزة يوم أحد حين حضره القتال إن حدث به حادث المولت، وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين، ومعاذ بن جبل أخوين. وقال ابن هشام: وكان جعفر بن أبي طالب يومئذ غائبا بأرض الحبشة. قال ابن إسحاق: وكان أبو بكر الصديق وخارجة بن زهير أخوين، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ أخوين، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين، والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود حليف بني زهرة أخوين، وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت أخوين، وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك أخوين، وسعيد بن زيد وأبي بن كعب أخوين، ومصعب بن عمير وأبو أيوب الأنصاري أخوين، وأبو حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر أخوين، وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أخوين، وأبو ذر والمنذر بن عمرو أخوين، وحاطب بن بلتعة وعويم بن ساعدة أخوين، وسلمان الفارسي وأبو الدرداء أخوين، وبلال مولى أبي بكر وأبو رويحة الخثعمي أخوين ..) (¬1). 3 - (وقال عبد ارحمن بن عوف آخى النبي (ص) بيني وبين سعد بن الربيع لما قدمنا المدينة) (¬2). ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 505، 506. (¬2) البخاري ك. مناقب الأنصار 63 ب. كيف آخى النبي بين أصحابه 5 ب 5 ص 88.

4 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي (ص) بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله. فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك دلني على السوق فربح شيئا من أقط (¬1) وسمن، فرآه النبي (ص) بعد أيام وعليه وضر (¬2) من صفرة. فنال النبي (ص): ((مهيم (¬3) يا عبد الرحمن)) قال: يا رسول الله تزوجت امرأة من الأنصار. قال: ((فما سقت فيها)) فقال: وزن نواة من ذهب. فقال النبي (ص): ((أولم ولو بشاة)) (¬4). وفي رواية الإمام أحمد: (... فقال له سعد: أي أخي، أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر مالي فخذه، وتحتي امرأتان فانظر أيها أعجب إليك حتى أطلقها. فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق. فدلوه. فذهب فاشترى وباع فربح فجاء بشيء من أقط وسمن ثم ما لبث ما شاء أن يلبث فجاء وعليه ودك (¬5) زعفران، فقال رسول الله (ص): ((مهيم؟)) فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة. قال: ((ما أصدقتها)) قال: وزن نواة من ذهب. ¬

(¬1) أقط: شيء يتخذ من المخيض الغنمي. (¬2) وضر من صفرة: اللطخ من الزعفران ونحوه. (¬3) مهيم: أي ما حالك وما شأنك. (¬4) البخاري ك. مناقب الأنصار 63 ب. كيف آخى النبي (ص) بين أصحابه 50 ج 5 ص 88. (¬5) ودك زعفران: أثر زعفران.

قال: ((أولم ولو بشاة)) قال عبد الرحمن: فلقد رأيتني ولو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب ذهبا وفضة) (¬1). 5 - (وعن أنس قال: قال المهاجرون: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا في كثير، لقد كفونا المؤونة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: ((لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم)). 6 - (وعن أبي هريرة قال: قالت الأنصار: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: ((لا)) قالو: أفتكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا) (¬2). (وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال رسول الله (ص) للأنصار: ((إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم)) فقالو: أمولنا بيننا قطائع، فقال رسول الله (ص): ((أو غير ذلك؟)) قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ((هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر)) قالو: نعم) (¬3). 7 - (وعن موسى بن ضمرة بن سعيد عن أبيه قال: لما قدم رسول الله (ص) ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد 165/ 3 و 3/ 190. (¬2) مسند أحمد 3/ 200 وقال ابن كثير: هذا حديث ثلاثي الإسناد على شرط الصحيحين. وهو ثابت في الصحيح ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة. البخاري ك. مناقب الأنصار 63 ب. إخاء النبي بين المهاجرين والأنصار 3 ج 5 ص 39. (¬3) البداية والنهاية لابن كثير 3/ 250.

المدينة آخى بين المهاجرين بعضهم لبعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار. آخى بينهم على الحق والمواساة، ويتوارثون بعد الممات دون ذوي الأرحام، وكانوا تسعين رجلا؛ خمسة وأربعون من المهاجرين، وخمسة وأربعون من الأنصار. ويقال كانوا مائة: خمسون من المهاجرين وخمسون من الأنصار، وكان ذلك قبل بدر. فلما كانت وقعة بدر وأنزل الله تعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم} فنسخت الآية ما كان قبلها، وانقطعت المؤاخاة في الميراث. ورجع كل إنسان إلى نسبه وورثه ذوو رحمه) (¬1). 8 - (قوله تعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ..} عن ابن عباس أن رسول الله (ص) آخى بين أصحابه فجعلوا يتوارثون بذلك حتى نزلت: {... وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض} فتوارثو بالنسب) (¬2). ... 1 - لم يشهد تاريخ البشرية مثل المواخاة بين المهاجرين والأنصار في العهد الأول، فلم يتم الأمر من خلال القمع والإرهاب، ولا من خلال الاستيلاء على السلطة، والتأميم للأموال المنقولة وغير المنقولة - كما يعبر عن ذلك المعاصرون اليوم - لقد كان تشريع المؤاخاة الذي تم بإشراف الرسول (ص)، وبأقصى ما يملك المتآخون من رغبة واندفاع للتنفيذ. هي النموذج الحي للحكم على مستوى الدعاة في الأرض اليوم ومدى قدرتهم ¬

(¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 1 ق. 2 ص 1. (¬2) مجمع الزوائد للهيثمي 7/ 28 وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

على أن تتمثل فيهم هذه الروح الأخوية. 2 - لقد أشرف رسول الله (ص) على هذه المؤاخاة بنفسه، وقال: ((تآخوا في الله أخوين أخوين)) ولم يكن الأمر وعظا عاما، وكلاما جميلا تبح الأصوات فيه، ولا ينتج عنه إلا الصدقة النادرة والمرتبطة بالمن والأذى. إنما كانت خطوة عملية حية، قام رسول الله (ص) بتنفيذها وتحديد التآخي المباشر بين كل أخ مهاجر وأخ أنصاري. ولا بد أن يتعلم الدعاة من هذا الدرس ضرورة المعايشة العملية لقراراتهم، والسهر المباشر عليها، دون أن يكلوا تنفيذها حسب التسلسل، وينتهي الأمر بموت القرار في مهده. 3 - كان العرض القادم عند الأنصار، أن يتقاسموا الثروة بينهم وبين إخوانهم المهاجرين وهم الذين طلبوا ذلك، وقد ترك المهاجرون الأولون رضي الله عنهم أموالهم، وديارهم في سبيل الله، وجاؤوا بدينهم إلى المدينة ليشهدوا ميلاد دولة الإسلام، فاندفع إخوانهم الأنصار يعرضون عليهم أموالهم وأراضيهم ليكونوا فيها سواء. وارتفع بعضهم فوق المستوى، فهو يعرض خير أرضه، وخير أهله، ويدع الاختيار لأخيه عبد الرحمن بن عوف، وشهد لهم القرآن بذلك: {والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنسفهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} (¬1). وهل يحتاجون إلى ثناء من الناس بعد هذه الشهادة من خالقهم ¬

(¬1) سورة الحشر 9.

رب السموات والأرض. إن الإسلام قد فرض الزكاة على المسلم بنسبة تتناسب مع نفسية البشر عامة، واستعدادها للإتفاق، وكانت الزكاة تتراوح بين ربع العشر والعشر، وكلما كان الجهد البشري أكثر كلما انخفضت النسبة، وهي التي لا يقبل المسلم بأقل منها. بينما نجد الآن هذه النماذج الرائعة التي تقبل وتعرض أن تقدم خمسين بالمائة من ممتلكاتها عن طيب خاطر لإخوتنها، وليست صوره فردية نادرة، إنما هي سمة عامة في هذا المجتمع الإسلامي الوليد، الذي لن يتكرر بعد في التاريخ. 4 - ويعرض رسول الله (ص) حلا يحفظ هذا المال بيد الأنصار، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ((تكفونهم المؤونة، وتقاسمونهم الثمرة)) وكانت رغبة رسول الله (ص) أن لا يغمس المهاجرون الآن في الزراعة والعمل، بل يبقوا على أهبة الاستعداد للمواجهة والجهاد والغزو. فهم الرصيد الذي يتحرك بهم لعملياته العسكرية خارج المدينة (¬1)، ويريدهم أن يتفرغوا لذلك، وقال إخوانهم الأنصار: سمعنا وأطعنا. وقرت عين إخوانهم المهاجرين بهم حتى يقولوا لرسول (ص): (لقد كفونا المؤونة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله). ورضي الأنصاري أن يعمل، وتكون ثمرة عمله موزعة بينه وبين أخيه المهاجر. 5 - ولكن المهاجرين قبلوا هذا الأمر، وفي رحلة مؤقتة، ريثما يتعرفون على سوق المدينة ومداخل ومسارب التجارة فيها، والعمل التجاري بطبيعته ¬

(¬1) الملاحظ أن كل السرايا والبعوث قبل بدر كانت عوالا على المهاجرين.

عمل مؤقت، لا يتعارض مع التفرغ للجهاد. فالمسلم عندما يدعوه الداعي إلى المعركة لن يتعطل عمله، كما هو الحال بالنسبة للمزارع الذي يطلب منه العمل الدؤوب في مراحل معينة، وإلا خسر موسمه كله. وكان عبد الرحمن بن عوف، نموذج الحيوية الحركية عند المهاجرين، حيث استطاع خلال أيام قلائل، أن يكسب، ويتطيب، ويتزوج .. وكما يقول عن نفسه: لقد رأيتني ولو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب ذهبا أو فضة. 6 - وحين يستعرض الباحث هذا الأفق الوضيء العظيم لمعالم المجتمع المدني من خلال المؤاخاة، وما رافقها من حب وبذل وتضحية وإيثار. وما يرى في عالم الأرض اليوم، ومجتمعات الأرض، وما يشهد فيه من نتن وعفن وركام .. يعرف عظمة هذا الدين في البناء، وما تحمله نظم الأرض من شيوعية واشتراكية ورأسمالية من هبوط. ويعرف إكمال الله تعالى نعمته لهذه الأمة بهذا الدين. إن المجتمعات البشرية اليوم التي تنبح بهذه المبادىء، وتقدمها للناس على أنها الحق والأمل والرجاء؛ تقوم على قتل الخير في نفوس الناس. فالتسلط والقوة والقهر والإذلال للمالكين، وكل مالك مستغل؛ وجشع ومتسلط. وبالتصفية الدموية ينزع تسلطه، وفي صراع الطبقات، تنتزع ملكيته، حتى ولو كان يملك قوته الضروري، يجب أن يتحول كله إلى عبيد يحرم عليهم التملك، والطبقة الحاكمة هي التي تمثل الخير والحق، وتتصرف وتملك كل شيء في الواقع العملي، دكتاتورية البروليتاريا، كما يحلو لهم أن يسموها، وقد تختلف هذه النظم قليلا أو كثيرا، بحيث يمكن أن تفسح في الصور الأخرى المجال لامتصاص دماء

المعوزين، والتحكم بأقواتهم وحياتهم وجهدهم، كي تنمو الثروة في أيديهم، ومهمة القانون أن يبرر هذا الظلم والبغي والإجرام، فهم الذين يملكون التشريع كما يشاؤون. 7 - ولكني أعود فأحذر من صورة أخرى لا تقل خطورة عن ما سبق، ولا بد أن تأتي قرينة لها، هذه الصورة، هي أن يدخل في روع الدعاة إلى الله اليوم، أنه مجرد أن تتاح لهم فرصة الحكم والسلطة، ستعود صورة المجتمع الأول ماثلة في صفوفهم، وأنهم قد بلغوا في التربية والإعداد والتضحية والبذل شأو هؤلاء المهاجرين والأنصار. وكل الأمر متوقف على أن توسد لهم السلطة، ليولد فيهم أبو بكر وعمر من جديد، وأخص بالذكر الشيخين - رضي الله عنهما - لأن الغرور يصل بالدعاة أحيانا إلى حد الاستعلاء عن عثمان رضي الله عنه وأنه قد زل عن المنهج الإسلامي. أما هم ففي مصاف الصديق والفاروف. وأن الأمر انتهى عندهم ولم يعد أمامهم إلا أن يعملوا لإقامة دولة الإسلام. بينما هم في وقعهم العملي والتربوي، أقرب وألصق بهذه المجتمعات الأرضية القاصرة التي ذكرناها، وفيهم الذين يصطرعون على المال، ويصطرعون على الشهرة، ويصطرعون على السلطة، ويضعون الغلاف الإسلامي على ذلك. وقد يوجد بينهم من يتهم في أمانته، ويتهم في دينه. يجب أن لا ننسى أن الأمر ليس أماني وتمنيات، وقد تكون هذه المجتمعات الأرضية بما ملكت من خبرة وصراع طويل قد وصلت إلى مستوى من الأمن والعدل والرفاه يعجز دعاة الإسلام عن الوصول إليه لو حكموا في هذه الأرض نتيجة فقدان هذه الخبرات، وأناشد الدعاة إلى

ثالثا: وثيقة المدينة (الدستور الإسلامي)

الله أن يعودوا دائما إلى ذاتهم، ويراجعوا سلوكهم، ويتفحصوا مسيرتهم ليصححوا الخطأ، ويرتفعوا بمستوى تربيتهم على خط الإسلام الصاعد، وعلى طريق القمة الإسلامي الشامخ. إذ قد يكونون في السفح، وليس الذي يرى القمة يعني أنه وصل إليها، وليس معرفتنا النظرية بمجتمعنا الإسلامي الأول، أننا صرنا أولئك الجيل، فالطريق طويل طويل وشاق وشاق حتى نتابع الأمر صعدا فيه. ثالثا: وثيقة المدينة (الدستور الإسلامي): قال ابن سحاق (¬1): (وكتب رسول الله (ص) كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم). ¬

(¬1) أسهب الدكتور أكرم العمري - حفظه الله - في الحديث عن صحة هذه الوثيقة، وتفنيد ادعاء وضعها، نأخذ منه المقتطفات التالية: ونظرا لأهمية الوثيقة التشريعية إلى جانب أهميتها التاريخية، فلا بد من تحكيم مقاييس أهل الحديث فيها لبيان درجة قوتها أو ضعفها، وما ينبغي أن يتساهل فيها كما يفعل مع الروايات والأخبار التاريخية الأخرى، إن أقدم من أورد نص الوثيقة كاملا هو محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) لكنه أوردها بدون إسناد. وقد صرح بنقلها عنه كل من ابن سيد الناس وابن كثير، فوردت عندهما دون إسناد أيضا. وقد ذكر البيهقي إسناد ابن إسحاق للوثيقة التي تحدد العلاقات بين المهاجرين والأنصار دون البنود التي تتعلق باليهود. لذلك لا يمكن الجزم بأنه أخذها من نفس هذه الطريق أيضا. وقد ذكر ابن سيد الناس أن ابن أبي خيثمة أورد الكتاب (الويقة) فأسنده بهذا الإسناد (حدثنا أحمد بن خباب أبو الوليد حدثنا عيسى بن يوسف حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده: أن رسول الله (ص) كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار فذكر بنحوه، ولكن يبدو أو الوثيقة وردت في القسم المفقود من تاريخ ابن =

الباب الأول

الباب الأول (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي (ص) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس. ¬

= أبي خيثمة. إذ لا وجود لها فيما وصل إلينا منه، كذلك وردت الوثيقة في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام بإسناد آخر هو (حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير وعبد الله بن صالح قالا حدثنا الليث بن سعد قال: حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن رسول الله (ص) كتب بهذا الكتاب ...) وسرده. كما وردت الوثيقة في كتاب الأموال لابن زنجويه عن طريق الزهري أيضا .. وبذلك يتبين أن الحكم بوضع الوثيقة مجازفة، ولكن الوثيقة بمجموعها لا ترقى إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة، فابن إسحاق في سيرته رواها دون إسناد مما يجعل روايته ضعيفة، وأوردها البيهقي عن طريق ابن إسحاق أيضا بإسناد فيه سعد بن المنذر وهو مقبول فقط. وابن أبي خيثمة أوردها من طريق كثير المزني وهو يروي الموضوعات، وأبو عبيد القاسم بن سلام رواها بإسناد منقطع يقف عند الزهري وهو من صغار التابعين فلا يحتج بمراسيله. ولكن نصوصا من الوثيقة وردت في كتب الأحاديث بأسانيد متصلة وبعضها أوردها البخاري ومسلم فهذه النصوص هي من الحديث الصحيح، وقد احتح بها الفقهاء وبنوا عليها أحكامهم كما أن بعضها ورد في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجة والترمذي. وهذه النصوص جاءت من طرق مستقلة عن الطرق التي ودرت منها الوثيقة وإذا كانت الوثيقة بمجموعها لا تصلح للاحتجاج بها في الأحكام الشرعية، سوى ما ورد منها في كتب الحديث الصحيح. فإنها تصلح للدراسة التاريخية التي لا تتطلب درجة الصحة التي تقتضيها الأحكام الشرعية، خاصة وأن الوثيقة وردت من طرق عديدة وتتضافر في إكسابها القوة. كما وأن الزهري علم كبير من الرواد الأوائل في كتابه السيرة النبوية. ثم إن أهم كتب السيرة ومصادر التاريخ ذكرت موادعة النبي (ص) لليهود وكتابته بينه وبينهم كتابا، كما ذكرت كتابا بين المهاجرين والأنصار أيضا). انظر المجتمع النبوي في عهد النبوة ص 108 - 111.

المهاجرون من قريش على ربعتهم (¬1) يتعاقلون (¬2) بينهم، وهم يفدون عانيهم (¬3) بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة منهم تفدي عانيها بالعروف، والقسط بين المؤمنين. وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم بعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. ¬

(¬1) الربعة: الحال التي جاء الإسلام وهم عليها. (¬2) المعاقل: الديات. (¬3) العاني: الأسير.

وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا (¬1) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (¬2) ظلم أو إثم أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم. وإن كل غاية غزت معنا يعقب بعضها بعضا. وإن المؤمنين يبيء (¬3) بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله. وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن، وإنه من اعتبط (¬4) مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود (¬5) به، إلا من يرضي ولي المقتول. وإن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه. وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ¬

(¬1) المفرح: المثقل بالدين الكثير العيال. (¬2) الدسيعة: العظيمة وهي في الأصل ما يخرج من حلق البعير إذا رعنا. ويراد به هاهنا ما ينال عنهم من ظلم. (¬3) يبيء بعضهم على بعض: يرجع بعضهم على بعض. (¬4) اعتبطه: أي قتله بلا جناية. (¬5) قود به: مقتول به.

الباب الثاني

ينصر محدثا ولا يؤويه، وأن من نصره وآوآه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد .. الباب الثاني وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ (¬1) إلا نفسه وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف وإن ليهود بن جشم مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم، وإن موالي بني ثعلبة كأنفسهم، وإن بطاذة (¬2) يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج أحد منهم إلا بإذن محمد (ص). الباب الثالث وإنه لا ينحجز ثأر على جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته إلا من ظلم، وإن الله على أبر هذا، وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين ¬

(¬1) يوتغ: يهلك. (¬2) بطانة الرجل: خاصته وأهل بيته.

دستور الدولة الإسلامية الجديدة

نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله (ص) وإن الله على أنقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وأن لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم لا يكسب كاسب على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله (ص)) (¬1). ... إنه دستور الدولة الإسلامية الجديدة، وقد حدد المعالم الآتية: (أ) في الباب الأول: حقوق وواجبات المسلمين في الدولة المسلمة: 1 - الكتاب من محمد رسول الله (ص) فهو الرسول المبلغ عن ربه، وهو الحاكم بشريعة الله سبحانه، والحاكم المسلم بعده يمثل هذه السلطة. ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 501 - 504.

2 - الكتاب في بابه الأول بين المؤمنين والمسلمين من قريش ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، فهو يمثل كتلة المسلمين الواحدة. وهم جميعا أمة واحدة من دون الناس، فمفهوم الأمة قائم على أساس الدين. 3 - المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم ويفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وقد ذابت الكيانات القبلية بين المهاجرين، وأصبحوا تجمعا واحدا تحت هذه الراية. 4 - أخذ التنظيم الإسلامي في المدينة طابع القيادات القبلية، فأبقى وضع الناس على حاله من هذه الناحية، حيث أن الإسلام قد عم أكثر أبناء القبيلة، ولعل النقباء الاثني عشر يمثلون هذه التجمعات، ويتم حكمها من خلالهم. 5 - وقد حدد الدستور نوعين من الالترمات المالية هي من مسؤولية هذا التنظيم هما: الدية، وفك العاني. فالدية تحملها القبيلة، وفك الأسير وتكاليفه المادية يحمله التنظيم على أفراده. 6 - ومن الواجبات المالية كذلك على كل تجمع من هذه التجمعات، معالجة وضع الغارمين المثقلين بديونهم، وهذا يمكن المشاركة العامة فيه، فليس من خصوصيات التجمع الواحد. (وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم) فهو ولاء جديد يقوم لله ورسوله ولا يقوم للقبيلة ونصر ابنها ظالما أو مظلوما كما كان من قبل: لا يطلبون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا فالظالم الباغي يحاربه المجتمع كله، وهو تطور هائل في التاريخ البشري. وقد حدد رسول الله (ص) نصر الأخ الظالم بردعه عن ظلمه

فذلك نصر له (¬1). 8 - (وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم) فلم تقر التجمعات القبلية للخزرج، وتجمع المهاجرين وتجمع الأوس، كي نشكل كتلا متصارعة .. إنما أقر هذا الواقع ليحقق التكافل لكل فرد، ويحدد المسؤولية عليه، أما عند البغي والظلم، فالبراءة من كل باغ وظالم ولو كان ولد أحدهم، والولاء لله ورسوله. 9 - (ولا يقتل مؤمن مؤمنا بكافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن) فمعالم دولة الإيمان في الأرض تحدد، ولا يمكن أن يتساوى المؤمن والكافر، وكما تبرز الدولة القومية معالمها بعدم التفريق بين أبنائها على أساس الدين. لكنها تجعل لأبناء قوميتها الميزة والعلو، فدولة الإيمان كذلك لن تدع الرابطة القبلية أقوى من الرابطة الإسلامية. وتقبل التناصر بين المؤمن والكافر على المؤمن، وتبيح قتل المؤمن بالكافر لأن المؤمنين إخوة، وفي الوقت الذي تطالب جميع أبناء الأمة الإسلامية أن يكونوا يدا واحدة على الباغي والظالم ولو كان ولد أحدهم، تقف دون علو الكافرين على المؤمنين على المؤمنين نصرا وثأرا .. 10 - (وأن ذمة المسلمين واحدة يجير عليهم أدناهم) فكرامة أدنى فرد من المسلمين محفوظة، وكلمته تسري على جميع المسلمين، وإجارته لشخص ¬

(¬1) نص الحديث: انصر أخاك ظالما أو مظلوما، فقال رجل يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: ((تمنعه من الظلم فذلك نصره إياك)) متفق عليه. انظر مشكاة المصابيح 1385/ 3 ح 4957.

ينفذها رئيس الدولة. 11 - وليس هذا الولاء للمؤمنين فقط، بل حتى غير المؤمنين الذين يرتضون أن يسلموا أمورهم وقيادهم للمؤمنين بحيث يكونون تبعا لهم (وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر ولأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم) فمثل هؤلاء الأفراد الذين يقدمون ولاءهم للقيادة المسلمة مباشرة رغم اختلافهم معها في العقيدة يعرضون أنفسهم للخطر الماحق من فئاتهم أو طوائفهم، والدولة المسلمة كفيلة بحمايتهم ورد العدوان عنهم. 12 - والجهاد أساس في الدولة المسلمة، ينتظم أفراد الأمة جميعا بحيث لا يبقى أحد إلا وهو يساهم فيه (وإن كل غازية غزت منا يعقب بعضها بعضا). 13 - (وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله) فهو التعاون والتناصر في التعويض عن الخسائر في الأرواح والأموال، يواسي بعضهم بعضا كأنهم أسرة واحدة، المواساة في المال، والكفالة لليتامى، والرعاية للثكالى، سمة رئيسية من سمات هذا التجمع. 14 - (وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه) فليس الإسلام فقط هو خير دين، كذلك المسلمون هم خير أمة وعلى خير هدي، وأقوم هدي، لا حاجة لهم بشرائع الشرق والغرب، قد أغناهم الله من فضله، وأرسل لهم خير رسله، وخير كتبه، وخير رسالاته. 15 - ولئن ذكرت الإجارة (يجير على المسلمين أدناهم) فهذه المادة توضح حدودها، فلا إجار لعدو محارب من مشرك مهادن معا، ولا أمان

الباب الثاني: حقوق وواجبات غير المسلمين في الدولة المسلمة

له إلا من مسلم، ولا أمان لمال عدو محارب إلا من الدولة المسلمة نفسها (وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن) فعند إباحة دم الكافر المحارب وإباحة ماله فلا يستطيع مشرك مشترك معه في العقيدة أن يحمي ماله أو حياته. 16 - وقاتل المؤمن عندما يكون مشركا فالأصل قتل المشرك المجرم إلا إذا رضي ولي المقتول، أو يكون قد قتل بحق. 17 - ولا حماية لمعتد من السلطة المسلمة (وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل إلا قيام عليه). 18 - وتقول الوثيقة: وتأكيدا على هذا المعنى لخطورته (وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه) و (أن من نصره وآواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل). 19 - وأي خلاف في تفسير أحكام هذه المواد فمردها إلى الله ورسوله (وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد (ص). (ب) الباب الثاني: حقوق وواجبات غير المسلمين في الدولة المسلمة. 20 - غير المؤمنين في الدولة الإسلامية لن يبلغوا إلى كيان أمة مستقلة. وهم كذلك ليسوا جزءا من الأمة المسلمة، لكن بعضهم يمكن أن يكونوا مع

التجمع الإسلامي، وبعضهم له استقلاله الذاتي. 21 - فالذين تهودوا من الخزرج والأوس يتبعون قبائلهم التي ينتمون إليها (وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين فليهود دينهم، وللمسلمين دينهم موليهم وأنفسهم). 22 - والذي يظلم منهم أو يأثم، فيحمل وزر ظلمه وإثمه، فلا تزر وازرو وزر أخرى، ولا يهلك إلا نفسه وأهل بيته (إلا من ظلم أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته). 23 - والشيء المحجور على هؤلاء الأفراد أنه لا يخرج أحد منهم من بلده إلا بإذن من الدولة (وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد (ص)). 24 - والثارات، ليس هي الرد على الاعتداءات بالجروح، فالدولة هي التي تقيم النظام وتعاقب المعتدين (وأنه لا ينحجز ثأر على جرح) ومن تجرأ على الحدود، وراح يقتل ثأرا لجرح وقع به، فقد حكم على نفسه بالموت (وأنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته إلا من ظلم). 25 - ورسول الله هو الكفيل بتطبيق هذه المواد بصفته رئيسا للدولة، والله تعالى على ذلك من الشاهدين، فهو منهج الله وشرعه (وإن الله على أبر هذا). 26 - أما التجمعات اليهودية المستقلة الخارجة عن التبعية للقبائل، ولها قياداتها وزعامتها فلا بد أن تشارك بالنفقة فيما يخصها، من مسؤولية الدفاع من البلد وحاية الوطن (وأن يهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين).

الباب الثالث: أحكام عامة للمواطنين عامة

27 - لكن لا يحمل اليهود العبء كله، ولا يحمل المؤمنون العبء كله. إنما كل منهم حسب إمكانياته وعدده (وإن على يهود نفقتهم وعلى المؤمنين نفقتهم). 28 - وحين يتعرض الوطن للخطر، ويدعى غير المسلمين للمشاركة في الدفاع عنه فيجب عليهم ذلك (وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة). 29 - ولا بد من تبادل النصح، والتشاور في الملمات فيما يعود على البلد بالنفع (وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم). (ج) الباب الثالث: أحكام عامة للمواطنين عامة: وهذه الأحكام تشمل كافة المواطنين، يتساوون فيها بالحقوق والواجبات: 30 - خطأ الحليف لا يحمله المتحالف معه، فكل مخطىء يحاسب على تقصيره (وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه). 31 - والمظلوم أيا كان جنسه أو عقيدته، فلا بد أن ينصر والدولة هي حزبه (وإن النصر للمظوم). 32 - وحدود هذه المدينة، وهذا الوطن حرام على الجميع (وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة). 33 - معاملة الجار كمعاملة النفس، ما لم يكن مضارا لجاره أو معتديا عليه

(وإن الجار كالنفس غنر مضار ولا آثم). 34 - والحرمات مصونة، فلا يتدخل أحد فيها إلا بإذن أهلها، حق التملك، وحق التصرف (وأنه لا تجار حرمة بدون أهلها). 35 - وأن الجهة التي يحتكم إليها هي الله ورسوله فقط (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ..). (وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من اشتجار أو حدث يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله). 36 - (وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره). 37 - وأن الجوار للعدو ممنوع، ولحلفاء هذا العدو كذلك (وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها). 38 - ومسؤولية الدفاع عن الوطن مسؤولية شاملة لكل فرد (وإن بينهم النصر على من دهم يثرب). 39 - وما تقره الدولة من سلم أو حرب فيسري على الجميع (وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه). 40 - ومن حق غير المؤمنين على المؤمنين أن ينصروا حلفاءهم (وإنهم إذا دعو إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب الدين) والشرط المرهون به النصر هو أن لا يكون الحليف عدوا للدين. 41 - (وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره).

42 - لا أمان لظالم أو آثم في الدولة المسلمة مهما كان جنسه أو عقيدته (وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم). 43 - وحق الأمن مصون للجميع في أموالهم، وتحركهم، وتعاملهم (وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة) والذي يخاف هو الظالم الآثم (إلا من ظلم وأثم). 44 - والدولة عون وكهف ونصر لكل من بر واتقى. ونفذ أحكام هذه الوثيقة (وإن الله جار لمن بر واتقى ومحمد رسول الله (ص)). وهكذا رأينا كيف تم تنظيم هذا المجتمع بكل فئاته وأديانه وأحزابه، من خلال هذا الدستور المعلن. ***

الفصل العشرون الإذن في الجهاد

الفصل العشرون الإذن في الجهاد (¬1) أولا: مرحلة كف اليد: يقول الإمام ابن القيم الله: (أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه: {يا أيها المدثر قم فأنذر} فنبأه بقوله: {إقرأ} وأرسله: بـ {يا أيها المدثر} ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشر سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير فقال ولا جزية، ويؤمر بالكف والصبر والصفح، ثم أذن له بالهجرة، وأذن له في القتال. ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله) (¬2). ¬

(¬1) المقصود في الجهاد هنا هو القتال. أما الجهاد بمعناه الشامل فهو جهاد النفس والجهاد بالمال والمجاهدة، فهذه لم تنقطع إطلاقا. (¬2) زاد المعاد ج 2 ص 90، 91 فصل في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حيث بعث إلى حيث لقي الله عز وجل.

لقد كان الجهاد ابتداء ممنوعا ثم صار مأذونا به ثم مأمور به. وكان الجهاد في المرحلة الأولى يقوم على الصبر على الابتلاء، وتحمل المحن في سبيل الله. ويشير الشهيد سيد قطب رحمه الله إلى فقه منع الجهاد في هذه المرحلة، وهو يفسر قول الله عز وجل: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيدكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا} (¬1). يقول الله: (... وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة، وفرضيته في المدينة، نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب .. على أنه مجرد احتمال .. وندع ما وراءه لله .. لا نفرض على أمره أسبابا وعللا لا يعلمها إلا هو، ولم يحددها هو لنا، يطلعنا عليها بنص صريح. إنها أسباب اجتهادية تخطئء وتصيب، وتنقص وتزيد، ولا ينبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله، وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان. (أ) ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد، في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة. ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه، أو على من يلوذون به، ¬

(¬1) النساء 77.

ليخلص من شخصه، ويتجرد من ذاته، ولا تعود ذاته، ولا من يلوذون به محور الحياة في نظره، ودافع الحركة في حياته، وتربيه كذلك على ضبط أعصابه، فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مهيج، ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته .. وتربيته على أن يتبع منهجا منظما له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته، ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره - مهما يكن مخالفا لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي لإنشاء ((المجتمع المسلم)) الخاضع لقيادة موجهة، المترقي المتحضر غير الهمجي أو القبلي. (ب) وربما كان ذلك أيضا لأن الدعوة السلمية أشد أثرا وأنفذ في مثل بيئة قريش، ذات العنجهية والشرف، والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه الفترة - إلى زيادة العناد، وإلى نشأة ثارات دموية جديدة، كثارات العرب المعروفة، التي أثارت حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس - أعواما طويلة تفانت فيها قبائل برمتها - وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام، فلا تهدأ بعد ذلك أبدا، ويتحول الإسلام إلى ثارات وذحول تنسى معه فكرته الأصلية، وهو في مبدئه فلا تذكر أبدا. (ج) وربما كان ذلك أيضا اجتنابا لإنشاء معركة داخل كل بيت فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم، إنما كان ذلك موكولا إلى أولياء كل فرد يعذبونه هم ويفتنونه (ويؤدبونه) ومعنى الإذن في القتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في

كل بيت .. ثم يقال: هذا هو الإسلام! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال! فقد كانت دعاية قريش في الموسم، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة .. إن محمدا يفرق بين الولد وولده، فوق تفريقه لقومه، وعشيرته! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل المولى في كل بيت كل محلة؟ (د) وربما كان ذلك أيضا، لما يعلمه الله من أن كثيرا من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم ويعذبونهم ويؤدبونهم، هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته، ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟! (هـ) وربما كان ذلك أيضا لأن النخوة العربية، في بيئة قبلية من عاداتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى ولا يتراجع، وبخاصة إذا كان الأذى واقعا على كرام الناس فيهم، وقد وقعت ظواهر كبيرة تثبت صحة هذه النظرة في هذه البيئة، فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عارا على العرب! وعرض عليه جواره وحمايته .. وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب، بعدما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة، بينما في بيئة أخرى من البيئات ذات الحضارة القديمة التي مردت على الذل، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة، وتعظيم الظالم المعتدي! (و) وربما كان ذلك أيضا لقلة عدد المسلمين حينذاك، وانحصارهم في مكة، حيث لن تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة، أو بلغت أخبارها متناثرة، حيث

كانت القبائل تقف على الحياد، من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها، حتى ترى ماذا كون مصير الموقف .. ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك، وتنمحي الجماعة المسلمة ولم يقم في الأرض للإسلام نظام، ولا وجد له كيان واقعي، وهو دين جاء ليكون منهج حياة، وليكون نطاما واقعيا عمليا للحياة. (ز) في الوقت ذاته لم يكن هناك ضرورة قاهرة ملحة، لتجاوز هذه الاعتبازت كلها، والأمر بالقتال ودفع الأذى، لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائما - وقتها - ومحققا .. هذا الأمر الأساسي هو ((وجود الدعوة)) .. وجودها في شخص الداعية (ص)، وشخصه في حماية سيوف بين هاشم .. فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع! والنظام القبلي السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني هاشم! إذا هي امتدت يدها إلى محمد (ص)، فكان شخص الداعية من ثم محميا حماية كافية وكان الداعية يبلغ دعوته - إذن - في حماية سيوف بني هاشم ومقتضيات النظام القبلي. ولا يكتمها ولا يخفيها، ولا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغها وإعلانها، في ندوات قريش في الكعبة، ومن فوق جبل الصفا وفي اجتماعات عامة، ولا يجرؤ أحد على سد فمه، ولا يجرؤ أحد على خطفه وسجنه أو قتله، ولا يجرؤ أحد على أن يفرض عليه كلاما بعينه يقوله، يعلن فيه بعض حقيقة دينه، ويسكت عن بعضها، وحين طلبوا منها أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف، وحين طلبوا منه أن يسكت عن عيب دين آبائهم وأجدادهم

ثانيا: الإذن في الجهاد

وكونهم في جهنم لم يسكت، وحين طلبوا إليه أن يدهن فيدهنوا، أي أن يجاملهم فيجاملوه، بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا هم بعض عاداته، لم يدهن .. وعلى الجملة كان للدعوة وجودها الكامل في شخص رسول الله (ص) محروسا بسيوف بني هاشم، وفي إبلاغه لدعوة ربه كاملة في كل مكان وفي كل صورة .. ومن ثم لم تكن هناك الضرورة القاهرة لاستعجال المعركة، والتغاضي عن كل هذه الاعتبارات البيئية التي هي في مجموعها مساندة للدعوة ومساعدة في مثل تلك البيئة .. هذه الاعتبارات كلها - فيما نحسب - كانت بعض ما اقتضت حكمة الله معه أن يأمر المسلمين بكف أيديهم وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة .. لتتم تربيتهم وإعدادهم، ولينتفع بكل إمكانيات الخطة في هذه البيئة، وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة، في الوقت المناسب .. وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها، فلا يكون لذواتهم فيها حظ لتكون خالصة لله، وفي سبيل الله .. والدعوة لها (وجودها) وهي قائمة ومؤداة ومحمية ومحروسة ..) (¬1). ثانيا: الإذن في الجهاد: 1 - يقول ابن إسحاق: (... وكان رسول الله (ص) قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب، ولم تحلل له الدماء، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله، والصبر على ¬

(¬1) في ظلال القرآن لسيد قطب م 2 ج 5 (سورة النساء) ص 714، 715. ط. دار الشروق.

الأذى، والصفح عن الجاهل، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين حتى فتنوهم، ونفوهم من بلادهم، فهم بين مفتون في دينه، ومن بين معذب في أيديهم، وبين هارب في البلاد فرارا منهم .. منهم من بأرض الحبشة، ومنهم من بالمدينة، وفي كل وجه. فلما عتت قريش على الله عز وجل، وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة، وكذبوا نبيه (ص) وعذبوا ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه، واعتصم بدينه، أذن الله عز وجل لرسول الله (ص) في القتال والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم، فكانت أول آية نزلت في إذنه له في الحرب وإحلاله له الدماء والقتال لمن بغى علهيم، فيما بلغني عن عروة بن الزبير وغيره من العلماء: قول الله تبارك وتعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (¬1). أي أني أحللت لهم القتال لأنهم ظلموا، ولم يكن لهم ذنب فيما بينهم وبين الناس إلا أن يعبدوا الله، وأنهم إن ظهروا أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، يعني النبي (ص) وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين) (¬2). ¬

(¬1) الحج 39 - 41. (¬2) السيرةالنبوية لابن هشام 467/ 1 - 468.

2 - (وقال حنبل بن هلال عن إسحاق بن العلاء عن عبد الله بن جعفر الرقي عن مطرق بن مازن اليماني عن معمر عن الزهري قال: أول آية نزلت في القتال: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ..} الآية، بعد مقدم رسول الله (ص) المدينة) (¬1). 3 - (وقال العوفي عن ابن عباس: نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة، وقال مجاهد والضحاك وغير واحد من السلف كابن عباس وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة وغيرهم: هذه أول آية نزلت في الجهاد .. وقال ابن جرير .. عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي (ص) من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون ليهكن .. قال ابن عباس فأنزل الله عز وجل: {أذن للذين يقاتلون ..}. قال أبو بكر رضي الله عنه: فعرفت أن سيكون قتال. ورواه الإمام أحمد عن إسحاق بن يوسف الأزرق به، وزاد: قال ابن عباس: وهي أول آية أنزلت في القتال. ورواه الترمذي والنسائي في التفسير وابن أبي حاتم من حديث إسحاق بن يوسف، زاد الترمذي ووكيع كلاهما عن سفيان الثوري به. وقال الترمذي: حديث حسن .. ولهذا قال ابن عباس في قوله: {وإن الله على نصرهم لقدير} وقد فعل، وإنما شرع الله تعالى الجهاد في الوقت الأليق به، لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددا، فلو أمر المسلمون وهم أقل من ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 3/ 265.

ثالثا: أهمية الجهاد في الإسلام

العشر بقتال الباقين لشق عليهم، ولهذا لما بايع أهل يثرب ليلة العقبة رسول الله (ص) وكانوا نيفا وثمانين قالوا: يا رسول الله ألا نميل على أهل الوادي - يعنون أهل منى - ليالي منى فنقتلهم؟ فقال رسول الله (ص): ((إني لم أؤمر بهذا)) فلما بغى المشركون، وأخرجوا النبي (ص) من بين أظهرهم وهموا بقتله، وشردوا أصحابه شذر مذر، فذهب منهم طائفة إلى الحبشة، وآخرون إلى المدينة. فلما استقروا بالمدينة، وافاهم رسول الله (ص) واجتمعوا عليه، وقاموا بنصره، وصارت لهم دار إسلام ومعقلا يلجؤون إليه، شرع الله جهاد الأعداء، فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك) (¬1). وهكذا نرى كل الروايات تضافرت لتؤكد أن الإذن بالجهاد إنما كان في هذه الآية، ونزلت في مقدم رسول الله (ص) المدينة، ولم تكن العقبة التي أطلق عليها بيعة الحرب إلا إيذانا بذلك. ثالثا: أهمية الجهاد في الإسلام: نضع الجهاد في الإسلام حيث وضعه الله تعالى ورسوله. {... ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} (¬2). {... ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ¬

(¬1) تفسير ابن كثير سورة الحج 8/ 4 649،64. (¬2) البقرة من الآية 251.

الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (¬1). ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)) (¬2). فالفساد في الأرض قائم ما لم يكن الجهاد. والآية الثانية تفسر هذا الفساد، بأنه منع ذكر الله في الأرض، وهدم بيوت العبادة والطاعة لله في الأرض، واجتثاث هذه العقيدة من الناس، ليكون الحكم للطواغيت، فلا يعبد الله في الأرض. ((اللهم إن تلك هذه العصابة، فإن شئت أن لا تعبد في الأرض)) (¬3). هذا من الناحية السلبية، ولا يكفي أن يكون الجهاد فقط هو أن يسمح بذكر الله، وأن يسمح بحرية العبادة، وأن يسمح بحرية القول. هناك هدف أبعد هو إقامة شريعة الله في الأرض، وتنفيذ منهجه فيها بحيث تكون الحاكمية له وحده في هذا الوجود. {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} (¬4) والتمكين في الأرض يرافقه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر {وعدا الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا} (¬5). ¬

(¬1) الحج 40، 41. (¬2) الترمذي ك. الإيمان 8 وابن ماجة ك. الفتن 12 والإمام أحمد 5/ 221 وغيرها. (¬3) مسلم ك. الجهاد والسير 1763. (¬4) الزخرف من الآية 84. (¬5) النور من الآية 55.

فلا بد من الاستخلاف في الأرض، والتمكين فيها للذين آمنو وعملوا الصالحات، وهذا لا يتم إلا عن طريق الجهاد. ((فالجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل ي (¬1). و ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) (¬2). إن الجهاد في الإسلام هو الأداة الوحيدة للتمكين في الأرض {لقد أرسلنا رسلنا بالبييات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ..}. وحتى يتحقق هذا الهدف الذي من أجله أنزل الكتاب، ليحقق القسط والعدل بين الناس، لابد من الوسيلة الرئيسية له ألا وهي السلاح والجهاد .. {ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز} (¬3). ((... ما ترك قوم الجهاد، إلا عمهم الله بعذاب)) (¬4). والحديث هو منطوق الآية الكريمة التي تدعو إلى الجهاد، وتحذر من التخلف عنه. ¬

(¬1) أبو داود ك. الجهاد 15 ب. في الغزو مع أئمة الجور 33 ح 2532 ج 3 ص 18. (¬2) مسلم ك. الإجارة 33 ب. لا تزال طائفة (52، 53) ح 1920 ج 3. (¬3) الحديد 25. (¬4) مجمع الزوائد 5/ 284 وقال الهيثمي رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه علي بن سعيد الرازي، قال الدارقطني ليس بذاك. وقال الذهبي روى عنه الناس.

{إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير} (¬1). أما أجر المجاهد وثوابه، فكما يقول عليه الصلاة والسلام عن أبي سعيد الخدري: ((يا أبا سعيد من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وجبت له الجنة)) فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها علي يا رسول الله! ففعل. ثم قال: ((وأخرى يرفع العبد بها مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض)) قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله .. الجهاد في سبيل الله)) (¬2). رابعا: الفرق بين الجهاد في الإسلام وحروب البشرية الأخرى: الله تعالى يقول: {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا) (¬3). وندع الحديث لسيد رحمه الله يبين لنا هذا الفرق: (... وفي لمسة واحدة يقف الناس على مفرق الطريق، وفي لحظة ترتسم الأهداف، وتتضح الخطوط، وينقسم الناس إلى فريقين اثنين، تحت رايتين متميزتين: ¬

(¬1) التوبة 39. (¬2) مسلم ك. الإمارة 33 ب. ما أعد الله للمجاهد 32031 ج 4 ص 1501 ح 1884. (¬3) النساء 76.

{الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله}، {والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت}. الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، لتحقيق منهجه. وإقرار شريعته، وإقامة العدل بين الناس باسم الله، لا تحت أي عنوان آخر، اعترافا بأن الله وحده هو الإله، ومن ثم فهو الحاكم. والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، لتحقيق مناهج شتى - غير منهج الله - وإقرار شرائع شتى - غير شريعة الله - وإقامة قيم شتى - غير التي أذن بها الله - ونصب موازين شتى - غير ميزان الله -! ويقف الذين آمنوا مستندين إلى حماية الله ورعايته. ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم، وشتى مناهجهم، وشتى شرائعهم، وشتى طرائقهم، وشتى قيمهم، وشتى موازينهم، فكلهم أولياء الشيطان. ويأمر الله الذين آمنوا أن يقاتلوا أولياء الشيطان، ولا يخشوا مكرهم ولا مكر الشيطان: {فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا}. وهكذا يقف المسلمون على أرض صلبة، مسندين ظهورهم إلى ركن شديد، مقتنعي الوجدان بأنهم يخوضون معركة لله، ليس لأنفسهم منها نصيب، ولا لذواتهم منها حظ، وليست لقومهم، ولا لجنسهم، ولا لقرابتهم وعشيرتهم منها شيء .. إنما هي لله وحده، ولمنهجه وشريعته، وأنهم يواجهون قوما أهل باطل يقاتلون لتغليب الباطل على الحق، لأنهم يقاتلون لتغليب مناهج البشر الجاهلية - وكل مناهج البشر جاهلية - على شريعة منهح الله، ولتغليب

شرائع البشر الجاهلية - وكل مناهج البشر جاهلية - على الله، وتغليب ظلم البشر - وكل حكم للبشر من دون الله ظلم - على عدل الله، الذي هم مأمورون أن يحكموا به بين الناس، كذلك يخوضون المعركة وهم يوقنون أن الله وليهم فيها، وأنهم يواجهون قوما الشيطان وليهم، فهم إذن ضعاف، إن كيد الشيطان كان ضعيفا. ومن هنا يتقرر مصير المعركة في حس المؤمنين، وتتحدد نهايتها قبل أن يدخلوها، وسواء بعد ذلك استشهد المؤمن في المعركة - فهو واثق النتيجة - أم بقي حتى غلب، ورأى بعينيه النصر، فهو واثق من الأجر العظيم. من هذا التصور الحقيقي للأمر في كلتا حالتيه، انبعثت تلك الخوارق الكثيرة التي حفظها تاريخ الجهاد في سبيل الله في حياة الجماعة المسلمة الأولى، والتي تناثرت على مدى التاريخ في أجيال كثيرة، وما بنا أن نضرب لها هنا الأمثال، فهي كثيرة مشهورة (¬1). ومن هذا التصور كان ذلك المد الإسلامي العجيب، في أقصر فترة عرفت في التاريخ، فقد كان هذا التصور جانبا من جوانب التفوق الذي حققه المنهج الرباني للجماعة المسلمة على المعسكرات المعادية ..) (¬2). لقد حدد رسول الله (ص) مفهوم الجهاد في سبيل الله بحيث يقطع أي ¬

(¬1) ما يشهده جهاد المسلمين الأفغان في صراعهم ضد الكفر ودولته العظمى روسيا، وما تبدو فيه من كرامات وانتصارات أذهلت العالم على ضعف المجاهدين وقلة إمكاناتهم المادية دليل واضح على ذلك. (¬2) في ظلال القرآن (سورة النساء) م 2 ج 5 ص 709، 710.

اجتهاد في هذا المجال. (فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رجلا أعرابيا أتى النبي (ص) فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه .. فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله (ص): ((من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله)) (¬1). وفي رواية: (سئل رسول الله (ص) عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله (ص): ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العيا فهو في سبيل الله)) (¬2). (إنه لا يقاتل للاستيلاء على الأرض، ولا للاستيلاء على المكان .. ولا يقاتل ليجد الخامات للصناعات والأسواق للمنتجات، أو لرؤوس الأموال يستثمرها في المسعمرات وشبه المستعمرات! إنه لا يقاتل لمجد شخص، ولا لمجد بيت، ولا لمجد طبقة، ولا لمجد دولة، ولا لمجد أمة، ولا لمجد جنس .. إنما يقاتل في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله في الأرض، ولتمكين منهجه من تصريف الحياة، ولتمتيع البشرية بخيرات هذا المنهج، وعدله المطلق بين الناس مع ترك كل فرد حرا في اختيار العقيدة التي يقتنع بها في ظل هذا المنهج الرباني الإنساني الإسلامي العام) (¬3). ولا بد من لفتة هنا إلى التصور الإسلامي للبلد والأرض والوطن: إن هذه ¬

(¬1) و (¬2) مسلم ك. الإمارة 33 ب. من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا 42 ج 3 ص 1512، 1513 ح 1904. (¬3) في ظلال القرآن (سورة النساء) ج 5 ص 707.

القرية (الظالم أهلها) التي يعدها الإسلام - في موضعها ذاك - دار حرب، يجب أن يقاتل المسلمون لاستنقاذ المسلمين المستضعفين منها، هي (مكة) وطن المهاجرين الذين يدعون هذه الدعوة الحارة إلى قتال المشركين فيها، ويدعو المسلمون المستضعفون هذه الدعوة الحادة للخروج منه. إن كونها بلدهم لم يغير وضعها في نظام الإسلام - حين لم تقم فيها شريعة الله ومنهجه، وحين فتن فيها المؤمنون عن دينهم، وعذبوا في عقيدتهم، بل اعتبرب بالنسبة لهم هم أنفسهم (دار حرب)، هم لا يدافعون عنها، وليس هذا فحسب بل هم يحاربونها لإنقاذ إخوانهم المسلمين منها، إن راية المسلم التي يحامي عنها عقيدته، ووطنه الذي يجاهد من أجله هو البلد الذي تقام شريعة الله فيه، وأرضه التي يدفع عنها هي (دار الإسلام) التي تتخذ المنهج الإسلامي منهجا للحياة، لكل تصور آخر هو تصور غير إسلامي تنضح به الجاهليات، ولا يعرفه الإسلام) (¬1). ويبقى الحديث عن آثار هذا الجهاد في الأرض، الجهاد المرتبط بالعقيدة وللعقيدة، التي يعرف من خلالها الفرق الواقعي بينه، وبين حروب الأرض، يقدمها سيد رحمه الله في كلمات قلائل تحمل أعمق الدلائل على هذا الجهاد. يقول رحمه الله: (... لقد كان التفوق الحقيقي للمجتمع المسلم على المجتمعات الجاهلية من حوله، بما فيها مجتمع اليهود القائم في قلب المدينة، هو تفوقه في البناء الروحي، والخلق الاجتماعي والتنظيمي، بفضل المنهج القرآني الرباني قبل أن يكون تفوقا عسكريا أو اقتصاديا أو ماديا على العموم! ¬

(¬1) المصدر نفسه ص 708.

بل هو لم يكن قط تفوقا عسكريا واقتصاديا - ماديا - فقد كان أعداء المعسكر الإسلامي دائما أكثر عددا وأقوى عدة، وأغنى مالا، وأوفر مقدرات مادية على العموم! سواء في داخل الجزيرة العربية، أو في خارجها، في زمن الفتوحات الكبرى بعد ذلك، ولكن التفوق الحقيقي كان في ذلك البناء الروحي والخلقي والاجتماعي، ومن ثم السياسي والقيادي، الذي أسسه الإسلام بمنهجه الرباني المتفرد. وبهذا التفوق الساحق على الجاهلية في بنائها الروحي والخلقي والاجتماعي، ومن ثم السياسي والقيادي، اجتاح الإسلام الجاهلية، اجتاحها أولا في الجزيرة العربية، واجتاحها ثانيا في الامبرطوريتين العظيمتين الممتدتين حوله: امبرطوريتي كسرى وقيصر، ثم بعد ذلك في جوانب الأرض الأخرى، سواء كان معه جيش وسيف، أم كان معه مصحف وأذان. ولولا هذا التفوق الساحق ما وقعت تلك الخارقة التي لم يعرف لها التاريخ نظيرا، حتى في الاكتشافات العسكرية التايخية الشهيرة، كزحف التتار في التاريخ القديم، وزحف الجيوش الهتلرية في التاريخ الحديث، ذلك أنه لم يكن اكتساحا عسكريا فحسب، بل كان اكتساحا عقيديا ثقافيا حضاريا كذلك! يتجلى فيه التفوق الساحق الذي يطوي - من غير إكراه - عقائد الشعوب ولغاتها وتقاليدها وعاداتها، الأمر الذي لا نظير له على الإطلاق في أي اكتساح عسكري آخر، قديما وحديثا. لقد كان تفوقا (إنسانيا) كاملا، تفوقا في كل خصائص الإنسانية ومقوماتها، كان ميلادا آخر للإنسان، ميلاد إنسان جديد غير الذي تعرفه الأرض على وجه اليقين والتأكيد، ومن ثم صبغ البلاد التي غمرها هذا المد بصيغته، وترك عليها طابعه الخاص. وطغى هذا المد على روسب الحضارات

التي عاشت عشرات القرون من قبل في بعض البلاد، كالحضار الفرعونية في مصر، وحضار البابليين والآشوريين في العراق، وحضارة الفينيقيين والسريان في الشام، لأنه كان أعمق جذورا في الفطرة البشرية، وأوسع مجالا في النفس الإنسانية، وأضخم قواعد، وأشمل اتجاهات في حياة بني الإنسان، من كل تلك الحضارات. وغلبة اللغة الإسلامية واستقرارها في البلاد ظاهرة عجيبة، لم تستوف ما تستحقه من البحث والدراسة والتأمل. وهي في نظري أعجب من غلبة العقيدة واستقرارها، إذ أن اللغة من العمق في الكينونة البشرية ومن التشابك مع الحياة الاجتماعية، بحيث يعد تغييرها على هذا النحو معجزة كاملة، وليس الأمر في هذا أمر (اللغة العربية) فاللغة العربية كانت قائمة، ولكنها لم تصنع هذه المعجزة في أي مكان على ظهر الأرض - قبل الإسلام - ومن ثم سميتها - اللغة الإسلامية - فالقوة الجديدة التي تولدت في اللغة العربية، وأظهرت هذه المعجزة على يديها كانت هي - الإسلام - قطعا! وكذلك اتجهت العبقريات الكامنة في البلاد المفتوحة (المفتوحة للحرية والنور والطلاقة) اتجهت إلى التعبير عن ذاتها - لا بلغاتها الأصلية - ولكن باللغة الجديدة، لغة هذا الدين، اللغة الإسلامية، وأنتجت بهذه اللغة في كل حقل من حقول الثقافة نتاجا تبدو فيه الأصالة، ولا يلوح عليه الاحتباس من معاناة التعبير في لغة غريبة - غير اللغة الأم - لقد أصبحت اللغة الإسلامية هي اللغة الأم فعلا لهذه العبقريات، ذلك أن الرصيد الذي حملته هذه اللغة كان من الضخامة أولا، ومن ملاصقة الفطرة ثانيا، بحيث كان أقرب إلى النفوس، وأعمق فيها، من ثقافاتها القديمة، ومن لغاتها القديمة أيضا) (¬1). ¬

(¬1) في ظلال القرآن (سورة النساء) 23 ج 5 ص 673، 674.

الفصل الحادي والعشرون أهم السرايا والغزوات

الفصل الحادي والعشرون أهم السرايا والغزوات (¬1) أولا: الإحصاء الإجمالي: (عن زيد بن أرقم أن النبي (ص) غزا تسع عشر غزوة) (¬2). ¬

(¬1) اتفق علماء السير على اصطلاح الغزوة للخروج الذي يكون رسول الله (ص) على رأسه، والسرية للخروج الذي يبعثه رسول الله (ص) ويكون على رأسه أحد من أصحابه. (¬2) قال ابن حجر رحمه الله: ومراده الغزوات التي خرج فيها النبي (ص) فيها بنفسه سواء قاتل أم لم يقاتل. لكن روى أبو يعلى من طريق أبي الزبير عن جابر أن عدد الغزوات إحدى وعشرون وإسناده صحيح وأصله في مسلم، فعلى هذا فات في زيد بن أرقم ذكر اثنتين منها ولعلها الأبواء وبواط. وكان ذلك خفي عليه لصغره ويؤيد ما قلته ما وقع عند مسلم بلفظ. (قلت: ما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العشير أو العشيرة. والعشيرة كما تقدم هي الثالثة .. أو عد الغزوتين واحدة. فقد قال موسى بن عقبة: قاتل رسول الله (ص) بنفسه في ثمان: بدر ثم أحد ثم الأحزاب ثم المصطلق ثم خيبر ثم مكة ثم حنين ثم الطائف) وأهمل غزوة بني قريظة لأنه ضمها إلى الأحزاب لكونها كانت في إثرها. وأفردها غيره لوقوعها منفردة بعد هزيمة الأحزاب، وكذا وقع لغيره عد الطائف وحنين واحدة لتقاربهما. فيجتمع على هذا قول زيد بن أرقم وقول جابر. وقد توسع ابن سعد فبلغ عدة المغازي التي غزا بها رسول الله (ص) بنفسه سبعا وعشرين وتبع في ذلك الواقدي، وهو مطابق لما عده ابن إسحاق، إلا أنه لم يفرد وادي القرى من خيبر. أشار إلى ذلك السهيلي .. وعلى هذا يحمل ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال: غزا سول الله (ص) أربعا وعشرين. وأما البعوث والسرايا فعد ابن إسحاق ستا =

ثانيا: سرية عبد الله بن جحش

و (عن ابن بريدة قال: حدثني أبي أن رسول الله (ص) غزا تسع عشرة غزوة، وقاتل في ثمان، وبعث أربعا وعشرين سرية، قاتل (¬1) في يوم بدر، ويوم أحد، والأحزاب، والمريسيع، وقديد، وخيبر، ومكة، وحنين) (¬2). ثانيا: سرية عبد الله بن جحش: قال ابن إسحاق: (وبعث رسول الله (ص) عبد الله بن جحش في رجب، مقفله من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به، لا يستكره من أصحابه أحدا .. فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا، فامض حتى تنزل نخلة، بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم. فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب، قال: سمعا وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله (ص) أن أمضي إلي نخلة أرصد بها قريشا حتى آتيه منهم ¬

= وثلاثين، وعد الواقدي ثمانيا وأربعين. وحكى ابن الجوزي في التنقيح ستا وخمسين، وعد المسعودي ستين. وبلغها شيخنا في نظم السيرة زيادة على السبعين. ووقع عند الحاكم في الإكليل أنها تزيد على مائة فلعله أراد ضم المغازي إليها ..) فتح الباري 280/ 7، 281. (¬1) نقل الزرقاني في شرح المواهب 1/ 405 عن ابن تيمية قوله: لا يعلم أنه (ص) قاتل في غزاة إلا في أحد. ولم يقتل أحدا إلا أبي بن خلف فيها. فلا يفهم من قولهم قاتل في كذا أنه بنفسه كما فهم بعض الطبة ممن لا اطلاع لهم على أحواله عليه السلام. (¬2) مسلم ك. الجهاد والسير 32 ب. عدد غزوات الرسول (ص) 49 ج 3 ص 1448 ح 1814.

بخبر، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله (ص)، فمضى ومضى معه أصحابه ولم يتخلف منهم أحد. وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن، فوق الفرع، يقال له: بحران، أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما، كانا يعتقبانه، فتخلفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش، وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة قريش فيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوة نوفل بن عبد الله المخزوميان، والحكم بن كيسان، مولى هشام بن المغيرة. فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريبا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا، وقالوا: عمار لا بأس عليكم منهم. وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم، فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليهم منهم. وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله (ص) المدينة. قال ابن إسحاق: فلما قدموا على رسول الله (ص) قال: ((ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام))، فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك

شيئا، فلما قال ذلك رسول الله (ص) سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم هلكوا، وعنفهم إخوانهم المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال، فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن بمكة، إنما أصابوا في شعبان. وقالت يهود: - تفاءل بذلك على رسول الله (ص) - عمرو بن الحضرمي في قتله واقد بن عبد الله الليثي، عمرو، عمرت الحرب، والحضرمي، حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله، وقدت الحرب. فجعل الله ذلك عليهم لا لهم. فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله (ص): {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله} أي: إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله، أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم {.. والفتنة أشد من القتل} أي كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل {.. ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} أي هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين. فلما نزل القرآن بهذا الأمر، وفرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق، قبض رسول الله (ص) العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان. فقال رسول الله (ص): لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا - يعني سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزون - فإنا نخشاكم عليهما. فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. فقدم سعد وعتبة فأفداهما رسول الله (ص) منهم.

فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه، وقام عند رسول الله (ص) حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة، فمات بها كافرا. فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا به حين نزل القرآن طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله: أنطمع أن تكون لنا غزوة، نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله عز وجل فيهم: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم} فوضعهم الله في ذلك على أعظم الرجاء. والحديث في هذا عن الزهري، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير (¬1): (قال ابن إسحاق، وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش: إن الله عز وجل قسم الفيىء حين أحله، فجعل أربعة أخماس لمن أفاءه الله، وخمسا إلى رسوله. فواقع على ما كان عبد الله بن جحش قد صنع في تلك العير) (¬2) ... 1 - وصل رسول الله (ص) المدينة في شهر ربيع الأول (¬3)، ومضت السنة ¬

(¬1) الزهري: الفقيه الحافظ المتفق على جلالته وإتقانه. يزيد بن رومان: ثقة مولى آل الزبير، عروة ابن الزبير: ثقة فقيه مشهور. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 601 - 605. وقد رواه الإمام أحمد مختصرا وابن أبي حاتم والسدي كما ذكر ذلك ابن كثير 3/ 271 و 274، 275. (¬3) قال ابن هشام: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي عن عروة قال: قدم رسول الله (ص) المدينة يوم الاثنين حين اشتد الضحاء، وكادت الشمس تعتدل لثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، وهو التاريخ.

الأولى دون أي تحرك عسكري، فلما كان صفر على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة (¬1)، ابتدأ التحرك العسكري، وخلال الأشهر الستة، كانت غزوة ودان، وسرية عبيدة بن الحارث، وسرية حمزة إلى سيف البحر، وغزوة بواط، وغزوة العشيرة، وسرية سعد بن أبي وقاص، وغزوة سفوان، وسرية عبد الله بن جحش. أي كان التحرك يتم في أقل من شهر، والأهداف لهذه التحركات واضحة هي ملاحقة قريش، ابتداء وإعلانا بالوجود العسكري الإسلامي في الأرض العربية، ولم يكن إلا واحدة منها ردا على هجوم قام به كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة. لقد كان الإذن بالقتال هو نقطة التحرك العسكري لرسول الله (ص)، وأن من حق الذين أخرجو من ديارهم وأموالهم بغير حق أن يقاتلوا الذين بغوا عليهم، وصدوهم عن المسجد الحرام. وكانت بعض التحركات كذلك لتهيئة بعض التحالفات مع القبائل المجاورة، بحيث تبقى المعركة محصورة مع قريش، ولا أقل من وقوف هذه القبائل المجاورة على الحياد في المعركة الدائرة بين الفريقين. وفعلا حالت هذه القبائل دون الصدام المسلح في أكثر من مرة. 2 - أما سرية عبد الله بن جحش فهي أول صدام تم بين المسلمين والمشركين، وفي جو دعائي ضخم حيث تناولته الأوساط كلها أن محمدا ¬

(¬1) هذا على رأي ابن إسحاق أما الواقدي فيرى أن التحرك العسكري قد ابتدأ في رمضان على رأس سبعة أشهر من مقدمه (ص) المدينة.

يقاتل في الشهر الحرام ويستحل حرمته، أو هكذا أرادت قريش أن تصور الأمر. وهذه العصبة المؤمنة وعلى رأسها أمير المؤمنين (¬1) عبد الله بن جحش، تقف متقطعة الأنفاس تخشى الهلاك نتيجة هذا القتال؛ حيث لم يرض الرسول (ص) أن يستلم العير والأسيرين، إلى أن جاء الوحي، فحسم بين الفريقين. يقول ابن القيم رحمه الله في تفسير هذه الآية: (يقول سبحانه هذا الذي أنكرتموه عليهم وإن كان كبيرا، فما اركبتموه من الكفر بالله والصد عن سبيله وعن بيته، وإخراج المسلمين الذين هم أهله أكبر منه. والشرك الذي أنتم عليه، والفتنة التي حصلت منكم به ... أكبر عند الله من قتالهم في الشهر الحرام) (¬2). ويقول ابن القيم كذلك: (والمقصود أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، فلم يبرىء أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام، بل أخبر أنه كبير، وأن ما عليهم أعداءه المشركين أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام، فهم أحق بالذم والعيب والعقوبة، لا سيما وأولياؤه كانوا متأولين)) (¬3). ¬

(¬1) أول من أطلق عليه أمير المؤمنين هو عبد الله بن جحش رضي الله عنه لإمرته لهذه السرية، كما روى ابن سعد عن الواقدي عن أبي معشر نجيح قال: في هذه السرية تسمى عبد الله بن جحش أمير المؤمنين. الطبقات الكبرى ج 3 ق 63/ 1. (¬2) زاد المعاد لابن القيم 198/ 3. (¬3) المصدر نفسه 3/ 170.

أما الجرائم الضخمة التي اتكبتها قريش في الكفر بالله، والصد عن سبيله - كما جاء في القرآن - ليؤكد طبيعة المعركة بين المسلمين والمشركين، أنها ليست معركة ساعة، أو أزمة شهر، أو صراع عام .. إنها معركة تمتد حتى يرث الله الأرض ومن عليها لتخرج من إطار الزمن والمكان والحادثة، وتدخل في أعماق التاريخ كله. {... ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ..}. هذا هو هدفهم؛ ومن أجل هذا الهدف، لا بد من الجهاد حتى تقوم الساعة، لإيقاف هذه الفتنة، فتنة الناس عن دينهم وقتلهم على رأيهم، واغتيالهم على عقيدتهم، ومهمة الجهاد في الإسلام هو تحطيم هذه الفتنة، وتحقيق حرية المعتقد في الأرض، بحيث لا يفتن فيها مؤمن عن دينه، أو يحال بينه وبين ربه ((والفتنة أكبر من القتل ..)). ويكون الدين كله لله، وتكون الدينونة في هذه الأرض لله رب العالمين، في شرعه ومنهجه الذي ارتضاه لعباده. {... وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ..}. 3 - وكان التخطيظ النبوي في هذه السرية والسرايا التي سبقتها، أن تكون خالصة للمهاجرين، ليس فيها أنصاري واحد، وذلك لتحقيق أكثر من هدف، فالمهاجرون لا بد أن يشعروا ابتداء بقضيتهم، فلم يقدموا إلى المدينة لتكون بديلا عن مكة، إنما جاؤوا إلى المدينة لتكون عونا لهم في محاولة

استرداد الأرض التي أخرجوا منها بغير حق، وهي كذلك أرض التوحيد التي لوثتها أهواء المشركين، فجعلتها معقلا للشرك. لا بد من استردادها، لا بد من تحريرها، ولذلك فلا بد أن يشعر المهاجري بخطورة دوره، وأنه هو المعني، وقبل كل أحد بهذه القضية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية .. فالعهد بين رسول الله (ص) وبين أنصار الله ورسوله هو على الحماية، مما يحمون به أزرهم وأولادهم داخل أرضهم، ولو أدت هذه الحماية بالنسبة لهم إلى قتل الأشراف، ونهكة الأموال، وفاء بعهد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. 4 - والمعنى الأخص كذلك، هو أن رسول الله (ص) قدم للفداء نفسه أولا في الغزوات التي خرج على رأسها، وأحب الناس إليه، ومن هم بمثابة ولده، ومثابة العين والقلب منه. لقد كانت السرية الأولى وعلى رأسها عبيدة بن الحارث (ابن عم النبي صلوات الله وسلامه عليه). وكانت السرية الثانية على رأسها حمزة بن عبد المطلب (عم النبي (ص). وكانت السرية الثالثة على رأسها سعد بن أبي وقاص (خال رسول الله (ص). وكانت السرية الرابعة على رأسها عبد الله بن جحش (ابن عمة النبي (ص).

بينما قاد عليه الصلاة والسلام الغزوات الأربع بنفسه وهذا كله كان قبل بدر. وهو درس للدعاة في الأرض، أنه لن تنتصر دعوة الله فيها، إلا إذا كان الدعاة وأهلهم وأولادهم وأقاربهم وذويهم هم الوقود الأول فيها، ويوم نبحث عن الإخفاق الذي يتلقاه الدعاة اليوم نجد من أهم أسبابه ضن قادة الدعوة بأقاربهم وذويهم وأبكارهم عن الجهاد والمعركة. وقد نجد سببا كبيرا من الأسباب الكثيرة فيه كذلك أن الدعاة للوعظ والإرشاد والمطلوب من الناس التضحية والفداء، وأن يكونوا النماذج الحية في الاستشهاد، ولن تنتصر دعوة بهذا اللون لا يلتحم فيها القول بالفعل، والوعظ بالبذل، ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة. 5 - وغني عن البيان، ما تحمله هذه السرية من أساليب العمل العسكري الدقيق المنظم، فالهدف الأقرب يعرفه الجنود وقياداتهم، أما الهدف الأبعد فقد يكون من اختصاص المخطط أو القائد الأول. ويكن أن تطلع عليه القائد المباشر في حينه، فالرسالة لا تفتح إلا بعد مسيرة يومين، وهو تدريب ذو جوانب متعددة على السرية، والطاعة، والانضباط، وضبط النفس. 6 - وأخيرا هذا التخيير بعد وضوح الهدف، فلا يكره أحد على الخروج، فمن شاء رجع. فلم يتخلف أحد من الثمانية الذين ساهموا في هذه السرية، وهو يدل على المستوى الرائع من التربية الذي تلقاه أصحاب مدرسة الأرقم، والسابقون الأولون من المهاجرين. 7 - والاختيار الذي أراده (ص) لقيادة هذه السرية، ليس اختيارا اعتباطيا أو

لمجرد أنه ابن عمته .. بل هناك سبب آخر هو ما وصف به رسول الله (ص) ابن عمته: ((لأبعثن عليكم رجلا ليس بخيركم أصبركم على الجوع والعطش)) (¬1). فبعث علينا عبد الله بن جحش، فكان أول أمير في الإسلام. فالأمير إذن لا بد له أن يحمل المواصفات التي تؤهله لهذا الموقع، ولعل أمير الحرب أول مواصفاته الصبر على شظف العيش، وهول المفاجأة، وصعوبة المحنة، ليكون قادرا على الثبات، والمواجهة للعدو. {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) (¬2). 8 - وهناك علاقة بين القيادة وبين لحمة الصف، فالصابر المصابر قادر على أن يحزم الأمر ويقطع دابر الخلاف، ويتخذ القرار المناسب في اللحظة المناسبة وعودتنا إلى بداية الرواية السابقة توضح هذا المعنى: (.. فقام غضبان محمر الوجه، وقال: ((أذهبتم من عندي جميعا ورجعتم متفرقين؟ إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة لأبعثن عليكم رجلا ليس بخيركم، أصبركم على الجوع والعطش)) فبعث علينا عبد الله بن جحش الأسدي) (¬3). ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد 1/ 178. (¬2) الأنفال 45، 46. (¬3) مسند الإمام أحمد 178/ 1.

ومن أجل ذلك حين يقيض الله تعالى لدعوته قائدا فذا تكون أول ثمرات قيادته أن تجتمع عليه القلوب وتلتحم عليه الصفوف، ويكون قادرا على إنهاء الشتات، وإزالة الفرقة، لينتهي سبب الهلاك في الأمة، وتمضي صعدا في طريق العافية والبناء. 9 - ونلحظ كذلك حرص القيادة النبوية على أبنائها، فبالرغم من أن سعدا رضي الله عنه وعتبة بن غزوان قد تخلفا في البحث عن بعيرهما الذي يعتقبانه، وليس هناك ما يشير إلى أنهما وقعا أسيرين بيد قريش، إلا أن الموقف النبوي كان واضحا ومشددا بالنسبة لهما: ((لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا، فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم)). وكان بالإمكان التساهل في هذا الأمر طالما أنه لم يثبت وقوعهما أسيرين بيد العدو، وتخلفهما عن المواجهة للبحث عن البعير يوحي بشيء من التقصير منهما. ومع ذلك، فمعالجة الأمر الداخلي شيء والحفاط على حياة جندي الدعوة شيء آخر. والداعية الذي يشعر بحرص الجماعة المسلمة عليه لا غرو أن يضحي بكل ما يملك دون تردد أو خوف على نفسه أو ولده أو أهله. ***

الفصل الثاني والعشرون غزوة بدر

الفصل الثاني والعشرون غزوة بدر أولا: أسباب الغزوة وأهدافها: لما سمع رسول الله (ص) بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم وقال: ((هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها)) (¬1). ويقول الصالحي في السيرة الشامية: (والسبب في خروج النبي (ص) أنه سمع أن أبا سفيان بن حرب مقبل من الشام في ألف بعير لقريش فيها أموال عظام ولم يبق بمكة قرشي ولا قرشية له مثقال فصاعدا إلا بعث به في البعير. فيقال: إن فيها خمسين ألف دينار، ويقال أقل، وفيها سبعون رجلا راكبا كما ذكر ابن عقبة وابن عائذ وقال ابن إسحاق ثلاثون أو أربعون .. وهي التي خرج لها حتى بلغ العشيرة فوجدها قد مضت. وندب المسلمين للخروج معه وقال: ((هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا لعل الله أن يغنمكموها)) فانتدب الناس فخف بعضهم، وثقل بعض. وتخلف عنه بشر كثير، وكان من تخلف لم يلم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله (ص) يلقى حربا، ولم يحتفل لها ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 607.

ثانيا: الاستشارة التي غيرت وجه المعركة

رسول الله (ص) احتفالا بليغا. فقال: من كان ظهره حاضرا فليركب معنا .. وحمل سعد بن عبادة رضي الله عنه عشرين جملا، وبعث رسول الله (ص) قبل خروجه من المدينة بعشر ليال طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى طريق الشام، يتحسسان خبر العير، فبلغا أرض الخوار. فنزلا على كثير بن مالك الجهنى رضي الله عنه فأجارهما، وأنزلهما وكتم عليهما حتى مرت العير ثم خرجا وخرج معهما كثير خفيرا حتى أوردهما ذا المروة، فقدما ليخبروا رسول الله (ص) فوجداه قد خرج .. وأدرك أبا سفيان رجل من جذام بالزرقاء من ناحية معان، فأخبره أن رسول الله (ص) قد كان غرض لعيره في بدايته، وأنه تركه مقيما ينتظر رجوع العير .. فخرج أبو يفيان ومن معه خائفين للرصد، ولما دنا أبو سفيان من الحجاز جعل يتحسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أمر الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان: أن محمدا قد استنفر لك ولعيرك، فحذر عند ذلك، واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري بعشرين مثقالا، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يجدع بعيره، ويحول رحله، ويشق قميصه من قبله ودبره إذا دخل مكة، يأتي قريشا ويستنصرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا (ص) قد عرض لها في أصحابه فخرج ضمضم سريعا إلى مكة، وفعل ما أمره به أبو سفيان) (¬1). ثانيا: الاستشارة التي غيرت وجه المعركة: 1 - (... وأتاه الخبر عن قريش بمسيرتهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس، ¬

(¬1) سبل الهدى والرشاد للصالحي 4/ 31، 32.

وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر ابن الخطاب فقال وأحسن .. ثم قال رسول الله (ص): ((أشيروا علي أيها الناس)) وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه العقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان رسول الله (ص) يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره ألا ممن دهمه من المدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله (ص) قال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: ((أجل)) قال: فقد آمنا بك صدقناك. وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك. فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسر رسول الله (ص) بقول سعد ونشطه ذلك، ثم قال: ((سيروا وابشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم)) (¬1). 2 - وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن رسول الله (ص) شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 615.

فأعرض فقال سعد بن عبادة: إيانا يريد رسول الله (ص)، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحار أخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادنا إلى برك الغماد لفعلنا) (¬1). 3 - وروى ابن مردويه أيضا عن طريق محمد بن عمر بن علقمة الليثي عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله (ص) إلى بدر حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال: ((كيف ترون؟)) فقال أبو بكر: يا رسول الله بلغنا أنهم بكذا وكذا. قال: ثم خطب الناس فقال: ((كيف ترون؟)) فقال عمر مثل قول أبي بكر. ثم خطب الناس فقال: ((كيف ترون؟)) فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله إيانا تريد؟ فوالذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ولا لي بها علم، ولئن سرت برك الغماد من ذي يمن لنسير معك ولا نكون كالذين قالوا لموسى: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} لكن اذهب أنت وربك فقاتلا! إنا معكما متبعون، ولعلك أن تكون خرجت لأمر، وأحدث الله لك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك فامض، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، فنزل القرآن على قول سعد: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وأن فريقا من المؤمنين لكارهون} الآيات .. وذكر الأموي في مغازيه وزاد بعد قوله، وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا ما شئت، وما أخذت كان أحب إلينا مما ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد 3/ 220.

ثالثا: استقصاء المعلومات عن العدو

تركت، وما أمرت فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لو سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك) (¬1). ... لقد تطور أمر الخروج إلى بدر من غنيمة القافلة إلى مواجهة قريش، وقد وصف القرآن الكريم فريقا من المؤمنين ببدر أنهم ابتداء، لم يكونوا يرغبون في الموجهة كما قال تعالى {... وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك بالحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} (¬2) وقد رأينا بعض الروايات التي تؤكد هذا المعنى. كما أن نفسية الجيش كله كانت ترغب بالقافلة دون المواجهة {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ..} (¬3) لكن الإرادة الربانية كانت حتمية اللقاء والمواجهة، وبقي التركيز النبوي على الأنصار ليعلنوا موقفهم، فكانت الاستشارة التي تعددت أكثر من مرة، وكانت تهدف الأنصار مباشرة، فكان جواب السعدين هو الذي غير الجو كله، وعبأ النفوس للقتال، وسر به عليه الصلاة والسلام حتى وعد المسلمين بالنصر، وكأنه ينظر إلى مصارع القوم. ثالثا: استقصاء المعلومات عن العدو: 1 - ثم نزل قريبا من بدر فركب هو ورجل من أصحابه (قال ابن هشام: الرجل هو أبو بكر الصديق) قال ابن إسحاق (ص): كما حدثني محمد بن ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 3/ 262،263. (¬2) الأنفال / من 5 و 6. (¬3) الأنفال / من الآية 7.

يحيى بن حبان، حتى وقف على رجل من العرب فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما. فقال رسول الله (ص) ((إذا أخبرتنا أخبرناك)) قال: أوذاك بذاك؟ قال: ((نعم)) قال الشيخ: فإنه قد بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا في يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به رسول الله (ص)، وبلغني أن قريشا خرجوا في يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به قريش .. فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله (ص): ((نحن من ماء)) ثم انصرف عنه، فقال الشيخ: ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟) (¬1). 2 - ثم رجع رسول الله (ص) إلى أصحابه، فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء ببدر يلتمسون الخبر له، فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج، وعريض أبو يسار غلام بني العاص بن سعيد، فأتوا بهما سألوهما ورسول الله (ص) قائم يصلي، فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، وأصحاب العير فضربوهما. فلما أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان ونحن من العير. فتركوهما وركع رسول الله (ص)، وسجد سجدتيه ثم سلم، وقال: ((إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله، إنهما لقريش .. أخباني عن قريش؟) قالا: هم والله وراء هذا الكثيب ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 616.

الذي ترى بالعدوة القصوى. فقال لهما رسول الله (ص): ((كم القوم؟)) قالا: كثير. قال: ((ما عدتهم؟)) قالا: لا ندري. قال: ((كم ينحرون كل يوم؟)) قالا: يوما تسعا ويوما عشرا. فقال رسول الله (ص): ((القوم فيما بين التسعمائة والألف)) ثم قال لهما: ((فمن فيهم من أشراف قريش؟)) قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن خزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمر بن عبدود، فأقبل رسول الله (ص) على الناس وقال: ((هذه مكة قد ألقت إليكم اليوم أفلاذ أكبادها))) (¬1). 3 - وكان بسبس بن عمرو، وعدي بن أبي الزعباء، قد مضيا حتى نزلا بدرا، فأناخا إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شنا لهما يستقيان فيه، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء، فسمع عدي وبسبس جاريتين من جوار الحاضر وهما تتلازمان على الماء والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غدا أو بعد غد، فأعمل لهم ثم أقضيك الذي لك. قال مجدي: صدقت. ثم خلص بينهما، وسمع بذلك عدي وبسبس، فجلسا على بعيريهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله (ص) فأخبراه بما سمعا (¬2). ... ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 617. (¬2) المصدر نفسه 617/ 1.

رابعا: من أحداث الغزوة

لقد تم استقصاء المعلومات، على أربعة مراحل: 1 - الأولى: عندما بعث طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد يتحسسان أخبار العير قبل خروجها من المدينة بعشر ليال وشهدا مرور العير من أرض جهينة. 2 - والمرحلة الثانية: حين بعث عدي بن الزعباء، وبسبس بن عمرو إلى ماء بدر، واستطاعا أن يحددا وقت وصول العير إلى بدر. 3 - والمرحلة الثالثة: حين أصبحت العير أمرا ثانويا أمام خروج قريش، حيث خرج عليه الصلاة والسلام بنفسه ومعه الصديق أبو بكر، وحددا الموقع الذي وصل إليه جيش قريش وذلك من خلال لقائهما مع الشيخ الأعرابي. 4 - والمرحلة الرابعة: حين بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه والنفر الذين معه فاستاقا الغلامين من قريش، وعرف منهما عدد جيش قريش وأخطر الشخصيات التي حضرت مع قريش والتي عبر عنها عليه الصلاة والسلام بقوله: ((هذه قريش قد ألقت إليكم بأفلاذ أكبادها)). وبذلك أصبحت الصورة كاملة لدى الرسول (ص) عن العدو، وموقعه، وعدده، وشخصياته. رابعا: من أحداث الغزوة: 1 - (كانت غداة يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان على رأس

ثمانية عشر شهرا من الهجرة) (¬1). 2 - عن البراء قال: (كنا أصحاب محمد (ص) نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، ولما يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر ثلاثمائة) (¬2). 3 - (سمعت ابن مسعود يقول: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به، أتى النبي (ص) وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، ولكننا نقاتل عن يمينك وعن شمالك، وبين يديك ومن خلفك، فرأيت النبي (ص) أشرق وجهه وسره) (¬3). 4 - عن ابن عباس قال: (قال النبي (ص) يوم بدر: ((اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد)) فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك، فخرج وهو يقول: ((سيهزم الجمع ويولون الدبر ..))) (¬4). 5 - عن ابن عباس (أن النبي (ص) قال يوم بدر: ((هذا جبريل آخذ برأس فرس عليه أداة الحرب))) (¬5). ¬

(¬1) شرح السنة للبغوي 13/ 376. (¬2) البخاري ك. المغازي 64 ب. عدة أصحاب بدر 6 و 5 ص 94. (¬3) البخاري المصدر السابق ب 4 {إذ تستغيثون ربكم} ص 92. (¬4) المصدر السابق ص 93. (¬5) المصدر السابق ب. شهود الملائكة بدرا 11 ص 103.

6 - عن ابن عباس قال: (حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله (ص) إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله (ص) القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني. اللهم آتني ما وعدتني. اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)) فما زال يهتف بربه، مادا يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فآتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا رسول الله كذاك (¬1) مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} فأمده الله بالملائكة. قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه، وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع. فجاء الأنصاري فحدث ذاك رسول الله فقال: ((صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة)) فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين) (¬2). 7 - عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده قال: (بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، نظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا ¬

(¬1) هكذا وقع لجاهير رواية مسلم لبعضهم كفاك. وكل بمعنى. (¬2) مسلم ك. الجهاد والسير 32 ب. غزوة بدر ح 1779 ص 1403 ج 3.

بغلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أصلح (¬1) منهما فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك يابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله (ص)، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا (¬2) فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس. فقلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني فابتدراه بسيفيهما، فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله (ص) فأخبراه، قال: ((أيكما قتله؟)) فقال كل واحد منهما أنا قلته، فقال: ((هل مسحتما سيفيكما؟)) قالا: لا. فنظر في السيف فقال: ((كلاكما قتله، سلبه لمعاذ بن عمرو ابن الجموح)) وكانا معاذ بن عفراء، ومعاذ بن الجموح) (¬3). 8 - (عن أبي طلحة أن نبي الله (ص) أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوي (¬4) من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم، أقام بالعرصة ثلاث ليال: فلما كان ببدر في اليوم الثالث، أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى، واتبعه أصحابه، وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شقة الركي (¬5) فجعل يناديهم بأسمائهم، وأسماء آبائهم، ((يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟! فإنا قد وجدنا ما وعدنا ¬

(¬1) الرواية في البخاري (أضلع) من الضلاعة وهي القوة. (¬2) الأعجل منا: الأقرب أجلا. (¬3) البخاري ك. 64 المغازي ب. 9 فضل من شهد بدرا ج 5 ص 100. (¬4) طوي: بئر. (¬5) الركي: البئر.

ربنا حقا؟)) قال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ قال النبي (ص): ((والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)). قال قتادة (أحياهم الله حتى أسمعهم له توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما) (¬1). 9 - وعن أبي أيوب الأنصاري (قال: قال رسول الله (ص) ونحن بالمدينة: ((إني أخبرت ونحن بالمدينة عن عير أبي سفيان أيها مقبلة، فهل لكم أن نخرج قبل هذا العير لعل الله يغنمناها؟)) قلنا: نعم. فخرج وخرجنا معه، فلما سرنا يوما أو يومين، قال لنا: ((ما ترون في القوم فإنهم أخبروا بمخرجكم؟)) فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو، ولكن أردنا العير. ثم قال: ((ما ترون في القوم؟)) فقلنا مثل ذلك. فقال المقداد بن عمرو: إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} فتمنينا معشر الأنصار أنا قلنا كما قال المقداد وأحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم فأنزل الله عز وجل على رسوله (ص): {... كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك بالحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} ثم أنزل الله عز وجل: {إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} وقال: {وإذ يعدكم الله إحدى ¬

(¬1) البخاري ك. المغازي 64 ب. قتل أبي جهل 8 ج 5 ص 97، 98.

الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} والشوكة: القوم، وغير ذات الشوكة: العير. فلما وعد الله إحدى الطائفتين إما القوم وإما العير طابت أنفسنا .. ثم إن رسول الله (ص) بعث ينظر ما قبل القوم فقال: رأيت سوادا ولا أدري، فقال رسول الله (ص): ((هم هم هلموا أن نتعاد)) فإذا نحن ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا. وأخبرنا رسول الله (ص) بعدتنا، ذلك وقال: عدة أصحاب طالوت. ثم إنا اجتمعنا مع القوم فصففنا. فبدرت منا بادر أمام الصف، فنظر رسول الله (ص) إليهم فقال: ((معي معي)) ثم إن رسول الله () قال: ((اللهم إني أنشدك وعدك)) فقال ابن رواحة: يا رسول الله إني أريد أن أشير عليك ورسول الله (ص) أعظم من أن نشير عليه. والله أعظم من أن ننشده وعده. فقال: ((يابن رواحة لأنشدن الله وعده، فإن الله لا يخلف وعده)) فأخذ قبضة من التراب فرمى بها رسول الله (ص) في وجوه القوم فانهزموا. فأنزل الله عز وجل: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ..} فقتلنا وأسرنا. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ما أرى أن يكون لك أسرى، فإنما نحن داعون مؤلفون فقلنا معشر الأنصار: إنما يحمل عمر على ما قال حسد لنا. فنام رسول الله (ص) ثم استيقظ فقال: ((ادعو لي عمر)) فدعي له فقال: ((إن الله عز وجل قد أنزل علي: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم} (¬1)))) (¬2). ¬

(¬1) الأنفال / 67. (¬2) مجمع الزوائد 6/ 74 وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن.

10 - وعن علي (¬1) قال: (لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها فا جتويناها (¬2) فأصابنا بها وعك (¬3)، فكان النبي (ص) يتخبر عن بدر، فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا سار رسول الله (ص) إلى بدر، وبدر بئر فسبقنا المشركون إليها، فوجدنا فيها رجلين منهم رجلا من قريش، ومولى لعقبة ابن أبي معيط، فأما القرشي فانفلت، وأما مولى عقبة فأخذناه، فجعلنا نقول له: كم القوم؟ فيقول: هم والله كثير عددهم شديد بأسهم، فجهد رسول الله (ص) أن يخبره فأبى. ثم إن النبي (سأله: ((كم ينحرون من الجزر؟)) فقال: عشر لكل يوم. فقال رسول الله (ص): ((القوم ألف كل جزر لمائة ونيفها)) ثم إنه أصابنا طش (¬4) من مطر فانطلقنا تحت الشجر والحجف (¬5) نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله (ص) يدعو ربه ويقول: ((اللهم إن تهلك هذه الفئة لا تعبد)) قال: فلما أن تطلع الفجر نادى: ((الصلاة عباد الله)). فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله (ص) وحض على القتال ثم قال: ((إن جمع قريش تحت هذه الضلع الحمراء من الجبل)). فلما دنا القوم وصافناهم إذا رجل منهم على جمل أحمر يسير في القوم فقال رسول الله (ص): ((يا علي ناد حمزة)) وكان أقربهم من المشركين من صاحب الجمل الأحمر، وماذا يقول لهم. ثم قال رسول الله (ص): ¬

(¬1) أي علي بن أبي طالب. (¬2) أي أصابهم الجوى وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول. (¬3) وعك: أذى الحمى ووجعها. (¬4) طش من مطر: الطش والطشيش: المطر الضعيف وهو فوق الرذاذ. (¬5) الحجف: التروس من جلود بلا خشب ولا عقب.

((إن يكن في القوم أحد يأمر بخير فعسى أن يكون صاحب الجمل الأحمر)) قال: هو عتبة بن ربيعة وهو ينهى عن القتال ويقول لهم: يا قوم إني أري قوما مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم؛ خير. يا قوم اعصبوها اليوم برأسي وقولوا: جبن عتبة بن ربيعة، ولقد علمتم أني لست بأجبنكم، فسمع ذلك أبو جهل فقال: أنت تقول ذلك، والله لو غيرك يقول لأعضضته، قد ملأت رئتك جوفك رعبا. فقال عتبة: إياي تعني يا مصفر استه. ستعلم اليوم أينا الجبان. قال: فبرز وأخوه شيبة وابنه الوليد حمية فقالوا: من يبارز. فخرج فتية من الأنصار ستة، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء، ولكن من يبارزنا من بني عمنا من بني المطلب فقال رسول الله (ص): ((قم يا علي، وقم يا حمزة، وقم يا عبيدة بن الحارث بن المطلب)) فقتل الله شيبة وعتبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة. وجرح عبيدة، فقتلنا منهم سبعين، وأسرنا سبعين. فجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيرا فقال العباس: يا رسول الله إن هذا والله ما أسرني. أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق ما أراه في القوم. فقال الأنصاري: أى أسرته يا رسول الله. قال: ((أسكت فقد أيدك الله بملك كريم)) قال من: فأسرنا من بني المطلب العباس وعقيلا ونوفل بن الحارث) (¬1). ... ¬

(¬1) مجمع الزوائد للهيثمي 75/ 6، 76 وقال الهيثمي: روى أبو داود طرفا منه. ورواه أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح غير حارثة بن مضرب وهو ثقة.

خامسا: أهمية الغزوة

خامسا: أهمية الغزوة: 1 - كانت كما سماها القرآن الكريم: يوم الفرقان. يقول ابن إسحاق في تفسير ما نزل في هذه الغزوة من سورة الأنفال: {.. وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير} أي يوم فرقت فيه بين الحق والباطل بقدرتي يوم التقى الجمعان منكم ومنهم {إذ أنتم بالعدوة الدنيا} من الوادي {وهم بالعدوة القصوى} من الودي إلى مكة {والركب أسفل منكم} أي عير أبي سفيان التي خرجتم لتأخذوها وخرجوا ليمنعوها على غير ميعاد منكم ولا منهم {ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد} أي ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم ثم بلغهم كثرة عددهم وقلة عددكم ما لقيتموهم {ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا} أي ليقضي ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الكفر وأهله من غير بلاء منكم ففعل ما أراد من ذلك بلطفه ثم قال (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حييى عن بينة وإن الله لسميع عليم} أي ليكفر من كفر بعد الحجة لما رأى من الآية والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك) (¬1). 2 - ويحدثنا سيد رحمه الله تعالى عن هذا الفرقان فيقول: (أ) (... وكانت فرقانا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية: عهد المصابرة والصبر والتجمع والانتظار وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع، والإسلام بوصفه تصورا جديدا للحياة، ومنهجا جديدا للوجود الإنساني؛ ونظاما جديدا للمجتمع، وشكلا جديدا للدولة، بوصفه ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 672، 673.

إعلانا عاما لتحرير الإنسان في الأرض بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته، ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته وحاكميته، الإسلام بوصفه هذا لم يكن له بد من القوة والحركة والمبادأة والاندفاع لأنه لم يكن يملك أن يقف كامنا منتظرا على طول الأمد، لم يكن يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه، تتمثل في شعائر تعبدية لله، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم، ولم يكن له بد أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد والمنهج الجديد، والدولة الجديدة، والمجتمع الجديد، في واقع الحياة، وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تكبتها وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في حياة المسلمين أولا، ثم في حياة البشرية أخيرا .. وهي لهذا التطبيق الواقعي جاءت من عند الله. (ب) وكانت فرقانا بين عهدين من تاريخ البشرية. فالبشرية بمجموعها قبل النظام الإسلامي هي غير البشرية بمجموعها بعد قيام هذا النظام. هذا التصور الجديد الذي انبثق منه هذا النظام، وهذا النظام الجديد الذي انبثق منه هذا التصور، وهذا المجتمع الوليد الذي يمثل ميلادا جديدا للإنسان. وهذه القيم التي تقوم عليها الحياة كلها، ويقوم عليها النظام الاجتماعي، والتشريع القانوني على السواء، هذا كله لم يعد ملكا للمسلمين وحدهم منذ غزوة بدر، وتوكيد وجود المجتمع الجديد، إنما صار - شيئا فشيئا - ملكا للبشرية كلها، تأثرت به سواء في دار الإسلام أو خارجها، سواء بصداقة الإسلام أم بعداوته! والصليبيون الذين زحفوا من الغرب ليحاربوا الإسلام، ويقضوا عليه في ربوعه، قد تأثروا بتقاليد هذا المجتمع الإسلامي الذين جاؤوا ليحطموه، وعادوا إلى بلادهم ليحطموا النظام الإقطاعي الذي كان سائدا عندهم. بعدما شاهدوا بقايا النظام الاجتماعي الإسلامي!

والتتار الذين زحفوا من الشرق ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه - بإيحاء من اليهود والصليبيين من أهل دار الإسلام - قد تأثروا بالعقيدة الإسلامية في النهاية، وحملوها لينشروها في رقعة من الأرض جديدة، وليقيموا عليها خلافة ظلت من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين في أوربا .. وعلى أية حال فالتاريخ البشري كله - منذ وقعة بدر - متأثر بهذا الفرقان في أرض الإسلام، أو في الأرض التي تناهض الإسلام على السواء. (ج) وكانت فرقانا بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة، فجرت - وكل عوامل النصر الظاهرية - في صف المشركين، وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة، حتى لقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: غر هؤلاء دينهم .. وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو، وهي المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة - لتكون فرقانا بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر والهزيمة ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد، فتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية، لا لمجرد السلاح والعتاد، وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية، لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة، وأن هذا ليس كلاما يقال، إنما هو واقع متحقق للعيان ..) (¬1). ¬

(¬1) في ظلال القرآن، المجلد الثالث ص 1521، 1524.

3 - وكانت فرقانا بين الحق والباطل، على مستوى الكون كله؛ فالباطل يحشد جنده كلهم، وعلى رأسه إبليس الذي جاء بشخصه ليحضر المعركة. {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم} قال ابن إسحاق: وحدثني بزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال: (لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي كان بينها وبين بني بكر، فكاد ذلك يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقه بن مالك بن جعشم المدلجي. من أشراف بني كنانة. فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. فخرجوا سراعا) (¬1). وليؤكد لهم هذا الموقف فقد حضر معهم المعركة، كما فعل يوم الهجرة (ولما رأى إبليس ما تفعل الملائكة بالمشركين أشفق أن يخلص القتل إليه، فتشبث به الحارث بن هشام، وهو يظن أنه سراقة بن مالك، فوكز في صدر الحارث فألقاه ثم خرج هاربا حتى ألقى بنفسه في البحر فرفع يديه فقال: اللهم إني أسالك نظرتك إياي، وخاف أن يخلص إليه القتل) (¬2). وفرعون هذه الأمة يقول: (يا معشر الناس لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه كان على ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 611 ويزيد بن رومان ثقة وعروة بن الزبير ثقة فقيه مشهور. (¬2) مجمعالزوائد للهيثمي 77/ 6 رواه الطبراني. وقال الهيثمي فيه عبد العزيز بن عمران، وهو ضعيف.

ميعاد مع محمد، لا يهولنكم قتل عتبة وشيبة ابني ربيعة فإنهم قد عجلوا. فواللات والعزى لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال، فلا ألفين رجلا قتل رجلا منهم، ولكن خذوهم أخذا حتى تعرفوهم سوء صنيعهم من مفارقتهم إيكم، ورغبتهم عن اللات والعزى) (¬1). بينما نلحظ في الطرف الآخر أن الله تعالى هو الذي يقود المعركة وما عرف تاريخ الأرض معركة يشارك فيها الملائكة بالقتل مثل بدر. {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم قثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب} (¬2). ومعركة على رأسها إبليس وأبو جهل من طرف، وجبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام من طرف آخر هل يمكن أن يكون في الوجود كله أخطر منها؟ ومن أجل هذا قيل أن أفخر بيت قالته العرب هو هذا البيت: وبيوم بدر إذ ترد وجوههم ... جبهل تحت لوائنا ومحمد (¬3) ¬

(¬1) المصدر السابق 77/ 6. (¬2) الأنفال /12. (¬3) ذكره صاحب العقد الفريد، وغيره أنه أفخر بيت قالته العرب هو قول حسان بن ثابت المذكور. البداية والنهاية 3/ 307. وله رواية: وببئر بدر إذ يكف مطيهم.

والله تعالى شأنه يقول: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم} (¬1). ولم يشارك جبريل فقط في المعركة بل شارك سادات الملائكة معه: (فعن علي بن أبي طالب قال: كنت على بئر، فكنت يوم بدر أميح وأمتح منه فجاءت ريح شديدة ثم جاءت ريح شديدة فلم أر ريحا أشد منها إلا التي كانت قبلها ثم جاءت ريح شديدة. فكانت الأولى ميكائيل في ألف من الملائكة عن يمين النبي (ص)، والثانية إسرافيل في ألف من الملائكة عن يسار النبي (ص)، والثالثة جبريل في ألف من الملائكة، وكان أبو بكر عن يمينه، وكنت عن يسار، فلما هزم الكفار حملني رسول الله (ص) على فرسه، فلما استويت عليه حمل بي فصرت على عنقه (عنق الفرس) فدعوت الله فثبتني عليه، فطعنت برمحي حتى بلغ الدم إبطي (¬2). وهذا منطوق الآية القرآنية: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوكم به وما النصر إلا من عند الله ¬

(¬1) الأنفال /17. (¬2) مجمع الزوائد للهيثمي 77/ 6، وقال الهيثمي: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.

العزيز الحكيم} (¬1). وتبدو في ما كان يريد الباطل أن يصل إليه: ((اللهم إن تهلك هذه العصابة فإن شئت لا تعبد في الأرض)). (والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجزر ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، وبمسيرنا وجعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها فامضوا) (¬2). ((اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم احنهم الغداة)) (¬3). وأبو جهل فرعون الأمة يزعم أنه يمثل الحق، ويستفتح بالله أن ينصر على محمد (ص): (اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة) (¬4). وعندما عرض المدد على قريش من خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري، فأرسلوا إليه (أن وصلتك رحم فقد قضيت الذي عليك فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نفاتل الله كما يزعم محمد، فما لأحد بالله من طاقة) (¬5). ¬

(¬1) آل عمران 124 - 126. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 618، 619. (¬3) المصدر نفسه 621/ 1، وقد رواه النسائي والحكم ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (¬4) المصدر نفسه 628/ 1. وقد رواه ابن إسحاق من الزهري (ثقة). عن عبد الله بن ثعلبة (من صغار الصحابة). (¬5) المصدر نفسه 621/ 1.

واستجيب دعاء فرعون الأمة، فكانت الدائرة عليه: {إن تسفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) (¬1). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (أدركت أبا جهل يوم بدر صريعا، فقلت: أي عدو الله قد أخزاك الله تعالى. قال: وبم أخزاني وهل أعمد من رجل قلتموه، ومعي سيف لي فجعلت أضربه ولا يحتك فيه شيء، ومعه سيف له جيد، فضربت يده قوقع السيف من يده، فأخذته ثم كشفت المغفر عن رأسه فضربت عنقه، ثم أتيت النبي (ص) فأخبرته فقال: ((الله الذي لا إله إلا هو)) قلت: آلله الذي لا إله إلا هو. قال: ((انطلق فاستثبت)) فانطلقت وأنا أسعى مثل الطائر، ثم جئت وأنا أسعى مثل الطائر أضحك، فأخبرته. فقال رسول الله (ص): ((انطلق)) فانطلقت معه، فأريته. فلما وقف عليه (ص) قال: ((هذا فرعون هذه الأمة)) (¬2). وصدق أبو جهل وهو كذوب .. فما لأحد بالله من طاقة. وهكذا كانت نهاية الطرف الأول إبليس يفر إلى البحر خوفا ورعبا ويسأل الله النظرة وأبو جهل فرعون هذه الأمة يقتله غلامان من الأنصار، ويقطع عنقه رويعي الغنم عبد الله بن مسعود. ¬

(¬1) الأنفال 19. (¬2) مجمع الزوائد للهيثمي 79/ 6 وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن أبي وهب بن أبي كريمة وهو ثقة.

سادسا: آثارها

سادسا: آثارها: ففي عالم الأرض العربية، نلحظ آثارها بالنسبة للدعوة ولقريش، ولموقف المسلمين بالمدينة ولليهود. (أ) أما أثرها بالنسبة للدعوة فقد انضمت أعداد جديدة للإسلام في المدينة وبعض شخصيات مكة. وحتى بدر فقد كان عبد الله بن أبي يقود معسكر الكفار في المدينة، أما بعد نصر بدر، فقد اتجه إلى الإسلام أعداد من المنافقين أسلموا وحسن إسلامهم، وذاك عمير بن وهب شيطان قريش يدخل الإسلام، ويمضي إلى مكة ليعلن إسلامه على الملأ، وذلك أبو عزيز بن عمير، صاحب لواء المشركين يدخل الإسلام وقد بهره خلق المسلمين في تعاملهم معه. (والسائب بن عبيد أسلم يوم بدر كما نقله الأئمة عن القاضي أبي الطيب الطبري والوليد بن الوليد بن المغيرة افتكه أخواه هشام وخالد، فلما افتدي أسلم. فعاتبوه في ذلك فقال: كرهت أن يظن بي أني جزعت من الأمر ولما أسلم حبسه أخواله) (¬1). (ب) وأثرها بالنسبة لقريش فقد هشمت كبرياؤها وقتل جل قياداتها، وخيرة أبنائها وشبابها، وفاتها المركز الضخم الذي كانت تطمح إليه بين العرب، وبدت هذه الآثار فيما كان يريد الباطل أن يصل إليه. وقد كبت الباطل أيما كبت وحاولت قريش أن نتجلد للمصيبة، ¬

(¬1) سبل الهدى والرشاد للصالحي 4/ 119.

ومنعت النوح على قتلاها، ولعل هذه الحادثة تبرز الوضع النفسي المحطم الذي آلت إليه قريش. قال ابن إسحاق (وكان الأسود بن عبد المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده زمعة بن الأسود، وعقيل بن الأسود والحارث بن زمعة، وكان يحب أن يبكي على بنيه، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلام له وقد ذهب بصره: انظر هل أحل النحيب، هل بكت قريشا على قتلاها لعلي أبكي على أبي حكيمة (يعني زمعة) فإن جوفي قد احترق، فلما رجع إليه الغلام قال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها قد أضلته. قال: فذاك حين يقول له الأسود: أتبكي أن يضل لها بعير ... ويمنعها من النوم السهود فلا تبكي على بكر ولكن ... على بدر تقاصرت الجدود على بدر سراة بني هصيص ... ومخزوم ورهط أبي الوليد وبكى إن بكيت على عقيل ... وبكى حارثا أسد الأسود وبكيهم ولا تسمي جميعا ... وما لأبي حكيمة من نديد ألا قد ساد بعدهم رجال ... ولولا يوم بدر لم يسودوا) (¬1) (ج) أما موقف المسلمين في المدينة، فقد تعزز وأصبحوا سادة المنطقة كلها، ويكفي أن قيادات قريش التي كانت تود أن تئد الإسلام والمسلمين، كانت تفد إلى المدينة. وسيماء الذل على وجهها تريد أن تفدي أسراها ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 648/ 1.

السبعين من خيرة شبابها كذلك أما المنافقون الذين كانوا يتربصون بالمسلمين شرا، فنستطيع أن نشهد موقفهم من خلال هذه الحادثة: (.. وقدم زيد بن حارثة على ناقة رسول الله (ص) .. يبشر أهل السافلة، فلما أن جاء المصلى صاح على راحلته، قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة. ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وقتل أبو جهل، وأبو البختري، وزمعة بن الأسود، وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثير، فجعل بعض الناس لا يصدقون زيد بن حارثة ويقولون: ما جاء زيد إلا فلا (¬1) حتى غاظ ذلك المسلمين وخافوا. قال أسامة (ابن زيد) فسمعت الهيعة فخرجت فإذا زيد على العضباء جاء بالبشارة فوالله ما صدقته حتى رأيت الأسرى. وقدم زيد حين سووا على رقية بن رسول الله (ص) التراب بالبقيع، فقال رجل من المنافقين لأبي لبابة بن عبد المنذر: قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون بعده أبدا، وقد قتل علية أصحابه، وقتل محمد، وهذه ناقته نعرفها وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، وجاء فلا، قال أبو لبابة: يكذب الله تعالى قولك، وقال اليهود: ما جاء إلا فلا. قال أسامة بن زيد: فجئت حتى خلوت بأبي. فقلت: يا أبه، أحق ما تقول؟: قال أي والله حق ما أقول يا بني، فقويت في نفسي، ورجعت إلى ذلك المنافق فقلت: أنت المرجف برسول الله (ص) وبالمسلمين، لنقدمنك إلى رسول الله (ص) إذا قدم فليضربن عنقك. فقال: يا أبا محمد: إنما هو شيء سمعته من الناس يقولونه) (¬2). ¬

(¬1) فلا: هاربا. (¬2) دلائل النبوة للبيهقي 3/ 132، 133.

وامتد انتصار المسلمين وأصدقاؤهم في كل الأرض العربية وغير العربية حتى وصل إلى النجاشي في الحبشة، كما روى البيهقي عن عبد الرحمن رجل من أهل صنعاء قال: أرسل النجاشي ذات يوم إلى جعفر ابن أبي طالب وأصحابه فدخلوا عليه وهو في بيت عليه خلقان (¬1) جالس على التراب. قال جعفر بن أبي طالب فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحالة، فلما أن رأى ما في وجوهنا قال: إني أبشركم بما يسركم، إنه قد جاءني من نحو أرضكم عين لي، فأخبرني أن الله تعالى قد نصر نبيه (ص)، وأهلك عدوه فلان وفلان، التقوا بواد يقال له بدر، كثير الأراك .. فقال له جعفر ما بالك جالس على التراب ليس تحتك بساط وعليك هذه الأخلاق من الثياب؟ قال: إنا نجد فيما أنزل الله تعالى على عيسى (ص) أن حقا على عباد الله تعالى أن يحدثوا الله عز وجل توضعا عندما يحدث لهم نعمة، فلما أحدث الله تعالى نصر نبيه (ص)، أحدثت له هذا التواضع) (¬2). (د) أما أثرها بالنسبة لليهود في المدينة، فقد غلى مرجل الحقد في قلوبهم، وأصبحوا يشعرون بخطورة الإسلام والمسلمين عليهم، وحرص النبي عليه الصلاة والسلام أن يستثمر هذا النصر لصالح الدعوة خاصة مع اليهود الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. والذين يعلمون أنه مرسل بالحق من عند الله، فجمع بني قينقاع كما ذكر ابن إسحاق (بسوق لهم قال: ((يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، ¬

(¬1) خلقان: ثياب خلقة قديمة. (¬2) دلائل النبوة للبيهقي 133/ 3، 134.

وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم)) قالوا: يا محمد، إنك ترى أنا قومك؟! لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس ..) (¬1). فقد أصبحوا حريصين على المواجهة مع الإسلام، يخشون امتداده، وعرفوا أن الانتصار الذي تم على المشركين في بدر يجعل القضية بينهم وبين محمد قضية حياة أو موت، فإما وجودهم وإما وجوده، ومن أجل ذلك واجهوا الرسول (ص) وتحدوا القوة الإسلامية وردوا بصلافة على دعوتهم للإسلام، وقالوا: والله لئن حاربتنا لتعلم أنا نحن الناس. وكان أن وقعت غزوة قينقاع، وثلت عرشهم بعد بدر، وتجلى مدى ارتباط معسكر المنافقين باليهود من خلال المعركة، وأجواء بدر هي التي قادت إلى هذه المواجهة. (هـ) وأثرها بالنسبة للعرب كافة، شعر العرب أن القوة الإسلامية مرهوبة الجانب، قوية الشكيمة، لا يمكن أن تتجاهل أو تواجه، فأقلقت القبائل المحاورة، وحاولت أن تفعل كفعل يهود، فتقوم بالتجمعات لتهاجم المدينة، غير أن القيادة النبوية كانت بالمرصاد وما الغزوات التي قامت عقب بدر مباشرة وهي غزوة بني سليم بالكدر بعد بدر بسبع ليال، وغزوة ذي أمر، وغزوة الفرع من بحران إلا محافظة على القوة الإسلامية الفتية أمام غطفان وقريش وسليم. ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 47/ 2.

كانت بدر من حيث آثارها الخطيرة ظاهرة أرضية، وظاهرة كونية شارك بها الإنس والجن والملائكة. ففي عالم الأرض وعالم البشر نذكر أن سورة الروم عندما نزلت كانت تمثل آمال وطموحات عشرات المسلمين في مكة أن ينتصر الروم أهل الكتاب في الأرض على الفرس الوثنيين في الأرض، حيث كان الفرس والروم يقتسمون الأرض آنذاك، وكان هؤلاء العشرات من المسلمين، والمئات من المشركين غفلا في التاريخ وأحداثه يتفرجون على صناعة الكبار في الأرض، ونذكر كيف تم الرهان بين أبي بكر رضي الله عنه وأبي بن خلف (¬1) على نصر الروم بعد بضع سنوت {ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (¬2). 1 - وتحقق موعود الله جل شأنه، فانتصر الروم بعد تسع سنين من هزيمتهم أمام الفرس، وفرح المؤمنون بنصر الله، وكان وعد الله الذي لا يخلف، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .. هذا هو المدى الأقرب للآيات. أما المدى الأعمق، فكان أكبر وأضخم من تاريخ البشرية. لقد فرح المؤمنون بنصر الله يوم بدر، ويوم نصرهم جاءت أخبار انتصار ¬

(¬1) روى الحادثة الترمذي والنسائي. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، ج 5 ك. التفسير ح 3193 و3194. (¬2) الروم 1 - 6.

الروم على الفرس (¬1). لقد جاء خبر انتصار الروم هامشيا وثانويا أمام انتصار بدر، وكان فرح المؤمنين بنصر الله في بدر هو المدلول الأعمق للآية الكريمة. ولم يكن يدور بخلد عشرات المؤمنين في الأرض، والآيات تتنزل في مكة، أنهم هم المعنون في النصر، وأنهم هم صناع الأحداث، وأن الروم والفرس غدوا على هامش التاريخ بعد أن أنزل الله تعالى ملائكته لنصر المؤمنين في بدر، وكان وعد الله الذي لا يخلف هو نصر محمد وحزبه لا نصر الروم فقط. ولكن أكثر الناس لا يعلمون، حتى المؤمنون لا يحيطون بعلم الله عز وجل. وماذا يعد لهم من نصر، وماذا يعد بهم من حسم. {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} (¬2). فالمسلمون قبل بدر بأيام قلائل لم يكونوا يعلمون أنهم المعنون بنصر الله ينصر من يشاء وعد الله لا يخلف الله وعده، ورسول الله سيد الخلق كان يلح على ربه بالنصر حتى ليسقط رداؤه عن كتفيه، ويخشى ¬

(¬1) في الحديث السابق الذي رواه الترمذي عن ابن عباس، قول سفيان الثوري: سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر. (¬2) الأنفال 5 - 8.

أن تكون هذه المعركة نهاية العصبة المؤمنة في الأرض ((اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض)). لقد كان الرهان في عالم الأرض على افتتاح التاريخ بهذا النصر من أي من الفريقين، فقد كانت مطامح أبي جهل أن يكون مقود العرب بيده بعد بدر، ولا تزال العرب تهابه أبدا، وإذا بنصر الله يتنزل فتنقلب الموازين، ويتأرجح التاريخ، ويصبح مقوده بيد المسلمين، ومنذ ذلك الوقت لم يعودوا على هامش الأحداث يأملون ويدعون كما كانوا أيام انتصار الفرس على الروم، بل صاروا صناع أحداثه في بدر وبعدها. وجاء هذا النصر من الحسم ومن الضخامة بحيث اجتث الباطل من جذوره، فقد سقط قادة الكفر صرعى في هذه المعركة، وهم يحملون عبء الحرب ضد الدعوة خمسة عشر عاما أو تزيد، إنه جيل قادة كامل سقط على الساحة صريعا بين يدي هذه العصبة المؤمنة، أبو جهل بن هشام المخزومي، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة العبشميان، وأمية بن خلف الجمحي، وتبعهم بعدها النضر بن الحارث العبدري، وعقبة بن أبي معيط الأموي، وأبو لهب الهاشمي، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان. وقد عدد المقريزي أعداء رسول الله (ص) الكبار في إمتاع الأسماع فكانوا سبعة وعشرين رجلا قتل منهم في بدر وبعدها بقليل قرابة العشرين. (وعن أبي طلحة أن نبي الله (ص) أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث). وكان من فضل الله تعالى على المؤمنين أن سقط بعض هؤلاء الأبطال صرعى بيد الفتيان الشباب من الأنصار، مثل مقتل أبي جهل وأمية بن خلف على يد المستضعفين من المسلمين أمثال بلال وعبد الله بن مسعود تحقيقا

لموعود الله عز وجل. {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} (¬1). أما الجيل الجديد من القادة، والذي نجا يوح بدر، فمعظمه كتب الله تعالى له الهداية فيما بعد. 2 - وكما كانت بدر عرسا في عالم الأرض، كذلك كانت في عالم الجن. (فقد ذكر قاسم بن ثابت في الدلائل أن قريشا حين توجهت إلى بدر مر هاتف من الجن على مكة في اليوم الذي أوقع بهم المسلمون، وهو ينشد بأنفذ صوت، ولا يرى شخصه. أزار الحنيفيون بدرا وقيعة ... سينقض منها ركن كسرى وقيصرا أبادت رجالا من لؤي وأبرزت ... خرائد يضربن الترائب حسرا (¬2) فيا ويح من أمسى عدو محمد ... لقد جار عن قصد الهدى وتحيرا) (¬3) لقد أدرك المؤمنون من الجن أبعاد هذه المعركة، وأنها ستطيح بعرش كسرى وقيصر، وبمقدار ما كان العرس في عالم الجن من المؤمنين، بمقدار ما كان المأتم والوبل والثبور عند كفار الجن وشياطينهم. ¬

(¬1) القصص 5، 6. (¬2) أي يبرز نساء مكة يضربن صدورهن ويحسرن عن شعورهن ونحورهن بكاة على قلاهن. (¬3) الروض الأنف للسهيلي 78/ 3.

فقد حدثنا رسول الله (ص) عن خزي إبليس يوم بدر فقال: ((ما رؤي الشيطان يوما أصغر ولا أدحر ولا أحقر، ولا أغيظ منه يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى فيه من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما رآه يوم بدر، فإنه رأى جبربل عليه السلام يزغ الملائكة)) (¬1). لقد اندحر الشيطان وحزبه من الإنس والجن يوم بدر، وكانت الهزيمة الساحقة للشياطين في الأرض والكفار من الجن أشد هولا وأقسى مرارة منها على كفار قريش بشهادة رسول الله (ص) - كما علمه ربه -فهي أقسى هزيمة لإبليس على مدار تاريخه منذ خلقه الله تعالى إلى يوم يبعثون، فهو في أشنع هزائمه كل عام يوم عرفة حين تحبط كل مخططاته، ويغفر الله تعالى لأهل عرفة، ولكن هذا كله يهون عن هزيمة بدر حيث خطط لنصر حلفائه فسقط معهم. 3 - وهي كذلك على مستوى الخلائق كافة، يوم يحشر الناس إلى الرحمن يوم القيامة. (فعن علي بن أبي طالب أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن عز وجل في الخصومة يوم القيامة. قال قيس: وفيهم نزلت: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} قال هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن ¬

(¬1) رواه مالك مرسلا والبيهقي.

عتبة) (¬1). (وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية {هذان خصمان اختصموا في ربهم} نزلت في حمزة وصاحبه، وعتبه وصاحبه يوم برزوا في بدر) (¬2). إن القرآن الكريم حين يعرض هذين الخصمين، اللذين يمثلان الحق والباطل في هذا الوجود، ليكون أضخم من يمثلهما يوم بدر فريق المؤمنين وفريق الكافرين علي وصحبه، وعتبة وصحبه. {هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أردوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد} (¬3). 4 - ومضى أهل بدر قادة في الأرض، وقادة في السماء. ففي الأرض: (ولعل الله اطلع على أهل بدر يوم بدر، فقال: ¬

(¬1) و (¬2) البخاري ك. التفسير 65 سورة الحج م 2 ج 6 ص 122. (¬3) الحج 19 - 24.

اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو قد غفرت لكم) (¬1). وفي السماء: (جاء جبريل إلى النبي (ص) فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: ((من أفضل المسلمين)) أو كلمة نحوها. قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة) (¬2). ... ¬

(¬1) البخاري ك. 64 ب. 9 م 2 و 5 ص 99. (¬2) البخاري ك. 64 ب. 11 م 2 ج 5 ص 103.

الفصل الثالث والعشرون غزوة أحد

الفصل الثالث والعشرون غزوة أحد أسباب الغزوة: قال ابن إسحاق: (لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره، مشى عبد الله بن أبي رييعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخونهم يوم بدر فكلموا أبا سفيان بن حرب، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، فلعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منا ففعلوا) (¬1). وقال البلاذري: بل مشى أبو سفيان إلى هؤلاء الذين سموا فباعوها، وكانت ألف بعير وخمسين ألف دينار. فسلموإ إلى أهل العير رؤوس أموالهم، ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 60. وقد روى ابن إسحاق أخبار أحد عن الزهري (فقيه حافظ متفق على جلالته) وعن محمد بن يحيى بن حبان (فقيه ثقة) وعن عاصم بن عمرة بن قتادة (ثقة عالم بالمغازي) وعن الحصين بن عبد الرحمن (مقبول) فكل رواته ثقات إلا ابن عبد الرحمن. والأحاديث كلها مراسيل.

وخرجوا أرباحهم، وكان يربحون في تجارتهم لكل دينار دينار. فأخرجوا خمسة وعشرين ألف دينار لأجل مسيرتهم إلى حرب رسول الله (ص) فأنزل الله تبارك وتعالى: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسيفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون} (¬1). فأجمعت قريش لحرب رسول الله (ص). وبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبعري (وأسلما بعد ذلك) وهبيرة بن أبي وهب، ومسافع بن عبد مناف، وأبا عزة الجمحي - الذي من عليه رسول الله (ص) يوم بدر - فألبوا العرب وجمعوها ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم (وأسلم بعد ذلك) فأخذ يؤلب على رسول الله (ص) ويجمع الجموع، فجمع قريبا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش فيهم سبعمائة دارع ومائة فارس، وكتب العباس رضي الله عنه إلى رسول الله (ص) يعلمه بذلك مع رجل من بني غفار فقدم عليه وهو بقباء، فقرأه عليه أبي بن كعب، واستكتم أبيا، ونزل (ص) على سعد بن الربيع فأخبره بكتاب العباس فقال: والله إني لأرجو أن يكون خيرا) (¬2). واضح إذن أن السبب الرئيسي للغزوة هو الأخذ بثأر بدر، وكما حدد القرآن الكريم بالضبط {ليصدوا عن سبيل الله} وقد ألب أبو سفيان قبائل العرب المحالفة لقريش، فقاد جيشا قوامه ثلاثة أضعاف جيش بدر. وعرفت قريش أنها وحدها لا طاقة لها بمحمد وأصحابه، فلجأت إلى التعبئة العربية ¬

(¬1) الأنفال 36. (¬2) سبل الهدى والرشاد للصالحي 4/ 272.

أحداث الغزوة

لإنهاء الإسلام ونبيه من الوجود، {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}. أحداث الغزوة: 1 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أرى عن النبي (ص) قال: ((رأيت في رؤياي أني هززت سيفا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان. فإذا هو ما جاء به الله من الفتح، واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها بقرا والله خير. فإذا هم المؤمنون يوم أحد)) (¬1). 2 - وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله (ص) قال: ((رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت بقرا تنحر فأولت أن الدرع الحصية المدينة، وأن البقر نقر والله خير)) فقال لأصحابه: ((لو أنا أقمنا بالمدينة فإن دخلوا علينا فيها قاتلناهم)) فقالوا: والله يا رسول الله ما دخل علينا فيها في الجاهلية، فكيف يدخل علينا فيها في الإسلام؟ فقال: ((شأنكم إذن)) فلبس لأمته (¬2) قال: فقالت الأنصار: رددنا على رسول الله (ص) رأيه. فجاؤا فقالوا: يا نبي الله شأنك إذا. فقال: ((إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل))) (¬3). ¬

(¬1) البخاري ك. المغازي 64 ب. من قتل من المسلمين يوم أحد 26 ج 6 ص 131. (¬2) لأمة الحرب: عدة القتال أو الدرع. (¬3) مجمع الزوائد للهيثمي، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح 6/ 107.

3 - (... وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة .. فخرج رسول الله (ص) في ألف من أصحابه، حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد، انخزل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس وقال: أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب واتبعهم عبد الله بن حرام أخو بني سلمة يقول: ((أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من غدوهم ي فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكننا لا نرى أنه يكون قتال ..) (¬1). وعن زيد بن ثابت قال: (لما خرج النبي (ص) إلى أحد، رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي (ص) فرقتين، فرقة تقول: نقاتلهم، وفرقة تقول: لا نقاتلهم .. فنزلت: {فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ..} (¬2)) (¬3). 4 - (عن جابر رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما} (¬4) بني سلمة وبني حارثة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: {والله وليهما}) (¬5). ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 63. (¬2) النساء 88. (¬3) شرح السننة للبغوي 13/ 388 وقال: حديث متفق على صحته. (¬4) آل عمران 122. (¬5) البخاري ك. المغازي 64 ب. إذا همت طائفتان 18 ج 5 ص 123.

5 - عن البراء رضي الله عنه قال: (لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبي (ص) جيشا من الرماة وأمر عليهم عبد الله (بن جبير) وقال: ((لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم لا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا))، فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتدون في الجبل، رفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة!! فقال عبد الله: عهد إلي النبي (ص) أن لا تبرحوا. فأبوا: فلما صرف وجوههم، فأصيب سبعون قتيلا، وأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال: ((لا تجيبوه))، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: ((لا تجيبوه))، قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يخزيك. قال أبو سفيان: أعل هبل. فقال النبي (ص): ((أجيبوا)) قالوا: ما نقول؟ قال: ((قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم)) قال أبو سفيان: الحرب سجال: يوم بيوم بدر. وتجدون مثلة لم آمر بها) (¬1). 6 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما كان يوم أحد هزم المشركون فصرخ إبليس: أي عباد الله أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة، فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أي عباد الله أبي!! قالت: فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغقر الله لكم) قال عروة: فوالله ما زالت في حذيفة بقية من خير) (¬2). ¬

(¬1) البخاري ك. المغازي 64 ب. غزوة أحد 17 ج 5 ص 120، 121. (¬2) المصدر السابق ب إذا همت ص 125.

وعن أبي إسحاق قال: (سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما يقول: جعل النبي (ص) على الرجالة يوم أحد، عبد الله بن جبير، وأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم) (¬1). قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد (¬2) .. عن الزبير قال: (والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم (¬3) هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه، وخلوا ظهورنا للجبل فأتينا من خلفنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمدا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنوا منه أحد من القوم) (¬4). 7 - عن أنس قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي (ص) وأبو طلحة بين يدي النبي (ص) مجوب عليه بحجفة له، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل، فيقول: انثرها لأبي طلحة، فأشرق النبي (ص) ينظر إلى القوم فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك، ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان (¬5) القرب على متونهما تفرغانه ¬

(¬1) المصدر السابق ص 126 ب. إذا تصعدون. (¬2) رواه ابن اسحاق عن يحيى بن عباد (ثقة) عن عباد بن عبد الله بن الزبير (ثقة). (¬3) خدم هند: خلاخل هند. (¬4) السيرة النبوية لابن هشام 77/ 2، 78. (¬5) تنقزان: تحملان.

في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم، ولقد وقع السيف من أبي طلحة مرتين أو ثلاثا) (¬1). 8 - وعن جابر قال: انهزم الناس عن رسول الله (ص) يوم أحد وبقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار، وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد في الجبل، فلحقهم المشركون فقال: ((من لهؤلاء؟)) فقال طلحة: أنا يا رسول الله. فقال: ((كما أنت يا طلحة)) فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله. فقاتل عنه، وصعد رسول الله (ص) ومن بقي معه، ثم قتل الأنصاري، فلحقوه، فقال: ((ألا رجل لهؤلاء؟)) فقال طلحة مثل قوله. فقال رسول الله (ص) مثل قوله. فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله (ص) فقاتل وأصحابه يصعدون، ثم قتل فلحقوه، فلم يزل يقول مثل قوله الأول، ويقول طلحة: أنا يا رسول الله، فيحبسه، فيسأذنه رجل من الأنصار للقتال فيأذن له. فيقاتل مثل ما كان قبله. حتى لم يبق معه إلا طلحة فغشوهما. فقال رسول الله (ص): ((من لهؤلاء؟)) فقال طلحة: أنا. فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله، وأصيبت أنامله. فقال: حس. فقال: ((لو قلت بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك حتى تلج في جو السماء)) ثم صعد رسول الله (ص) إلى أصحابه وهم مجتمعون) (¬2). وعن أنس بن مالك: (أن رسول الله (ص) أفرد يوم أحد في ¬

(¬1) البخاري ك. المغازي والسير 64 ب. إذا همت طائفتان 18 ج 5 ص 125. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير 4/ 30 وقال: قال البيهقي في الدلائل: بإسناده من عمارة بن غزية (لا بأس به) عن أبي الزبير (صدوق) عن جابر.

سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش فلما رهقوه قال: ((من يردهم عنا وله الجنة)) أو: ((هو رفيقي في الجنة؟)) فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهفوه أيضا. فقال: ((من يردهم عنا وله الجنة)) أو ((هو رفبقي في الجنة؟)) فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله (ص) لصاحبيه: ((ما أنصفنا أصحابنا))) (¬1). 9 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله (ص) يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشد القتال ما رأيتهما قل ولا بعد) (¬2). وعن عائشة قالت: (حدثني أبي قال: لما انصرف الناس عن النبي (ص) كنت أول من فاء إلى رسول الله (ص) فجعلت أنظر إلى رجل يقاتل بين يديه، فقلت: كن طلحة. فلما نظرت فإذا أنا بإنسان خلفي كأنه طائر، فلم أشعر أن أدركني، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح، وإذا طلحة بين يديه صريعا. قال: دونكم أخاكم فقد أوجب فتركناه. وأقبلنا على رسول الله (ص) وفي وجهه سهمان، فأردت أن أنزعهما، فما زال أبو عبيدة يسألني ويطلب إلي حتى تركته ينزع أحد السهمين. وأزم (¬3) عليه بأسنانه فقلعه. وابتدرت (¬4) إحدى ثنيتيه، ثم لم ¬

(¬1) مسلم ك. الجهاد والسير 32 ب. غزوة أحد 37 ج 3 ص 1415 ح 1789. (¬2) البخاري ك. 64 ب.: إذا همت طائفتان 18 ج 5 ص 124. (¬3) أزم: عض. (¬4) ابتدرت ثنيته: سقطت.

يزل يسألني ويطلب مني أن أدعه ينزع الآخر، فوضع ثنيته على السهم وأزم عليه كراهية أن يؤذي رسول الله (ص) إن تحول، فنزعه وابتدرت ثنيته الأخرى. قال: فكان أبو عبيدة اهتم الثنايا) (¬1). 10 - وعن كعب بن مالك قال: (لما كان يوم أحد، وصرنا إلى الشعب كنت أول من عرفته. فقلت: هذا رسول الله (ص) فأشار إلي بيده أن أسكت. ثم ألبسني لأمته ولبس لأمتي، فلقد ضربت حتى جرحت عشرين جراحة، أو قال بضعة وعشرين جرحا كل من يضربني يحسبني رسول الله (ص)) (¬2). 11 - (وكان أول من عرف رسول الله (ص) بعد الهزيمة، وقول الناس: قتل رسول الله (ص) كما ذكر لي ابن شهاب الزهري كعب بن مالك، قال: عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله (ص)، فأشار إلي رسول الله أن أنصت. قال ابن إسحاق: فلما عرف المسلمون رسول الله (ص) نهضوا به، ونهض معهم نحو الشعب، ومعه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام رضوان الله عليهم، والحارث بن الصمة، ورهط من المسلمين) (¬3). ¬

(¬1) مجمع الزوائد 6/ 112 وقال الهيثمي: رواه البزار وفيه إسحاق بن يحيى بن طلحة وهو متروك. (¬2) مجمع الزوائد للهيثمي 6/ 112 وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، ورجال الأوسط ثقات. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام 83/ 2، 84.

12 - قال ابن هشام: وذكر ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن أبي سعيد الخدري (أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله (ص) يومئذ، فكسر رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السلفى وأن عبد الله بن شهاب الزهري شجه في جبهته، وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر (¬1) في وجنته .. ووقع رسول الله (ص) في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر (الفاسق) ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون. فأخذ علي بن أبي طالب بيد رسول الله (ص)، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما، ومص مالك بن سنان أبو أبي سعيد الخدري، الدم عن وجه رسول الله (ص) ثم ازدرده (¬2) فقال رسول الله (ص): ((من مس دمي دمه لم تصبه النار))) (¬3). 13 - قال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله (ص) إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته ماء من المهراس، فجاء به النبي (ص) ليشرب منه، فوجد له ريحا فعافه فلم يشرب منه ..) (¬4). وعن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح رسول الله (ص) فقال: أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول ¬

(¬1) المغفر: سببه بحلق الدرع يجعل على الرأس يتقى به الحرب. (¬2) ازدرده: ابتلعه. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام وربيح بن عبد الرحمن (مقبول) عن عبد الرحمن بن أبي سيد (ثقة) عن أبي سعيد الخدري. (¬4) المصدر نفسه 2/ 85.

الله (ص)، ومن كان يسكب الماء، وبما دووي، كانت فاطمة بنت رسول الله (ص) تغسله، وعلي يسكب الماء بالمجن. فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير، فاحرقتها، فألصقتها. فاستمسك الدم، وكسرت رباعيته يومئذ، وجر ح وجهه وكسرت البيضة على رأسه) (¬1). 14 - (فبينا رسول الله (ص) بالشعب معه أولئك النفر من أصحابه، إذ علت عالية من قريش الجبل فقال رسول الله (ص): ((اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا)) فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل) (¬2). 15 - (عن عائشة رضي الله عنها {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم} قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبوك منهم الزبير وأبو بكر، لما أصاب رسول الله ما أصاب يوم أحد. وانصرف عنه المشركون. خاف أن يرجعوا، قال: من يذهب في إثرهم. فانتدب منهم سبعون رجلا. قال: كان فيهم أبو بكر والزبير) (¬3). 16 - عن عبيد الله ن رفاعة الزرقي قال: (لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون ¬

(¬1) البخاري ك. المغازي والسير 64 ب. ما أصاب الرسول من الجراح 24 ج 5 ص 129. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 86. (¬3) البخاري ك. المغازي والسير 64 ب. الذين استجابوا لله وللرسول 25 ص 130.

قال رسول الله (ص): ((استووا حتى أثني على ربي عز وجل)) فصاروا خلفه صفوفا فقال: ((اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك النعيم يوم الغلبة والأمن يوم الخوف. اللهم عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا نادمين ولا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل كفرة الذين أوتوا الكتاب إله الخلق) (¬1). 17 - عن قتادة قال: ما نعلم حيا من أحياء العرب أكثر شهيدا أعز يوم القيامة من الأنصار. قال قتادة: (وحدثنا أنس بن مالك أنه قتل منهم يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون. وكان بئر معونة على عهد ريول الله (ص) ويوم اليمامة على عهد أبي بكر الصديق يوم مسيلمة) (¬2). ¬

(¬1) مجمع الزوائد للهيثمي 122/ 6 وقال: رواه أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح. (¬2) البخاري ك. المغازي 64 ب. من قتل من المسلمين 25 ج 5 ص 130.

بين بدر وأحد: 1 - ولقد قال الله تعالى في بدر: {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} (¬1). وقال تعالى في أحد: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم} (¬2). فنحن إذن أمام تميزين: التميز في بدر بين المؤمنين والكافرين. فكانت بدر فرقانا بين الحق والباطل {... وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير} (¬3). وكانت بدر كما قال تعالى: {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} (¬4). فكان الصف مؤمنا كله ((ولعل الله اطلع على أهل بدر يوم بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) وكانوا كما قال عليه الصلاة والسلام ((كعدة أصحاب طالوت، والله ما جاوزه إلا مؤمن)). ¬

(¬1) الأنفال /37. (¬2) آل عمران /179. (¬3) الأنفال /41. (¬4) الأنفال /7 و 8.

أما في أحد فقد كان التمييز في الصف بين المؤمنين والمنافقين: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالو لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منم للايمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} (¬1). وطبيعيا أن يتخلخل الصف بعد بدر، فالذين دخلوا في الإسلام، دخل كثير منهم مجاراة لقوة الإسلام، وانصياعا أمام انتصاراته، وما أن لاحت لحظة ضعف، حتى كشف المنافقون خبيئة نفوسهم كشفوها يوم انفصلوا عن الجيش، وقد وصلت إليهم أنباء القوة المشركة الطاغية التي جاءت تحتل المدينة، وانكشقت خبيئة ما تبقى منهم يوم بلغهم مقتل رسول الله (ص)، وانقض عليهم المشركون من الخلف فقالوا: إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول. إن من الطبيعي أن تخلو بدر من المنافقين وليس في ساعة الموجهة أي أمل بالنصر، إنما هو استعداد للبذل والتضحية والشهادة. ومن الطبيعي كذلك أن ينبت النفاق قبيل أحد وفي أحد بعد النصر الحاسم القاصم في بدر، وقطع دابر الكافرين من قريش، وسيطرة القوة الإسلامية على الساحة، وهزيمة اليهود الماحقة في بني قينقاع في المدينة، فقد قذف الرعب في قلوب المنافقين، فأخفوا دخيلة أنفسهم وساروا مع الركب مكرهين. ¬

(¬1) آل عمران 166 - 168.

2 - إن جو أحد يختلف تماما عن جو بدر، ففي بدر: {إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور} (¬1). وفي أحد: {.. حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين} (¬2). في بدر .. علم الله تعالى ما في صدور المؤمتين، وأنهم يستحقون النصر، على ضعفهم وعجزهم وقلة عددهم وعددهم، فأرسل جنوده من الريح والحصى والنعاس والماء، وجنوده من الملائكة، وجنوده الذين تحكموا حتى في عيون المؤمنين والمشركين، وسلم من الابتلاء، فكان النصر الذي لم يعرف التاريخ مثيلا له. أما في أحد، فلم يسلم الله تعالى بعد أن سلم ابتداء {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه} ولم تكن ذات الصدور في أحد كما كانت في بدر، فلقد كان الفشل والتنازع في الأمر، والمعصية، وحب الدنيا، وبرز هذا كله من بعد ما أراكم ما تحبون، أي من بعد نصر الله ابتداء .. فكان قدر الله الذي لا يرد، أن تكون العقوبة مباشرة {... ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ..}. ¬

(¬1) الأنفال /43. (¬2) آل عمران /152.

قوانين النصر والهزيمة

وهو ابتلاء فقط، ومحنة وتمحيص، وليست هزيمة أو إبادة، {ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين} فالابتلاء عفو من الله تعالى وفضل كبير. قوانين النصر والهزيمة: (أ) النصر ابتداء وانتهاء، بيد الله عز وجل، وليس ملكا لأحد من الخلق، يهبه الله لمن يشاء ويصرفه عمن يشاء، مثله مثل الرزق، والأجل والعمل .. {وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} (¬1). {وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم} (¬2). (ب) وحين يقدر الله تعالى النصر، فلن تستطيع قوى الأرض كلها الحيلولة دونه، وحين يقدر الهزيمة، فلن تستطيع قوى الأرض أن تحول بينه وبين الأمة {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون} (¬3). (ج) ولكن هذا النصر له نواميس ثابتة عند الله عز وجل نحن بحاجة إلى فقهها، فلا بد أن تكون الراية خالصة لله سبحانه عند الذين يمثلون جنده {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} (¬4). ¬

(¬1) آل عمران /126. (¬2) الأنفال / 10. (¬3) آل عمران / 160. (¬4) محمد / 7.

ونصر الله تعالى في الاسجابة له، والاستقامة على منهجه، والجهاد في سبيله. (د) ووحدة الصف ووحدة الكلمة أساس في النصر، وتفريق الكلمة والاختلاف في الرأي دمار وهزيمة {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} (¬1). (هـ) وطاعة أمر الله تعالى ورسوله وعدم الخروج عليها أساس في النصر، أما المعصية فتقود إلى الهزيمة {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا ..}. (و) وحب الدنيا والتهافت عليها يفقد الأمة عون الله ونصره {حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ..}. (ز) ونقص العدد والعدة، ليس هو سبب الهزيمة {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون} (¬2). (ح) ولكن لا بد من الإعداد المادي والمعنوي لمواجهة العدو {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوق ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف ¬

(¬1) الأنفال 46. (¬2) آل عمران 123.

التمحيص في أحد

إليكم وأنتم لا تظلمون} (¬1). (ط) والثبات عند المواجهة، والصبر عند اللقاء من العوامل الرئيسية في النصر {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ..}، {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ..} (¬2). (ي) ولا شيء يعين على الثبات والصبر عند اللقاء، مثل ذكر الله الكثير باتجاه القلب إلى الله وحده منزل النصر، وطلب العون منه، والتوكل عليه، وعدم الاعتماد على العدد أو العدة أو الذات والتبرؤ من الحول والقوة، هو عامل أساسي من عوامل النصر. {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} (¬3). التمحيص في أحد: 1 - وحين وجدنا في بدر من يقول: (والله ما نقول لك كما قال قوم موسى لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} بل نقول: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون)، والله لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك. وقول سعد عن الأنصار: (... فوالذي بعثك بالحق لو ¬

(¬1) الأنفال 60. (¬2) الأنفال 15. (¬3) الأنفال 45.

اسعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك). وصدق سعد، فما تخلف رجل واحد، وما جاوزه معه إلا مؤمن. وجدنا في أحد من يقول: أطاعهم، وعصاني، ما أدري علام نقتل أنفسنا أيها الناس. ولم ينخذل رجل واحد فقط، بل انخذل معه ثلث الجيش ثلاثمائة، فالفرق بين الصورتين واضح. 2 - وحتى السبعمائة الذين تبقوا حقق الله تعالى بهم موعوده، فأكثريتهم كانوا من المؤمنين الصادقين {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه} (والله لكأني أنظر إلى خدم (خلاخل) هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير). 3 - ولكن هؤلاء البعمائة لم يكونوا مع ذلك على مستوى إيماني واحد، فلا يزال فيهم من يتعاطف مع ابن أبي وجنده، وهذه القلة هي التي قلبت الميزان، وغيرت المواقف {وإذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون} (¬1). {... وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن ¬

(¬1) آل عمران 122.

النماذج الإيمانية الرائعة

الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور} (¬1). {.. منكم من يريد الدنيا .. ومنكم من يريد الآخرة}. {الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} (¬2). ففيهم المنافقون إخوان عبد الله بن أبي، وفيهم ضعاف الإيمان، وفيهم الذين عصوا الأمر وأرادوا الغنيمة. النماذج الإيمانية الرائعة: وحكمة الله تعالى بتمحيص الصف وتمييز المؤمن من المنافق، وقوي الإيمان من ضعيفه، أبرزت لنا نماذج إيمانية رائعة في قلب المحنة، ما كان لنا أن نشهدها لولا هذه الجولة الثانية، من هجوم المشركين. 1 - وعلى رأس هذه النماذج أسد الله وأسد رسوله (حمزة بن عبد المطلب) الذي كان كما وصفه قاتله (بالله إني لأنظر إلى حمزة يهد الناس بسيفه ¬

(¬1) آل عمران 154. (¬2) آل عمران 168.

ما يليق به شيئا مثل الجمل الأورق) (¬1). 2 - وأنس بن النضر عم أنس بن مالك، وكما يقول أنس: (لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعون ضربة فما عرفته إلا أخته عرفته ببنانه) (¬2) وفي رواة البخاري (وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم). 3 - وأبو دجانة سماك بن خرشة رضي الله عنه كما يقول ابن إسحاق عنه: (وترس دون رسول الله (ص) أبو دجانة بنفسه، يقع النبل في ظهره، وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النبل) (¬3). 4 - وسعد بن أبي وقاص الذي يقول عن نفسه: (فلقد رأيته يناولني النبل وهو يقول: ((ارم فداك أبي وأمي)) حتى إنه ليناولني السهم ما له نصل فيقول ((ارم به))) (¬4). 5 - وأم عمارة التي تتحدث عن نفسها قائلة: خرت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء (فانتهيت إلى رسول الله (ص) هو وأصحابه والدولة والريح للمسلمين فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله (ص) فقمت أباشر القتال، وأذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي) قالت: (فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور، فقلت من أصابك بهذا؟ قالت: ابن قمئة أقمأه الله. لما ولى ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 69، 70. (¬2) المصدر نفسه 83/ 2 وقد رواه حميد الطويل (ثقة مدلس) عن أنس بن مالك. (¬3) و (¬4) المصدر نفسه 2/ 82.

الناس عن رسول الله (ص) أقبل يقول: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا. فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير، وأناس ممن ثبت مع رسول الله (ص)، فضربني هذه الضربة، ولكن فلقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كان عليه درعان) (¬1). 6 - إضافة إلى بقية العشرة، طلحة والزبير، وعبد الرحمن وأبو عبيدة، وأبو بكر وعمر، وعلي بن أبي طالب، وسهل بن حنيف الذي شهد له رسول الله (ص) أنه أحسن القتال. 7 - وقتادة بن النعمان الذي يقول عن نفسه: (كنت نصب وجه النبي (ص) يوم أحد أقي وجه رسول الله (ص) بوجهي، وكان أبو دجانة موقيا لظهر رسول الله (ص) بظهره، حتى امتلأ ظهره سهاما) (¬2). وفي رواية (فكان آخرها سهما ندرت مته حدقتي بكفي، فسعيت بها إلى النبي (ص) في كفي، فلما رآها رسول الله (ص) في كفي دمعت عيناه، فقال: اللهم إن قتادة قد أوجه نبيك بوجهه، فاجعلها أحسن عينيه، وأحدهما نظرا. فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظرا) (¬3). 8 - والأنصار التسعة الذين قتلوا بين يدي رسول الله (ص)، والسبعون الذين سقطوا شهداء والذين يقول قتادة عنهم: ما نعلم حيا من أحياء العرب أكثر شهيدا أعز يوم القيامة من الأنصار. ¬

(¬1) المصدر نفسه 82/ 2. (¬2) و (¬3) مجمع الزوائد للهيثمي وقال: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه.

القيادة النبوية العظيمة

القيادة النبوية العظيمة: ويبرز بين يدينا إزاء هذه التضحيات الخالدة، القيادة النبوية العظيمة، التي استطاعت أن تحول الهزيمة المتوقعة إلى ثبات كثبات الرواسي، وحالت دون تقدم المشركين شبرا واحدا نحو المدينة، رغم أن قريشا وقادتها وضعوا كل ما يملكون من قوة، وتعاهد أربعة من صناديدها على قتل محمد (ص). 1 - فقد ابتدأ الهجوم المعاكس من المشركين من خلف المسلمين والهدف الرئيسي فيه شخص النبي (ص)، فلم يتزحزح عليه الصلاة والسلام من موقعه، والفدائيون المسلمون يسقطون صرعى بين يديه. 2 - ثم أحكم الهجوم، فأفرد عليه الصلاة والسلام وحصر في قلب المشركين، وليس معه إلا أحد عشر من أصحابه تسعة منهم من الأنصار، وكان الهدف أن يخلص عليه الصلاة والسلام من هذا الحصار، وعليه أن يصعد في الجبل، ليمضي إلى جيشه، وقتل الأنصار التسعة وهم يصدون الهجوم عنه. 3 - وبقي طلحة رضي الله عنه وحده، حيث قاتل قتال التسعة، وسقط جريحا بين يدي النبي (ص). 4 - وحينئذ قدم سعد بن أبي وقاص حيث رأى رسول الله (ص) وحده، ويقاتل عنه رجلان يلبسان ثيابا بيضاء هما جبريل وميكائيل. 5 - وما هي إلا لحظات حتى وصل أبو بكر وأبو عبيدة، وقام أبو عبيدة بنزع السهمين عن وجه النبي (ص) بأسنانه.

6 - ثم توارد مجموعة من الأبطال المسلمين، حيث بلغوا قرابة الثلاثين يذودون عن رسول الله (ص) منهم قتادة، وثابت بن الدحداح، وسهل بن حنيف، وأبو دجانة، وأبو طلحة، وعمر رضي الله عنه، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير. 7 - واستطاع بهذه المجموعة الفدائية أن يشق الصفوف، ويصل إلى جيشه المبعثر، حيث فر بعضه إلى المدينة، وأسقط في يد البعض الآخر ولا يدري ما يفعل، ونجم النفاق لدى المنافقين حتى يقولوا: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وذلك كله عقب إشاعة مقتل النبي (ص)، والذي أشاعه ابن قمئة، الذي قتل مصعب بن عمير وحسبه رسول الله. وحين رأى كعب بن مالك رضي الله عنه رسول الله (ص) وعيناه تزهران من تحت المغفر صرخ بأعلى صوته هذا رسول الله، فأشار له عليه الصلاة والسلام أن اصمت. واشتد الهجوم من جديد من المشركين، نتيجة هذا النداء، وازداد تجمع المسلمين من جهة ثانية، حول رسول الله (ص) يستميتون في الذود عنه. وكانت الخطة الاحتياطية، أن لبس رسول الله (ص) ثياب الحرب لكعب بن مالك وأعطاه لأمته، وخلال لحظات قليلة توجهت الضربات لكعب حتى بلغت عشرين جراحة، وهم يحسبونه رسول الله (ص). 8 - ثم كان الهجوم المضاد، حيث علت عالية الجبل وفيهم خالد بن الوليد، فقال رسول الله (ص): ((اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا)) فقاد عمر بن

الخطاب رضي الله عنه، ومجموعة من المهاجرين هذا الهجوم المضاد وأنزلوهم عن الجبل. وعاد المسلمون فسيطروا على الموقف من جديد. 9 - وكانت المرحلة الأخيرة التي أراد أبو سفيان أن يثبت فيها انتصاره وهو يرى جثث الشهداء تنتشر في كل مكان، فكان الهدف الرئيسي عنده أن يتأكد من مقتل القيادة النبوية، فصرخ أفيكم محمد؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم ابن الخطاب؟ وحين لم يسمع جوابا هتف فرحا (إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا). وهؤلاء الثلاثة هم الهدف الرئيسي حين عجز أبو سفيان عن اختراق الجيش للمدينة، غير أن عمر رضي الله عنه لم يتمالك أن قال: كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يخزيك. وكانت طعنة عنيفة في صدر أبي سفيان، فتجرعها غصصا، وراح يفخر بنصره الموهوم: - أنعمت فعال، وإن الحرب سيحال، يوم بيوم، أعل هبل. - الله أعلى وأجل لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. - لنا العزى ولا عزى لكم. - الله مولانا ولا مولى لكم. ولا يزال في ذهن أبي سفيان حلم فنادى: هلم إلي يا عمر! فقال رسول الله (ص): ((ائته فانظر ما شأنه)) فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمدا؟ قال عمر: اللهم لا،

وإنه ليسمع كلامك الآن. فقال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر. 10 - وكان حسبان العواقب في الخطة، أن بعث رسول الله (ص) في آثارهم سبعين رجلا كان فيهم أبو بكر والزبير. وفي رواية ابن هشام، كان على رأسهم علي بن أبي طالب، وحدد له الهدف قائلا: ((اخرج في آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون وما يريدون. فإن كانوا قد جنبوا الخيل، وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل، فهم يريدون المدينة. والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم) قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا إلى مكة) (¬1). 11 - وكانت خاتمة المطاف في الخطة: خروج الرسول (ص) في أثر العدو ليرهبه. (فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشر ليلة مضت من شوال (¬2) أذن مؤذن رسول الله (ص) في الناس يطلب العدو. فأذن مؤذنه، أن لا يخرجن معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس .. وإنما خرج رسول الله (ص) مرهبا للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم .. فخرج حتى انتهى إلى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها الإثنين والثلاثاء والأربعاء - وقد مر به معبد بن أبي معبد الخزاعي (¬3) ومعبد يومئذ ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 94/ 2. (¬2) كانت الغزوة يوم السبت في النصف من شوال من السنة الثالثة. (¬3) كانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله (ص).

مشرك - وخرج حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله (ص) وأصحابه .. وقالوا: أصبنا حد أصحابه وأشرفهم وقادتهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! لنكرن على بقيتهم. فلنفرغن منهم، فلما رأى أبو سفيان معبدا. قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط قال: ويحك! ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى أرى نواصي الخيل، قال: فولله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم. قال: فإني أنهاك عن ذلك .. فثنى ذلك أبو سفيان ومن كان معه) (¬1). ... والوقوف مع القيادة النبوية درس عظيم للمسلمين في الأرض وللدعاة منهم خاصة .. فإننا كثيرا ما نبرر هزائمنا المتوالية، ونشبهها بيوم أحد، وهو خطأ فادح، إن الشهداء السبعين الذين قضوا نحبهم في أحد، ووراءهم الأعداد الضخمة من الجرحى، لم تمض هدرا أو عبثا، إنما سقطت وهي تذود عن القيادة وعن الدين، وعن الله ورسوله، وعظمة القيادة النبوية أنها استطاعت بهذا القدر القليل من الضحايا أن تصد الهجوم الشرس، وتفوت الهدف الرئيسي للمشركين في استئصال شأفة المسلمين، واستباحة بيضتهم، وأن تعيد أبا سفيان مع جيشه من المشركين، وقلوبهم واجفة أن يلحق بهم محمد بجيشه المتجمع في ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 101/ 2،102.

آثار المعركة

حمراء الأسد، وعليه أن يرحل فزعا قبل أن يرى نواصي الخيل تطلع من المدينة .. ورحل. آثار المعركة: 1 - من حيث موقف المسلمين في المدينة: (ولما حصل لرسول الله (ص) وأصحابه ما حصل جعل عبد الله بن أبي بن سلول والمنافقون يشمتون ويسرون بما أصاب المسلمين، ويظهرون أقبح القول، فيقول ابن أبي لابنه عبد الله وهو جريح قد بات يكوي جراحه بالنار: ما كان خروجك معه إلى هذا الوجه برأي. عصاني محمد وأطاع الولدان .. والله لكأني كنت أنظر إلى هذا. فقال ابنه: الذي صنع الله تعالى لرسوله وللمسلمين خير. وأظهر اليهود القول السيء، فقالوا: ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب هكذا نبي قط. أصيب في بدنه، وأصيب في أصحابه، وجعل المنافقون يخذلون عن رسول الله (ص) أصحابهم ويأمرونهم بالتفرق عنه ويقولون: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل .. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك في أماكن، فمشى إلى رسول الله (ص) ليستأذنه في قتل من سمع ذلك منه من اليهود والمنافقين. فقال (ص): ((يا عمر إن الله تعالى مظهر دينه، ومعز نبيه، ولليهود ذمة فلا أقتلهم)) قال: فهؤلاء المنافقون؟ قال: ((أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟)) قال: بلى يا رسول الله، وإنما يفعلون ذلك تعوذا من السيف فقد بان لنا أمرهم، وأبدى الله تعالى أضغانهم

عند هذه النكبة، فقال: ((إني نهيت عن قتل من قال لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يابن الخطاب: إن قريشا لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن))) (¬1). قال ابن شهاب الزهري: (لما قدم رسول الله (ص) المدينة كان عبد الله بن أبي بن سلول له مقام يقومه كل جمعة لا ينكر شرفا له في نفسه وقومه، وكان شريفا فيهم. إذا جلس رسول الله (ص) يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام عبد الله فقال: أيها الناس هذا رسول الله بين أظهركم، أكرمكم الله تعالى، وأعزكم به، فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا. ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ورجع بالناس قام يفعل ذلك كما كان يفعل. فأخذ المسلمون ثوبه من نواحيه، وقالوا له: اجلس أي عدو الله، لست لذلك بأهل. وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطى رقاب الناس ويقول: والله لكأنما قلت بجر أن قمت لأشد أمره. فلقيه رجل من الأنصار بباب المسجد فقال له: ما مالك؟ ويلك. قال: قمت أشدد أمره فوثب رجال من أصحابه يجذبونني ويعنفونني لكأنني قلت بجرا أن قمت أشد أمره. قال: ويلك، ارجع يستغفر لك رسول الله (ص). فقال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي) (¬2). لقد سقطت الأقنعة عن المنافقين في المدينة، وانفضحوا بأعيانهم وأشخاصهم خاصة الذين انخذلوا ¬

(¬1) سبل الهدى والرشاد للصالحي 338/ 4. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 105.

من حيث جرأة العرب على المؤمنين

مع عبد الله بن أبي. وجاء القرآن الكريم فدمغهم بالخيانة، والتمالؤ مع الكفر، وقال عنهم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان، ووصفهم بأنهم إخوان الذين كفروا. وكانت هذه التعرية مهمة جدا في التعامل معهم. صحيح أن القتل الجسدي لم يقع، ولكن القتل المعنوي لهم قد وقع، ولم يكن أمامهم خيار إلا بالقبول في هذا الواقع الذليل المفضوح، أو حسن التوبة والإنابة والانضمام إلى الصف المسلم، وقال القرآن فيهم: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما} (¬1). 2 - من حيث جرأة العرب على المؤمنين: وامتدت آثار الغزوة خارج المدينة، فأصبحت القبائل المجاورة تطمع في النيل من المسلمين، وتتالت المحن على الصف المؤمن بعد أحد، وامتد ليل المحنة الطويل إلى غزوة الخندق، فكانت في هذه المرحلة الصعبة محنة سرية الرجيع واستشهاد أبطالها الأحد عشر، ومحنة بئر معونة واستشهاد سبعين من القراء خيرة أصحاب النبي (ص)، وجرت محاولات لغزو المدينة، ومحالات لاغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام. وأمام هذه المحن، كانت القيادة النبوية الساهرة، والصف المؤمن الفدائي، يفتت كل تلك المؤامرات وقامت الخطة النبوية بعملية الغزو لمواقع العدو قبل أن يتم تجمعه، وهو يعد العدة للانقضاض على المدينة، فقد كانت غزوة حمراء الأسد عقب أحد بيوم واحد، وغزوة ذات الرقاع ¬

(¬1) النساء 145،146.

من حيث الموقف مع قريش

لغطفان في نجد، وفيها جرت محاولة اغتيال النبي (ص) وباءت بالفشل، وغزوة بدر الآخرة للموعد الذي ضربته قريش وانخذلت عنه فلم تحضر. مما رفع معنويات المسلمين في قلب أعدائهم، إلى أن كانت غزوة الخندق والتي مثلت المحاولة الأخيرة لإنهاء الوجود الإسلامي واجتثاثه من الأرض العربية. {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا} (¬1). 3 - من حيث الموقف مع قريش: لقد كان تأخر قريش في غزوها عامين بعد أحد، مرتبط بالخطة النبوية العظيمة التي تمت بعد أحد، ويكفينا أن القرآن الكريم وصف قريش بعد المعركة وقد ألقى الرعب في قلوبها بعد أحد، كما فسر ذلك ابن عباس رضي الله عنهما وابن جرير. يقول عز وجل: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين} (¬2). أخرج ابن جرير عن السدي قال: (لما انتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة، انطلق أبو سفيان حتى بلغ ¬

(¬1) الأحزاب 25. (¬2) آل عمران 151.

بعض الطريق، ثم أنهم ندموا فقالوا: بئسما صنعتم أنكم قتلتموهم حتى لم يبق إلا الشريد تركتموهم؟ ارجعوا فاستأصلوا، فقذف في قلوبهم الرعب فانهزموا ..) (¬1). وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية: قال: قذف الله في قلب أبو سفيان الرعب فرجع إلى مكة. فقال النبي (ص): ((إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا، وقد رجع وقدف الله في قلوبهم الرعب)) (¬2). أما كيف قذف الله في قلبه الرعب، فيحدثنا ابن إسحاق بسنده عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم فيقول: (.. وقد مر به - أي رسول الله (ص) - معبد بن أبي معبد الخزاعي - وكان خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح رسول الله (ص) بتهامة صفقهم معه (¬3) - لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله عافاك فيهم. ثم خرج ورسول الله بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله (ص) وأصحابه، وقالوا: أصبنا حد أصحابه وأشرافهم وقادتهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم، فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ¬

(¬1) و (¬2) الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 432/ 4. (¬3) صفقهم معه: هواهم معه.

يتحرقون عليكم تحرقا، وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما ضيعوا فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط .. قال: ويحك، ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من الشعر. قال: فما قلت؟ قال: قلت: كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل (¬1) تردى بأسد كرام لا تنابلة (¬2) ... عند اللقاء ولا ميل (¬3) معازيل (¬4) فظلت عدوا أظن الأرض مائلة ... لما سموا برئيس غير مخذول فقلت ويل ابن حرب من لقائكم ... إذا تغطمطت (¬5) البطحاء بالجيل إني نذير لأهل البسل (¬6) ضاحية ... لكل ذي إربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وحش قنابله (¬7) ... وليس يوصف ما أنذرت بالقيل (¬8) لقد باءت إذن محاولات قريش مرتين بالفشل في محاولة الاستئصال: ¬

(¬1) الجرد الأبابيل: الخيل العتاق. (¬2) لا تنابلة: لا قصار. (¬3) لا ميل: الذي لا رمح له. (¬4) المعازيل: لا سلاح معه. (¬5) تعطمطت البطحاء: اهتزت وماحت. (¬6) أهل البسل: قريش. (¬7) لا وحش قنابله: لا ضعاف فرسانه. (¬8) القيل: القول.

كيف عالج القرآن أثر المحنة

الأولى: حين ووجهوا بثبات أشد من الجبال الرواسي من رسول الله (ص) والصفوة المختارة معه، والخطة العظيمة التي أعادت شتات الجيش الإسلامي، وحطمت هجوم العدو، واحتلت المواقع التي احتلتها من جديد. الثانية: يوم حطم معبد بن أبي معبد هجومهم بما نقل عن التعبئة النبوية للانقضاض على المشركين، فعادوا يسرعون الخطا قبل أن تصل إليهم كتائب محمد وأصحابه من جديد. وأمام هذا العجز، فقد انكبوا على القتلى يمثلون بهم في الفشل الأول، وتخلفوا عن الموعد الذي ضربوه في بدر في العام القابل بعد الفشل الثاني، وتأخروا سنتين كاملتين حتى أعدوا العدة، وتحالفوا مع اليهود وغطفان في المحاولة الأخيرة في الخندق. كيف عالج القرآن أثر المحنة؟! عاد المسلمون مثخنين بالجراح إلى المدينة، بعضهم قرير العين بما أبلى مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وبعضم يتجرع غصص الندامة لتخليه عن رسول الله (ص) أو لفراره من المعركة، وبعضهم يحمل في قلبه فرحا لما نزل بالمسلمين بأحد وشماتة بهم، وأسلموا سبعين شهيدا على ثرى أحد، والنفوس تجوس بالخواطر، وتغلي بالمشاعر، والجراح التي نزلت بالكثيرين منهم لا يزالون يئنون منها، وقسم منهم يخشى من المفاجآت وأن تعود قريش من جديد لتستأصل بقيتهم.

في هذه المراجل المتقدة والمتنوعة نزلت آيات القرآن تترى، لتكشف كل هذه النفوس بما يجيش بها من مشاعر، وما يتفاعل فيها من أحاسيس، ولتقدم التقييم للمواقف، والتحديد للوقائع: 1 - فالصف المؤمن يواسى بجراحه ويسمى بمعنوياته: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} (¬1). 2 - وما أصابه فهو مسؤول عنه، لكنه ضمن التقدير الرباني في التمييز والكشف بين المؤمنين والمنافقين {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا ..} (¬2). {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ..} (¬3). 3 - كما يثني على ثباتهم وصبرهم على ما نزل بهم من قرح، وما حاول العدو بهم من كيد {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ¬

(¬1) آل عمران 139 - 141. (¬2) آل عمران /165 - 166. (¬3) آل عمران 179.

للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم الذي قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم} (¬1). 4 - كما أثنى على الذين أبلوا أعظم البلاء بجوار نبيهم المصطفى عليه الصلاة والسلام وسكب في قلوبهم الأمن {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ..} (¬2). 5 - ورفع الشهداء إلى أعلى المقامات في عليين بحيث يغبطهم إخوانهم الأحياء على ذلك {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} (¬3). 6 - بينما نجد فضيحة المنافقين تعريتهم قد أسقطت المنافقين من حساب المؤمنين وعرتهم، وضمتهم إلى الكافرين. {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالو لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت ¬

(¬1) آل عمران 172 - 174. (¬2) آل عمران 154. (¬3) آل عمران 169 - 171.

والله بما يعملون بصير} (¬1) {وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} (¬2). 7 - وتأتي هذه النصوص جميعا لتثبيت المعايير الإيمانية في مفهوم القدر، ومفهوم الحياة والموت، ومفهوم النصر والهزيمة، ومفهوم الربح والخسارة، ومفهوم الإيمان والنفاق، ومفهوم المحنة والمحق، لتعيد الصياغة الجديدة لهذه المجموعة على هدى القرآن ونوره فتغدو العصبة الربانية المختارة من جديد، وتصنع على عين الله، ويكونوا الربانيين المختارين الذين يريدهم لتحقيق موعوده في الأرض. ... ¬

(¬1) آل عمران 156. (¬2) آل عمران 167،168.

الفصل الرابع والعشرون غزوة الخندق

الفصل الرابع والعشرون غزوة الخندق أسباب الغزوة: (أ) وسببها أن النبي (ص) لما أجل بني النضير، وساروا إلى خيبر وبها من يهود قوم أهل عدد وجلد، وليس لهم من البيوت والأحساب ما لبني النضير. فخرج نفر من اليهود (منهم سلام بن أبي الحقيق النضري، وحيي بن أخطب النضري، وكنانة بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير، ونفر بن وائل. وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله (ص)، خرجوا حتى قدمو على قريش مكة فدعوهم إلى حرب رسول الله (ص) وقال: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد. أفديننا خير من دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه، فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا} إلى قوله تعالى: {.. وكفى يجهنم سعيرا} (¬1). ¬

(¬1) النساء 51 - 55.

فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله (ص) فاجتمعوا لذلك واتعدوا له، ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاؤوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى حرب رسول الله (ص)، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك، فاجتمعوا معهم فيه) (¬1). (ب) ثم إن قريشا تجهزت، وسيرت تدعو العرب إلى نصرها، وألبوا أحابيشهم ومن تبعهم، وخرجوا في أربعة آلاف، وعقدوا اللواء في دار الندوة، وحمله عثمان بن طلحة - وأسلم بعد ذلك - وقادوا ثلاثمائة فرس، وكان معهم ألف وخمسمائة بعير. ولاقتهم بنو سليم بمر الظهران في سبعمائة، يقودهم سفيان بن عبد شمس. وخرجت بنو أسد بن خزيمة وقائدها طلحة بن خويلد الأسدي (وأسلم بعد ذلك). وخرجت بنو فزارة وأوعبت وهم ألف يقودهم عيينة بن حصن (وأسلم بعد ذلك). وخرجت أشجع وقائدها مسعود بن رخيلة (وأسلم بعد ذلك) وهم أربعمائة. ¬

(¬1) حديث الخندق عن ابن إسحاق عن (يزيد بن رومان، وعبد الله بن كعب بن مالك، ومحمد ابن كعب القرظي، والزهري، وعاصم بن عمرو، وعبد الله بن أبي بكر) وكلهم عدول ثقات.

وخرجت بنو مرة في أربعمائة يقودهم الحارث بن عوف المري (وأسلم بعد ذلك) (¬1). وكان القوم الذي وافوا الخندق من قريش وأسد وسليم وغطفان عشرة آلاف، وعناج الأمر إلى أبي سفيان. (ج) وأما ما كان من أمر رسول الله (ص) فإن خزاعة عندما تهيأت قريش للخروج أتى ركبهم رسول الله (ص) في أربع ليال حتى أخبروه، فندب الناس، وأخبرهم خبر عدوهم، وشاورهم في أمرهم، أيبرز من المدينة أم يكون فيها، ويحاربهم عليها وفي طرقها؟ فأشار سلمان رضي الله عنه بالخندق، وقال: يا رسول الله إنا كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل خندقنا علينا، فأعجبهم ذلك، وأحبوا الثبات في المدينة، وأمرهم رسول الله بالجد ووعدهم النصر، إذا هم صبروا واتقوا، وأمرهم بالطاعة، ولم تكن العرب تخندق عليها. وركب فرسا له ومعه عدة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، فارتاد موضعا ينزله، فكان أعجب المنانل إليه أن يجعل سلعا الجبل خلف ظهره. ويخندق من المزاد إلى ذباب إلى رابخ فعمل يومئذ في الخندق، وندب الناس، وخبرهم بدنو عدوهم، وعسكرهم إلى سفح سلع، وجعل المسلمون يعملون مستعجلين يبادرون قدوم العدو إليهم، واستعاروا من بني قريظة آلة كثيرة من مساحي وكرازين ومكاتل للحفر، ¬

(¬1) سبل الهدى والرشاد للصالحي 4/ 514.

ووكل رسول الله (ص) بكل جانب من الخندق قوما يحفرونه فكان المهاجرون يحفرون من ناحية رابخ إلى ذباب، وكانت الأنصار يحفرون من ذباب إلى جبل أبي عبيدة) (¬1). (د) ووقع في أيام الخندق معجزات باهرة من علامات نبوته (ص) كحديث الكدية (¬2)، وهي قطع الجبل التي اعترضت لهم في حفر الخندق. فلم يعمل فيها المعاول وأعيت فيها الحيل، فأخذ رسول الله (ص) المعول وسمى الله وضربها فانهالت كالكثيب (¬3). وكحديث أبي طلحة حيث بعث إنسانا بأقراص من شعير تحت إبطه، ففتها رسول الله (ص) وأطعم منها ثمانين. وكحديث جابر حث دعا النبي (ص) خامس خمسة على صاع من شعير وعناق (¬4) ذبحها لهم. كما رأى النبي (ص) قد ربط حجرا على بطنه من الجوع. فبصق رسول الله (ص) في البرمة (¬5) وفي العجين (ونادى يا أهل الخندق) وكانوا ألفا، على ما بهم من الجوع، فأشبعهم جميعا خبزا وثريدا ولحما. قال جابر: فأقسم بالله ولقد انصرفوا وإن برمتنا لتغط (¬6) كما هي. وإن عجينتنا لتخبز (¬7). وكقوله (ص) لما ¬

(¬1) سبل الهدى والرشاد للصالحي 4/ 513 - 515. (¬2) الكدية: الحجر الضخم الصلد. (¬3) الكثيب: التل من الرمل، والحديث في البخاري ك. 64 ب. 29 ج 5 ص 138. (¬4) غناق: الأنثى من أولاد المعز. (¬5) البرمة: قدر من حجارة. (¬6) تغط: يشتد غليانها كما هي. (¬7) في البخاري ك. 64 ب. غزوة الخندق 29 ج 5 ص 139.

أحداث الغزوة

انصرفت الأحزاب: ((لن تغزونا قريش بعدها بل نغزوهم ولا يغزونا)) (¬1) فكان كما قال وكانت تلك الشدة خاتمة الشدائد) (¬2). أحداث الغزوة: 1 - (ثم كانت وقعة الأحزاب بعد وقعة أحد بسنتين، وذلك يوم الخندق، ورسول الله (ص) جانب المدينة، ورأس المشركين يومئذ أبو سفيان. فحاصر رسول الله (ص) وأصحابه بضع عشرة ليلة، حتى خلص إلى كل امرىء منهم الكرب. وحتى قال النبي (ص) - كما أخبرني ابن المسيب -: ((اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إنك إن تشأ أن لا تعبد)). فبينا هم على ذلك أرسل النبي (ص) إلى عيينة بن حصن بن بدر الفزاري وهو يومئذ رأس المشركين من غطفان، وهو مع أبي سفيان: ((أرأيت إن جعلت لك ثلث ثمر الأنصار، أترجع بمن معك من غطفان، وتخذل بين الأحزاب؟)) فأرسل إليه عيينة: إن جعلت لي الشطر فعلت. فأرسل إلى سعد بن معاذ وهو سيد الأوس، وإلى سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج: فقال لهما: ((إن عيينة بن حصن قد سألني نصف ثمركما، على أن ينصرف بمن معه من غطفان، ويخذل بين الأحزاب وإني قد أعطيته الثلث، فأبى إلا الشطر، فماذا تريان؟)) ¬

(¬1) المصدر السابق ص 141. (¬2) حدائق الأنوار ومطلع الأسرار لابن الديبع الشيباني ج 2 ص 592،591.

قالا: يا رسول الله إن كنت أمرت بشيء فامض لأمر الله. فقال رسول الله (ص): ((لو كنت أمرت بشيء لم أستأمركما، لكن هذا رأيي أعرضه عليكما)) قالا: فإنا لا نرى أن نعطيه إلا السيف. قال: ((فنعم إذن)). قال معمر: فأخبرني ابن أبي نجيح أنهما قالا له: والله يا رسول الله! لقد كان (هذا في الجاهلية ليمر بجر سربه ما يطمع منه في بسرة) أفالآن حين جاء الله بالإسلام نعطيهم؟ قال النبي (ص): ((فنعم إذن)). قال الزهري في حديثه عن ابن المسيب: فينا هم كذلك إذ جاءهم نعيم بن مسعود الأشجعي، وكان يأمنه الفريقان، كان موادعا لهما فقال: إني كنت عند عيينة وأبي سفيان إذ جاءهم رسول بني قريظة: أن اثبتوا فإنا سنخالف المسلمين إلى بيضتهم، قال النبي (ص): ((فلعلنا أمرناهم بذلك)) وكان نعيم رجلا لا يكتم الحديث، فقام بكلمة النبي (ص) فجاءه عمر. فقال: يا رسول الله، إن كان هذا الأمر من الله فأمضه، وإن كان رأيا منك فإن شأن قريش وبني قريظة أهون من أن يكون لأحد عليك فيه مقال. فقال النبي (ص): ((على الرجل ردوه)) فردوه، فقال: ((انظر الذي ذكرنا لك، فلا تذكره لأحد)) فإنما أغراه، فانطلق حتى أتى عيينة وأبا سفيان، فقال: هل سمعتم من محمد يقول قولا إلا كان حقا؟ قالا: لا. قال: فإني لما ذكرت له شأن قريظة، قال: ((فلعلنا أمرناهم بذلك)) قال أبو سفيان: سنعلم إن كان ذلك فأرسل إلى بني قريظة أنكم قد أمرتمونا أن

نثبت. وأنكم ستخالفون المسلمين إلى بيضتهم، فأعطونا بذلك رهينة. فقالوا: إنها قد دخلت علينا ليلة السبت، وإنا لا نقضي في السبت شيئا، فقال أبو سفيان: إنكم في مكر من بني قريظة فارتحلوا. وأرسل الله عليهم الريح، وقذف في قلوبهم الرعب، فأطفأت نيرانهم، وقطعت أرسان خيولهم، وانطلقوا منهزمين من غير قتال. قال: فذلك حين يقول: {وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا}) (¬1). 2 - ثم إن نعيم بن مسعود .. أتى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت. فقال رسول الله (ص): ((إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة)) فخرج نعيم حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية، فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساوكم، لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن رأوا نهزة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم. فلا تقاتلوا مع ¬

(¬1) المغازي النبوية للزهري 79، 80 وهي رواية عبد الرزاق عن ابن المسيب، وعن معمر عنه. والجميع عدول ثقات.

القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه، فقالوا له: لقد أشرت بالرأي. ثم خرج حتى أتى قريشا، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وأنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتمو عني. فقالوا: نفعل. قال: تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطكهم، فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم أن نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا. ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، إنكم أصلي وعشيرتي، وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني، قالوا: صدقت. ما أنت عندنا بمتهم. قال: فاكتموا عني، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم. فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنع الله لرسوله (ص) أن أرسل أبا سفيان بن حرب ورؤوس غطفان إلى بني قريظة .. فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطوا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى

نناجز محمدا. فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب، واشتد عليكم القتال أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا .. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق .. فأبوا عليهم وخذل الله بينهم) (¬1). 3 - عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال: (ذكر حذيفة مشاهدهم مع رسول الله (ص) فقال جلساؤه: أما والله لو كنا شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا. فقال حذيفة: لا تمنوا ذلك، لقد رأيتنا ليلة الأحزاب، ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة، ولا أشد ريحا منها، في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه. فجعل المنافقون يستأذنون النبي (ص) ويقولون: إن بيوتنا عورة وما هي بعورة. فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، ويأذن لهم ويتسللون. ونحن ثلاثمائة ونحو ذلك إذ استقبلنا رسول الله (ص) رجلا رجلا حتى أتى علي، وما علي جنة (¬2) من العدو ولا من البرد، إلا مرط ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 229/ 2، 231. وقد يبدو بين الروايتين بعض التناقض لأول وهلة، لكن بالتعمق فيهما يبدو أنهما متكاملتان. فالرواية الأولى تشير إلى مظهر نعيم عند المسلمين حيث بقي إسلامه سرا. والرواية الثانية تشير إلى حقيقة دوره كما وجهه الرسول عليه الصلاة والسلام. (¬2) جنة: وقاية.

لامرأتي ما يجاوز ركبتي قال: فأتاني وأنا جاث على ركبتي فقال: من هذا؟ فقلت: حذيفة. فقال: حذيقة! فتقاصرت للأرض فقلت: بلى يا رسول الله، كراهية أن أقوم. فقمت فقال: ((إنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم)) قال: وأنا من أشد الناس فزعا وأشدهم قرا قال: فخرجت فقال رسول الله (ص): ((اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته)) قال: فوالله ما خلق الله فزعا ولا قرا في جوفي إلا خرج من جوفي. فما أجد فيه شيئا. قال: فلما وليت قال: ((يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني)) قال: فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يقوم بيديه على النار ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل الرحيل. ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله (ص) ((لا تحدثن فيهم شيئا حتى تأتيني) فأمسكت، ورددت سهمي إلى كنانتي. ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام لكم. وإذ الريح في عسكرهم وما تجاوز عسكرهم شبرا، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم الريح تضرب بها. ثم إني خرجت نحو رسول الله (ص)، فلما انتصفت بي الطريق أو نحو من ذلك إذا أنا بنحو من عشرين فارسا أو نحو ذلك معتمين، فقالوا: أخبر صاحبك أن الله قد كفاه. قال: فرجعت إلى رسول الله (ص) وهو مشتمل في شملة

يصلي، فولله ما عدا أن رجعت، راجعني القر وجعلت أقرقف (¬1). فأومأ إلي رسول الله (ص) بيده وهو يصلي، فدنوت منه فأسبل علي شملته، وكان رسول الله (ص) إذا حزبه أمر صلى. فأخبرته خبر القوم، أخبرته أني تركتهم يرحلون. قال: وأنزل الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا} يعني الآيات كلها إلى قوله {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا} (¬2) أي صرف الله عنهم عدوهم بالريح التي أرسلها إليهم) (¬3). 4 - وعن ابن عباس قال: احتفر رسول الله (ص) الخندق، وأصحابه قد شدو الحجارة على بطونهم من الجوع .. ثم مشوا إلى الخندق فقال: ((اذهبوا بنا إلى سلمان)) وإذا صخرة بين يديه قد ضعف عنها، النبي (ص) لأصحابه: ((دعوني فأكون أول من ضربها)) فقال: ((بسم الله)) فضربها فوقعت فلقة ثلثها فقال: ((الله أكبر قصور الروم ورب الكعبة)) ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة. فقال: ((الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة)) فقال عندها المنافقون: نحن بخندق وهو يعدنا قصور فارس والروم) (¬4). ¬

(¬1) اقرقف: ارتجف. (¬2) الأحزاب 9 - 25. (¬3) رواه الحاكم والبيهقي في الدلائل، وقد رواه مسلم في صحيحه مختصرا، كما أورده ابن إسحاق في السيرة 2/ 229 - 231. (¬4) مجمع الزوائد 7/ 131، 132 للهيثمي، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أحمد بن حنبل ونعيم العنبري وهما ثقتان.

5 - (عن جابر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس جعل يسب كفار قريش وقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب. قال النبي (ص): (والله ما صليتها) فنزلنا مع النبي (ص) بطحان، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها فصلى العصر بعدما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب) (¬1). 6 - وعن جابر بن عبد الله (أن النبي (ص) شغل يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأمر بلالا فأذن فأقام فصلى الظهر، ثم أمره فأذن فأقام فصلى العصر، ثم أمره فأذن فأقام فصلى المغرب، ثم أمره فأذن فأقام فصلى العشاء. ثم قال: ((ما على وجه الأرض قوم يذكرون الله في هذه الساعة غيركم))) (¬2). 7 - (قالت أم سلمة رضي الله عنها: شهدت معه مشاهد فيها قتال وخوف - المريسيع وخيبر، وكنا بالحديبية وفي الفتح وحنين - لم يكن من ذلك أتعب لرسول الله (ص) ولا أخوف عندنا من الخندق، وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة (¬3)، وأن قريظة لا نأمنها على الذراري فالمدينة تحرس حتى الصباح، نسمع تكبير المسلمين فيها حتى يصبحوا خوفا، حتى ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا. وقال محمد بن مسلمة ¬

(¬1) البخاري ك. المغازي والسير 64 ب. غزوة الخندق 29 ج 5 ص 141. (¬2) رواه البزار بسنده عن محمد بن معمر (صدوق) عن مؤمل (صدوق سيء الحفظ) من حماد (ثقة عابد) وعن عبد الكريم بن أبي المخارق (ضعيف) روى له البخاري تعليقا عن مجاهد (ثقة) عن جابر بن عبد الله. (¬3) الحرجة: المكان الضيق الكثير الشجر.

وغيره: كان ليلنا بالخندق نهارا وكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوما، ويغدو خالد بن الوليد يوما، ويغدو عمرو بن العاص يوما، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يوما، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما، ويغدو ضرار بن الخطاب يوما حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفا شديدا، وكان معهم رماة يقدمونهم إذا غدوا متقرقين، أو مجتمعين بين أيديهم وهم حبان بن العرقة وأبو أسامة الجشمي في آخرين. فتناوشوا بالنبل ساعة، وهم جميعا في وجه واحد، وجاه قبة رسول الله (ص). ورسول الله قائم بسلاحه على فرسه، فرمى حبان بن العرقة سعد بن معاذ بسهم فأصاب أكحله (¬1). وقال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال رسول الله (ص): ((عرق الله وجهه في النار)) ثم أجمع رؤساء المشركين أن يغدو جميعا، وجاؤوا يريدون مضيقا يقحمون خيلهم إلى النبي (ص) حتى أتوا مكانا ضيقا أغفله المسلمون، فلم تدخله خيولهم، وعبره عكرمة بن أبي جهل، ونوفل بن عبد الله المخزومي وضرار بن الخطاب الفهري، وهبيرة بن أبي وهب، وعمرو بن عبد، وقام سائرهم وراء الخندق. فدعا عمرو بن عبد إلى البراز - وكان قد بلغ تسعين سنة، وحرم الدهن حتى يثأر بمحمد وأصحابه - فأعطى رسول الله (ص) عليا رضي الله عنه سيفه وعممه (¬2) وقال: ((اللهم أعنه عليهم)) فخرج له وهو راجل وعمر فارسا، فسخر به عمرو، ودنا منه علي، فلم يكن بأسرع من أن قتله علي، فولى أصحابه الأدبار. ¬

(¬1) أكحله: عرق في اليد يقال له عرق الحياة. (¬2) عممه: ألبسه عمامته.

وسقط نوفل بن عبد الله عن فرسه في الخندق، فرمي بالحجارة حتى قتل، ومر عمر بن الخطاب والزبير في إثر القوم، فناوشوهم ساعة، وسقطت درع هبيرة بن أبي وهب، فأخذها الزبير رضي الله عنه. ثم وافى المشركون سحرا وعبأ رسول الله أصحابه، فقاتلوا يومهم إلى هوي من الليل وما يقدر رسول الله ولا أحد من المسلمين أن يزولوا عن موضعهم، وما قدر (ص) على صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء، فجعل أصحابه يقولون: ما صليا، فيقول: ((ولا أنا والله ما صليت)) حتى كشف الله المشركين، ورجع كل من الفريقين إلى منزله. وقام أسيد بن حضير في مائتين على شفير الخندق، فكرت خيل المشركين يطلبون غرة - وعليها خالد بن الوليد - فناوشهم ساعة فزرق (¬1) وحشي الطفيل بن النعمان الأنصاري بمزراقه، فقتله كما قتل حمزة رضي الله عنه بأحد) (¬2). ... 1 - لقد كانت عودة قريش من أحد - رغم النصر الظاهري الذي حققته - تحمل مرارة الخيبة في عجزها عن استئصال شأفة المسلمين في يثرب، ولذلك استجابت لدعوة زعماء بني النضير لغزو محمد (ص) من جديد، واستجابت غطفان وهي نصف الناس. ومن أجل ذلك سميت الغزوة الأحزاب، والقرآن أطلق عليهم هذه التسمية {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما ¬

(¬1) زرقه بمزراقه: رماه برمح قصير معه. (¬2) إمتاع الأسماع للمقريزي 231/ 1 - 233.

زادهم إلا إيمانا وتسليما}. لقد تمالأ العرب واليهود في الجزيرة، وقاد أبو سفيان أضخم جيش شهدته جزيرة العرب الذي كان عشرة أضعاف جيش بدر، وقرابة أربعة أضعاف جيش أحد، إضافة إلى العدو الداخلي يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد، وانضموا إلى الأحزاب. لقد جاء الكفرة جملة واحدة، وكما وصفهم عليه الصلاة والسلام: ((لقد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب)). وإذن فلا بد أن يقر في حس الدعاة إلى الله أن الكفر كله قد يلتقي في مرحلة من المراحل على إبادة الإسلام والمسلمين، ويتناسى خلافاته، ويتناسى ما يسمى باستراجيته فالمصلحة فوق المبدأ، واليهود الذين شهدوا لقريش أن دينها خير من دين محمد (ص)، وهو نقض لكل الأسس التي قام عليها وجودهم من ربانية الدعوة والرسالة. وعلى الجماعة المسلمة أن تكون دائما على غاية الحذر من هذه المخططات، لتدرك كيف تواجهها في اللحظة المناسبة، ولا تستسلم خائفة يائسة. 2 - والخطة أن يطور المسلمون أساليبهم في مواجهة عدوهم، بحيث تكون مكافئة لها بل سابقة عليها. هي قضية خطيرة يجب أن يعيها المسلمون تمام الوعي، والاستفادة من الخبرات، والطاقات الكامنة هي السبيل المناسب لذلك.

لقد كان حضور سلمان الفارسي رضي الله عنه غزوة الخندق أول حضور عسكري له مع النبي (ص)، وكان حضوره في الوقت المناسب حيث عاش المشكلة الضخمة التي تواجه المسلمين، وقدم خبرته بهذا الصدد، فيما كان يفعله الفرس إذا دهموا من عدو. ولم يكن سلمان رضي الله عنه من قادة المسلمين الكبار من المهاجرين والأنصار، وكان قبل قليل مولى لرجل من يهود، لكن الخبرة تؤخذ من مظانها، فالفرس أمة عريقة في القتال والحرب والمواجهة، فلا بد أن يستفيد المسلمون من هذه الطاقات والخبرات. واستفاد النبي (ص) من هذه الخبرة فطورها إلى أعلى مستوياتها، لقد راد المدينة مع القيادات حوله، واختار الموقع المناسب، وتمت مباشرة تهيئة الوسائل الناقصة من حلفائهم بني قريظة وتم توزيع المهمات على المهاجرين والأنصار، وتحددت الجزئيات كلها، حتى في عمق الحفر ومسافته. وابتدأ التنفيذ على الفور. وهذه هي الإيجابية الفذة في التعامل مع الطاقات والخبرات. وشهد العدو مباشرة بالكفاءة الإسلامية، وبالتفوق النوعي للمسلمين. وقالوا: إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها. وأحبطت هذه الخطة عتاوة الهجوم الشرس على المسلمين من العدو اللدود. 3 - وحين تبذل الطاقة البشرية كلها جهدا، ومالا وقوة في الدفاع والذود عن الدين، ثم تنقص الوسائل، فالله تعالى هو الذي يرعى جنده وأحبابه.

والمعجزات التي ظهرت للنبي (ص) في حفر الخندق، لتؤكد أن الله تعالى هو الذي يهزم العدو وينصر حزبه. ((لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر جنده، وهزم الأحزاب وحده)) فهو الذي أطعم الجيش الجائع كله، حين لم يجد الطعام والقوت الذي يعينه في حالة السلم فكيف في حالة الحرب، والمطلوب من المسلمين أن يحفروا هذا الخفدق بأقصر وقت، والرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي فتت الصخرة - معجزة منه سبحانه -حين عجز المسلمون جميعا عن ذلك، وهو عليه الصلاة والسلام الذي أضاءت له قصور الشام وفادس والروم .. وبشرهم بفتحها، وهم بين براثن العدو يوشك أن يستأصلهم من جذورهم. إن الله تعالى يطعم جنده ويسقيهم يوم لا يجدون طعاما، إلا عناقا وعدة أرغفة. وهو الذي يبعث الريح والجنود من عنده الذين لا يراهم المؤمنون، ويهزم عدوه وعدوهم بها {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا} (¬1). وإن الانتقال من هذا الكرب والخوف وإطباق أهل الأرض على المؤمنين إلى أفق {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى ¬

(¬1) الأحزاب 9 - 11.

الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا} (¬1). إن هذا الانتقال، ليجلي تمامأ الإرادة الربانية حين تريد بالمؤمنين النصر رغم كل القوى العاتية في الأرض ولو بدون قتال. 4 - الخوف يقع وقد ينال كل النوعيات والمستويات الإيمانية، لكن الموقف الناتج عن الخوف يختلف من إنسان لآخر، وهنا موضع القدوة والأسوة. فالمؤمنون في الخندق خافوا، وبلغت القلوب الحناجر، وزاغت الأبصار، وابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا. فالمؤمنون الصادقون الصديقون رغم ما وقع بهم من الخوف والفزع قال الله تعالى عنهم: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما} (¬2). أما المنافقون الذين أصابهم الخوف، واقتلع قلوبهم الرعب، فقال الله تعالى عنهم: {وإذ يقول المنافوق والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} (¬3). ¬

(¬1) الأحزاب 25. (¬2) الأحزاب 22. (¬3) الأحزاب 12.

فلقد زاد الخوف المؤمنين إيمانا وتسليما، وزاغت عقيدة المنافقين قبل أن يزوغ بصرهم وقالوا: (إن محمدا يعدنا بكنوز كسرى وقيصر، ولا يأمن أحدنا أن يخرج إلى حاجته، أو لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط) (¬1). ومثل هذه القوة وهذا الثبات رغم الهول والفزع موقف سعد بن معاذ من مصالحة غطفان على ثلث ثمار المدينة (قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا ثمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم) (¬2). 5 - وكان رسول الله (ص) هو القمة التي لا يرقى إليها أحد في الثقة بالله، والثبات أمام العدو، فعندما بلغ النبي (ص) صحة نقض قريظة للعهد قال: ((الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين)). وفي قلب هذه المحنة، وشدة هذا الهول، قال عليه الصلاة والسلام: ((إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق، وآخذ المفتاح، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن أموالهم في سبيل الله)) (¬3). ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 222. (¬2) المصدر السابق 223/ 2. (¬3) مغازي الواقدي 2/ 457 عن صالح بن جعفر عن ابن كعب وأورده ابن كثير عن موسى بن عقبة في مغازيه 123/ 4.

ولا شك أن القائد الواثق بنفسه، الواثق بنصر الله له، الذي يتمالك ويتماسك أمام الهول، هو الذي يستحق القيادة بجدار أسوة برسول الله (ص)، وقد يغفر التزعزع والرعب للفرد العادي، أما القائد الفذ فهو الذي يستطيع أن يرفع معنويات جنوده من الحضيض، ويقارع بهم العدو، أما أن يكون الوهن والعجز لدى القائد، فعل جماعته العفاء. 6 - حيث أن المعركة معركة عقيدة، فلا بد من اللجوء إلى الله تعالى وحده أن يكشف الغم، ويزيل الكرب، واللجوء إلى الله تعالى والتذلل له، وطلب النصر منه وحده، هو أمر غير أمر الزلزلة أو التراجع. ولا بد أن يميز في حس المسلم بين هذين الجانبين. فعن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله (ص) يوم الأحزاب فقال: ((اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب .. اللهم اهزمهم وزلزلهم)) (¬1). وحرص الرسول عليه الصلاة والسلام أن يؤكد لصحبه، ثم للمسلمين في الأرض، أن هذه الأحزاب التي تجاوزت عشرة آلاف مقاتل، لم تهزم بالقتال من المسلمين - رغم تضحياتهم - ولم تهزم بعبقرية المواجهة، إنما هزمت بالله وحده، بالمسلم الذي أسلم في قلب المعركة، واندفع يخذل العدو، وبالريح التي قلبت قدورهم واقتلعت ¬

(¬1) البخاري ك. المغازي 64 ب. غزوة الخندق 29 ج 5 ص 142.

خيامهم؛ {فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا} (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ص) كان يقول: ((لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده)) (¬2). عن جابر رضي الله عنه قال: (دعا رسول الله (ص) على الأحزاب في مسجد الأحزاب يوم الإثنين، يوم الثلاثاء يوم الأربعاء. فاستجيب له بين الظهر والعصر يوم الأربعاء. قال: فعرفنا السرور في وجهه. وقال جابر: فما نزل بي أمر غائظ مهم إلا تحينت تلك الساعة من ذلك اليوم فأدعو الله، فأعرف الإجابة) (¬3). 7 - ودعاء رسول الله (ص) ربه، واعتماده عليه وحده، لا يتناقض أبدا مع التماس الأسباب البشرية للنصر، فقد بذل عليه الصلاة والسلام جهده لتفريق القوم وفك الحصار. واختار أضعف النقاط وهي غطفان، فليس بين غطفان ورسول الله (ص) حرب مباشرة مع أنها تمثل نصف الجيش، وإنما حركها لذلك الرغبة في الغنيمة أكثر من أي شيء آخر، فإذا ¬

(¬1) الأحزاب 9. (¬2) البخاري ص 142. (¬3) مغازي الواقدي 2/ 488 وقد رواها عن كثير بن زيد (صدوق يخطىء) عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك (ثقة) عن جابر بن عبد الله.

عولجت بالعلاج نفسه، ورأت مصلحتها في ترك حرب رسول الله (ص) فعلت. وقد وقع ذلك، لولا طمع عيينة بن حصن في نصف ثمار المدينة، على بعض الروايات، أو رفض السعدين المصالحة التي لم تبرم بعد، وأرجئت على موافقة السعدين، هو الذي حال دون ذلك، لحكمة أكبر ولله الحمد. وتوجيه رسول الله (ص) لنعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه أن يمضي في تخذيل القوم والإذن له بالخديعة في الحرب كما في روية ابن إسحاق، إنما هي جهد بشري بشري تكلف القيادة به في محاولة لإنقاذ الموقف وتفتيت صف العدو. 8 - والتضحيات العظيمة التي قدمها المسلمون في حراستهم للخندق، وحراستهم لرسول الله (ص)، وصد الهجوم المتفرق، والهجوم المطبق الذي شنه عليهم المشركون من أبطال المشركين لهو دليل حي على يقظة المسلمين وقيادتهم، حتى ليستمر القتال ذات يوم من السحر إلى هوي من الليل في اليوم الثاني، ويفوت المسلمون الصلوات الأربع ويقضونها لعجزهم عن التوقف لحظة واحدة أثناء الاشتباك المباشر للقتال. ومواجهة علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو في ريعان شبابه لبطل قريش عمرو بن عبدود، وشدة شكيمته في قتاله حتى قتله، لتؤكد قدرة المسلمين في اللحظات الحاسمة على مواجهة الصعاب مهما كانت ومقاومة التحديات مهما ادلهمت، فبذل الروح والنفس هو أهون ما يملكه المسلم.

وتبقى هذه الصورة كاملة بجوار النفاق الذي نجم والذي أخذ المساحة الأكبر في سوره الأحزاب في الحديث عن الغزوة، ليتضح أن الصف ليس خالصا كله، وليس نقيا كله، ولا يزال للمنافقين وجود واضح فيه، والذي تصاغر وسقط وانحط أمام تدخل ريب العالمين. 9 - والانضباط العظيم الذي شهدناه لدى حذيفة رضي الله عنه، ما أحوج الشباب إلى التأسي به في أبرز نقاطه. (أ) يوم دعا الشباب إلى تخفيف غلوائهم، وهم يتصورون الواقع نظريا، وأنهم لو كانوا هناك أيام رسول الله (ص) لما تركوه يمشي على الأرض، فنزل بهم إلى أرض الواقع في الصف الإسلامي - خيرة أهل الأرض. (ب) في تحديد مستوى الجندي الملتزم الذي لا ينبغي له أن يتراجع أو يتلكأ أو يعتذر حين يكلف بشخصه وعينه (فلم يكن لي بد أن أقوم حين دعاني رسول الله (ص) باسمي) من دون أن يتهم أحدا بدينه أو يشكك في عقيدته حين كان الأمر تطوعا لا فريضة. (ج) وفي التزامه يوم وضع سهمه، ولم يكن إلا أن يرمي به أبا سفيان فيقتله، ورنت في أذنه كلمة قائده الحبيب ((لا تحدثن بهم حدثا)) فنزع سهمه وأقلع عن رميه التزاما بأمر قائده. 10 - وكانت الخندق فعلا نهاية ليل طويل ومحنة قاسية امتدت ما ينوف عن سنتين، كان المسلمون فيها في محن متتابعة، وطمعت العرب بهم بعد أحد، إلى أن آذن الله تعالى بانتهاء هذه المرحلة، حيث بلغت المحنة

قمتها بعشرة آلاف من الأحزاب، للبدء بمرحلة جديدة حددها عليه الصلاة والسلام ((الآن نغزوهم ولا يغزونا)). وأخذ زمام المبادرة لغزو المشركين، في عقائدهم قبل غزوهم في أجسادهم، والانتقال من الدفاع إلى الهجوم. ***

الفصل الخامس والعشرون غزوة الحديبية

الفصل الخامس والعشرون غزوة الحديبية أحداث الحديبية: 1 - (عبد الرزاق عن معمر، قال: أخبرني الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم صدق كل واحد منهما صاحبه - قالا: (- خرج رسول الله (ص) زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، حتى إذا كانوا بذي الحليفة (¬1)، قلد رسول الله (ص) الهدي، وأشعره، وأحرم بالعمرة، وبعث بين يديه عينا من خزاعة - يخبره عن قريش - وسار رسول الله (ص) حتى إذا كان بغدير الأشطاط (¬2) قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش (¬3)، وجمعوا لك جموعا ¬

(¬1) ذي الحليفة: ميقات أهل المدينة على بعد ستة أميال منها. (¬2) غدير الأشطاط وعسفان: هي من مكة على مرحلتين. (¬3) الأحابيش: الأعراب حول مكة.

وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت. فقال النبي (ص): ((أشيروا علي! أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محرومين (¬1) وإن يجيئوا تكن عنقا قطعها الله، أم ترون أن نؤم البيت، فمن صدنا قاتلناه)) فقالوا: رسول الله أعلم، يا نبي الله إنما جئنا معتمرين، ولم نجىء لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، قال النبي (ص): ((فروحوا إذا)). فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي (ص): ((إن خالد بن الويد بالغمم (¬2) في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين))، فالله ما شعر بهم خالد إذ هو بقترة (¬3) الجيش، فانطلق، فإذا هو يركض نذيرا لقريش، وسار النبي (ص) حتى إذا كانوا بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل. فقالوا: خلأت (¬4) القصواء، خلأت القصواء. فقال النبي (ص): ((ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكنها حبسها حابس الفيل)) ثم قال: ((والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)) ثم زجرها، فوثبت به. قال: فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد (¬5) قليل الماء، إنما ¬

(¬1) محروبين: مسلوبي المال. (¬2) الغميم: واد أمام عسفان بثمانية أميال. (¬3) قترة الجيش: غباره. (¬4) خلأت القصواء: بركت. (¬5) ثمد: ماء قليل.

يتبرضه (¬1) الناس تبرضا، فلم يلبثه أن نزحوه فشكي إلى رسول الله (ص)، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه. قال: فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه. فبينا هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل (¬2). وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت. فقال النبي (ص): ((إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكننا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم (¬3) الحرب، وأضرت بهم، فإذا شاؤوا ماددتهم (¬4) مدة ويخلوا بيني وبين الناس. فإن أظهر، فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل به الناس فعلوا، وإلا فقد جموا (¬5) وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لاقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي (¬6) أو لينفذن الله أمره)). فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤمم لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه شيء، وقال ¬

(¬1) يتبرضه: يتبلغه الناس بالقليل. (¬2) العوذ المطافيل: أي خرجوا ومعهم اللبن والزاد لطول المقام والدفاع. (¬3) نهكتهم: أهلكتهم. (¬4) ماددتهم: هادنتهم لمدة. (¬5) فقد جموا: استراحوا وازدادت قوتهم. (¬6) تنفرد سالفتي: صفحة العنق وكنى بها عن الموت.

ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول. قال: سمعته يقول كذا وكذا. فحدثهم بما قال النبي (ص)، فقام عروة بن مسعود الثقفي، فقال: أي قومي ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ. فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته، فقالوا: فأته. فأتاه. قال: فجعل يكلم النبي (ص) نحوا مما قاله لبديل. فقال عروة عند ذلك: أرأيت إن استأصلت قومك هل سممت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك، وإن تكن الأخرى، فإني لأرى وجوها، وأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا عنك. فقال أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن ننكشف عنه؟ فقال: من ذا؟ قال: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لولا يدلك عندي لم أجزل بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي (ص). فكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي (ص)، ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة يده إلى لحية النبي (ص) ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله (ص)، فرفع عروة رأسه، قال: من هذا؟ فقالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر أولست أسعى في غدرتك .. ثم إن عروة جعل يرمق صحابة النبي (ص) بعينيه: فوالله ما تنخم رسول الله نخامة إلا وقعت في يد رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، قال: فرجع

عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشي، والله إن رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا .. وإنه عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من كنانة (¬1): دعوني آته. فقالو: أئته، فلما أشرف على النبي (ص) وأصحابه. قال رسول الله (ص): ((هذا فلان وهم من قوم يعظمون البدن فابعثوها له)) فبعثوها له، وانطلق القوم يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فقال رجل منهم يقال له مكرز بن حفص: دعوني آته. قالوا: أئته. فلما أشرف عليهم قال النبي (ص): ((هذا مكرز وهو رجل فاجر)) فجعل يكلم النبي ..) (¬2). 2 - قال ابن إسحاق: (... ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي. وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني، عثمان بن عفان. فدعا رسول الله (ص) عثمان بن عفان. فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما له. قال ابن إسحاق: فخرج عثمان إلى مكة فلقيه إبان بن سعيد بن ¬

(¬1) رجل من كنانة: هو الحليس بن علقمة أو ابن زيان، وهو سيد الأحابيش. (¬2) المغازي للزهري 50 - 54. ورجاله زجال الصحيحين.

العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله (ص) فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله (ص) ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله (ص) إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله (ص)، واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله (ص) أن عثمان بن عفان قد قتل) (¬1). قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله (ص) قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: لا نبرح حتى نناجز القوم. فدعا رسول الله (ص) إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة. فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله (ص) على الموت. وكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله (ص) لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفر. فبايع رسول الله (ص) الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها، إلا الجد بن قبس، أخو بني سلمة، فكان جابر بن عبد الله يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد خبأ إليهاا يستتر بها من الناس. ثم أتى رسول الله (ص) أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل. قال ابن هشام: وحدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له عن ابن أبي مليكة عن ابن عمر: أن رسول الله (ص) بايع لعثمان، فضرب بإحدى يديه على الأخرى) (¬2). ¬

(¬1) وسندها: حدثني من لا أتهم عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 315، 316. وقد أورد البخاري سفارة عثمان عن ابن عمر رضي =

3 - قال معمر: قال الزهري في حديثه. فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينك كتابا، فدعا النبي (ص) الكتاب، فقال النبي: ((اكتب بسم الله الرحن الرحيم)) فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا يكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال رسول الله (ص): ((اكتب: باسمك اللهم)) ثم قال: ((هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)) فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال النبي (ص) ((والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله)) قال الزهري: وذلك لقوله ((لا يسألوني خطة يعظمون بها حرمة الله إلا أعطيتهم إياها)) فقال النبي (ص): ((على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به)) فقال سهيل: لا تتحدث العرب أنا اخذنا ضغطة. ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب: فقال سهيل: على أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. فقال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما ¬

= الله عنهما قال: وأما عن تغيبه عن بيعة الرضون فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه فبعث عثمان، وكان بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال النبي (ص) بيده اليمنى: هذه يد عثمان، فضرب بها على يده. فقال: هذه لعثمان. البخاري ك. 64 المغازي ب. إن الذين تولوا منكم 19 ج 5 ص 126.

أقاضيك عليه أن ترده إلي. فقال النبي (ص) ((إنا لم نقض الكتاب بعد)) قال: فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا. فقال النبي (ص): ((فأجزه لي)) فقال: ما أنا بمجيزه لك. قال: ((بلى فافعل)) قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجزناه لك. فقال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما؟! ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله. فقال عمر بن الخطاب: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، قال: فأتيت النبي (ص) فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: ((بلى)) قال: قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: ((بلى)) قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: ((إني رسول الله، ولست أععصيه وهو ناصري)) قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: ((بلى، فأخبرتك أنك تأتيه العام)) قلت: لا. قال: ((فإنك آتيه ومطوف به)). قال: فأتيت أبا بكر، فقلت يا أبا بكر: أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلت: فلم نعط الدنية في ديننا إذا. قال: أيها الرجل إنه رسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره. فاستمسك بغرزه حتى تموت. فوالله إنه لعلى الحق. قلت: أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت، ونطوف به؟ قال: فأخبرك أنه سيأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا. قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله (ص): ((قوموا فانحروا ثم احلقوا)) قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات. قال: فلما لم يقم منهم أحد. قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت أم سلمة: يا نبي

الله أتحب ذلك، أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فقام فخرج فلم يكلم أحدا حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد يقتل بعضهم بعضا غما) (¬1). ... 1 - ((الآن نغزوهم ولا يغزونا)) لقد ابتدأت المرحلة الجديدة، وتحرك المسلمون نحو مكة: صحيح أنهم قاصدو العمر. لكن هذا التحرك بحد ذاته إيذان بمنطلق جديد، محفوف بالأخطار، فلن ترضى مكة ببساطة هذا التحدي، وقد عبأت كل قواتها من بني عامر بن لؤي وكعب بن لؤي والأحابيش (قريش الظواهر وقريش البطاح) أهل مكة والأعراب المجاورون حولها. يعاهدون الله أن لا يدخل محمد مكة عنوة أبدا. وقد أبدى عليه الصلاة والسلام استعداده للمواجهة مرتين: الأولى: حين بلغه تجمع قريش لمواجهته فقال: ((أم ترون أن نؤم البيت، فمن صدنا قاتلناه)). الثانية: في الرسالة التي بعثها مع بديل بن ورقاء: ((إنا لم نجىء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين .. وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره)). قبل عام كانوا محاطين بعشرة آلاف مقاتل من فوقهم ومن أسفل منهم، وهم الآن على مشارف مكة، يستعدون للمواجهة مع من يحول ¬

(¬1) المغازي النبوية للزهري 54 - 56 ورجاله رجال الصحيح، وقد ورد بعضا منه بالسند نفسه عن البخاري.

بينهم وبين البيب الحرام. 2 - لقد تغير الموقف والاتجاه مع الرسول (ص)، منذ أن كانوا في الثنية التي تهبط منها على الحديبية، وبركت الناقة هناك. لقد كانت الاستشارة قبل بروك الناقة قائمة، في المواجهة أو غزو ذراري المشركين، وحتى في نزول الأمكنة، لكن بروك الناقة يعني تطورا جديدا في الخطة النبوية عبر عليه الصلاة والسلام عنها بقوله: ((ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكنها حبسها حابس الفيل)) وحابس الفيل حال دون أبرهة ومكة، ولهذا أعلن عليه الصلاة والسلام ملامح الخطة الجديدة المتطورة: ((والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)). وهذا التطور تم من غير مشورة، إنما ثم بتوجيه رباني صرف، قرر عليه الصلاة والسلام على ضوئه الانتقال من المواجهة إلى المصالحة أو الهدنة ما أمكن ذلك. 3 - ولكنها ليست الهدنة أو المصالحة عن ضعف، بل هي من موطن القوة. ورسل قريش الذين جاؤوا أربعة: بديل بن ورقاء: وهو متهم بتحيزه لمحمد (ص)، لكن الرسالة التي حملها بثت الرعب في قلب القوم. عروة بن مسعود: الذي استنجد بثقيف فلم تنجده فجاء بأهله وخاصته ليظاهر قريشا ضد محمد (ص)، ولقد أبدى المسلمون أمام عروة ابن مسعود من القوة والانضباط والتفاني بقيادتهم ما أذهل عروة. يقتتلون على وضوئه، يبتدرون نخامته فيدلكون بها وجوههم، وكان لا بد من هذه

المظاهر لتواجه مكر ثقيف المتمثل بعروة والذي حاول أن يوهن الصف المسلم ويتهمه بالتخاذل (فإني لأرى وجوها وأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا عنك)، فكان الرد الحاسم الصارم من أبي بكر الصديق .. أبي بكر الحليم الوديع الهادىء يجيبه بقوله: (امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟) وفي جواب ابن أخي عروة المغيرة بن شعبة الذي يهدد عروة بقوله: (أخر يدك عن لحية رسول الله (ص) قبل أن لا ترجع إليك). لقد تماسك عروة ظاهرا، أما حقيقة قناعته فهي التي نقلها لقريش: (والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا) ثم دعا قريش لقبول المصالحة. الوافد الثالث: الحليس بن علقمة زعيم أعراب مكة، ومنذ أن رآه رسول الله (ص) قال: ((إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا في وجهه الهدي)) فرأى الهدي فقفل راجعا من حيث جاء، ومضى يسائل قريشا: أيصد عن البيت من جاء معظما له؟ فيقول له أحدهم: اجلس إنما أنت أعرابي .. فثارت ثائرته وقال: والله ما على هذا حالفناكم .. والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. الوافد الرابع: مكرز بن حفص، وقال عنه عليه الصلاة والسلام عندما رآه: ((هذا رجل غادر)) وكلم نحوا مما كلم بديلا الخزاعي. لقد باءت خطة مكة بالفشل، وهي تحاول أن تثني محمدا وصحبه بالإرهاب والتخويف، ووجدت نفسها مسوقة مرغمة إلى

المفاوضات. إنها عظمة القيادة النبوية التي تسيطر على الموقف. وتواجه كل طارىء بما يناسبه، وعظمة الصف المسلم الذي بدا أمام هؤلاء في أعلى مستوى من الانضباط والطاعة والاستعداد للفداء. 4 - وإلى سفارة عثمان وبيعة الرضوان: فيقف المسلم أمام جرأته، حيث يمضي لمكة معقل الشرك والمشركين، ليبلغ رسالة رسول الله (ص)، والتزامه في رفضه الطواف حتى يطوف النبي (ص). ومثل هذا الجندي الفدائي، ما أن يبلغ رسول الله (ص) مقتله، حتى ليرى نفسه أن لا خيار أمامه إلا الحرب، إنها القيادة الفذة التي تخوض حربا من أجل جندي واحد بلغها مقتله. ويعجب المرء أكثر لالتزام الصف المسلم كله، القادم للعمرة لا للحرب، فحين يدعو رسول الله (ص) للبيعة على الموت أو على عدم الفرار، لا يوجد في الصف كله من يعترض أو يناقش، إننا لو كنا في غير هذه الأمة لحقد الجنود على قائدهم أن جاء يورطهم في حرب لم يعدوا لها عدتها، وهم خارجون للنسك لا للقتال. وقد يعذر القائد واحدا أو اثنين أو أكثر، أما في الصف المسلم، في الألف والأربعمائة، لم يتخلف إلا منافق واحد لم يجرؤ على البيعة واختبأ في ظل ناقته، وحق لهؤلاء أن يكونوا خير أهل الأرض. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله

(ص) يوم الحديبية: ((أنتم خير أهل الأرض)) وكنا ألفا وأربعمائة) (¬1). هذا الصف المسلم الذي يبايع على الموت، توقف المعركة، ويقر الصلح، ويقر رسول الله (ص) بنودا في ظاهرها انتقاص للمسلمين وددنية في دينهم، قد يتكلمون قبل أن يقول الرسول (ص) كلمته، ولكن بعد أن يقولها، فالسمع والطاعة، وإن كادوا ليتميزون غيظا من الألم. لكن هذا لا ينال من انضباطهم شيئا .. ويفقد ابن الخطاب رضي الله عنه توازنه وأعصابه، ويحتج ويأتيه الجواب: ((إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري)). إن صفا بهذا المستوى العظيم يبايع على الموت، ولم يأت للحرب، ثم يلتزم بإيقاف الحرب لعشر سنين، في فترة واحدة لهو مؤهل أن يغير وجه التاريخ، وقد فعل. ومن أجل هذا كان أصحاب بيعة الرضوان أفضل المسلمين في الأرض إلى قيام الساعة بعد أهل بدر. وإن الدعاة إلى الله اليوم مدعوون إلى أخذ أنفسهم بالتربية والمجاهدة إلى أن يقتربوا من هذه القمة السامقة في تكوين القاعدة الصلبة، التي تحارب حين يحارب أميرها، وتسالم حين يسالم .. تحمل السلاح حين تؤمر، وتضع السلاح حين تؤمر .. طائعة على المنشط والمكره وأثره عليها، وعندما تبلغ القاعدة الصلبة هذا المستوي تكون ¬

(¬1) البخاري ك. المغازي 64 ب. غزوة الحديبية 35 ج 5 ص 157.

مؤهلة للتمكين في الأرض، والاستخلاف فيها، وتحقيق موعود الله بنصره وتأييده. 5 - وكانت الحديبية الفتح المبين: فظاهر الأمر ذلة للمؤمنين، في عودتهم عن مكة وقد صدوا عن البيت، وفي التزامهم برد من جاءهم مسلما دون أن يلتزم المشركون بمقابله، وفي إصرارهم على أن يمحوا اسم الله واسم رسوله من وثيقة الصلح، وقد تجسد هذا الغيظ مضاعفا بقدوم أبي جندل بن سهيل، وقد فر من المشركين للمسلمين، ويصرخ: يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني. ورسول الله (ص) يقول: ((اصبر أبا جندل فإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا)). هذا هو ظاهر الأمر، للعقل البشري القاصر، أما أبعاده فكانت في ميزان الله غير ذلك: (أ) فعن البراء بن عازب قال: (تعدون الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضون يوم الحديبية) (¬1). (ب) (عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله (ص) كان يسير في بعض أسفار، وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا، فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه رسول الله (ص) ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه، وقال عمر بن الخطاب: ثكلتك أمك يا عمر نزرت رسول الله (ص) ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك، قال عمر: فحركت بعيري ¬

(¬1) البخاري ك. المغازي ب غزوة الحديبية 35 ج 5 ص 157.

ثم تقدمت أمام المسلمين وخشيت أن ينزل في قرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي. قال: فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، وجئت رسول الله (ص) فسلمت عليه فقال: ((لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب علي مما طلعت عليه الشمس)) ثم قرأ: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا}) (¬1). (ج) (عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم، قال: لما نزلت: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله} إلى قوله {فوزا عظيما} مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحر الهدي بالحديبية، فقال: ((لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا)) (¬2). (د) (عن أنس بن مالك رضي الله عنه: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} قال: الحديبية. قال أصحابه: هنيئا مريئا فما لنا فأنزل الله: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات} قال شعبة: فقدمت الكوفة فحدثت بهذا كله عن قتادة ثم رجعت فذكرت له فقال: أما {إنا فتحنا لك} فعن أنس، وأما (هنيئا مريئا فعن عكرمة) (¬3). وحق لعمر رضي الله عنه أن يرتجف قلبه بعد الموقف العنيف الذي وقفه، وهو يسأل رسول الله (ص) ثلاث مرات فلا يرد عليه، حتى ¬

(¬1) البخاري ص 161. (¬2) مسلم ك. الجهاد والسير 32 ب. صلح الحديبية 34 ج 3 ح 97 ص 1413. (¬3) البخاري ك. المغازي 64 ب. صلح الحديبية 35 ج 5 ص 165.

ليخشى أن ينزل الله فيه قرآنا، وعندما نزلت آية الفتح اختار رسول الله (ص) عمر بالذات ليسمعه إياها ردا على تصوره: (فلم نعط الدنية في ديننا) {إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا} (¬1). وحق لرسول الله (ص) أن تكون هذه الآية، أحب إليه مما طلعت عليه الشمس، وأحب عليه من الدنيا جميعا، فالله تعالى قد فتح له الفتح المبين، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأتم نعمته عليه ونصره نصرا عزيزا، فأي نعم في هذا الوجود تفوق هذه النعم؟ وقد نزلت والمسلمون يخالطهم الحزن والكآبة لما نزل بهم من هم الحديبية، وحق لهم أن يفرحوا بعد حزن، وقد سروا لسرور رسول الله (ص) إن كان النصر والفتح والمغفرة لرسول الله فماذا لهم؟ ويأتيهم الجواب: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما} (¬2). وكان هذا الفتح المبين، هو فتح القلوب لهذا الدين والتوطئة لفتح مكة: يقول الزهري: فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس كلم بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة فلم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل ¬

(¬1) الفتح 3/ 1. (¬2) الفتح / 5.

في تينك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. قال ابن هشام: والدليل على ما قاله الزهري أن رسول الله (ص) خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة رجل في قول جابر، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف) (¬1). لقد انطلق الإسلام، وتجاوز ليل المحنة الطويل الذي جثم من أحد إلى الخندق، وكان صلح الحديبية إيذانا بفجر جديد للدعوة والدعاة. ... ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 192/ 4 - 193.

الفصل السادس والعشرون غزوة خيبر

الفصل السادس والعشرون غزوة خيبر أحداث الغزوة: 1 - عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: (لما انصرف رسول الله (ص) حتى أتى المدينة فغزا خيبر من الحديبية فأنزل الله عليه {وعدكم الله مخانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه} إلى {ويهديكم صراطا مستقيما} فلما فتحت خيبر جعلها لمن غزا معه الحديبية، وبايع تحت الشجرة ممن كان غائبا أو شاهدا من أجل أن الله كان وعدهم إياها) (¬1). وقال موسى بن عقبة: (لما رجع رسول الله (ص) من الحديبية مكث عشرين يوما أو قريبا من ذلك ثم خرج إلى خيبر وهي التي وعدها الله إياها) (¬2). وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة ¬

(¬1) المغازي النبوية للزهري 84 وقعة خيبر. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير 4/ 204.

عن مروان والمسور قالا: (انصرف رسول الله (ص) عام الحديبية، فنزلت عليه سورة الفتح بين مكة والمدينة. فقدم المدينة في ذي الحجة، فأقام بها حتى سار إلى خيبر، فنزل بالرجيع - واد بين خيبر وغطهان - فتخوف أن تمدهم غطفان حتى أصبح فغدا عليهم) (¬1). 2 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله (ص) أتى خيبر ليلا وكان إذا أتى قوما بليل لم يغز بهم حتى يصبح، فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا قالوا: محمد والله، محمد والخميس. فقال النبي (ص) ((الله أكبر، خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح النذرين)) (¬2). وفي رواية: فأصبنا من لحوم الحمر فنادى منادي النبي (ص): إن الله ورسوله ينهانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس) (¬3) (فأكفئت القدور وإنها لتفور باللحم) (¬4). 3 - (وتدنى رسول الله (ص) الأموال يأخذها مالا مالا، ويفتتحها حصنا حصنا فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة، فألقيت عليه منه رحا فقتلته. ثم القموص حصن بني أبي الحقيق، وأصاب رسول الله (ص) منهم سبايا منهن صفية بنت حيي (¬5). ¬

(¬1) البداية والنهاية 4/ 204. (¬2) و (¬3) البخاري ك. المغاي والسير 94 ب. غزوة خيبر 38 ج 5 ص 167. (¬4) المصدر نفسه ص 167. (¬5) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 330، 331.

4 - (فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدثه بعض أسلم: أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله (ص) فقالوا: والله يا رسول الله لقد جهدنا وما بأيدينا شيئا، فلم يجدوا عند رسول الله (ص) شيئا يعطيهم إياه فقال: ((اللهم إنك قد عوفت ما لهم وأنه ليست بهم قوة، وأنه ليس بيدي شيء أعطيهم إياه. فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء، وأكثرها طعاما وودكا (¬1))) فغدا الناس، ففتح الله عز وجل حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكبر طعاما وودكا منه) (¬2). 5 - (وحاصر رسول الله (ص) أهل خير في حصنيهم الوطيح والسلالم، - وكان آخر حصون أهل خيبر افتتاحا، فحاصرهم رسول الله (ص) بضع عشرة ليلة - حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم، وأن يحقن لهم دماءهم ففعل. وكان رسول الله (ص) قد حاز الأموال كلها، الشق ونطاة والكتيبة، وجميع حصونهم إلا ما كان من ذينك الحصنين. فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا، بعثوا إلى رسول الله (ص) يسألونه أن يسيرهم ويحقن دماءهم، ويخلوا له الأموال. ففعل، وكان فيمن مشى بين رسول الله (ص) وبينهم في ذلك محيصة بن مسعود أخو بني حارثة. فلما نزل أهل خيبر على ذلك، سألوا رسول الله (ص) أن يعاملهم في الأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم وأعمر لها. فصالحهم رسول الله (ص) على النصف على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم .. فصالحه أهل فدك على مثل ذلك. فكانت خيبر ¬

(¬1) الودك: دقيق يساط بشحم. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 332/ 2.

فيئا بين المسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله (ص) لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب) (¬1). 6 - وعن سهل بن سعد أن رسول الله (ص) قال يوم خيبر: ((لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)) قال: فبات الناس يدوكون (¬2) ليلتهم أيهم يعطاها. فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يعطاها. فقال: ((أين علي ابن أبي طالب)) فقيل هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال: ((فأرسلوا إليه)) فأتي به فبصق رسول الله (ص) في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع. فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. فقال: ((انفذ على رسلك حتى تنزل ساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم))) (¬3). 7 - (... ثم أرسلني إلى علي وهو أرمد. فقال: ((لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله أو يحبه الله ورسوله)) قال: فأتيت عليا فجئت به أقوده وهو أرمد، حتى أتيت به رسول الله (ص) فبصق في عينيه فبرأ وأعطاه الراية، وخرج مرحب فقال: قد علمت خيبر أني مرحب ¬

(¬1) المصدر نفسه 337/ 2. (¬2) يدوكون: يختلفون من يأخذها. (¬3) البخاري ك. المغاني والسير 64 ب. غزوة خيبر 38 ج 5 ص 171.

شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حيدره (¬1) كليث غابات كربه المنظره أوفيهم بالصاع كيل السندره (¬2). قال: فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه) (¬3). 8 - (عبد الرزاق عن معمر عن ثابت البناني عن أنس بن مالك: لما افتتح رسول الله (ص) خيبر قال الحجاج بن علاط: يا رسول الله إن لي بمكة مالا، وإن لي بها أهلا، وإني أريد أن آتيهم. فأنا في حل إن أنا نلت منك، أو قلت شيئا؟ فأذن له رسول الله (ص) أن يقول ما شاء. فأتى امرأته حين قدم فقال: اجمعي لي ما كان عندك. فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد (ص) وأصحابه فإنهم قد استبيحوا، وأصيبت أموالهم. وفشا ذلك في مكة، فانقمع المسلمون وأظهر المشركون فرحا وسرورا. قال: وبلغ الخبر العباس بن عبد المطلب فقعد، وجعل لا يستطيع أن يقوم، قال معمر: فأخبرني عثمان الجزري عن مقسم قال: فأخذ ابنا ¬

(¬1) حيدرة: اسم للأسد. (¬2) السندرة: مكيال واسع ومعناه: أقتل الأعداء قتلا واسعا ذريعا. (¬3) مسلم ك. الجهاد والسير 32 ب. 35 غزوة ذي قرد وغيرها ج 3 ص 1440 ح 1807.

له يشبه رسول الله (ص) يقال له قثم، فاستلقى فوضعه على صدره وهو يقول: حبي قثم شبيه ذي الأنف الأشم نبي رب ذي النعم برغم أنف من رغم قال ثابت: قال أنس: ثم أرسل غلاما له إلى الحجاج: ماذا جئت به، وماذا تقول، فما وعد الله خير مما جئت به، فقال الحجاج بن علاط: اقرأ على أبي الفضل السلام، وقل له: فليخل في بعض بيوته لآتيه. فإن الخبر على ما يسره، قال: فجاءه غلامه، فلما بلغ باب الدار قال: أبشر يا أبا الفضل. قال: فوثب العباس فرحا حتى قبل ما بين عينيه، فأخبره بما قال الحجاج فأعتقه. ثم جاءه الحجاج فأخبره أن رسول الله (ص) قد افتتح خيبر، وغنم أموالهم، وجرت سهام الله تعالى في أموالهم، واصطفى رسول الله (ص) صفية بنت حيي فأخذها لنفسه، وخيرها بين أن يعتقها وتكون زوجه، أو تلحق بأهلها. فاختارت أن يعتقها وتكون زوجه، ولكني جئت لما كان لي هاهنا. أردت أن أجمعه فأذهب به، فاستأذنت رسول الله (ص) فأذن لي أن أقول ما شئت. واخف عني ثلاثا. ثم اذكر ما بدا لك، فجمعت امرأته ما كان عندها من حل ومتاع فدفعته إليه، ثم انشمر به) (¬1). ... ¬

(¬1) المغازي النبوية للزهري 162. وقد أخرجه النسائي والإمام أحمد وابن إسحاق بنحوه. وهذا الإسناد على شرط الشيخين.

من فقه الغزوة

من فقه الغزوة: 1 - {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما} (¬1). (وقال شعبة عن الحاكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله: {وأثابهم فتحا قريبا} قال خيبر) (¬2). وتحقق موعود الله تعالى في أقل من شهر. وكما تقول عائشة رضي الله عنها: (لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر) (¬3). لقد خرجوا إلى خيبر وما عندهم ما يأكلونه كما روى سويد بن النعمان أنه خرج مع النبي (ص) عام خيبر (حتى إذا كنا بالصهباء وهي من أدنى خيبر صلى العصر ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسويق (¬4) فأمر به فثرى (¬5) فأكل وأكلنا ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا ثم صلى ولم يتوضأ) (¬6). وعادوا من خيبر حيث كانت (الشق ونطاة قد قسمت على ألف ¬

(¬1) الفتح 19،18. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير 4/ 204. (¬3) البخاري ج 5 ص 178. (¬4) السويق: ديق يلت مع السمن ويطبخ ويجفف. (¬5) ثرى: بله بالماء ليبسه. (¬6) البخاري ج 5 ص 178 ب. 38 ك. 64.

سهم وثمانماثة سهم برجالهم وخيلهم الرجال أربع عشر مائة والخيل مائتا فارس. ثم قسم رسول الله (ص) الكتيبة، وهي وادي خاص (¬1) بين قرابته وبين نسائه، وبين رجال المسلمين ونساء أعطاهم منها) (¬2). 2 - ولقد تحقق موعود الله بالفتح القريب، وانتهى وكر اليهودية من جزيرة العرب، والتي كانت تقض مضجع المسلمين في كل وقت، فهي التي ألبت الأحزاب يوم الأحزاب، وهي التي حاربت ونقضت العهد في كل مرة {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضوق عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} (¬3). ولقد كان التخطيط النبوي في غاية الحكمة والعبقرية، ففي أقل من شهر بعد هدنة الحديبية مع العدو اللدود، الذين أمن جانبه في الصلح معه، كان يدك أبواب خيبر لينهي العدو الألد من اليهود الذين باتوا يخططون للانقضاض على المدينة، ويحول دون غطفان العدو الثالث وإمداده لليهود، لقد استطاع عليه الصلاة والسلام بذكائه وعبقريته أن ينهي كل عدو على حدة، وهو يتربص به الدوائر. والجماعة المؤمنة بحاجة على أن تكون على مستوى الأحداث وتفقه كيف تواجه أعداءها، لا أن تكون فريسة لهم. ¬

(¬1) كذا في الأصول (معجم البلدان) وذهب السهيلي إلى أنه تحريف وصوابه (خلص). (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 350، 351. (¬3) الأنفال 55 - 58.

3 - ونجد في خيبر نموذجين متقابلين كذلك، فليس كل صمود وقتال يمثل حقيقة الإسلام، إذ لا بد من خلوص النية في الجهاد في سبيل الله لتتضح عوامل النصر والهزيمة أمام أعيننا. فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: شهدنا خيبر، فقال رسول الله (ص) رجل ممن معه يدعي الإسلام ((هذا من أهل النار)) فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراحة، حتى كاد بعض الناس يرتاب. فوجد الرجل ألم جراحه فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أسهما فنحر بها نفسه، فاشتد رجال من المسلمين فقالوا: يا رسول الله أصدق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه فقال: ((قم يا فلان فأذن أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر)) (¬1). ويقابل هذه الصورة ما رواه البيهقي عن أنس: (أن رجلا أتى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله إني رجل أسود اللون قبيح الوجه، فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل أدخل الجنة؟ قال: ((نعم)) فتقدم فقاتل حتى قتل، فأتى عليه رسول الله (ص) وهو مقتول فقال: ((لقد حسن الله وجهك وطيب ريحك وكثر مالك)) وقال: ((لقد رأيت زوجتيه من الحور العين يتنازعان جبته عليه يدخلان فيما بين جلدته وجبته)) (¬2). وفي رواية ثانية للبيهقي: وقال فيه ((قتل شهيدا وما سجد لله سجدة)) (¬3). ¬

(¬1) البخاري ك. 64 ب. 38 ج 5 ص 169. (¬2) و (¬3) البداية والنهاية لابن كثير 4/ 215.

فالذي لم يسجد لله سجدة. صدق الله تعالى فصدقه، وشهد له رسول الله (ص) بالشهادة وكفنه، ودعا له. والذي قاتل وظاهره من أهل الإسلام حتى ((لا يدع من المشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها فضربها بسيفه)) (¬1) يشهد رسول الله (ص) أنه من أهل النار. 4 - (وشهدت خيبر، وسام رسول الله (ص) للفتاة الغفارية التي حضرت معه الحرب إذ تروي لنا قصة هذا الوسام فتقول: أتيت رسول الله (ص) في نسوة من بني غفار. فقلنا: يا رسول الله: قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا - وهو يسير إلى خيبر - فنداوي الجرحى، ونعين المسلمين بما استطعنا. فقال: ((على بركة الله)) قالت: فخرجنا معه وكنت جارية حدثة السن فأردفني رسول الله (ص) على حقيبة رحله فوالله لنزل رسول الله (ص) إلى الصبح، ونزلت عن حقيبة رحله، وإذا بها دم مني. وكانت أول حيضة حضتها. فتقبضت إلى الناقة واستحييت. فلما رأى رسول الله (ص) ما بي، ورأى الدم، قال: ((ما لك لعلك نفست)) قالت: قلت: نعم. قال: ((فأصلحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك)) قالت: فلما فتح الله خيبر رضخ لنا من الفيىء، وأخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي فأعطانيها، وعلقها في عنقي، فوالله لا تفارقني أبدا، وكانت في عنقها حتى ماتت، ثم أوصت أن تدفن معها. قالت: وكانت لا تطهر من حيضها، إلا جعلت في طهورها ¬

(¬1) من رواية ثانية للبخاري ج 5 ص 168.

ملحا، وأوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت) (¬1). وهي صورة حية أمام كل فتاة مسلمة، تحرص على أن تشارك في أجر الجهاد مع المسلمين. 5 - (وشهدت خيبر، قدوم جعفر بن أبي طالب، والوفد المرافق له من الحبشة. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: بلغنا مخرج النبي (ص) ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم أحدهم أبو بردة والآخر أبو رهم - إما قال في بضع، وإما قال في ثلاثة وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلا من قومي - حتى قدمنا جميعا، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي في الحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا، فوافقنا النبي (ص) حين افتتح خيبر، فكان أناس من الناس يقولون لنا - يعني لأهل السفينة -: سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس - وهي ممن قدم معنا - على حفصة زوج النبي (ص) زائرة. وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر. فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: ألحبشية هذه؟ ألبحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم! قال: ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 341/ 2،342. وقد رواها ابن إسحاق عن سليمان بن سحيم عن أمية بن أبي الصلت عن امرأة من بني غفار قد سماها لي. كما رواها الإمام أحمد وأبو داود من حديث محمد بن إسحاق به.

سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله (ص) منكم، فغضبت وقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله (ص) يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار - أو في أرض - البعداء والبغضاء، بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله (ص). وإيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت للنبي (ص)، ونحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك للنبي (ص) وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه. فلما جاء النبي (ص) قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا، قالت: قال: ((ما قلت له؟)) قالت: قلت: كذا وكذا. قال: ((ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة. ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان)) (¬1). وكان هذا هو الوسام الثاني للوفد المرافق لجعفر، حملته أسماء وزعته على جميع أعضاء الوفد حيث كانوا كما قالت: (يأتوني أرسالا يسألونني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في نفوسهم مما قال لهم النبي (ص) (¬2). ... ¬

(¬1) و (¬2) البخاري ك. 64 ب. 38 ج 5 ص 174،175.

الفصل السابع والعشرون غزوة مؤتة

الفصل السابع والعشرون غزوة مؤتة أحداث الغزوة: 1 - عن عروة بن الزبير قال: بعث النبي (ص) بعثا إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان واستعمل عليهم زيد بن حارثة، فقال لهم: ((إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس. فإن أصيب جعفر فعبد الله ابن رواحة على الناس)) فتجهز الناس ثم تهيؤوا للخروج وهم ثلاثة آلاف. فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله (ص)، وسلموا عليهم. فلما ودع عبد الله بن رواحة مع من ودع بكى. فقيل له: ما يبكيك يا ابن روحة؟ فقال: والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة، ولكن سمت رسول الله (ص) يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا} فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود؟ فقال لهم المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين. فقال عبد الله بن رواحة: لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرع (¬1) تقذف الزبدا ¬

(¬1) ذات فرع: واسعة.

أو طعنة بيدي حران مجهزة (¬1) ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... أرشده الله من غاز وقد رشدا ثم إن القوم تهيؤوا للخروج فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله (ص) يودعه فقال: فثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا إني تفرست فيك الخيل نافلة ... فراسة خالفتهم في الذي نظروا أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى بها القدر (¬2) ثم خرج القوم، وخرج رسول الله (ص) يشيعهم حتى إذا ودعهم وانصرف عنهم قال عبد الله بن رواحة: خلف السلام على امرى ودعته ... في النخل خير مشيع وخليل ثم مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشام، فبلغهم أن هرقل في مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم. وقد اجتمعت إليه المستعربة من لخم وجذام وبلقين وبهرام وبلى في مائة ألف عليهم رجل من بلى أخذ رايتهم، يقال له مالك بن زافلة. فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا بمعان ليلتين ينظرون في أمرهم. وقالوا: نكتب إلى رسول الله (ص) فنخبره بعدد عدونا. فإما أن يمدنا وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. فشجع عبد الله بن روحة الناس، وقال: يا قوم والله إن التي تكرهون ¬

(¬1) مجهزة: سريعة القتل. (¬2) أزرى به القدر: قصر به.

للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة .. ومضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال له مؤاب، ثم دنا المسلمون، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة. فالتقى الناس عندها، وتعبأ المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بني عذرة يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار يقال له عبادة بن مالك. ثم التقى الناس وقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله (ص) حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى إذا ألجمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، فقاتل القوم حتى قتل، وكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام) (¬1). 2 - وعن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: (حدثني أبي الذي أرضعني وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزاة غزوة مؤتة. قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب حين اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها ثم قاتل القوم حتى قتل، فلما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه وتردد بعض التردد ثم قال: أقسمت يا نفس لتنزلنه طائعة أو لتكرهنه ¬

(¬1) مجمع الزوائد للهيثمي 6/ 160 وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات إلى عروة.

ما لي أراك تكرهين الجنه إن أجلب الناس وشدوا الرنه (¬1) لطالما قد كنت مطمئنه هل أنت إلا نطقة من شنة (¬2) وقال عبد الله بن رواحة: يا نفس إلا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيت فقد لقيت ... إن تفعلي فعلهما هديت ثم نزل، فلما نزل أتاه ابن عم له بعظم من لحم فقال: اشدد بها صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما قد لقيت. فأخذه من يده فانتهش منه نهشة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس فقال: وأنت في الدنيا، ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل. فأخذ الراية ثابت بن أقرم أحد بلعجلان، وقال: يا أيها الناس اصطلحوا على رجل منكم. قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل فاصطلح الناس على خالد بن الوليد. فلما أخد الراية دافع القوم، ثم انحاز حتى انصرف. فلما أصيبوا قال رسول الله (ص): ((أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا. ثم أخذها جعفر، فقاتل بها حتى قتل شهيدا)) ثم صمت النبي (ص) حتى تغيرت وجوه الأنصار وظنوا أنه كان في عبد الله ابن رواحة بعض ما يكرهونه. قال: ((ثم أخذها عبد الله بن رواحة، ¬

(¬1) شدوا الرنة: شدوا الصيحة إلى الحرب. (¬2) من شنة: نطفة من ماء.

فقاتل بها حتى قتل شهيدا)) ثم قال: ((لقد رفعوا إلي في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه. فقلت: بم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بن رواحة بعض التردد ومضى)) (¬1). 3 - (وعن ابن شهاب قال: ثم بعث النبي (ص) جيشا إلى مؤتة، وأمر عليهم زيد بن حارثة فإن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب أميرهم، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة أميرهم، حتى لقوا ابن سبرة الغساني بمؤتة وبها جموع من نصارى العرب والروم وبها تنوخ وبهرام. فأغلق ابن أبي سبرة دون المسلمين الحصن ثلاثة أيام ثم خرجوا فالتقوا على زرع أخضر، فاقتتلوا قتالا شديدا وأخذ اللوء زيد بن حارثة فقتل، ثم أخذه جعفر فقتل، ثم أخذه ابن رواحة فقتل، ثم اصطلح المسلمون بعد أمراء رسول الله (ص) على خالد بن الوليد، فهزم الله العدو، وأظهر المسلمين وبعثهم رسول الله (ص) في جمادى الأولى) (¬2). 4 - (عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله (ص) في غزوة مؤتة زيد بن حارثة فقال رسول الله (ص): ((إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة)) قال عبد الله: كنت معهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه من القتلى وجدنا في جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية) (¬3). ¬

(¬1) مجمع الزوائد للهيثمي 6/ 159، 160 وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. (¬2) المصدر نفسه 160 وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات. (¬3) البخاري ك. 64 ب. 44 ج 5 ص 182.

5 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي (ص) نعى زيدا وجعفر وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم. فقال: ((أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخد ابن رواحة فأصيب - وعيناه تذرفان - حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم)) (¬1). 6 - (وعن قيس بن أبي حازم قال: سمعت خالد بن الوليد يقول: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صحيفة يمانية) (¬2). 7 - قال ابن إسحاق: (وقد كان قطبة بن قتادة العذري الذي كان على ميمنة المسلمين، قد حمل على مالك بن زافلة فقتله، فقال قطبة بن قتادة: طعنت بن زافلة بن الأراش ... برمح مضى فيه ثم انحطم ضربت على جيده ضربة ... فمال كما مال غصن السلم وسقنا نساء بني عمه ... غداة رقوقين (¬3) مثل النعم) (¬4) 8 - قال الإمام أحمد (.. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله (ص) فحاص الناس حيصة، وكنت فيمن حاص. فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم ¬

(¬1) المصدر نفسه ص 182. (¬2) المصدر نفسه ص 183. (¬3) رقوقين: اسم مكان. (¬4) السيرة النبوية لابن هشام 381/ 2.

قلنا: لو دخلنا المدينة قتلنا. ثم قلنا: لو عرضنا أنفسا على رسول الله (ص) فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا. فأتيناه قبل صلاة الغداة. فخرج فقال: ((من القوم؟)) قلنا: نحن فرارون. فقال: ((لا، (بل أنتم الكرارون، إنا فئتكم وإنا فئة المسلمين))) فأتيناه حتى قبلنا يده. ثم رواه غندر عن شعبة عن يزيد بن أبي زياد .. عن ابن عمر قال: كنا في سرية ففررنا. فأردنا أن نركب البحر فأتينا رسول الله (ص) فقلنا: يا رسول الله نحن الفرارون. فقال: ((لا بل أنتم العكارون)) (¬1). رواه الترمذي وابن ماجة من حديث يزيد بن أبي زياد، وقال الترمذي حسن لا نعرفه إلا من حديثه) (¬2). 9 - يقول ابن كثير: (وموسى بن عقبة والواقدي مصرحان بأنهم هزموا جموع الروم والعرب الذين معهم، وهو ظاهر الحديث المتقدم عن أنس مرفوعا: ((ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه)) ورواه البخاري، وهذا هو الذي رجحه ومال إليه الحافظ البيهقي بعد حكاية القولين لما ذكر من الحديث. قلت: ويمكن الجمع بين قول ابن إسحاق وبين قول الباقين، وهو أن خالدأ لما أخذ الراية حاش بالقوم المسلمين حتى خلصهم من أيدي الكافرين من الروم والمستعربة. فلما أصبح وحول الجيش ميمنة وميسرة ومقدمة وساقة - كما ذكر ¬

(¬1) العكارون: العطافون الكرارون. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير 279/ 4، 280. وقد رواه أحمد 2/ 111. والترمذي ك. 4 الجهاد ب. 36 ص 215 ح 1716.

من فقه الغزوة

الواقدي - توهم الروم أن ذلك عن مدد جاء إلى المسلمين، فلما حمل عليهم خالد هزموا بإذن الله). ... وعندي أن ابن إسحاق وهم في هذا السياق، فظن أن الجمهور الجيش، وإنما كان للذين فروا حين التقى الجمعان، وأما بقيتهم فلم يفروا بل نصروا كما أخبر بذلك رسول الله (ص) للمسلمين وهو على المنبر بقوله: ((ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه)) فما كان المسلمون ليسلمونهم فرارا بعد ذلك، وإنما تلقوهم إكراما وإعظاما، وإنما كان التأنيب وحثي التراب للذين فروا وتركوهم هنالك وقد كان فيهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما) (¬1). ... من فقه الغزوة: 1 - تكاد تكون كل غزوة من الغزوات تمثل مرحلة من مراحل الدعوة، فإذا كانت غزوة خيبر قد أنهت الوجود اليهودي في جزيرة العرب، فغزوة مؤتة مثلت أول معركة ضد النصرانية في جزيرة العرب، وكانت هاتان الجبهتان قد فتحتا بعد هدنة الحديبية، ولم يكن رسول الله (ص) حريصا على فتح هذه الجبهة لولا الاعتداء الآثم على رسوله إلى الشام. (وكان سببها أن رسول الله (ص) بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى هرقل عظيم الروم بالشام، أي فلما زل مؤتة تعرض له شرحبيل بن ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 4/ 279.

عمرو الغساني، من أمراء قيصر على الشام. فقال: أين تريد؟ لعلك من رسل محمد؟ قال: نعم. فأوثقه رباطا ثم قدمه فضرب عنقه. ولم يقتل لرسول الله (ص) رسول غيره. فلما بلغ رسول الله (ص) ذلك اشتد الأمر عليه، فجهز جمعا من أصحابه وعدتهم ثلاثة آلاف وبعثهم إلى مقاتلة ملك الروم) (¬1). وكما أن بيعة الرضوان التي تعاهد المسلمون فيها على الموت كانت قد تمت ثأرا لعثمان بن عفان رضي الله عنه حين أشيع نبأ مقتله، كذلك كانت غزووة مؤتة ثأرا لرسول رسول الله (ص). وفي رواية ثانية: أن صاحب بصرى رفض الإسلام وقال: من ينزع ملكي مني؟ أنا سائر إليه. فتهديده بالمسير إلى المسلمين يقتعضي ردا على مستوى التحدي، فكانت غزوة مؤتة. إن دم الجندي المسلم مصون، وإن الجماعة المسلمة على استعداد لخوض معركة دامية من أجله، بحيث لا يطل دمه ولا يذهب هدرا. 2 - وثلاثة آلاف مقاتل، هو أكبر جيش تمكن رسول الله (ص) من إعداده لمواجهة عدوه، وهو ضعف جيش الحديبية، وتحديد قيادات الجيش إشارة ¬

(¬1) السيرة الحلبية 786/ 2 وإمتاع الأسماع للمقريزي 345 وروايته أن الحارث نزل الشام بكتاب رسول الله (ص) إلى عظيم بصرة وهو الأصح، لأن كتاب قيصر وصله وكان رسوله إليه دحية بن خليفة الكلبي.

واضحة إلى عنف الحرب بين الفريقين .. ومع ذلك فلا يكاد يذكر أمام الجيش الذي وجهه حيث كان عدده في أقل الروايات مائة وخمسون ألفا، وترفعه الروايات الأخرى إلى مئتي ألف أي أنه يزيد قرابة سبعين ضعفا عن جيش المسلمين. إن الهدف العسكري وراء المعركة، هو إعلام الروم بالوجود العسكري الإسلامي، ولو كان هذا الجيش كله ضحايا المعركة، وهذه الإعدادات والتوجيهات تشير إلى ذلك. 3 - وموقف المسلمين في معان وتشاورهم حول مواجهة الروم أو التريث في ذلك قد حسم الموقف فيها أحد الأمراء الثلاثة الذي قال: (والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون) ولم يحدث انقسام في الموقف وهذا من أعجب ما شهد التاريخ، أن يستجيب الجيش كله لداعي الجهاد ويقرر المواجهة رغم الفرق الهائل الضخم بين الجيشين، إن الشهادة في سبيل الله التي يحلم بها المؤمنون هي أقوى سلاح يملكونه في الأرض. فحب الموت والجهاد والشهادة في سبيل الله يبقى الغذاء الروحي الأعمق في كل تحركات المسلمين، ولن تستطيع الأمة المسلمة اليوم، والجماعة المسلمة أن تعيد الوجود الإسلامي للأرض، ما لم تعد هذه الروح تسري في الأمة من جديد. فإذا كانت سمة الأمة المسلمة عند ابتلاعها من عدوها هو الوهن، وهو حب الدنيا وكراهية المولت، فبالمقابل لا بد أن تكون سمة الأمة المسلمة عند بعثها وولادتها من جديد هي حب الموت والشهادة،

وكراهية الخنوع والذل للمحافظة على الدنيا ونعيمها، وأن تكون روح جعفر الوثابة هي التي يزغرد بها الجيل الإسلامي كله: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها علي إذ لاقيتها ضرابها ويسقط القائد جعفر رضي الله عنه وفي جسده تسعون جرحا ما بين طعنة ورمية، وأن يفقد يديه ليعوضه الله تعالى عنهما جناحين يطير بهما في الجنة، ويكون أول من حاز على لقب - طيار - في التاريخ الإسلامي كله وتفرد به دون الناس أجمعين. 4 - ومن عادة كل جيش أن ينتهي مع مقتل قائده، وهؤلاء القادة الثلاثة يسقطون شهداء في أرض المعركة، ومع ذلك فيثبت الجيش ويتمالك ويسلم قياده إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه ليقود المعرك. وفي هدنة الحديبية كان خالد قائد خيالة المشركين، ولما يمر على إسلامه خمسة أشهر فقد أسلم في صفر سنة ثمان للهجرة، وكانت مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان للهجرة، ويقبله المسلمون قائدا يدير المعركة، حيث رفض ثابت بن أقرم الأقدم سابقة ذلك، فحاجة المعركة الآن إلى قائد عسكري مجرب خبير بالحرب، وخالد هو المؤهل لذلك، ولم يكن من الأمراء وإنما أمر نفسه وأعطاه رسول الله (ص) لقبا ما عرف في التاريخ شبيها له. وما طمع أحد من المسليمن بمثله، ولئن مضى جعفر

رضي الله عنه بلقب الطيار في مؤتة، فقد مضى خالد بلقب سيف الله في مؤتة كذلك. والذين يدعون ذلك كثيرون، أما الذي يملك الشهادة من رسول الله (ص) وحده في الدنيا هو خالد بن الوليد. والجماعة المسلمة بحاجة أن تفقه معادن الرجال وتضع الرجال في مواضعهم وهي تخوض معركتها مع العدو. والحقد والثأر مقبول من الجاهلين {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية} أما الدعاة إلى الله فهم أرفع الناس في هذا الوجود عن الحقد. وصراع خالد سبعة عشر عاما مع رسول الله (ص) لم يمنع أبدا أن يحوز على لقب سيف الله بعد أربعة أشهر أو تزيد على دخوله الإسلام. وما أحوجنا إلى أن نفقه هذه الدروس، فتضم الجماعة المسلمة في صفها أعظم النماذج البشرية، ولو كانت قبل قليل تصليها نار العداء والحرب، فالإسلام يجب ما قبله. 5 - ((جعل الله الفتح على يديه)) هذا النص من حديث البخاري والنصوص الأخرى ذات السند الصحيح، تؤكد أن مؤتة قد انتهت بفتح وانتصار، وابن إسحاق الذي أخذ برأي المحاجر بين المسلمين والروم بدون نصر، هو الذي روى مقتل قائد جيش العدو مالك بن زافلة، وأخذ نساء الروم سبايا بعد مقتله، وتبقى المعجزة الخالدة، في نصر هذه القلة الفدائية المستضعفة على العدو اللجب الضخم الذي تحرك بمئتي ألف ليئد الإسلام وأهله، وذلك بحكمة خالد وعبقريته يوم غير مواقع الجيش كله، وبثباته وصموده يوم كسرت في يده تسعة أسياف ولم تثبت

إلا صحيفة يمانية. وثبات أغلب الجيش معه حتى اللحظة الأخيرة التي أذن الله تعالى فيها بنصر جنده. 6 - وهذا لا يتعارض مع الروايات الصحيحة عن فرار فئة من الجيش وصلت المدينة بعد مقتل القيادات الإسلامية، وأن يرويها لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فبنية الرواية نفسها تؤكد أن فريقا من الجيش قد فر، وليس الجيش كله. والذين تولوا يوم التقى الجمعان في أحد، وقد استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا، وعفا عنهم مثل الذين تولوا يوم مؤتة، بل أخف لأنهم فاؤوا إلى رسول الله (ص)، وهو فئة كل مسلم، وهم الذين قال لهم الرسول (ص): ((بل أنتم الكرارون إن شاء الله، بل أنتم العكارون)) في الوقت الذي يعجب المسلم فيه لذلك المستوى العالي للوتيرة الإيمانية في المدينة، حتى الصبيان يشتدون، ويعيرون الفارين بفرارهم، ويحثون في وجوههم التراب، ولولا أن رسول الله (ص) قد عذرهم، واعتبرهم منحازين لقتلوا على يد الغلمان والصبيان، لأن الفرار في حس المسلم لا يقابله إلا القتل. وحين ترتفع الوتيرة الإيمانية لدى الفتيان الناشئين في الجيل الإسلامي إلى هذا المستوى فلا شك أن هذا التغير هو الكفيل بتغيير حال المسلمين {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. ***

الفصل الثامن والعشرون فتح مكة

الفصل الثامن والعشرون فتح مكة أولا: أحداث الغزوة: 1 - (وكان سبب الفتح بعد هدنة الحديبية، ما ذكره محمد بن إسحاق: حدثني الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه جميعا قالا: كان في صلح الحديبية أن من شاء أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل. فتواثبت خزاعة وقالوا: نحن ندخل في عقد محمد وعهده. وتواثبت بنو بكر، وقالوا: نحن ندخل في عقد قريش وعهدهم. فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة أو الثمانية عشر شهرا، ثم إن بني بكر وثبوا على خزاعة ليلا بماء يقال له الوتير وهو قريب من مكة وقالت قريش: ما يعلم بنا محمد وهذا الليل وما يرانا من أحد. فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح وقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله (ص)، وأن عمرو بن سالم ركب عندما كان من أمر خزاعة وبني بكر بالوتير حتى قدم على رسول الله (ص) يخبره الخبر، وقد قال أبيات شعر، فلما قدم على رسول الله (ص) أنشدها إياه:

يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا (¬1) قد كنتموا ولدا وكنا والدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر رسول الله نصرا أبدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا ... إن سيم خسفا وجهه تربدا (¬2) في فيلق كالبحر تجري مزبدا ... إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا ... وجعلوا لي في كداء رصدا وزعموا أن لست أدعو أحدا ... فهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا فقال رسول الله (ص): ((نصرت يا عمرو بن سالم)) فما برح حتى مرت بنا عنانة في السماء. فقال رسول الله (ص): ((إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب)) وأمر رسول الله (ص) الناس بالجهاز وكتمهم مخرجه، وسأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم) (¬3). 2 - (ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله (ص) المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله (ص) طوته عته، فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله (ص) وأنت ¬

(¬1) الأتلد: القديم. (¬2) تربد: تغير من الغضب. (¬3) البداية والنهاية لابن كثير 4/ 310 ورجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع.

رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله (ص)، قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر) (¬1). 3 - (فبلغ ذلك قريشا، فقالوا لأبي سفيان: ما تصنع وهذه الجيوش تجهزوا إلينا. انطلق فجدد بيننا وبين محمد كتابا، وذلك مقدمه من الشام (¬2)، فخرج أبو سفيان حتى قدم المدينة، فكلم رسول الله (ص) فقال: هلم فنجدد بيننا وبينك كتابا. فقال النبي (ص): ((فنحن على أمرنا الذي كان، وهل أحدثتم من حدث؟)) فقال أبو سفيان: لا. فقال النبي (ص): ((فنحن على أمرنا الذي كان بيننا)) فجاء علي بن أبي طالب. فقال: هل لك أن تسود العرب، وتمن على قومك فتجيرهم، وتجدد لهم كتابا؟ فقال: ما كنت لأفتات على رسول الله (ص) بأمر. ثم دخل على فاطمة، فقال: هل لك أن تكوني خير سخلة في العرب: أن تجيري بين الناس. فقد أجارت أختك على رسول الله (ص) زوجها أبا العاص بن الربيع، فلم يغير ذلك. فقالت فاطمة: ما كنت لأفتات عل رسول الله (ص) بأمر. ثم قال بعد ذلك للحسن والحسين: أجيرا بين الناس، قولا: نعم. فلم يقولا شيئا، ونظر إلى أمهما وقالا: نقول ما قالت أمنا. فلم ينجح من واحد منهم بما طلب. فخرج حتى قدم على قريش، فقالو: ماذا جئت به؟ قال: جئتكم من عند قوم قلوبهم على قلب واحد. والله ما تركت منهم صغيرا ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 396. (¬2) وذلك حين حضر بين يدي قيصر وسأله عن رسول الله (ص).

ولا كبيرا، ولا أنثى ولا ذكرا إلا كلمته. فلم أنجح منهم شيئا، قالوا: ما صنعت شيئا، ارجع فرجع) (¬1). 4 - عن عبيد الله بن أبي رافع قال: (سمعت عليا رضي الله عنه يقول: بعثني رسول الله (ص) أنا والزبير والمقداد فقال: ((انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها)) قال: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروض، فإذا نحن بالظعينة، قلنا لها: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. فأخرجته من عقاصها (¬2). فأتينا به رسول الله (ص) فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين، يخبرهم ببعض أمر رسول الله (ص). فقال رسول الله (ص): ((يا حاطب ما هذا؟)) قال: يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت أمرءا ملصقا في قريش - يقول: كنت حليفا، ولم أكن من نفسها - من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأمواله، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله (ص): ((أما أنه قد صدقكم)) فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: ((إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا)) فقال: ((اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) فأنزل ¬

(¬1) المغازي النبوية للزهري 87، 88. وهي رواية عبد الرزاق عن معمر عن عثمان الجزري عن مقسم مولى ابن عباس ورجاله رجال الصحيح. (¬2) العقاص: من شعرها المربوط.

الله السورة: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} إلى قوله: {... فقد ضل سواء السبيل}) (¬1). 5 - وعن ابن عباس: (أن النبي (ص) خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة فسار هو ومن معه إلى مكة يصومون ويصوم حتى إذا بلغ الكديد وهو ماء بين عسفان وقديد أفطر وأفطروا) (¬2). 6 - (عن هشام بن عروة عن أبيه قال: (لما سار رسول الله (ص) عام الفتح، فبلغ ذلك قريشا خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن خرام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله (ص) فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة. فقال أبو سفيان: ما هذه لكأنها نيران عرفة. فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو. فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك. فرآهم ناس من حرس رسول الله (ص) فأدركوهم فأخذوهم. فأتوا بهم رسول الله (ص) فأسلم أبو سفيان، فلما سار قال للعباس: احبس أبا سفيان عند حطم الخيل، حتى ينظر إلى المسلمين. فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبي (ص) تمر كتيبة كتيبة، على أبي سفيان .. فمرت كتيبة، قال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غفار، قال: ما لي ولغفار. ثم مرت جهينة، قال مثل ذلك، ثم مرت سعد بن هذيم، فقال مثل ذلك، ¬

(¬1) البخاري ك. 64 ب. 46 ج 5 ص 185،184. (¬2) البخاري ب.47 ص 185.

ومرت سليم، فقال مثل ذلك حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية. فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة. فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الذمار. ثم جاءت كتيبة، وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله (ص) وأصحابه. وراية الرسول (ص) مع الزبير بن العوام. فلما مر رسول الله (ص) بأبي سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: ((ما قال؟)) قال: قال كذا وكذا. فقال: ((كذب سعد ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة)) قال: وأمر رسول الله أن تركز رايته بالحجون) (¬1). 7 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ثم مضى رسول الله (ص) واستعمل على المدينة أبارهم كلثوم بن الحصين الغفاري، وخرج لعشر مضين من رمضان. فصام رسول الله (ص) وصام الناس معه حتى إذا كان بالكديد - ماء بين عسفان وأمج - أفطر ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين، وألف من مزينة وسليم وفي كل القبائل عدد وسلاح. وأوعب مع رسول الله (ص) المهاجرون والأنصار ولم يتخلف منهم أحد. فلما نزل رسول الله (ص) مر الظهران، وقد عميت الأخبار على قريش، فلم يأتهم عن رسول الله (ص) خبر ولم يدروا ما هو فاعل، خرج في تلك الليلة أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون وينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به. ¬

(¬1) البخاري ص 186، 187.

وقد كان العباس بن عبد المطلب تلقى رسول الله (ص) في بعض الطريق. وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب تلقى رسول الله (ص) في بعض الطريق، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة لقد لقيا رسول الله (ص) فيما بين مكة والمدينة، والتمسا الدخول عليه. فكلمته أم سلمة فيهما. فقالت: يا رسول الله ابن عمك، وابن عمتك وصهرك (¬1) قال: ((لا حاجة لي بهما أما ابن عمي فقد هتك عرضي (¬2) بمكة، وأما ابن عمتي وصهري، فهو الذي قال لي بمكة ما قال) (¬3). فلما خرج إليهما بذلك ومع أبي سفيان بني له، فقال: والله لتأذنن لي، أو لآخذن بيد بني هذا ثم لنذهبن بالأرض حتى نموت عطشا وجوعا. فلما بلغ ذلك رسول الله (ص) رق لهما، ثم أذن لهما فدخلا فأسلما. فلما نزل رسول الله (ص) بمر الظهران قال العباس: واصباح قريش: والله لئن دخل رسول الله (ص) مكة عنون قبل أن يستأمنوه، إنه لهلاك قريش آخر الدهر. قال: فجلست على بغلة رسول الله (ص) البيضاء، فخرجت إليها فجئت لأراك. فقلت: لعلي ألقى بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله (ص) فيسأمنوه قبل أن يدخلها عنوة. قال: فوالله إني لأسير عليها، وألتمس ما خرجت له. إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما ¬

(¬1) أم سلمة رضي الله عنها هي أخت عبد الله بن أبي أمية وهو صهره من هنا. (¬2) كان أبو سفيان شاعرا، وكان يهجو رسول الله (ص) بشعره. (¬3) هو الذي قال: والله لن أؤمن لك حتى تصعد إلى السماء فتدخل فيها، ثم تحضر كتابا منها، ومعك أربعة من الملائكة يشهدون أن هذا من عند الله. ولو فعلت هذا ما أظن أني أصدقك.

يتراجعان وأبو سفيان يقول: ما رأيت كاليوم قط نيرانا ولا عسكرا. قال: يقول بديل: هذه والله نيران خزاعة حشتها الحرب. قال يقول أبو سفيان: خزاعة والله أذل وألأم من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة. فعرف صوتي. فقال: أبو الفضل؟ فقلت: نعم. فقال: ما لك فداك أبي وأمي. فقلت: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله (ص) في الناس، واصباح قريش والله. قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب معي هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله (ص) فاستأمنه لك. قال: فركب خلفي ورجع صاحباه. وحركت به، فكلما مررت بنار من نيران المسلمين. قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله (ص) قالوا: عم رسول الله على بغلته حتى مررت بنار عمر بن الخطاب. فقال: من هذا؟ وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز البغلة. قال: أبو سفيان! عدو الله قد أمكن الله منه بغير عقد، ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله (ص) وركضت البغلة فسبقته بما تسبق البغلة الرجل البطيء. فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله (ص) ودخل عمر 0 فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان، قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني فلأضرب عنقه. فقلت: يا رسول الله إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله (ص) فقلت: لا والله لا يناجيه الليلة دوني أحد. فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلا يا عمر أما والله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك عرفت أنه من رجال بني عبد مناف. فقال: مهلا يا عباس.

والله لإسلامك يوم أسلمت أحب إلي من إسلام أبي لو أسلم، وما بي إلا لأني قد عرفت أن إسلامك أحب إلى رسول الله (ص) من إسلام الخطاب. فقال رسول الله (ص): ((اذهب إلى رحلك يا عباس فإذا أصبحت فأتني به)) فذهبت به إلى رحلي فبات عندي. فلما أصبح غدوت به على رسول الله (ص)، فلما رآه رسول الله (ص) قال: ((ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله)) قال: بأبي أنت وأمي ما أكرمك وأحلمك وأوصلك. لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا. قال: ((ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله)) قال: بأبي أنت وأمي ما أكرمك وأحلمك وأوصلك، هذه كان في النفس منها شيء حتى الآن، قال العباس: ويحك يا أبا سفيان أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن يضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق وأسلم. قلت: يا رسول الله إن أبا سفيان يحب هذا الفخر فاجعل له شيئا. قال: ((نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن)) قلت: يا أبا سفيان: التجىء إلى قومك. قال: فخرج حتى جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به. فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فقامت إليه امرأته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الدسم الأحمش، فبئس طليعة قوم. قال: ويحكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاء بما لا قبل لكم به. من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالو: ويحك ما تغني عنا دارك. قال: من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى

المسجد) (¬1). 8 - وعن سعد (يعني ابن أبي وقاص) قال: (لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: ((اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح)) فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعد بن الحرث وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عمار، وكان أشب الرجلين فقتله. وأما مقيس بن صبابة فأدركه رجل من السوق في السوق فقتله. وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة أهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا. هاهنا: فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص، ما ينجيني في البر غيره. اللهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه آتي محمدا فأضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما قال: فجاء فأسلم) (¬2). ... ¬

(¬1) مجمع الزوائد للهيثمي 6/ 165 - 167. وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. (¬2) المصدر نفسه 168،169 وقال: قلت: رواه أبو داود باختصار، رواه أبو يعلى والبزار فأما عبد الله بن أبي سعد فإنه أحنى عليه عثمان فلما دعا رسول الله (ص) للبيعة جاء به حتى أوقفه على النبي فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه ينظر إليه كل ذلك يأبى أن يبايعه فبايعه بعد ثلاث بأصابعه ثم أقبل فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما كان منكم رجل رشيد ينظر إذا رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله. قالوا: يا رسول الله لو أومأت إلينا بعينك قال: فإنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين، ورجالهما ثقات.

من فقه الغزوة

من فقه الغزوة: 1 - كان سبب الفتح كما تقدم هو نقض قريش لعهدها، وعونها لبكر بن وائل على الاعتداء على خزاعة حليفة رسول الله (ص)، وقد حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على الوفاء بالعهد في أشد الظروف حراجة وصعوبة، وأعاد أبا بصير إلى قريش، وأعاد أبا جندل إلى قريش، فالغدر ليس من صفات النبيين وأتباعهم. لكن عندما ينقض العدو العهد، ويستبيح حمى النبي (ص)، ويعتدي على حلفائه، فلا مجال إلا للعقوبة الرادعة. {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم} (¬1). ولن ينتهي الباغي عن بغيه ويرتدع، ما لم يجد القوة المرهبة التي تكفه. وحين يعرف أعداء الله أن الجماعة المسلمة لن تقبل بضيم، ولن تركن لاعتداء، يمكن أن يتوقفوا عن عدوانهم، وحين يعرف عامة الناس أن الجماعة المسلمة قادرة على حماية أبنائها وأصدقائها وحلفائها ¬

(¬1) التوبة 12 - 15.

فسيكونون معها، ويفدونها بالمهح والأرواح. لقد كانت استجابة رسول الله (ص) لنصرة بنى كعب، والرد على عدوان قريش من السرعة والحزم بحيث لا يقبل المناقشة والجدل، ((نصرت يا عمرو بن سالم، إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب)). 2 - وجاء الأمر النبوي بالتهيؤ للغزو دون تحديد جهته في المراحل الأولى، حتى لتكتم عائشة رضوان الله عليها عن أبيها جهة الغزو، ثم كانت المرحلة الثانية أن أعلم رسول الله (ص) خاصته بذلك. وكانت التربية النبوية من السمو والعلو بحيث تكتم عائشة رضي الله عنها ابنة السادسة عشرة الأمر عن أبيها، كما صدرت الأوامر بذلك، (فدخل أبو بكر على عائشة فوجد عندها حنطة تنسف وتنفى. فقال لها: يا بنية! لم تصنعين هذا الطعام؟ فسكتت. فقال: أيريد رسول الله أن يغزو؟ فصمتت، فقال: يريد بني الأصفر - وهم الروم - فصمتت، قال: فلعله يريد أهل نجد؟ صمتت. قال: فلعله يريد قريشا؟ فصمتت ..) (¬1) وكانت الخطة النبوية كما دعا عليه الصلاة والسلام: ((اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة، ولا يسمعون بنا إلا فجأة)). 3 - وشذ عن هذا الكتمان زلة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه الذي كتب إلى قريش كتابا يخبرهم فيه بتحرك محمد نحوهم .. وعولج الأمر ابتداء ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 4/ 315.

بأخذ الكتاب، ثم كانت محاسبة حاطب، ولقد تدخل الوحي لتحقيق الرجاء النبوي، فأعلم محمدا (ص) بالأمر حتى أخذ الكتاب وحيل بينه وبين وصوله إلى قريش. وأكد حاطب عذره، بأن الذي دفعه لذلك، حرصه على ماله وولده، وليس كفرا أو ارتدادا أو شكا بنصر الله، فهو واثق من انتصار رسول الله (ص)، ولئن كان حضوره بدرا قد شفع له أن لا يعاقب، لكن الحكم في القضية لا بد أن يعمم لجميع المسلمين في كل عصر ومصر، فهو ضلال عن سبيل الله، ولو لم يكن يدفع له إلا الحفاظ على المال والولد: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل} (¬1). 4 - واصطدام أبي سفيان بالصف الداخلي الإسلامي الملتحم أذهله وأفقده صوابه، ولقد توك لأبي سفيان حرية التحرك في داخل هذا الصف، حتى ليدخل على بيت رسول الله (ص) ويخلو بأم حبيبة رضي الله عنها زوج النبي (ص) وابنة أبي سفيان، دون أن يكون رقيب واحد على هذه الخلوة. ترى كم عظمة ثقة النبي (ص) بزوجه وجنده وصفه؟؟ فهو لا ¬

(¬1) الممتحنة 1

يرى داعيا، حتى لمراقبة هذا اللقاء، وكانت أم حبيبة محل ثقة رسول الله (ص) بل بلغ بها الأمر أن تطوي فراش رسول الله (ص) وتحول بينه وبين الجلوس عليه، لأن أباها مشرك نجس، ولا يمس فراش رسول الله (ص) إلا طاهر. وكانت محاولات أبي سفيان المضنية ليس مع ابنته فقط، بل مع ابنة محمد (ص) فاطمة، وابنيها الحسن والحسين، وصهري رسول الله (ص) علي وعثمان، ووزيري رسول الله أبي بكر وعمر .. لقد كان يلقى جوابا واحدا لا يتغير مع الصغير والكبير والذكر والأنثى (ما كنت لأفتات على رسول الله (ص) بأمر) وعاد مخفقا من مهمته أن يتمكن من تجديد العهد وزيادة المدة. وكما تجاهل عذر قريش، تجاهله عليه الصلاة والسلام ليحقق الهدف الذي يريد في غزو مكة دون علم أهل مكة، الذين غدروا بالعهد ونقضوه، ولعل الجدال مع أبي سفيان يثير انتباهه إلى احتمال الغزو. وبرزت عظمة الصف الإسلامي الملتحم مرة ثانية، وأبو سفيان رهينة بيد المسلمين (فما كان عند صلاة الصبح وأذن المؤذن، تحرك الناس فظن (أبو سفيان) أنهم يريدونه. قال: يا عباس ما شأن الناس؟ قال: تحركوا للمنادي للصلاة، قال: فكل هؤلاء، إنما تحركوا لمنادي محمد (ص)؟ قال: نعم. فقام العباس للصلاة وقام معه. فلما (فرغوا قال: يا عباس: ما يصنع محمد شيئا إلا صنعوا مثله؟ قال: نعم، ولو أمرهم أن يتركوا الطعام والشراب حتى يموتوا جوعا لفعلوا.

وإني لأراهم سيهلكون قومك غدا) (¬1). وهو الذي وصفهم بقوله: (جئتكم من عند قوم قلوبهم على قلب واحد، والله ما تركت منهم صغيرا ولا كبيرا ولا أنثى ولا ذكرا إلا كلمته، فلم أنجح منهم شيئا). وبمثل هذا الصف تفتح الأرض كلها، لا مكة وحدها، وهذا الجيل وهذا الصف هو الذي حمل الراية بعد، وسار بالإسلام إلى أقصى الأرض مشرق ومغربا، فصبيه ووليده يدرك مهمته، فيقول الحسن والحسين، ابنا الأربع سنين: نقول ما قالت أمنا. وابنة قائد الشرك تطوي الفراش عن أبيها، فهل سمعت الدنيا بمثل هذا الجيل؟! 5 - لا بد من الوقوف بأناة عند أبي سفيان الذي مر بمراحل حتى وصل إلى الإسلام. فلقد غزي وهو في غزة عندما قابل هرقل، وقال له: (فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين. وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عند قدميه) فكان جواب أبي سفيان وموقفه المعلن: (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملوك بني الأصفر) (¬2). أما الجواب والموقف الخفي فكان: (فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام (¬3). ¬

(¬1) المغازي النبوية 88 وهي رواية عبد الرزاق بن معمر عن عثمان الجزري من مقسم مولى ابن عباس، ورجاله رجال الصحيح. (¬2) و (¬3) البخاري ك. 1 ب. 6 ج 1 ص 4.

لقد جاء أبو سفيان ابتداء ليواجه الموقف بعد قدومه من الشام، وهو مهزوم نفسيا، وهو يعرف يقينا أن أمر محمد سيظهر. وكانت المرحلة الثانية: يوم فشل في مهمته وعجز أن ينفذ من ثغرة واحدة في الصف الداخلي المسلم يحول دون المواجهة، وعرف أن خصمه محمدا وحزبه على قلب رجل واحد: كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فأعيا وأوهى قرنه الوعل وأنهم قلعة حصينة يرتد عنها كل من أرادها بسوء. وكانت المرحلة الثالثة: حين صار رهينة بيد المسلمين، وأصبح رهن إشارة النبي (ص) بقتله، وهم به عمر والمسلمون واستغاث بالعباس، فأجار العباس، ثم أتى في صبيحة اليوم الثاني ليمثل بين يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام .. وكانت المفاجأة الصاعقة له بدل التوبيخ له والإذلال له وتهديده بالقتل أن يدعى إلى الإسلام. لقد غدا خلقا آخر بهذا الموقف، فهو ليس أمام قائد خصم يريد إبادته وإبادة قومه، إنما هو أمام سيد أهل الأرض يدعوه إلى الإسلام، لقد اهتز كيانه كله في الدور الثالثة لتربيته، فلم يتمالك أن يقول: بأبي أنت وأمي يا محمد، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك. إنه يفدي أعدى العدو بأبيه وأمه، ويثني عليه الخير كله: ما أحلمك وأكرمك وأوصلك. وكانت المرحلة الرابعة: أن يحبس حتى يرى جنود الله، كلها

بإمرة محمد (ص)، لقد كانوا قبل سنتين جميعا معه في الأحزاب، وها هم اليوم مع رسول الله (ص)، حتى رفيق دربه خالد بن الوليد هو اليوم قائد من قادة جيش محمد (ص). ولكن أكثر ما هاله وأفظعه كتيبة الأنصار. (قال: من هؤلاء يا عباس الذين كأنهم حرة سوداء؟ قال: هذه الأنصار عندها الموت الأحمر. فقال أبو سفيان: سر يا عباس، فلم أر كاليوم صباح قوم في ديارهم) (¬1). ولا غرابة بعد هذه المراحل الأربعة التي مر بها أن يمضي إلى مكة، لا ليجهز جيشا يواجه محمدا به، بل ليدعو قومه إلى الدخول إلى بيوتهم، إن كانوا حريصين عى حياتهم، ويسفه كل من يفكر بالمواجهة، وهو الذي أمضى عمره في حرب النبي صلوات الله وسلامه عليه: (ثم انطلق فلما أشرف على مكة نادى - وكان شعار قرش - يا آل غالب: أسلموا تسلموا. فلقيته امرأته هند، فأخذت بلحيته، وقالت: يا آل غالب، اقتلوا الشيخ الأحمق، فإنه صبأ. فقال: والذي نفسي بيده لتسلمن أو ليضربن عنقك) (¬2). أو قوله: (ويحكم لا تغرنكم هذه عن أنفسكم، فإنه قد جاءكم ¬

(¬1) المغازي النبوية 89 بالسند السابق نفسه. (¬2) الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 172.

ما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن). وصحيح أن أبا سفيان فرد بفخر من قومه أن اعتبرت داره من دون الدور جميعا مكان آمن، لكن الصحيح كذلك، أن تغدو الدار التي كانت تجهز الجيوش لحرب محمد (ص) دار الإسلام لمحمد عليه الصلاة والسلام. وكانت هذه الدورات الأربع كفيلة بتغيير البناء النفسي لقائد جيش العدو أبي سفيان، والانتقال به من ظلمة الكفر إلى واحة الإسلام وكانت هي صمام الأمان في تحطيم أية مواجهة للجيش الإسلامي المظفر. فهل يدرك الدعاة إلى الله مدى الجهد العنيف الدؤوب المخطط الذي بذل مع أعدى العدو حتى غدا الولي الحميم، والداعية إلى الله ورسوله في قومه؟؟؟ 6 - ومن القائد العام لقريش إلى قيادات الدرجة الثانية، التي انضمت تباعا إلى الإسلام، ولم تحتج إلى كل تلك المراحل التي مر بها أبو سفيان، فهي لا تملك العقد التي لديه، وكثيرها سارع إلى الانضمام للإسلام من أول هزة إيمانية اجتاحها، فعكرمة رضوان الله عليه، يغدو إنسانا آخر منذ أن قيل له وهو مقدم على ركب البحر (لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص، ما ينجيني في البر إلا غيره، اللهم لك علي عهدا إن عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا فأضع يده في يدي فلأجدنه عفوا

كريما فجاء فأسلم). وذلك أبو سفيان بن الحارث شاعر مكة وقريش الذي سخر شعره لهجو المسلمين، ومعه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، الذي مثل أعتى صور الكفر المعاندة، يقدمان فيعلنان إسلامهما بدافع ذاتي عميق، ولم يتأخر من القيادات إلا صفوان بن أمية الذي كانت الهزة الوجدانية عنده من غنائم حنين: (ما كان أحد على ظهر الأرض أبغض إلي من محمد، فما زال يعطيني من غنائم حنين حتى لم يعد أحد على ظهر الأرض أحب إلي من محمد). وهند بن عتبة التي دعت إلى قتل زوجها، وألبت الجيش، وكتبت الكتاب ضد محمد (ص) .. تتعرض للهزة الوجدانية المطلوبة ويبهرها تكبير المسلمين وتهليلهم، فتقول: ما رأيت الله عبد حق عبادته إلا هذا اليوم. ومضت لتكون على رأس المبايعات قائلة: (يا رسول الله، الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه، لتنفعني رحمك، يا محمد إني امرأة مؤمنة بالله مصدقة برسوله ثم كشفت عن نقابها وقالت: أنا هند بنت عتبة. فقال رسول الله (ص): ((مرحبا بك)) فقالت: والله ما كان على الأرض أهل خباء أحب إلي من أن يذلوا من خبائك، ولقد أصبحت وما على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي من أن يعزوا من أهل خبائك. فقال رسول الله (ص) ((وزيادة)) (¬1). ¬

(¬1) البخاري ك. 64 ب. 51 ج 5 ص 191.

7 - وإذا كانت كل غزوة تمثل مرحلة من مراحل الدعوة، فلقد كان فتح مكة إيذانا بدخول الناس أفواجا في دين الله (وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح، بادر كل قوم بإسلامهم) (¬1). وإذا كانت الحديبية هي الفتح المبين الذي رفع عدد المسلمين من ألف وخمسمائة إلى عشرة آلاف يوم فتح مكة، فإن الفتح نفسه، قد رفع العدد إلى مائة ألف وزيادة يوم الحج الأكبر في حجة الوداع. وكان فقه ابن عباس رضي الله عنهما للسورة الكريمة، إيذانا بأجل رسول الله (ص) حيث حقق موعود الله تعالى في الأرض، وسقطت الأصنام الثلاثمائة والستون المنتصبة في الكعبة، وأخرجت الأزلام وكسر هبل، وارتفعت راية التوحيد، وسقطت معظم المعسكرات المعادية للإسلام في الأرض، بعد النصر الذي تم على اليهودية في خيبر، والنصرانية في مؤتة، والمشركين في الفتح. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (.. قلت هو أجل رسول الله (ص) أعلمه الله له {إذا جاء نصر الله والفتح}، فتح مكة، فذلك علامة أجلك {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}، قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم) (¬2). 8 - والطلقاء الذين عفا عنهم رسول الله (ص)، وهم مسلمة الفتح، مثلوا ¬

(¬1) البخاري ك. 64 ب. 51 ج 5 ص 191. (¬2) المصدر نفسه 190.

تصفية آخر الجيوب الوثنية في مكة: ((يا معشر قريش: ما ترون أني فاعل بكم؟) قالوا: خير، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) وأعلن في سماء مكة لأول مرة دون منازع: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده ..)) (¬1). وانقلب الثأر لخزاعة المنكوبة إلى فتح جلجلت به الآفاق، ورفرفت راية التوحيد على ربوع مكة التي حاربت الدعوة عشرين عاما أو تزيد. ... ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 412/ 2.

الفصل التاسع والعشرون غزوة حنين

الفصل التاسع والعشرون غزوة حنين أحداث الغزوة: 1 - قال عباس: (شهدت مع رسول الله (ص) يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله (ص) فلم نفارقه، ورسول الله (ص) على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامى. فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين. فطفق رسول الله (ص) يركض بغلته قبل الكفار. قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله (ص) أكفها إرادة أن لا تسرع. وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله (ص). فقال رسول الله (ص): ((أي عباس ناد أصحاب السمرة)) فقال عباس - وكان رجلا صيتا - فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة. قال: فو الله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يالبيك قال: فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار، قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحاث بن الخزرج. فنظر رسول الله (ص) وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم. فقال رسول الله (ص) هذا حين حمي الوطيس. قال: ثم أخذ رسول الله (ص) حصيات فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا ورب محمد. قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أري. قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم

بحصياته. فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا) (¬1). 2 - (قال رجل للبراء: يا أبا عمارة: أفررتم يوم حنين؟. قال: لا والله ما ولى رسول الله (ص) ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسرا ليس عليهم سلاح، أو كثير سلاح فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم، جمع هوازن وبني نصر. فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون. فأقبلوا هناك إلى رسول الله (ص)، ورسول الله على بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به فنزل فاستنصر وقال: أنا النبي لا أكدب أنا ابن عبد المطلب، ثم صفهم) (¬2). 3 - وعن جابر بن عبد الله قال: لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحدارا. قال: وفي عماية الصبح. وقد كان القوم قد كمنوا لنا في شعابه. وفي أجنابه ومضائقه قد أجمعوا وتهيؤوا وأعدوا. قال: فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدت علينا شدة رجل واحد وانهزم الناس راجعين. فانشمروا لا يلوي أحد على أحد. وانحاز رسول الله (ص) ذات اليمين ثم قال: إلي أيها الناس. إلا أن مع رسول الله (ص) رهط من المهاجرين والأنصار وأهل بيته غير كثير. وفيمن ثبت معه أبو بكر وعمر عليهما السلام ومن أهل بيته علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب وابنه الفضل بن عباس وأبو سفيان بن الحارث وربيعة بن الحارث وأيمن بن عبيد وهو ابن أم أيمن وأسامة بن زيد عليهما السلام. قال: ورجل من هوازن على جمل له ¬

(¬1) مسلم: ك الجهاد والسير 32/ب في غزوة حنين 28/ج3 ص 1398/ح 1775. (¬2) المصدر نفسه رقم 1776.

أحمر في يده راية له سوداء في رأس رمح له طويل أمام الناس وهوازن خلفه. فإذا أدرك طعن برمحه. فإذا فاته الناس رفع لمن وراءه فاتبعوه قال: وبينما ذلك الرجل من هوازن صاحب الراية على جمله ذلك يصنع ما يصنع إذ هوى له علي بن أبي طالب ورجل من الأنصار يريدانه قال: فيأتيه على من خلفه فيضرب عرقوبي الجمل فيوقع عجزه ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه. فانعجف عن رحله واجتلد الناس فوالله ما رجعت رجعة الناس حتى الأسارى مكتفين عند رسول الله (ص)) (¬1) 4 - وعن عبد الله بن مسعود قال: (كنت مع النبي (ص) يوم حنين قال: فولى الناس وثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار فنكصنا على أقدامنا نحوا من ثمانين قدما ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل الله عز وجل عليهم السكينة، قال: ورسول الله (ص)، على بغلته يمضي قدما فحارت به بغلته. فمال عن السرج. فقلت: ارتفع رفعك الله. فقال: ناولني كفا من تراب فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم ترابا. قال: أين المهاجرون والأنصار قلت: هم أولاء. قال: اهتف بهم فهتفت بهم. فجاؤوا وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب، وولى المشركون أدبارهم) (¬2). 5 - وعن الحارث بن بدل قال: (شهدت رسول الله يوم حنين وانهزم ¬

(¬1) مجمع الزوائد /6/ 180 وقال الهيثمي رواه أحمد وأبو يعلى ورواه البزار باختصار وفيه ابن اسحاق وقد صرح بالسماح في رواية أبي يعلى وبقية رجال أحمد رجال الصحيح. (¬2) المصدر نفسه وقال الهيثمي: رواه أحمد والبزار والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحارث بن حصيرة وهو ثقة.

أصحابه أجمعون إلا العباس بن عبد المطلب وأبا سفيان بن الحارث فرمى رسول الله (ص) وجوهنا بقبضة من الأرض فانهزمنا، فما يخيل إلي أن كل شجرة ولا حجر إلا وهو في آثارنا) (¬1). 6 - وعن أبي عبد الرحمن الفهري قال: كنا مع رسول الله (ص) في غزوة حنين في يوم قائظ شديد الحر فنزلنا تحت ظلال الشجر. فلما زالت الشمس. لبست لأمتي وركبت فرسي فأتيته في فسطاطه فسلمت عليه فقال وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. فقلت: حان الرواح يا رسول الله قال: فناد بلالا. فثار بلال من تحت شجرة كأن ظله ظل طائر. فقال لبيك وسعديك وأنا فداؤك فقال: أسرج لي فرسي سرجا دفتاه من ليف ليس فيه أشر ولا بطر فأسرج له ثم ركب ومضينا عشيتنا وليلتنا. فلما تسامت الخيلان (¬2) ولى المسلمون مدبرين كما قال الله فقال رسول الله (ص) يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله واقتحم عن فرسه فنزل فأخذ كفا من حصى قال: فحدثني من هو أقرب إليه مني أنه ضرب وجوههم وقال: شاهت الوجوه فهزم الله المشركين. قال: فحدثني أبناؤهم أن آباءهم قالوا: فما بقي منا يومئذ أحد إلا امتلأت عينه وفمه ترابا وسمعنا صلصلة من السماء إلى الأرض كإمرار الحديد على الطست) (¬3). ¬

(¬1) مجمع الزوائد الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات. (¬2) تسامت الخيلان: أي التقى الجيشان. (¬3) مجمع الزوائد 6/ 181 - 182 للهيثمي وقال: روى أبو داود منه إلى قوله ليس فيه أثر ولا بطر. ورواه البزار والطبراني ورجالهما ثقات.

7 - وقال محمد بن شهاب: (وزعم عروة بن الزبير أن مروان والمسور بن مخرمة أخبره أن رسول الله (ص) قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوا أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله (ص): ((معي من ترون، وأحب الحديث إلي أصدقه. فاختاروا إحدى الطائفتين. إما السبي وإما المال. وقد كنت استأنيت بكم - وكان نظرهم رسول الله - (ص) - بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف - فلما تبين لهم أن رسول الله (ص) غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا: فإنا نختار سبينا. فقام رسول الله - (ص) - في المسلمين. فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: ((أما بعد فإن إخوانكم قد جاؤوا تائبين، وقد رأيت أن أرد إليهم سبيهم. فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل. ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا.)) فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله (ص) فقال: ((إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن. فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم.)) فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله (ص) فأخبرو أنهم قد طيبوا وأذنوا) (¬1). 8 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: لما فرغ النبي (ص) من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس. فلقي دريد بن الصمة، فقتل دريد وهزم الله أصحابه. قال أبو موسى، وبعثني مع أبي عامر. فرمي أبو عامر في ركبته، رماه جشمي بسهم فأثبته في ركبته. فانتهيت ¬

(¬1) البخاري ك 64/ ب 54/ ج 5/ ص 195 - 196.

إليه. فقلت يا عم من رماك؟ فأشار إلى أبي موسى فقال: ذاك قاتلي الذي رماني فقصدت إليه فلحقته، فلما رآني ولى فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألا تثبت. فكف فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته. ثم قلت لأبي عامر: قتل الله صاحبك. قال: فانزع هذا السهم. فنزعته. فنزا منه الماء. قال: يابن أخي اقرىء النبي (ص) السلام وقل له: استغفر لي. واستخلفني أبو عامر على الناس. فمكث يسيرا ثم مات. فرجعت فدخلت على النبي (ص) في بيته على سرير مرمل وعليه فراش. قد أثر رمال السرير بظهره وجنبه. فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وقال: قل له: استغفر لي. فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال: ((اللهم أغفر لعبيد أبي عامر)) ورأيت بياض إبطيه. ثم قال: ((اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس)). فقلت: ولي فاستغفر. فقال: اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما) (¬1). 9 - وعن أنس بن مالك قال: لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بنعمهم وذراريهم ومع النبي (ص) عشرة آلاف، ومن الطلقاء. فأدبروا عنه حتى بقي وحده. فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما، التفت عن يمينه. فقال: يا معشر الأنصار، قالوا: لبيك يا رسول الله، أبشر نحن معك. ثم التفت عن يساره. فقال: يا معشر الأنصار. قالوا: لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك. وهو على بغلة بيضاء فنزل فقال: أنا عبد الله ورسوله فانهزم المشركون. فأصاب يومئذ غنائم كثيرة. فقسم في المهاجرين والطلقاء ولم يعط الأنصار شيئا. ¬

(¬1) البخاري ك 64/ ب 56/ ج 5/ ص 197 - 198.

من فقه الغزوة

فقالت الأنصار: إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا. فبلغه ذلك. فجمعهم في قبة. فقال: ((يا معشر الأنصار ما حديث بلغني عنكم)) فسكتوا. فقال: ((يا معشر الأنصار ألا ترضون أن يذهب الناس بالدنيا، وتذهبون برسول الله (ص) تحوزونه إلى بيوتكم.)) قالوا: بلى: فقال النبي (ص): ((لو سلك الناس واديا، وسلكت الأنصار شعبا لأخذت شعب الأنصار.)) فقال هشام: يا أبا حمزة وأنت شاهد على ذلك. قال: وأين أغيب عنه) (¬1). ... من فقه الغزوة: 1 - لقد كانت حنين في حقيقة الأمر امتدادا لفتح مكة. غير أنا أفردناها عن فتح مكة. لأن القرآن الكريم أفردها بالذكر. وتطوى في هذا المجال الفترة الزمنية. بينما يأخذ الحديث عن عبر حنين مداه. لأنها تمثل خطا أصيلا من خطوط مبادىء النصر والهزيمة في الإسلام. 2 - {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضافت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين. ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم} (¬2). ¬

(¬1) المصدر نفسه 202 - 203. (¬2) التوبة: 25 - 27.

أ - (لن نغلب اليوم عن قلة) (¬1) قالها رسول الله (ص)، أو قالها رجل من بني بكر، أو قالها غلام من الأنصار. وحين يقولها النبي (ص) إنما يعني أن الخلل لن يأتي من العدد - والله أعلم - وحين يقولها غيره. فلا شك أن كثرة العدد قد غرته وأعجبته. ورأى أنه لن يكون هزيمة وهذه الأعداد الضخمة قائمة، والتي بلغت اثني عشر ألفا من المسلمين أو أربعة عشر الفا في رواية ثانية. ولم تشهد جزيرة العرب جيشا بهذه الضخامة منذ أن وجدت الجزيرة. وهم مسلمون وفيهم رسول الله (ص). فلن يتطرق إلى ذهن أحدهم وقوع الهزيمة بحال. ب - غير أن الله تعالى الذي نصر المؤمنين في مواقع كثيرة. أراد أن يتربى هذا الجيش كله، وبأعداده الضخمة الوافدة الجديدة. على مبدأ - النصر من عند الله - وأن الله تعالى هو الذي يهبه ويعطيه ابتداء. وليس النصر متحققا بكثرة العدد والعدة، وقوة الشكيمة. وإن كانت هذه أسباب يكلف المسلم بها من حيث الإعداد والتهيؤ. وفي المرحلة السابقة كان هذا الأمر واضحا لهم من الواقع العملي. ففي كل المعارك التي خاضوها كان عددهم أقل. ففي حسهم النصر من عند الله واقع. لأنهم أقل عددا وعدة. أما الآن. وقد دخل الناس في دين الله أفواجا، وطغى جانب الثقة بالعدد والكثرة والعدة. وضعف ¬

(¬1) نسبها ابن هشام لرسول الله (ص) عن رجل من أهل مكة. ففي السند جهالة. ونسبها ابن إسحاق إلى رجل من بني بكر والصحيح أن غير رسول الله (ص) هو الذي قالها كما حقق الصالحى في كتابه سبل الهدى والرشاد 5/ 469.

في حس الناس تجريد النصر من عند الله وحده عن أي مفهوم آخر. خصوصا أن كثيرا من هذه الأعداد قد انضمت إلى الإسلام. انطلاقا من قوة النبي (ص) وتمكنه في الأرض بعد الحديبية. ودخوله مكة باعتراف رسمي من قريش. وأعطي الحق لكل قبيلة تود أن تحالف محمدا أو تنضم له. من خلال وثيقة الحديبية. هذه العوامل كلها اجتمعت. فكونت هذا الخلل في مفهوم - النصر الرباني - فكان لابد من هذا الدرس المباشر. الذي شهده المسلمون كي يتبرأوا من حولهم وقوتهم. ويكون توكلهم واعتمادهم على الله تعالى واهب النصر. {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ...} (¬1). 3 - وتتراوح الروايات عن الذين ثبتوا مع رسول الله (ص) بين بضعة أفراد إلى بضعة وثمانين فردا. وهذه الأرقام في أعلاها وأدناها تبقى ذات مغزى هائل حين يثبت قرابة المائة - على الرواية الأكثر عددا - من اثني عشر ألفا. وتعني أن المسلمين من الممكن أن ينتهوا. لولا ثبات النبي (ص) ومن معه. وثبات رسول الله (ص) وإركاض بغلته قبل الكفار. تعني أنه أشجع الخلق. وتعني أنه اثبت الناس. وإنما تقاس شجاعة الناس به عليه الصلاة والسلام وكما يقول البراء رضي الله عنه: ((ولقد كنا إذا حمي البأس نتقي برسول الله (ص) وإن الشجاع الذي يحاذي به)) (¬2). والقائد الفذ بثباته هو الذي يستطيع أن يحول الهزيمة نصرا بإذن ¬

(¬1) آل عمران /160. (¬2) مسلم / ص 1776.

الله. ولقد فعلها رسول الله (ص) مرتين. مرة في أحد، ومرة في حنين. ومرت عليه مرحلة. ليس معه أحد .. وثباته هو الذى يجعل الناس يفيؤون إليه ويتابعون مواجهتهم مع العدو. 4 - وحين نقف مع النوعيات التي ثبتت مع رسول الله (ص) نلاحظ أنها تمثل خلاصة الصف الأول من المهاجرين والأنصار. كما روى ابن مسعود رضي الله عنه ((فولى الناس وثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار. فنكصنا على أقدامنا نحو من ثمانين قدما ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة)). ونلاحظ أنه بين هذه الصفوة المختارة مجموعة جديدة تكاد تكويا من مسلمة الفتح. نشهد العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. وهو الذي تلقى رسول الله (ص) قبل دخول مكة. وشهد أبا سفيان بن الحارث رضي الله عنه ابن عم النبي (ص). والذي يشهد أول مشهد معه عليه الصلاة والسلام والذي رفض رسول الله ابتداء أن يلقاه وقال عنه: أما ابن عمي فقد هتك عرضي. وكلاهما العباس وأبو سفيان. وولد العباس الفضل. وأخو أبي سفيان ربيعة بن الحارث. وعلي بن أبي طالب. وهذا الحصن الحصين الذي تماسك حول رسول الله (ص) يحميه هم من أهل بيته. وها هو شيبة بن عثمان الذي أراد أن يهتبل الفرصة لاغتيال رسول الله (ص) في خضم هذه الهزيمة. يصفه فيقول: (فذهبت لأجيئه عن يمينه فإذا العباس بن عبد المطلب قائم عليه درع بيضاء كأنها فضة ينكشف عنها العجاج. فقلت: عمه ولن يخذله. ثم جئته عن يساره. فإذا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. فقلت: ابن عمه ولن يخذله. قال: ثم جئته من خلفه فلم يبق إلا أن أساوره سورة بالسيف. إذ رفع

شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق. فخفت أن يمحشنى. فوضعت يدي على صدري ومشيت القهقرى. فالتفت رسول الله (ص) وقال: ((يا شيب ادن مني، اللهم اذهب عنه الشيطان)) قال: فرفعت إليه بصري ولهو أحب إلي من سمعي ومن بصري. فقال: ((يا شيب قاتل الكفار)) (¬1). وفي لحظة. انضمت لبنة جديدة إلى القلعة التي كانت تحمي النبي (ص). بعد أن كان قد أقدم مصمما على اغتياله. إن قوة الإيمان والعقيدة. ليس من الضرورة أن يمر عليها الزمن والسنون الطوال حتى تثبت. وأبو سفيان بن الحارث، وشيبة بن عثمان. قد اسلموا ومحضوا الإسلام قلوبهم. وفي أيام أو لحظات وصلوا إلى مصاف السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بثباتهم. والدعاة إلى الله تعالى. بحاجة إلى تبصر هذه المواقف. وإلى التثبت العميق في حكمهم على الناس. ومدى تمكن الإسلام منهم. بين من آمن خالصا من قلبه. فتغير تركيبه وتكوينه وغدا إنسانا آخر. وبين من دخل الإسلام خوفا أو رغبة. فلا بد أن تصقله الأيام والسنون حتى تتعمق معاني الإيمان في قلبه. وكانت الطبقة الثانية التي انضمت للطبقة الأولى. هي طبقة الأنصار عموما الذين بلغوا قرابة الألف. وذلك حين توجه النداء من رسول الله (ص). ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير /272/ 4.

((قال أين المهاجرون. والأنصار؟)) قلت: هم أولاء قال: ((اهتف بهم.))) فجاؤوا سيوفهم بأيمانهم كأنهم الشهب.) ونادى أصحابه وزمزم: يا أصحاب البيعة يوم الحديبية: الله. الله الكرة على نبيكم! يا أنصار الله وأنصار رسوله، يا بني الخزرج، يا أصحاب سورة البقرة. (أي عباس ناد أصحاب السمرة - أي الذين بايعوا تحت الشجرة يوم الحديبية - فوالله لكأنما عطفتهم حين سمعوا صوتي عطف البقر على أولادها. فقالوا: يالبيكاه، يالبيكاه. فاقتتلوا هم والكفار.) وهذه المرحلة الثانية من المعركة التي شهدت الهول الأكبر من زخم الهجوم من هوازن، وضراوة الدفاع من هذه الألف. (فنظر رسول الله (ص) وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال: هذا حين حمي الوطيس. 5 - وقد تحقق الهدف من الدرس. لكن الله تعالى لن يخذل نبيه. فحين كان وحده أو معه بضعة أفراد أو بضعة عشر فردا. كان هذا في حس المسلمين. أما في حس الكفار. فقد كانت آلاف الملائكة تملأ الساحة وتسد الأفق. فلم يشعر المشركون أبدا أن الساحة خالية. وأن الذين بقوا من المسلمين بضعة أفراد أو بضعة عشر. بل كان الرعب يزعزع قلوبهم. وكان السلاح الثاني الذي زلزل الجيش كله بعد نزول الملائكة. هو سلاح الحصيات أو التراب الذي رمى به رسول الله (ص) المشركين.

(ثم قال: ((انهزموا ورب محمد)) فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى. فوالله ما هو أن رماهم بحصياته. فما زلت أرى حدهم كليلا، وأمرهم مدبرا). (ثم قبض قبضة من تراب الأرض، واستقبل به وجوههم وقال: ((شاهت الوجوه)). فما خلى الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا من تلك القبضة. فولوا مدبرين). إن الله تعالى قادر على أن ينزل نصره. بدون المسلمين جميعا. وآلافهم المؤلفة. وقادر جل شأنه أن يفعل بقبضة الحصى والتراب. ما يعجز عن فعله عشرات الألوف من السيوف والرماح. وقادر جل شأنه أن يزلزل الأرض بعدوه. من دون قتال. ولكنها السنة الإلهية. فلم يقاتل الملائكة في حنين. لكنها أبقت المسلمين كثرة في أعين عدوهم. ريثما بدأ توافد المسلمين من جديد. وحمي الوطيس، واستعرت المعركة. ولم تقض كف الحصباء على المشركين. إنما ملأت عيونهم ترابا ثم راحت سيوف المسلمين تعمل في رقابهم. وشاءت إرادته تعالى أن يتم النصر ظاهرا من خلال عالم الأسباب. بعد أن حمى رسوله وخذل عدوه حين انقطع عالم الأسباب. 6 - وفي معركة القلوب برزت أعظم ظاهرتين. وبرزت من خلالهما المستويات الإيمانية الرفيعة. وكانت الأولى: إعادة سبايا هوازن لهوازن. بعد أن تم

توزيعهن على الجيش كله. وعظمة التجربة والتربية النفسية اتنها تمت بعد تملك المسلمين للسبايا. وليس قبل ذلك. حتى تمتحن هذه النفوس بإيثارها. واستعدادها للتخلي عن أعز ما تحب وتشتهي دون أمر أو قسر أو إكراه. بل بمحض الرغبة والاختيار. وأن يتعنت اثنان أو ثلاثة من قادة القبائل. فهو وضع مثالي كذلك بين المئات الذين أعلنوا تنازلهم دون إكراه ودون مقابل. وذلك من خلال القدوة العملية. ابتداء من رسول الله (ص) ثم أبي بكر وعمر، وانتهاء بعيينه بن حصن والاقرع بن حابس. وكانت الثانية: يوم اعطيت غنائم حنين. للمؤلفة قلوبهم. وحرم منها الأنصار ولما تزل سيوف الأنصار تقطر من دمائهم. وهم الذين نصروا رسول الله (ص) منذ بيعة العقبة. وفي كلمات خالدات. ختمهن عليه الصلاة والسلام بقوله: ((ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وتذهبون أنتم برسول الله (ص) ..)) فقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا. وما زالوا يبكون حتى اخضلت لحاهم.) ولو كان هذا الأمر في غير جيش النبوة وفي غير ميزان الله. لقطع الأمير والقائد قطعا قطعا بتهمة محاباة أهله على حساب القانون. بالسيوف التي مكنت له. وحين يرتفع الدعاة إلى الله إلى هذه الآفاق العليا من التجرد والإيثار. حين ذلك. يصغي الوجود لهم. فيحكموه. كما حكمه الجيل الرائد من قبل. ألا ما أروع المحنة التي تكشف المعادن العالية، والآفاق السامية للرجال. فتعطى الدنيا. لتكسب سيدها بلا نزاع.

الفصل الثلاثون غزوة تبوك

الفصل الثلاثون غزوة تبوك أحداث الغزوة: 1 - قال ابن اسحاق: ثم أقام رسول الله (ص) بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب - يعني من سنة تسع - ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم. وقد ذكر لنا الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة (¬1) وغيرهم من علمائنا. كل حدث في غزوة تبؤ ما بلغه عنها. وبعض القوم يحدث ما لا يحدث بعض: (أن رسول الله (ص) أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم وذلك في زمان عسرة من الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارجم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه. وكان رسول الله (ص) قلما يخرج في غزوة، إلا كنى عنها. وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له. إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه بينها للناس لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد له ليتأهب الناس لذلك أهبته. فأمر الناس بالجهاز وأخبرهم أنه يريد الروم. فقال رسول الله (ص) ذات يوم للجد بن قيس أحد بني سلمه: يا جد. هل لك هذا العام في جلاد بني الأصفر؟. فقال: يا رسول الله أو تأذن لي فلا تفتني؟ فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد ¬

(¬1) كل رواة ابن اسحاق ثقات.

عجبا بالنساء مني وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر (الروم) أن لا أصبر. فأعرض عنه رسول الله (ص) وقال: قد أذنت لك. ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين}) (¬1). وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر زهادة في الجهاد وشكا في الحق، وإرجافا برسول الله (ص) فأنزل الله تبارك وتعالى: {.. وقالوا لاتنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون}) (¬2). قال ابن هشام: وحدثني الثقة عمن حدثه، عن محمد بن طلحة بن عبد الرحمن عن إسحاق ابن إبراهيم بن عبد الله بن حارثة عن أبيه عن جده قال: بلغ رسول الله (ص) أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس عن رسول الله (ص) في غزوة تبوك. فبعث إليهم النبي (ص) طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم. ففعل طلحة. فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت. فانكسرت رجله. واقتحم أصحابه، وأفلتوا) (¬3). 2 - عن كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان إلى النبي (ص) بألف دينار .. حين جهز جيش العسرة فينثرها في حجره. قال ¬

(¬1) التوبة /49. (¬2) التوبة /81 - 82. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام /2/ 515 - 517.

عبد الرحمن: فرأيت النبي (ص) يقلبها في حجره ويقول: ((ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم))) مرتين) (¬1). وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: لما حصر عثمان أشرف عليهم فوق داره ثم قال .. اذكركم بالله عز وجل هل تعلمون أن رسول الله (ص) قال في جيش العسرة. من ينفق نفقه متقبلة والناس مجهدون معسرون. فجهزت ذلك الجيش؟ قالوا: نعم ....) (¬2). 3 - ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله (ص) وهم البكاؤون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم. فاستحملوا رسول الله (ص) وكانوا أهل حاجة. فقال: (لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون) (¬3). وجاء المعذرون من الأعراب فاعتذروا إليه. فلم يعذرهم الله تعالى وقد ذكر لي أنهم نفر من غفار (¬4). ثم استتب برسول الله (ص) سفره، وأجمع السير. وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله (ص) حتى تخلفوا عنه من غير شك ولا ارتياب منهم: كعب بن مالك .. ومرارة بن الربيع .. وهلال بن أمية. وأبو خيثمة (¬5). وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم (¬6). ¬

(¬1) رواه الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ج 5/ ص 622/ ح 3701. (¬2) المصدر نفسه وقال: هذا حديث حسن صحيح/ ح/ 3699. (¬3) و (¬4) و (¬6) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 518 - 522. (¬5) أبو خيثمة: التحق بالجيش الإسلامي وتفادى التخلف.

4 - (وقد كان رسول الله (ص) حين مر بالحجر (¬1) نزلها، واستقى الناس من بئرها. فلما راحوا قال رسول الله (ص): لا تشربوا من مائها شيئا، ولا تتوضؤوا منه. وما كان من عجين عجنتموه فأعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا. ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له. ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله (ص)، إلا أن رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعير له فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه. وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتمله الريح حتى طرحته في جبل طيىء. فأخبر بذلك رسول الله (ص) فقال: ألم أنهكم عن أن يخرج أحد منكم إلا ومعه صاحبه، ثم دعا رسول الله (ص) للذي أصيب على مذهبه فشفي، وأما الآخر الذي وقع بجبل طيىء. فإن طيئا أهدته لرسول الله (ص) حين قدم المدينة) (¬2). 5 - وعن ابن عباس قال: قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن العسرة. فقال: عمر: خرجنا مع رسول الله (ص) إلى تبوك. في قيظ شديد. فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد. حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى إن كان أحدنا يذهب يلتمس الخلاء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويضعه على بطنه. فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله عودك في الدعاء خيرا فادع فقال النبي (ص): أتحب ذلك يا أبا بكر: قال: نعم. فرفع رسول الله (ص) يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأطلت ثم سكبت. فملؤوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر) (¬3) ¬

(¬1) الحجر منازل ثمود. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 2: 518 - 522. (¬3) مجمع الزوائد للهيثمي 194/ 6 وقال: رواه البزار والطبراني في الأوسط ورجال البزار ثقات.

6 - ولما انتهى رسول الله (ص) إلى تبوك. أتاه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة. فصالح رسول الله (ص) وأعطاه الجزية. وأتاه أهل جرباء وأذرح. فأعطوه الجزية. فكتب رسول الله (ص) لهم كتابا فهو عندهم. فكتب ليحنة بن رؤبة: بسم الله الرحمن الرحيم: هذه أمنة من الله، ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة. سفنهم وسياراتهم في البر والبحر. لهم ذمة الله، وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثا. فإنه لا يحول ماله دون نفسه. وإنه طيب لمن أخذه من الناس. وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر (¬1). 3 - ثم إن رسول الله (ص) دعا خالد بن الوليد. فبعثه إلى أكيدر دومة. (هو أكيدر بن عبد الملك رجل من كندة كان ملكا عليها، وكان نصرانيا، فقال رسول الله (ص) لخالد: إنك ستجده يصيد البقر. فخرج خالد حتى إذا كان بحصنه على منظر العين، وفي ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له ومعه امرأته. فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر. فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله! قالت: فمن يترك هذه؟ قال: لا أحد. فنزل فأمر بفرسه، فأسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته. فيهم أخ يقال له حسان. فركب، وخرجوا معهم بمطاردهم. فلما خرجوا تلقفتهم خيل رسول الله (ص) ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 525 - 526.

من فقه الغزوة

فأخذته، وقتلوا أخاه، وقد كان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب. فاستلمه خالد. فبعث به إلى رسول الله (ص) قبل قدومه به عليه. قال ابن اسحاق عن أنس بن مالك: رأيت قباء أكيدر حين قدم به على رسول الله (ص). فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعحبون منه. فقال رسول الله (ص) أتعجبون من هذا؟ فو الذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا. ثم إن خالدا قدم بأكيدر على رسول الله (ص). فحقن له دمه، وصالحه على الجزية. ثم خل سبيله. فرجع إلى قريته (¬1). من فقه الغزوة: لسنا أمام معركة يسود فيها القتل والضرب والطعان. لكننا أمام معركة نفسية من أعنف المعارك. يتدرب فيها المسلمون على مشاق الحياة وصعوباتها، ويتعلمون فيها على الانضباط، والالتزام التام، بالأوامر والنواهي والجهاد بالمال قبل الجهاد بالنفس. 1 - لقد كانت تبوك أول تجربة لهذا التجمع الإسلامي الذي امتد في الجزيرة العربية كلها، وبلغت الأخبار إلى رسول الله (ص) (أن الروم قد جمعوا جموعا كثيرة بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة. وأجلبت معه لخم وجذام وغسان وعاملة وزحفوا، وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وعسكروا بها، وتخلف هرقل بحمص. ولم يكن ذلك. إنما ذلك قيل. ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 525 - 526.

فقالوه) (¬1) فإذا كان الروم قد عبؤوا كل قواتهم في الأرض العربية للمواجهة. فلابد للمسلمين أن يعبؤا قواتهم كذلك. وحيث أن المسافة طويلة، والمواجهة صعبة. فقد أعلن عليه الصلاة والسلام ابتداء عن اتجاه الغزوة. (وبعث إلى القبائل وإلى مكة يستنفرهم إلى عدوهم فبعث بريدة بن الحصيب وأمره أن يبلغ الفرع. وبعث أبا رهم الغفاري إلى قومه، وأبا واقد الليثي إلى قومه، وأبا جعدة الضمري إلى قومه بالساحل، ورافع بن مكيث إلى جهينة، ونعيم بن مسعود إلى أشجع، وبديل بن ورقاء والأبسر بن سفيان إلى بني كعب بن عمرو (من خزاعة) والعباس بن مرداس إلى بني سليم.) (¬2) وحض على الجهاد ورغب فيه. وبهذه التعبئة التي مثلت أضخم تحرك إسلامي في حياته (ص). (وسار ومعه ثلاثون ألفا، وعشرة آلاف فرس، واثنا عشر ألف بعير. وقال أبو زرعة: كانوا سبعين ألفا، وفي رواية أربعين ألفا) (¬3). وكان عنف التجربة في الوقت التي اختير لها (وذلك في وقت عسره من الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، يكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه. وكان رسول الله (ص) قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذى يصمد له. إلا ما كان من غزوة تبوك. فإنه بينها للناس لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد له ليتأهب الناس لذلك أهبته. فأمر الناس بالجهاز، ¬

(¬1) و (¬2) إمتاع الأسماع للمقريزى 1/ 445 - 449. (¬3) المصدر نفسه 1/ 450.

وأخبرهم أنه يريد الروم) (¬1) لاشك أن رسول الله (ص) قد حقق ذروة النجاح في هذا الجيش الذي بلغ مائة ضعف جيشه الأول في بدر. وبدون أن يستعمل الإرهاب والسجن، والإعدام للخيانة العظمى. إنما تم هذا الأمر فقط. من خلال الحث والدعوة والتذكير بالجهاد. وما عرفت أمة في الأرض. تقاد بدافعها القلبي. دون رهبة. أو رعب أو فتك. كما عرفت هذه الأمة. في هذا الجيل الرائد .. وهذه القيادة النبوية التي غيرت وجه الدين، وجمعت كل الطاقات المسلمة في الأرض العربية. لتكون في مواجهة العدو. 2 - ومن أين يزود هذا الجيش بالمال؟ إنه يحتاج إلى ميزانية سنوية عامة. وقد سدها أفراد أفذاذ. أغنياء. حملوا أعباء التعبئة المادية. بل بلغ جهد فرد واحد فيه أن جهز ثلث الجيش: (وأول من حمل صدقته أبو بكر الصديق رضي الله عنه. جاء بماله كله، أربعة آلاف درهم. فقال له رسول الله (ص): هل أبقيت شيئا؟ قال: الله ورسوله!. وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله .. وحمل العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه مالا يقال إنه تسعون ألفا، وحمل طلحة بن عبيد الله مالا، وحمل عبد الرحمن بن عوف مائتي أوقية، وحمل سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة مالا. وتصدق عاصم بن عدي بتسعين وسقا من تمر. وجهز عثمان بن عفان رضي الله عنه ثلث ذلك الجيش. فكان من أكثرهم نفقة. حتى كفى ثلث ذلك الجيش مؤونتهم، حتى إن كان ليقال: ما بقيت له حاجة!! فجاء بألف دينار ففرغها في حجر النبي (ص). فجعل يقلبها ويقول: ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 515 - 519.

ما ضر عثمان ما فعل بعد هذا اليوم، قالها مرارا. ورغب عليه السلام أهل الغنى في الخير والمعروف. فتبادر المسلمون إلى ذلك. حتى إن الرجل ليأتي بالبعير إلى الرجل والرجلين فيقول: هذا البعير بينكما تعتقبانه، ويأتي الرجل بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج. وأتت النساء بكل ما قدرن عليه فكن يلقين في ثوب مبسوط بين يدي النبي (ص) المسك (¬1)، والمعاضد (¬2)، والخلاخل، والأقرطة، والخواتيم، والخدمات. (¬3)) (¬4). وهذه المساهمة العامة التي اشترك بها الغني والفقير، والمرأة والرجل. استطاعت أن تمون الجيش كله. خلال الدافع القلبي كذلك، والترغيب بما عند الله عز وجل. لقد غدا المجتمع الإسلامي كله أسرة واحدة. يعيش محنته، ويعيش. أمله. وكأنما هو على قلب رجل واحد. ومن شذ. شذ في النار. والجماعة المسلمة. بحاجة إلى أن تتعلم من هذا المجتمع النبوي. المستوى العالي الذي بلغه في التربية فيجهز أعظم جيش ويمول أكبر جيش بالتذكير. والترغيب فقط. ولابد أن تراجع نفسها في الواقع العملي ¬

(¬1) المسك: جمع مسكة. وهي السوار تجعله المرأة في يديها وإنما يكون من الذبل والعاج. (¬2) المعضدة: الدملج يكون كالسوار تجعله على عضدها بين الكتف والمرفق. (¬3) الخدمة: الخلخال تجعله في رجلها. (¬4) إمتاع الأسماع للمقريزي / 1/ 446 - 447.

لا في المد الشعوري والعاطفي حين تطرح المواجهة مع العدو. وأن تربيتها صارت على مستوى هذه المواجهة. أم لا. حتى لا تعتورها العجلة، وينتابها الغرور. فتضحي بشبابها قبل الأوان. 3 - وظاهرة النفاق التي برزت من جديد. مستفحلة. منظمة، مخططة. بعد أن اختفت أو كادت تختفي قبل فتح مكة. ويكفي أن نلاحظ أن القرآن الكريم أفرد لها من المعالجة في سورة التوبة أكثر من نصف السورة. هي أمر طبيعي. تعكس ضخامة الامتداد البشري والمكاني للإسلام. والذي رافق قوة الإسلام وسيادته في الأرض. فلم يعد أمام الناس إلا الإسلام. وكانت وفود القبائل تترى لتعلن إسلامها وانضمامها للمعسكر النبوي، ولا شك أن بعض هذه القبائل أو قياداتها. لم يكن مخلصا في دخوله الإسلام. لكنه لابد أن ينحني للعاصفة، ويسعى بعد ذلك للمواجهة. خوفا على سلطانه، وخوفا على طغيانه أن ينتزع منه. وبرزت مظاهر هذا النفاق في جوانب شتى. (أ) في التخلف عن الجهاد. والاعتذار بأعذار واهية. فندها القرآن جميعا، وعراها وعرى أصحابها. (ب) في التثبيط عن الجهاد، ودعوة الناس للقعود. وقالوا: لا تنفروا في الحر. قل نار جهنم أشد حرا. (ج) في اللمز من المطوعين الذين لا يجدون إلا جهدهم. فيسخرون منهم. (د) في اتهام المنفقين بالرياء. حتى. لا يسلم الصف الإسلامى. ويسود فيه اللغط والغيبة. (ض) في التشكيك بالمعجزات النبوية أثناء الغزوة. والحرص على مخالفة

الأوامر النبوية ما أمكنهم ذلك. (و) في محاولة اغتيال رسول الله (ص). ورميه من العقبة عن ناقته. (ز) في بناء مسجد الضرار لتفريق كلمة المؤمنين. وليكون مركزا لتخطيطاتهم. ووكرا لمؤامراتهم. (ح) في الهزء والسخرية بالمؤمنين المجاهدين. ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب وغير ذلك من المؤامرات والأساليب التي ابتكرتها لهم قياداتهم. 4 - ولابد من الإشارة إلى أن غزوة تبوك كشفت تفاوت المستويات الإيمانية. خاصة. وهذه الأعداد الهائلة ليست على مستوى واحد من التربية. وظهرت طبقات شتى في المجتمع الإسلامي. ضمن الصف المؤمن نفسه. وهذه المستويات. هي غير المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وقد تتشابه المظاهر أحيانا بين المؤمنين الضعفاء وبين المنافقين. يقول ابن كثير رحمه الله. كان المتخلفون عن غزوة تبوك أربعة أقسام: (1) مأمورون مأجورون كعلي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة وابن أم مكتوم (وقد تخلفوا بأمر رسول الله (ص). (2) معذورون وهم الضعفاء والمرضى والمقلون. وهم البكاؤون. (أي الذين لم يجدوا ما ينفقون لجهادهم). (3) وعصاة مذنبون وهم الثلاثة. (كعب بن مالك، وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع (وقد تاب الله عليهم) وأبو لبابة وأصحابه المذكورون. (4) وآخرون ملومون مذمومون. وهم المنافقون.

وطبقات هذا المجتمع الإسلامي. حين نأخذها عن سورة التوبة. نلاحظ أنها كما يلي: (1) {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}) (¬1). (2) {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم}) (¬2). (3) {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم}) (¬3). (4) {وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم}) (¬4). والطبقة الرابعة تاب الله عليها فيما بعد {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضافت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم}) (¬5). (5) الذين عذرهم الله تبارك وتعالى ابتداء: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما يفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك ¬

(¬1) و (¬2) و (¬3) التوبة 100 - 102. (¬4) التوبة. (¬5) التوبة / 118.

لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون}) (¬1). وهذه الطبقة الخامسة. تكاد تنضم إلى الطبقة الأولى. فقد قال فيهم رسول الله (ص): (عن أنس بن مالك أن رسول الله (ص) رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة فقال: ((إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم))). فقالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: ((وهم بالمدينة. حبسهم العذر))) (¬2). وإذا كان الأمر يقتصر في النهاية على ثلاث طبقات هي: السابقون، والمقصرون، والمنافقون. لكن تفاوت المستويات الإيمانية يبقى كبيرا جدا بين السابقين الأولين والمقصرين. وكما يقول القرآن الكريم في موطن آخر: {... فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق للخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير}) (¬3) لكن الذي نقوله: أن الطبقة الأولى هي الطبقة التي يقوم على أكتافها تربية الطبقة الثالثة. وهي التي تمثل القاعدة الصلبة للمجتمع الإسلامي. وهي التي تهضم الطبقة الثالثة. وتضمها إلى صفها. وكذلك تقلص الطبقة الثانية بحيث تكون قادرة على استيعاب عناصر جديدة. تجعل القاعدة الصلبة في اتساع دائم. ¬

(¬1) التوبة /91 - 92. (¬2) البخاري له 64/ب 81/ ج 6/ ص.1. (¬3) فاطر /32.

يقول سيد رحمه الله: 5 - (وكان لغزوة تبوك أثر معنوي ضخم صحيح أنه لم يجر فيها قتال ولا طعان. ولكن هذه القوة التي وصفها الله تعالى {... ترهبون به عدو الله وعدوكم ...}) قد أدت مفعولها. فإذا ركائز النصرانية في أرض العرب تأتي لتسالم النبي (ص). ويأتي وفد إيلية ممثلا للنصارى في جزيرة العرب يعلن مهادنته لدولة الإسلام. وكما ورد في المصالحة. أنه يشمل (من كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر). كما صادف وصول رسول قيصر امبراطور الروم إلى تبوك ليعلن نفس الهدنة. وبذلك دانت جزيرة العرب كافة للإسلام. ليس مهمة القوة في الإسلام أن تدمر وتقتل وتسفك. إنها القوة الرادعة المرهوبة الجانب التي تمكن الحرية للناس فيعبدون الله كما يشاؤون. وهي القوة التي تلجم الطغاة الذين يريدون فتنة الناس عن دين الله. ولابد أن يدرك الدعاة إلى الله. أن طريقهم حتى يؤتي ثماره، ويحقق جناه. لابد أن ينتهي إلى ما انتهى إليه الجيل الأول. وتكون دولة الإسلام المرهوبة الجانب. هي التي تحمي الدعاة في كل أرض. وتمكن الناس من وصول شريعة الله إليهم. والتمتع بثمار حكمها في الأرض. والدعوة التي لا تسير على منهج النبوة. لن تصل إلى ما تريد. فلن يحق الحق ويبطل الباطل إلا بالقوة التي تفعل ذلك: {ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون}). وقوة خالد الفدائية التي اختطفت ملك دومة الجندل أكيدر بن عبد الملك. جاءت به. ليعلن مصالحته. وهدنته مع النبي القائد

صلوات الله عليه. وتدين العرب قاطبة لله ورسوله. 6 - وتوبة كعب رضي الله عنه. وما حملت في آفاقها من معاني السمو، والاعتراف بالخطأ. وتعاليه عن الدنيا التي تتراقص له بدعوة ملك غسان له (أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك. ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة. فالحق بنا نواسك. فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها) (¬1) وصبر على عقوبة الله تعالى له. حتى أن أعز إخوانه له لا يكلمه. وحتى زوجته يأتيه الأمر النبوي (إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أما ماذا أفعل؟ قال: بل اعتزلها) فهو على استعداد لطلاق زوجته وأم ولده. وصبر لا يوما أو يومين. بل خمسين ليلة على هذا الحال، منها عشر ليال بمقاطعة امرأته له إلى أن جاءه الفرج بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت. ونزلت توبته من السماء. وتقدم فقال: (يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله). ويكفي أن نذكر أن كعبا رضي الله عنه وأرضاه. كان من الطبقة الثالثة (المرجون لأمر الله إما أن يتوب عليهم وإما يعذبهم) لتخلفه عن غزوة تبوك دون عذر. وهو ممن شهد بيعة العقبة). فإذا كان هذا مستوى الطبقة الثالثة في الصدق. والولاء لله ورسوله. والالتزام في تنفيذ أشد العقوبات عليه. واستعداده لطلاق امرأته. وتخليه عن ماله. طاعة لله ولرسوله. فعلينا أن نفكر كثيرا. لنقارن بين أعلى المستويات الإيمانية عندنا والتي لا ترقى أبدا إلى أدناها هناك. وكم علينا أن نجاهد أنفسنا. حتى نقترب من ذلك المستوى الإيماني التربوي الرفيع. ¬

(¬1) البخاري 64 ص 7.

الفصل الحادي والثلاثون مواقف المنافقين من الدعوة

الفصل الحادي والثلاثون مواقف المنافقين من الدعوة (النفاق: لغة مصدر من نافق، ونافق لها عدة معاني، ومن معانيها: نافق اليربوع نفاقا ومنافقة، دخل في نافقائه ونافق فلان: أظهر خلاف ما يبطن. ومنه جاء المعنى الاصطلاحي: نافق في الدين: ستر كفره وأظهر إيمانه والمنافق من يخفي الكفر ويظهر الإيمان. ومن يضمر العداوة ويظهر الصداقة ومن يظهر خلاف ما يبطن) (¬1). 1 - النفاق في مكة: لم يكن للمنافقين وجود في العهد المكي لأنه عهد ابتلاء وفتنة وتمحيص. غير أن من المفسرين من رأى أنه كان لهم وجود في مكة استدلالا بقوله تعالى: {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم}) (¬2). يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله بصدد هذه الآية: {المنافقون والذين في قلوبهم مرض} قيل: إنهم مجموعة من الذين مالوا إلى الإسلام في مكة. ولكن لم تصح عقيدتهم، ولم تطمئن قلوبهم وخرجوا مع النفير مزعزعين. فلما رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين قالوا هذه المقالة) (¬3). ¬

(¬1) انظر القاموس المحيط باب القاف فصل النون/ 1196 ط مؤسسة الرسالة. والمعجم الوسيط 5/باب النون 942/ 2 دار الفكر. (¬2) الأنفال /49. (¬3) الظلال ص 1532.

بداية التجمع

2 - بداية التجمع: وعند دخول رسول الله (ص) المدينة وإلى غزوة بدر لم يكن النفاق قد نجم بعد. فقد كان معسكر الشرك واضحا بزعامة عبد الله بن أبي نفسه. والذي كانت الجرأة تصل به أن يطالب محمدا (ص) بالكف عن الدعوة إلى الله. (... فسلم رسول الله (ص) ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن. فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا، فلا تؤذينا به في مجلسنا، إرجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه ..) (¬1). وكان معسكر اليهود واضحا كذلك. اللهم إلا أفرادا من اليهود قاموا بمهمة الجاسوسية في الصف المسلم يتظاهرون بالإسلام ويبطنون الكفر. وقد ذكر القرآن هذا النموذج بقوله {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون}) (¬2). ونستطيع أن نقول إذن: إن معسكر المنافقين لم يبرز حتى بدر. ووجود أفراد محدودين لا يصل خطره إلى أن يطلق عليه اسم معسكر أو تجمع. إنما برز بعد الانتصار الحاسم في بدر. (.... وكان النبي (ص) يتأول العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم. فلما غزا رسول الله (ص) بدرا. فقتل به صناديد كفار قريش، ¬

(¬1) البخاري ك 65 تفسير القرآن/ ب 11 سورة آل عمران / ج 6/ ص 49. (¬2) آل عمران / 72.

دورهم في غزوة بني قينقاع

قال ابن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه. فبايعوا الرسول (ص) على الإسلام فأسلموا) (¬1). وأمام الانتصارات في بدر، والتي ظهرت على صورة معجزة من السماء بدأ ظهور المناففين بشكل واضح. وكانوا يأتمرون بأمر عبد الله بن أبي الذي كانت عقدة الزعامة والمنصب تأكل قلبه. فلم يعد قادرا على أن يواجه الرسول (ص) بعداوة واضحة. لأن من حوله سوف ينفضون عنه لضعفهم أمام قوة المسلمين. ولم تطاوعه نفسه أن يسلم نفسه لله. فأمسك العصا من الوسط. وضمن بقاء أتباعه وجنوده معه. فظاهر الأمر هم مسلمون. وضمن بقاء قيادته وزعامته لهم طالما أنهم غير مكلفين بالمواجهة السافرة. وكانت آيات القرآن تندد بهؤلاء تلميحا لا تصريحا بأسمائهم. 3 - دورهم في غزوة بني قينقاع: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: (فحاصرهم نول الله (ص) حتى نزلوا على حكمه. فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول، حين أمكنه الله منهم فقال: يا محمد، أحسن في موالي. وكانوا حلفاء الخزرج، قال: فأبطأ عليه رسول الله (ص) فقال: يا محمد أحسن في موالي قال. فأعرض عنه. فأدخل يده في جيب درع رسول الله (ص) فقال له رسول الله (ص): أرسلني. وغضب رسول الله (ص) حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال: ويحك! أرسلني، قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربع مائة حاسر وثلاث مائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في ¬

(¬1) البخاري المصدر نفسه / ص 50.

دورهم في غزوة أحد

غداة واحدة. إني والله امرؤ أخشى الدوائر، قال: فقال رسول الله (ص): هم لك) (¬1). لقد كان موقفا غريبا تماما على الحس الإسلامي. فلم يعهد الصف المسلم أبدا فيه مثل هذه الظاهرة منذ أن قامت الدعوة. فقد كان المسلم في تعامله مع رسول الله (ص) في غاية الأدب والانضاط والتفاني في الطاعة. مما يجعله دائما يحتاج لتوجيهات النبي (ص) كي يبدي رأيه ويقول كلمته. ويناقش في حقه. وكان رسول الله (ص) يفسح دائما لهذا البناء عن طريق الشورى. أما أن يقف مسلم بهذه الوقاحة، يضع يده في جيب درع رسول الله (ص)، ويطلب منه رسول الله أن يدعه فلا يدعه. فيغضب منه ويلح عليه بقوله: ويحك أرسلني، فلا يستجيب. ويسترسل في وقاحته. فهذا أمر غريب تماما على الحس الإسلامي بين جندي وقائده. بين مسلم ورسول رب العالمين. ورسول الله تعالى بما أعطاه الله عز وجل من الخلق الأقوم. لم يعهد عنه أنه رد رجاء مسلم وفي فقهه السياسي (ص). أنه إن لبى رجاء ابن أبي. فلعل هذا الموقف يغسل قلبه ويزيل الغشاوة عنه فتتم هدايته. فقال له: ((هم لك))). ولعل الذين يسيرون وراء زعامة ابن أبي يصلحون بصلاحه. فيتماسك الصف المسلم ويلتحم. فلا يضيره كيد العدو أبدا. 4 - دورهم في غزوة أحد. (... فقال عبد الله بن أبي بن سلول: يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم. فوالله ما خرجنا منها إلى عدو إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام /48/ 2 - 49.

أصبنا منه. فدعهم يا رسول الله. فإن أقاموا أقاموا بشر محبس. وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم. وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا. فلم يزل الناس برسول الله (ص) الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله (ص) فلبس لأمته .... فخرج في ألف من أصحابه ... حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد. انخزل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني. ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب. واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة: يقول: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم، فقلوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم. ولكنا لا نرى أنه يكون قتال. فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه) (¬1). صحيح أن أزمة الشقاق قد تم تفاديها يوم بني قينقاع. واستجيب لرأي ابن أبي. غير أن الأيام كانت تترى وموقف ابن أبي لم يتغير. فهو لا زال معتدا بحزبه. ولا يزال يوغر الصدور في الخفاء ضد المسلمين. وكان الموقف يوم أحد. هو القشة التي قصمت ظهر البعير. فلم يؤخذ برأيه في البقاء في المدينة. كما تذكر بعض الروايات (وسار إلى أن وصل إلى رأس الثنية. وعندها وجد كتيبة كبيرة. فقال: ما هذه؟ قالوا: هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبي سلول من يهود. فقال: أسلموا؟ فقيل: لا. فقال: إنا لا ننتصر بأهل الكفر على أهل الشرك. فردهم) (¬2). ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 63 - 64. (¬2) السيرة الحلبية 2/ 493.

وكانت هذه قاصمة ثانية - فهو يرى أن النصر لو تحقق. فسيشترك فيه طالما أن حزبه وحلفاؤه قد ساهموا فيه. ويكون له المركز الثاني بعد رسول الله (ص). أما وقد فاته تحقيق الزعامة بأخذ رأيه في البقاء في المدينة. وفاته المشاركة في النصر عن طريق حزبه وحلفائه. فليشارك إذن في صنع الهزيمة. عله يتخلص من محمد (ص) وزعامته. وليضرب ضربته الذكية. وينفصل بثلث الجيش عائدا إلى المدينة معلنا: (.... سفه رأيي، ورد حلفائي. ما أدري علام نقتل أنفسنا أيها الناس). ولئن كات تصرفاته يوم بني قنيقاع كبيرة على الحس الإسلامي. فلقد أصبحت تافهة لا تذكر أمام تصرفه في أحد. ولقد كانت ذات أثر خطير جدا من الناحية المعنوية. فأن ينفصل الجيش معه. فهذا يعني تصدع الصف الداخلي وهو مقدم على حرب عنيفة. وإذا أردنا أن نحدد أبعاد هذه الخطوة أكثر فيمكن القول: إن الأمر أكبر من ثلث الجيش. فقد أكد القرآن الكريم أن هناك بعض الفئات كادت تستجر معه {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون}) (¬1). كما يشير القرآن الكريم إلى المنافقين الذين بقوا في الجيش، وعلهم مكثوا بأمره ليتموا المهمة الخطيرة. مهمة إشاعة الفوضى والرعب في الصفوف. حيث يؤكد القرآن هذا المعنى بقول الله عز وجل: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من ¬

(¬1) آل عمران /142.

الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور}) (¬1). فإشارة القرآن الكريم إلى الطائفتين المؤمنتين اللتين كادتا تلتحقان بالمنشقين عن الجيش، والإشارة إلى الطائفة التي أهمتها نفسها في المعركة. وهي أخت الطائفة المنشقة وتأكيد القرآن وجود جزء من المنافقين في الجيش في الآية الكريمة {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيى ويميت والله بما تعملون بصير}) (¬2). لتوضح هذه الأمور أن المنافقين هم قرابة نصف الجيش. وتتحدث السيرة عن هذه النماذج في المعركة. فبعضهم قال: (ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. يا قوم إن محمدا قد قتل. فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم) (¬3) - وقال رجال (لو كان نبيا ما قتل فارجعوا إلى دينكم الأول) (¬4). ونلاحظ أن الخط النبوي في أحد. قد اختلف عن الخط في قينقاع من حيث التعامل مع زعيم النفاق. فقد كانت المراعاة في الموقف ¬

(¬1) آل عمران / 154. (¬2) آل عمران /156. (¬3) و (¬4) السيرة الحلبية /2/ 504.

الأول كافية لتبيان نوعية هذه النماذج. وكفيلة بأن تعيدهم إلى حظيرة الإيمان. لكننا نجد أن مواقفهم لم تتغير. فقد كان الموقف حاسما وواضحا في أحد. وقد رد حلفاء عبد الله بن أبي من اليهود. فلا يمكن أن يقوم في الصف الإسلامي تكتل محاذ لكتلة المسلمين وجماعتهم. ولا يمكن أن يقبل تجمع بجوار الجماعة المسلمة. ينتمي لغير قيادتها. ويفرض رأيه عليها. رغم حاجة رسول الله (ص) إلى العدد حيث يواجه ثلاثة آلاف بألف مقاتل. إلا أن المبدأ لا ينقض. فطالما أنهم لم يعلنوا انضمامهم للصف الإسلامي. فلا استعانة بأهل الكفر على أهل الشرك. وهم يشكلون خطرا على الصف الإسلامي نفسه. فالخطورة تكمن في أنهم ليسوا حلفاء المسلمين. إنما هم حلفاء عبد الله بن أبي. فسلامة الصف ووضوح الولاء أهم بكثير من التجمع العشوائي. وكان انفصال عبد الله بن أبي رحمة بالمؤمنين. وكما قال عبد الله بن عمرو بن حرام: (أبعدكم الله. فسيغني الله عنكم نبيه). وكان بالإمكان بعد العودة من أحد أن يوجد في الصف الإسلامي الخالص من يعذر عبد الله بن أبي ويدافع عنه، ويجد له ولحزبه العذر بالعودة بحجة أنهم مسلمون لهم ظروفهم. لكن كلام الله تعالى عنهم جاء كوقع الصاعقة عليهم. فقد كان القرآن يدمغهم بالنفاق بأوضح بيان {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالو لو نعلم قتالا لاتبعنكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم

ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون} (¬1). ثم يربط القرآن الكريم بين الفريقين الذين استمروا في الجيش لإشاعة البلبلة والهزيمة. والذين انخذلوا إلى المدينة {الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} (¬2). ولا نبالغ إذا قلنا: إن قمة تجمع المناففين وخطره برز يوم أحد، لكننا نؤكد في الوقت ذاته أنه قد افتضح أمره. وبرز المنافقون بأشخاصهم وأعيانهم حيث يعلن القرآن عنهم أنهم أقرب للكفر منهم للإيمان وبذلك تمت المفاصلة بينهم وبين المؤمنين. وغدت الجماعة المسلمة تنظر إليهم بعين الحذر والكراهية إن استمروا على مواقفهم. وأصبح المسلم يكف عن بث أسراره لأخيه من أبيه وأمه إن كان ممن وصم بالنفاق. وأدت هذه المواقف الحاسمة منهم بعد ذلك أن يخنسوا ويحاولوا التقرب من الصف المؤمن والاعتذار إليه. وأن يتراجعوا عن موقف المواجهة والتحدي، ويغيروا خطتهم للعمل في الخفاء. أما الذين كان مغررا بهم فقد بدؤا ينضمون للصف الإسلامي في توبة نصوح خالصة. حيث فتح لهم القرآن طريق التوبة بعد التحذير العنيف الرهيب بسوء مصيرهم إن استمروا على موقفهم {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا ¬

(¬1) آل عمران / 167. (¬2) آل عمران / 168.

تآمرهم مع بني النضير

عظيما} (¬1). وهكذا سار الخط النبوي في التعامل مع المنافقين على أمل تفتيت تجمعهم. والتحذير من كيدهم، وتحذيرهم من مغبة السير في طريق النفاق من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. وحققت هذه الخطة أهدافها بشكل واضح. وبدأ خط التصاعد للمنافقين بالانحدار. فقد كانت سورة النساء وحديثها عن الجهاد والنفاق تعري كل المخططات المشبوهة، وتعالج كل الشبهات المبثوثة، وتفسح المجال رحبا أمام التوبة. 5 - تآمرهم مع بني النضير. يقول ابن إسحاق: (وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله بن أبي بن سلول ووديعة ومالك بن أبي قوقل، وسويد وداعس قد بعثوا إلى بني النضير، أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم. وإن خرجتم خرجنا معكم. فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله (ص) أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقه (¬2) ففعل) (¬3). ويحدثنا القرآن الكريم عن هذه الحادثة، وذلك في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم ¬

(¬1) النساء /145 - 146. (¬2) الحلقة: الدروع. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام /191/ 2.

لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون} (¬1). إن الصورة لتختلف تماما اليوم عنها في أحد. فلئن كان التحدي سافرا في أحد. فقد خنسوا اليوم وراحوا يعملون في الخفاء كخفافيش الظلام، لم يعودوا يملكون القوة على المواجهة، ولا القوه على التحدي إنما يتآمرون من وراء الأقنعة علهم ينتصرون مع حلفائهم اليهود على المسلمين. فهم يدعون بني النضير للثبات في وجه المسلمين، وإلى المقاومة، كما يعلنون لهم أن مددهم قادم ولا ريب في ألف من المنافقين. وقد ربطوا مصيرهم بمصيرهم.) لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا. وإن قوتلتم لننصرنكم) ولئن كان عبد الله بن أبي قد استطاع أن يحافظ على حياة حلفائه بني قينقاع. فهو أعجز اليوم من أن يبدي رأيا أو يتقدم بطلب لرسول الله (ص) بعد تلك الخيانة السافرة في أحد. وهو في الوقت نفسه يجلل بالعار من جديد في الخيانة التي فضحها القرآن عن التآمر السري بين الفريقين، المنافقين وكفار أهل الكتاب. وكان خروج اليهود بدون سلاح، وهدمهم بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين صفعة عنيفة للمنافقين. وإسقاطا ماديا ومعنويا لهم. القرآن يتنزل. والمواقف تتضح والمنافقون يتعرون .. ومع ذلك يبقي الإسلام ورسول الإسلام بابا مفتوحا إلى التوبة. فلن يوصد الباب أبدا. لكن اللعب على الحبال مكشوف والتظاهر بالإيمان مفضوح لا ¬

(¬1) الحشر / 11 - 12.

المنافقون يوم الأحزاب

يجدي. ولن يفيد إلا التوبة الصادقة النصوح الخالصة لله. 6 - المنافقون يوم الأحزاب. رغم أن الحديث عن المنافقين يوم الأحزاب كان طويلا لحد ما إذا قيس بما ذكر عن غزوة الأحزاب. وموقف المسلمين فيها. لكنه يركز على معان محددة واضحة فيهم تؤكد ضآلة حجمهم وتفاهة تخطيطهم. يقول الله تعالى عنهم: {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذن لا تمتعون إلا قيلا قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أبنائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا} (¬1). ¬

(¬1) الأحزاب /13 - 20.

الفريق الأول

ولو وقفنا عند هذه الآيات وفقهها نلحظ ما يلى: 1 - الفريق الأول: يقولون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. فهم قد حضروا المعركة وأمام هول الصدمة وعنف المحنة انهار إيمانهم، وكشفت خبيئة نفوسهم فقالو هذه المقالة. وكتب السيرة تذكر هذا القول أو قريبا منه عن معتب بن قشير إذ قال في ساعات الخوف والزلزلة بعد أن سمع بشريات رسول الله (ص) بالفتح المبين لهذا الدين في أقطار الأرض: (يعدنا محمد أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن من أن يذهب إلى حاجته، ما وعدنا الله ورسوله إلا غروز) (¬1). وطبيعة هذا القول تشي بأنه قول مخنوق يقال في الخفاء بين مجموعة موثوقة تقبل هذا المعنى على الأقل ويحسب هؤلاء أن أمرهم لن يظهر، وقولهم لن يكشف. لكن القرآن الكريم لاحق مؤامراتم وكذبهم إلى كل جحر يلتقون فيه. وهم على كل حال يمثلون كل طوائف المنافقين. فقد تزلزل إيمانهم. واعتبروا أنفسهم متورطين بهذا الإيمان. 2 - الفريق الثاني: وهو وضع طائفة محددة تذكر حوادث السيرة أنهم بنو حارثة. وهي إحدى الطائفتين اللتين همتا أن تفشلا يوم أحد إذ قالو (إن بيوتنا عورة وليس دار من دور الأنصار مثل دارنا. ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا. فاذن لنا فلنرجع إلى دورنا فنمنع ذرارينا ونساءنا. فأذن لهم (ص). فبلغ سعد بن معاذ ذلك. فقال: يا رسول الله لا تأذن لهم إنا والله ما أصابنا وإياهم شدة إلا صنعوا هكذا.) (¬2) ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزى 228/ 1. (¬2) إمتاع الأسماع للمقريزي 229/ 1.

الفريق الثالث

ويتحدث القرآن عن جبنهم وهلعهم في أربع آيات تؤكد هذا المعنى الذي ذكره سعد بن معاذ رضي الله عنه فهم يريدون الفرار من المعركة، ولو وطىء العدو أرضهم لأجابوه للفتنة عن دينهم والتخلي عن عقيدتهم ولا أدل على ذلك من خوفهم من الموت أن يجتاحهم في أرض المعركة، وكأنما هم بمنجاة منه في غيرها. وتزعزع عقيدتهم ووهنها هو الذي يدفعهم إلى هذا الموقف. لأن الضر والنفع بيد الله عز وجل وحده. والفرار لن يحول بينهم وبين الموت أو القتل. والمؤمن الصادق يوقن بأن النصر بيد الله، والنفع والضر بيد الله. والموت والحياة بيد الله. وهؤلاء المنافقون ليسوا من هذا الطراز. 3 - الفريق الثالث: هم المعوقون الذين كانوا يخذلون عن رسول الله (ص). والقابعون في جحورهم في المدينة. وهم جبناء مثل أسلافهم. لكنهم لخذلاتهم وتخاذلهم عن رسول الله (ص) أصبح مهوى قلوبهم مع العدو. وكان الوصف دقيقا لاذعا لهم {فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك كالذي يغشى عليه من الموت} طارت قلوبهم من صدورهم رعبا وهؤلاء حكم القرآن عليهم أنهم غير مؤمنين {أولئك لم يؤمنوا فأحبط أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا} وهم على استعداد أن يتركوا المدينة ومن فيها إذا حاق الخوف واشتدت المصيبة. وأمام هذه النماذج الثلاثة نلحظ أن مواصفاتهم هي التي تستغرقها الآيات في الوصف. أما حجمهم فهو ضئيل. رغم أن الفرصة مواتية لبروزهم من أوكارهم. خاصة حين اشتدت المحنة. وابتلي المؤمنون، وزلزلوا زلزالا شديدا. إن المشكلة ليست هي الخوف. فالمؤمنون يخافون، إنما المشكلة هي بواعث الخوف ونتائجه. وارتباط ذلك بالإيمان وعدمه.

المنافقون يوم بني المصطلق

إن المحنة هي التي تمحص القلوب، بكشف ما في الصدور من إيمان أو كفر. وبد يتزلزل المؤمن لكنه لا يفقد إيمانه. قد يفقد موقفه. وقد يفقد شجاعته وثباته، لكن إيمانه لا يتزلزل أبدا. أما ضعيف الإيمان فينهار إيمانه أمام الحادثات. وأما الكافر المتجلبب بجلباب الإسلام حين يكشف الغطاء، ويرى أن دولة الإيمان على وشك الزوال - كما يبدو له - فيكشف خبيئة نفسه، ويظهر نتن قلبه، ويعلن شكه بدينه ونبيه وربه. وهؤلاء لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم في الدنيا والآخرة. 6 - المنافقون يوم بني المصطلق انتصر المسلمون بعد الخندق، وأنهوا وجود بني قريظة. وبذلك انتهى حلفاء المنافقين في المدينة فلم يعد أمامهم إلا أن يسارعوا بالولاء للقيادة المسلمة. وأن يوجهوا جهدهم لخلخلة الصف المسلم نفسه، والعمل على تشتيته وإشغاله بنفسه. عوضا عن أن ينشغل بعدوه. وتظاهروا بالانصهار في هذا الصف. وإن كان بعضهم قد دخل فيه عن قناعة بعد أن بهره نصر الله ورأى من الآيات البينات ما يحرق كل شك أو دخل في قلبه. وكان ابن أبي كالحية الرقطاء يكمن بين الحجارة وخلف الأستار ينتظر الفرصة المواتية للانقضاض، وكان هذا يوم بني المصطلق: (عن زيد بن أرقم قال: كنت في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي يقول لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولو رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل. فذكرت ذلك لعمي أو لعمر. فذكره للنبي (ص). فدعاني فحدثته. فأرسل رسول الله (ص) إلى

عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا. فكذبني رسول الله (ص) وصدقه. فأصابني هم لم يصبني مثله قط. فجلست في البيت. فقال لي عمي. ما أردت إلى أن كذبك رسول الله (ص) ومقتك. فأنزل الله تعالى: {إذا جاءك المنافقون} فبعث إلي النبي (ص) فقال: إن الله قد صدقك يا زيد) (¬1). وفي رواية (خرجنا مع النبي (ص) في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) (¬2). (وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا في غزاة في جيش. فكسع (¬3) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري: ياللأنصار، وقال المهاجري: ياللمهاجرين. فسمع ذاك رسول الله (ص) فقال: ما بال دعوى الجاهلية. قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة. فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فبلغ النبي (ص) فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي (ص): ((دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)) وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة. ثم إن المهاجرين كثروا بعد ذلك) (¬4). ¬

(¬1) البخاري /ك التفسير 65/ سورة المنافقون/ 63/ ج 6/ ص 189. (¬2) المصدر نفسه ص 190. (¬3) كسع: ضرب دبره بصدر قدمه أو بيده. (¬4) البخارى ك 65 / سورة المنافقون - 63/ ج 6 / ص 194 - 192.

(وكان عبادة بن الصامت قبل ذلك قال لابن أبي: إيت رسول الله يستغفر لك، فلوى رأسه معرضا. فقال له عبادة: والله لينزلن في لي رأسك قرآنا يصلى به) (¬1). هنا يبرز دور النفاق الخطير في المجتمع الإسلامي. فعبد الله بن أبي يجد الفرصة سانحة ولن تتكرر له هذه الفرصة الذهبية مرة ثانية في تدمير هذه الجماعة المسلمة ليقوم على أنقاضها. وها هو يهتبل الفرصة فيعبر عما في نفسه. ولكن أين؟ في عشرة من المنافقين، يطمئن إلى نفاقهم، ويطمئن إلى استعدادهم لقبول أفكاره وتنفيذ مخططاته. ولم يعر التفاتا إلى ذلك الغلام الحدث الذي أصغى إلى قوله. لقد وجدناه في أحد ينفصل بثلث الجيش، ويشكك في البقية الباقية من أتباعه فوق هذا الثلث وهو في قمة مجده، ثم بدأ هذا المجد ينحسر، فيعجز عن نصر حلفائه من بني النضير. ولا يتجاوز دوره التشكيك في النصر وإمكاناته في الخندق. أما اليوم فيبث حديثه في عشرة من أتباعه، ويتحدث عن كل ما يعانيه من بغض للإسلام وأهله، ويدعو صراحة إلى تمزيق الصف والثورة على القيادة. بل يهدد بهذه الثورة التي بدت ملامحها، وذرت قرونها عند العودة إلى المدينة. ولكن الذي حطم هذه الثورة. هو ابنه عبد الله. (وجاء ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي فقال: يا رسول الله إن كنت تريد قتل أبي فيما بلغك عنه. فمرني به. فوالله لأحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي / 203.

مجلسك هذا، والله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالده مني. وإني لأخشى يا رسول الله - أن تأمر غيري بقتله. فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس، فأقتله فأدخل النار. فقال رسول الله (ص): ((ما أردت قتله وما أمرت به ...)) (¬1). (وقد ذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما: أن ابنه عبد الله - رضي الله عنه - وقف لأبيه عبد الله بن أبي سلول عند مضيق المدينة فقال: قف فوالله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله (ص) في ذلك. فلما جاء رسول الله (ص) استأذنه في ذلك فأذن له. فأرسله حتى دخل المدينة) (¬2). لقد كانت عظمة المعالجة النبوية لهذه الفتنة الخطيرة من زعم المنافقين تعطينا أعظم الدروس في سياسة النفوس. وهي التي وأدت الفتنة، ووأدت النفاق معها حتى كاد يتلاشى في المجتمع الإسلامي. (أ) (لم يشعر أهل العسكر إلا برسول الله (ص) قد طلع على راحلته. وكانوا في حر شديد. وكان لا يروح حتى يبرد) (¬3) (ثم مشي رسول الله (ص) بالناس يومهم حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما. وإنما فعل ذلك رسول الله (ص) ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي) (¬4). ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي / 203. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير / 4/ 179. (¬3) إمتاع الأسماع / 202. (¬4) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 292.

(ب) من خلال لقائه (ص) مع القيادات. وجد تيارين أحدهما يرى الرفق به والآخر يرى قتله فاختار الرفق به. لأن أصحاب هذا الرأي من الأنصار. وهم أوثق الناس عنده. هذا من جهة. ومن جهة ثانية. فكما أعلن عليه الصلاة والسلام أن سمعة المسلمين لن يضحي بها فتكون هدفا لمخابرات العدو، وثغرة تنفذ منها إلى الصف الداخلي الملتحم. ((فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟)). (ج) ولكن هل تمر هذه الوقاحة والفتنة دون عقوبة؟ لا. وإذا كان رسول الله (ص) قد اختار الرفق. فقد يتمادى الحاقدون والموتورون. وتأتي هنا عظمة المعالجة النبوية التى جعلت من حمل راية العقوبة لهذا المجرم ابنه العظيم عبد الله بن عبد الله. فلقد أشعره بالذل والصغار. وأبقاه رهينة حتى أذن رسول الله (ص) له بالدخول، ومن يجرؤ أن يثور لابن أبي من أحبابه وأصاره وحزبه إذا كان ابنه هو الذي ينفذ هذه العقوبة؟ وهو الذي يعلن على ملأ الدنيا كلها، وخاصة حزب أبيه أنه ينتظر إشارة رسول الله (ص) للإتيان برأس أبيه. لقد خنقت الفتنة في المهد. (د) وبدل أن يحول عبد الله بن أبي إلى بطل شهيد. وترعد أنوف لقتله. تحول إلى تجمع للسخرية والمهانة والمذلة. (وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه فقال رسول الله (ص) لعمر بن الخطاب: ((كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي لأرعدت له أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته))) فقال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله أعظم بركة من أمري) (¬1). ¬

(¬1) السيرة النبوية 293/ 2.

بعد الحديبية وفتح مكة

(هـ) ولم يجد فرصة يبث فيها حقده إلا من خلال حديث الإفك لكن الذي أضاع دوره بين الأدوار هو مشاركة المؤمنين في الحديث فيه {إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الاثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم. تقول عائشة رضي الله عنها (وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي في رجال من الخزرج). وما كان المنافقون ليجرؤوا على بث هذا الحديث والخوض فيه بعد الفضيحة التي نالتهم والتعرية التى نزلت بابن أبي. لولا انتشار الحديث واستفاضته في الصف الإسلامي، فقد جعل المجال رحبا لهم أن يدسوا أنوفهم فيه. ونستطيع أن نقول أن ظاهرة النفاق ابتدأت معسكرا ضخما قبيل أحد، وبلغت ذروتها في أحد وانتهت فردا واحدا يمتنع عن بيعة الرضوان في الحديبية. ويختبىء في ظل ناقته. ولا يعني هذا انتهاء المنافقين في هذه المرحلة. لكنها تعني حصرهم. وإحباط مخططاتهم، وعجزهم عن التحدي والمواجهة. 7 - بعد الحديبية وفتح مكة. فتح الحديبية المبين، والفتح الأعظم في مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجا. أوجد مناخا جديدا لتسارع الناس للدخول في الإسلام رهبة من القوة النبوية الضخمة التي دانت لها أرض العرب كلها. وعاد النفاق معسكرا جديدا. وكانت غزوة تبوك. هي المحرق الذي كشف كل مخططات المنافقين. ومن أجل هذا سميت سورة التوبة. بالفاضحة،

والمبعثرة، والمخزية. وقد تحدثنا في الفصل السابق عن معظم تخطيطاتهم التي دمرها الأمر النبوي بالوحي الإلهي الذي يأتيه ويكفينا هنا أن نتحدث عن هذه الأدوار الرهيبة التي برزت من خلال سورة التوبة: (1) التثاقل عن الجهاد {لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة ...} (42). (2) السعي للفتنة ممن انضم إلي الجيش الإسلامي: {لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق ...} (48). (3) الحسد الذى يأكل قلوبهم {إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون} (50) فهم يفرحون بمصيبة المسلمين. (4) المظاهر الإسلامية يحافظون عليها. من إتيان الصلاة والمشاركة في الإنفاق. (5) النيل من النبي (ص) {ويقولون هو أذن .. قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمني} (61). (6) الهزء والسخرية بآيات الله وبصالح المؤمنين {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون} (65). (7) يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم (67). (8) محاولة اغتيال النبي (ص) في محاولة رميه عن الدابة {... وهموا بما لم ينالوا} (74). (9) {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون

إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم} (¬1). (10) التثبيط عن الجهاد {... وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون} (¬2). (11) اتخاذ مسجد الضرار. ليكون وكرا للمنافقين. ومنطلقا لمؤامراتهم. {والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون} (¬3). لقد كانت آيات سورة براءة التي نزلت في المنافقين قرابة مائة آية هي أعنف حرب إعلامية عليهم كشفت كل مخططاتهم. وعرتهم تعرية كاملة في المجتمع الإسلامي. واستطاعت هذه الحملة الناجحة أن تهزم معسكر النفاق، وتعيد الكثيرين إلى الصف الإسلامي الخالص. فيحسن إسلامهم. وكانت أكبر فاجعة نزلت بهم هي موت عبد الله بن أبي زعيمهم. وكي لا يفتح رسول الله (ص) معركة مع أتباعه فيما بعد. فصل عليه واستغفر له. وأعطاه كساءه. فعاتب الله تعالى نبيه على ذلك بقوله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} (¬4). وهذا الخط السياسي الذي اختاره النبي (ص) بتوجيه ربه له في ¬

(¬1) التوبة / 79. (¬2) التوبة / 81. (¬3) التوبة / 108. (¬4) التوبة / 84.

عملية البناء الداخلي تحتاج الجماعة المسلمة اليوم إلى دراسة أبعاده وجوانبه وأساليبه، بحيث تستطيع أمام أي خلل في صفها أن تعالجه بتفتيت ذلك التجمع المضاد. وفضح أهدافه. وضرب مركز القوة فيه حتى لا ينساق سواد الصف معه. وأية معالجة غير هذه المعالجة تصل بالصف الإسلامي كله إلى التفجر والتشرذم والجبهات الداخلية. كذلك الصلة المستمرة بالدعاة، والتوعية التربوية والسياسية التي تشير إلى دور المغامرين والمقامرين بمصير الجماعة دون أن تتحول القضية إلى حرب شخصية أو صراعات فردية - هي صمام الأمان لسلامة خط الجماعة. وحسن سيرها إلى الهدف الذي تسعى إليه. ***

الفصل الثاني والثلاثون مواقف اليهود من الدعاة

الفصل الثاني والثلاثون مواقف اليهود من الدعاة 1 - الموقف الديني: (أ) لقد كان اليهود والنصارى هم الذين يتحدثون عن موعد نبي أطل زمانه بينما كان المشركون العرب غفلا عن ذلك لأنهم أميون. ليس عندهم كتاب من عند الله يتبعونه. وحين نذكر أصحاب العقبة الأولى من الخزرج. نلاحظ دور هذه النبوة في إسلامهم. (... قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج. قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟. قالوا: بلى. فجلسوا، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. قال: وكان مما صنع الله بهم في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم. وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم في بلادهم. فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله (ص) أولئك النفر. ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقنكم

إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه.) (¬1). (ب) عبد الله بن سلام: (وكان حديث عبد الله بن سلام كما حدثني بعض أهله عنه وعن إسلامه حين أسلم، وكان حبرا عالما قال: لما سمعت برسول الله (ص) عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف (¬2) له. فكنت مسرا لذلك صامتا عليه، حتى قدم رسول الله (ص) المدينة. فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه. وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها. وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة. فلما سمعت الخبر كبرت. فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: خيبك الله، والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت. قال. فقلت لها: هو والله أخو موسى بن عمران. وعلى دينه بعث بما بعث به. فقالت: أي ابن أخي، أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ فقلت لها: نعم: قالت: فذاك إذن. قال ثم خرجت إلى رسول الله (ص) فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي. فأمرتهم فأسلموا) (¬3). (ج) حيي بن أخطب وأخوه: عن صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها قالت: ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام /1/ 429/428. (¬2) نتوكف: نترقب ونتوقع. (¬3) المصدر نفسه / 516.

كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر. لم ألقهما قط مع ولدهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلما قدم رسول الله المدينة، ونزل قباء في بني عمرو بن عوف. غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر مغلسين. فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس. قالت: فأتيا كالين كسلانين قنطين يمشيان الهوينى. قالت: فهششت إليهما كما كنت أهش من قبل. فوالله ما التفت إلي واحد منهما، مع ما بهما من الغم قالت: وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟؟ قال: نعم. قال: أتعرفه وتثبته.؟. قال: نعم: قال: فما في نفسك منه قال: عداوته والله ما بقيت.) (¬1). وهكذا افترق الموقفان في يهود. قاد الأول عبد الله بن سلام. فلم يتبعه إلا أهله، وتحرك الغدر والمكر والحسد والكيد عند حيي بن أخطب. فقاد الموقف الثاني. وتبعته كل يهود. وبقي يؤجح نار الحرب حتى احترق فيها وقتل يوم غدر بني قريظة. وقال: لا بأس، ملحمة وقدر كتبها الله على بني إسرائيل. والله ما لمت نفسي في عداوتك. ولكنه من يخذل الله يخذل. ولئن كان أبو جهل فرعون هذه الأمة. فحيي بن أخطب أبو جهل يهود وفرعونهم. ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 519/ 1 عن عبد الله بن أبي بكر ممن حدثه عن صفية رضي الله عنها.

وكما قال أبو جهل: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان. قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك مثل هذه. والله لا نؤمن به ولا نصدقه.) (¬1). قال حيي: أهو هو. قال: نعم. قال فما في نفسك منه. قال: عداوته والله ما بقيت. {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين)) (¬2). {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير} (¬3). {وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون} (¬4). وكانوا أول كافر به وقد جاء مصدقا لما معهم. (د) {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} (¬5). ¬

(¬1) المصدر نفسه / 316. (¬2) البقرة / 89. (¬3) البقرة / 109. (¬4) البقرة: / 41. (¬5) البقرة / 42.

قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن كيسان عن نافع مولى عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر قال: لما حكموا رسول الله (ص) فيهما (اللذين زنيا بعد إحصان) دعاهم بالتوراة. وجلس حبر منهم يتلوها. وقد وضع يده على آية الرجم. قال: فضرب عبد الله بن سلام يد الحبر. ثم قال: هذه يا نبي الله آية الرجم يأبي أن يتلوها عليك. فقال لهم رسول الله (ص): ((ويحكم يا معشر يهود! ما دعاكم إلى ترك حكم الله وهو بأيديكم؟)). قال. فقالوا: أما والله إنه كان فينا يعمل فيه. حتى زنا منا رجل بعد إحصانه من بيوت الملوك وأهل الشرف فمنعه الملك من الرجم. ثم زنى رجل بعده. فأراد أن يرجمه. فقالوا: لا والله حتى ترجم فلانا. فلما قالوا ذلك اجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التجبية. وأماتوا ذكر الرجم والعمل به. قال فقال رسول الله (ص): ((فأنا أول من أحيا أمر الله وكتابه وعمل به،)) ثم أمر بهما فرجما عند باب مسجده) (¬1). (وأتى رسول الله (ص) محمود بن سيحان، ونعمان بن أضاء، وبحري بن عمرو، وعزير بن أبي عزير وسلام بن مشكم. فقالوا: أحق يا محمد أن هذا الذي جئت به لحق من عند الله. فإنا لا نراه منسقا كما تنسق التوراة؟ فقال لهم رسول الله (ص): ((أما والله إنكم لتعرفونه من عند الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة. ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما جاؤوا به))). فقالوا عند ذلك وهم جميع: ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 566/ 1.

يا محمد أما يعلمك هذا إنس ولا جن؟ فقال لهم رسول الله (ص): (أما والله إنكم لتعلمون أنه من عند الله وأني لرسول الله تجدونه مكتوبا في التوراة))). فقالوا: يا محمد فإن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما يشاء ويقدر منه على ما أراد. فأنزل علينا كتابا من السماء نقرؤه ونعرفه. وإلا جئناك بمثل ما تأتي به) (¬1). إنهم يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون. (هـ) تهجمهم على ذات الله: قال ابن إسحاق: وحدثت عن سعيد بن جبير أنه قال: (أتى رهط من يهود إلى رسول الله (ص) فقالوا: يا محمد، هذا الله خلق الخلق. فمن خلق الله؟ قال. فغضب رسول الله (ص) حتى انتقع لونه ثم ساورهم (¬2) غضبا لربه. فجاء جبريل عليه السلام فسكنه فقال: خفض عليك يا محمد. وجاءه من الله بجواب ما سألوا عنه: {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد}. فلما تلاها عليهم، قالوا فصف لنا يا محمد كيف خلقه؟ كيف ذراعه؟ كيف عضده؟. فغضب رسول الله (ص) أشد من غضبه الأول، وساورهم. فأتاه جبريل عليه السلام فقال له مثل ما قال له أول مرة. وجاءه من الله تعالى بجواب ما سألوه {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه ¬

(¬1) المصدر نفسه /571/ 1. (¬2) ساورهم: واثبهم وباطشهم.

وتعالى عما يشركون}. (¬1)) (¬2). (هـ) إدعاؤهم أنهم على الحق: وأتى رسول الله (ص) رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة. فقالوا: يا محمد. ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق؟. قال: ((بلى. ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ الله عليكم من الميثاق فيها، وكتمتم ما أمرتم أن تبينوه للناس. فبرئت من أحداثكم))). قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الحق والهدى، ولا نؤمن بك ولا نتبعك. فأنزل الله تعالى فيهم {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين (¬3)}. (¬4). ومن أجل ذلك جاء القرآن الكريم. ففضحهم في تاريخهم كله، وفضح مواقفهم من أنبيائهم. وكشف خبث معدنهم، وسوء طويتهم، وعصيانهم ربهم، واستهزاءهم بآيات الله. وكانت هذه الأمور كلها مخفية عن الناس، بينما يظهرون أنهم حملة كتاب الله. وأنهم شعب الله المختار. الذي يملك القوامة على البشرية. ¬

(¬1) الزمر / 67. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 572. (¬3) المائدة / 68. (¬4) السيرة النبوية لابن هشام /568/ 1.

المواقف السياسية

غير أن هذا لم ينف أبدا. وجود بعض الصالحين فيهم، المؤمنين المخبتين. ولو كان أكثرهم فاسقين. وهذه النماذج أسلمت، وحسن إسلامها. وأن لهم في تاريخهم قدما في العبادة، وقدما في الطاعة وقدما في الجهاد. لكنها تمثل القلة النادرة. {قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} (¬1). {... قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} (¬2) {فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ..} (¬3). {منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون} (¬4). ثانيا: المواقف السياسية 1 - كان أول موقف سياسي وقفه اليهود من المسلمين. وقد رأوا وحده كلمتهم والتحام صفهم هو العمل على شرخ هذا الصف وتهديمه. قال ابن إسحاق: (ومر شاس بن قيس وكان شيخا قد عسا (¬5) ¬

(¬1) المائدة / 23. (¬2) البقرة / 249 - 251. (¬3) البقرة / 251. (¬4) المائدة / 66. (¬5) ك: أسن وولى

عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله (ص) من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم يحدثون فيه. فغاظه ما رأى من إلفتهم وجماعتهم. وصلاح ذات بينهم على الإسلام. بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية. فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار. فأمر فتى شابا من يهود كان معهم. قال: اعمد اليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث. وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار .. ففعل. فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة (¬1) فغضب الفريقان جميعا، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة - والظاهرة: الحرة - السلاح السلاح فخرجوا إليها. فبلغ ذلك رسول الله (ص). فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال: ((أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر. وألف بين قلوبكم))). فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله (ص) سامعين مطيعين. قد أطفأ الله كيد عدو الله شاس بن قيس. فأنزل الله تعالى في شأن شاس وما صنع {قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء ¬

(¬1) جذعة: أي رددنا الآخر إلى أوله.

وما الله بغافل عما تعملون} (¬1) (¬2). 2 - وكانت الخطة الثانية هي تحدي المسلمين (وكان من حديث بني قينقاع أن رسول الله (ص) جمعهم بسوق بني قينقاع، ثم قال: ((يا معشر يهود. احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل. تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم.)) قالوا: يا محمد إنك ترى أنا قومك. لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب. فأصبت منهم فرصة. إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس.) (¬3). 3 - وكانت محاولة الغدر برسول الله (ص) واغتياله. وكانت على ملأ من يهود. (ثم خلا بعضهم ببعض - فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة. فيريحنا منه، وانتدبوا لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم فقال: أنا لذلك. فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال ورسول الله في نفر من أصحابه. فيهم أبو بكر وعمر وعلي. فأتى رسول الله (ص) الخبر من السماء بما أراد القوم. فقام وخرج راجعا إلى المدينة ..) (¬4). وكان هذا الذي هيح غزو بني النضير. ¬

(¬1) آل عمران / 98 - 99. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 556 - 557. (¬3) المصدر نفسه 2/ 47. (¬4) المصدر نفسه / 2/ 190.

4 - وبقي الحقد هو الذي يغذيهم. وبعد إجلائهم. راحوا يؤلبون العرب عامة، واليهود خاصة لاستئصال الإسلام وأهله. (إنه كان من حديث الخندق أن نقرأ من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق النضري. وحيي بن أخطب النضري، وكنانة بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله (ص)، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله (ص) وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله. فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد. أفديننا خير من دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا} إلى قوله تعالى: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله}: أي النبوة {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا) (¬1). (¬2). ¬

(¬1) النساء / 51 - 55. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 214.

5 - ثم كان الإعلان الخبيث الخسيس في نقضهم للعهد، وتحالفهم مع أعداء المسلمين. (وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي، صاحب عقد بني قريظة وعهدهم قد وادع رسول الله (ص) على قومه، وعاقده على ذلك وعاهده. فلما سمع كعب بحيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه. فاستأذن عليه. فأبى أن يفتح له. فناداه حيي: ويحك يا كعب! افتح لي قال: ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه. ولم أر منه إلا وفاء وصدقا. قال: ويحك افتح لي أكلمك، قال: ما أنا بفاعل، قال: والله إن أغلقت دوني إلا عن جشيشتك (¬1) أن آكل معك دونها، فأحفظ الرجل. ففتح له فقال: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام (¬2). جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة. وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أحد. قد عاقدوني وعاهدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه فقال له: كعب جئتني بذل الدهر. وبجهام (¬3) قد هراق ماؤه. فهو يرعد ويبرق ليس فيه شيء، ويحك يا حيي. فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل حيي بكعب يفتله في ¬

(¬1) جشيشتك: طعام يصنع من الجشيش وهو البر يطحن غليظا. (¬2) بحر طام: يرتفع ويريد كثرة الرجال. (¬3) الجهام: السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه.

الذروة والغارب (¬1) حتى سمح له على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا: ولئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك). فنقض كعب عهده، وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله (ص) (¬2). وهكذا كان موقفهم كله ينصب على العداوة لرسول الله (ص) في السر حين يرون قوة المسلمين ويرهبونها، وفي العلن حين يرون المسلمين في محنة وهول. وكان حيي بن أخطب هو الذي يقود هذه الحرب السياسية العوان ضد محمد (ص). وكان دوره مع كعب بن أسد كدور أبي جهل مع عتبة وشيبة ابنا ربيعة. حين أحفظهما واتهمهما بالجبن. فكانا أول القتلى في بدر. بعد أن دعيا إلى الصلح. 6 - وليست محاولة اغتيال رسول الله (ص) بالسم من المرأة اليهودية التي أهدت الشاة لرسول الله (ص) بعد خيبر. وحشت الذراع أكثره. ومقتل عبد الله بن سهل وبشر بن البراء بن معرور بالسم بين ظهراني يهود خيبر. إلا محاولات يائسة للفتك والنيل من المسلمين وقيادتهم. ولذلك كان الموقف عنيفا منهم يتناسب مع مخططاتهم. وكان مقتل كعب بن الأشرف. وأبي رافع اليهودي تاجر الحجاز غيلة. يتناسب مع مستوى العداء الذي يخططون له. ¬

(¬1) يفتله في الذروة والغارب: ضرب مثلا في المراوغة والمخاتلة: وأصله حين يستصعب البعير فتأخذ القرادة من ذروته وغارب سنامه وتفتل هناك فيجد البعير لذة فيهدأ. (¬2) شرح السنة للبغوي وقال: هذا حديث متفق على صحته أخرجه مسلم. (1766 في الجهاد والسير. باب إجلاء اليهود عن الحجاز والبخاري 3/ 255 في المغازي، باب حديث بني النضير).

المواقف العسكرية

وإن كان التاريخ قد حفظ نماذج فردية من اليهود. كانوا صادقين في عهودهم. أشهرها موقف مخيريق حبر يهود الذي قتل شهيدا في خيبر، وعمرو بن سعدى. الذي فارق بني قريظة بعد نقضهم للعهد. وقال عنه عليه الصلاة والسلام: ذلك رجل نجاه الله بوفائه. المواقف العسكرية 1 - (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حاربت النضير، وأقر قريظة ومن عليهم حتى حاربت قريظة، فقتل رجالهم، وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا بالنبي (ص) فأمنهم وأسلموا، وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع وهم رهط عبد الله بن سلام، ويهود بني حارثة، وكل يهود المدينة) (¬1). 2 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: أصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقه، رماه في الأكحل. فضرب النبي (ص) خيمة في المسجد ليعوده من قريب. فلما رجع رسول الله (ص) من الخندق وضع السلاح واغتسل. فأتاه جبريل عليه السلام وهو ينفض رأسه من الغبار. فقال: قد وضعت السلاح. والله ما وضعته. أخرج إليهم. قال النبي (ص) فأين؟ فأشار إلى بني قريظة فأتاهم رسول الله (ص). فنزلوا على حكمه. فرد الحكم إلى سعد. قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى النساء والذرية. وأن تقسم أموالهم.) (¬2). ¬

(¬1) شرح السنة للبغوي وقال: هذا حديث متفق على صحته أخرجه مسلم (1766) في الجهاد والسير. (¬2) البخاري / ك المغازي والسير 64 / ب مرجع النبي من الأحزاب / ج 5/ ص 143 - 144.

ووقع في مسند عائشة من مسند أحمد في أثناء حديث طويل ((قال أبو سعيد. فلما طلع قال النبي (ص): قوموا إلى سيدكم فأنزلوه. فقال عمر: السيد هو الله. قال: أنزلوه فأنزلوه. قال رسول الله (ص): ((أحكم فهيم)). قال سعد رضي الله عنه فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم وتقسم أموالهم. فقال رسول الله (ص): ((لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى وحكم رسوله.))) (¬1). 3 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله (ص) أتى خيبر ليلا. وكان إذا أتى قوما بليل لم يغر بهم حتى يصبح. فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم. فلما رأوه قالوا: محمد ولله، محمد والخميس. فقال النبي (ص): ((خربت خيبر. إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين))) (¬2). وعن بريدة الأسلمي قال: حاصرنا خيبر فأخذ اللواء أبو بكر فانصرف ولم يفتح له، ثم أخذه من الغد عمر فخرج فرجع ولم يفتح له، وأصاب الناس يومئذ شدة وجهد فقال رسول الله (ص) إني دافع اللواء غدا إلى رجل يحبه الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح له. وبتنا طيبة نفوسا أن الفتح غدا. فلما أن أصبح رسول الله (ص) صلى الغداة، ثم قام قائما. فدعا باللواء والناس على مصافهم، فدعا عليا وهو أرمد فتفل في عينيه ودفع إليه اللواء وفتح له. قال بريدة. وأنا فيمن تطاول لها (¬3) ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد 6 - 142. (¬2) البخاري ك/ 64/ ب/ غزوة خيبر/ ج 5/ ص 167. (¬3) مجمع الزوائد للهيثمي 6/ 150 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: خرج مرحب اليهودي من حصنهم قد جمع سلاحه. يرتجز ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إذا الليوث أقبلت تلهب كأن حماي الحمى لا يقرب وهو يقول من يبارز. فقال رسول الله (ص) ((من لهذا؟)) فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله أنا الموتور الثائر، قتلوا أخي بالأمس. قال: ((فقم إليه. اللهم أعنه عيه.))). فلما دنا أحدهما من صاحبه دخلت بينهما شجرة غمرته من شجر العشر. فجعل أحدهما يلوذ بها من صاحبه كلما لاذ بها منه اقتطع بسيفه ما دونه حتى برز كل منهما لصاحبه. وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها من فنن (¬1) حمل مرحب على محمد فضربه فاتقاه بالدرقة. فوقع سيفه فيها فعصب به فأمسكه، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله) (¬2). وحاصر رسول الله (ص) أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم، حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم، وأن يحقن لهم دماءهم. ¬

(¬1) الفنن: الغصن. (¬2) مجمع الزوائد 149/ 6 - 150 وقال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى ورجال أحمد ثقات وعند مسلم أن الذي قتله علي بن أبي طالب.

ففعل. وكان رسول الله (ص) قد حاز الأموال كلها، الشق ونطاة والكتيبة، وجميع حصونهم، إلا ما كان من ذينك الحصنين. فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله (ص) يسألونه أن يسيرهم ويحقن دماءهم، ويخلوا له الأموال. ففعل. وكان فيمن مشى بين رسول الله (ص) وبينهم محيصة بن مسعود أخو بني حارثة. فلما نزل أهل خيبر على ذلك. سألوا رسول الله (ص) أن يعاملهم في الأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم، وأعمر لها، فصالحهم رسول الله (ص) على النصف. ((على أننا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم.))). فصالحه أهل فدك على مثل ذلك. فكانت خيبر فيئا بين المسلمين. وكانت فدك خالصة لرسول الله (ص) لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.) (¬1). ... لقد كانت نهاية بني قينقاع بعد بدر. وكانت نهاية بني النضير بعد أحد، وكانت نهاية بني قريظة بعد الخندق، وكانت نهاية بني قريظة من أسوأ النهايات. لأن غدرم كان أعظم الغدر. وكان يمثل الطبيعة اليهودية أكبر تمثيل، وكانت المعركة شوكة كبيرة للمسلمين وهزيمة ماحقة لليهود وإنهاء لوجودهم في المدينة بعد ست سنوات من التعايش القلق. وهذا ما قاله سلام بن مشكم زعيم بني النضير بعد حيي بن أخطب، والذي أقام في خيبر، وتلقى مع بقية اليهود نبأ مقتل بني قريظة صبرا بالسيف: هذا كله عمل حيي بن أخطب، لا قامت يهودية بالحجاز ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام م337/ 2.

أبدا) (¬1). ولكن هذا الحكم العادل لم يكن غضبا لنفس أو إهانة لآدمية. فقد حرص رسول الله (ص) على أن لا يكون التشفي والثأر هو الذي يسيطر على الموقف (فلقد جابذ نباش بن قيس الذي جاء به (لقتله) حتى قاتله ودق أنفه وأرعفه. فقال (ص) للذي جاء به. لم صنعت به هذا؟ أما كان السيف كفاية! ثم قال: (أحسنوا إسارهم، وقيلوهم واسقوهم، لا تجمعوا عليهم حر الشمس وحر السلاح) وكان يوما صائفا. فقيلوهم وسقوهم وأطعموهم. فلما أبردوا راح رسول الله (ص) فقتل من بقي منهم) (¬2). ... ثم التقت كلمة اليهود جميعا النضير، وقريظة، وقينقاع الذين تبقوا في خيبر على استئصال الوجود الإسلامى، جيشوا الجيوش، وحزبوا الأحزاب، ووحدوا صفهم لحرب المسلمين، وتحالفوا مع غطفان على ذلك. لأن قريشا كانت في هدنة الحديبية. وكان الصف الإسلامي على مستوى الأحداث. فقد عانى المسلمون من الجهد في غزوة خيبر ما لم يعانوه في معركة سابقة. فالخندق أطول المعارك الإسلامية استمرت عشرين يوما أو تزيد. والمسلمون في بيوتهم وبلدهم وحصونهم بينما هم هنا ولا يملكون من الطعام حتى التمر، وهم في أشد الحاجة يصبرون قرابة شهرين على الحرب. فلم ¬

(¬1) إمتاع الأسماع للمقريزي 1/ 253. (¬2) المصدر نفسه 1/ 248.

تتم نهاية اليهود. بهذه السهولة وقد دافعوا دفاع المستميت عن وجودهم وحصونهم، وقاتلوا وصبروا. لكن المؤمنين كانوا أصبر الفريقين. وأشجع الفرقين. وما بذله أبطال المسلمين من النفس والنفيس فاق تصورات العدو. وكان البذل مشتركا من الفريقين المهاجرين والأنصار. فعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعمر بن الخطاب في المبارزات الفردية. ومن أبطال الأنصار، الحباب بن المنذر ومحمد بن مسلمة، وأبو دجانة سماك بن خرشه. حطموا كل البطولات الفردية عند اليهود الذين كانوا يحسبون كل بطل من أبطالهم بألف رجل. والقتال العام الذي كان يستمر أياما. فيضطر اليهود للانسحاب والتراجع. وقد شارك في هذا القتال الجيش كله بلا استثناء. وهذا يعني أن المسلمين لم يبخلوا في هذه المعركة بشيء من أرواحهم ودمائهم وطاقاتهم. وهي أطول معركة عجم فيها عودهم، واختبر فيها صبرهم. فكانوا على مستوى المعركة. وتبدو ضراوة المعركة وضخامتها حين نتصور المعركة مع المتحصنين وراء القلاع والحصون كما وصفهم القرآن. {لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ...} (¬1). وكل هذه الحصون والقلاع. لم تفل من عزيمة المسلمين ولم توهن من هجومهم. لقد كان النصر الإسلامي في خيبر من القوة والضخامة بحيث أنهى الوجود العسكري لليهود في أرض العرب. ولم ينهه لعقد أو عقدين من الزمان، أو لقرن أو قرنين من الزمان. إنما أنهاه لخمسة عشر قرنا لم ¬

(¬1) سورة الحشر: من الآية 14.

يقم بعدها لليهود قائمة، ولم يرتفع لهم علم، ولم تخفق لهم راية. إلى أن كان منتصف هذا القرآن، وقامت دولة اسرائيل فوق ربى فلسطين، ولم يغب عن ذهن اليهود مرارة خيبر، وقد تجرعوا الذل والهوان فيها، وبقي الجيل بعد الجيل يرويها، ويورث سلفهم الحقد لخلفهم، ويذكره بالثأر من المسلمين. حتى كانت معركة الخامس من حزيران. التي استمرت ستة أيام. وسقطت الأرض العربية من جديد بما فيها القدس بأيدي اليهود. وحين نقارن بين حرب الخامس من حزيران (¬1) وبين فتح خيبر. فليست مقارنة عرضية. بل هي مقارنة حقيقية. فقد أعلن موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي بعد أن احتل القدس، واكتسح بجيوشه الأرض العربية في سورية والأردن ومصر. قال وقد مس ثرى القدس: هذه بخيبر. وغمر اليهود فرحة العمر بهذا الثأر. وراحوا يهتفون على ثرى الأض المباركة: محمد مات، خلف بنات. (¬2). ¬

(¬1) حرب الخامس من حزيران هي الحرب التي قامت عام 1967 م بين العرب واليهود وأطلق عليها حرب الأيام الستة والتي احتلت إسرائيل بها أراضي عربية جديدة من مصر والأردن وسوريا. (راجع سقوط الجولان ص 96 - 164). (¬2) سمعت هذه المظاهرات في شريط مسجل أذاعته إذاعة فتح عقب المعركة.

وقد مثلوا الحقيقة المرة في هذا الهتاف. فلم يكن هذا الجيل وهو يحارب في فلسطين. يحمل راية لا إله إلا الله، ولم يكن يقاتل براية التوحيد التي أعلنها الرسول (ص) في هذا الوجود. وعليها عاش وعليها قاتل، وعليها لقي وجه ربه .. إنما قاتل هذا الجيل لحماية الحاكمين ولإرضاء الطواغيت، ولإقامة الدولة العلمانية في فلسطين. فكان هذا الحصاد المر. لهذا الغرس المشؤوم. ولن يتحقق النصر من جديد. إلا بالعودة إلى تلك الراية. راية التوحيد، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبىء اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر. يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود) (¬1). ... ¬

(¬1) رواه مسلم ك الفتن 52 /ب/ 18/ ج 4/ ص 2239/ ح 292.

الفصل الثالث والثلاثون أزواج النبي (ص)

الفصل الثالث والثلاثون أزواج النبي (ص) يقول جل شأنه: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج، وكان الله غغورا رحيما ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا} (¬1). ... من خلال هذه الآيات الكريمة نفقه المعاني التالية: 1 - سيد ولد آدم، وعبد الله ورسوله محمد (ص) والذي اجتمعت به الكمالات البشرية. له وضعه الذي يناسبه مع النساء كما يقرر القرآن ¬

(¬1) الأحزاب / 50 - 52.

ذلك. فلابد من الانعتاق من الحيز المحدود الذي نفكر فيه. إلي الآفاق العليا التي قررها رب السماوات والأرض لنبيه ومصطفاه في هذا الوجود. فيما يحل له من النساء. بما يتناسب مع ما أعده الله له من الرسالة، وما يتناسب مع فضله وعظمته وكماله. 2 - ومن هذا المنطلق كانت النماذج المباحة لرسول الله (ص) من النساء ثلاثة: (أ) أزواجه اللاتي آتاهن أجورهن (¬1). قال ابن أبي حاتم: تزوج رسول الله (ص) ثلاث عشر امرأة: ستا من قريش خديجة وعائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة. وثلاثا من بني عامر بن صعصعة وامرأتين منهما من بني هلال بن عامر، ميمونة بنت الحارث وزينب أم المساكين .. وزينب بنت جحش الأسدية. (¬2). (ب) ما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك. وليست مقيدة بقيد. (ج) وبنات عمك وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك. وقيدهن أن يكن هاجرن مع رسول الله (ص) {اللاتي هاجرن معك} (د) وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي. ولا شرط في الواهبة إلا قبولها من رسول الله (ص). {إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين.} ¬

(¬1) أي مهورهن. (¬2) اختلفت الآراء في اللاتي تزوجهن رسول الله (ص) والظاهر أن الثلاثة من بني عامر بن صعصعة. وفي هذه الحال تضاف لهن هفية وجويرية رضي الله عنها. والمرأة الكندية التي استعاذت من رسول الله (ص) والمرأة التي اختارت الدنيا من بني بكر بن كلاب. كما أوردهن ابن أبي حاتم في الرواية المذكورة (تفسير ابن كثير ج 5 ص 482).

فهو عليه الصلاة والسلام من دون المؤمنين لا يجب عليه للواهبة شيء ولو دخل بها لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود (ولهذا قال قتادة: ليس لامرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي (ص).) (¬1) 3 - وكما نرى، فالآفاق واسعة من رب هذا الكون لنبيه محمد (ص). في موضوع الزواج. والسبب الرئيسي في هذا الإطلاق كما ذكر الله تعالى في كتابه: لكيلا يكون عليك حرج. فهو مناط الثقة من ربه. فالأبواب مشرعة له فيما يراه من رأي ويقتضيه من موقف. {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما}. (¬2) 4 - هذا من حيث الإباحة في الزواج. ومن حيث التعامل. فهو مصطفى الحكيم الخبير. والله أعلم حيث يجعل رسالته. {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك} (¬3). إنها المشيئة الربانية. التي أعطت للمشيئة النبوية هذه الآماد والآفاق في التعامل مع نسائه اللاتي تزوجهن. قال عامر الشعبي في قوله تعالى {ترجي من تشاء منهن} الآية، كن ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 5/ 483 - 484. (¬2) الأحزاب /50. (¬3) الأحزاب / 51.

نساء وهبن أنفسهن لنبي (ص). فدخل يعضهن وأرجأ بعضهن لم ينكحن بعده. منهن أم شريك. وقال آخرون: بل المراد بقوله {ترجي من تشاء منهن} الآية، أي من أزواجك لا حرج عليك أن تترك القسم لهن، فتقدم من شئت، وتؤخر من شئت، وتجامع من شئت، وتترك من شئت، هكذا يروى عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأبي رزبن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم ومع هذا كان النبي (ص) يقسم لهن. ولهذا ذهب طائفة من فقهاء الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن واجبا عليه (ص)، واحتجوا بهذه الآية الكريمة) (¬1). فالنبي (ص) وحكمته في الإرجاء والإيواء، ومن يبتغيها بعد عزلها. ليست موطن مناقشة. ومن أجل ذلك كانت مشيئته هي الميزان في هذا الأمر. ولم تعط لأي بشر غيره. على أي من التفسيرين السابقين كان. 5 - ومن إكرام رسول الله (ص) كان إكرام نسائه. فهنا سبب آخر لهذه المشيئة النبوية هي عواطف نسائه: {ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن}. (¬2). (قال البخاري: عن عائشة أن رسول الله (ص) كان يستأذن في اليوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية {ترجي من تشاء ..} فقلت لها: ما كنت تقولين؟ فقالت: كنت أقول: إن كان ذلك لي فإني لا ¬

(¬1). تفسير ابن كثير 5/ 484 - 485. (¬2) الأحزاب / 51.

أريد يا رسول الله أن أؤثر عليك أحدا). فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من ذلك عدم وجود القسم وحديثها الأول (¬1) يقتضي أن الآية نزلت في الواهبات. ومن ها هنا اختار ابن جرير أن الآية عامة في الواهبات، وفي النساء اللاتي عنده أنه مخير فيهن، إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم. وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي. وفيه جمع بين الأحاديث. ولهذا قال تعالى: {ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن} الآية. أي إذا علمن أن الله تعالى قد وضع عنك الحرج في القسم فإن شئت قسمت وإن شئت لم تقسم. لا جناح عليك في أي ذلك فعلت، ثم مع هذا أن تقسم لهن اختيارا منك. لا أنه على سبيل الوجوب، فرحن بذلك واستبشرن به. وحملن جميلك في ذلك، واعترفن بمنتك عليهم في قسمتك لهن وتسويتك بينهن، وإنصافك لهن، وعدلك فيهن) (¬2). 6 - وأكرم الله تعالى نساء نبيه محمد (ص) لاختيارهن إياه والدار الآخرة على الحياة الدنيا وزينتها. أن قصره عليهن. {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا} (¬3). ¬

(¬1) الحديث الأول كما رواه الإمام أحمد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغير من النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله (ص). قالت: ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق؟ فأنزل الله عز وجل {ترجي من تشاء ..} الآية. قالت: إني أرى ربك يسارع لك في هواك. (¬2) تفسير ابن كثير 5/ 486. (¬3) الأحزاب /52.

(ذكر غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد ... أن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي (ص)، ورضا منهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول الله كما تقدم في الآية (¬1). فلما اخترن رسول الله (ص). كان جزاؤهن أن الله تعالى قصره عليهن. وحرم عليه أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن. ولو أعجبه حسنهن إلا الإماء والسراري فلا حرج عليه فيهن.) (¬2). 7 - وتحقق المعنى المقصود من هذا القصر جزاء ومثوبة على اختيارهن لرسول الله (ص). لكن هذا القصر كان مؤقتا. وعادت الإباحة للنبي (ص). قال الإمام أحمد: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما مات رسول الله (ص) حتى أحل الله له النساء. ورواه أيضا من حديث ابن جريج عن عطاء عن عبيد الله بن عمير عن عائشة ورواه الترمذي والنسائي في سننهما. وقال ابن أبي حاتم عن ... أم سلمة أنها قالت: لم يمت رسول الله (ص) حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم، وذلك قول الله تعالى {ترجي من تشاء منهن} الآية. فجعلت هذه ناسخة للتي بعدها في التلاوة. كآيتي عدة الوفاة في البقرة. الأولى ناسخة للتي بعدها. والله أعلم. ثم إن الله تعالى رفع عنه الحرج في ذلك ونسخ حكم هذه الآية ¬

(¬1) هي في قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما} الأحزاب/ 28 - 29. (¬2) تفسير ابن كثير 5/ 486.

المرحلة الأولى: حتى الخامسة والعشرين

{لا يحل لك النساء ..} وأباح له التزوج. ولكنه لم يقع منه بعد ذلك تزوج لتكون المنة لرسول الله (ص) عليهن.) (¬1) من هذه العوالم المباحة، والأبواب المشرعة، والآفاق الفسيحة لمحمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، نلحظ كيف تعامل عليه الصلاة والسلام. مع هذه المباحات. ليبرز الجوهر المكنون لسيد ولد آدم. الذي اصطفاه ربه رحمة للعالمين. وقد مر هذا الأمر في عدة مراحل: المرحلة الأولى: حتى الخامسة والعشرين: 1 - أمضى رسول الله (ص) من عمره خمسا وعشرين عاما. وفيها عنف صبوة الشباب وتأجج العاطفة. في مجتمع الجاهلية الآسن الذي يستبيح حتى الزنا. وقد عصمه الله تعالى عن كل سوء. حتى مجالس اللهو التي يقصدها السمار والشباب كان عزوفا عنها. كما حدثنا عليه الصلاة والسلام عن نفسه: ((ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من الغناء إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله عز وجل فيهما. قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن في رعاء غنم أهلها. فقلت لصاحبي: ابصر لي غنمي حتى أدخل مكة أسمر فيها كما يسمر الفتيان. فقال: بلى. قال: فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة. فسمعت عزفا بالغرابيل والمزامير. فقلت: ما هذا؟ قالوا: تزوج فلان فلانة فجلست أنظر، وضرب الله على أذني. فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس. فرجعت إلى صاحبي. فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئا. ثم أخبرته بالذي رأيت، ثم قلت ليلة أخرى: ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 5/ 486.

المرحلة الثانية: حتى الخمسين من عمره

ابصر لي غنمي حتى أسمر ففعل، فدخلت. فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة. فسألت فقيل: نكح فلان فلانة. فجلست انظر، وضرب الله على أذني. فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس. فرجعت إلى صاحبي. فقال: ما فعلت. فقلت: لا شيء ثم أخبرته الخبر. فوالله ما هممت ولا عدت بعهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله بنبوته))) (¬1). فهذا هو تاريخه عليه الصلاة والسلام في أطهر شباب وأعف رجولة، وأنزه سلوك. وهو في الجاهلية. ومن أجل هذا كان صبوة نساء مكة. لاستقامته وشرفه وخلقه. والذي ينجو من أعنف المراحل في حياته. صبابة وحبا واندفاعا. حتى الخامسة والعشرين من عمره. خليق بأن يكون من أعف أهل الأرض. وليس عنده امرأة أو زوجة يقضي منها وطره. المرحلة الثانية: حتى الخمسين من عمره 2 - ثم كان زواجه من خديجة رضي الله عنها. في الخامسة والعشرين من عمره. (وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة. مع ما أراد الله بها من كرامته. فلما أخبرها مسيرة بما أخبرها به. بعثت إلى رسول الله (ص) فقالت له فيما يزعمون: يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك، وسطتك في قومك، وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 311/ 1 - 312 وقد سبق تخريجه ص 98.

عرضت عليه نفسها. وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا. كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو قدر عليه. فلما قالت ذلك لرسول الله (ص). ذكر ذلك لأعمامه ...) (¬1) (فحضر أبو طالب ومعه بنو هاشم ورؤساء سائر مضر. فخطب أبو طالب فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضىء معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس. ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل إلا رجح به وإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل، وأمر حائل. ومحمد من عرفتم قرابته. وقد خطب خديجة بنت خويلد. وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل.) (¬2) (فقال عمرو بن خويلد - عمها - هو الفحل الذي لا يقدع أنفه فأنكحها منه) (¬3). (فتزوجها فبقيت عنده قبل الوحي خمس عشر سنة. وماتت ولرسول الله (ص) تسع وأربعون سنة. وثمانية أشهر) (3). ¬

(¬1) السيرة لابن هشام 1/ 189. (¬2) أوجز السير لخير البشر لأحمد بن فارس مخطوط بمكتبة السليمانية باستامبول ص 3 - 4. وقد أورد السهيلي بعضه في الروض الأنف 1/ 213. (¬3) الروض الأنف للسهيلي 1/ 213.

المرحلة الثالثة: حتى الخامسة والخمسون من العمر

عمر رسول الله (ص) يضاعف. ويبلغ خمسين عاما. يتجاوز الشباب والكهولة. وليس عنده إلا امرأة واحدة هي خديجة رضي الله عنها تكبره بخمسة عشر عاما. وهو أطهر أهل الأرض. وماذا يبقى من الصبوة والشباب بعد الخمسين؟ وقد لخص رسول الله (ص) خلاصة حياتها معه في حواره مع عائشة رضوان الله عليها: (كان رسول الله (ص) إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها واستغفار لها فذكرها يوما فحملتني الغيرة. فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن! قال، ((فرأيته غضب غضبا أسقطت في خلدي.)) وقلت في نفسي. اللهم إن ذهب غضب رسولك عني لم أعد أذكرها بسوء، فلما رأى النبي ما لقيت. قال: ((كيف قلت؟. والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورزقت منها الولد وحرمتموه مني.))). قالت: فغدا وراح علي بها شهرا) (¬1). لقد كانت رضي الله عنها رفيقة دربه، وعاشت المحنة كلها. فكانت بلسما لجراحه. ومضت في التاريخ أول من آمن به في الأرض. وكان عام وفاتها ووفاة عمه أبي طالب. هو عام الحزن. المرحلة الثالثة: حتى الخامسة والخمسون من العمر 3 - ثم كان الزواج بعائشة وسودة رضوان الله عليهما. وقد جاوز رسول الله ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء للذهبي، وإسناد الحديث حسن / 112.

(ص) الخمسين. ولما ماتت خديجة. حزن عليها النبي (ص) حزنا شديدا. فبعث الله جبريل فأتاه بعائشة في مهد فقال: يا رسول الله هذه تذهب بعض حزنك، وأن في هذه خلفا من خديجة.) (¬1) وقد حدث رسول الله (ص) عائشة بذلك فقالت: (قال لي رسول الله (ص): ((رأيتك في المنام مرتين، أتيت بك في سرقة من حرير فأكشفها. فإذا أنت. قال فيقال: هذه امرأتك. قال. فأقول: إن كان هذا من عند الله يمضه.))) (¬2) (وقال الإمام أحمد في مسنده عن .. محمد بن عمرو أبو سلمة ويحي قالا: لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون، فقالت: يا رسول الله ألا تزوج؟ قال: من؟ قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا، قال: فمن البكر؟ قالت: ابنة أحب خلق الله إليك عائشة ابنة أبي بكر. قال: ((ومن الثيب؟)) قالت: سودة بت زمعة. قد آمنت بك واتبعتك. قال: ((فاذهبي فاذكريهما علي))). فدخلت بيت أبي بكر. فقالت: يا أم رومان: ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله (ص) ¬

(¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 78/ 8. (¬2) البخاري / ك النكاح. / ب. نكاح الأبكار 9/ ج 7/ ص 6/ م 3.

أخطب عليه عائشة قالت انتظري أبا بكر حتى يأتي. فجاء أبو بكر. فقالت: يا أبا بكر! ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قال: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله (ص) أخطب عليه عائشة، قال: وهل تصلح له؟ إنما هي ابنة أخيه. فرجعت إلى رسول الله (ص) فذكرت ذلك له. فقال: ((ارجعي إليه فقولي له: ((أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لي))) فرجعت. فذكرت ذلك له: قال: انتظري، وخرج. قالت أم رومان: إن مطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه. ووالله ما وعد أبو بكر وعدا قط فأخلفه. فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي، وعنده امرأته أم الصبي، فقالت: يا ابن أبي قحافة، لعلك مصب (¬1) صاحبنا تدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك، فقال أبو بكر للمطعم بن عدي: أقول هذه تقول؟. قال: إنها تقول ذلك، فخرج من عنده وقد أنهب الله ما كان في نفسه من عدته التي وعده. فرجع فقال لخولة: ادعي لي رسول الله (ص). فدعته فزوجها إياه وعائشة يومئذ بنت ست سنين. ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة. فقالت: ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله (ص) أخطبك إليه، قالت: وددت. ادخلي إلى أبي فاذكري ذلك له - وكان شيخا كبيرا قد تخلف عن الحج - فدخلت عليه فحيته بتحية الجاهلية، فقال: من هذه؟ قالت: خولة بنت حكيم، قال: فما شأنك؟ قالت: أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة. ¬

(¬1) مصب: أي مدخل ولدنا في الإسلام وكانوا يقولون للمسلم: صابىء.

فقال: كفء كريم ماذا تقول صاحبتك؟ قالت: تحب ذلك. قال: ادعيها إلي، فدعيتها قال: أي بنية، إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك وهو كفء كريم. أتحبين أن أزوجك به؟ قالت: نعم. قال: ادعيه لي. فجاء رسول الله. فزوجها إياه. فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج فجعل يحثي على رأسه التراب، فقال بعد أن أسلم: لعمرك إني لسفيه يوعي أحثي على رأسي التراب أن تزوج رسول الله (ص) سودة بنت زمعة ..) (¬1) فقد تزوج رسول الله (ص) عائشة بوحي من السماء. وبتوجيه من جبريل عليه الصلاة والسلام. وكان من ثمرة هذا الزواج في الدعوة إلى الله وتبليغ الرسالة. قول ابن اختها عروة بن الزبير: ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة (¬2). وأما سودة بنت زمعة رضي الله عنها. فكان جبرا لخاطر كسير بعد وفاة زوجها السكران بن عمرو رضي الله عنه. والذي مات بعد عودته من مهاجرة الحبشة. وهي في بيت شرك ووثنية. حتى ليحثو أخوها التراب على رأسه عندما سمع بهذا الزواج. فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كانت سودة بنت زمعة عند السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو. فرأت في المنام كأن النبي (ص) أقبل يمشي حتى وطىء على عنقها. فأخبرت زوجها بذلك. فقال: وأبيك لئن صدقت ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد 6/ 210 - 211 - 212. (¬2) أسد الغابة في معرفة الصحابة 5/ 504.

المرحلة الرابعة: من الخامسة والخمسين حتى الستين

رؤياك لأموتنن وليتزوجنك رسول الله (ص). فقالت: حجرا وسترا. ثم رأت في المنام ليلة أخرى أن قمرا انقض عليها من السماء وهي مضطجعة وأخبرت زوجها فقال: وأبيك لئن صدقت رؤياك لم ألبث يسيرا حتى أموت وتزوجين من بعدي. فاشتكى السكران من يومه ذلك. فلم يلبث إلا قليلا حتى مات، وتزوجها رسول الله (ص) (¬1) ومن الناحية العملية. فقد كان بناء رسول الله (ص) بسودة فقط. أما بناؤه بعائشة فقد كان في السنة الثانية من الهجرة. وله من العمر عليه الصلاة والسلام خمس وخمسون عاما. وله زوجة واحدة. المرحلة الرابعة: من الخامسة والخمسين حتى الستين 4 - وهي المرحلة التي بنى فيها رسول الله (ص) بعائشة وبقية نسائه. أي خمس سنوات من عمره عليه الصلاة والسلام. كان فيها هذا العدد من النسوة. وسنشهد زواجهن والحدث الذي ارتبط بهن. (أ) حفصة بنت عمر رضي الله عنها: (عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يحدث أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله (ص) فتوفي بالمدينة فقال عمر بن الخطاب أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة. فقال: سأنظر في أمري. فلبثت ليالي ثم لقيني. فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق. فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت ¬

(¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 38 - 39.

(ب) زينب بنت خزيمة

عمر. فصمت أبو بكر. فلم يرجع إلي شيئا. وكنت أوجد عليه مني على عثمان. فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله (ص) فأنكحتها إياه. فلقيني أبو بكر. فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت على حفصة فلم أرجع إليك شيئا. قال عمر: قلت: نعم. قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن رسول الله (ص) قد ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله (ص). ولو تركها رسول الله (ص) قبلتها.) (¬1) وروعة الحادثة غنية عن أي تعليق. (ب) زينب بنت خزيمة - كانت بدر في السنة الثانية. وبدأت قوافل الشهداء تترى بعد فرض الجهاد على المسلمين. وكان أول بطل قرع اسمه مسامعنا في بدر عبيدة بن الحارث رضي الله عنه. وعندما قال المشركون وقد خرجوا من الصفوف يبارزون: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال النبي (ص): قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم ياعلي .. فبارز عبيدة وكان أسن القوم. عتبة بن ربيعة، واختلفا بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه. قلت: وعبيدة هذا هو ابن الحارث بن المطلب بن عبد مناف. ولما جاؤوا به إلى رسول الله (ص) أضجعوه إلى جانب موقف رسول الله (ص). فأفرشه رسول الله (ص) قدمه، فوضع خده على قدمه الشريفة. وقال: يا رسول الله لو رآني أبو طالب لعلم أني أحق بقوله: ¬

(¬1) البخاري ك النكاح 67/ ب عرض الإنسان ابنته 33/ م 3/ ج 7/ ص 16.

(ج) أم سلمة

ونسلمه (¬1) حتى نصرع دونه ... ونذهل عن ابنائنا والحلائل ثم مات رضي الله عنه. فقال رسول الله (ص) ((أشهد أنك شهيد.))) رواه الشافعي رحمه الله) (¬2). وإذا كان عبيدة بن الحارث رضي الله عنه ذهل عن حليلته. فدى لله ورسوله. فلن يذهل رسول الله (ص) عن ولد عبيدة وزوجه. من أعظم الوفاء لهذا البطل العظيم. أن يتقدم رسول الله (ص) من حليلته وزوجه زينب بنت خزيمة بعد انقضاء عدتها خاطبا لها. ويتزوجها ويرعاها مع ولدها. وشاءت إرادة الله تعالى أن يسجل هذا الوفاء في صحيفة نبيه محمد (ص). لأنها لم تلبث عنده أشهرا حتى ماتت رضي الله عنها وأرضاها. مع الصالحات. ... (ج) أم سلمة: (عن عمر بن أبي سلمة قال: خرج أبي إلى أحد فرماه أبو سلمة الجشمي في عضده بسهم فمكث شهرا يداوي جرحه ثم برىء الجرح. وبعث رسول الله (ص) أبي إلى قطن في المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا فغاب تسعا وعشرين ليلة ثم رجع فدخل المدينة لثمان خلون من ¬

(¬1) ونسلمه: أي لا نعلمه حتى نقتل دونه وننسى أبناءنا ونساءنا. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير 3/ مقتطفات 299 - 301.

صفر سنة أربع. والجرح منتقض. فمات منه لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة أربع من الهجرة فاعتدت أمي وحلت لعشر بقين من شوال سنة أربع. فتزوجها رسول الله (ص) في ليالي بقين من شوال سنة أربع، وتوفيت في ذي القعدة سنة خمسين) (¬1) (وعن زياد بن أبي مريم قال: قالت أم سلمة لأبي سلمة: بلغني أنه ليس امرأة يموت زوجها وهو من أهل الجنة وهي من أهل الجنة ثم لم تزوج بعده إلا جمع الله بينهما في الجنة. وكذلك إذا ماتت المرأة وبقي الرجل بعدها. فتعال أعاهدك ألا تزوج بعدي ولا أتزوج بعدك. قال: أتطيعينني؟ قلت: ما استأمرتك إلا وأنا أريد أن أطيعك. قال: فإذا مت فتزوجي ثم قال: اللهم أرزق أم سلمة بعدي رجلا خيرا منها لا يحزنها ولا يؤذيها. فلما مات أبو سلمة قلت: من هذا الفتى الذي هو خير لي من أبي سلمة؟ فلبثت ما لبثت ثم جاء رسول الله (ص) فقام على الباب فذكر الخطبة إلى ابن أخيها أو إلى ابنها أو إلى وليها ..) (¬2) (وعن أم سلمة قالت: لما انقضت عدتي من أبي سلمة أتاني رسول الله (ص) فكلمني بيني وبينه حجاب. فخطب إلي نفسي. فقلت: أي رسول الله وما تريد إلي، ما أقول هذا إلا رغبة لك عن نفسي. إني امرأة قد أدبر مني سني، وإني أم أيتام. وأنا امرأة شديدة الغيرة وأنت يا رسول الله تجمع النساء فقال رسول الله: ((فلا يمنعك ¬

(¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 61. (¬2) الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 61.

ذلك. أما ما ذكرت من غيرتك فيذهبها الله، وأما ما ذكرت من سنك فأنا أكبر منك سنا. وأما ما ذكرت من أيتامك فعلى الله وعلى رسوله))) فأذنت له في نفسي فتزوجني. فلما كانت ليلة وعدنا البناء قمت من النهار إلى رجل ونعالي فوضعتهما وقمت إلى فضلة شعير لأهلي فطحنتها، وفضلة من شحم فعصدتها لرسول الله. فلما أتانا رسول الله (ص) قدم إليه الطعام فأصاب منه، وبات تلك الليلة. فلما أصبح قال: قد أصبح بك على أهلك كرامة ولك عندهم منزلة فإن أحببت أن تكون هذه ليلتك ويومك هذا كان، وإن أحببت أن أسبع لك سبعت، وإن سبعت لك سبعت لصوحبك. قالت: يا رسول الله! افعل ما أحببت.) (¬1) وعن أم سلمة قالت: قال أبو سلمة قال رسول الله (ص). ((إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها. وأبدلني بها ما هو خير منها))) فلما احتضر أبو سلمة قال: اللهم اخلفني في أهل بخبر. فلما قبض قلت. إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم عندك احتسبت مصيبتي فآجرني فيها. وأردت أن أقول: وأبدلني بها خيرا منها. فقلت: من خير من أبي سلمة؟ فما زلت حتى قلتها. فلما انقضت عدتها خطبها أبو بكر فردته، ثم خطبها عمر فردته، فبعث إليها رسول الله (ص) فقالت: مرحبا برسول الله وبرسوله (ص) أخبر رسول الله أني امرأة غيري وأني ¬

(¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 63/ 8.

مصية، وأنه ليس أحد من أوليائي شاهد .. فبعث إليها رسول الله (ص): ((أما قولك إنك مصبية. فإن الله سيكفيك صبيانك. وأما قولك إنك غيرى فسأدعو الله أن يذهب غيرتك وأما الأولياء فليس أحد منهم شاهد ولا غائب إلا سيرضاني)) قال. قالت: قم يا عمر فزوج رسول الله (ص). قال رسول الله: ((أما إني لا أنقصك مما أعطيت أختك فلانة: رحيين وجرتين ووسادة من أدم حشوها ليف ...))) (¬1). ولابد من الإشار إلى بعض الملاحظات في هذا الزواج النبوي العظيم. 1 - لقد استجاب الله دعوة أبي سلمة وهو يحتضر: اللهم أخلفني في أهلي بخير. ومضى إلى ربه شهيدا. فكان كافل أيتامه وراعي أهله رسول الله (ص). ويحسن ألا ننسى أن أبا سلمة هو ابن عمة الرسول (ص). فهو أولى الناس برعاية أهله وولده. 2 - واستجاب الله تعالى دعوة أمته أم سلمة أن يبدلها الله به خيرا منها. لكنها في نفسها كانت أقل من أن تكون زوجا لرسول الله (ص) (إني امرأة قد أدبر مني سني وإني امرأة أم أيتام وأنا امرأة شديدة الغيرة) لكن سيد الخلق عليه الصلاة والسلام لن يدعها لسنها أو لأيتامها أو لغيرتها. فقد جبر خاطرجا ورعى حقها وأعلمها بكرامتها عنده وعند أهلها. 3 - ويحسن أن لا ننسى كذلك أن أم سلمة من بني مخزوم، أعز بطون قريش. وهي التي كانت تحمل لواء الحرب والمواجهة لرسول الله (ص). ¬

(¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد /8/ 62 - 63.

(د) زينب بنت جحش

ووراء هذا الزواج تفتيت حقد هذه القبيلة. وتقريب قلوب أبنائها وتوطئة وتحبب إليهم ليدخلوا في الإسلام كافة بعد أن صاروا أصهار رسول الله عليه الصلاة والسلام. 4 - ويحسن أن لا ننسى ذلك الأثاث البيتي البسيط الذي كان رسول الله (ص) يقدمه لأهله رحيين وجرتين ووسادة أما الرحى فلطحن الشعير، وأما الجرة فللشرب وأما الوسادة فللنوم. ونقف إجلالا أمام الأثاث ونحن نرى عشرات الألوف التي تصرف في الأثاث هذه الأيام. ومن خلاله يقيم الأزواج في كثير من الأحيان. ... (د) زينب بنت جحش: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج ادعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا} (¬1). (وقد مضى أن رسول الله (ص) زوج زيد بن حارثة الذي كان متبناه - وكان يدعى زيد بن محمد، ثم دعي إلى أبيه - من زينب بنت جحش ابنة عمة رسول الله (ص) ليحطم بهذا الزواج فوارق الطبقات الموروثة، ويحقق معنى قوله تعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ويقرر هذه القيمة الإسلامية الجديدة بفعل عملي واقعي. ¬

(¬1) الأحزاب /37 - 38.

ثم شاء الله أن يحمل نبيه بعد ذلك - فيما يحمل من أعباء الرسالة - مؤنة إزالة آثار نظام التبني فيتزوج من مطلقة متبناه زيد بن حارثة، ويواجه المجتمع بهذا العمل، الذي لا يستطيع أحد أن يواجه المجتمع به على الرغم من إبطال عادة التبني في ذاتها. وألهم الله نبيه (ص) أن زيدا سيطلق زينب. وأنه هو سيتزوجها. للحكمة التي قضى الله بها. وكانت العلاقات بين زيد وزينب قد اضطربت، وعادت توحي بأن حياتهما لن تستقيم طويلا. وجاء زيد مرة بعد مرة يشكو إلى رسول الله (ص) اضطراب حياته مع زينب، وعدم استطاعته المضي معها. والرسول (ص) على شجاعته في مواجهة قومه في أمر العقيدة دون لجلجة ولا خشية يحس ثقل التبعة فيما ألهمه الله من أمر زينب، ويتردد في مواجهة القوم بتحطيم ذلك التقليد العميق فيقول لزيد الذي أنعم الله عليه بالإسلام بالقرب من رسوله وبحب الرسول له. ذلك الحب الذي يتقدم به في قلبه على كل أحد بلا استثناء والذي أنعم الرسول عليه بالعتق والتربية والحب - يقول له: {أمسك عليك زوجك واتق الله}) ويؤخر بهذا مواجهة الأمر العظيم الذي يتردد بالخروج به على الناس كما قال تعالى: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} وهذا الذي أخفاه النبي - (ص) - في نفسه وهو يعلم أن الله مبديه، هو ما ألهمه الله أن سيفعله. ولم يكن أمرا صريحا من الله، وإلا ما تردد فيه ولا أخره ولا حاول تأجيله، ولجهر به في حينه مهما كانت العواقب التي يتوقعها من إعلانه. ولكنه (ص) كان أمام إلهام يجده في نفسه، ويتوجس في

الوقت ذاته من مواجهته، ومواجهة الناس به. حتى أذن الله بكونه. فطلق زيد زوجه في النهاية. وهو لا يفكر لا هو ولا زينب فيما سيكون بعد. لأن العرف السائد كان يعد زينب مطلقة لابن محمد لا تحل له. حتى بعد إبطال عادة التبني في ذاتها، ولم يكن بعد قد نزل إحلال مطلقات الأدعياء، إنما كان حادث زواج النبي بها فيما بعد هو الذي قرر هذه القاعدة. بعدما قوبل هذا القرار بالدهشة والمفاجأة والاستنكار. وفي هذا ما يهدم كل الروايات التي رويت عن هذا الحادث، والتي تشبث بها أعداء الإسلام قديما وحديثا. وصاغوا حولها الأساطير والروايات. إنما كان الأمر كما قال الله تعالى {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضو منهن وطرا} وكانت هذه إحدى ضرائب الرسالة الباهظة حملها رسول الله فيما حمل. وواجه بها المجتمع الكاره لها كل الكراهية حتى ليتردد في مواجهته بها وهو الذي لم يتردد في مواجهته بعقيدة التوحيد. وذم الآلهة والشركاء، وتخطئة الآباء والأجداد) (¬1) وعن أنس قال: (لما انقضت عدة زينب قال النبي (ص) لزيد: ((إذهب فاذكرها علي))) فانطلق حتى آتاها وهي تخمر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، ان رسول الله (ص) ذكرها. فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي. وقلت: يا زينب أبشري. أرسلني رسول الله (ص) يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربى عز وجل. ثم قامت إلى مسجدها ونزل ¬

(¬1) في ظلال القرآن / م 5/ ج 22/ 2868 - 2869.

(هـ) أم حبيبة بنت أبي سفيان

القرآن. وجاء رسول الله (ص) فدخل عليها بغير إذن. قال أنس: وقد رأيتنا حين دخل عليها رسول الله (ص) أطعمنا عليه الخبز واللحم. فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام. فخرج رسول الله (ص) واتبعته. فجعل يتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن: يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته والقوم قد خرجوا أو أخبر؟ قال: فانطلق حتى دخل البيت. فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ...} الآية. وكذلك رواه مسلم والنسائي من طريق سليمان بن المغيرة (¬1) وأثلج صدر زينب في أعظم سعادة سيقت إليها في حياتها بهذا الزواج، وعبر الشعبي عن هذا المعنى بقوله فيما رواه عن زينب: كانت زينب تقول للنبي (ص): إني لأدل عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدل بهن. إن جدي وجدك واحد - تعني عبد المطلب فإنه أبو أبي النبي (ص) وأبو أمها أميمة بنت عبد المطلب - وإني أنكحنيك الله عز وجل من السماء، وإن السفير جبريل عليه السلام) (¬2) ... (هـ) أم حبيبة بنت أبي سفيان كانت هناك في أرض الغربة والوحشة. وقد هاجرت إلى الحبشة. مع زوجها عبيد الله بن جحش. ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 4/ 165 وهي رواية الإمام أحمد 3/ 195. (¬2) المصدر نفسه 3/ 165 عن ابن جرير الطبري.

وكانت المحنة العظمى لها أن تنصر زوجها، وقاومته. وواجهته بدينها حتى مات. وكانت تتنقل من محنة إلى محنة. فأين تعود؟ تعود إلي أبيها أبي سفيان. الذي انتهت إليه زعامة قريش في حرب محمد (ص). وغدت لا أب ولا زوج ولا عشيرة. فكل عشيرتها تحارب رسول الله (ص) وماذا لها في هذه الدنيا إلا أنها تعد الأيام لتلقى وجه ربها، صابرة منيبة محتسبة أوابة. غير أن هناك قلبا كان يعيش محنتها، ويتحسس لمصيبتها. ويهتم لابتلائها هو قلب سيد الوجود محمد (ص). الذي لم ينس ألمها الذي يذبحها بعد فراق الأهل والزوج والأب والوطن. ومن هذا العالم المغمور. تحدثنا عن العالم الجديد الذي فتح لها. لتكون أما للمؤمنين في الأرض. قال الزبير بن بكار: عن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت: (ما شعرت وأنا بأرض الحبشة إلا برسول النجاشي - جارية يقال لها إبرهة، كانت تقوم على ثيابه ودهنه - فاستأذنت علي فأذنت لها، فقالت: إن الملك يقول لك: إن رسول الله (ص) كتب إلي أن أزوجكه، فقلت: بشرك الله بالخير، وقالت: يقول لك الملك: وكلي من يزوجك قالت: فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته، وأعطيت إبرهة سوارين من فضة، وخدمتين (¬1) من فضة كانتا علي، وخواتيم من فضة في كل أصابع رجلي - سرورا بما بشرتني به. فلما أن كان من العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب، ومن كان هناك من المسلمين أن يحضوا. وخطب النجاشي وقال: الحمد لله الملك القدوس ¬

(¬1) خذمتين: قطعتين توضعاف في الرجلين.

المؤمن العزيز الجبار، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم. أما بعد. فإن رسول الله (ص) طلب أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان. فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله (ص)، وقد أصدقها أربعمائة دينار. ثم سكب الدنانير بين يدي القوم فتكلم خالد بن سعيد فقال: الحمد لله أحمده وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. أما بعد. فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله (ص)، وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان. فبارك الله لرسوله (ص). ودفع النجاشي الدنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا فقال: اجلسوا فإن من سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج. فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا) (¬1) قالت أم حبيبة: فلما وصل إلي المال أرسلت إلى أبرهة التي بشرتني. فقلت لها: إني كنت أعطيتك ما أعطيتك يومئذ ولا مال بيدي. فهذه خمسون مثقالا فخذيها فاستعيني بها فأبت فأخرجت حقا كان فيه كل ما أعطيتها فردته علي وقالت: عزم علي الملك أن لا أرزؤك شيئا وأنا الذي أقوم على ثيابه ودهنه. وقد اتبعت دين رسول الله (ص). وأسلمت لله. وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر. قالت: فلما كان الغد جاءتني بعود وورس وعنبر وزباد كثير. فقدمت بذلك كله على النبي (ص). فكان يراه علي وعندي فلا ينكره ثم قالت أبرهة: فحاجتي إليك أن تقرئي رسول الله مني السلام وتعلميه إني قد اتبعت دينه. قالت: ثم لطفت بي وكانت هي التي ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 162/ 3 - 163.

جهزتتي. فكانت كلما دخلت علي تقول لا تنسي حاجتي إليك. فلما قدمت على رسول الله (ص) أخبرته كيف كانت الخطبة وما فعلت بي ابرهة فتبسم رسول الله (ص)، وقرأته منها السلام فقال: ((وعليها السلام ورحمة الله وبركاته)) (¬1) ولئن كانت أم سلمة رضي الله عنها من بني مخزوم. فقد كانت أم حبيبة من بني أمية بن عبد شمس أعز بطون قريش كذلك. وبنت زعيم مكة كلها أبي سفيان بن حرب وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يسأل فيجيب: (قال رجل لعلي: أخبرني عن قريش قال: أوزننا أحلاما إخوتنا بنو أمية وأنجدنا عند اللقاء أو أسخانا بما ملكت اليمين فهم بنو هاشم. وريحانة قريش التي تشم بها بنو المغيرة، إليك عني سائر اليوم) (¬2). (أما نخن بنو هاشم فأنجاد أمجاد هداة أجواد. وأما إخوتنا بنو أمية قادة ذادة. وريحانة قريش التي تشم بها بنو المغيرة) (¬3). حتى ان ابن عباس رضي الله عنهما يفسر قول الله عز وجل بهذا الزواج. كما روى البيهقي عنه {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة} قال: هو تزويج النبي (ص) بأم حبيبة بنت أبي سفيان فصارت أم المؤمنين، وصار معاوية خال المؤمنين. (¬4) وما هي إلا سنتان حتى كان بنو أمية يتسابقون إلى الدخول في الإسلام ¬

(¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 69/ 8. (¬2) المغزي النبوية للزهري عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين. ورجاله رجال الصحيح ص 149. (¬3) المصدر نفسه ص 149. (¬4) البداية والنهاية 161/ 3.

(و) جويرية بنت الحارث

ويتبركون بعقيلهم أم حبيبة. ... (و) جويرية بنت الحارث: وندع الحديث عنها وعن أثر زواجها في الدعوة إلى الله لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: لما قسم رسول الله (ص) سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له. فكاتبته على نفسها. وكانت امرأة حلوة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه فأتت رسول الله (ص) تستعينه في كتابتها، قالت عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت أن سيرى منها رسول الله (ص) ما رأيت. فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له. فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي. قال: ((فهل لك في خير من ذلك؟)) قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: ((أقضي عنك كتابتك وأتزوجك)) قالت: نعم يا رسول الله. قال: ((قد فعلت.))). قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله قد تزوج جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار. فقال الناس: أصهار رسول الله (ص). وأرسلوا ما في أيديهم. قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق. فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها) (¬1). ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 294/ 2. وإسناد الحديث صحيح فهو رواية ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عائشة.

(ز) ريحانة بنت زيد

(ز) ريحانة بنت زيد: عن عمر بن الحكم قال: أعتق رسول الله ريحانة بنت زيد وكانت عند زوج محب لها مكرم، فقالت: لا أستخلف بعده أبدا، وكانت ذات جمال. فلما سبيت بنو قريظة، عرض السببي على رسول الله (ص). فكنت فيمن عرض عليه. فأمر بي فنزلت. وكان له صفي من كل غنيمة. فلما عزلت خار الله لي فأرسل بي إلى منزل أم المنذر بنت قيس أياما حتى قتل الأسرى. وفرق السببي، ثم دخل علي رسول الله، فتنحيت منه حياء فدعاني فأجلسني بين يديه فقال: ((إن اخترت الله ورسوله، اختارك رسول الله لنفسه.))) فقلت: إني أختار الله ورسوله، فلما أسلمت أعتقني (¬1) رسول الله وتزوجني وأصدقني اثنتي عشرة أوقية ونشا كما كان يصدق نساءه، وأعرس بي في بيت أم المنذر، وكان يقسم لي كما كان يقسم إلى نسائه. وضرب علي الحجاب.) (¬2) وكان رسول الله (ص) معجبا بها، وكانت لا تسأله إلا أعطاها ذلك، ولقد قيل لها: لو كنت سألت رسول الله (ص) بني قريظة فأعتقهم وكانت تقول: لم يخل بي حتى فرق السبي. ولقد كان يخلو بها ويستكثر منها. فلم تزل عنده حتى ماتت مرجعه من حجة الوداع. فدفنها بالبقيع. وكان تزويجه إياها في المحرم سنة ست من الهجرة) (1). لقد كانت نهاية بني قريظة في قتل المقاتلة وسبي الذراري والنساء نهاية قاسية جزاء ما اقترفت أيديهم. ولكن عظمة النبوة التي تأسو الجراح، ¬

(¬1) هناك رأي آخر يقول أنها بقيت ملك يمين النبي (ص) ولم يعتقها بناء على اختارها. وقد رجح ابن سعد الرأي الأول وقال: هو أثبت الأقاويل عندنا. (¬2) و (3) الطبقات الكبرى لابن سعد 92/ 8 - 93.

(ح) صفية بنت حيي

وتجبر المصيبة. حدت بالنبي (ص) أن يختار ريحانة لتكون زوجا له بعد أن اختارت الله ورسوله ودخلت في الإسلام. وبقيت معلما عظيما من معالم الدعوة إلى الله. إن القتل يؤكد أن الثأر والتشفي ليس هو الذي يحرك المؤمنين. إنما هو القصاص العادل على الغدر والخيانة. ولا أدل على ذلك. من تزوج رسول الله (ص) واحدة منهن. وقد هدى الله قلبها للإسلام. لتكون قدوة لأخواتها السبايا يدخلن في دين الله. ويذبن الحقد في بوتقة الإيمان. ... (ح) صفية بنت حيي: وما قيل عن ريحانة رضي الله عنها يقال عن صفية رضي الله عنها. فكلتاهما من يهود. شرح الله صدرهما للإسلام. وصارت صفية أما للمؤمنين في الأرض. ولم يحل أصلها اليهودي دون ذلك. بل كان رسول الله يعلمها. كيف تفخر بهذا الأصل على أخواتها العربيات: قولي لهم: ((أبي هارون وعمي موسى)) فهي من ضئضىء النبوة. ولو كان أبوها حيي بن أخطب هو فرعون يهود. وطاغيتهم الكبير فلا تزر وازرة وزر أخرى. وما لنا نبعد وهي التي أشارت لذلك. فعن إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: لما دخلت صفية على النبي (ص) قال لها: ((لم يزل أبوك من أشد يهود عداوة لي حتى قتله الله))). فقالت: يا رسول الله إن الله يقول في كتابه: ولا تزر وازرة وزر أخرى. فقال لها رسول الله: ((اختاري فإن اخترت الإسلام أمسكتك لنفسي، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك وتلحقي بقومك.))) فقالت: يا رسول الله لقد هويت الإسلام، وصدقت بك قبل أن تدعوني حيث

صرت إلى رحلك. وما لي في اليهودية أرب وما لي فيها والد ولا أخ وخيرتني الكفر والإسلام. فوالله ورسوله أحب إلي من العتق. وأن أرجع إلى قومي. قال: فأمسكها رسول الله لنفسه.) (¬1)) وقد روى ابن سعد حديث صفية من طرق عنده وعن ثلاثة من الصحابة هم أبو هريرة وأنس بن مالك وأم سنان الأسلمية. وأدخل حديث بعضهم ببعض فقال: لما غزا رسول الله (ص) خيبر، وغنمه الله أموالهم سبى صفية بنت حيي وبنت عم لها من القموص فأمر بلالا يذهب بها إلى رحله. فكان لرسول الله (ص) صفي من كل غنيمة. فكانت صفية مما اصطفى يوم خيبر، وعرض عليها النبي (ص) أن يعتقها إن اختارت الله ورسوله. فاختارت الله ورسوله وأسلمت. فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها مهرها. ورأى بوجهها أثر خضرة قريبا من عينها فقال: ((ما هذا))) قالت: يا رسول الله رأيت في المنام قمرا أقبل من يثرب حتى وقع في حجري فذكرت ذلك لزوجي كنانة فقال: تحبين أن تكوني تحت هذا الملك الذي يأتي من المدينة؟ فضرب وجهي. واعتدت حيضة ولم يخرج رسول الله (ص) من خيبر حتى طهرت من حيضتها. فخرج رسول الله من خيبر ولم يعرس بها فلما قرب البعير لرسول الله ليخرج وضع رسول الله رجله لصفية لتضع قدمها على فخذه فأبت ووضعت ركبتها على فخده وسترها رسول الله وحملها وراءه. وجعل ¬

(¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 88/ 8.

رداءه على ظهرها ووجهها ثم شده من تحت رجلها وتحمل بها وجعلها بمنزلة نسائه. فلما صار إلى منزل يقال له تبار على ستة أميال من خيبر. مال يريد أن يعرس بها فأبت عليه. فوجد النبي (ص) في نفسه من ذلك. فلما كان بالصهباء وهي على بريد من خيبر. قال رسول الله (ص) (ص) لأم سليم: عليكن صاحبتكن فأمشطنها. وأراد رسول الله أن يعرس بها هناك. قالت أم سليم وليس معنا فسطاط ولا سرادقات. فأخذت كسائين أو عباءتين فسترت بينهما إلى شجرة فمشطتها، وعطرتها. قالت أم سنان الأسلمية: وكنت فيمن حضر عرس رسول الله (ص) بصفية مشطناها وعطرناها. وكانت جارية تأخذ الزينة من أوضأ ما يكون من النساء، وما وجدت رائحة طيب أطيب من ليلتئذ. وما شعرنا حتى قيل رسول الله يدخل على أهله. وأقبل رسول الله (ص) يمشي إليها فقامت إليه. وبذلك أمرناها. فخرجنا من عندهما، وأعرس بها رسول الله (ص) هناك وبات عندها. وغدونا عليها وهي تريد أن تغتسل. فذهبنا بها حتى توارينا من العسكر فقضت حاجتها واغتسلت. فسألناها عما رأت من رسول الله (ص). فذكرت أنه سر بها، ولم ينم تلك الليلة، ولم يزل يتحدث معها، وقال لها: ((ما حملك على الذي صنعت حين أردت أن أنزل المنزل الأول فأدخل بك؟))) قالت: خشيت عليك قرب يهود فزادها ذلك عند رسول الله (ص). وأصبح رسول الله فأولم عليها هناك وما كانت وليمته إلا الحيس (¬1) وما ¬

(¬1) الحيس: تمر يخلط بسمن وأقط (شيء يخذ من مخيض الغنم) فيعجن عجنا شديدا ثم يندر منه نواه.

(ط) مارية القبطية

كانت قصاعهم إلا الأنطاع (¬1). فتغدى القوم يومئذ ثم راح رسول الله (ص) فنزل بالقصيبة وهي على ستة عشر ميلا.) (¬2) ... (ط) مارية القبطية: فعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة. قال: بعث المقوقس صاحب الإسكندرية إلى رسول الله (ص) في سنة سبع من الهجرة بمارية وأختها سيرين .. مع حاطب بن أبي بلتعة. فعرض حاطب على مارية الإسلام ورغبها فيه فأسلمت وأسلمت أختها .. وكان رسول الله (ص) معجبا بأم إبرإهيم وكانت بيضاء جميلة. فأنزلها رسول الله (ص) في العالية في المال الذي يقال له اليوم مشربة أم إبراهيم. وكان رسول الله يختلف إليها هناك. وضرب عليها الحجاب. وكان يطأها بملك اليمين. فلما حملت وضعت هناك وقابلتها سلمى مولاة رسول الله (ص). فجاء أبو رافع زوج سلمى فبشر رسول الله (ص) بإبراهيم. فوهب له عبدا. وذلك في ذي الحجة سنة ثمان، وتنافست الأنصار في حب أم إبراهيم، وأحبوا أن يفرغوا مارية للنبي (ص) لما يعلمون من هواه فيها.) (¬3). وربطت مارية رضي الله عنها بين المسلمين في الأرض وبين القبط ¬

(¬1) الأنطاع واحدة النطع، وهو بساط من الجلد. (¬2) الطبقات الكبرى لابن سعد 86/ 8 - 87. (¬3) المصدر نفسه 153/ 8.

(ي) ميمونة بنت الحارث

كما فعلت هاجر من قبل. فقال عليه الصلاة والسلام: ((استوصوا بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما)) (¬1). ورحمهم أن هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم منهم، وأم إبراهبم بن النبي (ص) منهم. ... (ي) ميمونة بنت الحارث: كانت زينب بنت خزيمة الهلالية رضي الله عنها قد مضت إلى جوار ربها، وبنو هلال من أكبر القبائل العربية وميمونة رضي الله عنها في مكة عند أختها أم الفضل بن الحارث امرأة عم النبي (ص) وهي هلالية كذلك. وختم بميمونة زواجه عليه الصلاة والسلام. (فعن علي بن عبد الله بن عباس قال: لما أراد رسول الله (ص) الخروج إلى مكة عام القضية بعث أوس بن خولي وأبا رافع إلي العباس فزوجه ميمونة. فأضلا بعيرهما. فأقاما أياما ببطن رابغ حتى أدركهما رسول الله (ص)، وقد ضما بعيرهما. فسارا معه حتى قدم مكة. فأرسل إلى العباس فذكر ذلك له. وجعلت ميمونة أمرها إلى رسول الله (ص). فجاء رسول الله (ص) منزل العباس فخطبها إلى العباس، فزوجها إياه.) (¬2) (وعن الزهري قال: ميمونة بنت الحارث هي التي وهبت نفسها ¬

(¬1) رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح. مجمع الزوائد 63/ 10. (¬2) الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 94 - 95.

المرحلة الخامسة: من الستين إلى الثالثة والستين

للنبي (ص) (¬1). (وعن أبي رافع قال: كنت في بعث مرة فقال لي رسول الله (ص) أذهب فائتني بميمونة فقلت: يا رسول الله إني في البعث فقال رسول الله (ص): ((أليس تحب ما أحب.))) فقلت بلى. قال: ((فاذهب فائتني))) فذهبت فجئته بها) (¬2). وكان حرص رسول الله (ص) أن يوظف هذا الزواج لصالح الدعوة. ويفتت حقد أهل مكة. فكان مما قاله لهم بعد انتهاء عمرته: ((وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم، وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه))). قالوا: لا حاجة لنا في طعامك فأخرج عنا. فخرج رسول الله (ص) وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة. حتى أتاه بها بسرف. فبنى بها رسول الله (ص) هنالك.) (¬3). المرحلة الخامسة: من الستين إلى الثالثة والستين ولم يتزوج فيها رسول الله (ص) رغم إباحة الزواج له بعد التحريم كما روت أم سلمة رضي الله عنها: لم يمت رسول الله (ص) حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم). ومع هذه الإباحة. فقد اقتصر رسول الله (ص) على أزواجه اللاتي اخترنه على الدنيا إكراما لهن. وتوفي عنهن وهن أمهات المؤمنين في الأرض. ¬

(¬1) مجمع الزوائد للهيثمي 9/ 249. وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. (¬2) مجمع الزوائد للهيثمي 9/ 249 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير الحسن بن علي بن أبي رافع وهو ثقة. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 372. وسرف: موضع قرب التنعيم.

خاتمة

خاتمة

الفصل الرابع والثلاثون عالمية الدعوة: أدلتها ومظاهرها من السيرة

الفصل الرابع والثلاثون عالمية الدعوة: أدلتها ومظاهرها من السيرة 1 - ابتدأت عالمية الدعوة من أول لحظة اتصلت بها السماء بالأرض. ومنذ أن تشرفت الأرض بكلام الله تعالى يفيض على الوجود. ويتلقاه قلب النبي (ص). {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} (¬1). إنها قراءة الوجود كله، والخلق كله. والإنسان كله. إنها تسبيحة في هذا الوجود الفسيح بعد أن كان الجاهليون مخنوقين في نتن اللات والعزى وهبل يستمطرونها النفع والرحمة. ويعوذون بها من اللأواء والضر. 2 - واستمرت المعركة سنين طوالا - يحاول المشركون فيها أن يصوروا محمدا ساحرا وشاعرا أو طالب ملك في رقعتهم الضيقة المخنوقة المحبوسة بجبال مكة. ورسول الله (ص) يخرجهم إلى عوالم الوجود كافة. ((الحمد لله رب العالمين.)) ((ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم ولا الملك ¬

(¬1) العلق 1 - 5.

عليكم. ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله بيني وبينكم))) (¬1). 3 - والآيات القرآنية التي نزلت في مكة. ومنذ الفجر تذكر أن هذا القرآن وهذا الرسول هو للناس جميعا للعالمين. (أ) {... قل لا أسألكم عيه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين} الأنعام / 90 مكية. (ب) {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء / 107 مكية. (ج) {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} الفرقان /1 مكية. (د) {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ...} الروم / 58 مكية. (هـ) {إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق ...} الزمر / 41 مكية. (و) {هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون} الجاثية / 20 مكية. (ز) {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا} سبأ / 28 مكية. (ح) {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} الأعراف / 158 مكية. 4 - وشهد العهد المكي إسلام صهيب الرومي، وبلال الحبشي. كما شهد إسلام وفد نصارى الحبشة: ¬

(¬1) السيرة لابن هشام 296/ 1.

{الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} (¬1). قال سعيد بن جبير: نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي فلما قدموا على النبي (ص) قرأ عليهم {يس والقرآن الحكيم} حتى ختمها، فجعلوا يبكون وأسلموا ونزلت فيهم هذه الآية الأخرى {الذين آتيناهم الكتاب من قبله ..} (¬2). (قال محمد بن اسحاق في السيرة: ثم قدم على رسول الله (ص) وهو بمكة عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة. فوجدوه في المسجد. فجلسوا إليه وساءلوه ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة. فلما فرغوا من مساءلة رسول الله (ص) عما أرادوا، دعاهم إلى الله تعالى. وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا لله، وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش فقالوا: خيبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل. فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقموه فيما ¬

(¬1) القصص/ 52 - 55. (¬2) تفسير ابن كثيرا 288 - (29. وقد وردت في السيرة لابن هشام /1/ 391 - 392.

قال: ما نعلم ركبا أحمق منكم، أو كما قالوا لهم. فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه. ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خيرا) (¬1). ... 5 - ها هو عليه الصلاة والسلام وهو واثق من نصر ربه. يقول في مكة لوفد بني شيبان ((أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن تؤوني وتنصروني حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به. فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق ..))) ولم يأل جهدا أن يذكرهم بواقعهم مع الفرس: أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم ويفرشكم بناتهم، اتسبحون الله وتقدسونه؟.) فقال النعمان بن شريك: اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش. فتلا رسول الله (ص): {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (¬2)}) (¬3). إنها بشريات لهم بعالمية هذا الدين وانتصاره مثل قوله لوفد قريش عند أبي طالب: ((.. نعم كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم)). فقال أبو جهل. نعم وأبيك وعشر كلمات، قال: ((تقولون لا إله إلا الله. وتخلعون ما تعبدون من دونه)) (¬4). ¬

(¬1) -تفسير ابن كثير / 288 - (29. وقد وردت في السيرة لابن هشام /1/ 391 - 392. (¬2) الأحزاب: 45 - 46. (¬3) البداية والنهاية لابن كثير /3/ 158 - 159. (¬4) السيرة لابن هشام /1/ 417.

6 - وتظهر عالمية هذا الدين التي جاوزت عالم الإنس. لتنتقل إلى عالم الجن. وحتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي. فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تعالى وهم - فيما ذكر لي - سبعة من جن نصيبين. فاستمعوا له. فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا. فقص الله خبرهم عليه (ص). قال الله عز وجل: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ..} إلى قوله تعالى {.. ويجركم من عذاب أليم} (¬1) وقال تبارك وتعالى {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ..} (¬2) إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة) (¬3). ... 7 - والهجرة نفسها تشهد نماذج من عالمية الرسالة والرسول (ص) فالجن يبتهجون بنجاة رسول الله (ص) من المشركين. قالت: (أي أسماء): ثم انصرفوا فمكثنا ثلاث ليالي وما ندري أين وجه رسول الله (ص) حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب، وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه ... بضيفين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر ثم تروحا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد) (¬4) ¬

(¬1) الأحقاف: 29 - 30. (¬2) سورة الجن: 1. (¬3) السيرة لابن هشام 1/ 422. (¬4) السيرة النبوية لابن هشام/ 1/ 487.وقد وردت في حديث حسن قوي أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 9، 10 انظر شرح السنة للبغوى 264/ 13.

وهو يبشر سراقة بن مالك رضي الله عنه بقوله: كيف بك إذا لبست سواري كسرى ومنطقته وتاجه (¬1). ... 8 - وتمر الأيام تترى في المدينة، ورسول الله (ص) ماض يؤدي رسالة ربه. وهو يذكر المسلمين دائما بأن الأرض لله يرثها العباد الصالحون. فها هي غزوة الخندق: وبشريات رسول الله (ص) بفتح الأرض له. (قال ابن إسحاق: وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق فغلظت علي صخرة ورسول الله (ص) قريب مني. فلما رآني أضرب. ورأى شدة المكان علي. نزل فأخذ المعول من يدي فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة. ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى قال: ثم ضرب الثالثة فلمعت برقة أخرى. قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال: ((أوقد رأيت ذلك يا سلمان؟))) قلت: نعم. قال: ((أما الأولى فإن الله فتح علي باب اليمن. وأما الثانية فإن الله فتح علي باب الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق))) (¬2). ومع نهاية الخندق حيث رسخت أقدام النبي (ص) في المدينة وقال: ¬

(¬1) أسد الغابة لابن الأثير 266/ 2 وقد أورده بسنده عن ابن عيينة عن ابن موسى عن الحسن. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير /4/ 112 وقال: قال البيهقي وهذا الذي ذكره ابن إسحاق قد ذكره موسى بن عقبة في مغازيه.

كتب رسول الله (ص) إلى كل ملوك الأرض

((الآن نغزوهم ولا يغزونا. ابتدأت مرحلة الانطلاقة العالمية))). ... 9 - وتجسدت هذه الانطلاقه بعد التمكين في الأرض بعد الحديبية. لتمضي كتب رسول الله (ص) إلى كل ملوك الأرض آنذاك تدعوهم إلى الإسلام. ولعل عرض هذه الكتب والمواقف منها تعطي الصورة الكاملة الشافية. أ - وأملى كتاب هرقل عظيم الروم: (.. فلو أني كنت عنده لغسلت عن قدمه) .. ثم دعا بكتاب رسول الله (ص) الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه فقرأه فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين))). و {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون))). قال أبو سفيان: وسار هرقل إلى حمص حتى فلم يرم حمص أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي (ص) وأنه نبي. فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد

كتاب كسرى عظيم الفرس

غلقت. فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال: ردوهم علي. وقال إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم. فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه. فكان ذلك آخر شأن هرقل ..) (¬1). ب - كتاب كسرى عظيم الفرس قال ابن جرير بسنده عن زيد بن أبي حبيب قال: وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى بن هرمز ملك فارس وكتب معه: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس. سلام على من اتبع الهدى. وآمن بالله ورسوله. واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأدعوك بدعاء الله. فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فإن تسلم تسلم. وإن أبيت فإن إثم المجوس عليك.))) قال: فلما قرأه شقه وقال: يكتب إلي بهذا وهو عبدي؟. ثم كتب كسرى إلى باذان وهو نائبه على اليمن، أن ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به. فبعث باذان -قهرمانه - وكان كاتبا حاسبا - بكتاب فارس، وبعث معه رجلا من الفرس يقال له خرخسرة، وكتب معهما إلى رسول الله (ص) يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، وقال لبابويه أئت بلاد هذا الرجل وكلمه وائتني بخبره. فخرجا حتى قدما الطائف. فوجدا رجلا من قريش في أرض الطائف فسألوه عنه. فقال: هو بالمدينة. واستبشر أهل الطائف ¬

(¬1) البخاي: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (ص) ج 1 / ج 1 / ص 6 - 9.

يعني وقريش بهما وفرحوا وقال بعضهم لبعض ابشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك، كفيتم الرجل. فخرجا حتى قدما على رسول الله (ص) فكلمه بابويه فقال: إن شاهنشاه ملك الملوك كسرى قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي. فإن فعلت كتب إلى ملك الملوك ينفعك ويكفه عنك، وإن أبيت فهو من قد علمت. فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلدك. ودخلا على رسول الله (ص) وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما وقال: ((ويلكما من أمركما بهذا؟))) قالا: أمرنا ربنا -يعنيان كسرى - فقال رسول الله (ص): ((ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي))) ثم قال: ((ارجعا حتى تأتياني غدا.)) قال: وأتي سول الله (ص). الخبر من السماء بأن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله في شهر كذا في ليلة كذا وكذا من الليل. قال: فدعاهما فأخبرهما. فقالا: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا أفنكتب عنك بهذا ونخبر الملك باذان؟ قال: ((نعم أخبراه ذاك عني وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى وينتهي إلى الخف والحافر، وقولا له: إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك، وملكتك على قومك من الأبناء))) ثم أعطى خرخسرة منطقة فيها ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك. فخرجا من عنده فقدما على باذان بالخبر. فقال: والله ما هذا بكلام ملك وإني لأري الرجل نبيا كما يقول، وليكونن ما قد قال. فلئن كان هذا حقا فهو نبي مرسل. وإن لم يكن فسنرى فيه رأيا. فلم ينشب باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه: أما بعد، فإني

الكتاب إلى المقوقس ملك مصر

قد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا غضبا لفارس، لما كان استحل من قتل أشرافهم ونحرهم في ثغورهم. فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك. وانطلق إلى الرجل الذي كان كسرى قد كتب فيه فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه. فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذان قال: إن هذا الرجل لرسول. فأسلم وسلمت الأبناء من فارس) (¬1). ج - الكتاب إلى المقوقس ملك مصر: (وكتب النبي (ص) إلى جريج بن متى الملقب بالمقوقس ملك مصر والإسكندرية: ((بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد. فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فإن عليك إثم القبط.))) {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (¬2)} (¬3). ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 4/ 300 - 301. (¬2) آل عمران: 64. (¬3) زاد المعاد 72/ 3.

الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة

وعن عبد الله بن عبد الله القارىء أن رسول الله (ص) بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية فمضى بكتاب رسول الله (ص) فقبل الكتاب وأكرم حاطبا وأحسن نزله وسرحه إلى النبي (ص) وأهدى له مع حاطب كسوة وبغلة بسرجيها وجاريتين إحداهما أم إبراهيم، وأما الأخرى فوهبها رسول الله لمحمد بن قيس العبدي) (¬1). د - الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة: (وروى البيهفي عن ابن إسحاق نص كتاب كتبه النبي (ص) إلى النجاشي وهو هذا: ((هذا كتاب من عند محمد النبي إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة. سلام على من اتبع الهدى. وآمن بالله ورسوله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا. وأن محمدا عبده ورسوله. وأدعوك بدعاية الإسلام فإني أنا رسوله فأسلم تسلم))) {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} فإن أبيت فإن عليك إثم النصارى من قومك)) (¬2). ولما بلغ عمرو بن أمية الضميري كتاب النبي (ص) إلى النجاشي أخذه النجاشي ووضعه على عينه. ¬

(¬1) دلائل النبوة للبيهقي 395/ 4. (¬2) دلائل النبوة 318/ 2.

بقية الكتب

ونزل عن سريره إلى الأرض وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب وكتب إلى النبي (ص) كتابا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة. سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقا (¬1). وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد عرفنا ابن عمك وأصحابك. فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا. وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين) (¬2). هـ - بقية الكتب: وأرسل سليط بن عمرو إلى هوذة بن علي الحنفي .. وأرسل العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين .. فأما هوذة بن علي (الحنفي) فبعث وفدا بأن يجعل له رسول الله (ص) الأمر بعده حتى يسلم وإلا قصده وحاربه. فقال النبي (ص) ((اللهم اكفنيه!)) فمات بعد قليل. وأما المنذر بن ساوى. فأسلم وأسلم أهل البحرين. وأما الحارث بن أبي شمر الغساني. فإنه لما أتاه الكتاب قال: أنا سائر إليه (يعني محاربا) فقال رسول الله (ص) وقد بلغه ذلك عنه: باد ملكه) (¬3). وقد روى مسلم بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن ¬

(¬1) التفروق: غلافة بين النواة والقشرة. (¬2) زاد المعاد لابن القيم 72/ 3. (¬3) إمتاع الأسماع للمقريزي /1/ 308 - 309.

رسول الله (ص) كتب قبل مؤته إلى كسرى وقيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل) (¬1). ... 10 - وحقق الله تعالى موعود نبيه. على يد الجيل الذي رباه، والذي تلقى البشائر عنه. ففتحت الشام ومن ورائها بلاد الروم، والعراق ومن ورائها بلاد فارس، ومصر، واليمن، ودانت الأرض في أقل من مائة عام للمسلمين. ويكفي أن نعرض نموذج عدي بن حاتم رضي الله عنه. مع هذا الدين إذ يقول: (ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله (ص) حين سمع به مني. أما أنا فكنت امرءا شريفا وكنت نصرانيا. وكنت أسير في قومي بالمرباع (¬2). فكنت في نفسي على دين. وكنت ملكا في قومي لما كان يصنع بي فلما سمعت برسول الله (ص) كرهته. فقلت لغلام كان لي عربي، وكان راعيا لإبلي: لا أبالك، أعدد لي من إبلي أجمالا ذلالا سمانا. فاحتبسها قريبا مني. فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذني، ففعل، ثم إنه أتاني ذات غداة فقال: يا عدي، ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن. فإني قد رأيت رايات فسألت عنها. فقالوا: هذه جيوش محمد. قال: قلت: فقرب إلي أجمالي. فقربها. فاحتملت بأهلي وولدي. ثم قلت: ألحق بأهل ديني ¬

(¬1) مسلم ك 32 الجهاد والسير ج 3 ص 1397. (¬2) المرباع: الربع من الغنائم في الجاهلية الذي كان يأخذه رئيس القبيلة. انظر القاموس المحيط باب العين ص 928.

من النصارى بالشام. وسلكت الجوشية. وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر. فلما قدمت الشام أقمت بها) (¬1). ثم يذكر قصة أخته وأسرها من المسلمين ثم عودتها إليه في الشام. وحثها له ليقدم على محمد (ص). فيقول: (.. فخرجت حتى أقدم على رسول الله (ص) المدينة فدخلت عليه، وهو في مسجده فسلمت عليه، فقال: ((من الرجل؟)) فقلت: عدي بن حاتم. فقام رسول الله (ص) فانطلق بي إلى بيته. فوالله إنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة فاستوقفته فوقف لها طويلا تكلم في حاجتها؛ قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك ثم مضى بي رسول الله (ص) حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفا فقذفها إلي فقال: ((اجلس على هذه) (¬2) ثم قال: ((لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول هذا الدين ما ترى من حاجتهم. فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم فلا يوجد من يأخذه. ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف. ولعلك إنما يمنعك من دخول هذا الدين أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم. وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض في أرض بابل قد فتحت عليهم))) قال: فأسلمت. ¬

(¬1) و (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 578/ 2 - 581.

وكان عدي يقول: قد مضت اثنان وبقيت الثالثة: والله لتكونن. قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت. وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت وأيم الله لتكونن الثالثة، ليفيضن المال حتى لا يوجد من يأخذه) (¬1). ... ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 578 - 581.

الفصل الخامس والثلاثون أخلاقه صلى الله عليه وسلم

الفصل الخامس والثلاثون أخلاقه صلى الله عليه وسلم أخلاق رسول الله (ص) لا يفي بها بحث ولا يتقصاها فصل. لقد ألفت بها كتب وأسفار. وليس عند الخلق شيء يضيفون في الثناء على رسول الله (ص) بعد ثناء رب السموات والأرض عليه: {وإنك لعلى خلق عظيم}. (¬1). لقد أثنى الله تعالى على خيرة خلقه المصطفين الأخيار بأن ذكر أبرز أخلاقهم فقال عن إبراهبم {إن إبراهيم لحليم أواه منيب}. (¬2) وقال عن أيوب {إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب}. (¬3) وقال عن إسماعيل {إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا}. (¬4) وقال عن نوح {سلام على نوح في العالمين كذلك نجزي المحسنين}. (¬5) أما هذا الوصف الجامع المانع فقد اختص به رسول الله (ص) من دون الخلق جميعا. {وإنك لعلى خلق عظيم}. وجعل الله تعالى رسالته، خاتم الكمالات البشرية الخلقية ((بعثت لأتمم صالح الأخلاق))) (¬6). ¬

(¬1) ن / 4. (¬2) هود / 75. (¬3) ص / 44. (¬4) مريم / 54. (¬5) الصافات / 80. (¬6) الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة. وقال الألباني عنه: صحيح. سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/ 8/ 2830.

وسنعرض نبذة يسيرة هي غيض من فيض من خلقه عليه الصلاة والسلام. 1 - قالت عائشة: كان خلقه القرآن (¬1). 2 - وعن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: كان رسول الله (ص) أحسن الناس وجها، وأحسنهم خلقا ليس بالطويل البائن ولا بالقصير (¬2). 3 - عن أنس بن مالك قال: خدمت رسول الله (ص) عشر سنين فما قال لي أف قط. وما قال لشيء صنعته لم صنعته؟ ولا لشيء تركته لم تركته. وكان رسول الله (ص) من أحسن الناس خلقا ولا مسست خزا قط، ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله (ص)، ولا شممت مسكا ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول الله (ص) (¬3). 4 - ومن تواضعه (ص) (أن امرأة عرضت لرسول الله (ص) في طريق من طرق المدينة فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة. قال: ((يا أم فلان اجلسي في أي سكك المدينة أجلس إليك)). قال ففعلت، فقعد إليها رسول الله (ص) حتى قضت حاجتها))) (¬4). 5 - عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سأل رجل عائشة: هل كان رسول الله (ص) يعمل في بيته؟ قالت: نعم كان رسول الله (ص) يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته) (¬5). ¬

(¬1) أحمد ومسلم وأبو داود وعند مسلم 6/ ج 1 ص 513 ج 139. (¬2) البخاري 6/ 415. (¬3) البخاري 10/ 383 في الأدب. ومسلم 2309 في القضائل. (¬4) مسلم في الفضائل / 2326. (¬5) المصنف (20492) وإسناده صحيح.

6 - أما حياؤه وقلة كلامه. فعن أبي سعيد الخدري قال: (كان رسول الله (ص) أشد حياء من عذراء في خدرها. وكان إذا كره شيئا رأيناه في وجهه) (¬1). وعن عائشة أن النبي (ص) كان يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه) (¬2). وعنها قالت: ما كان رسول الله (ص) يسرد سردكم. ولكنه كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه (¬3). 7 - أما شجاعته (ص). فعن البراء قال: (كنا - والله - إذا احمر البأس نتقي به - يعني النبي (ص) - وإن الشجاع منا الذي يحاذي به) (¬4). وعن علي بن أبي طالب قال: كنا إذا احمر البأس، ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله (ص). فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه (¬5). وعن أنس بن مالك قال: كان رسول الله (ص) من أجمل الناس، وأجود الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة مرة. فركب فرسا لأبي طلحة عريانا ثم رجع وهو يقول: ((لن تراعوا لن تراعوا))) ثم قال: ((إنا وجدناه بحرا))) (¬6). 8 - وجوده (ص) الذي جذب القلوب الجاسية. وألان به الأفئدة القاسية. ¬

(¬1) البخارى 10/ 427 في الأدب ومسلم في الفضائل /2320. (¬2) البخاري ج 4 - ص 231 باب صفة النبي (ص). (¬3) البخاري 422/ 6 في الأنبياء ومسلم/ 2493 في الزهد والرقائق. (¬4) مسلم 1776 في الجهاد والسير. (¬5) أخلاق النبي (ص) ص 58 عن شرح السنة 13/ 258. (¬6) البخارى 10/ 381 في الأدب و (2307) عند مسلم في الفضائل.

فهذه بعض نماذجه: فعن جبير بن مطعم قال: لما قفل رسول الله () من غزوة حنين تبعه الأعراب يسألونه فألجؤوه إلى شجرة. فخطفت رداءه وهو على راحلته. فقال: ((ردوا علي ردائي أتخشون علي البخل؟ فوالله لو كان لي عدد هذا العضاه (¬1) نعما (¬2) لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا (¬3)))).). وعن أنس أن رجلا أتي النبي (ص) فسأله. فأعطاه غنما بين جبلين، فأتى الرجل قومه فقال: أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء رجل ما يخاف فاقة) (¬4). وعن سعيد بن المسيب أن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول الله (ص) يوم حنين وإنه لأبغض الخلق إلي. فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي) (¬5). 9 - وأما عن حلمه (ص) الذي وسع كل الخلق. فمن نماذجه: عن أنس رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله (ص) وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي. فجذبه بردائه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي ¬

(¬1) شجر الشوك ومفرده عضه. (¬2) نعما: هي الإبل والغنم والبقر. (¬3) البخارى 26/ 6 الجهاد. (¬4) مسلم 2312/ 3 فضائل. (¬5) مسلم /2313 في الفضائل والترمذي في الزكاة /666.

عندك. فالتفت إليه رسول الله (ص) ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء) (¬1). وعن بن مسعود قال: قسم رسول الله (ص) قسما. فقال رجل: ما أريد بهذا وجه الله، فأتيت النبي (ص) فذكرت ذلك، فتمعر وجهه ثم قال: ((يرحم الله موسى قد أوذي بأشد من هذا فصبر)).) (¬2). 10 - وفي وصف جوامع خلقه وخلقه (ص) نعرض لحديثين رواهما الترمذي في الشمائل. وهما وإن كانا ضعيفي الإسناد. لكن الأحاديث الأخرى تقويهما. وذلك لما فيهما من الشمول والسعة. وقد عرض لهما كبار المحدثين. رغم هذا الضعف وهما: أ - عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: سألت خالي هند بن أبي هالة (¬3). وكان وصافا عن حلية النبي (ص). وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا فقال: كان رسول الله (ص) فخما مفخما، يتلألأ تلألؤ القمر ليلة البدر؛ أطول من المربوع، وأقصر من المشذب (¬4). عظيم القامة، رجل الشعر إن انفرقت عقيقته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره (¬5). أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب (¬6)، سوابغ من غير ¬

(¬1) البخاري 10/ 234 في اللباس ومسلم / 1057 في الزكاة. (¬2) البخاري 10/ 428 في الأدب ومسلم / 1062 في الزكاة. (¬3) هو ابن خديجة رضى الله عنها من أبي هالة زوجها الأول. (¬4) المشذب: الطويل البائن الطول. (¬5) الوفرة: الشعر إلى شحمة الأذن. (¬6) أزج الحواجب: تقوس فيها مع طول في أطرافها.

قرن. بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين (¬1). له نزر يعلوه يحسبه من يتأمله أشم، كث اللحية (¬2)، سهل الخدين، ضليع الفم (¬3)، مفلح الأسنان، دقيق المسربة (¬4)، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادن متماسك، سواء البطن والصدر، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس (¬5)، أنور المتجرد (¬6)، موصل ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين والقدمين (¬7)، سائل الأطراف، خمصان الأخمصين (¬8)، مسيح القدمين (¬9)، ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعا، يخطو تكفيا (¬10)، ويمشي هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب (¬11)، فإذا التفت التفت جميعا خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، يبدر من لقي بالسلام. ¬

(¬1) أقنى العرنين: طويل الأنف مع دقة أرنبته. (¬2) كث اللحية: كثيف شعر اللحية. (¬3) ضليع الفم: عظيم الفم. (¬4) دقيق المسربة: رفيع الرقبة. (¬5) ضخم الكراديس: الأعضاء. (¬6) أنور المتجرد: مشرق الجسد. (¬7) شثن الكفين: عظيمهما. (¬8) خمصان الأخمصين: شديد تجافيهما عن الأرض من وسطهما. (¬9) مسيح القدمين: أملسهما. (¬10) يخطو تكفيا: يرفع رجليه بقوة. (¬11) الصبب: الأرض المنحدرة.

قال الحسن: سألت خالي، قلت: صف لي منطق رسول الله (ص) قال: متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلم، فصل لا فضول ولا تقصير، ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم منها شيئا. غير أنه لم يكن يذم ذواقا ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا وما كان لها. فإذا تعدي الحق. لم يقم بغضبه شيء حتى ينتصر له .. لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها، وضرب براحته اليمنى بطن إبهامه اليسرى. وإذا غضب أعرض وأشاح، جل ضحكه التبسم. قال الحسن: فكتمته الحسين زمانا ثم حدثثه فوجدته قد سبقني إليه. فسألني عما سألته عنه، ووجدته قد سأل أباه عن مدخله، وعن مخرجه وشكله فلم يدع منه شيئا: قال الحسين: فسألت أبي عن دخول النبي (ص) فقال: كان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء جزءا لأهله، وجزءا لنفسه. ثم جزءا جزأه بينه وبين الناس، فيرد بذلك بالخاصة على العامة. ولا يدخر عنهم شيئا. وكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بأدبه وقسمه على قدر فضلهم في الدين. فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج. فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة من مسألتهم عنهم، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ويقول: ((ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وابلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ثبت الله قدميه يوم القيامة، لا

يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون روادا (¬1)، ولا يفترقون إلا عن ذواق (¬2)، ويخرجون أدلة، يعني على الخير. قال: فسألته عن مخرجه: كيف كان يصنع فيه؟ قال: كان رسول الله (ص) يخزن لسانه إلا فيما يعنيه، ويؤلفهم ولا يفرقهم، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره. ولا خلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويقومه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه. الذين يلونه من الناس خيارهم. أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة. قال: فسألته عن مجلسه، فقال: كان رسول الله (ص) لا يقوم ولا يجلس إلا عن ذكر وإذا انتهى إلى قوم، جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، يعطي كل جلسائه بنصيبه لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه ممن جالسه، ومن سأله عن حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول، قد وسع كل الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق سواء. مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوت، ولا تؤبن (¬3) فيه الحرم، يتعاطون فيه بالتقوى متواضعين، يوقرون فيه الكبير، ويرحمون ¬

(¬1) يدخلون روادا: أي طالبي علم. (¬2) لا يفترقون إلا عن ذواق: أي لا يفترقون إلا عن علم يتعلمونه يقوم لهم مقام الطعام والشراب. (¬3) لا تؤبن: لا تذكر فيه بقبيح.

وجوب محبته ومن لوازم محبته اتباعه

فيه الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب.). (¬1). ... وجوب محبته ومن لوازم محبته اتباعه: لاشك أن المسلم الحق يملأ عليه رسول الله (ص) حياته وكيانه ووجدانه، ويعيش معه فى كل ذرة من جسده، وكل لحظة من حياته. فهو مثله الأعلى في سلوكه. لقد علمنا الله تعالى موقع النبي منا فقال: {.. النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}. (¬2) فهو أقرب إلى قلوبهم من قلوبهم، وأحب إلى نفوسهم من نفوسهم، وهو مقدم على أعز ما لديهم من نفس ومال وولد وحبيب. ولن يذوق المسلم في شعوره ووجدانه لذة الإيمان. ورسول الله (ص) على هامش حياته. كما حدثنا عليه الصلاة والسلام فيما رواه أنس عنه: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)) (¬3). ¬

(¬1) شرح السنة للبغوي 13/ 270 - 277. (¬2) الأحزاب / 6. (¬3) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة. وهو من الأحاديث الصحيحة. انظر الألباني سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/ 66 - 67/ ح 3040.

ولابد من اجتماع هؤلاء الثلاثة حتى تخالط حلاوة الإيمان حشاشة القلب. فتملك على المسلم حياته ووجوده. وتنقله إلى عالم من هذه العوالم، وأفق أرقى من هذه الآفاق. وبهذا الحب يصنع المؤمنون المعجزات، ويغيرون التاريخ، وينشئون المجتمع الإسلامي المنشود. بهذه الدفقة العاطفية الضخمة التي تكون المجرى العميق في وجودهم ونفوسهم. هذا جانب. والجانب الآخر. لا يقف عند حد تذوق حلاوة الإيمان فقط. بل يمضي بعيدا حتى ينفي الإيمان عمن لا يكون رسول الله (ص) أحب إليه من الخلق كلهم بلا استثناء كما روى أنس عن رسول الله (ص). ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده ومن الناس أجمعين)) (¬1). فلوجود أصل الإيمان، ولتذوق حلاوته. لابد من أن يكون الحب النبوي فوق كل شيء في حياة المسلم. والدعاة إلى الله تعالى. حين يغفلون هذا الجانب الشعوري. هذا الجانب الروحاني العاطفي الحي. إنما يغفلون سر هذا الوجود، يغفلون (الدينامو) المحرك لها. يغفلون القلب الذى ينبض بالحياة. ويتعاملون مع أشكال هذه الحياة وهيكلها لا مع حقيقتها وسرها. وحين يغدو رسول الله (ص) أولى بالدعاة من أنفسهم. بدل أن يدوروا حول ذاتهم وأنفسهم. عندها يغيرون ما في ¬

(¬1) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة عن أنس. انظر الأحادث الصحيحة ح/ 6/ 208/ ج 7458.

نفوسهم فيغير الله تعالى بهم واقعهم. حتى ليحسن أن يشحذ العزم، وتلتهب المشاعر دائما في حب رسول الله (ص). من عرض معاناة المحبين وأشواقهم. كي لا تخبو هذه الشعلة. ولا ينطفىء هذا المصباح، وتذكو نارها من جديد. وغني عن البيان. أن اتباع رسول الله (ص) والاقتداء به هو الدليل الحقيقى على صحة المشاعر وصدق الحب. حين يتخلف الاتباع والاقتداء. يتخلف الحب. هكذا علمنا الله تعالى في كتابه: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} (¬1). {قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين} (¬2) فقد انتهى حب الله باتباع النبي (ص) ومغفرة الذنب وانتهت معصية الله ورسوله بالكفر، وبغض الله للكافرين. تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... إن المحب لمن يحب مطيع (¬3) ورسول الله (ص) هو المبعوث بما يريده الله تعالى منا، وهو الأمين على وحيه. فالطاعة الواجبة. لا تقبل جدلا. {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} (¬4). ¬

(¬1) و (¬2) آل عمران 31 - 32. (¬3) من عيون الشعر - الشافعي أدبه وشعره ص 79، سلسلة تصدرها دار الرشيد للنشر والتوزيع - بغداد. (¬4) النساء / 65.

نماذج من تربيته (ص) لأصحابه

وأي فصل بين الحب والاتباع هو انحراف في المنهج. والذي نؤكد عليه مدى التفاعل والالتحام بين الجانبين. إن وجود الحب يقود قطعا إلى الاتباع والاقتداء. وإن التعبد لله بالاتباع والاقتداء يذكي مشاعر الحب، ويغذي شجرته {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين باذن ربها ويضرب الأمثال للناس لعلهم يتذكرون} (¬1). نماذج من تربيته (ص) لأصحابه: وحيث لا يتسع المقام لعرض التربية النبوية اليومية والمستمرة لأصحابه (ص). فهذا له مقام غير هذا المقام وسفر غير هذا السفر. لكن لابد من وضع النموذج الحي الذي يبرز ذلك التفاعل الأعظم بين أمام المربين عليه الصلاة والسلام، وجنده. ونكتفي بعرض عشر نماذج متنوعة. تعطينا لمحة عن هذا الأمر: 1 - أبو حذيفة بن عتبة: عن ابن عباس أن النبي (ص) قال لأصحابه يومئذ: ((إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا. فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البخترى بن هشام فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله فلا يقتله. فإنه إنما أخرج مستكرها))) .. قال: فقال أبو حذيفة (ابن عتبة): أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخوتنا وعشيرتنا. ونترك العباس والله لئن لقيته لألحمنه السيف. قال. فبلغت رسول الله (ص)، فقال: لعمر بن الخطاب: ((يا أبا حفص)) قال عمر: والله إنه أول ¬

(¬1) إبراهبم / 24 - 25.

يوم كناني فيه رسول الله بأبي حفص - ((أيضرب وجه عم رسول الله (ص) بالسف؟)) فقال عمر: دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق. فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة فقتل يوم اليمامة شهيدا) (¬1). وهذا أبو حذيفة رضي الله عنه نفسه الذي يهدد بقتل عم محمد في سورة انفعال نراه في المعركة نفسها وقد سقط أبوه وعمه وأخوه صرعى بسيوف المسلمين. فماذا يفعل؟ (قال ابن إسحاق: ولما أمر رسول الله أن يلقوا في القليب أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب. فنظر رسول الله (ص) - فيما بلغني - في وجه أبي حذيفة بن عتبة. فإذا هو كئيب قد تغير لونه. فقال: ((يا أبا حذيفة: لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء))) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فقال: لا، والله يا رسول الله ما شككت في أبي ولا في مصرعه. ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا. فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر، بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك فدعا له رسول الله (ص) بخير وقال له خيرا) (¬2). ¬

(¬1) السيرة لابن هشام / 1/ 9، 6 وقد رواها ابن إسحاق عن العباس بن عبد الله بن نفيد بن عباس (ثقة) عن بعض أهله عن ابن عباس. (¬2) المصدر نفه / 1/ 640 - 641.

لقد ربى رسول الله (ص) أبا حذيفة حين أبرز له خطأه عن طريق عمر ودفعه إلى الندم عليه. وتابعه في أشد لحظات انفعاله حيث برز أثر التربية فيه، خلال الغزوة نفسها. وانتقل من هيئة من كان يريد قتل عم محمد (ص) بسيفه إلى هيئة من يرى مصرع أبيه وعمه وأخيه فلا يغضبه بل يحزنه موتهم على الكفر. وهي نقلة هائلة ولاشك. لا يمكن أن تتم إلا في مصنع العقيدة وعند مربيها عليه الصلاة والسلام. 2 - أبو العاص بن الربيع: قال ابن اسحاق: وقام أبو العاص (بن الربيع) بمكة، وأقامت زينب عند رسول الله (ص) بالمدينة حين فرق بينهما الإسلام، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام. وكان رجلا مأمونا، بمال له وأموال لقريش. فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا لقيته سرية لرسول الله (ص) فأصابوا ما معه، وأعجزهم هاربا. فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله، أقبل أبو العاص تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله (ص)، فاستجار بها فأجارته، وجاء في طلب ماله. فلما خرج رسول الله (ص) إلى الصبح - كما حدثني يزيد بن رومان - فكبر وكبر الناس معه صرخت زينب من صفة (¬1) النساء: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. قال: فلما سلم رسول الله (ص) أقبل على الناس فقال: ((أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟)) قالو: نعم، قال: ((أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم، إنه تجير على المسلمين أدناهم)).ثم انصرق رسول الله (ص). فدخل على ابنته فقال: ((أي بنية. أكرمي مثواه. ولا يخلصن إليك، فإنك لا تحلين له.))). ¬

(¬1) الصفة: السقيفة.

قال ابن اسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله (ص) بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص فقال لهم: ((إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا. فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك. وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم فأنتم أحق به))). فقالوا: يا رسول الله بل نرده عليه فردوه عليه، حتى إن الرجل ليأتي بالدلو، ويأتي الرجل بالشنة (¬1) وبالاداوة (¬2)، حتى إن أحدهم ليأتي بالشظاظ (¬3)، حتى ردوا عليه ماله بأسره لا يفقد منه شيئا ...) (¬4). ونتساءل ماذا كانت ثمرة هذه المعاملة في نفس أبي العاص؟ (... ثم احتمل إلى مكة فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله، ومن كان أبضع معه، ثم قال: يا معشر قريش: هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه، قالوا: لا. فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيا كريما. قال: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم. فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت. ثم خرج حتى قدم على رسول الله (ص). قال ابن اسحاق .. وحدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: رد عليه رسول الله (ص) زينب على النكاح الأول لم يحدث شيئا بعد ست سنين) (¬5). ¬

(¬1) الشنة: السقاء البالي. (¬2) الاداوة: إناء صغيرة من جلد. (¬3) الشظاظ: خشبة عقفاء تدخل في عروتي الرحل. (¬4) و (¬5) السيرة النبوية لابن هشام 657/ 1 - 659.

لقد بقي أثر المعاملة النبوية في نفس أبي العاص يعمل عمله في نفسه حتى انتهى به جنديا في الصف الإسلامي دون أن يكون الخوف والإرهاب سبيله إلى الإسلام، فلم يعلن إسلامه إلا في مكة. 3 - وقال البيهقي بسنده عن ابن عباس عن شيبة بن عثمان، قال: لما رأيت رسول الله (ص) يوم حنين قد عري (¬1) ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما فقلت: اليوم أدرك ثأري من رسول الله (ص). قال: فذهبت لأجيئه عن يمينه. فإذا العباس بن عبد المطلب قائم عليه درع بيضاء كأنها فضة ينكشف عنها العجاج، فقلت: عمه ولن يخذله. ثم جئته عن يساره فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. فقلت: ابن عمه ولن يخذله. قال: ثم جئته من خلفه فلم يبق إلا أساوره سورة بالسيف إذ رفع شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق فخفت أن يمحشني. فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى. فالتفت رسول الله (ص) وقال: ((يا شيب ادن مني، اللهم اذهب عنه الشيطان))) قال: فرفعت إليه بصري ولهو أحب إلي من سمعي وبصري، فقال: ((يا شيب قاتل الكفار))) (¬2). فالبشرية لم تشهد أبدا إلا عند إمام المربين عليه الصلاة والسلام أن ينتقل هذا الثائر الموتور الذي يود أن يغتال رسول الله (ص) إلى جندي فدائي يفدى من يود اغتياله قبل لحظات. ... 4 - وعن عائشة قالت: خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى ¬

(¬1) عري: انكشف. (¬2) دلائل النبوة للبيهقي /5/ 145.

اليمن. فقال عمير بن وهب: يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر. فأمنه يا رسول الله صلى الله عليك. قال: ((هو آمن)). فقال: يا رسول الله. فأعطني آية يمعرف بها أمانك. فأعطاه رسول الله عمامته التي دخل فيها مكة. فخرج بها عمير حتى أدركه وهو يريد أن يركب البحر فقال: يا صفوان: فداك أبي وأمي! الله الله في نفسك أن تهلكها، هذا أمان من رسول الله (ص) وقد جئتك به. قال: ويلك أغرب عني فلا تكلمني، قال: فداك أبي وأمي! أفضل الناس، وأبر الناس وأحلم الناس وخير الناس! ابن عمك، عزه عزك، وشرفه شرفك وملكه ملكك. قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك وأكرم فرجع معه حتى وقف على رسول الله (ص). فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك أمنتني. قال: ((صدق)). قال: فاجعلني في الخيار شهرين. قال: ((أنت في الخيار أربعة أشهر))) (¬1). وعن سعيد بن المسيب أن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول الله (ص) يوم حنين وإنه لأبغض الخلق إلي. فما فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي) (¬2). وإذا كان المال هو الذي ينزع الغل ويمسح الحقد ويدفن الضلالة فليكن ولينتقل صفوان ابن أمية بذلك من أعنف المبغضين إلى أعنف المحبين. ... 5 - وقال سلمة عن محمد بن اسحاق عن عبد الله بن أبي بكر: إن رجلا ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام / 2/ 417 - 418. (¬2) مسلم /2313.

ممن شهد حنينا قال: والله إني لأسير إلى جنب رسول الله (ص) على ناقة لي وفي رجلي نعل غليظة إذ زحمت ناقتي ناقة رسول الله (ص) ويقع حرف نعلي على ساق رسول الله (ص) فأوجعه. فقرع قدمي بالسوط وقال: ((أوجعتني. فتأخر عني))) فانصرفت. فلما كان الغد إذا رسول الله (ص) يلتمسني. قال. قلت: هذا والله لما كنت أصبت من رجل رسول الله (ص) بالأمس. قال فجئته وأنا أتوقع. فقال: ((إنك أصبت رجلي بالأمس فأوجعتني. فقرعت قدمك بالسوط فدعوتك لأعوضك عنها))). فأعطاني ثمانين نعجة بالضربة التي ضربني) (¬1) وعلى القادة في الأرض أن يتعلموا من سيد الخلق كيف يعامل رعاع الناس، وكيف تذوب الفوارق بين الطبقات. من عقوبة عاجلة يتوقعها الإنسان الغمر الذي أوجع محمدا بقدمه. إلى تعويضه ثمانين نعجة على أثر سوط لسعه لتلك الزحمة. 6 - عن أنس بن مالك قال: قال ناس من الأنصار حين أفاء الله على رسوله ما أفاء من أموال هوازن فطفق النبي (ص) يعطي رجالا المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟. قال أنس: فحدث رسول الله بمقالتهم. فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة أدم ولم يدع معهم غيرهم. فلما اجتمعوا قام النبي (ص). فقال: ((ما حديث بلغني عنكم؟)) قال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا .. فقال رسول الله (ص): ((فإني لأعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 318/ 3.

وتذهبون بالنبي إلى رحالكم.))) (¬1). وفي رواية (فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكو شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار))). قال: فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا بالله ربا ورسوله قسما. ثم انصرف وتفرقوا) (¬2). ولابد أن يفقه الدعاة كيف يكون التعامل مع النفوس. فالمؤلفة قلوبهم يمضون بالغنائم ويحرم منها الأنصار، ولا تزال سيوفهم تقطر من دمائهم. ويمضي الأنصار برسول الله (ص) إلى المدينة. فكان هذا أعز عليهم من الدنيا كلها لو سيقت لهم. 7 - جابر وجمله: عن جابر قال: خرجت مع رسول الله (ص) إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف فلما قفل رسول الله (ص) جعلت الرفاق تمضي وجعلت أتخلف. حتى أدركني رسول الله (ص) فقال: ((ما لك يا جابر؟))) قلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا، قال: ((أنخه))) قال: فأنخته، وأناخ رسول الله (ص) ثم قال: ((اعطني هذه العصا من يدك، أو اقطع لي غصنا من شجرة)))، قال: ففعلت. قال: فأخذها رسول الله (ص) فنخسه بها نخسات. ثم قال: ((اركب))). فركبت. فخرج والذي بعثه بالحق، يواهق (¬3) ناقته ¬

(¬1) البخاري / ب. مناقب الأنصار ص 37/ ج 4/. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام 499/ 2 - 500 وسنده صحيح. (¬3) يواهق: يعارضها في المشي لسرعته.

مواهقة قال: وتحدثت مع رسول الله (ص) فقال لي: (أتبيعني جملك هذا يا جابر؟))) قلت: يا رسول الله بل أهبه لك، قال: ((لا. ولكن بعنيه))). قلت: فسمينه يا رسول الله، قال: ((قد أخذته بدرهم)). قلت: لا، إذن تغبنني يا رسول الله! قال: ((فبدرهمين)))، قلت: لا. قال: فلم يزل يرفع لي رسول الله. في ثمنه حتى بلغ الأوقية. قال: فقلت: أفقد رضيت يا رسول الله؟ قال: ((نعم))). قلت: فهو لك، قال: ((قد أخذته))). ثم قال: ((يا جابر، هل تزوجت بعد؟))) قلت: نعم يا رسول الله، قال: ((أثيبا أم بكرا؟))) قلت: لا، بل ثيبا، قال: ((أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك!)) قلت: يا رسول الله: إن أبي أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة جامعة، تجمع رؤوسهن، وتقوم عليهن، قال: ((أصبت إن شاء الله)). أما إنا لو جئنا صرارا (¬1) أمرنا بجزور فنحرت، وأقمنا عليها يومنا ذاك، وسعمت بنا فنفضت نمارقها.)) قلت: يا رسول الله، ما لنا من نمارق. قال: ((إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيسا)). قال: فلما جئنا صرارا أمر رسول الله بجزور فنحرت، وأقمنا عليها ذلك اليوم. فلما أمسى رسول الله (ص) دخل ودخلنا. فحدثت المرأة الحديث وما قال لي رسول الله (ص) قالت: فدونك فسمع وطاعة. فلما أصبحت أخذت برأس الجمل. فأقبلت به حتى أنخت على باب رسول الله (ص). ثم جلست في المسجد قريبا منه، وخرج رسول الله (ص) فرأى الجمل، فقال: ((ما ¬

(¬1) صرار: بئر على ثلاثة أميال من المدينة وقد رواه ابن اسحاق عن وهب بن كيسان (ثقة) عن جابر رضي الله عنه.

هذا؟))). قالوا: يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر، قال: ((فأين جابر))). فدعيت له. فقال: ((يابن أخي خذ برأس جملك فهو لك ..))) ودعا بلالا فقال له: ((اذهب بجابر فأعطه أوقية))). قال: فذهبت معه فأعطاني أوقية، وزادني شيئا يسيرا. قال: فوالله ما زال ينمى عندي، ويرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس بما أصيب لنا (¬1)). ويحسن أن لا ننسى أن عمر جابر في ذلك الوقت لم يكن يتجاوز السابعة عشر من عمره. والحبيب المصطفى يرعاه في تخلفه، ويتفقد أحوأله في زواجه، ويعينه بالنفقة، ويساره ويحدثه، ويحمل مؤونته. 8 - هذا الجيل الذي رباه النبي (ص) كيف كان في الشدائد والملمات؟ نسمع الجواب من عروة بن مسعود رضي الله عنه، الذي كان العدو الألد للمسلمين يقول: (.. ثم ان عروة جعل يرمق صحابة النبي (ص) بعينيه، قال: فوالله ما نخم نخامة إلا وقعت في يد رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يمدون إليه النظر تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي. والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا. والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف أحدهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه. وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده. وما ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 206 - 207.

يمدون إليه النظر تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.) (¬1). 9 - وعروة هذا الذي أذهله حب قوم محمد محمدا. ما باله يصبح مثلهم بعد إسلامه؟؟. (.. وكان من حديثهم أن رسول الله (ص) لما انصرف عنهم اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام. فقال له رسول الله (ص)، - كما يتحدث عن قومه. ((إنهم قاتلوك)). وعرف رسول الله (ص) أن فيهم نخوة الامتناع للذي كان منهم، فقال عروة: يا رسول الله: أنا أحب إليهم من أبكارهم. كان فيهم محببا مطاعا. فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف على علية له. وقد دعاهم إلي الإسلام، وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله .. فقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي. فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله (ص) قبل أن يرتحل عنكم. فادفنوني معهم، فدفنوه معهم. فزعموا أن رسول الله (ص) قال فيه: (إن مثله في قومه كمثل صاحب يسن في قومه.))) (¬2). 10 - وماذا عن معاملة زعيم النفاق عبد الله بن أبي وابنه المؤمن عبد الله بن عبد الله؟ ¬

(¬1) المغازي للزهري ص53 - 54 برواية عبد الرزاق عن معمر عنه. وقد رواها عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ورواية ابن الحكم ورجال الحديث رجال الصحيح. (¬2) البداية والنهاية لابن كثير 5/ 34 ثم قال: وهكذا ذكر موسى بن عقبة قصة عروة.

قال ابن اسحاق: حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة أن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول أتى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله! إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمر لي به فأنا أحمل إليك رأسه. فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني. وإني أخشى أن تأمر غيري فيقتله. فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار. فقال رسول الله (ص): ((بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا))). وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه يعنفونه. فقال رسول الله (ص) حين بلغه ذلك من شأنهم: ((كيف ترى يا عمر أما والله لو قتلته يوم قلت لي لأرعدت له أنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته))). فقال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله (ص) أعظم بركة من أمري) (¬1). فالتربية النبوية الحكيمة للرعيل المسلم الأول من خلال عظمة التعامل مع ابن أبي هي التي حولت رهط ابن أبي من أنوف ترعد وتثأر له إلى أنوف لو أمرها رسول الله (ص) بقتله لقتله. ... ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 293/ 2 وقد روى ابن إسحاق أحداث بني المصطلق عن عاصم بن عمرو وعبد الله بن أبي بكر ومحمد بن يحيى بن حيان وكلهم ثقات.

الفصل السادس والثلاثون وفاته صلى الله عليه وسلم. وبيعة الصديق

الفصل السادس والثلاثون وفاته صلى الله عليه وسلم. وبيعة الصديق توفي رسول الله (ص) بعد أن أتم الله نعمته وأكمل دينه. {.. اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ..} (¬1). عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدني ابن عباس. فقال له عبد الرحمن بن عوف إن لنا أبناء مثله. فقال: إنه من حيث تعلم. فسأل عمر ابن عباس عن هذه الآية: {إذا جاء نصر الله والفتح} فقال: أجل رسول الله (ص) أعلمه إياه. فقال: ما أعلم منها إلا ما تعلم). (¬2) فقد بلغ الأمانة، وأدى الرسالة. ونصح الأمة. وها نحن نشهد اللحظات الأخيرة من حياته (ص). (عن أسماء بنت عميس قالت: أول ما اشتكى رسول الله (ص) في بيت ميمونة. فاشتد مرضه حتى أغمي عليه. فتشاور نساؤه في لده (¬3) فلدوه. فلما أفاق قال: هذا فعل نساء جئن من هؤلاء، وأشار إلى أرض الحبشة. وكانت أسماء بنت عميس فيهن. قالوا: كنا نتهم بك ¬

(¬1) المائدة / 5. (¬2) البخاري 6 / ب. مرض النبي (ص) / ص 10. (¬3) لده ولدوه: سقوه الدواء وهو مغمى عليه.

ذات الجنب يا رسول الله. قال: إن ذلك لداء ما كان الله ليقذفني به. لا يبقين في البيت أحد إلا التد. إلا عم رسول الله (ص) - يعنى عباسا. قال: فلقد التدت ميمونة يومئذ وإنها لصائمة. لعزيمة رسول الله (ص)) (¬1). وعن عائشة قالت: أول ما اشتكى رسول الله (ص) في بيت ميمونة. فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذن له. فخرج ويد له على الفضل بن عباس ويد أخرى على يد رجل آخر، وهو يخط برجليه في الأرض). وكانت عائشة تحدث أن رسول الله (ص) لما دخل بيتي، واشتد به وجعه قال: هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن. لعلي أعهد إلى الناس. فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النبي (ص)، ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن. قالت: ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم) (¬2). فقال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))) وقال: ((لا تتخذوا قبري وثنا يعبد))) (¬3). وكان هذا يوم الأربعاء قبل الوفاة بخمسة أيام. وعرض نفسه للقصاص قائلا: من كنت جلدت له ظهرا ¬

(¬1) المغازي / 130 عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام رجاله رجال الصحيح. (¬2) فتح الباري 8/ 141 وفي رواية ابن أبي مليكة عن عائشة أن دخوله بيتها كان يوم الإثنين. ومات يوم الإثنين الذي يليه. (¬3) موطأ الإمام مالك ص 65.

فليستقدمنه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه))). ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها فقال رجل: إن لي عندك ثلاثة دراهم. فقال: ((اعطه يا فضل))) ثم أوصى بالأنصار قائلا: ((أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم)) وفي رواية قال: ((إن الناس يكثرون، وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام فمن ولي منكم أمرا يضر فيه أحدا أو ينفعه. فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم))) (¬1). ثم قال: إن عبدا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده). قال أبو سعيد الخدري: فبكى أبو بكر. قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا فعجبنا له، فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ. يخبر رسول الله (ص) عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا، وبين ما عنده وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. وكان أبو بكر أعلمنا) (¬2). ثم قال: إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا. ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب ¬

(¬1) صحيح البخاري ج 5/ ص 43. (¬2) متفق عليه، مشكاة المصابيح 2/ 546.

قبل أربعة أيام: يوم الخميس

أبي بكر) (¬1). قبل أربعة أيام: يوم الخميس: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (يوم الخميس وما يوم الخميس. اشتد برسول الله (ص) وجعه فقال: ((ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا)) فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي نزاع) فقالوا: ما شأنه، أهجر استفهموه. فذهبوا يردون عليه. فقال: ((دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه))). وأوصاهم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. وسكت عن الثالثة أو قال فنسيتها) (¬2) وفي رواية (لما حضر رسول الله الوفاة وفي البيت رجال فقال النبي (ص): هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. فقال بعضهم إن رسول الله (ص) قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. ومنهم من يقول غير ذلك. فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله (ص): قوموا). قال عبد الله: فكان يقول ابن عباس: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (ص) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم) (¬3). والنبي (ص) مع ما كان به من شدة المرض كان يصلي بالناس ¬

(¬1) متفق عليه: المصدر نفسه 2/ 548. (¬2) و (¬3) فتح الباري 8/ 132.

جميع صلواته حتى ذلك اليوم - يوم الخميس - وقد صلى بالناس ذلك اليوم صلاة المغرب فقرأ فيها بالمرسلات عرفا (¬1) ثم ما صلى بعدها حتى قبضه الله (¬2). وعند العشاء زاد ثقل المرض بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد. قالت عائشة: فقال النبي (ص) ((أصلى الناس؟))) قلنا: لا يا رسول الله وهم ينتظرونك. قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب)). ففعلنا فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق .. فقال: ((أصلى الناس؟)) ووقع ثانيا وثالثا ما وقع في المرة الأولى من الاغتسال ثم الاغماء حينما أرد أن ينوء. والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله (ص) لصلاة العشاء فأرسل رسول الله (ص) إلى إبي بكر ليصلي بالناس. وكان أبو بكر رجلا رقيقا فقال: يا عمر صل بالناس. فقال: أنت أحق بذلك) (¬3). وفي مسلم عن عائشة قالت: لما دخل رسول الله (ص) بيتى قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس))). قالت. قلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه، فلو أمرت غير أبي بكر. قالت: والله ما بي إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول من يقوم في مقام رسول الله (ص) قال: فراجعته مرتين أو ثلاثا. فقال: ¬

(¬1) مشكاة المصابيح متفق عليه 102/ 1. (¬2) فتح الباري 8/ 130. (¬3) الإمام أحمد / 2/ 52 و 6/ 251.

قبل ثلاثة أيام: يوم الجمعة

ليصل بالناس أبا بكر فإنكن صواحب يوسف) (¬1). قبل ثلاثة أيام: يوم الجمعة: (عن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن عباس أخبره أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من عند رسول الله (ص) في وجعه الذي توفي فيه. فقال الناس: يا أبا حسن. كيف أصبح رسول الله (ص). قال: أصبح بحمد الله بارئا. فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني والله لأرى رسول الله (ص) سوف يتوفى من وجعه هذا. إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت. اذهب بنا إلى رسول الله (ص) فلنسأله فيمن هذا الأمر. إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا. فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله (ص) فمنعناها لا يعطينا ها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله (ص) (¬2). (.. ثم إن رسول الله (ص) وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس. فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر. فأومأ إليه النبي (ص) أن لا يتأخر وقال لهما: اجلساني إلى جنبه. فأجلساه إلى جنب أبي بكر. وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي (ص). والناس يصلون بصلاة أبي بكر. والنبي (ص) قاعد) (¬3). ¬

(¬1) مسلم 313/ 1 / ح 94. (¬2) البخاري/ ب. مرض رسول الله / ج 6 ص 15. (¬3) مسلم / ك الصلاة: / ح 1/ ج 90/ ص132.

قبل يوم واحد

قبل يوم واحد: وقبل يوم الوقفة - يوم الأحد - أعتق النبي (ص) غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته. وفي الليل استعارت عائشة الزيت للمصباح من جارتها. وكانت درعه (ص) مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من الشعير) (¬1). آخر يوم من الحياة: عن أنس رضي الله عنه: (أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر من يوم الإثنين وأبو بكر يصلي لهم. لم يفجأهم إلا رسول الله (ص) قد كشف ستر عائشة. فنظر إليهم وهم صفوف في الصلاة، ثم تبسم يضحك. فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف. وظن أن رسول الله (ص) يريد أن يخرج إلى الصلاة. قال أنس: وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحا برسول الله (ص) فأشار إليهم رسول الله (ص) أن أتموا الصلاة. ثم دخل الحجرة وأرخى الستر) (¬2). قال (فتوفي رسول الله (ص) من يومه هذا) (¬3). و (دعا النبي (ص) فاطمة عليها السلام في شكواه الذي قبض فيه، فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارها بشيء فضحكت. فسألناها عن ذلك فقالت: سارني النبي (ص) أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت. ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت) (¬4). ¬

(¬1) الرحيق المختوم للمباركفوري / 526. (¬2) فتح الباري 143/ 8. (¬3) مسلم / ج 1 / ص 315/ ح 98. (¬4) فتح الباري 135/ 8.

اللحظات الأخيرة

ورأت فاطمة ما برسول الله (ص) من الكرب الشديد الذي يتغشاه فقالت: واكرب أباه فقال لها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم. ودعا الحسن والحسين فقبلهما ووصى بهما خيرا. ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن. (قال معمر: وسمعت قتادة يقول: آخر شيء تكلم به رسول الله (ص): ((اتقوا الله في النساء وما ملكت أيمانكم (¬1)))). اللحظات الأخيرة: تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله (ص) وهو صحيح يقول: إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده في الجنة، ثم يحيا، أو يخير. فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذي عائشة، غشي عليه. فلما أفاق: شخص بصره نحو سقف البيت. ثم قال: ((اللهم في الرفيق الأعلى))). فقلت: إذن لا يختارنا. فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح) (¬2). وقالت: إن من نعم الله على أن رسول الله (ص) توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري (¬3) ونحري، وأن الله جمع بين ريقه وريقي عند موته. دخل علي عبد الرحمن (ابن أبي بكر) وبيده السواك. وأنا مسندة رسول الله (ص). فرأيته ينظر إليه. وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه ¬

(¬1) مغازي الزهري / 134 البخاري: م 2/ ج 6/ ص 12. (¬2) البخاري: م ط - ج 6 - ص 12. (¬3) السحر: الرئة. والنحر: الصدر.

لك. فأشار برأسه أن نعم فتناولته فاشتد عليه. وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فلينته فأمره، وبين يديه ركوة أو علبة فيها ماء. فجعل يدخل يديه فيمسح بها وجهه يقول: ((لا إله إلا الله إن للموت سكرات.))). ثم نصب يده فجعل يقول: ((في الرفيق الأعلى))) حتى قبض ومالت يده) (¬1). وفي رواية: (فاستن بها كأحسن ما كان مستنا، ثم ناولنيها فسقطت يده - أو سقطت من يده فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة) (¬2). وعن أنس قال: لما ثقل النبي (ص) جعل يتغشاه. فقالت فاطمة عليها السلام: واكرب أبتاه قال: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم)) فلما مات قالت: يا أبتاه. أجاب ربا دعاه. يا أبتاه. من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلي جبريل ننعاه (¬3)). وقالت عائشة رضي الله عنها: مات رسول الله (ص) بين سحري ونحري، وفي دولتي، لم أظلم فيه أحدا. فمن سفهي وحداثة سني أن رسول الله (ص) قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت ألتدم (¬4) مع النساء وأضرب وجهي (¬5). وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها. قالت: فسجيته ثوبا. فجاء عمر ¬

(¬1) و (¬2) البخاري م 2/ ج 6/ ص 15 - 16. (¬3) المصدر نفسه / ص 18. (¬4) التدم: اضرب صدري. (¬5) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 655. ورجاله رجال الصحيح.

والمغيرة. فاستأذنا فأذنت لهما، وجذبت الحجاب. فنظر عمر إليه فقال: واغشيتاه، ثم قاما. فلما دنوا من الباب قال المغيرة: يا عمر مات! قال: كذبت بل أنت رجل تحوشك فتنة وإن رسول الله (ص) لا يموت حتى يفني الله المنافقين. ثم جاء أبو بكر فرفعت الحجاب) (¬1). وقالت: إن أبا بكر رضي الله عنه أقبل على فرس من مسكنه بالسنح. حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة. فتيمم رسول الله (ص) وهو مغشى بثوب حبرة. فكشف عن وجهه. ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين أبدا، أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد متها) (¬2). وعن ابن عباس قال: ثم (إن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر. فأبى عمر أن يجلس. فأقبل الناس إليه وتركوا عمر. فقال أبو بكر: أما بعد فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} إلى قوله {من الشاكرين} وقال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر. فتلقاها منه الناس كلهم فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها. فأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني قدماي وحتى أهويت إلى ¬

(¬1) فتح الباري 8/ 146 وقد أورده عن أحمد. (¬2) البخاري م 2 / ص 17.

الأرض حين سمعته تلاها أن النبي (ص) قد مات) (¬1). ... ونقف قليلا عند بعض المعاني التي يحسن أن نستشعرها ونتأسى بها في وفاة رسول الله (ص): 1 - حادث الوفاة نفسه. وأثره الوجداني والشعوري على نفوس المسلمين. وأن يغيب عن الدنيا. أكمل إنسان فيها وأعظم إنسان فيها. وما فقدته البشرية ورزئت به من غياب شخصه صلوات الله عليه عنها. هو أمر جلل لا يعدله مصيبة لقد غاب عن هذه الأرض. سيد ولد آدم، أعظم القادة وأعظم المربين وأعظم الدعاة. وأعظم الأخلاقيين وأعظم الحكام، وأعظم العلماء، وأعظم المفكرين، وأعظم المشرعين. وأعظم البشر. خاتم النبيين رسول رب العالمين. - وكانت هذه السنوت القليلة من تاريخ البشرية هي أعظم سنواتها وأبرك حياتها. وتكون أعظم جيل في هذا الوجود. خيركم قرني ثم الذين يلونهم. ولابد أن يستشعر الداعية المسلم دائما وأبدا هذا المعنى. وأن مصابه بالنبي محمد (ص). لا يعدله مصاب. - وبذلك تبقي جذوة الحب متقدة، وشمعة الإيمان متقدة. ولذة الإيمان وحلاوته تعطر وجوده وحياته. فيبقى قلب الداعية المؤمن بهذا المدد العاطفي. كما وصف الله تعالى قلوب المخلصين من عباده: فيه مثل السراج يزهر. 2 - والخطبة التي خطبها عليه الصلاة والسلام. ومثلت آخر لقاء بينه وبين ¬

(¬1) البخاري م 2 / ج 17/ 6.

أمته نلاحظ أنها تمثل أهم الأمور التي تقلق بال النبي (ص) بعد وفاته. (أ) فقد جاء ب لا إله إلا الله. وقد يئس الشيطان إن يعبد في هذه الأرض. وقد دخلت الوثنية إلى الشرائع السابقة من اليهود والنصارى من خلال حبهم لأنبيائهم {وقالت اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح بن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} (¬1). وأضخم فتنة يخشاها عليه الصلاة والسلام على أمته هي أن تنصرف هذه الأمة عن عبادة الله إلى عبادته. ابتداء من تحويل قبره صنما للعبادة. ((لا تتخذوا قبري وثنا يعبد))). ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))). وحمى الله الأمة المسلمة من هذه الفتنة. فهو يريد لأمته أولا وأخيرا سلامة هذه العقيدة. وقد تمثل التطبيق العملي لهذا الفهم العظيم. في كلمة الصديق بعد وفاة النبي (ص): (من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله. فإن الله حي لا يموت). {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} (¬2). (ب) ويريد عليه الصلاة والسلام أن يلقى ربه خاليا من الذنب. وقد غفر الله تعالى له ما تقدم من ذنبه. فدعا أمته إلى القصاص منه ((من ¬

(¬1) التوبة / 30 - 31. (¬2) آل عمران /144.

كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه ومن كنت أخذت له مالا. فهذا مالي فليستقد منه))). فهل وعت البشرية حاكما. وراعيا في رعيته مثل محمد (ص)؟ وهل يوجد أمثال هذه النماذج إلا ممن تخرج من مدرسة النبوة؟. أوليس الدعاة إلى الله. وورثة محمد (ص). هم المؤهلون في هذا الجيل ليعيدوا هذه الدروس من جديد؟. (ج) وأوصى بالأنصار حزبه، وكما سماهم ((كرشي وعيبتي)). وشهد لهم أن أدوا ما عليهم بلا ثمن. وبقي الذي لهم. وكانوا الصورة المثلى في هذا الوجود لمن يعطي ولا يأخذ، لمن يضحي لا يطلب الثمن إلا من رب العالمين لم ينس عليه الصلاة والسلام. أعلى نماذج الوفاء والتضحية في البشرية أبا بكر رضي الله عنه. والذي شهد له بأنه ما من أحد أمن عليه بماله وأهله من أبي بكر. (و) ثم وجه الأنظار إلى أنه ماض إلى ربه وأنه مغادر هذه الأمة ((وأن عبدا خيره الله تعالى أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء. وبين ما عنده فاختار ماعنده)). وأحس الصديق رضي الله عنه لسع النار. فهو إشارة واضحة إلى قرب اصطفاء رسول الله (ص) لجوار ربه. فراح يبكي ويقول: نفديك بآبائنا وأمهاتنا. ويا لها من لحظات وداع مؤثرة تفتت الأكباد، وتمزق القلوب؟. 3 - ثم كانت قضية الكتاب. واختلف الصحابة رضوان الله عليهم فيه. وحرموه. وما زال الخلاف في أمة محمد إلى اليوم ((لا تختلفوا بعده أبدا))). لقد كان تفكيره في أمته. في سلامة عقيدتها وسلامة

جهاز رسول الله (ص) ودفنه

صفها هي شغله الشاغل. ولابد أن يبقى عند الدعاة في الأرض. وعند العاملين لإقامة شريعة الله في الأرض. لابد أن تبقى هاتان القضيتان شغلهم الشاغل وهي سلامة العقيدة وسلامة الصف ووحدته. 4 - ولعل آخر نظرة ألقاها رسول الله (ص) قبل أجله بساعات، وفي فجر الإثنين الذي توفي فيه لعل هذه النظرة الأخيرة والوداع الأخير لأمته أثلجت صدره. فها هي أمته كلها صف واحد وصفوف متراصة وراء قائدها وإمامها أبي بكر الصديق. فابتسم ضاحكا. وحيا صحبه وجنده. وكانت آخر قرة عين له لأمته من بعده. - لقد ودع دنياه عليه الصلاة والسلام. وهو على صدر عائشة أحب النساء إليه. واختار الرفيق الأعلى وهو بين سحرها ونحرها. بعد أن اطمأن إلى الأمة وأن أباها هو الذي يصلي بالمسلمين. ويأبى الله تعالى والمؤمنون غيره، ويأبى الله والمؤمنون غير أبي بكر. - وهكذا تسارع اللحظات. وما يطلع فجر اليوم الثاني بعد وفاته. إلا والمسلمون إمامهم أبو بكر خليفة لهم بعد رسول الله (ص) ولما يوار جثمان رسول الله (ص) بعد. جهاز رسول الله (ص) ودفنه قال ابن اسحاق: فلما بويع أبو بكر رضي الله عنه. أقبل الناس على جهاز رسول الله (ص) يوم الثلاثاء. فحدثني عبد الله بن أبي بكر وحسين بن عبد الله وغيرهما من أصحابنا: أن علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، والفضل بن عباس، وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد، وشقران مولى رسول الله (ص) هم الذين ولو غسله. وأن أوس

تكفين رسول الله

بن خولي أحد بني عوف بن الخزرج قال لعلي بن أبي طالب: أنشدك الله يا علي وحظنا من رسول الله (ص). وكان أوس من أصحاب رسول الله ومن أهل بدر، قال: ادخل. فدخل فجلس وحضر غسل رسول الله (ص). فأسنده علي بن أبي طالب إلى صدره، وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه معه، وكان أسامة بن زيد وشقران مولاه هما اللذان يصبان الماء عليه. وعلي يغسله قد أسنده إلى صدره وعليه قميصه يدلكه به من ورائه لا يفضي بيده إلى رسول الله (ص)، وعلي يقول: بأبي أنت وأمي! ما أطيبك حيا وميتا. ولم ير من رسول الله (ص) شيء مما يرى من الميت. تكفين رسول الله: قال ابن اسحاق: فلما فرغ من غسل رسول الله (ص) كفن في ثلاثة أثواب، ثوبين صحاريين وبرد حبرة أدرج فيها إدراجا. حفر القبر: قال ابن اسحاق: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله (ص). وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة. كان أبو طلحة هو الذي يحفر لأهل المدينة. فكان يلحد. فدعا العباس رجلين. فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة بن الجراح وقال للآخر اذهب إلى أبي طلحة. اللهم خر لرسولك. فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة. فلحد لرسول الله. الصلاة على رسول الله ثم دفنه: فلما فرغ من جهاز رسول الله يوم الثلاثاء وضع في سريره في بيته وقد

كان المسلمون اختلفوا في دفنه. فقال قائل: ندفنه في مسجده، وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله (ص) يقول: ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض. فرفع فراش رسول الله (ص) الذي توفي عليه فحفر له تحته ثم دخل الناس على رسول الله (ص) يصلون عليه أرسالا، دخل الرجال. حتى إذا فرغوا، أدخل الصبيان. ولم يؤم الناس على رسول الله (ص) أحد. وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله (ص): علي بن أبي طالب والفضل بن عباس وقثم بن عباس وشقران. وقد قال أوس بن خولي لعلي بن أبي طالب: يا علي أنشدك الله وحظنا من رسول الله (ص)، فقال له: انزل فنزل مع القوم. وقد كان مولاه شقران حين وضع رسول الله (ص) في حفرته وبني عليه قد أخذ قطيفة، كان رسول الله (ص) يلبسها ويفترشها. فدفنها في القبر وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك) (¬1). ... ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 662/ 2 - 664.

الفصل السابع والثلاثون بيعة الصديق وحروب الردة

الفصل السابع والثلاثون بيعة الصديق وحروب الردة عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي (ص) أن رسول الله (ص) مات وأبو بكر بالسنح. فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله (ص)، وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم. فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله (ص) فقبله. قال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا. والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا. ثم خرج فقال: أيها الحالف على رسلك (يقصد عمر). فلما تكلم أبو بكر جلس عمر. فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقال {إنك ميت وإنهم ميتون} وقال: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}. قال: فنشح الناس يبكون. قال: واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا: منا أمير ومنكم أمير. فذهب إليهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح. فذهب عمر يتكلم. فأسكته أبو بكر وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أن هيأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبا بكر. ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس. فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء فقال حباب بن المنذر لا والله لا نفعل. منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: لا. ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء

هم أوسط العرب دارا وأعربهم أحسابا. فبايعوا عمر أو أبا عبيدة فقال عمر: بل نبايعك فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله (ص) فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس. فقال قائل: قتلتم سعد بن عبادة فقال عمر قتله الله) (¬1). وفي رواية لابن عباس قال: (... فقدمنا المدينة عقب ذي الحجة. فلما كان يوم الجمعة عجلنا الرواح حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر فجلست حوله تمس ركبتي ركبته. فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد: ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف. فأنكر علي وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله. فجلس عمر على المنبر. فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر الله لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي. فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته. ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي ..). وبعد أن تكلم رضي الله عنه من آية الرجم والرغبة عن الآباء قال: (.. ألا ثم إن رسول الله (ص) قال: ((لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم، وقولوا عبد الله ورسوله))) ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول: والله لو مات عمر بايعت فلانا. فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت. ألا وإنها كانت كذلك. ولكن الله وقى شرها. وليس منكم من تقطع ¬

(¬1) البخاري /م 2/ ج 5/ ب. فضائل أصحاب النبي/ ص 8.

له الاعناق مثل أبي بكر من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو والذي بايعه تغرة (¬1) أن يقتلا. وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه (ص) إلا أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة. وخالف عنا علي والزبير ومن معهما. واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر. فقلت: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار. فانطلقنا نريدهم. فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان. فذكرا ما تمالى (¬2) عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم اقضوا أمركم فقلت: والله لنأتينهم. فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟. فقالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت ما له؟ قالوا يوعك. فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثني على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام. وأنتم معشر المهاجرين رهط. وقد دفت (¬3) دافة من قومكم. فإذا هم يريدون أن تختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا (¬4) من الأمر. فلما سكت أردت أن أتكلم، مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أذاري (¬5) منه بعض الحد. فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على ¬

(¬1) تغرة: على وزن تحلة عرض نفسه للهلاك. (¬2) تمالي: تمالأ. (¬3) دفت دافة القوم يسيرون جماعة سيرا ليس بالشديد. (¬4) يحضنونا: يخرجونا. (¬5) آذاري: اداري.

رسلك. فكرهت أن أغضبه. فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر. ووالله ما من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت. فقال: ما ذكرتم فيه من خير فأنتم له أهل. ولم يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم. فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا. فلم أكره مما قال غيرها. كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر. اللهم إلا أن تسول إلي نفسي عند الموت شيئا لا أجده الآن. فقال قائل من الأنصار. أنا جذيلها (¬1) المحكك وعذيقها المرجب (¬2) منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى فرقت من الاختلاف. فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر. فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة. فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة فقلت: قتل الله سعد بن عبادة. قال عمر: وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر. خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا فإما بايعناهم على ما لا نرضى وإما نخالفهم فيكون فساد. فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا) (¬3). ... ¬

(¬1) أنا جذينها المحكك: ضرب مثلا للرجل يستشفى برأيه. (¬2) وعذيقها المرجب: ضرب به المثل في الرجل الشريف الذي يعظمه قومه. (¬3) البخاري: م 3/ ج/ 8/ باب: رجم الحبلى من الزنى/ ص 209 - 211.

الانقلاب على العقب

الانقلاب على العقب: توفي رسول الله (ص). وانقلب كثير من الأمة على عقبه. فمنهم من ارتد عن الدين، ومنهم من منع الزكاة. وكما تقول عائشة رضوان الله عليها: (لما توفي رسول الله (ص) ارتدت العرب، واشرأبت (¬1) اليهودية والنصرانية، ونجم (¬2) النفاق وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية. لفقد نبيهم (ص)، حتى جمعهم الله على أبي بكر (¬3). قال محمد بن اسحاق: ارتدت العرب عند وفاة رسول الله (ص) ما خلا أهل المسجدين مكة والمدينة. وارتدت أسد وغطفان وعليهم طليحة بن خويلد الأسدي الكاهن. وارتدت كندة ومن يليها وعليها الأشعث بن قيس الكندي، وارتدت مذحج ومن يليها وعليها الأسود بن كعب العنسي الكاهن. وارتدت ربيعة مع المعرور بن النعمان بن المنذر، وكانت حنيفة مقيمة على أمرها مع مسيلمة بن حبيب الكذاب. وارتدت سليم مع الفجاءة واسمه أنسى بن عبد ياليل. وارتدت بنو تميم مع سجاح الكاهنة.) (¬4). إنفاذ جيش أسامة: قال الحافظ أبو بكر البيهقي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: والله الذي ¬

(¬1) اشرأبت: طمعت. (¬2) نجم: ظهر. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام /2/ 665. (¬4) البداية والنهاية / 6/ 352.

لا إله إلا هو لولا أبو بكر استخلف ما عبد الله ثم قال الثانية ثم قال الثالثة. فقيل له: مه يا أبا هريرة؟ فقال: إن رسول الله (ص) وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام. فلما نزل بذي خشب قبض رسول الله (ص)، وارتدت العرب حول المدينة. فاجتمع إليه أصحاب رسول الله فقالوا: يا أبا بكر، رد هؤلاء، توجه هؤلاء نحو الروم. وقد ارتدت العرب حول المدينة؟ فقال: والله الذي لا إله إلا غيره لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله (ص) ما رددت جيشا وجهه رسول الله، ولا حللت لواء عقده رسول الله، فوجه أسامة. فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء عندهم. ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم. فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم، ورجعو سالمين. فثبتوا على الإسلام) (¬1). وروى سيف بن عمر .. أن أبا بكر لما صمم على تجهيز جيش أسامة قال بعض الأنصار لعمر: قل له فليؤمر علينا غير أسامة فذكر له عمر ذلك، فيقال: إنه أخذ بلحيته وقال: ثكلتك أمك يابن الخطاب. أؤمر غير أمير رسول الله (ص)؟ ثم نهض بنفسه إلى الجرف فاستعرض جيش أسامة، وأمرهم بالمسير، وسار معهم ماشيا، وأسامة راكبا، وعبد الرحمن بن عوف يقود براحلة الصديق. فقال أسامة: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: والله لست بنازل ولست براكب، ثم استطلق الصديق من أسامة عمر بن الخطاب - وكان مكتتبا في جيشه - فأطلقه له، فلهذا كان عمر لا يلقاه بعد ذلك إلا قال: السلام عليك أيها الأمير) (¬2). ¬

(¬1) البداية والنهاية /344/ 6. (¬2) المصدر السابق لابن كثير /6/ 34.

اليوم الأول من وفاة رسول الله (ص) تنعقد فيه إمامة الصديق رضي الله عنه. واليوم الثاني يتم فيه تجهيز رسول الله (ص) ودفنه. واليوم الثالث: تموج العرب بالردة. وتثار قضية أسامة. ويأتي دور القيادة الفذة في هذه اللحظات العصيبة. لقد بقيت المدينة ومكة والطائف على العهد. أما الأعراب من كل القبائل. فقد ماجوا بالردة ومنع الزكاة. (وقال الناس لأبي بكر: إن هؤلاء جل المسلمين والعرب على ما ترى قد انتقضت بك، وليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين. فقال: والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله (ص). ولو لم يبق في القرى غيرى لانفذته) (¬1). وكانت الثمرة العظيمة للاتباع. أن رجفت كل قبائل الشام خوفا من جند محمد. الذين يبعثون جيشهم لملاقاة الروم، وهو الذي جعل الروم في ذعر. فما هذا الجيش الذي واجههم. بعد وفاة النبي (ص) إلا دليل على تمكنهم وقوتهم وقالوا: ما خرج هؤلاء القوم إلا وبهم منعة شديدة، فقاموا أربعين يوما، ويقال سبعين يوما ثم أتوا سالمين غانمين. خاصة. وكانت وصية النبي (ص) وهو على فراش الموت أنفذوا بعث أسامة .. فلم يخطر ببال خليفة رسول الله (ص) أن يتوان بالوصية لحظة واحدة. ومضى يشيع الأمير ماشيا، وهو الخليفة. ولا يأخذ عمر من جيشه إلا بإذنه. فيكون النصر الأول في الخطوة الأولى ليشهد عظمة الصديق في سداد رأيه. وصلابة موقفه وحزمه. ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 34/ 6.

مانعو الزكاة

مانعو الزكاة: قال القاسم بن محمد: اجتمعت أسد وغطفان وطيء على طليحة الأسدي. وبعثوا وفودا إلى المدينة. فنزلوا على وجوه الناس. فأنزلوهم إلى العباس. فحملوا بهم إلى أبي بكر. على أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة فعزم الله لأبي بكر على الحق. وقال: لو منعوني عقالا لجاهدتهم. فردهم فرجعوا إلى عشائرهم فأخبروهم بقلة أهل المدينة، وطمعوهم فيها. فجعل أبو بكر الحرس على انقاب المدينة. وألزم أهل المدينة بحضور المسجد. وقال: إن الأرض كافرة. وقد رأى وفدهم منكم قلة. وإنكم لا تدرون أليلا يأتون أم نهارا؟ وأدناهم منكم على بريد. وقد كان القوم يؤملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم. فاستعدوا وأعدوا. فما لبثوا ثلاثا حتى طرقوا المدينة غارة مع الليل. وخلفهم بذي حسى حتى ليكونوا ردءا لهم. وأرسل الحرس إلى أبي بكر يخبرونه بالغارة. فبعث إليهم أن الزموا مكانكم) .. (وبات أبو بكر رضي الله عنه قائما ليله يعبىء الناس ثم خرج على تعبئة في آخر الليل .. فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد. فما سمعوا للمسلمين حسا ولا همسا حتى وضعوا فيهم السيوف، فما طلعت الشمس حتى ولوهم الأدبار .. وغلبوهم على عامة ظهرهم. وقتل جبال. واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة. وكان أول الفتح، وذل بها المشركون، وعز بها المسلمون .. ورجع أبو بكر إلى المدينة مؤيدا منصورا، سالما غانما. وطرقت المدينة في الليل صدقات عدي بن حاتم وصفوان والزبرقان وذلك على رأس ستين ليلة من متوفى رسول الله (ص) (¬1). ¬

(¬1) البداية والنهاية / 6/ 352 - 353.

يقول أبو هريرة رضي الله عنه: لما توفي رسول الله (ص)، وكان أبو بكر رضي الله عنه، وكفر من كفر من العرب فقال عمر رضي الله عنه. كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله (ص). أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله. فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله (ص) لقاتلتهم على منعها. قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه حتى عرفت أنه الحق.) (¬1). لقد عامل الصديق رضي الله عنه مانع الزكاة كالمرتد تماما عن الإسلام. وذلك في وجوب قتاله. فإنكار شريعة من شرائع الإسلام هي كفر به وإنكار لجميع شرائعه. فكل هذا من عند الله. وإنكار فريضة أو أمر ونهي جاء في كتاب الله وسنة رسوله. مما يعلم بالدين بالضرورة هو خروج عن الإسلام. وكان فقه أبي بكر رضي الله عنه في عدم التفريق بين الصلاة والزكاة. وأنه سيقاتل مانع الزكاة لو منع عناقا كان يؤديها لرسول الله (ص). هو الذي شرح الله له صدر عمر، وصدر المسلمين معه. فمضى الجيل الرباني الأول. جيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. الجيل الذي رباه رسول الله (ص) على عينه ورعاه بفلذة قلبه ونياط كبده مضى هذا الجيل حريصا على الأمانة. حفيظا على العهد. لا يبخل بمال ولا دم. ومضت كتائب الإسلام على رأسها أحد عشر أميرا. تلاحق المرتدين ومانعي الزكاة في أوكارهم، وحصونهم، وتزلزل بهم ¬

(¬1) البخاري / م 1 / ج 2 / ب. وجوب الزكاة / ص 131.

الكتاب الذي وجهه الصديق إلى هؤلاء المردة المرتدين

حصونهم، وتدك عروشهم، وتفل جيوشهم .. حتى عادوا إلى الإسلام. أو لقوا مصرعهم كافرين. وكان الكتاب الذي وجهه الصديق إلى هؤلاء المردة المرتدين. هو الذي يمثل أصالة الجيل الرباني النبوي. وحفاظه على الإسلام عقيدته وشريعته. يكفينا أن ندعه ينطق بنفسه. ليكون نبراسا هاديا للدعاة في الأرض. وهم يعملون لمواجهة الردة اليوم: بسم الله الرحمن الرحيم: من أبي بكر خليفة رسول الله (ص) إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة أقام على إسلامه أو رجع عنه. سلام على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى. فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأن محمدا عبده ورسوله، نقر بما جاء به، ونكفر من أبى ذلك ونجاهده. أما بعد: فإن الله أرسل محمدا بالحق من عنده إلى خلقه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين. فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب رسول الله (ص) بإذنه من أدبر عنه. حتى صار إلى الإسلام طوعا وكرها. ثم توفى الله رسوله، وقد نفذ لأمر الله. ونصح لأمته، وقضي الذي عليه. وكان الله قد بين له ذلك. ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل فقال: {إنك ميت وإنهم ميتون (¬1)} وقال: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفائن مت فهم الخالدون (¬2)} وقال للمؤمنين {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ¬

(¬1) الزمر / 30. (¬2) الأنبياء / 34.

أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}. (¬1) فمن كان إنما يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان إنما يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله له بالمرصاد حي لا يموت. ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره، منتقم من عدوه بحزبه. وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم، وما جاءكم به من نبيكم محمد (ص). وأن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من لم يعافه مبتلى، وكل من لم يعنه مخذول، ومن هداه غير الله كان ضالا، قال الله تعالى: {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} (¬2) لم يقبل له في الدنيا عمل حتى يقر به. ولم يقبل له في الآخرة صرف ولا عدل. وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه، بعد أن أقر بالإسلام، وعمل به، اغترارا بالله، وجهلا بأمره، وإجابة للشيطان، قال الله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن فقسق عن أمر ريه افتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا} (¬3) وقال: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} (¬4) وإني بعثت إليكم فلانا في جيش من المهاجرين ¬

(¬1) آل عمران / 144. (¬2) الكهف / 17. (¬3) الكهف / 50. (¬4) فاطر / 6.

والأنصار، والتابعين بإحسان، وأمرته أن لا يقبل من أحد إلا الإيمان بالله، ولا يقتله حتى يدعوه إلى الله عز وجل، فإن أجاب وأقر وعمل صالحا قبل منه، وأعانه عليه، وإن أبى حاربه عليه حتى يفيء إلى أمر الله، ثم لا يبقى على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار، وأن يقتلهم كل قتلة، وأن يسبي الذراري والنساء ولا يقبل من أحد غير الإسلام. فمن اتبعه فهو خير له. ومن تركه فلن يعجز الله وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم. والداعية الأذان. فإذا أذن المسلمون فأذنوا وكفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا فسلوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم. وإن أقروا قبل منهم وحملهم على ما ينبغي لهم.) (¬1). ... ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 356/ 6 - 357 برواية سيف.

ثبت المراجع والمصادر

ثبت المراجع والمصادر 1 - القرآن الكريم. 2 - إمتاع الأسماع، للمقريزي، الجزء الأول، صححه محمود أحمد شاكر، الطبعة الثانية. نشر بإشراف عبد الله إبراهيم الأنصاري - قطر. 3 - اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، تحقيق محمد حامد الفقي. مطبعة السنة المحمدية، الطبعة الثانية 1369 هـ - 1960م. 4 - الاكتفاء في مغازي المصطفى، للكلاعي، تحقيق مصطفى عبد الواحد، نشر مكتبة الخانجي، ط 1387 هـ - 1967 م. 5 - البداية والنهاية، لابن كثير، مطبعة الفجالة الجديدة، مراجعة محمد عبد العزيز النجار. 6 - التاريخ الكبير، للإمام البخاري، طبع تحت مراقبة الدكتور محمد عبد المعين خان. 7 - تفسير ابن كثير، دار الفكر، تحقيق لجنة من العلماء. الطبعة الأولى 1385 هـ - 1966 م (في6 أجزاء مفهرسة). 8 - تيسير المنفعة بكتابي مفتاح كنوز السنة والمعجم المفهرس، لمحمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1404 هـ - 1986 م. 9 - الجامع الصحيح، (سنن الترمذي)، تحقيق وشرح أحمد شاكر (في 5 أجزاء). مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الأولى 1356 هـ -1937 م. 10 - حدائق الأنوار ومطالع الأسرار، لابن الديبع الشيباني، الطبعة الثانية، إشراف وتحقيق عبد الله إبراهيم الأنصاري - قطر. 11 - دلائل النبوة، للبيهقي، تحقيق وتوثيق د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1405 هـ (في 7 مجلدات).

12 - الخصائص الكبرى، للسيوطي، تحقيق د. محمد خليل هراس، الناشر دار الكتب الحديثة، القاهرة، مطبعة المدني. 13 - الرحيق المختوم، لصفي الرحمن المباركفوري، توزيع رابطة العالم الإسلامي، الطبعة الأولى 1400 هـ. 14 - الروض الأنف، للسهيلي، تعليق طه عبد الرؤوف سعد، ط 1391 هـ -1971 م، ناشر مكتبة الكليات الأزهرية. 15 - زاد المعاد، لابن القيم الجوزية، مراجعة طه عبد الرؤوف طه، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط 1390 هـ - 1970 م. 16 - سقوط الجولان، خليل مصطفى، دار النصر للطباعة الإسلامية، بدون تاريخ. 17 - سنن النسائي، للإمام النسائي، ط مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الأولى، 1383 هـ - 1964 م. 18 - سنن ابن ماجة، للإمام ابن ماجة، دار إحياء الكتب العربية، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط 1375 هـ - 1952 م. 19 - سنن أبي داود، للإمام أبي داود السجستاني، مراجعة محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر للطباعة والنشر، توزيع مكتبة الرياض الحديثة (أربع أجزاء في مجلدين). 20 - السيرة الحلبية، لعلي بن برهان الدين الحلبي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الأولى، 1384 هـ - 1964 م. 21 - السيرة النبوية، للدكتور السباعي، المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة، 1397 هـ - 1977 م. 22 - السيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وزملائه، الطبعة الثانية (في مجلدين)، 1375 هـ - 1955 م. 23 - السيرة النبوية، لأبي الحسن الندوي، منشورات المكتبة العصرية، بإشراف عبد الله إبراهيم الأنصاري - قطر. 24 - سبل الهدى والرشاد، لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة، الطبعة الأولى، 1394 هـ - 1974 م.

25 - الشمائل، للترمذي، إخراج وتعليق محمد عفيف الزعبي، الطبعة الأولى، 1403 هـ - 1983 م. 26 - شرح السنة، للبغوي، تحقيق زهير الشاويش وشعيب الأرناؤوط، توزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية - الرياض. 27 - شرح المعلقات السبع، للزوزني، ط المكتبة الفيصلية. 28 - صحيح البخاري، للإمام البخاري، كتاب الشعب، مطابع دار الشعب (في 9 أجزاء في 3 مجلدات). 29 - صحيح الجامع الصغير، للألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1388 هـ - 1968 م. 30 - صحيح مسلم، للإمام مسلم بن الحجاج، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، الطبعة الأولى، 1374 هـ - 1955 م. 31 - الطبقات الكبرى، لابن سعد، كتاب الشعب، ط دار التحرير، الطبعة الأولى، 1388 هـ - 1968 م. 32 - فقه السيرة، للأستاذ محمد الغزالي، طبع على نفقة أمير قطر، حقق أحاديثه الألباني. 33 - فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، دمشق، الطبعة الخامسة، 1392 هـ - 1972 م. 34 - فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، المكتبة السلفية (في 14 مجلد)، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب. 35 - في ظلال القرآن، لسيد قطب، ط دار الشروق، الطبعة الشرعية السابعة، 1398 هـ. 36 - القاموس المحيط، دار الجيل، الفيروزأبادي، المؤسسة العربية للطباعة والنشر. 37 - كتاب المغازي، للواقدي، الدكتور مارسدن جونس، مطبعة جامعة أكسفورد، 1966 م.

38 - مختصر صحيح مسلم، للمنذري، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1397 هـ - 1977 م. 39 - مجمع الزوائد، للهيثمي، الناشر دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية، 1967 م. 40 - المجتمع المدني، د. أكرم ضياء العمري، الطبعة الأولى، 1403 هـ - 1983 م، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 41 - مسند الإمام أحمد، للإمام أحمد بن حنبل، طبعة المكتب الإسلامي، الناشر دار الفكر، الطبعة الثانية، 1968 م. 42 - شرح المواهب للزرقاني، ولم يذكر اسم المطبعة ولا السنة التي طبع فيها. 43 - المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، الدكتور فبنسنك، تأليف لفيف من المستشرقين، مطبعة بريل في مدينة ليدن. 44 - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي. 45 - مختصر سيرة الرسول، لمحمد بن عبد الوهاب، مطبعة السنة المحمدية، تحقيق محمد حامد الفقي، طبعة 1375 هـ - 1956 م. 46 - مفتاح كنوز السنة، د. فنسنك، تعريب محمد فؤاد عبد الباقي، ناشر سهيل أكاديمي، لاهور، طبعة 1391 هـ - 1971 م. 47 - المغازي النبوية، للزهري، تحقيق د. سهيل زكار، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1400 هـ - 1980 م. 48 - مغازي رسول الله (ص)، لعروة بن الزبير، تحقيق د. محمد مصطفى الأعظمي، من منشورات مكتب التربية العربي لدول الخليح، الطبعة الأولى، 1401 هـ.

المحتوى

المحتوى الموضوع ............................................................................. الصفحة 1 - بين يدي الباحث ................................................................ 7 2 - مباحث تمهيدية ................................................................. 11 3 - الفصل الأول: معنى السيرة النبوية وأهميتها ...................................... 13 4 - الفصل الثاني: النبوة ............................................................ 30 5 - الفصل الثالث: لمحة عن أصل العرب وعقيدتهم .................................. 37 6 - الفصل الرابع: نبذة عن حياة العرب .............................................. 45 7 - محمد (ص) قبل البعثة .......................................................... 65 8 - الفصل الخامس: اختياره من بيت شرف وحسب .................................. 67 9 - الفصل السادس: يتم النبي (ص) ................................................ 77 10 - الفصل السابع: عمله بالرعي والتجارة ........................................... 88 11 - الفصل الثامن: حفظ الله تعالى لنبيه قبل البعثة ................................. 95 12 - الفصل التاسع: مشاركته في أحداث قومه ....................................... 100 13 - الفصل العاشر: زواجه من خديجة .............................................. 114 14 - العهد المكي للدعوة ............................................................. 123 15 - الفصل الحادي عشر: الوحي ................................................... 125 16 - الفصل الثاني عشر: مراحل الدعوة .............................................. 141 17 - الفصل الثالث عشر: من أسلوب المخالفين في مواجهة الدعوة .................... 149 18 - الفصل الرابع عشر: سنة الله تعالى في الابتلاء .................................. 187

19 - الفصل الخامس عشر: الاستفادة من الجاهلية ................................ 204 20 - الفصل السادس عشر: وطن الداعية حيث مصلحة الدعوة .................... 223 أولا: الهجرة إلى الحبشة ............................................................ 224 ثانيا: عرض رسول الله نفسه على ثقيف ........................................... 252 ثالثا: عرضه نفسه على القبائل .................................................... 266 21 - الفصل السابع عشر: الإسراء والمعراج ودلالتهما ............................. 286 22 - الفصل الثامن عشر: الهجرة إلى المدينة ..................................... 308 أولا: أسبابها ....................................................................... 308 ثانيا: التخطيط لها وأهميتها في تاريخ الدعوة ........................................ 324 ثالثا: دور الشباب فيها ............................................................. 344 23 - العهد المدني للدعوة ......................................................... 353 24 - الفصل التاسع عشر: تنظيم المجتمع المدني ................................. 355 25 - الفصل العشرون: الإذن في الجهاد .......................................... 381 26 - الفصل الحادي والعشرون: أهم السرايا والغزوات .............................. 399 27 - الفصل الثاني والعشرون: غزوة بدر، أهميتها، وآثارها ......................... 411 28 - الفصل الثالث والعشرون: غزوة أحد ......................................... 446 29 - الفصل الرابع والعشرون: غزوة الخندق ...................................... 483 30 - الفصل الخامس والعشرون: غزوة الحديبية .................................. 507 31 - الفصل السادس والعشرون: غزوة خيبر ..................................... 524 32 - الفصل السابع والعشرون: غزوة مؤتة؟ ...................................... 536 33 - الفصل الثامن والعشرون: فتح مكة ......................................... 549

34 - الفصل التاسع والعشرون: غزوة حنين ..................................... 570 35 - الفصل الثلاثون: غزوة تبوك .............................................. 584 36 - الفصل الحادي والثلاثون: مواقف المناففين من الدعوة ...................... 599 37 - الفصل الثاني والثلاثون: مواقف اليهود من الدعاة .......................... 622 38 - الفصل الثالث والثلاثون: أزواج النبي (ص) ............................... 643 39 - خاتمة .................................................................... 677 40 - الفصل الرابع والثلاثون: عالمية الدعوة: أدلتها ومظاهرها .................... 679 41 - الفصل الخامس والثلاثون: أخلاقه (ص) ................................... 694 42 - الفصل السادس والثلاثون: وفاته (ص) ..................................... 717 43 - الفصل السابع والثلاثون: بيعة الصديق وحروب الردة ....................... 733 44 - ثبت المراجع والمصادر .................................................... 745 45 - المحتوى .................................................................. 749 تم الكتاب بعونه تعالى

مطابع جامعة أم القرى

§1/1