فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري
سعيد بن وهف القحطاني
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] (¬1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] (¬2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] (¬3). أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. لا شك أن الله تعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه وحده لا شريك له، كما قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] (¬4). ولما كانت العبادة لا يمكن أن تُعرف أحكامها على التفصيل، أرسل الله الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنزل عليهم الكتب؛ لبيان الأمر الذي خلِقَ من أجله الإِنس والجن؛ ولإيضاحه وتفصيله لهم حتى يعبدوا الله على بصيرة، فقاموا بواجبهم على الوجه الأكمل، عليهم الصلاة والسلام، قال الله- سبحانه وتعالى-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] (¬5). ثم ختم الله تعالى الرسل ¬
أولا التعريفات والحدود
بأفضلهم وإمامهم وسيدهم نبينا محمد بن عبد الله، عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده، ودعا إلى الله على بصيرة سرّا وجهرا، ليلا ونهارا. عملا بقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] (¬1). وهذه طريقته ومسلكه وسنته، يدعو إلى الله على بصيرة ويقين، وبرهان عقلي وشرعي (¬2) فصلوات الله وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار. ورغبة في السير على طريق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله تعالى على بصيرة، والاهتداء بهديه، فقد شرع قسم الدعوة والاحتساب بكلية الدعوة والإِعلام في إعداد موسوعة دعوية لدراسة الأحاديث النبوية دراسة دعوية متكاملة تعتمد صحيح الإِمام البخاري أساسا ومنطلقا لها، وقد أحببت المشاركة في هذه الموسوعة المباركة، وكان نصيبي بفضل الله تعالى دراسة: " فقه الدعوة " في صحيح الإمام البخاري من أول كتاب الوصايا إلى نهاية كتاب الجزية والموادعة. وأسأل الله التوفيق والتسديد والإعانة. أما التعريفات والحدود، وأهمية الموضوع، وتقسيم الدراسة فعلى النحو الآتي: * أولا: التعريفات والحدود فقه الدعوة: جملة تتكون من جزئين: الفقه، والدعوة. أ- الفقه لغة: العلم بالشيء والفهم له، والفطنة، وغلب على علم الدين لسيادته، وشرفه، وفضله على سائر أنواع العلم (¬3). والفقه في الأصل: الفهم، يقال: أُوتي فلان فقها في الدين: أي فهما فيه (¬4). ¬
قال الله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] (¬1). وقال تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91] (¬2). {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] (¬3). {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] (¬4). {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] (¬5). ويقال: فَقِهَ الرجل يفقَهُ فِقْها: إذا عَلِمَ وفَهِمَ، وفَقُهَ: إذا صَارَ فَقيِها عالما (¬6) ويقال: فَقِه الأمرَ، فَقَها وفِقْها: أحسن إدراكه (¬7) والجمع فقهاء، وفَقهَهُ، كعلمه، فَهِمَهُ، وفقَهَه تَفقيها: علمه (¬8). ب- الفقه اصطلاحا: له عدة تعريفات يفسر بعضها بعضَا، منها: * العلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفرعية، بالنظر والاستدلال (¬9). ج- الدعوة لغة: الطلب، يقال: دعا بالشيء طلب إحضاره، ودعا إلى الشيء: حث على قصده، ودعوت زيدا: ناديته وطلبتُ إقباله، ودعا فلانا: صاح به وناداه، ودعاه إلى الأمير: ساقه إليه، ويقال: دعاه إلى الصلاة، ودعاه إلى القتال، ودعاه إلى المذهب: حثه على اعتقاده وساقه إليه، وتداعى القوم: دعا بعضهم بعضا حتى يجتمعوا (¬10). د- الدعوة اصطلاحا: ورد لها عدة تعريفات يكمل بعضها بعضا، منها: ¬
ثانيا أهمية الموضوع
1 - " الدعوة إلى الله عز وجل هي: الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والدعوة إلى الإِيمان: بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإِيمان بالقدر خيره وشره، والدعوة إلى أن يعبد العبد ربه كأنه يراه " (¬1). 2 - " العلم الذي به تعرف كافة المحاولات الفنية المتعددة الرامية إلى تبليغ الناس الإسلام بما حوى: من عقيدة، وشريعة، وأخلاق " (¬2). هـ- " فقه الدعوة ": هو استنباط، وفهم تاريخ الدعوة، وأسبابها، وأركانها، وأساليبها، ووسائلها، وأهدافها، ونتائجها: استنباطا وفهما على ضوء الكتاب، والسنة، وفهم السلف الصالح، يُمَكِّن الدعاة إلى الله تعالى من عرضها بأحسن طريقة، وأكثر ملاءمة لمن توجه إليهم الدعوة في مختلف بيئاتهم، ومتباين ألسنتهم، ولغاتهم، ومتعدد أجناسهم (¬3) عملا بقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] (¬4). وأما التعريف بصحيح البخاري وترجمته فيأتي في المدخل إن شاء الله سبحانه وتعالى (¬5). * ثانيا: أهمية الموضوع 1 - إن ربط الدعوة بالكتاب والسنة من أهم المهمات وأعظم القربات؛ لأن الله أمر بالرد إليهما عند التنازع والاختلاف، ولولا أن في كتاب الله تعالى وسنة ¬
رسوله صلى الله عليه وسلم، فصل النزاع لما أمر الله بالرد إليهما (¬1). قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] (¬2). وقال تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] (¬3). وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] (¬4). وقال سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] (¬5). وهذا كله يؤكد أهمية فقه الدعوة من الكتاب والسنة، والعناية بهما: فهما، وحفظا، وعملا، عقيدة، وأخلاقا، وتعليما للناس ودعوة، فهما المنبعان الصافيان، من أخذ بهما سعد وفاز في الدنيا والآخرة، ومن أعرض عنهما وعن هديهما خاب وخسر، وضل مسعاه وتشتت شمله؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله [وسنة نبيه]» (¬6). ولا شك أن معرفة فقه الدعوة في السنة المطهرة من دين الله (¬7) الحق الذي أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9] (¬8). 2 - إن فقه الدعوة إلى الله تعالى فقه مبنيّ على فهم السنة المطهرة، - وذلك باستنباط أسس الدعوة وركائزها التي تقوم عليها- من أهم المهمات؛ لأن ¬
ذلك يدخل في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] (¬1). فالدعوة يجب أن تكون على بصيرة، ويقين وبرهان عقلي وشرعي (¬2) ولا تكون كذلك إلا إذا كانت على علم وبيان من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والداعية لا يكون على بصيرة إلا إذا دعا إلى الله على بصيرة في ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه، وذلك بالعلم لا بالجهل. الأمر الثاني: أن يكون على بصيرة في حال المدعو، فلا بد من معرفة حال المدعو؛ ليدعوه بالطريقة والكيفية التي تناسبه، وتكون أكثر فائدة له، وتأثيرا فيه. الأمر الثالث: أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة (¬3). 3 - إن التفرق الذي يقع بين الدعاة ما وقع إلا لعدم فقه الدعوة من الكتاب والسنة وفق فهم السلف الصالح، فمن هنا تأتي أهمية العناية بفقه الدعوة في السنة النبوية. 4 - إن أصح الكتب بعد القرآن الكريم العزيز، الصحيحان: صحيح الإمام البخاري، وصحيح الإمام مسلم - رحمهما الله- (¬4). ومن هذين الكتابين اخترت المشاركة في فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري رحمه الله؛ لأن (كتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة؛ وقد صح أن مسلما كان ممن يستفيد من البخاري ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث، قال الإمام النووي - رحمه الله: " وهذا الذي ذكرناه من ترجيح كتاب البخاري هو المذهب المختار الذي قاله الجماهير وأهل الإتقان والحذق والغوص على أسرار الحديث " (¬5). ¬
ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله عن ترجيح صحيح البخاري - رحمه الله على صحيح مسلم - رحمه الله: " والبخاري أرجح؛ لأنه اشترط في إخراجه الحديث في كتابه هذا: أن يكون الراوي قد عاصر شيخه وثبت عنده سماعه منه، ولم يشترط مسلم الثاني، بل اكتفى بمجرد المعاصرة. ومن هاهنا ينفصل النزاع في ترجيح تصحيح البخاري على مسلم كما هو قول الجمهور، خلافا لأبي علي النيسابوري شيخ الحاكم، وطائفة من علماء المغرب " (¬1). ومن هنا أيضا يكتسب هذا الموضوع أهمية أخرى، وهو ارتباطه بأصح كتب السنة، وأكثرها فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة. وإدراكا لهذه الأهمية فقد شرع قسم الدعوة والاحتساب في الكلية في إعداد موسوعة دعوية متكاملة تعتمد هذا الكتاب أساسا ومنطلقا لها، وكان القسم المخصص لي من الصحيح، من أول كتاب الوصايا إلى نهاية كتاب الجزية والموادعة، ومجملها (192) حديثا (¬2). 5 - تبرز أهمية دراستي لهذه الأحاديث النبوية دراسة دعوية في الأمور الآتية: أ- اختصاص معظم أحاديث الدراسة في موضوع مهم من موضوعات الدعوة إلى الله تعالى، وهو الجهاد في سبيل الله تعالى، ومعلوم أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وكتاب فرض الخمس، والجزية والموادعة، وقبل ذلك كله الوصايا. ب- اشتملت أحاديث كتب الدراسة على فوائد دعوية مهمة: منها ما يتعلق بالداعية إلى الله، ومنها ما يتعلق بالمدعو، ومنها ما يتعلق بموضوع الدعوة، ومنها ما يتعلق بوسائل الدعوة وأساليبها، ومثال ذلك حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه «أنه بينما هو يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقبلا من حنين علقت برسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة، فخطفت رداءه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه ¬
ثالثا أهداف الدراسة
نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا» (¬1). فقد اشتمل هذا الحديث على أركان الدعوة كلها: فموضوع الدعوة فيه: دعوة الأمة إلى مكارم الأخلاق، وأصول الحِكَم، وفيه صفات الداعية: من الحلم، والكرم، والصبر، والصدق، والشجاعة، وفيه أدب المدعو وأنه ينبغي له أن يلتزم الأدب مع الداعي، وفيه من وسائل الدعوة القدوة الحسنة، وفيه أسلوب الرفق واللين، فقد اشتمل الحديث على جميع أركان الدعوة، وهكذا في أحاديث الموضوع الأخرى. * ثالثا: أهداف الدراسة 1 - تقديم دراسة تأصيلية في علم فقه الدعوة، وحديثها ومادتها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أمرنا الله بالاقتداء به، والذي قال عز وجل في شأنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] (¬2) وذلك بدراسة أصح كتاب عنه دراسة دعوية؛ ليكون في متناول طلاب العلم والدعاة إلى الله سبحانه وتعالى. 2 - كشف الفوائد والمعارف والفقه الدعوي في الجزء المحدد للباحث من صحيح الإمام البخاري. 3 - تأصيل مبدأ الرجوع إلى النصوص الشرعية من الكتاب والسنة الصحيحة وفهم السلف الصالح عند كل قضية، وبخاصة في قضايا الدعوة التي تكاثر فيها رجوع الناس إلى آراءٍ فَرَّقَتْهُمْ شيعا. 4 - توفير وإيجاد المراجع المعتمدة على الأحاديث الصحيحة للدعاة وطلبة العلم وذلك بدراسة الأحاديث دراسة دعوية، واستنباط الفوائد في فقه الدعوة من أصح الأحاديث. ¬
رابعا أسباب اختيار الموضوع
* رابعا: أسباب اختيار الموضوع هذا وقد دعاني إلى اختيار هذا الموضوع، عدة أسباب، منها: 1 - فقه الدعوة إلى الله تعالى في صحيح الإمام البخاري بحاجة إلى من يبرزه في صورة ميسرة؛ ليستفيد منه الدعاة إلى الله تعالى؛ لأنه لم يحظ بعدُ بمؤلَّفٍ مستقل شامل يعالج الموضوع من جميع جوانبه، في دراسة علمية دقيقة متكاملة، فالموضوع لم يكتب فيه- حسب علمي- ما يفي بالغرض المنشود، وهو جدير بالبحث والعناية. 2 - الرغبة في الارتباط بكتب السنة النبوية المشرفة، وخصوصا منها كتاب الجامع الصحيح للإمام البخاري -رحمه الله - وذلك للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك عبادة لله تعالى وهداية منه، وتنفيذ لأمره، يقول تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] (¬1). 3 - كثرة الفوائد والمعارف الظاهرة والغامضة في صحيح الإمام البخاري رحمه الله كما ذكر ذلك العلماء (¬2). 4 - الإسهام والرغبة في المشاركة في خدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودراستها دراسة دعوية؛ لتفيدني، وتفيد القائمين على الدعوة إلى الله تعالى في العصر الحاضر- إن شاء الله تعالى-. 5 - تقديم علاج لما قد يحدث بين الدعاة من خلاف وتنازع في بعض قضايا الدعوة ومناهجها. . وذلك من خلال الردِّ إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أحد الحَكَميْنِ اللذين أُمِرْنا بالرد إليهما عند التنازع والاختلاف، وهما كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول العلامة ابن سعدي رحمه الله: " وهذا هو الواجب عند التنازع والاختلاف، أن يُرد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولولا أن في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فصل النزاع، لما أمر الله بالرد إليهما (¬3) إذ ¬
خامسا موضوع الدراسة
يقول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] (¬1). ولهذه الأهمية البالغة؛ ولهذه الأسباب وغيرها أحببت أن يكون موضوع رسالتي في درجة الدكتوراه- إن شاء الله تعالى- في " فقه الدعوة إلى الله " في صحيح الإمام البخاري رحمه الله من أول كتاب الوصايا إلى نهاية كتاب الجزية والموادعة، والله أسأل التوفيق والسداد. * خامسا: موضوع الدراسة لا شك أن الدعوة قديمة قدم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ولكن التخصص في دراسة أصول الدعوة علم ناشئ، وما زال في مرحلة التأصيل، وأعظم كتاب بعد كتاب الله للتأصيل والتوثيق، هو صحيح الإمام البخاري رحمه الله لمنزلته العظيمة بين العلماء والدعاة، وهذا الكتاب ذكر فيه مؤلفه بعض ما صح عنده من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدرج فيه شيئا من فقهه من خلال عناوين كتبه وأبوابه. ويستفاد من دراسة أحاديث هذا الكتاب دراسة دعوية، التأصيل والتوثيق واستنباط الفقه والأحكام والقواعد الدعوية، وعلاج الخلاف والنزاع الذي قد يقع بين بعض الدعاة إلى الله تعالى، مما يساعد على نجاح الدعوة، وتحقيق النتائج المرجوة منها، إن شاء الله تعالى. * سادسا: تساؤلات الدراسة س 1 - ما الفقه الدعوي في جهود البخاري رحمه الله في الصحيح؟ س 2 - ما الفقه الدعوي في كتاب الوصايا؟ س 3 - ما الفقه الدعوي في كتاب الجهاد والسير؟ س 4 - ما الفقه الدعوي في كتاب فرض الخمس؟ ¬
سابعا منهج الدراسة
س 5 - ما الفقه الدعوي في كتاب الجزية والموادعة؟ س 6 - ما المنهج الدعوي المستخلص من الدراسة المتعلق بالداعية؟ س 7 - ما المنهج الدعوي المستخلص من الدراسة المتعلق بالمدعو؟ س 8 - ما المنهج الدعوي المستخلص من الدراسة المتعلق بموضوع الدعوة؟ س 9 - ما المنهج الدعوي المستخلص من الدراسة المتعلق بوسائل الدعوة وأساليبها؟ * سابعا: منهج الدراسة تقوم هذه الدراسة على المنهج الاستدلالي الاستنباطي الذي عرف بأنه عملية عقلية منطقية ينتقل فيها الباحث من قضية واحدة، أو عدة قضايا إلى قضية أخرى، تستخلص منها مباشرة دون اللجوء إلى تجربة (¬1). وقد راعيت الأمور الآتية: 1 - عزوت الآيات القرآنية إلى سورها، وذكرت اسم السورة، ورقم الآية في الهامش. 2 - خرجت الأحاديث في شرح الفوائد من المصادر الأصلية، واقتصرت في حديث الدراسة على تخريج أطرافه في صحيح البخاري وتخريجه من صحيح مسلم إذا كان متفقا عليه. أما الزيادات فاكتفيت بتخريجها مع أصل الحديث، وأشرت إلى رقم أطرافها عند إيرادها. 3 - حرصت على الرجوع إلى المصادر الأصلية مباشرة، ورجعت إلى أكثر من مصدر في المسألة الواحدة ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وقد أشير عند الضرورة إلى بعض المراجع المتأخرة للاستئناس لا للاعتماد، وذلك قليل جدا. 4 - حاولت الاقتصار في الاستشهاد في شرح الفوائد على الحديث الصحيح أو الحسن. 5 - أشرت إلى من صحح الحديث أو حسنه من العلماء إذا كان في غير الصحيحين. ¬
6 - حرصت على كتابة الآيات بالرسم العثماني من مصحف المدينة النبوية مشكلة. 7 - ضبطت أحاديث الدراسة بالشكل الكامل. 8 - ذكرت كل طرف فيه زيادة دعوية مقتصرا على الزيادة التي فيها فائدة دعوية مستقلة على قدر الإمكان. 9 - ذكرت الفوائد الدعوية في كل حديث إجمالا، ثم تفصيلا. 10 - استخرجت الدروس والفوائد الدعوية التي اشتمل عليها كل حديث، مرتبة على حسب ورودها في الحديث، واعتنيت عناية خاصة بما يتعلق: بالداعي، والمدعو، وموضوع الدعوة، وأساليبها، ووسائلها، وتاريخ الدعوة، وميادينها، وخصائصها، ودلائل النبوة، وآداب الجدل، مع المحافظة على الصبغة الدعوية في ذلك كله، ما استطعت إلى ذلك سبيلا. 11 - إذا وردت الفائدة الدعوية لأول مرة حاولت إيضاحها وإذا جاءت الفائدة نفسها في حديث لاحق ذكرتها بإيجاز وأحلت إلى موضعها السابق. 12 - رقمت أحاديث الدراسة أرقاما متسلسلة، وجعلت رقم الحديث في صحيح البخاري على يسار الرقم المسلسل بين معكوفين، ثم كتبت ذلك في أعلا كل صفحة بخط صغير؛ ليسهل الرجوع إلى كل حديث عند الإحالة إليه في أسرع وقت ممكن. 13 - حرصت على أن تكون إحالاتي في أصل هذا البحث إلى أرقام أحاديث موضوع الدراسة مع الإشارة إلى رقم الدرس المحال إليه، ما استطعت إلى ذلك سبيلا، إلا في الإحالة إلى التخريج أو شرح الغريب فقد أضفت إلى ذلك رقم الصفحة. 14 - رتبت المصادر في الهامش على حسب تقدم تاريخ وفاة المؤلف إلا إذا نقلت من المصدر قدمته على غيره، وإذا شرحت غريب الحديث قدمت كتب اللغة وكتب تفسير غريب الحديث على غيرها. 15 - وضعت فهارس تفصيلية في آخر الآية.
ثامنا ضوابط الدراسة
* ثامنا: ضوابط الدراسة التزمت في أثناء الدراسة بمراعاة الضوابط الآتية: 1 - اكتفيت بترجمة الصحابي راوي الحديث إلا إذا توقف فهم الحديث على ذكر ترجمة العَلَمِ في متن الحديث أو سنده، وركزت على الجانب الدعوي في سيرهم. 2 - شرحت المفردات الغريبة في الحديث في المتن، وبينت في الهامش - أثناء دراسة الفوائد الدعوية- الكلمات التي تحتاج إلى بيان. 3 - درست نص كل حديث دراسة دعوية وفق معنى فقه الدعوة المذكور في مقدمة هذا البحث. 4 - درست جميع أطراف الحديث الواردة في الصحيح عند أول ذكر له. 5 - وثقتُ ما توصلت إليه من دلالات دعوية وبنيت ذلك على شروح أهل العلم المعتبرين (¬1). وقد بذلت قصارى جهدي، ليخرج هذا البحث على الوجه المطلوب، فما كان من صواب وسداد فمن الواحد المنان، وما كان من خطأ أو تقصير فمني ومن الشيطان، والله بريء منه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأستغفر الله من ذنبي كله: هزلي، وجدي، وخطئي، وعمدي، وكل ذلك عندي، إنه سميع مجيب. ¬
تقسيم الدراسة
تقسيم الدراسة * المقدمة: وتتضمن الآتي: * التعريفات. * مدخل الموضوع وأهميته. * أهداف الدراسة. * أسباب اختيارها. * تحديد موضوع الدراسة وتساؤلاتها. * المنهج المستخدم في الدراسة. * ضوابط الدراسة. * مدخل الدراسة: (ويتضمن ترجمة موجزة للإمام البخاري رحمه الله، والتعريف بصحيحه، وكتب موضوع الدراسة في الصحيح، وأبوابها وأحاديثها وجهود البخاري في ذلك). * القسم الأول: الدراسة الدعوية للأحاديث الواردة في موضوع الدراسة: * الفصل الأول: كتاب الوصايا. * الفصل الثاني: كتاب الجهاد والسير. * الفصل الثالث: كتاب فرض الخمس. * الفصل الرابع: كتاب الجزية والموادعة. * القسم الثاني: المنهج الدعوي المستخلص من الدراسة: * الفصل الأول: المنهج الدعوي المتعلق بالداعية. * الفصل الثاني: المنهج الدعوي المتعلق بالمدعو. * الفصل الثالث: المنهج الدعوي المتعلق بموضوع الدعوة. * الفصل الرابع: المنهج الدعوي المتعلق بالوسائل والأساليب. * الخاتمة. * المراجع. * الفهارس.
الشكر والتقدير
الشكر والتقدير الشكر والحمد والثناء الحسن لله الكريم الوهاب، الذي أسبغ علي النعمَ الظاهرةَ والباطنةَ، التي لا تُعدُ ولَا تُحصى، ووفَق عبده الفقيرَ إليه وحده للكتابة في هذا الموضوع، وهو سبحانه وتعالى، وتقدس، وتبارك، أهلُ الثناءِ والمجدِ، أحق ما قال العبد، وكلنا له عبد، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، وفي مقامي هذا أمتثل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول: «لا يشكر اللهَ من لا يشكر الناس» (¬1). فأتقدم بالشكر والتقدير لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، على ما تقوم به من جهود عظيمة كبيرة واسعة جدا في خدمة الإسلام والمسلمين، فجزى الله القائمين عليها السابقين واللاحقين خير الجزاء، وضاعف لهم الأجر والمثوبة. كما أشكر جميع المسؤولين السابقين واللاحقين في كلية الدعوة والإعلام على ما بذلوه من جهود طيبة في خدمة العلم وطلابه، وتخريج أفواج الدعاة إلى الله تعالى، فالله أسأل أن يجزيهم عني خير ما جزى أستاذا عن تلميذه، وأن يمدهم بعونه وتوفيقه خدمة للإسلام والمسلمين. كما أتقدم بالشكر والدعاء لكل من وقف معي بجهده وعلمه، وساعدني في هذا البحث: سواء كان مشرفا سابقا أو لاحقا، أو أستاذا، أو شيخا فاضلا، أو زميلا ناصحا، أو مناقشا نافعا، أو مصححا متعاونا، وهم كثير جدا يزيدون على ثلاثين لا يتسع المقام ¬
لذكر أسمائهم، منهم: جمع من أساتذة كلية الدعوة، وجمع من الزملاء في الموسوعة الحديثية في الكلية، والزملاء في وزارة الشؤون الإسلامية، وجمع من المشايخ، وطلاب العلم، وأمتثل فيهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «من صُنعَ إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء» (¬1). فالله أسأل أن يجزيهم جميعا عني خير الجزاء، وأن يرفع منازلهم في الدنيا والآخرة، ويضاعف لهم الأجر ويجعل ما قدموه في هذه الرسالة من جهود مشكورة في موازين حسناتهم، يوم لا ينفع مال ولا بنون، وأن يعوضهم عن ذكر أسمائهم الفردوس الأعلى من الجنة، بعد أعمار طويلة معمورة بطاعة الله تعالى، وحسن العمل، وأن يحسن لي ولهم العاقبة في الدنيا والآخرة، فإنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو مجيب الدعوات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، نبينا وقدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ¬
مدخل الدراسة
مدخل الدراسة * أولا: ترجمة موجزة للإمام البخاري رحمه الله 1 - نسبه: هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَة (¬1) البخاري رحمه الله. 2 - مولده، ونشأته، وثناء العلماء عليه: ولد أبو عبد الله في شوال بعد صلاة الجمعة (¬2) لثلاث عشرة ليلة خلت منه من سنة أربع وتسعين ومائة، ببخارى. ومات أبوه وهو صغير، فنشأ في حجر أمه، وألهمه الله حفظ الحديث وهو في المكتب، وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشرة سنة حتى قيل: إنه يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردا، وحج وعمره ثماني عشرة سنة وأقام بمكة يطلب بها الحديث (¬3). قال الحافظ ابن كثير عن البخاري - رحمهما الله-: " إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه " (¬4). هذا وقد أثنى عليه علماء زمانه من شيوخه وأقرانه: فقال الإمام أحمد رحمه الله: " ما أخرجت خراسان مثله " (¬5). وقال عبد الله الدارمي - رحمه الله: " رأيت العلماء بالحرمين والعراقين فما رأيت فيهم أجمع من محمد بن إسماعيل البخاري " (¬6). وروى الإمام الذهبي رحمه الله بسنده إلى محمد بن أبي حاتم، قال: " قلت لأبي عبد الله: كيف كان بدء أمرك؟ قال: أُلهمتُ حفظ الحديث وأنا في الكتَّاب. ¬
فقلت: كم كان سنك؟ قال: عشر سنين، أو أقل. ثم خرجت من الكتَّاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى الداخليِّ وغيره. فقال يوما فيما كان يقرأ للناس: سفيان، عن أبي الزبير، عن إبراهيم، فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل: فدخل فنظر فيه، ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟ فقلت: هو الزبير بن عدي، عن إبراهيم، فأخذ القلم مني، وأحكم كتابه، وقال: صدقت. فقيل للبخاري: ابن كم كنت حين رددت عليه؟ قال: ابن إحدى عشرة سنة. فلما طعنت في ستِّ عشرة سنة. كنت قد حفظت كتب ابن المبارك، ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء، يعني أصحاب الرأي، ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلما حججت، رجع أخي بها. وتخلفت في طلب الحديث " (¬1). 3 - شيوخه: سمع الإمام البخاري من شيوخ لا يتسع المقام لذكرهم لكثرتهم، ويدل على كثرتهم ما قاله عنه ورَّاقه محمد بن أبي حاتم قال: (سمعته قبل موته بشهر يقول: " كتبتُ عن ألف وثمانين رجلا ليس فيهم إلا صاحب حديث، كانوا يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ") (¬2). وشيوخه ينحصرون في خمس طبقات: الطبقة الأولى: من حدَّثه عن التابعين مثل: محمد بن عبد الله الأنصاري حدَّثه عن حميد، والطبقة الثانية: من كان في عصر هؤلاء لكن لم يسمع من ثقات التابعين كآدم بن أبي إياس، الطبقة الثالثة: وهم من لم يلقَ التابعين بل أخذ عن كبار تبع الأتباع، كسليمان بن حرب، وهذه الطبقة قد شاركه مسلم في الأخذ عنهم. الطبقة الرابعة: رفقاؤه في الطلب ومن سمع قبله قليلا: كمحمد بن يحيى الذهلي؛ وإنما يخرج عن هذه الطبقة ما فاته عن مشايخه، أو ما لم يجده عند غيرهم. الطبقة الخامسة: قوم في عداد طلبته في السن والإِسناد، سمع منهم للفائدة: كعبد الله بن حماد الآملي، روى عنهم أشياء يسيرة؛ ولهذا قال رحمه الله: " لا يكون الرجل عالما حتى ¬
يحدث عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه " (¬1). 4 - رحلته وطلبه للعلم: قال رحمه الله: " حججت ورجع أخي بأمي وتخلَّفت في طلب الحديث، فلما طعنت في ثمان عشرة جعلت أصنف في قضايا الصحابة والتابعين، وأقاويلهم " ثم ارتحل بعد أن رجع من مكة إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنته الرحلة إليها (¬2). قال محمد بن أبي حاتم الورَّاق: إنه إذا كان مع الإمام البخاري في سفر كان يراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة في كل ذلك يأخذ القداحة فيوري نارا، ويسرج ثم يخرج أحاديث فيعلم عليها (¬3). 5 - حفظه وذكاؤه: قال جعفر بن محمد القطان: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: " كتبت عن ألف شيخ وأكثر، عن كل واحد منهم عشرة آلاف وأكثر، ما عندي حديثٌ إلا أذكر إسناده " (¬4) وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة: " ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل " (¬5). وقال محمد بن حمدويه: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: " أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح " (¬6). وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: " وقد ذكروا أنه كان ينظر في الكتاب مرة واحدة فيحفظه من نظرة واحدة، والأخبار عنه في ذلك كثيرة " (¬7). وقال أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ: " سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري، قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، ¬
فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها، وأسانيدها، وجعلوا متن هذا لإسناد هذا، وإسناد هذا لِمَتنِ هذا، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث، ليلقوها على البخاري في المجلس، فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم، فسأل البخاري عن حديث من عشرته، فقال: لا أعرفه. وسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، وكذلك حتى فرغ من عشرته. فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون: الرجل فهم. ومن كان لا يدري قضى على البخاري بالعجز، ثم انتدب آخر، ففعل كما فعل الأول. والبخاري يقول: لا أعرفه. ثم الثالث إلى تمام العشرة أنفس، وهو لا يزيدهم على قوله: لا أعرفه. فلما علم أنهم قد فرغوا، التفت إلى الأول منهم، فقال: أما حديثك الأول فكذا، والثاني كذا، والثالث كذا إلى العشرة، فردَّ كل متن إلى إسناده. وفعل بالآخرين مثل ذلك، فأقر له الناس بالحفظ. فكان ابن صاعد إذا ذكره يقول: الكبش النَّطَّاح (¬1). وقال عبد الله بن سعيد بن جعفر: " سمعت العلماء بالبصرة يقولون: ما في الدنيا مثل محمد بن إسماعيل في المعرفة والصلاح " (¬2). وقال مسلم بن الحجاج للبخاري: " لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك " (¬3). وقال ورّاق البخاري: " كان يركب إلى الرمي كثيرا، فما أعلم أني رأيته في طول ما صحبته أخطأ سهمه الهدف إلا مرتين، بل كان يصيب الهدف في كل ذلك، ولا يُسْبَق " (¬4). 6 - عبادته وخشيته لله تعالى: قال مسبِّح بن سعيد: " كان محمد بن إسماعيل يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليالٍ بختمة " (¬5). ¬
وقال مقسم بن سعد: " كان محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله إذا كان أول ليلة من شهر رمضان يجتمع إليه أصحابه، فيصلي بهم، ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختم القرآن، وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند السحر في كل ثلاث ليالٍ، وكان يختم في النهار في كل يوم ختمة، ويكون ختمه عند الإِفطار كل ليلة، ويقول: عند كل ختمة دعوة مستجابة " (¬1). وقال محمد بن أبي حاتم الوراق: ". . كان أبو عبد الله يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة، ويوتر منها بواحدة " (¬2) وكان رحمه الله يصلي ذات يوم أو ذات ليلة فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى صلاته قال: انظروا أي شيء آذاني في صلاتي، فنظروا فإذا الزنبور قد ورّمه في سبعة عشر موضعا، ولم يقطع صلاته (¬3) وقد قيل: إن هذه الصلاة كانت التطوع بعد صلاة الظهر، وقيل له بعد أن فرغ من صلاته: كيف لم تخرج من الصلاة أول ما لسعك؟ قال: " كنت في سورةٍ فأحببت أن أتمها " (¬4). ومن شعره رحمه الله تعالى: اغتنم في الفراغ فضل ركوع ... فعسى أن يكون موتك بغتة كم صحيح رأيت من غير سقم ... ذهبت نفسه الصحيحة فلتة (¬5) وقد قيل: إنه لما ألف الصحيح كان يصلي ركعتين عند كل ترجمة (¬6) يعني يستخير الله في وضعها وعدمه، وقال علي بن محمد بن منصور: سمعت أبي يقول: " كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري فرفع إنسان من لحيته قذاة وطرحها إلى الأرض. قال فرأيت محمد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى الناس، فلما غفل الناس رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها ¬
وطرحها على الأرض، فكأنه صان المسجد عما تصان عنه لحيته " (¬1). 7 - زهده: قال سليم بن مجاهد: " ما رأيت بعيني منذ ستين سنة أفقه ولا أورع، ولا أزهد في الدنيا من محمد بن إسماعيل " (¬2). وقال الحسين بن محمد السمرقندي: " كان محمد بن إسماعيل مخصوصا بثلاث خصال، مع ما كان فيه من الخصال المحمودة: كان قليل الكلام، وكان لا يطمع فيما عند الناس، وكان لا يشتغل بأمور الناس، كلُّ شُغلِهِ كان في العلم " (¬3) وذكر محمد بن العباس الفربري أن بعض أصحاب البخاري ضَيَّفه في بستانٍ له فلما جلسوا أعجب صاحب البستان بستانه؛ لأنه قد عمل مجالس فيه وأجرى الماء في أنهاره فقال: يا أبا عبد الله، كيف ترى؟ فقال: " هذه الحياةُ الدنيا " (¬4). 8 - ورعه: تربّى على الورع؛ ولهذا جاء عن والده إسماعيل: أنه قال عند موته: " لا أعلم من مالي درهما من حرام، ولا درهما من شبهة " (¬5) وقد وَرِثَ البخاري من أبيه مالا جليلا (¬6) ومن عظم ورعه أنه كان يقول: " ما اغتبت أحدا قط منذ علمت أن الغيبة حرام " (¬7) وهذا يظهر في كلامه في الجرح والتعديل؛ فإن من تأمل ذلك علم ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعِّفه؛ فإنه كثيرا ما يقول: " منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر " ونحو هذا، وقَلَّ أن يقول: " كذّاب أو وضّاع "؛ وإنما يقول: " كَذّبَهُ فلان، رماه فلان، يعني بالكذب " (¬8). قال أبو عمر أحمد بن نصر الخفاف: " حدثنا محمد بن إسماعيل التقي النقي الذي لم أرَ مثله " (¬9). ¬
9 - كرمه: كان رحمه الله كريما جوادا؛ ولهذا قال محمد بن أبي حاتم: سمعته يقول: " كنت استغلُّ كُلَّ شهر خمسمائة درهم، فأنفقت كلَّ ذلك في طلب العلم " فقلت: كم بين من ينفق على هذا الوجه، وبين من كان خِلوا من المال، فجمع وكسب بالعلم، حتى اجتمع له. فقال أبو عبد الله (¬1) {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الشورى: 36] (¬2) وكان رحمه الله: قليل الأكل جدا، كثير الإِحسان إلى الطلبة، مفرط الكرم (¬3) وكان يتصدق بالكثير، يأخذ بيده صاحب الحاجة من أهل الحديث فيناوله المال الكثير من غير أن يشعر بذلك أحد (¬4) قال الإمام ابن كثير رحمه الله: " وكان له جدة، ومال جيد ينفق منه سرا وجهرا، وكان يكثر الصدقة بالليل والنهار. . . " (¬5). 10 - تلاميذه وتصانيفه: أخذ العلم عن الإمام البخاري خلق كثير، ومما يدل على كثرة تلاميذه ما ذكر الفربري أنه سمع الجامع الصحيح من البخاري تسعون ألفا من تلاميذه، ويرى ابن حجر أنه سمع الصحيح من الإمام البخاري أكثر من ذلك ورووه عنه (¬6) " وكان يجتمع في مجلسه ببغداد أكثر من عشرين ألفا يأخذون عنه " (¬7). أما تصانيفه غير الجامع الصحيح فمنها: الأدب المفرد، ورفع اليدين في الصلاة، وبر الوالدين، والقراءة خلف الإمام، والتاريخ الكبير، والتاريخ الأوسط، والتاريخ الصغير، وخلق أفعال العباد، وكتاب الضعفاء، والجامع الكبير، والمسند الكبير، والتفسير الكبير، وكتاب الأشربة، وكتاب الهبة، وأسامي الصحابة، وكتاب المبسوط، وكتاب العلل، وكتاب الكنى، وكتاب الفوائد (¬8). ¬
11 - محنة الإمام البخاري: دخل الإمام البخاري رحمه الله نيسابور سنة مائتين وخمسين فاجتمع الناس عنده، فحسده بعض شيوخ الوقت، فقال لأصحاب الحديث: إن محمد بن إسماعيل يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فلما حضر المجلس قام إليه رجل فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في اللفظ بالقرآن: مخلوق هو أو غير مخلوق؛ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه ثلاثا، فألح عليه، فقال البخاري: " كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة " (¬1) فشغب الرجل وقال: قد قال: لفظي بالقرآن مخلوق. وقال البخاري رحمه الله: " من زعم أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب؛ فإني لم أقله إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة " (¬2) وبعد أن ظهر الحسد للبخاري رحمه الله في نيسابور خرج منها ورجع إلى وطنه لغلبة المخالفين. ولما قدم البخاري إلى بخارى وقع الخلاف بينه وبين أميرها، وذلك أن الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى كتب إلى البخاري أن يحمل إليه كتاب الجامع والتاريخ؛ ليقرأه عليه، ويسمع منه، وقيل: ليقرأ على أولاده ويعقد لهم مجلسا لا يحضره غيرهم، فامتنع الإمام البخاري وقال: لا أخص أحدا، وبيَّن البخاري للأمير أن من أراد العلم فعليه أن يحضر في مجلسه، أو في داره؛ ليكون له عذر عند الله أنه لا يكتم العلم، فأمر الأمير بمن يتكلم فيه وفي مذهبه حتى أخرجوه من البلد؛ لأنه يظهر مذهب أهل الحديث، ويأتي إليه جماعة يظهرون شعار أهل الحديث من إفراد الإِقامة ورفع الأيدي في الصلاة وغير ذلك (¬3) ودعا البخاري على من أخرجه، فلم يمضِ شهر على الأمير حتى عزله الظاهرية وكان عاقبة أمره إلى الذل والحبس، وابتلي من أعانه على إخراج البخاري بأنواع البلايا (¬4). ¬
ثانيا التعريف بصحيح الإمام البخاري رحمه الله
12 - وفاته: استمر رحمه الله في طلب العلم، وتعليمه والتأليف فيه حتى توفاه الله عز وجل بمدينة (خرتنك) (¬1) ليلة السبت، ليلة الفطر عند صلاة العشاء، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومائتين. وعاش اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوما (¬2). * ثانيا: التعريف بصحيح الإمام البخاري رحمه الله 1 - اسم الكتاب: اشتهر- قديما وحديثا- في أشهر كتب الفقه والتفسير. وأكثر شروح الحديث، وسائر كتب الفنون الأخرى، وعلى ألسنة معظم الناس، وجمهرة العلماء باسم: (صحيح الإمام البخاري). ولكن اسم الكتاب الذي وضعه له مؤلفه، هو: (الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه) (¬3). 2 - موضوع الكتاب: قال ابن حجر رحمه الله في مقدمته لفتح الباري، عن كتاب صحيح الإمام البخاري: " إنه التزم فيه الصحة، وأنه لا يورد فيه إلا حديثا صحيحا، هذا أصل موضوعه، وهو مستفاد من تسميته إياه (الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه)، ومما نقلناهُ عنه من رواية الأئمة عنه صريحا، ثم رأى أن لا يخليه من الفوائد الفقهية، والنكت الحكمية فاستخرج بفهمه من المتون معانيَ كثيرة فرقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها، واعتنى فيه بآيات الأحكام فانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة " (¬4). 3 - سبب تصنيف الكتاب: لم تكن آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأخباره مدونة في عصر الصحابة وكبار التابعين، وذلك لأمرين: ¬
أ- إنهم كانوا في ابتداء الأمر قد نهوا عن الكتابة خشية أن يختلط بعض الأخبار بالقرآن الكريم. ب- سعة حفظهم وقوته؛ ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة، ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار لما انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار، وغيرهم، فألف عدد من علماء الإسلام مصنفات في أحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وكانت تشمل الأحاديث الصحيحة والحسنة، والضعيفة، فحرك ذلك همة البخاري لجمع الحديث الصحيح، وقوَّى عزيمته على ذلك ما سمعه من أستاذه ابن راهويه، قال الإمام البخاري: كنا عند إسحاق بن راهويه فقال: " لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح (¬1). 4 - مكانة الصحيح: قال الإمام النووي رحمه الله: " اتفق العلماء- رحمهم الله تعالى- على أن أصحَّ الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان: البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما، وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، وقد صح أن مسلما كان ممن يستفيد من البخاري، ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث، وهذا الذي ذكرناه من ترجيح كتاب البخاري هو المذهب المختار الذي قاله الجمهور وأهل الإتقان والحذق والغوص على أسرار الحديث " (¬2). وكان يصلي ركعتي الاستخارة قبل أن يكتب كل حديث في الصحيح، كما كان يصليهما قبل أن يضع كل ترجمة. وقال: " صنعت الجامع من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله " (¬3) وقال: " لم أخرج في الكتاب إلا صحيحا وما تركت من الصحيح أكثر " (¬4). ¬
وقد بقي الإمام البخاري في تصنيف كتابه وتهذيبه ست عشرة سنة؛ لأنه جمعه من ألوف مؤلفة من الأحاديث الصحيحة (¬1). 5 - شرط البخاري في صحيحه: شرط البخاري في جامعه أن يكون الراوي قد عاصر شيخه، وثبت عنده سماعه منه، ولم يشترط مسلم الثاني، بل اكتفى بالمعاصرة (¬2) وشرط البخاري أيضا " أن يخرج الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلا غير مقطوع " (¬3). 6 - عدد أحاديثه: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في مقدمة كتابه فتح الباري: قال الشيخ تقي الدين ابن الصلاح فيما رويناه عنه في علوم الحديث، عدد أحاديث صحيح البخاري (7275) سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا بالأحاديث المكررة، قال: وقيل: إنها بإسقاط المكرر: (4000) أربعة آلاف. هكذا أطلق ابن الصلاح وتبعه الشيخ محيي الدين النووي (¬4). ولكن الذي حرره ابن حجر رحمه الله عن عدد أحاديث صحيح الإمام البخاري رحمه الله أن المتون الموصولة بلا تكرار ألفا حديث وستمائة حديث وحديثان (2602). ومن المتون المعلقة المرفوعة التي لم يصلها في موضع آخر من الجامع المذكور (159) مائة وتسعة وخمسون حديثا فجميع ذلك: ألفا حديث وسبعمائة وواحد وستون حديثا (2761) (¬5). ثم ذكر رحمه الله أن جملة ما في الكتاب من التعاليق: ألف وثلاثمائة وواحد وأربعون حديثا (1341) وأكثرها مكرر مخرج في الكتاب، أصول متونه، وليس فيه من المتون التي لم تخرج في الكتاب ولو من طريق أخرى إلا مائة ¬
وستون حديثا (160). إلى أن قال: " وجملة ما فيه من المتابعات والتنبيه على اختلاف الروايات: ثلاثمائة وواحد وأربعون حديثا " (341) (¬1). ثم قال رحمه الله: " فجميع ما في الكتاب على هذا بالمكرر، تسعة آلاف واثنان وثمانون حديثا (9082). وهذه العدة خارجة عن الموقوفات على الصحابة، والمقطوعات عن التابعين فمن بعدهم. وقد استوعبت وصل جميع ذلك في كتاب (تغليق التعليق). وهذا الذي حررته من عدة ما في صحيح البخاري تحرير بالغ فتح الله به لا أعلم من تقدمني إليه، وأنا مقر بعدم العصمة من السهو والخطأ، والله المستعان " (¬2). ثم ذكر رحمه الله سبب هذا التفاوت فيما حرره من عدد أحاديث الصحيح، وما حرره غيره كابن الصلاح وغيره، فقال: " ما عرفت من أين أتى الوهم في ذلك- أي العدد- ثم تأولته على أنه يحتمل أن يكون العادُّ الأول الذي قلدوه في ذلك إذا رأى الحديث مطولا في موضع ومختصرا في موضع آخر يظن أن المختصر غير المطول إما لبعد العهد به، أو لقلة المعرفة بالصناعة، ففي الكتاب من هذا النمط شيء كثير. وحينئذ يتبيَّن السبب في تفاوت ما بين العددين ". (¬3). 7 - فوائد تقطيع البخاري للحديث، واختصاره، وإعادته في الأبواب؛ وتكراره: يذكر البخاري رحمه الله الحديث في مواضع، ويستدل به في كل باب بإسناد آخر، ويستخرج منه بحسن استنباطه وغزارة فقهه معنى يقتضيه الباب الذي أخرجه فيه (¬4) وقلما يورد حديثا في موضعين بإسناد واحد، ولفظ واحد، وإنما يورده من طريق أخرى لمعانٍ وفوائد، منها: * يخرج الحديث عن صحابي ثم يورده عن صحابي آخر، ليخرج الحديث من الغرابة. ¬
* صحح أحاديث على هذه القاعدة يشتمل كل حديث منها على معانٍ متغايرة، فيورده في كل باب من طريق غير الطريق الأولى. * أحاديث يرويها بعضهم تامة وبعضهم مختصرة فيوردها كما جاءت، ليزيل الشبهة عن ناقليها. * الرواة ربما اختلفت عباراتهم، فحدَّث راوٍ بحديث فيه كلمة تحتمل معنى، وحدَّث به آخر، فعبَّر عن تلك الكلمة بعينها بعبارة أخرى تحتمل معنى آخر، فيورده بطرقه إذا صحت على شرطه، ويفرد لكل لفظة بابا مفردا. * أحاديث تعارض فيها الوصل والإِرسال، ورجح عندهُ الوصل فاعتمده، وأورد الإرسال منبها على أنه لا تأثير له عنده في الوصل. * أحاديث تعارض فيها الوقف والرفع، والحكم فيها كذلك. * أحاديث زاد فيها بعض الرواة رجلا في الإِسناد، ونقصه بعضهم، فيوردها على الوجهين. * ربما أورد حديثا عنعنه رَاوِيهِ، فيورده من طريق أخرى مصرحا فيها بالسماع على ما عُرِفَ من طريقته في اشتراط ثبوت اللقاء في المعنعن، فهذا جميعه فيما يتعلق بإعادة المتن الواحد في موضع آخر، أو أكثر. أما تقطيعه للأحاديث في الأبواب تارة، واقتصاره منه على بعضه أخرى، فذلك؛ لأنه إن كان المتن قصيرا، أو مرتبطا بعضه ببعض، وقد اشتمل على حكمين فصاعدا؛ فإنه يعيده بحسب ذلك مراعيا مع ذلك عدم إخلائه من فائدة حديثية، وهي إيراده له عن شيخ سوى الشيخ الذي أخرجه عنه، ويستفاد من ذلك تكثير الطرق لذلك الحديث، وربما ضاق عليه مخرج الحديث، حيث لا يكون له إلا طريق واحدة، فيتصرف حينئذٍ فيه، فيورده في موضع موصولا وفي موضع معلقا، ويورده تارة تاما وتارة مقتصرا على طرفه الذي يحتاج إليه ذلك الباب، فإن كان المتن مشتملا على جملٍ متعددة لا تعلق لإحداها بالأخرى، فإنه يخرج كل جملة منها في باب مستقل فِرارا من التطويل،
وربما نشط فساقه بتمامه، فهذا كله في التقطيع (¬1). ويتضح من ذلك أن البخاري رحمه الله لا يتعمد أن يخرج في كتابه حديثا معادا بجميع إسناده ومتنه، وإن وقع له شيء من ذلك فعن غير قصد (¬2). 8 - فوائد تراجم الأبواب في صحيح البخاري وحِكَمها: مما جعل صحيح البخاري مقدما على غيره من كتب الحديث ما ضمَّنه أبوابه من التراجم التي تحار فيها الأفكار وأدهشت العقول والأبصار (¬3). وضابط بيان أنواع التراجم في صحيح البخاري ما بينه الحافظ ابن حجر رحمه الله من أن التراجم فيه ظاهرة وخفية، أما الظاهرة فهي أن تكون الترجمة دالة بالمطابقة لما يورد في ضمنها، وإنما فائدتها الإعلام بما ورد في ذلك الباب من غير اعتبار لمقدار تلك الفائدة، كأن يقول: هذا الباب الذي فيه كذا وكذا، أو باب ذكر الدليل على الحكم الفلاني مثلا، وقد تكون الترجمة بلفظ المترجم له، أو بعضه، أو معناه، والترجمة هنا: بيان لتأويل الحديث نائبة مناب قول الفقيه مثلا: المراد بهذا الحديث العام الخصوص، أو بهذا الحديث الخاص العموم، إشعارا بالقياس؛ لوجود العلة الجامعة، أو أن ذلك الخاص المراد به هو أعم مما يدل عليه ظاهره بطريق الأعلى أو الأدنى، ويأتي في المطلق والمقيد مثل ذلك، وكذلك في شرح المشكل، وتفسير الغامض، وتأويل الظاهر، وتفصيل المجمل، وهذا الموضع هو معظم ما يشكل من تراجم هذا الصحيح؛ ولهذا اشتهر قول جمع من أهل العلم؛ " فقه البخاري في تراجمه " وأكثر ما يفعل البخاري ذلك إذا لم يجد حديثا على شرطه في الباب ويستنبط الفقه منه، وقد يفعل ذلك لشحذ الأذهان. وكثيرا ما يترجم بلفظ الاستفهام كقوله: باب هل يكون كذا أو من قال: كذا ونحو ذلك، وذلك حيث لا يتَّجِهُ له الجزم بأحد الاحتمالين، وغرضه بيان هل يثبت ذلك الحكم أو لم يثبت، فيترجم على الحكم ومراده، وما يفسر به بعد من إثباته أو نفيه، أو أنه محتمل ¬
لهما. وكثيرا ما يترجم بأمر ظاهره قليل الجدوى لكنه إذا حققه المتأمل أجدى كقوله: " باب قول الرجل ما صلينا " فإنه أشار به إلى الرد على من كره ذلك. وكثيرا ما يترجم بأمر مختص ببعض الوقائع لا يظهر في بادئ الرأي كقوله: " باب استياك الإمام بحضرة رعيته " فإنه لما كان الاستياك قد يظن أنه من أفعال المهنة، فلعل بعض الناس يتوهَّمُ أن إخفاءه أولى مراعاة للمروءة، فلما وقع في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استاك بحضرة الناس، دل على أنه من باب التطيب لا من الباب الآخر. وكثيرا ما يترجم بلفظٍ يومئ إلى معنى حديث لم يصح على شرطه، أو يأتي بالحديث الذي لم يصح على شرطه صريحا في الترجمة، ويورد في الباب ما يؤيد معناه تارة بأمر ظاهر، وتارة بأمر خفي، وربما اكتفى بلفظ الترجمة التي هي لفظ حديث لم يصح على شرطه، وأورد معها أثرا أو آية، فكأنه يقول: لم يصح في الباب شيء على شرطي. وغير ذلك من الفوائد والحكم التي لا تحصى (¬1) وقد اعتنى بعض العلماء فجمع أربعمائة ترجمة وتكلم عليها كلاما نافعا مفيدا (¬2) وزاد بعضهم أكثر من ذلك (¬3). ¬
ثالثا التعريف بكتب موضوع الدراسة وعدد أحاديثها وجهود البخاري
* ثالثا: التعريف بكتب موضوع الدراسة وعدد أحاديثها وجهود البخاري فيها من أول كتاب الوصايا إلى نهاية كتاب الجزية والموادعة: 1 - عدد أحاديث هذا القسم, وأسماء كتبه, وأرقامها تظهر من خلال الجدول الآتي رقم الكتاب ... اسم الكتاب ... عدد الأحاديث غير المكررة (موضوع الدراسة) ... عدد الأحاديث المكررة ... مجموع الأحاديث المكررة وغير المكررة 55 ... الوصايا ... 17 ... 27 ... 44 56 ... الجهاد والسير ... 129 ... 180 ... 309 57 ... فرض الخمس ... 31 ... 34 ... 65 58 ... الجزية والموادعة ... 15 ... 20 ... 35 الإجمالي ... 192 ... 261 ... 453 ومجموع أحاديث هذه الدراسة (192) حديثا تتضح من خلال الجدول الآتي في الصفحات الآتية:
أرقام أحاديث موضوع الدراسة
2 - أرقام أحاديث موضوع الدراسة الرقم المسلسل ... رقم الحديث غير المكرر في صحيح البخاري ... اسم الكتاب 55 - كتاب الوصايا 1 ... 2738 2 ... 2739 3 ... 2740 4 ... 2741 5 ... 2743 6 ... 2747 7 ... 2753 8 ... 2756 9 ... 2757 10 ... 2759 11 ... 2761 12 ... 2766 13 ... 2767 14 ... 2768 15 ... 2776 16 ... 2778 17 ... 2780 56 - كتاب الجهاد والسير 18 2785 19 ... 2786 20 ... 2788 21 ... 2789 22 ... 2790
الرقم المسلسل ... رقم الحديث غير المكرر في صحيح البخاري ... اسم الكتاب 23 ... 2792 24 ... 2793 25 ... 2794 26 ... 2795 27 ... 2802 28 ... 2805 29 ... 2807 30 ... 2808 31 ... 2809 32 ... 2815 33 ... 2818 34 ... 2819 35 ... 2821 36 ... 2822 37 ... 2823 38 ... 2824 39 ... 2826 40 ... 2827 41 ... 2828 42 ... 2830 43 ... 2831 44 ... 2832 45 ... 2834 46 ... 2836 47 ... 2838
الرقم المسلسل ... رقم الحديث غير المكرر في صحيح البخاري ... اسم الكتاب 48 ... 2840 49 ... 2843 50 ... 2844 51 ... 2845 52 ... 2846 53 ... 2849 54 ... 2850 55 ... 2851 56 ... 2853 57 ... 2855 58 ... 2856 59 ... 2859 60 ... 2863 61 ... 2864 62 ... 2871 63 ... 2880 64 ... 2881 65 ... 2882 66 ... 2884 67 ... 2885 68 ... 2886 69 ... 2888 70 ... 2890 71 ... 2896 72 ... 2897
الرقم المسلسل ... رقم الحديث غير المكرر في صحيح البخاري ... اسم الكتاب 73 ... 2898 74 ... 2899 75 ... 2900 76 ... 2901 77 ... 2904 78 ... 2905 79 ... 2909 80 ... 2910 81 ... 2915 82 ... 2919 83 ... 2925 84 ... 2926 85 ... 2927 86 ... 2928 87 ... 2931 88 ... 2933 89 ... 2935 90 ... 2936 91 ... 2937 92 ... 2942 93 ... 2946 94 ... 2954 95 ... 2955 96 ... 2957 97 ... 2958
الرقم المسلسل ... رقم الحديث غير المكرر في صحيح البخاري ... اسم الكتاب 98 ... 2959 99 ... 2960 100 ... 2962 101 ... 2963 102 ... 2964 103 ... 2974 104 ... 2975 105 ... 2976 106 ... 2977 107 ... 2979 108 ... 2987 109 ... 2990 110 ... 2992 111 ... 2993 112 ... 2996 113 ... 2998 114 ... 3004 115 ... 3005 116 ... 3007 117 ... 3010 118 ... 3012 119 ... 3014 120 ... 3017 121 ... 3019 122 ... 3020
الرقم المسلسل ... رقم الحديث غير المكرر في صحيح البخاري ... اسم الكتاب 123 ... 3022 124 ... 3026 125 ... 3027 126 ... 3029 127 ... 3030 128 ... 3035 129 ... 3039 130 ... 3041 131 ... 3043 132 ... 3045 133 ... 3046 134 ... 3051 135 ... 3057 136 ... 3059 137 ... 3060 138 ... 3062 139 ... 3065 140 ... 3067 141 ... 3070 142 ... 3071 143 ... 3074 144 ... 3080 145 ... 3082 146 ... 3083
الرقم المسلسل ... رقم الحديث غير المكرر في صحيح البخاري ... اسم الكتاب 57 - كتاب فرض الخمس 147 ... 3092 148 ... 3093 149 ... 3097 150 ... 3104 151 ... 3107 152 ... 3108 153 ... 3109 154 ... 3111 155 ... 3113 156 ... 3114 157 ... 3117 158 ... 3118 159 ... 3121 160 ... 3124 161 ... 3129 162 ... 3130 163 ... 3133 164 ... 3134 165 ... 3135 166 ... 3136 167 ... 3138 168 ... 3139 169 ... 3140 170 ... 3141
الرقم المسلسل ... رقم الحديث غير المكرر في صحيح البخاري ... اسم الكتاب 171 ... 3146 172 ... 3149 173 ... 3150 174 ... 3151 175 ... 3153 176 ... 3154 177 ... 3155 58 - كتاب الجزية والموادعة 178 ... 3156 179 ... 3157 180 ... 3158 181 ... 3159 182 ... 3160 183 ... 3166 184 ... 3167 185 ... 3169 186 ... 3175 187 ... 3176 188 ... 3180 189 ... 3186 190 ... 3186 191 ... 3187 192 ... 3188
جهود الإمام البخاري رحمه الله
3 - جهود الإمام البخاري رحمه الله في ذكر مناسبة ترتيب كتب الدراسة وأبوابها رتب الإمام البخاري رحمه الله هذه الكتب، وجميع كتب الصحيح، وأبوابها وأحاديثها، ترتيبا رائعا، واعتنى بذلك عناية فائقة دقيقة فاق فيها جميع أهل التصنيف، وظهر فيها فقهه وعلمه، وذلك في كتاب الصحيح من أوله إلى آخره، أما كتب موضوع الدراسة: الوصايا، والجهاد، وفرض الخمس، والجزية والموادعة، فقد كان ترتيبه لها على النحو الآتي: لما كانت الشروط قد تكون في الحياة وبعد الوفاة، ترجم الإمام البخاري رحمه الله: كتاب الوصايا، فلما انتهى ما يتعلق بالمعاملات مع الخالق، ثم ما يتعلق بالمعاملات مع الخلق، أردفها بمعاملة جامعة بين معاملة الخالق وفيها نوع اكتساب، فترجم رحمه الله: كتاب الجهاد. إذ به يحصل إعلاء كلمة الله تعالى، وإذلال الكفار بقتلهم، واسترقاق: نسائهم، وصبيانهم، وعبيدهم، وغنيمة أموالهم، وبدأ بفضل الجهاد، ثم ذكر ما يقتضي أن المجاهد ينبغي أن يعد نفسه في القتلى فترجم باب: التحنط عند القتال، وقريب منه: من ذهب ليأتي بخبر العدو، وهو: الطليعة. وكان يحتاج إلى ركوب الخيل، ثم ذكر من الحيوان ما له خصوصية، وهو: بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، وناقته. وكان الجهاد في الغالب للرجال، وقد يكون للنساء فترجم: أحوال النساء في الجهاد. وذكر باقي ما يتعلق بالجهاد، ومنها: آلات الحرب وهيئتها، والدعاء قبل القتال، وكل ذلك من آثار بعثته العامة فترجم: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وكان عزم الإمام على الناس في الجهاد إنما هو بحسب الطاقة فترجم: عزم الإِمام على الناس فيما يطيقون، وتوابع ذلك. وكانت الاستعانة في الجهاد تكون بجُعل أو بغير جعل، فترجم: الجعائل. وكان الإمام ينبغي أن يكون أمام القوم، فترجم: المبادرة عند الفزع. وكانت المبادرة لا تمنع التوكل ولا سيما في حق من نصر بالرعب، فذكره وذكر مبادرته على أن تعاطي الأسباب لا يقدح في التوكل، فترجم: حمل الزاد في الغزو، ثم ذكر آداب السفر. وكان القادمون من الجهاد قد تكون معهم الغنيمة
نسخة الصحيح المعتمدة في الدراسة
فترجم: كتاب فرض الخمس. وكان ما يؤخذ من الكفار: تارة يكون بالحرب، وتارة بالمصالحة، فترجم رحمه الله كتاب الجزية والموادعة، وأحوال أهل الذمة، ثم ذكر تراجم تتعلق بالموادعة، والعهد، والحذر من الغدر (¬1). وقد ظهرت جهود البخاري رحمه الله في الفقرات السابقة: من سبب تصنيفه للكتاب، ومكانة الصحيح عند أهل العلم، وشرط البخاري رحمه الله في صحيحه، وعدد أحاديثه، وفوائد تقطيع الحديث واختصاره، وإعادته في الأبواب بفوائد جديدة، وفوائد تراجم الأبواب في الصحيح، ومناسبة الكتب والأبواب. رحمه الله ورضي عنه. 4 - نسخة الصحيح المعتمدة في الدراسة النسخة المعتمدة في هذه الدراسة هي التي طُبعت عام 1414 هـ، بدار الفكر، ببيروت، والتي كُتب عليها أنها طبعة محققة على عدة نسخ، وعلى نسخة فتح الباري (التي حقق أصولها وأجازها الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله) (¬2). [القسم الأول الدراسة الدعوية للأحاديث الواردة في موضوع الدراسة] [الفصل الأول كتاب الوصايا] [باب الوصايا وقول النبي صلى الله عليه وسلم وصية الرجل مكتوبة عنده] [حديث ما حق امرئ مسلم له شئ يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة] عنده ¬
القسم الأول الدراسة الدعوية للأحاديث الواردة في موضوع الدراسة
القسم الأول الدراسة الدعوية للأحاديث الواردة في موضوع الدراسة 1 - الفصل الأول: كتاب الوصايا 2 - الفصل الثاني: كتاب الجهاد والسير 3 - الفصل الثالث: كتاب فرض الخمس 4 - الفصل الرابع: كتاب الجزية والموادعة
الفصل الأول: كتاب الوصايا
الفصل الأول: كتاب الوصايا
باب الوصايا
1 - باب الوصايا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " وصية الرجل مكتوبة عنده " وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ - فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 180 - 182] (¬1) " جنفا ": ميلا، " متجانف ": مائل. 1 - [2738] حَدَّثَنَا عَبدُ اللهِ بنُ يُوسُفَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَن نافعٍ، عَن عبدِ الله بنِ عُمَرَ (¬2) رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا حقُّ امْرئ مُسْلم لَهُ شَئٌ يُوصِي فيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَينِ إِلَّا ووصيته مكتوبةٌ عندَه» (¬3). * شرح غريب الحديث: * ووصيته " الوصية: مشتقة من وَصَيتُ الشيء، أصيه إذا وصلته، وسُميت وصية؛ لأن الميت يصل بها ما كان في حياته بما بعد مماته، ويقال: وصى وأوصى إيصاء, والاسم الوصية والوصاة (¬4) قال ابن فارس -رحمه الله: " وصى " ¬
الواو والصاد والحرف المعتل أصل يدل على وصل شيء بشيءٍ، وَوَصَيتُ الشيء وصلتُهُ (¬1). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعويةٌ منها: 1 - حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أمته الخير والشفقة عليهم. 2 - أهمية الحزم والجزم والاحتياط في الأمور المهمة. 3 - الاستعداد والتأهب للموت قبل فوات الأوان. 4 - أهمية الكتابة في ضبط الأمور المهمة. 5 - دفع الحرج عن الأمة. 6 - من وسائل الدعوة: القول. 7 - من موضوعات الدعوة: الحديث عن حقوق العباد. أما الحديث عن هذه الفوائد بالتفصيل فعلى النحو الآتي: أولا: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أمته الخير والشفقة عليهم: بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (¬2) وهو صلى الله عليه وسلم ينصح لهم غاية النصح، ويسعى في مصالحهم، ويشق عليه الأمر الذي يشق عليهم، ويحب لهم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليهم، ويحرص على هدايتهم للإِيمان ولكل خير، ويكره لهم الشر، ويرحم المؤمنين أكثر من رحمة والديهم (¬3)؛ ولهذا قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] (¬4) ¬
ومن حرصه ورحمته بهم إرشادهم في هذا الحديث إلى المبادرة إلى الوصية وكتابتها؛ لئلا يهجم على المؤمن أجله قبل ضبط ما يريد بالوصية والكتابة. فينبغي للدعاة إلى الله تعالى أن يتصفوا بالحرص على تعليم الناس الخير اقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم؛ فإن الحرص على نفع المدعوين صفة من صفات الأنبياء وأتباعهم؛ لما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم» (¬1). ثانيا: أهمية الحزم والجزم والاحتياط في الأمور المهمة: من الأمور المهمة التي ينبغي أن يتصف بها المسلم، وخاصة الداعية إلى الله تعالى: " الحزم والاحتياط "؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ما حق امرئ مسلم». . . " والمعنى: ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده، إذا كان له شيء يريد أن يوصي فيه؛ لأنه لا يدري متى تأتيه المنية، فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك (¬2) وهذا يبين أن الحزم والاحتياط من أخلاق المسلم (¬3)؛ ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَرُ اللهِ وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» (¬4)؛ وقد بوّب بعض الشراح لهذا الحديث بقوله: " باب في الأمر بالقوة وترك العجز، والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله " (¬5). وهذا يدل على أن قوة العزيمة وعلوَّ الهمة خلق عظيم يجعل صاحبه أكثر إقداما على الأمور العظيمة، وأشد عزيمة في الدعوة إلى الله تعالى، وفي الصبر على الأذى واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة ¬
والصوم والأذكار، وسائر العبادات، وأنشط طلبا لها والمحافظة عليها (¬1) وهذا يوضح للداعية أن قوة العزيمة وعلو الهمة، والنشاط يفتح له عمل كل خير، وأما التمني فهو رأسُ أموال المفاليس، والعجز مفتاح كل شر (¬2) والله تعالى يقول: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] (¬3). ثالثا: الاستعداد والتأهب للموت قبل فوات الأوان: دل هذا الحديث على أنه ينبغي أن يتأهب المسلم للموت- وخاصة الدعاة إلى الله تعالى؛ لأنهم قدوة الناس-؛ فإنه لا يدري متى يفجؤه الموت؛ لأنه ما من سن يفرض إلا وقد مات فيه جمع جم وكل واحد بعينه جائز أن يموت في الحال، فينبغي أن يكون متأهبا مستعدا لذلك، فيكتب وصيته التي يريد أن يوصي بها، ويجمع فيها ما يحصل له به الأجر ويحبط عنه الوزر من حقوق الله وحقوق عباده (¬4) والنبي صلى الله عليه وسلم قد حث أمته وحضهم في هذا الحديث على الوصية، فيستحب للمسلم أن يوصي بما تيسر إذا كان له مال كثير، ولا يزيد على الثلث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» (¬5) ولكن إذا كان عليه حقوق واجبة: كالحج، والدَّين، والنذر، والودائع وغير ذلك، فإنه يلزمه أن يوصي بهذه الحقوق (¬6). وهكذا شأن الداعية الصادق والمسلم الحازم يكون مستعدا للموت متأهبا له، قائما بجميع الواجبات، تاركا جميع المحرمات، تائبا من جميع السيئات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنهما: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وكان ابن عمر يقول: " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر ¬
المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك " (¬1). فالداعية ينبغي أن لا يتخذ الدنيا وطنا ومسكنا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر، يُهيئ جهازه للرحيلِ؛ لأن الآخرة هي دار القرار، قال الله تعالى حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39] (¬2)؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما لي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها» (¬3) فالمؤمن وخاصة الداعية إلى الله ينبغي له أن يكون في الدنيا على أحد حالين: الحالة الأولى: أن ينزل نفسه كأنه غريب في الدنيا يتخيّلُ الإِقامة لكن في بلد غربة، فهو غير متعلق القلب ببلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه، وإنما هو مقيم في الدنيا؛ ليقضي بقية جهازه حتى يرجع إلى وطنه، ومن كان كذلك في الدنيا فلا هم له في الحقيقة إلا في التزود بما ينفعه عند عودته إلى وطنه، فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم، ولا يجزع من الذل عندهم. والمؤمن في الدنيا غريب؛ لأن الجنة هي وطنه الأول أخرجه منه إبليس، فهو يتزود بما يبلغه المحل الأعلى، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فحيَّ على جنات عدن فإنها ... منازلنا الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدوّ فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم وقد زعموا أن الغريب إذا نأى ... وشطت به أوطانه فهو مغرم وأي اغتراب فوق غربتنا التي ... لها أضحت الأعداء فينا تحكم (¬4). الحالة الثانية: أن ينزل الداعية نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم ألبتة، ¬
وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى الوطن الذي يريد وهو الموت. ومن كان هذا حاله في الدنيا فهمته تحصيل الزاد للسفر، وليس له همة في الاستكثار من متاع الدنيا (¬1). وعلى الداعية أن يتدبر دائما قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20] (¬2). رابعا: أهمية الكتابة في ضبط الأمور المهمة: في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «إلا ووصيته مكتوبة عنده» إشارة إلى أن الأمور المهمة ينبغي أن تضبط بالكتابة الواضحة البينة؛ لأنها أثبت من الضبط بالحفظ؛ لأنه يخون غالبا، ولابد أن تكون الكتابة معلومة، كما أن في قوله صلى الله عليه وسلم: " مكتوبة عنده " إشارة إلى أنه ينبغي للداعية أن يحتفظ بالوثائق المهمة عنده في مكان أمين، وفي حرز حصين حتى لا تتعرض الأمور المهمة إلى الإِتلاف، أو تضيع، أو تتسلط عليها أيدٍ غير أمينة (¬3). وينبغي أن يشهد على وصيته إذا كان المكتوب وصية أو غيرها من الأمور المهمة، وله أن يغيِّر في وصيته ما شاء، ويزيد فيها ما يشاء من الأمور التي تتجدد (¬4). خامسا: دفع الحرج عن الأمة: دل الحديث على دفع الحرج عن هذه الأمة؛ ولهذا قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: (والترخيص في الليلتين، أو الثلاث دفع للحرج والعسر) (¬5) والأصل ¬
في ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (¬1) وقال عز وجل: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] (¬2). سادسا: من وسائل الدعوة: القول: الوسيلة في الأصل: ما يتوصل به إلى الشيء (¬3) ووسائل الدعوة هي: ما يستعين به الداعية على تبليغ دعوته من أشياء وأمور (¬4) فهي ما يتوصل به الداعية إلى تبليغ دعوته من أمور معنوية أو مادية ووسيلة التبليغ في هذا الحديث هي: القول: " ما حق امرئ مسلم " ووسيلة القول أعظم وسائل الدعوة التي استعملها أنبياء الله ورسله في تبليغ دعوتهم عليهم الصلاة والسلام. وتبرز أهمية وسيلة القول من عدة وجوه، منها: 1 - اهتمام القرآن الكريم بهذه الوسيلة، فقد ورد لفظ " قل " في القرآن الكريم في أكثر من ثلاثمائة موضع، كما جاءت مشتقاته وتصريفاته في القرآن الكريم في آيات كثيرة (¬5). 2 - استخدام جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام هذه الوسيلة في دعوتهم إلى الله تعالى، فكم من رسول قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65] (¬6) قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] (¬7) ويدل على أهمية هذه الوسيلة كثرة أقوال النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في كتب السنة التي دعا بها أمته بقوله إلى كل ما يعود عليهم بالخير والصلاح. ¬
3 - وسيلة القول وسيلة فطرية متوافرة عند أغلب الناس إلا ما ندر؛ ولهذا بيَّن الله سبحانه أهمية النطق باللسان، فقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76] (¬1). 4 - هذه الوسيلة لها ضوابط منها: أن يكون القول مشروعا، ولطيفا حسنا، وأن يطابق القول العمل، ويكون بيِّنا واضحا، وبعيدا عن التقعُّر والتشدق وتكلف الفصاحة (¬2) فينبغي للداعية أن يعتني بهذه الوسيلة ويطبق شروطها (¬3). سابعا: من موضوعات الدعوة: الحديث عن حقوق العباد: إن من الموضوعات المهمة التي ينبغي للداعية إلى الله سبحانه وتعالى أن يبينها للناس ويحضهم عليها: حقوق العباد؛ ولهذا قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: " وفي هذا الحديث الحضُّ على الوصية والتأكيد في ذلك، وأجمع الجمهور على أن الوصية غير واجبة على أحد إلا أن يكون عليه دينٌ، أو عنده وديعة، أو أمانة، فيوصي بذلك " (¬4). ¬
حديث ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ولا دينارا
[حديث ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ولا دينارا] 2 - [2739] حَدَّثَنَا إِبْراهيمُ بنُ الحَارِثِ: حَدَّثَنا يَحْيى بنُ أَبي بُكَيرٍ: حَدَّثَنَا زُهَيرُ بنُ مُعاويةَ الجُعْفِيُّ: حَدَّثَنَا أَبو إِسحاقَ، عن عَمْرِو (¬1) بنِ الحَارِثِ خَتَنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخِي جُوَيْرِيةَ بنتِ الحَارِثِ قَالَ: «مَا تَرَك رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتهِ دِرْهَما، وَلَا دِينارا، ولا عَبْدا، وَلَا أَمَة، وَلَا شَيْئا، إِلَّا بَغْلتَهُ البَيضاءَ وسِلاحَهُ، وَأَرْضا جَعَلَها صَدَقة» (¬2). وفي رواية: ". . . «إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها». . . " (¬3). وفي رواية: ". . . «وأرضا بخيبر جعلها صدقة». . . " (¬4). وفي رواية: ". . . «وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة» (¬5). * شرح غريب الحديث: * " الخَتَنُ " أبو امرأة الرجل، وأخو امرأته، وكل من كان من قِبَلِ امرأته، والأختان من قبل المرأة، والأحماءُ من قبل الزوج، والصهر يجمعهما (¬6). * " أرضا " هي نصف أرض فدك، وثلث أرض وادي القرى، وسهمه من خمس خيبر، وحقه من أرض بني النضير (¬7) وقال الإمام النووي: " وأما ¬
الأرض التي كانت له بخيبر وفدك فقد سبَّلها على المسلمين " (¬1). * " وسلاحه " السلاح ما أعددته للحرب من آلة الحديد مما يقاتل به والسيف وحده يسمى سلاحا (¬2) فعلى هذا فالمقصود بسلاحه سيوفه وأرماحه. (¬3). * " وبغلته " والجمع: أبغال وبغال، والبغل هو: ابن الفرس من الحمار، وقيل: اسم بغلة النبي صلى الله عليه وسلم: دُلْدُل. (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية منها: 1 - من صفات الداعية: الزهد. 2 - من صفات الداعية: الكرم. 3 - الإِعداد للجهاد في سبيل الله تعالى. 4 - أهمية الوقف في العمل الدعوي. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الزهد: يؤخذ من هذا الحديث زهد الداعية إلى الله تعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم - هو قدوة الدعاة- كان أزهد الناس في الدنيا، وفي حطامها الفاني، وكانت عنايته الفائقة بالدعوة إلى الله تعالى وتوجيه البشرية لما يعود عليهم بالخير في الدنيا والآخرة؛ ولهذا لم يترك عند موته: دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، ولا شيئا، إلا ما جعله صدقة في سبيل الله تعالى (¬5) وهكذا ينبغي للداعية أن ¬
يجعل أكبر همه الدعوة إلى الله تعالى، ويزهد في الدنيا ولا يجعلها غاية مقصده ومبلغ علمه، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة (¬1). قال ابن القيم رحمه الله: " وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها " (¬2). وقال الإمام أحمد رحمه الله: " الزهد على ثلاثة أوجه، الأول: ترك الحرام وهو زهد العوام، والثاني: ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص، والثالث: ترك ما يشغل عن الله وهو زهد العارفين " (¬3). وقد تكفَّل الله لمن لا يجعل الدنيا أكبر همه بالسعادة في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانت الآخرة هَمّهُ جعل الله كفاه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له» (¬4). ثانيا: من صفات الداعية: الكرم الجود والكرم خلق عظيم ينبغي للداعية إلى الله أن يتصف به، وفي الحديث إشارة إلى اتصاف النبي صلى الله عليه وسلم بالكرم؛ قال القسطلاني رحمه الله على قول عمرو بن الحارث في الحديث: «ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته: درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة». . . ": " فيه دلالة على أن من ذكر من رقيق النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الأخبار كان إمَّا مات وإمَّا أعتقه " (¬5) وقال العيني: " وقد ذكرنا في تاريخنا الكبير أنه كان له عبيد ما ينيف على ستين، وكانت له عشرون أمة، فهذا يدل على أن منهم من مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أعتقهم، ولم يبق عبد ¬
بعده ولا أمة وهو في الرِّقيّة " (¬1) وهذا يدل على كرمه صلى الله عليه وسلم، وعن أنس رضي الله عنه قال: «ما سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه، قال: " فجاء رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قومي أسلموا؛ فإن محمدا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة» (¬2). فالداعية ينبغي له أن يكون كريما؛ لأن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها (¬3). ثالثا: الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى: الجهاد في سبيل الله تعالى وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله تعالى ونشر الإسلام؛ لأن الهدف منه: إخراج الناس من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39] (¬4). وقد دل الحديث على الإِعداد للجهاد والتأهب له، قال القسطلاني رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: " إلا سلاحه " أي الذي أعده لحرب الكفار: كالسيوف (¬5) وقال ابن الأثير: " السلاح ما أعددته للحرب من آلة الحديد مما يقاتل به، والسيف وحده يسمى سلاحا " (¬6). فينبغي للدَّولة المسلمة أن تعد العدة للجهاد بكل ما تستطيعه من قوة؛ لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] (¬7). ¬
رابعا: أهمية الوقف في العمل الدعوي: دل مفهوم الحديث وما في معناه من الأحاديث الأخرى على أن الوقف له أهمية بالغة؛ ولهذا اعتنى به النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث: «وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإِنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (¬1). فينبغي للداعية أن يبين للناس أهمية الوقف ويحثهم على ذلك، ويكون قدوة لهم في كل ما يدعوهم إليه. والله المستعان. * * * * ¬
حديث أوصى النبي بكتاب الله
[حديث أوصى النبي بكتاب الله] 3 - [2740] حَدَّثَنَا خَلّاد بن يَحْيى: حَدَّثَنا مَالك: حَدَّثَنا طَلْحَة بن مصرِّفٍ (¬1) قَالَ: " سَأَلت عَبدَ اللهِ بنَ أَبِي أَوْفَى (¬2) رضي الله عنهما: هَلْ كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَوْصَى؛ فقَال: لَا. فَقلت: كَيْفَ كتِبَ عَلَى النَّاس الوَصِيَّة أَوْ أمِروا بالوَصيَّةِ؛ قالَ: أَوْصَى بِكتَابِ اللهِ " (¬3). وفي رواية: " كَيْفَ كتِبَ عَلَى النَّاسِ الوَصيَّة أو أمِروا بِهَا وَلَمْ يوصِ " (¬4). * شرح غريب الحديث: * " فقال: لا " أي لم يوصِ بما يتعلق بالمال؛ لأن ما تركه فهو صدقة (¬5). * " أوصى بكتاب الله " أي بالتمسك به والعمل بمقتضاه (¬6). * " كيف كتِب على الناس الوصية أو أمروا بالوصية " شكّ من الراوي: هل قال: كيف كتب على المسلمين الوصية أو قال: كيف أمروا بها (¬7). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية العلم والعمل بكتاب الله تعالى. 2 - أهمية السؤال في تحصيل العلم ونشره. 3 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 4 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية تفصيلا على النحو الآتي: أولا: أهمية العلم والعمل بكتاب الله تعالى: أساس العلم النافع العلم بكتاب الله تعالى، فلا بد للداعية إلى الله تعالى أن يعتني بهذا الكتاب العظيم وحفظه: حسا ومعنى وتدبرا، فَيكرم، ويصان، ويتَّبع ما فيه: فيعمل بأوامره، ويجتنب نواهيه، ويداوم على تلاوته، وتعلمه وتعليمه (¬1) وقد بين الله الحكمة من إنزاله فقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] (¬2) وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا القرآن أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده المؤمنين فقال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» (¬3). فأي غبطة أعظم وأحب من هذه الغبطة العظيمة (¬4)؛ ولهذه المكانة العظيمة أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن العظيم في عدة مناسبات وفي عدة أماكن، من ذلك أنه أوصى به في عرفات فقال: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم ¬
به، كتاب الله» (¬1) وعندما كان في طريقه إلى المدينة راجعا من حجة الوداع أوصى به فقال: «وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، [هو حبل الله من اتَّبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة] فخذوا كتاب الله وتمسكوا به»، فحث عليه ورغب، ثم قال: «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي» ثلاث مرات (¬2) وأوصى به عند موته كما في حديث الباب. فدل ذلك على أهمية تعلم كتاب الله تعالى وتعليمه للناس، فيتأكد على الدعاة إلى الله تعالى أن يعتنوا بكتاب الله حفظا وفهما، وعملا وتعليما. ثانيا: أهمية السؤال في تحصيل العلم ونشره: إن السؤال عن العلم من أهم الأمور التي ينبغي لكل مسلم أن يعتني بها، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث؛ لسؤال طلحة بن مصرف لعبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما عن وصية النبي صلى الله عليه وسلم، فاستفاد منه هذا العلم العظيم ونشِرَ بسبب سؤاله؛ ولأهمية السؤال عن العلم قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: " خمسٌ إذا أخطأ القاضي منهن خطة (¬3) كانت فيه وصمة (¬4) أن يكون: فَهِما، حليما، عفيفا، صليبا (¬5) عالما، سئولا عن العلم " (¬6) وقال مجاهد: " لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر " (¬7) وهذا يدل على أهمية السؤال عن العلم ونشره، فيتأكد على الداعية أن يعتني بذلك. ثالثا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: دل هذا الحديث على أن القدوة وسيلة من وسائل الدعوة؛ ولهذا قال طلحة بن مصرف لعبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: " كيف كتبَ على الناس الوصية أو ¬
أمروا بالوصية ولم يوصِ " يعني النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أسوة كل مسلم، فقال عبد الله: " أوصى بكتاب الله "، وهذا يبين للداعية أنه يجب على جميع الدعاة إلى الله تعالى أن يكونوا قدوة صالحة للمدعوين، ولا يكون الداعية ناجحا إلا أن يعمل بدعوته، ولا يكون ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه، أو ينهى عنه ثم يرتكبه، وهذا حال الخاسرين نعوذ بالله من ذلك؛ ولهذا قال الله تعالى محذرا عن ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] (¬1)؛ قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " علماء السوء جلسوا على أبواب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فلما قالت أقوالهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما يدعون إليه حقا، كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع طريق " (¬2) فعلى الداعية المسلم أن يكون قدوة للناس بقوله وفعله (¬3) والله المستعان. رابعا: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: من الصفات الحميدة حرص السلف الصالح على الدقة في نقل الحديث؛ ولهذا قال بعض رواة هذا الحديث: " كيف كتِبَ على الناس الوصية أو أمروا بالوصية "، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " شك من الراوي هل قال: كيف كتب على المسلمين الوصية أو قال: كيف أمروا بها " (¬4). وهذا يدل الدعاة إلى الله تعالى ويرشدهم إلى التحري والدقة في نقل الأخبار والأحاديث وتبليغها للناس كما جاءت، حتى لا يقع الداعية في الكذب أو الافتراء وهو لا يشعر (¬5). * * * * ¬
حديث ما أوصى النبي بشيء
[حديث ما أوصى النبي بشيء] 4 - [2741] حَدَّثَنَا عَمْرو بن زرَارَةَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل، عَنِ ابنِ عَوْنٍ، عنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ (¬1) قَالَ: " ذَكَرورا عِنْدَ عَائِشة (¬2) أَنَّ عَلِيّا رضي الله عنهما كَانَ وصيّا، فَقَالَتْ: مَتى أَوْصى إِلَيْهِ وَقَدْ كنْت مسنِدَتَه إِلى صَدْرِي؟ - أَوْ قَالَتْ: حَجْرِي- فَدَعَا بِالطَّسْتِ، فَلَقَدِ انْخَنَثَ في حَجْرِي فَمَا شَعرْت أَنه قَدْ مَاتَ، فمتَى أَوصى إِلَيْهِ؟ " (¬3). * شرح غريب الحديث: * " الطست " إناء كبير مستدير (¬4). * " انخنث " أي انكسر وانثنى لاسترخاء أعضائه عند الموت (¬5). ¬
* " حجري " الحجر- بالفتح والكسر-: الثوب والحضن، والمصدر بالفتح لا غير (¬1). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - الرد بالحكمة على الفرق الضالة. 2 - قبول شهادة النفي من الداعية العالم. 3 - الدفاع عن الدعاة إلى الله تعالى. 4 - من أساليب الدعوة: الاستفهام الإِنكاري. 5 - من أساليب الدعوة: التوكيد. أما الحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية تفصيلا فعلى النحو الآتي: أولا: الرد بالحكمة على الفرق الضالة: من وظائف الدعاة إلى الله تعالى الرد على الفرق البدعية، وتبيين وتوضيح ما هم عليه من الباطل، ولكن ينبغي الرد بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن كما قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (¬2) ومما يدل على هذه الفائدة في هذا الحديث ما فعلته عائشة رضي الله عنها من الرد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخلافة من بعده، والسبب في ذلك أن الشيعة قد وضعوا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة لعلي فرد عليهم جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ذلك، وكذا من بعدهم، ومن ذلك ما استدلت به عائشة رضي الله عنها، وأنها كانت ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدة مرضه إلى أن مات في حجرها، ولم يقع منه شيء من ذلك، ومن ذلك أن عليا لم يدَّعِ ذلك لنفسه حتى ولو بعد أن ولي الخلافة، ولا ذكره ¬
أحد من الصحابة يوم السقيفة، ولا شك أن الشيعة تنقَّصوا عليا رضي الله عنه من حيث قصدوا تعظيمه " لأنهم نسبوه- مع شجاعته العظمى وصلابته في الدين- إلى المداهنة والتقية والإِعراض عن طلب حقه مع قدرته على ذلك. ومع ذلك فقد سمع الصحابة جميع ما أوصى به صلى الله عليه وسلم ولم يكن من هذه الوصايا: الوصية لعلي بالخلافة. فَمِمَّا روِيَ في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بإنفاذ الصدقة بمال كان عند عائشة رضي الله عنها، وإنفاذ جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما، والوصية بأداء الزكاة، والوصية بالحذر من الفتن ولزوم الجماعة والطاعة، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أوصى بكتاب الله تعالى، وأن لا يترك في جزيرة العرب دينان، وأوصى بإجازة الوفد بمثل ما كان يجيزهم ويعطيهم، وأوصى بالصلاة وما ملكت الأيمان، وغير ذلك. ولم يكن من هذه الوصايا ما زعم الشيعة أنه أوصى به (¬1). وهذا يبين للداعية أنه ينبغي أن يرد على الفرق الضالة؛ بالأسلوب الحسن، وبالرفق واللين، وبالجدال بالتي هي أحسن، وغير ذلك من الأساليب النافعة. ثانيا: قبول شهادة النفي من الداعية العالم: ينبغي للمدعوين أن يثقوا بالدعاة العلماء ويقبلوا أقوالهم بأدلتها الصحيحة العقلية والنقلية؛ ولهذا قال الإمام الأبي رحمه الله، عن حديث عائشة رضي الله عنها " فيه أن الشهادة على النفي من العالم مقبولة "، وبهذا المعنى صار قولها حديثا، فكأنه بمنزلة قوله: " لا أوصي بشيء " (¬2). ولا شك أن قبول أقوال الدعاة المخلصين الصادقين بأدلتها لمن يحتاج إلى ذلك مما ينتفع به المدعوون ويستفيدون منه، فعلى المدعو أن يتقي الله عز وجل وأن يقبل الدعوة بأدلتها من الكتاب والسنة، وأن يصدق الدعاة العلماء فيما ينفونه عن الدين والعقيدة، ولا مانع من سؤال الدعاة عن الأدلة والتثبت من أقوالهم من باب العلم والفائدة. ¬
ثالثا: الدفاع عن الدعاة إلى الله تعالى: لا شك أنه يجب على المدعوين- إذا سمعوا من يكذب على الدعاة أو يتهمهم بما ليس فيهم- أن يدافعوا عنهم بالصدق والحكمة، كما دافعت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وردَّت ما قاله الشيعة: من أنه صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي بالخلافة فقالت: " متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري. . .؟ " ثم بينت أنها لازمته مدة مرضه ولم يحصل منه ذلك (¬1). وهكذا ينبغي للمدعوين أن يفعلوا- مع علمائهم ودعاتهم الصادقين- كما فعلت عائشة رضي الله عنها من دفاعها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. رابعا: من أساليب الدعوة: الاستفهام الإِنكاري: الأسلوب: الطريق والفن. يقال: هو على أسلوب من أساليب القوم: أي على طريق من طرقهم. ويقال: أخذنا في أساليب من القول: فنون متنوِّعة (¬2) وأساليب الدعوة: هي العلم الذي يتصل بكيفية مباشرة التبليغ وإزالة العوائق عنه، وهي الطريقة التي يسلكها الداعية في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه، وتأدية معانيه ومقاصده من كلامه (¬3). وقد ظهر في هذا الحديث أسلوب الاستفهام الإِنكاري حيث قالت عائشة رضي الله عنها منكرة على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة لعلي رضي الله عنه: " متى أوصى إليه. . .؟ " ثم بينت رضي الله عنها ملازمتها له في مرضه حتى مات، ثم أعادت الاستفهام الإِنكاري مرة أخرى فقالت: " فمتى أوصى إليه؟ " والاستفهام الإِنكاري في الدعوة إلى الله تعالى يظهر منه أنه يحمل التوبيخ والزجر؛ لكن بطريقة حكيمة (¬4). والله عز وجل قد بين ذلك في كتابه وخاطب به المشركين ومن ذلك قوله سبحانه ¬
وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] (¬1) وقوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] (¬2) وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدمه ومن ذلك «قوله صلى الله عليه وسلم لابن اللتبية - حينما جاء بصدقة فدفعها- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا ما لكم وهذه هدية أهديت لي، فقال صلى الله عليه وسلم: " أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فتنظر أيهْدَى إليك شيء أم لا؟» (¬3). خامسا: من أساليب الدعوة: التوكيد: أسلوب التوكيد له صيغ متعددة وصور مختلفة، وأظهرها التوكيد بالقسم، والتوكيد بالتكرير. والتكرير قد يكون بتكرير الكلمة، أو الجملة أو الآية، أو القصة في القرآن الكريم والسنة المطهرة مرتين أو أكثر (¬4). والذي ظهر في هذا الحديث من هذه الأنواع هو أسلوب التوكيد بتكرير الكلمة: قالت عائشة رضي الله عنها: ". . . متى أوصى إليه، وقد كنت مسندته إلى صدري. . . "، ثم ساقت الحديث وقالت في آخره: " فمتى أوصى إليه؟ " وهذا الأسلوب قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدمه في دعوته، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلَّم سلَّم ثلاثا، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا (¬5). * * * * ¬
باب الوصية بالثلث
3 - بَاب الوصِيَّة بالثلثِ وقال الحسن: لا يجوز للذمي وصية إلا بالثلث، وقال الله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] (¬1). [حديث الثلث والثلث كثير] 5 - [2743] حَدَّثَنَا قتيبَة بن سَعيدٍ: حَدَّثَنَا سفيان عَن هِشَامٍ، عَنْ عرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ (¬2) رضي الله عنهما قَالَ: لَوْ غَضَّ النَّاس إِلى الرّبْعِ، لأَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «الثلث والثّلث كَثيرٌ» (¬3). * شرح غريب الحديث: * لو غض الناس: لو نقصوا وحطوا من الثلث واقتصروا على الربع، و " لو " للتمني فلا يحتاج إلى جواب، وإن قيل إنها شرطية فيكون جوابها محذوفا تقديره: لكان أولى (¬4). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: الرحمة. 2 - من صفات الداعية: الفهم والفقه. والحديث عن هذين الدرسين والفائدتين الدعويتين على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الرحمة: لا شك أنه ينبغي للداعية إلى الله تعالى أن يعطف على المدعوين ويرحمهم، وهذه صفة عظيمة من صفات الدعاة إلى الله تعالى؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يرحم الله من لا يرحم الناس» (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» (¬2) وقال: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي» (¬3) ". . . «إن أبعد الناس من الله القلب القاسي» (¬4). وتظهر الرحمة في هذا الحديث أن ابن عباس رضي الله عنهما رغب أن يغض الناس من الوصية بالثلث إلى الربع رحمة بورثتهم ورغبة في الإِحسان إليهم حتى لا يتكففون الناس؛ ولأن الصدقة عليهم أفضل من غيرهم؛ لأنهم أولى بها من غيرهم. ثانيا: من صفات الداعية: الفهم والفقه: الفقه لغة: العلم بالشيء والفهم له، والفطنة، وغلب على علم الدين لسيادته وشرفه، وفضله على سائر أنواع العلم (¬5)؛ ولهذا في دعا صلى الله عليه وسلم لابن عباس ¬
رضي الله عنهما بالفقه فقال: «اللهم فقهه في الدين» (¬1) والمعنى اللهم فَهِّمْه الدين؛ والفقه: الفهم كما قال تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] (¬2) أي ليكونوا علماء به. وهذه الصفة العظيمة مهمة للداعية، وقد رزق الله ابن عباس الفقه في الدين استجابة لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما يدل على فقهه ما قاله في هذا الحديث: " لو غض الناس إلى الربع "؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الثلث والثلث كثير» قال ابن دقيق العيد رحمه الله في قول ابن عباس رضي الله عنهما: " لو غض الناس إلى الربع ": قد استنبطه ابن عباس من لفظ " كثير " (¬3) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله " وكأن ابن عباس رضي الله عنهما أخذ ذلك من وصفه صلى الله عليه وسلم: الثلث بالكثرة " (¬4). وهذا يدل على فقه ابن عباس رضي الله عنهما، ولا غرابة فهو حبر الأمة، ويدل على أهمية الفقه للداعية إلى الله تعالى، فعلى الداعية أن يسأل الله عز وجل الفقه في الدين، وأن يتحصن بالعلم الشرعي: علم الكتاب والسنة. * * * * ¬
باب لا وصية لوارث
6 - باب لا وصية لوارث [حديث كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين] 6 - [2747] حَدَّثَنَا محَمَّد بن يوسفَ، عَنْ وَرْقاءَ، عَنْ ابنِ أَبي نَجيْحٍ، عَنْ عطَاءٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ (¬1) رضي الله عنهما قَالَ: " كَانَ المَال لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الوَصيَّة لِلوَالِدَينِ، فَنَسَخَ الله مِن ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأنثيين، وَجَعَلَ لِلأَبَوَينِ لِكلِّ وَاحِدٍ مِنْهمَا السّدسَ، وَجَعَلَ لِلمَرْأَةِ الثمنَ وَالربعَ، وللزَّوج الشَّطْرَ والرّبعَ " (¬2). * شرح غريب الحديث: * " فنسخ الله من ذلك ما أحب " النسخ: أمر كان يعمل به من قبل، ثم ينسخ بحادثٍ غيره، كالآية ينزل فيها أمر ثم تنسخ بآية أخرى، وكل شيء خَلَفَ شيئا فقد نسخه: أي أبطله وقام مقامه، والأول منسوخ والثاني ناسخ، يقال: نسخت الشمس الظل: أي أزالت الظل وحلت محله (¬3). " الشطر " النصف (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية تبليغ العلم النافع للناس. 2 - عناية الإسلام بحقوق الإِنسان. 3 - من موضوعات الدعوة: بيان الناسخ والمنسوخ. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: ¬
أولا: أهمية تبليغ العلم النافع للناس: دل مفهوم هذا الحديث على أهمية تبليغ العلم النافع للناس؛ فإن ابن عباس رضي الله عنهما قد بلغ في هذا الحديث علم الفرائض- الذي هو نصف العلم- وبينه للناس بيانا واضحا؛ فقد بين صلى الله عليه وسلم أن المال الذي يخَلِّفه الميت كان يأخذه أولاده ميراثا، وكانت الوصية في أول الإسلام واجبة للوالدين والأقربين على ما يراه الموصي من المواساة والتفضيل، ثم نسخ الله عز وجل من ذلك ما أحب وحدد الفرائض وأعطى كل ذي حق حقه (¬1). فينبغي للدعاة إلى الله تعالى أن يقتدوا بحبر الأمة ويبلغوا العلم النافع للناس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية» (¬2) ودعا صلى الله عليه وسلم بالنَّضَارة، وهي: النعمة والبهجة لمن بلغ عنه عليه الصلاة والسلام، فقال: «نَضّرَ الله امرأ سَمِعَ مِنَّا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فَربَّ حَامِل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، وربَّ حامِل فِقْهٍ ليس بفقيهٍ» (¬3) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «نَضّرَ الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، وحفظها وبلّغها، فَرب حامل فِقهٍ إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يَغِلّ (¬4) عليهنَّ قَلْب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن الدعوة تحيط من ورائهم» (¬5) فعلى الدعاة إلى الله عز وجل أن يرغبوا في هذا الفضل العظيم، وهذه الدعوة المباركة. والله المستعان. ¬
ثانيا: عناية الإسلام بحقوق الإنسان: يظهر في هذا الحديث جليّا أن الإسلام حفظ حقوق الإِنسان واعتنى بها عناية فائقة، وهذا يبين أنه الدين الذي يصلح لكل زمان ومكان؛ فإنه تكفل بما يعود على الإِنسان المسلم بالسعادة في الدنيا والآخرة. ويؤخذ من هذا الحديث امتياز الإسلام وحفظه للحقوق الإِنسانية، وذلك لأمور: 1 - الإسلام أبطل نظام الجاهلية الذي ينقل مال الميت إلى الكبير من أبنائه، فإن لم يكن له أبناء فإلى أخيه أو عمه، فلا يورِّثون الصغار، ولا الإناث؛ بحجة أن هؤلاء لا يحمونهم، ولا يقاتلون معهم، ولا يحوزون المغانم (¬1) فجاء الإسلام يهدم عادات الجاهلية قال الله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] (¬2) فحفظ الإسلام حقوق الناس ذكورا وإناثا، صغارا وكبارا، وأعطى كل ذي حق حقه، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: «إن الله تعالى قد أَعطى كلَّ ذي حق حقه فلا وصية لوارث» (¬3) فإذا كانت الجاهلية راعت الأقوياء وحرمت الضعفاء من الميراث، فكل الإسلام راعى هؤلاء الضعفاء؛ لأنهم أحق بالعطف، ولم يحرم الإسلام الأقوياء من الميراث، فكل من توفر فيه سبب من أسباب الإِرث، وانتفى عنه المانع ورث كبيرا كان أو صغيرا، ذكرا كان أم أنثى، قويا أم ضعيفا (¬4). 2 - الإسلام يقَوِّي أواصر القرابة بين الناس، ويحكم الصلة بينهم بصلة الرحم، كما قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] (¬5) ¬
فهو يقدم الذرية بالإِرث على الأصول وعلى بقية القرابة، ومع هذا فلا يحرم الأصول ولا بقية القرابات، بل يجعل لكل ذي نصيبٍ نصيبه (¬1) وهذا نظام العدالة والمواساة. والرحمة: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] (¬2). 3 - الإسلام يحترم الملكية الفردية، فنظام التوريث يعطينا دلالة واضحة على احترام هذا الدين للملكية الفردية؛ لأنه يسلم الثروة التي يخلفها الميت إلى يد وارثه موفورة محترمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن ترك مالا فلورثته» (¬3) وهذا من أكبر الدوافع التي تقوي نشاط أهل الأموال إلى الاستثمار، وبذل الجهد في ذلك؛ لأن الإنسان الذي يعرف أن الأموال التي بذل جهده في جمعها تصير بعد ذلك إلى غير ورثته ولا ينتفع بها أولاده لا يحافظ عليها، ولا يحميها. وهذا يدل على سماحة الإسلام وحفظه لحقوق الإنسان كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] (¬4). ثالثا: من موضوعات الدعوة: بيان الناسخ والمنسوخ: الإسلام نسخ جميع الشرائع السابقة، ومعلوم أن أصل دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحد، وهو " التوحيد "، أما الشرائع فقد نسختها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله ختم بها جميع الشرائع، وأرسله إلى الإِنس والجن، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] (¬5) وحديث ابن عباس يظهر منه جليّا وقوع النسخ، ولهذا قال ابن حجر رحمه الله على قول ابن عباس رضي الله عنهما: " فنسخ من ذلك ما أحب ": " وفيه رد على من أنكر النسخ " (¬6) ¬
ولا شك أن الإسلام نسخ جميع الشرائع السابقة بالإِجماع (¬1) ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار» (¬2). فالداعية إلى الله تعالى قد يحتاج إلى بيان الناسخ من المنسوخ في هذه الشريعة كما قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] (¬3) وقد يحتاج إلى بيان نسخ الشريعة الإِسلامية لجميع الشرائع السابقة، وذلك في دعوته لغير المسلمين، وخاصة أهل الكتاب، فعليه أن يلمَّ بذلك إلماما جيدا؛ قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: " معرفة هذا الباب أكيدة، وفائدته عظيمة لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء؛ لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام " (¬4). فينبغي للداعية أن يسلك طريق الحكمة في بيان أن الشريعة الإِسلامية ناسخة لجميع الشرائع السابقة، وأن يبين للناس: الناسخ والمنسوخ عن علم وبصيرة، على حسب ما يحتاجه المدعو. * * * * ¬
باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب
11 - باب هَلْ يَدخل النّساء والولد في الأَقَارب؟ [حديث اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا] 7 - [2753] حَدَّثَنَا أَبو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شعَيْب، عَن الزّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَني سَعِيد بن المسَيّب وأَبو سَلَمَةَ بن عَبدِ الرّحمنِ: أَنَّ أَبا هرَيْرَةَ (¬1) رضي الله عنه قَالَ: «قَامَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم حينَ أنزَلَ الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] قال: " يَا مَعْشَرَ قريشٍ - أَوْ كَلِمَة نَحْوَهَا- اشْتَروا أَنفسَكمْ، لَا أغْنِي عَنْكمْ مِن اللهِ شيْئا. يَا بَنِي عَبْدِ مَنافٍ، لَا أغْنِي عَنْكمْ مِنَ اللهِ شَيْئا. يَا عَبَّاس بنَ عبدِ المطلبِ، لا أغنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئا. يَا صَفِيَّة عمةَ رسولِ الله، لا أغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئا. ويَا فَاطِمَة بِنتَ محَمدٍ، سَلِيني مَا شِئتِ مِن مَالي لَا أغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئا» (¬2). وفي رواية: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ اشْتَروا أنْفسَكمْ مِنَ اللهِ، يَا بَنِي عَبْدِ المطَّلِبِ اشْتَروا أَنْفسَكمْ مِنَ اللهِ، يَا أمَّ الزّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ عَمَّة رَسولِ اللهِ، يَا فَاطِمَة بِنْتَ محَمِّدٍ اشْتَرِيا أَنْفسَكمَا مِنَ اللهِ، لَا أَمْلِك لَكمَا مِنَ اللهِ شَيْئا سَلانِي مِنْ مَالي مَا شِئْتمَا» (¬3). ¬
* شرح غريب الحديث: * العشيرة عشيرة الرجل: بنو أبيه الأقربون وقبيلته (¬1). * يا معشر قريش المعشر: كل جماعةٍ أمرهم واحد، نحو: معشر المسلمين، معاشر المشركين، ومعاشر: جماعات الناس (¬2) ويا معشر: مثل قوله: يا بني فلان، يا بني فلان (¬3) فقوله: " يا معشر قريش " أي يا جماعة، أو يا قبيلة قريش. * اشتروا أنفسكم من الله " العبد مشترٍ لنفسه باعتبار تخليصها من العذاب، بائع باعتبار تحصيل الثواب (¬4) كأنه قال: أسلموا تسلموا من العذاب، فكان ذلك كالشراء، كأنهم جعلوا طاعة الله ثمن النجاة (¬5) أما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] (¬6) فالمؤمن في هذا المقام بائع باعتبار تحصيل الثواب والثمن الجنة (¬7). أنقذوا أنفسكم من النار من الإِنقاذ: خلّصوها من النار بترك أسبابها والاشتغال بأسباب الجنة (¬8) يقال: أنقذت فلانا: إذا خلصته مما يكون قد وقع فيه أو شارف أن يقع فيه (¬9). لا أغني أي: لا أدفع، والمعنى لا تتكلوا على قرابتي فإني لا أقدر على دفع مكروه يريده الله تعالى بكم (¬10). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - دعوة الأقربين. 2 - التدرج في الدعوة. 3 - من صفات الداعية: الصدق. 4 - قرب المدعو من أهل الفضل لا ينفع إلا بالعمل الصالح. 5 - أهمية ربط المدعوين بخالقهم. 6 - من وسائل الدعوة: الخطبة. 7 - من وسائل الدعوة: البروز للناس على مكان مرتفع. 8 - اختيار الداعية الوقت المناسب للمدعوين. 9 - من وسائل الدعوة: التأليف بالمال. 10 - من وسائل الدعوة: التأليف بالجاه والنسب. 11 - من أساليب الدعوة: النداء بالأنساب والكنى. 12 - من أساليب الدعوة: التكرير بالإِنذار. 13 - من أساليب الدعوة: الترهيب. 14 - من أساليب الدعوة: الترغيب. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: دعوة الأقربين: مما لا شك فيه أنه يلزم الداعية إلى الله تعالى أن يعتني بأقاربه عناية خاصة؛ لأن الله عز وجل أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن ينذر عشيرته الأقربين؛ وأنهم أحق الناس بالنصيحة والتوجيه والإِحسان؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة» (¬1) ولا شك أن دعوة العشيرة ¬
الأقربين وتوجيههم إلى سعادتهم الأبدية أعظم وأولى من الصدقة بالمال. والناس في الغالب ينظرون إلى قرابة الداعية، ومدى تطبيقهم لما يدعو إليه؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " والسر في الأمر بإنذار الأقربين أولا، أن الحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم، وإلا فكانوا علة للأبعدين في الامتناع، وأن لا يأخذه ما يأخذ القريب من العطف والرأفة، فيحابيهم في الدعوة والتخويف، فلذلك نَصَّ له على إنذارهم (¬1) ولهذا كان عمر رضي الله عنه إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء جمع أهله فقال: " إني نهيت الناس عن كذا وكذا " وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحدا منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة " (¬2). ثانيا: التدرج في الدعوة: بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة السرية بعد أن أمره الله تعالى بإنذار قومه عاقبة ما هم فيه من الشرك، وما هم عليه من الكفر والفساد، قال تعالى؛ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ - وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ - وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1 - 7] (¬3) وبعد هذه الآيات بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض الإسلام على من يعرفهم ويعرفونه: يعرفهم بحب الخير والحق، ويعرفونه بتحري الصدق والصلاح، فأجابه من هؤلاء جمع عرفوا بالسابقين الأولين. ثم أنزل الله تعالى بعد ذلك {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ - إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 94 - 95] (¬4) وهذا أمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالته قومه وجميع من أرسل إليه (¬5) وأمره تعالى بإنذار عشيرته الأقربين، فبدأ صلى الله عليه وسلم دعوته الجهرية بإنذارهم. وقد بين الإمام ابن القيم رحمه الله ترتيب الدعوة للنبي صلى الله عليه وسلم وأنها على الترتيب الآتي: ¬
الأولى: النبوة. الثانية: إنذار عشيرته الأقربين. الثالثة: إنذار قومه. الرابعة: إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله: وهم العرب قاطبة. الخامسة: إنذار جميع من تبلغه دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر (¬1). وهذا الحديث في هذا الباب دل على الدرجة الثانية؛ فينبغي للداعية أن يراعي ويسلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته. ثالثا: من صفات الداعية: الصدق الصدق من أهم صفات الداعية إلى الله تعالى، وفي هذا الحديث دليل على التحرز من الكذب وتحري الصدق؛ لأن الراوي نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: " يا معشر قريش أو كلمة نحوها " وهذا شك من الراوي هل قال النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة أو ما معناه (¬2). ولا شك أن الصدق من أهم الصفات للداعية، وخاصة في ثلاثة مجالات: 1 - الصدق في النية والقصد، وهذا يستلزم الإخلاص في الدعوة لله تعالى، وفي كل طاعة وقربة. 2 - الصدق في القول، وهذا يستلزم أن لا ينطق الداعية بالباطل أيا كانت صورته: كذبا، أو شتما، أو سبابا، أو غشا، أو غيبة، أو نميمة، أو غير ذلك من الألفاظ القبيحة. 3 - الصدق في العمل، وهو مطابقة الأقوال والأعمال للحق الذي يدعو إليه الداعية، فيعمل بما يدعو إليه قولا وعملا. (¬3). فعلى الداعية أن يكون صادقا في جميع المجالات؛ ولهذا قال الله تعالى: ¬
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] (¬1). رابعا: قرب المدعو من أهل الفضل لا ينفع إلا بالعمل الصالح: لا ريب أن المدعو إذا كان قريب النسب أو الجوار لأهل الفضل لا ينفعه ذلك إلا بالعمل؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في ندائه لبطون قريش: " لا أغني عنكم من الله شيئا "، وقال لفاطمة بنته: " لا أغني عنك من الله شيئا "، قال الإمام الحافظ ابن العربي رحمه الله في الكلام على هذه الجملة: " هذا كلام بديع، فهذا نوح عليه السلام لما كفر ابنه لم تنفعه بنوته، وهذا إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما كفر أبوه لم تنفعه أبوته، كذلك أبو طالب لم تنفعه عمومته للنبي صلى الله عليه وسلم ولم تنجه من العذاب، وفي هذا بيان أن العصمة بالعمل الصالح لا بالقرابة، قال صلى الله عليه وسلم: ". . . «ومن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه» (¬2) وكذلك الصلة بسبب النكاح لا تنفع إلا بالإيمان، وقد بين الله ذلك سبحانه في قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} [التحريم: 10] (¬3) وفي قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} [التحريم: 11] (¬4) فلم تنتفع زوجتا نوح ولوط بإيمان زوجيهما، ولم يضر امرأة فرعون كفر زوجها فرعون " (¬5). فينبغي أن يعْلَم أن رؤية أهل الفضل أو القرب من العلماء والصالحين ومخاطبتهم لا تنفع إلا إذا وقع الاقتداء بهم، وكلما قوي الاقتداء والعمل الصالح قوي القرب والانتفاع بإذن الله تعالى (¬6). خامسا: أهمية ربط المدعوين بخالقهم: ينبغي للداعية أن يبين للناس أنهم بحاجة إلى ربهم في جميع أمورهم، وأنهم ملك لله تعالى، وهم فقراء إليه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " اشتروا أنفسكم من الله "، قال ¬
الحافظ ابن حجر رحمه الله: " فيه إشارة إلى أن النفوس كلها ملك لله تعالى، وأن من أطاعه في امتثال أوامره واجتناب نواهيه وفَّى ما عليه من الثمن " (¬1). وقوله صلى الله عليه وسلم: " اشتروا أنفسكم من الله " فقد بين الشراء ولم يبين الثمن الذي يشترى به، وقد بينه الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] (¬2) والشراء يجوز أن يطلق على البائع والمبتاع؛ لأن كل واحد منهما في الحقيقة بائع ومشتر، فالمؤمن الحقيقي ليس له في نفسه شيء، وإنما هو عليها أمين مثل الوصي على مال اليتيم، ينفق عليه بالمعروف (¬3) فعلى الداعية أن يسلك منهج النبي صلى الله عليه وسلم في ربط المدعوين بخالقهم تعالى. سادسا: من وسائل الدعوة: الخطبة: الخطبة من الوسائل الحية في الدعوة إلى الله تعالى، وتبرز في هذا الحديث؛ لقول أبي هريرة رضي الله عنه: " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويبين ذلك الرواية الأخرى: من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، بأن النبي صلى الله عليه وسلم صعد على الصفا فجعل ينادي (¬4) وهذا يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم على الصفا، وعم وخص وأنذر صلى الله عليه وسلم. فينبغي للداعية أن يعتني بالخطبة، ويحضر لها تحضيرا جيدا دقيقا؛ لما لها من التأثير في قلوب المدعوين؛ ولأن الخطبة في الغالب يجتمع لها الجمع الغفير في معظم الأحيان. سابعا: من وسائل الدعوة: البروز للناس على مكان مرتفع: من الوسائل المهمة أن يبرز الداعية على مكان مرتفع يراه الناس أمام أعينهم، وخاصة إذا كان الجمع غفيرا، حتى يسمع الناس ما يقول؛ ولهذا شرع الصعود على المنبر في خطب الجمع، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الإمام ابن العربي ¬
معنى ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صعد الصفا يريد الإسماع؛ ولذلك شرع للمؤذن صعود السطوح والمواضع المرتفعة؛ ليكون أقوى لصوته، وأسمع له (¬1). فعلى الداعية أن يعتني بهذه الوسيلة عند الحاجة إليها. ثامنا: اختيار الداعية الوقت المناسب للمدعوين: لا شك أنه ينبغي للداعية أن يختار الأوقات المناسبة للمدعوين، حتى يستطيع بتوفيق الله تعالى- أن يؤثر عليهم؛ ولهذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم وقت الصباح حينما بدأ بإنذار قريش؛ لكون هذا الوقت أنسب لهم، وأسمع لصوته (¬2). فينبغي للداعية أن يتحرى أوقات الفراغ والنشاط والحاجة عند المدعوين؛ ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا» (¬3) والمعنى كان صلى الله عليه وسلم يراعي الأوقات في تذكيرهم (¬4). تاسعا: من وسائل الدعوة: التأليف بالمال: لا شك أن التأليف بالمال من وسائل الدعوة إلى الله تعالى، وقد أشار إليه هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: " سليني من مالي ما شئت " قال العيني رحمه الله: " فيه أن الائتلاف للمسلمين وغيرهم بالمال جائز وفي الكافر آكد " (¬5) فينبغي للداعية أن يكون كالطبيب الذي يشخص المرض أولا، ثم يعطي العلاج على حسب نوع المرض، فإذا علم الداعية أن المدعو بحاجة إلى التأليف بالمال أعطاه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بهذه الوسيلة عناية فائقة حتى قال: «إني أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، خشية أن يكبَّ في النار على وجهه» (¬6) ¬
وقد كان صلى الله عليه وسلم يعطي أشراف قريش وغيرهم من المؤلفة قلوبهم؛ لتلافي أحقادهم؛ ولأن الهدايا تجمع القلوب، وتجعل القلوب متهيئة للنظر في صدق الدعوة، وصحة العقيدة، والاستفادة من الآيات البينات، والبراهين الواضحة. وصدق صلى الله عليه وسلم حيث قال: «تهادوا تحابوا» (¬1) وللتأليف بالمال أمثلة كثيرة من هديه صلى الله عليه وسلم (¬2) فينبغي للداعية أن يسلك هذا المسلك عند الحاجة إليه. عاشرا: من وسائل الدعوة: التأليف بالجاه والنسب: من الوسائل النافعة في الدعوة إلى الله تعالى: التأليف بالجاه أو بالنسب؛ وفي هذا الحديث ما يشير إلى ذلك عنه صلى الله عليه وسلم حيث قال: " ويا صفية عمة رسول الله. . ويا فاطمة بنت محمد "، فكأنه صلى الله عليه وسلم يرقق قلب صفية وفاطمة رضي الله عنهما لما لهما من القرابة منه صلى الله عليه وسلم، وقد نادى صلى الله عليه وسلم عباس بن عبد المطلب، وصفية بنت عبد المطلب، وفاطمة بنت محمد لشدة قرابتهم منه (¬3) وقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم التأليف بالجاه؛ فقال صلى الله عليه وسلم للأنصار حينما آثر عليهم غيرهم في العطاء: «أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به " فقالوا: " بلى يا رسول الله قد رضينا» (¬4). وفي رواية: ". . . «لو سلك الناس واديا أو شعبا، وسلكت الأنصار واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار» (¬5). فينبغي للداعية أن يسلك منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله تعالى. ¬
الحادي عشر: من أساليب الدعوة: النداء بالأنساب والكنى: ظهر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل النداء بالأنساب والكنى في دعوته إلى الله تعالى فقال: " يا بني كعب بن لؤيٍّ. . . يا بني مرة بن كعب. . . يا بني عبد شمس. . . يا بني عبد مناف. . . يا بني هاشم. . . يا بني عبد المطلب. . . يا بني فهر. . . يا بني عدي. . . يا عباس بن عبد المطلب. . . يا صفية عمة رسول الله. . . يا فاطمة بنت رسول الله. . . " (¬1). وفي رواية: «. . . يا أم الزبير بن العوام عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬2). فدل ذلك على أنه لا حرج على الداعية أن يستخدم مثل هذا إذا احتاج إليه (¬3) إذا كان مما يجلب قلوب المدعوين، ويدخل السرور عليهم والأنس والراحة، وقد علِمَ بالتجارب أن النداء بالكنى المباحة يدخل السرور على المنَادَى. الثاني عشر: من أساليب الدعوة: التكرير بالإنذار: إن أسلوب التكرير وإعادة الإِنذار والتوجيه مرة بعد أخرى أسلوب نافع؛ لأن الناس قد ينسون بعد فترة من الزمن، وهذا يبين للدعاة إلى الله تعالى أهمية هذا الأسلوب، فإذا ألقى الداعية كلمة، أو خطبة، أو محاضرة، أو نصيحة على قوم من المدعوين ثم احتاج إلى إعادتها بعد فترة فلا حرج في ذلك؛ لأن المقصود أن يفهم الناس ما يلقى إليهم ويستوعبوه، فإذا لم يحصل هذا كرر ما يلقى إليهم حتى يرسخ في أذهانهم. قال الإمام ابن حجر رحمه الله في شرحه لحديث الباب: " ونداؤه صلى الله عليه وسلم للقبائل من قريش قبل عشيرته الأدْنَين؛ ليكرر إنذار عشيرته، ولدخول قريش كلها في أقاربه، ولأن إنذار العشيرة يقع بالطبع وإنذار غيرهم يكون بطريق الأولى " (¬4) ¬
ثم قال رحمه الله: " وهذه القصة إن كانت وقعت في صدر الإسلام بمكة فلم يدركها ابن عباس، لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ولا أبو هريرة لأنه إنما أسلم بالمدينة، وفي نداء فاطمة يومئذٍ أيضا ما يقتضي تأخر القصة؛ لأنها كانت حينئذٍ صغيرة أو مراهقة. . والذي يظهر أن ذلك وقع مرتين مرة في صدر الإسلام. . . ومرة بعد ذلك حيث يمكن أن تدعى فيها فاطمة رضي الله عنها، أو يحضر ذلك أبو هريرة وابن عباس رضي الله عن الجميع " (¬1). وهذا يوضح للداعية أنه ينبغي له أن يكرر ما يحتاج إليه الناس بدون ملل ولا كسل (¬2). الثالث عشر: من أساليب الدعوة: الترهيب يظهر في هذا الحديث أسلوب الترهيب، وأنه من أساليب الدعوة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها؛ لأن الترهيب يكون بما يخيف المدعو ويحذره من عدم الاستجابة، أو رفض الحق، أو عدم الثبات عليه بعد قبوله (¬3). فقد دل هذا الحديث على الترهيب من النار في قوله صلى الله عليه وسلم بعد نداء كل بطن من بطون قريش: «أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا» (¬4). الرابع عشر: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب، وهو كل ما يشوق المدعو إلى الاستجابة وقبول الحق، والثبات عليه (¬5)؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: اشتروا أنفسكم من الله، قال الكرماني: " فإن قلت ما معنى الاشتراء وهم البائعون، قال الله ¬
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] (¬1) قلت: العبد مشتر لنفسه باعتبار تخليصها من العذاب، بائع باعتبار تحصيل الثواب " (¬2). وقال ابن حجر رحمه الله: " اشتروا أنفسكم من الله " أي باعتبار تخليصها من النار؛ كأنه قال: أسلموا تسلموا من العذاب، فكان ذلك كالشراء، كأنهم جعلوا طاعة الله ثمن النجاة، أما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] فهناك المؤمن بائع باعتبار تحصيل الثواب والثمن الجنة، وفيه إشارة إلى أن النفوس كلها ملك لله تعالى، وأن من أطاعه حق طاعته في امتثال أوامره واجتناب نواهيه وفَّى ما عليه من الثمن " (¬3). وهذا واضح في دلالة الحديث على أسلوب الترغيب، فينبغي للداعية إلى الله تعالى أن يستخدمه في دعوته. * * * * ¬
باب إذا قال أرضي أو بستاني صدقة لله عن أمي فهو جائز
15 - باب إِذا قال أرضي أو بستاني صدقة لله عن أمِّي فهو جائز، وإن لم يبين لمن ذلك [حديث أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها] 8 - [2756] حَدَّثَنَا محَمَّد بن سَلامٍ: أَخْبَرَنَا مَخلَد بن يَزِيدَ: أَخْبَرَنَا ابن جرَيجِ قَالَ: أَخْبَرني يَعْلى: أنه سَمِعَ عِكْرِمَةَ يقول: أنبَأَنا ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَنَّ سَعْدَ بنَ عبَادَةَ (¬1) رضي الله عنه توفِّيَتْ أمّه (¬2) وَهوَ غَائب عَنْهَا، فَقَالَ: يَا رَسولَ اللهِ، إِنَّ أمِّي توفِّيَتْ وأَنا غَائِب عَنْهَا، أَيَنفَعها شَيْء إِنْ تَصدَّقْت بهِ عَنْهَا؛ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ؛ فَإِنِّي أشْهِدكَ أَنَّ حَائِطِي المِخْرافَ صَدَقة عَلَيْهَا» (¬3). وفي رواية: «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عبَادَةَ رضي الله عنه توفِّيَتْ أمّه وَهوَ غَائِب عَنْهَا فَأتى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسولَ اللهِ إِنَّ أمِّي توفِّيَتْ وَأنا غَائِب عَنْهَا فَهَلْ يَنْفَعهَا شَيء إِنْ تَصَدَّقْت بِهِ عَنْهَا؟». . . " (¬4). * شرح غريب الحديث: * " حائطي " الحائط: الجدار، لأنه يحوط ما فيه (¬5). * " المخراف " هو الحائط من النخل، أو البستان المثمر، والمخراف: ¬
المثمرة، سماها مخرافا: لما يخترف منها (¬1). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه. 2 - مسارعة المدعو إلى عمل الخير. 3 - كرم المدعو. 4 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 5 - من وسائل الدعوة: القدوة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه: دل الحديث على أهمية السؤال للعالم عند الجهل، أو عند اشتباه الأمور؛ ولهذا ذكر الإمام عبد الله بن أبي جمرة الأندلسي أن من فوائد هذا الحديث: السؤال للعالم عند الجهل وترك الحكم بالرأي؛ لأن هذا الصحابي رضي الله عنه عندما لم يكن علم هل تنفع صدقته بتلك النية التي أراد أم لا، لم يقدم عليها برأيه، وإنما سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذ أقدم على الفعل بعد العلم بالحكم (¬2). وهكذا ينبغي للمدعو أن يسأل أهل العلم عما أشكل عليه حتى يعبد الله تعالى على بصيرة؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] (¬3). ثانيا: مسارعة المدعو إلى عمل الخير: دل الحديث على المسارعة إلى أفعال البر إذا علِمت، حتى يكون العلم مقرونا بالعمل؛ لأن هذا الصحابي رضي الله عنه عندما علم أن الصدقة تنفع أمه وأنه ¬
يثاب على ذلك أخرجها من حينه، فأشهد النبي صلى الله عليه وسلم عليها (¬1). فينبغي للمدعو أن يسارع إلى الخير، وينتهز الفرص المؤدية إلى ذلك؛ لأمر الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] (¬2) وقد مدح الله عز وجل آل زكريا بالمسارعة في الخير فقال عز وجل: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] (¬3). ثالثا: كرم المدعو: دل الحديث على كرم المدعو؛ لأن الصحابي الجليل رضي الله عنه- عندما تيقن أن الصدقة مقبولة ويلحق ثوابها لأمه- أعلن بصدقة عظيمة لا يستطيعها البخلاء من البشر، وأعطى الحائط العظيم صدقة عن أمه، وهذا العمل من الصحابي الجليل لا يستغرب؛ فإنه ممن اشتهر بالجود والكرم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان رضي الله عنه يحمل كل يوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفنة مملوءَة ثريدا ولحما (¬4)؛ ولهذا الكرم العظيم قال: " فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها ". فينبغي للمدعو أن يكون كريما جوادا، وهذا إن كان من صفات الدعاة ومعلمي الناس الخير؛ فإنه لا يمنع أن يكون المدعو كريما جوادا. رابعا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل الحديث على الترغيب في الصدقة عن الميت، وأنها تصل إليه وتنفعه، ولا سيما إن كان من الوالدين؛ لأن حقهما أعظم وبرهما أوجب؛ ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أنواعا من أنواع البر التي ينبغي لكل مسلم أن يبر بها والديه بعد موتهما؛ فقد جاء «أن رجلا قال له: يا رسول الله: هل بقي من بر أبويَّ شيء أبرهما به بعد موتهما؛ فقيل إنه: قال: " نعم. . الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما ¬
من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما» (¬1). فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب؛ لأن له تأثيرا في النفوس، ودفعا وترغيبا لها على الخير؛ قال الكرماني رحمه الله: " وفيه أن ثواب الصدقة عن الميت تصل إلى الميت وتنفعه، وهو مخصص لعموم قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] (¬2). خامسا: من وسائل الدعوة: القدوة: يظهر من كلام الصحابي الجليل وإظهاره للصدقة علانية أمام الناس أن القدوة وسيلة نافعة في الدعوة إلى الله تعالى؛ ولعظم القدوة انتفع خلق كثير بفعل سعد رضي الله عنه؛ لأن الفعل إذا قارن القول نفع الله به؛ ولهذا قال الإمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: " فيه دليل على أن إظهار الصدقة في مثل هذا الموضع أفضل من إخفائها؛ لأن هذا الصحابي رضي الله عنه قد أظهر صدقته هنا ولم يخفها، والحكمة في ذلك: اغتنام صدق النية؛ لأنه حصل له صدق النية عند الإخبار فاغتنمها بالعمل " (¬3). وعلى هذا الأسلوب كان الصحابة رضي الله عنهم، مهما زاد أحدهم في علمه ظهر في عمله، حتى إنهم كانوا يعرفون زيادة علم الْإِنسان في عمله، وكذا التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين؛ لأن العلم مع ترك العمل حجة ووبال على صاحبه؛ لأن الإنسان إذا اغتنم صدق نيته بالعمل حين حصول العلم بتَّ الأمر، وأمن غائلة النفس ومكر الشيطان (¬4). وهذا يبين عظم العمل بالعلم، وأنه ينبغي للداعية أن يكون قدوة حسنة لغيره؛ لأن الناس في الغالب ينتفعون بالعمل أكثر من القول (¬5). ¬
باب إذا تصدق أو وقف بعض ماله أو بعض رقيقه أو دوابه فهو جائز
16 - باب إذا تصَدَّقَ أَوْ وَقَفَ بَعْضَ مَالِهِ أوْ بَعضَ رَقِيقهِ أَوْ دَوابِّهِ فهوَ جَائِز [حديث أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك] 9 - [2757] حَدَّثَنَا يَحيىَ بْن بكَيْرٍ: حَدَثَنَا اللَّيْث، عَنْ عقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شهَابٍ قَالَ: أَخْبَرني عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ: سمِعْت كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ (¬1) رضي الله عنه يقول: «قلْت: يَا رَسولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أنخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَة إِلَى اللهِ وَرَسولِهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: " أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْض مَالِكَ فَهوَ خَيْر لَكَ " قلْت: فَإِنِّي أمْسِك سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ» (¬2). ¬
وفي رواية: قَالَ: «سَمِعْت كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يحَدِّث حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ قِصَّةِ تَبوكَ قالَ كَعْب: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبوكَ غَير أني كنت تَخَلَّفْت فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ ولم يعَاتِبْ أَحَدا تَخَلَّفَ عَنْهَا. إِنَّمَا خَرَجَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يرِيد عِيرَ قرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ الله بَيْنَهمْ وَبيْنَ عَدوِّهِمْ عَلَى غَيرِ ميعَادٍ. وَلَقَدْ شَهِدْت مَعَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَة حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإسلام، ومَا أحِبّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْر أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا. كَانَ مِنْ خَبَرِي أني لَمْ أَكنْ قَطّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْت عَنْه فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ. وَاللهِ مَا اجتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَه رَاحِلَتَانِ قَطّ حَتَّى جَمَعْتهمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَلَمْ يَكنْ رَسول اللهِ يرِيد غَزْوَة إِلَّا وَرَّى بِغَيْرهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَة غَزَاهَا رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَل سَفرا بَعِيدا وَمَفَازا وَعَدوّا كَثِيرا. فَجَلَّى لِلْمسْلِمِينَ أمرَهم ليتأَهَّبوا أهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهمْ بِوَجْههِ الَّذِي يرِيد وَالْمسْلِمونَ مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كثِير، وَلَا يَجْمَعهمْ كتاب حَافِظ - يرِيد الدِّيوَانَ- قَالَ كَعْب: فَما رَجل يرِيد أَنْ يَتَغَيَّبَ إلَّا ظَنَّ أنْ سَيَخْفَى لَه مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْي اللهِ، وَغَزَا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَار وَالظِّلاَل. وَتَجَهَّزَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسْلِمونَ مَعَه، فَطَفِقْت أَعْدو لِكَيْ أتَجَهَّزَ مَعَهمْ فَأَرْجِع وَلَمْ أقْضِ شَيْئا فَأَقول في نَفْسِي: أَنا قَادِر عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الجِدّ، فَأَصْبَحَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم والْمسْلِمونَ مَعَه، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئا فَقلْت: أتَجَهَّز بعْدَه بِيَوْمٍ أَو يومَينِ؟ ثم أَلْحَقهمْ فَغَدَوْت بَعْدَ أَنْ فَصَلوا لأتَجَهَّزَ، فَرَجَعْت وَلَمْ أقْضِ شَيْئا ثمَّ غَدَوْت ثمَّ رَجعت وَلَمْ أَقْضِ شَيْئا. فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أسْرَعوا وَتَفَارَطَ الْغَزْو، وَهَمَمْت أَنْ أَرْتَحِلَ فَأدْرِكَهمْ، وَلَيْتَنِي فَعَلْت، فَلَمْ يقَدَّرْ لِي ذلِكَ، فكنْت إِذَا خَرَجْت فِي النَّاسِ بَعْدَ خروجِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَطفْت فِيهِمْ أحزَنَنِي أنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجلا مَغْموصا عَلَيْهِ النِّفَاَق، أَوْ رَجلا مِمَّنْ عَذَرَ الله مِنَ
الضّعَفَاءِ، وَلَمْ يَذْكرْنِي رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بَلَغَ تَبوكَ فَقَالَ وَهْوَ جَالِس فِي الْقَوْم بتَبوكَ: " مَا فَعَلَ كَعب؟ ". فَقالَ رَجل مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسولَ اللهِ حَبَسَه برْدَاه ونَظَره فِي عِطْفَيهِ، فَقَالَ معَاذ بْن جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قلْتَ، وَاللهِ يَا رَسولَ اللهِ مَا عَلِمناَ علَيْهِ إلّا خَيْرا، فَسَكَتَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ كَعْب بْن مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنه تَوَجَّهَ قافِلا حَضَرنِي هَمِّي، فَطَفِقْت أتَذَكَّر الْكَذِبَ وَأقول: بِمَاذَا أخْرج مِنْ سَخَطِهِ غَدا، واسْتَعَنْت عَلى ذَلِكَ بِكلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ إنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أظَلَّ قادِما زَاحَ عَنّي الْبَاطِل وَعَرَفْت أني لَنْ أَخْرجَ مِنْه أبَدا بشَيْءٍ فِيهِ كَذِب فَأَجْمَعْت صدْقَه، وَأصْبَحَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قادِما، وَكَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفرٍ بَدَأ بِالْمَسْجِدِ فيركع فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ. فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَه الْمخَلَّفونَ، فَطَفِقوا يَعْتَذِرونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفونَ لَه وَكَانوا بِضْعَة وَثَمَانِينَ رَجلا فَقَبِلَ مِنْهمْ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلاَنِيَتَهمْ وَبَايَعَهمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهمْ إِلَى اللهِ، فجِئْته فَلَمّا سلَّمْت عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تبَسّمَ الْمغْضَبِ ثمَّ قَال: " تَعَالَ " فَجِئْت أَمْشِي حَتَّى جَلَسْت بيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِي: " مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تكنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَك؟ " فَقلْت: بَلَى، إنِّي وَاللهِ لَوْ جَلَسْت عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أهْلِ الدّنْيَا لَرَأَيْت أنْ سَأَخْرج مِنْ سَخَطِهِ بِعذْرٍ ولَقَدْ أعْطِيت جَدَلا، وَلَكِنِّي وَالله لَقَدْ عَلِمْت لَئِنْ حَدَّثْتكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ ترْضَى بِهِ عَنِّي لَيوشِكَنَّ الله أنْ يسْخِطَكَ عَلَيَّ وَلَئِنْ حَدَّثْتكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِد عَلَيَّ فِيهِ، إنِّي لأَرْجو فِيهِ عَفْوَ اللهِ، لَا وَاللهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عذْرٍ، وَاللهِ مَا كنْت قطّ أقْوَى وَلَا أيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْت عَنْكَ، فَقَال رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: " أمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقمْ حَتَّى يَقْضِيَ الله فِيكَ " فَقمْت وَثَارَ رِجَال مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعوني فقَالوا لِي: وَالله مَا عَلِمْنَاكَ كنْتَ أذْنَبْتَ ذَنْبا قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أنْ لَا تَكون اعْتَذَرْتَ إلَى رَسولِ اللهِ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمتَخَلِّفونَ قد كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَار رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَاللهِ مَا زَالوا يؤَنِّبونَنِي حَتَّى أرَدْت أنْ أرْجِعَ فَأكَذِّبَ نَفْسِي،
ثم قلْت لَهمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعي أحد؟ قَالوا: نَعَمْ، رَجلاَنِ قَالَا مِثْلَ مَا قلْتَ فقيل لَهمَا مِثْل مَا قِيلَ لَكَ، فَقلْت: مَنْ همَا؟ قَالوا: مرَارَة بْن الرَّبيعِ الْعَمْرِيّ، وَهِلاَل بْن أمَيَّةَ الْوَاقِفِيّ، فَذَكَروا لِي رَجلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرا فِيهمَا أسوَة فمضيت حِينَ ذكروهمَا لِي، وَنَهَى رَسول الله صلى الله عليه وسلم الْمسْلِمِينَ عَنْ كلَاَمِنَا أيّهَا الثلاثة مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْه، فَاجْتَنَبَنَا النَّاس، وَتَغَيّروا لَنَا حَتَّى تَنكَّرَتْ فِي نفسِي الْأَرْض فَمَا هِيَ الَّتِي أعْرِف، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَة، فَأَمَّا صَاحِبَاي فاسْتكَانَا وَقَعَدَا فِي بيوتهِمَا يبكِيَانِ، وَأمَّا أنا فَكنْت أشَبَّ الْقَوْمِ وأجلَدَهمْ، فَكنْت أخْرج فَأَشْهَد الصَّلاَةَ مَعَ الْمسْلِمِينَ وَأطوف فِي الأَسْوَاقِ، ولَا يكَلّمنِي أحد وآتِي رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأسَلِّم عَلَيْهِ، وَهْوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فأَقول فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ عَلَيَّ أَمْ لَا؟ ثمَّ أصلِّي قَرِيْبا مِنْه فأسَارِقه النَّظَرَ، فَإذَا أقْبَلْت عَلَى صَلاَتِي أقْبَلَ إِلَيَّ، وَإذَا الْتَفَتّ نَحْوَه أعْرَضَ عني حَتّى إذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ مَشَيْت حَتَّى تَسَوَّرْت جِدَارَ حَائِطِ أبِي قتادَةَ - وَهْوَ ابْن عَمِّي، وَأحَبّ النَّاسِ إلَيَّ- فَسَلَّمْت عَلَيْهِ، فَوَاللهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ فَقلْت: يَا أبَا قَتَادَةَ أَنشدكَ بِاللهِ هَلْ تَعْلَمنِي أحِبّ اللهَ وَرَسولَه؛ فَسَكَتَ فعدت لَه فَنَشدته فَسَكَتَ، فَعدْت لَه فَنَشَدْته فَقَالَ: الله وَرَسوله أعْلَم، فَفَاضَتْ عينَايَ وَتَوَلَّيْت حَتَّى تَسَوَّرْت الْجِدَارَ، قَالَ: فَبَيْنَا أنا أمْشِي بِسوقِ الْمَدِينَةِ إذَا نبَطِيّ مِنْ أنبَاطِ أهْلِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعه بِالْمَدينَةِ يَقول: مَنْ يَدلّ عَلَى كعبِ بْنِ مَالِكِ؟ فَطَفِقَ النّاس يشِيرونَ لَه حَتَّى إذَا جَاءَنِي دَفَعَ إلَيَّ كِتَابا مِنْ مَلِكِ غَسانَ فإذا فِيهِ: أمَّا بعد فَإنه قَدْ بَلَغَنِي أنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ الله بدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالحَقْ بِنَا نوَاسِكَ، فَقلْت لَمَّا قَرَأْتهَا: وَهَذَا أيْضا مِنَ البَلاَءَ، فتيَمَّمْت بِهَا التَّنّورَ فَسَجَرْته بِهَا حَتَّى إِذَا مَضتْ أرْبَعونَ لَيلَة مِنَ الْخَمْسِينَ إذَا رَسول رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأْتِينِي فَقَالَ: إِنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمركَ أنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ،
فَقلت: أطَلِّقهَا أمْ مَاذَا أَفْعَل؟ قَالَ: لَا، بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا، وَأرْسَلَ إلَى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقلْت لاِمْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَتَكوني عِنْدَهمْ حَتَّى يقْضِيَ الله فِي هَذَا الأَمْرِ، قَالَ كَعب: فَجَاءَتِ امْرَأَة هِلاَل بْنِ أمَيَّةَ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسولَ اللهِ، إنَّ هِلاَلَ بنَ أمَيَّةَ شَيْخ ضَائِع لَيْسَ لَه خَادِم فَهَلْ تَكْرَه أنْ أَخْدمَه؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبكِ " قَالَتْ: إِنَّه وَاللهِ مَا بِهِ حَرَكَة إِلَى شَيْءٍ، وَاللهِ مَا زَالَ يَبْكِي منْذ كَانَ مِنْ أمْرِهِ مَا كَانَ إلَى يَوْمِهِ هَذَا، فَقَالَ لِي بَعْض أهْلِي لوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم في امْرَأَتِكَ كَمَا أذِنَ لاِمْرَأَةِ هِلاَلِ بْنِ أمَيَّةَ أنْ تَخْدمَه، فَقلْت: وَاللهِ لَا أَسْتَأْذِن فِيهَا رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومَا يدْرِينِي مَا يَقول رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اسْتَأْذَنْته فِيهَا وَأنا رَجل شابّ فَلَبِثْت بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَال، حَتَّى كَملَتْ لَنَا خمْسونَ لَيْلَة مِنْ حِينَ نَهَى رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلاَمِنَا، فَلَمَّا صَلَّيْت صَلاَةَ الْفَجْرِ صبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَة وَأنا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بيوتِنَا فَبَيْنَا أنا جَالِس عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ الله قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأرْض بِمَا رَحبَتْ، سَمِعْت صَوْتَ صَارخٍ أوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ، قالَ: فَخَرَرْت سَاجِدا وَعَرَفْت أنْ قَدْ جَاءَ فَرَج وآذَنَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بتَوْبَة اللهِ علَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الْفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاس يبَشِّرونَنَا وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مبَشِّرونَ، وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجل فَرَسا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ، وَكَانَ الصَّوْت أسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْت صَوْتَه يبَشِّرنِي نزَعْت لَه ثَوْبَيَّ فَكَسَوْته إِيَّاهمَا بِبشْرَاه، وَاللهِ مَا أمْلِك غَيْرَهمَا يَوْمَئِذٍ واسْتَعَرْت ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتهمَا وانطَلَقْت إِلَى رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَتَلَقَّانِي النَّاس فَوْجَا فَوْجَا يهنئوني بِالتَّوْبَة، يَقولونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَة اللهِ عَلَيْكَ، قَالَ كَعْب: حَتَّى دَخَلْت المَسْجِد فَإذَا رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم جالِس حَوْلَه النَّاس، فَقَامَ إِلَيَّ طلحَة بْن عبَيْدِ اللهِ يهَرْوِل حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأنِي وَاللهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجل مِنَ الْمهَاجِرِينَ غَيْره، وَلَا أنْسَاهَا
لِطَلْحَةَ، قَالَ كَعْب: فَلَمَّا سَلَّمْت عَلَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهوَ يَبْرق وَجْهه مِنَ السّرورِ: " أبْشِرْ بِخَيْرِ يَومٍ مَرَّ عَلَيْكَ منْذ وَلَدَتْكَ أمّكَ " قَالَ: قلْت: أمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسولَ اللَّهِ، أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ قَالَ: " لاَ، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ " وَكَانَ رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سرَّ اسْتَنَارَ وَجْهه حَتَّى كَأَنَّه قِطْعَة قَمَرٍ، وَكنَّا نَعْرِف ذَلِكَ مِنْه فَلَمَّا جَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ قلْت يَا رَسولَ اللَّهِ: إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَة إلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهوَ خَيْر لَكَ " قلْت: فَإنِّي أمْسِك سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ، فَقلْت: يَا رَسولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لَا أحَدِّثَ إِلَّا صِدْقا مَا بَقِيت، فوَاللَّهِ مَا أَعْلَم أحَدا مِنَ الْمسْلِمِينَ أَبْلاَه اللَّه فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ منْذ ذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحْسَنَ مِمَّا أبْلَانِي، مَا تَعَمَّدْت منْذ ذَكرْت ذَلِكَ لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبا وَإِنِّي لَأَرْجو أنْ يَحْفَظَنِي اللَّه فِيمَا بَقِيت، وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَى رَسولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 117] إِلَى قَوْلِهِ: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّه علَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطّ بَعْدَ أنْ هَدَانِي لِلإِسْلاَمِ أعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا أَكونَ كَذَبْته فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبوا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ للَّذِينَ كَذَبوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ - يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 95 - 96] قَالَ كَعب: وَكنَّا تَخَلَّفْنَا أَيّهَا الثَّلاثة عَنْ أمْرِ أولَئِكَ الذِينَ قَبِلَ مِنْهمْ رَسول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حِلَفوا لَه، فَبَايَعَهمْ وَاستَغْفَرَ لَهمْ وَأَرْجَأَ رَسول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّه فِيهِ فبِذَلِكَ قَالَ اللَّه: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] وَلَيْسَ الَّذِي
ذَكَرَ الله مِمَّا خلِّفْنَا عَنِ الْغَزْوِ وَإِنَّمَا هوَ تَخْلِيفه إِيَّانَا وَإِرْجَاؤه أمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ له واعْتَذَر إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْه.» (¬1). وفي رواية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فِي غَزْوَةِ تَبوكَ وَكَانَ يحِبّ أَنْ يخْرجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ.» (¬2). وفي رواية: عَن عَبْد اللهِ بْنِ كَعْب قَالَ سَمِعْت أَبِي كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَهوَ أَحَد الثَّلاثة الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهمْ أَنه لَم يَتَخَلَّفْ عَن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطّ غَيْرَ غَزْوَتَيْنِ غَزْوَةِ الْعسْرَةِ وغزْوَةِ بَدْرٍ قَالَ: «فَأَجْمَعْت صِدْق رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ضحى وَكَانَ قَلَّمَا يَقْدَم مِنْ سفَرٍ سَافَرَه إلَّا ضحى، وَكَانَ يَبْدَأ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَع ركْعَتَيْن وَنَهَى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلاَمِي وَكَلاَمِ صَاحِبَيَّ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ كَلاَمِ أَحَدٍ مِنَ الْمتَخَلِّفَينَ غَيْرِنَا، فَاجْتَنبَ النَّاس كَلاَمَنَا، فَلَبِثْت كَذَلِكَ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ الأَمْر، ومَا مِنْ شَيْءٍ أَهَمّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَموتَ فَلاَ يصَلِّي عَلَيَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أوْ يَموتَ رَسول اللهِ فَأَكونَ مِنَ النَّاسِ بِتِلْكَ الْمَنْزِلة فَلاَ يكَلِّمنِي أَحد مِنْهمْ وَلَا يصَلِّي عَلَيَّ، فأَنزَلَ الله تَوْبَتَنَا عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بقي الثلث الآخِر مِنَ اللَّيْلِ وَرَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عنْدَ أمِّ سَلَمَةَ، وَكَانَتْ أمّ سَلَمَةَ محْسِنَة فِي شَأْنِي مَعْنِيَّة فِي أَمْرِي، فَقَالَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أمَّ سَلَمَةَ تِيبَ عَلَى كَعْبٍ قَالَتْ: أَفَلاَ أرْسِل إِلَيْهِ فَأبَشِّره قَالَ إِذا يَحْطِمَكم النَّاس فَيَمْنَعونَكم النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَة، حَتَّى إِذَا صَلَّى رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الْفَجْرِ آذَنَ بِتَوْبَة اللهِ عَلَينَا» (¬3). وفي رواية: " أن عبد الله بن كعب قَالَ سَمِعْت كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يحَدِّث حِينَ تخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبوكَ بطولِهِ قَالَ ابْن بكَيرٍ فِي حَديثِهِ: «وَلَقَدْ شَهدْت مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإسلام وَمَا أحِبّ أنَّ لي بِهَا مَشْهَدَ ¬
بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدر أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا» (¬1). * شرح غريب الحديث * " عير قريش ": الإبل التي تحمل الميْرة -أي تحمل الطعام والشراب- وقيل: هي القافلة (¬2). * " ليلة العقبة ": وهي التي بايع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار على الإسلام والإيواء والنصرة، وذلك قبل الهجرة، والعقبة: هي التي في طريق منى التي تضاف إليها جمرة العقبة، وكانت بيعة العقبة مرتين، كانوا في السنة الأولى اثني عشر، وفي الثانية سبعين، كلهم من الأنصار (¬3). * " تواثقنا ": أخذ بعضنا على بعض الميثاق، وتعاهدنا، وتعاقدنا، لَمَّا تبايعنا على الإسلام والجهاد (¬4). * " وما أحب أن لي بها مشهد بدر "؛ لأن من شهد بدرا وإن كان فاضلا بسبب أنها أول غزوة نصِرَ فيها الإسلام، لكن بيعة العقبة كانت سببا في فشوِّ الإسلام، ومنها نشأ مشهد بدر، وكان كعب من أهل العقبة الثانية وقد عقد ثالثة كما ذكر ابن حجر رحمه الله (¬5). * " وإن كانت بدر أذكر في الناس ": أي أعظم وأكثر ذكرا في الناس من بيعة العقبة (¬6). * " ومفازا ": أي بَرِّيَّة طويلة قليلة الماء يخاف فيها الهلاك (¬7). ¬
* " فَجَلَّى ": بفتح وتشديد اللام ويجوز تخفيف اللام: أي كشف وبيَّن وَأَوْضَح (¬1). * " إلا ورَّى بغيرها ": معنى " ورّى " ستر، وتستعمل في إظهار شيء مع إرادة غيره، أي أوهم أنه يريد غيرها (¬2). * " أهبة غزوهم ": الأهبة تجهيز ما يحتاج إليه في السفر والحرب والاستعداد لذلك (¬3). * " فطفقت ": من أفعال المقاربة ومعناه: أخذت في الفعل (¬4). * " حتى اشتدَّ بالناس الجد ": أي اشتد بالناس اشتداد الجد، والاجتهاد في أمر السفر (¬5). * " جَهازي ": وهو الأهبة وعدة السفر (¬6). * " تفارط الغزو " أي فات وسبق، وأسرع (¬7). * " مغموصا عليه النفاق ": مطعونا عليه في دينه متهما بالنفاق، وقيل: مستحقرا (¬8). * " رجل من بني سلمة ": هو عبد الله بن أنيس رضي الله عنه (¬9). ¬
* " حبسه برداه ": البرْد والبردة: نوع من الثياب معروف، والجمع أبراد وبرود، والبردة الشملة المخططة، وقيل كساء أسود مربع فيه صور تلبسه الأعراب، وجمعها برَد (¬1). * " والنظر في عِطفيه ": أي جانبيه، وهو إشارة إلى إعجابه بنفسه، ولباسه، وقيل: كني بذلك عن حسنه وبهجته، والعرب تصف الرداء بصفة الحسن وتسميه عِطفا، لوقوعه على عطفي الرجل (¬2). * " قافلا ": راجعا (¬3). * " قد أظل قادما ": قد دنا قدومه وأقبل (¬4). * " أجمعت صدقه ": عزمت عليه، وجزمت بذلك، وعقدت عليه قصدي (¬5). * " وكانوا بضعة وثمانين رجلا ": البضعة في العدد ما بين الثلاثة إلى التسعة، وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة (¬6). * " ابتعت ظهرك ": اشتريت راحلتك (¬7). " أعطيت جَدَلا ": فصاحة وقوة في كلام وبراعة، بحيث أخرج عن عهدة ما ينسب إليّ إذا أردت، بما يقبل ولا يرد. (¬8). ¬
* " ليوشِكنّ الله ": ليسرعنَّ: أي ليعجلنَّ الله (¬1). * " تجِد عليَّ فيه ": تغضب علي فيه (¬2). * " ثار رجال ": وثبوا (¬3). * " يؤنبونني ": يلومونني أشد اللوم وأعنفه (¬4). * " استكانا ": خضعا (¬5). * " أشب القوم وأجلدهم ": أصغرهم سنا وأقواهم (¬6). * " فأسارقه النظر ": أنظر إليه في خفية (¬7). " تسورت حائط أبي قتادة ": علوت سور بستانه وصعدته (¬8). * " جفوة الناس ": إعراضهم (¬9). * " حائط أبي قتادة وهو ابن عمي ": ذكر أنه ابن عمه لكونهما معا من بني سلمة وليس هو ابن عمه أخي أبيه (¬10). ¬
* " أنشدك بالله ": أسألك بالله (¬1). * " نبطي من أنباط الشام ": نسبة إلى استنباط الماء واستخراجه, وهؤلاء كانوا في ذلك الوقت أهل الفلاحة, وقيل: النبط والأنباط, فلاحوا العجم (¬2). * " ملك غسان ": قيل: جَبَلَة بن الأَيْهَمَ، وقيل: الحارث ابن أبي بشر، وقيل: جندب بن الأيهم (¬3). * " لم يجعلك الله بدار هوان ": دار ذل وصغار (¬4). * " نواسِك ": نشاركك فيما عندنا (¬5). * " يممت بها التنور ": قصدت بها، والتنور هو ما يخبز فيه (¬6). * " فسجرت ": أو قدت (¬7). * " سلع ": جبل معروف بالمدينة. (¬8). * " فأوفى ": أشرف وأطلع (¬9). * " إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي ": " هو خزيمة بن ثابت " (¬10). * " آذن ": أعلم (¬11). ¬
* " استنار وجهه كأنه قطعة قمر ": أي الموضع الذي يبين فيه السرور، وهو جبينه. وهذا تشبيه بما في القمر من الضياء والاستنارة (¬1). * " يحطمكم الناس ": أي يجتمعون عليكم ويتكالبون، فيشغلونكم عن التصرف، فجعل ذلك كالحطْمِ: وهو الكسر، والعنت والمشقة. (¬2). * " سعى ساعٍ من أسلم ": هو حمزة بن عمرو، ونزع له كعب ثوبيه (¬3). * " والله ما أملك غيرهما ": يريد جنس الثياب، وإلا فقد كان عنده راحلتان (¬4). * " فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله ": أي أنعم عليه (¬5). * " أرْجَأَ ": أخَّر (¬6). * {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] أي أخِّرت توبتهم، وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع العمري: نسبة إلى بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وهلال بن أمية الواقفي، نسبة إلى بني واقف بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس (¬7). * " أنخلع من مالي ": أخرج منه وأتصدق (¬8). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية منها: 1 - من صفات الداعية: التحدث بنعم الله تعالى. ¬
2 - من صفات الداعية: قوة الإيمان ومحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. 3 - من صفات الداعية: الرحمة والشفقة على المؤمنين والفرح بما يسرهم. 4 - أهمية الصدق وأثره في حياة الداعية. 5 - أهمية اغتنام فرص الخير قبل حرمانها. 6 - أهمية الأخذ بالظاهر وقبول أعذار المدعوين. 7 - من صفات الداعية: الحرص على حسن الخاتمة. 8 - أهمية الصبر على مشاق الدعوة والابتلاء. 9 - من أساليب الدعوة: التهنئة والتبشير للمدعو والسرور بما يسره. 10 - إيثار طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم على محبة القريب. 11 - عناية الداعية بالمتخلفين عن الطاعة. 12 - تأديب المدعو بالهجر إذا اقتضت المصلحة ذلك. 13 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 14 - من موضوعات الدعوة: التحذير من المعاصي وبيان عظم أمرها. 15 - أهمية المداومة على الخير. 16 - من أساليب الدعوة: إخبار الداعية عن تفريطه وتقصيره تحذيرا لغيره إذا ظهرت المصلحة. 17 - أهمية إنكار الغيبة وردها. 18 - أهمية قول الداعية لما لا يعلمه: الله أعلم. 19 - معاتبة الداعية أصحابه على التقصير. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: التحدث بنعم الله تعالى: إن من صفات الداعية إلى الله تعالى: التحدث بنعم الله عز وجل ولهذا قال كعب رضي الله عنه في هذا الحديث: " ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها ". وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله تعالى يقول: " والمقصود
أنه رضي الله عنه يذكر ما منَّ الله به عليه من حضور العقبة وهي من مشاهد الخير " (¬1). ولا شك أن التحدث بنعم الله تعالى من أركان الشكر التي تدوم بها النعم بإذن الله تعالى، قال الله عز وجل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] (¬2) وقال سبحانه: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] (¬3) فينبغي للداعية إلى الله أن يتحدث بنعم الله تعالى، ويشكره بلسان الحال والمقال. ثانيا: من صفات الداعية: قوة الإيمان ومحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: إن الداعية الصادق هو: قويّ الإيمان صادق النية، خالص المحبة لله ورسول صلى الله عليه وسلم ولهذا يثبت على إيمانه ولا تزعزعه العواصف وأهل الكفر والضلال. وفي هذا الحديث أن ملك غسان أرسل إلى كعب رضي الله عنه كتابا يقول فيه: ". . . أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك. . . " فما كان من كعب رضي الله عنه إلا أن قال: ". . . وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها. . . ". قال ابن حجر رحمه الله: " ودل صنيع كعب هذا على قوة إيمانه ومحبته لله ورسوله، وإلا فمن صار في مثل حاله: من الهجر والإعراض قد يضعف على احتمال ذلك, وتحمله الرغبة في الجاه والمال على هجران من هجره ولا سيما مع أمنه من الملك الذي استدعاه إليه أنه لا يكرهه على فراق دينه، لكن لما احتمل عنده أنه لا يأمَن من الافتتان حسم المادة، وأحرق الكتاب، ومنع الجواب، هذا مع كونه من الشعراء الذين طبعت نفوسهم على الرغبة، ولا سيما بعد الاستدعاء والحث على الوصول، إلى المقصود من الجاه والمال، ولا سيما والذي استدعاه قريبه ونسيبه، ومع ذلك غلب عليه دينه، وقوي عنده يقينه، ورجَّح ما هو فيه من النكد والتعذيب على ما دعيَ إليه من الراحة والنعيم حبّا في الله ورسوله صلى الله عليه وسلم " (¬4) قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15] ¬
الآية (¬1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» (¬2) وهذا يبين للداعية عظم قوة الإِيمان وأن هذه القوة سلاح لا يقاومه شيء بإذن الله تعالى. ثالثا: من صفات الداعية: الرحمة والشفقة على المؤمنين والفرح بما يسرهم: إن الداعية الصادق مع الله عز وجل هو الذي يرحم المدعوين ويشفق عليهم ويفرح بما يسرهم؛ ولهذا قال الإمام ابن حجر رحمه الله: " وفيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من كمال الشفقة على أمته والرأفة بهم، والفرح بما يسرهم " (¬3). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: " وفي سرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وفرحه به، واستنارة وجهه دليل على ما جعل الله فيه من كمال الشفقة على الأمة، والرحمة بهم، والرأفة، حتى لعل فرحه كان أعظم من فرح كعب وصاحِبَيْه " (¬4). وهذا يبين للدعاة إلى الله تعالى أهمية الرحمة والشفقة على المدعوين، والفرح بما يسرهم؛ لفعله صلى الله عليه وسلم. رابعا: أهمية الصدق وأثره في حياة الداعية: الصدق من أهم الصفات الحميدة التي يلزم الداعية أن يتخلق بها؛ ولهذا قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] (¬5). قال الإمام ابن القيم رحمه الله في فوائد قصة كعب: " ومنها عظم مقدار الصدق، ¬
وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرهما به، فما أنجى الله من أنجاه إلا بالصدق، ولا أهلك من أهلكه إلا بالكذب، وقد أمر الله عباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين. . وقد قسم سبحانه الخلق إلى قسمين: سعداء وأشقياء، فجعل السعداء هم أهل الصدق والتصديق، والأشقياء هم أهل الكذب والتكذيب " (¬1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيها فائدة الصدق وشؤم عاقبة الكذب " (¬2). فعلى الداعية إلى الله تعالى أن يتقي الله تعالى، وأن يكون صادقا في أقواله وأفعاله، وسائر تصرفاته وأحواله، وهذا من أعظم النعم على العبد، ولهذا قال كعب رضي الله عنه: " فوالله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم " (¬3). خامسا: أهمية اغتنام فرص الخير قبل حرمانها: من الأمور المهمة العظيمة اغتنام فرص الخير في الطاعة قبل أن يحرمها الداعية؛ فإنه بسبب تسويف كعب وتأخره عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول يوم حصل له ما حصل رضي الله عنه. قال الإمام ابن القيم رحمه الله في فوائد قصة كعب رضي الله عنه: " ومنها: أن الرجل إذا حضرت له فرصة القربة والطاعة، فالحزم كل الحزم في انتهازها، والمبادرة إليها، والعجز في تأخيرها، والتسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها؛ فإن العزائم والهمم سريعة الانتقاض قلما تثبت، والله سبحانه يعاقب من فتح له بابا من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بين قلبه وإرادته، فلا يمكنه بعد من إرادته عقوبة له، فمن لم يستجب لله ورسوله إذا دعاه، حال بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكنه الاستجابة بعد ذلك " (¬4) ¬
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24] (¬1) وقد صرح الله سبحانه بهذا في قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] (¬2) وقال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] (¬3) وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115] (¬4) وهذا في كتاب الله تعالى كثير. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه أن المرء إذا لاحت له الفرصة في الطاعة فحقه أن يبادر إليها ولا يسوف بها لئلا يحرمها " (¬5) فعلى الداعية أن يبادر إلى كل طاعة لاحت له فرصتها ولا يسوف لئلا يحرمها، كما ينبغي له أن يسأل الله أن يلهمه المبادرة إلى طاعته، وأن لا يسلبه ما خوله من النعم. سادسا: أهمية الأخذ بالظاهر وقبول أعذار المدعوين: الداعية إلى الله تعالى ليس له إلا الظاهر من أحوال المدعوين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم» (¬6) فعلى الداعية أن يأخذ بظاهر أحوال المدعوين ويقبل أعذارهم ويعفو عنهم؛ لقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] (¬7) قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ذكر فوائد قصة كعب رضي الله عنه: " ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل علانية من أظهر الإسلام من المنافقين، ويكل سريرته إلى الله، ويجري عليه حكم الظاهر، ولا يعاقبه بما يعلم من سره " (¬8) وقال ابن حجر ¬
رحمه الله: " ومنها: إجراء الأحكام على الظاهر ووكول السرائر إلى الله تعالى " (¬1) وقد تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بضعة وثمانون رجلا وجاءوا يعتذرون إليه، فصدق منهم ثلاثة- وهم الثلاثة الذين تاب الله عليهم- وكذب سائرهم وحلفوا ما حبسهم إلا العذر فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى (¬2). سابعا: من صفات الداعية: الحرص على حسن الخاتمة: إن من الأمور المهمة أن يحرص الداعية على حسن الخاتمة؛ ولهذا قال كعب رضي الله عنه في هذا الحديث: " فلبثت كذلك حتى طال عليَّ الأمر وما من شيءٍ أهمّ إليَّ من أن أموت فلا يصلِّي عليَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم، ولا يصلي عليَّ ". فعلى الداعية أن يحرص على حسن الخاتمة ويسأل الله ذلك؛ فإنه من أهم المهمات. والله المستعان (¬3). ثامنا: أهمية الصبر على مشاق الدعوة والابتلاء: دل حديث كعب رضي الله عنه على أنه لا بد للداعية من الصبر على مشاق الدعوة، وأن ذلك اختبار من الله تعالى هل يصبر العباد أو لا يصبرون؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] (¬4) وقال تعالى: {الم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ - وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3] (¬5). قد بين كعب رضي الله عنه هذه الفتنة والابتلاء في هذا الحديث بقوله: «ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة (¬6) ¬
غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا بعيدا، ومفازا، وعدوّا كثيرا، فجلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين أمرهم؛ ليتأهبوا أهل غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ- يعني ديوان- فما رجل يريد أن يتغيَّب إلا ظن أن سيخفى له، ما لم ينزل فيه وَحْي الله وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال». ". وهذا كله فيه اختبار وامتحان، فعلى الداعية أن يصبر على السراء والضراء ومشقة الدعوة؛ ولهذا قال كعب عندما قرأ كتاب ملك غسان يدعوه فيه إلى أن يلحق به، قال رضي الله عنه: " فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها " وقد بين الله ذلك في كتابه العزيز: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] (¬1). تاسعا: من أساليب الدعوة: التهنئة والتبشير للمدعو والسرور بما يسره: من أساليب الدعوة التي تؤثر في حياة المدعو: التهنئة له وتبشيره بما يسره، والسرور بما يتجدد له من النعم أو يندفع عنه من النقم؛ فإن ذلك يطيِّب نفسه ويشرح له صدره، وفي هذا الحديث قال كعب رضي الله عنه: ". . . «وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتلقاني الناس فوجا فوجا يهنّؤني بالتوبة يقولون: لِتهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنَّأني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة، فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور: " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك "، وقال كعب: وذهب الناس يبشروننا، وذهب قِبَل صاحبيَّ مبشرون وركض إلي رجل وسعى ساعٍ من أسلم فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما». وهذا يبين مدى تأثير البشْرَى والتهنئة على المدعو وحبه لمن بشره وهنَّأَه، ¬
وسرَّ بما هو فيه من الخير؛ قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " فيه دليل على استحباب تهنئة من تجدد له نعمة دينية، والقيام إليه، ومصافحته، فهذه سنة مستحبة، وهو جائز لمن تجدد له نعمة دنيوية، وأن الأولى أن يقال له: ليهنك ما أعطاك الله، وما منَّ الله به عليك، ونحو هذا الكلام؛ فإن فيه تولية النعمة ربَّها والدعاء لمن نالها بالتهنِّي بها " (¬1). لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: " ليهنك العلم أبا المنذر " (¬2) وذلك عندما سأله عن أعظم آية في القرآن فقال رضي الله عنه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] (¬3) فينبغي للداعية أن يهنِّي إخوانه الدعاة والمدعوين ويسر بما يتجدد لهم من النعم ويندفع عنهم من النقم؛ فإن ذلك يجذب قلوبهم لمحبته، ومن ثم قبول دعوته. عاشرا: إيثار طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم على مودة القريب: من صفات الداعية الناجح: إيثار طاعة الله ورسوله على مودة القريب؛ ولهذه الصفة الحميدة لم يرد أبو قتادة السلام على كعب؛ لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن كلامه، قال كعب رضي الله عنه: " تسورت جدار أبي قتادة وهو ابن عمي وأحبّ الناس إليَّ فسلمت عليه فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله، هل تعلمني أحبّ الله ورسوله؛ فسكتَ، فعدت له فنشدته فسكتَ، فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار ". وهذا يبين مدى طاعة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فعلى الداعية أن يحرص على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] (¬4) وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (¬5) ¬
وهذا يدل الداعية على أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة على طاعة كل أحد من البشر. الحادي عشر: عناية الداعية بالمتخلفين عن الطاعة: من الأمور المهمة: عناية الداعية بالمدعوين المستجيبين المتخلفين عن بعض الطاعات، فيرشدهم ويذكِّرهم ليراجعوا الطاعة ويتوبوا من تقصيرهم؛ قال الإمام ابن القيم رحمه الله في فوائد قصة كعب: " ومنها: أن الإمام والمطاع لا ينبغي له أن يهمل من تخلف عنه في بعض الأمور؛ بل يذكِّره؛ ليراجع الطاعة ويتوب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال بتبوك: " ما فعل كعب "؟ ولم يذكر سواه من المخلَّفين استصلاحا له ومراعاة، وإهمالا للقوم المنافقين " (¬1). على الداعية أن يعتني بالمستجيبين المتخلفين عن بعض الطاعات ويذكرهم، ويتعاهد أحوالهم حتى يستمر هؤلاء على الطاعة، والله المستعان. الثاني عشر: تأديب المدعو بالهجر إذا اقتضت المصلحة ذلك: من الحكمة أن يهجر الداعية من يظهر المنكرات -إذا لم يحصل بذلك مفسدة- على وجه التأديب حتى يتوب تأديبا له، وزجرا لغيره (¬2) قال الإمام ابن القيم رحمه الله في فوائد حديث كعب: " وفيه: دليل أيضا على هجران الإمام، والعالم، والمطاع لمن فعل ما يستوجب العتب، ويكون هجرانه دواء له بحيث لا يضعف عن حصول الشفاء به، ولا يزيد في الكمية والكيفية عليه فيهلكه، إذ المراد تأديبه لا إتلافه " (¬3). يوضح ذلك ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من أن الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم؛ فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كان هجره يضعف الشرَّ كان مشروعا، وإن كان المهجور لا يرتدع بذلك، ولا يرتدع به غيره، ¬
بل يزيد الشرَّ والهاجر ضعيف، وتكون مفسدة الهجر راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، كما كان الهجر لبعض الناس أنفع من التأليف؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوما ويهجر آخرين (¬1) وينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله، وبين الهجر لحق النفس: فالهجر لحق الله تعالى مأمور به، والثاني منهي عنه (¬2). فعلى الداعية أن يراعي هذه الضوابط في الهجر التأديبي ويضع كل شيء في موضعه كالطبيب الحاذق الذي يعطي العلاج على حسب المرض. الثالث عشر: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: من وسائل الدعوة القدوة الحسنة، وذلك يرَغِّب الداعية في أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل أموره، وأن يكون هو قدوة للمدعوين ويقتدي أيضا بأهل العلم ويتأسى بهم. وفي الحديث ما يدل على هذه الوسيلة وهو قول كعب رضي الله عنه: ". . . وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون، قد كان يكفيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذِّب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم. رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك. فقلت من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي "؛ ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: " فيه أن الرجل ينبغي له أن يبرِّدَ حَرَّ المصيبة بروح التأسي بمَنْ لقي مثل ما لقي. . " (¬3) والتأسي بالنظير ينفع في الدنيا بخلاف الآخرة (¬4) لقوله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39] (¬5) ¬
فعلى الداعية أن يكون قدوة في الخير للمدعوين، وأن يتأسى برسول صلى الله عليه وسلم فيما يصيبه من السراء والضراء وفي كل أحواله، وأن يتأسى بأهل العلم المخلصين. والله المستعان (¬1). الرابع عشر: من موضوعات الدعوة: التحذير من المعاصي وبيان عِظَمِ أمرها: إن من أهم الموضوعات التي ينبغي للداعية العناية بها وتوضيحها للناس: التحذير من المعاصي وبيان أضرارها وأخطارها على المجتمع المسلم. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيها: عظم أمر المعصية، وقد نبَّهَ الحسن البصري على ذلك فيما أخرجه ابن أبي حاتم عنه قال: يا سبحان الله ما أكل هؤلاء الثلاثة مالا حراما، ولا سفكوا دما حراما، ولا أفسدوا في الأرض، أصابهم ما سمعتم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر؟ " (¬2). فعلى الداعية أن يعتني بهذا الموضوع عناية فائقة؛ لشدة خطره على الفرد والمجتمع. الخامس عشر: أهمية المداومة على الخير: دل هذا الحديث على أهمية المداومة على الخير، وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن مما يستفاد من هذا الحديث: التزام المداومة على الخير الذي ينتفع به (¬3) وهذا واضح من حديث كعب رضي الله عنه حيث قال: «يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت. فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث- منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم- أحسن مما أبلاني (¬4) ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت». . ". فعلى المسلم وخاصة الداعية إلى الله تعالى أن يداوم ويلتزم الأعمال الصالحة ولا يقطعها كما داوم كعب رضي الله عنه على الصدق، ويسأل الله عز وجل أن يعينه على ذلك. ¬
السادس عشر: من أساليب الدعوة: إخبار الداعية عن تفريطه وتقصيره تحذيرا لغيره إذ ظهرت المصلحة: إن من أساليب الدعوة إخبار الداعية- في بعض الأحيان- عن تقصيره وتفريطه، وعن سبب ذلك تحذيرا ونصيحة لغيره، إذا تيقن أن في ذلك مصلحة للمدعو، وقد بين الإمام ابن القيم رحمه الله أن ذلك مما يستفاد من قصة كعب رضي الله عنه فقال: " فمنها: جواز إخبار الرجل عن تفريطه وتقصيره في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعن سبب ذلك، وما آل إليه أمره، وفي ذلك من التحذير، والنصيحة، وبيان طرق الخير والشر، وما يترتب عليها ما هو من أهم الأمور " (¬1). السابع عشر: أهمية إنكار الغيبة وردها: إن من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية أن يردها وينكر على صاحبها: الغيبة، وقد جاء ذلك في هذا الحديث، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " ومنها: جواز الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الراد أنه وهم وغلط، كما قال معاذ للذي طعن في كعب: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. . " (¬2). فينبغي للداعية وغيره من المسلمين أن يرد الغيبة عن أخيه المسلم ولا تقبل من قائلها في مجلسه، ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم عظم ثواب من رد الغيبة عن أخيه المسلم فقال: «من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة». (¬3). الثامن عشر: أهمية قول الداعية لما لا يعلمه: الله أعلم: إن من العلم أن يقول الداعية لمن سأله عن شيء لا يعلمه: الله أعلم، أو لا أدري. وقد دل هذا الحديث على ذلك، حين قال أبو قتادة لكعب رضي الله عنهما: " الله ورسوله أعلم ". وقول الداعية لما لا يعلمه: لا أدري، أو لا أعلم، أو سأراجع المسألة دليل على علمه وورعه وتقواه؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] (¬4) ¬
وقال صلى الله عليه وسلم: «من تعمد عليَّ كذبا فليتبوّأ مقعده من النار» (¬1). ومن حرص السلف رحمهم الله ورضي عنهم على الصدق ما قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من علم فليقل، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم؛ فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم؛ فإن الله قال لنبيه (¬2) {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] (¬3). فعلى الداعية أن لا يستحي إذا لم يعلم أن يقول: الله أعلم، أو لا أدري. التاسع عشر: معاتبة الداعية أصحابه على التقصير: إن الداعية الحريص على استقامة أصحابه على الخير يعاتبهم على تقصيرهم وما بدر منهم، حبّا لهم، ونصحا، وشفقة عليهم؛ ولهذا ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن ذلك مما يستنبط من حديث كعب رضي الله عنه، فقال: " ومنها: معاتبة الإمام والمطاع أصحابه، ومن يعز عليه، ويكرم عليه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم عاتب الثلاثة دون سائر من تَخَلَّف عنه، وقد أكثر الناس من مدح عتاب الأحبة واستلذاذه، والسرور به، فكيف بعتاب أحبِّ الخلق على الإطلاق إلى المعتوب عليه، ولله ما كان أحلَى ذلك العتاب، وما أعظم ثمرته، وأجل فائدته، ولله ما نال به الثلاثة من أنواع المسرات وحلاوة الرضا. . . " (¬4). ¬
باب قول الله عز وجل وإذا حضر القسمة أولو القربى
18 - باب قول الله عز وجل {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أولو الْقرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين فَارْزقوهمْ مِنْه} [النساء: 8] (¬1) [حديث هما واليان وال يرث ووال لا يرث] 10 - [2759] حَدَّثَنَا محَمَّد بن الفَضْلِ أَبو النّعْمَانِ: حَدَّثَنَا أَبو عَوَانَةَ، عَن أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بن جبَيْر، عَنِ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (¬2) " إِنَّ نَاسا يَزعمونَ أَنَّ هذه الآيةَ نسِخَتْ، وَلا وَاللَّهِ مَا نسِخَتْ، ولَكِنَّها مِمَّا تَهَاوَنَ الناس، همَا وَاليَانِ: وَالٍ يَرِث وَذَاكَ الذِي يَرْزق، وَوَالٍ لَا يَرِث فَذَاكَ الذِي يَقول بِالْمَعْروفِ، يقول: لَا أَمْلِك لَكَ أَنْ أعْطِيَكَ " (¬3). وفي رواية: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} [النساء: 8] قَالَ: " هِيَ محْكَمَة وَلَيْسَتْ بِمَنْسوخَةٍ " (¬4). * شرح غريب الحديث: * " يزعمون " الزعم: قريب من الظن (¬5). وقيل: هو القول يكون حقا ويكون باطلا. وقيل: الزعم: الظن، وقيل: الكذب (¬6). * " نسخت " النسخ: أمر كان يعمل به من قبل ثم ينسخ بحادث غيره، كالآية ينزل فيها أمر ثم تنسخ بآية أخرى، وكل شيء خلف شيئا فقد نسخه، أي أبطله وقام مقامه، والأول منسوخ والثاني ناسخ، يقال: نسخت الشمس الظلَّ: أي أزالت الظل وحلت محله (¬7). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الإحسان إلى الأقرباء واليتامى والمساكين. 2 - من موضوعات الدعوة: بيان الناسخ والمنسوخ عند الحاجة. 3 - من صفات الداعية: القول اللطيف الحسن. 4 - الرد بالحكمة على من ظهر منه مخالفة للنصوص الشرعية. 5 - من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الإحسان إلى الأقرباء واليتامى والمساكين: دل هذا الحديث على العناية بالأقارب واليتامى والمساكين؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] قال: هي محكمة وليست بمنسوخة. وقد أمرِ الله عز وجل بالإحسان إليهم في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} [البقرة: 177] الآية (¬1). وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء: 36] الآية. (¬2). فعلى الدعاة إلى الله أن يبلِّغوا الناس هذا الواجب العظيم، الذي عظم الله شأنه، وعظم شأنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يبْسَطَ لَه في رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» (¬3). ¬
وقال صلى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة» (¬1). فعلى الداعية أن يحث الناس على العناية بهذا الأمر، ويرغبهم فيه، ويحذرهم من التهاون به. ثانيا: من موضوعات الدعوة: بيان الناسخ والمنسوخ عند الحاجة: إن المدعوين قد يحتاجون إلى بيان الناسخ والمنسوخ على حسب الحاجة والمصلحة الشرعية؛ لأهمية هذا الموضوع؛ ولهذا قال الإمام القرطبي رحمه الله في أهمية معرفة الناسخ والمنسوخ وتبليغه: " معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء؛ لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام " (¬2). فعلى الداعية أن يبين الناسخ والمنسوخ عند حاجة المدعو إلى ذلك، ويكون عن علم وبصيرة. والله المستعان (¬3). ثالثا: من صفات الداعية: القول اللطيف الحسن: من الصفات الجميلة والأخلاق الحميدة أن يحسن الداعية إلى المدعوين بالفعل والقول؛ فإن لم يستطع بالفعل فبالقول الحسن كما في الآية المذكورة في هذا الحديث: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 8] (¬4). قال الإمام القرطبي رحمه الله: " بين الله تعالى أن من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة، وكان من الأقارب أو اليتامى، والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا إن كان المال كثيرا، والاعتذار إليهم إن كان عقارا أو قليلا. . " (¬5). ¬
وقد أمر الله عز وجل بالاعتذار والقول الحسن المعروف لمن لا يستطيع الإحسان بالفعل، ومن ذلك قوله تعالى {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء: 28] (¬1). فعلى الداعية أن يتخلَّق بهذا الخلق الجميل، وأن يسأل الله تعالى أن يوفقه ويعينه؛ فإنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع سبحانه. رابعا: الرد بالحكمة على من ظهر منه مخالفة للنصوص الشرعية: ظهر في هذا الحديث الرد الحكيم من ابن عباس رضي الله عنهما على من خالفه في حكم هذه الآية الكريمة، وذلك أنه قال رضي الله عنه: " إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت. . . " ولم يصرح ولم يشهر بأسمائهم، وهذا من الحكمة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل بها في دعوته، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم». . . " الحديث (¬2) «ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله». . . " الحديث (¬3) «ما بال أقوام يتنزهون عن شيء أصنعه». . . " الحديث (¬4) «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام». . . " الحديث (¬5). فعلى الداعية أن لا يصرح بالأسماء في دعوته للناس، ولا يواجه بالعتاب، بل يسلك مسلك النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته وكفى. خامسا: من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم: أسلوب التوكيد بالقسم يثبت المعاني في القلوب، ويحملها على التصديق والإيمان، وسرعة التنفيذ بفعل المأمورات وترك المنهيات (¬6) وفي هذا ¬
الحديث يظهر هذا الأسلوب في قول ابن عباس رضي الله عنهما: " ولا والله ما نسخت ". فعلى الداعية أن يستخدم هذا الأسلوب عند الحاجة إليه؛ ولهذه الأهمية أقسم الله عز وجل في مواضع كثيرة تأكيدا لصدق ما يقول، وهو أصدق القائلين: قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] (¬1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهوديّ ولا نصرانيّ، ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» (¬2). ¬
باب ما يستحب لمن توفى فجأة أن يتصدقوا عنه
19 - باب ما يستحب لمن توفى فجأة أن يتصدقوا عنه, وقضاء النذور عن الميت [حديث سعد بن معاذ سأل رسول الله إن أمي ماتت وعليها نذر فقال اقضه عنها] 11 - [2761] حَدَّثَنَا عَبْد الله بن يوسفَ: أَخْبرَنَا مَالِك، عَنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ عبَيْدِ اللهِ بنِ عبدِ اللَّهِ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: (¬1) «أَنَّ سَعْدَ بنَ عبادَةَ رضي الله عنه اسْتَفْتَى رَسولَ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلم فقَالَ: إِنَّ أمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْر، فقال: " اقضِهِ عَنْهَا» (¬2). وفي روِاية: «أَنَّ سَعْدَ (¬3) بْنَ عبَادَةَ الأنصَارِيَّ اسْتَفْتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في نَذْرٍ كَانَ عَلَى أمِّهِ فتوفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَه فَأَفْتَاه أَنْ يَقْضِيَه عَنْهَا، فَكَانَتْ سنَّة بَعْد» (¬4). وفي رواية: «وَقَالَ بَعْض النَّاسِ إِذَا بَلَغَتِ الإبِل عِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَع شِياهٍ، فَإِنْ وَهَبَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَاعَهَا فِرَارا وَاحتِيَالا لإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إِنْ أَتْلَفَهَا فَمَاتَ فَلاَ شَيْءَ فِي مَالِهِ» (¬5). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية السؤال في تحصيل العلم. 2 - مسارعة المدعو إلى عمل الخير. 3 - من موضوعات الدعوة: الحث على الإحسان إلى الوالدين بعد موتهما. 4 - أهمية استشارة العلماء. 5 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 6 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 7 - من موضوعات الدعوة: الحث على أداء الزكاة. ¬
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: أهمية السؤال في تحصيل العلم: دل هذا الحديث على أهمية سؤال العالم عند الجهل، أو عند اشتباه الأمور؛ لأن هذا الصحابي رضي الله عنه ترك الحكم بالرأي عندما لم يكن يعلم هل تنفع الصدقة عن أمه أم لا؛ ولم يقدم عليها برأيه وإنما سأل النبي صلى الله عليه وسلم (¬1). قال ابن حجر رحمه الله: " وفيه السؤال عن التحمل. . . " (¬2) وقال الإمام الأبي رحمه الله: " فيه استفتاء الأعلم. . . " (¬3). فينبغي للجاهل أن يسأل العالم عما أشكل عليه حتى يكون على بصيرة (¬4). ثانيا: مسارعة المدعو إلى عمل الخير: دل الحديث على مسارعة المدعو إلى الخير؛ لأن الصحابي الجليل رضي الله عنه عندما علم بأن قضاء النذر عن أمه ينفع بادر إلى ذلك؛ ولهذا ذكر الإمام ابن حجر رحمه الله: " أن في الحديث المسارعة إلى عمل البر والمبادرة إلى بر الوالدين " (¬5). فعلى المدعو أن يبادر إلى أعمال البر والتقوى، ويسارع إلى ذلك (¬6). ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحث علي الإحسان إلى الوالدين بعد موتهما: إن بر الوالدين والإحسان إليهما من أعظم القربات إلى الله تعالى. وبرهما يكون في حياتهما وبعد موتهما، فمن فاته الإِحسان إلى والديه في حياتهما فقد جعل الله له ذلك بعد موتهما، سواء كان الإِحسان: بالصدقة عليهما، أو الاستغفار والدعاء، أو قضاء الديون والنذور، أو إنفاذ عهدهما من بعدهما، أو صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، أو صلة أهل ودِّهما، أو غير ذلك من ¬
أعمال البر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له» (¬1). فعلى الداعية أن يبين للناس هذا الموضوع ويحثهم على الإحسان إلى الوالدين في الحياة وبعد الممات (¬2) والله المستعان (¬3). رابعا: أهمية استشارة العلماء: من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية والمدعو العناية بها: الاستشارة للعلماء المخلصين في أمور الدين؛ لأن ذلك مما يسبب النجاح والتوفيق بإذن الله تعالى؛ فإنه ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، وقد بين سبحانه وتعالى للناس مكانة الشورى، وأنها من صفات المؤمنين فقال:. . . {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38] (¬4)؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه ما كان الصحابة عليه من استشارة النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدين " (¬5). فعلى المدعو أن يستشير العلماء والدعاة في كل ما يشكل عليه، وعلى الدعاة أيضا أن يستشيروا العلماء حَتَّى تنجح أعمالهم وتصرفاتهم بإذن الله تعالى (¬6). خامسا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: القدوة الحسنة من أهم وسائل الدعوة؛ لأن العمل يؤثر في الغالب على المدعو أكثر من القول، وقد دل هذا الحديث على القدوة في قوله: " فكانت سنة بعد "، قال الإمام الكرماني رحمه الله: " أي صار قضاء الوارث حقوق الموروث طريقة شرعية؛ لأن القضاء في بعض المواضع واجب كما إذا كان ¬
ماليا وثمة تركة " (¬1) وقال العيني رحمه الله: " فكانت فتوى النبي صلى الله عليه وسلم سنة يعمل بها، بعد إفتاء النبي صلى الله عليه وسلم، والضمير في كانت يرجع إلى الفتوى " (¬2) فهذا الصحابي رضي الله عنه كان سؤاله وعمله بفتوى النبي صلى الله عليه وسلم طريقة شرعية في قضاء ما على الميت من الديون والنذور والواجبات، فعلى الداعية أن يكون قدوة في الخير (¬3). سادسا: من أساليب الدعوة: الترغيب: في هذا الحديث ترغيب في الإحسان إلى الوالدين بعد موتهما، وبيان لفضل الله تعالى على الآباء ببركة عمل الأبناء ودعائهم لهم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا ربِّ أَنَّى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك» (¬4). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه فضل بر الوالدين بعد الوفاة، والتوصل إلى براءة ما في ذمتهم " (¬5). فعلى الداعية أن يرغب الناس في ذلك؛ لأن الترغيب له أثر في النفوس ونشاط في العمل، وطمع في فضل الله تعالى (¬6). سابعا: من موضوعات الدعوة: الحث على أداء الزكاة: دل الحديث على أن الحث على أداء الزكاة من موضوعات الدعوة؛ لأهميتها؛ ولكونها من أركان الإسلام العظام، وهي قرينة الصلاة في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى، ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] (¬7). ¬
فعلى الداعية أن يبين للمدعوين المستجيبين أصناف الأموال الزكوية، ومقادير الأنصباء لكل صنف، وشروط وجوب الزكاة على المسلم، ومقادير الواجب في ذلك، وأصناف أهل الزكاة؛ لأن ذلك من أصول الدين التي ينبغي العناية بها وتوضيحها للناس (¬1). ¬
باب قول الله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما
23 - باب قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكلونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظلْما إِنَّمَا يَأْكلونَ فِي بطونِهِمْ نَارا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا} [النساء: 10] (¬1) [حديث اجتنبوا السبع الموبقات] 12 - [2766] حَدَّثَنَا عَبْد العَزِيزِ بن عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَني سلَيْمان بن بِلال، عَنْ ثَورِ بنِ زَيدٍ المَدَنيِّ، عَنْ أَبِي الغَيْثِ، عَنْ أَبِي هرَيْرَةَ رضي الله عنه (¬2) عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اجْتَنِبوا السَّبْعَ الموبِقَاتِ ". قَالوا: يَا رَسولَ اللهِ وَمَا هنَّ؛ قَالَ: " الشِّرك باللهِ، والسِّحْر، وقَتْل النَّفسِ الّتِي حَرَّمَ الله إلّا بِالحَقِّ؛ وَأَكْل الرِّبا، وأَكل مالِ اليَتِيم، والتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْف المحْصَنَاتِ المؤمناتِ الغَافِلاتِ» (¬3). * شرح غريب الحديث: * " الموبقات " المهلكات، ويقال: أوبقته ذنوبه: أي حبسته (¬4). * " يوم الزحف " يوم الالتقاء في قتال العدو؛ لأنهم يزحفون: أي يتقدمون إليهم (¬5). * " وقذف " القذف: الرمي بقوة (¬6). * " المحصنات " الإحصان في كلام العرب: المنع، فتكون المرأة محصنة بالإسلام، لأن الإسلام يكفها عما لا يحل، وتكون محصنة بالعفاف والحياء من أن تفعل ما تعاب به (¬7) والمراد: الحرائر العفيفات (¬8). * " الغافلات " كناية عن البريئات؛ لأن البريء غافل عما بهت به من الزنا (¬9). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية, منها: 1 - من موضوعات الدعوة: التحذير من السبع المهلكات. 2 - أهمية سؤال المدعو عما لم يفهم. 3 - من أساليب الدعوة: الترهيب. 4 - من أساليب الدعوة: ذكر العدد إجمالا ثم تفصيلا. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية بالتفصيل على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: التحذير من السبع المهلكات: من الموضوعات المهمة في الدعوة، تحذير الناس من الكبائر وخاصة الموبقات التي تهلك الإنسان المسلم، وأعظمها جرما وأكبرها قبحا: الشرك بالله تعالى؛ لأنه يحبط العمل ويخلد صاحبه في النار، إذا مالت عليه، لقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] (¬1) ثم تأتي الكبائر بعده في الجرم وعظم الذنب، والكبائر لا تحصر، ولكن يجمعها أن كل ذنب ترتب عليه حدّ في الدنيا، أو توعِّدَ عليه بالنار، أو اللعنة، أو الغضب، أو العذاب، أو نفي الإيمان، أو نحو ذلك، فهو من الكبائر (¬2) وأشد هذه الكبائر إثما وعقابا السبع الموبقات المذكورة في هذا الحديث (¬3). فعلى الداعية أن يحذر الناس من الذنوب كبيرها وصغيرها، ولكن يهتم اهتماما كبيرا في التحذير والزجر عن هذه الموبقات السبع (¬4). ¬
ثانيا: أهمية سؤال المدعو عما لم يفهم: دل هذا الحديث على أن المدعو الموفق هو الذي يسأل عما أشكل عليه ولم يفهمه؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: " اجتنبوا السبع الموبقات " فقالوا: " وما هنَّ؟ " فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما أشكل عليهم. فينبغي للمدعو أن يسأل عن كل ما أشكل عليه كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] (¬1) وهذا يؤكد أهمية السؤال عما أشكل (¬2). ثالثا: من أساليب الدعوة: الترهيب: لا شك أن أسلوب الترهيب يخوّف المدعو ويحذِّره من كل ما يضره في الدنيا والآخرة، ويظهر في هذا الحديث استخدام النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأسلوب في قوله: " اجتنبوا السبع الموبقات "، وهذا اللفظ يخوّف المدعو مما يهلكه ويضره؛ ولهذا ينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب مع المدعوين ويوضح لهم أن انتشار هذه المهلكات في المجتمعات من أسباب الهلاك، والضلال، والانحراف، والانحلال والاختلاف (¬3). رابعا: من أساليب الدعوة: ذكر العدد إجمالا ثم تفصيلا: أسلوب ذكر العدد: إجمالا ثم تفصيلا مهم في الدعوة إلى الله تعالى، وهو ظاهر في هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: " اجتنبوا السبع الموبقات "، فقد أجمل أولا ثم فسر صلى الله عليه وسلم ما أجمل، ومن المعلوم أن الإخبار بالإجمال يحصل به للنفس المعرفة بغاية المذكور، ثم تبقى متشوقة إلى معرفة معناه، فيكون ذلك أوقع في النفس وأعظم في الفائدة (¬4). فعلى الداعية أن يستخدم أسلوب ذكر العدد إجمالا ثم تفصيلا في دعوته؛ ¬
لأنه إذا فعل ذلك يشدّ أذهان المدعوين إلى حديثه، ليتمكنوا من معرفة نتيجة العدد وتفسيره؛ فإذا سمع المدعو قوله صلى الله عليه وسلم: «أربع إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا». . . " - فإنه حينئذ ينتبه وينتظر ذكر هذه الأربع برغبة واشتياق- ". . . «حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة» (¬1) ويحتمل أن يدل العدد المبهم المجمل على التعظيم والتفخيم. وهذا يبين أهمية ذكر الداعية العدد إجمالا ثم تفصيلا في أساليبه الدعوية، والله تعالى أعلم. ¬
باب قول الله تعالى ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير
24 - باب قول الله تعالى {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قلْ إِصْلَاح لَهمْ خَيْر وَإِنْ تخَالِطوهمْ فَإِخْوَانكمْ وَاللَّه يَعْلَم الْمفْسِدَ مِنَ الْمصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّه لَأَعْنَتَكمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيز حَكِيم} [البقرة: 220] (¬1). " لأَعنتَكم ": لأَحرجكم وضَيَّقَ عليكم. " وعَنَت ": خَضَعَت. [حديث ما رد ابن عمر على أحد وصيته] 13 - [2767]- وَقَالَ لنَا سلَيمان بن حَرْبٍ: حَدَّثَنَا حَمّاد عَنْ أَيّوبَ عَنْ نافعٍ (¬2) قَالَ: مَا رَدَّ ابن عمَرَ (¬3) عَلَى أَحَدٍ وَصيتَه، وَكَانَ ابن سِيرِينَ أَحَبّ الأَشْيَاءِ إِليهِ فِي مَالِ اليَتِيمِ أَنْ يَجتمِعَ إِليهِ نصَحَاؤه، وَأَولياؤه، فيَنْظروا الَّذِي هوَ خير لَه، وَكَانَ طاوس إِذا سئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ اليَتامَى قَرَأَ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] وَقَالَ عَطاء فِي يَتامَى الصَّغِير والْكَبِيرِ: ينفِق الوَليّ عَلَى كلِّ إِنْسَانٍ بقَدْرِهِ مِنْ حِصَّتِهِ. * شرح غريب الحديث: * " نصَحَاؤه " جمع ناصح، وهو من أراد الخير للمنصوح له (¬4). * " أولياؤه " أي: من تولَّى أمره وقام على مصالحه (¬5). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الخبر دروس وفوائد دعوية، منها: ¬
1 - من صفات الداعية: الرحمة. 2 - من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله تعالى. 3 - من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب. 4 - من موضوعات الدعوة: الحث على الإحسان إلى الأيتام والعناية بمصالحهم. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الرحمة: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية الناجح أن يرحم الناس، وخاصة الأيتام؛ ولهذا لم يرد ابن عمر رضي الله عنهما على أحد وصيته رحمة بالأيتام، ومن أجل ذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالأيتام والعناية بهم (¬1). فعلى الداعية أن يتصف بهذه الصفة الحميدة، ويكون رحيما بالمؤمنين وخاصة اليتامى الذين فقدوا آباءهم؛ فإن الله لا يخيِّب سعيه. والله المستعان (¬2). ثانيا: من صفات الدعاة: الرغبة فيما عند الله تعالى: يظهر في هذا الخبر رغبة الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فيما عند الله تعالى, وذلك في عدم ردِّه على أحد وصيته، وكأنه يبتغي الأجر بقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا " وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئا» (¬3). فينبغي للداعية أن يرغب فيما عند الله تعالى؛ فإن ذلك من أعظم القربات:. . {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60] (¬4). ثالثا: من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب: إن من الأساليب النافعة في الدعوة إلى الله تعالى: الترغيب والترهيب, ¬
وهذا ظاهر في هذا الخبر في قول طاووس: حيث كان إذا سئل عن شيء من أمر اليتامى قرأ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] قال الإمام القرطبي رحمه الله: في تفسير هذه الآية: " تحذير: أي يعلم المفسد لأموال اليتامى من المصلح، فيجازي كلا على إصلاحه وإفساده " (¬1). وقال سبحانه: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9] (¬2). فينبغي للداعية أن يستخدم أسلوب الترغيب والترهيب في دعوته؛ فإن ذلك مما يؤثر على المدعو (¬3). رابعا: من موضوعات الدعوة: الحث علي الإحسان إلى الأيتام والعناية بمصالحهم: إن من الموضوعات المهمة: الحث على الإحسان إلى اليتامى، والعناية بهم وبمصالحهم، وتربيتهم التربية الإسلامية، والإنفاق عليهم من أموالهم أو من غيرها بالمعروف، وتنمية عقولهم وأموالهم (¬4) وقد أمر الله تعالى بالعناية باليتامى في آيات كثيرة ومنها قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء: 36] (¬5) وحذر سبحانه عن إفساد أموالهم وأكلها بالباطل فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] (¬6). فعلى الداعية أن يبين للناس أهمية هذا الموضوع، ويوضح لهم ما أوجب الله عليهم من العناية باليتامى، ورعاية مصالحهم الدينية والدنيوية (¬7). ¬
باب استخدام اليتيم في السفر والحضر إذا كان صلاحا له
25 - باب استخدام اليتيم في السفر والحضر إذا كان صلاحا له ونظر الأم أو زوجها لليتيم [حديث أنس خدمت رسول الله في السفر والحضر] 14 - [2768] حَدَّثَنَا يَعْقوب بن إِبْرَاهِيمَ بنِ كَثِير: حَدَّثَنَا ابن علَيةَ: حَدَّثَنَا عبد العَزِيزِ، عَنْ أَنسٍ رضي الله عنه، (¬1) قَالَ: «قَدِمَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم المَدينة لَيْسَ له خادم، فأَخذَ أَبو طَلْحَةَ بِيَدِي فَانْطَلَقَ بِي إلَى رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال: يَا رَسولَ اللهِ إِنَّ أنسا غلاَم كيِّس فَلْيَخْدمْكَ، قَالَ: فَخَدَمْته فِي السَّفَر وَالْحَضَرِ، مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْته لِمَ صَنعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلاَ لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْه لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذا؟» (¬2) وفي رواية: «خَدَمْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي: أفٍّ، وَلاَ لِمَ صَنَعْتَ؟ ولاَ: أَلاَ صَنَعْتَ؟» (¬3) وفي رواية: ". . . «فَوَاللهِ مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْته لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا وَلاَ لشيء لَمْ أَصْنَعْه لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذا؟» (¬4). ¬
* شرح غريب الحديث: * " كيِّس " الكيِّس: العاقل (¬1) وهو الذي لا يقع منه خلَل غالبا في الدين (¬2). * " أفّ " أصل الأف: كل مستقذر من وسخ وقلامة ظفر، وما جرى مجراها، ويقال ذلك لكل مستخف به، ويقال عند التكره من الشيء، وعند التضجّر منه (¬3). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: الخلق الحسن. 2 - من آداب الداعية: ترك العتاب على ما فات استئلافا للمدعو. 3 - أدب المدعو مع العالم والداعية. 4 - من صفات الداعية: الكَيْس والنشاط. 5 - من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم. 6 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الخلق الحسن: دل الحديث على أن الخلق الحسن من أعظم صفات الداعية؛ ولهذا قال الإمام النووي رحمه الله: " وفي هذا الحديث بيان كمال خلقه صلى الله عليه وسلم وحسن عشرته، وحلمه وصفحه " (¬4) وقال الإمام ابن أبي جمرة: " فيه دليل على حسن خلق النبي وكثرة ما أمده الله عز وجل به من قوة اليقين؛ لأن أنسا بقي في خدمته صلى الله عليه وسلم ¬
عشر سنين ثم مع طول السنين ومباشرة الخدمة لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: قط لِمَ فعلت هذا هكذا، ولا لِمَ لَمْ تفعل. .؟ " (¬1). فعلى الداعية أن يتصف بحسن الخلق؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله تعالى ليتمم مكارم الأخلاق كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (¬2) ومما يدل على أهمية حسن الخلق للداعية أن الله تعالى أمر به إمام الدعاة وقائدهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليه به، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] (¬3) وقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] (¬4) وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه فقالت: ". . . «فإن خلق نبيكم صلى الله عليه وسلم كان القرآن» (¬5) وهذا يحث الداعية على أن يسأل الله تعالى أن يرزقه الخلق الحسن؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ". . . «واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت». . . " (¬6). ثانيا: من أدب الداعية: ترك العتاب على ما فات استئلافا للمدعو: من الأمور المهمة للداعية أن لا يلوم ولا يعاتب أحدا على ما فات، وخاصة في أمور الدنيا التي لا إثم في تركها؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ويستفاد من هذا ترك العتاب على ما فات؛ لأن هناك مندوحة عنه باستئناف الأمر به إذا احتيج إليه، وفائدة تنزيه اللسان عن الزجر والذم واستئلاف خاطر الخادم بترك معاتبته، وكل ذلك في الأمور التي تتعلق بحظ الإنسان، وأما الأمور اللازمة شرعا فلا يتسامح فيها؛ لأنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " (¬7). فعلى الداعية أن لا يعاتب لحظ نفسه ولا لأجل الدنيا، بل عليه أن يعفو ويصفح كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أنس رضي الله عنه. ¬
ثالثا: أدب المدعو مع العالم والداعية: إن من الآداب الجميلة والأخلاق الحميدة احترام العلماء وخدمتهم والعناية بذلك، احتراما للعلم الذي معهم؛ ولهذا الأمر المهم أرسلت أم سليم رضي الله عنها ابنها أنس بن مالك رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليخدمه، فخدمه رضي الله عنه عشر سنوات. قال الإمام العيني رحمه الله: " وفيه أن خدمة الإمام والعالم واجبة على المسلمين، وأن ذلك شرف لمن خدمهم. . . " (¬1). فعلى المدعو أن يخدم العلماء، ويوقرهم، ويحترمهم؛ لما لهم من الفضل على الناس بنشر العلم النافع بينهم، وتعليمهم لهم علوم الكتاب والسنة. رابعا: من صفات الداعية: الكَيْس والنشاط: إن من صفات الداعية أن يكون عاقلا ثبتا، نشيطا في طاعة الله تعالى؛ لأن الكيِّس في الحقيقة: هو الذي لا يقع منه خلل في الدين؛ (¬2) ولهذا قال أبو طلحة رضي الله عنه في هذا الحديث: " يا رسول الله، إن أنسا غلام كيِّس فليخدمك ". فعلى الداعية أن يكون عاقلا، نشيطا، ملتزما بأمور الدين، فلا يقع منه خلل ولا تقصير. خامسا: من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم: إن التوكيد بالقسم من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله تعالى؛ لأنه يثبت المعاني في القلوب، ويحملها على التصديق؛ قال أنس رضي الله عنه: " فوالله ما قال لي لشيء صنعته لِمَ صنعت هذا؟ ". فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب عند الحاجة إليه (¬3). سادسا: من وسائل الدعوة القدوة الحسنة: إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أنس بن مالك يدل على هذه الوسيلة النافعة، وأن ¬
أثرها عظيم في الدعوة؛ لأن الفعل أبلغ من القول (¬1) ولهذا أثَّر هذا الخلق الحسن على أنس بن مالك رضي الله عنه حتى قال: «خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فوالله ما قال لي لشيء صنعته لم صنعت هذا». . . " الحديث. فعلى الداعية أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقه، وأن يكون قدوة حسنة لغيره؛ لأن القدوة الحسنة تعطي الآخرين قناعة بما يدعو إليه الداعية (¬2). ومن أعظم ما ينبغي للداعية أن يكون قدوة لغيره في: الخلق الحسن، ومنه: طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى، ولا شك أن حسن الخلق قسمان: أحدهما مع الله عز وجل، وهو أن تعلم أن كل ما يكون منك يوجب عذرا، وكل ما يأتي من الله يوجب شكرا، فلا تزال شاكرا له معتذرا إليه. والقسم الثاني: حسن الخلق مع الناس، وجماعه أمران: بذل المعروف قولا وفعلا، وكف الأذى قولا وفعلا، وهذا إنما يقوم على أركان خمسة: العلم، والجود، والصبر، وطيب العود (¬3) وصحة الإسلام (¬4). فعلى الداعية أن يكون قدوة للمدعوين في هذا الخلق الحسن. والله المستعان (¬5). ¬
باب نفقة القيم للوقف
32 - بَاب نَفَقَةِ الْقَيِّمِ لِلْوَقفِ [حديث ما تركت فهو صدقة] 15 - [2776] حَدَّثَنَا عَبْد اللهِ بن يوسفَ: أَخْبَرَنَا مَالِك، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَن أَبِي هرَيْرَةَ رضي الله عنه: (¬1) أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَقْتَسِمْ وَرَثَتِي دِينَارا، وَلَا دِرْهَما، مَا تَرَكْت - بَعدَ نَفَقَةِ نِسَائي وَمؤْنَةِ عَامِلي- فَهوَ صَدَقَة» (¬2). * شرح غريب الحديث: " ومؤنة (¬3) عاملي " أراد صلى الله عليه وسلم بالعامل: الخليفة بعده، وقيل: هو القائم على هذه الصدقات والناظر فيها، وقيل: كل عامل للمسلمين من خليفة وغيره؛ لأنه عامل النبي صلى الله عليه وسلم ونائب عنه في أمته (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: الزهد. 2 - من صفات الداعية: الكرم. 3 - مسئولية الداعية تجاه أقاربه. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الزهد: في هذا الحديث بيان واضح للأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهتم بأمور الدنيا، ولم تكن أكبر همه؛ لأنه لم يبعث لتحصيلهما وجمعها، وإنما بعث لإنقاذ الناس ¬
وإخراجهم من ظلمات الشرك والمعاصي إلى نور التوحيد والطاعات. وهذا يدل على زهده, وقناعته صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من الخبز الشعير» (¬1) وقالت: «ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر» (¬2) وقالت: «إنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقال عروة: ما كان يقيتكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء» (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: «لو كان لي مثل أحد ذهبا ما يسرّني أن لا يمرّ عليَّ ثلاث وعندي منه شيء، إلا شيء أرصده لدين» (¬4). وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه «اضطجع على حصير فأثر في جنبه فدخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولما استيقظ جعل يمسح جنبه فقال: يا رسول الله لو أخذت فراشا أوثر من هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " ما لي وللدنيا ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها» (¬5). وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام حتى قبض» (¬6). والمقصود أنهم لم يشبعوا ثلاثة أيام بلياليها متوالية، والظاهر أن سبب عدم شبعهم غالبا كان بسبب قلة الشيء عندهم، على أنهم قد يجدون ولكن يؤثرون على أنفسهم (¬7). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدَم وحشوه ليف» (¬8) ¬
ومع هذا كان يقول صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتا» (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه» (¬2). فينبغي للداعية أن يكون زاهدا في الدنيا، راغبا فيما عند الله تعالى؛ فإن ذلك من الصفات الحميدة، والأخلاق الكريمة (¬3) والله المستعان (¬4). ثانيا: من صفات الداعية: الكرم: لا ريب أن الكرم من صفات الداعية الناجح؛ لأن الكريم إذا أحسن إلى الناس جلب قلوبهم؛ ولأن النفس في الغالب مجبولة على حبِّ من أحسن إليها، وهذا واضح في هذا الحديث؛ ولهذا قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث عندما ذكر ماله صلى الله عليه وسلم من الأموال. قال: " لكنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستأثر بها، بل ينفقها على أهله، والمسلمين، وللمصالح العامة. . . " (¬5). فعلى الداعية أن يكون جوادا كريما محسنا، وبهذا إن شاء الله يجذب قلوب المدعوين، فيقبلون على دعوته (¬6). ثالثا: مسؤولية الداعية تجاه أقاربه: إن الأقارب لهم حق النفقة والرعاية والإحسان على حسب مراتبهم ودرجاتهم في القرب؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: " ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة "، فلم يهمل صلى الله عليه وسلم نفقة نسائه، بل أوصى لهن بالنفقة، وقد بين صلى الله عليه وسلم أهمية الإنفاق على الأهل، والأقارب، والعيال الذين يعولهم المسلم، أو ¬
تلزمه مؤنتهم: نحو الزوجة, والخادم, والوالد, والولد, وغيرهم. فقال: «أفضل دينار ينفقه الرجل: دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله،» (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك» (¬2). وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثما أن يحبس عمّن يملك قوته» (¬3) وقال صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شَيْء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن قرابتك شيء فهكذا وهكذا»، يقول: فبيْن يديك وعن يمينك وعن شمالك (¬4). فينبغي للداعية أن يعتني بقرابته عناية خاصة؛ ليقوم بالواجب، ويكون قدوة حسنة للناس في الخير، والله المستعان. ¬
باب إذا وقف أرضا أو بئرا أو اشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين
33 - بَاب إِذَا وَقَفَ أَرضا أَو بِئْرا أو اشْترَطَ لِنَفْسِهِ مِثلَ دِلاءِ المسْلمين وَوَقَفَ أنَس دَارا، فَكَانَ إِذَا قَدِمَ نزَلَهَا، وَتَصَدَّقَ الزبير بِدورِهِ، وَقَالَ لِلْمَردودَةِ منْ بَنَاتِهِ: أَنْ تَسْكنَ غَيرَ مضِرَّةٍ وَلَا مضَرٍّ بِهَا، فَإِنِ اسْتَغْنَتْ بِزَوْجٍ فَلَيْسَ لَهَا حَقّ، وَجَعَلَ ابن عمَرَ نَصِيبَه مِنْ دَارِ عمَرَ سكْنَى لِذَوِي الحَاجَاتِ مِنْ آلِ عَبْد اللهِ. [حديث من حفر بئر رومة فله الجنة] 16 - [2778] وَقَالَ عَبْدَان: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عنْ أبِي عَبْدِ الرّحمَنِ: «أَن عثمانَ رضي الله عنه، (¬1) حَيْث حوصِرَ أَشْرَفَ عَليهم، وقَالَ: أَنشدكم اللهَ، وَلَا أَنْشد إِلَّا أَصْحَابَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أَلَسْتمْ تَعْلَمونَ أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: " مَنْ حَفَرَ رومَةَ فَله الْجَنَّة " فَحَفَرْتهَا؟ أَلَسْتمْ تَعَلَمونَ أَنَّه قَالَ: " مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ العسْرَةِ فَله الْجَنَّة " فَجَهَّزْته؟ قَالَ: فَصَدَّقوه بمَا قَالَ؟ وَقَالَ عمَر فِي وَقْفِهِ: لَا جنَاحَ عَلَى مَنْ وَليَه أَن يَأْكلَ. وَقَدْ يَليهِ الوَاقِف وَغَيره فَهوَ واسع لِكلٍّ». (¬2). ¬
* شرح غريب الحديث: * " أنشدكم الله " يقال: نشدتك الله: أي سألتك بالله، ويقال: نشدتك الله، وأنشدك بالله، وأنشدك الله، وناشدتك اللهَ وبالله: أي سألتك وأقسمت عليك (¬1) وقيل: نشدتك الله، وأنشدك بالله: أي أشهدك بالله، وأعرِّفكَ ما نحبه فيك من الصدق لِلَّهِ (¬2). * " رومة " هي بئر بالمدينة، اشتراها عثمان رضي الله عنه وسَبَّلها (¬3). * " العسرة " جيش العسرة: غزوة كان فيها شدة على أهلها، وقلة، سمِّيَ جيشهَا بما أصابهم (¬4) وهي غزوة: تبوك. * الدراسة الدعوية للحديث: هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحث على الإِنفاق والصدقات في وجوه الخير. 2 - من صفات الداعية: المسارعة إلى الخيرات. 3 - من صفات الداعية: الكرم والرغبة فيما عند الله تعالى. 4 - إظهار الداعية مناقبه عند الحاجة إلى ذلك. 5 - من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان. 6 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 7 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية بالتفصيل على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحث علي الإنفاق والصدقات في وجوه الخير: في هذا الحديث الشريف دعوة للأمة إلى الإنفاق والصدقة ابتغاء وجه الله ¬
تعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى حفر بئر رومة فحفرها عثمان رضي الله عنه وهذا العمل من أعظم الصدقات، ودعا صلى الله عليه وسلم إلى تجهيز جيش العسرة، فجهزه عثمان رضي الله عنه، وهذه من النفقات في سبيل الله تعالى. (¬1). فعلى الداعية أن يحث الناس على الإِنفاق في وجوه البر ابتغاء وجه الله تعالى. ثانيا: من صفات الداعية: المسارعة إلى الخيرات: إن من صفات الداعية الصادق مع الله تبارك وتعالى المسارعة إلى الخير ابتغاء مرضات الله تعالى؛ ولهذا سارع عثمان رضي الله عنه عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإنفاق ويبين فضله، فأنفق على جيش العسرة فجهزه، وحفر بئر رومة، فينبغي للداعية أن يسارع إلى فعل الخيرات كما قال سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران: 133 - 134] (¬2) الآية (¬3). ثالثا: من صفات الداعية: الكرم والرغبة فيما عند الله تعالى: إن الكرم صفة حميدة ينبغي للدعاة أن يتصفوا بها، وفي هذا الحديث صورة واضحة تبين كرم عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فقد أنفق نفقة عظيمة عجز عظماء الرجال عن الإِنفاق مثلها، فقد ثبت أنه «أنفق في هذه الغزوة ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، وجاء بألف دينار فنثرها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقلِّبها في حجره ويقول: " ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد هذا اليوم " قالها مرارا» (¬4) ومما يدل على كرمه أيضا ما أنفقه في شراء بئر رومة وحفرها، وذلك أن «المهاجرين لما قدموا المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجل من بني ¬
غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " تبيعنيها بعين في الجنة؟ " فقال يا رسول الله: ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أتجعل لي فيها ما جعلت له؟ قال: " نعم "، قال: قد جعلتها للمسلمين» (¬1). وهذا يدل على كرم عثمان رضي الله عنه ورغبته فيما عند الله تعالى، فعلى الداعية أن يكون كريما راغبا فيما عند الله سبحانه وتعالى (¬2). رابعا: إظهار الداعية مناقبه عند الحاجة لذلك: لا شك أن الداعية الصادق المخلص لا يحب أن يظهر عمله للناس؛ لأنه لا يقصد به إلا وجه الله تعالى والدار الآخرة، ولكن إذا كان في إظهار مناقبه مصلحة راجحة تنفع الدعوة والمدعوين، أو تبيِّن للناس مدى صحة ما يقول حتى يعملوا به، أو تدفع عنه تهمة رمِيَ بها، فلا بأس بذلك، وفي هذا الحديث من فعل عثمان وقوله ما يدل على ذلك؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: ". . . وفيها جواز تحدث الرجل بمناقبه عند الاحتياج إلى ذلك لدفع مضرة، أو تحصيل منفعة، وإنما يكره ذلك عند المفاخرة والمكاثرة والعجب " (¬3). خامسا: من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان: يظهر في هذا الحديث ما حصل لعثمان رضي الله عنه من الابتلاء، والامتحان، فقابل ذلك بالثبات والصبر، فهو ثالث الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ومع ذلك أصابه هذا الابتلاء؛ قال سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] (¬4). ¬
فينبغي للداعية أن يسأل الله العفو والعافية، وإذا حصل ابتلاء صبر واحتسب الأجر على الله تعالى، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة (¬1). سادسا: من أساليب الدعوة: الترغيب: لا ريب أن أسلوب الترغيب له أثر في حياة المدعو؛ ولهذا اعتنى به القرآن الكريم، واستخدمه النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، وفي هذا الحديث يظهر هذا الأسلوب في قوله صلى الله عليه وسلم: " من حفر رومة فله الجنة "، وقوله صلى الله عليه وسلم: " من جهز جيش العسرة فله الجنة "، وقد جاء في سبب ورود هذا الحديث أن «المسلمين عندما قدموا إلى المدينة وجدوا أن الماء العذب قليل، وليس بالمدينة ما يستعذب غير بئر رومة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟» (¬2). وقال في حديث الباب: " من حفر رومة فله الجنة " قال ابن حجر في الجمع بين لفظ الحفر والشراء: ". . . وإن كانت أولا عينا فلا مانع أن يحفر فيها عثمان بئرا، ولعل العين كانت تجري إلى بئر فوَسَّعَها وطواها فنسب حفرها إليه " (¬3). فعلى الداعية أن يستخدم أسلوب الترغيب في دعوته للناس؛ فإن ذلك من أنفع الأساليب في جذب المدعوين إلى الخير (¬4). سابعا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: يظهر في هذا الحديث أن القدوة وسيلة ناجحة في الدعوة إلى الله تعالى، وذلك أن عثمان رضي الله عنه اشترى بئر رومة وحفرها، وأنفق النفقة العظيمة في غزوة تبوك وكل ذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم، فكان رضي الله عنه قدوة حسنة لغيره ¬
من الصحابة؛ ولهذا أثنى عليه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مرارا بقوله: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» وكان ذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم، وفي ذلك تشجيع لهم على النفقة. فينبغي للداعية أن يكون قدوة حسنة لغيره؛ فإن ذلك من أنجح الوسائل في الدعوة إلى الله سبحانه (¬1). ¬
باب قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم
35 - بَاب قوْلِ اللهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ - فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ - ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 106 - 108] (¬1). الأَوليانِ: وَاحِدهما أَولَى، ومنه: أَولَى به. عثِرَ: ظهِرَ. أَعْثَرْنَا: أَظْهَرْنَا. [حديث سبب نزول قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت] 17 - [2780]- وَقَالَ لي عَليّ بن عَبْدِ اللهِ: حَدَّثَنَا يحيى بن آَدَمَ: حَدَّثَنا ابن أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ محَمَّدِ بنِ أَبِي القَاسِمِ، عَن عبدِ المَلِكِ بنِ سَعِيدِ بْنِ جبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، (¬2) قَالَ: «خَرَجَ رَجل مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدّاءٍ، فَمَات السَّهْمِيّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مسْلِم، فلَمَا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدوا جَاما مِنْ فِضَّةٍ مخَوَّصا مِنْ ذَهَبٍ. فَأَحْلَفَهمَا رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ وجِدَ الجَام بِمَكَّةَ فَقَالَوا: ابْتَعْنَاه مِنْ تميمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجلانِ مِنْ أَوْليَائِهِ فَحَلَفَا: لشهادَتنَا أَحَقّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، قَالَ وَفِيهم نَزَلَتْ هَذِهِ الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة: 106]» (¬3). * شرح غريب الحديث: * " رجل من بني سهم " قيل: هو بزيل، وقيل: بريل، وقيل: بديل بن أبي مريم، قيل: كان مسلما من المهاجرين (¬4). ¬
* " الجام " هو الكأس (¬1). * " مخَوَّصا " أي منقوش فيه خطوط دقاق طوال كالخوص، وهو ورق النخل، وقيل: " الجام المخوص " إناء من فضة منقوش بذهب، وقيل: عليه صفائح الذهب مثل خوص النخل (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحث على الوصية عند الموت. 2 - حفظ الإسلام لحقوق الإِنسان. 3 - من أساليب الدعوة: القصة. 4 - من أساليب الدعوة: الترهيب. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية بالتفصيل على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على الوصية عند الموت: في هذا الحديث دعوة للأمة وحث لها على الوصية عند الموت، فإذا حضر الإنسان الموت أو مقدماته فينبغي له أن يكتب وصيته- إذا لم يكتبها قبل ذلك- ويشهد عليها اثنين ذوي عدل من المسلمين؛ فإن كان في سفر ولم يجد أحدا من المسلمين، ونزل به الموت أشهد اثنين من غير المسلمين، ودفع إليهما ما معه من مالٍ وتركة لورثته، فإذا وصل الشاهدان إلى الورثة وظهر لهم أنهما قد خانا فإن أولياء الميت يوقفونهما بعد صلاة العصر ويحلِّفونهما أنهما ما خانا ولا كذبا، ولا غيَّرا ولا بدلا، فإن اطلع الورثة على أن الشاهدين كاذبان، وقد خانا من مال الميت شيئا أو غَيَّرا الوصية، فإن شاء أولياء الميت قام منهما اثنان فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة، وأنهما خانا وكذبا، وإنَّا لم نعتدِ، ¬
وبهذا يستحق أولياء الميت ما يدعون (¬1). فينبغي للداعية أن يبين للمدعوين ما يحتاجون إليه مما ينفعهم في الدنيا وعند الموت، ومن ذلك بيان الوصية والحث عليها وتوضيحها للناس. ثانيا: حفظ الإسلام لحقوق الإنسان: في هذا الحديث بيان واضح بأن الإسلام يحفظ حقوق الإِنسان، وهذا يؤكد تأكيدا جازما أن الإسلام هو الذي يصلح لكل زمان ومكان؛ ولهذا اعتنى بحق الإِنسان حتى عند الموت وبعده كما في هذا الحديث (¬2). فعلى الداعية أن يبين للناس عناية الإسلام بحقوق الإنسان، وذلك مما يزيد يقين المسلم ويرغب غيره في الإسلام. ثالثا: من أساليب الدعوة: القصة: القصة من خير ما يتوصل به الداعية لإِبلاغ دعوته إلى أعماق القلوب؛ لأن النفس تميل إليها، وأبلغ القصص ما جاء في القرآن الكريم، والسنة الثابتة، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف: 111] الآية (¬3). وفي هذا الحديث يسوق ابن عباس رضي الله عنهما هذه القصة التي بين فيها للناس ما ينبغي أن يعلمه المسلم عند الوفاة في الحضر أو السفر، فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب في دعوته (¬4). رابعا: من أساليب الدعوة: الترهيب: لا ريب أن أسلوب الترهيب من الأساليب النافعة؛ لأنه يخوف المدعو ويحذره ما يضره، ويظهر في هذا الحديث المشتمل على الآية: أسلوب الترهيب في ¬
التخويف من الإثم ومن الظلم، وأن الله لا يهدي القوم الفاسقين، قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108] (¬1). قال الطبري رحمه الله: " وخافوا الله أيها الناس، وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبة، وأن تذهبوا بها مال من يحرم عليكم ماله، وأن تخونوا من ائتمنكم. . . " (¬2) وبين سبحانه أنه لا يوفق من فسق عن أمر ربه فخالفه وأطاع الشيطان (¬3) فعلى الداعية أن يستخدم هذا الأسلوب في دعوته، والله الموفق والمستعان (¬4) ¬
الفصل الثاني كتاب الجهاد والسير
[الفصل الثاني كتاب الجهاد والسير]
باب فضل الجهاد والسير
1 - باب فضْلِ الجهَادِ والسِّيرِ وَقَوْل اللهِ تَعَالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة: 111] إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112] (¬1). قَالَ ابن عَبَّاسٍ: الحدود: الطَّاعَة. [حديث لا عمل يعدل الجهاد] 18 - [2785] حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن مَنْصورٍ: أَخْبَرَنَا عَفَّان: حَدَّثَنَا هَمَّام: حَدَّثَنَا محَمَّد بن جحادة قَال: أخْبَرَني أَبو حَصِينٍ: أَنَّ ذَكْوانَ حدَّثه: أن أبَا هرَيْرَة رضي الله عنه (¬2) حدَّثَه قالَ: «جَاءَ رَجل إِلَى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: دلَّني عَلَى عَمَلٍ يَعدِل الجِهَادَ. قالَ: " لَا أَجِده ". قَالَ: " هَل تَسْتَطِيع إِذَا خَرَجَ المجَاهِد أَنْ تَدْخلَ مَسجِدَكَ فَتَقومَ وَلَا تَفْترَ، وَتَصومَ ولا تفْطِرَ؟ " قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيع ذَلكَ؟ قال أَبو هرَيْرَةَ: " إنَّ فرَسَ المجاهدِ ليَسْتَنّ في طِوَلِه، فيكتَب له حسَنات» (¬3). * شرح غريب الحديث: *قوله: " يعدل الجهاد ": يساويه ويماثله (¬4). *قوله: " لا أجده ": أي: لا أجد عملا يماثل الجهاد في الفضل (¬5). *قوله: " ليستن ": أي: يمرح بنشاط، ويرفع يديه ويطرحهما معا مقبلا ومدبرا (¬6). ¬
قوله: " في طِوَلِه ": الحبل الذي تشدّ به الدابة ويطوَّل لها، ويمسك طرفه ويرسل الدابة ترعَى في المرعى (¬1). قوله: " يكتب له حسنات ": أي: يكتب له الاستنان حسنات (¬2). *قوله: " لا تفتر ": أي لا تسأم ولا تمل (¬3). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية سؤال المدعو لأهل العلم. 2 - من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد وبيان أهميته في الدعوة إلى الله عز وجل. 3 - من أعظم وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله تعالى. 4 - من أساليب الدعوة: التشبيه. 5 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 6 - أهمية مداومة الداعية على العمل الصالح. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية بالتفصيل على النحو الآتي: أولا: أهمية سؤال المدعو لأهل العلم: إن من أهم الأمور في طلب العلم السؤال عنه، والحرص على طلبه، وقد دل هذا الحديث على حرص الصحابي رضي الله عنه على طلب العلم والسؤال عنه للاستفادة؛ ولهذا قال: " يا رسول الله دلني على عمل يعدل الجهاد؟ " وهذا شأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا يسألونه عن كثير من المعاني، وكان صلى الله عليه وسلم يجيبهم ويوضح لهم، وكانت طائفة تسأل، وأخرى تحفظ وتؤدي وتبلّغ حتى أكمل الله تعالى دينه (¬4) ¬
فعلى المدعو أن يسأل عما أشكل عليه حتى يكون على بصيرة من أمره. ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد وبيان أهميته في الدعوة إلى الله عز وجل: إن الجهاد ذروة سنام الإسلام وقبَّته، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعة في الدنيا (¬1) ويظهر من مفهوم هذا الحديث: حث النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد وذلك ببيان فضله؛ والجهاد الغرض منه والهدف: هو إعلاء كلمة الله تعالى، وإخراج الناس من عبودية المخلوق إلى عبادة الله تعالى، كما قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] (¬2) فينبغي للداعية أن يبيِّن للناس هذه الأهداف، وأن الجهاد شرع؛ لإِعلاء كلمة الله تعالى، ولنصر المظلوم، وحفظ الإسلام، ورد العدوان، وإرهاب أعداء الإسلام، كما قال سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] (¬3). ثالثا: من أعظم وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله تعالى: لا شك أن الجهاد في سبيل الله تعالى أفضل الوسائل في نشر الإسلام وإخماد الشرك؛ لأن الأعمال قسمان: مقاصد: كأركان الإِيمان الستة، وأركان الإِسلام. فهذه أركان وأسس وأصول ووسائل، وأفضل الوسائل إطلاقا الجهاد (¬4) ولهذا قال الإمام ابن دقيق العيد: " القياس يقتضي أن يكون الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل؛ لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره، وإخماد الكفر ودحضه، ففضيلته بحسب فضيلة ذلك، والله أعلم " (¬5). رابعا: من أساليب الدعوة: التشبيه: التشبيه وضرب الأمثال من أساليب الدعوة النافعة؛ لأنه يقرِّب المعاني، ¬
ويوصلها إلى ذهن السامع، ويكشف ما بها من غموض بتصوير الأمر المعنوي بأمر حسي يظهر فيه المشبه به صورة حسية للمشبَّه (¬1) ولهذه الأهمية ضرب الله الأمثال في الكتاب العزيز كثيرا، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم في سنته الأمثال كثيرا (¬2) ويظهر في هذا الحديث استخدام التشبيه في ضرب مثل المجاهد كمثل الصائم القائم، وهو في رواية مسلم أظهر (¬3). فعلى الداعية أن يستخدم أسلوب التشبيه وضرب الأمثال في دعوته؛ لأهميته؛ ولتوضيحه للمعاني وتقريبها إلى ذهن السامع. خامسا: من أساليب الدعوة: الترغيب: إن الترغيب أسلوب مؤثر على السامع؛ ولهذا أكثر النبي صلى الله عليه وسلم من استخدامه في دعوته، ومن ذلك ما يظهر في هذا الحديث من الترغيب في الجهاد، وذكر فضله. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: " وفي هذا الحديث العظيم فضل الجهاد؛ لأن الصلاة والصيام والقيام بآيات الله أفضل الأعمال، وقد جعل المجاهد مثل من لا يفتر عن ذلك في لحظة من اللحظات، ومعلوم أن هذا لا يتأتَّى لأحد. . " (¬4) ولهذا قال هذا السائل للنبي صلى الله عليه وسلم: " ومن يستطيع ذلك؟ ". ولا شك أن الجهاد فضله عظيم، ومنزلته كبيرة، ولهذا عظَّم الله شأنه فقال عز وجل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169 - 171] (¬5) ¬
وقال عز وجل: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74] (¬1) وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111] (¬2) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] (¬3) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 10 - 12] (¬4) وغير ذلك من الآيات الكريمة التي رغب الله فيها المؤمنين في الجهاد، أما الأحاديث فهي كثيرة، وسيأتي معظمها في هذا الفصل إن شاء الله تعالى (¬5) فينبغي للداعية أن يستخدم وسيلة الترغيب في دعوته، حتى يكون موفقا بإذن الله تعالى (¬6). سادسا: أهمية مداومة الداعية على العمل الصالح: دل مفهوم الحديث على أهمية المداومة على العمل الصالح؛ لأن المداومة عليه أحب إلى الله تعالى من الكثير المنقطع؛ لأن بدوام العمل الصالح القليل تدوم الطاعة، والذكر، والمراقبة، والنية، والإِخلاص، والإِقبال على الخالق، والقليل الدائم يثمر؛ لأنه يزيد على الكثير المنقطع أضعافا كثيرة (¬7) ولهذا ¬
قال صلى الله عليه وسلم: «أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل» (¬1). والمجاهد ما بلغ الدرجات العلى إلا بفضل الله تعالى ثم بما كتِبَ له من دوام العمل؛ قال الإمام القرطبي رحمه الله: ". . . كل ما يصدر من المجاهد في حالتي: نومه ويقظته، وسكونه وحركته، هو عمل صالح يكتب له ثوابه دائما، بدوام أفعاله، إذ لا يتأتَّى لغيره فيه؛ لأنه على كل حال في الجهاد، وملابس أحواله، وذلك: أن المجاهد إمَّا أن ينال من العدوِّ، أو يغيظه، أو يروِّعه، أو يكثر سواد المسلمين، أو يصيبه نصب، أو مخمصة. وكل ذلك أعمال كثيرة لها أجور عظيمة " (¬2) كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 - 121] (¬3). وهذا يبين أهمية دوام العمل الصالح، فعلى الداعية أن يداوم على الأعمال الصالحة، وإن قلت؛ فإن في ذلك الخير الكثير. والله المستعان (¬4). ¬
باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله
2 - بَاب: أَفْضَل النَّاسِ مؤمِن يجَاهِد بنَفْسِهِ ومَالِهِ فِي سبِيلِ اللهِ وَقَوْلِه تَعَالىَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 10 - 12] (¬1). [حديث أفضل الناس مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله] 19 - [2786] حَدَّثَنَا أَبو اليَمَانِ: أَخبَرَنَا شعَيْب، عَنِ الزّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاء بن يَزِيدَ اللَّيثِيّ: أَنَّ أَبا سعيدٍ الخدْرِيَّ رضي الله عنه (¬2) حَدَّثه قَالَ: «قِيلَ يَا رَسولَ اللهِ، أَيّ النَّاسِ أَفْضَل؟ فَقَالَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مؤمِن يجَاهِد فِي سَبِيلِ اللهِ بنَفْسِهِ وَمَالِهِ ". قَالوا: ثمَّ مَنْ؟ قَالَ: " مؤْمِن فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللهَ وَيدَع النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» (¬3). وفي رواية: «جَاءَ أَعْرَابِيّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ يَا رَسولَ اللهِ، أَيّ النَّاسِ خَيْر؟ قَالَ: " رَجل جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَرَجل فِي شِعْبٍ منَ الشِّعَابِ يَعْبد رَبَّه وَيَدَع النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» (¬4). * شرح غريب الحديث: * قوله: " في شعب من الشعاب " الشعب: الطريق في الجبل، ومسيل ¬
الماء، وما انفرج بين الجبلين (¬1). * قوله: " ويدع ": يترك (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من أساليب الدعوة: الترغيب في الجهاد بالنفس والمال. 2 - أهمية خلوة الداعية عند ظهور الفتن المضلة. 3 - من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين. 4 - أهمية السؤال عما يحتاج إليه المدعو من أمور الدين. 5 - من أساليب الدعوة: التشبيه. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية بالتفصيل على النحو الآتي: أولا: من أساليب الدعوة: الترغيب في الجهاد بالنفس والمال: في هذا الحديث فضيلة عظيمة للمؤمن المجاهد بنفسه وماله، وأنه أفضل الناس؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ". . . وكأن المراد بالمؤمن من قام بما تعيّن عليه القيام به، ثم حَصَّل هذه الفضيلة، وليس المراد من اقتصر على الجهاد وأهمل الواجبات العينية، وحينئذٍ فيظهر فضل المجاهد؛ لما فيه من بذل نفسه وماله لله تعالى؛ ولما فيه من النفع المتعدي. . . " (¬3). وهذا يدل على فضل الجهاد مع الإِيمان، وأن ثواب ذلك الجنة والكرامة. وقال القاضي عياض رحمه الله على قوله صلى الله عليه وسلم في أفضل الناس: «مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله» هذا عام مخصوص وتقديره: هذا من أفضل الناس، وإلا فالعلماء أفضل، وكذا الصديقون، كما جاءت به الأحاديث " (¬4) وأفضل ¬
من هؤلاء جميعا: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (¬1). فعلى الداعية أن يستخدم أسلوب الترغيب في دعوته؛ فإن ذلك يؤثر في نفس المدعو، ويرغبه في الخير (¬2). ثانيا: أهمية خلوة الداعية عند ظهور الفتن المضلة: دل الحديث على أن أفضل الناس مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، ويليه في الفضيلة مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره؛ لأن الذي يخالط الناس-في الغالب- لا يسلم من ارتكاب الآثام (¬3). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث فضل الانفراد لما فيه من السلامة من الغيبة واللغو ونحو ذلك. . . " (¬4). وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله، يذكر على قوله صلى الله عليه وسلم: «مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره» قال: " هذا عند أهل العلم محمول على وقت الفتن ووقت الحروب، أما مع الأمن فالمؤمن مع المؤمنين أفضل، مع التعاون على البر والتقوى والحذر من الفتن " (¬5). قال الإمام النووي رحمه الله: " وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن، والحروب، أو هو فيمن لا يسلم الناس منه، ولا يصبر عليهم، أو نحو ذلك من الخصوص، وكانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وجماهير الصحابة والتابعين، والعلماء، والزهاد مختلطين فيحصِّلون منافع الاختلاط: كشهود الجمعة، والجماعة، والجنائز، وعيادة المرضى، وحلق الذكر، وغير ذلك. . . " (¬6). ¬
وقال ابن حجر رحمه الله: ". . . فإن وقعت الفتنة ترجحت العزلة؛ لما ينشأ فيها غالبا من الوقوع في المحذور, وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتن فتعم من ليس من أهلها. . . " (¬1). وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " أن المخالطة إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان منهي عنها، وذكر أن العبد لا بد له من انفراد بنفسه: في دعائه، وذكره، وصلاة النافلة، ومحاسبة نفسه، وإصلاح قلبه، ومما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره " (¬2). فينبغي للداعية أن يراعي هذه الضوابط، ويعمل بالأصلح المشروع، ويتذكر ما جاء في الحديث: " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " (¬3) فإذا كان لا بد من العزلة؛ لأجل الفتن المضلة اعتزل الناس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر, يفرّ بدينه من الفتن» (¬4) وإذا كان الأمر ليس كذلك، فمخالطة الناس ودعوتهم إلى الخير خير وأفضل وأعظم من العزلة (¬5) والله المستعان. ثالثا: من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين: إن في هذا الحديث ما يؤكد على مراعاة أحوال السائلين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن: أفضل الأعمال، وأفضل الناس, فكانت إجابته على حسب أحوال السائلين, ففي حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا قال في أفضل الناس: «مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله "، قالوا: ثم من؟ قال: " مؤمن في شعب من ¬
الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره»، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟ فقال: " إيمان بالله ورسوله "، قيل: ثم ماذا؟ قال: " الجهاد في سبيل الله "، قيل: ثم ماذا؟ قال: " حج مبرور» (¬1). وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: " الصلاة على وقتها " قال: ثم أيّ؟ قال: " بر الوالدين "، قال: ثم أيّ؟ قال: " الجهاد في سبيل الله» (¬2). وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه، قال: «قالوا: يا رسول الله! أي الإسلام أفضل؟ قال: " من سلم المسلمون من لسانه ويده» (¬3). وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: «أي الإسلام خير؟ قال: " تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» (¬4) وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه قال «قلت: يا رسول الله! أيّ الأعمال أفضل؟ قال: " الإِيمان بالله والجهاد في سبيله " قال قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: " أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا». . . " (¬5). وفي حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (¬6) وغير ذلك من الأحاديث. وهذا يؤكد على الداعية أن يراعي أحوال المدعوين ويخاطبهم على قدر علمهم وحاجتهم؛ لأن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص، والأحوال، ¬
والأعراف (¬1) والأوقات (¬2) وقد ذكر الإمام النووي، والحافظ ابن رجب، والحافظ ابن حجر، وغيرهم من العلماء رحمهم الله تعالى: أن اختلاف الأجوبة في هذه الأحاديث باختلاف الأحوال، واحتياج المخاطبين، وذكر ما لم يعلمه السائل والسامعون، وترك ما علموه (¬3). وقال الحافظ عمر بن علي المعروف بابن الملقن رحمه الله: " والذي قيل في الجمع بينها: إنها أجوبة مخصوصة لسائل مخصوص بالنسبة إلى حاله، أو وقته، أو بالنسبة إلى عموم ذلك الحال والوقت، أو بالنسبة إلى المخاطبين بذلك، أو من هو في مثل حالهم، ولو خوطب بذلك الشجاع لقيل له: الجهاد، أو الغني لقيل له: الصدقة، أو الجبان الفقير لقيل له: البر أو الذكر، أو الفطن لقيل له: العلم، أو الحديد الخلق لقيل له: لا تغضب، وهكذا في جميع أحوال الناس، وقد يكون الأفضل في حق قوم أو شخص مخالفا للأفضل في حق آخرين، بحسب المصلحة اللائقة: بالوقت، أو الحال، أو الشخص " (¬4) وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يذكر: أن الأجوبة تختلف على حسب السائلين وأحوالهم (¬5). فعلى الداعية أن يسلك هذا المنهج في مراعاة أحوال المدعوين، فيخاطب كل إنسان بما يحتاجه. رابعا: أهمية السؤال عما يحتاج إليه المدعو من أمور الدين: دل هذا الحديث على أهمية السؤال عما يحتاج إليه الإنسان من أمور الدين؛ لأن حسن السؤال نصف العلم؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: " نعم النساء نساء ¬
الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين " (¬1) وقال مجاهد: " لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر " (¬2) وقالت أمّ سلَيْمٍ رضي الله عنها: «يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا رأت الماء» (¬3). فعلى المدعو أن يسأل عن العلم، وأن لا يستحي من السؤال عما ينفعه في الدنيا والآخرة (¬4). خامسا: من أساليب الدعوة: التشبيه: من الأساليب التي تقرّب المعاني للمدعو وتوضحها في صورة محسوسة، أسلوب التشبيه، وقد ظهر في مفهوم هذا الحديث التشبيه؛ قال العلامة القسطلاني على قوله صلى الله عليه وسلم: ". . . «في شعب من الشعاب». . . ": " وليس بقيد بل على سبيل المثال، والغالب على الشعاب الخلو عن الناس؛ لذا مثَّل بهذا للعزلة والانفراد، فكل مكان يبعد عن الناس فهو داخل في هذا المعنى: كالمساجد والبيوت " (¬5). وقال النووي رحمه الله: " وذكر الشعب مثالا؛ لأنه خالٍ عن الناس غالبا " (¬6). فعلى الداعية أن يعتني بالأساليب النافعة في الدعوة إلى الله تعالى، ومنها أسلوب التشبيه (¬7). ¬
باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء
3 - بَاب الدّعَاءِ بِالجِهَادِ والشَّهَادةِ للرِّجَالِ والنِّساءِ وَقَالَ عمَر: اللَّهمَّ ارْزقْنِي شَهادَة فِي بَلدِ رَسولِكَ. [حديث ناس من أمتي يركبون ثبج البحر ملوكا على الأسرة] 20 - 21 - [2788، 2789]- حَدَّثَنَا عَبْد اللهِ بْن يوسفَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنهما: (¬1) أنه سَمعَه يقول: «كَانَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخل عَلَى أمِّ حَرَامٍ بنتِ مِلْحانَ (¬2). فَتطْعِمه، وَكَانَتْ أمّ حَرَامٍ تَحْتَ عبَادَةَ بْنِ الصامِتِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فأَطْعَمَتْه وَجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَه، فَنَامَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ثمَّ اسْتَيْقَظَ وَهوَ يَضْحَك. قَالَتْ: فَقلْت: وَمَا يضْحِككَ يَا رَسولَ اللهِ؟ قَالَ: " نَاس مِن أمَّتِي عرِضوا علي غزاة فِي سَبيل اللهِ، يركَبونَ ثَبَجَ هَذَا البَحْرِ ملوكا عَلَى الأَسِرَّةِ- أَوْ مِثلَ الملوكِ عَلَى الأَسِرَّة " شَكَّ إِسْحَاق - قَالَتْ: فَقلْت: يَا رَسولَ اللهِ، ادْع اللهَ أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهمْ، فدَعَاَ لَهَا رَسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ وَضَعَ رَأْسَه، ثم اسْتَيْقَظَ وَهوَ يَضحَك. فقلْت: وَمَا يضْحِككَ يَا رَسولَ اللهِ؟ قَالَ: " نَاس مِنْ أمَّتِي عرِضوا عَليَّ غزاة فِي سَبيل الله " - كما قال في الأَوَّل- قَالَتْ: فَقلْت: يَا رَسولَ اللهِ، ادْع اللهَ أَنْ يَجعَلنِي مِنْهم، قَالَ: " أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِين ". فرَكِبَتِ البَحْرَ فِي زَمِن معَاوِيَةَ بْن أَبِي سفْيَانَ، فصرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِيْنَ خَرَجَتْ مِنَ البَحرِ فَهَلَكَتْ» (¬3). ¬
وفي رواية: «يَرْكَبونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْر الأَخْضَر كَالْملوكِ عَلَى الأَسرَّةِ» (¬1). وفي رواية: «فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيا أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمسْلِمونَ الْبَحْرَ مَعَ معَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ فنَزَلوا الشَّامَ فَقرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّة لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ» (¬2). وفي رواية: «اللَّهمَّ اجْعَلْهَا مِنْهمْ» (¬3). وفي رواية: «كَانَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَهَبَ إِلَى قبَاءٍ يَدْخل عَلَى أمِّ حَرَامٍ». . . " (¬4). وفي رواية: «أَوَّل جَيْشٍ مِنْ أمَّتِي يَغْزونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبوا " قَالَتْ أمّ حَرَامٍ فَقلْت: يَا رَسولَ اللهِ، أنا فِيهِمْ؟ قال: " أنْتِ فِيهِمْ " ثمَّ قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: " أَوَّل جَيْشٍ مِنْ أمَّتِي يَغْزونَ مَدِينةَ قَيْصَرَ مَغْفور لَهمْ " فَقلْت: أنا فِيهِمْ يَا رَسولَ اللهِ؟ قَالَ: " لا» (¬5). * شرح غريب الحديثين: * قوله: " تَفْلِي رأْسه ": تفتش القمل من رأسه، وتقتله؛ لأنه قيل إنها كانت خالته من الرضاعة، والخلاصة أنها محرم له (¬6). * قوله: " ثَبَج هذا البحر ": أي وسطه، والثبج ظهر الشيء: أي ظهر البحر ومتنه (¬7). ¬
* قوله: " ملوكا على الأسرَّة ": صفة لهم في الدنيا، والمعنى يركبون مراكب الملوك لسعة حالهم، واستقامة أمرهم، وكثرة عددهم (¬1). * قوله: " صرعت عن دابتها ": أي قربت إليها دابتها لتركبها فشرعت لتركب فسقطت فاندقت عنقها فماتت (¬2). * الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من أدب المدعو: إكرام العلماء والدعاة والسرور بذلك. 2 - من صفات الداعية: حسن الخلق وسعة الصدر. 3 - من صفات الداعية: السرور بانتصار الإِسلام. 4 - من أعلام النبوة: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالمغيبات. 5 - من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء. 6 - من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله تعالى. 7 - من أساليب الدعوة: الترغيب في الجهاد وبيان فضيلة المجاهد. 8 - استعانة الداعية بالنوم في القائلة على قيام الليل. 9 - من وسائل الدعوة: ركوب البحر عند الحاجة. 10 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في الحديث. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من أدب المدعو: إكرام العلماء والدعاة والسرور بذلك: يظهر في هذا الحديث أن إكرام العلماء واحترامهم من آداب المدعو الصالح؛ ولهذا أكرمت أم حرام رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم: بالطعام، والخدم، وفلت شعر رأسه. وقد كانت من محارمه من جهة الرضاعة (¬3). ¬
ولا شك أن إكرام أم حرام للنبي صلى الله عليه وسلم قد سرَّ زوجها؛ قال الإمام الأبي رحمه الله: " ومعلوم سرور زوج أم حرام بذلك، وكانوا يحبون أن يدخل بيوتهم ويأكل طعامهم " (¬1) وهذا مما يدل على الأدب مع العالم والداعية؛ ولهذا جاء في الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط» (¬2). وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من أمتي من لم يجِلّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا» (¬3). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا»، وفي رواية: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا» (¬4). فينبغي للمدعو أن يجِلّ ويكرم العلماء، والدعاة، وينزلهم منازلهم. ثانيا: من صفات الداعية: حسن الخلق وسعة الصدر: ظهر في هذا الحديث حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم مع أمِّ حرام، وسعة صدره، وتواضعه صلى الله عليه وسلم، دل على ذلك تبسمه وضحكه، وملاطفته لها، فينبغي للداعية أن يكون حسن الخلق، واسع الصدر متواضعا، اقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم، حتى يكون بذلك من خيار الناس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن من خياركم أحاسنكم أخْلَاقا» (¬5) وهذا يبيِّن للداعية أهمية التزام الخلق الحسن، والعمل به ظاهرا وباطنا (¬6). ¬
ثالثا: من صفات الداعية: السرور بانتصار الإسلام: دل هذا الحديث على أن الداعية الصادق هو الذي يفرح بظهور الإسلام وانتصار أهله؛ ولهذا بين الإمام النووي، والكرماني، وابن حجر رحمهم الله أن ضحكه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كان فرحا وسرورا؛ بكون أمته تبقى بعده متظاهرة بأمور الإسلام قائمة بالجهاد حتى في البحر، ممتثلة لأمره صلى الله عليه وسلم بجهاد العدو (¬1). والفرح والسرور بفضل الله تعالى وبتوفيقه مرغوب فيه ومحبوب إلى الله تعالى؛ ولهذا قال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] (¬2). رابعا: من أعلام النبوة: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالمغيبات: إن من الدلائل الواضحات والبينات القاطعات، والحجج الدامغات التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما أخبر به من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وأوحى بها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة جدا (¬3) ومنها ما لم يقع فأخبر صلى الله عليه وسلم بها ووقعت كما أخبر، فدل ذلك على أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ما جاء به من عند الله حق. قال الله سبحانه وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا - إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26 - 27] (¬4) {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179] (¬5). وقد دل هذا الحديث على بعض هذه الأمور التي تدل على صدقه صلى الله عليه وسلم، وصحة نبوته، قال الإمام النووي وغيره من أهل العلم رحمهم الله: " وفيه معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم، منها: إخباره ببقاء أمته بعده، وأنه تكون لهم شوكة وقوة وعدد، وأنهم يغزون، وأنهم يركبون البحر، وأن أمَّ حرام تعيش إلى ذلك ¬
الزمان، وأنها تكون معهم، وقد وجِدَ بحمد الله تعالى كل ذلك (¬1). خامسا: من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء: إن من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله تعالى تأليف المدعو بالدعاء له، وهذا أسلوب نافع في الدعوة؛ ولهذا استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته كثيرا، وقد دل هذا الحديث على هذا الأسلوب في قوله صلى الله عليه وسلم لأمِّ حرام رضي الله عنها: «اللهم اجعلها منهم» وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم اهدِ دوسا وائت بهم، اللهم اهدِ دوسا وائت بهم» (¬2) وقد نص البخاري رحمه الله على أن الدعاء من التأليف للمدعو فقال: " باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم "، وقال ابن حجر رحمه الله عن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين: ". . . كان تارة يدعو عليهم وتارة يدعو لهم، فالحالة الأولى حيث تشتد شوكتهم ويكثر أذاهم، والحالة الثانية حيث تؤمن غائلتهم ويرجى تألفهم. . . " (¬3). أما المدعو من المسلمين فيتألف بالدعاء مطلقا؛ فإن ذلك من الأساليب النافعة (¬4) فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب في دعوته للناس، والله المستعان. سادسا: من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله تعالى: من صفات الداعية الصادق مع الله تعالى الرغبة فيما عند الله تعالى؛ ولهذه الرغبة سألت أم حرام النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها أن تكون مع المجاهدين رغبة في فضل الجهاد وطلبا للشهادة في سبيل الله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم إجابة لطلبها: «اللهم اجعلها منهم»، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح ترجمة الحديث: ". . . وجاز تمني الشهادة؛ لما يدل عليه من صدق من وقعت له من إعلاء كلمة الله حتى بذل نفسه في تحصيل ذلك " (¬5) ولهذه الرغبة قال عمر رضي الله عنه: ¬
" اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم " (¬1) وقد أجاب الله دعاء من رغب فيما عنده سبحانه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه» (¬2). فعلى الداعية أن يتصف بالرغبة فيما عند الله تعالى، وهذا من أعظم أسباب توفيقه وإعانته وقبول دعوته. والله المستعان وعليه التكلان (¬3). سابعا: من أساليب الدعوة: الترغيب في الجهاد وبيان فضيلة المجاهد: من أساليب الدعوة: الترغيب في أعمال الطاعات ومن أعظمها الجهاد في سبيل الله تعالى؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: ". . . وفيه من الفوائد: الترغيب في الجهاد والحض عليه، وبيان فضيلة المجاهد " (¬4). " ومن فضل الله تعالى على المجاهد أن موته في الغزو يعَدّ شهادة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ". . . «من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد» (¬5) وهذا موافق لمعنى قوله تعالى:. . {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] (¬6) وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ - لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج: 58 - 59] (¬7) وقد دل الحديث بمفهومه والآية بمنطوقها على ما يحصل عليه المجاهد الغازي في سبيل الله تعالى من الثواب العظيم، وأعظم منه من قتل في سبيل الله؛ فإن له ضيافة عند الله تعالى. ففي الحديث: «للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ¬
ويأمن الفزع الأكبر، ويحلَّى حلية الإِيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه» (¬1). فعلى الداعية أن يستخدم هذا الأسلوب في دعوته إلى الله تعالى (¬2). ثامنا: استعانة الداعية بالنوم في القائلة على قيام الليل: دل الحديث على أن الداعية ينبغي له أن يستعين بنوم القائلة على قيام الليل، قال الحافظ ابن حجر في فوائد هذا الحديث: " وفيه مشروعية القائلة لما فيه من الإعانة على قيام الليل " (¬3). وقال الحافظ ابن العربي: " ونوم القائلة أصل في معونة الدين لمن يقوم الليل ويحيي بيته بالطاعة " (¬4). فعلى الداعية أن يستعين بنوم القائلة رغبة في أن يتقوى على قيام الليل، وعلى أمور الدعوة في الأوقات الأخرى. تاسعا: من وسائل الدعوة: ركوب البحر عند الحاجة: لا ريب أنه ينبغي للداعية أن يستخدم كل وسيلة نافعة مشروعة- أو لا محذور فيها ولا مخالفة- في دعوته إلى الله تعالى، ومن هذه الوسائل ركوب البحر عند الحاجة؛ لأجل الدعوة إلى الله تعالى؛ ولهذا ذكر جمهور العلماء رحمهم الله في فوائد هذا الحديث: " جواز ركوب البحر " (¬5) وهذا له أصل في كتاب الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] الآية, (¬6) وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 97] (¬7). ¬
فعلى الداعية أن يعلم أنه لا حرج في ركوب البحر للدعوة إلى الله تعالى، وهذا من الوسائل النافعة عند الحاجة لذلك. والله المستعان. عاشرا: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في الحديث: لا شك أن من الصفات المهمة التي ينبغي أن يلتزمها الداعية، الحرص على صحة ما يقول وينقل للناس، حتى لا يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم؛ وللحرص على هذه الصفة قال إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة في روايته لهذا الحديث: «يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرَّة- أو مثل الملوك على الأسرَّة» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: " وهذا الشك من إسحاق، يشعر بأنه كان يحافظ على تأدية الحديث بلفظه ولا يتوسع في تأديته بالمعنى " (¬1) وهذا يدل على حرص السلف على تَحَرِّيهِم في النقل، وصدقهم؛ لأنه لما أشكل على إسحاق لفظ الحديث أبدى الإشكال ولم يأخذ بقوة الظن فيخبر به (¬2). وهكذا ينبغي للدعاة إلى الله تعالى الحرص على ضبط الرواية والدقة في نقل الأخبار، والأقوال، وخاصة إذا كان النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يتيقن ذلك قال في نهاية الحديث: أو كما قال صلى الله عليه وسلم، أو الحديث بمعناه، وكذلك الأحاديث التي يشك في صحتها يقول: ذكِرَ، أَوْ روِيَ، أو جاء، حتى لا يقع في قوله صلى الله عليه وسلم: (¬3) «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع» (¬4). ¬
باب درجات المجاهدين في سبيل الله
4 - باب درجات المجاهدين في سبِيلِ اللهِ يقَال: هَذِهِ سَبِيلِي، وهَذَا سَبِيلِي، قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ: {غُزًّى} [آل عمران: 156] (¬1) وَاحِدهَا غازٍ: {هُمْ دَرَجَاتٌ} [آل عمران: 163] (¬2) لَهمْ دَرَجَات. [حديث من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة] 22 - [2790] حدَّثَنَا يَحْيى بْن صَالِحٍ: حَدَّثَنا فلَيْح، عن هِلالِ بْنِ عليّ، عنْ عَطَاءِ بْنِ يَسارٍ، عَنْ أَبِي هرَيْرَةَ (¬3) رضي الله عنه قَالَ: قَال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ آمَنَ باللهِ وَبِرَسولهِ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقّا عَلَى اللهِ أَنْ يدْخِلَه الجَنَّةَ، جَاهَدَ فِي سَبيلِ اللهِ أوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي ولِدَ فِيهَا ". فَقَالوا: يَا رَسولَ اللهِ، أفَلا نبَشِّر النَّاسَ؟ قَالَ: " إِنَّ فِي الجَنَّةِ مائةَ دَرَجةٍ أَعدَّهَا الله لِلمجَاهِدينَ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَينِ كَمَا بينَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتم اللهَ فاسْأَلوه الفِرْدَوْسَ؛ فَإِنَّه أَوْسَط الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ " أراه قَالَ: " وَفَوْقَه عَرْش الرَّحْمنِ ومنْه تَفَجَّر أَنْهَار الجَنَّةِ». قَالَ محَمَّد بْن فلَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ: «وَفَوقَه عَرْش الرَّحْمَنِ» (¬4). وِفي رواية: ". . . «هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ». . " وفيها: «أَفَلاَ ننَبِّئ النَّاسَ بِذَلِكَ» (¬5). * شرح غريب الحديث: * " الفردوس ": وهو البستان الذي يجمع كل شيء من ثمار البساتين، وقيل: هو الذي فيه العنب والأشجار، والجمع فراديس؛ ومنه: جنة الفردوس (¬6). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحث على أصول الإِيمان. 2 - من موضوعات الدعوة: الحث على العمل بأصول الإسلام. 3 - من أساليب الدعوة: تطييب قلوب المدعوين. 4 - من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد في سبيل الله عز وجل. 5 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 6 - من صفات الداعية: استصحاب النية الصالحة. 7 - من موضوعات الدعوة: الحث على الدعاء. 8 - من صفات الداعية: جهاد النفس. 9 - من أساليب الدعوة: الأسلوب الحكيم. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على أصول الإيمان: إن الحديث عن أصول الإيمان والحث عليها والتزامها من أهم الأمور التي ينبغي للداعية أن يعتني بها عناية خاصة؛ لأن بالتزامها والعمل بمقتضاها تصلح أحوال الناس، وترسخ العقيدة الصحيحة في نفوسهم. ويؤخذ من مفهوم هذا الحديث الحث على هذه الأصول، وذلك بحث النبي صلى الله عليه وسلم على الإِيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «من آمن بالله وبرسوله». . " ثم بين فضل ذلك ورغب فيه. فينبغي للداعية أن يبين للناس أصول الإيمان، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره من الله سبحانه وتعالى. قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136] (¬1) ¬
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] (¬1). ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحث على العمل بأصول الإسلام: لا ريب أن تعليم الناس أصول الإسلام من أهم المهمات التي ينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يعتني بها، ويبيِّنها للناس حتى يعملوا بها، وقد تضمن هذا الحديث الحث على ذلك، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «من آمن بالله وبرسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان». . . " ثم بين فضل من عمل ذلك ورغب فيه وحث عليه، وهذا يبيِّن للداعية أهمية الدعوة إلى أركان الإسلام وبيانها للناس من: شهادة الحق " لا إِله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومعناها ومقتضاها، وشروطها، وأركانها، ونواقضها، ومن إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إِله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت» (¬2). ثالثا: من أساليب الدعوة: تطييب قلوب المدعوين: إن من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل تطييب قلوب المدعوِّين المستجيبين وتأنيس نفوسهم إذا لم يستطيعوا القيام بالدعوة والجهاد؛ ولهذا قال ابن حجر رحمه الله في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «أو جلس في أرضه»: " فيه تأنيس لمن حرِمَ الجهاد، وأنه ليس محروما من الأجر، بل له من الإيمان والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة، وإن قصر عن درجات المجاهدين " (¬3) وهذا يحث الداعية على أن يتصف بهذه الصفة، ويطيِّب نفوس المدعوِّين بما يشرح صدورهم، ¬
ويغني قلوبهم عما فاتهم بما شرع الله لهم من أعمال الخير: من القيام بالواجبات، واجتناب المحرمات، والنيَّة الصادقة الصالحة (¬1) قال صلى الله عليه وسلم: «من سأل الله الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه» (¬2). رابعا: من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد في سبيل الله عز وجل: لا شك أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وقبّته، ومنازل أهله أعلى المنازل في جنات النعيم، وقد ظهر من مفهوم هذا الحديث حث النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد، وذلك ببيان فضله ومنازل أهله، فينبغي للداعية أن يبين للناس منزلة الجهاد ويحثهم عليه، وعلى الإعداد له، والاستعداد (¬3). خامسا: من أساليب الدعوة: الترغيب: إن أسلوب الترغيب له شأن عظيم في الحث على العمل والتشويق إليه؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفي الحديث فضيلة ظاهرة للمجاهدين، وفيه عظم الجنة وعظم الفردوس منها. . " (¬4). ومما يظهر فيه الترغيب من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن ما لِمَنْ قام بهذه الأعمال: من الإيمان، والصلاة، والصيام بقوله: «كان حقا على الله أن يدخله الجنة» وهذا الحق بطريق الفضل والكرم منه تعالى وأن ذلك ثابت بوعده الصادق، ثم رغب صلى الله عليه وسلم في الجهاد في سبيل الله عز وجل وبين ما أعده الله للمجاهدين من الدرجات العلا، وأن أعلى الجنة وأوسطها (¬5) وأفضلها الفردوس الذي منه تفجّر أصول أنهار الجنة، من: الماء، واللبن، والخمر، والعسل، وأن سقف الفردوس عرش الرحمن سبحانه وتعالى (¬6). ¬
فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب مع المدعوين، لما له من الأهمية البالغة في الحث على العمل والمواظبة عليه. سادسا: من صفات الداعية: استصحاب النية الصالحة: النية الصادقة الصالحة من أعظم صفات الداعية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه»، فدل ذلك على أن المهاجر في سبيل الله يحصل على فضل المجاهد في سبيل الله عز وجل بالنية الصالحة الصادقة، وأن من جلس في أرضه ولم يهاجر ولم يجاهد، ولكن عنده أعمال صالحة، ونية صادقة يتمنَّى الجهاد بها، فله فضل الجهاد. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه إشارة إلى أن درجة المجاهدين قد ينالها غير المجاهد، إما بالنية الصالحة، أو بما يوازيه من الأعمال الصالحة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر الجميع بالدعاء بالفردوس بعد أن أعلمهم أنه أعِدَّ للمجاهدين " (¬1). فينبغي للداعية أن يتصف بالنية الصالحة الصادقة؛ فإنه يحصل بها على الثواب العظيم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه» (¬2) وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ تكون له صلاة بليل فيغلبه عليها نوم، إلا كتِبَ له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة» (¬3) وقد عظَّم الله أمر النية الصالحة فقال عز وجل: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] (¬4) وهذا يدل على أهمية النية الصالحة وأن الدعاة إلى الله بحاجة إلى إصلاح النية، فإذا صلحت أعطيَ العبد الثواب ¬
العظيم والأجر الكبير، ولو لم يعمل وإنما نوى نية صادقة مع الله سبحانه وتعالى. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل» (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج عامدا إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا، أعطاه الله عز وجل مثل أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجرهم شيئا» (¬2) والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (¬3) وهذا من فضل الله على عباده أن يكتب لهم ما نووا من الخير وإن لم يعملوه، وأنهم يثابون على نياتهم الصادقة إذا حال بينهم وبين العمل نوم، أو نسيان، أو مرض (¬4). فينبغي للداعية أن يتصف بالإخلاص والنية الصالحة، وبهذا يحصل على الثواب المضاعف والأجر الكبير، وبالنية الصالحة يبارك له في الأعمال المباحة، ويثاب عليها؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة» (¬5) وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فِي امرأتك» (¬6). سابعا: من موضوعات الدعوة: الحث على الدعاء: إن هذا الحديث دل على أن الحث على الدعاء والحض عليه من موضوعات ¬
الدعوة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ". . «فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة». . "، وهذا يدل على أهمية الدعاء، وأنه يحصل به أعظم المطالب، ولهذا قال الله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] (¬1) وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] (¬2) وقال صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا» (¬3). فينبغي للداعية أن يحث الناس على الدعاء، ويبين لهم شروطه، وموانعه، وآدابه، وفضله، وأوقات إجابته، ويرغبهم في ذلك، ويبين لهم أن أعظم ما يسأله العبد ربَّه: الفردوس الأعلى؛ لأن ذلك أعظم المطالب (¬4). ثامنا: من صفات الداعية: جهاد النفس: دل هذا الحديث على أن جهاد النفس من الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ قال الكرماني رحمه الله: " وفيه الحث على ما يحصل به أقصى درجات الجنان من المجاهدة مع النفس " (¬5) قال الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (¬6) وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] (¬7). فينبغي للداعية أن يجاهد نفسه على طلب العلم، والعمل بما علم، والدعوة ¬
إلى العلم والعمل، وتعليم من لا يعلم، ويجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كله للِّه، فإذا عَلِمَ الداعية، وعَمِلَ، وعَلّمَ دعيَ عظيما في ملكوت السماوات والأرض (¬1). تاسعا: من أساليب الدعوة: الأسلوب الحكيم: من أساليب الدعوة التي ينبغي للداعية أن يسلكها في دعوته: الأسلوب الحكيم؛ ولهذا استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وفي غيره؛ وقد ذكر الطيبي والحافظ ابن حجر رحمهما الله: على قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن في الجنة مائة درجة» أن هذا الجواب من الأسلوب الحكيم: أي بشرهم بدخول الجنة بما ذكر من الأعمال " (¬2). فينبغي للداعية أن يستخدم الأساليب الحكيمة في دعوته إلى الله تعالى. والله المستعان. ¬
باب الغدوة والروحة في سبيل الله وقاب قوس أحدكم في الجنة
5 - بَاب الغَدوةِ والرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وقَاب قوْسِ أَحَدِكمْ في الجَنَّةِ [حديث لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها] 23 - [2792] حَدَّثَنَا معلَّى بن أَسَدٍ: حَدَّثَنا وهَيْب: حدَّثَنا حمَيد عَن أنسِ بنِ مالكٍ (¬1) رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لغَدْوَة فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَة خَير مِنَ الدّنْيا وَمَا فِيهَا» (¬2). وفِي رواية: «وَلَقَاب قَوْسِ أَحَدِكمْ مِنَ الجَنَّةِ أَو مَوْضِع قِيدٍ - يَعْنِي: سَوْطَه- خيْر مِنَ الدّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَة مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعتْ إِلى أَهْلِ الأَرْضِ لأضَاءَتْ مَا بينَهمَا وَلَمَلأَتْه رِيحا، وَلَنَصِيفهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْر مِنَ الدّنْيَا وَمَا فيْهَا» (¬3). وفي رواية: «وَلَقَاب قَوْسِ أَحَدِكمْ أَوْ مَوْضِع قَدَمٍ مِنَ الجَنَّةِ خَير مِنَ الدّنْيَا وَمَا فيهَا» وفيها: «وَلَنَصِيفها- يَعْنِي الْخِمَارَ-» (¬4). [حديث لقاب قوس في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب] 24 - [2793] حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن المنْذِرِ: حَدَّثَنا محَمَّد بْن فلَيْحٍ قَالَ: حدَّثنِي أَبِي عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَليٍّ، عَنْ عَبدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هرَيْرَةَ رضي الله عنه، (¬5) عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَقَاب قَوْسٍ فِي الجَنَّةِ خَيْر مِمَّا تَطْلع عَلَيْهِ الشَمْس وَتَغْرب»، وَقَالَ: «لَغَدْوَة أَوْ رَوْحَة فِي سَبِيل اللهِ خَيْر مِمَّا تَطْلع عَلَيْهِ الشَّمْس وَتَغْرب» (¬6). ¬
حديث الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها
وفي رواية: «وَلقاب قوْسِ أحدِكمْ فِي الجَنّةِ خَيْر مِمَّا طَلعَتْ عَليْهِ الشّمْس أوْ تغرب» (¬1). [حديث الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها] 25 - [2794] حَدَّثَنَا قَبيْصَة: حَدَّثَنَا سفيان، عَنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بن سعد (¬2) - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «الرَّوْحَة وَالغَدْوَة فِي سَبيل اللهِ أَفْضَل مِنَ الدنيا وَمَا فِيْهَا» (¬3). وفي رواية: «رباط يوم في سبيل الله خَيْر مِنَ الدّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِع سَوطِ أحدكم من الجنة خَيْر مِنَ الدّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، والرَّوْحَة يَروحهَا الْعَبْد فِي سَبيل الله أو الغدوة خَيْر مِنَ الدّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» (¬4). * شرح غريب الأحاديث: * " لغدوة ": المرة من الغدو: وهو سير أول النهار، نقيض الرواح، يقال: غدا يغدو غدوا، والغدوة بالضم ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس (¬5). * " روحة ": الروحة: الفعلة الواحدة: والرواح: رواح العشيّ: وهو من زوال الشمس إلى الليل (¬6). ¬
* " لقَاب قَوْسِ ": القاب القَدْر: أي موضِع قدْره، وقيل: القاب من القوس ما بين المقبض والسِّيَةِ، ولكل قوس قابان، وسية القوس: طرفها، وقيل: قاب قوس: أي قدر ذراع، ويقال: بيني وبينه قاب رمحٍ، وقَاد رمْحٍ، وقيد رمْحٍ: أي قَدر رمْحٍ في المساحة (¬1). * " رباط يوم في سبيل الله " الرباط في الأصل: الإِقامة على جهاد العدو بالحرب وارتباط الخيل وإعدادها، والرباط: ملازمة ثغر العدوِّ، يقال: رابطت إذا لازمت الثَّغرَ والعدوَّ، ويقال: لما يربط به الشيء ويلازم حِفظه: رِبَاط. وقيل: المرابطة أن يربط هؤلاء خيلهم، وهؤلاء خيلهم في الثغر كلّ معِدّ لصاحبه، فَسمِّيَ المقام في الثغور، رباطا لذلك (¬2). * الدراسة الدعوية للأحاديث: في هذه الأحاديث الثلاثة دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 2 - من أساليب الدعوة: التشبيه. 3 - من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من أساليب الدعوة: الترغيب: الترغيب أسلوب عظيم من أساليب الدعوة إلى الله تعالى، وفي هذه الأحاديث ترغيب عظيم في الجهاد في سبيل الله تعالى، وأن المشاركة في الجهاد بغدوة أو روحة، أو رباط يوم في سبيل الله - عز وجل - يحصل بها الفوز العظيم والثواب الكبير وذلك خير من الدنيا وما فيها وما عليها؛ ولهذا بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن ¬
موضع قدم، أو موضع سوطٍ، أو خمار امرأة من أهل الجنة على رأسها، خير من الدنيا وما فيها، وهذا وصف لا يدور بالخيال؛ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يقول الله تعالى: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» (¬1)؛ ولأهمية الترغيب قال الله عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] (¬2). وهذا يوضح للداعية عظم أمر الترغيب وعلوَّ شأنه، وأن له التأثير العظيم في النفوس، فينبغي أن يستخدم هذا الأسلوب في دعوة الناس وتوجيههم إلى الخير (¬3). ثانيا: من أساليب الدعوة: التشبيه. دلت هذه الأحاديث على أن أسلوب التشبيه من أساليب الدعوة إلى الله تعالى؛ قال الإمام ابن دقيق العيد - رحمه الله: (وفي قوله - صلى الله عليه وسلم: «خير من الدنيا وما فيها» وجهان: أحدهما: أن يكون من باب تنزيل المغيب منزلة المحسوس، تحقيقا له وتثبيتا في النفوس؛ فإن ملك الدنيا، ونعيمها، ولذاتها محسوسة مستعظمة في طباع النفوس، فحقَق عندها أن ثواب اليوم الواحد في الرباط - وهو من المغيبات - خير من المحسوسات التي عهدتموها من لذات الدنيا. الثاني: أنه قد استبعد بعضهم أن يوازن شيء من نعيم الآخرة بالدنيا كلها، فحمل الحديث، أو ما هو معناه: على أن هذا الذي رتِّب عليه الثواب خير من الدنيا كلها، لو أنفقت في طاعة الله - تعالى - ثم قال رحمه الله: " والأول عندي أوجه وأظهر) (¬4). ¬
فينبغي للداعية أن يستخدم أسلوب التشبيه في دعوته إلى الله (¬1). ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد إن مفهوم هذه الأحاديث تضمن الحث على الجهاد والمشاركة فيه، ولو برباط يوم في سبيل الله تعالى، أو غدوة، أو روحة؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهِر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وَأجرِيَ عليه رزقه، وأمِنَ الفَتان» (¬2). " (¬3). وفي بيان دلالة هذه الأحاديث على الحث على الجهاد يقول ابن حجر، رحمه الله: " والحاصل أن المراد تسهيل أمر الدنيا وتعظيم أمر الجهاد، وأن من حصل له من الجنة قدر سوط يصير كأنه حصل له أمر أعظم من جميع ما في الدنيا، فكيف بمن حَصَّل منها أعلى الدرجات، والنكتة في ذلك أن سبب التأخير عن الجهاد: الميل إلى سبب من أسباب الدنيا، فَنبه هذا المتأخر أن هذا القدر اليسير من الجنة أفضل من جميع ما في الدنيا " (¬4). وهذا يحث الداعية على أن يبين للناس فضل الجهاد، ويحثهم عليه، ويبيِّن حدوده، وضوابطه من الكتاب والسنة (¬5). ¬
باب الحور العين وصفتهن
6 - بَاب الحور العين وصِفَتِهنَّ يحَار فِيها الطَّرْف: شَدِيدَة سَوَادِ العَيْنِ، شَدِيدَة بَياَضِ العَينْ {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54] (¬1) أنكَحْناَهمْ. [حديث ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا] 26 - [2795] حَدَّثَنَا عَبْد اللهِ بْن محَمَّدٍ: حَدَّثَنَا معَاوِيَة بْن عَمْرو: حَدَّثَنَا أَبو إِسَحَاقَ، عَنْ حميدٍ قال: سَمِعْت أنس بْنَ مَالِكٍ (¬2) رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَموت لَه عِنْدَ اللهِ خَيْر يَسره أَنْ يرجِعَ إِلَى الدّنْيَا وَأَنَّ لَه الدنْيَا وَمَا فِيهَا، إلاَّ الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْل الشَّهاَدِةِ؛ فَإنَّه يَسره أَنْ يرجعَ إلى الدّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّة أخْرَى» (¬3). وفي رواية: «مَا أَحَد يَدْخل الجَنَّةَ يحِبّ أَنْ يرجِعَ إِلى الدّنْيَا وَلَه مَا عَلَى الأَرْضِ مِن شيء إلا الشَّهِيد، يَتَمَنَّى أَنْ يرجِعَ إِلى الدّنْيَا فَيقْتَلَ عَشْرَ مرَاتٍ؛ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرَامَةِ» (¬4). * شرح غريب الحديث: * الشهيد الشهيد في الأصل من قتِلَ مجاهدا في سبيل الله عز وجل، ويجمع على الشهداء، ثم اتّسِعَ فيه فأطلق على من سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - شهيدا من: المبطون، والغَرِق، والحَرِق، وصاحب الهدم، وذات الجَنْب، وغيرهم، وسمِّي شهيدا؛ لأنه حيّ لم يمت، كأنه شاهد حاضر؛ لأن أرواحَ الشهداء شهدت وحضرت دار السلام، وغيرهم لا يشهدونها إلا بعد التعب يوم القيامة. وقيل: سمِّي شهيدا؛ لأن الله وملائكته شهود له بالجنة. وقيل: لأن ملائكة ¬
الرحمة تشهده، وقيل: لشهادته بالحق في أمر الله حتى قتل، وقيل: لأنه يشهد ما أعده الله له من الكرامة بالقتل، وقيل: لأنه ممن يستشهد يوم القيامة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناس، وذلك تخصيص لا يكون لكل أحد، وقيل غير ذلك (¬1). قلت: والظاهر والله أعلم أنه سمِّي لذلك كله. * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - الترغيب في طلب الشهادة في سبيل الله عز وجل. 2 - من أساليب الدعوة: تمني أفضل الأعمال. 3 - من معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم -: الإِخبار بالأمور الغيبية. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: الترغيب في طلب الشهادة في سبيل الله تعالى. في هذا الحديث ترغيب في طلب الشهادة في سبيل الله عز وجل؛ لما فيها من الكرامة والفوز بالدرجات العلى في الجنة؛ قال ابن بطال رحمه الله: " هذا الحديث أجل ما جاء في فضل الشهادة، وليس في أعمال البر ما تبذل فيه النفس غير الجهاد؛ فلذلك عظم فيه الثواب " (¬2). وقال النووي رحمه الله: " وهذا من صرائح الأدلة في عظيم فضل الشهادة، والله المحمود المشكور " (¬3). فينبغي للداعية أن يعتني بأسلوب الترغيب في دعوته إلى الله سبحانه وتعالى؛ لما له من الأثر العظيم في نفوس المدعوين (¬4). ¬
ثانيا: من أساليب الدعوة: تمني أفضل الأعمال: إن من أساليب الدعوة تمني أفضل الأعمال؛ للرغبة في الحصول على أعْلَى الدرجات وأعظم الثواب؛ ولهذا بين - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أن الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة، قال العلامة ملا علي القاري رحمه الله: " وفيه إيماء إلى أنه لا يتمنى شيئا من شهوات الدنيا إلا الشهادة، وهي ليست منها فيكون من قبيل: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم. . . " (¬1). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمنى الشهادة في سبيل الله بحضرة الصحابة، رضي الله عنهم، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل» (¬2). ولا شك أن الصحابة - رضي الله عنهم - طمعوا في فضل الله -تعالى - ورغبوا في الحصول على الشهادة؛ لسماعهم تمنيه - صلى الله عليه وسلم -. وهذا يبين للداعية أن تمني أفضل الأعمال، ونقل تمنِّي أهل الصلاح إلى المدعوين مما يرَغِّب المدعوين في عمل الصالحات والرغبة فيها. ثالثا: من معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم -: الإخبار بالأمور الغيبية: إن من الدلائل على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما أخبر به من الأمور الغيبية، ومن ذلك ما أخبر به في هذا الحديث بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنَّى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات؛ لما يرى من الكرامة»، وهذا يؤكد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمه الله بذلك، ويكون كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬
باب من ينكب أو يطعن في سبيل الله
9 - باب منْ ينكب أوْ يطعَن فِي سبيل اللهِ [قوله في بعض المشاهد هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت] 27 - [2802] حَدَّثَنَا موسَى بْن إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا أَبو عَوانةَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جندَب بْنِ سفيانَ (¬1) أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِي بَعْضِ المَشَاهِدِ وَقَدْ دَمِيَتْ إِصبَعه فَقَالَ: «هَلْ أَنتِ إِلَّا إِصْبَع دَمِيتِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقيتِ» (¬2). وفي رواية: " بينَمَا النبي - صلى الله عليه وسلم - يَمْشِي إِذْ أَصَابَه حَجَر فَعَثَرَ فَدَمِيَتْ إِصْبَعه، فقال. . . " (¬3). الحديث. * شرح غريب الحديث: * " المشاهِد ": المغازي، سميت بذلك؛ لأنها مكان الشهادة، وقيل. محضر الناس، ومجمعهم (¬4). * " إصبع ": فيها عشر لغات: تثليث الهمزة، ومع كل حركة تثَلَّث الباء، واللغة العاشرة: أصبوع (¬5). * " دميت " صفة للأصبع: أي ما أنت يا أصبع موصوفة بشيء إلا بأن دميتِ، ¬
كأنها لما دميت خاطبها على سبيل الاستعارة أو الحقيقة معجزة مسلّيا لها: أي تثبتي، فإنك ما ابتليتِ بشيء من الهلاك والقطع سوى أنك دَميت، ولم يكن ذلك أيضا هدرا، بل كان في سبيل الله - تعالى - ورضاه (¬1). * " عثر " المقصود هنا: أنه - صلى الله عليه وسلم - عثر في مشيه: أصابه حجر فسقط وزلت به رجله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: الصبر على المصائب. 2 - من صفات الداعية: احتساب الأجر والثواب على الله عز وجل. 3 - من أساليب الدعوة: الرّجز والشعر الممدوح. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الصبر على المصائب. دل هذا الحديث على أن الداعية ينبغي له أن يصبر على ما أصابه؛ فإنه لو سلم أحد من المصائب لسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو في هذا الحديث في غزوة من الغزوات وأصيب بحجر عثر فيه، ودميت أصبعه، فصبر ولم يجزع من تلك الدماء، فينبغي للداعية أن يقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويصبر على ما أصابه قال الله - تعالى - في مدح المؤمنين {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 35] (¬3). وهذا يؤكد أهمية الصبر (¬4). ¬
ثانيا: من صفات الداعية: احتساب الأجر والثواب على الله - عز وجل: إن من الصفات الحميدة أن يحتسب الداعية ما يصيبه فيرجو بذلك ثواب الله ويطمع في فضله وإحسانه سبحانه وتعالى؛ ولهذا احتسب إمام الدعاة - صلى الله عليه وسلم - الثواب على ربه حينما أصيبت أصبعه فقال: «هل أنت إلا أصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ» فبين - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك لم يكن هدرا وإنما هو في سبيل الله - عز وجل - ورضاه (¬1). فينبغي للداعية أن يحتسب كل ما يصيبه من المصائب والمتاعب والمشاق حتى يثاب على ذلك من الله تعالى؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة» (¬2). ثالثا: من أساليب الدعوة: الرَّجز والشعر الممدوح. من الأساليب الدعوية التي يجذب بها الداعية بعض المدعوّين: الرَّجز (¬3). عند الحاجة إلى ذلك في بعض الأحيان مع بعض الفئات من الناس، ولكن لا يستعمل الداعية منه إلا ما فيه نفع وحث على الخير، وترغيب في الطاعات، وتخويف من المعاصي والسيئات؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " " (¬4). والمعنى إن من الشعر: قولا صادقا، مطابقا للحق. فالشعر منه حسن ومنه قبيح فيأخذ الداعية الحسن ويدع القبيح (¬5). والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن شاعرا ولا ينبغي له ذلك؛ لقول الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] (¬6). ولكن ما جاء ¬
عنه إما أن يكون من باب الرجز، وإما أن يكون كلاما لغيره يتمثّل ببعضه، وإما أن يكون قال ذلك ولم يقصد الشعر ولم يعتنِ به، وإنما جاء على لسانه (¬1). واختار الإمام الطحاوي رحمه الله: أن ما حكِيَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكلام الذي ادعِيَ أنه شعر أو رجز: هو من الحكم التي في الشعر، فتكلم به على لسانه على أنه حكمة، والله يجري الحكمة على لسانه، لا أنه شعر أراده مما لا حكمة فيه (¬2). فلا حرج على الداعية أن يستخدم أسلوب الرجز، أو الشعر الحسن في دعوته إلى الله تعالى. ¬
باب قول الله تعالى من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
12 - باب قول الله تعالى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] (¬1). [حديث استشهاد أنس بن النضر] 28 - [2805] حَدَّثَنَا محَمَّد بْن سَعِيدٍ الخزَاعِيّ: حَدَّثَنَا عَبْد الأَعْلَى، عنْ حمَيْدٍ قَالَ: سَأَلْت أَنَسا، ح: حَدَّثَنَا عَمْرو بْن زرَارَةَ: حَدَّثَنَا زِياد قال: حَدَّثَنِي حمَيْد الطَّوِيل عَنْ أَنَسٍ (¬2) - رضي الله عنه - قَالَ: «غَابَ عَمِّي أَنس بْن النَّضْرِ (¬3) عَنْ قِتالِ بَدْرٍ: فَقَالَ: يَا رَسولَ اللهِ، غِبْت عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المشْرِكِينَ، لَئِنِ الله أَشْهَدَنِي قِتَالَ المشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ الله مَا أَصْنَع، فَلَمَّا كَانَ يَوْم أحدٍ وانْكَشَفَ المسْلِمونَ قَالَ: اللَّهمَّ إِنِّي أَعْتَذِر إِليْكَ مَّا صَنَعَ هَؤلَاءِ- يَعْنِي أَصحابَه- وَأَبْرَأ إِليْكَ مِمّا صَنَعَ هَؤلَاءِ: - يَعْنِي المشْرِكِينَ- ثمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَه سَعْد بْن معَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْد بْنَ معَاذٍ، الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضرِ، إِني أَجِد رِيحَهَما مِنْ دونِ أحدٍ. قَالَ سَعْد: فَمَا اسْتَطَعْت يَا رَسولَ اللهِ مَا صَنَعَ. قَالَ أنس: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعا وَثَمَانِينَ ضَرْبة بِالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنة بِرمْح، أَوْ رَمْيَة بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاه قَدْ قتِلَ وَقَدْ مثَّلَ بِهِ المشْرِكونَ، فَمَا عَرَفَه أَحد إِلَّا أخته بِبَنَانِهِ». قَالَ أَنس: كنَا نَرَى- أَوْ نَظنّ- أَن هَذِهِ الآية نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] (¬4) إِلَى آخرِ الآية " (¬5). ¬
وفي رواية: ". . «لَئِن أَشْهَدَنِي الله مع النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لَيَرَيَنَّ الله مَا أجِدّ، فَلَقِيَ يَوْمَ أحدٍ فَهزِمَ النَّاس، فقَالَ اللَّهمَّ إِنَي أَعْتَذِر إِليْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤلاءِ - يعني المسْلِمينَ- وَأَبْرَأ إِليْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ المشْرِكونَ، فَتَقَدَّمَ بِسَيْفِهِ فَلَقِيَ سَعْدَ بْنَ معَاذٍ فَقَالَ: أَيْنَ يا سَعْد؛ إِنَي أَجِد رِيحَ الجَنَّة دونَ أحدٍ، فَمَضَى فَمَا عرِفَ حَتَّى عَرَفَتْه أخْته بِشَامَةٍ، أَوْ بِبَنانِهِ، وَبِهِ بضع وثَمَانونَ مِنْ طَعْنةٍ، وضَرْبَةٍ، وَرَمْيَةٍ بسَهْمٍ» (¬1). * شرح غريب الحديث: * " لَيَرَينَّ الله مَا أجِدّ " أي ما أجتهد (¬2). * " وانكشف المسلمون " أي انهزموا (¬3). * " ببنانه " البنان: الأصابع، وقيل: أطرافها (¬4). * " أخته " أي أخت أنس بن النضر، وهي: الربيع بنت النضر، عمة أنس بن مالك - رضي الله عنهم (¬5). * " بشامة " الشامة: الخال في الجسد (¬6). * " بضعا وثمانين ضربة " البضع في العدد بالكسر، وقد يفتح: ما بين الثلاث إلى التسع، وقيل ما بين الواحد إلى العشرة؛ لأنه قطعة من العدد (¬7). * " نحبه " النحب النذر، كأنه ألزم نفسه أن يصدق الله في قتال أعداء الله فوَفَى به، وقيل: النحب الموت، كأنه يلزم نفسه أن يقاتل حتى يموت (¬8). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: بذل النفس والتضحية في سبيل الله عز وجل. 2 - من صفات الداعية: الوفاء بالعهد. 3 - من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله عز وجل. 4 - من صفات الداعية: صحة الإِيمان وقوة اليقين. 5 - من صفات الداعية: الشجاعة. 6 - من صفات الداعية: الصبر وتحمل المشاق. 7 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 8 - من أساليب الدعوة: القصة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: بذل النفس والتضحية في سبيل الله عز وجل: إن بذل النفس والتضحية في سبيل اللِّه - تعالى - من صفات الداعية، وقد دل الحديث على هذه الصفة الحميدة: من تضحية أنس بن النضر - رضي الله عنه - بنفسه في سبيل الله - عز وجل - حتى وجد فيه أكثر من ثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وهذا كله يدل على بذله نفسه لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال سعد بن معاذ - رضي الله عنه: " فما استطعت يا رسول الله ما صنع ". قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله: " وفيه جواز بذل المرء نفسه في طلب الشهادة " (¬1). فينبغي للداعية أن يضحي بكل ما يملك في خدمة الإسلام ونصرته، وفي كل ما يحبه الله - عز وجل -ويرضاه. ثانيا: من صفات الداعية: الوفاء بالعهد. إن الوفاء بالعهد من أهم الصفات التي ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ وقد ¬
قال الله - عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] (¬1). وفي هذا الحديث قال أنس بن النضر - رضي الله عنه: " لئن أشهدني الله قتال المشركين ليريَنَّ الله ما أصنع " وقد وفى بما عاهد الله عليه حتى اشتهر ذلك عند الصحابة - رضي الله عنهم؛ ولهذا قال أنس بن مالك - رضي الله عنه: " كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه ": {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله: " وفي قصة أنس بن النضر من الفوائد: جواز بذل النفس في الجهاد، وفضل الوفاء بالعهد ولو شق على النفس حتى يصل إلى إهلاكها " (¬2). فينبغي للداعية أن يعتني بعهده؛ فإن ذلك من أعظم صفات الداعية الصادق. ثالثا: من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله عز وجل: لا ريب أن من رجا شيئا طمع فيه وطلبه ورغب فيه (¬3). وقد دل هذا الحديث على أن الرغبة فيما عند الله تعالى والطمع في رضاه من صفات الداعية، وذلك في قول أنس بن النضر - رضي الله عنه: " يا سعد بن معاذ: الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد " (¬4). ثم تقدم فقاتل حتى قتل، وما ذلك إلا لرغبته فيما عند الله - عز وجل. فينبغي للداعية أن يرغب فيما عند الله، سبحانه تعالى، ويطمع في رضاه، قال الله عز وجل: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36] (¬5) وهذا يوضح أهمية الرغبة فيما عند الله عز وجل (¬6). ¬
رابعا: من صفات الداعية: صحة الإيمان وقوة اليقين: دل الحديث على أن صحة الإِيمان وقوة اليقين من أهم صفات الداعية؛ ولهذا بذل أنس بن النضر روحه وجسده في سبيل الله، عز وجل، وأيقن بأن الله عز وجل يثيبه على عمله المبارك. ولا شك أن اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد (¬1). قال الله - عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] (¬2)؛ ولهذه الأهمية قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في فوائد هذا الحديث: " وفيه فضيلة ظاهرة لأنس بن النضر - رضي الله عنه - وما كان عليه من صحة الإِيمان، وكثرة التوقي والتورع وقوة اليقين " (¬3). فينبغي للداعية إلى الله - تعالى - أن يتصف بهذه الصفة العظيمة؛ لأن اليقين في الحقيقة: قبول دين الله - عز وجل - كما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - والإيمان بالغيب الذي أخبر به الله، سبحانه وتعالى، وأخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، إيمانا صادقا، لا يدخل القلب فيه شبهة ولا شك ولا تناس ولا غفلة (¬4). ولهذه المكانة العظيمة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أعظم ما أعطي العبد: هو اليقين فقال: «سلوا الله العفو والعافية؛ فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية» (¬5). خامسا: من صفات الداعية: الشجاعة: من الصفات الحميدة التي دل عليها هذا الحديث الشجاعة، فقد ظهرت شجاعة أنس بن النضر، رضي الله عنه، وذلك بإقدامه في معركة أحد، وقتاله العظيم ¬
حتى ضحى بنفسه التي هي أغلى ما يملك بعد الإِيمان، وذلك لشجاعته القلبية التي حملته على ما صنع - رضي الله عنه - (¬1). فينبغي للداعية أن يتصف بالشجاعة القلبية، والعقلية، فيصبر في ساحات الجهاد؛ لأن الشجاعة في الحقيقة: هي ضبط النفس عن مثيرات الخوف، حتى لا يجبن الإِنسان في المواضع التي تحسن فيها الشجاعة، ويقبح فيها الجبن، قال ابن حجر - رحمه الله - في فوائد هذا الحديث: " وفي الحديث جواز الأخذ بالشدة في الجهاد " (¬2). سادسا: من صفات الداعية: الصبر وتحمل المشاق: يظهر في هذا الحديث صبر أنس بن النضر، رضي الله عنه، وإقدامه ومثابرته في قتال المشركين، وهذا يبين للدعاة وغيرهم من المسلمين أن صفة الصبر خلق فاضل من أخلاق النفس، تمنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها (¬3). فينبغي للداعية أن يتصف بهذه الصفة الحميدة التي تمكنه من ضبط نفسه؛ لتحمل المتاعب والمشاق في سبيل الدعوة إلى الله - عز وجل؛ ولهذا أمر الله به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال - عز وجل: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35] (¬4) وقال سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] (¬5) أسأل الله العفو والعافية لي ولجميع المسلمين (¬6). سابعا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أن أسلوب الترغيب مهم في الدعوة إلى الله عز وجل؛ ¬
لأنه يجذب القلوب إلى فعل الخير؛ ولهذا استشهد أنس بن مالك - رضي الله عنه - بقوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] (¬1). وهذا يرغب في الوفاء بالعهد والثبات عليه، ويبين للدعاة أهمية استخدام هذا الأسلوب في الدعوة إلى الله عز وجل (¬2). ثامنا: من أساليب الدعوة: القصة: القصص: هو الخبر المقصوص، وهو بمعنى تتبع الأثر، فقيل القاص يقص القصص؛ لإِتبَاعه خبرا بعد خبر، وسوقه الكلام سوقا (¬3). ولا شك أن القصص من أساليب الدعوة التي تؤثر في نفوس المدعوين، وقد دل هذا الحديث على أهمية القصص في الدعوة إلى الله تعالى؛ لأن من سمع حديث أنس بن مالك عن قصة عمه أنس بن النضر أثر ذلك في نفسه، وصور له واقع ما فعله - رضي الله عنه - من التضحية والمثابرة الجادة الصادقة؛ ولهذا التأثير العظيم ذكر الله - عز وجل - في القرآن الكريم قصصا كثيرة، وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قصصا في سنته (¬4). وبين الله -عز وجل - أن في القصص عبرا وعظات، قال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] (¬5). فينبغي للداعية أن يعتني بالقصص من الكتاب العزيز، والسنة الصحيحة، ويبينه للناس حتى يحصل التأثير والقبول بإذن الله - عز وجل - (¬6). ¬
حديث أمر أبي بكر زيد بن ثابت بنسخ المصحف
[حديث أمر أبي بكر زيد بن ثابت بنسخ المصحف] 29 - [2807] حَدَّثَنَا أَبو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شعيب، عنِ الزهريِّ حِ، وحَدَثَنَا إِسْمَاعِيل قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سلَيْمَانَ، أرَاه عَنْ محَمَّدِ بنِ أِبِي عَتِيقٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، رضي الله عنه، (¬1). قَال: " نَسَخْت الصّحفَ فِي المَصَاحِفِ فَفَقَدْت آية مِنْ سورِةِ الأَحْزَابِ كنْت أَسْمَع رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقْرَأ بِهَا، فَلَمْ أَجِدْهَا إِلّا مَعَ خزَيْمةَ بْنِ ثَابتٍ (¬2). الأنصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَهَادَتَه شَهَادَةَ رَجلَينِ، وَهَو قوله: (¬3) ¬
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] (¬1). وفي رواية: " فَألحَقْنَاها في سورَتهَا فيِ المصْحَفِ " (¬2). وفي رواية: أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ - رضي الله عنه - قَالَ: " أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبو بَكْرٍ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَة وَعِنْدَه عمَر بن الخطاب - رضي الله عنه، فَقَالَ أَبو بَكْرٍ: إِنَّ عمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ القَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ اليَمَامَةِ بِقرّاءِ القرْانِ، وَإِنِّي أَخْشَى إِنِ اسْتَحَرَّ القَتْل بِالقرَّاءِ بِالمَوَاطِن فَيَذْهَب كَثِيْر مِنِ القرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمرَ بجَمْع القرْانِ. قَالَ أَبو بَكْرٍ: قلْت لِعمَرَ: كَيْفَ تَفْعَل شيئا لَمْ يَفْعَلْه رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالَ عمر: هَذَا وَاللهِ خَيْر. فَلَمْ يَزَلْ عمَر يرَاجِعنِي حَتَّى شَرَحَ الله صَدْرِي لِذَلِكَ، وَرَأَيْت فِي ذَلِكَ الذِي رَأَى عمَر. قَالَ زَيْد: وَعمَر عِنْدَه جَالِس لاَ يَتكَلَّم - فَقَالَ أَبو بَكْرٍ: إٍنكَ رَجل: شَابّ عَاقِل، وَلاَ نَتَّهمكَ، وَكنْتَ تَكْتب الوَحْيَ لِرَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فتَتبّع القرْآنَ فَاجْمَعْه. فَوَاللهِ لَوْ كلّفوني نَقْلَ جَبَلٍ مِن الجبَالِ مَا كَان أَثْقَلَ عَليَّ مِمّا أَمَرَني بهِ مِنْ جَمْعِ القرآنِ. قلْت: كَيْفَ تَفْعَلانِ شيئا لَمْ يَفْعَلْه رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالَ أبو بَكْرٍ: هوَ واللهِ خَيْر. فَلَمْ أَزَلْ أرِاجِعه حَتَّى شَرَحَ الله صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَه صَدْرَ أَبِي بكْرٍ وَعمَرَ - رضي الله عنهما. فقمْت فَتَتبّعْت القرْآنَ أَجْمَعه: مِنِ الرقَّاعِ، وَالأَكْتَافِ، وَالعسبِ [واللِّخَافِ]، وَصدورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْت آخِرَ سورةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خزَيْمَةَ الأنصَارِي. . " (¬3). وفي رواية: " حَتَّى وَجَدْت مِنْ سورَةِ التَّوبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خزَيمةَ الأنصَارِي (¬4) لَمْ ¬
أَجِدْهمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِه (¬1). {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ} [التوبة: 128] (¬2) إِلى آخِرِهَا ". وَكَانَتْ الصّحف الَّتِي جمعَ فِيْهَا الْقرْآن عِنْدَ أَبِي بَكر حتى تَوَفَّاه الله، ثمَّ عِنْدَ عمَرَ حَتَّى تَوَفَّاه الله، ثمَ عند حَفْصَةَ بِنْتِ عمَرَ [رضي الله عنهم] (¬3). * شرح غريب الحديث: * " استحرَّ ": كثر واشتدَّ؛ لأن المكروه غالبا يضاف إلى الحر، كما أن المحبوب يضاف إلى البرد، يقولون: أسخن الله عينه، وأقرَّ الله عينه (¬4). * " انشراح الصدر " سعته، وانفساحه، وتقبله للخير (¬5). * " العسب " جمع عسيب: وهو جريد النخل (¬6). * " الأكتاف " الكتف عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان كانوا يكتبون عليه لقلة القراطيس عندهم (¬7). * " اللخاف " حجارة بيض رقاق، واحدتها لخفة، وقيل: هي الخزف (¬8). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: ¬
1 - من صفات الداعية الفطنة والذكاء. 2 - أهمية تقييد العلم وضبطه بالكتابة. 3 - من صفات الداعية: العقل السليم، والنشاط، والأمانة، والخبرة. 4 - حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على العناية بالقرآن الكريم. 5 - حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 6 - من أساليب الدعوة: الحوار. 7 - أهمية اختيار الداعية الصالح للأمور المهمة. 8 - حرص السلف الصالح على الدقة في ضبط الرواية. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الفطنة والذكاء: جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - شهادة خزيمة بن ثابت - رضي الله عنه - شهادة رجلين؛ لِمَا رأى فيه من الفطنة والذكاء، وسبب ذلك أن «النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى فرسا من أعرابي، فاستتبعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع رسول الله المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق (¬1). رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتاعه، فنادى الأعرابي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن كنت مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع كلام الأعرابي فقال: " أوليس قد ابتعته منك؟ " فقال الأعرابي: لا، والله ما بعتكه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " بلى قد ابتَعته منك " فطفق الأعرابي يقول: هَلمَّ شَهِيدا، فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على خزيمة فقال: " بِمَ تَشْهَد؟ " فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادة خزيمة بشهادة رجلين» (¬2). ¬
قال ابن حجر - رحمه الله - في فوائد حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه: " وفيه فضيلة الفطنة في الأمور، وأنها ترفع منزلة صاحبها؛ لأن السبب الذي أبداه خزيمة حاصل في نفس الأمر يعرفه غيره من الصحابة، وإنما هو؛ لِمَا اختص بِتَفَطنِهِ لما غفل عنه غيره مع وضوحه، وجوزِيَ على ذلك بأن خصَّ بفضيلة من شَهدَ له خزيمة أو عليه " (¬1). وهذا يبين أهمية الفطنة والذكاء وأن الداعية ينبغي له أن يكون فطنا ذكيا، ويسأل الله - عز وجل - أن يوفقه لذلك. ثانيا: أهمية تقييد العلم وضبطه بالكتابة: ظهر في هذا الحديث أهمية ضبط العلم بالكتابة؛ ولهذا ظهرت فائدة ضبط خزيمة بن ثابت - رضي الله عنه - آية الأحزاب بالكتابة فوجدها زيد بن ثابت عنده مكتوبة ولم يجدها عند غيره؛ ولهذه الأهمية أمر أبو بكر بجمع القرآن وكتابته في الصحف، ووافقه عمر، وزيد، رضي الله عنهم، فنفع الله بذلك أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ وقد اعتنى الصحابة، ومن بعدهم من التابعين وأتباعهم بإحسان، بضبط العلم بالكتابة، وأوصوا بذلك، فعن خالد بن خداش قال: وَدَّعْت أنس بن مالك فقلت يا أبا عبد الله أوصني. فقال: " عليك بتقوى الله في السر والعلانية، والنصح لكل مسلم، وكتابة العلم من عند أهله " (¬2). وعن سليمان بن موسى قال: " يجلس إلى العالم ثلاثة: رجل يأخذ كل ما يسمع فذلك حاطب ليل، ورجل لا يكتب ويسمع فيقال له: جليس العالم، ورجل ينتقي وهو خيرهم [وذلك العالم] " (¬3). وقال الخليل بن أحمد: " ما سمعت شيئا إلا كتبته، ولا كتبته إلا حفظته، ولا حفظته إلا نفعني " (¬4). فينبغي للداعية إلى الله - عز وجل - أن يحرص على كتابة العلم عن أهله، ومراجعته ¬
حتى يحفظه ويعمل به؛ لأن الجمع بين الكتابة والحفظ من تمام الضبط، والعلم صيد فليقيد بالكتابة. ثالثا: من صفات الداعية: العقل السليم، والنشاط، والأمانة، والخبرة: دل الحديث على هذه الصفات الأربع، لقول أبي بكر - بحضرة عمر - لزيد بن ثابت - رضي الله عنهم: " إنك رجل شاب، عاقل، ولا نتهمك، وكنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وهذه الصفات بشيء مْن التفصيل على النحو الآتي: 1 - العقل السليم: قال العلامة الأصفهاني - رحمه الله: " العقل يقال للقوة المتهيِّئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإِنسان بتلك القوة: عقل. . . " (¬1). ثم بَيَّنَ - رحمه الله - أن كل موضع في القرآن الكريم رفع فيه التكليف عن العبد لعدم العقل فإشارة إلى الأول، وأن الثاني هو المعني بقوله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] (¬2). فاتضح أن العقل السليم: هو المتصف بالعلم النافع والعمل الصالح (¬3). وقد جاء في كلام العلامة القسطلاني على قول أبي بكر - رضي الله عنه لزيد: " إنك. . . عاقل ولا نتهمك " قوله - رحمه الله: " فيه تمام معرفته، وغزارة علمه، وشدة تحقيقه، وتمكنه من هذا الشأن " (¬4). وهذا يبيِّن للداعية أهمية الاتصاف بالعقل السليم؛ ولهذا ذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - أن زيد بن ثابت - رضي الله عنه: " لو لم تثبت أمانته وكفايته، وعقله، لما استكتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي، وإنما وصفه بالعقل وعدم الاتهام دون ما عداهما إشارة إلى استمرار ذلك له، وإلا فمجرد قوله " لا نتهمك " مع قوله " عاقل " لا يكفي في ثبوت الكفاية والأمانة، فكم من بارع في العقل والمعرفة وجدت منه الخيانة " (¬5). ¬
2 - النشاط: ظهر في الحديث أن النشاط صفة من صفات الداعية؛ ولهذا بين العلامة القسطلاني - رحمه الله - في شرحه لقوله: " إنك رجل شاب " قال في ذلك: " إشارة إلى نشاطه وقوته فيما يطلب منه، وبعده عن النسيان، وحدة نظره، وضبطه وإتقانه " (¬1). وهذا يوضح للداعية أهمية النشاط وعدم الكسل، وأن يستعين بالله - تعالى -ولا يعجز ولا يكسل (¬2). 3 - الأمانة: يظهر في الحديث أن الأمانة صفة من صفات الداعية؛ قال العلامة العيني - رحمه الله - على قوله: " ولا نتهمك وكنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": " وكتابة الوحي تدل على أمانته الغاية، وكيف وكان من فضلاء الصحابة ومن أصحاب الفتوى " (¬3). وقال العلامة القسطلاني - رحمه الله: " ولا نتهمك ": " بكذب ولا نسيان، والذي لا يتهم تركن النفس إليه " (¬4). وهذا يبين أن الأمانة صفة لابد منها للداعية إلى الله - سبحانه وتعالى - قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] (¬5). 4 - الخبرة: دل الحديث على أن الخبرة والممارسة صفة من صفات الداعية؛ ولهذا قال أبو بكر - رضي الله عنه - لزيد بن ثابت - رضي الله عنه: " وكنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قال القسطلاني - رحمه الله: " فهو أكثر ممارسة له من غيره " (¬6). ولا شك أن الخبرة والتجارب تعين الداعية إلى الله، عز وجل، وبها يعرف أحوال الناس، فيدعو إلى الله على بصيرة. وهذه الصفات الأربع المتقدمة آنفا من أعظم صفات الدعاة إلى الله عز وجل؛ ¬
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى - في وصف أبي بكر لزيد بن ثابت رضي الله عنهما: " ذكر له أربع صفات مقتضية خصوصيته بذلك: كونه شابا فيكون أنشط لما طلب منه، وكونه عاقلا فيكون أوعى له، وكونه لا يتهم فتركن النفس إليه، وكونه كان يكتب الوحي فيكون أكثر ممارسة له. وهذه الصفات التي اجتمعت له قد تكون في غيره، لكن مفرقة " (¬1). فينبغي للداعية أن يكون عاقلا، نشيطا، أمينا، مجربا عارفا بالأمور على وجهها. والله المستعان. رابعا: حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على العناية بالقرآن الكريم: لا شك أن الله - عز وجل - قد تكفل بحفظ القرآن الكريم، بقوله تعالى (: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] (¬2) وقال عز وجل: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] (¬3) ومن حفظ الله له - سبحانه وتعالى - أن قيَّض له من يعتني به. وقد دل هذا الحديث على عناية الصحابة - رضي الله عنهم - بالقرآن الكريم، والقرآن الكريم كان مجموعا كله في صدور الرجال أيام حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد روى البخاري - رحمه الله تعالى - عن أنس - رضي الله عنه - قال: " جمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة كلهم من الأنصار: أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد " (¬4). وقد كان لهؤلاء شركاء من الصحابة رضي الله عنهم يحفظونه كله، ولكن هؤلاء أشد اشتهارا به، وأكثر تجريدا للعناية بقراءته، ثم جمِعَ القرآن الكريم في المصحف بإتقان من أبي بكر وعمر وهما من الخلفاء الراشدين المأمور بالاقتداء بهم، ووافقهما عثمان، وزيد بن ثابت كاتب الوحي، ثم اتفق الملأ من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين على أن ما بين الدفتين قرآن منزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا في شيء منه (¬5). ¬
فينبغي للدعاة إلى الله - عز وجل - العناية بالقرآن الكريم: تَعلما، وحفظا، وتدبرا، وعملا، ودعوة إليه. خامسا: حرص الصحابة - رضي الله عنهم - علي الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم: دل هذا الحديث على حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما حينما طلب منه أن يجمع القرآن: " كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ " وقال هذه الكلمة زيد بن ثابت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهم: " كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ". وهذا يدل على أن الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفة عظيمة من صفات الصحابة. وينبغي للداعية أن يتصف بهذه الصفة ويحرص عليها أشد الحرص؛ قال الله - عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] (¬1). سادسا: من أساليب الدعوة: الحوار: لا شك أن الحديث دل على أسلوب الحوار، وذلك لما حصل بين أبي بكر وعمر، ثم زيد بن ثابت رضي الله عنهم من الحوار الهادئ، في مسألة جمع القرآن الكريم، ثم اتفقوا بعد هذا الحوار على جمع القرآن الكريم، والحوار في الحقيقة هو مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين (¬2). وقد جاء في كتاب الله - عز وجل - في مواضع منها قو له سبحانه وتعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] (¬3) فعلى هذا يكون الحوار أسلوبا نافعا من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل. فينبغي للداعية إلى الله - عز وجل - أن يعتني بهذا الأسلوب، ويراعي آدابه وشروطه حتى يكون على بصيرة من أمره. والله المستعان (¬4). ¬
سابعا: أهمية اختيار الداعية الصالح للأمور المهمة: إن من الأمور المهمة التي ينبغي العناية بها أن يختار الإمام أو نائبه الداعية الصالح للأمور المهمة؛ لأن أبا بكر - رضي الله عنه - اختار زيد بن ثابت لجمع القرآن الكريم؛ لما علم من قوته، وعلمه، وخبرته، ونشاطه لهذا الأمر العظيم؛ ولهذا قال أبو بكر - رضي الله عنه - لزيد رضي الله عنه: " إنك رجل، شاب، عاقل، ولا نتهمك، وكنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتتبع القرآن فاجمعه "، وهذه الصفات الكريمة جعلت أبا بكر يختار زيد بن ثابت لجمع القرآن الكريم (¬1). ثامنا: حرص السلف الصالح على الدقة في ضبط الرواية: إن من الصفات الحميدة، والأخلاق الكريمة، الحرص على الدقة في ضبط الرواية؛ ولهذه الأهمية اعتنى السلف الصالح - رضي الله عنهم - بذلك عناية فائقة، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم اعتنوا بتتبع القرآن من أفواه الرجال، ومن النظر في المكتوب في الصحف حتى يوافق ما حفظ ما كتب فبذلك يحصل اليقين الذي لا يتطرق إليه شك بوجه من الوجوه أن هذا القرآن الذي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -. فينبغي الاقتداء بالسلف الصالح في الحرص على الدقة في ضبط الرواية (¬2). والله المستعان (¬3). ¬
باب عمل صالح قبل القتال
13 - بَاب: عَمل صالح قَبْلَ القِتَال وَقَالَ أَبو الدَّرْدَاءِ: إِنَّمَا تقَاتِلونَ بِأَعْمَالِكمْ، وَقَوْله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ - إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 2 - 4] (¬1). [حديث عمل قليلا وأجر كثيرا] 30 - [2808] حَدَّثَنِي محَمَّد بْن عَبْدِ الرَّحِيمِ: حَدَّثَنَا شَبَابَة بْن سَوَّارٍ الفَزَارِيّ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيل، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْت الْبَراءَ رضي الله عنه (¬2). يَقول: «أتى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجل (¬3). مقَنَّع بِالحَدِيدِ فَقَالَ: يَا رَسولَ اللهِ، أقَاتِل وأسلِم؟ (¬4). قَالَ: " أَسْلِمْ ثمَّ قَاتِلْ "، فَأَسْلَمَ ثَمَّ قَاتَلَ فَقتِلَ. فَقَالَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " عَمِلَ قَلِيلا وَأجِرَ كَثيرا» (¬5). * شرح غريب الحديث: * " مقنع بالحديد ": هو المتَغطِّي بالسلاح، ويقال: تقنّع بثوبه: أي تَغَطَّى به، وقيل: هو الذي على رأسه بيضة، وهي الخوذة؛ لأن الرأس موضع القناع (¬6). ¬
الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: استصحاب النية الصالحة. 2 - أهمية المبادرة والمسارعة إلى الخير. 3 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 4 - أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه. 5 - الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: استصحاب النية الصالحة: دل قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: " عمل قليلا وأجر كثيرا " على أن النية الصالحة أعظم الصفات الحميدة، وأن الإنسان يثاب على العمل القليل الثواب العظيم الكثير بهذه النية؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: " وفي هذا الحديث أن الأجر الكثير قد يحصل بالعمل اليسير، فضلا من الله وإحسانا " (¬1). وقال العلامة العيني رحمه الله: ". . . فاستحق بهذا نعيم الأبد في الجنة بإسلامه، وإن كان عملا قليلا؛ لأنه اعتقد أنه لو عاش لكان مؤمنا طول حياته، فنفعته نيته، وإن كان قد تقدمها قليل من العمل، وكذلك الكافر إذا مات ساعة كفره يجب عليه التخليد في النار؛ لأنه انضاف إلى كفره اعتقاد أنه يكون كافرا طول حياته؛ لأن الأعمال بالنيات " (¬2). وهذا يبيِّن للداعية وغيره من المسلمين أهمية النية الصالحة الخالصة لله عز وجل (¬3). ¬
ثانيا: أهمية المبادرة والمسارعة على الخير. دل هذا الحديث على المسارعة إلى الخير، قال الإمام النووي رحمه الله: " وفيه المبادرة إلى الخير " (¬1). والمسارعة والمبادرة إلى الخير من الأعمال الصالحة التي يبادر إليها أهل الإيمان وخاصة الدعاة إلى الله، سبحانه وتعالى، وقد أمر الله - عز وجل - بالمسارعة إلى الخير فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] (¬2) وقال عز وجل {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21] (¬3). وقد مدح الله السابقين إلى الخيرات، وعظم شأنهم فقال سبحانه وتعالى أثناء ذكره لصفات المؤمنين الكمَّل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ - أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 60 - 61] (¬4). وقال سبحانه وتعالى: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 114] (¬5). وقال عز وجل في الثناء على زكريا وأهله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] (¬6). وهذا يبين للداعية إلى الله عز وجل وغيره من المسلمين أهمية المبادرة إلى الخيرات والمسابقة إليها والمسارعة (¬7). ثالثا: من أساليب الدعوة: الترغيب: في هذا الحديث الترغيب في النية الصالحة، وأن العمل القليل الخالص ¬
لله عز وجل يكون كثيرا في الثواب والجزاء؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الرجل الذي لم يصلِّ لله ركعة واحدة، وإنما أسلم فقاتل فقتل: «عمل قليلا وأجر كثيرا» وفي هذا الحديث الترغيب في الجهاد، وأن من قتل في سبيل الله لإِعلاء كلمته - عز وجل - فله الجنة؛ «وقد قال رجل: أين أنا يا رسول الله إن قتلت؟ قال: " في الجنة " فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل» (¬1). قال الإمام النووي رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه ثبوت الجنة للشهيد " (¬2). فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يستخدم هذا الأسلوب في دعوته إلى الله سبحانه وتعالى (¬3). رابعا: أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه: دل الحديث على أهمية السؤال عن العلم؛ لأن هذا الرجل عندما أشكل عليه هل يسلم قبل أن يقاتل أو يقاتل ثم يسلم؟ فسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فبيَّن له النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «أسلم ثم قاتل» وهذا يوضح أهمية السؤال عن العلم، وما لا يفهمه الإِنسان؛ ولأهمية السؤال عن العلم قال ابن شهاب رحمه الله: " العلم خزائن ومفاتيحها السؤال " (¬4). وكان الأصمعي رحمه الله ينشد: شفاء العمى طول السؤال وإنما ... تمام العمى طول السكوت على الجهل (¬5) وقال آخر: إذا كنت لا تدري ولم تك بالذي ... يسائل من يدري فكيف إذن تدري ؟ (¬6). وقال وهب بن منبه وسليمان بن يسار رحمهما الله: " حسن المسألة نصف العلم " (¬7). وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " لا يخاف العبد إلا ذنبه، ولا يرجو ¬
إلا ربه، ولا يستحي جاهل أن يسأل، ولا يستحي عالم إن لم يعلم أن يقول: الله أعلم " (¬1). وهذا يبين أهمية السؤال عن العلم والعناية بذلك (¬2). خامسا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: في هذا الحديث أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، وذلك أن هذا الرجل تقنع بالحديد، وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقره على ذلك، ولا شك أن التوكل يقوم على ركنين: اعتماد القلب على الله، عز وجل، والعمل بالأسباب المشروعة. يقال: وكلت أمري إلى الله: ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه (¬3). وقد بين ابن القيم رحمه الله أن من نفى الأسباب لا يستقيم له توكل؛ لأن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه، فهو كالدعاء الذي جعله الله سببا في حصول المدعو به، فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل، ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بالأسباب، فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه، والتوكل متعلق بربوبيته، وقضائه وقدره، فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية، والله عز وجل أعلم (¬4). فينبغي للداعية وغيره من المسلمين أن يتوكل على الله - عز وجل - ويعمل بالأسباب التي شرعها الله عز وجل؛ قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] (¬5) وقال عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58] (¬6) ¬
وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] (¬1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» (¬2). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: «قال رجل: يا رسول الله، أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: " اعقلها وتوكل» (¬3). ¬
باب من أتاه سهم غرب فقتله
14 - باب من أتاه سهم غرب فقتله [حديث يا أم حارثة إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى] 31 - [2809] حَدَّثَنَا محَمَّد بْن عَبْد اللهِ: حَدَّثَنَا حسَيْن بْن محَمَّدٍ أَبو أحمَدَ: حَدَّثَنَا شَيْبَان، عن قَتَادَةَ: حَدَّثَنَا أنس بْن مَالِكٍ (¬1) «أَنَّ أمَّ الرّبيَّعِ بِنْتَ البَرَاء (¬2). وهي أمّ حَارثة بن سراقة (¬3). أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالت: يَا نَبِيَّ اللهِ أَلَا تحَدّثنِي عَنْ حَارِثَةَ - وَكَانَ قتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَه سَهْم غَرب- فَإِن كَانَ فِي الجَنَّةِ صَبَرْت وإِنْ كَانَ غَيرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْت عَلَيْهِ فِي البكَاءِ، قَالَ: " يَا أمَّ حَارِثةَ إِنَّهَا جِنَان فِي الجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الفِرْدَوْسَ الأَعْلى» (¬4). وفي رواية: «فَإِنْ يَكنْ فِي الجَنَّةِ أَصْبِرْ وأحتسب، وَإِنْ تَكنِ الأخْرَى تَرَى مَا أَصْنَع؟ قَالَ: " وَيْحَكِ أَوَ هَبِلْتِ؟ أَوَ جَنَّة وَاحِدَة هِيَ؟ إِنَّها جِنَان كَثيرَة وَإِنَّه فِي جَنَّةِ الفِردوْس» (¬5). * شرح غريب الحديث: * " سَهْم غرب " وهو الذي لا يدْرَى مَنْ رَمَى به ويقال: بالإِضافة " سَهْم ¬
غَرْب " وقيل: هو بالسكون إذا أتاه من حيث لا يدري، وبالفتح " سَهْم غَرَب " إذا رماه فأصاب غيره (¬1). * " ويحك " كلمة تَرحّمٍ وتَوَجعٍ، تقال: لمن وقع في هلكة لا يستحقها، فيرثى له، ويتحزّن عليه " بويح " (¬2). * " أَوَ هَبِلتِ " والمعنى أفقدتِ عقلكِ بفقد ابنكِ حتى جعلتِ الجنان جنة واحدة (¬3). * " الفردوس ": هو البستان الذي فيه العنب والأشجار، ويجمع كل شيء من ثمار البساتين، والجمع فراديس، وفيه جنة الفردوس (¬4). * " الجنة ": دار النعيم في الدار الآخرة، من الاجتنان: وهو الستر، لتكاثف أشجارها، وتظليلها بالتفاف أغصانها، وسميت بالجنة: وهي المرة الواحدة من مصدر جَنَّه جَنّا: إذا ستره، فكأنها سَتْرَة واحدة؟ لشدة التفافها وإظلالها (¬5). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه. 2 - من صفات الداعية: الصبر. 3 - من صفات الداعية: احتساب الأجر والثواب. 4 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 5 - من أساليب الدعوة: الاستفهام الإِنكاري. 6 - أهمية الخوف من عذاب الله عز وجل. ¬
7 - من أصناف المدعوين النساء. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه: في هذا الحديث سؤال أم الربيع للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن ابنها حارثة وإجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بما يسرها. وهذا يبين أهمية سؤال أهل العلم عن كل ما يشكل على الإِنسان حتى يكون على بصيرة من أمره (¬1). ثانيا: من صفات الداعية: الصبر: دل الحديث على أن الصبر من الصفات الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها الدعاة إلى الله - عز وجل - قال الله عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ - أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157] (¬2) وقد بينت أم الربيع للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنها ستصبر على ما أصيبت به من قتل ابنها حارثة رضي الله عنه (¬3). ثالثا: من صفات الداعية: احتساب الأجر والثواب: في قول أم الربيع - رضي الله عنها: " وأحتسب " دليل أن الاحتساب من الصفات التي يرغب فيها المؤمن، وخاصة الدعاة إلى الله، عز وجل، والإِنسان معرض للمصائب والأقدار المؤلمة، والمشاق والمتاعب، فينبغي للمؤمن أن يحتسب الثواب من الله - عز وجل - في كل ما يصيبه (¬4). رابعا: من أساليب الدعوة: الترغيب: ظهر في هذا الحديث أسلوب الترغيب في قوله - صلى الله عليه وسلم - في شأن حارثة بن سراقة ¬
رضي الله عنه: «إنها جنان كثيرة في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى» وهذا يبين أن كل من خرج في سبيل الله - عز وجل - فقتل فهو شهيد، ولو برمية طائشة، وأن منازل الشهداء في الفردوس الأعلى (¬1) فينبغي للداعية إلى الله - عز وجل - أن يرَغِّبَ المدعوين، ويبيِّن لهم ما أعد الله لعباده في جنات النعيم؛ لأن معرفة ما أعده الله للمؤمنين في الجنة تهوِّن المصائب (¬2). خامسا: من أساليب الدعوة: الاستفهام الإنكاري: إن الاستفهام الإِنكاري من الأساليب النافعة في الدعوة إلى الله، سبحانه وتعالى، وقد ظهر هذا الأسلوب في هذا الحديث؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأم الربيع: «ويحك أَوَهبلت؟ أوجنة واحدة هي؟» قال العلامة العيني رحمه الله: " الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإِنكار، والواو للعطف " (¬3). وهذا يبين للداعية أهمية أسلوب الاستفهام الإِنكاري في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى عند الحاجة إليه (¬4). سادسا: أهمية الخوف من عذاب الله عز وجل: إن الخوف من الله - عز وجل - وعذابه وانتقامه من أهم الصفات الحميدة التي ينبغي لكل مسلم أن يتصف بها وخاصة الدعاة إلى الله، عز وجل، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث؛ لخوف أم الربيع - رضي الله عنها - على ابنها حارثة من عذاب الله عز وجل. قال ابن العربي - رحمه الله - في فوائد هذا الحديث: " حمل أم حارثة كثرة الإِشفاق على الخوف عليه وقد مات مجاهدا مسلما، فلم تقنع بهذا الظاهر، مخافة من العذاب بذنوبه، فأعطاها النبي - صلى الله عليه وسلم - اليقين بنجاته (¬5). وينبغي للداعية أن يقرن الخوف بالرجاء: يخاف الله، ويرجو ثوابه ورحمته ¬
ورضوانه، وقد بين الله - عز وجل - أن ذلك من صفات المؤمنين فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 57 - 58] (¬1) وقال عز وجل: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] (¬2). سابعا: من أصناف المدعوين: النساء: لا شك أن الداعية يدعو إلى الله - عز وجل - جميع أصناف الناس، ولكن المقصود: هو استخراج فوائد الحديث الدعوية وإبرازها للاستفادة منها، فقد دل هذا الحديث على أن النساء من أصناف المدعوين؛ ولهذا بين - صلى الله عليه وسلم - لأم الربيع ما أعده الله لابنها من الكرامة والفوز العظيم، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعظ النساء ويذكرهن، فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار " فقالت امرأة منهن جزلة: ما لنا يا رسول الله، أكثر أهل النار؟ قال: " تكثرن اللعن وتكفرن العشير» (¬3). فينبغي للداعية أن يعتني بأصناف المدعوين ويخاطب كلا على قدر فهمه وعقله، ولكن عليه أن ينتبه للضوابط الشرعية، فلا يخلو بالمرأة غير المحرم، ولا ينظر إلى ما حرم الله عليه، ولا يعرّض نفسه للتهم والريب، ومواطن الشبه. ¬
باب فضل قول الله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
19 - باب فَضْلِ قَوْل اللهِ تعالى {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169 - 171] (¬1). [حديث صبح أناس غداة أحد الخمر فقتلوا من يومهم شهداء وذلك قبل تحريمها] 32 - [2815] حَدَّثَنَا عَليّ بْن عَبدِ اللهِ: حَدَّثَنَا سفْيان، عَنَ عَمْرٍو: سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ (¬2) رضي الله عنه يَقول: " اصْطَبَحَ نَاس الْخَمْرَ يَوْمَ أحدٍ، ثمَّ قتِلوا شهَدَاءَ، فَقيْلَ لِسفْيَانَ: مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ قَالَ: لَيْسَ هَذَا فِيهِ " (¬3). وفي رواية: " صَبّحَ أناس غَدَاةَ أحدٍ الْخَمْرَ فَقتِلوا مِنْ يَوْمِهمْ جَمِيعا شهَدَاءَ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمهَا " (¬4). * شرح غريب الحديث: * " اصطبح الخمر " اصطبح الخمر أناس: أي شربوها أول النهار يوم أحد، ثم قتلوا في ذلك اليوم ولم تكن الخمر قد حرمت يومئذ (¬5). ¬
* " الخمر " اسم لكل مسكر خامر العقل: أي غطاه (¬1). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من خصائص الإسلام: رفع الحرج. 2 - من أساليب الدعوة: التدرج. 3 - من تاريخ الدعوة: ذكر تحريم الخمر بعد غزوة أحد. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من خصائص الإسلام: رفع الحرج: دل هذا الحديث على أن من خصائص الإِسلام رفع الحرج عن هذه الأمة؛ لأن الإنسان لا يؤاخذ بفعل المباح قبل التحريم؛ قال العلامة العيني رحمه الله: "الخمر التي شربوها ذلك اليوم لم تضرهم؛ لأنها كانت مباحة في وقت شربها؛ وقد أثنى الله عليهم بعد موتهم، ورفع عنهم الخوف والحزن " (¬2). فمن رحمة الله تعالى أنه لا يؤاخذ عباده على فعل ما لم يحرمه عليهم؛ قال الله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (¬3) والحمد لله رب العالمين (¬4). ثانيا: من أساليب الدعوة: التدرج: لا شك أن هذا الحديث دل على التدرج في تحريم الخمر؛ لأنها كانت مباحة زمنا في أول الإِسلام ثم حرمت في سنة ثلاث من الهجرة، ولا شك أن القرآن قد بين التدرج في تحريمها، فأنزل الله - عز وجل - تحريم الخمر على ثلاثة أوجه: 1 - أنزل عز وجل قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] (¬5). ¬
2 - ثم أنزل قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] (¬1) فقالوا: لا نشربها عند قرب الصلاة. 3 - ثم أنزل الله عز وجل قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] (¬2) فحرمت إلى يوم القيامة (¬3). وهذا يبين أهمية التدرج في الدعوة على حسب الأحوال والأزمان، والمدعوين (¬4) ولهذا قالت عائشة - رضي الله عنها - في التدرج في نزول القرآن: " إنما نزل أول ما نزل منه سور من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا. . . " (¬5). ثالثا: من تاريخ الدعوة: ذكر تحريم الخمر بعد غزوة أحد: دل الحديث على تاريخ الدعوة إلى تحريم الخمر تحريما مؤبدا، وذلك أن تحريمها كان بعد غزوة أحد، في شهر شوال، سنة ثلاث من الهجرة (¬6). ¬
باب الجنة تحت بارقة السيوف
22 - باب: الجنة تحت بارقة السيوف وَقَالَ الْمغِيرَة بْن شعْبَةَ: أَخْبَرَنَا نَبِيّنَا - صلى الله عليه وسلم - عنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا: «مَنْ قتِلَ مِنَّا صارَ إِلَى الجَنَّةِ». وَقَالَ عمَر للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَليْسَ قتْلاَنا فِي الجَنَّةِ وَقَتْلاَهمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: " بَلَى ".» [حديث من قتل منا صار إلى الجنة] 33 - [2818] حَدَّثَنَا عَبْد اللهِ بن محَمَّدٍ: حَدَّثَنَا معَاوِيَة بْن عَمْرو: حَدَّثَنَا أبو إسْحَاقَ، عَنْ موسَى بْنِ عقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ أَبي النَّضْرِ مَوْلَى عمَرَ بْنِ عبَيدِ اللهِ - وَكَانَ كَاتِبَه - قَالَ: كَتَبَ إِليْهِ عَبْد اللهِ بْن أَبِي أَوفَى (¬1) رضي الله عنهما أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «وَاعْلَموا أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السّيوفِ» (¬2). تَابَعَه الأويسِيّ، عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنادِ، عَنْ موسَى بْنِ عقْبَةَ. وفي رواية: ". . أَنَّ عَبْد اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى كَتَبَ فَقَرَأْته: أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «إِذَا لَقيتموهمْ فَاصْبِروا». . " (¬3). وفي رواية: «أَنَ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقيَ فِيْهَا انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْس، ثمَّ قَامَ فِي النَّاسِ» (¬4). وفي رواية: " ثمَّ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبا قَال: «أيها النَّاسَ لاَ تَتَمنَّوْا لِقَاءَ الْعَدوِّ، وسَلوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فِإِذَا لَقيتموهمْ فَاصْبِروا، وَاعْلَموا أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السّيوفِ»، ثم قَالَ: «اللَّهمْ منْزِلَ الْكِتَابِ، وَمجْرِيَ السَّحَاب، وَهَازِمَ الأَحْزَاب ¬
اهْزِمْهمْ وَانْصرْنَا عَليْهمْ» (¬1). * شرح غريب الحديث: * " الجنة تحت ظلال السيوف " هو كناية عن الدّنوِّ من القتال في الجهاد حتى يعلوه السيف ويصيرَ ظله عليه، والظِّلّ: الفَيء الحاصل من الحاجز بينك وبين الشمس (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من وسائل الدعوة إلى الله: الكتابة. 2 - من موضوعات الدعوة: الحث على سلوك الأدب وتعليم المدعوين ما يحتاجون إليه. 3 - من وسائل الدعوة: مراعاة نشاط المدعو. 4 - من أساليب الدعوة: التشبيه. 5 - من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد. 6 - من موضوعات الدعوة: الحث على الدعاء. 7 - من صفات الداعية: الصبر. 8 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 9 - من وسائل الدعوة: اغتنام التذكير عند الحوادث الملمة. 10 - من وسائل الدعوة: الخطابة. 11 - من صفات الداعية: التواضع. 12 - من أسباب نصر الداعية: الدعاء. والحديث عن هذه الدروس والفوائد على النحو الآتي: أولا: من وسائل الدعوة إلى الله: الكتابة: دل الحديث على أن الكتابة من وسائل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ ¬
لأن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - كتب إلى مولى عمر بن عبيد الله: «واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» وهذا يبين للدعاة أن الكتابة من: الكتاب، والرسالة، والمقال، من أهم وسائل الدعوة إلى الله تعالى؛ وقد جاءت رواية مسلم ". . . عن أبي النضر عن كتاب رجل من أسلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له عبد الله بن أبي أوفى، فكتب إلى عمر بن عبيد الله حين سار إلى الحرورية. . . " (¬1). قال الإمام النووي رحمه الله على قوله: " عن أبي النضر عن كتاب رجل من أسلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. . . " قال: قال الدارقطني: " واتفاق البخاري ومسلم على روايته حجة في جواز العمل بالمكاتبة، والإجازة. . . وبه قال جماهير العلماء " (¬2). ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحث على سلوك الأدب وتعليم المدعوين ما يحتاجون إليه: ظهر في هذا الحديث أن الحث على سلوك الأدب، وتعليم المدعوين ما يحتاجون إليه من الموضوعات المهمة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حث على ذلك بقوله وفعله، فقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن تمنِّي لقاء العدو، وحث على الصبر عند اللقاء، وَرَغَّبَ أصحابه في الجنة، وبين لهم بفعله - صلى الله عليه وسلم - أهمية الدعاء، وآدابه، لأنه دعا الله - عز وجل - بما يناسب حاجته في قوله: «اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم»؛ قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عند ذكره لفوائد هذا الحديث: ". . . فيه وصية المقاتلين بما فيه صلاح أمرهم، وتعليمهم ما يحتاجون إليه، وسؤال الله بصفاته العلى، وبنعمه السالفة، والحث على سلوك الأدب وغير ذلك " (¬3). ثالثا: من وسائل الدعوة: مراعاة نشاط المدعو: في هذا الحديث دلالة واضحة على أنه ينبغي للداعية أن يراعي أوقات نشاط المدعو؛ فقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس ثم قاتل قال الإمام النووي رحمه الله: " قال العلماء سببه أنه أمكن للقتال؛ فإنه وقت ¬
هبوب الريح، ونشاط النفوس، وكلما طال ازدادوا نشاطا وإقداما على عدوهم " (¬1). وهذا يوضح للداعية أهمية مراعاة أحوال النشاط عند المدعوين؛ لأن هذا من أهم وسائل الدعوة إلى الله عز وجل. (¬2). رابعا: من أساليب الدعوة: التشبيه: لا شك أن التشبيه يقرب المراد ويوصله إلى ذهن السامع؛ ولهذا كان التشبيه من الأساليب النافعة في الدعوة إلى الله تعالى، ويؤخذ هذا الأسلوب في هذا الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» قال الإمام ابن الأثير رحمه الله: " وهذا من باب الكناية والاستعارة، وهو حث على الجهاد؛ لأن الإنسان يميل إلى الظل طلبا للراحة، فقيل له: إن الجنة تحت ظلال السيوف، فمن أرادها فليدخل تحت السيف، بأن يحمله ويقاتل به، ويصبر على ألم وقعه " (¬3). وهذا يبين أهمية أسلوب التشبيه في الدعوة إلى الله عز وجل (¬4). خامسا: من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد: دل هذا الحديث على أن الحث والحض على الجهاد من موضوعات الدعوة إلى الله عز وجل، وقد ظهر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» قال الإمام القرطبي رحمه الله: ". . . استفيد منه مع وجازته الحض على الجهاد، والإخبار بالثواب عليه، والحض على مقاربة العدوِّ، واستعمال السيوف. . . " (¬5). وهذا يبين أهمية الجهاد والحض عليه، وأنه من موضوعات الدعوة إلى الله عز وجل (¬6). ¬
سادسا: من موضوعات الدعوة: الحث على الدعاء: إن من الموضوعات المهمة: الحض على الدعاء، والإكثار منه في الرخاء والشدة، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تتمنوا لقاء العدوِّ وسلوا الله العافية»، وهذا يؤكد أهمية الدعاء والإِلحاح فيه (¬1). سابعا: من صفات الداعية: الصبر: الصبر من الصفات الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها الداعية إلى الله، عز وجل، وقد دل هذا الحديث على هذه الصفة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا لقيتموهم فاصبروا» قال الإمام ابن أبي جمرة - رحمه الله: " أي إذا قابلتم المشركين فاثبتوا، وقفوا؛ لأن الثبات عند المقابلة: هو المطلوب، والفرار من كبائر الذنوب، وفيه دليل على الصبر عند نزول المحنة " (¬2) ولا شك أن لقاء العدو فيه ابتلاء وامتحان؛ ولهذا أمِرَ بالصبر فيه (¬3). وهذا يبين أهمية الصبر في الدعوة إلى الله عز وجل (¬4). ثامنا: من أساليب الدعوة: الترغيب: في هذا الحديث دليل على الترغيب في الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لأن بالجهاد تحصل الشهادة، والشهيد في أعلى درجات الجنة؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» قال الإمام القرطبي رحمه الله: " هذا من الكلام البديع النفيس الذي جمع ضروب البلاغة: جزالة اللفظ وعذوبته، وحسن استعارته وشمول المعاني الكثيرة مع الألفاظ المعسولة الوجيزة " ثم قال: " فإنه استفيد منه مع وجازته الحض على الجهاد والإخبار بالثواب عليه " (¬5). ومعلوم أن الترغيب يجذب القلوب إلى المرغب فيه، فينبغي أن يعتني به الداعية إلى الله عز وجل (¬6). ¬
تاسعا: من وسائل الدعوة: اغتنام التذكير عند الحوادث الملمة: دل الحديث على أن من وسائل الدعوة اغتنام التذكير عند الحوادث العظيمة ونحوها التي تقع؛ لأن المدعو في الغالب يستفيد من ذلك؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكَّر أصحابه في هذا الحديث ووعظهم عند إرادة القتال؛ قال الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله: " وفيه دليل على التذكار عند نزول الحوادث الملمة، وإن كان من نزل به ذلك عارفا بها؛ لأن التذكار زيادة قوة للمذكّر وإن كان عارفا بذلك " (¬1). ومثل هذا ما ثبت عن أبي بكر - رضي الله عنه - عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قام في الناس وخطبهم، وذكرهم قَولَه تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] (¬2) فكأنهم سمعوها أول مرة، فتسلَّوا بها، وقوي بها إيمانهم ويقينهم، فما سَمِع أحد بشرا منهم إلا وهو يتلوها، مع أن العلم كان لهم بها قبل ذلك (¬3). وهذا يدل على أهمية التذكير عند الحوادث والمصائب الحاصلة للمدعوين، ولكن بالحكمة. أسأل الله لي ولِجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة. عاشرا: من وسائل الدعوة: الخطابة: إن الخطابة من أهم وسائل الدعوة إلى الله، عز وجل، لقول عبد الله بن أبي أوفى في هذا الحديث: " ثم قام في الناس خطيبا، قال: «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو». فينبغي للداعية أن يعتني بوسيلة الخطابة حتى ينفع الناس (¬4) وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس خطبا دائمة ثابتة: كخطبة يوم الجمعة، وخطبا عارضة إذا دعت الحاجة إليها، قام فخطب - صلى الله عليه وسلم - وهذه كثيرة جدا (¬5). ¬
الحادي عشر: من صفات الداعية: التواضع: لا ريب أن مفهوم الحديث يدل على أن التواضع من الصفات التي ينبغي أن تتوفر في الداعية إلى الله، عز وجل، وهذا يظهر من نهيه صلى الله عليه وسلم عن تمني لقاء العدو؛ قال الإمام النووي - رحمه الله: " إنما نهى عن تمني لقاء العدو؛ لما فيه من صورة الإِعجاب والاتكال على النفس، والوثوق بالقوة، وهو نوع بغي، وقد تضمن الله لمن بغي عليه أن ينصره؛ ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره، وهذا يخالف الاحتياط والحزم " (¬1). وهذا يوضح أهمية التواضع والخشوع لله وحده، وطلب العون منه عز وجل (¬2). الثاني عشر: من أسباب نصر الداعية: الدعاء: إن في هذا الحديث دلالة على أهمية الدعاء، وسؤال الله - عز وجل - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيه: «اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم» وقد ذكر الإمام النووي والحافظ ابن حجر رحمهما الله: أن مما يستفاد من هذا الحديث: استحباب الدعاء عند اللقاء والاستنصار (¬3). ومما يدل على أن الدعاء من أسباب النصر قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أيضا: «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدوِّ واسألوا الله العافية» قال الإمام النووي رحمه الله: " وقد كثرت الأحاديث في الأمر بسؤال العافية، وهي من الألفاظ العامة المتناولة لرفع جميع المكروهات: في البدن، والباطن، في الدين، والدنيا والآخرة " (¬4). وقد جمع الله - عز وجل - أسباب النصر على الأعداء في قوله سبحانه وتعالى: ¬
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ - وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 45 - 47] (¬1). فقد ذكر عز وجل ستة أسباب من أسباب النصر: الثبات، وذكر الله كثيرا، وطاعة الله ورسوله، وعدم التنازع، والصبر، والتواضع وعدم الكبر. فينبغي للمسلم وخاصة الدعاة: أن يعتنوا بالدعاء والذكر، ولا يغفلوا عن أسباب النصر التي ذكرها الله - عز وجل - وبينها رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ¬
باب من طلب الولد للجهاد
23 - باب من طلب الولد للجهاد [حديث نبي الله سليمان لأطوفن الليلة على مائة امرأة] 34 - [2819] وَقالَ اللَّيث: حَدَّثَني جَعْفَر بْن رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بنِ هرْمزَ قَالَ: سَمعْت أَبَا هرَيْرَةَ (¬1) رضي الله عنه، عَنْ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَالَ سلَيْمَان بْن دَاودَ عَلَيهِمَا السَّلَام: لأَطوفَنَّ اللَّيْلةَ عَلَى مِائة امْرَأَةٍ - أَوْ تِسْعٍ وتسعِينَ - كلهنَّ يَأْتي بِفَارِسٍ يجَاهِد فِي سَبيلِ اللهِ. فَقَالَ لَه صَاحِبه: قلْ: إِنْ شَاءَ الله، فَلَمْ يَقلْ إِنْ شَاءَ الله، فَلَمْ تَحْمِلْ منْهن إِلا امْرَأَة وَاحِدَة جَاءَتْ بشِقِّ رَجلٍ. وَالَّذِي نَفْس محَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ الله، لَجَاهَدوا فِي سبِيلِ اللهِ فرسَانا أَجْمَعونَ» (¬2). وفي رواية: «فَقَالَ لَه المَلَك: قلْ إِنْ شَاءَ الله، فَلَمْ يَقلْ وَنَسِيَ، فَأَطَافَ بِهِنَّ وَلَم تَلِدْ مِنْهنَّ إِلا امْرَأَة نِصْفَ إِنْسَانٍ فَقَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ الله لَمْ يَحْنثْ وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ» (¬3). وفي رواية: «فَقَالَ لَه صَاحِبه: قَالَ سفْيَان: يَعني الْمَلَكَ، قلْ إِنْ شَاءَ الله فَنَسِيَ». وفيها: «لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ الله لم يَحْنَثْ وَكَانَ دَرَكا فِي حَاجَتِهِ» (¬4). * شرح غريب الحديث: * " شق رجل " الشق النصف (¬5). * " لم يحنث " الحنث في اليمين: نقضها والنكث فيها، يقال: حنث في يمينه يحنث، وكأنه من الحِنث: الإِثم والمعصية (¬6). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - حرص الأنبياء على الجهاد في سبيل الله عز وجل. 2 - أهمية قول المسلم: إن شاء الله لما يريد عمله في المستقبل. 3 - عمل الأسباب لا ينافي التوكل. 4 - من أساليب الدعوة: القصص. 5 - حرص السلف على الدقة في نقل الحديث. 6 - من صفات الداعية: النية الصالحة. 7 - من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم. 8 - أهمية تذكير الناسي ولو كان عظيما. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: حرص الأنبياء على الجهاد في سبيل الله عز وجل: إن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - هم أحرص الناس على الجهاد في سبيل الله عز وجل لإِعلاء كلمة الله؛ ولهذا قال سليمان - صلى الله عليه وسلم -: «لأطوفن الليلة على- مائة امرأة- أو تسع وتسعين- كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله»، وهذا يؤكد الحرص العظيم على الجهاد؛ لأنه قصد بإتيانه لأهله الرغبة في الحصول على المجاهدين، ولكن الله - عز وجل - لم يرد له هذا فلم يقل: " إن شاء الله ". فينبغي للداعية أن يكون حريصا على الجهاد، ويستصحب النية للإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل. ثانيا: أهمية قول المسلم: إن شاء الله لما يريد عمله في المستقبل: دل هذا الحديث على أهمية قول المسلم: إن شاء الله؛ لما يخبر بعمله في المستقبل؛ ولهذا لما نسي سليمان - صلى الله عليه وسلم - أن يقولها يحصل له ما أراد؛ ولأجل ذلك قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله» وفي الرواية الأخرى: «لو قال إن شاء الله لم يحنث، وكان دركا لحاجته». وقد أمر الله بذلك فقال عز وجل: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23]
{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] (¬1) وهذا يوضح للداعية أهمية هذا الأدب وأنه ينبغي له العمل به (¬2). ثالثا: عمل الأسباب لا ينافي التوكل: لا شك أن عمل الأسباب لا بد منه، ولكن لا بد مع الأسباب من اعتماد القلب على الله - عز وجل - قال ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث فضل فعل الخير وتعاطي أسبابه " (¬3). وهذا سليمان - صلى الله عليه وسلم - يفعل ما أقسم عليه من طوافه على أهله، وهذا من أعظم الأسباب للحصول على الذرية، فينبغي للداعية إلى الله تعالى أن يأخذ بالأسباب ويعتمد قلبه على الله - عز وجل - وحده (¬4). رابعا: من أساليب الدعوة: القصص: القصص من القرآن الكريم، والحديث الصحيح من أهم أساليب الدعوة؛ لما له من التأثير في النفوس، وقد دل هذا الحديث على هذا الأسلوب، فقص علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة سليمان وما فيها من قدرة الله تعالى، فيحسن ويجمل للداعية أن يعتني بهذا الأسلوب عناية فائقة؛ لما له من الأهمية (¬5). خامسا: حرص السلف على الدقة في نقل الحديث: دل الحديث على عناية السلف الصالح عناية فائقة بنقل الحديث وتبليغه؛ وقد ثبت في هذا الحديث قول سليمان - صلى الله عليه وسلم -: «لأطوفن الليلة على مائة امرأة- أو تسع وتسعين» قال الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله: " شَكّ من راوي الحديث في أيهما قال عليه السلام " (¬6) وهذا يوضح للدعاة إلى الله - عز وجل - أهمية ضبط الحديث ونقله بدقة كما فعل السلف رحمهم الله (¬7). ¬
سادسا: من صفات الداعية: النية الصالحة: النية الصالحة من أعظم الصفات الحميدة، وقد دل عليها هذا الحديث، وذلك في قول سليمان - صلى الله عليه وسلم -: «. . كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله»؛ ولهذا بيَّن الإِمام ابن أبي جمرة - رحمه الله - في فوائد هذا الحديث: أن سليمان - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك: " تقوية رجاءٍ منه وإبلاغ في حسن النية؛ لأنه قد تقرر أن نية المؤمن أبلغ من عمله، فهو ينوي ما استطاع أن يعقد النية عليه، فإن قدر عليه فبها ونعمت، وإن عجز فقد حصل له أمر النية " (¬1) وإذا فعل المسلم ذلك وخاصة الدعاة إلى الله - عز وجل - صار كثير من الأعمال المباحة والملاذ مستحبا بالنية والقصد الحسن (¬2) والله المستعان (¬3). سابعا: من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم: التوكيد بالقسم من الأساليب المهمة التي تقرب المعاني إلى الأذهان، وتثبتها في القلوب، وتحملها على التصديق، وقد ظهر ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله» وفي قول سليمان - صلى الله عليه وسلم -: «لأطوفن الليلة على مائة امرأة». فينبغي للداعية أن يعتني بهذا الأسلوب في دعوته إلى الله - عز وجل - عند الحاجة إليه (¬4). ثامنا: أهمية تذكير الناسي ولو كان عظيما: ظهر في هذا الحديث تذكير الملك لسليمان حينما لم يقل إن شاء الله بقوله " قل إن شاء الله " وهذا يبين أهمية تذكير الناسي ولو كان عظيما، وقد قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني» (¬5) ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - أفضل الخلق، وأنه معصوم فيما يبلغه عن الله عز وجل. فينبغي للداعية بل لكل مسلم أن يذكِّر الناسي ولو كان عظيما، لما لذلك من الأهمية البالغة، والفوائد النافعة. ¬
باب الشجاعة في الحرب والجبن
24 - باب الشجاعة في الحرب والجبن [حديث لو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم] 35 - [2821] حَدَّثَنَا أَبو الْيَمَانِ: أَخبرنَا شعَيْب، عَنِ الزّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عمَر بْن محَمَّدِ بْنِ جبَيْرِ بْنِ مطْعِمٍ: أَنَّ محَمّدَ بْنَ جبَيْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جبير بن مطعم (¬1) أَنَّه بَيْنَمَا هوَ يَسير مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومَعَه النَّاس مَقْفَلَه مِنْ حنَيْنٍ، فَعَلِقَه النَّاس يَسْألونَه حَتَّى اضْطَرّوه إِلَى سَمرَةٍ فخَطِفتْ رِدَاءَه، فوَقف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: «أَعطوني رِدَائي، لَوْ كَانَ لي عَدَد هَذِهِ العِضَاهِ نَعَما لَقَسَمْته بينَكمْ، ثمَّ لَا تَجِدوني بَخِيلا، وَلا كَذوبا، وَلَا جَبَانا» (¬2). وفي رواية: «. . . وَمَعَه النَّاس مقْبِلا مِنْ حنَيْنٍ عَلِقتْ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الأَعْرَاب، يسألونه. . .» (¬3). * شرح غريب الحديث: * " مَقْفَلة من حنين " القفول: الرجوع من السفر، وقيل القفول: رجوع الجند بعد الغزو، والمعنى: عند رجوعه من غزوة حنين سنة ثمان للهجرة، وحنين وادٍ بين مكة والطائف (¬4). ¬
* " علقت " وفي رواية: " فعلقه الناس ": نشبوا وتعلَّقوا به، وقيل: طفقوا (¬1). * " اضطروه ": ألجؤوه، يقال: قد اضطر إلى الشيء: أي ألجئ إليه، والاضطرار إلى الشيء: الاحتياج إليه (¬2). * " سمرة " السمرة: ضرب من الشجر صغار الورق قصار الشوك، وله بَرَمَة صفراء يأكلها الناس، وهي من شجر الطلح، وليس في العضاه شيء أجود خشبا من السمر (¬3). * " العضاه " العضاه: كل شجر عظيم له شوك، وقيل: شجر الشوك: كالطلح، والعوسج، والسدر (¬4). * " نعما ": إبلا. وقيل: الإبل، والبقر، والغنم (¬5). والراجح والله أعلم أنه عام في الأنواع الثلاثة؛ لقوله عز وجل: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] (¬6) وقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21] (¬7). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة. 2 - من صفات الداعية: الحلم. 3 - من صفات الداعية: الكرم. ¬
4 - من صفات الداعية: الصدق. 5 - من صفات الداعية: الشجاعة. 6 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 7 - تعريف الداعية نفسه عند الحاجة. 8 - أهمية الوعد بالخير. 9 - من موضوعات الدعوة: الحث على مكارم الأخلاق. 10 - من أصناف المدعوين: الأعراب. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة: دل هذا الحديث على أن الأعراب لم يلتزموا الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينبغي لهم ذلك، ودل الحديث بمفهومه على أنه ينبغي للمدعو أن يلتزم الأدب مع الدعاة والعلماء، ويستفيد مما يسمع منهم، وقد أمر الله المؤمنين أن يلتزموا الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ - إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ - إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ - وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 1 - 5] (¬1). فالمدعو ينبغي له أن ينصت، ويصغي إلى ما يلقيه إليه الداعية أو العالم؛ لأن المدعو لا يستفيد من الداعية إلا إذا التزم الأدب، وصمت، واستمع، وعمل بما سمع، وبلَّغ ما سمع لغيره (¬2). ¬
ثانيا: من صفات الداعية: الحلم: ظهر في هذا الحديث: الحلم؛ فإن الأعراب سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ألجؤوه إلى شجرة السمر فخطفت رداءه، ومع هذا الأذى لم يغضب - صلى الله عليه وسلم - ولم يتضجَّر بل حلم عليهم، وصبر على أذاهم وجفائهم، وكم حدث له - صلى الله عليه وسلم - من الصبر على جفاة الأعراب وقلة أدبهم؟ ولم يعاقبهم بقوله ولا فعله عليه الصلاة والسلام (¬1) وهذا يعطي الداعية قدوة في الحلم وتَحَمّل الأذى والسكون عند الغضب أو المكروه مع القدرة، والقوة، والصفح والعقل (¬2). فينبغي للداعية أن يضبط نفسه عند هيجان الغضب، وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة؛ لما في كظم الغيظ من كتمان ومقاومة واحتمال؛ وقد مدح الله -تعالى - الكاظمين الغيظ ووعدهم بالجنة {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134] (¬3) ومما يزيد الداعية رغبة في الحلم وشوقا إلى الاتِّصاف به مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - الحلم وتعظيم أمره، وأنه من الخصال التي يحبها الله تعالى، قال - صلى الله عليه وسلم - للأشج: «إنَّ فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة» (¬4)؛ ولهذا الفضل العظيم قال الأشجّ رضي الله عنه: " الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله " (¬5). والحلم الممدوح الذي يحتاجه الداعية في دعوته هو حالة متوسطة بين رذيلتين: الغضب والبلادة، فإذا استجاب الداعية لغضبه بلا تعقل ولا تصبّر كان على رذيلة، وإن تبلَّد وضيَّع حقه ورضي بالهضم والظلم كان على رذيلة، وإن تحلَّى بالحلم وتخلَّق به مع القدرة، وكان حلمه مع من يستحقه كان على ¬
فضيلة، فإذا أصبح ذلك هيئة راسخة في النفس، وأصبح طبعا من طبائعها كان ذلك هو الحلم الواجب على الدعاة إلى الله تعالى، (¬1) وهذا يحتاج في بداية الأمر إلى جهاد وعزيمة، وقوة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس الشديد بالسرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب». (¬2). ثالثا: من صفات الداعية: الكرم: الجود والكرم من الصفات الحميدة؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: «. . . فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم»، وهذا يدل على كرمه وعظيم جوده وسخائه - صلى الله عليه وسلم - ويؤكد على الدعاة إلى الله تعالى الاقتداء به، وأن يكونوا كرماء أسخياء لا بخلاء أشحَّاء؛ فإن الداعية الكريم يجذب الناس إلى دعوته بفضل الله تعالى ثم بكرمه وجوده؛ ولهذا ما سئل - صلى الله عليه وسلم - على الإِسلام شيئا إلا أعطاه، وجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة (¬3) ولهذا قال أنس بن مالكَ رضي الله عنه: " إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإِسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها " (¬4) ومما يدل على فضل الجود والكرم وأنه من أعظم الأساليب التي ترغِّب الناس في قبول الدعوة، ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع صفوان بن أمية؛ فإنه أعطاه مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة، قال صفوان: «والله لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي» (¬5). والداعية ينبغي له أن يتصف بأنواع الجود والكرم كلها، فيجود بنفسه في ¬
طاعة الله وفي سبيل نشر الإسلام، ويجود برئاسته والإِيثار في قضاء حاجات الناس، ويجود براحته تعبًا في مصلحة غيره، ويجود بعلمه فينشره بين الناس، ويجود بجاهه فيشفع لأصحاب الحاجات، ويجود ببدنه في خدمهّ الناس والإِصلاح بينهم وإعانتهم ببدنه، ويجود بعرضه فيعفو عمَّن اغتابه أو سبَّه، ويجود بصبره فيصبر على أذى الناس، ويجود بالخلق الحسن وبشاشة الوجه والبسطة، ويجود بما في أيدي الناس عليهم فمزهد فيه، فلا يلتفت إليه، وكل أنواع الجود والكرم ينبغي أن يأخذ منها الداعية أكبر الحظ والنصيب، اقتداء بنبيه - صلى الله عليه وسلم - (¬1) والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، (¬2). رابعا: من صفات الداعية: الصدق: دل هذا الحديث على أن الصدق من الصفاتّ الحميدة؛ لِقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا. .»، وهذا يبيِّن للدعاة أن الصدق من الصفات التي ينبغي لهم أن يتصفوا بها، ويبيّن لهم قبح الكذب، وهو الإِخبار عن الشيء بخلاف ما هو سواء كان ذلك عمداَ أو جهلا، والإِثم يختص بالعمد (¬3). وينبغي لهم أن لا ينقلوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما صح عنه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذِبين» (¬4) فإذا صدق الداعية في القول والفعل، والنية كان من الرابحين (¬5). خامسا: من صفات الداعية: الشجاعة: الشجاعة مطلب كريم وخلق عظيم، وصفة نبيلة من صفات الدعاة الصادقين؛ ولهذا نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجبن عن نفسه، وهذا يدل على شجاعته «ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا» والشجاعة تحمل الداعية على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم؛ فإن الداعية بقوة نفسه وشجاعتها يمسك ¬
عنانها ويكبحها بلجامها عن النزع والبطش بغير حق (¬1) قال - صلى الله عليه وسلم -: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (¬2) قال العلامة العيني رحمه الله تعالى: " قال حكماء الإِسلام، للإنسان ثلاث قوى: العقلية، والغضبية، والشهوية: وكمال القوة الغضبية الشجاعة، وكمال القوة الشهوية الجود، وكمال القوه العقلية الحكمة " (¬3). فالداعية بحاجة إلى الاتصاف والتخلّق بخلق الشجاعة؛ لأنها تضبط نفسه عن الخوف عند مثيراته في النفس حتى لا يجبن الداعية في المواضع التي تحسن فيهما الشجاعة وتكون خيرا، ويقبح فيها الجبن ويكون شرّا (¬4) ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن أفضل الجهاد: «كلمة حق عند سلطان جائر» (¬5). وحقيقة شجاعة الداعية: هي الصبر والثبات والإِقدام على الأمور النافعة، وتكون شجاعة الداعية في الأقوال والأفعال، ولا بد أن تكون شجاعته موافقة للحكمة، وأعظم ما يمد ويقوي شجاعة الداعية: الإِيمان العميق، وقوة التوكل على الله، تعالى، وكمال الثقة به سبحانه، ومعرفته لأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومواقفه في الشجاعة القلبية والعقلية (¬6). والداعية يحتاج إلى أن يَتَمَرَّن على الإِقدام والتكلم بما في النفس، وإلقاء المقالات والخطب في المحافل بقصد نصر الحق وقمع الباطل، فمن مرن نفسه على ذلك لم يزل به الأمر حتى يكون ملكة له، وتزول هيبة الخلق من قلبه، فلا يبالي ألقى الخطب والمقالات في المحافل الصغار أو الكبار على العظماء أو غيرهم، وكذلك يمرِّن نفسه على لقاء الأعداء في ميادين القتال ¬
حتى تزول عنه المخاوف ولا يبالي بلقاء الأعداء بعد ذلك سواء كان ذلك في الجهاد باليد أو باللسان (¬1). سادسا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: القدوة الحسنة وسيلة من أعظم وسائل الدعوة إلى الله تعالى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قدوة الدعاة إلى الله تعالى، بل يجب على الناس أجمعين أن يقتدوا به - صلى الله عليه وسلم -، في أقواله، وأفعاله، وأخلاقه، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] (¬2) فهو عليه الصلاة والسلام، قدوة وأسوة عملية وقولية لأتباعه، فقد تخلَّق في هذا الحديث بأصول الأخلاق والحكمة: فحلم على الأعراب ولم يعاقبهم على إساءة الأدب معه - صلى الله عليه وسلم -، ومع هذا وعدهم خيرا، وبيَّن لهم وسيلة أخرى من وسائل الإِيضاح فقال: «لو كان لي عَدَد هذه العضاه نَعَما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا». وهذا كله يدل على رغبته - صلى الله عليه وسلم - في أن يقتدي به الناس في هذه الأخلاق الكريمة (¬3). سابعا: تعريف الداعية نفسه عند الحاجة: الداعية إذا احتاج إلى ذكر صفاته الحميدة فلا حرج في ذلك عند الحاجة أو عند انتفاع المدعوين بذلك؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «. . ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا»، قال العلامة الملاّ على القاري رحمه الله: " فيه دليل على جواز تعريف نفسه بالأوصاف الحميدة لمن لا يعرفه؛ ليعتمد عليه " (¬4). ثامنا: أهمية الوعد بالخير: يدل الحديث على أن الوعد الحسن بالمال تأليفا به من أساليب الدعوة؛ ¬
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بين أنه لا يبخل عليهم إذا وجد مالا؛ قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثم لا تجدوني بخيلا»، وقد ذكر الله - تعالى - الوعد الحسن وحثّ عليه لمن لم يجد مالا فقال سبحانه: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء: 28] وقد نظر - صلى الله عليه وسلم - إلى أحوال المدعوين وأنهم من الأعراب الجفاة فلم يعاقبهم على سوء أدبهم معه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يبيّن، ويوضح لأتباعه أهمية الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم -. تاسعا: من موضوعات الدعوة: الحث على مكارم الأخلاق: في هذا الحديث الشريف دعوة للأمة للتحلِّي بمكارم الأخلاق، وأصول الحِكَم، فقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - جميع الناس في هذا الحديث وفي غيره إلى التحلي بالشجاعة، والكرم، والجود، والصدق، والصبر والتحمل (¬1) وذلك بفعله وقوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن فعله وتقريره، وقوله دعوة لأمته. ودعا الناس في هذا الحديث إلى ترك الكذب، والبخل، والجبن، وذلك بنفيها عن نفسه والتنفير عن هذه الأخلاق الذميمة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا»؛ قال العلامة العيني، رحمه الله تعالى: " وهذا من جوامع الكلم إذ أصول الأخلاق: الحكمة، والكرم، والشجاعة. وأشار بعدم الكذب إلى كمال القوة العقلية: أي الحكمة، وبعدم الجبن إلى كمال القوة الغضبية: أي الشجاعة، وبعدم البخل إلى كمال القوة الشهوية: أي الجود، وهذه الثلاث هي أمهات فواضل الأخلاق، والأول هو مرتبة الصِّدِّيقين، والثاني هو مرتبة الشهداء، والثالث هو مرتبة الصالحين اللهم اجعلنا منهم " (¬2). ودعا - صلى الله عليه وسلم - الأمة كلها جمعاء إلى العمل بهذه المكارم، وحذرها تعريضا وتلميحا في هذا الحديث من مساوئ ومفاسد الأخلاق الذميمة؛ فإن الداعية يجب عليه أن يبتعد عنها وخاصة هذه الخصال المذكورة في الحديث: ¬
البخل، والكذب، والجبن، والطيش وعدم التحمل (¬1). عاشرا: من أصناف المدعوين: الأعراب: لا شك أن الأعراب من أصناف المدعوين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتنى بدعوتهم، وراعى أحوالهم، وبين لهم بفعله وقوله مكارم الأخلاق في هذا الحديث، فحلم عنهم، وقال: «. . . لو كان لي عدد هذه العضاه نَعَما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني: بخيلا، ولا كذوبَاَ، ولا جبانا»، وهذا فيه تعليم للأعراب وإحسان إليهم مع شدتهم وجفائهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما جاء في هذا الحديث: «علقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة خطفت رداءَه. . .» فينبغي الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مراعاة أحوال الأعراب والعفو عنهم (¬2). ¬
باب ما يتعوذ من الجبن
25 - باب ما يتعوذ من الجبن [حديث تعوذه صلى الله عليه وسلم دبر الصلاة] 36 - [2822] حَدَّثَنَا موسَى بْن إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا أَبو عَوَانَةَ: حَدَّثَنَا عَبْد المَلِكِ بْن عمَيرٍ قَالَ: سَمِعْت عَمْرَو بْنَ مَيمونٍ الأَوْدِيَّ قَالَ: " كَانَ سَعْد (¬1) يعلِّم بَنِيهِ هَؤلاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يعَلِّم الْمعَلم الْغِلْمَانَ الْكِتَابةَ، وَيَقول: إِنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَعوَّذ مِنْهنَّ دبرَ الصَّلاَةِ: «اللَّهمَّ إِنِّي أَعوذ بِكَ مِنَ الجبْنِ، وَأَعوذ بِكَ أَنْ أرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العمرِ، وَأَعوذ بكَ مِنْ فِتْنَةِ الدّنْيَا، وَأَعوذ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ»، فَحدَّثْت بِهِ مصعَبا فصدَّقه " (¬2). وفي رواية: " كَانَ سَعْد يَأْمر بِخَمْسٍ، وَيَذْكرهنَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كَانَ يَأْمر بهِنَّ: «اللَّهمَّ إِنِّي أَعوذ بِكَ مِنَ الْبخْلِ، وَأَعوذ بِكَ مِنَ الْجبْنِ، وأَعوذَ بِكَ أَنْ أرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعمرِ، وَأَعوذ بكَ مِنْ فِتْنَةِ الدّنْيَا- يَعْنِي فِتْنَةَ الدَّجَّالِ- وَأَعوذ بكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبر» (¬3). وفي رواية: عن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: «كَانَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يعَلِّمنَا ¬
حديث تعوذه صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل
هَؤلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا تعَلَّم الْكِتَابة. .» (¬1). [حديث تعوذه صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل] 37 - [2823] حَدَّثَنَا مسَدَّد: حَدَثَنَا معتَمِر قَالَ: سَمِعْت أَبِي قَالَ: سَمِعْت أَنَسَ بْنَ مَالِك (¬2) رضي الله عنه يقول: كَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَقول: «اللَّهمَّ إِنِّي أَعوذ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالكَسَلِ، والجبْنِ والْهَرَم، وأَعوذ بكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَعوذ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» (¬3). وفي رواية: «اللَّهمَّ إِنِّي أعوذ بِكَ مِنَ الْكَسَل، وَأَعوذ بكَ مِنَ الْجبْنِ، وَأَعوذ بِكَ مِنَ الْهَرَمِ، وَأَعوذ بِكَ مِنَ البخْلِ» (¬4). وفي رواية: أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَدْعو: «أَعوذ بِكَ مِنَ الْبخْلِ وَالْكَسَلِ، وأَرْذَلِ العمرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وفتْنَةِ الْمَحْيَا وَالمَمَاتِ» (¬5). * شرح غريب الحديث: * " أرذل العمر " آخره في حال الكِبَرِ والعجز والخرف، والأرذل من كل شيء: الرديء منه (¬6). * " الفتنة " الابتلاء والاختبار، والامتحان، وأصل الفتنة من قولك: فتنت الذهب إذ أحرقته بالنار؛ ليتبيَّن الجيد من الرديء، وقد كثر استعمالها بمعنى: الإِثم، والكفر، والضلال، والقتال، والإِحراق، والإِزالة، والصرف عن ¬
الشيء، والفضيحة، والعذاب، والجنون (¬1). * " الهرم " الكِبَرِ (¬2). * الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: النشاط. 2 - من صفات الداعية: الشجاعة. 3 - من صفات الداعية: الكرم. 4 - من صفات الداعية: الحرص على تعليم الناس الخير. 5 - أهمية العناية بالأهل والأقارب. 6 - من صفات الداعية: الالتجاء إلى الله عز وجل. 7 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 8 - من موضوعات الدعوة: تعليم المدعوين الدعاء والأذكار. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: النشاط: دل مفهوم الحديث الثاني على أن النشاط من الصفات الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها المسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل؛ ولهذا استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من ضد النشاط فقال: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل»؛ وذكر العلامة العيني رحمه الله أن الكسل: ضعف الهمة وإيثار الراحة للبدن على التعب، وإنما استعيذ منه؛ لأنه يبعد عن الأعمال الصالحة (¬3). فينبغي للداعية أن يكون نشيطا؛ لأن الكسل من أسباب الخسارة والوقوع في ¬
أسباب المعاصي والسيئات، وترك أسباب الطاعات (¬1)؛ ولأن الكسل تثاقل عن المصالح الدينية والدنيوية، فيمنع من أداء الحقوق الواجبة (¬2) والله الموفق (¬3). ثانيا: من صفات الداعية: الشجاعة: لا شك أن الشجاعة من الصفات الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها المسلم، ولا سيما الداعية إلى الله عز وجل ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «اللهم إني أعوذ بك من الجبن»، فاستعاذته من الجبن دليل على ضده: الشجاعة وأنها خلق كريم؛ ولأن الجبن عدم الإِقدام على الشيء النافع (¬4) وشعب الجبن متفرقة، ومن أقبحه أن يجبن عن معاملة الله في تصديق وعده، ثم تقديم العوائد على مقتضيات شرعه (¬5) وهذا يؤكد أهمية المجاعة (¬6). ثالثا: من صفات الداعية: الكرم: ظهر في مفهوم هذين الحديثين أن الكرم صفة حميدة ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «. . وأعوذ بك من البخل»، فاستعاذ - صلى الله عليه وسلم - من ضد الكرم؛ لأن البخل صفة ذميمة تنافي الجود والكرم؛ وقد كان - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس وأكرم الناس، فينبغي للدعاة أن يقتدوا به - صلى الله عليه وسلم - (¬7). رابعا: من صفات الداعية: الحرص على تعليم الناس الخير: إن الداعية الصادق مع الله عز وجل هو الذي يحرص على نفع الناس، وإيصال الخير إليهم قولا وفعلا؛ ولهذه الصفة الحميدة فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصا على تعليم أمته الخير، وقد دل الحديث الأول من هذين الحديثين على ذلك "؛ ¬
لقول سعد رضي الله عنه: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا هؤلاء الكلمات كما تعلَّم الكتابة»، وهذا الحرص المبارك من النبي الأمين الكريم يبين للدعاة إلى الله عز وجل أهمية الحرص على تعليم الناس الخير (¬1). خامسا: أهمية العناية بالأهل والأقارب: لا شك أن حق الأهل والأقارب أعظم من حق غيرهم، ورعايتهم وتعليمهم ما ينفعهم من أهم الواجبات، وأعظم الحسنات؛ ولهذا كان السلف الصالح يعتنون بأهلهم وقراباتهم عناية خاصة؛ ولهذا قال عمرو بن ميمون في الحديث الأول من هذين الحديثين: " كان سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يعلِّم المعلّم الغلمان الكتابة. . "، وهذا يبرز للدعاة العناية بالأهل وتعليمهم ما ينفعهم ويعود عليهم بالخير والصلاح، في الدين والدنيا، والآخرة (¬2). سادسا: من صفات الداعية: الالتجاء إلى الله عز وجل: دل هذان الحديثان على أهمية الالتجاء إلى الله تعالى، والاستعاذة به من هذه الخصال التسع: " البخل، والجبن، وأرذل العمر، والعجز، والكسل، وفتنة المحيا والممات، وفتنة الدجال وفتنة الدنيا، وعذاب القبر "، ومفتاح كل شر: العجز والكسل، ويصدر عنهما الهمّ، والحزن، والجبن، والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال، وأصل المعاصي كلها العجز، فإن العبد يعجز عن أسباب أعمال الطاعات، وعن الأسباب التي تبعده عن المعاصي وتحول بينه وبينها فيقع في المعاصي (¬3). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " التمني رأس أموال المفاليس، والعجز مفتاح كل شر " (¬4). وهذا يبين للمسلم- وخاصة الداعية إلى الله سبحانه وتعالى- أهمية الالتجاء ¬
إلى الله عز وجل والاستعاذة به من هذه الخصال كلها، ولا سيما الاستعاذة من العجز والكسل؛ لأن العجز: ترك العمل مع عدم القدرة على عمله، والكسل: ترك العمل مع القدرة على عمله؛ لعدم انبعاث النفس للخير، وقلة الرغبة فيه مع إمكانه (¬1). ويستعيذ الداعية من البخل والجبن؛ لأن الجود: إما بالنفس: وهو الشجاعة، ويقابله الجبن، وإما بالمال وهو السخاوة ويقابله البخل، ولا تجتمع الشجاعة والسخاوة إلا في نفس كاملة، ولا ينعدمان إلا لمتناهٍ في النقص (¬2) وقد قرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين: الاستعاذة من الجبن والبخل؛ لأن الإِحسان المتوقع من العبد: إما بماله، وإما ببدنه، فالبخيل مانع لنفع ماله، والجبان مانع لنفع بدنه (¬3). ويلتجئ الداعية إلى الله، ويستعيذ به من فتنة الدنيا؛ لأن من أصيب بذلك باع آخرته بما يتعجله في الدنيا من حال ومال (¬4) وفتنة المحيا: ما يتعرض له الإِنسان مدة حياته، من الافتتان بالدنيا، والشهوات والجهالات، وأعظمها - والعياذ بالله - سوء الخاتمة عند الموت، وفتنة الدنيا أطلقت على فتنة الدجال؛ لأن فتنته أعظم الفتن في الدنيا، وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا (¬5) ويستعيذ بالله من فتنة الممات. قال ابن دقيق العيد رحمه الله: " وفتنة الممات " يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت، أضيفت إلى الموت لقربها منه، وتكون فتنة المحيا - على هذا - ما يقع قبل ذلك في مدة حياة الإنسان، وتصرفه في الدنيا، ويجوز أن يكون المراد بفتنة الممات: فتنة القبر. . . ولا يكون على هذا متكررا مع قوله: " من عذاب القبر "؛ لأن العذاب مرتب على الفتنة. . . " (¬6). ¬
والاستعاذة من فتنة المحيا والممات: كلمة جامعة لمعانٍ كثيرة (¬1). ويستعيذ بالله من أرذل العمر؛ لأن الإنسان إذا هرم وضعف: سخف عقله، وعجز عن الفرائض وخدمة نفسه، فيكون كلاّ على أهله ثقيلا بينهم، يتمنون موته؛ فإن لم يكن له أهل فالمصيبة أعظم (¬2). فدل ذلك كله على أهمية الاستعاذة والالتجاء إلى الله عز وجل. وسؤاله العفو والعافية، وهذا من أعظم صفات الداعية إلى الله سبحانه وتعالى. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وينبغي أن يرغب إلى ربه في رفع ما نزل، ودفع ما لم ينزل، ويستشعر الافتقار إلى ربه في جميع ذلك " (¬3). سابعا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: القدوة الحسنة من أهم وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذ من الجبن والبخل؛ لما فيهما من التقصير عن أداء الواجبات، والقيام بحقوق الله تعالى، وإزالة المنكر، والإِغلاظ على العصاة؛ ولأنه بشجاعة النفس وقوتها المعتدلة تتم العبادات، ويقوم بنصر المظلوم، والجهاد، وبالسلامة من البخل يقوم بحقوق المال، وينبعث للإِنفاق، والجود، ولمكارم الأخلاق، ويمتنع من الطمع فيما ليس له (¬4). قال الإمام النووي رحمه الله: " قال العلماء: واستعاذته من هذه الأشياء؛ لتكمل صفاته في كل أحواله وَشَرَعَه أيضا تعليما " (¬5) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وكان - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من جميع ما ذكر دفعا عن أمته، وتشريعا لهم، ليبيِّن لهم صفة المهم من الأدعية " (¬6). ¬
وهذا يبين للداعية أهمية القدوة؛ لأن الناس يستفيدون من أفعال الداعية أكثر مما يستفيدون من أقواله، فينبغي له أن يقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ليكون قدوة صالحة لغيره (¬1). ثامنا: من موضوعات الدعوة: تعليم المدعو لهن: الدعاء والأذكار: إن هذين الحديثين يدلان على مشروعية تعليم المدعوين الأدعية النافعة، والأذكار الجامعة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك مع أصحابه رضي الله عنهم، قال سعد رضي الله عنه في الحديث الأول من هذين الحديثين: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا هؤلاء الكلمات كما تعلم الكتابة». وهذا يبيِّن للداعية أنه ينبغي له أن يعلم الناس الأذكار المشروعة: أدبار الصلوات، وأذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم واليقظة، وغير ذلك من الأذكار، ويعلمهم الدعوات الجامعة المشروعة، حتى ينفع الناس (¬2) والله المستعان. ¬
باب من حدث بمشاهده في الحرب
26 - باب من حدث بمشاهده في الحرب قَالَه أَبو عثْمَانَ عَنْ سَعْدٍ. [حديث طلحة بن عبيد الله عن يوم أحد] 38 - [2824] حَدَّثَنَا قتَيْبَة بْن سَعِيد: حَدَّثَنَا حَاتِم، عَنْ محَمَّدِ بْنِ يوسفَ، عَنِ السَّائِبِ (¬1). بْنِ يَزِيدَ قَالَ: " صَحِبْت طَلْحَةَ بْنَ عبيدِ اللهِ (¬2). وَسَعْدا لم (¬3). والمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ (¬4). وَعَبْدَ الرَّحْمنِ بْنَ عَوْفٍ (¬5). رضي الله عنهم، فَمَا سمِعْت أَحَدا مِنْهمْ يحَدِّث عَنْ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، إِلّا أني سَمِعْت طَلْحَةَ يحَدِّث عنْ يَومِ أحدٍ " (¬6). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: الورع. 2 - من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض عمله الصالح عند الحاجة ليقتدى به. 3 - أهمية صحبة الأخيار. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الورع: الورع: هو الكف عما لا ينبغي، ثم استعير للكفِّ عن المباح والحلال (¬1) وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: " الورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة " (¬2). وقد دل هذا الحديث على تورع الصحابة رضي الله عنهم؛ ولهذا قال الوزير العالم ابن هبيرة رحمه الله: " في هذا الحديث من الفقه تورّع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث " (¬3) وقد بين كثير من العلماء أن بعض الصحابة الكبار لا يحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خشية المزيد، والنقصان، والسهو، والدخول في الوعيد (¬4) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار» (¬5). قال العلامة السندي رحمه الله: " ولعلهم كانوا يحدثون عند شدة الحاجة، ورغبة الطالب؛ والأحاديث المشهورة عنهم رووها على هذا الوجه، وإلا كيف أشهر هؤلاء هذه الأحاديث. . أو أنهم تركوا الرواية بعد أن بلغوا الغائبين ما كان عندهم من الحديث، ورأوا أن هذا كافٍ في امتثال الأمر، أو حملوا ذلك على الوجوب على الكفاية، فإذا قام به البعض كأبي هريرة سقط الطلب عن الباقين، والله أعلم " (¬6). ¬
فينبغي للداعية أن يحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يبلغه غيره، كما ينبغي له أن يكون ورعا متثبتا فلا ينقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل. ثانيا: من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض عمله الصالح عند الحاجة ليقتدى به: دل هذا الحديث على أن ذكر الداعية بعض عمله الصالح عند الحاجة من أساليب الدعوة؛ لأن طلحة رضي الله عنه حدث عن يوم أحد، وما صنع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وأما حديث طلحة فهو جائز إذا أمنَ الرياء والعجب، ويترقى إلى الاستحباب إذا كان هناك من يقتدي بفعله " (¬1). وقال العلامة العيني رحمه الله: " حدث طلحة عن مشاهد يوم أحد؛ ليقتدى به ويرغب الناس في مثل فعله " (¬2). وقال رحمه الله أيضا: " وفي قول طلحة: ذكر المرء بعمله الصالح ليؤدي ما علم مما لم يعلم غيره؛ لأنه انفرد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ " (¬3). وهذا يوضح للدعاة إلى الله - عز وجل - أنه لا حرج أن يخبر الداعية ببعض أعماله الطيبة رغبة في أن يقتدى به في عمله؛ وليرغِّب المدعوين في ذلك، أما الذي يذكر عمله؛ للافتخار، وإظهار فضله: رياء، وسمعة، وعجبا، فهذا عمل قبيح، لا يجوز لمسلم أن يعمله. ثالثا: أهمية صحبة الأخيار: ظهر في هذا الحديث أهمية صحبة الأخيار؛ لأن السائب بن يزيد صحب طلحة، وسعدا، والمقداد، وابن عوف، فاستفاد منهم الورع في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خشية الزيادة أو النقصان، ولا شك أن صحبة الأخيار تزيد في الحلم، والفهم، والتقوى؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه؛ وإما أن تجد منه ريحا طيبه، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك ¬
وإما أن تجد ريحا خبيثة» (¬1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (¬2) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي» (¬3) فينبغي للمرء المسلم العناية بصحبة الأخيار؛ ليستفيد منهم، والله المستعان. ¬
باب الكافر يقتل المسلم ثم يسلم فيسدد بعد ويقتل
28 - باب الكافرِ يَقتل المسلم ثم يسلم فيسدّد بعد ويقتل [حديث يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة] 39 - [2826] حَدَّثَنَا عَبْد اللهِ بْن يوسفَ: أَخْبَرَنَا مَالِك، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هرَيْرَةَ (¬1). رضي الله عنه أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «يَضْحَك الله إِلى رجلَينِ يَقتل أَحَدهمَا الآخرَ يَدخلانِ الجَنَّةَ، يقَاتِل هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ فيقْتَل، ثم يَتوب الله عَلَى القَاتِلِ فَيسْتَشْهَد» (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: إثبات صفات الكمال الله عز وجل. 2 - من موضوعات الدعوة: الحث على التوبة النصوح. 3 - من صفات الداعية: عدم اليأس من رحمة الله عز وجل. 4 - من أساليب الدعوة: الترغيب. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: إثبات صفات الكمال لله عز وجل: دل الحديث على أن إثبات صفات الكمال لله سبحانه وتعالى من موضوعات الدعوة؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة». . " وهذا يدل على إثبات الضحك لله تعالى على الوجه اللائق به عز وجل (¬3). ولا شك أنه ينبغي للداعية أن يبين للمدعوين صفات الكمال لله عز وجل، فيصف الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ويمرّ نصوص الصفات ¬
كما جاءت بلا كيف مع الإِيمان بمعانيها، وما تدل عليه. قال الوليد بن مسلم رحمة الله: " سألت الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي في ذكر الرؤية، فقالوا: أمرّوها كما جاءت بلا كيف " (¬1) وليس ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - تشبيها؛ فالمشبه يعبد صنما والمعطل يعبد عدما، والموَحِّد يعبد إلها واحدا صمدا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] (¬2). وينبغي للداعية أن يبين للمخالفين بالحكمة أن الكلام في الصفات كالكلام في الذات، فكما أنا نثبت لله ذاتا لا تشبه الذوات، فكذلك يقال في صفاته: إنها لا تشبه الصفات، فليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أسمائه، ولا في أفعاله، ولا تشبه صفاته صفات المخلوقين. ويقال: القول في بعض الصفات كالقول في بعض، فمن أثبت بعض الصفات وأول بعضها، فإنه لا فرق بين ما نفاه وبين ما أثبته؛ لأن القول في أحدهما كالقول في الآخر. ويبين الداعية للمدعوين أن الصفات تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله سبحانه وتعالى، فهو لم يزل ولا يزال متصفا بها كالعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر والغنى والكرم والعظمة والكبرياء والعزة والعلو وغير ذلك من صفات الكمال. القسم الثاني: الصفات الفعلية وهي التي تتعلق بالمشيئة والقدرة: كالاستواء والنزول والمجيء والضحك والرضا والغضب والإحياء والإماتة والفرح والحب وغير ذلك من صفات الكمال وهذه الصفات تتعلق بالمشيئة إن شاء فعلها وإن لم يشأ لم يفعلها. والإيمان بجميع الصفات من أعظم الواجبات، وكيفية الصفات لا علم ¬
للعباد بها؛ ولهذا لما سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله عن كيفية الاستواء، قال: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة " (¬1) وهذا ينطبق على جميع الصفات، وأن الصفات معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة. قال الله عز وجل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام: 61] (¬2) قال الإمام اللالكائي رحمه الله: " فدلت هذه الآية أنه تعالى في السماء وعلمه محيط بكل مكان: من أرضه، وسمائه، وروى ذلك من الصحابة: عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وأم سلمة رضي الله عنهم، ومن التابعين: ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وسليمان التيمي، ومقاتل بن حيان، وبه قال من الفقهاء: مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل " (¬3). فينبغي للداعية أن يبين للناس هذه العقيدة كما جاءت في الكتاب والسنة؛ لأن الله أعلم بنفسه سبحانه وتعالى. كما ينبغي أن ينفي عن الله عز وجل صفات النقص التي نفاها عن نفسه سبحانه وتعالى، أو نفاها عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويبين أن النفي يقتضي إثبات ما يضاده من صفات الكمال، فكل ما نفى الله عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من النقائص فإنها تدل على إثبات ضدها من صفات الكمال (¬4). ¬
ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحث على التوبة النصوح: دل الحديث على أن الحث على التوبة من أهم موضوعات الدعوة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: ". . . «ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد» وهذا فيه بيان للناس أن الإِسلام يهدم ما كان قبله، وأن التوبة تهدم ما كان قبلها، فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يحث المدعوين على التوبة، ويبين لهم أن الله أمر بها، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] (¬1) وقال سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] (¬2) وقال - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن العاص: " أما علمت أن الإِسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله " (¬3) وكذلك التوبة تهدم ما كان قبلها إذا كملت شروطها: من الندم، والإِقلاع عن الذنب، والعزيمة على عدم العودة ورد المظالم؛ فإن: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " (¬4). ثالثا: من صفات الداعية: عدم اليأس من رحمة عز وجل: لا شك أن الله يقبل توبة التائبين، وأن الكافر إذا تاب من كفره قبل الله توبته، ولو كان قد قتل أحدا من المسلمين؛ لأن الشرك أعظم الذنوب، وقد هدمه الإِسلام، فما دون الشرك أولى بالهدم بالإِسلام والتوبة؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: " ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد ". فينبغي للتائب عدم اليأس فِي رَوْحِ الله وعدم القنوط من رحمة الله، قال الله عز وجل {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] (¬5) وقال عز وجل {قلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفوا عَلَى أَنْفسِهِمْ لا تَقْنَطوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] (¬6). ¬
رابعا: من وسائل الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على الترغيب في الإِسلام، والترغيب في الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، والترغيب في التوبة من جميع المعاصي، فقد بين - صلى الله عليه وسلم - فيه أن القاتل تاب الله عليه وقاتل في سبيل الله فقتل فدخل الجنة. ومعنى هذا الحديث عند العلماء " أن قاتل الأول كان كافرا، وتوبته المذكورة في هذا الحديث: إسلامه " (¬1) قال الله عز وجل {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38] (¬2). قال الإِمام ابن عبد البر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " فيه دليل أن كل من قتِلَ في سبيل الله فهو في الجنة - إن شاء الله - وكل من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى فهو في الجنة (¬3). فينبغي للداعية إلى الله - عز وجل - أن يرغب الناس في الإِسلام ويرغبهم في التوبة إلى الله عز وجل انظر (¬4). ¬
قول أبان بن سعيد ينعى علي قتل رجل مسلم أكرمه الله على يدي ولم يهني على يديه
[قول أبان بن سعيد ينعى علي قتل رجل مسلم أكرمه الله على يدي ولم يهني على يديه] 40 - [2827] حَدَّثَنَا الحمَيْدِيّ: حَدَّثَنَا سفْيَان: حَدَّثَنَا الزّهْرِيّ قَالَ: أَخبرَني عَنْبَسَة بْن سَعِيد، عَنْ أَبي هريْرَةَ (¬1) رضي الله عنه قَالَ: «أَتَيْت رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهوَ بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحوهَا فَقلَت: يَا رَسولَ اللهِ أَسْهمْ لِي، فَقَالَ بَعْض بَنِي سَعِيدِ بْن العَاصِ: (¬2) لا تسْهِمْ لَه يَا رَسولَ اللهِ، فَقَالَ أبو هرَيْرَةَ: هَذَا قَاتِل ابْنِ قَوْقَلٍ (¬3) فَقَالَ ابْن سعِيدِ بْنِ العَاصِ: وَاعَجَبا لِوَبْرٍ تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قدومِ ضَأْنٍ (¬4) يَنْعَى عَلَيَّ قَتْلَ رَجل مسْلِمٍ أَكْرَمَه الله عَلَى يَدَيَّ، وَلَمْ يهِنِّي عَلَى يَدَيْهِ. قَالَ: فَلاَ أَدْرِي أَسْهَمَ لَه أمْ لَمْ يسْهِمْ». قَالَ سفْيَان: وَحَدَّثَنِيهِ السَّعِيديّ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هرَيْرَةَ. قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ: السَّعِيدِيّ هوَ عَمْرو بْن يَحْيَى بنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرو بْنِ سَعيدِ ابْنِ العاص (¬5). وفي رواية: «بَعَثَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَانَ عَلَى سَرِيَّةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ قِبَلَ نَجْدٍ، قَالَ أَبو هرَيْرَةَ: فَقَدِمَ أَبَان وَأَصْحَابه عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِخَيْبَرَ بَعْدَمَا افْتَتَحَهَا، وَإِنَّ حزمَ خَيْلِهِمْ لَلِيْف. قَالَ أبو هرَيْرَةَ: يَا رَسولَ اللهِ لا تَقْسِمْ لَهم. قَالَ أَبَان: وَأنتَ بهَذَا يَا وَبْر تَحَدَّرَ مِنْ رَأْسِ ضَأْنٍ. فَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: " يَا أَبَان اجْلِسْ " فَلَمْ يَقْسِمْ لَهمْ» (¬6). ¬
وفي رواية: " أَنَّ أَبَانَ بْنَ سَعِيدٍ أَقْبَلَ إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبو هرَيْرَةَ يَا رَسولَ اللهِ هَذَا قَاتِل ابْنِ قَوْقَلٍ " الحديث (¬1). * شرح غريب الحديث: وبر ": الوبْر: دويبة على قدر السنور، غبراء أو بيضاء، حسنة العينين، شديدة الحياء، حجازية، والأنثى: وبرة، وجمعها: وبور، ووبار؛ وإنما شبهه بالوبر تحقيرا له (¬2). * " تحدر " أي: تَنَزَّل (¬3). * " قدوم ضأن " قيل هي ثنية أو جبل بالسراة من أرض دوس (¬4). * " ينعى " أي يعيبني بقتل رجلٍ أكرمه الله بالشهادة على يديّ (¬5). * " الليف " الليف: ليف جمّار النخل (¬6) واحدته ليفة: وهو قشر النخل الذي يجاور السعف (¬7). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أدب المدعو مع الداعية. 2 - الدفاع عن النفس بالصدق والحكمة. 3 - أهمية إرسال الدعاة إلى البلدان. 4 - من أساليب الدعوة: الترغيب. ¬
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: أدب المدعو مع الداعية: دل الحديث على أنه ينبغي للمدعو أن يلتزم الأدب مع الداعية، فيسلم عليه إذا أقبل، ولا يجادل في مجلسه ولا يخاصم؛ ولهذا الأدب جاء في هذا الحديث: " أن أبان بن سعيد رضي الله عنه أقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسلم عليه "، وهذا من حسن أدبه كون، ومن حسن أدب أبي هريرة رضي الله عنه أنه لم يَردَّ على أبان بن سعيد بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل سكت احتراما وإجلالا للنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ثانيا: الدفاع عن النفس بالصدق والحكمة: إن الدفاع عن النفس بالصدق والأسلوب الحسن لا حرج فيه ولا عيب؛ ولهذا قال أبان بن سعيد في هذا الحديث لأبي هريرة رضي الله عنه: ". . ينعى عليَّ قتل رجل مسلم أكرمه الله على يَدَيَّ، ولم يهنِّي على يديه "، وهذا الرد صدق وحق وحكمة؛ فإن التائب من الذنب لا لوم عليه ولا توبيخ؛ ولهذا حَجَّ أبان أبا هريرة رضي الله عنه كما حج آدم موسى صلى الله عليهما وسلم، وقد ثبت الحديث بذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «احتج آدم وموسى فقال له موسى: يا آدم، أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك (¬2) بيده أتلومني على أمر قدّره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؛ فحج آدم موسى، فحج آدم موسى» ثلاثا (¬3) فالإِنسان لا يلام على الذنب بعد التوبة منه، ولا يلام على المصائب التي أصابته (¬4). ¬
ثالثا: أهمية إرسال الدعاة إلى البلدان: إن إرسال الدعاة إلى الله عز وجل إلى البلدان والأقطار التي ليس فيها من يدعو إلى الله عز وجل من أهم المهمات؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث البعوث، ويرسل السرايا للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ثم لقتال من رد الدعوة ولم يدفع الجزية للمسلمين. وقد ظهر في هذا الحديث ما يدل على ذلك من قول أبي هريرة رضي الله عنه «بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبان على سرية من المدينة قِبَل نجد»، فينبغي لمن له أمر وقدرة مشروعة أن يبعث الدعاة إلى الله عز وجل؛ ليبلغوا دين الله ويقيموا الحجة على الناس، والله المستعان (¬1). رابعا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب في الجهاد، والإِسلام، والتوبة؛ ولهذا قال أبان بن سعيد رضي الله عنه في شأن أبي هريرة رضي الله عنه: " ينعى عليَّ قتل رجل مسلم أكرمه الله على يديَّ ولم يهني على يديه " قال العلامة العيني رحمة الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه أن التوبة تمحو ما سلف قبلها من الذنوب: القتل وغيره؛ لقوله: " أكرمه الله على يديَّ، ولم يهنِّي على يديه "؛ لأن ابن قوقل وجبت له الجنة بقتل ابن سعيد له، ولم تجب لابن سعيد النار؛ لأنه أسلم " (¬2). ¬
باب من اختار الغزو على الصوم
29 - بَاب من اخْتارَ الْغزْوَ على الصّوْمِ [حديث أنس في أبي طلحة أنه ما كان يصوم على عهد النبي من أجل الغزو] 41 - [2828] حَدَّثَنَا آدَم: حَدَّثَنَا شعبَة: حَدَّثَنَا ثَابِت البنَانِي قَالَ: سَمِعْت أنسَ بْنَ مَالِكٍ تقدمت (¬1) رضي الله عنه قَالَ: " كَانَ أَبو طَلْحَة (¬2) لَا يَصوم عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَجْلِ الْغَزْوِ، فَلَمَّا قبِضَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ أَرَه مفْطِرا إِلَّا يَوْمَ فِطْر أَوْ أَضْحَى ". * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - فضل الجهاد في سبيل الله عز وجل: 2 - من القواعد الدعوية: عمل أعْلَى المصلحتين عند التعارض. 3 - من صفات الداعية: الحرص على فعل الخير. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: فضل الجهاد في سبيل الله عز وجل: يظهر في هذا الحديث أن الجهاد من أفضل الأعمال الصالحة، وأنه أفضل ¬
من صيام التطوع؛ ولهذا كان أبو طلحة رضي الله عنه يترك صيام التطوع؛ لِيَتَقَوَّى على الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ لعلمه رضي الله عنه بفضل الجهاد ومكانته من الدين (¬1). ثانيا: من القواعد الدعوية: عمل أعْلَى المصلحتين عند التعارض: دل الحديث على هذه القاعدة العظيمة، وأن المسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل إذا تعارضت عنده مصلحتان ولا يستطيع الجمع بينهما؛ فإنه يأخذ بأعلاهما أجرا وثوابا وفائدة؛ ولهذا قَدَّم أبو طلحة رضي الله عنه الجهاد على صيام التطوع؛ لأن الجهاد من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل وهذا يبين للداعية أهمية الأخذ بأعلى المصالح، والبدء بالأهم فالمهم (¬2). ثالثا: من صفات الداعية: الحرص على فعل الخير: يظهر في هذا الحديث أن من الصفات الحميدة الحرص على فعل الخير، وأن ذلك من أهم الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الداعية إلى الله عز وجل؛ ولهذا حرص أبو طلحة على الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك ما يضعفه عنه من صيام التطوع، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقوي الإِسلام واشتدت وطأة المسلمين على العدو، ورأى أنه في سعة عما كان عليه من الجهاد، حرص على أن يأخذ بحظه من الصوم؛ ليجمع بين هاتين الطاعتين العظيمتين رضي الله عنه (¬3). وهذا يبين للمسلم وخاصة الداعية أهمية الحرص على عمل الخير، والمبادرة إليه: من الصيام المشروع، وغيره من الطاعات التي تجعله قدوة صالحة لغيره من الناس، ولعل قول أنس رضي الله عنه عن أبي طلحة رضي الله عنه " لم أره مفطرا إلا يوم فِطر أو أضحى " كناية عن كثرة الصيام لا عن صيام الدهر، والله ¬
أعلم (¬1)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا صام من صام الأبد» (¬2) وقد ذكر ابن حجر رحمه الله أن ذلك يفيد كراهية صوم الدهر، لأنه - صلى الله عليه وسلم - دعا على من صام الأبد، وقيل «لا صام» للنفي أي ما صام (¬3) وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " يحتمل أنه دعاء على من صام الأبد، ويحتمل أنه إخبار بأنه لا صوم له وأنه ليس بصوم شرعي " (¬4) وسمعته يقول عن صيام أبي طلحة رضي الله عنه " وهذا يدل على أن أبا طلحة رضي الله عنه لم يبلغه حديث «لا صام من صام الأبد» فلا يجوز صيام الدهر " (¬5). فينبغي للداعية أن يكون حريصا على فعل الخير، ولكن يتقيّد بما شرعه الله -عز وجل - وبينه رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -. ¬
باب الشهادة سبع سوى القتل
30 - بَاب الشَّهادَة سبع سوَى القتل [حديث الطاعون شهادة لكل مسلم] 42 - [2830] حَدَّثَنَا بِشْر بْن محَمَّدٍ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللهِ: أَخْبَرَنَا عَاصِم، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِيْنَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (¬1) رضي الله عنه عَنِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «الطَّاعون شَهَادَة لِكلِّ مسْلِم» (¬2). وفي رواية: حفصة بنت سيرين مات أخوها يحيى فقال لها أنس بن مالكٍ رضي الله عنه ": " يَحْيَى بم مَات؟ قَالَتْ: قلْت مِنَ الطَاعون، قَالَ: قَالَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الطَّاعونَ شَهَادة لِكلِّ مسْلم» (¬3). * شرح غريب الحديث: " الطاعون " المرض العامّ والوباء الذي يفسد له الهواء فتفسد به الأمزجة، والأبدان (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من خصائص الإِسلام: شهداء غير المعركة. 2 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 3 - من أساليب الدعوة: تسلية المصاب بذكر الثواب. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من خصائص الإسلام: شهداء غير المعركة: دل الحديث على أن الطاعون شهادة لكل مسلم خاصة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيَّد ¬
هذه الشهادة بالإِسلام كما في نص الحديث: «الطاعون شهادة لكل مسلم»، وهذا يدل على أن الخير العظيم لأهل الإِسلام؛ قال الإِمام عبد الله بن أبي جمرة في فوائد هذا الحديث: " فيه دليل على فضل هذه الأمة على غيرها؛ لأن الطاعون كان بلاء لغيرها، وجعِلَ شهادة لها " (¬1). وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله عز وجل خص أمته بشهداء كثير فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما تعدون الشهيد فيكم؟ " قالوا يا رسول الله، من قتِلَ في سبيل الله فهو شهيد. قال: " إن شهداء أمتي إذا لقليل " قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: " من قتِلَ في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد» وفي رواية: «والغَرِيق شَهِيد» (¬2) وفي حديث آخر: ". . «وصاحب الهدم» (¬3) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وقد اجتمع لنا من الطرق الجيدة أكثر من عشرين خصلة "، ثم ذكر هؤلاء الشهداء (¬4) وقال ابن التين رحمه الله: " هذه كلها ميتات فيها شدة تفضل الله على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بأن جعلها تمحيصا لذنوبهم وزيادة في أجورهم يبَلِّغهم بها مراتب الشهداء " (¬5) وقال الكرماني رحمه الله: ". . الشهداء ثلاثة أقسام: شهيد الدنيا والآَخرة، بأن لا يغسل ولا يصلَّى عليه في الدنيا وله الثواب في الآخرة، وهو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وشهيد الدنيا؛ بأن لا يغسل ولا يصلَّى عليه في الدنيا ولم يكن له الثواب في الآخرة، وهو من قاتل للرياء والسمعة والغنيمة، وشهيد الآخرة، فيغسل ويصلى عليه وله الثواب في الآخرة كالمطعون. . " (¬6) وهذا كله يدل على فضل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن الله خصها بخصائص عظيمة. ¬
ثانيا: من أساليب الدعوة الترغيب: ظهر في هذا الحديث أسلوب الترغيب في الشهادة ولو في غير المعركة، وهو يحث على الصبر والاحتساب، رغبة في الحصول على الشهادة؛ ولهذا بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أن " الطاعون شهادة لكل مسلم " وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - «أن الطاعون " كان عذابا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له، إلا كان له مثل أجر الشهيد» (¬1). فينبغي للداعية أن يرغب المدعوين في احتساب الثواب والصبر للرغبة في ذلك، وسؤال الله العافية في الدنيا والآخرة (¬2). ثالثاَ: من أساليب الدعوة: تسلية المصاب بذكر الثواب: إن من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، تسلية المصاب بذكر الثواب من الله عز وجل ولهذا ذكر أنس بن مالك رضي الله عنه في هذا الحديث لحفصة بنت سيرين ثواب من مات بالطاعون؛ لأنه لما توفي أخوها يحيى، قال لها أنس رضي الله عنه: " يحيى بمَ مات؟ قالت: قلت من الطاعون. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الطاعون شهاَدة لكل مسلم». فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب مع من أصيب بمصائب في الأهل أو النفس أو المال، والله المستعان. ¬
باب قول الله عز وجل لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله
31 - باب قولِ الله عز وجل {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ} [النساء: 95] إلى قوله: {غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] (¬1). [حديث سبب نزول قوله تعالى غير أولي الضرر] 43 - [2831] حَدَّثَنَا أَبو الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا شعْبَة، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْت البَرَاءَ (¬2) رضي الله عنه يَقول: «لمَا نَزَلَت: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] دَعَا رِسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَيْدا (¬3) فَجَاءَ بِكتَابٍ فَكَتَبَهَا. وَشَكَا ابن أمِّ مَكْتوم (¬4) ضَرارتَه فنزَلَتْ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95]» (¬5). وفي رواية: عن البراء رضي الله عنه قال: «لَمَا نَزَلَتْ {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - " ادْع لي زَيْدا، وَلْيَجِيء بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ والْكَتِفِ - أَوْ الْكَتِفِ والدَّوَاةِ " ثمَّ قَالَ: " اكْتبْ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} [النساء: 95] وَخَلْفَ ظَهْرِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عَمْرو ابْن أمِّ مَكْتومٍ الأَعْمَى، فَقَالَ يَا رَسولَ اللهِ فَمَا تَأْمرني؛ فَإني رَجل ضرير الْبَصَرِ؟ فنَزَلَتْ مَكَانَها: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] ¬
حديث آخر في سبب نزول قوله تعالى غير أولي الضرر
[والمجاهدون في سبيل الله] {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95]» الآية / (¬1). [حديث آخر في سبب نزول قوله تعالى غير أولي الضرر] 44 - [2832] حَدَّثَنَا عَبْد العَزِيزِ بْن عَبدِ اللهِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن سَعْدِ الزّهْرِيّ قَالَ: حَدَّثَنِي صَالِح بْن كَيْسَانَ، عَن ابْنِ شهَاب، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أنه قَالَ: «رَأَيْت مَرْوَانَ بْنَ الحَكَمِ جَالِساَ فِي المَسْجِدِ فَأَقْبَلْت حَتَّى جَلَسْت إِلَى جَنْبِهِ، فَأَخْبَرنَا أَنَّ زَيدَ بْنَ ثَابِتٍ أَخبرَه: أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أمْلَى عَلَيْهِ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] قَالَ فَجَاءَه ابْن أمِّ مَكْتومٍ وهوَ يملهَا عَلَيَّ فَقَالَ: يَا رَسولَ اللهِ لَوْ أَسْتَطِيع الجِهَادَ لَجَاهَدْت - وَكَانَ رَجلا أَعْمَى - فَأَنزَلَ الله تَعَالَى عَلَى رَسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفَخِذه عَلَى فَخِذِي. فَثَقلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْت أَنْ ترَضَّ فَخِذِي. ثمَّ سرِّيَ عَنْه، فَأَنزَلَ الله عز وجل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95]» (¬2). * شرح غريب الحديثين: * " الكتف ": عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان (¬3). " الدواة " هي: المحبرة (¬4). " ترَضّ " الرضّ: الكسر، والدق بالحجر، بمعنى واحد (¬5). " سرِّيَ عنه " أي: كشِفَ عنه الخوف، وقد تكررت هذه اللفظة في الأحاديث، وخاصة في ذكر نزول الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم -، وكلها بمعنى: الكشف والإِزالة، يقال: سرَوْت الثَوْبَ: وَسريْته: إذا خَلَعته. والتشديد فيه للمبالغة (¬6). ¬
* الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله عز وجل. 2 - النية الصالحة تبلغ ما يبلغ العمل عند عدم الاستطاعة. 3 - أهمية تقييد العلم بالكتابة. 4 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث. 5 - الترغيب في الجهاد في سبيل الله عز وجل. 6 - من خصائص الإِسلام: رفع الحرج. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله عز وجل: دل هذان الحديثان على أن الرغبة فيما عند الله عز وجل من الصفات الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها المسلم، وخاصة الداعية إلى الله عز وجل؛ ولهذه الرغبة حزن عمرو ابن أم مكتوم على الجهاد، ورغب فيه: رغبة في فضله وفضل الشهادة في سبيل الله عز وجل فقال رضي الله عنه عندما سمع قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت؛ لأنه رضي الله عنه كان أعمى، وقال: يا رسول الله فما تأمرني فإني ضرير البصر، وهذا كله يدل على الرغبة فيما عند الله عز وجل (¬1). ثانيا: النية الصالحة تبلغ ما يبلغ العمل عند عدم الاستطاعة: دل الحديثان على أن النية الصالحة تبلغ ما يبلغ العمل عند عدم استطاعة العبد لذلك؛ ولهذا لما صلحت نية عمرو ابن أم مكتوم وصدق حبه للجهاد كتب الله له أجر نيته الصالحة؛ قال الإِمام ابن العربي: " فيه تسوية المعذور والقادر العامل في الأجر من دليل الكتاب والسنة " (¬2) والآية نص صريح في تسوية أولي الضرر بالمجاهدين في الأجر والثواب إذا صلحت نيَّاتهم. ¬
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وأما أولو الضرر فملحقون في الفضل بأهل الجهاد إذا صدقت نيَّاتهم " (¬1) وقال العلامة العيني رحمه الله: " وفيه أن من حبسه العذر عن الجهاد وغيره من أعمال البر مع نية فيه فله أجر المجاهد والعامل؛ لأن نص الآية على المفاضلة بين المجاهد والقاعد، ثم استثنى من المفضولين أولي الضرر، وإذا استثناهم منها فقد ألحقهم بالفاضلين " (¬2) وهذا يبيِّن للمسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل أهمية النية الصالحة (¬3). ثالثا: أهمية تقييد العلم بالكتابة: إن تقييد العلم بالكتابة من الأمور المهمة التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها عناية خاصة؛ ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت رضي الله عنه بكتابة هذه الآية في هذين الحديثين وفي غيرهما. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي أحاديث الباب من الفوائد: اتخاذ الكاتب، وتقريبه، وتقييد العلم بالكتابة " (¬4) وهذا يدل على أهمية ضبط العلم بالكتابة (¬5). رابعا: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: إن من الصفات الحميدة: العناية والدقة في نقل الحديث، وفي نقل العلم للناس، وقد دل الحديث على هذه الصفة في قول الراوي: " وليجيء باللّوح والدواة، والكتف - أو الكتف والدواة - "، قال الإمام الكرماني رحمه الله " شكّ الراوي في تقديم الدواة على الكتف وتأخيرها " (¬6) وهذا يدل على حرص السلف الصالح رحمهم الله على الدقة في نقل العلم وتبليغه كما سمعوه (¬7). ¬
خامسا: الترغيب في الجهاد في سبيل الله عز وجل: ظهر في هذين الحديثين الترغيب في الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، وأن المجاهد له الدرجات العلى؛ لأن الحديثين اشتملا على قول الله عز وجل {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] (¬1) وقال عز وجل في الآية التي بعدها: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] (¬2) وهذا ترغيب عظيم لأهل الإِيمان في الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى (¬3). سادسا: من خصائص الإسلام: رفع الحرج: دل هذان الحديثان على أن الإِسلام دين السماحة واليسر على الناس، وأنه يرفع الحرج، وأن الله عز وجل لا يكلف عباده إلا بما يطيقون. وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أملى على زيد بن ثابت رضي الله عنه قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] (¬4) فقال ابن أم مكتوم رضي الله عنه: " يا رسول الله فما تأمرني؛ فإني رجل ضرير البصر [لو استطعت الجهاد لجاهدت؟] " فأنزل الله عز وجل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] فما أعظم هذه السماحة والتشريع، وما أكرم الله عز وجل وأرحمه بعباده، ومن رحمته أن رفع عنهم الحرج (¬5) كما قال عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] (¬6) وقال سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] (¬7) فينبغي للداعية أن يبين للناس سماحة الإِسلام وتيسيره على الناس ورفع الحرج عنهم (¬8). ¬
باب التحريض على القتال
33 - باب التحريض على القتال، وقول الله تعالى {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] (¬1). [حديث اللهم إن العيش عيش الآخرة] 45 - [2834] حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن محَمَّدِ: حَدَّثَنَا معَاوِيَة بْن عَمْرو: حَدَّثَنَا أبو إِسْحَاقَ، عَنْ حمَيْد قَالَ: سَمِعْت أَنسا (¬2) رضي الله عنه يَقول: «خَرَجَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْخَنْدَقِ فَإذَا الْمهَاجِرونَ والأنصَار يَحْفِرونَ فِي غَدَاة بَارِدَة، فَلَمْ يَكنْ لهمْ عَبِيد يَعْمَلونَ ذَلِكَ لَهمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجوعِ قَالَ: " اللَّهمَّ إِنَّ العَيْشَ عَيْش الآخِرَة، فَاغْفِر لِلأَنْصَارِ وَالْمهَاجِرَة. فَقَالوا مجِيبِينَ لَه ": نحْن الَّذِينَ بَايَعوا محَمَّدا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بقينَا أَبَدا » (¬3). وفي رواية: «جَعَلَ المهَاجِرونَ والأنصار يَحْفرونَ الخَنْدَقَ حَوْلَ المَدِينَة، ويَنْقلونَ التّرَابَ عَلَى متونهِمْ، وَيَقولونَ: نحْن الَّذِينَ بَايَعوا محَمَّدا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بقِينَا أَبَدا والنَّبِي صلى الله عليه وسلم يجِيبهمْ وَيَقول: " اللَّهمَّ إِنَّه لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْر الآخِرَة فَبَارِكْ فِي الأَنْصَارِ والْمهَاجِرَة» (¬4). وفي رواية: «اللَّهمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْش الآخرة، فَأَكْرِمِ الأَنْصَارَ وَالْمهَاجِرَة» (¬5). ¬
باب حفر الخندق
وفي رواية: «لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْش الآخرة، فَأَصْلحِ الأَنْصَارِ وَالْمهَاجِرَة» (¬1). وفي رواية: أَنهم يَقولونَ: "نَحْن الَّذِينَ بَايَعوا محَمَّدا ... عَلَى الإِسْلاَمِ مَا تقِينَا أَبَدا" وفيها: «يؤتَوْنَ بِمِلْءِ كَفَّي مِنَ الشَّعِيرِ، فَيصْنَع لَهمْ بِإِهَالَة سَنِخَة توضَع بَيْنَ يَدَي الْقَوْم، والْقَوْم جِيَاع وَهِي بَشِعَة في الحَلْقِ وَلَهَا رِيح منْتِن» (¬2) 34 - باب حَفْر الْخنْدَقِ [حديث لولا أنت ما اهتدينا] 46 - [2836] حَدَّثَنَا أَبو الولِيدِ: حَدَّثَنَا شعْبَة، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْت الْبَرَاءَ (¬3) رضي الله عنه يَقول: كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَنْقل وَيَقول: «لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا» (¬4). وفي رواية: «رَأَيت رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَحْزَابِ يَنْقل التّرابَ - وَقَدْ وَارَى التّراب بَياضَ بَطْنِه - وَهوَ يَقول: " لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صلَّيْنَا فأَنزِلِ السَّكينَة عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا إنَّ الألَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا أَرَادَوْا فِتْنَة أَبيْنَا » (¬5). ¬
وفي رواية: «رَأَيْت رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهو يَنْقل التّرَابَ حَتَّى وَارَى التّرَاب شَغرَ صَدْرِه، - وَكَانَ رَجلا كَثِيرَ الشَّعْرِ - وَهوَ يَرْتَجِز بِرَجَزِ عَبْد الله [بن رواحة]: اللَّهمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلا تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا فأَنْزِلَنْ سَكِينَة عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا إنَّ الأَعْدَاء قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا أَرَادوا فِتْنَة أَبيْنَا يَرْفَع بِهَا صوْتَه» (¬1). وفي رواية: «يَرْفَع بِهَا صَوْتَه ": " أَبَيْنَا أَبَيْنَا» (¬2). «ثمَّ يَمدّ صَوْتَه بِآخِرِها» (¬3). * وفي رواية: «رَأَيْت النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الخَنْدَقِ يَنْقل مَعَنَا التّرَابَ وَهوَ يَقول: والله لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... ولاَ صمْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا فأَنْزِلَنْ سَكِينَة عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا والمشْرِكونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا أَرَادوا فِتْنَة أَبيْنَا» (¬4). * وفي رواية: «كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَنْقل التّرَابَ يَوْم الخَنْدَقِ حَتَّى أغْمَرَ بَطْنه أَو اغْبَرَّ بَطْنه» (¬5). * شرح غريب الحديثين: * " غداة باردة " غَدَا يَغْدو غدوّا، والغدْوَة: ما بين صلاة الغداة [الفجر] وطلوع الشمس (¬6). ¬
* " النصب ": التعب (¬1). * " متونهم " المتن من كل شيء: ما صلب ظهره، والجمع متون، وهو من الظهر: ما اكتنف أعلى الصلب من العصب واللحم، وهما متنان. والصلب: عظم من مغرس العنق إلى عَجْب الذنب (¬2). * " بإهالة سنخة " الإِهالة: كل شيء من الأدهان مما يؤتدم به، والودك، والسنخة: المتغيرة الريح، والمقصود: الدهن المتغير (¬3). * " بشعة في الحلق " البشع: الكريه الطعم والرائحة (¬4). * " الألَى " بوزن العلَى، فهو جمع لا واحد له من لفظه، واحِده: الذي (¬5) وجمعه: الذين (¬6). * " أغمر بطنه ": وارى التراب جلده وستره (¬7). * الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل. 2 - من موضوعات الدعوة: الحث على أخذ الحذر والأهبة لصد أعداء الإِسلام. 3 - من صفات الداعية: الصبر وتحمل المشاق. 4 - من سنن الله عز وجل: الابتلاء والامتحان. ¬
5 - من صفات الداعية: الزهد. 6 - من أساليب الدعوة: إنشاد الشعر الممدوح والرجز. 7 - من وسائل الدعوة: تسلية المدعوين وتنشيطهم. 8 - من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء. 9 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 10 - من أساليب الدعوة: رفع الصوت في الخطب والمواعظ. 11 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 12 - من صفات الداعية: التواضع. 13 - من صفات الداعية: إعانة المدعوين. 14 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم. 15 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار. 16 - من صفات الداعية: إثبات النعم لله والثناء عليه بها. 17 - من صفات الداعية: الاستفادة مما عند الآخرين. 18 - من صفات الداعية: الدقة في نقل الحديث. 19 - أهمية استجابة المدعو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: دل الحديثان على أن الأخذ بالأسباب، لا ينافي التوكل على الله عز وجل؛ ولهذا عمل النبي صلى الله عليه وسلم بفعل الأسباب وهو إمام المتوكلين، فحفر الخندق، وحمل التراب، وأمر أصحابه بذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأسباب ويأمر بفعلها، ويستعين بالله عز وجل، وبعد الفراغ من الأسباب لا يعتمد عليها بلَ يعتمد بقلبه على الله عز وجل، (¬1) وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " لابد من الأخذ بالأسباب، ومن هذه الأسباب حفر الخندق؛ لأنه يعطل الأعداء عن اجتياح المدينة " (¬2). ¬
وهذا يبين للداعية أهمية الأخذ بالأسباب النافعة في الدعوة إلى الله عز وجل (¬1). ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحث علي أخذ الحذر والأهبة لصد أعداء الإسلام: ظهر في هذين الحديثين أهمية الحث على التحصن من العدو وأخذ الحذر، والأهبة؛ ولهذا عمل النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه مع أصحابه وحفروا الخندق، وتأهبوا لقتال عدوّهم وصده، وأخذوا الحذر منه. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] (¬2). وهذا يبين للداعية أهمية الحث على أخذ الحذر من أعداء الإِسلام، والإِعداد وأخذ الأهبة لصدهم عن ديار المسلمين. ثالثا: من صفات الداعية: الصبر وتحمل المشاق: دل الحديثان على صبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم على مشاق الدعوة، والاستعداد لقتال أعداء الإِسلام؛ ولهذا صبروا على الجوع، والتعب في حفر الخندق، ونقل التراب على ظهورهم. وسوف يجازيهم الله على عملهم بأن يثيبهم بغير حساب قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] (¬3). فينبغي الصبر والمصابرة على مشاق الدعوة والجهاد في سبيل الله عز وجل، (¬4) قال اللِّه عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] (¬5). رابعا: من سنن الله عز وجل: الابتلاء والامتحان: الله عز وجل يبتلي ويختبر عباده بالسراء والضراء، وبالخير والشر، فهذا رسول ¬
الله صلى الله عليه وسلم أفضل البشر، وهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم أفضل الناس بعد الأنبياء: يصيبهم ما أصابهم من الجوع، والمشقة، والخوف أثناء حفر الخندق، فصبروا على ذلك ابتغاء وجه الله عز وجل (¬1). وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " وهذه من مناقب الصحابة وصبرهم على الجهاد، وهذا من ابتلاء الله لأوليائه " (¬2) وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عصب بطنه بحجر من الجوع أثناء حفر الخندق، وبقي هو ومن معه في الحفر ثلاثة أيام لا يذوقون طعاما (¬3). فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يسأل الله العافية، وإذا أصابه ابتلاء واختبار صبر، واحتسب الثواب من الله عز وجل. خامسا: من صفات الداعية: الزهد: دل الحديثان على زهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الدنيا، وإيثارهم ما عند الله عز وجل على ملذاتها؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة» فالعيش الباقي والدائم المعتبر والمستمر والمطلوب، هو عيش الآخرة، وأما عيش الدنيا فإنه متاع زائل (¬4). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي هذين الحديثين إشارة إلى تحقير عيش الدنيا لما يعرض له من التكدير وسرعة الفناء " (¬5). وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين حفظه الله: " العيشة الهنيئة الراضية هي عيش الآخرة، وأما الدنيا فإنها مهما طاب عيشها فمآلها إلى الفناء، وإذا لم يصحبها عمل صالح فإنها خسارة " (¬6). ¬
قال الله عز وجل {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] (¬1) وقال عز وجل: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 - 17] (¬2). وهذا يبين للداعية أهمية الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله عز وجل؛ لأنه هو الباقي الذي لا يفنى ولا يموت أهله (¬3). سادسا: من أساليب الدعوة: إنشاد الشعر الممدوح والرجز: لا شك أن إنشاد الشعر المحمود، والرجز الممدوح من أساليب الدعوة إلى الله تعالى؛ ولهذا فعله عليه الصلاة والسلام في حفر الخندق مع أصحابه، وهذا الرجز منسوب إلى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، قال العلامة العيني رحمه الله: " وفيه استعمال الرجز والشعر إذا كانت فيه إقامة النفوس، وإثارة الأنفة ودفع المَعَرَّة " (¬4). وهذا يبيِّن أهمية استخدام هذا الأسلوب عند الحاجة إليه مع الالتزام بالمحمود منه واجتناب المذموم (¬5). سابعا: من وسائل الدعوة: تسلية المدعوين وتنشيطهم: إن من الوسائل التي تنشط المدعو وتزيد في عزيمته ما يستعمله الداعية من الوسائل المباحة أو المشروعة، ومن هذه الوسائل إنشاد الشعر المباح والرجز الممدوح، وقد دل فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في هذين الحديثين على ذلك. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه أن في إنشاد الشعر تنشيطا في العمل، وبذلك جرت عادتهم في الحرب وأكثر ما يستعملون في ذلك الرجز " فتح (¬6) وقال رحمه الله: " الرجز من بحور الشعر على الصحيح وجرت عادة ¬
العرب باستعماله في الحرب، ليزيد في النشاط ويبعث الهمم " (¬1) وهذا يوضح للداعية أن الشعر المحمود والرجز الممدوح من الوسائل النافعة مع بعض المدعوين. ثامنا: من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء: لا ريب أن الدعاء للمدعو من الأساليب النافعة التي تجذب قلوب المدعوين؛ وقد دعا صلى الله عليه وسلم للصحابة في هذين الحديثين بأدعية مباركة منوعة منها: " اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة " وقال: ". . . فبارك في الأنصار والمهاجرة " وقال: " فأكرم الأنصار والمهاجرة " " فأصلح الأنصار والمهاجرة " دعوات مباركات أحب إلى المهاجرين والأنصار من الدنيا وما فيها (¬2). تاسعا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: دل الحديثان على أهمية القدوة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا عمل النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة بنفسه، فحفر معهم الخندق، وذاق ألم الجوع والتعب معهم، فقَوِي حماسهم ونشطت نفوسهم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " في مباشرته صلى الله عليه وسلم الحفر بنفسه تحريض للمسلمين على العمل ليتأسوا به في ذلك " (¬3) فينبغي للداعية أن يكون قدوة حسنة للمدعوين (¬4). عاشرا: من أساليب الدعوة: رفع الصوت في الخطب والمواعظ: إن من أساليب الدعوة التي تزيد في نشاط المدعو رفع الصوت بالخطب والمواعظ؛ ولهذا رفع صوته صلى الله عليه وسلم في الحديث الثاني من هذين الحديثين حيث ¬
قال: «إذا أرادوا فتنة أبينا» قال الراوي: " يرفع بها صوته " وفي رواية: " يمد صوته بآخرها " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه جواز رفع الصوت في عمل الطاعة لينشِّط نفسه وغيره " (¬1). * وقد كان هديه صلى الله عليه وسلم رفع الصوت في الخطب؛ ليستفيد الناس منها؛ ولينتبهوا ولا يصيبهم الكسل والنعاس (¬2) فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبه، حتى كأنه منذر جيش» (¬3). فينبغي للداعية أن يكون نشيطا برفع صوته على حسب الحاجة وحسب ما يناسب المدعو، والزمان، والمكان. الحادي عشر: من أساليب الدعوة: الترغيب: إن أسلوب الترغيب من أنفع الأساليب في ترغيب المدعوين في الخير والعمل به، وقد ظهر في هذين الحديثين في قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة " فَنشَّط هذا الأسلوب الصحابة رضي الله عنهم، وشوَّقهم في العمل، ورغّبهم في عيش الآخرة؛ لأنه الذي يدوم ويبقى؛ ولهذا النشاط والرغبة قالوا: " نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا ". فينبغي العناية بهذا الأسلوب؛ لما فيه من النفع للمدعوين (¬4). الثاني عشر: من صفات الداعية: التواضع: إن من أعظم الصفات الحميدة التواضع، وقد دل هذان الحديثان على هذه الصفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل البشر، وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ومع ذلك يحفر مع أصحابه الخندق، ويواري التراب بطنه، ويربط الحجر على بطنه من الجوع، ويقدَّم بين يديه في هذا المكان الطعام الذي له ريح منتن كما قال الراوي: ¬
" يؤتون بملء كفَّي من الشعير فيصنع لهم بإهالة سنِخة، وتوضع بين يدي القوم، والقوم جياع وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن "؛ قال الإِمام ابن أبي جمرة رحمه الله: " فيه دليل على تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه؛ إذْ أنه في الفضل حيث هو، ومع ذلك الفضل العظيم كان ينقل التراب مع أصحابه، كأنه واحد منهم " (¬1). فينبغي للداعية أن يكون متواضعا لله عز وجل مع المدعوين وغيرهم. الثالث عشر: من صفات الداعية: إعانة المدعوين: إن من الصفات التي ينبغي أن يلتزم بها الداعية: إعانة المدعوين، ومشاركتهم في عمل الخير؛ لأن أفضل الناس محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كان يعين أصحابه ويشاركهم في أعمال الجهاد وغيره، ويشاركهم في حفر الخندق كما في هذين الحديثين؛ قال الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله في فوائد الحديث الثاني: " فيه دليل على أن الإِمام ينزل للخدمة مع أصحابه، إذا كانوا في أمور الحرب وإعانتهم فيما نحن بسبيله " (¬2). الرابع عشر: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: دل الحديث الثاني من هذين الحديثين على أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم أسلوب القسم في قوله صلى الله عليه وسلم: « والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا » فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب عند الحاجة إليه؛ لأنه يثبت المعاني في القلوب ويحملها على التصديق (¬3). الخامس عشر: من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار: ظهر في الحديث الثاني من هذين الحديثين أسلوب التوكيد بتكرير الكلمة في قوله صلى الله عليه وسلم: " أبينا أبينا " ولا شك أن هذا الأسلوب مهم في تثبيت المعاني ¬
في القلوب، وحملها على التصديق؛ قال العلامة الملا علي القاري رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم: " أبينا أبينا " " مكرر للتأكيد والتلذذ، والتسميع لغيره من المسلمين والكافرين " (¬1). فينبغي العناية بأسلوب التأكيد بالتكرار؛ لما له من الأهمية في الدعوة إلى الله عز وجل (¬2). السادس عشر: من صفات الداعية: إثبات النعم لله والثناء عليه بها: دل حديث البراء رضي الله عنه على أن من الصفات الحميدة إثبات النعم لله عز وجل والتحدث بها والثناء على الله عز وجل بذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: « اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا » قال الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: " فيه دليل على أن أفعال الخير تنسب إلى الله وإن كان العبد هو المتسبب فيها؛ لأن المولى جلَّ جلاله هو المنعم بها " (¬3). فينبغي للداعية أن ينسب جميع النعم لله تعالى، ويشكره عليها، ويتحدث بها؛ قال الله عز وجل: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] (¬4) وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] (¬5) وقال عز وجل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] (¬6). السابع عشر: من صفات الداعية: الاستفادة مما عند الآخرين: إن من صفات الداعية الاستفادة مما عند الآخرين، مما يجلب المنفعة ويحقق المصلحة؛ لحماية الدين والذود عن حياضه، وتبليغه للناس؛ وقد ¬
دل مفهوم الحديثين على ذلك، فقد ذكر كثير من العلماء أن سبب حفر الخندق مشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق؛ لأن سلمان قال: " إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا " فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة (¬1) وهذا وغيره يوضح للداعية أنه لا حرج من الاستفادة مما عند الآخرين إذا كان فيه نفع للإِسلام والمسلمين، وليس فيه مخالفة للشرع. الثامن عشر: من صفات الداعية: الدقة في نقل الحديث: دل حديث البراء رضي الله عنه أن من الصفات التي ينبغي أن يعتني بها الداعية عناية خاصة: الدقة والصحة فيما يقول وينقل للناس؛ ولهذا جاء في هذا الحديث أن الراوي قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى اغمرَّ بطنه، أو اغبرَّ بطنه " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " شك الراوي " (¬2) وهذا يدل على عناية السلف بضبط الحديث، وبيانه للناس على الوجه الأكمل (¬3). التاسع عشر: أهمية استجابة المدعو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: ظهر في هذين الحديثين أنه ينبغي للمدعو أن يستجيب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ويتحمل المشاق في سبيل العمل بهذا الدين، وقبول الدعوة: استجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24] (¬4) وقد ظهر ذلك في هذين الحديثين؛ لقول الصحابة رضي الله عنهم: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا فينبغي لكل عبد من عباد الله أن يستجيب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. ¬
باب من حبسه العذر عن الغزو
35 - باب مَنْ حبَسه العذْر عن الغزْو [حديث إن أقواما بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه] 47 - [2838] حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يونسَ: حَدَّثَنَا زهَيْر: حَدَّثَنَا حمَيْد أَن أنسا (¬1) حَدَّثَهمْ قَالَ: «رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَة تَبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم» (¬2). وفي رواية: أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي غَزَاة فَقَالَ: «إِنَّ أَقْوَاما بالْمَدِينة خَلْفَنَا مَا سلَكْنَا شِعْبا وَلَا وَادِيا إلَّا وَهمْ مَعَنَا فِيه، حَبَسَهم العذْر» (¬3). وفي رواية: أَنَ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم «رَجَعَ مِنْ غَزْوَة تَبوك، فَدَنَا مِنْ الْمَدِينَة فَقَالَ: " إِنَّ بِالْمَدِينَة أَقْوَاما مَا سِرتمْ مَسِيرا، وَلَا قطعْتمْ وَادِيا إِلَّا كَانوا مَعَكم، قَالوا: يَا رَسولَ الله، وَهمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ وَهمْ بِالْمَدِينَة حَبَسَهم الْعذْر» (¬4). * شرح غريب الحديث: * " شعبا " الشعب ما انخفض بين جبلين، وكان كالدرب (¬5). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - حرص الصحابة رضي الله عنهم على الجهاد وعدم تخلفهم بغير عذر. 2 - من صفات الداعية: النية الصالحة. 3 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 4 - من ميادين الدعوة: طرق السير. 5 - من خصائص الإِسلام: اليسر والسماحة ورفع الحرج. ¬
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: حرص الصحابة رضي الله عنهم على الجهاد وعدم تخلفهم بغير عذر: ظهر في هذا الحديث عظم حرص الصحابة رضي الله عنهم على الجهاد في سبيل الله عز وجل، وعدم تخلفهم بدون عذر؛ ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حرصهم العظيم على ذلك فقال: «إن أقواما بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر»، فينبغي لكل مسلم أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحرص على الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ (¬1) ولهذا الحرص العظيم كان الفقراء من الصحابة إذا لم يقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو بكوا وحزنوا، قال الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ - وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91 - 92] (¬2). ثانيا: من صفات الداعية: النية الصالحة: دل الحديث على أن النية الصالحة تبلغ ما يبلغ العمل، وأن من فضل الله عز وجل إثابة العبد إذا عجز عن القربة والطاعة، مع عزمه عليها؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم» وقد بين صلى الله عليه وسلم أنه حبسهم العذر؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه أن المرء يبلغ بنيته أجر العامل إذا منعه العذر عن العمل " (¬3). وهذا يوضح للداعية أهمية النية الصالحة وعلوَّ مكانتها، فينبغي الصدق والعزيمة في تصحيح النية وإخلاصها لله تعالى. ¬
ثالثا: من أساليب الدعوة: الترغيب: استخدم النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته في هذا الحديث: أسلوب الترغيب بقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسِيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم»، وهذا فيه ترغيب في الجهاد وبيان عظم منزلته، وأن المجاهد يكتب له ثواب السير، وكل عمل يعمله في طريقه إلى الجهاد، وأن من لم يحصل له الجهاد لعجزه كان شريكا للمجاهدين إذا صلحت نيته؛ قال الإِمام النووي رحمه الله: " وفي هذا الحديث فضيلة النية في الخير، وأن من نوى الغزو وغيره من الطاعات فعرض له عذر منعه حصل له ثواب نيته، وأنه كلما أكثر من التأسف على فوات ذلك، وتمنّى كونه مع الغزاة ونحوهم كثر ثوابه والله أعلم " (¬1). ولهذه النية الصالحة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا آتاه الله مالا فجعل ينفقه في سبل الخير، وأن رجلا فقيرا قال: «لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء» (¬2). فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب؛ لأهميته في الدعوة إلى الله تعالى (¬3). رابعا: من ميادين الدعوة: طرق السير: إن من ميادين الدعوة، طرق السير: في السفر والجهاد، والحج وغير ذلك من الطرق؛ وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ورغبهم في إصلاح النية أثناء سيره في طريقه إلى المدينة راجعا من غزوة تبوك كما جاء في الحديث: رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة فقال: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم» وهذا يبين للداعية أهمية الدعوة في طرق السير، فينبغي له العناية بذلك، في طرق سيره، في السفر والحضر؛ ليقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم. ¬
خامسا: من خصائص الإسلام: اليسر والسماحة ورفع الحرج: دل الحديث على سعة رحمة الله، ويسر الإِسلام وسماحته، ورفعه الحرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «وهم بالمدينة حبسهم العذر» دلالة واضحة على رفع الحرج عن المعذور بمرض أو كبر أو غير ذلك من الأعذار المانعة من الأعمال الصالحة: كالجهاد وغيره؛ إذا قام بما يستطيعه؛ قال الله عز وجل: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء: 95] (¬1) فاستثنى الله تعالى أولي العذر ورفع الحرج عنهم. ¬
باب فضل الصوم في سبيل الله
36 - باب فَضْلِ الصَّوْم فِي سَبِيلِ الله [حديث من صام يوما في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا] 48 - [2840] حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن نَصْر: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنا ابْن جرَيْجٍ قال: أَخْبَرني يَحيى بْن سَعِيدٍ وَسهَيْل بْن أَبِي صالِح: أنهمَا سَمِعَا النّعْمَانَ بْنَ أبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدْرِي (¬1) رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقول «مَنْ صَامَ يَوْما فِي سَبِيلِ الله بَعَّدَ الله وَجْهه عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفا» (¬2). * شرح غريب الحديث: * " سبعين خريفا " الخريف: الزمان المعروف من فصول السنة ما بين الصَّيف والشتاء، ويراد به سبعين سنة؛ لأن الخريف لا يكون في السنة إلا مرة واحدة، فإذا انقضى سبعون خريفا فقد مضت سبعون سنة (¬3). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحث على صيام التطوع. 2 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 3 - من صفات الداعية: الإِخلاص. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على صيام التطوع: دل الحديث على أهمية الحث على صيام التطوع، وحض المدعوين عليه؛ ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم عليه في هذا الحديث وذلك ببيان فضل صيام يوم واحد فكيف بمن صام أكثر من ذلك، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على صيام ست من ¬
شوال، وثلاثة أيام من كل شهر، وصيام الأيام البيض، والاثنين والخميس، ويوم عرفة لغير الحاج، وتسعة أيام من عشر ذي الحجة، وصيام يوم عاشوراء مع يومٍ قبله، وحث على صيام شهر الله المحرم، وحث بفعله على صيام أكثر شعبان بل كان يصومه كله، وبين أن أفضل الصيام: صيام يوم وإفطار يوم. فينبغي للداعية أن يحث أهل الإِسلام على صيام التطوع كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم (¬1). ثانيا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على الترغيب في الصيام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من صام يوما في سبيل الله بعّد الله وجهه عن النار سبعين خريفا». قال الإِمام النووي رحمه الله: " فيه فضيلة الصيام في سبيل الله، وهو محمول على من لا يتضرر به، ولا يفوت به حقّا، ولا يختل به قتاله، ولا غيره من مهمات غزْوِه، ومعناه المباعدة عن النار والمعافاة منها " (¬2). فينبغي للداعية أن يرغِّب في صيام التطوع، ويبيِّن فضائله للناس، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرغب فيه، باستخدامه لأسلوب الترغيب؛ ولهذا بيّن صلى الله عليه وسلم أن من صام يوما واحدا في سبيل الله بعّد الله وجهه عن النار سبعين سنة، وذلك على وجه المبالغة في البعد عن النار (¬3). ثالثا: من صفات الداعية: الإخلاص: ظهر في هذا الحديث أهمية الإِخلاص لله تعالى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من صام يوما في سبيل الله» قال الإِمام القرطبي رحمه الله: " أي في طاعة الله، يعني بذلك: ¬
قاصدا به وجه الله تعالى وقد قيل فيه: إنه الجهاد في سبيل الله " (¬1) وقال الإِمام ابن دقيق العيد رحمه الله على قوله صلى الله عليه وسلم " في سبيل الله " " العرف الأكثر فيه: استعماله في الجهاد، فإذا حمل عليه، كانت الفضيلة؛ لاجتماع العبادتين - أعني عبادة الصيام والجهاد - ويحتمل أن يراد بسبيل الله: طاعته كيف كانت، ويعبر بذلك عن صحة القصد والنية فيه " (¬2) وقال العلامة المناوي رحمه الله: «من صام يوما في سبيل الله» أي لله ولوجهه، أو في الغزو، أو في الحج " (¬3) وعلى قول من فسر سبيل الله بالجهاد؛ فإن الإِخلاص شرط في صحة جميع العبادات. وهذا يبين للداعية إلى الله عز وجل أهمية إخلاص العمل لله عز وجل؛ قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125] (¬4) فإسلام الوجه إخلاص القصد والعمل لله، والإِحسان فيه: متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته (¬5)؛ قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] (¬6) قال الفضيل بن عياض رحمه الله: " هو أخلصه وأصوبه " قالوا: يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؛ فقال: " إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة " (¬7) قال الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] (¬8) وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163] (¬9) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث لا يغلّ ¬
عليهن قلب مسلم: إخلاص العَمَل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم» (¬1) والمعنى أن القلب لا يحمل الغل ولا يبقى فيه مع هذه الثلاث، فإنها تنفي الغِلَّ، والغِشَّ، وفساد القلب وسخائمه، فالمخلص لله إخلاصه يمنع غِلَّ قلبه، ويخرجه ويزيله جملة؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه، فلم يبق فيه موضع للغلِّ والغش (¬2). فينبغي لكل مسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل أن يخلص عمله لله عز وجل، وأن يسأل الله كثيرا هذه الصفة الحميدة العظيمة؛ ولعظم هذه الصفة قال الفضيل بن عياض رحمه الله: " ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإِخلاص أن يعافيك الله منهما " (¬3) فأسأل الله لي ولجميع إخواني المسلمين الإِخلاص في القصد، والقول، والعمل. ¬
باب فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير
38 - بَاب فضلِ من جهز غازيا أو خلفَه بخيرِ [حديث من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا] 49 - [2843] حَدَّثَنَا أَبو مَعْمَرٍ: حدثنا عَبْد الْوَارِثِ: حدثنا الْحسَيْن: حدَّثَنِي يحيى قَال: حَدَّثَنِي أَبو سَلَمَة: حدَثَنِي بسْر بْن سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْد بْن خَالِدٍ (¬1). رضي الله عنه أَنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيا فِي سَبِيلِ الله فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيا فِي سَبِيلِ الله بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا» (¬2). * شرح غريب الحديث: * " جهز غازيا " تجهيز الغازي: تحميله وإعداد ما يحتاج إليه في غزوه، ومنه: تجهيز العروس، وتجهيز الميت (¬3). * " خَلَفَ غازيا في أهله " أي قام مقامه في مراعاة أهله، يقال: خَلَفْت الرجل في أهله إذا أقمت بعده فيهم، وقمت عنه بما كان يفعله (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحث على إعداد الدعاة والغزاة في سبيل الله عز وجل. ¬
2 - أهمية إعانة الدعاة والمجاهدين في سبيل الله عز وجل. 3 - من أساليب الدعوة: الترغيب. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على إعداد الدعاة والغزاة في سبيل الله عز وجل: دل الحديث على أن تجهيز الدعاة والمجاهدين من موضوعات الدعوة التي ينبغي أن يعتنى بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على ذلك بقوله: «من جهز غازيا فقد غزا» وهذا فيه الحث على إعداد الدعاة والمجاهدين، ومساعدتهم بالمال، والكتب العلمية، وإمداد المجاهدين بالسلاح، والعتاد، وجميع ما يحتاجون إليه؛ لقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] (¬1) وقوله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] (¬2). فينبغي العناية وحث المسلمين على إعداد الدعاة بالتعليم، والكتب والمال، ووسائل النقل المناسبة ثم إرسالهم للدعوة إلى الله عز وجل، وإعداد المجاهدين بالتعليم، والزاد، ووسائل النقل المناسبة، والسلاح، وغير ذلك من لوازم إعداد وتجهيز الدعاة والمجاهدين في سبيل الله عز وجل (¬3). ثانيا: أهمية إعانة الدعاة والمجاهدين في سبيل الله عز وجل: ظهر في هذا الحديث أهمية إعانة الدعاة إلى الله عز وجل، والمجاهدين في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن خلف غازيا في سبيل الله فقد غزا» وهذا فيه بيان لأهمية إعانة الدعاة والمجاهدين، بإصلاح حال أهلهم، والقيام على ما يحتاجون إليه، والنيابة عنهم بالرعاية، والنفقة، وتفقد أحوالهم، وحمايتهم مما يضرهم، والدفاع عنهم، وإصلاح حال الأولاد، ومراقبة استقامتهم على ¬
طاعة الله، وإرشادهم وتوجيههم إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة (¬1) قال الإِمام النووي رحمه الله: " وفي هذا الحديث الحث على الإِحسان إلى من فعل مصلحة للمسلمين أو قام بأمر من مهماتهم " (¬2). ثالثا: من أساليب الدعوة: الترغيب: في هذا الحديث الحث على أسلوب الترغيب في تجهيز الدعاة والمجاهدين والعناية بما يحتاجون إليه في دعوتهم وجهادهم، وفي القيام بمصالح أهلهم وحمايتهم من بعدهم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا». وهذا يبين فضل من جهز داعيا إلى الله أو غازيا في سبيل الله كما يبين فضل من قام برعاية مصالح الدعاة والغزاة في أهلهم وأموالهم قال الإِمام النووي رحمه الله في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: " فقد غزا " " أي حصل له أجر بسبب الغزو، وهذا الأجر يحصل بكل جهاد، وسواء قليله وكثيره، ولكل خالف له في أهله بخير: من قضاء حاجة لهم وإنفاقٍ عليهم، أو مساعدتهم في أمرهم، ويختلف قدر الثواب بقلة ذلك وكثرته " (¬3) وهذا من فضل الله عز وجل على عباده أن جعل من جهز غازيا في سبيل الله عز وجل أو خلفه في أهله، كالغازي في المرتبة؛ لأنه إذا جهزه بماله يجاهد، وإذا خلفه في أهله بخير فكأن المجاهد لم يخرج من بيته؛ لقيام أموره فيه وإصلاح حال أهله، وحمايتهم، ونصرتهم (¬4). قال الإِمام القرطبي رحمه الله: " القائم على مال الغازي وعلى أهله نائب عن الغازي في عمل لا يتأتى للغازي غزوه إلا بأن يكفى ذلك العمل، فصار كأنه يباشر معه الغزو، فليس مقتصرا على النية فقط، بل هو عامل في الغزو، ولما ¬
كان كذلك كان له مثل أجر الغازي كاملا. . . " (¬1). وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن النفقة في سبيل الله عز وجل تضاعف إلى سبعمائة ضعف، وهذا يدخل فيه من جاهد بنفسه ومن لم يجاهد؛ لحديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل بناقة مخطومة وقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة» (¬2) وهذا كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] (¬3). ومن فضل الله عز وجل أن من رَغَّبَ في الدعوة أو الجهاد أو غير ذلك من أنواع الطاعات فله مثل أجر من دعا وجاهد وعمل وإن لم يدع، ولم يعمل، ولم يجاهد (¬4)؛ ولهذا جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يحمله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما عندي " فقال رجل: يا رسول الله أنا أدله على من يحمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» (¬5) وهذا فيه أعظم الترغيب في إعانة الدعاة والمجاهدين والمشاركة والدلالة على جميع أنواع الخير. ¬
حديث إني أرحمها قتل أخوها معها
[حديث إني أرحمها قتل أخوها معها] 50 - [2844] حَدَّثَنا موسَى بْن إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا هَمَّام عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عبد الله عَنْ أَنسٍ (¬1) رضي الله عنه، «أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكنْ يَدْخل بَيْتا بِالْمَدِينَة غَيْرَ بَيْتِ أمِّ سلَيمٍ (¬2) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِه، فَقِيلَ لَه، فَقَالَ: " إِنِّي أَرْحَمهَا قتِلَ أَخوهَا (¬3) مَعِي» (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 2 - من وسائل الدعوة: زيارة أهل المصائب وتسليتهم. 3 - من صفات الداعية: التواضع. ¬
4 - من صفات الداعية: الرحمة. 5 - من صفات الداعية: الإِحسان. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: القدوة الحسنة وسيلة نافعة من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل، وقد ظهر ذلك في قول أنس رضي الله عنه: «إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخل بيتا بالمدينة غير بيت أمِّ سليم إلا على أزواجه» وقد وضَّح معنى ذلك لفظ الحديث عند مسلم «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه إلا على أم سليم» قال الإِمام القرطبي رحمه الله: " إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل على النساء عملا بما شرع من المنع من الخلوة بهنّ؛ وليقْتَدى به في ذلك " (¬1) وقال الإِمام النووي رحمه الله: " قال العلماء: أراد امتناع الأمة من الدخول على الأجنبيات " (¬2). وهذا يبين للداعية أهمية القدوة الحسنة وتأثيرها في حياة المدعوين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وهو قدوة الدعاة، وقد ذكر القرطبي رحمه الله وغيره من أهل العلم: أن أم سليم كانت محرما للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة الرضاع (¬3) وقيل: كانت خالته من الرضاع أو من النسب (¬4). فينبغي للداعية أن يبتعد عن الدخول على النساء الأجنبيات؛ لامتثال أمر الشارع؛ وليقتدي به الناس. ثانيا: من وسائل الدعوة: زيارة أهل المصائب وتسليتهم: ظهر في هذا الحديث أهمية زيارة أهل المصائب وتسليتهم ومشاركتهم في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شارك أم سليم في مصيبتها بقتل أخيها في غزوة بئر ¬
معونة؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " والنبي صلى الله عليه وسلم كان يجبر قلب أم سليم بزيارتها، ويعلل ذلك بأن أخاها قتل معه " (¬1) فينبغي للداعية أن يعتني بذلك؛ لما فيه من جذب قلوب المدعوين وإدخال السرور عليهم وجبر قلوبهم. ثالثا: من صفات الداعية: التواضع: إن التواضع من الصفات الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها الداعية إلى الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وله من الفضل والشرف ما ليس لغيره من البشر، ومع ذلك يزور أم سليم، ويدخل السرور على قلبها. قال الإِمام النووي رحمه الله: " فيه بيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الرحمة والتواضع وملاطفة الضعفاء " (¬2). فينبغي للداعية أن يتصف بخلق التواضع لله ثم لعباده (¬3). رابعا: من صفات الداعية: الرحمة: لا ريب أن الرحمة من الصفات العظيمة التي ينبغي لكل مسلم أن يتصف بها وأولى الناس بهذه الصفة الداعية إلى الله عز وجل، وقد ظهرت هذه الرحمة في قوله صلى الله عليه وسلم لأم سليم: «إني أرحمها قتل أخوها معي» وهذا مصداقا لقوله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] (¬4) وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (¬5). فينبغي العناية بذلك، ورحمة المدعوين والشفقة عليهم، والله المستعان (¬6). خامسا: من صفات الداعية: الإحسان: دل مفهوم الحديث على أن الإحسان من الصفات الكريمة؛ وقد حث النبي ¬
صلى الله عليه وسلم على الإِحسان إلى المجاهدين بالعناية بأهلهم ورعايتهم فقال: ". . . «ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا» (¬1) فمن غاية الإِكرام للغازي والإِحسان إليه: العناية بأهله ورعاية مصالحهم، والقيام على ما ينفعهم ودفع ما يضرهم، وهذا في حياة الغازي أو الداعية فمن باب أولى إكرام أهله والإِحسان إليهم بعد موته، وهذا يؤخذ من زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأم سليم والإِحسان إليها بعد قتل أخيها، قال صلى الله عليه وسلم: «إني أرحمها قتل أخوها معي» (¬2). فينبغي العناية بأهل العالم، والداعية، والمجاهد بعد موتهم إكراما لهم، وإحسانا إليهم، ووفاء بحقهم. والله أعلم. ¬
باب التحنط عند القتال
39 - باب التّحّنطِ عنْدَ الْقتَال [حديث ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله] 51 - [2845] حَدَّثَنَا عبد الله بْن عَبْدِ الْوَهَّابِ: حَدَّثَنَا خَالِد بْن الحَارِثِ: حَدَّثَنَا ابْن عَوْنٍ، عَن موسَى بْنِ أنس قَالَ: وَذَكَرَ يَوْمَ الْيَمَامَة قَالَ: «أَتَى أنس بن مَالِكٍ (¬1) ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ (¬2) وَقَدْ حَسَرَ عَنْ فَخِذَيْه وَهوَ يَتَحَنَّط فَقَالَ: يَا عَمِّ، مَا يَحْبسكَ أَن لَّا تَجيءَ؟ قَالَ: الآن يَا ابْنَ أَخِي، وَجَعَلَ يَتَحَنَّط - يَعْنِي مِنَ الحنوطِ - ثمَّ جَاءَ فَجَلَسَ، فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ انْكِشَافا مِنَ النَّاسِ فَقَالَ: هَكَذا عَنْ وجوهِنَا حَتَّى نضَارِبَ القَوْمَ، مَا هكَذا كنَّا نَفعْل مَعَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، بِئْسَ مَا عوَّدْتمْ أَقْرَانَكمْ» رَواه حَمَّاد، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنس. * شرح غريب الحديث: * " حسر عن فخذيه " أي كشف (¬3). * " ما يحبسك " أي يؤخرك (¬4). ¬
* " يتحنط " يستعمل الحنوط، وهو ما يحنَّط به الموتى خاصة من الطيب، والكافور، وإنما كان يتحنط حرصا على الموت، وعزما عليه، واستعدادا له، وتوطين النفس عليه بالصبر على القتال؛ لما رأى من انكشاف الناس (¬1). * " انكشافا من الناس " الانكشاف: الفِرار أو الهزيمة (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحث والتحريض على الجهاد. 2 - من صفات الداعية: التلطف ولين الكلام مع الكبير والصغير. 3 - من صفات الداعية: الاستعداد للقاء الله عز وجل. 4 - من صفات الداعية: صحة اليقين وقوته. 5 - من صفات الداعية: الشجاعة والثبات. 6 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 7 - تأديب المدعو بالكلمة القوية عند الحاجة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحث والتحريض على الجهاد. دل هذا الحديث على الحث والتحريض والحض على الجهاد، وتوبيخ من يتكاسل عنه بالكلام المناسب؛ ولهذا قال أنس رضي الله عنه لقيس بن ثابت: «يا عمّ ما يحبسك أن لَّا تجيء؟ " فقال له: " الآن يا ابن أخي» وهذا فيه تحريض على الجهاد؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه التداعي إلى الحرب والتحريض عليها " (¬3). ¬
وهذا يبين أهمية التحريض على الجهاد كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] (¬1) قال الإِمام القرطبي رحمه الله: " أي حثهم وحضهم " (¬2). ثانيا: من صفات الداعية: التلطف ولين الكلام مع الكبير والصغير: دل على ذلك قول أنس رضي الله عنه لثابت بن قيس رضي الله عنه: «يا عمِّ ما يحبسك أن لا تجيء» فقوله: " يا عمِّ " قال ابن حجر رحمه الله: " إنما دعاه بذلك: لأنه كان أسنَّ منه؛ ولأنه من قبيلة الخزرج " (¬3) وقد رد عليه ثابت رضي الله عنه بقوله: «الآن يا ابن أخي». وهذا فيه تلطف وإكرام وإجلال، والعرب تتوسع في هذه الكلمات: تلطفا وتوددا، وتعبيرا عن إنزال المخاطب منزلة الابن أو ابن الأخ، أو العم، أو الأب (¬4). وهذا يوضح للداعية مكانة التلطف والتودد وتأثيره في القلوب قال الله سبحانه وتعالى لموسى وهارون حينما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] (¬5) وهذا يؤكد العناية بهذه الصفة الحميدة. (¬6). ثالثا: من صفات الداعية الاستعداد للقاء الله عز وجل: من الأمور المهمة أن يكون المسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل على استعداد تام للموت، وذلك بالتوبة من الذنوب، وإصلاح العمل، والقيام بالواجبات، والابتعاد عن المحرمات، وقد دل هذا الحديث على العناية بالاستعداد للموت والتأهب له وذلك بفعل ثابت بن قيس بتحنطه قبل القتال رضي الله عنه استعدادا للقاء الله، ورغبة في الانتقال من هذه الدنيا على أحسن حال (¬7) وهذا ¬
يؤكد العناية بذلك عناية خاصة فائقة؛ لأن الإِنسان لا يدري متى يدركه الأجل، والله المستعان (¬1). رابعا: من صفات الداعية: صحة اليقين وقوته: من الصفات العظيمة التي ينبغي أن يتصف بها الداعية: صحة اليقين وقوته؛ ولهذا تحنَّط ثابت بن قيس رضي الله عنه استعدادا للشهادة في سبيل الله تعالى، وثقة بالله عز وجل أن يثيبه، وهذا يدل على قوة يقينه ورغبته فيما عند الله عز وجل موقنا بذلك؛ لعلمه بأن الله عز وجل لا يخلف وعده؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه قوة ثابت بن قيس، وصحة يقينه ونيته " (¬2). فينبغي للداعية أن يحسن ظنه بالله ويوقن إيقانا صادقاَ بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا (¬3). خامسا: من صفات الداعية: الشجاعة والثبات: دل الحديث على أن الشجاعة والثبات من أعظم الصفات التي ينبغي للداعية أن يتصف بها، وقد ظهرت هذه الصفة في فعل ثابت بن قيس رضي الله عنه، وإقدامه إلى المعركة بقوة ونشاط وعزيمة صادقة؛ ولهذه الشجاعة قال لأصحابه؛ " هكذا عن وجوهنا حتى نضارب القوم، ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " والمعنى: افسحوا لي حتى أقاتل (¬4) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه الإِشارة إلى ما كان الصحابة عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الشجاعة والثبات في الحرب " (¬5). فينبغي أن يكون الداعية متصفا بالشجاعة العقلية والقلبية والأدبية (¬6). ¬
سادسا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: ظهر في هذا الحديث أن القدوة الحسنة من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا قال ثابت بن قيس رضي الله عنه: " ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " والمعنى أن الصف في القتال لا ينصرف عن موضعه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بل يثبتون في قتالهم ولا يتقهقرون (¬1) فقد اقتدى رضي الله عنه بفعله هو وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهده، وأرشد المجاهدين بهذه الكلمة إلى ما كان عليه الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم من الثبات في قتال عدوهم (¬2). وهذا يبين أهمية هذه الوسيلة في الدعوة إلى الله وأن الداعية ينبغي بل يلزمه أن يكون قدوة صالحة حسنة لغيره (¬3). سابعا: تأديب المدعو بالكلمة القوية عند الحاجة: لا ريب أن المدعوين يختلفون على حسب أحوالهم، وعقولهم، والداعية يخاطبهم مراعيا في ذلك ما ينفعهم على حسب أحوالهم؛ لأنه كالطبيب الحاذق الذي يقدم الدواء على حسب الداء، ومن هذا الدواء والعلاج تأديب بعض المدعوين بالكلام القوي، والزجر عما يضرهم، وقد ظهر هذا التأديب في كلام ثابت بن قيس رضي الله عنه في هذا الحديث لأصحابه بقوله: " بئس ما عودتم أقرانكم " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وأراد ثابت بن قيس بقوله هذا توبيخ المنهزمين! أي عودتم نظراءكم في القوة من عدوكم الفرار منهم حتى طمعوا فيكم " (¬4) وهذا يبين أهمية تأديب المدعو بالكلام إذا ظهرت المصلحة وانتفت المفسدة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم الكلمة القوية عند الحاجة إليها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه، وقال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده» (¬5). ¬
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟ " قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: " أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشّ فليس مني» (¬1) واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة ابن اللتبية فجاء بالمال فدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «هذا مالكم وهذه هدية أهديت لي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فتنظر أيهدى إليك أم لا»؟ " (¬2). فينبغي للداعية جلب المصالح ودفع المفاسد؛ فإن تعارضت المصالح والمفاسد دفعت أعظم المفسدتين أو الضررين باحتمال أيسرهما، وجلبت أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح (¬3). ¬
باب فضل الطليعة
40 - بَاب فَضلِ الطلِيعةِ [حديث لكل نبي حواري وحواري الزبير] 52 - [2846] حَدَّثَنَا أَبو نعَيمٍ: حَدَّثَنَا سفْيَان، عَنْ محَمَّدِ بْنِ المنكَدِرِ، عَنْ جَابِر (¬1). رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: " مَنْ يأتيني بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ " يَوْمَ الأحْزَاب، قَالَ الزّبَيْر (¬2) أنا. ثَمَّ قَالَ: " مَنْ يأتيني بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ " قَالَ الزّبَيْر: أنا. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ لِكلِّ نَبي حَوَارِيّا وَحَوَارِي الزّبير» (¬3). وفي رواية: «نَدَب النَّبِي صلى الله عليه وسلم النَّاسَ فَانْتَدَبَ الزّبَيْر، ثمَّ نَدَبَ النَّاسَ فَانْتَدَبَ الزّبَيْر، ثمَّ نَدَبَ النَّاسَ فَانْتَدَبَ الزّبَيْر، قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ لِكلِّ نِبي حَوَاريّا. ¬
وإِنَّ حَوَارِي الزّبير بن العَوَّامِ» (¬1). وفي رواية: «مَنْ يأتينا بِخَبَرِ القَوْمِ؟ " فَقَالَ الزّبَيْر: أنا. ثمَّ قَالَ: " مَنْ يَأْتِينَا بخَبَرِ الْقَوْمِ؟ " فَقَالَ الزّبَيْر: أنا. ثمَّ قَالَ: " مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ " فَقَالَ الزّبَيْر: أنا. ثمَّ قَالَ: " إِنَّ لِكلِّ نَبِي حَوَارِيّا، وإِنَّ حَوَارِي الزّبَيْر» (¬2). وفي رواية: قَالَ سفْيَان: حَفِظْته مِنْ ابْنِ المنكَدِرِ، وَقَالَ لَه أَيّوب: يَا أَبَا بَكْرٍ، حدّثْهمْ عَنْ جَابِرٍ؛ فَإِنَّ الْقَوْمَ يعْجِبهمْ أَنْ تحَدِّثَهمْ عَنْ جَابِرٍ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ المَجْلِسِ: سَمِعْت جَابِرا، فَتَتَابَعَ بَيْنَ أَحَادِيثَ سَمِعْت: جَابِرا، قلْت لِسفْيَانَ: فَإِنَّ الثَّوْرِي يَقول: يَوْمَ قرَيْظَة، فَقَالَ: كَذَا حَفِظْته مِنْه كَمَا أنكَ جَالِس: " يَوْمَ الْخَنْدَقِ " قَالَ سفْيَان: هوَ يَوْم وَاحِد، وتَبَسَّمَ سفْيَان (¬3). وفي رواية: " قَالَ سفْيَان: الْحَوَارِي: النَّاصِر " (¬4). * شرح غريب الحديث: * «إن لكل نبي حواريّا» الحواري: الناصر المجتهد في النصر، والخاصة من الأصحاب، ومنه الحواري من الطعام، وهو: ما بيِّض واجتهد في تبييضه. والحواري: أصله: من التحوير: وهو التبييض (¬5). * " ندب. . . فانتدب " يقال: ندبت الرجل للأمر أو للجهاد فانتدب: أي بعثته ودعوته فأجاب (¬6). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحض على الجهاد. 2 - من فقه الدعوة: معرفة أحوال المدعوين. 3 - من صفات الداعية: الشجاعة. 4 - من صفات الداعية: صحة اليقين وقوته. 5 - سرعة استجابة المدعو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. 6 - أهمية نصر الداعية وشد عضده. 7 - من أساليب الدعوة: التأكيد والتكرار. 8 - من أساليب الدعوة: الحوار. 9 - من صفات الداعية: الدقة والضبط في نقل الحديث. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحض على الجهاد. دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة الحث على الجهاد والتحريض عليه؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وندبه الناس في قول جابر رضي الله عنه: «ندب النبي الناس فانتدب الزبير» قال الإِمام النووي رحمه الله في هذا المعنى؛ " أي دعاهم للجهاد وحرضهم عليه فأجابه الزبير " (¬1) وهذا يبين أهمية العناية بالحث على الجهاد والحض عليه (¬2). ثانيا: من فقه الدعوة: معرفة أحوال المدعوين: لا شك أن من فقه الدعوة معرفة الداعية لأحوال المدعوين؛ لمعرفة ما هم عليه، وللحذر من مكائد الأعداء، والاستعداد لهم بما يناسبهم من دعوة أو ¬
جهاد، وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] (¬1) وقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55] (¬2) والله عز وجل قد بين سبيل المؤمنين مفصَّلة وسبيل المجرمين مفصَّلة (¬3) وقوله سبحانه وتعالى: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55] قال الإِمام الطبري رحمه الله على قراءة الرفع {سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55] وكأن معنى الكلام عندهم: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} [الأنعام: 55] ولتتضح لك وللمؤمنين طريق المجرمين " وقال على قراءة من قرأه بالنصب (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلَ الْمجْرِمِينَ) " كأن معناه عندهم: ولتستبين، أنت يا محمد [أو يا مخاطب] سبَيلَ المجرمين " ثم قال رحمه الله: وأولى القراءتين بالصواب عندي في " السبيل " الرفع؛ لأن الله تعالى ذِكْره فصَّل آياته في كتابه وتنزيله؛ ليتبين الحقَّ بها من الباطل جميع من خوطب بها، لا بعض دون بعض (¬4) وقال الإِمام ابن القيم رحمه الله: " فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبان لهم السبيلان " (¬5). وقد دل هذا الحديث على أهمية معرفة أحوال الأعداء في قوله صلى الله عليه وسلم: «من يأتينا بخبر القوم. . . " " وانتدب الناس فانتدب الزبير» وهذا يوضح للداعية أهمية معرفة أحوال المدعوين؛ ليقدم للمستجيبين منهم ما يناسبهم، وَليَحْذَرَ كيد الكائدين منهم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حينما أرسله إلى اليمن: «إنك تأتي قوما أهل كتاب». . . " (¬6). فبين له حالهم؛ ليستعد لهم بما يناسبهم. ثالثا: من صفات الداعية: الشجاعة: ظهرت في هذا الحديث شجاعة الزبير بن العوام رضي الله عنه حينما انتدب النبي ¬
صلى الله عليه وسلم الناس فانتدب الزبير ثلاث مرات؛ ولهذا قال العلامة القسطلاني رحمه الله؛ " فيه منقبة للزبير وقوة قلبه وشجاعته " (¬1). فينبغي للداعية أن يكون شجاعا: قلبيّا، وأدبيّا: حسيّا ومعنويّا (¬2). رابعا: من صفات الداعية: صحة اليقين وقوته: دل هذا الحديث على صحة يقين الزبير رضي الله عنه وقوته؛ فإنه كان أوَّلَ الناس في إجابة النبي صلى الله عليه وسلم حينما ندب الناس؛ لقوة يقينه ورغبته فيما عند الله عز وجل، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " فيه منقبة للزبير، وقوة قلبه، وصحة يقينه " (¬3) رضي الله عنه ورحمه (¬4). خامسا: أهمية سرعة استجابة المدعو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: إن سرعة الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم من أهم المهمات، ومن أعظم القربات؛ لأن بها تحصل السعادة في الدنيا والآخرة، وقد دل هذا الحديث على أهمية سرعة استجابة المدعو عندما قال صلى الله عليه وسلم: «من يأتينا بخبر القوم " فقال الزبير: أنا». وانتدب صلى الله عليه وسلم الناس فانتدب الزبير فكان رضي الله عنه أسرع الصحابة في الاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال الإِمام الكرماني: " فانتدب الزبير، أي أجاب وأسرع " (¬5). فينبغي لكل مسلم وخاصة الداعية أن يكون مستجيبا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم على الفور لكل ما كلف به (¬6). سادسا: أهمية نصر الداعية وشَدِّ عَضده: ظهر في هذا الحديث أن نصر الداعية وإعانته، ومؤازرته من أهم المهمات؛ ولهذا عندما ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس فانتدب الزبير ثلاث مرات قال صلى الله عليه وسلم: «إن ¬
لكل نبي حواريا وحواري الزبير» والحواري هو الناصر والخاصة من الأصحاب، والصحابة رضي الله عنهم كلهم كانوا أنصارا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلا ريب، ولكن الزبير رضي الله عنه كان له اختصاص بالنصرة وزيادة فيها، ولاسيما في يوم الأحزاب (¬1). فينبغي لكل مسلم أن ينصر الدعاة إلى الله عز وجل ويعينهم بقوله وفعله؛ ولأهمية هذه النصرة سأل موسى صلى الله عليه وسلم ربه أن يجعل له من يؤازره من أهله ويعينه وينصره فاستجاب الله سبحانه وتعالى له، كما بيَّن الله عز وجل ذلك في القرآن الكريم بقوله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي - هَارُونَ أَخِي - اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي - وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي - كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا - وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا - إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا - قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 29 - 36] (¬2) وقال عز وجل: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35] (¬3). وهذا يبين أهمية نصر الدعاة إلى الله عز وجل والشد من أزرهم. سابعا: من أساليب الدعوة: التأكيد والتكرار: إن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم هذا الأسلوب في هذا الحديث؛ وذلك بإعادة الكلام ثلاث مرات بقوله صلى الله عليه وسلم: «من يأتينا بخبر القوم» وقد كان صلى الله عليه وسلم يكَرِّر الكلام عند الحاجة لذلك حتى يفهم عنه، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان إذا تكلَّم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه. .» (¬4). فينبغي للداعية أن يعتني بهذا الأسلوب عند الحاجة إليه (¬5). ثامنا: من أساليب الدعوة: الحوار: دل هذا الحديث على أسلوب الحوار الهادي المثمر بين أيوب السختياني، ¬
وأبي بكر محمد بن المنكدر، وبين علي بن المديني شيخ البخاري وسفيان بن عيينة رحمهم الله، وفي نهاية الحوار قال سفيان: هو يوم واحد وتبسم. وقد أثمر هذا الحوار على أن لفظة " يوم قريظة " في الحديث، ويوم " الخندق " في الرواية الأخرى، و " يوم الأحزاب " في الرواية الأولى كلها تدل على معنى واحد؛ وذلك أنه أريد بقوله " يوم قريظة " أي اليوم الذي أراد صلى الله عليه وسلم أن يعلم فيه خبر بني قريظة وهو لا يزال في الخندق. قال الكرماني رحمه الله: " إذ الثلاثة في زمن واحد " (¬1) وقال ابن حجر رحمه الله: " وقعة الخندق دامت أياما آخرها لما انصرفت الأحزاب ورجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى منازلهم جاء جبريل عليه السلام بين الظهر والعصر فأمره بالخروج إلى بني قريظة فخرجوا " (¬2) وهذا يبين أهمية الحوار في الدعوة إلى الله عز وجل (¬3). تاسعا: من صفات الداعية: الدقة والضبط في نقل الحديث: دلت هذه المحاورة في هذا الحديث على عناية السلف الصالح رحمهم الله تعالى بالدقة والعناية بضبط الحديث حتى يصل إلى الناس سليما من الخطأ والتصحيف، والكذب (¬4) وهذا يبين للداعية أهمية الالتزام بذلك في نقله للعلم وتبليغه للناس (¬5). ¬
باب الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة
43 - باب: الخيل معقود فِي نواصيها الخير إلى يوم القيامة [حديث الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة] 53 - [2849] حَدَّثَنَا عبد الله بْن مَسْلَمَة: حَدَّثنَا مَالِك، عَنْ نافعٍ، عَنْ عبد الله بْنِ عمَرَ (¬1) رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْخَيْل فِي نَواصِيهَا الْخَير إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة» (¬2). وفي رواية: «الْخَيْل مَعْقود فِي نَوَاصيهَا الْخَيْر إِلى يَوْمِ الْقِيَامَة» (¬3). [حديث الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة] 54 - [2850] حَدَّثَنَا حَفْص بْن عمَرَ: حَدَّثَنَا شعْبَة، عَنْ حصَيْنٍ، وابْنِ أبِي السَّفَرِ، عَنْ الشَّعْبِي، عَنْ عرْوَة (¬4) بْنِ الجَعْدِ، عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْخَيْل مَعْقود فِي نَواصِيهَا الْخَيْر إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة». قَالَ سلَيْمَان: عَنْ شعْبَة: " عَنْ عرْوَة بْنِ أَبِي الجَعْدِ ": تَابَعَه مسدَّد، عَنْ هشَيْمٍ، عَنْ حصَينٍ، عَن الشَّعْبِي: " عَنْ عرْوَة بْنِ أَبِي الجَعْدِ " (¬5). وفي رواية: «الْخَيْل مَعْقود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر إِلَى يَوْمِ الْقِيَامة: الأَجْر والْمَغْنَم» (¬6). ¬
حديث البركة في نواصي الخيل
وفي رواية: «الْخَيْل مَعْقود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر، والأَجْر، والْمَغْنَم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» (¬1). وفي رواية: عن شبيب عن عروة: «الْخَيْر مَعْقود بِنَوَاصِي الْخَيْلِ إِلَي يَوْمِ الْقِيَامَة»، قَالَ: وَقَدْ رَأَيْت فِي دَارِه سَبْعينَ فَرَسا. قَالَ سفْيَان: " يَشْتَرِي لَه شَاة كأنها أضحِيَّة " (¬2). [حديث البركة في نواصي الخيل] 55 - [2851] حَدَّثَنَا مسَدَّد: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن سَعِيدٍ عَنْ شعْبَة، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ (¬3) رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْبَرَكَة فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ» (¬4). وفي رواية: «الْخَيْل مَعْقود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر» (¬5). * شرح غريب الأحاديث: * " معقود في نواصيها الخير " أي ملازم لها كأنه معقود فيها (¬6). والناصية مقدم الرأس، وشعر مقدم الرأس إذا طال (¬7). * الدراسة الدعوية للأحاديث: في هذه الأحاديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحض على الإِعداد للجهاد لإِعلاء كلمة الله عز وجل. 2 - من صفات النبي صلى الله عليه وسلم: الفصاحة والبلاغة. 3 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بالمغيبات. ¬
4 - من خصائص الإِسلام: البقاء إلى يوم القيامة. 5 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 6 - من أساليب الدعوة: التشبيه. 7 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحض على الإعداد للجهاد لإعلاء كلمة الله عز وجل: دلت هذه الأحاديث الثلاثة على الحض على الإِعداد للجهاد في سبيل الله تعالى؛ لإِعلاء كلمة الله عز وجل؛ لأن في قوله صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «البركة في نواصي الخيل» حث على الإعداد للجهاد؛ قال الإِمام ابن عبد البر رحمه الله: في هذا الحديث الحض على اكتساب الخيل، وفيه تفضيلها على سائر الدواب، لأنَّه صلى الله عليه وسلم لم يأتِ عنه في غيرها مثل هذا القول، وذلك تعظيم منه؛ لشأنها، وحض على اكتسابها، ونَدْب لارتباطها في سبيل الله، عدَّة للقاء العدوِّ، إذ هي من أقوى الآلات في الجهاد، فالخيل المعدة للجهاد هي التي في نواصيها الخير، وما كان معدّا منها للفتن وسلب المسلمين فتلك كما قال ابن عمر " خيل الشيطان " (¬1). وهذا يوضح العناية بالإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل بكل ما يستطيعه المسلمون من قوة (¬2) وذلك باتخاذ الأسباب وآلات الحرب لإِرهاب أعداء الله، ولكل زمان ما يناسبه: من خيل، أو مدافع، أو مدرعات، أو مصفحات، أو طائرات جوية، أو سفن بحرية (¬3)؛ لقوله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] (¬4). ¬
ثانيا: من صفات النبي صلى الله عليه وسلم: الفصاحة والبلاغة: من الصفات الكريمة التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم: البلاغة والفصاحة؛ وقد ظهرت في قوله صلى الله عليه وسلم: «البركة في نواصي الخيل» وقوله صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير» قال القاضي عياض رحمه الله: " في هذا الحديث مع وجيز لفظه من البلاغة والعذوبة ما لا مزيد عليه في الحسن مع الجناس السهل الذي بين الخيل والخير " (¬1) وقال الإِمام القرطبي رحمه الله: " وهذا الكلام جمع من أصناف البديع ما يعجز عنه كلّ بليغ، ومن سهولة ألفاظه ما يعجب ويستطاب " (¬2). وهذا يبين أهمية البلاغة والفصاحة في الدعوة إلى الله عز وجل، فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس؛ لبيانهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا» أو «إن بعض البيان سحر» (¬3). وهذا يبين للداعية أهمية الفصاحة والبلاغة وحسن الكلام، وبيان الحق للناس. والبيان نوعان: الأول ما يبيَّن به المراد، والثاني تحسين اللفظ حتى يستميل به قلوب السامعين، وهذا النوع الذي يشبَّه به السحر، والمذموم منه ما يقْصد به الباطل، أما مَا يبيَّن به الحق للناس بعذوبة الكلام وفصاحته وبلاغته واقتصاده فهو المطلوب في الدعوة إلى الله عز وجل (¬4). وقد بين الحافظ ابن حجر رحمه الله: أن المذموم من البيان ما يكون فيه صرف الحق إلى الباطل بتحسين الكلام كأن يكون الإِنسان عليه حق وهو ألحن بالحجة من صاحب الحق، فيسحر الناس ببيانه، فيذهب بالحق (¬5) وأما إذا كان البيان في تزيين الحق فهو الممدوح، وقد امتنّ الله بذلك على عباده حيث قال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ - عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 3 - 4] (¬6) قال الحافظ ابن حجر ¬
رحمه الله: " وقد اتفق العلماء على مدح الإِيجاز، والإِتيان بالمعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة، وعلى مدح الإِطناب في مقام الخطابة بحسب المقام وهذا كله من البيان بالمعنى الثاني " (¬1). فينبغي للداعية أن يراعي ذلك في الدعوة إلى الله بحسب الاستطاعة؛ وليعلم أن الإِفراط والتفريط في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها (¬2). ثالثا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار بالمغيبات: من علامات النبوة التي تدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الأمور الغيبية في القرون الغابرة، وما أخبر به في زمنه: كأعمال المنافقين وغيرهم، وما أخبر به من الأمور الغيبية في المستقبل (¬3). وهذه الأحاديث التي أخبر فيها صلى الله عليه وسلم بأن: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» (¬4) من إخباره صلى الله عليه وسلم بالغيوب في المستقبل؛ فإن الخير ملازم للخيل إلى يوم القيامة كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على صدقه وأنه رسول الله حقا؛ ولهذا ذكر الإِمام البخاري رحمه الله هذه الأحاديث في علامات النبوة (¬5). رابعا: من خصائص الإسلام؛ البقاء إلى يوم القيامة: دلت هذه الأحاديث - كغيرها - على أن الإِسلام باقٍ إلى يوم القيامة؛ لبيانه صلى الله عليه وسلم أن الخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة قال الإِمام ابن عبد البر رحمه الله: " وقد استدل جماعة من العلماء بأن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة تحت راية كلِّ برٍّ وفاجر من الأئمة بهذا الحديث، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ¬
فيه: «إلى يوم القيامة» والمجاهدون تحت راياتهم يغزون " (¬1) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه بشرى ببقاء الإِسلام وأهله إلى يوم القيامة؛ لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين وهم المسلمون " (¬2) ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال ناس من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون» (¬3) وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» (¬4). قال النووي رحمه الله: " فيه دليل على بقاء الإِسلام والجهاد إلى يوم القيامة: والمراد قبيْل القيامة بيسير: أي حتى تأتي الريح الطيبة من قبل اليمن تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة كما ثبت في الصحيح " (¬5). خامسا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دلت هذه الأحاديث الثلاثة على الترغيب في الإِعداد للجهاد، واستحباب رباط الخيل واقتنائها للغزو، وقتال أعداء الله، وأن فضلها وخيرها باق إلى يوم القيامة (¬6) ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والمغنم» وقوله صلى الله عليه وسلم: «الأجر والمغنم» تفسير للخير: أي الثواب في الآخرة والغنيمة في الدنيا (¬7) وقد بيَّن الخطابي رحمه الله: أن فيه الترغيب في اتخاذ الخيل والغزو عليها في سبيل الله، وأن المال الذي يكتسب بالخيل من خير وجوه الأموال وأطيبها (¬8) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الخيل ثلاثة: هي لرجل ¬
وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر، فأما التي هي له وزر» (¬1). فرجل ربطها: رياء، وفخرا، ونواء (¬2) على أهل الإِسلام فهي له وزر، وأما التي هي له ستر (¬3) فرجل ربطها في سبيل الله [تغنيا وتعففا] ثم لم ينسَ حق الله في ظهورها ولا رقابها فهي له ستر، وأما التي هي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإِسلام [فأطال لها (¬4)] في مرج (¬5) وروضة (¬6) فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات، وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات، ولا تقطع طِوَلها (¬7) فاستنّت (¬8) شرفا أو شرفين (¬9) إلا كتب الله له عدد آثارها، وأرواثها حسنات، ولا مر بها صاحبها على نهْر فشربت منه، ولا يريد أن يسقيها إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات (¬10). وهذا يبين أهمية الترغيب في الإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل، وأن المراد بالخيل المرغب فيها: ما يتخذ للغزو في سبيل الله سبحانه وتعالى ويقاتل عليها، أو يرتبط من أجل ذلك (¬11) وهذا الترغيب في الخيل فكيف ¬
بمن أعد العدة للجهاد بأعظم وأقوى من الخيل ابتغاء وجه الله عز وجل كالطائرات، والدبابات، والسفن وغيرها مما يستطيعه المسلمون؟ (¬1). سادسا: من أساليب الدعوة: التشبيه: إن أسلوب التشبيه من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل وقد ظهر في قوله صلى الله عليه وسلم: «معقود في نواصيها الخير» وتفسيره بـ «الأجر والمغنم»، أسلوب التشبيه. قال ابن الأثير رحمه الله قوله: «معقود» أي ملازم لها كأنه معقود فيها " (¬2) وتعقّبه الإِمام الطيبي رحمه الله فقال: أقول: يجوز أن يكون الخير المفسر بالأجر والغنيمة: استعارة مكنية، شبهه لظهوره وملازمته بشيء محسوس معقود بخيل، على مكان رفيع؛ ليكون منظورا للناس ملازما لنظرهم، فنسب الخير إلى لازم المشبَّه به، وذكر الناصية تجريدا للاستعارة (¬3). فينبغي للداعية أن يعتني بهذا الأسلوب على حسب الاستطاعة والحاجة (¬4). سابعا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: ظهرت في حديث عروة رضي الله عنه هذه الوسيلة؛ لأنه ممن روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير». . " ثم طبَّق ذلك على نفسه فكان يعتني بإعداد الخيل للجهاد في سبيل الله؛ قال شبيب بن غرقدة، الذي روى عنه الحديث: " وقد رأيت في داره سبعين فرسا " وهذا يدل على أنه رضي الله عنه روى للناس الحديث وكان قدوة حسنة لهم في ذلك؛ وقد ذكِرَ عنه أنه اشترى فرسا بعشرة آلاف درهم (¬5). وهذا يبيِّن للداعية أهمية القدوة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل. ¬
باب من احتبس فرسا لقوله تعالى ومن رباط الخيل
45 - باب من احتبس فرسا لقوله تعالى {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] (¬1). [حديث من احتبس فرسا في سبيل الله] 56 - [2853] حَدَّثَنَا عَلِي بْن حَفْصٍ: حَدَّثَنَا ابْن المبَارَكِ: أَخبَرَنَا طَلْحَة بْن أَبي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْت سَعِيدا المَقْبرِي يحَدِّث أَنه سَمِعَ أَبَا هرَيْرَة (¬2). رضي الله عنه يَقول: قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: «مَنِ احْتَبَسَ فَرَسا فِي سَبيلِ الله، إِيمَانا بِالله وَتَصْدِيقا بِوَعْدِه؛ فَإِنَّ شِبَعَه، وَرِيَّه، وَرَوْثَه، وَبَوْلَه فِي ميزانه يَوْمَ القِيَامَة». * شرح غريب الحديث: * «من احتبس فرسا في سبيل الله» أي: جعله وقفا للمجاهدين وغيرهم في سبيل الله، يقال: حَبَسْت أحْبِس حَبْسا، وأحبست أحبِس إحْبَاسا: أي وقفت (¬3). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحث على الإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل. 2 - من صفات الداعية: الإِخلاص. 3 - من صفات الداعية: احتساب الأجر والثواب. 4 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 5 - التصريح بذكر بعض الألفاظ المستقذرة عند الحاجة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل: دل هذا الحديث على أهمية الحث على الإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل، ¬
والمدافعة عن المسلمين، وقد ظهر ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «من احتبس فرسا في سبيل الله»؛ فإن فيه الحث على وقف الخيل للمدافعة عن المسلمين، ويستنبط منه وقف غير الخير من آلات القتال وغيرها وكل ما يعين على الجهاد وإرهاب أعداء الإِسلام (¬1). فينبغي العناية بذلك (¬2). ثانيا: من صفات الداعية: الإخلاص: إن الإِخلاص من أعظم الصفات التي ينبغي للداعية أن يتصف بها، وقد ظهرت هذه الصفة في قوله صلى الله عليه وسلم: «من احتبس فرسا في سبيل الله». قال الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: " يريد من حبسه بنية جهاد العدو ولا يريد غير ذلك، وفيه دليل على تأكيد النية في احتباسه لذلك؛ لأنه أتى بلفظ احتبس، التي هي من أبنية المبالغة كافتعل، ولم يقل حبس إشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى تأكيد النية في هذا الفعل وإزالة الشوائب عنها " (¬3). وهذا يبين أهمية الإِخلاص لله عز وجل؛ (¬4) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه أن المرء يؤجر بنيته كما يؤجر العامل " (¬5) وقال الطيبي رحمه الله على قوله صلى الله عليه وسلم: " إيمانا " مفعول له: " أي ربطه خالصا لله تعالى امتثالا لأمره " (¬6). ثالثا: من صفات الداعية: احتساب الأجر والثواب: دل الحديث على أن احتساب الأجر والثواب من الله عز وجل من الصفات العظيمة التي ينبغي أن لا يهملها المسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل، وقد ظهر ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «وتصديقا بوعده» قال الإِمام الطيبي رحمه الله معلقا على هذه الجملة من الحديث: " عبارة عن الثواب المرتب على الاحتباس. تلخيصه: ¬
أنه احتبس امتثالا واحتسابا، وذلك أن الله تعالى وعد الثواب على الاحتباس، فمن احتبس فكأنه قال: صدقت فيما وعدتني " (¬1). وهذا يوضح أهمية احتساب الأجر والثواب والتصديق بوعد الله عز وجل (¬2). رابعا: من أساليب الدعوة: الترغيب: ظهر في هذا الحديث أهمية الترغيب في اتخاذ الخيل وإعدادها للجهاد في سبيل الله عز وجل، وابتغاء مرضاته، ورغبة في حماية المسلمين والدفاع عنهم، والدعوة إلى الله عز وجل؛ فإن في ذلك الفضل العظيم؛ لأن الله يثيب من فعل ذلك عن كل ما تأكله الخيل، أو تشربه، أو يخرج من بول وروث، ويكون ذلك كله في موازين حسناته (¬3) وهذا فيه ترغيب في اقتناء كل ما يساعد على الجهاد والعناية بكل ما فيه قوة المسلمين في كل زمان بما يناسبه (¬4). فينبغي للداعية العناية بترغيب الناس في ذلك (¬5). خامسا: التصريح بذكر بعض الألفاظ المستقذرة عند الحاجة: لا حرج على الداعية إلى الله عز وجل أن يذكر بعض الألفاظ التي يستحيى منها أو تستقذر إذا دعت الحاجة لذلك؛ وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: بول الفرس وروثه وأنه في موازين حسنات من وقفه في سبيل الله عز وجل. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " لا بأس بذكر الشيء المستقذر بلفظه عند الحاجة " (¬6). ¬
باب اسم الفرس والحمار
46 - باب اسم الفرسِ وَالحمارِ [حديث فرس النبي صلى الله عليه وسلم] 57 - [2855] حَدَّثَنَا عَلِي بْن عبد الله بْنِ جَعْفَر: حَدَّثَنَا مَعْن بن عِيسى: حَدَّثَنِي أبَي بْن عباسِ بْنِ سَهْل عَنْ أَبِيه، عَنْ جَدِّه (¬1) قَالَ: «كَانَ للنَّبِي صلى الله عليه وسلم في حَائِطِنَا فَرَس يقَال لَه اللحَيْف». قَالَ أَبو عبد الله: وَقَالَ بَعْضهمْ: اللخَيْف. * شرح غريب الحديث: * " حائطنا " الحائط: " هو البستان من النخيل إذا كان عليه حائط وهو الجدار " (¬2). * " اللحَيْف " قال القاضي عياض رحمه الله: " اللحَيْف: بالحاء المهملة وضم اللام على التصغير كذا ضبطناه، وضبطناه أيضا بفتح اللام وكسر الحاء مكبرا، " اللَّحِيف " وقال بعضهم: بالخاء المعجمة والمعروف الأول " (¬3) وهو اسم فرس النبي صلى الله عليه وسلم، وسمِّي بذلك؛ لطول في ذنبه، فعيل بمعنى فاعل. كأنه يلحف الأرض بذنبه، أي يغطيها به، يقال: لحفت الرّجلَ باللِّحاف: طرحته عليه. قال ابن الأثير " ويروى بالجيم والخاء " (¬4) وقال في موضع آخر: " وأما من رواه بالخاء فلا وجه له " (¬5). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل. 2 - أهمية تعاون المدعو مع ولي أمر المسلمين. ¬
والحديث عن هذين الدرسين والفائدتين الدعويتين على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل: دل هذا الحديث على عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل؛ ولهذا جعل الفرس في حائط الصحابي سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما؛ ولعناية النبي صلى الله عليه وسلم بإعداد الخيل فقد كان لها أسماء تعرف بها في زمنه صلى الله عليه وسلم (¬1). فينبغي العناية بالإِعداد للجهاد، وحث المسلمين على ذلك (¬2). ثانيا: أهمية تعاون المدعو مع ولي أمر المسلمين: لا شك أنه ينبغي التعاون مع ولاة أمر المسلمين، والدعاة وشد أزرهم ابتغاء وجه الله عز وجل، وقد دل هذا الحديث على حرص الصحابة رضي الله عنهم على التعاون مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذا التعاون ما فعله سهل بن سعد بن مالك الساعدي رضي الله عنهما من حفظ فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائطه تعاونا على الإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل. ومن حرص الصحابة رضي الله عنهم على التعاون في الإِعداد للجهاد ما فعله سعد بن مالك (¬3) أبو سهل بن سعد؛ فإنه أوصى برحل راحلته عند موته للنبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله (¬4). فينبغي للمدعوين أن يتعاونوا مع ولاة الأمر والعلماء والدعاة في كل ما يكون فيه خدمة وحماية ودفاع ونصرة للإِسلام والمسلمين، كما قال سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] (¬5). ¬
حديث معاذ كنت رديف النبي على حمار
[حديث معاذ كنت رديف النبي على حمار] 58 - [2856] حَدَّثَنا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيمَ أنه سَمِعَ يَحْيَى بْنَ آدَمَ: حَدَّثَنَا أبو الأَحْوَصِ، عَن أَبي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمونٍ، عَنْ معَاذٍ (¬1) رضي الله عنه قَالَ: «كَنْت رِدْفَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يقَال لَه: عفَيْر، فَقَالَ: " يَا معَاذ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ الله عَلَى عِبَادِه؟ وَمَا حَقّ العِبَادِ عَلَى الله؟ " قلْت: الله وَرَسوله أَعْلَم. قَالَ: " فَإِنَّ حَقَّ الله عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبدوه وَلَا يشْرِكوا بِه شَيْئا، وَحَقّ العِبَادِ عَلَى الله أَنْ لا يعَذِّبَ منْ لا يشْرِك بِه شَيْئا "، فَقلْت: يَا رَسولَ الله أَفَلا أبَشِّر بِه النَّاسَ؟ قَالَ: " لا تبَشِّرْهمْ فَيَتَّكِلوا» (¬2). ¬
وفي رواية: «بَيْنَا أَنَا رَدِيف النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَه إِلَّا آخِرَة الرَّحْلِ، فَقَالَ: " يَا معَاذ " قلْت: لَبَّيْكَ يَا رَسولَ الله وَسَعْدَيْكَ. ثمَّ سَارَ سَاعَة، ثمَّ قَالَ: " يَا معَاذ "، قلت: لَبَّيْكَ رَسولَ الله وَسَعْدَيْكَ. ثمَّ سَارَ سَاعَة، ثمَّ قَالَ: " يَا معَاذ بْنَ جَبَلٍ "، قلْت: لَبَّيْكَ رَسولَ الله وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: " هَلْ تَدْرِي مَا حَقّ الله عَلَى عِبَادِه؟ " قلْت: الله وَرَسوله أَعْلَم. قَالَ: " حَقّ الله عَلَى عبَادِه أَنْ يَعْبدوه وَلَا يشْرِكوا به شَيْئا "، ثمَّ سَارَ سَاعَة، ثمَّ قَالَ: " يَا معَاذ بْنَ جَبَلٍ! "، قلْت: لَبَّيْكَ رَسولَ اللَّه وَسَعْديْكَ. قَالَ: " هَلْ تَدْرِي مَا حَقّ العِبَادِ عَلَى الله إِذَا فَعَلوه؟ " قلْت: الله وَرَسوله أَعْلَم. قَالَ: " حَقّ الْعِبَادِ عَلَى الله أَنْ لَا يعَذِّبَهمْ» (¬1). * شرح غريب الحديث: * " رديف " يقال: ردفت الرجل أردفه: إذا ركبت خلفه، وأردفته: إذا أركبته خلفي (¬2). * " عفير " وهو تصغير ترخيم لأعفر، من العفرة: وهي الغبرة ولون التراب (¬3). * " آخرة الرحل " هي الخشبة التي يستند إليها الراكب من كور البعير (¬4). * " لبَّيْك " هو من التلبية، وهي إجابة المنادي. ويقال: لبى بالحج إذا قال: لبيك اللهم لبيك: أي إجابتي لك يا ربِّ، وهو مأخوذ من لبَّ بالمكان وألبَّ به إذ أقام به ولم يفارقه، ولفظ التثنية في معنى التكرير: أي إجابة بعد إجابة. أو: أنا مقيم على طاعتك، وقيل: " لبيك اللهم لبيك " أي اتجاهي وتوجهي إليك يا ربِّ وقصدي، وثنِّي للتوكيد، من قولهم: داري تلِبّ دارك: ¬
أي تواجهها. وقيل: محبتي لك يا ربِّ، من قول العرب: امرأة لبَّة: أي محبة لولدها عاطفة عليه. وقيل: إخلاصي لك يا ربّ، من قولهم: حَسَب لبَاب: إذا كان خالصا محضا (¬1). * " وسَعْدَيْكَ " أي: سَاعَدَتْ طَاعَتك مسَاعدة بَعْدَ مسَاعَدَة، وإسعادا بعد إسعاد (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: التواضع. 2 - من ميادين الدعوة: مراكب المواصلات. 3 - من أساليب الدعوة: استفسار الداعية المدعو؛ ليختبر ما عنده. 4 - من أساليب الدعوة: النداء والإِجابة لتأكيد الاهتمام. 5 - أهمية تعليم العامة قبل أن يسألوا. 6 - أهمية سؤال الداعية عما أشكل عليه. 7 - أهمية مراعاة أحوال المدعوين. 8 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار. 9 - من سنة إلقاء العلم: الوقار والتثبت. 10 - من أدب المدعو: الاقتراب من مجالس العلم. 11 - من أدب الداعية: رد علم ما لا يعلمه إلى الله عز وجل. 12 - من أهم موضوعات الدعوة: الحض على الطاعات واجتناب المعاصي. 13 - أهم موضوعات الدعوة: الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك. 14 - من صفات الداعية: حب الخير للناس وتبشيرهم به؛ لإِدخال السرور عليهم. 15 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الاتكال. ¬
16 - من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب. 17 - من صفات النبي صلى الله عليه وسلم: الفصاحة والبلاغة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: التواضع: دل الحديث على خلق التواضع وأنه من صفات النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا ركب على الحمار وأردف معاذ بن جبل خلفه، قال الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: " فيه دليل على تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه إذ أنه في الفضل حيث هو وكان يركب هو وغيره على دابة واحدة " (¬1) ومن عظم تواضعه ما ذكره ابن حجر رحمه الله: أن ابن منده رحمه الله أفرد أسماء من أردفه النبي صلى الله عليه وسلم فبلغوا ثلاثين نفسا (¬2). فينبغي للداعية أن يتصف بهذه الصفة الحميدة (¬3). ثانيا: من ميادين الدعوة: مراكب المواصلات: لا شك أن مراكب المواصلات: من ميادين الدعوة، التي تستغل لنشر الدعوة أثناء السير فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعلِّم أثناء سيره وهو راكب على الحمار كما فعل مع معاذ رضي الله عنه في هذا الحديث، وكما فعل مع ابن عباس رضي الله عنهما حينما كان رديفه على حمار فقال: «يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» (¬4). ¬
وهذا يبين للداعية أهمية انتهاز الفرص أثناء ركوبه على وسائل المواصلات؛ قال الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله في فوائد حديث معاذ رضي الله عنه: " فيه في دليل على جواز الحث في العمل في الطريق على الدواب، هذا بشرط أن يكون الطريق ليس فيه اللغط الكثير؛ لأنه قلَّ أن يأتي التعلم مع كثرة اللغط " (¬1). فينبغي للداعية أن ينتهز الفرص أثناء ركوبه على وسائل المواصلات: كالسيارات، والطائرات، والقطارات، والسفن البحرية وغيرها، فينشر الدعوة، ويعلم الخير، إلا إذا منع من ذلك مانع، أو عارض ذلك مصلحة شرعية، أو خشي الداعية حصول مفسدة، أو تعطل مصلحة أعظم. . . والداعية الحكيم هو الذي يضع دعوته في موضعها المناسب. والله المستعان. ثالثا: من أساليب الدعوة: استفسار الداعية المدعو ليختبر ما عنده: دل هذا الحديث على أن من أساليب الدعوة طرح الداعية الأسئلة على المدعوين؛ ليختبر ما عندهم من العلم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «يا معاذ هل تدري حق الله على عباده؟ وما حق العباد على الله؟». وقد بيَّن الحافظ ابن حجر رحمه الله: أن في هذا الحديث من الفوائد " استفسار الشيخ تلميذه؛ ليختبر ما عنده، ويبيِّن له ما يشكل عليه منه " (¬2) ومما يؤكد أهمية هذا الأسلوب أن البخاري رحمه الله قال في أول كتاب العلم: " باب طرح الإِمام المسألة على أصحابه؛ ليختبر ما عندهم من العلم " ثم ساق تحته حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مَثَل المسلم، حدثوني ما هي؟ " قال فوقع الناس في شجر البوادي. قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة. ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: " هي النخلة» (¬3) وهذا يبيِّن للداعية أهمية هذا الأسلوب في الدعوة إلى الله عز وجل. ¬
رابعا: من أساليب الدعوة: النداء والإجابة لتأكيد الاهتمام: دل قوله صلى الله عليه وسلم: " يا معاذ " على أنَّ نداء الشخص باسمه قبل إلقاء العلم إليه من أدب العلم ومن أساليب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا بيَّن الإِمام عبد الله بن أبي جمرة أن في هذا الحديث من الفوائد في جذب قلب المدعو: " إحضار ذهنه إليك؛ ليعي ما تلقيه إليه؛ لأن الأذهان قد يطرقها فكرة فتكون بها مشغولة فلا تعي كل ما يلقى إليها " (¬1). فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب عند الحاجة إليه. خامسا: أهمية تعليم العامة قبل أن يسألوا: إن تعليم عامة الناس من أهم المهمات، وليس من شرطه أن يبقى الداعية ينتظر أسئلتهم، بل عليه أن يجتهد في تعليمهم العلم، وقد دل قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: «حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» أن الداعية يعلم الناس العلم ولو لم يسألوا عنه؛ قال الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: " وفي تعليمه صلى الله عليه وسلم معاذا من غير سؤال منه له صلى الله عليه وسلم دليل لمن يقول إن للعالم أن يعلم دون أن يسأل " (¬2). سادسا: أهمية سؤال الداعية عما أشكل عليه: إن السؤال عما أشكل من الأمور المهمة؛ ولهذا قال معاذ رضي الله عنه: «فقلت يا رسول الله أفلا أبشر به الناس؟ قال: " لا تبشرهم فيتكلوا»؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه جواز استفسار الطالب عما يتردد فيه، واستئذانه في إشاعة ما يعلم به وحده " (¬3) وقد أمر الله عز وجل بسؤال العلماء، وحذر العلماء من كتمان العلم فقال عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] (¬4) وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] (¬5). ¬
فينبغي للمدعو أن يسأل، وللداعية أن يجيب، ويسأل من هو أعلم منه (¬1). سابعا: أهمية مراعاة أحوال المدعوين: دل الحديث على أهمية مراعاة أحوال المدعوين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علَّم معاذا أن: «حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا» وعندما قال له معاذ رضي الله عنه: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تبشرهم فيتكلوا» وهذا يبين أن الداعية يراعي أحوال المدعوين فيقدم لكل إنسان ما يناسبه؛ ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " (¬2) وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكَذَّبَ الله ورسوله؟ " (¬3) وذكر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم» (¬4). وقد ذكر ابن حجر رحمه الله على قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبشرهم فيتكلوا» أن العلماء قالوا: " يؤخذ من منع معاذ من تبشير الناس؛ لئلا يتكلوا: أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس؛ لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها وقد سمعها معاذ ولم يزدد إلا اجتهادا في العمل وخشية لله عز وجل، فأما من لم يبلغ منزلته فلا يؤمن أن يقصر اتكالا على ظاهر الخبر " (¬5). ومما بين مراعاة أحوال المدعوين أن البخاري رحمه الله بوَّب في صحيحه بابا قال فيه: " باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا " ثم ذكر ¬
تحته حديث أنس بن مالك الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال: «يا معاذ بن جبل "، قال: لبيك يا رسول الله وسَعْدَيْك. قال: " يا معاذ " قال: لبيك يا رسول الله وسعديك " ثلاثا " قال: " ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار " قال: يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: " إذا يتكلوا» وأخبر بها معاذ عند موته تأثما (¬1). وهذا يبين للداعية أهمية مراعاة أحوال المدعوين في دعوته إلى الله عز وجل (¬2). ثامنا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار: وقد ظهر هذا الأسلوب في هذا الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم: " يا معاذ " وكرر نداء معاذ " ثلاث مرات " وهذا التكرار، لتأكيد الاهتمام بما يخبره به؛ وليكمل تنبيه معاذ فيما يسمعه (¬3) قال الإِمام القرطبي رحمه الله: " وإنما كرر النبي صلى الله عليه وسلم نداء معاذ ثلاثا؛ ليستحضر ذهنه وفهمه؛ وليشعره بعظم ما يلقيه عليه " (¬4) وهذا يحث الداعية ويبين له أهمية استخدام هذا الأسلوب في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى (¬5). تاسعا: من سنة إلقاء العلم: الوقار والتثبت: إن الداعية الناجح هو الذي يلتزم التثبت والوقار في تعليمه للناس الخير وإلقاء العلم إليهم، ويؤخذ هذا من إبطائه صلى الله عليه وسلم في الجواب؛ ولهذا قال: «يا معاذ " فقال معاذ رضي الله عنه: قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة فقال: " يا معاذ " فقال رضي الله عنه: لبيك رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة ثم قال: " يا معاذ بن جبل " فقال معاذ: " لبيك رسول الله وسعديك» قال الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: " ويؤخذ من إبطائه صلى الله عليه وسلم بين الندائين أن من سنة إلقاء العلوم ¬
الوقار، والتؤدة " (¬1) ومن كمال الحكمة والوقار والتؤدة أنه صلى الله عليه وسلم ناداه بقوله: " يا معاذ " مرتين ثم زاد في الثالثة " يا معاذ بن جبل " قال ابن أبي جمرة رحمه الله عن هذه الزيادة " إنما هي إشارة إلى أن هذه الثالثة آخر النداء فاسمع ما يلقى إليك؛ لأن زيادة (بن جبل) هو الكمال في التعريف، فإذا كمل الشيء فقد تم " (¬2). عاشرا: من أدب المدعو: الاقتراب من مجالس العلم: دل هذا الحديث على التأكيد والتنبيه على الاقتراب من حلقات العلم ومجالسه، وأن ذلك مما يعين السامع على الضبط؛ ولهذا قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: " ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل " قال الإِمام النووي رحمه الله: " أراد المبالغة في شدة قربه؛ ليكون أوقع في نفس سامعه؛ لكونه أضبط " (¬3). ومما يؤكد أهمية الاقتراب من مجالس العلم ما رواه البخاري رحمه الله عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فأقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب واحد، فأما أحدهما فرأى فرجة فجلس، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الآخر فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أخبركم عن الثلاثة: أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه» (¬4). وهذا يبين أهمية الاقتراب من مجالس العلم وسد الفرج فيها. الحادي عشر: من أدب الداعية: رد علم ما لا يعلمه إلى الله عز وجل: لا شك أنه ينبغي بل يلزم كل مسلم - وخاصة الداعية إلى الله سبحانه وتعالى - إذا سئل عن شيء لا يعلمه أن يقول: الله أعلم، أو لا أدري، أو سأراجع المسألة إن شاء الله، وقد دل هذا الحديث على هذا الأدب الكريم في قول معاذ بن جبل ¬
رضي الله عنه: " الله ورسوله أعلم ". ومما يبين أهمية هذا الأدب ما قاله الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " يا أيها الناس من عَلِمَ شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم؛ فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم " (¬1) قال الله عز وجل: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] (¬2). وسئل سعيد بن جبير عن شيء فقال: " لا أعلم " ثم قال: " ويل للذي يقول لما لا يعلم: إني أعلم " (¬3) وقال مالك: " ينبغي للعالم أن يألف فيما أشكل عليه قول: لا أدري؛ فإنه عسى أن يهيأ له خير " (¬4) وقال ابن وهب: " لو كتبنا عن مالك: لا أدري، لملأنا الألواح " (¬5). وعن عقبة بن مسلم أنه قال: صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهرا، فكثيرا ما كان يسأل فيقول: " لا أدري " ثم يلتفت إلي فيقول: " تدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسرا إلى جهنم " (¬6). وقال أبو داود: " قول الرجل فيما لا يعلم: لا أعلم نصف العلم " (¬7). وهذا كله يؤكد للداعية أهمية قوله: الله أعلم، أو لا أدري لما لا يعلمه وأن ذلك من الآداب الجميلة التي تدل على خشية الله عز وجل (¬8). الثاني عشر: من أهم موضوعات الدعوة: الحض كل الطاعات، واجتناب المعاصي: دل الحديث على أن القيام بالواجبات والابتعاد عن المحرمات من أعظم ¬
الفرائض التي فرضها الله على عباده؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: «حق الله على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا» قال الكرماني رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: «أن يعبدوه» أشار إلى العمليات، وقوله: «ولا يشركوا به شيئا» أشار إلى الاعتقاديات (¬1). فقوله: " أشار إلى العمليات " والمراد عمل الطاعات واجتناب المحرمات؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، على قوله صلى الله عليه وسلم: «أن يعبدوه»: " المراد بالعبادة عمل الطاعات واجتناب المعاصي، وعطف عليها عدم الشرك؛ لأنه تمام التوحيد، والحكمة في عطفه على العبادة: أن بعض الكفرة كانوا يدَّعون أنهم يعبدون الله، ولكنهم كانوا يعبدون آلهة أخرى، فاشترط نفي ذلك " (¬2). وأفضل ما عرِّفت به العبادة: قول شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: " العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه: من الأقوال والأعمال: الباطنة والظاهرة " (¬3) والعبادة أصل معناها الذل، يقال: طريق معبّد إذا كان مذللا قد وطئته الأقدام، لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل بغاية المحبة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ودينه (¬4). وقد عرف العلامة ابن القيم رحمه الله: العبادة بتعريف جامع قال فيه: وعبادة الرحمن غاية حبِّه ... مع ذلِّ عابده هما قطبان وعليهما فلك العبادة دائر ... ما دار حتى قامت القطبان ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان (¬5) / 50 فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يدعو الناس إلى عبادة الله وحده، ويحثهم على الإِيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره من الله عز وجل، والعمل بمقتضى الشهادتين: من إقام الصلاة، وإيتاء ¬
الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا، وأن يعبد العبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهد، وإنجاز الوعد، والإِحسان إلى الجار، واليتيم، والمسكين، والمملوك من الآدميين والبهائم، وإكرام الضيف، وتنفيس الكرب عن المكروب من المسلمين، والتيسير على المعسر، وستر المسلم، وإعانته، والإِخلاص لله، والتوكل عليه، والمحبة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وخشية الله، ورجاء رحمته، والتوبة والإِنابة إليه، والصبر على حكمه، والشكر لنعمه، وقراءة القرآن، وذكر الله، والدعاء، ومسألته والرغبة إليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله للكفار والمنافقين، وأن يصل المسلم من قطعه، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه، والعدل في جميع الأمور، وعلى جميع الخلق حتى الكفار، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام، وحسن الخلق، والدعوة إلى الله، والنصيحة لله، ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، وغير ذلك من أنواع العبادات (¬1). ومن العبادات: أن يبتعد الإِنسان عن جميع المعاصي والسيئات، فينبغي للداعية أن يحذر الناس عن الشرك، والتكذيب بالرسل، والكفر، والحسد، والكذب، والفجور، والخيانة، والظلم، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، والغدر، وقطيعة الرحم، والجبن عن الجهاد، والبخل، والشح، واختلاف السر والعلانية، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والجزع عند المصائب، والفخر والبطر عند النعم، وترك فرائض الله، واعتداء حدوده، وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، ورجاء المخلوق دون الخالق، والتوكل على المخلوق دون الخالق، والعمل رياء وسمعة، ومخالفة الكتاب والسنة، وطاعة المخلوق في معصية الخالق، والتعصب بالباطل، والاستهزاء بآيات الله، وجحد الحق، والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة، ¬
والسحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وإعطاء الرشوة وأخذها، وأكل أموال الناس بالباطل، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، وشرب الخمر، والكبر والخيلاء، والسرقة، واليمين الغموس، وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، والمنّ بالعطية، وإنفاق السلعة بالحلف الكاذب، وتصديق الكاهن والمنجم، والتصوير لذوات الأرواح، واتخاذ القبور مساجد، والنياحة على الميت، وإسبال الإِزار، ولبس الحرير أو الذهب للرجال، وأذى الجار، وإخلاف الوعد، ونقض العهد، وغير ذلك من المحرمات (¬1) ولا يمكن تفصيل ذلك واستغراقه، لكن يجمع جميع أنواع العبادة قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] (¬2). فيلزم الداعية أن يحث المدعوين على جميع الطاعات تفصيلا وتوضيحا وبيانا، ويحذرهم عن جميع المعاصي تفصيلا وتبيينا دقيقا، مع الالتزام بالأدلة من الكتاب والسنة، ومع التنويع، وإعطاء كل قوم ما يناسبهم من الأمر والنهي. وهذا هو حق الله على عباده. قال الإِمام القرطبي رحمه الله: " وحق الله على عباده: ما أوجبه عليهم بحكمه وألزمهم إياه بخطابه " (¬3). الثالث عشر: أهم موضوعات الدعوة: الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك: دل الحديث على أن أهم موضوعات الدعوة: الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك بالله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث: «حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» وقد بين الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: أن حق الله على عباده هو الجمع بين امتثال الحكمة في الأمر والنهي، وحقيقة التوحيد (¬4) وبين الحافظ ابن حجر أن المراد بالعبادة في الحديث عمل الطاعات ¬
واجتناب المعاصي وعطف عليها عدم الشرك؛ لأنه تمام التوحيد (¬1). فيلزم الداعية إلى الله عز وجل أن يبين للناس توحيد الله سبحانه وتعالى كما جاء في الكتاب والسنة، ويوضح لهم أن التوحيد نوعان: النوع الأول: التوحيد الخبري العلمي الاعتقادي، وهو توحيد في المعرفة والإِثبات، وهذا هو توحيد الربوبية، والأسماء والصفات، وهو إثبات حقيقة ذات الرب سبحانه وتعالى وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتكلمه بكتبه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره، وحكمته، وتنزيهه عما لا يليق به عز وجل من غير: تمثيلٍ، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تحريف، ولا تفويض للمعاني. النوع الثاني: التوحيد الطلبي القصدي الإِرادي: وهو توحيد في الطلب والقصد: وهو توحيد الإِلهية والعبادة (¬2). والقرآن كله من أوله إلى آخره في إثبات وتقرير هذين النوعين؛ لأنه إما خبر عن الله تعالى، وأسمائه وصفاته وأفعاله، وأقواله، وما يجب أن يوصف به، وما يجب أن ينزه عنه. فهو التوحيد العلمي الخبري. وإما دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وخلْع كل ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإِرادي الطلبي. وإما أمر ونهي، وإلزام بطاعته في أمره ونهيه، فهي حقوق التوحيد ومكملاته. وإما خبر عن إكرام الله لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده. وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم ¬
في الآخرة من العذاب. فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد. فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه، وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم (¬1). وهذا كله يؤكد على الداعية إلى الله عز وجل أن يبين للناس التوحيد وأنواعه، ويحذرهم عن كل ما يضاده من الشرك وأنواعه؛ فإن ذلك من أعظم الواجبات على كل داعية إلى الله سبحانه وتعالى. الرابع عشر: من صفات الداعية: حب الخير للناس وتبشيرهم به؛ وإدخال السرور عليهم: دل الحديث على أهمية حب المسلم - وخاصة الداعية - الخير للناس وفرحه بذلك؛ لأن معاذ بن جبل رضي الله عنه فرح فرحا شديدا بقوله صلى الله عليه وسلم: «وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا» فقال معاذ: " يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ "؛ ولهذا بين الإِمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن في هذا الحديث من الفوائد: استحباب بشارة المسلم بما يسره (¬2). وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن حب الخير للمسلم من كمال الإيمان فقال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (¬3). فينبغي للداعية أن يحب الخير للناس ويدخل السرور عليهم بتبشيرهم بما يسرهم؛ فإن ذلك يؤثر في نفوسهم ويكون وسيلة إلى قبول دعوته (¬4). الخامس عشر: من موضوعات الدعوة: التحذير من الاتكال: دل هذا الحديث على أن التحذير من الاتكال من موضوعات الدعوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «لا تبشرهم فيتكلوا» وهذا فيه إنذار من ¬
الاتكال وترك العبادة (¬1) وقد ذكر الإِمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله على قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبشرهم فيتكلوا» أنه صلى الله عليه وسلم إنما نهاه عن الإِخبار بهذا الفضل العظيم؛ لأن التوكل على نوعين: شرعي، ولغوي، ويعبَّر عنه بالطمع. فالتوكل الشرعي: هو التوكل على الله والاعتماد عليه وتفويض الأمر إليه مع بذل الجهد في امتثال الأوامر واجتناب النواهي والعمل بالأسباب (¬2). أما التوكل اللغوي: فهو الاتكال بدون عمل (¬3)؛ ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل عن تبشير الصحابة رضي الله عنهم؛ لئلا يعتمدوا على ذلك فيتركوا التنافس في الأعمال الصالحة (¬4). فينبغي للداعية أن يحذر الناس من الاتكال والكسل، ويحثهم على العمل والنشاط؛ ولهذا قال سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105] (¬5). السادس عشر: من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب: دل على هذين الأسلوبين قوله صلى الله عليه وسلم: «وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا». قال الإِمام القرطبي رحمه الله تعالى: " حق الله على عباده ما أوجبه عليهم بحكمه وألزمهم إياه بخطابه، وحق العباد على الله: هو ما وعدهم به من الثواب والجزاء، فحقَّ ذلك ووجب بحكم وعده الصدق وقوله الحق، الذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر، ولا الخلف في الوعد، فالله تعالى لا يجب عليه شيء بحكم الأمر، إذ لا آمر فوقه، ولا بحكم العقل إذ العقل كاشف لا موجب " (¬6). ¬
فظهر بذلك معنى " حق العباد على الله " أنه متحقق لا محالة (¬1) فهو حق جعله سبحانه على نفسه تفضلا وكرما؛ لأنه عز وجل قد وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم: 6] (¬2) فهو سبحانه وتعالى الذي أوجب على نفسه حقا لعباده المؤمنين كما حرم الظلم على نفسه، لم يوجب ذلك مخلوق عليه، ولا يقاس بمخلوقاته، بل هو بحكم رحمته، وحكمته، وعدله، كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم (¬3) قال عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] (¬4) وقال سبحانه وتعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] (¬5) وهذا استحقاق تفضل وإحسان وإنعام وامتنان من الله عز وجل على عباده (¬6). وقد ظهر أسلوب الترغيب في هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: " أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا "؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة» (¬7) وهذا فيه ترغيب لمن مات لا يشرك بالله شيئا؛ فإن الله عز وجل يدخله الجنة. أما أسلوب الترهيب فقد ظهر من مفهوم الحديث؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: «حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا» فمنطوق الحديث أنه سبحانه وتعالى لا يعذب من لا يشرك به شيئا، ومفهومه أنه يعذب من مات وهو يشرك بالله شيئا. وقد فسَّرت الأحاديث الأخرى هذا الحديث، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات يشرك بالله شيئا دخل النار» قال عبد الله رضي الله عنه: " وقلت أنا: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " (¬8) وقد جاء ذلك صريحا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن ¬
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار» (¬1) قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] (¬2). فينبغي للداعية أن يرغب الناس في التوحيد وثوابه، ويخوفهم من الشرك وعقابه. والله المستعان. السابع عشر: من صفات النبي صلى الله عليه وسلم: الفصاحة والبلاغة: دل هذا الحديث على فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم وبلاغته؛ لأنه جمع المعاني الكثيرة في الكلمات القليلة، فقوله صلى الله عليه وسلم: «حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» «وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا» كلمات قصيرات، شملت المعاني الكثيرة، مع كمال الوضوح والبيان (¬3). فينبغي للداعي أن يجتهد في الإيجاز في الألفاظ التي تتسع معانيها على حسب القدرة والاستطاعة (¬4). ¬
باب ما يذكر من شؤم الفرس
47 - باب ما يذْكَر من شؤْم الفرسِ [حديث إِنْ كَانَ الشؤم في شيء ففي المرأة والفرس والمسكن] 59 - [2859] حَدَّثَنَا عبد الله بْن مَسْلَمَة، عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِي (¬1) رضي الله عنه أَن رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنْ كَانَ فِي شيءٍ فَفِي: المَرْأَة، والْفَرَسِ، وَالْمَسْكَنِ» (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية اختيار الداعية الوسائل المعينة على الدعوة. 2 - من صفات الداعية: التوكل. والحديث عن هذين الدرسين والفائدتين الدعويتين على النحو الآتي: أولا: أهمية اختيار الداعية الوسائل المعينة على الدعوة: من الأمور المهمة أن يعتني الداعية بالوسائل التي تعينه على الدعوة وتزيد في نشاطه وقوته في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ومن هذه الوسائل: اختيار المركب الصالح، والمرأة الصالحة، والمسكن المناسب، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن كان في شيء ففي المرأة، والفرس، والمسكن» أي إن كان الشؤم في شيء ففي هذه الثلاثة كما فسره حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس، والمرأة، والدار» (¬3) وفي لفظ لمسلم: «لا عدوى ولا طيرة، وإنما الشؤم في ثلاثة: المرأة، والفرس، والدار» (¬4). ¬
قال الإِمام النووي رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في هذا الحديث فقال مالك وطائفة: هو على ظاهره، وأن الدار قد يجعل الله سكناها سبباَ للضرر أو الهلاك، وكذا اتخاذ المرأة المعيَّنة أو الفرس أو الخادم، قد يحصل الهلاك عنده بقضاء الله تعالى، ومعناه قد يحصل الشؤم في هذه الثلاث كما صرح به في رواية: " إن يكن الشؤم في شيء " وقال الخطابي وكثيرون: " هو في معنى الاستثناء من الطيرة: أي الطيرة منهي عنها إلا أن يكون له دار يكره سكناها، أو امرأة يكره صحبتها، أو فرس أو خادم، فليفارق الجميع بالبيع ونحوه وطلاق المرأة. وقال آخرون: شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها وأذاهم، وشؤم المرأة عدم ولادتها وسلاطة لسانها وتعرضها للريب، وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها، وقيل حِرانها وغلاء ثمنها، وشؤم الخادم سوء خلقه وقلة تعهده لما فوِّضَ إليه، وقيل: المراد بالشؤم هنا: عدم الموافقة " (¬1) وقال بعض العلماء: الأحاديث في الشؤم ثلاثة أقسام: أحدها: ما لم يقع الضرر به ولا التأذي ولا اطَّردت عَادة به خاصة ولا عامة، لا نادرة ولا متكرِّرَة، فهذا لا يصْغَى إليه وقد أنكر الشرع الالتفات إليه، وهو الطيرة، كلقي غراب في بعض الأسفار، أو صراخ بومة في دار، وهذا الذي كانت العرب في الجاهلية تعتبره وتعمل عليه، مع أنه ليس في ذلك ما يشعر بالأذى ولا المكروه. الثاني: ما يقع به الضرر، ولكنه يعم ولا يخص، ويندر ولا يتكرر، كالوباء، فهذا لا يقْدم عليه عملا بالحزم والاحتياط، ولا يخرج منه ولا يفرّ منه لإِمكان أن يكون قد وصل الضرر إلى الفارِّ فيكون سفره سببا في محنته وتعجيلا لهلكته. الثالث: ما يخص ولا يعمّ ويلحق به الضرر بطول الملازمة كالدار، والفرس، والمرأة، فهذه الثلاثة يباح الفرار منها واستبدالها بغيرها مما يناسب الإِنسان، والتوكل على الله تعالى، والإِعراض عما يقع في النفوس من ذلك من أفضل ¬
الأعمال والله أعلم (¬1). قال الإِمام الخطابي رحمه الله تعالى: " اليمن والشؤم سمتان لما يصيب الإِنسان من الخير والشر والنفع والضر ولا يكون شيء من ذلك إلا بمشيئة الله وقضائه وإنما هذه الأشياء مَحَالّ وظروف جعلت مواقع لأقضيته، ليس لها بأنفسها وطباعها فعل ولا تأثير في شيء، إلا أنها لما كانت أعم الأشياء التي يقتنيها الناس وكان الإِنسان في غالب أحواله لا يستغنى عن دار يسكنها، وزوجة يعاشرها وفرس يرتبطه. . . وكان لا يخلو من مكروه في زمانه ودهره أضيف اليمن والشؤم إليها إضافة مكانٍ ومحل وهما صادران عن مشيئة الله سبحانه " (¬2). وقال ابن حجر رحمه الله: " وقيل يحمل الشؤم على قلة الموافقة وسوء الطباع " (¬3). وسمعت سماحة شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول عند شرحه لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه: " والتشاؤم من هذه الثلاثة مستثنى ولا ينافي التوكل، فلا بأس بتركها، فقد لا تناسبه: الدابة، والزوجة، والمسكن، فلا بأس بمفارقة غير المناسب، فقد يجد شرورا في بعض هذه الأشياء فلا بأس أن يفارقها لعدم مناسبتها له، وقد تناسب غيره فلا يخبره بشؤمها، والسيارة تقوم مقام الدابة " (¬4). وإذا حمل الشؤم على عدم الموافقة وسوء الطباع فهو كحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاوة: الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيِّق، والمركب السوء» (¬5). ¬
وهذا يبيِّن للداعية أهمية اختيار الوسائل المناسبة التي تعينه على القيام بالدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن لهذه الأشياء أهمية عظمى في حياة الإِنسان، فإن كانت الزوجة صالحة، والدار صحِيَّة واسعة، والفرس أو السيارة قوية مريحة، والجار صالحا ارتاح الإِنسان وشعر بالسعادة والاستقرار النفسي وتفرَّغ للدعوة إلى الله تعالى (¬1). ثانيا: من صفات الداعية: التوكل: دل مفهوم الحديث على أهمية التوكل على الله عز وجل، واعتماد القلب عليه، مع الأخذ بالأسباب النافعة، ومن هذه الأسباب اختيار الوسائل المناسبة في الدعوة إلى الله عز وجل. فينبغي للداعية أن يعتني بهذه الصفة ويتخلق بها؛ لعظمها وعلوِّ مكانتها (¬2). ¬
باب سهام الفرس
51 - بَاب سهامِ الفرس وقَالَ مَالِك: يسهَم لِلْخَيْلِ وَالْبَرَاذِينِ مِنْهَا لِقَوْلِه تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] (¬1) وَلَا يسْهَم لأِكْثر مِنْ فَرَسِ. [حديث جعل رسول الله للفرس سهمين ولصاحبه سهما] 60 - [2863] حَدَّثَنَا عبَيد بْن إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أسَامَة، عَنْ عبَيْدِ الله، عنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عمَرَ (¬2) رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ ولِصَاحِبِه سَهْما» (¬3). وفي رواية: «قَسَمَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرِ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْما» قالَ: فَسّرَه نافِع فَقَالَ: " إِذَا كَانَ مَع الرَّجلِ فرَس فَلَه ثَلاثة أَسْهمٍ، فإِنْ لَمْ يَكنْ لَه فَرس فَلَه سَهم " (¬4). * شرح غريب الحديث: * " السهم " السهم في الأصل واحِد السِّهام التي يضرب بها في الميْسِرِ، وهي القداح، ثم سمِّي به ما يفوز به الفالج سهمه، ثم كثر حتى سمِّي كل نصيبٍ سهما. ويجمع السَّهم على أسْهم، وسِهَام، وسهْمَان (¬5). * " الراجل " أي الماشي (¬6). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: ¬
1 - من موضوعات الدعوة: الحث على الإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل. 2 - من صفات الداعية: العدل. 3 - من أساليب الدعوة: الترغيب. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل: دل هذا الحديث على الحث على الإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين، وللراجل سهما واحدا، وهذا فيه حث على الإِعداد للجهاد؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث حث على اكتساب الخيل واتخاذها للغزو؛ لما فيها من البركة، وإعلاء الكلمة، وإعظام الشوكة " (¬1). وهذا يبيِّن أهمية الإِعداد للجهاد وأخذ الحذر والحيطة (¬2). ثانيا: من صفات الداعية: العدل: إن من الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتخلق بها صفة العدل، وقد دل هذا الحديث على هذه الصفة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الراجل سهما وإن كان معه فرس أعطاه ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " واستدل الجمهور من حيث المعنى بأن الفرس يحتاج إلى مؤنة لخدمتها وعلفها، وبأنه يحصل بها من الغنى في الحرب ما لا يخفى " (¬3) وذكر الخطابي رحمه الله: أن مؤنة الفرس مضاعفة على مؤنة صاحبه فضوعف له العرض من أجله وهذا قول عامة العلماء (¬4). وهذا يدل على عدله صلى الله عليه وسلم وإنصافه تطبيقا لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135] (¬5). ¬
وهذا يبين للداعية أهمية العدل والإِنصاف. ثالثا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل عمل النبي صلى الله عليه وسلم في إعطاء الفارس ثلاثة أسهم، والراجل سهما واحدا على الترغيب في اقتناء الخيل وإعدادها للجهاد في سبيل الله عز وجل، وهذا فيه تشجيع وإعانة على الإعداد وأخذ الحذر (¬1). ¬
باب من قاد دابة غيره في الحرب
52 - باب من قاد دابة غيره في الحرب [حديث أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب] 61 - [2864] حَدَّثَنَا قتَيْبَة: حَدَّثَنَا سَهْل بْن يوسفَ، عَنْ شعْبَة، عَنْ أَبِي إسْحَاقَ: «قَالَ رَجل لِلْبَراءِ بْنِ عَازِبٍ (¬1) رضي الله عنهما: أَفَرَرْتمْ عَنْ رَسولِ الله يَوْمَ حنَيْنٍ؟ قَالَ: لَكِنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفِرَّ، إِنَّ هَوَازِنَ كَانوا قوما رماة، وَإِنَّا لَمَّا لقِيَناهمْ حَمَلْنَا عَليْهم فانْهَزَموا، فَأَقْبَلَ المسْلِمونَ عَلَى الغَنَائِمِ، فَاسْتَقْبَلونَا بِالسِّهَامِ، فَأَمَّا رَسول الله صلى الله عليه وسلم فلَمْ يَفِرَّ، فَلَقَدْ رَأَيْته وَإنَّه لَعَلَى بَغْلَتِه الْبَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا سفْيَانَ (¬2) آخِذ بِلِجَامِها وَالنَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقولَ: " أَنَا النَّبِي لَا كذِبْ، أَنَا ابْن عبْدِ المطَّلِبْ» (¬3). وفي رواية: «لَا وَالله مَا وَلَّى رَسول الله صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّه خَرَجَ شبَّان أَصحَابِه وَخِفَافهمْ حسَّرا لَيْسَ بِسِلاحٍ، فَأَتَوْا قوما رمَاة جَمْعِ هَوازِنَ وَبَنِي نَضْرٍ مَا يَكاد يَسْقط لَهمْ سَهْم فَرشَقوهمْ رَشْقا مَا يَكادونَ يخْطِئون، فَأَقْبَلوا هنَالِكَ إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَهوَ عَلَى بَغْلَتِه الْبَيْضَاءِ وَابْن عَمِّه أَبو سفْيَانَ بْن الحارِثِ بْنِ عَبْدِ المطَّلِبِ يَقود بِه، فنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ ثمَّ قَالَ: " أَنَا النَّبِي لَا كَذِبْ، أَنَا ابْن عَبْدِ المطَّلِبْ» ثمَّ صَفَّ أَصْحَابَه (¬4). ¬
وفي رواية: «فَلَمَّا غَشِيَه المشْرِكون نَزلَ فَجَعَلَ يَقول: أَنا النَّبِي لَا كَذِبْ، أَنَا ابْن عَبْدِ المطَّلِبْ»، قَالَ: " فَمَا رؤي مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدّ مِنْه " (¬1) يعني النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: «كَانَتْ هَوَازِن رمَاة وإِنَّا لَمَّا حَملْنَا عَلَيْهم انْكَشَفوا فَأَكْبَبْنَا على الْغَنَائِمِ، فَاسْتقْبِلْنَا بِالسِّهَامِ. .» (¬2). وفي رواية: «يَا أَبَا عمَارَة أَتَولَّيْتَ يَوْمَ حنيْنِ؟ فَقَالَ: أَمَّا أنا فَأَشْهَد عَلَى النَّبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه لَمْ يولِّ، وَلَكِنْ عَجِلَ سَرَعَان الْقَوْمِ فرَشَقَتْهمْ هَوازِن. .» (¬3). * شرح غريب الحديث: * " وخفافهم " الأخفاء: السراع المسرعون (¬4). * " حسَّرا " الحسَّر: الذين لا دروع عليهم (¬5). * " فرشقوهم رشقا " هو الوجه من الرمي إذا رمى القوم كلهم دفعة واحدة، فإذا رمى القوم بأجمعهم، قالوا: رمينا رِشقا، وأما الرشق بفتح الراء فهو المصدر، يقال: رَشقت بالسَّهم رَشقا، والرَّشْق أيضا: الصوت، تقول: سمعت رَشْقَ كذا: أي صوته (¬6). * " سَرَعان القوم " السَّرَعان بفتح السين والراء: أوائل الناس الذين يتسارعون إلى الشيء ويقبلون عليه بسرعة (¬7). * " انكشفوا " أي انهزموا وانكشفت عنهم جنَّتهم (¬8). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحث على الشجاعة والثبات في الجهاد في سبيل الله عز وجل. 2 - شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وثباته. 3 - من أسباب نصر الدعاة: عدم الإِعجاب بالكثرة أو القوة. 4 - من صفات الداعية: حسن الأدب في الجواب. 5 - من صفات الداعية: الاستنصار بالله عز وجل. 6 - خطر حرص المدعو على الدنيا. 7 - من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم. 8 - من أساليب الدعوة: الرَّجَز. 9 - من أساليب الدعوة: بيان الداعية مناقبه عند الحاجة. 10 - من أساليب الدعوة: قول الداعية عند الحاجة: أنا فلان، وأنا ابن فلان. 11 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 12 - الابتلاء والاختبار في الدعوة إلى الله عز وجل. 13 - من أصناف المدعوين: المشركون. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على الشجاعة والثبات في الجهاد في سبيل الله عز وجل: دل الحديث على الحث على الشجاعة والثبات في الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أشجع الناس في الجهاد في سبيل الله عز وجل وأثبتهم قلبا وقدما، وهذا فيه تحريض وحث على الجهاد والثبات في المعركة؛ قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] (¬1). وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم أهل الشجاعة والثبات في الجهاد حثا على ذلك فقال ¬
عن نبي الله داود صلى الله عليه وسلم: «كان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى» (¬1). فينبغي للداعية أن يحث الناس ويحضهم على الشجاعة والثبات في سبيل الله عز وجل. ثانيا: شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وثباته: دل الحديث على شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وقوة قلبه في ذلك؛ ولهذا قاتل في معركة حنين قتالا عظيما، ومما يدل على شجاعته وإقدامه صلى الله عليه وسلم ما فعله في جميع غزواته التي قاتل فيها، فقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، قاتل في ثمان منهن (¬2) بل ذكر الإِمام النووي وغيره أنه كان عدد سراياه التي بعثها ستا وخمسين سرية، وسبعا وعشرين غزوة، وقاتل في تسعِ من غزواته (¬3). ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدوِّ، وكان من أشدِّ الناس يومئذٍ بأسا» (¬4). وقال علي رضي الله عنه: «كنا إذا حمي البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكون أحد منا أدنى إلى القوم منه» (¬5) وقال البراء رضي الله عنه: «كنا والله إذا احمر البأس (¬6) نتقي به وإن الشجاع منا للذي يحاذي به»، يعني النبي صلى الله عليه وسلم " (¬7) وركوبه على البغلة في معركة حنين وغيرها يدل على شجاعته؛ ولهذا ذكر العلماء: أن ركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة في موطن الحرب وعند اشتداد البأس: هو النهاية في الشجاعة والثبات؛ لأن ركوب الفحولة أو الفرس مظنة الاستعداد للفرار ¬
والتولي (¬1) ونزوله صلى الله عليه وسلم إلى الأرض حين غشوه يدل على المبالغة في الثبات، والشجاعة والصبر (¬2) دل على ذلك رواية لمسلم عن سلمة رضي الله عنه قال فيها: «مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما (¬3) وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد رأى ابن الأكوع فزعا "، فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجمره القوم فقال: " شاهت الوجوه " (¬4). فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة، فولّوا مدبرين، فهزمهم الله عز وجل، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين (¬5)». وقد كان صلى الله عليه وسلم شجاعا في حماية أصحابه في غير معارك القتال أيضا، فعن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قِبَلِ الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: " لم تراعوا، لم تراعوا " وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج. .» (¬6). وهذا كله يدل على شجاعته القلبية، أما شجاعته العقلية فلها صور كثيرة من أبرزها موقفه صلى الله عليه وسلم من تعنت سهيل بن عمرو وهو يملي وثيقة صلح الحديبية، إذ تنازل صلى الله عليه وسلم عن كلمة " بسم الله الرحمن الرحيم " إلى " باسمك اللهم "، وعن كلمة " محمد رسول الله " إلى " محمد بن عبد الله "، وقبوله شرط سهيل على أنه لا يأتي النبي صلى الله عليه وسلم رجل من قريش حتى ولو كان مسلما إلا ردّد إلى أهل مكة، وقد استشاط الصحابة غيظا، وبلغ الغضب حدّاَ لا مزيد عليه، وهو صلى الله عليه وسلم صابر ثابت حتى انتهت الوثيقة، وكان الصلح بعد ذلك فتحا مبينا، فضرب صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الشجاعتين: القلبية والعقلية، مع بعد النظر ¬
وأصالة الرأي وإصابته؛ فإن من الحكمة أن يتنازل الداعية عن أشياء لا تضره بأصل قضيته؛ لتحقيق أشياء أعظم منها (¬1). فينبغي للداعية أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في شجاعته وثباته، وصبره، وفى كل أحواله (¬2). ثالثا: من أسباب نصر الدعاة: عدم الإعجاب بالكثرة أو القوة: إن من أسباب النصر عدم الإِعجاب بالكثرة والقوة، بل ينبغي التواضع والتذلل لله عز وجل والتوكل عليه والاعتماد؛ لأن ما حصل من الفرار يوم حنين في أول المعركة بسبب الإِعجاب بالكثرة؛ قال الله عز وجل: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ - ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 25 - 26] (¬3). وكان من أسباب ذلك " أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قال: يا رسول الله، لن نغلب اليوم من قلة، وأعجبه كثرة الناس، وكانوا اثني عشر ألفا، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فَوكِلوا إلى كلمة الرجل فانهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير العباس، وأبي سفيان بن الحارث، وأيمن ابن أم أيمن قتل يومئذِ بين يديه. . " (¬4) وكانوا عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وألفين من الطلقاء الذين أسلموا يوم الفتح، وهم الذين فرّوا بالناس لحداثتهم بالإِسلام (¬5). وهذا يبيِّن للدعاة إلى الله عز وجل أن النصر بيد الله تعالى وأن الإِعجاب بالكثرة أو القوة من أسباب الهزيمة والخذلان. ¬
فينبغي الاستعداد بكل ما يستطيعه المسلمون من قوة ثم المّوكل على الله، والاعتماد عليه، والضراعة بين يديه، والافتقار إليه وذلك من أعظم أسباب النصر والتمكين. رابعا: من صفات الداعية: حسن الأدب في الجواب: دل الحديث على أن من الصفات الحميدة: حسن الأدب في الجواب وذلك أن رجلا قال للبراء رضي الله عنه: يا أبا عمارة أفررتم يوم حنين؟ قال: " لا والله ما ولَّى رسول الله ولكنه خرج شبَّان أصحابه وخفافهم حسَّرا ليس بسلاح فأتوا قوما رماة. . " قال الإِمام النووي رحمه الله: هذا الجواب الذي أجاب به البراء رضي الله عنه من بديع الأدب؛ لأن تقدير الكلام: فررتم كلكم يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم وافقهم في ذلك، فقال البراء: " لا والله ما فر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن جماعة من الصحابة جرى لهم كذا وكذا " (¬1) وأوضح أن فرار من فر لم يكن على نية الاستمرار في الفرار، وإنما انكشفوا من وقع السهام (¬2)؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث من الفوائد: حسن الأدب في الخطاب والإٍرشاد إلى حسن السؤال بحسن الجواب " (¬3). فينبغي للداعية أن يتحلَّى بحسن الأدب في الخطاب. خامسا: من صفات الداعية: الاستنصار بالله عز وجل: إن من الصفات الحميدة الاستنصار وطلب الغوث والنصر من الله عز وجل؛ ولهذا قال البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتاله في معركة حنين: «فنزل واستنصر» أي دعا وطلب النصر من الله سبحانه وتعالى؛ قال الإِمام النووي رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " فيه استحباب الدعاء عند قيام الحرب " (¬4) وهذا من سننه صلى الله عليه وسلم في الحروب وغيرها من الأمور المهمة، ومن ذلك ما فعله في يوم بدر، فعن ¬
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مدَّ يديه فجعل يهتف بربه (¬1) " اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد في الأرض "، فمازال يهتف بربه مادا يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: " يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] (¬2) فأمده الله بالملائكة» (¬3) «وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش وهو يقول (¬4). {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] (¬5)». وهذا يبيِّن للدعاة إلى الله عز وجل والمجاهدين في سبيله أهمية الاستنصار وطلب العون من الله عز وجل. سادسا: خطر حرص المدعو على الدنيا: دل الحديث على أن الهزيمة في أول المعركة كانت على المشركين، فلما أقبل بعض المسلمين على الغنائم استقبلهم المشركون بالسهام فحصل ما حصل ثم أنزل الله نصره وتراجع المسلمون. قال البراء رضي الله عنه: " إن هوازن كانوا قوما رماة، وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم فانهزموا، فأقبل المسلمون على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام "، وهذا يبين خطر الحرص على الدنيا، وفيه تحذير للمدعوين وغيرهم من الإِقبال على الحطام الفاني (¬6). ¬
فينبغي الحذر من ذلك والله المستعان. سابعا: من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم: ظهر في هذا الحديث أسلوب التوكيد بالقسم، في قول البراء رضي الله عنه: " لا والله ما ولّى رسول الله صلى الله عليه وسلم "، ولا شك أن أسلوب التوكيد بالقسم يعطي القلوب قناعة وتصديقا، فيحصل بذلك سرعة التنفيذ (¬1). ثامنا: من أساليب الدعوة: الرجز: دل الحديث على أن استعمال الرجز من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل في بعض الأحوال، مع بعض المدعوين، وقد ظهر ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: " أنا النبي لا كَذبْ ... أنا ابن عبد المطلب " (¬2). تاسعا: من أساليب الدعوة: بيان الداعية مناقبه عند الحاجة: ظهر في هذا الحديث أن بيان الداعية بعض مناقبه عند الحاجة لا حرج فيه، إذا كان فيه مصلحة راجحة تنفع المدعوين أو ترفع من شأن الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا والله أعلم قال صلى الله عليه وسلم: «أنا النبي لا كذب». قال الإِمام النووي رحمه الله: " أي أنا النبي حقا فلا أفرّ ولا أزول " (¬3) وهذا يعطي المدعو معرفة به صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حقا وصدقا (¬4). عاشرا: من أساليب الدعوة: قول الداعية عند الحاجة أنا فلان وأنا ابن فلان: ظهر في هذا الحديث أسلوب بيان الداعية نسبه عند الحاجة، إذا كان في ذلك مصلحة للدعوة أو زيادة ثقة في قلوب المدعوين عند معرفتهم نسبه ¬
ومكانته؛ ولهذا والله أعلم قال عليه الصلاة والسلام: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب». وانتسب صلى الله عليه وسلم إلى جده دون أبيه؛ لشهرة عبد المطلب بين الناس؛ لما رزق من نباهة الذكر وطول العمر؛ ولأن عبد الله مات شابا ولم يشتهر؛ ولهذا كان كثير من العرب يدعون النبي صلى الله عليه وسلم ابن عبد المطلب، كما قال ضمام بن ثعلبة لما قدم عليه: " أيكم ابن عبد المطلب " (¬1) وقيل: لأنه اشتهر بين الناس أنه يخرج من ذرية عبد المطلب رجل يدعو إلى الله ويكون خاتم الأنبياء فانتسب إليه؛ ليذكر ذلك من كان يعرفه، وأنه لا بد أن يظهر على أعدائه، وأن العاقبة له؛ لتقوى نفوس أصحابه، وأعلمهم أيضا بأنه ثابت ملازم للحرب لم يولِّ مع من ولى، وعَرَّفهم موضعه؛ ليرجع إليه الراجعون والله أعلم، ولم يكن ذلك على جهة الافتخار بآبائه؛ فإن ذلك من خلقِ الجاهلية التي قد نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم وحرمها، وذَمَّ من انتمى إليها (¬2)؛ وقد جاء في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه يرفعه: «من تَعزَّى بعزاء " (¬3) الجاهلية فأَعِضّوه (¬4) [بهنِ أبيه] ولا تكنوا» (¬5)؛ وقال صلى الله عليه وسلم لرجل قال: ياللمهاجرين، ولآخر قال: ياللأنصار: «دعوها فإنها منتنة» (¬6). أما إذا كان الانتساب للآباء في المعارك والحروب على عادة الشجعان في ¬
انتسابهم؛ لإِظهار عز الإِسلام وإذلال أعداء الله فلا حرج (¬1) قال الإمام النووي رحمه الله تعالى على قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا النبي لا كذب. . أنا ابن عبد المطلب»: " في هذا دليل على جواز قول الإِنسان في الحرب: أنا فلان وأنا ابن فلان " (¬2). ومثل ذلك قول سلمة بن الأكوع في غزوة ذي قرد: " أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع (¬3) " (¬4) وقول عامر بن الأكوع في غزوة خيبر: قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بَطَل مغامر (¬5) وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنا الذي سمتني أمي حيدرة (¬6) ... كليث غابات كريه المنظرة (¬7) أوفيهم بالصاع كيل السندرة (¬8) " ¬
الحادي عشر: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: دل الحديث على أن القدوة الحسنة وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت قي المعركة ولم يتراجع مع من تراجع؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وإذا كان رأس الجيش قد وطَّن نفسه في الحرب على عدم الفرار وأخذ بأسباب ذلك، كان ذلك أدعى لأتباعه على الثبات " (¬1). فينبغي للداعية أن يكون قدوة حسنة للناس (¬2). الثاني عشر: الابتلاء والاختبار في الدعوة إلى الله عز وجل: دل هذا الحديث على الابتلاء والامتحان، وأن الله عز وجل يبتلي عباده بالسراء والضراء، وبالشدة والرخاء؛ ولهذا حصل للنبي صلى الله عليه وسلم ما حصل في غزوة حنين: من تراجع أصحابه عنه في أول القتال، واقتحام المشركين عليه عز وجل، ثم نصره الله وأمده بعونه، وهزم أعداءه (¬3). الثالث عشر: من أصناف المدعوين: المشركون: دل قتاله صلى الله عليه وسلم في معركة حنين على أن من أصناف المدعوين: أهل الشرك بالله عز وجل؛ وأنهم يدعون إلى الإِسلام، ويقاتلون إذا لم يدخلوا في الإِسلام، ولم يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ووقفوا في طريق الدعوة إلى الله عز وجل (¬4). ¬
باب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم
59 - باب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ ابْن عمَرَ: «أَرْدَفَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَلَى الْقَصْوَاءِ»، وَقَالَ المسْوَر: قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: «مَا خَلأتِ القَصْوَاء». [حديث ناقة النبي صلى الله عليه وسلم العضباء] 62 - [2871] حَدَّثَنَا عبد الله بْن محَمّدٍ: حَدَّثَنَا معَاوِيَة: حَدَّثَنَا أَبو إسحاق، عَنْ حمَيدٍ قَالَ: سَمِعْت أَنسا (¬1) رضي الله عنه يَقول: «كَانَتْ نَاقَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم يقَال لَهَا الْعَضْبَاء» (¬2). وفي رواية: «كَانَ للنَّبِي صلى الله عليه وسلم ناقَة تسَمَّى الْعَضْباءَ لاَ تسْبَق - قَالَ حمَيد: أَوْ لاَ تَكاد تسْبَق - فَجَاءَ أَعْرَابِي عَلَى قَعودٍ، فَسَبَقَهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى المسْلِمِينَ حَتّى عَرَفَه فَقَالَ: " حَقّ عَلَى الله أَنْ لَّا يَرْتَفعَ شيء مِنَ الدّنْيَا إِلَّا وَضَعَه». طَوَّله موسَى عَنْ حَمَّادٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنسٍ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم (¬3). وفي رواية: «إِنَّ حَقّا عَلَى الله أَن لَّا يرفَعَ شيئا مِنَ الدّنْيَا إِلَّا وَضَعَه» (¬4). * شرح غريب الحديث: * " العضباء ": علم من قولهم: ناقة عضباء: أي مشقوقة الأذن، ولم تكن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقوقة الأذن وإنما كان هذا لقبا لها وهذا هو الصواب. والعضباء أيضا مكسورة القرن، وقد يكون العضب في الأذن قطعها. والعضب: السيف القاطع، والعضب القطع نفسه أيضا، فلعل ناقة النبي صلى الله عليه وسلم سميت باشتقاق من هذا لسرعتها وقطعها الأرض في سيرها (¬5). ¬
* " قعود " القعود من الإبل: ما أمكن أن يركب، وأدناه أن يكون له سنتان، ثم قعود إلى أن يثني فيدخل في السنة السادسة، ثم هو جمل، فالقعود: هو ما يقتعده الإِنسان للركوب والحمل، ولا يكون إلا ذكرا؛ لأن الأنثى بهذا السن يقال لها القلوص، وقيل يقال لها: القعودة (¬1). * " الأعرابي " ساكن البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة (¬2). قال ابن حجر رحمه الله: " لم أقف على اسم هذا الأعرابي بعد التتبع الشديد " (¬3). * " حتى عرفه " أي حتى عرف أثر المشقة في وجوههم، فَسَّر ذلك الرواية الأخرى " فاشتد ذلك على المسلمين وقالوا: سبقت العضباء " (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحث على التواضع والتحذير من الكبر. 2 - من صفات الداعية: الزهد. 3 - من صفات الداعية: التواضع. 4 - من صفات الداعية: حسن الخلق. 5 - أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة. 6 - من أساليب الدعوة: الترهيب. 7 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 8 - محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم. 9 - ذكاء النبي صلى الله عليه وسلم وفطنته. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: ¬
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على التواضع والتحذير من الكبر: إن الحث على التواضع والتحذير من الكبر من أهم موضوعات الدعوة، فهو دعوة للأمة للتحلي بالتواضع، والابتعاد عن الكبر، فإن العادة غالبا جرت أن الله لا يرفع شيئا من أمر الدنيا إلا حطَّه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه»، وقد دعا صلى الله عليه وسلم أمته إلى ترك المباهاة والفخر بمتاع الدنيا، فإذا كان ذلك كذلك كان حقا على كل عاقل أن يحث الناس على التواضع ويحذرهم من الكبر والفخر، والله المستعان (¬1). ثانيا: من صفات الداعية: الزهد: دل هذا الحديث على أن الزهد من الصفات العظيمة التي ينبغي للمسلم أن يتصف بها؛ لأنه لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه الله، فإذا كان ذلك كذلك كان حقا على كل عاقل أن يزهد في الدنيا ومتاعها؛ لأنها ناقصة غير كاملة؛ ولهوانها على الله عز وجل، وهذا فيه تنبيه على ترك المباهاة والمفاخرة، وأن كل شيء هان على الله فهو محل الضعة، فحق على كل ذي عقل أن يزهد فيه، ويقل المنافسة في طلبه. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه التزهيد في الدنيا، للإشارة إلى أن كل شيء منها لا يرتفع إلا اتضع " (¬2). والله المستعان (¬3). ثالثا: من صفات الداعية: التواضع: التواضع صفة عظيمة من صفات الدعاة إلى الله تعالى؛ لأن التواضع: هو تذلل وتخاشع لله تعالى؛ وقد مدِح الله تعالى الدعاة المتواضعين فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] (¬4) والمعنى أنهم يمشون في سكينة ووقار متواضعين غير أشرين، ولا متكبرين، ¬
ولا مرحين، فهم دعاة علماء، حلماء؛ وأصحاب وقار وعفة، والتواضع فيه مصلحة الدين والدنيا؛ فإن الناس لو استعملوه في الدنيا لزالت بينهم الشحناء؛ ولاستراحوا من تعب المباهاة والمفاخرة (¬1). والدعاة إلى الله تعالى إذا تواضعوا رفعهم الله في الدنيا والآخرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفوٍ إلا عزّا، ومن تواضع لله رفعه» (¬2) وهذا مما يفتح الله به للداعية قلوب الناس؛ فإن الله يرفعه في الدنيا والآخرة، ويثبت له بتواضعه منزلة في قلوب الناس، ويرفعه عندهم، ويجلّ مكانه (¬3) أما إذا تكبر الداعية على الناس فقد توعده الله بالذلِّ والهوان في الدنيا والآخرة؛ فالله عز وجل: «العزّ إزاره، والكبرياء رداؤه فمن ينازعه ذلك عذبه» (¬4). ففي حديث الباب حث على التواضع، وهذه صفة يجب على كل داعية أن يتَّصف بها في دعوته وفي كل أموره (¬5)؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد» (¬6). رابعا: من صفات الداعية: حسن الخلق: دل الحديث على أن حسن الخلق من أعظم الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الداعية إلى الله عز وجل، قال ابن حجر رحمه الله تعالى في حديث الباب: " وفيه حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه؛ لكونه رضي أن أعرابيّا يسابقه " (¬7). ومعلوم عند العقلاء أن الخلق الحسن يحبب الداعية إلى الناس جميعا، فكل من جالسه أو خالطه أحبه؛ ولهذا يسهل على الداعية جذب قلوب الناس إلى دعوته؛ لأن من لم يتخلَّق بالخلق الحسن ينفر الناس من دعوته، ولا يستفيدون من ¬
علمه وخبرته؛ لأن من طبائع الناس أنهم لا يقبلون ممن يستطيل عليهم، أو يبدو منه احتقارهم واستصغارهم ولو كان ما يقوله حقّا؛ قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] (¬1). والخلق الحسن للداعية يشمل: التواضع وغيره من الأخلاق الجميلة الحميدة؛ كالحلم، والأناة، والجود والكرم، والعفو والصفح، والرفق واللين، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة التي يتأكد على كل داعية صادق أن يتصف بها (¬2). والله الموفق سبحانه وتعالى (¬3). خامسا: أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة: إن المدعو ينبغي له أن يلتزم الأدب مع العلماء والدعاة، ولا يشق عليهم، والذي ظهر من هذا الحديث أن الأعرابي لم يراع الأدب في طلب مسابقة النبي صلى الله عليه وسلم على قعوده، ولكن لتواضع النبي صلى الله عليه وسلم وافقه على ذلك. فينبغي للمدعو أن يلتزم الأدب مع العلماء والدعاة وطلاب العلم (¬4). سادسا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل الحديث على أن الترهيب أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله تعالى؛ لأن الترهيب يكون بما يخيف المدعو، ويحذره من عدم الاستجابة أو رفض الحق، أو عدم الثبات عليه بعد قبوله. فقد دل هذا الحديث على الترهيب من الكبر وأن عاقبته وخيمة؛ لأنه كان حقّا على الله أن يضع المتكبر ولو بعد حين؛ وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث أنه: «حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه» وقد حذر الله عز وجل من الكبر والخيلاء فقال: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ - وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 18 - 19] (¬5) ¬
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متَّبع، وإعجاب المرء بنفسه، وثلاث منجيات: العدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، ومخافة الله في السر والعلانية» (¬1) والله المستعان (¬2). سابعا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: في هذا الحديث تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وموافقته أن يسابق الأعرابي، ثم عندما شق ذلك على أصحابه بيَّن لهم أن حقّا على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه، فكان عليه الصلاة والسلام بهذا الفعل وهذا القول قدوة بالقول والعمل للدعاة إلى الله تعالى، فإن من وسائل التبليغ المهمة وجذب الناس إلى الإسلام التبليغ بالسيرة الطيبة للداعية إلى الله تعالى، وأفعاله الحميدة، وصفاته العالية، وأخلاقه الكريمة، والتزامه بالإِسلام ظاهرا وباطنا مما يجعله قدوة طيبة؛ لأن التأثير بالأفعال والسلوك أبلغ من التأثير بالكلام وحده، ويجمع ذلك كله: حسن الخلق، وموافقة العمل للقول (¬3). ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأسوة للدعاة، فقد كان متواضعا في دعوته للناس؛ وقد جاء رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه فقال له: «هوِّن عليكَ فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد في هذه البطحاء» (¬4) ثم تلا جرير: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] (¬5). فعلى الدعاة إلى الله تعالى أن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان متواضعا في دعوته مع الناس، فكان يمر بالصبيان فيسلم عليهم، وتأخذ بيده الأمَة فتنطلق به حيث شاءت، ¬
وكان في بيته في خدمة أهله، ولم يكن ينتقم لنفسه قط، وكان يخصف نعله ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة لأهله، ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى شيء يسير، فكان متواضعا من غير ذلة، جوادا من غير سرف، رقيق القلب رحيما بكل مسلم، خافض الجناح للمؤمنين، ليِّن الجانب لهم، فيجب على الدعاة أن يقتدوا به صلى الله عليه وسلم (¬1). ثامنا: محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: ظهر في هذا الحديث محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا شق عليهم ما حصل من سبق قعود الأعرابي لناقة النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال أنس رضي الله عنه: " فشق ذلك على المسلمين ". ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم من علامات كمال الإيمان؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين» (¬2). فينبغي للداعية أن يحب الله ورسوله حبا كاملا؛ قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإِيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» (¬3). تاسعا: ذكاء النبي صلى الله عليه وسلم وفطنته: النبي صلى الله عليه وسلم أذكى البشر وأفطنهم، ولا يحتاج ذلك إلى استدلال، ولكن المقصود هو استنباط ما يدل عليه الحديث من الفوائد والدروس الدعوية. وهذه الفائدة مأخوذة من قول أنس رضي الله عنه: " فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه " أي حتى عرف صلى الله عليه وسلم أثر المشقة في وجوههم (¬4). ¬
باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال
65 - باب غزوِ النساءِ وَقِتالهِنَّ معَ الرّجَالِ [حديث سقي عائشة وأم سليم الجرحى يوم أحد] 63 - [2880] حَدَّثَنَا أَبو مَعْمَرٍ: حَدَّثَنَا عَبْد الْوَارِثِ: حَدَّثَنَا عَبْد الْعَزِيزِ، عنْ أنسٍ (¬1) رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْم أحدٍ انْهَزَمَ النَّاس عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: ولَقَدْ رَأَيْت عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ (¬2). وَأمَّ سلَيْمٍ (¬3). وَإِنَّهمَا لَمشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سوقِهِنَّ تَنْقزانِ القِرَبَ -وَقَالَ غَيره: تَنقلانِ القِرَبَ- عَلَى متونهِمَا ثمَّ تفْرِغَانِهِ في أَفْوَاهِ الْقَوْمِ، ثمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلآنِهَا ثمَّ تَجِيئَانِ فَتفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ " (¬4)». وفي رواية: «لَمّا كَانَ يَوْم أحدٍ انهَزَمَ النَّاس عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبو طَلْحَة (¬5) بَيْنَ يدَي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مجَوِّب عَلَيْهِ بِحجَفَةٍ لَه، وَكَانَ أَبو طَلْحَةَ رَجلا رَامِيا شَدِيدَ النَّزْع، كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثا، وَكَانَ الرَّجل يَمرّ مَعَه بِجَعْبَةٍ مِنَ النَّبْلِ فَيَقول: " انثرهَا لأَبِي طَلْحَةَ " قَالَ: ويشْرِف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ينْظر إِلَى الْقَوْمِ، فَيَقول أَبو طَلْحَةَ: بِأَبِي أنتَ وَأمِّي لَا تشْرِفْ يصِيبكَ سَهْم مِنْ سِهامِ الْقَوْمِ، نَحْرِي دونَ نَحْرِكَ، وَلَقَدْ رَأَيْت عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأمَّ سلَيْمٍ وَإِنَّهمَا لَمشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سوقِهِمَا تنْقِزَانِ القِرَبَ عَلَى متونهمَا، تفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ ثمَّ تَرْجِعَانِ فتَمْلآنِهَا ثمَّ تَجِيئانِ فَتفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْم، وَلَقَدْ وقَعَ السَّيْف مِن يَدِ أَبِي طَلْحَةَ إِمَّا مَرَّتَيْنِ وَإِمَّا ثَلاثا» (¬6). وفي رواية: «كَانَ أَبو طَلْحَةَ يَتَتَرَّس مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بترْسٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ أَبو طَلْحَةَ ¬
حَسَنَ الرَّمْي، فَكَانَ إِذَا رَمَى يشْرِف النبِيّ صلى الله عليه وسلم فَيَنْظر إِلَى مَوْضِعِ نَبْلِهِ» (¬1). * شرح غريب الحديث: * " خَدَم سوقهِنَّ " الخدم: الخلاخيل، واحدتها خدمة، وخلخال والسوق: جمع ساق وقد يسمى الساقان خدمين؛ لأنهما موضع الخدمين، وهما الخلخالان، وسمي الخلخال خدمة؛ لأنه ربما كان من سيور مركبة فيه الذهب والفضة، والخدمة في الأصل السير الغليظ مثل الحلقة يشد في رسغ البعير، والرسغ، ما فوق الخف من أول القوائم، ويشد في هذا السير الذي كالحلقة سرائح نعل البعير (¬2). * " تنقزان القرب " أي تحملانها وتقفزان بها وثبا، والنقز: القفز، والوثب (¬3). * " متونهما " المتن من الظهر ما اكتنف أعلى الصلب من العصب واللحم، وهما متنان، والصلب: عظم من مغرس العنق إلى الذنب، ومن الإِنسان إلى العصعص، والعصعص: عَجْب الذنب (¬4). * " مجَوِّب عليه " أي ساتر له، قاطع بينه وبين العدو (¬5). * " بحجفة " الحجفة: الترس الصغير (¬6). * " شديد النزع " أصل النزع: الجذب والقلع، ومنه نزع الميت روحه، ونزع القوس إذا جذبها (¬7). * " جعبة " الجعبة: الكنانة التي تجعل فيها السهام (¬8) وهي خريطة النّشَّابِ من الجلود (¬9). ¬
* " نحري " النحر: أول الصدر، وهو موضع القلادة (¬1). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية دفاع المدعو عن العلماء والدعاة. 2 - من صفات الداعية: الشجاعة. 3 - الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل. 4 - أهمية الإِشراف على المدعو وملاحظته. 5 - من وسائل الدعوة: إثارة غيرة الرجال. 6 - أهمية مشاركة النساء في الجهاد بالخدمة والعلاج عند الحاجة. 7 - تاريخ الدعوة في الأمر بالحجاب. 8 - محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم. 9 - الابتلاء والامتحان في الدعوة إلى الله عز وجل. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: أهمية دفاع المدعو عن العلماء والدعاة: دل هذا الحديث على أهمية دفاع المدعو عن العلماء والدعاة؛ ولهذا دافع أبو طلحة يوم أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم دفاعا عظيما، فكان يستر النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعداء بترسه، وقاتل قتالا شديدا حتى كسر قوسين أو ثلاثا. فينبغي للمدعو أن يدافع عن ولاة أمر المسلمين، وعلمائهم، ودعاتهم المخلصين: بالقول والفعل. والله المستعان (¬2). ثانيا: من صفات الداعية: الشجاعة: ظهر في هذا الحديث أن الشجاعة صفة عظيمة من صفات الداعية إلى الله ¬
عز وجل؛ ولهذا برزت شجاعة أبي طلحة ومن معه من الصحابة في معركة أحد، بل قد اشترك في هذه الصفة حتى النساء كما فعلت عائشة وأم سليم رضي الله عنهما. فينبغي للداعية أن يتحلى بهذه الصفة الحميدة (¬1). ثالثا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: لا شك أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين وقد أخذ بالأسباب وأقر أصحابه على الأخذ بها، فهذا أبو طلحة رضي الله عنه يدافع عنه بالسهام، والأقواس، ويستره بالترس، وهذه عائشة وأم سليم رضي الله عنهما تفرغان القرب في أفواه القوم؛ وقد ذكر ابن حجر رحمه الله: أن اتخاذ الآلات لا ينافي التوكل، والحذر لا يرد القدر، ولكن يضيِّق مسالك الوسوسة لما طبع عليه البشر (¬2). فينبغي للداعية أن يأخذ بالأسباب ويتوكل على الله عز وجل؛ لأن التوكل يقوم على ركنين: اعتماد القلب على الله عز وجل، والأخذ بالأسباب (¬3). رابعا: أهمية الإشراف على المدعو وملاحظته: دل الحديث على أنه ينبغي للداعية أن يشرف على المدعو ويلاحظه؛ لكي يطمئن على استقامته وإتقانه للعمل كما يحبه الله عز وجل، ومن ذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي طلحة رضي الله عنه في هذا الحديث كما قال أنس رضي الله عنه: " وكان أبو طلحة حسن الرمي فكان إذا رمى يشْرِف النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موضع نبله ". خامسا: من وسائل الدعوة: إثارة غيرة الرجال: لا ريب أن إثارة غيرة الرجال من وسائل الدعوة، ففي غزوة أحد اشترك النساء في مداواة الجرحى وإسقاء المرضى وغير ذلك؛ قال الإِمام الأبي رحمه الله: " وفي حضور النساء معارك الحرب إثارة غيرة الرجال، وحمية ¬
الأنوف لصونهن. . . " (¬1). سادسا: أهمية مشاركة النساء في الجهاد بالخدمة والعلاج عند الحاجة: إن ما حصل من مشاركة بعض النساء في الجهاد في هذا الحديث يدل على أن هذه المشاركة لا حرج فيها عند الحاجة مع التزام الأوامر واجتناب النواهي، ويكون ذلك في حدود طاقة المرأة: كالمشاركة في خدمة المجاهدين، ومداواة الجرحى، مع المحافظة على الحجاب والبعد عن الفتنة، والخلوة، وكانت المرأة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تتأهب للدفاع عن نفسها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن أمَّ سليم اتخذت يوم حنين خنجرا، فكان معها فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، هذه أم سليم معها خنجر، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما هذا الخنجر؟ " قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، قالت: يا رسول الله، اقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أم سليم إن الله قد كفى وأحسن» (¬2). أما ما حصل من النظر إلى عائشة وأم سليم يوم أحد فقد أجاب النووي رحمه الله عن ذلك فقال: " وهذه الرواية للخدم لم يكن فيها نهي؛ لأن هذا كان يوم أحد قبل أمر النساء بالحجاب، وتحريم النظر إليهن؛ ولأنه لم يذكر هنا أنه تعمد النظر إلى نفس الساق، فهو محمول على أنه حصلت تلك النظرة فجأة بغير قصد، ولم يستدمها " (¬3). سابعا: تاريخ الدعوة في الأمر بالحجاب: ظهر في هذا الحديث أن الأمر بالحجاب زمن معركة أحد لم ينزل بعد؛ ولهذا والله أعلم حصل ما حصل من النظر إلى الخلاخل والسوق؛ وقد ذكر الأبي رحمه الله بعض أقوال أهل العلم في ذلك ثم قال: " والقضية كانت يوم أحد ¬
أول الإِسلام قبل الأمر بالحجاب والستر، وقيل النهي عن إبداء الزينة، إلا لمن خصه الله في كتابه في سورة النور، وإنما نزل كثير منها بعد قصة الإِفك، وفي غزوة المريسيع بعدها سنة ست في قول ابن إسحاق، أو سنة أربع في قول ابن عقبة، أو في سنة خمس في قول الواقدي " (¬1). وهذا فيه دلالة على أن معركة أحد وقعت قبل الأمر بالحجاب الشرعي، فإذا حصل من النساء مشاركة في المعركة فلا بد من الالتزام بالحجاب، والبعد عن الخلوة بالرجال الأجانب. ثامنا: محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: دل هذا الحديث على عظم محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا دافع عنه أبو طلحة، وأظهر هذه المحبة بقوله رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: " بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك " والمعنى أنه يقدم نحره وصدره ترسا حماية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ قال الإِمام النووي رحمه الله: " هذا من مناقب أبي طلحة الفاخرة " (¬2). فينبغي للداعية أن يحب رسول صلى الله عليه وسلم أكثر من محبة الولد، والوالد، والناس أجمعين (¬3). تاسعا: الابتلاء والامتحان في الدعوة إلى الله عز وجل: ظهر في هذا الحديث ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الابتلاء في معركة أحد، فصبروا، وصابروا، وجاهدوا (¬4). ¬
باب حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو
66 - باب حَمْلِ النّساء القرَب إلَى النّاسِ في الغزو [حديث أم سليط التي كانت تزفر القرب يوم أحد] 64 - [2881] حَدَّثَنَا عَبْدَان: أَخْبَرَنَا عبد الله: أَخْبَرَنَا يونس، عن ابْنِ شِهَابٍ قَالَ ثَعْلبَة بْن أَبِي مَالِكٍ: " إِنَّ عمَرَ بْنَ الخَطَّابِ (¬1) رضي الله عنه، قَسَمَ مروطا بَينَ نِساءٍ مِنْ نِسَاءِ الْمَدِينَة، فَبَقِيَ مِرْط جَيِّد، فَقَالَ لَه بَعْض مَنْ عِنْدَه: يَا أَمِيرَ الْمؤمِنِينَ أَعْطِ هَذا ابْنَةَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي عِنْدَكَ- يرِيدونَ أمَّ كلْثومٍ (¬2) بِنْتَ ¬
عَلِيٍّ - فَقَالَ عمَر: أمّ سَلِيطٍ أَحَقّ (¬1). وَأمّ سَلِيطِ مِنْ نِسَاءِ الأنصَارِ مِمَّنْ بَايَعَ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ عمَر: فإِنهَا كَانَتْ تَزْفِر لَنَا الْقِرَبَ يَوْمَ أحدٍ " قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ: تَزْفِر: تَخِيط (¬2). * شرح غريب الحديث: * " مروطا " المروط الأكسية، من قطن أو صوف، أو خز، واحدها مرط، يؤتزر به (¬3). * " تزفر لنا القرب " زفر يزفر، وازدفر: حمل حملا فيه ثقل، والزفر حمل القرب الثقال، ويقال للقربة نفسها: الزِّفْر (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: العدل: 2 - من صفات الداعية: مكافأة المحسن وتشجيعه على إحسانه. 3 - أهمية الشورى مع الإِمام أو العلماء والدعاة. 4 - أهمية مشاركة النساء في الجهاد بالخدمة والعلاج عند الحاجة. 5 - من صفات الداعية: وضع كل شيء في موضعه. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: العدل: دل هذا الحديث على عدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونزاهته، وإيثاره على ¬
نفسه وأهله، وتركه إعطاء أهله في سبيل العدل ومصلحة المسلمين، قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله: " وفيه أن عمَرَ آثر أمَّ سليط على أمِّ كلثوم، وما ذاك لأجل نسب أم سليط، ولكن لأنها بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تزفر القرب أي تحمل " (¬1). وهذا يبين للداعية أنه ينبغي العدل ومراعاة المصالح التي يحبها الله عز وجل ثم تقديمها على رغبة كل أحدٍ من الناس طاعة لله عز وجل (¬2). ثانيا: من صفات الداعية: مكافأة المحسن وتشجيعه على إحسانه: دل فعل عمر رضي الله عنه وقوله: " أم سليط أحق به، كانت تزفر لنا القرب يوم أحد " على أنه ينبغي تشجيع الأبطال ومكافأتهم على إحسانهم، فقد آثر عمر امرأة عربية على حفيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها عملت لصالح الأمة ما لم تعمله زوجة أمير المؤمنين وتقدمها بالإِسلام والنصرة والتأييد (¬3). ثالثا: أهمية الشورى مع الإمام أو العلماء والدعاة: ظهر في هذا الحديث أهمية المشورة بالرأي على الإمام، وذلك لأجل النصيحة له، كالوزير الصالح والكاتب المخلص، والعالم أو الداعية الصادق، وغيرهم ممن يستنير الإِمام برأيهم (¬4)؛ ولهذا قال بعض من عند عمر رضي الله عنه: " يا أمير المؤمنين، أعط هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك، يريدون أمَّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه ". رابعا: أهمية مشاركة النساء في الجهاد بالخدمة والعلاج عند الحاجة: دل الحديث على أهمية اشتراك النساء في الجهاد عند الحاجة بحسب طاقتهن: من خدمة المجاهدين ومداواة الجرحى، وسقي العطشى، والدفاع ¬
عن أنفسهن، مع التزام الأمور الشرعية في الحجاب، وعدم الخلوة بغير المحرم، وغير ذلك (¬1) والله المستعان (¬2). خامسا: من صفات الداعية: وضع كل شيء في موضعه: دل هذا الحديث على أن من الصفات التي تدل على حكمة الداعية وإصابته: وضع كل شيء في موضعه؛ ولهذا قسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه المروط على النساء دون الرجال؛ لأن هذه المروط تختص بالنساء، قال الوزير العالم ابن هبيرة رحمه الله: " وفيه من الفقه أن عمر قسم ما يصلح للنساء في النساء " (¬3). ¬
باب مداواة النساء الجرحى في الغزو
67 - بَاب مداواةِ النِّساءِ الجرحى في الغزوِ [حديث الربيع بنت معوذ كنا مع النبي نسقي ونداوي الجرحى ونرد القتلى إلى المدينة] 65 - [2882] حَدَّثَنَا عَليّ بْن عبد الله: حَدَّثَنَا بِشْر بْن الْمفَضَّلِ: حَدَّثَنَا خَالِد بْن ذَكْوَانَ عَنِ الرّبيِّع بِنْتِ معَوِّذٍ (¬1) قَالَتْ: «كنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَسْقِي، وَندَاوِي الْجَرْحَى، وَنَردّ الْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ» (¬2). وفي رواية: «كنَّا نَغْزو مَعَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم: نَسْقِي الْقَوْمَ، وَنَخْدمهمْ، وَنَردّ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى إِلَى الْمَدِينَةِ» (¬3). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - مشاركة النساء في الجهاد بالخدمة والعلاج عند الحاجة. 2 - الابتلاء والامتحان. والحديث عن هذين الدرسين والفائدتين الدعويتين على النحو الآتي: أولا: مشاركة النساء في الجهاد بالخدمة والعلاج عند الحاجة: قال الكرماني رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه خروج النساء في الغزو، والانتفاع بهن بالسقي ونحوه، وإن كان المداواة لغير المحارم لا تمس البشرة إلا عند الحاجة " (¬4) وقال ابن حجر رحمه الله: ". . . فتجوز مداواة الأجانب عند الضرورة، وتقدر بقدرها، فيما يتعلق بالنظر، والجس باليد وغير ذلك " (¬5) ¬
ثم ذكر رحمه الله أن الرجل لا يغسل المرأة إذا ماتت، والفرق بين حال المداواة وتغسيل الميت: أن الغسل عبادة، والمداواة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات (¬1). وسمعت سماحة الشيخ ابن باز حفظه الله يقول: " يحتمل أن يكون ذلك قبل الحجاب، وإذا كان بعد الحجاب فعلى وجه لا محذور فيه، من التزام الحجاب، وعدم الخلوة، والنصوص يفسر بعضها بعضا، فيستعان بالنساء عند الحاجة من غير خلوة " (¬2). ثانيا: الابتلاء والامتحان: دل الحديث على ما أصاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الابتلاء والامتحان رضي الله عنهم؛ ولهذا قالت الربيع رضي الله عنها: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة ". وفي هذا دلالة على ما أصابهم من الجهد والبلاء فصبروا في ذات الله تعالى رضي الله عنهم وأرضاهم (¬3). ¬
باب نزع السهم من البدن
69 - باب نَزْعِ السَّهْمِ مِنَ البدَنِ [حديث اللهم اغفر لعبيد أبي عامر] 66 - [2884] حَدَّثَنَا محَمَّد بْن الْعَلاَءِ: حَدَّثَنَا أَبو أسَامَةَ، عَنْ بريْدِ بْنِ عبد الله، عَنْ أَبِي برْدَة عَنْ أَبِي موسَى (¬1) رضي الله عنه قَالَ: «رمِيَ أَبو عَامِرٍ (¬2) فِي ركْبَتِهِ فانْتَهَيْت إِليْهِ، قَالَ: انْزَعْ هَذَا السَّهْمَ، فَنَزَعْته، فَنَزَا مِنْه الْمَاء، فَدَخَلْت عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فأَخْبَرته فَقَالَ: " اللَّهمَّ اغْفِرْ لِعبيدٍ أَبِي عَامِر» (¬3). وفي رواية: «لَمَّا فَرَغَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم منْ حنَيْنٍ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إِلَى أوْطَاسٍ، فلَقِيَ درَيْدَ بنَ الصِّمَّةِ فَقتِلَ درَيد وَهَزَمَ الله أصْحَابَه، قَالَ أَبو موسَى: وَبَعَثَنِي مَعَ أَبِي عَامِرٍ فَرمِيَ أَبو عَامِرٍ فِي ركْبَتِهِ، رَمَاه جشَمِيّ بِسَهْمٍ فَأَثْبَتَه فِي ركْبَتِهِ فَانْتَهَيْت إِلَيْهِ فَقلْت: يَا عَمِّ مَنْ رَمَاكَ؛ فَأَشَارَ إِلَى أَبِي موسَى، فَقَالَ: ذَاكَ قَاتِلِي الَّذِي رَمَانِي، فَقَصَدْت لَه فَلَحِقْته، فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى فَاتَّبَعْته وَجَعَلْت أَقول لَه: ألَا تَسْتَحي؟ ألَا تَثْبت؟ فَكَفَّ فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ بِالسَّيْفِ فَقَتَلْته، ثمَّ قلْت لأَبِي ¬
عَامِرٍ: قَتَلَ الله صَاحِبَكَ، قَالَ فَانزع هَذَا السَّهْمَ، فَنَزَعْته فَنَزَا مِنْه الْمَاء، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أَقْرِئ النَّبِيَّ السَّلاَمَ وِقلْ لَه استَغْفِرْ لِي، واسْتَخْلَفَنِي أَبو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ فَمَكَثَ يَسِيرا ثمَ مَاتَ، فرَجَعْت فَدَخَلْت عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ عَلَى سَرِيرٍ مرْمَلٍ وَعَلَيهِ فِرَاش قَدْ أثَّر رِمَال السَّرِيرِ فِي ظَهْرٍهِ وَجَنبيْهِ، فَأَخْبَرْته بِخَبَرِنَا وَخَبَرِ أَبِي عَامِرٍ وَقَال: قل لَه اسْتَغْفِرْ لِي فَدَعَا بِمَاءٍ فتَوَضَّأَ ثمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: " اللَّهمَّ اغْفر لِعبيدٍ أَبِي عَامِرٍ " وَرَأَيْت بياضَ إبْطَيْهِ ثمَّ قَالَ: " اللَّهمَّ اجْعَلْه يَوْمَ الْقيَامَةِ فَوْقَ كَثيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنَ النَّاسِ " فَقلْت وَلي فَاسْتَغْفِرْ، فَقَالَ: " اللَّهمَّ اغْفر لِعَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَه، وَأَدْخِلْه يَوْمَ الْقِيَامَةِ مدْخَلا كَرِيْما " قَالَ أَبو برْدَةَ: إحْدَاهمَا لأَبِي عَامِرٍ وَالأخْرَى لأَبِي موسَى (¬1)». * شرح غريب الحديث: * " فنزا منه الماء " يقال: نزِف دمه، ونزِيَ: إذا جرى ولم ينقطع (¬2). * " سرير مرمَل " أي منسوج في وجه السرير بالسعف (¬3). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - الابتلاء والامتحان للدعاة إلى الله عز وجل. 2 - من صفة الداعية: التعاون على البر والتقوى. 3 - من وسائل الدعوة: إرسال الدعاة والمجاهدين في سبيل الله عز وجل. 4 - من صفات الداعية: الشجاعة. 5 - حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 6 - من أساليب الدعوة: التبشير والتهنئة. ¬
7 - من صفات الداعية: الزهد. 8 - من صفات الداعية: التواضع. 9 - من صفات الداعية: الرحمة. 10 - من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله عز وجل. 11 - من أصناف المدعوين: المشركون. 12 - من أساليب الدعوة: الدعاء للمدعو. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: الابتلاء والامتحان للدعاة إلى الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن من سنن الله تعالى ابتلاء عباده المؤمنين بالسراء والضراء، ومن هذا الابتلاء ما حصل لأبي عامر رضي الله عنه من رميه بالسهم ثم موته شهيدا رضي الله عنه بعد ابتلائه وصبره؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة» (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السّخْط» (¬2)؛ قال الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] (¬3) وقال عز وجل: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] (¬4) وقال سبحانه وتعالى: {الم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ - وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3] (¬5). ¬
ثانيا: من صفات الداعية: التعاون على البر والتقوى: ظهرت هذه الصفة الحميدة في هذا الحديث؛ لأن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، جاء إلى أبي عامر فقال: يا عمِّ من رماك؟ فأشار أبو عامر إلى قاتله, وقال: ذاك قاتلي الذي رماني، قال أبو موسى الأشعري: فقصدت له فلحقته, فلما رآني ولَّى فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألا تثبت؟ وعند ذلك وقف ثم قاتله أبو موسى حتى قتله. فينبغي للداعية أن يكون متعاونا على البر والتقوى كما قال عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] (¬1). ثالثا: من وسائل الدعوة: إرسال الدعاة والمجاهدين في سبيل الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن من الوسائل النافعة إرسال الدعاة والمجاهدين في سبيل الله عز وجل، للدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عامر على جيش إلى أوطاس ومعهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وهذه سنته صلى الله عليه وسلم أن يرسل السرايا ويبعث البعوث؛ وقد ذكر أهل العلم أنه بعث منذ هجرته حتى وفاته صلى الله عليه وسلم: ستا وخمسين سرية، وغزا سبعا وعشرين غزوة، قاتل في تسع منها؛ وما ذاك إلا من أجل الدعوة إلى الله عز وجل (¬2). رابعا: من صفات الداعية: الشجاعة: ظهرت صفة الشجاعة في هذا الحديث، وذلك بما قام به أبو موسى ¬
الأشعري رضي الله عنه، من قتال من قتل أبا عامر حتى قتله، وقد ظهرت حكمته وبراعته في القتال حيث قال له: " ألا تستحي؟ ألا تثبت؟ " حتى وقف له خجلا من عار الفرار، قال أبو موسى رضي الله عنه: " فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته ". فينبغي للداعية أن يتحلى بالشجاعة والثبات (¬1). خامسا: حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دل هذا الحديث على عظم حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال أبو عامر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: " يا ابن أخي أقرئ النبي السلام وقل له استغفر لي ". وهذا يدل على محبته العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وهو يلفظ أنفاسه عند نزع الموت لروحه. فينبغي لكل مسلم أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة كاملة صادقة (¬2). سادسا: من أساليب الدعوة: التبشير والتهنئة: وقد ظهر هذا الأسلوب في هذا الحديث؛ لأن أبا موسى بَشَّرَ أبا عامر وأعلمه أنه قتل من رماه بالسهم فقال: " قتل الله صاحبك " وهذا يدل أيضا على حسن الأدب، فإنه أسند الأمر إلى الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه الذي أعانه على قتله. فينبغي للدعاة إلى الله عز وجل أن يعرفوا أهمية التهنئة والتبشير، وأن يلتزموا الآداب الحسنة (¬3). سابعا: من صفات الداعية: الزهد: إن الزهد من أهم صفات الداعية، وقد ظهر في هذا الحديث من فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين نام على السرير المرمل حتى أثَّرَ في جنبيه، قال أبو موسى رضي الله عنه: " فرجعت فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته على سرير مرمل. . . قد أثَّر رمال السرير في ظهره وجنبيه ". ¬
فينبغي للداعية أن ينظر إلى هذا الزهد العظيم، فيعلم أن الدنيا دار ممر ومتاع زائل (¬1). ثامنا: من صفات الداعية: التواضع: التواضع من أجمل الصفات وأحسنها وقدوة الداعية في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دل هذا الحديث على ذلك حينما وصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بموت أبي عامر شهيدا وطلبه رضي الله عنه الاستغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بماءٍ فتوضأ ثم رفع يديه فدعا لأبي عامر دعوات عظيمة. فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يتصف بالتواضع اتباعا لسيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم (¬2). تاسعا: من صفات الداعية: الرحمة: ظهرت صفة الرحمة في هذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأبي عامر بقوله: «اللهم اغفر لعبيد أبي عامر» ورفع يديه في الدعاء حتى رأى أبو موسى رضي الله عنه بياض إبطيه ثم قال: «اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس» فالمبالغة في رفع الأيدي (¬3). وتكرير الدعاء وتنويعه يدل على رحمته صلى الله عليه وسلم (¬4). عاشرا: من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله عز وجل: إن من أجل الأعمال الصالحة وأجمل الصفات الحميدة: الرغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى، وقد ظهرت هذه الصفة الكريمة في طلب أبي عامر الاستغفار له من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت هذه الرغبة أيضا عند أبي موسى رضي الله عنه عندما سمع استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي عامر، فقال: " ولي فاستغفر " فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما». ¬
فينبغي لكل مسلم أن يرغب ويطمع في رحمة الله وفيما عنده من الخيرات (¬1). الحادي عشر: من أصناف المدعوين: المشركون: دل هذا الحديث على أن من أصناف المدعوين أهل الشرك، ولهذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا عامر على جيش إلى أوطاس، وقبل ذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي مكة، وقاتلهم في معركة بدر، وأحد، وغير ذلك من سراياه وبعوثه التي أرسل بها وبعثها صلى الله عليه وسلم إلى أهل الشرك؛ لدعوتهم إلى التوحيد الخالص (¬2). الثاني عشر: من أساليب الدعوة: الدعاء للمدعو: إن من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل: الدعاء للمدعو؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري: «اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما»، وهذا يؤكد أهمية الدعاء للمدعو؛ لما فيه من تأليف القلوب ونفع المدعوين (¬3). ¬
باب الحراسة في الغزو في سبيل لله
70 - باب الحراسة في الغزو في سبيل لله [حديث ليت رجلا من أصحابي صالحا يحرسني الليلة] 67 - [2885] حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن خَلِيلٍ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن مسْهِرٍ: أَخْبَرَنَا يحيى بْن سَعِيدٍ: أَخْبَرَنَا عبد الله بْن عَامرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: سَمِعْت عَائِشَةَ (¬1). رضي الله عنها تَقول: «كانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم سَهِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ: " ليت رَجلا مِن أَصْحَابِي صَالِحا يَحْرسنِي اللَّيلةَ "، إِذْ سَمعْنَا صَوتَ سِلاح، فَقَالَ: " مَنْ هَذَا؟ " فَقَالَ: أنا سَعْد بْن أَبِي وقَاصٍ (¬2) جِئْت لأَحرسَكَ: " فَنَامَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم» (¬3). وفي رواية: «أَرِقَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: " لَيْتَ رَجلا صَالِحا مِنْ أَصْحَابِي يَحرسنِي اللَّيْلَةَ "، إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ السِّلاحِ، قَالَ: " مَنْ هَذَا؟ " قِيلَ: سَعْد يَا رَسولَ اللهِ، جِئْت أَحْرسكَ ". فَنَامَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سمعنا غَطِيطَه، قَالَ أَبو عبد الله: وَقَالَتْ عَائِشَة قَالَ بلال: ألا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَة بَوادٍ وَحَوْلِي إِذْخِر وَجَلِيل، فَأَخْبَرْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم» (¬4). * شرح غريب الحديث: * " غطيطه " الغطيط: الصوت الذي يخرج مع نفس النائم (¬5). * " إذخر " الإذخر حشيشة طيبة الرائحة تسقف بها البيوت فوق الخشب (¬6). * " وجليل " الجليل: الثمام واحده جليلة، وقيل: هو الثمام إذا عظم وجل (¬7). ¬
* " أرق " الأرق: السهر، يقال: رجل أرق إذا سهر لعلة، فإن كان السهر من عادته قيل: أرق (¬1). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل. 2 - الابتلاء والامتحان لأولياء الله عز وجل. 3 - حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 4 - من وظائف المدعو الصالح: حراسة السلطان المسلم والعالم العامل بعلمه. 5 - أهمية اختيار الرجل الصالح للأمور المهمة. 6 - من أساليب الدعوة: الثناء على من تبرع بالخير. 7 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: دل الحديث على أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله عز وجل، ولهذا قال أعظم وسيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم: «ليت رجلا من أصحابي صالحا يحرسني الليلة»، قال الإِمام النووي رحمه الله: " فيه جواز الاحتراس من العدو، والأخذ بالحزم، وترك الإِهمال، في موضع الحاجة إلى الاحتياط " (¬2). وقد قال بعض العلماء: كانت حراسة النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر قبل أن ينزل عليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] (¬3) ومعلوم أن هذه الآية نزلت بعد حراسة سعد بأزمان (¬4) وقال الإِمام القرطبي رحمه الله: " ويحتمل أن ¬
يقال: إن قول الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] ليس فيه ما ينافي احتراسه من الناس، ولا ما يمنعه، كما أن إخبار الله تعالى عن نصره وإظهاره لدينه، ليس فيه ما يمنع الأمر بالقتال، وإعداد العَدَد والعدَد، والأخذ بالجد والحزم، والحذر. . . ولما بحثت عن ذلك وجدت الشريعة طافحة بالأمر له ولغيره بالتحصن، وأخذ الحذر، ومدافعتهم بالقتل، والقتال، وإعداد الأسلحة، والآلات، وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخذ به، فلا تعارض في ذلك، والله الموفق المفهم ما هنالك " (¬1). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد أن ساق كلام القرطبي هذا: " وعلى هذا فالمراد العصمة من الفتنة والإِضلال، أو إزهاق الروح والله أعلم " (¬2). فينبغي لكل مسلم أن يعتمد بقلبه على الله عز وجل ويعمل بالأسباب النافعة (¬3). ثانيا: الابتلاء والامتحان لأولياء الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن الابتلاء سنة من سنن الله عز وجل، فهو يبتلي عباده بالسراء والضراء، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصاب بالسهر حتى حرسه سعد رضي الله عنه. فينبغي للعبد إذا أصابه البلاء أن يصبر ويسأل الله عز وجل العافية في الدنيا والآخرة (¬4). ثالثا: حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ظهر في هذا الحديث عظم حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذه المحبة العظيمة جاء سعد في الليل، ليفدي بنفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وليسهر عينيه وينام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فينبغي لكل مسلم أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من حبه ولده، ووالده، ونفسه والناس أجمعين (¬5). ¬
رابعا: من وظائف المدعو الصالح: حراسة السلطان المسلم والعالم العامل بعلمه: لا شك أنه ينبغي للناس أن يعتنوا بحراسة السلطان المسلم والعالم العامل بعلمه النافع للناس؛ ولهذا حرس سعد رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث الأخذ بالحذر والاحتراس من العدو، وأن على الناس أن يحرسوا سلطانهم خشية القتل " (¬1). خامسا: أهمية اختيار الرجل الصالح للأمور المهمة: دل الحديث على أنه ينبغي أن يختار الرجل الصالح للأمور المهمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليت رجلا من أصحابي صالحا يحرسني الليلة»، قال الإِمام القرطبي رحمه الله في ذكره لفوائد هذا الحديث: " فيه دليل على مكانة نبينا صلى الله عليه وسلم وكرامته على الله؛ فإنه قضى أمنيته وحقق في الحين طلبته، وفيه دليل على أن سعدا رضي الله عنه من عباد الله الصالحين، المحدَّثين، الملهمين، وتخصيصه بهذه الحالة كلها وبدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له من أعظم الفضائل وأشرف المناقب " (¬2). فينبغي لأهل الحل والعقد من ولاة أمر المسلمين أن يسندوا جميع الأعمال المهمة العظيمة لأهل الصلاح والتقوى. سادسا: من أساليب الدعوة: الثناء على من تبرع بالخير: إن من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل الثناء على من تبرع بالخير، وتسميته صالحا، دل على ذلك ثناء النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاح على من يحرسه؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه الثناء على من تبرع بالخير وتسميته صالحا " (¬3). وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يَشْكر اللهَ من لا يشكر النَّاسَ» (¬4). ¬
فينبغي الثناء على من فعل خيرا إذا أمن من الفتنة والإعجاب، والله المستعان. سابعا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: دل مفهوم الحديث على أن القدوة الحسنة وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل، فاتخاذه صلى الله عليه وسلم حارسا يحرسه يدل على أن من فعل ذلك عند الحاجة اقتداء به صلى الله عليه وسلم فقد عمل أمرا مشروعا؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وإنما عانى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع قوة توكله للاستنان به في ذلك، وقد ظاهر بين درعين مع أنهم كانوا إذا اشتدَّ البأس كان أمام الكل، وأيضا فالتوكل لا ينافي تعاطي الأسباب؛ لأن التوكل عمل القلب، وهي عمل البدن " (¬1). فينبغي الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، وأن يكون الداعية أيضا قدوة لغيره من الناس (¬2). ¬
حديث تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة
[حديث تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة] 68 - [2886] حَدَثَّنَا يَحْيَى بْن يوسفَ: أَخْبَرَنَا أَبو بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عن أَبِي هرَيْرَةَ (¬1) رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَعِسَ عَبْد الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَم، وَالْقَطِيفَةِ، وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أعْطِيَ رَضِيَ وَإِن لَمْ يعْطَ لَمْ يرضَ» لَمْ يَرْفَعْه إِسْرَائِيل وَمحَمَّد بْن جحَادَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ (¬2). وفي رواية: «تَعِسَ عَبْد الدِّينَارِ، وَعَبْد الدِّرْهَم، وَعَبْد الخَمِيصَةِ: إِن أعْطِيَ رضِيَ وَإِنْ لَم يعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانتكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انتقَشَ. طوبَى لِعَبْدٍ آخذٍ بِعَنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَشْعَثَ رَأْسه مغْبَرَّةٍ قَدَمَاه، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ. إِن اسْتَأذَنَ لَمْ يؤْذَنْ لَه، وإِنْ شَفَعَ لَمْ يشَفَّعْ». قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ: لَمْ يَرْفَعْه إِسْرَائِيل وَمحَمَّد بْن جحَادَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ. وَقَالَ: " تَعْسا "، فَكأَنه يَقول: فَأَتْعَسَهم الله. " طوبَى ": فعْلى مِنْ كلِّ شَيْءٍ طَيِّبٍ وَهِيَ يَاء حوِّلَتْ إِلَى الْوَاوِ وَهِيَ مِنْ يَطِيب (¬3). * شرح غريب الحديث: * " تعس " أي سقط وعثر وانكب لوجهه (¬4). * " القطيفة " هي كساء له خمْل، أي انكب لوجهه الذي يعمل لها ويهتمّ بتحصيلها (¬5). * " الخميصة " وهي ثوب معلم من خزٍ أو صوف، وقيل: لا تسمى خميصة ¬
إلا أن تكون سوداء معلَّمة، وكانت من لباس الناس قديما، وجمعها الخمائص (¬1). * " انتكس " أي انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة؛ لأن من انتكس في أمره فقد خاب وخسر (¬2). * " وإذا شيك فلا انتقش " أي إذا دخلت فيه الشوكة لا أخرجها من موضعها وبه سمّي المنقاش الذي ينقش به (¬3). * " طوبى " طوبى اسم الجنة، وقيل: شجرة فيها (¬4). * " بعنان فرسه " العنان: سير اللجام الذي تمسك به الدابة (¬5). * " الساقة " جمع سائق وهم الذين يسوقون بجيش الغزاة ويكونون من ورائه يحفظونه (¬6). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: التحذير من إرادة الدنيا دون الآخرة. 2 - من أساليب الدعوة: الترهيب. 3 - من صفات الداعية: القناعة. 4 - من صفات الداعية: الإِخلاص. 5 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 6 - من صفات الداعية: الزهد. 7 - من صفات الداعية: إتقان العمل. ¬
8 - من صفات الداعية: التواضع. 9 - من أساليب الدعوة: التشبيه. 10 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار. 11 - من أساليب الدعوة: تعظيم الأمر. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: التحذير من إرادة الدنيا دون الآخرة: إن من موضوعات الدعوة تحذير الناس من إرادة الدنيا وإيثارها على الآخرة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار». . "، وقد حذر الله عز وجل من ذلك فقال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18] (¬1). فينبغي للداعية أن يبين للناس خطر إرادة الدنيا ويحذرهم من ذلك؛ لأن إرادة الدنيا والعمل لأجلها شرك ينافي كمال التوحيد الواجب ويحبط العمل، وإرادة الدنيا أعظم من الرياء؛ لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل ولا يسترسل معه، والمؤمن يكون حذرا من هذا وهذا (¬2). فمن كانت الدنيا هَمّه وطلبه، ولها يعمل، ولها يسعى، وإياها يبتغي، ولا يرجو ثوابا من ربه، ولا يخاف عقابا على عمله، عجَّل له فيها ما يشاء وما له في الآخرة من نصيب (¬3)؛ قال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] (¬4). وهذه حال من عبد المال، وقدَّمَ الاهتمام به على أمور الآخرة، ورضي من ¬
أجْلِهِ وسخط من أَجْلِهِ؛ قال الله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] (¬1). فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغير الله، وهكذا حال من كان متعلقا برئاسة أو بغير ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له؛ لأن الرق والعبودية في الحقيقة رق القلب وعبوديته، فما استرقَّ القلب واستعبده فهو عبده؛ لأن العبد حرّ ما قَنِعَ، والحر عبد ما طَمِعَ، وطالب المال الذي لا يريد إلا المال يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان: منها ما يحتاجه العبد: من طعامه، وشرابه، ومسكنه، ومنكحه، ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه مع بذل الأسباب، ويكون المال عنده يستعمله في حاجاته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده، ومنها ما لا يحتاج العبد إليه، فهذه ينبغي أن لا يعلق قلبه بها (¬2). ثانيا: من أساليب الدعوة: الترهيب: لا شك أن أسلوب الترهيب من أساليب الدعوة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة» فدعا عليه صلى الله عليه وسلم بأن يسقط وينكب على وجهه، وكرر ذلك بقوله: «تعس وانتكس» وهذا دعاء عليه بأن ينقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة والخسارة، ثم قال: «وإذا شيك فلا انتقش» وفي الدعاء بذلك إشارة إلى عكس مقصوده؛ لأن من عثر فدخلت في رجله الشوكة فلم يجد من يخرجها يصير عاجزا عن الحركة والسعي في تحصيل الدنيا (¬3) قال ابن حجر رحمه الله: " وسوغ الدعاء عليه لكونه قصر عمله على جمع الدنيا، واشتغل بها عما أمر به من التشاغل بالواجبات والمندوبات " (¬4). ¬
فينبغي للداعية أن يستخدم أسلوب الترهيب في دعوته إلى الله عز وجل (¬1). ثالثا: من صفات الداعية: القناعة: دل الحديث على أن من صفات الداعية القناعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض»، وهذا يؤذِن في شدة حرصِ طالب الدنيا عليهما وجمعه لأموالها، وطمعه فيما في أيدي الناس (¬2) أما العبد الصادق مع الله عز وجل فهو يعلم أن الدنيا متاع زائل؛ لقوله عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60] (¬3)؛ وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب أحب أن له واديا آخر، ولن يملأ فاه إلا التراب والله يتوب على من تاب» (¬4) وقال صلى الله عليه وسلم: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب» (¬5) وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» (¬6). فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يقنع بما أعطاه الله ويذكر دائما قوله صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم، ورزِق كفافا وقنعه الله بما آتاه» (¬7). رابعا: من صفات الداعية: الإخلاص: ظهر في مفهوم هذا الحديث أن من صفات المسلم الصادق مع الله عز وجل الإِخلاص؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة، ¬
إن أعطي رضي وإن لم يعطَ لم يرضَ» يدل على أن المتحتم على العبد أن يجعل نيته ومقصده لله وحده لا شريك له؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإِيمان» (¬1). فينبغي للعبد المسلم أن يجعل همه طاعة الله ورسوله، يبتغي ثواب الله، ويخشى عقابه، ويطمع في رضاه (¬2). خامسا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «طوبى لعبد اخذ بعنان فرسه في سبيل الله» وهذا فيه ترغيب وحث على العمل بما ينفع المسلم ويعود عليه بالخير، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي قوله صلى الله عليه وسلم: " طوبى " " إشارة إلى الحض على العمل بما يحصل به خير الدنيا والآخرة " (¬3) فقد دعا صلى الله عليه وسلم بالجنة لمن عمل هذه الأعمال. فينبغي للداعية أن يرغب المدعوين في كل ما يعود عليهم بالنفع في الدارين (¬4). سادسا: من صفات الداعية: الزهد: إن المسلم الصادق هو الزاهد في الدنيا الذي لا يرغب في رئاستها، ولا حب الشهرة والظهور بدون عمل؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه» فقد انصرف عن حظوظ وخواص نفسه إلى الجهاد وما يقتضيه، حتى إن شعره لم يدهن، وعلى قدميه الغبار (¬5). ¬
فينبغي أن يكون الداعية زاهدا في الدنيا راغبا فيما عند الله عز وجل (¬1). سابعا: من صفات الداعية: إتقان العمل: إن من الصفات الحميدة: إتقان العمل كما يحبه الله عز وجل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة» أي يكون كاملا في تلك الحالة، فلا يخاف الانقطاع، ولا يهتم بالسبق بل يلازم عمله، وما هو لأجله (¬2) وهذا يدل على عنايته بما أمر به، وملازمته لعمله وإتقانه له، فإن كان في الحراسة في مقدمة الجيش أتقنها لئلا يهجم عليهم العدو، وإن كان في الساقة في مؤخرة الجيش أقام حيث أقيم لا يفقد من مكانه بحال (¬3). فينبغي للداعية إذا عمل عملا أن يتقنه؛ لأن الله عز وجل يحب ذلك. ثامنا: من صفات الداعية: التواضع: ظهر في الحديث أن من الصفات الجميلة التواضع؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفّع» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " فيه ترك حب الرئاسة والشهرة، وفضل الخمول والتواضع " (¬4) فهو إن استأذن لم يؤذن له؛ لعدم ماله وجاهه، وإن شفع في ما يحبه الله ورسوله لم تقبل شفاعته (¬5). قال الطيبي رحمه الله: «إن استأذن لم يؤذن له»، " إشارة إلى عدم التفاته إلى الدنيا وأنهَا بهَا بحيث يعتني بكليته في نفسه: لا يبتغي مالا ولا جاها عند الناس، بل يكَون عند الله وجيها، ولم يقبل الناس شفاعته، وعند الله يكون شفيعا مشفعا " (¬6). وهذا يبين فضل التواضع لله عز وجل (¬7). ¬
تاسعا: من أساليب الدعوة: التشبيه: ظهر التشبيه في هذا الحديث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار»؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " أي طالبه الحريص على جمعه، القائم على حفظه، فكأنه لذلك خادمه وعبده " (¬1) وقال الطيبي رحمه الله: " خص العبد بالذكر؛ ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا، وشهواتها، كالأسير الذي لا خلاص له عن أسره. ولم يقل: مالك الدنيا أو جامع الدنيا؛ لأن المذموم من الدنيا الزيادة على قدر الحاجة، لا قدر الحاجة " (¬2). فقد ظهر في كلامه رحمه الله بيان أسلوب التشبيه (¬3). عاشرا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار: ظهر هذا الأسلوب في قوله صلى الله عليه وسلم: " تعس " ثم في وسط الحديث كرر فقال: " تعس وانتكس " قال العلامة الملا علي القاري رحمه الله: " كرر للتأكيد؛ وليعطف عليه للتشديد " (¬4). وأسلوب التأكيد يوضح المعاني ويحمل القلوب على الفهم والتصديق. فينبغي العناية به في الدعوة إلى الله عز وجل (¬5). الحادي عشر: من أساليب الدعوة: تعظيم الأمر: من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل: تعظيم الأمور في نفس المدعو، التي يدعى إليها، أو ينهى عنها، فقوله صلى الله عليه وسلم: «إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " هذا من المواضع التي اتحد فيها الشرط والجزاء لفظا؛ لكن المعنى مختلف، والتقدير: إن كان المهم في الحراسة كان فيها، وقيل: معنى " فهو ¬
في الحراسة " أي فهو في ثوب الحراسة، وقيل هو للتعظيم: والمراد منه لازمه: أي فعليه أن يأتي بلوازمه، ويكون مستقلا بخويصة عمله " (¬1) وقال الطيبي رحمه الله: " تقرر في علم المعاني أن الشرط والجزاء إذا اتحدا دل على فخامة الجزاء وكماله، والشريطتان مؤكدتان للمعنى السابق؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم: «آخذ بعنان فرسه» يدل على اهتمامه بشأن ما هو فيه من المجاهدة في سبيل الله، وليس له هم سواه، لا الدراهم ولا الدنانير، بله (¬2) نفسه، فتراه أشعث رأسه مغبرة قدماه. فإن كان في الحراسة يبذل جهده فيها لا يفتر عنها بالنوم والغفلة ونحوهما؛ لأنه ترك نصيبه من الراحة والدعة، وإن كان في ساقة الجيش لا يخاف الانقطاع، ولا يهتم إلى السبق، بل يلازم ما هو لأجله، فعلى هذه القرينة إلى آخرها جاءت مقابلة للقرينة الأولى، فدلت الأولى على اهتمام صاحبها بعيش العاجلة، والثانية على اهتمام صاحبها بعيش الآجلة " (¬3). ¬
باب فضل الخدمة في الغزو
71 - باب فضل الخدمة في الغزو [حديث جرير رأيت الأنصار يصنعون شيئا لا أجد أحدا منهم إلا أكرمته] 69 - [2888] حَدَّثَنِي محَمَّد بْن عَرْعَرةَ: حَدَّثَنِي شعْبَة، عَنْ يونسَ بْن عبَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ البنانيِّ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ (¬1) رضي الله عنه قَالَ: " صَحِبْت جَرِيرَ (¬2) ابْنَ عبد الله فَكَانَ يَخْدمنِي وَهوَ أَكبَر مِنْ أنسٍ. قَالَ جَرِير: إِنِّي رَأَيْت الأنصَارَ يَصْنَعونَ شيئا لاَ أَجِد أَحَدا مِنْهمْ إِلاَّ أَكْرَمْته " (¬3). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: حسن الصحبة. 2 - من صفات الداعية: التواضع. 3 - محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم. 4 - من أساليب الدعوة: ذكر الصفات الحسنة للمدعوين. 5 - من صفات الداعية: مكافأة المحسن على إحسانه. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: حسن الصحبة: دل هذا الحديث على أن من الصفات الحميدة: حسن الصحبة؛ ولهذا خدم جرير بن عبد الله أنس بن مالك في السفر، وبوَّب بعض شرَّاح صحيح ¬
مسلم لهذا الحديث بباب قال فيه: " باب في حسن صحبة الأنصار " (¬1) وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على حسن الصحبة فقال: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» (¬2). فينبغي للداعية أن يحسن الصحبة لمن صحبه أو كان بجواره في سفر أو حضر؛ لأن خير الناس أنفعهم للناس (¬3). ثانيا: من صفات الداعية: التواضع: دل الحديث على صفة التواضع؛ لما فعله جرير بن عبد الله رضي الله عنه؛ فإنه كان يخدم أنس بن مالك في السفر وأنس أصغر منه؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " في هذا الحديث فضل الأنصار، وفضل جرير، وتواضعه، ومحبته للنبي صلى الله عليه وسلم " (¬4). فينبغي للداعية أن يكون متواضعا لله عز وجل (¬5). ثالثا: محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: ظهر في هذا الحديث محبة جرير بن عبد الله للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد بلغ هذا الحب إلى أنه أقسم على نفسه أن يخدم الأنصار إذا صحبهم؛ لأنهم خدموا النبي صلى الله عليه وسلم (¬6). فينبغي للداعية أن يقتدي بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من حب الأهل، والمال، والناس أجمعين (¬7). رابعا: من أساليب الدعوة: ذكر الصفات الحسنة للمدعوين: إن من الأساليب التي يستفيد منها الداعية في دعوته للناس، ذكر الأخلاق ¬
الجميلة لبعض السلف الصالح، وما كانوا عليه من التقوى والتواضع، والخشية لله عز وجل، ومن هذا الأسلوب ما قاله أنس رضي الله عنه: " صحبت جرير بن عبد الله فكان يخدمني وهو أكبر من أنس "؛ لأن في ذكر هذه الأخلاق ما يفتح قلوب السامعين، ويرغبهم وينشطهم على العمل. خامسا: من صفات الداعية: مكافأة المحسن على إحسانه: إن من الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الداعية إلى الله عز وجل: مكافأة المحسن على إحسانه: بالثناء الحسن، والدعاء الخالص، وبغير ذلك على حسب الحاجة وأحوال الناس، ومن هذا ما فعله أنس رضي الله عنه حيث أثنى على جرير بن عبد الله فقال: " صحبت جرير بن عبد الله فكان يخدمني " ولا شك أن من لم يشكر الناس لا يشكر الله عز وجل (¬1). ¬
حديث ذهب المفطرون اليوم بالأجر
[حديث ذهب المفطرون اليوم بالأجر] 70 - [2890] حَدَّثَنَا سلَيْمَان بْن دَاودَ أَبو الرَّبيعِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنَ زَكَرِيَّا: حدَّثَنَا عَاصِم، فَيْ موَرِّقٍ الْعِجْليِّ، عَنْ أَنَسٍ (¬1) رضي الله عنه قَالَ: «كنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أكثَرنَا ظِلّا الَّذِي مَنْ يَسْتَظِلّ بِكِسَائهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ صَاموا فَلَمْ يَعْمَلوا شيئا، وَأَمَّا الَّذِينَ أَفْطَروا فَبَعَثوا الرِّكَابَ. وامْتَهَنوا وَعَالَجوا، فَقَال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: " ذَهَبَ الْمفْطِرونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ» (¬2). * شرح غريب الحديث: * " فبعثوا الركاب " أثاروا الإبل؛ لخدمتها، وسقيها، وعلفها (¬3). * " وامتهنوا وعالجوا " أي خدموا وزاولوا الخدمة (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: حسن الصحبة وخدمة الرفيق في السفر. 2 - من صفات الداعية: التعاون على البر والتقوى. 3 - من أساليب الدعوة: الترغيب. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: حسن الصحبة وخدمة الرفيق في السفر: دل هذا الحديث على أن من الصفات الجميلة حسن الصحبة وخدمة الرفيق في السفر، ولهذا خدم المفطرون الصائمين في هذا الحديث، وأثنى ¬
عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فينبغي للداعية أن يحسن صحبة من رافقه بأدب وحسن خلق (¬1). ثانيا: من صفات الداعية: التعاون على البر والتقوى: ظهر في هذا الحديث التعاون في الجهاد على طاعة الله بخدمة المجاهدين، والذي دل عليه مفهوم الحديث أن جميع المفطرين تعاونوا على خدمة المجاهدين الصائمين، فأثاروا الإِبل، وقاموا بسقيها، وعقلها، وعلفها، وزاولوا خدمة إخوانهم. فينبغي للدعاة التعاون على كل ما فيه مصلحة الدعوة وأصحاب الدعوة (¬2) قال ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه الحض على المعاونة في الجهاد، وأن الفطر في السفر أولى من الصيام " (¬3). ثالثا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للمجاهدين: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر» قال ابن حجر رحمه الله: " أي بالأجر الوافر، وليس المراد نقص أجر الصوّام، بل المراد أن المفطرين حصل لهم أجر عملهم ومثل أجر الصوام؛ لتعاطيهم أشغالهم وأشغال الصوام " (¬4). فينبغي للداعية أن يستخدم أسلوب الترغيب في دعوته؛ لما له من الأهمية والتأثير في نفوس المدعوين (¬5). ¬
باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب
76 - باب من اسْتعان بالضعَفاء والصالحِينَ في الحربِ وَقَالَ ابْن عَبَّاسٍ: أَخْبَرنيِ أَبو سفْيانَ قَالَ: " قَالَ لِي قَيْصَر: سَأَلْتكَ أَشْرَاف النَّاسِ اتبعوه أَمْ ضعَفَاؤهمْ؟ فزَعَمْتَ ضعَفَاؤهمْ، وَهمْ أَتْباع الرّسلِ ". [حديث هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم] 71 - [2896] حَدَّثَنَا سلَيْمان بْن حَرْبٍ: حَدَّثَنَا محَمَد بْن طَلْحَةَ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ مصعَب بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: رَأى سَعْد (¬1) رضي الله عنه أَنَّ لَه فَضْلا عَلَى مَنْ دونَه، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تنْصَرونَ وَترْزقونَ إِلَّا بضعَفَائِكم»؟ ". * شرح غريب الحديث: * " رَأَى سعد " أي ظن (¬2) وقد جاء هذا المعنى صريحا في رواية النسائي: «ظنَّ أن له فضلا على من دونه» (¬3). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحث على العناية بالفقراء والضعفاء. 2 - من أسباب النصر والرزق: الإِحسان إلى الضعفاء. 3 - من صفات الداعية: التواضع. 4 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 5 - من أساليب الدعوة: الاستفهام الإِنكاري. 6 - من أساليب الدعوة: الحكمة. 7 - من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: ¬
أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على العناية بالفقراء والضعفاء: ظهر في هذا الحديث أن من موضوعات الدعوة: الحث على العناية بالضعفاء والمساكين؛ ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله: «هل تنصرون وترزقون إلا ضعفائكم» والله عز وجل قد جعل الإِحسان إلى الفقراء والمساكين من صفات المتقين فقال عز وجل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] (¬1) وقال عز وجل: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الروم: 38] (¬2) {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] (¬3). فينبغي الحث على الإِحسان إلى الفقراء والضعفاء، والله يحب المحسنين. ثانيا: من أسباب النصر والرزق: الإحسان إلى الضعفاء: دل هذا الحديث على أنه لا ينبغي للأقوياء القادرين أن يستهينوا بالضعفاء العاجزين: لا في أمور الجهاد والنصرة، ولا في أمور الرزق وعجزهم عن الكسب؛ لأن النصر على الأعداء وبسط الرزق قد يكون بسبب الضعفاء؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم»؟ " وهم يكونون من أسباب النصر والرزق من عدة وجوهٍ، منها: 1 - قد يكون النصر على الأعداء، وبسط الرزق بأسباب توجه الضعفاء إلى الله عز وجل وطلبهم النصر والرزق؛ لأنهم أشدّ إخلاصا في الدعاء، وأكثر خشوعا في العبادة، وأقوى توكلا وثقة بالله عز وجل؛ لسلامة قلوبهم وعدم تعلقها بزخارف الدنيا، فإذا دعوا الله على هذه الحال استجاب لهم، فينصر ¬
الله الأمة بسببهم، ويرزقهم من أجلهم. 2 - جعل الله أرزاق هؤلاء الضعفاء على أيدي القادرين والأغنياء، فإذا أعطوهم حقهم وأنفقوا عليهم رغبة فيما عند الله؛ فإن الله عز وجل يفتح لهم من أسباب النصر والرزق ما لم يكن لهم ببال ولا دار لهم في خيال، فكم من إنسانٍ كان رزقه قليلا فكثرت عائلته والمتعلقون به فقام بالواجب وأنفق عليهم، ونصره الله على أعدائه، وأمد الله وَوَسَّعَ في رزقه (¬1)؛ قال الله عز وجل: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] (¬2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أَحدهما: اللهم أعطِ منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكا تلفا» (¬3) وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: " قال الله تعالى: «يا ابن آدم أنفق أنفق عليك» (¬4) وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انفحي، أو انضحي (¬5) أو أنفقي، ولا تحصى فيحصي الله عليك (¬6) ولا توعي فيوعي (¬7) الله عليك» (¬8) وفي صحيح البخاري (¬9) «لا توكي فيوكي الله عليك» (¬10). ¬
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان أخوان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم والآخر يحترف فشكى المحترف أَخَاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " لعلك ترزق بِه» (¬1). 3 - دعاء المستضعفين المنفق عليهم؛ فإنهم يدعون الله عز وجل في كل أحوالهم لمن قام بمساعدتهم وأعانهم على فقرهم وضعفهم. فينبغي أن يعلم الدعاة أن إعانة الضعفاء والعطف عليهم، والإِحسان إليهم، بالقول والفعل من أسباب النصر والرزق والتوفيق. ثالثا: من صفات الداعية: التواضع: دل الحديث على التواضع؛ لأن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ظن أن له فضلا على من دونه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بسبب شجاعته، ونحو ذلك من جهة الغنى وكثرة المال، فقال صلى الله عليه وسلم: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟» وهذا فيه حث على التواضع ونفي الكبر والفخر، وترك احتقار المسلم في كل حالة (¬2). فينبغي للمسلم التواضع وعدم الترفع على إخوانه المسلمين (¬3). رابعا: من أساليب الدعوة: الترغيب: ظهر أسلوب الترغيب في هذا الحديث؛ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟» وهذا فيه ترغيب في الإِحسان إلى هؤلاء وعدم احتقارهم، وهذا ليس فيه ما يعارض الأحاديث الأخرى التي مدح فيها الأقوياء، وأن المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وإنما المراد أن ذلك من أعظم أسباب الرزق والنصر، وقد يكون لذلك أسباب أخرى؛ فإن الكفار والفجار قد يرزقون وينصرون استدراجا، وقد يخذل المؤمنون؛ ليتوبوا ¬
ويخلصوا، ولكن العاقبة الحميدة لهم، فيجمع لهم بين مغفرة الذنب وتفريج الكرب، وليس كل إنعام كرامة ولا كل امتحان عقوبة (¬1). فينبغي استخدام الترغيب في الدعوة إلى الله عز وجل (¬2). خامسا: من أساليب الدعوة: الاستفهام الإنكاري: الاستفهام الإِنكاري من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل وقد ظهر هذا الأسلوب في قوله صلى الله عليه وسلم: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟» فقد أنكر صلى الله عليه وسلم على سعدٍ رضي الله عنه ما ظنه وبيَّن فضل الضعفاء على الأمة، وأبرز ذلك في صورة الاستفهام؛ ليدل على مزيد التعزير والتوبيخ (¬3). وهذا يؤكد أهمية هذا الأسلوب. (¬4). سادسا: من أساليب الدعوة: الحكمة: دل هذا الحديث على حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر وتأليف القلوب، وتوجيهها إلى ما يحبه الله ويرضاه؛ فإنه أنكر على سعدٍ رضي الله عنه ببيان فضل الضعفاء وأن وجودهم بين المسلمين من أسباب النصر والرزق، وقد استخدم صلى الله عليه وسلم الاستفهام الإِنكاري. وهذا يبين للدعاة إلى الله عز وجل أهمية أسلوب الحكمة؛ قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (¬5) وحقيقة الحكمة: وضع كل شيء في موضعه بإحكام وإتقان، والإِصابة في الأقوال والأفعال (¬6). ¬
سابعا: من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى: دل هذا الحديث على أن من أصناف المدعوين أهل الصلاح والاستقامة؛ لأن المسلم قد يخطئ ويحتاج إلى التنبيه والتوجيه؛ ولأن العصمة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولمن عصمه الله من عباده المخلصين؛ ولهذا لما رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلا على من دونه، وجهه النبي صلى الله عليه وسلم وأرشده بقوله: «هل تنصرون وترزقون لا بضعفائكم؟». فينبغي للداعية أن يقبل النصيحة ممن وجهها إليه من العلماء والدعاة، أو حتى ممن هو دونه، وينبغي له أن لا يستحي من توجيه إخوانه الدعاة إلى الخير إذا رأى ما يوجب ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوَّابون» (¬1) وهذا يؤكد أن كل مسلم يحتاج إلى توجيه ونصيحة مهما ارتفعت منزلته (¬2). ¬
حديث يأتي زمان يغزو فئام من الناس فيقال فيكم من صحب النبي
[حديث يأتي زمان يغزو فئام من الناس فيقال فيكم من صحب النبي] 72 - [2897] حَدَّثَنَا عبد الله بْن محَمَّدٍ: حَدَّثَنَا سفْيَان، عَنْ عَمْرو: سَمِعَ جَابِرا (¬1) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدْرِيِّ (¬2) رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «يَأْتِي زَمَان يَغْزو فِئام مِنَ النَّاسِ، فَيقَال: فِيكمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ فيقَال: نَعَمْ، فيفتح عَلَيْهِ. ثمَّ يأتي زَمَان فَيقَال: فِيكمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَيقَال: نَعَمْ، فَيفْتَح. ثمَّ يأتِي زَمَان فَيقَال: فِيكمْ مَنْ صَحِبَ صَاحِبَ أَصْحَاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَيقَال: نَعَمْ، فَيفْتَح» (¬3). وفي رواية: «يأتِي عَلَى النَّاسِ زَمَان فَيغْزو فِئَام مِنَ النَّاسِ فيَقولونَ: فِيكمْ مَنْ صاحَبَ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقولونَ لَهمْ: نَعَمْ، فَيفتح لَهمْ، ثمَّ يأتِي عَلَى النَّاسِ زمَان فَيَغْزو فِئَام مِنَ النَّاسِ فَيقَال: هَلْ فِيكمْ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَيَقولونَ: نَعَمْ، فَيفْتَح لَهمْ. ثمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَان فَيَغْزو فِئَام مِنَ النَّاسِ فَيقَال: هَلْ فِيكمْ مَنْ صَاحَبَ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فيَقولونَ: نَعَمْ، فَيفتح لَهمْ» (¬4). * شرح غريب الحديث: * " فئام من الناس " الفئام: الجماعة الكثيرة (¬5). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بالغيوب. ¬
2 - من أسباب النصر: استقامة المجاهدين والدعاة على دين الله عز وجل. 3 - من موضوعات الدعوة: بيان فضل السلف الصالح للتأسي بهم. أولا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار بالغيوب: دل هذا الحديث على صدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر بأمور غيبية لا يعلمها إلا الله، فوقعت كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فنصر الله أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم، وأتباعهم، وتابعيهم، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن الله أرسله وأنه رسول الله حقّا وصدقا (¬1). فينبغي للداعية أن يبين للناس علامات النبوة؛ لما لها من الأثر في النفوس وحملها على تصديق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم (¬2). ثانيا: من أسباب النصر: استقامة المجاهدين والدعاة على دين الله عز وجل: لا شك أن استقامة المجاهدين والدعاة على دين الله عز وجل من أعظم أسباب النصر والتمكين؛ وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بنصر الجيش الذي يغزو معه بعض الصحابة والتابعين، وأتباعهم؛ وذكر ابن حجر رحمه الله عن ابن بطال رحمه الله أنه " يفتح للصحابة لفضلهم، ثم للتابعين لفضلهم، ثم لتابعيهم لفضلهم. . . ولذلك كان الصلاح والفضل والنصر للطبقة الرابعة أقل، فكيف بمن بعدهم والله المستعان " (¬3) وقد وعد الله عز وجل من استقام من عباده على طاعته بالنصر والتمكين فقال سبحانه وتعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41] (¬4) وقوله سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] أي ينصر دينه ونبيه (¬5). ¬
وقال الله سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] (¬1). وقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ - وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7 - 8] (¬2). وهذه الآيات الكريمات تبين أن المجاهدين والدعاة وغيرهم إذا أطاعوا الله ورسوله نصرهم الله عز وجل وأمدهم بعونه وتوفيقه. ثالثا: من موضوعات الدعوة: بيان فضل السلف الصالح؛ للتأسي بهم: إن من الموضوعات المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل: بيان فضل السلف الصالح؛ للتأسي بهم والسير على هديهم؛ ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: فضل الصحابة، والتابعين، وأتباعهم، وأن الله عز وجل ينصرهم على عدوِّهم. قال العلامة العيني رحمه الله: " الصحابة، والتابعون، وأتباع التابعين حصلت بهم النصرة؛ لكونهم ضعفاء فيما يتعلق بأمر الدنيا، أقوياء فيما يتعلق بأمر الآخرة " (¬3). فينبغي للداعية أن يبين للناس فضل الصحابة وأتباعهم من أهل العلم والإِيمان؛ ليقتدي بهم الناس ويستفيدوا من فضائلهم؛ ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم بعض الفضائل لهؤلاء السلف فقال: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن» (¬4). ¬
وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم, ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» (¬1). وهذا يبين فضائل الصحابة وأنه ينبغي التأسي بهم في الاستقامة على دين الله عز وجل. وسمعت العلامة سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز حفظه الله يقول: " بعد هذه القرون تتغير الأحوال، ويضعف الإِيمان حتى إنهم يظهر فيهم، السمن؛ لميلهم إلى الشهوات " وقال عن الفائدة من إيراد هذه الأحاديث في فضائل الصحابة: " والمقصود التأسي بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " (¬2). وفضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا تحصر في هذه الأسطر، ولكن أشملها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه» (¬3). وهذا يبيّن للدعاة إلى الله عز وجل أهمية تذكير الناس بفضائل الصحابة رضي الله عنهم وبقية القرون الثلاثة المفضلة؛ قال الإِمام القرطبي رحمه الله: " هذه القرون الثلاثة: أفضل مما بعدها إلى يوم القيامة، وهذه القرون في أنفسها متفاضلة، فأفضلها: الأول، ثم الذي بعده، ثم الذي بعده. . " (¬4). وقد بين الحافظ ابن حجر آخر القرون الثلاثة فقال: " واتفقوا على أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورا فاشيا " (¬5). ¬
باب لا يقول فلان شهيد
77 - باب لا يقول: فلان شهِيد وَقَالَ أَبو هرَيْرَةَ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «الله أَعْلَم بِمَنْ يجَاهِد فِي سَبِيلِهِ، الله أَعْلَم بِمَنْ يكْلَم فِي سَبِيلِهِ». [حديث إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار] 73 - [2898] حَدَّثَنَا قتَيْبَة: حَدَّثَنَا يَعْقوب بْن عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الساعِدِيِّ (¬1) رضي الله عنه: «أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْتَقَى هوَ والْمشْرِكونَ فَاقْتَتَلوا، فَلَمَّا مَالَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى عَسْكَرِهِ وَمَالَ الآخَرونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي أَصْحَابِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجل لَا يَدَع لَهمْ شَّاذَّة وَلَا فَاذَّة إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضرِبها بِسَيْفِهِ، فَقَالوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَومَ أَحَد كَمَا أَجْزَأَ فلان، فَقَال رِسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: " أَمَا إِنَّه مِنْ أَهْلِ النَّارِ "، فَقَالَ رَجل مِنَ الْقَوْمِ: أنا صَاحِبه، قَالَ فخَرَجَ مَعَه كلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَه، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَه، قالَ: فَجرِحَ الرَّجل جرْحا شَدِيدا، فَاسْتَعْجَلَ الْموتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الأَرْضِ، وَذبَابَه بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفهِ فَقَتَلَ نَفْسَه، فخَرَجَ الرَّجل إِلَى رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: أَشْهد أنكَ رَسول اللهِ، قَالَ: " وَمَا ذَاك؟ " قَال: الرَّجل الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفا أنه مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فأَعْظَمَ النَّاس ذَلِكَ، فَقلْت: أَنا لَكمْ بِهِ، فَخَرَجْت فِي طَلَبِهِ، ثمَّ جرِح جرْحا شَدِيدا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الأَرْضِ وَذبَابَه بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَه. فَقَالَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: " إِنَّ الرَّجلَ لَيَعْمَل عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ فِيمَا يَبْدو للنَّاسِ وَهو مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجلَ ليَعْمَل عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدو لِلنَّاسِ وَهوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ» (¬2). وفي رواية: ". . «أَيّنَا مِنْ أَهْلِ الجَنَّة إِذَا كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ؛ فَقَالَ رَجل ¬
مِنَ الْقَوْمِ لأَتَّبعَنَّه». . " (¬1). وفي رواية. «نَظَرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَجل يقَاتِل الْمشْرِكِينَ- وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ المسْلِمينَ غَنَاء عَنْهمْ- فَقَالَ: " مَنْ أَحَبَّ أنْ يَنْظرَ إِلَى رَجل مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظر إِلَى هَذَا "، فَتَبِعَه رَجل فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَقَالَ بِذبَابَةِ سَيْفِهِ فَوَضَعَه بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْن كتِفَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَل- فِيمَا يَرَى النَّاس- عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ وَإِنَّه لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَل- فِيمَا يَرَى النَّاس- عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَهوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الأَعمَال بِخَوَاتِيمِهَا» (¬2). وفي رواية: «وَإِنَّمَا الأَعْمَال بِالْخَوَاتِيم» (¬3). * شرح غريب الحديث: * " شاذة ولا فاذة " هما بمعنى واحد، والشذوذ: الانفراد: أي لا يسلم منه أحد إلا قتله، وهي كلمة تقال للشجاع: لا يدع شاذة ولا فاذة (¬4). * " ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان " أي ما ناب أحد منابه، ولا قام أحد مقامه، ولا قضى ما قضاه (¬5). * " نصل سيفه " نصل السيف: حديده، والنصل: حديدة السهم والسيف (¬6). * " ذبابه بين ثدييه " ذباب السيف: طرفه الذي يضرب به وهو الحدّ (¬7). * " تحامل على سيفه " مال عليه واتَّكأَ، والتحامل: تكلف الشيء على مشقة (¬8). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الإِيمان بالقدر والعمل بأسباب النجاة. 2 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الاغترار بالأعمال. 3 - من صفات الداعية: الجمع بين الخوف والرجاء. 4 - من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بالمغيبات. 5 - من صفات الداعية: الأخذ بالظاهر والله يتولَّى السرائر. 6 - من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب. 7 - من موضوعات الدعوة: الحث على النية الصالحة. 8 - من موضوعات الدعوة: حث الناس على طلب حسن الخاتمة بالقول والعمل. 9 - عظم يقين الصحابة رضي الله عنهم بما يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. 10 - قد يؤيد الله عز وجل الإِسلام بالمدعو الفاجر. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الإيمان بالقدر والعمل بأسباب النجاة: ظهر في هذا الحديث أهمية الإِيمان بالقدر؛ (¬1)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل ظاهره الصلاح والشجاعة في الجهاد: " إنه من أهل النار " وقال: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» وهذا يدل على أن الله عز وجل قد قدر المقادير، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا كتِبَ مَكَانهَا من الجنة والنار، وإلا قد كتِبَتْ شقية أو سعيدة " فقال رجل؛ يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منَّا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة, وأما من كان مِنَّا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ قال: " أمَّا أهل السعادة فييَسَّرون ¬
لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسَّرون لعمل الشقاوة. ثم قرأ» {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى - وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10] (¬1) قال ابن رجب رحمه الله: " ففي هذا الحديث أن السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما، وأن ذلك مقدر بحسب الأعمال، وأن كلّا ميسر لما خلِقَ له من الأعمال التي هي سبب السعادة أو الشقاوة " (¬2). ولا شك أن الله عز وجل إنما يهدي من كان أهلا للهداية، ويضل من كان أهلا للضلالة، قال عز وجل: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] (¬3) وقال سبحانه وتعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13] (¬4). فبين سبحانه أن أسباب الضلالة لمن ضل إنما هي بسَبَبٍ من العبد نفسه، والله عز وجل لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] (¬5) وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] (¬6) ويجمع الإِيمان بالقضاء والقدر أربع مراتب إذا آمن بها العبد فقد استكمل الإيمان بهذا الأصل العظيم: المرتبة الأولى: العلم، فيؤمن العبد إيمانا جازما أن الله عز وجل علم بما الخلق عاملون، بعلمه الأزلي، وعلم جميع أحوالهم وأعمالهم: من الطاعات والمعاصي، والأرزاق والآجال. قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: 62] (¬7) ¬
وقال عز وجل: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] (¬1) فبنى تقديره سبحانه وتعالى لمقادير الخلائق على هذا العلم السابق الأزلي، وقدر مقادير الخلائق: من السعادة والشقاوة وغير ذلك بحسب الأعمال التي سبق علمه بها من خير وشر (¬2). المرتبة الثانية: كتابة الله عز وجل لجميع الأشياء والمقادير في اللوح المحفوظ: الدقيقة والجليلة، ما كان وما سيكون، قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] (¬3) وقد جمعت هذه الآية بين المرتبتين السابقتين. وقال عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] (¬4) وقال سبحانه وتعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] (¬5)؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة» قال: «وكان عرشه على الماء» (¬6). وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه لابنه: يا بني، إنك لن تجد طعم حقيقة الإِيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: ربِّ وماذا أكتب؛ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات على غير هذا فليس مني» (¬7) وفي لفظ للإِمام أحمد: «إن أول ما خلق الله تبارك وتعالى القلم، ثم قال اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة» (¬8). ¬
المرتبة الثالثة: مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة التي لا يعجزها شيء فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وما في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] (¬1). المرتبة الرابعة: الخلق، فالله عز وجل خالق كل شيء، وما سواه مخلوق له سبحانه وتعالى، لا إله غيره ولا رب سواه. قال عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62] (¬2) ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المحسنين، والمتقين، والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، وهو الحكيم العليم (¬3) وعلى العبد أن يبذل الأسباب، ويسأل الله التوفيق والهداية، ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولا يظلم مثقال ذرة، قال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] (¬4). فينبغي للداعية أن يبيِّن للناس هذا الأصل معتمدا على الأدلة من الكتاب والسنة، ولا يخوض فيما لا علم له به، ويحث الناس على النشاط والقوة، والاستعانة بالله وتفويض المقادير إلى الله عز وجل، وأن يتركوا العجز والكسل؛ (¬5) قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء ¬
فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتِح عمل الشيطان» (¬1) ولهذه العقيدة السليمة قال الله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51] (¬2). ثانيا: من موضوعات الدعوة: التحذير من الاغترار بالأعمال: إن من الموضوعات التي ينبغي للداعية أن يعتني بها ويوجه الناس إلى الحذر منها: الاغترار بالأعمال؛ ولهذا عندما قتل الرجل نفسه أعظم الصحابة رضي الله عنهم ذلك؛ لأنهم نظروا إلى شجاعته، وقتاله العظيم، ولم يعرفوا الباطن، ولا المآل فأعلم الله الخبير العليم النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعاقبة هذا الرجل؛ لسوء مقصده وخبث نيته (¬3) قال الإِمام القرطبي رحمه الله في فوائد هذا الحديث: ". . فيه التنبيه على ترك الاعتماد على الأعمال، والتعويل على فضل ذي العزة والجلال " (¬4) وقال الإِمام النووي رحمه الله: " فيه التحذير من الاغترار بالأعمال، وأنه ينبغي للعبد أن لا يتكل عليها، ولا يركن إليها، مخافة انقلاب الحال للقدر السابق، وكذا ينبغي للعاصي أن لا يقنط ولغيره أن لا يقنطه من رحمة الله " (¬5)؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «سددوا وقاربوا، وأبشروا، فإنه لن يدخل الجنة أحدا عمله " قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمته. واعلموا أن أحبَّ العمل إلى الله أدومه وإن قلَّ» (¬6). وقد مدح الله الخائفين على أعمالهم الصالحة يخشون أن لا تقبل منهم، فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] (¬7) قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: «أهو الذي يزني ويسرق ¬
ويشرب الخمر؛ قال: " لا يا بنت أبي بكر [أو يا بنت الصديق] ولكنه الرجل يصوم، ويتصدق، ويصلي، ويخاف أن لا يتقبل منه» (¬1). فينبغي للداعية أن يبيِّن للناس أن الاعتماد على الله عز وجل في كل شيء، والطمع في رحمته مع إحسان العمل وإخلاصه لله عز وجل، وعدم الغرور والإِعجاب بالأعمال. والله المستعان. ثالثا: من صفات الداعية: الجمع بين الخوف والرجاء: يظهر من هذا الحديث أنه ينبغي للمسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل أن يجمع بين الخوف والرجاء؛ لأن الإِنسان لا يدري هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله عن ابن بطال رحمه الله أنه قال: " في تغييب خاتمة العمل عن العبد حكمة بالغة، وتدبير لطيف؛ لأنه لو علم وكان ناجيا أعجِب وكسِل، وإن كان هالكا ازداد عتوّا، فحجب عنه ذلك؛ ليكون بين الخوف والرجاء " (¬2) فالأمن من مكر الله عز وجل ينافي كمال التوحيد؛ ولهذا قال الله عز وجل: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] (¬3). وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج " (¬4) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] (¬5)» والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله ينافي كمال التوحيد أيضا؛ ولهذا قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56] (¬6) ¬
وقال عز وجل: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] (¬1) والقنوط: استبعاد الفرج واليأس منه، وهو يقابل الأمن من مكر الله وكلاهما ذنب عظيم (¬2) وعن ابن عباس رضي الله عنهمَا «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر؛ فقال: " الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله» (¬3). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح اللَّه» (¬4). ومعنى الأمن من مكر الله: أي أمن الاستدراج بما أنعم الله به على عباده من صحة الأبدان، ورخاء العيش، وهم على معاصيهم (¬5). واليأس من روح الله: أي قطع الرجاء من رحمة الله ومن تفريجه للكربات (¬6). والقنوط من رحمة الله: هو أشدّ اليأس (¬7). وهذا فيه التنبيه على الجمع بين الرجاء والخوف، فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس بل يرجو رحمة الله (¬8). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال: " كيف تجدك؟ " قال: أرجو الله يا رسول الله، وأخاف ذنوبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف» (¬9). ¬
فينبغي للداعية أن يكون بين الرجاء والخوف، وقد ذكر بعض علماء نجد أنه يغلِّب في الصحة جانب الخوف؛ لأنه إذا غَلَّب الرجاء على الخوف فسد القلب، أما في حالة المرض فيغلِّب الرجاء، لكن مع الجمع بين الرجاء والخوف في جميع الأحوال (¬1). ولا بد أن يكون الرجاء والخوف مع المحبة الكاملة؛ قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: " وكان بعض السلف يقول: من عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو موَحِّد مؤمن، وسبب هذا أنه يجب على المؤمن أن يعبد الله بهذه الوجوه الثلاثة: المحبة، والخوف، والرجاء، ولا بد له من جميعها، ومن أخل ببعضها فقد أخل ببعض واجبات الإِيمان " (¬2). وكلام بعض الحكماء يدل على أن الحب ينبغي أن يكون أغلب من الخوف والرجاء (¬3). وأسأل الله عز وجل أن يرزقني وجميع المسلمين خشيته في السر والعلانية. رابعا: من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإخبار بالمغيبات: إن من أعلام النبوة التي دلت على صدق النبي صلى الله عليه وسلم: إخباره بالمغيبات، وقد ظهرت هذه المعجزة في هذا الحديث؛ حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل الشجاع أنه من أهل النار، فتحقق ما قاله فقتل الرجل نفسه، قال ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفي الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات، وذلك من معجزاته الظاهرة " (¬4) وقال القرطبي رحمه الله: " وكان ذلك من أدلة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحة رسالته " (¬5). ¬
فينبغي للداعية أن يبين للمدعوين أعلام النبوة عند الحاجة لتثبيت المدعوين أو زيادة إيمانهم؛ ولإِظهار صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب الريب والشك أو التكذيب (¬1). خامسا: من صفات الداعية؛ الأخذ بالظاهر والله يتولَّى السرائر: دل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بظواهر الناس ويكل سرائرهم إلى الله عز وجل، ففي هذا الحديث لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل على ما ظهر له من عدم صدقه وإخلاصه بإخبار الله له عن طريق الوحي. وهكذا ينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يأخذ بالظاهر ويكل سرائر الناس إلى خالقهم العالم بما في نفوسهم (¬2). سادسا: من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب؛ لأن فيه الترغيب في طلب حسن الخاتمة بالأعمال الصالحة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة»، أما الترهيب؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار» ولا شك أن ذلك أوجد الخوف في قلوب الصحابة حتى قال بعضهم: «وأيّنا من أهل الجنة إذا كان هذا من أهل النار» وهذا الترهيب يثمر محاسبة العبد نفسه، والنظر والتأمل في صدقه مع الله وحسن نيته أو خبثها، ثم يلتزم بما يحبه الله ويرضاه، ويسأله سبحانه العفو والعافية في الدنيا والآخرة. أسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة: لي ولأهل بيتي ومشايخي وجميع المسلمين (¬3). سابعا: من موضوعات الدعوة: الحث على النية الصالحة: ظهر في هذا الحديث أن الرجل الذي قتل نفسه لم تكن نيته صالحة، فهو ¬
كان يقاتل إما انتصارا لقومه، أو رياء وسمعة؛ قال الإمام القرطبي رحمه الله في هذا الحديث: " دليل على أن ذلك الرجل لم يكن مخَلصا في جهاده، وقد صرح الرجل بذلك فيما يروى عنه أنه قال: إنما قاتلت عن أحساب قومي، فيتناول هذا الخبر أهل الرياء " (¬1). فيتأكد على الداعية؛ أن يخلص نيته وأن يصلح قصده، وينبغي له أن يحث الناس على إصلاح النية وإخلاصها لله الواحد القهار؛ لأن الاعتبار بالنيات (¬2). ثامنا: من موضوعات الدعوة: حث الناس على طلب حسن الخاتمة بالقول والعمل: لا شك أن من الموضوعات المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل حض المدعوين على طلب حسن الخاتمة بالدعاء، وبعمل جميع الأسباب المؤدية إلى حسن الختام؛ لأن من رغب في شيء وحرص عليه جد في طلبه بالدعاء والضراعة إلى الله عز وجل، واجتهد في بذل الأسباب؛ قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] (¬3) وقد ظهر في هذا الحديث: أن الأعمال بالخواتيم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وإنما الأعمال بخواتيمها». ومما يعين المسلم على طلب حسن الخاتمة معرفته بعض ما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حسن الخاتمة وسوئها ومن ذلك: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات: فيكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح. فإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق ¬
عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار» (¬1). وقد يعمل الرجل الزمن الطويل بالطاعات ويبتعد عن المعاصي والسيئات ثم قبل موته يرتكب الجرائم والموبقات ويترك الواجبات، فيهجم عليه الموت فجأة فيختم له بخاتمة السوء، وبالعكس؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة» (¬2). قال الحافظ ابن رجب رحمه الله على حديث الباب: " وقوله: " فيما يبدو للناس " إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس. . . من جهة عمل سيءٍ ونحو ذلك فتلك الخصلة الخفية توجب سوءَ الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة " (¬3). وينبغي للمسلم أن يعمل بالأسباب التي توصل إلى حسن الخاتمة ويبتعد عن جميع الأسباب التي تنشأ عنها سوء الخاتمة، ومن ذلك ما يأتي: 1 - خوف الله عز وجل، والخشية من سوء الخاتمة، فقد كان السلف الصالح يخافون من سوء الخاتمة، فيحسنون العمل؛ لأن الخوف مع الرجاء يبعث على إحسان العمل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» (¬4)؛ ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من السلف يخافون على أنفسهم النفاق، ¬
ويشتد قلقهم منه؛ لأن المؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر؛ لأن دسائس السوء من أسباب سوء الخاتمة (¬1). وقد ذكِرَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لحذيفة رضي الله عنه: " نشدتك بالله هل سمّاني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم؟ " - يعني من المنافقين- قال: لا، ولا أبرئ بعدك أحدا، يعني لا يكون مفشيا سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). وقال عبد الله بن أبي مليكة: " أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، وما منهم من أحد يقول: إن إيمانه على إيمان جبريل وميكائيل " (¬3). وقال إبراهيم التيمي رحمه الله: " ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا " (¬4). ويذكر عن الحسن: " ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق " (¬5). ويذكر عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: " لأن أستيقن أن الله تقبل لي صلاة واحدة أحب إليَّ من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] (¬6). 2 - التوبة من جميع الذنوب والمعاصي وإتباعها بالأعمال الصالحة؛ لأن التسويف في التوبة من أسباب سوء الخاتمة؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] (¬7). وقال سبحانه وتعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50] (¬8). ولا شك أن: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (¬9). ¬
ولا بد مع التوبة من الأعمال الصالحة؛ لقوله عز وجل: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] (¬1) وقال سبحانه وتعالى بعد أن ذكر عقاب المشرك، وقاتل النفس بغير حق، والزاني: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70] (¬2). وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله " فقيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال؛ " يوفقه لعمل صالح قبل الموت» (¬3) وعن عمرو بن الحَمقِ رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أراد الله بعبدٍ خيرا عَسَلَه " قالوا: وكيف يعسله؛ قال: " يفتح الله عز وجل له عملا صالحا بين يدي موته حتى يرضى عنه جيرانه، أو من حوله» (¬4). 3 - الدعاء بحسن الخاتمة وإظهار الافتقار إلى الله عز وجل؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر الدعاء بالثبات على دين الله عز وجل، فعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان أكثر دعائه: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " قالت: قلت: يا رسول الله ما أكثر دعاءك: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال: " يا أم سلمة إنه ليس آدميّ إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ» فتلا معاذ: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] (¬5). ¬
وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " فقلت: يا رسول الله، آمنّا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: " نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف شاء» (¬1). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» (¬2). وكان صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة» (¬3). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من: " جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء» (¬4). فينبغي للمسلم أن يكثر من هذه الأدعية التي هي من أسباب حسن الخاتمة، وعليه أن يكثر من " لا حول ولا قوة إلا بالله " فعن عبد الله بن قيس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ " فقلت: بلى يا رسول الله، قال: " قل لا حول ولا قوة إلا بالله» (¬5). 4 - قصر الأمل من أسباب حسن الخاتمة، وطول الأمل ضد ذلك؛ لأن قصر الأمل يحث صاحبه على اغتنام الأوقات والأعمال الصالحة؛ ولهذا ¬
أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك (¬1). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: " هذا الإِنسان، وهذا أجله محيط به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا» (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين: في حب الدنيا وطول العمر» (¬3). وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يهرم ابن آدم وتشبّ منه اثنتان؛ الحرص على المال، والحرص على العمر» (¬4). 0 - فينبغي للمسلم أن لا يركن إلى الدنيا؛ فإنها متاع زائل، والله المستعان. 5 - بغض المعاصي والابتعاد عنها من أسباب حسن الخاتمة، وضد ذلك حبها وإلفها. فينبغي للمسلم أن يبغض كل ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإِنسان إذا أصرَّ على المعاصي ومات على ذلك كان ذلك من أسباب سوء الخاتمة، وبعِثَ على ما مات عليه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من مات على شيء بعثه الله عليه» (¬5). 6 - الصبر عند المصائب من أسباب حسن الخاتمة، وضد ذلك الجزع أو الانتحار من أسباب سوء الخاتمة أسأل الله العفو والعافية لي ولأهل بيتي وجميع المسلمين، فينبغي للمسلم الصبر ابتغاء وجه الله عز وجل، فعن صهيب ¬
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (¬1) ولا شك أن المصائب تكفر الخطايا والسيئات. فينبغي للعبد الصبر والثبات واحتساب الأجر والثواب على الله عز وجل، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقَهَا» (¬2) وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما يصيب المؤمن من وصب (¬3) ولا نصب (¬4) ولا سقم، ولا حَزَنٍ، حتى الهمّ يهَمّه إلا كفِّر به من سيئاته» (¬5). 7 - حسن الظن بالله عز وجل من أسباب حسن الخاتمة، وسوء الظن بالله من أسباب سوء الخاتمة، فينبغي للعبد أن يعلم أن الله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة، ولا يظلم الناس شيئا، وهو عند ظن عبده به؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني». . " (¬6). وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاث يقول: «لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» (¬7). 8 - معرفة ما أعده الله عز وجل من النعيم المقيم للمؤمنين، من أسباب حسن ¬
الخاتمة؛ لأن هذا العلم يحث على العمل، والاستقامة على طاعة الله عز وجل، رغبة فيما عنده عز وجل من الثواب؛ قال الله عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60] (¬1). فينبغي للمسلم أن يعلم أن مستقر أرواح المؤمنين في الحياة البرزخية في الجنة، فعن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن الشافعي، عن مالك، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه» (¬2) أما أرواح الشهداء فهي أعظم من ذلك، فقد ثبت في الصحيح أن: «أرواحهم في جوف طير خضرٍ، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل». . " (¬3). فينبغي للداعية أن يبين للناس هذه الأمور حتى يحذِّرهم ويرغِّبهم، ويدلّهم على طرق حسن الخاتمة. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحسن لنا جميعا الخاتمة وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه. تاسعا: عِظَم يقين الصحابة رضي الله عنهم بما يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم: دل حديث سهل بن سعد رضي الله عنه على عظم يقين الصحابة رضي الله عنهم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به؛ ولهذا عندما سمع الصحابة رضي الله عنهم قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: «إنه من أهل النار " قال رجل منهم أنا صاحبه، فخرج معه كلما وقف وقف معه؛ لعلمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقّا وصدقا؛ وقد جاء في الرواية الأخرى أن هذا الصحابي رضي الله عنه عندما رأى أن الرجل قتل نفسه جاء ¬
إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسرعا فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال: " وما ذاك؟ " قال: قلت لفلان: " من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه " وكان أعظمنا غناء عن المسلمين " فعرفت أنه لا يموت على ذلك» (¬1) فقول الصحابي رضي الله عنه " فعرفت أنه لا يموت على ذلك " يدل دلالة واضحة على يقينه بما قال النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذا الرجل لا يموت على الإِخلاص لله عز وجل. فينبغي للداعية إلى الله- وكل مسلم- أن يتصف باليقين الكامل في كل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. عاشرا: قد يؤيد الله عز وجل الإسلام بالمدعو الفاجر: إن الله عز وجل قد يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وقد جاء ذلك صريحا من قول النبي صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه لهذا الحديث وفيها: ". . . «فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: " الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله " ثم أمر بلالا فنادى في الناس " إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» (¬2) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " الله قد يؤيد دينه بالفاجر وفجوره على نفسه " (¬3). ¬
باب التحريض على الرمي
78 - باب التَّحرِيض على الرمي، وقَوْلِ الله تعالى {وَأَعِدّوا لَهمْ مَا اسْتَطَعْتمْ مِنْ قوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ترْهِبونَ بِهِ عَدوَّ اللَّهِ وَعَدوَّكمْ} [الأنفال: 60] (¬1). [حديث ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا] 74 - [2899] حَدَّثَنَا عَبْد اللهِ بْن مَسْلَمَةَ: حَدَّثَنَا حَاتِم بْن إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنٍ أَبِي عبَيدٍ قَالَ: سَمِعْت سَلَمَةَ بْنَ الأَكْوَعِ (¬2) رضي الله عنه قَالَ: «مَرَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم علَى نَفرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنتَضِلونَ، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: " ارْموا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكمْ كَانَ رَامِيا، ارْموا وَأَنَا مَعَ بَنِي فلَانٍ ". قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَد الفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا لَكمْ لَا تَرْمون؟ " قَالوا: كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهمْ؛ قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: " ارْموا فأنا مَعَكمْ كلِّكمْ» (¬3). وفي رواية: «خَرَجَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم علَى قَوْمٍ مِنْ أَسْلَمَ يَتَنَاضلونَ بالسّوقِ. .» (¬4). * شرح غريب الحديث: * " ينتضلون " أي يرتمون بالسهام، يقال: انتضل القوم، وتناضلوا: أي رموا للسبق، وناضله إذا رماه، وفلان يناضل عن فلان؛ إذا رمى عنه، ¬
وحاجج، وتكلَّم بعذره، ودفع عنه (¬1). * " فأمسك أحد الفريقين بأيديهم " أي تركوا الرمي وامتنعوا عنه (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الإِعداد للجهاد والحض عليه. 2 - من صفات الداعية: الشجاعة. 3 - من صفات الداعية: حسن الخلق. 4 - حسن أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم. 5 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. أولا: من موضوعات الدعوة: الإعداد للجهاد والحض عليه: إن من الموضوعات المهمة: الإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل والحض عليه، وتدريب المجاهدين على الأعمال القتالية في وقت السلم: كالتدريب على الرمي، وغيره من الوسائل الحديثة: كالدبابات، والمدرعات، والطائرات، والسفن الحربية، وغير ذلك من أنواع القوة، التي أمر الله بها؛ ولهذا أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه في هذا الحديث تدريبا لهم وتعليما فقال: «ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا». وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» (¬3) والقوة كل ما يحتاج إليه المجاهدون في إهلاك عدوهم، إلا أنه لما كان الرمي أنكاها على العدو وأنفعها، فسرها صلى الله عليه وسلم ¬
وخصصها بالذكر، وأكدها ثلاثا؛ لأن النكاية بالسهام تبلغ العدو من الشجاع وغيره، بخلاف السيف والرمح؛ فإن النكاية لا تحصل بهما إلا من الشجعان الممارسين، وليس كل أحد كذلك، والرمي قد يحصل به إصابة رئيس الكتيبة فينهزم أصحابه، إلى غير ذلك مما يحصل في الرمي من الفوائد (¬1). فينبغي أن يعتني المسلمون بالإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل (¬2). ثانيا: من صفات الداعية: الشجاعة: دل هذا الحديث على أن الشجاعة صفة حميدة ينبغي أن يتصف بها الداعية إلى الله عز وجل؛ ولهذا، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن إسماعيل صلى الله عليه وسلم كان راميا، وهذا يدل على شجاعته، ومعرفته بأمور الحرب (¬3) عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم (¬4). ثالثا: من صفات الداعية: حسن الخلق: ظهر في هذا الحديث حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وتواضعه مع أصحابه، ومشاركته معهم في الرمي، وتشجيعهم على ذلك؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ارموا وأنا مع آل فلان» فلما رأى أن الفريق الثاني تأثروا رغبة منهم في اشتراك النبي صلى الله عليه وسلم معهم في الرمي قال صلى الله عليه وسلم: «ارموا وأنا معكم كلكم» والمعنى: معية القصد إلى الخير وإصلاح النية (¬5). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ذكره لفوائد هذا الحديث: " وفيه حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته بأمور الحرب " (¬6). فيحسن لكل مسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل الاتصاف بالخلق الحسن والله المستعان (¬7). ¬
رابعا: حسن أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم: في هذا الحديث الدلالة الواضحة على أدب الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا أمسكوا عن الرمي؛ لكون الرسول صلى الله عليه وسلم مع الفريق الآخر، خشية أن يغلبوهم، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم مع من وقعت عليه الغلبة، فأمسكوا عن ذلك تأدبا معه صلى الله عليه وسلم، وقد يكون إمساكهم؛ لعلمهم أن من كان معه الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن قلبه يقوى فينتصر؛ لأن ذلك من أعظم الوجوه المشعرة بالنصر (¬1) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه حسن أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم " (¬2). خامسا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: إن القدوة الحسنة وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مدح إسماعيل صلى الله عليه وسلم؛ لكونه راميا، وهذا فيه إشارة إلى الاقتداء به في المحافظة على الرمي، والاقتداء بالآباء في الخصال المحمودة والعمل بمثلها (¬3)؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه أن الجد الأعلى يسمى أبا، وفيه التنويه بذكر الماهر في صناعته ببيان فضله، وتطييب قلوب من هم دونه " (¬4). فينبغي للداعية أن يكون قدوة صالحة للمدعوين، ويرشد إلى أعمال الأنبياء والصالحين؛ ليقتدى بهم (¬5). ¬
حديث إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل
[حديث إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل] 75 - [2900] حَدَّثَنَا أَبو نعْيم: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن الغَسِيلِ (¬1) عَنْ حمْزَةَ بْنِ أَبِي أسَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ (¬2) قَالَ: «قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ صَفَفْنَا لقرَيْشٍ وَصَفّوا لَنَا: " إِذا أَكْثَبوكم فَعَلَيْكمْ بِالنَّبْلِ» (¬3). وفي رواية: «إِذَا أَكْثَبوكمْ فَارْموهمْ وَاسْتَبْقوا نَبْلَكمْ» (¬4). وفي رواية: «إِذَا أَكْثَبوكمْ: يَعْنِي: أكثَروكمْ. .» (¬5). * شرح غريب الحديث: * " أكثبوكم " أي إذا قربوا منكم، والكثب القرب (¬6) أما رواية يعني «أكثروكم» فقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " هو تفسير لا يعرفه أهل اللغة وكأنه من بعض رواته " أي الحديث. (¬7). * " النبل " السهام العربية لا واحد لها من لفظها، فلا يقال: نبلة، وإنما يقال: سهم ونشَّابة (¬8). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحث على الإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل. 2 - من صفات الداعية: وضع كل شيء في موضعه. والحديث عن هذين الدرسين والفائدتين الدعويتين على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل: ظهر في هذا الحديث التحريض على الرمي والإِعداد للجهاد بأي وسيلة من وسائله، سواء كان ذلك بالسهام كما في العصور السابقة العظيمة، أو بالرصاص والقذائف النارية، والقنابل اليدوية كما في هذا العصر؛ لأن الرمي أحد عناصر القوة التي أمرنا الله عز وجل بإعدادها، ويفسر في كل عصر بحسبه، وما وجد فيه من عناصر القوة بقدر الاستطاعة؛ ولهذا ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: " باب التحريض على الرمي " (¬1). فينبغي الإِعداد للجهاد وحث المسلمين عليه (¬2). ثانيا: من صفات الداعية: وضع كل شيء في موضعه: دل قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «إذا أكثبوكم فارموهم واستبقوا نبلكم» على أنه ينبغي للمجاهد والداعية أن يضع كل شيء في موضعه المناسب؛ لأن معنى الحديث: الأمر بترك الرمي حتى يقرب العدو؛ لأنهم إذا رموا على بعد قد لا تصل إليهم السهام ولا تصيبهم، فتضيع دون فائدة، وإلى هذا أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: «واستبقوا نبلكم» والمراد بالقرب المطلوب في الرمي: قرب نسبي بحيث تصل إليهم السهام وتصيبهم، وليس المراد بالقرب التلاحم الذي لا ينفع فيه ¬
إلا السيوف. وهذا كله يدل على استعمال السلاح المناسب في الوقت المناسب؛ من أجل المحافظة على القوة وعدم تضييعها في غير منفعة (¬1). فينبغي للداعية إلى الله سبحانه وتعالى أن يضع كل شيء في موضعه بإحكام وإتقان (¬2). ¬
باب اللهو بالحراب ونحوها
79 - باب اللَّهوِ بالحِرَابِ وَنَحوِهَا [حديث بينا الحبشة يلعبون عند النبي] 76 - [2901] حَدَّثَنَا إِبْراهِيم بْن موسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَام، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ المسيِّبِ، عَنْ أَبِي هرَيْرَةَ (¬1) رضي الله عنه، قَالَ: «بَيْنَا الحَبَشَة يَلْعَبونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، دَخَلَ عمَر فَأَهْوَى إِلَى الْحَصْبَاء فَحَصَبَهمْ بِهَا، فَقَالَ: " دَعْهمْ يَا عمَر». وَزَادَ عَليّ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاقِ: أَخبرنا معْمر «في المسجدِ» (¬2). * شرح غريب الحديث: * " الحصباء ": الحصى الصغار (¬3). * " فحصبهم ": رماهم بالحصباء (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: تدريب المجاهدين والإِعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل. 2 - من ميادين الدعوة: المسجد. 3 - من صفات الداعية: الرفق. 4 - من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والاستقامة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: تدريب المجاهدين والإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن الإِعداد للجهاد والتحريض عليه من الأمور المهمة؛ ولهذا لم ينكر صلى الله عليه وسلم على الحبشة حينما لعبوا في المسجد بالحراب؛ لأن ذلك من باب التدريب على الجهاد، والإِعداد له؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " واللعب ¬
بالحراب ليس لعبا مجردا، بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدوِّ " (¬1) وقال رحمه الله: " واستدل به على جواز اللعب بالسلاح على طريق التواثب للتدريب على الحرب والتنشيط عليه، واستنبط منه جواز المثاقفة؛ (¬2) لما فيها من تمرين الأيدي على آلات الحرب " (¬3). فينبغي إعداد العدَد، والعدد، والتدريب على أمور الجهاد، وأخذ الأهبة والحذر، والله الموفق (¬4). ثانيا: من ميادين الدعوة: المسجد: دل هذا الحديث على أن المسجد ميدان من ميادين الدعوة إلى الله عز وجل، ولهذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم الحبشة على التدرب على الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، وأنكر صلى الله عليه وسلم على عمر رضي الله عنه حصبهم بالحصباء؛ لأن اللعب بالحراب من أجل الجهاد عبادة لله عز وجل؛ وقد ذكر الإِمام السيوطي رحمه الله: " أن لعب الحبشة كان بالسلاح واللعب بالسلاح مندوب إليه للقوة على الجهاد، فصار ذلك من القرب، كإقراء علم، وتسبيح، وغير ذلك " (¬5) وهذا ظاهر واضح؛ لأن كل فعل مباح قصِدَ به وجه الله والدار الآخرة يكون طاعة لله عز وجل، (¬6) ورجَّح الإِمام عبد الله بن أبي جمرة أن لعب الحبشة في المسجد كان " للضرورة لضيق المدينة وضيق البيوت، ولعب الثقاف لا بد منه في وقتهم ذلك؛ لضرورة التدريب للقتال، فإذا كانت ضرورة مثل هذه جاز وإلا فلا " (¬7) وهذا هو الأولى، أن يكون التدريب على السلاح والرمي والكر والفر في ميادين خاصة، تعدَّ لتدريب المجاهدين إلا إذا اضطر الناس إلى تدريب المجاهدين في المسجد. والله الموفق للصواب. ¬
ولا شك أن المسجد ميدان عظيم من ميادين الدعوة إلى الله عز وجل، فينبغي للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أن يجعلوه ميدانا: للمحاضرات العلمية، والندوات، والخطب، والكلمات الوعظية، وإقامة الدروس، وتعليم الناس أمور دينهم، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل وصحابته من بعده، ومن سار على نهجهم واقتدى بهديهم (¬1). ثالثا: من صفات الداعية: الرفق: دل هذا الحديث على صفة الرفق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفق في نهيه لعمر رضي الله عنه حينما حصب الحبشة بالحصباء، فقال صلى الله عليه وسلم له: «دعهم يا عمر» وهذا يدل على رفق النبي صلى الله عليه وسلم ولينه الحكيم؛ قال الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] (¬2) فظهر من هذه الآية أن حقيقة الرفق: لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل والأيسر، وحسن الخلق، وكثرة الاحتمال، وعدم الإِسراع بالغضب والعنف (¬3) وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه» (¬4). وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» (¬5) وعنها رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يحرم الرفق يحرم الخير» (¬6) وعنها رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «إنه من أعطي ¬
حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحسن الخلق وحسن الجوار: يعمران الديار ويزيدان في الأعمار» (¬1). فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يكون رفيقا في دعوته وفي جميع أموره. رابعا: من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والاستقامة: دل الحديث على أن من أصناف المدعوين أهل الصلاح والاستقامة والتقوى؛ لأن المعصوم من عصمه الله عز وجل؛ ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعله مع الحبشة في المسجد فقال له: " دعهم يا عمر " ويحتمل أن عمر رضي الله عنه لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلم أنه رآهم، أو ظن أنه رآهم واستحيا أن يمنعهم (¬2) وهذا أولى؛ لقوله في الحديث " وهم يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال ابن حجر رحمه الله: " وهذا لا يمنع الاحتمال المذكور أولا، ويحتمل أن يكون إنكاره لهذا شبيه إنكاره على المغنيتين، وكان من شدته في الدين ينكر خلاف الأولى والجد في الجملة أولى من اللعب المباح " (¬3). ولا شك ولا ريب أن الداعية العظيم - غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - قد يحتاج إلى التوجيه ممن هو فوقه من الدعاة والعلماء، وقد ينكِر عليه أيضا من هو دونه في العلم فلا حرج في ذلك وينبغي للدعاة أن ينصح بعضهم بعضا، ويقبلوا النصيحة والتوجيه والحق ممن جاء به؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته (¬4) ويحوطه من ورائه» (¬5) والله عز وجل المستعان (¬6). ¬
باب المجن ومن يتترس بترس صاحبه
80 - باب المِجَنِّ ومَن يتَتَرَّس بترس صاحبه [حديث كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله] 77 - [2904] حَدَّثَنَا عَليّ بْن عبد الله: حَدَّثَنَا سفْيَان، عَنْ عَمرو، عَن الزهري، عَنْ مَالِكِ بْن أَوسِ بْنِ الحَدثَانِ (¬1) عَنْ عمَر (¬2) رضي الله عنه قَالَ: «كَانَتْ أَمْوال بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ الله عَلَى رَسولِهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَمْ يوجِفِ المسْلِمونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلاَ رِكَاب، فَكَانَتْ لِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّة، وَكَانَ ينْفِق عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثمَّ يَجْعَل ما بقِيَ فِي السِّلاحِ وَالْكرَاعِ عدَّة فِي سَبِيلِ اللهِ» (¬3). وفي رواية: حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن محَمّدٍ الفَرَوِيّ: حَدَّثَنَا مَالِك بْن أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مَالِك بْنِ أَوْسِ بْنِ الحَدَثانِ - وَكَانَ محَمَّد بْن جبَيْرٍ ذَكَرَ لِي ذِكْرا مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ، فَانْطَلَقْت حَتَّى أَدْخلَ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ فَسَأَلته عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ- فَقَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا جَالِس فِي أَهْلِي حِينَ مَتَعَ النَّهار، إِذَا رَسول عمَرَ بْنِ الخَطَّاب يَأْتِينِي فَقَالَ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمؤمِنِينَ، فَانْطَلَقْت مَعَه حَتَّى أَدخلَ عَلَى عمَرَ، فَإِذَا هوَ جَالِس عَلَى رمَالِ سَرِيرٍ لَيْسَ بَيْنَه وَبَيْنَه فِراش، متكئ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ. فَسَلَّمْت عَلَيْهِ ثمَّ جَلَسْت، فَقَالَ: يَا مَالِك، إِنَّه قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ قَوْمِكَ أَهْل أَبْيَاتٍ، وَقَدْ أَمَرْت فِيهِمْ بِرَضْخٍ، فَاقْبِضه، فَاقْسِمْه بَيْنَهمْ، فَقلْت: ¬
يَا أَمِيرَ الْمؤمِنِينَ، لَوْ أَمَرْتَ لَه غَيْري؟ قَالَ: فَاقْبِضْه أَيّهَا المَرْء، فَبَيْنَمَا أنا جَالِس عِنْدَه أتاه حَاجِبه يَرْفَأ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عثْمَانَ وَعبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ والزّبَيْرِ، وَسْعدِ بْنِ أَبِي وقَاصٍ يَسْتأْذنونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهمْ، فَدَخَلوا، فَسَلَّموا وَجَلَسوا. ثمَّ جَلَسَ يَرْفأ يَسِيرا، ثمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَليٍّ (¬1) وعبَّاس (¬2)؟ قَالَ: نَعم، فَأَذنَ لَهمَا، فَدَخَلا، فَسَلَّمَا فَجَلَسَا فَقَالَ عَباس: يَا أَمِيرَ الْمؤمِنِينَ، اقْضِ بَينِي وَبَيْن هَذَا - وَهمَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَالِ بَنِي النَّضِيرِ- فَقَالَ الرَّهْط - عثْمَان وَأَصْحَابه- يَا أَمِيرَ الْمؤمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهمَا وَأَرِحْ أَحَدَهمَا مِنَ الآخَرِ. فَقَال عمَر: تَيْدَكمْ؛ أنشدكمْ باللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقوم السَّمَاء وَالأَرْض، هَلْ تَعْلَمونَ أَن رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: " لَا نورَث، مَا تَرَكْنَا صَدَقة؟ " يريد رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَه؛ قَالَ الرَّهْط: قَدْ قَالَ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ عمَر عَلَى عَلِيٍّ وَعَبّاسٍ فَقَالَ: أَنشدكمَا اللهَ أَتَعْلَمَانِ أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ؛ قَال عمَر: فَإِنِّي أحدِّثكمْ عَنْ هَذَا الأَمْر: إِنَّ اللهَ قَدْ خَصَّ رَسولَه صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْفَيءِ بشَيْءٍ لَمْ يعْطهِ أَحَدا غَيْرَه. ثمَّ قَرَأَ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6] إلى قوله: {قَدِيرٌ} [الحشر: 6] فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَة لِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والله مَا احْتازَهَا دونَكمْ، وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكمْ، قَدْ أَعْطَاكموه وَبَثَّهَا فِيكمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَال، فَكَانَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ينفِق عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثمَّ يَأْخذ مَا تقِيَ فَيَجْعَله مَجْعَلَ مَالِ اللهِ. فَعَمِلَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ حَيَاتَه. أَنشدكمْ بِاللهِ، هَلْ تَعْلَمونَ ذَلِكَ؟ قَالوا: نَعَمْ. ثمَّ قَالَ لِعَليٍّ وَعَبَّاسٍ: أَنْشدكمَا اللهَ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ؛ قَالَ عمَر: ثمَّ تَوَفَّى الله نَبيَّه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبو بَكْرٍ: أَنَا وَليّ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَبَضَهَا أَبو بَكْرٍ فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، والله يَعْلم إِنَّه فِيهَا لَصَادِق بَارّ رَاشد تَابع لِلْحَقِ. ثمَّ تَوَفَّى الله أَبَا بَكْرٍ، فَكنْت أنا وَلِيَّ أَبِي بَكْرٍ، فَقَبَضْتهَا سَنَتَين مِن إِمَارَتي أَعْمَل فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا عَمِلَ فِيهَا أَبو بَكْرٍ، ¬
وَالله يَعْلَم إِنِّي فِيهَا لَصَادِق بَارّ رَاشد تَابع لِلْحَقِ. ثم جِئْتمَانِي تكَلِّمَانِي، وَكَلِمَتكمَا وَاحِدَة وَأمركمَا وَاحِد، جِئْتَنِي يَا عَبَّاس تَسْألنِي نَصِيبَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ، وَجَاءَنِي هَذَا- يرِيد عَليّا - يرِيد نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا. فَقلْت لَكمَا: إِنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: " لَا نورَث، مَا تَرَكْنَا صَدَقَة ". فَلَمَّا بَدَا لِي أَنْ أَدْفَعَه إِليْكمَا قلْت: إِنْ شِئتمَا دَفَعْتهَا إِليْكمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكمَا عَهْدَ اللهِ ومِيثَاقَه لتَعْمَلاَنِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبو بَكْرٍ، وبِمَا عَمِلت فِيهَا منْذ وَليْتهَا. فَقلْتمَا: ادْفعهَا إِلَيْنَا، فَبِذَلِكَ دَفَعْتهَا إِلَيْكمَا. فَأَنشدكمْ بِاللهِ هَلْ دَفَعْتها إِلَيْهمَا بِذَلِكَ؟ قَالَ الرَّهْط: نَعَمْ. ثمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبّاسٍ فَقَالَ: أَنشدكمَا بِاللهِ هَلْ دَفَعْتها إِلَيْكمَا بِذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ، قَالَ: فَتَلْتَمسَانِ مِنِّي قَضاء غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَوَاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقوم السَّمَاء وَالأَرْض، لَا أَقْضي فِيهَا قَضاء غَيْرَ ذَلِكَ؛ فإِنْ عَجَزْتمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ، فإِنِّي أَكْفِيكمَاهَا» (¬1). وفي رواية: «اتَّئِدوا أَنشدكمْ بِاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقوم السَّمَاء وَالأَرْض. .» (¬2). وفي رواية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يَبيع نَخْلَ بَنِي النَّضيرِ، ويَحْبس لأَهْلِهِ قوتَ سَنَتِهِمْ» (¬3). * شرح غريب الحديث: * " أفاء الله على رسوله " الفيء: هو ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد. وأصل الفيء: الرجوع من جهة إلى جهة، أو من مفارقة إلى موافقة (¬4). * " يوجف " الإِيجاف سرعة السير، يقال: أوجف دابته يوجفها إيجافا، ¬
إذا حثها، ويقال: أوجف في الشيء: اجتهد وأسرع (¬1). * " الكراع " اسم يجمع أنواع الخيل (¬2). * " متع النهار " أي طال وامتدَّ وتعالى (¬3). * " رمَالِ سرير " الرّمال: ما رمل: أي نسِجَ من حصير وغيره، يقال: رمل الحصير وأرمله فهو مرمول، ومرْمَل، كأنه أراد أنه لم يكن تحته فراش، ولا حائل دون الحصير (¬4). * " من أدَم " جمع أَدِيم: وهو الجلد (¬5). * " برضخ " الرضخ: العطية القليلة (¬6). * " يرفأ " يقال: رفوت الرجل ورفأته: إذا سكنته، ويقال: يرفؤه: يسكنه ويلين له القول، ويترضاه (¬7). * " تيدكم ": أي على رسلكم، وهو التّؤَدة، كأنه قال: الزمو تؤَدَتكم، وكذلك قوله: " اتئدوا " أمر بالتؤدة والتأني (¬8). * " أنشدكم بالله " أي أسألكم بالله (¬9). ¬
* " ما احتازها دونكم " أي ما امتلكها ولا ضمها إلى نفسه (¬1). * " بثها فيكم " أي أشاعها ونشرها (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: إعداد العدد للجهاد في سبيل الله عز وجل. 2 - الادخار لا ينافي التوكل على الله عز وجل. 3 - من صفات الداعية: الزهد. 4 - أهمية الحرص على طلب الحديث وتحصيله من مصادره الأصلية. 5 - من وسائل الدعوة: أن يتولى أمر كل قبيلة كبيرهم الصالح. 6 - أهمية الشفاعة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل. 7 - من أساليب الدعوة: الحوار. 8 - من أساليب الدعوة: استشهاد من حضر لتقوى الحجة. 9 - أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة. 10 - من صفات الداعية: عدم الحرص على الإِمارة والعلوِّ في الأرض والجاه. 11 - أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية. 12 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 13 - من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض مناقبه عند الحاجة انتصاراَ للحق. 14 - لا ينكر أن يغيب عن العالم أو الداعية بعض العلم. 15 - أهمية العمل بمقتضى الدليل الشرعي. 16 - من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: ¬
أولا: من موضوعات الدعوة: إعداد العدد للجهاد في سبيل الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن الإِعداد للجهاد والحث عليه من موضوعات الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا كان النبي ينفق على أهله نفقة سنته مما أفاءَ الله عليه مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله عز وجل (¬1). وهذا يبين للمسلمين اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم في إعداد العدَد والتأهب للجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى (¬2). ثانيا: الادخار لا ينافي التوكل على الله عز وجل: ظهر في هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان ينفق على أهله نفقة سنتهِ ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله» وفي الرواية الأخرى: «كان يبيع نخل بني النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم» وهذا يدل على أن الادخار لا ينافي التوكل على الله عز وجل؛ لأن سيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم ادخر كما في هذا الحديث؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه جواز الادخار خلافا لقول من أنكره من متشدِّدي المتزهدين، وأن ذلك لا ينافي التوكل " (¬3) ولا شك أن هذا من عمل الأسباب المشروعة التي لا تنافي التوكل (¬4). ثالثا: من صفات الداعية: الزهد: ظهر في هذا الحديث زهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يجعل ما بقي بعد نفقة أهله سنتهِ، في السلاح والكراع عدة في سبيل الله عز وجل، وظهر في الحديث أيضا زهد عمر بن الخطاب وهو أمير المؤمنين رضي الله عنه، فقد جاءه مالك بن أوس بن الحدثان وهو جالس على رمال سرير ليس بينه وبينه فراش وهو متكئ على وسادة من جلد. وهذا يبين للدعاة إلى الله عز وجل عظم زهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ¬
رضي الله عنهم؛ لأنهم قد علموا أن الدنيا وما فيها متاع زائل؛ ولهذا قال سهل بن سعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» (¬1). فينبغي للداعية أن يكون زاهدا في الدنيا كما زهد أهل العلم والإِيمان (¬2)؛ لأن الزهد في الحقيقة ليس من شرطه خروج المال عن اليد؛ وإنما خروج المال عن القلب، وأن لا يتعلق به، وأن يصرف فيما يرضي الرب سبحانه وتعالى (¬3). رابعا: أهمية الحرص على طلب الحديث وتحصيله من مصادره الأصلية: دل فعل ابن شهاب رحمه الله في عدم اعتماده على ما ذكر له محمد بن جبير عن مالك بن أوس، بل ذهب بنفسه حتى أخذ الحديث من مصدره الأصلي، فسمعه من مالك بن أوس عن عمر؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي صنيع ابن شهاب ذلك أصل في طلب علوِّ الإِسناد؛ لأنه لم يقتنع بالحديث عنه، حتى دخل عليه؛ ليشافهه به، وفيه حرص ابن شهاب على طلب الحديث وتحصيله " (¬4). فينبغي للداعية أن يحرص على أخذ العلم وخاصة علم الكتاب والسنة من المصادر الأصلية المعتمدة عند العلماء، حتى يكون علمه صحيحا موثقا. خامسا: من وسائل الدعوة: أن يتولى أمر كل قبيلة كبيرهم الصالح: ظهر في هذا الحديث أن من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل أنه ينبغي أن يولَّى أمر كل قبيلة سيدهم الصالح، وتفوض إليه مصالحهم؛ لأنه أعرف بهم، وأرفق بهم، وفي الغالب أنهم ينقادون له، ويقبلون دعوته، وتوجيهاته، ولهذا قال عمر رضي الله عنه في هذا الحديث لمالك بن أوس: " يا مالك إنه قد قدم ¬
علينا من قومك أهل أبيات، وقد أمرت فيهم برضخ فاقبضه، فاقسمه بينهم "، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي حديث عمر أنه يجب أن يتولى أمر كل قبيلة كبيرهم؛ لأنه أعرف باستحقاق كل رجل منهم " (¬1). فينبغي أن يولىّ على القبائل ساداتهم، الذين قد عرِفوا بالصلاح وسداد الرأي. سادسا: أهمية الشفاعة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل: دل هذا الحديث على أهمية الشفاعة الحسنة؛ لأن عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم قالوا لعمر رضي الله عنه: " يا أمير المؤمنين اقضِ بينهما وأرح أحدهما من الآخر "، فقضى عمر رضي الله عنه بين عباس وعلي رضي الله عنهما فحصل الصلح والخير، وهذا يبين أهمية الشفاعة الحسنة، وما يترتب عليها من المصالح (¬2). فينبغي للداعية أن يشفع في كل ما فيه خير للإِسلام والمسلمين، حتى يحصل علي الثواب العظيم، قال الله عز وجل: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85] (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: «اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء» (¬4). سابعا: من أساليب الدعوة: الحوار: ظهر أسلوب الحوار في هذا الحديث؛ لأن عمر رضي الله عنه استخدمه في الإِصلاح بين العباس وعلي رضي الله عنهما، فأقبل على جميع الحاضرين، فسألهم بالله هل يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة»؟ "، فقال الرهط: قد ¬
قال ذلك. ثم أقبل عمر على عباس وعليّ فقال لهما مثل ما قال للرهط فقالا: قد قال ذلك. ثم لم يزل يحاورهما حتى أصلح الله بينهما. وهذا يدل على أهمية الحوار في الدعوة إلى الله عز وجل (¬1). ثامنا: من أساليب الدعوة: استشهاد من حضر لتقوى الحجة: ظهر هذا الأسلوب في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعثمان وأصحابه رضي الله عنهم: «أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث ما تركنا صدقة»؟ " فقالوا: قد قال ذلك. وكان العباس وعليّ يسمعان هذا الاستشهاد، ثم أقبل عمر رضي الله عنه على الخصمين بعد أن أقام الحجة باستشهاد من حضر ". وهذا أسلوب نافع عند الحاجة إليه؛ قال الإِمام النووي رحمه الله: " وفيه استشهاد الإِمام على ما يقوله -بحضرة الخصمين- العدول؛ لتقوى حجته في إقامة الحق وقمع الخصم، والله أعلم " (¬2). تاسعا: أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة: دل هذا الحديث على أهمية الأدب مع العلماء والدعاة؛ ولهذا عندما دخل عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم على أمير المؤمنين رضي الله عنه، سلموا وجلسوا، ولم يتكلَّموا؛ لأنهم رأوا أن أمير المؤمنين رضي الله عنه غير مرتاح البال، وهذا من حسن الأدب مع العلماء والأئمة والدعاة؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ويؤخذ منه. . أن الأتباع إذا رأوا من الكبير انقباضا لم يفاتحوه حتى يفاتحهم بالكلام " (¬3). وقال الوزير العالم ابن هبيرة رحمه الله: " وفيه. . ما يدل على أنه لما دخل عثمان، وعبد الرحمن، والزبير، وسعد، فرأوا جِدَّ عمر لم يفاتحوه؛ وهكذا ينبغي لمن أراد أن يخاطب في أمر إذا رأى من مقدمات الحال ما يستدر به ¬
على أن ليس لخطابه وجه، أن يمسك " (¬1). عاشرا: من صفات الداعية: عدم الحرص على الإمارة والعلوِّ في الأرض والجاه: لا شك أن في هذا الحديث الدلالة على أن من صفات الداعية المخلص: عدم حب العلوِّ في الأرض والجاه، وقد ظهر ذلك لمالك بن أوس عندما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " يا مالك إنه قد قدم علينا من قومك أهل أبيات، وقد أمرت فيهم برضخ فاقبضه، فاقسمه بينهم، فقال مالك: يا أمير المؤمنين لو أمرت له غيري؛ فقال عمر رضي الله عنه: فاقبضه أيها المرء "، وهذا يدل على عدم رغبة مالك رضي الله عنه في العلوِّ والجاه، ويدل أيضا على حكمته ولطف كلامه مع إمام المسلمين؛ ولهذا قال: " يا أمير المؤمنين لو أمرت له غيري؟ " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه استعفاء المرء من الولاية، وسؤاله الإِمام ذلك بالرفق " (¬2). فينبغي للداعية أن لا يرغب في الجاه ولا ينازع الأمر أهله، ولا يحب العلوَّ في الأرض؛ قال الله عز وجل: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] (¬3). وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن طلب الإِمارة، فعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعِنْتَ عليها» (¬4)؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّا والله لا نولِّي هذا العمل أحدا سأله، ولا أحدا حرص عليه» (¬5) وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: «قلت يا رسول الله، ألا تستعملني؛ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: " يا أبا ذر إنك ضعيف، ¬
وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدّى الذي عليه فيها» (¬1) ولكن لو صلحت النية وكان قصد الإِنسان نفع الإِسلام والمسلمين وعنده القدرة على ذلك، فلا حرج أن يقتدي بيوسف عليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: إخبارا عن سؤاله ذلك: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] (¬2)؛ لأنه يريد الإِصلاح وهداية الناس وعنده القدرة على ذلك. الحادي عشر: أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية: دل الحديث على أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية على ما يقول الداعية؛ لما في ذلك من وقع في نفس المدعو؛ ولأنه أقرب لقبول ما يقول الداعية؛ ولهذا استدل عمر رضي الله عنه على ما يقول بحديث وآية من كتاب الله عز وجل، فقال: «أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث ما تركنا صدقة» ثم قرأ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: 6] (¬3) "، فبيَّن وجهة حكمه رضي الله عنه ودليله من الكتاب والسنة (¬4). الثاني عشر: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: إن القدوة الحسنة من أهم وسائل الدعوة؛ ولهذا أرشد عمر رضي الله عنه العباس وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما إلى الاقتداء بمن قبلهما، فذكر عمل النبي صلى الله عليه وسلم في الفيء في حياته ثم قال: " أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك؟ " ثم قال عمر رضي الله عنه: " ثم توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله، فقبضها أبو بكر فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يعلم إنه فيها لصادق، بارّ، راشد تابع للحق ". وهذا يدل على أهمية القدوة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل (¬5). ¬
الثالث عشر: من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض مناقبه عند الحاجة انتصارا للحق: ظهر من هذا الحديث أن ذكر الداعية بعض مناقبه، أو فضائله، أو ثنائه على عمله من أساليب الدعوة عند الحاجة لذلك وصلاح النية، إذا كان المدعو يستفيد من ذلك؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعباس وعلي بن أبي طالب: " ثم توفى الله أبا بكر فكنت أنا وليَّ أبي بكر، فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عمل فيها أبو بكر، والله يعلم إني فيها لصادق بارّ، راشد، تابع للحق "؛ قال العلامة العيني رحمه الله: " وفيه أنه لا بأس أن يمدح الرجل نفسه ويطريها إذا قال الحق " (¬1). وهذا إذا كان في ذلك نفع للمدعو وإلا فيحذر الإِنسان من الإِعجاب بالنفس فإن ذلك من المهلكات، والله المستعان. الرابع عشر: لا ينكر أن يغيب عن العالم أو الداعية بعض العلم: لا شك أن علم البشر محدود، وقد فضل الله بعضهم على بعض، فقد يغيب عن بعض العلماء بعض المسائل ويعرفها الآخرون، ولهذا حصل ما حصل من بعض الصحابة رضي الله عنهم في ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبا بكر وعمر وغيرهما كثير من الصحابة لم يغب عنهم ذلك وفقهوه حق الفقه والمعرفة؛ قال العلامة العيني رحمه الله: " وفيه أنه لا ينكر أن يخفى على الفقيه والعالم بعض الأمور مما علمه غيره " (¬2). فينبغي للدعاة أن لا يتهموا أحدا من العلماء أو الدعاة إذا غابت عنهم بعض المسائل، وعليهم أن يسلكوا مسلك الصحابة رضي الله عنهم. الخامس عشر: أهمية العمل بمقتضى الدليل الشرعي: دل عمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أنه إذا قام الدليل الشرعي لا يعدل إلى غيره بل يلزم العمل بمقتضاه؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه في مسألة تركة النبي صلى الله عليه وسلم: ¬
" فتلتمسان مني قضاء غير ذلك؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك "، والمعنى غير قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه أن الإِمام إذا قام عنده الدليل صار إليه وقضى بمقتضاه، ولم يحتج إلى أخذه من غيره " (¬1). السادس عشر: من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى: ظهر في هذا الحديث أن من أصناف المدعوين أهل الصلاح والاستقامة على طاعة الله عز وجل؛ لأن العصمة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ولهذا حصل ما حصل بين علي والعباس رضي الله عنهما عن حسن قصد ورغبة في القيام بأداء الأمانة، فحاورهما عمر وأصلح الله به ما بينهما (¬2) وهذا يدل على أن من أصناف المدعوين أهل الصلاح والاستقامة (¬3). ¬
حديث ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفدي رجلا بعد سعد
[حديث ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفدي رجلا بعد سعد] 78 - [2905] حَدَّثَنَا مسَدَّد: حَدَّثَنَا يَحْيى، عَنْ سفيانَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعْد بن إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عبد الله بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَليٍّ. حَدَّثَنَا قَبِيصَة: حَدَّثَنَا سفْيَان، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الله بْن شَدَّادٍ قَالَ: سَمِعْت عَلِيّا (¬1). رضي الله عنه يَقول: «مَا رَأَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يفَدِّي رَجلا بَعْدَ سَعْدٍ (¬2) سَمِعْته يَقول: " ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأمِّي» (¬3). وفي رواية: ". . «مَا سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جمَعَ أَبَوَيْهِ لأَحَدٍ إلَّا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنِّي سَمعْته يَقول يَوْمَ أحدٍ: " يَا سعد، ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأمِّي» (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: ¬
1 - من موضوعات الدعوة الحث على الرمي والترغيب فيه. 2 - من أساليب الدعوة: الدعاء لمن فعل خيرا. 3 - من صفات الداعية: الشجاعة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على الرمي والترغيب فيه: دل هذا الحديث على الحث على الرمي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به سعد بن مالك فقال: «ارم فداك أبي وأمي»؛ قال الإمام النووي رحمه الله: ". . فيه فضيلة الرمي والحث عليه " (¬1). فينبغي العناية بالرمي وتعليمه للمجاهدين بالتدرب عليه استعدادا للجهاد في سبيل الله عز وجل. (¬2). ثانيا: من أساليب الدعوة: الدعاء لمن فعل خيرا: ظهر في هذا الحديث أن الدعاء لمن فعل خيرا- أو نفعا عاما أو خاصا- من أساليب الدعوة إلى الله - عز وجل - ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لسعد: «ارم فداك أبي وأمي»، قال الإمام النووي رحمه الله: " وفيه فضيلة الرمي والحث عليه والدعاء لمن فعل خيرا " (¬3). وقال الخطابي رحمه الله: " التفدية من النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء، وأدعية النبي - صلى الله عليه وسلم - خليق أن تكون مستجابة. . " (¬4). وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول عن هذا الدعاء: " فيه تشجيع للشجعان " (¬5). أما قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " ما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك "، فهذا يحمل على نفي علم نفسه (¬6). وإلا فقد ثبت عن ¬
الزبير بن العوام - رضي الله عنه - أنه قال: «جمع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أبويه فقال: " فداك أبي وأمي» (¬1). قال النووي رحمه الله: " فيه جواز التفدية بالأبوين وبه قال جماهير العلماء، وكرهه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والحسن البصري رحمه الله، وكرهه بعضهم في التفدية بالمسلم من أبويه، والصحيح الجواز مطلقا؛ لأنه ليس فيه حقيقة فداء وإنما هو كلام وإلطاف وإعلام بمحبته له ومنزلته، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالتفدية مطلقا " (¬2). وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول في التفدية بالأبوين: " يجوز إذا كان الأبوان غير مسلمين، أما إذا كان الوالدان مسلمين فالتفدية بهما لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - تحتاج إلى نظر، والجمهور يرون أنه لا بأس به " (¬3). ثالثا: من صفات الداعية: الشجاعة: دل مفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم - لسعد رضي الله عنه: «ارم فداك أبي وأمي»، على شجاعة سعد رضي الله عنه؛ لأنه دافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد دفاعا عظيما، وحثه - صلى الله عليه وسلم - على الاجتهاد في الرمي (¬4). فينبغي أن يكون الداعية شجاعا: قلبيا وعقليا (¬5). ¬
باب حلية السيوف
83 - باب حلية السيوف [حديث لقد فتح الفتوح قوم ما كانت حلية سيوفهم الذهب ولا الفضة] 79 - [2909] حدثنا أحمد بن محمد: أخبرنا عبد الله: أخبرنا الأوزاعي قال: سمعت سليمان بن حبيب قال: سمعت أبا أمامة (¬1). يقول: " لقد فتح الفتوح قوم ما كانت حلية سيوفهم الذهب ولا الفضة، إنما كانت حليتهم العلابي والآنك والحديد ". * شرح غريب الحديث: * " العلابي " العصب، الواحد علباء، وكانت العرب تشد بالعلابي الرطبة أجفان سيوفها، فتجف عليها، وتشد بها الرماح إذا تصدعت فتيبس عليها وتقوى. والعلابي جمع علباء: وهو عصب في العنق يأخذ إلى الكاهل، وهما علباوان ويقال: علباآن، يمينا وشمالا، وما بينها منبت عرف الفرس (¬2). * " الآنك " قيل: هو الرصاص الأبيض، وقيل: الأسود، وقيل هو الخالص منه (¬3). وقال الحميدي رحمه الله: " الآنك أشد صلابة من الرصاص، وهو نوع منه، يزيد عليه بالصلابة وزيادة البياض، ويسمى في بعض البلاد: القصدير " (¬4). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: قوة الإيمان. 2 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 3 - من موضوعات الدعوة: الحث على الإعداد للجهاد بكل مباح يسبب إرهاب العدو. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: قوة الإيمان: دل هذا الحديث على قوة إيمان الصحابة - رضي الله عنه -م - ولهذا كانوا لا يعتنون بتجميل السيوف، وإنما كانوا يشدونها بالعصب؛ لعدم مبالاتهم بالعدو؛ ولثقتهم بالله - عز وجل - وإيمانهم أن الله - عز وجل - ينصر عباده المؤمنين، إذا اتقوا الله سبحانه وتعالى وأخذوا بالأسباب؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي هذا الحديث أن تحلية السيوف وغيرها من آلات الحرب بغير الفضة والذهب أولى. وأجاب من أباحها بأن تحلية السيوف بالذهب والفضة إنما شرع لإرهاب العدو، وكان لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك غنية؛ لشدتهم في أنفسهم وقوتهم في إيمانهم " (¬1). - رضي الله عنه -م وأرضاهم (¬2). ثانيا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: ظهر في هذا الحديث أن القدوة الحسنة من وسائل الدعوة؛ ولهذا أرشد أبو أمامة المجاهدين إلى الاقتداء بمن فتح الفتوح من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " لقد فتح الفتوح قوم ما كانت حلية سيوفهم الذهب ولا الفضة "، فأرشد - رضي الله عنه - إلى الاقتداء بهم في قوله هذا (¬3). ¬
ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحث على الإعداد للجهاد بكل مباح يسبب إرهاب العدو: كان بعض السلف الصالح يحلون سيوفهم بالفضة وغيرها مما يسبب إرهاب العدو وإذلاله؛ ولهذا كان سبب ورود الحديث ما جاء عن سليمان بن حبيب قال: دخلنا على أبي أمامة فرأى في سيوفنا شيئا من حلية فضة، فغضب وقال: " لقد فتح الفتوح قوم ما كان حلية سيوفهم من الذهب ولا من الفضة، ولكن الآنك والحديد " (¬1). وذكر العلامة العيني رحمه الله: أن الحلية المباحة من الذهب والفضة في السيوف إنما كانت؛ ليرهب بها على العدو، فاستغنى الصحابة بشدتهم وقوتهم في إيمانهم في الإيقاع بهم والنكاية لهم. (¬2). فينبغي إعداد العدد، والعدد، والحث على ذلك، واستخدام كل وسيلة مباحة ترهب أعداء الإسلام (¬3). ¬
باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة
84 - باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة [حديث إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم] 80 - [2910] حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: حدثني سنان بن أبي سنان الدؤلي وأبو سلمة بن عبد الرحمن: «أن جابر بن عبد الله (¬1) - رضي الله عنهما - أخبر أنه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل نجد، فلما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت سمرة وعلق بها سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال: " إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله (ثلاثا) ". ولم يعاقبه، وجلس» (¬2). وفي رواية: «كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجل من المشركين وسيف النبي معلق بالشجرة، فاخترطه فقال له: تخافني؟ فقال له: " لا ". قال: فمن يمنعك مني؟ قال: " الله " فتهدده أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، وكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربع وللقوم ركعتان»، وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر: " اسم الرجل غورث بن الحارث. وقاتل فيها محارب خصفة " (¬3). وفي رواية: «إن هذا اخترط سيفي فقال: من يمنعك؟ قلت: الله، فشام السيف، فها هو ذا جالس " ثم لم يعاقبه» (¬4). ¬
* شرح غريب الحديث: * " قفل " أي عاد من سفره، يقال قفل المسافر: إذا أخذ في الرجوع والانصراف (¬1). * " القائلة " نصف النهار. يقال: قال يقيل، وقائلة وقيلولة. فالقائلة الظهيرة، يقال: أتانا عند القائلة، وقد يكون بمعنى القيلولة: وهي النوم في الظهيرة. (¬2). * " العضاه " شجر من شجر الشوك، كالطلح والعوسج، وكل شجر عظيم له شوك، الواحدة: عضة بالتاء (¬3). * " سمرة " السمرة: نوع من شجر الطلح، والجمع: سمر بوزن رجل: وسمرات، وأسمر في جمع القلة (¬4). * " اخترط " يقال: اخترط السيف: استخرجه من غمده (¬5). * " صلتا " أي مسلولا من غمده ومهيئا للضرب به، يقال: أصلت السيف إذا جرده من غمده (¬6). * " فشام السيف " أدخله في غمده، هذا معناه هنا في قصة الأعرابي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو من الأضداد: يقال: شامه يشيمه: إذا أغمده، ويقال: شامه: إذا سله أيضا (¬7). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: ¬
1 - أهمية اجتماع المجاهدين والدعاة وعدم تفرقهم. 2 - من صفات الداعية: قوة اليقين. 3 - من صفات الداعية: العفو والصفح، ومقابلة السيئة بالحسنة. 4 - من صفات الداعية: الشجاعة. 5 - من وظائف المدعو الصالح: حراسة الإمام المسلم والعالم العامل بعلمه. 6 - أهمية تكرار لفظ الجلالة عند الاستغاثة والاستعانة. 7 - من أساليب الدعوة: الاستفهام الإنكاري. 8 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: ثبات القلب وعدم الخوف والجزع. 9 - من وسائل الدعوة: التطبيق العملي في التعليم. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: أهمية اجتماع المجاهدين والدعاة وعدم تفرقهم: لا شك أن هذا الحديث يدل على جواز الانتشار للمجاهدين والدعاة أثناء النوم في السفر، ولكن الأحاديث يفسر بعضها بعضا؛ وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن التفرق في السفر، فعن أبي ثعلبة الخشني قال: كان الناس إذا نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلا تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان»، فلم ينزل بعد ذلك منزلا إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال: لو بسط عليهم ثوب لعمَّهم " (¬1). قال الإمام القرطبي - رحمه الله - في فوائد حديث جابر وتفرق الصحابة - رضي الله عنهم - في الشجر: " وفيه جواز نوم المسافر إذا أمن على نفسه، وأما مع الخوف فالواجب التحرز والحذر " (¬2). فينبغي للمجاهدين والدعاة إلى الله - عز وجل - أن ينضم بعضهم إلى بعض أثناء النزول في السفر، ولا يضيق بعضهم على بعض بل الانضمام الذي يحصل به ¬
التكاتف والتعاون بدون ضرر على أحد منهم (¬1). وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز - حفظه الله - يقول في فوائد حديث جابر - رضي الله عنه -: " الحديث يدل على جواز التفرق عند الحاجة، وهناك نصوص تدل على الحذر عند الحاجة " (¬2). كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] (¬3). ثانيا: من صفات الداعية: قوة اليقين: من المعلوم يقينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم الخلق يقينا وثباتا، وتوكلا، ومراقبة لله - عز وجل - باستحضار عظمته وقدرته، ونصرته لأوليائه؛ ولهذا لما قال له الأعرابي: من يمنعك مني؟ فقال: " الله "، وهذا يدل على يقينه الصادق وعلمه الكامل بالله عز وجل. فينبغي لكل مسلم الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - وخاصة الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى (¬4). ثالثا: من صفات الداعية: العفو والصفح، ومقابلة السيئة بالحسنة: دل هذا الحديث على أن العفو والصفح من أبرز الصفات الحميدة وأكثرها وأعظمها أثرا في نفس المدعو؛ ولهذا لم يعاقب النبي - صلى الله عليه وسلم - الأعرابي: غورث بن الحارث على فعله القبيح، بل عفا عنه وصفح؛ لرغبته العظيمة في الاستئلاف؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " فمن عليه لشدة رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في استئلاف الكفار؛ ليدخلوا في الإسلام ولم يؤاخذه بما صنع بل عفا عنه " (¬5). ولا شك أن هذا العفو قد أثر في حياة هذا الرجل، فقد قيل: إنه أسلم ورجع ¬
إلى قومه، وقال: جئتكم من عند خير الناس، فاهتدى به خلق كثير (¬1). وهذا يؤكد أهمية العفو والصفح؛ قال الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] (¬2) وقال عز وجل: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13] (¬3). فينبغي للداعية أن يعفو ويصفح ويقابل السيئة بالحسنة، قال الله عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] (¬4). وقال سبحانه وتعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] (¬5). رابعا: من صفات الداعية: الشجاعة: دل هذا الحديث على شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوة قلبه، وثباته؛ ولهذا عندما سل الأعرابي السيف وقال: من يمنعك مني؛ لم يجزع ولم يسأله العفو؛ وإنما قال: " الله "، وهذا يوضح للدعاة، بل وللناس جميعا عظم شجاعته - صلى الله عليه وسلم - قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وكأن الأعرابي لمّا شاهد ذلك الثبات العظيم، وعرف أنه حيل بينه وبينه، تحقق صدقه، وعلم أنه لا يصل إليه، فألقى السلاح وأمكن من نفسه " (¬6). فينبغي لكل مسلم أن يقتدي به - صلى الله عليه وسلم - في قوة قلبه، وشجاعته وفي كل أحواله التي لم تكن من خصائصه دون أمته. (¬7). خامسا: من وظائف المدعو الصالح: حراسة الإمام المسلم والعالم العامل بعلمه: يظهر من مفهوم هذا الحديث أنه ينبغي للمدعو الصالح أن يحرس الإمام المسلم، والعالم العامل بعلمه الذي يعلم الناس الخير ويوجههم إلى مصالح دينهم ودنياهم؛ لما يحصل بذلك من المنافع، وحفظ أمن الناس؛ قال ¬
العلامة العيني - رحمه الله - في ذكره لفوائد هذا الحديث: " وفيه أن حراسة الإمام في القائلة وفي الليل من الواجب على الناس، وأن تضييعه من المنكر والخطأ " (¬1). فينبغي للمدعو الصالح العناية بهذا الأمر (¬2). سادسا: أهمية تكرار لفظ الجلالة عند الاستغاثة والاستعانة: دل هذا الحديث على أهمية تكرار الاستغاثة بالله - عز وجل - وتكرار لفظ الجلالة " الله " عند الالتجاء إلى الله - عز وجل - وقد قال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: من يمنعك مني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " الله، الله، الله "، قال العلامة الملا علي القاري رحمه الله: " وفيه إيماء إلى أنه يستحب تثليث لفظ الجلالة، حالة الاستغاثة والاستعانة " (¬3). فينبغي للداعية أن يكرر في الاستغاثة والاستعانة بالله " يا الله يا الله يا الله، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم. سابعا: من أساليب الدعوة: الاستفهام الإنكاري: دل هذا الحديث على أن أسلوب الاستفهام الإنكاري من أساليب الدعوة؛ ولهذا عندما أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - السيف من الأرض- عند سقوطه من يد الأعرابي- قال لغورث هذا: " من يمنعك مني؟ " قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عن هذا الاستفهام: " استفهام إنكاري، أي لا يمنعك مني أحد " (¬4). فينبغي العناية بهذا الأسلوب في الحال المناسبة لاستعماله (¬5). ثامنا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: ثبات القلب وعدم الخوف والجزع: دل هذا الحديث على أن النبي محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله ورسوله، وأن الله - عز وجل - نصره، وكفاه، وخذل أعداءه، وهذا من دلائل صدق نبوته؛ قال الإمام القرطبي - رحمه الله - عند كلامه على قوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي: " الله " ثلاثا: ¬
" وهذا من أعظم الخوارق للعادة؛ فإنه عدو متمكن، بيده سيف شاهر، وموت حاضر، ولا حال تغيرت، ولا روعة حصلت. هذا محال في العادات، فوقوعه من أبلغ الكرامات، ومع اقتران التحدي به يكون من أوضح المعجزات " (¬1). فينبغي للداعية أن يوضح للناس ويبلغهم معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فيها من دلائل صدق نبوته صلى الله عليه وسلم (¬2). تاسعا: من وسائل الدعوة: التطبيق العملي في التعليم: إن من الوسائل المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل: التطبيق العملي في تعليم الناس دينهم؛ لأن مشاهدة المدعو للتطبيق العملي أنفع له من الكلام المجرد عن التطبيق؛ ولهذا علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه صلاة الخوف في هذا الحديث عن طريق التطبيق العملي، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان له - صلى الله عليه وسلم - أربع، وللقوم ركعتان، وهذا نوع من أنواع صلاة الخوف التي علَّم فيها - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالتطبيق العملي (¬3). وهكذا كان - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه كثيرا من العلم والأحكام عن طريق التطبيق العملي؛ قال صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬4). وكان - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: «لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه» (¬5). وهذا إرشاد منه - صلى الله عليه وسلم - وأمر بالاستفادة من التطبيق العملي. فينبغي للداعية إلى الله - عز وجل - أن يعلم المدعوين - وخاصة العامة- عن طريق التطبيق العملي: كالوضوء، والصلاة، والحج، وغير ذلك مما يحتاج إليه العامة عن طريق التعليم العملي. ¬
باب ما قيل في درع النبي - صلى الله عليه وسلم والقميص في الحرب
89 - باب ما قيل في درع النبي - صلى الله عليه وسلم - والقميص في الحرب وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما خالد فقد احتبس أدراعه في سبيل الله». [حديث اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم] 81 - [2915] حدثنا محمد بن المثنى: حدثنا عبد الوهاب: حدثنا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس (¬1). - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبة: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك. اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم ". فأخذ أبو بكر (¬2). بيده فقال: حسبك يا رسول الله، فقد ألححت على ربك. وهو في الدرع، فخرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ - بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 45 - 46]» (¬3). وقال وهيب: حدثنا خالد " يوم بدر " (¬4). وفي رواية: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: " اللهم. . . " الحديث (¬5). * شرح غريب الحديث: * " قبة " القبة من الخيام بيت صغير مستدير، وهو من بيوت العرب، والمقصود بالقبة هنا: العريش الذي كان فيه - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر (¬6). * " أنشدك ": أسألك (¬7). * " حسبك ": كافيك (¬8). ¬
* " ألححت ": يقال: ألح على الشيء: إذا لزمه وأصر عليه (¬1). * " الدرع ": الزردية، وهي قميص من حلقات من الحديد متشابكة، يلبس وقاية من السلاح (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحث على الالتجاء إلى الله - عز وجل - والإلحاح في الدعاء. 2 - من صفات الداعية: الشجاعة. 3 - من صفات الداعية: قوة اليقين والثقة بالله تعالى. 4 - الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحث كل الالتجاء إلى الله - عز وجل - والإلحاح في الدعاء: إن الالتجاء إلى الله - عز وجل - والإلحاح في الدعاء من أهم الموضوعات التي ينبغي أن لا يغفلها الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، وقد ظهر ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك». . ". فقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على الدعاء والإلحاح فيه؛ حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: " حسبك يا رسول الله، فقد ألححت على ربك ". وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالدعاء ووعد بالإجابة فقال: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ - وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 55 - 56] (¬3) وقال عز وجل: ¬
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] (¬1). فينبغي للدعاة إلى الله أن يحثوا المدعوين على الدعاء والضراعة إلى الله عز وجل في الرخاء والشدة؛ لأن ذلك من أسباب السعادة والتوفيق (¬2). ثانيا: من صفات الداعية: الشجاعة: ظهر في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من قبة العريش إلى المعركة وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] وهذا يدل على شجاعته وقوة قلبه؛ ولهذا اشترك في المعركة، وكان أقرب المقاتلين المجاهدين إلى العدو, وكان الشجاع من أصحاب النبي يتقي به أثناء القتال، كما قال على بن أبي طالب، والبراء رضي الله عنهما (¬3). ثالثا: من صفات الداعية: قوة اليقين والثقة بالله تعالى: إن قوة اليقين والثقة بالله تعالى من أبرز الصفات التي يلزم الداعية إلى الله - عز وجل - الاتصاف بها، وقد ظهرت هذه الصفة الحميدة في هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك»، فإن الله - عز وجل - قد أخبر أنه ينصر رسله والذين آمنوا فقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ - إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ - وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173] (¬4) وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ - يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 51 - 52] (¬5) وقد وعد الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإحدى الطائفتين: إما عير قريش وما عليها من التجارة، وإما هزيمة قريش، فقال عز وجل: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 7] (¬6) ¬
وقد حصل للنبي اليقين بذلك كله؛ ولهذا خرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ومما يدل على اليقين أيضا ما قاله أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك "، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس يقينا وأقواهم ثقة بالله تعالى (¬1). ولا يشك في ذلك مسلم والحمد لله (¬2). رابعا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: دل هذا الحديث على أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد المتوكلين، وقد أخذ بالأسباب: من دخوله في قبة العريش، ودعائه العظيم الذي هو من أعظم أسباب النصر، ولبسه للدرع، وقتاله مع المجاهدين، وغير ذلك. ولا شك أن التوكل يقوم على ركنين: اعتماد القلب على الله - عز وجل - والأخذ بالأسباب المشروعة أو المباحة (¬3). ¬
باب الحرير في الحرب
91 - باب الحرير في الحرب [حديث رخص النبي لعبد الرحمن بن عوف في قميص من حرير] 82 - [2919] حدثنا أحمد بن المقدام: حدثنا خالد بن الحارث: حدثنا سعيد، عن قتادة: أن أنسا (¬1). حدثهم: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لعبد الرحمن بن عوف (¬2). والزبير (¬3). في قميص من حرير من حكة كانت بهما» (¬4). وفي رواية: «أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني القمل- فأرخص لهما في الحرير، فرأيته عليهما في غزاة» (¬5). ¬
* شرح غريب الحديث: حكة الحكة: الجرب. وقيل داء يكون بالجسد يحدث تحت الجلد. (¬1). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من خصائص الإسلام: يسر الدين وسماحة الشريعة. 2 - من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين. 3 - العمل بالأسباب لا ينافي التوكل على الله عز وجل. 4 - أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من خصائص الإسلام: يسر الدين وسماحة الشريعة: دل هذا الحديث على يسر الإسلام، وسماحة الشريعة، ورفع الحرج عن الناس؛ ولهذا رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام - رضي الله عنهما - في لبس الحرير؛ لحكة كانت بهما؛ لأن الحرير فيه برودة ولطافة للجسم (¬2). فينبغي للداعية أن يبين للناس يسر الدين وسماحة الشريعة الإسلامية، على حسب الأحوال والحاجة والمصلحة الشرعية. (¬3). ومما يدل على رفع الحرج أيضا: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في مقدار أربع أصابع من الحرير، فإذا كان في الثوب خياطة بالحرير في مواضع متفرقة، أو في موضع واحد، ولم تزد على أربع أصابع فقد رفع الله الحرج، فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير إلا موضع: إصبعين، أو ثلاث، ¬
أو أربع» (¬1). ثانيا: من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين: ظهر في هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى حال عبد الرحمن بن عوف والزبير - رضي الله عنهما - وحاجتهما إلى العلاج، فراعى أحوالهما وخصهما ومن كان مثل حالهما، فأجاز لهما لبس الحرير؛ للضرورة، وهذا يدل على معرفته - صلى الله عليه وسلم - بطب الأبدان كما كان عارفا بطب الأديان؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرخص لهذين الصحابيين إلا لمنفعة (¬2). وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول في ذكره لفوائد حديث الباب: " وهذا يدل على جواز لبس الحرير للعلاج، فالحرير محرم تحريما خاصا على الرجال، ويجوز لهم مقدار أربع أصابع فأقل، وهذا الحديث يدل على جوازه للعلاج للضرورة. أما المحرم تحريما عاما على الرجال والنساء، فلا يجوز العلاج به كالخمر " (¬3). فينبغي للداعية أن يراعي أحوال المدعوين وييسر عليهم على ضوء ما أباح الله لهم عند الحاجة والضرورة (¬4). ثالثا: العمل بالأسباب لا ينافي التوكل على الله عز وجل: إن العمل بالأسباب من التوكل على الله عز وجل؛ لأن التوكل يقوم على ركنين: العمل بالأسباب، واعتماد القلب على الله عز وجل؛ ولهذا رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام في العلاج بالحرير من الحكة، ¬
وهذا يدل على أن العمل بالأسباب لا ينافي التوكل؛ لأن سيد المتوكلين قد شرع الأخذ بالأسباب صلى الله عليه وسلم. فينبغي للدعاة إلى الله - عز وجل - العمل بالأسباب مع الاعتماد على الله سبحانه وتعالى (¬1). رابعا: أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه: ظهر في هذا الحديث أن سؤال المدعو عما أشكل عليه من الأمور المهمة؛ ولهذا عندما أصابت الحكة عبد الرحمن بن عوف والزبير - رضي الله عنهما - شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذن لهما بلبس الحرير من باب الضرورة والعلاج، وهذا يبيِّن أهمية السؤال عما أشكل ليجد المدعو الجواب والعلاج لما أصابه (¬2). * * * * ¬
باب قتال اليهود
94 - باب قتال اليهود [حديث تقاتلون اليهود حتى يختبئ أحدهم وراء الحجر فيقول يا عبد الله هذا يهودي ورائي فاقتله] 83 - [2925] حدثنا إسحاق بن محمد الفروي: حدثنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر (¬1). رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تقاتلون اليهود حتى يختبئ أحدهم وراء الحجر فيقول يا عبد الله، هذا يهودي ورائي فاقتله» (¬2). وفي رواية: «تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم، حتى يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله» (¬3). [حديث لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يقول الحجر وراءه اليهودي يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله] 84 - [2926] حدثنا إسحاق بن إبراهيم: أخبرنا جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة عن أبي هريرة (¬4). - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله». * شرح غريب الحديثين: فتسلطون عليهم: تمكنون منهم، يقال: تسلط: تمكن وتحكم (¬5). * الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من أساليب الدعوة: البشارة (¬6). ¬
2 - من خصائص الإسلام: البقاء إلى قيام الساعة. 3 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار بالأمور الغيبية. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من أساليب الدعوة: البشارة: إن البشارة بالخير من أساليب الدعوة التي تجذب قلوب المدعوين، وقد ظهر هذا الأسلوب في قوله صلى الله عليه وسلم: «تقاتلون اليهود حتى يختبئ أحدهم وراء الحجر فيقول: يا عبد الله، [وفي الرواية الأخرى: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله»، وهذا فيه بشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن الله - عز وجل - سوف ينصرهم على اليهود، ويسلطهم عليهم، فيتمكنون من قتلهم وإبادتهم، وأن الساعة لا تقوم حتى يكون ذلك القتال والنصر على أعداء الله عز وجل (¬1). فينبغي للداعية أن يستخدم أسلوب البشارة بالخير للمدعوين (¬2). ثانيا: من خصائص الإسلام: البقاء إلى قيام الساعة: دل هذا الحديث على أن الإسلام يبقى إلى قيام الساعة؛ لأن هؤلاء اليهود هم أتباع الدجال؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا. .» (¬3). وهؤلاء يتبعون الدجال آخر الزمان، وينزل عيسى - صلى الله عليه وسلم - ويقتل الدجال، فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شجر ولا حجر يتوارى به يهودي - إلا الغرقد؛ فإنه من شجرهم- إلا قال: يا عبد الله المسلم، هذا يهودي فتعال اقتله (¬4). وثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدد بقاء الإسلام بعد قتل عيسى ابن ¬
مريم - صلى الله عليه وسلم - للدجال فقال صلى الله عليه وسلم: «ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته. .» ثم يبين صلى الله عليه وسلم: أن بعد ذلك يبقى شرار الخلق فعليهم تقوم الساعة (¬1). وهذا كله يبين أن الإسلام يبقى إلى قبيل قيام الساعة، والحمد لله رب العالمين (¬2). ثالثا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار بالأمور الغيبية: دل هذا الحديث على أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسول الله حقا؛ لأنه أخبر بأمور غيبية كثيرة وقعت كما أخبر، وأمور غيبية أخرى لم تقع وستقع لا محالة كما أخبر - صلى الله عليه وسلم -، ومنها قتل اليهود، وتطهير الأرض منهم، وتخليص المسلمين من شرهم؛ قال العلامة العيني - رحمه الله - في فوائد هذا الحديث: " وفيه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بما سيقع عند نزول عيسى عليه السلام: من تكلم الجماد والإخبار والأمر بقتل اليهود، وإظهاره إياهم في مواضع اختفائهم " (¬3). وسيقع ذلك كما أخبر صلى الله عليه وسلم (¬4). * * * * ¬
باب قتال الترك
95 - باب قتال الترك [حديث إن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما ينتعلون نعال الشعر] 85 - [2927] حدثنا أبو النعمان: حدثنا جرير بن حازم قال: سمعت الحسن يقول: حدثنا عمرو بن تغلب (¬1). قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما ينتعلون نعال الشعر، وإن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما عراض الوجوه كأن وجوههم المجان المطرقة» (¬2). [حديث لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك] 86 - [2928] حدثنا سعيد بن محمد: حدثنا يعقوب: حدثنا أبي، عن صالح، عن الأعرج قال: قال أبو هريرة (¬3). - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك، صغار الأعين، حمر الوجوه، ذلف الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة. ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر» (¬4). وفي رواية: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا: خوزا وكرمان من الأعاجم، حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، كأن وجوههم المجان المطرقة، نعالهم الشعر» (¬5). ¬
وفي رواية: " صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين لم أكن في سني أحرص على أن أعي الحديث مني فيهن، سمعته يقول - وقال هكذا بيده-: «بين يدي الساعة تقاتلون قوما نعالهم الشعر، وهو هذا البارز» وقال سفيان مرة: «وهم أهل البارز» (¬1). * شرح غريب الحديثين: * " أشراط الساعة " الأشراط: العلامات، واحدها: شرط، وبه سميت شرط السلطان؛ لأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها (¬2). * " المجان المطرقة " جمع مجن، والمجن: الترس، والمطرقة: التي ألبست بالعقب شيئا فوق شيء، ويقال: طارق النعل: إذا صيرها طاقا فوق طاق، وركب بعضها فوق بعض (¬3). * " ذلف الأنوف " الذلف: قصر الأنف وانبطاحه، وقيل: ارتفاع طرفه مع صغر أرنبته (¬4). * " فطس الأنوف " والفطس: انخفاض قصبة الأنف وانفراشها، وقيل: انفراش الأنف، وطمأنينة وسطه (¬5). * " أهل البارز " قيل: المراد الأكراد الذين سكنوا في البارز: أي الصحراء، ويحتمل أن يراد به الجبل؛ لأنه بارز عن وجه الأرض، وقيل: هم: الديالمة (¬6). ¬
* الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار بالمغيبات. 2 - من أساليب الدعوة: التشبيه. 3 - أهمية قصر الأمل في الدنيا والمسارعة إلى ما ينجي من الفتن. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار بالمغيبات: دل هذان الحديثان على صدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر»، وقد وقع ذلك كما أخبر صلى الله عليه وسلم؛ قال العلامة العيني رحمه الله: " وهذا الخبر من جملة معجزاته - صلى الله عليه وسلم - عن أمر سيكون، وقد وقع بعض ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - سنة سبع عشرة وستمائة، وقد خرج جيش عظيم من الترك، فقتلوا أهل ما وراء النهر وما دونه من جميع بلاد خراسان، ولم ينج منهم إلا من اختفى في المغارات والكهوف. . . " (¬1). ويبين الإمام القرطبي - رحمه الله - أن قتال الترك قد امتد إلى زمنه فقال: " وهذا الخبر قد وقع على نحو ما أخبر صلى الله عليه وسلم، فقد قاتلهم المسلمون في عراق العجم مع سلطان خوارزم - رحمه الله - وكان الله قد نصره عليهم، ثم رجعت لهم الكرة فغلبوا على عراق العجم وغيره، وخرج منهم في هذا الوقت أمم لا يحصيهم إلا الله، حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقدمتهم، فنسأل الله تعالى أن يهلكهم ويبدد جمعهم. . . " (¬2). وهذا يبين صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن وقوع ذلك من معجزاته الباهرة (¬3). ¬
ثانيا: من أساليب الدعوة: التشبيه: ظهر في هذين الحديثين أسلوب التشبيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «كأن وجوههم المجان المطرقة»؛ قال الطيبي رحمه الله: " شبه وجوههم بالترس؛ لبسطها وتدويرها، وبالمطرقة؛ لغلظها وكثرة لحمها " (¬1). وهذا يبين للدعاة إلى الله - عز وجل - أهمية استخدام أسلوب التشبيه عند الحاجة إليه، والله المستعان (¬2). ثالثا: أهمية قصر الأمل في الدنيا والمسارعة إلى ما ينجي من الفتن: دل هذان الحديثان على أن خروج هؤلاء القوم- الذين يلبسون نعال الشعر، وعراض الوجوه كأن وجوههم المجان المطرقة- علامة على اقتراب الساعة ويوم القيامة، فينبغي لكل مسلم أن يقصر أمله في الدنيا، فلا تكون أكبر همه؛ فإن من مات قامت قيامته وساعته، كما ينبغي المبادرة إلى عمل جميع الأسباب التي تنجي من الفتن، والمسارعة إلى فعل الخيرات وترك المنكرات؛ لأن الفتن المضلة لا تقع إلا لضعف في الإيمان أو قلة في كماله (¬3). قال الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] (¬4) وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] (¬5). ¬
باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة
98 - باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة [حديث ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا شغلونا عن صلاة الوسطى حين غابت الشمس] 87 - [2931] حدثنا إبراهيم بن موسى: أخبرنا عيسى: حدثنا هشام، عن محمد، عن عبيدة، عن علي (¬1) - رضي الله عنه قال: لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، شغلونا عن صلاة الوسطى حين غابت الشمس» (¬2). وفي رواية: «ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس» (¬3). وفي رواية: «حبسونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس ملأ الله قبورهم وبيوتهم - أو أجوافهم- نارا» شك يحيى (¬4). وفي رواية: «. . وهي صلاة العصر» (¬5). * شرح غريب الحديث: * " حبسونا ": منعونا (¬6). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: ¬
1 - من موضوعات الدعوة: الحث على أداء الصلاة في وقتها. 2 - حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أداء الصلاة في وقتها. 3 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث. 4 - من أساليب الدعوة: الترهيب. 5 - من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الأحزاب. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على أداء الصلاة في وقتها: دل هذا الحديث على أهمية حث المصلين على المحافظة على الصلاة في وقتها؛ ولهذا دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - على المشركين؛ لكونهم السبب في إشغال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى فاتتهم صلاة العصر؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا شغلونا عن صلاة الوسطى». قال الله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] (¬1). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال «سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: " الصلاة في وقتها " قال: ثم أي؟ قال: " بر الوالدين " قال: ثم أي؟ قال: " الجهاد في سبيل الله» (¬2). فينبغي للدعاة أن يحضوا الناس على المبادرة إلى الصلاة في وقتها؛ لقوله عز وجل: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] (¬3). ثانيا: حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أداء الصلاة في وقتها: ظهر في هذا الحديث حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على المحافظة على الصلاة وأدائها في أول وقتها؛ ولهذا غضب على المشركين غضبا شديدا عندما شغلوه عن ¬
صلاة العصر، فدعا عليهم وقال: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس» وثبت عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن «عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جعل يوم الخندق يسب الكفار، وقال يا رسول الله، ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت أن تغرب الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فوالله إن صليتها " (¬1). فنزلنا إلى بطحان (¬2). فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوضأنا، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب» (¬3). فينبغي لكل مسلم وخاصة الداعية إلى الله سبحانه وتعالى أن يحرص على أداء الصلاة في وقتها. ثالثا: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: ظهر في هذا الحديث حرص السلف الصالح على الدقة في نقل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يحيى بن سعيد القطان في قوله صلى الله عليه وسلم: «ملأ الله قبورهم وبيوتهم- أو أجوافهم نارا-» فشك رحمه الله هل قال بيوتهم أو قال أجوافهم، وهذا يدل على تحريه للصدق والدقة (¬4). فينبغي للداعية أن يحرص على الدقة في نقل الحديث (¬5). رابعا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل مفهوم هذا الحديث على الترهيب عن تأخير الصلاة عن وقتها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا على من كان سببا في تأخيرها فقال: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس» قال الطيبي - رحمه الله - على قوله: " بيوتهم وقبورهم " " خصهما بالذكر؛ لأن أحدهما مسكن الأحياء، ¬
والآخر مضجع الأموات: أي جعل الله النار ملازمة لهم، بحيث لا تنفك عنهم لا في حياتهم ولا في مماتهم " (¬1). فدعا عليهم بعذاب الدارين من خراب بيوتهم في الدنيا بنهب أموالهم، وسبي ذراريهم، وهدم دورهم، ومن عقابهم في الآخرة باشتعال قبورهم نارا (¬2). وهذا الدعاء على من كان سببا في تأخير صلاة العصر حتى خرج وقتها، فكيف بعقاب من أخرها متعمدا مستهينا بها حتى يخرج وقتها؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر (¬3). أهله وماله» (¬4). وهذا الوعيد لمن فاتته صلاة العصر، أما من تركها متعمدا فقال في حقه صلى الله عليه وسلم: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» (¬5). فينبغي للداعية أن يخوف الناس من تأخير الصلاة عن وقتها ومن تركها (¬6). خامسا: من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الأحزاب: إن من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الأحزاب؛ لأهمية ذلك، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا شغلونا عن صلاة الوسطى»، وهذا يبين للداعية أهمية ذكر الحوادث التي تجذب قلوب المدعوين، ولا شك أن غزوة الأحزاب كانت في السنة الخامسة من الهجرة (¬7). ¬
حديث اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اللهم اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم
[حديث اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اللهم اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم] 88 - [2933] حدثنا أحمد بن محمد: أخبرنا عبد الله: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد أنه سمع عبد الله بن أبي أوفى (¬1) - رضي الله عنهما - يقول: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب على المشركين فقال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم» (¬2). وفي رواية: عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، وكان كاتبا له قال: كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنهما - فقرأته: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها انتظر حتى مالت الشمس». (¬3). وفي رواية: ثم قام في الناس فقال: «أيها الناس لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف»، ثم قال: «اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم، وانصرنا عليهم». (¬4). * شرح غريب الحديث: * " الجنة تحت ظلال السيوف " هو كناية عن الدنو من القتال في الجهاد، حتى يعلوه السيف ويصير ظله عليه، والظل: الفيء الحاصل من الحاجز بينك وبين الشمس (¬5). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من أسباب نصر الداعية: الدعاء. 2 - من وسائل الدعوة إلى الله: الكتابة. 3 - من وسائل الدعوة: مراعاة أوقات نشاط المدعو. 4 - من أساليب الدعوة: التشبيه. 5 - من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد. 6 - من موضوعات الدعوة: الحث على الدعاء. 7 - من صفات الداعية: الصبر. 8 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 9 - من وسائل الدعوة: اغتنام التذكير عند الحوادث الملمة. 10 - من وسائل الدعوة: الخطابة. 11 - من موضوعات الدعوة: الحث على سلوك الأدب. 12 - من صفات الداعية: التواضع (¬1). ¬
حديث إن الله يحب الرفق في الأمر كله
[حديث إن الله يحب الرفق في الأمر كله] 89 - [2935] حدثنا سليمان بن حرب: حدثنا حماد، عن أيوب عن ابن أبي مليكة، عن عائشة (¬1) - رضي الله عنها: «أن اليهود دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليك، فلعنتهم. فقال: " مالك؟ " قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: " فلم تسمعي ما قلت؟ وعليكم» (¬2). وفي رواية: «دخل رهط من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليكم. قالت عائشة - رضي الله عنها ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله " فقلت: يا رسول الله أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد قلت: وعليكم» (¬3). وفي رواية: «أن يهود أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: عليكم ولعنكم الله وغضب الله عليكم. قال: " مهلا يا عائشة عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش " قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: " أولم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في» (¬4). وفي رواية: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله» (¬5). * شرح غريب الحديث: * " السام ": الموت وهو الذي كانت اليهود تقصده في سلامهم. أما السأم ¬
فمعناه أنكم تسأمون دينكم. (¬1). * " الفحش ": المقصود بالفحش في هذا الحديث: التعدي في القول والجواب. وقد يكون الفحش بمعنى: الزيادة والكثرة، كما يقال في دم البراغيث: إن لم يكن فاحشا فلا بأس: أي إن لم يكن كثيرا. و " الفاحش " ذو الفحش في كلامه وفي فعاله. و " المتفحش " الذي يتكلف ذلك ويتعمده (¬2). و " الفحش والفاحشة والفواحش ": " كل ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي، وكثيرا ما ترد الفاحشة بمعنى الزنا، وكل خصلة قبيحة فهي فاحشة: من الأقوال والأفعال " (¬3). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحض على لين الجانب بالقول والفعل. 2 - من صفات الداعية: الرفق. 3 - من آداب الداعية: إفشاء السلام ورده على المسلمين، ورده عل أهل الكتاب، بقوله: (وعليكم). 4 - من أساليب الدعوة: البشارة. 5 - من صفات الداعية: الحلم. 6 - من صفات الداعية: التغافل عن سفه المبطلين إذا أمنت المفسدة. 7 - أهمية تدريب الداعية نفسه ولسانه على الأدب. 8 - من وسائل الدعوة: التأليف بالعفو مكان الانتقام. 9 - من أصناف المدعوين: أهل الإيمان الكامل. 10 - من أصناف المدعوين: اليهود مع خبثهم وسوء أدبهم. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: ¬
أولا: من موضوعات الدعوة: الحض على لين الجانب بالقول والفعل: ظهر في هذا الحديث الحض والحث على لين الجانب مع المدعوين بالقول والفعل؛ ولهذا عندما قال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: السام عليك لم يعاقبهم، ولم يزد على قوله صلى الله عليه وسلم: " وعليكم " بل أنكر على عائشة - رضي الله عنها قولها: «عليكم ولعنكم الله وغضب الله عليكم " فقال صلى الله عليه وسلم: " مهلا يا عائشة، عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش». فينبغي للداعية أن يحض المدعوين على لين الجانب واللطف؛ قال الله - عز وجل - لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى - فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44] (¬1) وقال سبحانه وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] (¬2). ثانيا: من صفات الداعية " الرفق: إن الرفق من الصفات المهمة التي ينبغي أن يتصف بها الداعية؛ ولهذا رفق النبي - صلى الله عليه وسلم - باليهود في هذا الحديث، ولم يقابل قولهم القبيح ومقصدهم الفاسد بالعنف ولا بالفحش، وإنما رفق بهم ورد عليهم ما قالوا من حيث لا يشعرون بحكمة ولطف فقال: " وعليكم ". فينبغي للداعية أن يكون رفيقا، لينا سهلا؛ لأن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله (¬3). ثالثا: من آداب الداعية: إفشاء السلام ورده علي المسلمين، ورده علي أهل الكتاب بقوله: " وعليكم ": إن إفشاء السلام ورده على كل مسلم من الآداب العظيمة، أما أهل الكتاب فلا يبْدَؤون بالسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» (¬4). ولكن إذا سلم أهل الكتاب فيرد عليهم ¬
السلام بالصيغة التي رد بها عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة - رضي الله عنها - وهي قوله: " وعليكم " أو " عليكم " وقد رجح النووي رحمه الله أن إثبات الواو وحذفها جائزان، وأكثر الروايات بإثباتها، وعلى هذا فيكون في معناه وجهان: أحدهما: أنه على ظاهره، فقالوا: عليكم الموت، فقال: " وعليكم " أيضا أي نحن وأنتم فيه سواء، وكلنا نموت. والوجه الثاني: أن الواو هنا للاستئناف لا للعطف والتشريك، وتقديره: " وعليكم " ما تستحقونه من الذم، وأما من حذف الواو فتقديره: بل عليكم السام، وإثبات الواو أجود كما في أكثر الروايات (¬1). وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بهذه الصيغة فقال: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» (¬2). فثبت ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله. فينبغي للمسلم أن يسلم على كل جمع فيهم مسلمون وكفار، أو مسلم وكافر، ويقصد بالسلام ورده المسلمين أو المسلم (¬3). أما السلام على المسلمين ورده على من سلم منهم، فهذا فيه أحاديث عظيمة تبين أهميته وآدابه، وتأكده، ومن ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حق المسلم على المسلم ست " قيل: وما هن يا رسول الله، قال: " إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه» (¬4). ومن آداب السلام ما ثبت في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، ¬
والقليل على الكثير» (¬1). وعنه - رضي الله عنه - أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير» (¬2). وللسلام آداب كثيرة جميلة، وفضائل عظيمة لا يتسع المقام لذكرها في هذا الموضع. فينبغي للداعية أن يعتني بها ويراجعها (¬3). رابعا: من أساليب الدعوة: البشارة: ظهر هذا الأسلوب في قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «أو لم تسمعي ما قلت؟ يستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في» وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «وإنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا» (¬4). وهذه بشارة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة ولجميع المسلمين أن الدعاء بالحق على الظالم يستجاب، ولا يستجاب دعاء الظالم على المظلوم؛ لأنه دعاء بالباطل والظلم؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ويستفاد منه أن الداعي إذا كان ظالما على من دعا عليه لا يستجاب دعاؤه " (¬5). خامسا: من صفات الداعية: الحلم: إن الحلم من الصفات الكريمة الجميلة التي ينبغي أن يتصف بها الداعية إلى الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا لم يغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما قال اليهود: " السام عليك " وإنما ضبط نفسه، وأعرض عنهم، ورد عليهم ما يناسبهم " وعليكم " وقد أمره الله - عز وجل - بالإعراض عن الجاهلين فقال سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] (¬6) ¬
فينبغي للداعية أن يضبط نفسه عند هيجان الغضب، وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة وصبر عظيم؛ لما في كظم الغيظ من كتمان ومقاومة (¬1). سادسا: من صفات الداعية: التغافل عن سفه المبطلين إذا أمنت المفسدة: دل هذا الحديث على أن من الصفات الحميدة أن يتغافل الداعية عن سفه المبطلين والمعارضين لدعوته، وإذا سمع كلاما قبيحا وفحشا من القول فكأنه لم يسمعه إعراضا عن الجاهلين؛ ولهذا أعرض - صلى الله عليه وسلم - عن اليهود عندما قالوا " السام عليك " ولم يزد على قوله صلى الله عليه وسلم: " وعليكم "؛ قال النووي رحمه الله: " وفي هذا الحديث استحباب تغافل أهل الفضل عن سفه المبطلين إذا لم تترتب عليه مفسدة " (¬2). فالكيس العاقل هو الفطن المتغافل عن الزلات، وسقطات اللسان إذا لم يترتب على ذلك مفاسد، والله المستعان (¬3). وقد مدح الله - عز وجل - المؤمنين الذين يدرؤون بالحسنة السيئة فقال سبحانه وتعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 54 - 55] (¬4). وقال - عز وجل - في صفات عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] (¬5). سابعا: أهمية تدريب الداعية نفسه ولسانه على الأدب: دل هذا الحديث على أهمية تدريب الداعية نفسه ولسانه على الآداب الحميدة، والألفاظ الكريمة؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها: «عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش» فقد حذر - صلى الله عليه وسلم - عن التعدي في القول والجواب؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " والذي يظهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن لا يتعود لسانها بالفحش، أو أنكر عليها الإفراط في السب " (¬6). ¬
فينبغي للداعية أن يضبط نفسه ولسانه عن كل ما لا يحسن ولا يجمل والله المستعان. ثامنا: من وسائل الدعوة: التأليف بالعفو مكان الانتقام: التأليف بالعفو مكان الانتقام من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل، وقد ظهر ذلك في عفو النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اليهود الذين قالوا: " السام عليك " ومع ذلك عفا عنهم - صلى الله عليه وسلم - استئلافا، وإلا فالصواب أن من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكفار ينتقض عهده، فيهدر دمه ويقتل إلا أن يسلم، فإن أسلم فالحمد لله؛ الإسلام يهدم ما كان قبله. أما من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين فإنه يقتل، والصواب أنه لا يستتاب، بل يقتله ولي أمر المسلمين؛ لأن شره عظيم وخطير- ولا شك أن من تاب تاب الله عليه- فإن كان صادقا في توبته قبلت عند الله عز وجل، ولكن لا يكون معصوم الدم في الدنيا، بل يقتل، والله المستعان وعليه التكلان (¬1). والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل اليهود الذين قالوا: " السام عليك " استئلافا لهم وترغيبا لهم في الإسلام، والله أعلم. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " والذي يظهر أن ترك قتل اليهود إنما كان لمصلحة التأليف، أو لكونهم لم يعلنوا به، أو لهما جميعا وهو أولى والله أعلم " (¬2). وهذا يبين حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إيصال الإسلام لكافة الناس، ولهذا أراد أن يتألفهم، مع فطنته ورده عليهم قولهم من حيث لا يشعرون (¬3). فينبغي للداعي أن يتألف بالعفو مكان الانتقام اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم (¬4). تاسعا: من أصناف المدعوين: أهل الإيمان الكامل: دل هذا الحديث على أن من أصناف المدعوين أهل الإيمان الكامل؛ ولهذا أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة - رضي الله عنها - ونصحها بالرفق واللطف عندما شددت بالقول القوي على اليهود ولعنتهم فقال صلى الله عليه وسلم: «مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله». ¬
فينبغي للداعية أن يعلم أن من أصناف المدعوين أهل الصلاح والاستقامة، وقد يكون هو منهم في بعض الأحيان (¬1). عاشرا: من أصناف المدعوين: اليهود مع خبثهم وسوء أدبهم: دل استئلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهود في هذا الحديث على أنهم من أصناف المدعوين؛ ولهذا لم يعاقبهم على قولهم القبيح: " السام عليك " رغبة منه - صلى الله عليه وسلم - في إسلامهم كما بين ذلك ابن حجر رحمه الله. (¬2). واليهود لهم أعمال خبيثة قبيحة، منها قولهم: " السام عليك "؛ فإنهم قد أوهموا أنهم يقولون: " السلام عليك " ولكنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وقصدوا الموت قبحهم الله، ومن خبثهم قولهم: " راعنا " وقد ذكر كثير من أهل العلم أنها كلمة تقولها اليهود على وجه الاستهزاء والمسبة. (¬3). قال الله عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 46] (¬4)؛ ولهذا نهى الله المؤمنين أن يخاطبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104] (¬5). ولا شك أن اليهود قلوبهم قاسية ويحرفون الكلم عن مواضعه، ولكن لإقامة الحجة عليهم ينبغي للداعية أن يسلك معهم في دعوتهم إلى الله - عز وجل -خمسة مسالك: 1 - يبين لهم بالأدلة العقلية والنقلية أن الإسلام قد نسخ جميع الشرائع السابقة. ¬
2 - يذكر لهم الأدلة القطعية على وقوع التحريف والتبديل في التوراة. 3 - إثبات اعترافات المنصفين من علماء اليهود. 4 - الأدلة على إثبات رسالة عيسى صلى الله عليه وسلم. 5 - الأدلة العقلية والنقلية والحسية على إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم (¬1). ¬
باب هل يرشد المسلم أهل الكتاب أو يعلمهم الكتاب
99 - باب هل يرشد المسلم أهل الكتاب أو يعلمهم الكتاب؟ [حديث كتاب النبي إلى قيصر فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين] 90 - [2936] حدثنا إسحاق: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم: حدثنا ابن أخي ابن شهاب، عن عمه قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أن عبد الله بن عباس (¬1). - رضي الله عنهما - أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى قيصر وقال: «فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين» (¬2). وفي رواية: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وبعث بكتابه إليه مع دحية الكلبي (¬3) وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدفعه إلى عظيم بصرى؛ ليدفعه إلى قيصر وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لما أبلاه الله، فلما جاء قيصر كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين قرأه: التمسوا لي هاهنا أحدا من قومه، لأسألهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " (¬4). * شرح غريب الحديث: * " قيصر " هو هرقل، ولقبه قيصر، وكل من ملك الروم يقال له قيصر (¬5). * " توليت " أعرضت وامتنعت عن الدخول في الإسلام (¬6). ¬
* " عظيم بصرى " أي أمير بصرى (¬1). * " بصرى " هي مدينة حوران، ذات قلعة وأعمال، قريبة من طرف البرية التي بين الشام والحجاز. (¬2). * " إيلياء " بيت المقدس، وقيل معناه: بيت الله، وحكي أنه يقال بالقصر أيضا " إيليى " ولغة ثالثة بحذف الياء الأولى " إلياء " وهو المسجد الأقصى أيضا (¬3). * " أبلاه الله " أي: أنعم عليه (¬4). * " الأريسيين " هم الأكّارون والزارعون، والفلاحون. الواحد: أريس وهي لغة شامية، وقيل: هم الخدم، وقيل غير ذلك. والمعنى أن على قيصر مثل إثم هؤلاء؛ لأنه صدهم عن الإسلام (¬5). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الدعوة إلى كلمة التوحيد. 2 - من وسائل الدعوة: الكتب والرسائل وإرسال الرسل والدعاة. 3 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 4 - من أصناف المدعوين: النصارى. 5 - من أساليب الدعوة: الترهيب. 6 - حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على هداية جميع الناس إلى الإسلام. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: ¬
أولا: من موضوعات الدعوة: الدعوة إلى كلمة التوحيد: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة: الدعوة إلى كلمة التوحيد، وهي " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا كتب - صلى الله عليه وسلم - إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام أي إلى الشهادتين كما ثبت فيما تضمنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا ففي الرواية الأخرى: أن قيصر " هرقل " دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل " قيصر " فقرأه، وفي رواية: " فقرئ " فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام (¬1). أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] (¬2) فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده» (¬3). وهذا مضمون الكتاب قد اتضح فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا هرقل وأتباعه إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله. وهذا يبين للدعاة إلى الله - عز وجل - أهمية العناية بالشهادتين، ودعوة الكفار إليهما قبل كل شيء، وبيان معناهما، ومقتضاهما، وشروطهما وأركانهما، ونواقضهما، وخاصة بعد دخول الكفار في الإسلام (¬4). ثانيا: من وسائل الدعوة: الكتب والرسائل وإرسال الرسل والدعاة: دل هذا الحديث على أن من وسائل الدعوة كتابة الرسائل والكتب، وإرسالها ¬
إلى المدعوين مع السفراء والرسل؛ ولهذا كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قيصر- كما في هذا الحديث- يدعوه إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك والجبابرة يدعوهم إلى الإسلام، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: " أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى (¬1). وإلى قيصر (¬2). وإلى النجاشي (¬3). وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ". (¬4). وأرسل - صلى الله عليه وسلم - الرسل يحملون الرسائل والكتب إلى ملوك الأرض، وأرسل الدعاة إلى الله يبلغون الناس الإسلام، ويدعونهم قبل كل شيء إلى الشهادتين، ثم يدعونهم بالتدرج إلى شرائع الإسلام، ومن ذلك «أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذ بن جبل إلى اليمن وقال له: " إنك تأتي قوما أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله [وفي رواية: " فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل]، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» (¬5). وهذا يبين أهمية إرسال الكتب وبعث الرسل والدعاة لدعوة الناس إلى الإسلام، وتبليغهم كل ما أمر الله به عباده عن طريق التدرج (¬6). ثالثا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: دل مفهوم هذا الحديث على أهمية القدوة الحسنة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في كتابه ¬
لهرقل: «فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين» وهذا فيه دلالة واضحة على أن الله - عز وجل - لو شاء هداية قيصر لأسلم من معه جميعا: من الفلاحين والزارعين وغيرهم (¬1). وهذا يبين بمفهومه أهمية القدوة الحسنة وأثرها في نفوس المدعوين (¬2). رابعا: من أصناف المدعوين: النصارى: ظهر في هذا الحديث أن من أصناف المدعوين النصارى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب الرسائل والكتب إليهم، وأرسل الرسل والدعاة يدعونهم إلى الله عز وجل، كما في هذا الحديث في كتابه لقيصر مع دحية الكلبي رضي الله عنه. ولا شك أن دعوة النصارى إلى الله تحتاج إلى أساليب ووسائل متخصصة؛ لمراعاة أحوالهم ومعتقداتهم، فينبغي أن يسلك معهم الداعية إلى الله - عز وجل - مسالك سبعة كالآتي: 1 - إبطال عقيدة التثليث بالأدلة العقلية والنقلية، وإثبات الوحدانية لله عز وجل. 2 - البراهين بالأدلة العقلية والنقلية على إثبات بشرية عيسى - صلى الله عليه وسلم - وعبوديته لله عز وجل. 3 - الأدلة العقلية والنقلية على إبطال قضية الصلب والقتل لعيسى صلى الله عليه وسلم. 4 - البراهين بالأدلة العقلية والنقلية على أن الإسلام قد نسخ جميع الشرائع السابقة. 5 - البراهين بالأدلة الحسية والنقلية على إثبات وقوع التحريف في الإنجيل. 6 - إثبات اعترافات المنصفين من علماء النصارى. 7 - البراهين الحسية والعقلية والنقلية على إثبات الرسالة المحمدية وعمومها لكافة الناس. وإذا سلك الداعية إلى الله - عز وجل - مع النصارى هذه المسالك وفق للحكمة في دعوة النصارى إن شاء الله تعالى (¬3). ¬
خامسا: من أساليب الدعوة: الترهيب: إن الترهيب أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في كتابه إلى قيصر: «فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين». فبين له - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا امتنع من الدخول في الإسلام فإن عليه إثم أتباعه من الفلاحين وغيرهم (¬1). لأنه السبب في عدم دخولهم في دين الله عز وجل (¬2). سادسا: حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على هداية جميع الناس إلى الإسلام: دل هذا الحديث على حرص محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - على هداية الناس جميعا إلى الإسلام، وإخراجهم من الظلمات إلى النور؛ ولهذا كتب لقيصر كما في هذا الحديث، وكتب إلى سائر ملوك الدنيا وجبابرتها، يدعوهم إلى كلمة التوحيد (¬3). وقد مدحه الله - عز وجل - وأثنى عليه، وأكرمه بقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (¬4). وهو شديد الحرص على المؤمنين أعظم من غيرهم قال الله عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] (¬5). فينبغي للداعية إلى الله - عز وجل - أن يحرص على هداية الناس اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. ¬
باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم
100 - باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم [حديث اللهم اهد دوسا وائت بهم] 91 - [2937] حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب: أخبرنا أبو الزناد: أن عبد الرحمن قال: قال أبو هريرة (¬1). رضي الله عنه: قدم طفيل بن عمرو الدوسي (¬2). وأصحابه على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله إن دوسا عصت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس: قال: «اللهم اهد دوسا وائت بهم» (¬3). وفي رواية: " جاء الطفيل بن عمرو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن دوسا قد هلكت: عصت وأبت فادع الله عليهم " (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: ¬
1 - من صفات الداعية: الحلم. 2 - من صفات الداعية: التأني والتثبت. 3 - من صفات الداعية: رحمة المدعو والشفقة عليه. 4 - من صفات الداعية: الحرص على هداية الناس. 5 - من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين. 6 - من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء. 7 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 8 - من أصناف المدعوين: المشركون. 9 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: إجابة دعواته. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الحلم: ظهر في هذا الحديث حلم النبي - صلى الله عليه وسلم - العظيم؛ لأن الطفيل - رضي الله عنه - حينما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليهم، فدعا لهم - صلى الله عليه وسلم - بالهداية، وحلم عليهم فلم يغضب، فالطفيل - رضي الله عنه - ومن معه يطلبون من النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء عليهم بالهلاك ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو لهم بالهداية، وهذا يدل على حلمه العظيم، قال الكرماني رحمه الله: " ودعا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهداية في مقابلة العصيان، والإتيان بهم في مقابلة الإباء " (¬1). فينبغي للداعية أن يتصف بالحلم ولا يغضب ولا يجزع إذا لم تقبل دعوته، والله المستعان (¬2). ثانيا: من صفات الداعية: التأني والتثبت: دل هذا الحديث على تثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدم عجلته؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - عندما قال له ¬
الطفيل - رضي الله عنه -: يا رسول الله، إن دوسا عصت وأبت فادع الله عليهم تأنى - صلى الله عليه وسلم - فلم يعجل بالعقوبة بالدعاء، وإنما دعا لهم فقال: «اللهم اهد دوسا وائت بهم» قال العلامة العيني رحمه الله " كان يحب دخول الناس في الإسلام، فكان لا يعجل بالدعاء عليهم ما دام يطمع في إجابتهم إلى الإسلام " (¬1). وهذا يدل على كمال أناته وتثبته صلى الله عليه وسلم. فينبغي للداعية أن يتصف بالتثبت والأناة؛ لأن الله - عز وجل - أمر بالأناة والتثبت فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] (¬2). ولا شك أن الأناة: هي التبين والتثبت في الأمور، والتبصر والتأمل، ويقال: تبصر الشيء، وتأمل في رأيه: تبين ما يأتيه من خير أو شر (¬3). فالأناة: التأني والتثبت وترك العجلة، حتى يستبين الصواب (¬4). يقال: تثبت في الأمر والرأي واستثبت: تأنى فيه ولم يعجل، واستثبت في أمره، إذا شاور وفحص عنه (¬5). والأناة في الحقيقة: التصرف الحكيم بين العجلة، والتباطؤ، وهي من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة؛ فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش، وهي تدل على أن صاحبها لا يملك الإرادة القوية القادرة على ضبط نفسه تجاه انفعالاته العجولة، وبخلاف التباطؤ والتواني فهما من صفات أصحاب الكسل والتهاون في الأمور، ويدلان على أن صاحبهما لا يملك الإرادة القوية على دفع همته للقيام بالأعمال التي تحقق له ما يرجوه، أو ليس له همة عالية تنشد الكمال، فهو يرضى بالدنيات إيثارا للراحة، وكسلا عن القيام بالواجب. فينبغي للداعية أن يكون متثبتا متأنيا، ولا يكون عجولا ولا كسولا؛ فإن الأناة تعينه على وضع الأمور في مواضعها، بخلاف العجلة؛ فإنها تعرضه لكثير ¬
من الأخطاء والإخفاق، والتعثر، والارتباك، ثم تعرضه للتخلف من حيث يريد السبق، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. وبخلاف التباطؤ والكسل، فهو أيضا يعرضه للتخلف والحرمان من تحقق النتائج التي يرجوها. ولا شك أنه ينبغي للداعية أن يكون متأنيا في جميع أموره، ولا يكون مستعجلا في جميع أموره، ولا يكون متباطئا كسولا، ولا يزال الرجل يجني من ثمرة العجلة الندامة (¬1). والعجلة لها أسباب ينبغي أن يجتنبها الداعية، من أعظمها الشيطان عدو الإنسان، فعن أنس - رضي الله عنه - يرفعه: «التأني من الله والعجلة من الشيطان» (¬2). لأنه الحامل عليها بوسوسته، فيمنع من التثبت والنظر في سنن الله في الكون، ويمنع النظر في العواقب، فيقع المستعجل في المعاطب والفشل (¬3). ولكن ينبغي أن يعلم الداعية أن العجلة المذمومة ما كان في غير طاعة الله - عز وجل - مع عدم التثبت، أما المسارعة إلى الخير فهي محمودة، وقد قيل لبعض السلف: لا تعجل فالعجلة من الشيطان، فقال: لو كان ذلك كذلك لما قال موسى (¬4) {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] (¬5). فعلم بأنه يستثنى من العجلة ما لا شبهة في خيريته، بشرط مراعاة الضوابط والشروط التي أمر الله بها حتى تكون المسارعة مما يحبه الله ويرضاه؛ ولهذا مدح الله المسارعين في الخيرات فقال عز وجل: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] (¬6). وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال الأعمش ولا أعلمه إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «التؤدة (¬7). في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة» (¬8). وعن عبد الله بن سرجس ¬
المزني رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «السمت الحسن (¬1). والتؤدة، والاقتصاد (¬2). جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة» (¬3). ومعلوم أن الأناة محبوبة عند الله عز وجل، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - للأشج: «فإن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة» (¬4). ثالثا: من صفات الداعية: رحمة المدعو والشفقة عليه: دل هذا الحديث على رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفقته على المدعوين؛ ولهذا لم يدع على قبيلة دوس عندما طلب منه الدعاء عليهم، ولكن دعا لهم فقال: «اللهم اهد دوسا وائت بهم»؛ قال الكرماني رحمه الله: " فإن قلت هم طلبوا الدعاء عليهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا لهم، قلت: هذا من كمال خلقه العظيم ورحمته بالعالمين " (¬5). وقد قال الله - عز وجل - في حقه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (¬6). وهذا من كمال رحمته، ورأفته بأمته - صلى الله عليه وسلم - (¬7). رابعا: من صفات الداعية: الحرص على هداية الناس: ظهر في هذا الحديث حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على هداية الناس، ولهذا دعا لدوس ولم يدع عليهم حينما طلب منه ذلك؛ لحرصه على هدايتهم ودخولهم في الإسلام؛ قال العلامة العيني رحمه الله: " وفيه حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على من يسلم على يديه " (¬8). ¬
فينبغي للداعية أن يحرص على هداية المدعوين إلى دين الله عز وجل (¬1). خامسا: من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين: إن مراعاة أحوال المدعوين من صفات الداعية المسلم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدع على دوس؛ لرغبته في دخولهم الإسلام، ودعا على بعض المشركين من غيرهم فدل ذلك على مراعاته - صلى الله عليه وسلم - لأحوال المدعوين، ولهذا ترجم البخاري رحمه الله بتراجم تدل على مراعاة أحوال المدعوين فقال: " باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة " (¬2). وقال في موضع آخر: " باب الدعاء على المشركين " (¬3). وقال في موضع ثالث: " باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم " (¬4). قال ابن حجر رحمه الله: " كان تارة يدعو عليهم وتارة يدعو لهم، فالحالة الأولى حيث تشتد شوكتهم ويكثر أذاهم، والحالة الثانية حيث تؤمن غائلتهم ويرجى تألفهم " (¬5). وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " الدعاء على الكفار على حسب الأحوال، فكل مقام له مقال، فيراعى ما هو الأنسب: تارة يدعى عليهم بالهلاك والدمار، وتارة يدعى لهم بالهداية، وتارة يعلمون " (¬6). فينبغي للداعية أن يراعي أحوال المدعوين على ما يكون فيه الصلاح (¬7). سادسا: من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء: من أساليب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى التأليف بالدعاء الطيب الذي يجذب قلوب المدعوين، ومن أعظم ذلك الدعاء بالهداية، ولهذا استنبط ¬
الإمام البخاري رحمه الله من هذا الحديث أن الدعاء من أنواع التأليف، فقال: " باب الدعاء للمشركين بالهدى؛ ليتألفهم " (¬1) قال ابن حجر رحمه الله: " وقوله ليتألفهم من تفقه المصنف رحمه الله إشارة إلى التفريق بين المقامين " (¬2). أي الدعاء لهم والدعاء عليهم. ولا شك أن الدعاء للمدعو مما يشرح صدره، ويجذب قلبه للدين الإسلامي. فينبغي للداعية أن يعتني بهذا الأسلوب (¬3). سابعا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: دل الحديث بمفهومه على أن القدوة الحسنة من وسائل الدعوة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما طلب منه الدعاء على دوس بالهلاك دعا لهم بالهداية؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قدوة الدعاة إلى الله عز وجل، فهو قد تأنى، وصبر، وحلم، وعفا، ودعا بالهداية للمدعوين. فينبغي للداعية أن يقتدي به صلى الله عليه وسلم (¬4). ثامنا: من أصناف المدعوين: المشركون: دل هذا الحديث على أن المشركين من أصناف المدعوين؛ لأن قبيلة دوس من المشركين، وقد دعاهم الطفيل إلى الله عز وجل ودعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يعتني بدعوة المشركين إلى الله عز وجل ويسلك معهم في دعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى تسعة مسالك: 1 - إثبات ألوهية الله تعالى بالأدلة العقلية والنقلية، وأنه - عز وجل - المستحق للعبادة وحده. 2 - ضعف جميع ما عبد من دون الله - عز وجل - من جميع الوجوه. 3 - ضرب الأمثال التي تثبت العبادة لله - عز وجل - وحده وتقرر التوحيد. 4 - الكمال المطلق من جميع الوجوه لله عز وجل. ¬
5 - التوحيد دعوة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام. 6 - الغلو في الصالحين سبب كفر بني آدم. 7 - بيان الشفاعة المثبتة والمنفية. 8 - الإله الحق سخر جميع ما في الكون لعباده، فهو - عز وجل - المستحق للعبادة وحده. 9 - الأدلة العقلية والنقلية على إثبات البعث والنشور. فإذا سلك الداعية إلى الله - عز وجل - هذه المسالك مع هؤلاء تفصيلا وتوضيحا وإبلاغا برفق، ولين، وحلم، وحكمة نجح بإذن الله عز وجل (¬1). تاسعا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: إجابة دعواته: دل هذا الحديث على أن من المعجزات ودلائل نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - إجابة دعواته، ومن ذلك دعوته لدوس حينما قال: «اللهم اهد دوسا وائت بهم» فهدى الله - عز وجل - هذه القبيلة وجاء الطفيل منهم في غزوة خيبر بتسعين أو ثمانين أسرة كلهم قد دخل الإسلام (¬2). وقد دعا - صلى الله عليه وسلم - أدعية كثيرة استجاب الله له فيها، وكانت من الدلائل القاطعة على أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقا، وأن الله - عز وجل - أرسله صلى الله عليه وسلم (¬3). ¬
باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله
102 - باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} [آل عمران: 79] (¬1). [حديث لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يدي] 92 - [2942] حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد (¬2). رضي الله عنه: «سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم خيبر: " لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه "، فقاموا يرجون لذلك أيهم يعطى، فغدوا كلهم يرجو أن يعطى، فقال: " أين علي؟ " فقيل: يشتكي عينيه، فأمر فدعي له، فبصق في عينيه، فبرأ حتى كأنه لم يكن به شيء، فقال: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. فقال: " على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم» (¬3). وفي رواية: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: " لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله " فبات الناس يدوكون ليلتهم: أيهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: " أين علي بن أبي طالب؟ "، فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: " فأرسلوا إليه " فأتي به فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: " انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن ¬
يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» (¬1). * شرح غريب الحديث: * " الراية " الراية هاهنا: العلم. يقال: ريَّيْت الراية: أي ركزتها (¬2). * " على رسلك " تأن ولا تعجل. (¬3). * " حمر النعم " النعم: الإبل، والحمر منها أنفسها عند أهلها (¬4). * " انفذ " امض (¬5). * " يدوكون " أي يخوضون ويموجون فيمن يدفعها إليه، يقال: وقع الناس في دوْكَة ودوكة: أي في خوض واختلاط (¬6). * " ساحتهم ": أي ناحيتهم، ويقال: ساحة الدار: الموضع المتسع أمامها، والجمع ساحات (¬7). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: شفاء المرضى والإخبار بالغيوب. 2 - من صفات الصحابة رضي الله عنهم: الرغبة فيما عند الله عز وجل. 3 - من صفات الداعية: محبة الله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم. ¬
4 - أهمية سؤال الداعية عما يشكل عليه. 5 - من صفات الداعية: التثبت والأناة. 6 - من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء. 7 - من موضوعات الدعوة: الدعوة إلى كلمة التوحيد. 8 - من موضوعات الدعوة: الحث على نشر العلم وتعليم الناس الخير. 9 - من أساليب الدعوة: التشبيه. 10 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 11 - من وسائل الدعوة: بعث المجاهدين والدعاة. 12 - من صفات الداعية: الشجاعة. 13 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم. 14 - من أصناف المدعوين: اليهود. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: شفاء المرضى والإخبار بالغيوب: دل هذا الحديث على أن من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: شفاء المرضى والإخبار بالغيوب: أما معجزة شفاء المرضى فمنها ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في هذا الحديث حيث بصق في عينيه، فشفاه الله عاجلا على الفور، وهذا يدل على أن الله عز وجل أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالحق، وقد وقع على يديه من شفاء المرضى الوقائع الكثيرة، ذكر هنها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله خمس وقائع شفي المرضى فيها على الفور (¬1). أما إخباره بالغيوب فكثير لا يعد ولا يحصى، ومن ذلك ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بقوله: «لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه»، ووقع الفتح على نحو ما أخبر به صلى الله عليه وسلم (¬2). ¬
فينبغي للداعية أن يبين للناس عند الحاجة أنواع هذه الدلائل التي تدل على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ثانيا: من صفات الصحابة رضي الله عنهم: الرغبة فيما عند الله عز وجل: ظهر في هذا الحديث رغبة الصحابة - رضي الله عنهم - فيما عند الله سبحانه وتعالى، ولهذا عندما سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» باتوا ليلتهم يخوضون فيمن يدفعها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وما ذلك إلا لرغبتهم فيما عند الله عز وجل؛ ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - عندما سمع هذا الخبر العظيم، ومحبة هذا الرجل لله ورسوله، ومحبة الله ورسوله له: " ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، فتساورت لها رجاء أن أدعى لها " (¬2). قال النووي رحمه الله: " إنما كانت محبته لها؛ لما دلت عليه الإمارة من محبته لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبتهما له، والفتح على يديه " (¬3). فينبغي للداعية إلى الله - عز وجل - أن يرغب فيما عند الله عز وجل (¬4). ثالثا: من صفات الداعية: محبة الله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم: دل هذا الحديث على أن محبة الله ورسوله من أعظم صفات الداعية الصادق مع الله عز وجل؛ ولهذا الفضل العظيم مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب؛ لاتصافه بمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن محبة الله ورسوله من أعظم الواجبات على كل مسلم، وخاصة الداعية إلى الله عز وجل، ولا يكمل الإيمان إلا بالمحبة الكاملة؛ ولهذا «قال عمر - رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك " فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي ¬
من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: " الآن يا عمر» (¬1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " أي الآن عرفت فنطقت بما يجب " (¬2). فينبغي للداعية أن يحب الله ورسوله أكثر من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين (¬3). رابعا: أهمية سؤال الداعية عما يشكل عليه: دل هذا الحديث على أهمية السؤال عما يشكل على الإنسان المسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في هذا الحديث: " يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ " فبين له - صلى الله عليه وسلم - وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام أولا ويخبرهم بما يجب عليهم. فينبغي لكل مسلم أن يسأل عن كل ما أشكل عليه، حتى يكون على بصيرة (¬4). خامسا: من صفات الداعية: التثبت والأناة: إن الأناة في الأمور والتثبت فيها من أعظم الصفات الحميدة، وقد دل هذا الحديث على الأمر بالتثبت وعدم العجلة فقال - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «انفذ على رسلك» وهذا فيه أمر بالأناة وعدم العجلة. فينبغي للداعية أن يكون متأنيا متثبتا في أموره كلها (¬5). سادسا: من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء: ظهر في هذا الحديث أن من أساليب الدعوة التأليف بالدعاء للمدعو؛ ليدخل الداعية السرور عليه، وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب عندما بصق في عينيه، فبرئ من الرمد بإذن الله عز وجل. ¬
فينبغي للداعية أن يتألف المدعوين بالدعاء لهم (¬1). سابعا: من موضوعات الدعوة: الدعوة إلى كلمة التوحيد: إن من الموضوعات المهمة الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه» والروايات يفسر بعضها بعضا؛ فإن هذه الدعوة تكون قبل القتال إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. فهذا هو حق الله المذكور في هذا الحديث (¬2). فينبغي أن يعتني الدعاة إلى الله - عز وجل - بالدعوة إلى كلمة التوحيد (¬3). ثامنا: من موضوعات الدعوة: الحث على نشر العلم وتعليم الناس الخير: إن الحث على نشر العلم وتعليم الناس الخير من أهم موضوعات الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم». وهذا يبين أهمية تعليم الناس الخير، ونشر العلم بينهم؛ قال الإمام الخطابي - رحمه الله - في معنى الحديث: " لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك أجرا وثوابا من أن يكون لك حمر النعم، فتتصدق بها " (¬4). وقد ذكر القرطبي والأبي والسنوسي - رحمهم الله - " أن في هذا الحديث الشريف: حضا عظيما على تعلم العلم وبثه في الناس وعلى الوعظ والتذكير، ويعني أن ثواب تعليم رجل واحد وإرشاده أفضل من ثواب الصدقة بهذه الإبل النفيسة؛ لأن ثواب ¬
الصدقة بها ينقطع بموتها، وثواب العلم والهدى لا ينقطع إلى يوم القيامة " (¬1). لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء» (¬4). وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» (¬5). وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - يرفعه: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير» (¬6). فينبغي للداعية أن يجد ويجتهد في تعليم الناس الخير وحضهم عليه. تاسعا: من أساليب الدعوة: التشبيه: ظهر أسلوب التشبيه في هذا الحديث؛ قال الإمام الكرماني رحمه الله: " الإبل الحمر، هي أحسن أموال العرب، فيضربون بها المثل في نفاسة الشيء، وليس عندهم شيء أعظم منه، وتشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا إنما هو للتقريب ¬
إلى الفهم، وإلا فذرة من الآخرة خير من الدنيا وما فيها بأسرها وأمثالها معها " (¬1). والله المستعان (¬2). عاشرا: من أساليب الدعوة: الترغيب: إن هذا الحديث ظهر فيه أسلوب الترغيب في قوله صلى الله عليه وسلم: " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم "، والترغيب في الحقيقة له تأثير عجيب في نفوس المدعوين. فينبغي للداعية أن يعتني به كثيرا (¬3). الحادي عشر: من وسائل الدعوة: بعث المجاهدين والدعاة: دل هذا الحديث على أن من وسائل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بعث المجاهدين والدعاة، وإرسالهم إلى أقطار الأرض للدعوة إلى الله عز وجل، وقد ظهر في هذا الحديث من بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب إلى يهود خيبر؛ لدعوتهم إلى الله عز وجل، وقتالهم إن رفضوا الدعوة، وبعث - صلى الله عليه وسلم - كثيرا من السرايا، والبعوث والدعاة، لنشر الإسلام وتبليغه للناس (¬4). الثاني عشر: من صفات الداعية: الشجاعة: إن في هذا الحديث الدلالة على أهمية اتصاف الداعية بالشجاعة؛ لأن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - اتصف بها في هذا الحديث؛ قال الإمام النووي رحمه الله: " فيه فضائل ظاهرة لعلي، وبيان شجاعته، وحسن مراعاته لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبه لله ورسوله صلى الله عليه وسلم " (¬5). وهذه الشجاعة مما نال بها محبة الله له ورسوله صلى الله عليه وسلم. فينبغي للداعية أن يتصف بهذه الصفة الحميدة (¬6). ¬
الثالث عشر: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: دل هذا الحديث على أن التأكيد بالقسم من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل؛ «لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب: " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» وهذا أسلوب تأكيد (¬1). فينبغي للداعية أن يعتني بهذا الأسلوب عند الحاجة إليه (¬2). الرابع عشر: من أصناف المدعوين: اليهود: إن اليهود من أصناف المدعوين مع خبثهم وشرهم، وقد دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا وقاتلهم؛ ليسلموا، ومن ذلك ما فعله في هذا الحديث من أمره لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بدعوتهم وقتالهم إن أبوا. فينبغي العناية بدعوتهم وإقامة الحجة عليهم، والله المستعان (¬3). ¬
حديث أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
[حديث أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله] 93 - [2946] حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري: حدثني سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة (¬1) - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله». رواه عمر وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الدعوة إلى كلمة التوحيد. 2 - من صفات الداعية: العمل بالظاهر والله يتولى السرائر. 3 - النطق بالشهادتين والعمل بهما: أمان للمدعو المخلص ظاهرا وباطنا. 4 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 5 - من أساليب الدعوة: الترهيب. 6 - من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد في سبيل الله عز وجل. والحديث عن هذه الفوائد والدروس الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الدعوة إلى كلمة التوحيد: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة: الدعوة إلى الشهادتين " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وهذا الحديث لم يذكر فيه إلا قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» ولم يذكر: «وأن محمدا رسول الله»، وقد أجاب العلامة الإمام القرطبي على ذلك فقال رحمه الله: " ظاهره أن من نطق بكلمة التوحيد فقد حكم له بحكم الإسلام، وهذا ظاهر متروك قطعا، إذ لا بد مع ذلك من النطق بالشهادة بالرسالة، أو بما يدل عليها، لكنه سكت عن كلمة الرسالة؛ لدلالة كلمة التوحيد عليها؛ لأنهما متلازمتان، ¬
فهي مرادة قطعا، ثم النطق بالشهادتين يدل على الدخول في الدين والتصديق بكل ما تضمنه، وعلى هذا فالنطق بالكلمة الأولى يفيد إرادة الثانية ". (¬1). ومع ما قال القرطبي رحمه الله، فإن الأحاديث يفسر بعضها بعضا، فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله» (¬2). فهذا الحديث قد بين ما أجمل في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فاتضح أن كلمة لا إله إلا الله عند إطلاقها تتضمن وتستلزم الشهادة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة. ولا شك أن هذه الشهادة لا تنفع قائلها إلا بشروط بينها أهل العلم: وهي: العلم المنافي للجهل، واليقين المنافي للشك، والقبول المنافي للرد، والانقياد المنافي للترك، والإخلاص المنافي للشرك، والصدق المنافي للكذب، والمحبة المنافية للبغض (¬3). وأضيف إلى ذلك: الكفر بما يعبد من دون الله عز وجل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، فقد حرم ماله ودمه، وحسابه على الله» (¬4). فينبغي أن يبين الداعية للناس هذه الشهادة، ومعناها وشروطها، ومقتضاها، ونواقضها؛ لأنها لا تنفع قائلها إلا بالعمل بالشروط، والابتعاد عن النواقض (¬5). ثانيا: من صفات الداعية: العمل بالظاهر والله يتولى السرائر: إن من نطق بالشهادتين، وعمل بما دلتا عليه ظاهرا، فإن ذلك يمنع ماله ¬
ويحفظه له، ويمنع نفسه، فيكون معصوم الدم والمال، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»، وليس للمسلمين إلا الظاهر؛ قال الإمام القرطبي رحمه الله: " وحسابهم على الله. أي حساب سرائرهم على الله؛ لأنه تعالى هو المطلع عليها، فمن أخلص في إيمانه وأعماله جازاه الله عليها جزاء المخلصين، ومن لم يخلص في ذلك كان من المنافقين يحكم له في الدنيا بأحكام المسلمين وهو عند الله من أسوأ الكافرين " (¬1). فينبغي أن يعامل من أظهر العمل بالشهادتين بالظاهر والله يتولى السرائر (¬2). ثالثا: النطق بالشهادتين والعمل بهما: أمان للمدعو المخلص ظاهرا وباطنا: دل الحديث على أن من نطق بالشهادتين، وعمل بهما وبما دلتا عليه؛ فإنهما أمان له ظاهرا؛ لأنه معصوم الدم والمال، وباطنا؛ لأنه أخلص لله رب العالمين وصدق فيما قال، فحصل له اليقين في الدنيا والثواب العاجل والآجل على إخلاصه وصدقه مع ربه الكريم سبحانه وتعالى (¬3). رابعا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل الحديث على أسلوب الترغيب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن من نطق بالشهادتين فقد عصم ماله ودمه، وحسابه على ربه عز وجل، ولا شك أن من قالها صدقا من قلبه فقد حصل على الثواب العظيم في الآخرة، مع ما يحصل له في الدنيا من عصمة المال والدم. فينبغي أن يستخدم أسلوب الترغيب في الدعوة إلى الله عز وجل (¬4). ¬
خامسا: من أساليب الدعوة: الترهيب: ظهر أسلوب الترهيب في هذا الحديث؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين بمفهوم حديثه أن من لم ينطق بالشهادتين ويعمل بمقتضاهما ظاهرا وباطنا؛ فإنه لا يكون معصوم الدم والمال، بل يكون دمه مهدورا وماله غير معصوم، وكذلك لو نطق بهما وعمل بهما ولكن لم يقم بحقهما، فهو معرض لإقامة الحد عليه إن وقع فيما يوجب الحد؛ لأن من قالها فقد دخل في الإسلام ولزمه حقه، وحق ما في الأبدان من حدود، وما في الأموال من حقوق (¬1). ولهذا - والله أعلم - قال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة» (¬2). فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب عند الحاجة إليه (¬3). سادسا: من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد في سبيل الله عز وجل: إن الحث على الجهاد في سبيل الله عز وجل، والاستمرار فيه من أهم الموضوعات التي ينبغي العناية بها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله»، وهذا يؤكد أهمية الحث على الجهاد حتى يدخل الناس في الإسلام ويستقيموا على ذلك (¬4). ¬
باب التوديع
107 - باب التوديع [حديث إن النار لا يعذب بها إلا الله] 94 - [2954] وقال ابن وهب أخبرني عمرو، عن بكير، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة (¬1) - رضي الله عنه - أنه قال: «بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث وقال لنا: " إن لقيتم فلانا وفلانا- لرجلين من قريش سماهما- فحرقوهما بالنار ". قال: ثم أتيناه نودعه حين أردنا الخروج فقال: " إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن أخذتموهما فاقتلوهما» (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من وسائل الدعوة: بعث المجاهدين والدعاة. 2 - من موضوعات الدعوة: التحذير من التعذيب بعذاب الله عز وجل. 3 - من صفات الداعية: الرجوع عن الحكم والفتوى إذا ظهر الدليل. 4 - من وظائف الإمام المسلم: قتل كل من آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدون استتابة. 5 - من أدب المدعو: توديع العلماء والدعاة إذا أراد سفرا. 6 - من أساليب الدعوة: الترهيب. 7 - أهمية استنابة الإمام أو الداعية من يقوم مقامه في الأمور المهمة. 8 - أهمية ذكر الدليل عند الفتوى لرفع الإلباس. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من وسائل الدعوة: بعث المجاهدين والدعاة: ظهر في هذا الحديث أن من وسائل الدعوة: بعث المجاهدين والدعاة للدعوة إلى الله عز وجل؛ لقول أبي هريرة - رضي الله عنه - في هذا الحديث: «بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث. .». فينبغي العناية بإرسال الدعاة إلى الله عز وجل لتبليغ الدعوة ¬
الإسلامية ونشر العلم بين الناس (¬1). ثانيا: من موضوعات الدعوة: التحذير من التعذيب بعذاب الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة التحذير من التعذيب بعذاب الله عز وجل لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن النار لا يعذب بها إلا الله»، «وقد ثبت أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حرق قوما فبلغ ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تعذبوا بعذاب الله "، ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه» (¬2) وعلي - رضي الله عنه - فعل ما فعل غضبا لله عز وجل؛ لأن هؤلاء الذين أحرقهم بالنار جعلوه إلها من دون الله، فغضب لله وحرقهم؛ ولأنه - رضي الله عنه - لم يبلغه النهي عن التعذيب بالنار، وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " فعل علي رضي الله عنه؛ لأنه لم يبلغه الحديث، وفعل ذلك لأنهم فعلوا أمرا شنيعا حيث ألّهوه من دون الله، فغضب لله، وفعل ما فعل رضي الله عنه، وهذه قاعدة: أن العالم إذا خالف السنة حمل على أنه لم يبلغه الحديث " (¬3). فينبغي للداعية أن يحذر الناس من التعذيب بالنار؛ لأنه لا يعذب بها إلا الله. قال الإمام ابن العربي رحمه الله: " والنار لا يعذب بها إلا الله سبحانه، إلا أن يحرق رجل رجلا بالنار فيحرق بها قصاصا " (¬4). وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عذب العرنيين الذين قتلوا راعي الإبل بشيء من النار، ففي حديث أنس رضي الله عنه: «. . فقطع أيديهم وأرجلهم، ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها وطرحهم بالحرة يستسقون فما سقوا حتى ماتوا» (¬5). وفي رواية لمسلم: «إنما سمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعين هؤلاء؛ لأنهم سملوا أعين ¬
الرعاء» (¬1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " إنما كان ذلك على سبيل القصاص " (¬2). وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن باز حفظه الله يقول: " والأقرب والله أعلم أنه يجوز تعذيب من قتل بالنار أن يقتل بالنار؛ لأنه من باب المقاصة، كما لو عذبه بقطع لسانه، أو قطع رجله، أو أنفه جاز أن يقتص منه بقطع ما قطع، فكذلك التحريق بالنار من باب المقاصة " (¬3). {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] (¬4) {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] (¬5) فاتضح من ذلك أنه لا يعذب بالنار في كل حيوان حتى النملة والبعوضة، إلا أن يكون قصاصا (¬6). ثالثا: من صفات الداعية: الرجوع عن الحكم والفتوى إذا ظهر الدليل: إن من الصفات العظيمة التي ينبغي أن يتصف بها كل مسلم وخاصة الدعاة إلى الله عز وجل: الأخذ بالدليل من الكتاب والسنة، والرجوع إلى ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث قال: «إن لقيتم فلانا وفلانا- لرجلين من قريش سماهما- فحرقوهما بالنار»، ثم رجع عن ذلك تعظيما لله عز وجل؛ لئلا يعذب بعذابه فقال صلى الله عليه وسلم: «إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن أخذتموهما فاقتلوهما»، فدل ذلك على أن العالم أو الداعية إذا صدر منه فتوى ثم رأى أن الأفضل أو الأولى أو الواجب خلافها رجع عن قوله وأفتى بما يوافق الدليل، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث جواز الحكم بالشيء اجتهادا ثم الرجوع عنه " (¬7). ¬
رابعا: من وظائف الإمام المسلم: قتل كل من آذى الله ورسوله بدون استتابة: دل هذا الحديث على أن من صدر منه أذى لله أو لرسوله صلى الله عليه وسلم، فإن إمام المسلمين يأمر بقتله نصرة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل هذين الرجلين بدون استتابة؛ لما صدر منهما من الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال الإمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: " إن من سب الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - قتل ولم يستتب؛ لأن فلانا وفلانا المذكورين في الحديث قد سميا في حديث غير هذا، وقيل: سبب ذلك أنهما كانا يؤذيان الله ورسوله " (¬1). ولا شك أنه يفرق بين الكافر الأصلي والمسلم المرتد بذلك، وقد سبق التفصيل (¬2). خامسا: من أدب المدعو: توديع العلماء والدعاة إذا أراد سفرا: ظهر في هذا الحديث أن من الأدب توديع العلماء والدعاة قبل السفر؛ ولهذا قال أبو هريرة - رضي الله عنه - في هذا الحديث في شأن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثم أتيناه نودعه حين أردنا الخروج». فينبغي أن يعتني المدعو وكذلك الداعية بتوديع العلماء في بلده؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه مشروعية توديع المسافر لأكابر أهل بلده، وتوديع أصحابه له أيضا " (¬3). سادسا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترهيب؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل من آذى الله ورسوله، بقوله: " فاقتلوهما "؛ قال الإمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: " إن إطالة الزمان لا تمنع رفع العقاب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل هذين حين رجا القدرة عليهما، وقيل ذلك حين كانت الأذية منهما صادرة ولو لم ترج القدرة للمسلمين عليهما لم يأمر فيهما بشيء " (¬4). ¬
فينبغي للداعية أن يبين للناس أن من وقع في شيء يوجب العقاب ثم ستر الله عليه - عز وجل - وأسبغ عليه نعمه وأمهله، فلا يغتر بذلك بل عليه أن يبادر بالتوبة قبل مفاجأة المنايا أو النقم؛ لأن الله - عز وجل - يقول: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ - ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ - مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205 - 207] (¬1) وقال عز وجل: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] (¬2) وهو الشيطان (¬3). ولا شك أن الله - عز وجل - يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته (¬4). والله المستعان. سابعا: أهمية استنابة الإمام أو الداعية من يقوم مقامه في الأمور المهمة: دل هذا الحديث على أهمية استنابة الإمام أو العالم أو الداعية من يقوم مقامه في الأمور المهمة؛ ولهذا استناب النبي - صلى الله عليه وسلم - على قتل هذين الرجلين؛ قال الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " جواز النيابة في الأحكام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل هذين ولم يأمر بأن يؤتى إليه بهما " (¬5). ثامنا: أهمية ذكر الدليل عند الفتوى لرفع الإلباس: دل هذا الحديث على أهمية ذكر الدليل عند الفتوى أو الحكم؛ لرفع الإلباس؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما»، فقد استدل سيد الخلق عليه الصلاة والسلام بكون النار لا يعذب بها إلا الله؛ قال ابن حجر رحمه الله إن من فوائد هذا الحديث: " استحباب ذكر الدليل عند الحكم؛ لرفع الإلباس " (¬6). فينبغي للداعية العناية بذكر الأدلة من الكتاب والسنة أو من أحدهما على ما يقول ويفتي به؛ ليكون لذلك الأثر في نفوس المدعوين، والله - عز وجل - الموفق (¬7). ¬
باب السمع والطاعة للإمام
108 - باب السمع والطاعة للإمام [حديث السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بالمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة] 95 - [2955] حدثنا مسدد: حدثنا يحيى، عن عبيد الله قال: حدثني نافع، عن ابن عمر (¬1) - رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحدثنا محمد بن الصباح، عن إسماعيل بن زكريا، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «السمع والطاعة حق، ما لم يؤمر بالمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (¬2). وفي رواية: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (¬3). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: حض الناس على طاعة ولاة الأمر بالمعروف. 2 - من صفات الداعية: الصبر على جور الولاة والأمراء. والحديث عن هذين الدرسين والفائدتين الدعويتين على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: حض الناس على طاعة ولاة الأمر بالمعروف: دل هذا الحديث على أن السمع لولاة الأمر بإجابة أقوالهم، والطاعة لأوامرهم حق واجب ما لم يأمروا بمعصية؛ فإن فعلوا ذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»، وقد أمر الله - عز وجل - بطاعة ولاة ¬
الأمر فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] (¬1) وولاة الأمر هم: العلماء، والولاة، والأمراء (¬2). فينبغي للداعية أن يحض الناس على طاعتهم في غير معصية الله عز وجل؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فطاعة الله ورسوله واجبة؛ لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم، وإن منعوه عصاهم فما له في الآخرة من خلاق " (¬3) وذكر الإمام الطيبي رحمه الله: ". . أن سماع كلام الحاكم وطاعته واجب على كل مسلم، سواء أمره بما يوافق طبعه، أو لم يوافقه، بشرط أن لا يأمره بمعصية، فإن أمره بها فلا تجوز طاعته، ولكن لا يجوز له محاربة الإمام " (¬4). ثانيا: من صفات الداعية: الصبر على جور الولاة والأمراء: دل هذا الحديث على أن من صفات المسلم، وخاصة الداعية إلى الله - عز وجل - أن يصبر على جور الولاة والأمراء؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بطاعة ولاة الأمر وإن جاروا ماداموا لم يكفروا، فعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: «دعانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله» (¬5) وقال: ¬
«إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان» (¬1) وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله، كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم» (¬2) وعن حذيفة - رضي الله عنه - يرفعه: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس "، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: " تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع» (¬3) وهذا كله يؤكد وجوب طاعة الإمام أو الأمير في غير معصية الله ما لم يخرج عن الإسلام بكفر بواح عند المسلم من الله فيه برهان؛ قال الإمام النووي رحمه الله: " وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين وقد تظاهرت الأحاديث على معنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة على أنه لا ينعزل السلطان بالفسق. . . قال العلماء: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن، وإراقة الدماء، وفساد ذات البين فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه ". (¬4). * * * * ¬
باب يقاتل من وراء الإمام ويتقى به
109 - باب يقاتل من وراء الإمام، ويتقى به حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب: حدثنا أبو الزناد: أن الأعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة (¬1) - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:. . الحديث. [حديث من أطاعني فقد أطاع الله] 96 - [2957] وبهذا الإسناد: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني. وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به. فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا، وإن قال بغيره فإن عليه منه» (¬2). وفي رواية: «ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري ففد عصاني» (¬3). * شرح غريب الحديث: * " جنة " الجنة: الوقاية، ويقال: الإمام جنة؛ لأنه يقي المأموم الزلل والسهو (¬4) والمعنى هنا: الإمام كالترس يقاتل من ورائه: أي يقاتل معه الكفار والبغاة، وينصر عليهم ويتقى به شر العدو (¬5). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحث على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. 2 - من موضوعات الدعوة: الحث على طاعة ولاة أمر المسلمين. 3 - أهمية القتال مع إمام المسلمين وحمايته من الأعداء. ¬
4 - من صفات الإمام والداعية: العدل. 5 - من أساليب الدعوة: التشبيه. 6 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 7 - من أساليب الدعوة: الترهيب. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة الحض على طاعة الله - عز وجل - وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله»، قال الإمام القرطبي رحمه الله: " هذا منتزع من قوله تعالى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] (¬1) وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لما كان مبلغا أمر الله وحكمه، وأمر الله بطاعته، فمن أطاعه فقد أطاع أمر الله ونفذ حكمه " (¬2) فينبغي للداعية أن يحث الناس ويرغبهم في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا - ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69 - 70] (¬3) وقال سبحانه وتعالى بعد أن ذكر أحكام الفرائض والمواريث: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13] (¬4). وينبغي للداعية أن يحذر الناس من معصية الله ورسوله؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «ومن عصاني فقد عصى الله»، وهذا مقتبس من القرآن الكريم، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] (¬5). ¬
وقال عز وجل: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] (¬1) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] (¬2) والآية الجامعة لطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والنهي عن معصيته في كل شيء، هي قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] (¬3). ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحث على طاعة ولاة أمر المسلمين: دل هذا الحديث على أن الحث على طاعة ولاة أمر المسلمين من موضوعات الدعوة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ". . «ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني» قال القرطبي رحمه الله: " ووجهه: أن أمير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو منفذ أمره، ولا يتصرف إلا بأمره، فمن أطاعه فقد أطاع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فكل من أطاع أمير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أطاع الرسول، ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله، فينتج أن من أطاع أمير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أطاع الله، وهو حق صحيح، وليس هذا الأمر خاصا بمن باشره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتوليه الإمارة، بل هو عالم في كل أمير للمسلمين عدل، ويلزم منه نقيض ذلك في المخالفة والمعصية " (¬4). فينبغي للداعية أن يحث الناس على طاعة ولاة أمر المسلمين في غير معصية، طاعة لله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم (¬5). ثالثا: أهمية القتال مع إمام المسلمين وحمايته من الأعداء: ظهر في هذا الحديث أهمية القتال مع إمام المسلمين وحمايته من كيد أعداء الدين؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به» وهذا ¬
واضح في الأمر بمساعدته والشد من أزره طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الإمام النووي رحمه الله: " الإمام جنة: أي كالستر؛ لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض، ويحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس ويخافون سطوته، ومعنى: " يقاتل من ورائه " أي يقاتل معه الكفار، والبغاة، والخوارج، وسائر أهل الفساد والظلم مطلقا " (¬1). فينبغي للداعية أن يحث الناس على أهمية هذا الأمر، والله المستعان. رابعا: من صفات الإمام والداعية: العدل: دل الحديث على أن العدل من صفات الإمام والداعية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإن أمر بتقوى الله وعدل؛ فإن له بذلك أجرا». قال الإمام الأبي رحمه الله: " العدل أخص أوصاف الإمام " (¬2). فينبغي الحكم بالعدل، وينبغي للداعية أن يلتزم صفة العدل في كل أموره (¬3). خامسا: من أساليب الدعوة: التشبيه: ظهر في هذا الحديث أسلوب التشبيه في قوله صلى الله عليه وسلم: «الإمام جنة» قال الإمام الكرماني رحمه الله: " أي كالترس يقاتل من ورائه: أي يقاتل معه الكفار والبغاة " (¬4). وقال الملا علي القاري رحمه الله: " فهو تشبيه بليغ " (¬5). فينبغي أن يعتني الداعية عند الحاجة بأسلوب التشبيه في دعوته إلى الله عز وجل (¬6). ¬
سادسا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا»، وهذا يدل على أن الإمام أو الداعية إذا أمر بالتقوى؛ وقضى بحكم الله - عز وجل - فإن له أجرا عظيما (¬1). وهذا فيه ترغيب في العدل في القضاء والحكم والفتوى وغير ذلك (¬2). سابعا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترهيب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وإن قال بغيره فإن عليه منه» أي إن أمر وقال بغير التقوى والعدل في الحكم والقضاء بين الناس؛ «فإن عليه منه» أي وزرا ثقيلا (¬3) وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الظلم والجور، فقال صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة، واحد في الجنة واثنان في النار: فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» (¬4). وهذا فيه تخويف من الوقوع في الظلم والجور، والحكم بغير العدل، والله المستعان. [باب البيعة في الحرب أن لا يفروا] ¬
باب البيعة في الحرب أن لا يفروا
110 - باب البيعة في الحرب أن لا يفروا وقال بعضهم: على الموت لقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] (¬1). [حديث سألنا نافعا على أي شيء بايعهم على الموت قال لا بل بايعهم على الصبر] 97 - [2958] حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا جويرية، عن نافع قال: قال ابن عمر (¬2). رضي الله عنهما: «رجعنا من العام المقبل، فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله. فسألنا نافعا: على أي شيء بايعهم، على الموت؛ قال: لا، بل بايعهم على الصبر». * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من وسائل الدعوة: إزالة الأماكن التي يفتن بها الناس. 2 - من صفات الداعية: الثبات والصبر. 3 - محبة الصحابة - رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 4 - من وسائل الدعوة؛ مبايعة إمام المسلمين. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من وسائل الدعوة: إزالة الأماكن التي يفتن بها الناس: ظهر في هذا الحديث أن إزالة أو إخفاء الأماكن التي يفتتن بها الناس من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا قال ابن عمر - رضي الله عنهما: «رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها كانت رحمة من الله» قال الإمام النووي رحمه الله: " قال العلماء: سبب خفائها أن لا يفتتن الناس ¬
بها؛ لما جرى تحتها من الخير، ونزول الرضوان، والسكينة، وغير ذلك، فلو بقيت ظاهرة معلومة لخيف تعظيم الأعراب إياها وعبادتهم لها، فكان خفاؤها رحمة من الله تعالى " (¬1) وقال ابن حجر رحمه الله: " كانت رحمة من الله: أي كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تعالى، ويحتمل أن يكون معنى قوله " رحمة من الله " أي كانت الشجرة، موضع رحمة الله ومحل رضوانه؛ لنزول الرضا عن المؤمنين عندها " (¬2) وحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - هذا يدل على أن الصحابة - رضي الله عنهم - قد أنسوا مكان الشجرة، وقد وافق ابن عمر - رضي الله عنهما - على أن الشجرة خفي عليهم مكانها من العام الذي بعد صلح الحديبية، المسيب والد سعيد، قال سعيد رحمه الله: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة، قال: فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها " (¬3) وقال ابن حجر رحمه الله: " لكن إنكار سعيد بن المسيب على من زعم أنه عرفها معتمدا على قول أبيه أنهم لم يعرفوها في العام المقبل لا يدل على رفع معرفتها أصلا " (¬4) وقد ثبت أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هو الذي قطعها، فعن نافع قال: " بلغ عمر بن الخطاب أن ناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها، قال: فأمر بها فقطعت " (¬5). وسمعت سماحة العلامة ابن باز حفظه الله يقول: " أنسيها المسيب - رحمه الله - ولكن عمر - رضي الله عنه - علمها وقطعها " (¬6). وهذا يبين أهمية إزالة المواضع التي يخشى على الناس من الافتتان بها، وأن ذلك من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل. ¬
ثانيا: من صفات الداعية: الثبات والصبر: ظهر في هذا الحديث أن الصبر والثبات صفة حميدة من صفات الدعاة إلى الله عز وجل، ولهذا جاء في هذا الحديث: «فسألنا نافعا على أي شيء بايعهم، على الموت؟ قال: لا، بايعهم على الصبر»، وقد ثبت في غير هذا الحديث أن الصحابة بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية على الموت، فعن مولى سلمة بن الأكوع قال: «سألت سلمة على أي شيء بايعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية؟ قال: على الموت» (¬1) قال ابن حجر - رحمه الله - على حديث سلمة هذا: " فدل ذلك على أنه لا تنافي بين قولهم بايعوه على الموت، وعلى عدم الفرار؛ لأن المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا ولو ماتوا، وليس المراد أن يقع الموت ولابد، وهو الذي أنكره نافع وعدل إلى قوله: " بل بايعهم على الصبر " أي على الثبات وعدم الفرار، سواء أفضى بهم ذلك إلى الموت أم لا، والله أعلم " (¬2). فينبغي للداعية أن يتحلى بالصبر والثبات في جميع المواطن (¬3). ثالثا: محبة الصحابة - رضي الله عنهم - لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دل هذا الحديث على محبة صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له، محبة عظيمة فاقت محبة النفس، والولد، والوالد، والناس أجمعين؛ ولهذا بايعوه - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية على الثبات وعدم الفرار، ولو وصل بهم هذا الثبات إلى الموت رضي الله عنهم، ولهذا فازوا برضوان الله. قال الله عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] (¬4). وهذا كله يدل على المحبة العظيمة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم وأرضاهم وحشرنا جميعا في زمرتهم (¬5). ¬
رابعا: من وسائل الدعوة: مبايعة إمام المسلمين: مبايعة إمام المسلمين من أهم وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا ظهر في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بايع الصحابة يوم الحديبية على الصبر، ولا شك أن المبايعة معاقدة ومعاهدة على القيام والالتزام بما حصلت البيعة عليه؛ لأن البيعة عبارة عن المعاقدة والمعاهدة: كأن كل واحد من المبايعين باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه، وطاعته، ودخيلة أمره (¬1) ولا ريب أن التعاهد والتعاضد يعطي بإذن الله - عز وجل - العزيمة القوية على الثبات في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي الجهاد، وفي كل أمور الإسلام؛ ليكون ذلك وسيلة إلى الجهاد والدعوة ومن ذلك: البيعة على السمع والطاعة، وعلى أن لا ينازع الأمر أهله، وعلى القول بالحق، وبالعدل، وعلى النصح لكل مسلم، والثبات في القتال، والبيعة على الجهاد، وعلى الهجرة، وأعظم ذلك البيعة على الإيمان والإسلام، والنصرة وغير ذلك (¬2). ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» (¬3). وهذا يبين أهمية مبايعة إمام المسلمين، وخطر الخروج عليه، وأن المبايعة من أعظم وسائل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. ¬
حديث عبد الله بن زيد لا أبايع أحدا على الموت بعد رسول الله
[حديث عبد الله بن زيد لا أبايع أحدا على الموت بعد رسول الله] 98 - [2959] حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا وهيب: حدثنا عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد (¬1) - رضي الله عنهما قال: «لما كان زمن الحرة أتاه آت فقال له: إن ابن حنظلة (¬2). يبايع الناس على الموت. فقال: لا أبايع على هذا أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬3). وفي رواية: «لما كان يوم الحرة، والناس يبايعون لعبد الله بن حنظلة فقال ابن زيد: على ما يبايع ابن حنظلة؟ قيل له: على الموت، قال لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم». وكان شهد معه الحديبية " (¬4). * شرح غريب الحديث: * " زمن الحرة " الحرة: أرض ذات حجارة سود كثيرة، وهي بظاهر المدينة، ¬
ويوم الحرة يوم مشهور في الإسلام أيام يزيد بن معاوية، لما انتهب المدينة عسكره من أهل الشام الذين ندبهم لقتال أهل المدينة: من الصحابة والتابعين، وأمر عليهم مسلم بن عقبة المري، وذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وعقيبها هلك يزيد (¬1). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: الثبات والصبر. 2 - محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم. 3 - من صفات الداعية: الابتعاد عن الفتن وعدم الخروج على الإمام المسلم. 4 - من وسائل الدعوة: مبايعة إمام المسلمين. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الثبات والصبر: دل هذا الحديث على أهمية الصبر والثبات؛ ولهذا قال عبد الله بن زيد - رضي الله عنهما - حينما بايع الناس عبد الله بن حنظلة على الموت: «لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وكان شهد معه الحديبية، فدل ثبات الصحابة - رضي الله عنهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومبايعته على الثبات - حتى ولو ماتوا على ذلك- على صبرهم وثباتهم وقوة إيمانهم رضي الله عنهم. (¬2). ثانيا: محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: ظهر في هذا الحديث محبة الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قال عبد الله بن زيد - رضي الله عنهما - حينما أخبر أن الناس يبايعون عبد الله بن حنظلة على الموت: «لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم». ¬
فدل ذلك على محبة الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى عاهدوه على أن لا يفروا ولو وصل بهم الثبات إلى الموت، رضي الله عنهم (¬1). ثالثا: من صفات الداعية: الابتعاد عن الفتن وعدم الخروج على الإمام المسلم: دل هذا الحديث على أن من الصفات الحميدة الابتعاد عن الفتن وعدم الخروج على الإمام المسلم، ولو كان فاسقا؛ لأن عبد الله بن زيد رأى عدم المبايعة على الموت في يوم الحرة، وقد امتنع من حضور فتنة الحرة عبد الله بن عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، وحصل شر عظيم وفتنة باهرة أسأل الله العافية في الدنيا والآخرة لي ولجميع المسلمين، وقتل في يوم الحرة ألف وسبعمائة من وجوه الناس، ومن أخلاط الناس عشرة آلاف، وذكر عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: " قتل يوم الحرة من حملة القرآن سبعمائة "، وهذا مما يؤكد على الناس عدم الخروج على الإمام المسلم، ولو كان فاسقا ظالما؛ لأن الخروج يحصل به شرور كثيرة: من سفك الدماء، وانتهاك الأعراض، وقتل النساء والصبيان، وتدمير الأموال، وإثارة الفتن المتلاطمة (¬2) والله المستعان (¬3). رابعا: من وسائل الدعوة: مبايعة إمام المسلمين: دل هذا الحديث على أن البيعة وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن المبايع إذا بايع ولي الأمر على أمر من أمور الدعوة والجهاد ثبت على عهده، ولم ينقض ما أبرم من العهد والميثاق؛ ولهذا بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة يوم الحديبية على الموت: أي على أن لا يفروا ولو أدى الثبات إلى الموت، وهذا ما دل عليه قول عبد الله بن زيد - رضي الله عنهما في هذا الحديث (¬4). ¬
حديث يا ابن الأكوع ألا تبايع
[حديث يا ابن الأكوع ألا تبايع] 99 - [2960] حدثنا المكي بن إبراهيم: حدثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة (¬1). - رضي الله عنه - قال: «بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عدلت إلى ظل الشجرة، فلما خف الناس قال: " يا ابن الأكوع ألا تبايع؟ " قال: قلت قد بايعت يا رسول الله، قال: " وأيضا ". فبايعته الثانية. فقلت له: يا أبا مسلم، على أي شيء، كنتم تبايعون يومئذ؟ قال: على الموت» (¬2). وفي رواية: «على أي شيء بايعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية؟ قال: على الموت» (¬3). وفي رواية: «بايعنا النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة فقال لي: " يا سلمة ألا تبايع؟ " قلت يا رسول الله: قد بايعت في الأول، قال: " وفي الثاني» (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: الثبات والصبر. 2 - عظم محبة الصحابة - رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 3 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار. 4 - من وسائل الدعوة: مبايعة إمام المسلمين. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: ¬
أولا: من صفات الداعية: الثبات والصبر: دل هذا الحديث على أن الصبر والثبات من الصفات الحميدة؛ ولهذا بين سلمة بن الأكوع أنهم بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية على الموت، والمقصود بالمبايعة على الموت: أي المبايعة على الصبر والثبات وعدم الفرار وإن أدى ذلك إلى الموت، فيكون مؤدى البيعة على الموت، والبيعة على عدم الفرار واحد (¬1). وهذا يؤكد صبر الصحابة - رضي الله عنهم - وشجاعتهم التي لا نظير لها عند غيرهم (¬2). ثانيا: عظم محبة الصحابة - رضي الله عنهم - لرسول الله صلى الله عليه وسلم: بين هذا الحديث عظم محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا عاهدوه وبايعوه على أن يثبتوا ولا يفروا، ويصبروا ولا يجزعوا، ولو آل ذلك إلى الموت، وهذه المبايعة الصادقة على الموت تدل على المحبة الصادقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والرغبة العظيمة في الذود والدفاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوته (¬3). ثالثا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار: دل هذا الحديث على أن من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار؛ ولهذا «قال - صلى الله عليه وسلم - لسلمة بن الأكوع: " يا ابن الأكوع ألا تبايع؟ " قال: قد بايعت يا رسول الله، قال: " وأيضا» قال: فبايعته الثانية. قال ابن حجر رحمه الله: " بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - لسلمة مكررا. قيل: لأنه كان مقداما في الحرب، فأكد عليه احتياطا، أو لأنه كان يقاتل قتال الفارس والراجل فتعددت البيعة بتعدد الصفة " (¬4). وقال العيني رحمه الله: " إنما قال ذلك مع أنه بايع مع الناس؛ لأنه أراد تأكيد بيعته؛ لشجاعته وشهرته بالثبات؛ فلذلك أمره بتكرير المبايعة " (¬5). ¬
وهذا يبين أهمية أسلوب التكرار في الدعوة إلى الله - عز وجل - عند الحاجة لذلك (¬1). رابعا: من وسائل الدعوة: مبايعة إمام المسلمين: ظهر في هذا الحديث أن المبايعة من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن سلمة بن الأكوع قيل له: «يا أبا مسلم على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ - أي يوم صلح الحديبية - فقال: على الموت. » وهذا يؤكد أهمية المعاهدة والمعاقدة على الثبات؛ ولهذا كانت المبايعة من أهم وسائل الدعوة (¬2). * * * * ¬
حديث مضت الهجرة لأهلها
[حديث مضت الهجرة لأهلها] 100 - ، 101 - [2962, 2963] حدثنا إسحاق بن إبراهيم: سمع محمد بن فضيل، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن مجاشع (¬1) - رضي الله عنه - قال: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا وأخي، فقلت: بايعنا على الهجرة، فقال: " مضت الهجرة لأهلها ". فقلت: علام تبايعنا؟ قال: " على الإسلام والجهاد» (¬2). وفي رواية: " جاء مجاشع بأخيه مجالد بن مسعود (¬3). إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذا مجالد يبايعك على الهجرة فقال: «لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإسلام» (¬4). وفي رواية: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخي بعد الفتح فقلت: يا رسول الله، جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة. قال: " ذهب أهل الهجرة بما فيها " فقلت: على أي شيء تبايعه؟ قال: " أبايعه على الإسلام، والإيمان، والجهاد» فلقيت معبدا (¬5). ¬
بعد- وكان أكبرهما- فسألته فقال: صدق مجاشع (¬1). وفي رواية: عن أبي عثمان النهدي عن مجاشع بن مسعود: «انطلقت بأبي معبد إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ليبايعه على الهجرة قال: " مضت الهجرة لأهلها، أبايعه على الإسلام والجهاد» فلقيت أبا معبد فسألته؟ فقال: صدق مجاشع (¬2). * الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية السؤال في تحصيل العلم. 2 - من موضوعات الدعوة: الحض على أصول الإسلام. 3 - من موضوعات الدعوة: الحض على أصول الإيمان. 4 - من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد. 5 - من صفات الداعية: الحرص على هداية الأقربين. 6 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار ببقاء مكة دار إسلام. 7 - من موضوعات الدعوة: البيان ببقاء الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام. 8 - من صفات الداعية: الحرص على التثبت في طلب الحديث. 9 - من صفات الداعية: الصدق. 10 - من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الفتح. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: أهمية السؤال في تحصيل العلم: ظهر في هذين الحديثين أهمية السؤال في تحصيل العلم، لأن مجاشع بن ¬
مسعود - رضي الله عنه - «سأل النبي عن الهجرة لأخيه مجالد، فقال صلى الله عليه وسلم: " مضت الهجرة لأهلها " فقال مجاشع: على أي شيء تبايعه فقال صلى الله عليه وسلم: " أبايعه على الإسلام، والإيمان، والجهاد». وهذا يدل على أهمية السؤال في تحصيل العلم النافع، وما يترتب عليه من الفوائد والعلم بأمور الإسلام (¬1). ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحض على أصول الإسلام: دل هذان الحديثان على أن الحث على أصول الإسلام من موضوعات الدعوة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " أبايعه على الإسلام. . . " والمقصود ملازمة الإسلام بأركانه الخمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا؛ ولهذا «عندما سأل جبريل عليه السلام النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» (¬2). فينبغي للداعية أن يحض الناس على هذه الأصول التي بني عليها الإسلام (¬3). ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحض على أصول الإيمان: إن أصول الإيمان أعظم الموضوعات التي ينبغي للداعية أن يبينها للناس، ويوضحها توضيحا مفصلا؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمجاشع في هذا الحديث عند المبايعة لأخيه مجالد: " أبايعه على الإسلام والإيمان. . . " والمقصود بالمبايعة على الإيمان هنا: ملازمة أصول الإيمان الستة كما فسرته النصوص الأخرى؛ ولهذا «عندما سأل جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان أجابه بقوله صلى الله عليه وسلم: " أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» (¬4). ¬
وهذا يؤكد على الداعية إلى الله - عز وجل - أن يعتني بإبلاغ الناس هذه الأصول على وجه التفصيل والإيضاح (¬1). رابعا: من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد في سبيل الله عز وجل: إن الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى من أهم الموضوعات التي ينبغي أن يعتني بها أهل العلم والدعوة إلى الله عز وجل؛ لما في ذلك من إظهار شعائر الإسلام، وقمع الكفر، وأهل البغي والفساد؛ ولهذا بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث مجالد بن مسعود - رضي الله عنه - على الجهاد، فقال - صلى الله عليه وسلم - لأخيه مجاشع: «أبايعه على: الإسلام، والإيمان، والجهاد». فينبغي العناية بالحث على الجهاد؛ لأنه ذروة سنام الإسلام كما «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: " ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟ " قال معاذ رضي الله عنه: قلت: بلى يا رسول الله، قال: " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد». . . " (¬2). والجهاد يكون باليد، واللسان، والمال؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم» (¬3). فينبغي العناية الفائقة بالحث على الجهاد في سبيل الله عز وجل (¬4). خامسا: من صفات الداعية: الحرص على هداية الأقربين: لا شك أن الحرص على هداية الأقربين وحب الخير لهم من الأمور المهمة التي ينبغي العناية بها؛ ولهذا اعتنى مجاشع بن مسعود - رضي الله عنه - بأخيه مجالد، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليبايعه على الهجرة، فبايعه - صلى الله عليه وسلم - على: الإسلام، والإيمان، والجهاد، والداعية الصادق يكون حريصا على هداية الناس ¬
جميعا، ولكنه يعتني عناية خاصة بأقربائه؛ لأن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة (¬1). سادسا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار ببقاء مكة دار إسلام: دل الحديثان على معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم تدل على صدق نبوته ورسالته، وهي أن مكة تبقى دار إسلام إلى آخر الدنيا؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإِسلام». قال الإِمام النووي رحمه الله: " وهذا يتضمن معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها تبقى دار إسلام لا يتصور منها الهجرة ". (¬2). سابعا: من موضوعات الدعوة: البيان ببقاء الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإِسلام: الناظر في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث مجاشع بن مسعود رضي الله عنه: «لا هجرة بعد فتح مكة ولكن أبايعه على الإِسلام» يتصور بأن الهجرة قد انقطعت إلى يوم القيامة، ولكن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر بعضها بعضا؛ قال الإِمام النووي رحمه الله: " قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإِسلام باقية إلى يوم القيامة، وتأوَّلوا هذا الحديث تأويلين: أحدهما: لا هجرة بعد الفتح من مكة؛ لأنها أصبحت دار إسلام فلا تتصور منها الهجرة. والثاني: وهو الأصح: أن معناه أن الهجرة الفاضلة المهمة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازا ظاهرا انقطعت بفتح مكة ومضت لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة؛ لأن الإِسلام قويَ وعز بعد فتح مكة عزا ظاهرا بخلاف ما قبله (¬3). وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: " المقصود لا هجرة من مكة إلى غيرها؛ لأنها أصبحت دار إسلام فلا حاجة إلى الهجرة ¬
منها، وأما الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإِسلام بنية الفرار بدينه فهي باقية إلى يوم القيامة " (¬1) وقد صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تفسر حديث مجاشع وغيره، فعن عبد الله بن واقد السعدي رضي الله عنه قال: وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفدٍ كلنا يطلب حاجته، وكنت آخرهم دخولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني تركت من خلفي، وهم يزعمون أن الهجرة قد انقطعت، قال: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفَّار» (¬2) وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه في مبايعته للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: «أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين» (¬3) وعن جرير رضي الله عنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " قالوا: يا رسول الله، لِمَ؟ قال: " لا تَراءَى نَارَاهمَا» (¬4) وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» (¬5). وهذه الأحاديث تبين أن الهجرة باقية إلى يوم القيامة من بلد المشركين إلى بلد المسلمين، وقد فَصَّل في ذلك أهل العلم، قال ابن حجر رحمه الله: " لا تجب الهجرة من بلد فتحه المسلمون أما قبل فتح البلد فمن به من المسلمين أحد ثلاثة: الأول قادر على الهجرة لا يمكنه إظهار دينه، ولا أداء واجباته، فالهجرة منه واجبة. الثاني: قادر لكنه يمكنه إظهار دينه وأداء واجباته، فمستحبة لتكثير ¬
المسلمين بها ومعونتهم، وجهاد الكفار، والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم. الثالث: عاجز يعذر: من أسرٍ، أو مرضٍ أو غيره، فتجوز له الإقامة، فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر " (¬1). وقد قال القرطبي رحمه الله: " ولا يختلف في أنه لا يحلّ لمسلم المقام في بلاد الكفار، مع التمكّن من الخروج منها؛ لجريان أحكام الكفار عليه؛ ولخوف الفتنة على نفسه، وهذا حكم ثابت، مؤبَّد إلى يوم القيامة. وعلى هذا فلا يجوز لمسلم دخول بلاد الكفار لتجارة أو غيرها، مما لا يكون ضروريا في الدين: كالرسل، وكافتكاك المسلم، وقد أبطل مالك رحمه الله شهادة من دخل بلاد الهند (¬2) للتجارة " (¬3). فإذا علم المسلم شأن الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإِسلام، فهل يهاجر المسلم من بلاد المسلمين التي تقام فيها المعاصي ولا يستطيع تغييرها؟ قال الإِمام ابن العربي رحمه الله: " فأما الهجرة من بلد الكفر فهي فريضة إلى يوم القيامة، وكذلك الهجرة من أرض الحرام والباطل بظلم أو فتنة. . . فإن قيل: فإن لم يوجد بلد إلا كذلك؛ قلنا: يختار المرء أقلها إثما، مثل أن يكون بلد فيه كفر فبلد فيه جور خير منه، أو بلد فيه عدل وحرام، فبلد فيه جور وحلال خير منه للمقام. . . " (¬4) ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفرّ بدينه من الفتن» (¬5) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: " والهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإِسلام باقية إلى قيام الساعة وكذلك الهجرة من بلاد المعاصي إلى بلاد الطاعات، إذا كانت أحسن من بلده، فله الهجرة، إلا إذا كان بقاؤه في بلاد المعاصي فيه خير: كالدعوة إلى الله، ¬
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ". (¬1). فينبغي للداعية أن يبين للناس ذلك بيانا واضحا، ويحثهم على هجر المعاصي والسيئات أيضا؛ لأن هجر المعاصي من أكمل الهجرة إلى الله عز وجل، وخاصة في هذه الأزمان التي قد كثرت فيها الذنوب والموبقات؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (¬2) وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أكمل الناس في الهجرة، والجهاد، والإِيمان والإِسلام فقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب» (¬3). ثامنا: من صفات الداعية: الحرص على التثبت في طلب الحديث: دل هذان الحديثان على حرص السلف الصالح على التثبت في نقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا روى أبو عثمان النهدي هذا الحديث عن مجاشع بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لقي أبو عثمان النهدي أبا معبد أخا مجاشع فسأله عن هذا الحديث؛ لأنه حضر مع أخيه عند النبي صلى الله عليه وسلم. فقال أبو معبد: " صدق مجاشع " وهذا من حرص أبي عثمان على التأكد والتثبت وزيادة اليقين؛ فينبغي للداعية أن يتثبت في نقل الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬4). تاسعا: من صفات الداعية: الصدق: إن الصدق في القول والفعل، والنية من صفات الداعية المخلص؛ ولهذا ¬
صَدَقَ مجَاشِع بن مسعود رضي الله عنه حينما حدث أبا عثمان النهدي أنه جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الهجرة، فلم يبايعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال: «لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإِسلام» فأراد أبو عثمان التثبت عن صدق مجاشع فسأل أخاه عن حقيقة القصة فقال: صدق مجاشع. وهذا يعطي الداعية قوة العزيمة في الرغبة في الصدق؛ لأن المخلصين من المدعوين يتثبتون فيما يسمعون منه، فليكن على حذر، طاعة لله عز وجل، حتى يكون ثقة عند المدعوين وينفع الله بعلمه. والله أعلم (¬1). عاشرا: من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الفتح: ظهر ذكر غزوة الفتح في هذين الحديثين؛ لقول مجاشع رضي الله عنه: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بأخي بعد الفتح فقلت: يا رسول الله جئتك بأخي تبايعه على الهجرة. . . " وهذا يؤكد أهمية ذكر تاريخ الدعوة، والله أعلم (¬2). ¬
باب عزم الإمام على الناس فيما يطيقون
111 - باب عزمِ الإمام على الناسِ فِيمَا يطِيقون [حديث عبد الله بن مسثعود لم يكن النبي يعزم علينا في أمر إلا مرة حتى نفعله] 102 - [2964] حَدَّثَنَا عثْمَان بْن أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا جَرِير، عَنْ مَنْصورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْد اللهِ (¬1) رضي الله عنه: " لَقَدْ أتانِي اليَوْمَ رَجل فَسَألنِي عَنْ أَمرٍ مَا دَرَيْت مَا أَردّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجلا مؤدِيا نَشِيطا يَخْرج مَعَ أمَرَائِنَا فِي الْمَغَازِي، فيَعْزِم عَلَيْنَا فِي أَشْيَاءَ لاَ نحْصِيها؟ فَقلْت لَه: وَاللهِ مَا أدْرِي مَا أقول لَكَ: إِلاَّ أنا كنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَسَى أَنْ لاَ يَعْزِمَ عَلَيْنَا فِي أَمْرٍ إِلاَّ مَرَّة حَتَّى نَفْعَلَه، وإِنَّ أَحَدَكمْ لَنْ يَزَالَ بِخَيْرٍ مَا اتَّقى اللهَ. وَإِذَا شَكَّ فِي نَفْسِهِ شَيء سَأَلَ رِجلا فَشَفَاه مِنْه، وَأوْشَكَ أَنْ لاَ تَجِدوه. وَالَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هوَ، مَا أَذْكر مَا غبَرَ مِنَ الدّنْيَا إِلاَّ كَالثَّغبِ شرِبَ صَفْوه، وَتقِيَ كَدَره ". ¬
* شرح غريب الحديث: * " مؤْدِيا " أي تام السلاح كامل أداة الحرب. (¬1). * " فشفاه " الشفاء هنا شفاء القلب والنفس بالسؤال والحصول على الجواب الصحيح الذي يزيل مرض الشك والتردد (¬2). * " ما غَبَرَ من الدنيا " يصلح لما مضى ولما بقي (¬3). * " كالثغب " الثَّغْب: الموضع المطمئن في أعلى الجبل يستنقع فيه ماء المطر، وقيل: هو غدير في غِلَظٍ من الأرض، أو على صخرة ويكون قليلا. (¬4). * " لا نحصيها " أي: لا نطيقها، من قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] أي: لن تطيقوا قيام الليل (¬5). * " صفوه " يقال: صفا، يصفو صفوا وصفاء: خلص من الكدر (¬6). * " كدره " يقال: كَدِرَ الماء، نقيض صفا فهو كَدِر (¬7). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية إخبار الداعية أصحابه بما ينفعهم. 2 - الأخذ بالأسباب: لا ينافي التوكل. 3 - من صفات الداعية: النشاط. ¬
4 - من صفات الداعية: الحرص على الدعوة والجهاد. 5 - من صفات الداعية: التيسير على المدعوين. 6 - من صفات الداعية: الورع والتوقف في الفتوى عند الإِشكال. 7 - من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم. 8 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 9 - أهمية: طاعة ولاة أمر المسلمين بالمعروف. 10 - من صفات الداعية: التقوى. 11 - من صفات الداعية: اليقين. 12 - أهمية السؤال في تحصيل العلم. 13 - من أساليب الدعوة: التشبيه. 14 - من صفات الداعية؛ الزهد. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: أهمية إخبار الداعية أصحابه بما ينفعهم: دل هذا الحديث على أهمية إخبار الداعية أصحابه وأتباعه بما ينفعهم؛ ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأتباعه وأصحابه: " لقد أتاني اليوم رجل فسألني عن أمر ما دريت ما أرد عليه. . . " ثم أخبرهم بما قال الرجل وبما أفتاه، وأرشده إلى حسن الاقتداء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فينبغي للداعية أن يخبر أصحابه وأتباعه بالفوائد التي سئل عنها، ولم يسمعوها على حسب الحاجة والفائدة المرجوة، حتى تعم الفوائد وينتشر العلم (¬1). ثانيا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: إن الأخذ بالأسباب من التوكل ولا ينافيه؛ ولهذا جاء إلى ابن مسعود رضي الله عنه هذا الرجل وقال: " أرأيت مؤديا " أي كامل أداة الحرب، فقد أخذ بالأسباب ¬
الظاهرة؛ لعلمه بأنها من التوكل، ولم ينكر عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ما صنع (¬1). ثالثا: من صفات الداعية: النشاط: لا شك أن النشاط يبعث على الهمم العالية؛ ولهذا جاء هذا الرجل إلى ابن مسعود - وهو نشيط- متأهبا لما يوجِّهه عبد الله رضي الله عنه إليه، وقال: " أرأيت رجلا مؤديا نشيطا " فذكر صفة النشاط لهذا الرجل الخارج في سبيل الله عز وجل، وهذا يؤكد على أهمية النشاط وعدم الكسل والخمول، والله المستعان (¬2). رابعا: من صفات الداعية: الحرص على الدعوة والجهاد: ظهر في هذا الحديث أهمية الحرص على الدعوة والجهاد في سبيل الله عز وجل ولهذا الحرص جاء هذا الرجل يسأل بقوله: " أرأيت رجلا مؤديا نشيطا يخرج مع أمرائنا في المغازي " وهذا يدل على نشاط هذا الخارج واستعداده، وحرصه على الجهاد والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. فينبغي للداعية أن يكون حريصا على دعوة الناس إلى الخير (¬3). خامسا: من صفات الداعية: التيسير على المدعوين: دل هذا الحديث على أنه ينبغي لكل من تولىَّ أمرا من أمور المسلمين أن لا يشق عليهم، ولا يشدد عليهم، ولا يأمرهم بما لا يطيقون؛ ولهذا جاء في هذا الحديث: " فيعزم علينا في أشياء لا نحصيها "، والمعنى أن الأمير يشدد علينا في أشياء لا نطيقها؛ قال الإِمام ابن هبيرة رحمه الله: " يستحب لأمراء الجيش أن لا يكثروا العزمات على المجاهدين، فيعرضوهم لبعض المخالفة، بل ليخففوا عنهم ما استطاعوا، وليشاوروهم في الأمور، ويعرِّفوهم مطالع الأحوال التي عليها تبنى وجوه التدبير للحرب " (¬4). ¬
فينبغي للداعية أن لا يشدد ولا يشق على الناس؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم محذرا عن التشديد على أمته: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به» (¬1) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث من أصحابه في بعض أموره قال: «بشروا ولا تنفروا، ويسرِّوا ولا تعسرِّوا» (¬2). سادسا: من صفات الداعية: الورع والتوقف في الفتوى عند الإشكال: ظهر في هذا الحديث أن من الصفات الحميدة: الورع؛ ولهذا توقف عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه في الإِفتاء عندما أشكل عليه الأمر؛ قال الإِمام ابن هبيرة رحمه الله: " في هذا الحديث ورع ابن مسعود وترفعه عندما لم يعلم " (¬3) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ويستفاد منه التوقف في الإِفتاء فيما أشكل من الأمر، كما لو أن بعض الأجناد استفتى أن السلطان عينه في أمر مخوف بمجرد التشهِّي وكلفه من ذلك ما لا يطيق فإن أجابه بوجوب طاعة الإِمام أشكل الأمر لما وقع من الفساد، وإن أجابه بجواز الامتناع أشكل الأمر؛ لما قد يفضي به ذلك إلى الفتنة، فالصواب التوقف عن الجواب في مثل ذلك وأمثاله، والله الهادي إلى الصواب " (¬4) والله المستعان والموفق (¬5). سابعا: من أساليب الدعوة: التوكيد بالقسم: إن أسلوب التأكيد بالقسم له تأثير بليغ في الدعوة إلى الله عز وجل ولهذا استخدمه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في هذا الأثر فقال للسائل: " والله ما أدري ما أقول لك. . . " وقال في آخر الحديث: " والذي لا إله غيره ما أذكر ما غبر من الدنيا إلا كالثغب. . " والقسم يستخدم عند الحاجة إليه في الدعوة إلى الله ¬
عز وجل؛ لجذب قلوب المدعوين إلى التصديق واليقين (¬1). ثامنا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: إن القدوة الحسنة من أهم وسائل الدعوة إلى الله عز وجل ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه للسائل الذي سأله عن تشديد الأمراء عليه: «والله ما أدري ما أقول لك إلا أنا كنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم فعسى أن لا يعزم علينا في أمر إلا مرة حتى نفعله» وفي هذا إشارة إلى السائل للاقتداء بالصحابة في حسن الطاعة، وفيه إشارة إلى الأمراء للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وعدم مشقته على أصحابه، وإنما كان سمحا سهلا، رفيقا، رحيما (¬2). تاسعا: أهمية طاعة ولاة أمر المسلمين بالمعروف: ظهر في كلام ابن مسعود رضي الله عنه الإِيحاء بطاعة ولي الأمر؛ ولهذا قال العلامة القسطلاني رحمه الله: " الظاهر أن ابن مسعود بعد أن توقف أفتاه بوجوب الطاعة بشرط أن يكون المأمور به موافقا للتقوى كما علِمَ ذلك من قوله: «إنا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فعسى أن لا يعزم علينا في الأمر إلا مرة» إذ لولا صحة الاستثناء لما أوجبه الرسول صلى الله عليه وسلم «حتى نفعله» غاية لقوله: «لا يعزم» أو للعزم الذي يتعلق به المستثنى وهو مرة " (¬3) وقد استنبط طاعة الأمراء في المعروف من كلام ابن مسعود رضي الله عنه الإِمام ابن هبيرة فقال رحمه الله: " ويستحب. . للمجاهدين مع الأمراء إذا عزموا عليهم عزمة أن يقابلوها بالإِمساك، ولا يحوجوهم إلى تكدير (¬4) الأمر بها، ويكون الأمراء، والمأمورون في هذا يعاملون الله عز وجل بذلك " (¬5). وهذا الحديث يدل على طاعة الإمام ومن يستعمله (¬6). ¬
عاشرا: من صفات الداعية: التقوى: دل كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على أن التقوى من الصفات العظيمة التي ينبغي أن يلتزمها كل مسلم، وخاصة الدعاة إلى الله عز وجل؛ ولهذا قال رضي الله عنه: " وإن أحدكم لا يزال بخير ما اتقى الله " وقد أمر الله بالتقوى في آيات كثيرة في كتابه العظيم؛ ومنها قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] (¬1) قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله عز وجل: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر (¬2). وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] (¬3) وقال سبحانه وتعالِى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2 - 3] (¬4) وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الدعاة إلى الله عز وجل بالتقوى فقال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» (¬5) وحقيقة التقوى كما قال طلق بن حبيب رحمه الله: " التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله " (¬6) وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه: من غضبه، وسخطه، وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه، والتقوى الكاملة: فعل الواجبات، وترك المحرمات والشبهات، ¬
وربما دخل فيها بعد ذلك فعل المندوبات وترك المكروهات (¬1). فينبغي للداعية أن يكون من أعظم الناس تقوى لله عز وجل، لأنه أسوة لغيره من الناس، والله المستعان. الحادي عشر: من صفات الداعية: اليقين: من المعلوم يقينا أن من الصفات العظيمة اليقين المنافي للشك وهذا لا يحصل إلا بالعلم النافع؛ ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: " وإذا شك في نفسه شيء سأل رجلا فشفاه منه ". قال الإِمام ابن هبيرة رحمه الله: " وفيه. . . . أن الإنسان إذا شك في شيء لم ينفذ فيه حكما على شك بل يسأل عنه، ويبحث، ويستضيء بنور العلم من أهله إن وجد، وإلا عمل فيه على أصول الشرع وقاس واجتهد " (¬2). وقال ابن حجر رحمه الله: " من تقوى الله أن لا يقدم المرء على ما يشك فيه حتى يسأل من عنده علم فيدله على ما فيه شفاؤه، وقوله: " شك في نفسه شيء " من المقلوب. إذا التقدير: وإذا شك نفسه في شيء، أو ضمن شك معنى: لصق، والمراد بالشيء ما يتردد في جوازه وعدمه " (¬3). فينبغي للداعية أن يتصف باليقين (¬4). الثاني عشر: أهمية السؤال في تحصيل العلم: ظهر في هذا الحديث أهمية السؤال في تحصيل العلم؛ لقول ابن مسعود رضي الله عنه: " وإذا شك في نفسه شيء سأل رجلا فشفاه، وأوشك أن لا تجدوه " وهذا فيه تأكيد على أهمية هذا الأسلوب؛ لأنه يشفي القلوب والنفوس؛ لأن السائل إذا سأل أهل العلم أجابوه، وأزالوا عنه مرض التردد؛ لأنه يحصل على ¬
الإِجابة بالحق، فيضمحل الشك والتردد، ويثبت اليقين (¬1) والله المستعان. (¬2). الثالث عشر: من أساليب الدعوة: التشبيه: لا شك أن هذا الحديث دل على أسلوب التشبيه في قول ابن مسعود رضي الله عنه: " والذي لا إله إلا هو ما أذكر ما غبر من الدنيا إلا كالثغب شرِبَ صفوه وبقي كدره " ومال ابن حجر إلى أن قول: " ما غبر " أي مضى من الدنيا؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " ما أذكر ما غبر " وهو من الأضداد يطلق على ما مضى وعلى ما بقي وهو هنا محتمل للأمرين (¬3) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " فشبه ما مضى من الدنيا بما شرب من صفوه، وما بقي منها بما تأخر من كدره " (¬4) وقال العلامة العيني رحمه الله على الاحتمال الثاني: " شبَّهَ بقاء الدنيا ببقاء غدير ذهب صفوه وبقي كدره " (¬5) والله المستعان. (¬6). الرابع عشر: من صفات الداعية: الزهد: ظهر في قول ابن مسعود رضي الله عنه: أن ما مضى من الدنيا ما هو إلا كماء قليل في نقرة في صخرة، وقد ذهب صفو هذا الماء القليل وبقي كدره، وعلى الاحتمال الثاني: شبه ما بقي من الدنيا ببقاء غدير ذهب صفوه وبقي كدره، وهذا يدل على أنه ينبغي للداعية الزهد فيها والإِكثار من الطاعات؛ ولهذا قال الإِمام ابن هبيرة رحمه الله: " قوله: " ما غبر من الدنيا " أي ما فَنِيَ، والثغب: هو الماء المستنقع في الموضع المطمئن، وإذا كان عبد الله يقول هذا في زمانه فكيف في زماننا؛ إلا أنه لابد من المقاربة والتسديد، والاستعانة بالله عز وجل على عبادته " (¬7) ¬
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وإذا كان هذا في زمان ابن مسعود وقد مات قبل مقتل عثمان، ووجود تلك الفتن العظيمة فماذا يكون اعتقاده فيما جاء بعد ذلك وهلم جرّا؟ " (¬1). فينبغي للداعية أن يزهد في الدنيا، ولا يتخذها وطنا؛ لأنها هينة عند الله عز وجل وقد «دخل النبي صلى الله عليه وسلم السوق يوما فمر بجدي صغير الأذنين ميت فأخذه بأذنه ثم قال للصحابة رضي الله عنهم: " أيكم يحب أن هذا له بدرهَم؟ " قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ قال: " أتحبونه لكم؟ " قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا فيه؛ لأنه أسك (¬2) فكيف وهو ميت؛ فقال: " فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم» (¬3) والله المستعان (¬4). ¬
باب ما قيل في لواء النبي صلى الله عليه وسلم
121 - باب ما قِيل في لِوَاءِ النبي صلى الله عليه وسلم [حديث قيس بن سعد صاحب لواء رسول الله أراد الحج فرجل] 103 - [2974] حَدَّثَنَا سَعِيد بْن أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَيْث قَالَ: أَخْبَرني عقَيْل، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَني ثَعْلَبَة بْن أَبِي مَالِكٍ القرَظِيّ: " أَنَّ قَيْسَ بْنِ سَعْدٍ الأنصَارِيَّ (¬1) رضي الله عنه- وَكَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم- أَرَادَ الحَجَّ فرَجَّلَ ". * شرح غريب الحديث: * " لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللواء: الراية، ولا يمسكها إلا صاحب الجيش، واللواء أو الراية: ثوب يجعل في طرف الرمح، ويخلى كهيئته تصفقه الرياح (¬2). * " فرجل " الترجل والترجيل: تسريح الشعر، وتنظيفه وتحسينه (¬3). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية اللواء والراية للمجاهدين في سبيل الله عز وجل. ¬
2 - من وسائل الدعوة وأسباب النصر: إظهار القوة والنشاط. 3 - من صفات الداعية: النظافة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: أهمية اللواء والراية للمجاهدين في سبيل الله عز وجل: إن اللواء والراية من الأمور المهمة في الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بذلك؛ وقد جاء في هذا الحديث أن قيس بن سعد الأنصاري رضي الله عنه " كان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم ". قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في هذا اللواء: " أي الذي يختص بالخزرج من الأنصار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مغازيه يدفع إلى رأس كل قبيلة لواء يقاتلون تحته " (¬1). وهذا يدل على أهمية اللواء؛ لأن المجاهدين يعرفون قائدهم بهذا اللواء، وينضمون إليه، والله أعلم. ثانيا: من وسائل الدعوة وأسباب النصر: إظهار القوة والنشاط: دل هذا الحديث على أن من وسائل الدعوة إظهار القوة والنشاط؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم اللواء والراية في الحرب، وهذا فيه إظهار للقوة والتعاون بين المجاهدين؛ لأن القائد يعرف بحمل اللواء أو الراية فينضم إليه أصحابه، ويدخل الرعب في قلوب الأعداء بإذن الله عز وجل (¬2). وقد قيل بأن اللواء هو الراية فهما مترادفان، وقيل: اللواء أبيض، وربما جعل فيها الأسود، والراية بيضاء، وربما كانت صفراء (¬3). قال القسطلاني رحمه الله: " والذي صرح به غير واحد من أهل اللغة ترادفهما، ¬
فلعل التفرقة بينهما عرفية، وقد كانت الراية يمسكها رئيس الجيش ثم صارت تحمل على رأسه، وأما العلم فعلامة لمحل الأمير تدور معه حيث دار " (¬1). ثالثا: من صفات الداعية: النظافة: ظهر في هذا الحديث أن النظافة من صفات الداعية؛ ولهذا عندما أراد الحج قيس بن سعد رَجَّل رأسه رضي الله عنه؛ من أجل النظافة والاستعداد للإِحرام؛ قال الإِمام ابن الأثير رحمه الله: " الترجل والترجيل: تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه " (¬2). فينبغي أن يكون الداعية نظيفا منظما لأموره. ¬
حديث ليأخذن غدا رجل يحبه الله ورسوله
[حديث ليأخذن غدا رجل يحبه الله ورسوله] 104 - [2975] حَدَّثَنَا قتَيْبَة: حَدَّثَنَا حَاتِم بْن إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوع (¬1) رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ عَليّ (¬2) رضي الله عنه تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي خَيْبَرَ، وَكَانَ بِهِ رَمَد، فَقَالَ: آَنا أَتَخَلَّف عَنْ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَخَرَجَ عَلِي فَلَحِقَ بالنَبِي صلى الله عليه وسلم. فَلَما كَانَ مَسَاء اللَّيْلَةِ الَّتِي فَتَحَهَا فِي صَبَاحِهَا، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ- أَوْ قَالَ: لَيأخذَنَّ- غَدا رَجل يحِبّه الله وَرَسوله، أَوْ قَالَ: يحِبّ اللهَ وَرَسولَه، يَفتح الله عَلَيْهِ ". فَإِذَا نَحْن بعَلِيٍّ وَمَا نَرْجوه. فَقَالوا: هَذَا عَلِيّ، فَأَعْطَاه رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَفَتَحَ الله عَلَيْهِ». (¬3). * شرح غريب الحديث: * " الراية " الراية هنا: العلم، يقال: ريَّيْت الراية: أي ركزتها (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من أساليب الدعوة: الاستفهام الإِنكاري. 2 - من صفات الداعية: الصبر على البلاء. 3 - من أساليب الدعوة: الثناء على الداعية المخلص ليتأسَّى به. 4 - من صفات الداعية: محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. 5 - أهمية الراية في الجهاد في سبيل الله عز وجل. 6 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث. 7 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بالمغيبات. 8 - من صفات الداعية: الشجاعة (¬5). ¬
حديث هاهنا أمرك النبي أن تركز الراية
[حديث هاهنا أمرك النبي أن تركز الراية] 105 - [2976] حَدَّثَنَا محَمَّد بْن الْعَلاَءِ: حَدَّثَنَا أَبو أسَامَةَ، عَنْ هِشَام بْنِ عرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَافِع بْنِ جبَيْرٍ قَالَ: «سَمِعْت العَبَّاسَ (¬1) يَقول لِلزّبَيْرِ (¬2) رضي الله عنهما: هاهنا أَمرَكَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن تَرْكزَ الراية» (¬3) وفي رواية: حَدَّثَنَا عبَيْد بْن إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا أَبو أسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ قالَ: «لَمَّا سَارَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فَبَلَغَ ذَلِكَ قرَيْشا، خَرَجَ أَبو سفْيَانَ بْن حرْبٍ (¬4) وَحَكِيم بْن حِزَامٍ (¬5) وَبدَيْل بْن وَرْقَاء، يَلْتَمِسونَ الْخَبَرَ عَنْ رَسولِ ¬
الله صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلوا يَسِيرونَ حَتَّى أتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ، فَإِذَا همْ بِنِيرَانٍ كأنهَا نِيرَان عَرَفةَ، فقَالَ أَبو سفْيَانَ: مَا هَذِهِ؟ لَكأَنهَا نِيرَان عَرَفَةَ؟ فَقَالَ بدَيْل بْن وَرْقَاءَ (¬1) نِيرَان بَنِي عَمْرو، فَقَاَلَ أَبو سفْيَانَ: عَمْرو أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ، فَرَآهمْ نَاس مِنْ حَرَسِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَدْرَكوهمْ فَأَخَذوهمْ فَأتوا بهِمْ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمَ أَبو سفْيَانَ، فَلَمَّا سَارَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ: " احْبِسْ أَبَا سفْيَانَ عِنْدَ حطم الْخَيْلِ حَتَّى يَنْظرَ إِلَى الْمسلِمِينَ " فحَبَسَه العباس فَجَعَلَتِ الْقَبَائِل تَمرّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كتِيبَة كَتِيبةَ، عَلَى أَبِي سفْيَانَ فَمَرَّتْ كَتِيبَة فَقَالَ: يَا عَبَّاس مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَذِهِ غِفَار. قَالَ: مَا لِي وَلِغفَارٍ؛ ثمَّ مَرَّتْ جهَيْنَة، قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثمَّ مَرَّتْ سَعْد بن هذَيْمٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَرَّتْ سلَيْم فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى أقْبَلَتْ كَتيبَة لَمْ يَرَ مِثْلَهَا، قالَ مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَؤلاَءِ الأنصَار عَلَيْهِمْ سَعْد بْن عبَادَةَ مَعَه الرَّايَة، فَقَالَ سَعْد بْن عبَادَةَ: يَا أَبَا سفْيَانَ ¬
الْيَوْم يَوْم الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تسْتَحَلّ الْكَعْبَة، فَقَالَ أَبو سفْيَانَ: يَا عَبَّاس حَبَّذا يوْم الذِّمَارِ، ثم جَاءَتْ كَتِيبَة وَهْيَ أَقَلّ الْكَتَائِبِ فِيْهِمْ رَسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصحابه ورَايَة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامٍ، فَلمَّا مَرَّ رَسول الله صلى الله عليه وسلم بِأَبِي سفْيَانَ قال: ألَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْد بْن عبَادَةَ؟ قَال: " مَا قَالَ؟ " قَالَ؛ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: " كَذَبَ سَعْد، وَلَكِنْ هَذَا يَوْم يعَظِّم الله فِيهِ الْكَعْبةَ وَيَوْم تكسَى فِيهِ الْكَعبة " قَالَ: وأَمَرَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ ترْكَزَ رَايَته بِالْحَجونِ. قَالَ عرْوَة: وأَخْبَرني نَافِع بْن جبَيْرِ بْنِ مطْعِمٍ، قَالَ: سَمِعْت الْعَبَّاسَ يَقول لِلزّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ: يَا أَبَا عبد الله هاهنَا أَمَرَكَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ تَرْكز الرَّايَةَ، قَالَ: وَأَمر رَسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ خالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أنْ يَدْخلَ مِنْ أعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، وَدَخَلَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كدى فَقتِل مِنْ خَيْلِ خَالِدٍ يَوْمَئِذٍ رَجلاَنِ: حبَيْش بْن الأَشْعَرِ وَكرْز بْن جَابِرٍ الفِهْرِيّ» (¬1). * شرح غريب الحديث: * " مَرَّ الظهران " ويقال: " مر ظهران " أيضا: بقعة وموضع يبعد عن مكة بريدا، وقيل: أحدا وعشرين ميلا، وقيل ستة عشر ميلا (¬2). * " عند حطم الخيل " الموضع المتضايق الذي تتحطَّم فيه الخيل: أي يدوس بعضها بعضا، ويزحم بعضها بعضا، فيراها جميعها وتكثر في عينه بمرورها في ذلك الموضع الضيق. وفي رواية: " خطم الجبل " وهو أنفه البارز عند مضيق الجبل، حين يحطم بعضها بعضا، ليرى جميعها (¬3). * " يوم الملحمة " الملحمة: الحرب والقتال الذي لا مخلص منه، والجمع الملاحم، مأخوذ من اشتباك الناس واختلاطهم فيها كاشتباك لحمة الثوب بالسدى، وقيل: هو من اللّحم؛ لكثرة لحوم القتلى فيها، ويقال: ألحم ¬
الرجل في الحرب واستلحم: إذا تشبث فيها، فلم يجد مخلصا (¬1) * " يوم الذمار " الذمار: ما لزمك حفظه مما وراءك وتعلق بك، وقول أبي سفيان: " حبذا يوم الذمار " يريد الحرب؛ لأن الإِنسان يقاتل على ما يلزمه حفظه (¬2). * " الكتائب " العساكر المرتبة؛ واحدها كتيبة، وهي القطعة العظيمة من الجيش (¬3). * " كَدَاء " بفتح الكاف والمد: من أعلى مكة التي من سلكها دخل من باب بني شيبة. * " كدى " بضم الكاف والقصر من أسفل مكة (¬4). * " الحجون " الجبل المشرف حذاء مسجد العقبة عند المحصب، عند مقبرة أهل مكة (¬5). * " الراية " اللواء، وقيل: العلم (¬6). * " كذب سعد " أي: أخطأ (¬7). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من وسائل الدعوة: رفع اللواء والراية في الجهاد في سبيل الله عز وجل. 2 - من وسائل الدعوة: الخروج للجهاد في سبيل الله عز وجل. 3 - أهمية الحراسة في الأمور المهمة. 4 - من صفات الداعية: العفو والصفح ومقابلة السيئة بالحسنة. ¬
5 - من وسائل الدعوة وأسباب النصر: إظهار القوة والنشاط أمام الأعداء. 6 - من صفات الداعية: حسن الخلق. 7 - من أصناف المدعوين: المشركون. 8 - من موضوعات الدعوة: تعظيم الكعبة وبيت الله الحرام. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من وسائل الدعوة: رفع اللواء والراية في الجهاد في سبيل الله عز وجل: ظهر في هذا الحديث أن الراية من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها أمير الجيش في القتال؛ ليرفعها فيعرف بها وينضم إليه أصحابه، وفي ذلك إظهار القوة أمام الأعداء؛ ولهذا كانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون، وهذا يؤكد أهمية الراية واللواء في الجهاد (¬1). ثانيا: من وسائل الدعوة: الخروج للجهاد في سبيل الله عز وجل: إن الخروج للجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى لإِعلاء كلمة الله عز وجل من أهم وسائل الدعوة؛ ولهذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكة؛ ليفتحها ويطهِّرها من آثار الشرك؛ ولإِعلاء كلمة الله عز وجل أمر سبحانه بالنفير فقال: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] (¬2). وفي هذا دلالة على عظم هذه الوسيلة ومكانتها في الإِسلام. ثالثا: أهمية الحراسة في الأمور المهمة: إن الحراسة في الأمور المهمة من أعظم المهمات وآكد الوظائف التي ينبغي أن يعتني بها المجاهدون في سبيل الله عز وجل؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بذلك ¬
في حراسة الجيش والمجاهدين أثناء النوم أو الراحة، والصلاة؛ ولهذا شرعت صلاة الخوف، ومن أنواعها أن طائفة تصلي مع الإِمام والطائفة الأخرى وجاه العدو. وفي هذا الحديث أن حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح رأوا أبا سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء " فأدركوهم فأخذوه فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان "، وهذا يدل على أهمية الحراسة وقد أمر الله عز وجل بأخذ الحذر فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71] (¬1). ولأهمية الحراسة فقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم فيها وجعل ثواب من بات يحرس في سبيل الله الجنة والنجاة من النار، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» (¬2). رابعا: من صفات الداعية: العفو والصفح ومقابلة السيئة بالحسنة: ظهر في هذا الحديث أهمية العفو والصفح، وتأثيره في نفوس المدعوين؛ ولهذا عفا صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء فلم يقتلهم، وقد حصل من أبي سفيان رضي الله عنه ما لا يخفى في المعارك الكبرى: بدر، وأحد، وغزوة الأحزاب، ومع ذلك قابله النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو والصفح، وعفا أيضا عن جميع أهل مكة يوم الفتح إلا مجموعة أهدر دمهم لمعاداتهم العظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته ومع ذلك فقد نجا بعضهم وأنقذه الله بالإِسلام فعفا عنهم صلى الله عليه وسلم بعد أن أهدر دماءهم؛ لإِسلامهم، كعكرمة بن أبي جهل، وهبار بن الأسود، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان، وعبد الله بن أبي السرح، وكعب بن زهير، ووحشي بن حرب، وأما غيرهم ممن أهدر دمه ولم يسلم، فقد قتل من عثِر عليه منهم (¬3). ¬
وهذا يدل على عفوه صلى الله عليه وسلم العظيم وصفحه؛ فإن بعض هؤلاء قد أوقع بالمسلمين الوقائع ومَثَّلَ بهم في المعارك، فأدركه الله برحمته ومنَّ عليه بالإِسلام، ثم عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). خامسا: من وسائل الدعوة وأسباب النصر: إظهار القوة والنشاط أمام الأعداء: إن من وسائل الدعوة وأسباب النصر إظهار القوة والنشاط أمام أعداء الإِسلام؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم العباس فقال: «احبس أبا سفيان عند حطم الخيل حتى ينظر إلى المسلمين» فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان كتيبة كتيبة، حتى استعظم ذلك أبو سفيان ورأى كثرتهم العظيمة، ومن حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أن أمر بحبسه عند المكان المتضايق الذي تتحطم فيه الخيل ويدوس بعضها بعضا، ويزحم بعضها بعضا، فيراها أبو سفيان جميعا؛ لتكثر في عينه بمرورها في ذلك الموضع الضيق (¬2). وهذا العمل المبارك من أعظم وسائل الدعوة، ومن أسباب النصر؛ لما يحدث في قلوب الأعداء من الخوف والجزع؛ ولهذا قال الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] (¬3). سادسا: من صفات الداعية: حسن الخلق: لا ريب أن حسن الخلق من الصفات العظيمة التي ينبغي لأهل العلم والإِيمان الاتصاف بها؛ ولهذا كان قدوة الدعاة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا. وفي هذا الحديث ما يؤكد ذلك، وذلك أن سعد بن عبادة رضي الله عنه عندما مر بأبي سفيان قال: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فأفزع ذلك أبا سفيان فانتظر، وعندما مر النبي صلى الله عليه وسلم وكتيبته قال أبو سفيان: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: " ما قال؟ " قال: قال: كذا وكذا فقال رسول الله ¬
صلى الله عليه وسلم: " كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة ". وهذا يدل على حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه لبيت الله الحرام، ونسبته التعظيم لله عز وجل بقوله: " هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة " (¬1) وهذا يؤكد أدبه صلى الله عليه وسلم مع ربه عز وجل. سابعا: من أصناف المدعوين: المشركون: دل هذا الحديث على أن المشركين من أصناف المدعوين؛ ولهذا غزاهم النبي يوم الفتح، بعد أن قاتلهم في بدر وأحد، وغزوة الأحزاب، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم قد بلَّغهم قبل هذه المعارك والغزوات ما يجب عليهم من إفراد الله عز وجل بالعبادة وحده لا شريك له، ولكنهم أبوا واستكبروا وعتو عتوا كبيرا، فكان آخر الطب الكي (¬2). ثامنا: من موضوعات الدعوة: تعظيم الكعبة وبيت الله الحرام: ظهر في هذا الحديث أهمية إبلاغ الناس بعظم بيت الله العتيق؛ لأن الله عز وجل عظمه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «هذا يوم يعظم الله الكعبة، وتكسى فيه الكعبة»؛ ولعظم حرمة الكعبة قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57] (¬3) وقال سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67] (¬4). ومن تعظيم الله الكعبة أن طهرها من أوثان الجاهلية، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] (¬5) {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]» (¬6). ¬
ومن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لبيت الله الحرام أنه دخله من أعلاه؛ لأنه يأتي من قبل وجه الكعبة، أما ما جاء في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم " أمر خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كَدَاءٍ، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كدى " فقال الحافظ ابن حجر رحمه الله عن هذا: " وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة الآتية أن خالدا دخل من أسفل مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها " (¬1) وقد جاءت الأحاديث الكثيرة تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح من أعلاها، فعن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح من كداء التي بأعلى مكة» (¬2). ومن حرمة مكة ما قاله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا، فإن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه (¬3) ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها (¬4) "، وقال العباس إلا الإِذخر (¬5) فإنه لقينهم (¬6) وبيوتهم، فقال: " إلا الإِذخر» (¬7). فينبغي العناية بحرمة مكة وتعظيمها، وتنبيه الناس إلى ذلك وحثهم عليه. ¬
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر»
122 - باب قوْل النّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «نصرت بِالرّعبِ مَسيرة شهْر» وقَولِهِ عز وجل: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} [آل عمران: 151] (¬1). قَالَه جَابِر عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم. [حديث بعثت بجوامع الكلم ونصرت بالرعب] 106 - [2977] حَدَّثَنَا يَحْيى بْن بكَيْرٍ: حَدَّثَنَا اللَّيث، عَنْ عقَيْلٍ، عَن ابنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هرَيْرَة (¬2) رضي الله عنه أَنَّ رَسولَ اللهِ قَالَ: «بعِثْت بِجَوَامِعِ الكَلِم، وَنصِرْت بِالرعْبِ. فبينا أَنَا نَائم أوتيت مَفَاتِيحَ خزَائِنِ الأَرْضِ فَوضِعتْ فِي يَدي». قَالَ أَبو هرَيرَةَ: وَقد ذَهَبَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وأنتمْ تنتثلونها (¬3). وفي رواية: «أعْطِيت مَفَاتِيحَ الْكَلمِ، وَنصرت بِالرعْبِ، وَبينا أَنَا نَائِم البارِحَةَ إِذْ أتِيت بِمَفاتيحَ خَزَائِنِ الأرْضِ حتَّى وضِعَتْ فِي يَدِي»، قَالَ أَبو هرَيْرَةَ: فذَهَبَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأَنتمْ تَنْتَقِلونَهَا (¬4). وفي رواية: " وأَنتمْ تَلْغَثونَهَا، أَوْ تَرْغَثونَهَا، أوْ كَلِمة تشْبِههَا " (¬5). وفي رواية: " قَالَ أَبو عبد الله: وَبَلَغَنِي أَنَّ جَوامِعَ الْكَلِم أَنَّ اللهَ يَجْمَع الأمورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي كَانَتْ تكْتَب فِي الْكتبِ قَبْلَه فِي الأَمْرِ الْوَاحِدِ وَالأَمْرَيْنِ، أو نَحْوَ ذَلِكَ ". (¬6). * شرح غريب الحديث: * " تنتثلونها " أي تستخرجون وتأخذون الأموال وما فتح عليكم من زهرة الدنيا (¬7). ¬
* " تلغثونها " أي تأكلونها من اللغيث: وهو طعام يغلث بالشعير: أي يخلط بالشعير (¬1). * " ترغثونها " يعني الدنيا: ترضعونها، من رغث الجدي أمَه: إذا رَضَعَها (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: بيان خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. 2 - من صفات الداعية: الإِيجاز في اللفظ واتساع المعاني. 3 - من موضوعات الدعوة: الحث على حسن التفهم لمعاني جوامع الكلم. 4 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بالمغيبات. 5 - من صفات الداعية: التحدث بنعم الله عز وجل وتعديدها. 6 - أهمية إلقاء العلم قبل السؤال. 7 - من أساليب الدعوة: التشبيه. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: بيان خصائص النبي صلى الله عليه وسلم: إن من الموضوعات المهمة التي ينبغي أن يبينها الدعاة للناس خصائص النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه الخصائص تدل على يسْرِ دين الإِسلام وسماحته وتفضيله على سائر الأديان السابقة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: " بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، فبينا أنا نائم أوتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي " وهذا يؤكد ما أعطاه الله عز وجل من الخصائص العظيمة؛ فإن القرآن الكريم جمع الله سبحانه وتعالى في الألفاظ اليسيرة منه المعاني الكثيرة، وكلامه صلى الله عليه وسلم كان بجوامع الكلم: قليل اللفظ كثير المعاني والأحكام والفوائد النافعة (¬3) ونصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالرعب، فجعل في قلوب أعدائه الفزع والخوف والهيبة ¬
على بعد مسيرة شهر بينه وبينهم (¬1) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وظهر لي أن الحكمة في الاقتصار على الشهر أنه لم يكن بينه وبين الممالك الكبار التي حوله أكثر من ذلك: الشام والعراق، واليمن، ومصر، ليس بين المدينة النبوية للواحدة منها إلا شهر فما دونه " (¬2) وهذا تحقق له صلى الله عليه وسلم، وأعطي صلى الله عليه وسلم مفاتيح خزائن الأرض، التي هي مفاتيح لأمته من بعده من الفتوح العظيمة، فغنموا أموال أعدائهم، وأخذوا خزائن ملوكهم المدخرة: كخزائن كسرى وقيصر، وغيرهما من الملوك، ويحتمل أن يكون المراد به معادن الأرض: من الذهب والفضة (¬3) وقد يدخل في هذا ما وجد من خزائن النفط في باطن الأرض والله عز وجل أعلم. وخصائص النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة منها ما جاء في حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان الرجل يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» (¬4). وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة». . . " (¬5) وذكر خصلة الأرض، وخصلة مبهمة بينها ابن خزيمة في صحيحه، وهي: «وأوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة، من بيت كنز تحت العرش لم يعط منه أحد قبلي». . . " (¬6) وفي رواية لأبي هريرة عند مسلم: «فضلت على الأنبياء بست» ذكر منها: ". . . «وختِمَ بي النبيّون» (¬7) وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله خصائص النبي صلى الله عليه وسلم فيما اطلع عليه ¬
من الروايات ثم قال: " فينتظم بهذا سبع عشرة خصلة ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع " (¬1). قال ابن حجر رحمه الله في الجمع بين هذه الخصائص: " وطريق الجمع أن يقال: لعله اطلع أولا على بعض ما اختص به ثم اطلع على الباقي، ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يدفع هذا الإِشكال من أصله " (¬2). قال الإِمام القرطبي رحمه الله: " لا يظنّ القاصد أن هذا تعارض، وإنما يظن هذا من توهم أن ذكر الأعداد يدل على الحصر، وأنها لها دليل خطاب، وكل ذلك باطل؛ فإن القائل عندي خمسة دنانير- مثلا- لا يدل هذا اللفظ على أنه ليس عنده غيرها، ويجوز له أن يقول تارة أخرى: عندي عشرون، وتارة أخرى: عندي ثلاثون، فإن من عنده ثلاثون صدق عليه أن عنده عشرين، وعشرة، فلا تناقض ولا تعارض. ويجوز أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم أعلم في وقت بالثلاث، وفي وقت بالخمس، وفي وقت بالست، والله أعلم " (¬3). فينبغي للداعية أن يعلم خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة، ثم ينشرها بين الناس. ثانيا: من صفات الداعية: الإيجاز في اللفظ واتساع المعاني: إن من الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها الإِيجاز في الألفاظ والاتساع في المعاني؛ لأن من درب عقله ولسانه على اختيار الألفاظ المشتملة على المعاني الكثيرة تعوَّد على ذلك ونفع الناس؛ ولهذا أعطي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم؛ وقد جمع كثير من علماء الإِسلام بعض الأحاديث قليلة الألفاظ كثيرة المعاني والأحكام والفوائد (¬4). ¬
فينبغي للداعية أن يحفظ هذه الأحاديث، أو ما تيسر منها، ويعتني بشروحها مع العناية التامة بكتاب الله عز وجل؛ لأنه في الحقيقة قليل الألفاظ كثير المعاني والفوائد والأحكام؛ قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: " فجوامع الكلم التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم نوعان: أحدهما: ما هو في القرآن، كقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] (¬1). الثاني: ما هو في كلامه صلى الله عليه وسلم، وهو منشور موجود في السنن المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم " (¬2). ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحث على حسن التفهم لمعاني جوامع الكلم: إن من أهم الموضوعات في الدعوة إلى الله عز وجل أن يحث الداعية المدعوين على الفهم الدقيق لمعاني جوامع الكلم " لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت بجوامع الكلم» وهذا يؤكد أهمية العناية التامة بفهم كتاب الله عز وجل وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ قال الإِمام الخطابي عند ذكره لبعض فوائد هذا الحديث: " وفيه الحض على حسن التفهم، والحث على الاستنباط لاستخراج تلك المعاني، ونبش تلك الدفائن المودعة فيها " (¬3) والله عز وجل لم ينزل القرآن الكريم إلا للتدبر والتفهم والعمل؛ قال سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] (¬4). رابعا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بالمغيبات: لا ريب أن من المعجزات الباهرة ما أعلم الله به نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ومن هذه الأمور قوله ¬
صلى الله عليه وسلم: «أوتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي» قال الإِمام النووي رحمه الله: " هذا من أعلام نبوته؛ فإنه إخبار بفتح هذه البلاد لأمته، ووقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم، ولله الحمد والمنة " (¬1). وهذا من دلائل صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، وأنه عبد الله ورسوله (¬2). خامسا: من صفات الداعية: التحدث بنعم الله عز وجل وتعديدها: ظهر في هذا الحديث أن التحدث بنعم الله عز وجل من أجمل الصفات، التي ينبغي للداعية أن يأخذ منها بأوفر الحظ والنصيب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بعثت بجوامع الكلم». . . " وذكر صلى الله عليه وسلم كثيرا من خصائصه؛ لبيان فضل الله عليه وإحسانه؛ ولبيان ما أمره الله بتبليغه من خصائصه، والتحدث بنعم الله عز وجل، وقد قال سبحانه: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] (¬3). فينبغي للداعية أن يشكر الله على نعمه، وأن يتحدث بها، وينسبها إلى الله، ولا شك أنه لن يستطيع حصرها كما قال عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] (¬4) ولكن ينبغي التسديد والمقاربة، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدم: مشروعية تعديد نعم الله " (¬5) والله المستعان (¬6). سادسا: أهمية إلقاء العلم قبل السؤال: دل هذا الحديث على أنه ينبغي للداعية ومعلم الناس الخير أن يبدأهم بالتعليم والتوجيه، ولا ينتظر حتى يسأَل؛ فإن كثيرا من الناس لا يهتمون بالسؤال عن ¬
العلم؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ كثيرا بإلقاء العلم على الناس ونشره بينهم، ولو لم يسألوا؛ وقد بدأهم بقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: " أعطيت مفاتيح الكلم ونصرت بالرعب. . . " (¬1). سابعا: من أساليب الدعوة: التشبيه: إن التشبيه من أساليب الدعوة التي ينبغي استخدامها عند الحاجة في تعليم الناس الخير، وقد ظهر هذا الأسلوب في هذا الحديث قال صلى الله عليه وسلم؛ «أوتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي» وقال في رواية الحديث الأخرى: «أعطيت مفاتيح الكلم». قال الإِمام الكرماني رحمه الله: " أي لفظ قليل يفيد معاني كثيرة، وهذا غاية البلاغة، وشبه ذلك القليل بمفاتيح الخزائن التي هي آلة للوصول إلى مخزونات متكاثرة ". (¬2). فينبغي العناية بهذا الأسلوب عند الحاجة إليه (¬3). ¬
باب حمل الزاد في الغزو
123 - باب حمل الزّاد في الغزْو وقولِ الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] (¬1). [حديث أسماء صنعت سفرة رسول الله في بيت أبي بكر حين أراد أن يهاجر] 107 - [2979] حَدَّثَنَا عبَيْد بْن إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبو أسَامَةَ، عَنْ هشام قَالَ: أَخْبَرَني أَبِي: - وَحَدَّثَتْنِي أَيْضا فَاطِمَة - عَنْ أَسْمَاءَ (¬2) رضي الله عنها قَالَتْ: " صَنَعْت سفْرةَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ أَرَادَ أَنْ يهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَة. قَالَتْ: فَلَمْ نَجِدْ لِسفْرَتِهِ وَلاَ لِسِقَائِهِ مَا نَرْبِطهمَا بِهِ، فَقلْت لأَبِي بَكْرٍ: وَاللهِ مَا أجِد شَيْئا أَرْبِط بِهِ إِلاَّ نِطَاقِي. قَالَ: فَشقِّيهِ بِاثْنَيْنِ فَارْبِطِيهِ: بِوَاحِدٍ السِّقَاءَ، وبِالَآخَرِ السّفْرَةَ، فَفَعَلَتْ، فلذَلِكَ سمِّيت ذاتَ النِّطاقَين " (¬3). وفي رواية: " عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: " كَانَ أَهْل الشَّامِ يعَيِّرونَ ابْنَ الزّبَيْرِ يَقولونَ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ فَقَالَتْ لَه أَسْمَاء: ¬
يَا بنَيَّ إِنَّهم يعَيِّرونَكَ بِالنِّطَاقَيْنِ، وَهَلْ تَدْري مَا كَانَ النِّطَاقَانِ؟ إِنَّمَا كَانَ نِطَاقِي شَقَقْته نِصْفيْنِ، فَأَوْكَيْت قِرْبةَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِأَحَدِهِمَا، وَجَعَلْت فِي سفْرَتِهِ آخَرَ. قَالَ: فَكَانَ أَهْل الشَّام إِذَا عَيّروه بِالنِّطَاقَيْنِ يَقول: إِيها وَالإِلَه " تِلْكَ شَكَاة ظَاهِر عَنْكَ عَارهَا " (¬1). * شرح غريب الحديث: * " السفرة " طعام يتخذه المسافر، وأكثر ما يحمل في جلد مستدير، فنقل اسم الطعام إلى الجلد وسمّي به (¬2). * " نطاقي " نطاق: جمعه مناطق. وهو أن تلبس المرأة ثوبها، ثم تشدّ وسَطَها بشيء: بحبل أو نحوه، وترفع وسط ثوبها، وتنزله على الأسفل عند معاناة الأشغال؛ لئلا تعثر في ذيلها، وبه سميت أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين (¬3). * " فأوكيت " الوِكاء: الخيط الذي تشدّ به الصرة، والكيس، وفم القربة، ونحو ذلك (¬4). * " إيها والإِله ": " إيهِ " هذه كلمة يراد بها الاستزادة وهي مبنية على الكسر فإذا وَصَلْتَ نَوَّنْتَ فقلت: " إيهٍ حدثنا " وإذا قلت: إيها بالنصب فإنما تأمره بالسكوت. ومنه حديث ابن الزبير: " إيها والإِله " أي صدقتَ ورضيت بذلك، وَيرْوى " إيهِ " بالكسر: أي زدني من هذه المنقبة (¬5). * " شكاة " تلك شكاة ظاهر عنك عارها: الشكاة الذم والعيب، وهي في غير هذا المرض (¬6). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحض على إعانة العلماء والدعاة والشد من أزرهم. 2 - من صفات الداعية: النشاط: 3 - الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل. 4 - من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والأذى. 5 - من صفات الداعية: الاعتزاز بطاعة الله عز وجل. 6 - أهمية أدب المدعو مع الدعاة والعلماء. 7 - جهود نساء الصحابة رضي الله عنهن في الجهاد والدعوة. 8 - من تاريخ الدعوة: ذكر الهجرة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحض على إعانة العلماء والدعاة والشد من أزرهم: ظهر في هذا الحديث أن الحث على إعانة العلماء والدعاة من أهم موضوعات الدعوة التي ينبغي للدعاة حث الناس عليها؛ لأن العالم أو الداعية إذا لم يجد التعاون من قبل المدعوين لا يستطيع في الغالب أن يؤدي دعوته على الوجه الأكمل؛ ولهذا أعانت أسماء رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم ورفيقه، بالقيام بتجهيز أهبة السفر من الطعام والقربة وشدت السفرة بنصف نطاقها، وأوكت القربة بالنصف الآخر، رضي الله عنها. وهذا العمل فيه حث على إعانة العلماء والدعاة، والله المستعان (¬1). ثانيا: من صفات الداعية: النشاط: ظهر في هذا الحديث أن النشاط مهم في حياة الداعية إلى الله عز وجل؛ ولهذا اتخذت أسماء رضي الله عنها نطاقا تشد به وسطها أثناء العمل، لئلا تعثر في ذيل ثوبها أثناء أعمالها الشاقة (¬2). ¬
فينبغي للداعية أن يكون نشيطا كيسا. (¬1). ثالثا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: دل هذا الحديث على أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل؛ لأن التوكل يقوم على اعتماد القلب على الله مع العمل بالأسباب؛ ولهذا أمر أبو بكر رضي الله عنه أسماء أن تشق نطاقها نصفين، وتشد به السفرة، والقربة، وهذا من العمل بالأسباب وأخذ أهبة السفر: من الزاد والمتاع (¬2). وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " السفر بدون زاد يسبب الهلكة، فيجب الاستعداد للسفر " (¬3) وهذا يؤكد الأخذ بالأسباب مع اعتماد القلب على الله عز وجل (¬4). رابعا: من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والأذى: دل هذا الحديث على أنه ينبغي للداعية أن يصبر على الابتلاء والأذى، وذلك من وجهين: 1 - صبر الصحابة رضي الله عنهم على قلة ما في اليد من المال؛ ولشدة ذلك لم تجد أسماء ما تربط به سفرة النبي صلى الله عليه وسلم وسقاءه عندما أراد الهجرة هو وأبو بكر رضي الله عنه قالت رضي الله عنها: " والله ما أجد شيئا أربط به إلا نطاقي " فقال أبو بكر رضي الله عنه: " فشقيه باثنين فاربطيه: بواحد السقاء، وبالآخر السفرة " ففعلت رضي الله عنها. 2 - صبر عبد الله بن الزبير رضي الله عنه على ما ناله من الأذى من أهل الشام بقولهم له؛ " يا ابن ذات النطاقين " يعيرونه بذلك فصبر على أذاهم (¬5). ¬
فينبغي للداعية أن يصبر على الابتلاء والأذى، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة (¬1). خامسا: من صفات الداعية: الاعتزاز بطاعة الله عز وجل: دل فعل عبد الله بن الزبير وقوله رضي الله عنه على اعتزازه وسروره بطاعة الله عز وجل، وذلك أن أهل الشام كانوا يعيِّرونه بقولهم: " يا ابن ذات النطاقين " فقالت له أسماء: " يا بني إنهم يعيرونك بالنطاقين. وهل تدري ما كان النطاقان؟ إنما كان نطاقي شققته نصفين فأوكيت قربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحدهما، وجعلت في سفرته آخر " فكان أهل الشام إذا عيروه بالنطاقين يقول: " إيها والإِله تلك شكاة ظاهر عنك عارها ". وهذا يبين اعتزازه رضي الله عنه بذلك؛ لأن خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهيزه في سفره من أعظم الطاعات، وأعلى القربات؛ ولهذا استزادهم من قولهم كما قال ذلك الحافظ ابن حجر (¬2) رحمه الله فإن كلمة " إيهِ " يراد بها الاستزادة، وأما كلمة: " إيها " فهي أمر بالسكوت وقطع الكلام. وذكر ابن حجر رحمه الله أن بعض علماء اللغة حَرَّروا، أن كلمة " إيها " بالتنوين للاستزادة، وبغير التنوين " إيها " لقطع الكلام، فصار معنى " إيها " مثل " إيهِ " للاستزادة (¬3) وهذا مقصود عبد الله بن الزبير؛ لأنه رغب في الاستزادة؛ لشرف خدمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد مدح الله المعتزين بدينهم الإِسلام فقال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] (¬4) فقوله: {إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] فيه اعتزاز وفخر بالإِسلام. سادسا: أهمية أدب المدعو مع الدعاة والعلماء: ظهر في هذا الحديث أن أهل الشام أساءوا الأدب مع عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وعيَّروه بعمل أمه المبارك في خدمة رسول الله ذ وتجهيزه للهجرة؛ ولهذا قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: " تلك شكاة ظاهر عنك عارها " والشكاة: " رفع ¬
الصوت بالقول القبيح " (¬1) فينبغي للمدعو أن يلتزم الأدب مع الدعاة والعلماء، حتى يحصل على الثواب من الله عز وجل، ويستفيد من علمهم، والله المستعان (¬2). سابعا: جهود نساء الصحابة رضي الله عنهن في الجهاد والدعوة: إن الناظر والمتأمل في حياة الصحابيات رضي الله عنهن يجد أنهن يبذلن الجهود العظيمة في الجهاد والدعوة، وخدمة المجاهدين، ومن ذلك ما فعلته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها من تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإعداد ما يحتاجه في سفره، وفي هجرته إلى المدينة، وهكذا الصحابيات غيرها اللواتي شاركن في الجهاد بخدمة المجاهدين، وعلاج المرضى والجرحى مع التزامهن بأمور الشرع وآدابه. رضي الله عنهن. (¬3). ثامنا: من تاريخ الدعوة: ذكر الهجرة: ظهر في هذا الحديث أن من تاريخ الدعوة ذكر الهجرة؛ لقول أسماء رضي الله عنها في هذا الحديث: " صنعت سفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر حين أراد أن يهاجر إلى المدينة "، وقد كانت تلك الهجرة بعد البعثة بثلاث عشرة سنة أمضاها النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى كلمة الإِخلاص، والترغيب والترهيب، ثم هاجر إلى المدينة صلى الله عليه وسلم (¬4). ¬
باب الردف على الحمار
127 - باب الرّدف على الحمَارِ [حديث ركب النبي على حمار على إكاف عليه قطيفة وأردف أسامة وراءه] 108 - [2987] حَدَّثَنَا قتَيْبَة: حَدَّثَنَا أَبو صفْوانَ، عَنْ يونسَ بْنِ يَزيدَ، عنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عرْوَةَ عَنْ أسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ (¬1) رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ركِبَ علَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَيْهِ قَطِيفَة، وأَرْدَفَ أسَامَةَ وَرَاءَه» (¬2). وفي رواية: «أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ قَطِيفَة فَدَكِيَّة، وأسَامَة ورَاءَه يَعود سَعْدَ بْنَ عبَادَةَ فِي بَنِي حَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَة بَدْرٍ، فَسَارَا حَتَّى مرَّا بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْد اللهِ بْن أبَيٍّ ابْن سَلولَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يسْلِمَ عَبْد الله بْن أبَيٍّ فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلاَط مِنَ الْمسْلِمِينَ، وَالْمشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيهودِ، وَفِي المسلمينَ عَبْد الله بْن رَوَاحَة (¬3) فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَة الدَّابَّة، ¬
خَمَّرَ ابْن أبَي أَنفَه بِرِدَائِهِ وَقَالَ: لَا تغَبِّروا عَلَيْنَا، فَسَلَّمَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِم ثمَّ وَقَفَ، فنَزَلَ فَدَعَاهمْ إِلَى اللهِ وَقَرَأَ عَلَيْهم الْقرْآنَ فَقَالَ لَه عَبْد اللهِ بْن أبَي ابْن سَلولَ (¬1) أَيّهَا الْمَرْء لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقول إِنْ كَانَ حَقّا فَلاَ تؤذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصصْ عَلَيهِ، قَالَ عَبْد الله بْن رَوَاحَةَ: بَلَى يَا رَسولَ الله فاغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا، فَإنَا نحِبّ ذَلِكَ فَاسْتَبَّ الْمسْلِمونَ وَالْمشْرِكونَ وَالْيَهود، حَتَّى كَادوا يَتَثاوَرونَ، فَلَمْ يَزَلْ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يخَفِّضهمْ حَتَّى سَكَتوا، ثمَّ رَكِبَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم دابَّتَه فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عبَادَةَ (¬2) فَقَال رَسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَيْ سَعْد أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبو حبَابٍ "؟ يريد عَبْدَ اللهِ بْنَ أبَيٍّ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ سَعْد ¬
ابْن عبَادَةَ: أَيْ رَسولَ الله بِأَبِي أنتَ اعْف عَنْه وَاصْفَحْ، فَوَالَّذِي أنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ الله بِالْحَقِّ الَّذِي أنزِلَ عَلَيكَ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْل هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يتَوِّجوه وَيعصبوه بِالْعِصَابَة، فَلَمَّا رَدَّ الله ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شرِق بذَلِكَ فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ فَعَفَا عَنْه رَسول الله صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابه يَعْفونَ عَنِ الْمشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا أَمَرَهم الله وَيَصْبِرونَ علَى الأذى قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186] (¬1) الآية، وَقَالَ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109] (¬2) فَكَانَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَأَوَّل فِي الْعَفْوِ عَنْهمْ مَا أَمَرَه الله بِهِ حَتَّى أَذِنَ لَه فِيهِمْ، فَلَمَّا غَزَا رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بَدْرا فَقَتَلَ الله بِهَا مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ الْكفَّارِ وَسَادَةِ قرَيْشٍ، فَقَفَلَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه مَنْصورِينَ غَانِمينَ مَعَهمْ أسَارى مِنْ صَنَادِيدِ الْكفَّارِ وَسَادَةِ قرَيْشٍ قَالَ ابْن أبَيٍّ ابْن سَلولَ وَمَنْ مَعَه مِنَ الْمشْرِكِينَ عَبَدَة الأَوْثَانِ: هَذَا أَمْر قَدْ تَوَجَّه، فَبَايَعوا رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الإِسْلاَمِ فَأَسْلَموا» (¬3). وفي رواية: «فَقَالَ لَه عَبْد اللهِ بْن أبَيٍّ: يَا أَيّهَا الْمَرء إِنَّه لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقول إن كَانَ حَقا فَلاَ تؤذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا وارْجِعْ إلَى رَحْلِكَ. .». (¬4). * شرح غريب الحديث: * " إكاف " الإكاف للحمار كالقتب للجمل، والرحل للناقة، والسرج للفرس، وجمع الإِكاف: أكف، وأكفت الحمار: أي وضعت عليه إكافه (¬5). * " قطيفة " القطيفة: كساء له خمل (¬6). ¬
* " عجاجة الدابة " العجاج: الغبار (¬1). * " خَمَّر أنفه بردائه " أي غطَّى، والتخمير التغطية (¬2). * " فاغشنا في مجالسنا " يقال: غشيه يغشاه غِشيانا: إذا جاءه (¬3). * " يتثاورون " يثور بعضهم على بعضٍ بقتال أو مشاجرة، ويقال: ثار يثور ثورا: أي قام بسرعة وانزعاج. (¬4). * " يخفِّضهم " يسَكِّنهمْ (¬5). * " البحرة " البلدة، وتصغيرها بحيرة، ويقال: هذه بحيرتنا: أي بلدتنا (¬6). * " يعصبوه بالعصابة " العصابة ما يعصب بها الرأس: أي يشد بها لرئاسة أو مرض (¬7). * " شرِق بذلك " يقال: شَرق بالماء يشرق، شَرَقا: إذا غص به، شبه ما أصابه من فوات الرِّيَاسة بالغصص (¬8). * " صناديد قريش " الصناديد الأشراف وأكابر الناس (¬9). * " قفل " رجع والقفول: الرجوع من السفر (¬10). * " هذا أمر قد توجه " أي قد استمر فلا طمع في إزالته وتغييره (¬11). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها. 1 - من موضوعات الدعوة: الحض على مكارم الأخلاق. ¬
2 - من صفات الداعية: التواضع. 3 - من وسائل الدعوة: الزيارة والعيادة. 4 - من آداب الداعية: إفشاء السلام. 5 - من صفات الداعية: الحلم. 6 - أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة. 7 - من أعظم أساليب الدعوة: التذكير بالقرآن والسنة في المجامع المشتركة وغيرها. 8 - من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والأذى. 9 - من وظائف الداعية: إطفاء نار الفتن. 10 - من أصناف المدعوين: المشركون. 11 - من أصناف المدعوين: اليهود. 12 - من أصناف المدعوين: المسلمون. 13 - من صفات الداعية: العناية الدائمة بالدعوة إلى الله عز وجل. 14 - أهمية استشارة الداعية لأصحابه. 15 - من وظائف المدعو: الدفاع عن العلماء والدعاة المخلصين. 16 - من صفات الداعية: العفو والصفح. 17 - من أساليب الدعوة: التأليف بالنداء بالكنى. 18 - من أسباب إعراض المدعوين: الحسد وحب الرياسة والجاه. 19 - من وسائل الدعوة: استخدام القوة عند الحاجة. 20 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 21 - إخفاء المنافقين نفاقهم دليل على قوة المسلمين. 22 - من أساليب الدعوة: التشبيه. 23 - من ميادين الدعوة المجالس العامة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحض على مكارم الأخلاق: دل هذا الحديث على أن مكارم الأخلاق من موضوعات الدعوة؛ لأن
النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس بفعله في هذا الحديث إلى التواضع، والحلم، والصبر، وتحمل الأذى، وإفشاء السلام، وإطفاء الفتن، والعفو والصفح، والحرص على الدعوة إلى الله عز وجل (¬1) وهذا يؤكد على الدعاة إلى الله رحمه الله العناية بتعليم الناس وحضهم على مكارم الأخلاق؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (¬2) وقد دعا الناس إلى هذه المكارم بقوله وفعله صلى الله عليه وسلم (¬3). ثانيا: من صفات الداعية: التواضع: دل هذا الحديث على صفة التواضع من عدة وجوه: ركوب النبي صلى الله عليه وسلم الحمار، وركوبه على قطيفة، وإردافه الغلام، وزيارته صلى الله عليه وسلم لسعد بن عبادة؛ فإن زيارة الكبير للصغير من التواضع (¬4). فينبغي للداعية أن يكون متواضعا اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم (¬5). ثالثا: من وسائل الدعوة: الزيارة والعيادة: إن من وسائل الدعوة المؤثرة في حياة المدعو: الزيارة وعيادة المرضى، وقد دلَّ فعل النبي صلى الله عليه وسلم بزيارته لسعد بن عبادة في هذا الحديث على ذلك؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " فيه عيادة الكبير بعض أتباعه في داره " (¬6). فينبغي للداعية أن يعتني بهذه الوسيلة عناية خاصة؛ ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل الزيارة في الله عز وجل وعيادة المرضى، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «جاء أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: يعود الحسن بن علي رضي الله عنهما، فقال له عليّ رضي الله عنه: أجئت عائدا أم شامتا؟ فقال: بل جئت عائدا، فقال علي: إن جئت عائدا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أتى أخاه المسلم عائدا مشى في خرافة ¬
الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح» (¬1) وعن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع» «وفي رواية؛ قيل: يا رسول الله، وما خرفة الجنة؟ قال: جناها» (¬2). والزيارة في الله عز وجل- ولو لم يكن المسلم مريضا- من وسائل الدعوة ومن أعظم القربات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله. (¬3) له على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال؛ هل لك عليه من نِعْمَة تَربهّا (¬4)؟ قال: لا غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبَّك كما أحببته فيه» (¬5) وعنه صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي (¬6) اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» (¬7). فينبغي للداعية أن يعتني بزيارة المدعوين وخاصة الأحبة في الله عز وجل، ويعتني بزيارة المرضى؛ فإن لذلك الأثر العظيم في نفوسهم، والثواب الجزيل عند الله عز وجل؛ ولهذا وجبت محبة الله عز وجل للمتحابين فيه، والمتزاورين فيه، والمتباذلين فيه، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، ¬
والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ» (¬1) وعن معاذ رضي الله عنه أيضا، قال؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل؛ المتحابّون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء» (¬2). رابعا: من آداب الداعية: إفشاء السلام: إن من الآداب الإِسلامية إفشاء السلام على كل مسلم، ولو كان معه غيره؛ ولهذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين، والمشركين، واليهود كما في حديث أسامة هذا؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " يؤخذ منه جواز السلام على المسلمين إذا كان معهم كفار، وينوي حينئذٍ بالسلام المسلمين " (¬3) وقال الإِمام النووي رحمه الله: " وفيه جواز الابتداء بالسلام على قوم فيهم مسلمون وكفار وهذا مجمع عليه " (¬4). فينبغي للداعية أن يعتني بإفشاء السلام، ولهذا أجاب صلى الله عليه وسلم رجلا سأله: «أي الإِسلام خير؟ قال؛ " تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» (¬5) وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؛ أفشوا السلام بينكم» (¬6) وقال عمار بن ياسر رضي الله عنه: " ثلاث من جمعهن فقد جمع الإِيمان: الإِنصاف من نفسك، وبذل السلام لِلْعَالَم، والإِنفاق من الإِقتار " (¬7) وهذا كله يبين أهمية السلام ¬
وأنه من أعظم الآداب التي ينبغي للداعية أن يتخلق بها (¬1). خامسا: من صفات الداعية؛ الحلم: ظهر في هذا الحديث حلم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ضبط نفسه عن هيجان الغضب فلم يغضب عندما صدر الأذى من زعيم المنافقين بقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تغبروا علينا " وخمر أنفه بردائه، وأساء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: " أيها المرء لا أحسن مما تقول، إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا، فمن جاءك فاقصص عليه " وقابل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام القبيح بالحلم فلم يغضب، فدل ذلك على الحلم العظيم والخلق الكريم. فينبغي لكل مسلم، وخاصة الداعية إلى الله، أن يقتدي بهذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم (¬2). سادسا: أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة: لا ريب أن من أهم المهمات وأعظم القربات الخلق الحسن، والأدب الجميل وخاصة مع العلماء والدعاة، وقد ظهر في هذا الحديث سوء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المنافق عبد الله بن أبيّ قَلَّ حياؤه وساء أدبه فخمّر أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم عندما سمع قراءته للقرآن: " أيها المرء لا أحسن مما تقول، إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا فمن جاءك فاقصص عليه " وكان يجب عليه أن يستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يؤذيه، ولا يرد دعوته، ولا يناديه بنداء الاستخفاف كقوله: " أيها المرء " بل كان يلزمه: أن يسلم، ويخلص، ويقول: يا رسول الله، رضينا بالله ربا وبالإِسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا. فينبغي لجميع المدعوين أن يلزموا الأدب مع العلماء والدعاة، ويقبلوا دعوتهم، والله المستعان. (¬3). ¬
سابعا: من أعظم أساليب الدعوة: التذكير بالقرآن والسنة في المجامع المشتركة وغيرها: دل هذا الحديث على أهمية أسلوب التذكير بالقرآن الكريم؛ ولهذا عندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى مجلس فيه أخلاط من المشركين واليهود والمسلمين، سلم ثم وقف ونزل ودعاهم إلى الله عز وجل وقرأ عليهم القرآن. وهذا يؤكد العناية بالقرآن الكريم، وتذكير الناس به وقراءته عليهم؛ لأنه أبلغ الكلام وأعظمه تأثيرا في القلوب؛ قال الله عز وجل: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] (¬1) وقال سبحانه وتعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] (¬2) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] (¬3) وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا - وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء: 9 - 10] (¬4). وقال عز وجل: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] (¬5) وقال عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82] (¬6). وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] (¬7). ومما يدل على تأثير القرآن العظيم في القلوب ما قاله جبير بن مطعم رضي الله عنه: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ - أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ - أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور: 35 - 37] (¬8) ¬
كاد قلبي أن يطير [وذلك أول ما وقر الإِيمان في قلبي]» (¬1) وهذا يدل على تأثير القرآن الكريم في القلوب، وكذلك ينبغي للداعية أن يذَكِّر بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها الوحي الثاني ولها تأثير في القلوب أيضا ومما يدل على تأثير كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في القلوب قصة ضماد رضي الله عنه عندما قدم مكة وكان يرقي من الجن فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يديَّ، فلقيه فقال: «يا محمد إني أرقي من هذه الريح (¬2) وإن الله يشفي على يديَّ من شاء، فهل لك (¬3)؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد " فقال: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بَلَغْنَ ناعوس البحر (¬4) فقال؛ هات يدك أبَايعْكَ على الإِسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وعلى قومك؟ " قال: وعلى قومي» (¬5). وهكذا ما جاء عن الطفيل بن عمرو رضي الله عنه أنه كان شاعرا وسيدا في قومه فقدم مكة فحذرته قريش من مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن كلامه كالسحر فاحذره أن يدخل عليك وعلى قومك ما أدخل علينا؛ فإنه يفرق بين المرء وزوجه، وبين المرء وابنه، فما زالوا يحذرونه، حتى حلف أن لا يدخل المسجد إلا وقد سد أذنيه، فسد أذنيه بقطن، ثم دخل المسجد، فأعجبه فقال في نفسه: إني امرؤ ثبت ما تخفى عليَّ الأمور: حسنها ¬
وقبحها، والله لأسمعن منه فإن كان أمره رشدا أخذته منه وإلا اجتنبته، فنزع القطن فلم يسمع كلاما أحسن من كلامه، فلحقه إلى بيته ودخل معه وأخبره الخبر، وقال: اعرض عليَّ دينك؛ فعرض عليه الإِسلام فأسلم (¬1). فينبغي للدعاة إلى الله عز وجل أن يعتنوا بتذكير الناس بالقرآن الكريم، وبسنة محمد صلى الله عليه وسلم. والله المستعان. ثامنا: من صفات الداعية: الصبر على الأذى والابتلاء: دل هذا الحديث على أهمية الصبر على الأذى والابتلاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صبر الأذى والابتلاء كما في هذا الحديث حيث صدر الأذى من المنافق عبد الله بن أبيِّ بن سلول، بالتأفف وقوله: " لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به. . . " ومما يدل على ذلك ما جاء في هذا الحديث أيضا: " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى قال الله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] (¬2). وقال عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109] (¬3). وهذا يبين للدعاة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على الأذى والابتلاء (¬4) فينبغي الاقتداء به صلى الله عليه وسلم (¬5). تاسعا: من وظائف الداعية: إطفاء نار الفتن: إن من الوظائف المهمة للداعية إطفاء نار الفتن وإخمادها، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن المسلمين استبوا والمشركين واليهود حينما قال عبد الله بن رواحة ¬
رضي الله عنه: " بلى يا رسول الله فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك " وعبد الله بن أبيٍّ يقول: " إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا " فاستمر السباب حتى كاد بعضهم يثور على بعض بالقتال والمشاجرة. فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسكنهم حتى سكتوا ثم ركب دابته بعد أن أطفأ الفتنة وسار، وهذا فيه حكمة أخرى، وهو أنه فارق ذلك المجلس؛ لئلا تعود المشاجرة والمسابة مرة أخرى. فينبغي للداعية أن يكون مفتاحا للخير والصلح والسلامة، والله الموفق. (¬1). عاشرا: من أصناف المدعوين: المشركون: دل هذا الحديث على أن من أصناف المدعوين المشركون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عم بالدعوة المشركين الذين في مجلس عبد الله بن أبيٍّ وقرأ على الجميع القرآن الكريم ودعاهم إلى الله عز وجل. فينبغي للداعية أن يعتني بدعوة المشركين على حسب الطرق الحكيمة في دعوتهم إلى الله عز وجل (¬2). الحادي عشر: من أصناف المدعوين: اليهود: ظهر في هذا الحديث أن اليهود من أصناف المدعوين؛ ولهذا عم النبي صلى الله عليه وسلم اليهود الذين في مجلس عبد الله بن أبي بدعوته وقرأ عليهم القرآن، وذكرهم. ولا شك أن اليهود قلوبهم قاسية كالحجارة أو أشد قسوة إلا من هدى الله منهم للإِسلام، ولكن ينبغي مع ذلك دعوتهم إلى الإِسلام وإقامة الحجة عليهم حسب الطرق الحكيمة في دعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى (¬3). الثاني عشر: من أصناف المدعوين: المسلمون: دل هذا الحديث على أن المسلمين من أصناف المدعوين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شملهم بالدعوة والتذكير وقراءة القرآن في مجلس عبد الله بن أبيٍّ؛ ولكن ¬
ينبغي للداعية أن يراعي أحوالهم والطرق الحكيمة في دعوة المسلمين؛ لأن المسلمين ينقسمون إلى قسمين: قسم ينقادون للحق ولا يعاندون فهؤلاء يكفي في دعوتهم أن يبين لهم الحق علما وعملا واعتقادا، وحينئذ ينقادون لذلك. وقسم من المسلمين عندهم: غفلة وشهوات، وأهواء، وهم عصاة المسلمين، فهؤلاء تكون دعوتهم عن طريق ثلاثة مسالك: 1 - الموعظة الحسنة: وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، والقول الحق الذي يلين القلوب، ويؤثر في النفوس، ويكبح جماح النفوس المتمردة، ويزيد النفوس المهذبة إيمانا وهداية (¬1) قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] (¬2). والوعظ في الحقيقة ينبغي أن يكون على نوعين: (أ) وعظ التعليم: ويكون ببيان عقائد التوحيد، وبيان الأحكام الشرعية الخمسة: من الواجب، والحرام، والمسنون، والمكروه، والمباح، مع مراعاة ما يناسب كل طبقة. وينبغي أن تساق هذه الأحكام مساق الوعظ، ولا تسرد سردا خاليا من وسائل وأساليب التأثير، وأسلوب القرآن على هذا، يبين الحكم مقرونا بالترغيب، أو الترهيب، أو الجمع بين الأمرين؛ ولهذا يأخذ بمجامع القلوب، وحينئذ تستقبل العقائد والأحكام برغبة واشتياق للعمل والتطبيق. (ب) وعظ التأديب: ويكون بتحديد الأخلاق الحسنة: كالحلم والأناة، والصبر والكرم، والوفاء، والأمانة. . . وبيان آثارها ومنا فعها في المجتمع، والحث على التخلق بها والتزامها، وتحديد وتعريف الأخلاق السيئة: كالغضب، والعجلة، والغدر، والجزع، والجبن، والبخل، والتحذير من الاتصاف بها من طريقي: الترغيب والترهيب. ويكون ذلك مقرونا بالأدلة من الكتاب والسنة (¬3). ¬
2 - الترغيب والترهيب: ويكون بالترغيب في جنس الطاعات وأنواعها، والترهيب بذكر الوعيد بالعذاب والعقوبات على جنس المعاصي والذنوب، وعلى أنواع الذنوب وآحادها (¬1). 3 - استخدام الأساليب التصويرية التي تدخل على القلوب مباشرة وتشد أذهان المستمعين: كالقصص من القرآن الكريم والسنة النبوية، وضرب الأمثال، ولفت الأنظار إلى الأوصاف الحميدة المعنوية، وبيان آثارها العملية التي تحصل بسبب تطبيقها والعمل بها، ومن ذلك ذكر أوصاف المؤمنين، ومن الأساليب التصويرية: لفت الأنظار إلى الآثار المحسوسة، كلفت أنظار المدعوين إلى آثار الأمم الماضية، والأفراد والجماعات الظالمة، والقرى والأمصار المكذبة، وقد تكون الآثار في الأزمان القريبة أو الأماكن والأزمان المعاصرة؛ فإن في النظر فيما حل بهم من الهلاك والدمار والزلازل، والمحن، والأمراض أعظم العبر لمن اعتبر وتفكر، ونظر واتعظ، والنظر في مساكنهم وديارهم، وكيف أبادهم وأذلهم، وأهلكهم الملك الجبار، وجعل أخبارهم عبرة لأولي الأبصار (¬2). ولا شك أن الله عز وجل قد بين مراتب الدعوة وكانت بحسب مراتب البشر فقال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (¬3). قال الإِمام ابن القيم رحمه الله: " جعل الله سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة، والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن، وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية " (¬4). ¬
فإن ظلم المعاند ولم يرجعِ إلى الحق انتقِل معه إلى مرتبة استخدامِ القوة (¬1) قال الله عز وجل: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] (¬2). واستخدام القوة بالكلام والتأديب لمن له سلطة وقوة مشروعة، وبالجهاد في سبيل الله تحت لواء ولي أمر المسلمين بالشروط التي دل عليها الكتاب والسنة، وهذا ما يقتضيه مفهوم الحكمة الصحيح؛ لأنها وضع الشيء في موضعه بإحكام، وإتقان، وإصابة (¬3). الثالث عشر: من صفات الداعية: العناية الدائمة بالدعوة إلى الله عز وجل: إن من الصفات الحميدة والأعمال الجليلة: العناية الفائقة الدائمة بالدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا كان أعظم الناس فيها حظا ونصيبا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم سار في طريقه إلى جموع مختلطة من المشركين عبدة الأوثان، واليهود، والمسلمين، فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، ثم عمل عملا دعويا آخر وهو الإِصلاح بين هؤلاء حينما كادت الجموع أن يثور بعضها على بعض فسكنهم حتى أطفأ الفتنة صلى الله عليه وسلم، ثم قام وسار في عملٍ دعوي آخر وهو زيارته لسعد بن عبادة رضي الله عنه، وهذا يدل على أن عمله كله دائم في الدعوة والعبادة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل» (¬4) قال النووي رحمه الله: " وفي هذا الحديث بيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من: الحلم، والصفح، والصبر على الأذى في الله تعالى، ودوام الدعاء إلى الله تعالى، وتألف القلوب والله أعلم " (¬5). ¬
فينبغي للداعية أن تكون دعوته دائمة على حسب الأحوال، وحاجة الناس إلى الدعوة، ولكن ينبغي اختيار الأوقات والموضوعات المناسبة، لكل فئة. الرابع عشر: أهمية استشارة الداعية لأصحابه: دل هذا الحديث على أن الداعية ربما يستشير أصحابه وأتباعه وهذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال: «أي سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب»؟ " فأشار عليه رضي الله عنه بقوله: " أي رسول الله بأبي أنت اعف عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت " فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا يبين أهمية الشورى ومشاورة الداعية أصحابه، وما فيها من الفوائد (¬1). الخامس عشر: من وظائف المدعو: الدفاع عن العلماء والدعاة المخلصين: يظهر في هذا الحديث أن من وظائف المدعو المخلص الصالح الدفاع عن العلماء والدعاة المخلصين؛ ولهذا دافع عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في مجلس عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول فقال عندما حصل النقاش: " بلى يا رسول الله فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك " وهذا رد على قول عبد الله بن أبي حيث قال: " فلا تؤذنا في مجالسنا ". فينبغي الدفاع عن علماء الإِسلام بالحق في حياتهم وبعد مماتهم، والله المستعان (¬2). السادس عشر: من صفات الداعية: العفو والصفح: ظهر عفو النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن عبد الله بن أبي، حيث لما يعاقبه صلى الله عليه وسلم، ولم يقاتله، ولم يأمر أصحابه باغتياله؛ وإنما عفا عنه وصفح؛ ¬
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " عفوه صلى الله عليه وسلم عن كثير من المشركين واليهود، بالمنِّ والفداء، وصفحه عن المنافقين مشهور في الأحاديث والسير " (¬1). فينبغي للداعية أن يعفو ويصفح اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. (¬2). السابع عشر: من أساليب الدعوة: التأليف بالنداء بالكنى: إن التأليف بالنداء بالكنى من أساليب الدعوة النافعة؛ ولهذا والله أعلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد: «ألم تسمع ما قال أبو الحباب»؟ " يعني عبد الله بن أبيٍّ! قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " كناه النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة؛ لكونه كان مشهورا بها أو لمصلحة التأليف " (¬3) ونقل رحمه الله عن ابن بطال أنه قال: " فيه جواز تكنية المشركين على وجه التأليف، إما رجاء إسلامهم، أو لتحصيل منفعة منهم " (¬4) ثم رجح ابن حجر رحمه الله جواز تكنية الكافر للتأليف أو خشية الفتنة (¬5) والله المستعان (¬6). الثامن عشر: من أسباب إعراض المدعوين: الحسد، وحب الرئاسة والجاه: لا شك أن من أسباب إعراض المدعوين عن قبول الدعوة والانقياد لدين الله عز وجل: الحسد، والحقد، وحب الرئاسة والجاه، ولهذا قال سعد بن عبادة رضي الله عنه للنبي في شأن عبد الله بن أبيٍّ: " ولقد اصطلح أهل هذه البحرة على أن يتوِّجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شِرق بذلك، فلذلك فعل به ما رأيت " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله على قوله: " شرق بذلك " أي غصَّ به، وهو كناية عن الحسد، يقال: " غص بالطعام، وشَجيَ بالعظم، وشرق بالماء إذا اعترض شيء من ذلك في الحلق فمنعه الإساغةَ " (¬7) وعلاج ¬
هذا الإِعراض بالدعوة الصادقة، فإن لم تجْدِ فالجهاد في سبيل الله عز وجل. التاسع عشر: من وسائل الدعوة: استخدام القوة عند الحاجة: دل هذا الحديث على أن من وسائل الدعوة النافعة استخدام القوة عند الحاجة إذا لم ينفع الرفق واللين؛ وقد جاء في هذا الحديث: «فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأوَّل في العفوِ ما أمره الله به حتى أذن له فيهم، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا فقتل الله بها من قتل من صناديد الكفار وسادة قريش قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منصورين غانمين معهم أسارى من صناديد الكفار وسادة قريش»، وهذا فيه دلالة على أن القوة عند الحاجة إليها من أعظم وسائل الدعوة إلى الله عز وجل، فإذا لم يؤثر الرفق واللين، والعفو والصفح، في أصناف المدعوين: من الملحدين، والمشركين، وأهل الكتاب، ولم يستفيدوا من الأدلة والبراهين العقلية والنقلية، والمعجزات الحسية، ولم ينقادوا للجدال بالتي هي أحسن، وأعرضوا وكذبوا، فحينئذٍ يكون آخر الطب الكي: وهو استخدام القوة تحت لواءِ ولي أمر المسلمين؛ فإن لذلك الأثر العظيم في نشر الدعوة، وقمع الباطل وأهله، ونصر الحق وأهله؛ قال الله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] (¬1) ولقد أحسن القائل: وما هوَ إلّا الوحْي أوحَدّ مرْهَفٍ (¬2) ... تميل ظبَاه (¬3) أخَدعَي كلِّ مائِلِ فَهَذا دَوَاء الدَّاءِ مِنْ كلِّ عَالمٍ ... وَهذا دَواء الدَّاءِ من كلِّ جاهل هَوَ الحَقّ إنْ تَسْتَيقظوا فيه تَغْنَموا ... وإِنْ تَغْفلوا فالسَّيف لَيْسَ بِغَافِلِ (¬4) ¬
وقال آخر: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: قَالوا غَزَوْتَ وَرسل اللهِ مَا بعثوا ... لِقتلِ نَفْسٍ ولا جاءوا لسَفْكِ دَم جَهْل وتَضليل أَحْلامٍ وسَفْسطةَ (¬1) ... فَتَحتَ بِالسَّيْفِ بعد الفتح بالقلمَ لمَا أتى لك عفوا كلّ ذي حَسَبِ ... تكفَّلَ السيف بِالجهالِ والَعَمَمِ (¬2) وما أحكم ما قال الآخر: دعا المصطفى دهرا بمكة لم يجب ... وقد لان منه جانب وخطاب فلما دعا والسيف صلت بكفه ... له أسلموا واستسلموا وأنابوا (¬3) فالعاقل ذو الفطرة السليمة ينتفع بالبينة والبرهان، ويقبل الحق بدليله، أما الظالم المتبع لهواه فلا يرده إلا السيف، وأنواع القوة والسلاح (¬4). العشرون: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: ظهر في هذا الحديث أن القدوة الحسنة من وسائل الدعوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مع عظم مكانته عند الله عز وجل لم يكن يرفع نفسه عن الإِرداف على الدابة؛ قال العلامة العيني رحمه الله: " وكان يردف لتتأسَّى به في ذلك أمته فلا يأنفوا مما لم يكن يأنف منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يستنكف منه مما لم يستنكف " (¬5). فينبغي الاقتداء به صلى الله عليه وسلم (¬6). الحادي والعشرون: إخفاء المنافقين نفاقهم دليل علي قوة المسلمين: دل هذا الحديث على أن المنافقين يختفون بشرهم عند ظهور قوة المسلمين، ¬
ويظهرون نفاقهم وشرهم وأذاهم للإِسلام والمسلمين عند ضعف المسلمين؛ ولهذا جاء في هذا الحديث: «فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منصورين غانمين معهم أسارى من صناديد الكفار وسادة قريش قال ابن أبيِّ بن سلول ومن معه من المشركين عبدة الأوثان " هذا أمر قد توجه، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإِسلام فأسلموا» وهذا؛ لخوفهم وجزعهم، وإلا فابن أبيٍّ لا زال على عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مات منافقا. أسأل الله العافية لي ولجميع المسلمين. الثاني والعشرون: من أساليب الدعوة: التشبيه: ظهر في هذا الحديث أسلوب التشبيه؛ لأن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال في شأن عبد الله بن أبيِّ ابن سلول " شرق بذلك " قال الحميدي رحمه الله: " شرق بذلك، يقال شرق بالماء يشرق شرقا، إذا غص، شبه ما أصابه من فوات الرئاسة بالغصص " (¬1) والله المستعان (¬2). الثالث والعشرون: من ميادين الدعوة: المجالس العامة: لا شك أن من الميادين المهمة للدعوة إلى الله عز وجل المجالس العامة التي يجتمع الناس فيها؛ ولهذا عندما مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بمجلس عبد الله بن أبيِّ بن سلول ورأى فيه أخلاطا من المسلمين، والمشركين، واليهود، نزل صلى الله عليه وسلم ووقف فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. وهذا يؤكد أهمية استخدام المجالس العامة ميدانا للدعوة إلى الله، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. ¬
باب كراهية السفر بالمصحف إلى أرض العدو
129 - باب كراهية السفر بالمصحف إلى أرض العدو وَكَذَلِكَ يرْوَى عَنْ محَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عمَرَ، عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَتَابَعَه ابْن إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. «وَقَدْ سَافَرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأَصْحَابه فِي أَرْضِ العَدوِّ وَهمْ يَعْلَمونَ الْقرْآنَ». [حديث سافر النبي وأصحابه في أرض العدو وهم يعلمون القرآن] 109 - [2990] حَدَّثَنَا عَبْد اللهِ بْن مَسْلَمةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِع، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن عمَرَ (¬1) رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يسَافَرَ بالْقرآنِ إِلَى أَرْضِ العَدوِّ» (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحض على تعظيم القرآن الكريم. 2 - من صفات الداعية: الحرص على إكرام وتعظيم القرآن الكريم. 3 - شدة عداوة أعداء الدين وخطرهم على الإِسلام وأهله. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحض على تعظيم القرآن الكريم: إن هذا الحديث يدل على أن من الموضوعات المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل الحض على العناية بالقرآن الكريم وتعظيمه؛ ولهذا " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوِّ "؛ قال الإِمام ابن عبد البر رحمه الله: " أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه، واختلفوا في جواز ذلك في العسكر المأمون الكبير. . " (¬3) وفي رواية ¬
لمسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوِّ مخافة أن يناله العدوّ» (¬1) وفي رواية: «لا تسافروا بالقرآن فإني لا آمن أن يناله العدوّ» (¬2) قال الإمام النووي رحمه الله: " فيه النهي عن المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار للعلة المذكورة في الحديث، وهي خوف أن ينالوه فينتهكوا حرمته، فإن أمنت هذه العلة، بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهرين عليهم فلا كراهة ولا منع منه حينئذ هذا هو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة والبخاري وآخرون " (¬3). وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول في النهي عن السفر بالقرآن إلى بلاد العدوّ: " وهذا إذا كان يخشى عليه أن يمتهنوه، أما إذا لم يخشَ عليه فلا حرج، والخطر على ما في المصاحف أما ما في الصدور فيحمل ويدعى به، وحمل المصحف إلى بلاد الكفار منهي عنه: سواء كانوا حربيين أو غير ذلك إذا خشي عليه " (¬4). فينبغي للدعاة إلى الله عز وجل أن يحضوا الناس على تعظيم القرآن الكريم وإكرامه، وعدم السفر به إلى بلاد الكفار إذا خشي عليه الإِهانة والامتهان. ثانيا: من صفات الداعية: الحرص على إكرام وتعظيم القرآن الحكيم: ظهر في هذا الحديث حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعظيم القرآن الكريم وإكرامه؛ ولهذا نهى عن السفر به إلى بلاد العدوِّ؛ لئلا يهان؛ لأن المشركين واليهود والنصارى أعداء الإِسلام وخاصة إذا كانوا حربيين؛ قال الله عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] (¬5) والقرآن الكريم لا يمسه إلا طاهر، وهؤلاء خبثاء نَجَس، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] (¬6) ¬
وفي الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: «لا يمس القرآن إلا طاهر» (¬1) وهذا يؤكد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعظيم القرآن الكريم وإكرامه. فينبغي للداعية أن يكون حريصا على تعظيم القرآن العزيز وإكرامه، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. ثالثا: شدة عداوة أعداء الدين وخطرهم على الإسلام وأهله: إن أعداء الإِسلام: من الملحدين، والمشركين وأهل الكتاب لهم غدرات، وعداوة شديدة للإِسلام وأهله؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السفر بالقرآن إلى أرضهم، خشية أن يمتهنوا هذا القرآن العظيم. فينبغي للمسلمين أخذ الحذر؛ لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] (¬2) وقال سبحانه وتعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 119] (¬3). ¬
باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير
131 - باب مَا يكره مِنْ رفع الصوت في التكبير [حديث أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا] 110 - [2992] حَدَّثَنَا محَمَّد بْن يوسفَ: حَدَّثَنَا سفْيَان، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عثْمَانَ، عَنْ أَبِي موسَى الأشعري (¬1) رضي الله عنه، قَالَ: «كنَّا مَعَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكنَا إِذَا أشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرنَا، ارْتَفَعَتْ أصوَاتنَا. فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: يَا أيهَا النَّاس، ارْبَعوا عَلَى أَنْفسِكمْ، فَإِنَكمْ لَا تَدْعونَ أَصَمَّ، وَلَا غَائِبا، إِنَّه مَعَكمْ، إِنَّه سَمِيع قَرِيب، تَبَارَكَ اسْمه، وَتَعَالَى جَدّه» (¬2). وفي رواية: «لَمَّا غَزَا رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ- أَوْ قَالَ: لَمَّا تَوَجهَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم- أَشْرَفَ النَّاس عَلَى وَادٍ فَرَفَعوا أَصْوَاتَهمْ بالتَّكْبيرِ: الله أَكْبَر، الله أَكْبَر، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله. فَقَالَ رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: " ارْبَعوا علَى أنفسِكم، إِنَكم لَا تدْعونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبا، إِنَكم تَدْعون: سَمِيعا، قَرِيبا، وَهوَ مَعَكمْ " وَأنا خَلْفَ دَابَّةِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعَنِي وَأنا أَقول: لاَ حَوْلَ وَلاَ قوةَ إِلاَّ بِاللهِ. فَقَالَ لِي: " يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ " قلْت لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ. قَالَ: " أَلَا أَدلكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ كنوزِ الْجَنَّةِ؟ " قلْت: بَلَى يَا رَسولَ اللهِ فِدَاكَ أَبِي وأمِّي. قَالَ: " لَا حَوْلَ وَلا قوَّةَ إِلّا باللهِ» (¬3). وفِي رواية: «أَخَذَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي عَقَبَةٍ - أَوْ قَالَ في ثَنِيةٍ - قَالَ: فَلَمَّا عَلاَ عَلَيْهَا رَجل نَادَى فرَفعَ صَوْتَه: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهِ، وَالله أَكْبَر، قَالَ: وَرَسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ.» (¬4). وفي رواية: «كنَّا مَعَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ فَجَعَلْنَا لاَ نَصْعَد شَرَفا، وَلاَ نَعْلو شَرَفا، وَلاَ نَهْبِط فِي وَادٍ إِلاَّ رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ، قَالَ: فَدَنَا مِنّا رَسول اللهِ ¬
صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " يَا أَيّهَا النَّاس ارْبَعوا عَلَى أَنْفسِكمْ فَإِنَّكمْ لَا تَدْعونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبا، إِنَّمَا تَدْعونَ سَمِيعا بَصِيرا.» (¬1). وفي رواية: «سَمِيعا بَصِيرا، قَريبا " ثمَّ أَتَى علَيَّ وأَنا أَقول فِي نَفْسِي: لَا حَوْلَ وَلَا قوَّةَ إِلَّا باللهِ، فَقَالَ: " يَا عَبْدَ اللهِ بنَ قَيْسٍ، قلْ: لَا حَوْلَ وَلَا قوَّةَ إِلَّا بِاللهِ؛ فإِنَّهَا كَنْز مِنْ كنوزِ الْجَنَّةِ " أَوْ قَالَ: " أَلَا أَدلكَ عَلَى كَلِمَةٍ هِيَ كَنْز مِنْ كنوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قوَّةَ إِلَّا بِاللهِ» (¬2). * شرح غريب الحديث: * " اربعوا على أنفسكم " أي ارفقوا بها واخفضوا أصواتكم. (¬3). * " عقبة " والعقبة المرقى الصعب في الجبال (¬4). * " أو ثنية " الثنية في الأرض: طريق بين جبلين، وقيل: الثنية في الجبل: كالعقبة فيه، وقيل: هو الطريق العالي فيه، وقيل أعلى السيل في رأسه (¬5). * " لا نصعد شرفا " الشرف من الأرض العالي، ومشارف الأرض أعاليها، وشَرَف كلّ شيءٍ أعلاه (¬6). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - حرص الصحابة رضي الله عنهم على ذكر الله عز وجل. 2 - من موضوعات الدعوة: بيان صفات الله عز وجل. ¬
3 - محبة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 4 - من أساليب الدعوة: السؤال والجواب. 5 - من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: إخباره بالأمور الغيبية. 6 - من صفات الداعية: الحرص على زيادة الخير للمدعو. 7 - من موضوعات الدعوة: الحث على ذكر الله عز وجل. 8 - من موضوعات الدعوة: الحض على خفض الصوت بالذكر إلا ما شرع الجهر به. 9 - من صفات الداعية: الاستسلام لله وتفويض الأمور إليه عز وجل. 10 - من صفات الداعية: التواضع. 11 - من أساليب الدعوة: التشبيه. 12 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 13 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: حرص الصحابة رضي الله عنهم على ذكر الله عز وجل: دل هذا الحديث على حرص الصحابة رضي الله عنهم على ذكر الله عز وجل ولهذا قال أبو موسى رضي الله عنه: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنا إذا أشرفنا على وادٍ هللنا وكبَّرنا ارتفعت أصواتنا " ومما يدل على حرصهم رضي الله عنهم أيضا، ما كان يقوله أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن نفسه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عليه وهو يقول في نفسه: " لا حول ولا قوة إلا بالله. . . ". فينبغي للمسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل أن يكون حريصا على ذكر الله عز وجل في كل أحواله؛ في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، وفي السفر والحضر، حتى يحصل على الثواب العظيم، ويكون قدوة لغيره؛ وقد مدح الله أصحاب العقول السليمة وبين أن من صفاتهمِ ذكر الله عز وجل في كل أحوالهم، قال الله عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ - الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190 - 191] (¬1). ¬
وهذا يؤكد حرصهم على ذكر الله سبحانه وتعالى في كل أحوالهم (¬1). ثانيا: من موضوعات الدعوة: بيان صفات الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة، بيان صفات الرب عز وجل من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبا إنه سميع قريب تبارك اسمه وتعالى جده» وفي الرواية الأخرى: «وهو معكم» وفي الرواية الثالثة: «سميعا بصيرا» وهذا يؤكد على أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى إثبات صفات الكمال لله عز وجل، ولا ريب أنه ينبغي للداعية أن يبين للمدعوين صفات الكمال، فيحث المدعوين على أن يثبتوا ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفوا ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن صفات الكمال التي وردت في هذا الحديث: السمع، والبصر، والمعية، والقرب، وقد أثبت الله ذلك لنفسه فقال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] (¬2). فله سبحانه وتعالى سمع وبصر يليق بجلاله، لا كسمع خلقه ولا بصرهم بل أحاط سمعه بجميع المسموعات وبصره بجميع المخلوقات؛ فهو يسمع ويبصر كل شيء وإن خفي ظاهرا وباطنا (¬3) وقوله صلى الله عليه وسلم: «وهو معكم» المعية المعيتان: معية عامة لجميع المخلوقات، وهذه المعية من صفات الله الذاتية التي لا تنفك عن الله عز وجل، ومقتضى هذه المعية العلم والإحاطة والاطلاع لقول الله عز وجل: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] (¬4). ¬
ومعية خاصة لأهل الإِيمان والتقوى، ومقتضاها: الحفظ، والعناية، والنصرة، والتوفيق، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] (¬1) وقوله {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] (¬2) والمعية الخاصة من الصفات الفعلية (¬3) وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنه سميع قريب» قال الله عز وجل: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61] (¬4). فمن أسماء الله سبحانه وتعالى " القريب "، ومن صفاته القرب، وقربه عز وجل نوعان: قرب عام، وهو إحاطة علمه بجميع الأشياء، وهو أقرب للإِنسان من حبل الوريد، وهو بمعنى المعية العامة. وقرب خاص بالداعين، والعابدين، والمحبين، وهو قرب يقتضي المحبة والنصرة، والتأييد في الحركات والسكنات، والإِجابة للداعين، والقبول والإِثابة للعابدين (¬5) قال الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] (¬6). وإذا فهم القرب بهذا المعنى في العموم والخصوص لم يكن هناك تعارض أصلا بينه وبين ما هو معلوم من وجوده تعالى فوق عرشه، فسبحان من هو عليّ في دنوّه قريب في علوِّه (¬7). فينبغي للداعية أن يوضح هذه العقيدة للمدعوين والله ولي التوفيق (¬8). ثالثا: محبة الصحابة لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: إن الصحابة رَضِيَ اللَّه عَنْهم يحبون رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أكثر من أنفسهم، وأولادهم، ¬
ووالديهم، والناس أجمعين؛ ولهذا قال عبد الله بن قيس للنبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عندما ناداه: " لبيك رسول الله " وقال للنبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ". . . يا رسول الله فداك أبي وأمي ". فينبغي الاقتداء بالصحابة رَضِيَ اللَّه عَنْهم في حب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. (¬1). رابعا: من أساليب الدعوة: السؤال والجواب: لا ريب أن السؤال والجواب من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل؛ وقد سأل النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عبد الله بن قيس في هذا الحديث ثم أجابه، فقال: «يا عبد الله بن قيس» فقال عبد الله رَضِيَ اللَّه عَنْه: لبيك رسولَ الله. فقال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: «ألا أدلك على كلمة من كنز من كنوز الجنة»؟ " فقال عبد الله رَضِيَ اللَّه عَنْه: بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي. فقال صلى الله عليه وسلم: «لا حول ولا قوة إلا بالله» وهذا يدل على أهمية سؤال الداعية للمدعو؛ ليشد انتباهه ويلقي سمعه، ثم يجيبه على السؤال. فينبغي العناية بالسؤال والجواب عند الحاجة إليه (¬2). خامسا: من معجزات الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إخباره بالأمور الغيبية: ظهر في هذا الحديث أن عبد الله بن قيس رَضِيَ اللَّه عَنْه بين أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أتى عليه وهو يقول في نفسه: " لا حول ولا قوة إلا بالله " فقال: «يا عبد الله بن قيس: " قل: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة» وظاهره يدل على أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أطلعه الله على ما أخفاه عبد الله من الذكر وكشفه له فأخبره صلى الله عليه وسلم بفضل هذا الذكر (¬3) والله أعلم (¬4). سادسا: من صفات الداعية: الحرص على زيادة الخير للمدعو: إن من صفات الداعية الحرص على زيادة الخير للمدعو؛ ولهذا عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يرفعون أصواتهم بالتكبير، زادهم صلى الله عليه وسلم علما وخيرا، وهو إخبارهم بأن الله يسمع ذكرهم، وهو معهم وقريب منهم، وهذا يفيد الداعي ¬
والذاكر استحضار عظمة الله ومراقبته، فيحصل بذلك الإِخلاص والخشوع (¬1) وزادهم صلى الله عليه وسلم ذكرا آخر هو كنز من كنوز الجنة: «لا حول ولا قوة إلا بالله»؛ ولهذا نقل ابن حجر رحمه الله عن ابن بطال رحمه الله أنه قال: " كان عليه السلام معلما لأمته، فلا يراهم على حالة من الخير إلا أحب لهم الزيادة، فأحب للذين رفعوا أصواتهم بكلمة الإِخلاص والتكبير أن يضيفوا إليها التبري من الحول والقوة، فيجمعوا بين التوحيد والإِيمان بالقدر " (¬2). سابعا: من موضوعات الدعوة: الحث على ذكر الله عز وجل: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة الحث على ذكر الله عز وجل، وتعليم الناس الأذكار النافعة، والدعوات الجامعة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لعبد الله بن قيس رضي الله عنه «ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله» وقد أمر الله عز وجل بذكره فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا - وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41 - 42] (¬3) وقال عز وجل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205] (¬4). فينبغي للداعية أن يحض الناس على ذكر الله عز وجل، ويرغبهم في ذلك؛ ليحصلوا على الثواب العظيم والأجر الجزيل. ثامنا: من موضوعات الدعوة: الحض على خفض الصوت بالذكر إلا ما شرع الجهر به: ظهر في هذا الحديث أن الحض على خفض الصوت بالذكر من موضوعات الدعوة إلى الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبا إنه معكم، إنه سميع قريب تبارك اسمه وتعالى جدّه» وهذا فيه حث على خفض الصوت بالذكر؛ لأن الله عز وجل سميع قريب مجيب لا تخفى عليه خافية؛ وقد جاء في رواية لمسلم لحديث ¬
الباب: «والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم» (¬1). وقد أمر الله عز وجل بإخفاء الصوت بالدعاء فقال عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] (¬2) فينبغي للداعية أن يحث الناس على خفض الصوت بالذكر إلا ما ورد الشرع برفعه والجهر به: كالتلبية في إحرام الحج والعمرة؛ والذكر أدبار الصلوات، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير» وفي لفظ: «أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة، كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته» (¬3) وكذلك ما ورد من الجهر بالذكر في التلبية وغيرها مما شرع الرفع به (¬4) قال النووي رحمه الله في فوائد حديث عبد الله بن قيس رضي الله عنه: ". . . . فيه الندب إلى خفض الصوت بالذكر إذا لم تدع الحاجة إلى رفعه؛ فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه، فإن دعت الحاجة إلى الرفع رفع كما جاءت به الأحاديث ". (¬5). تاسعا: من صفات الداعية: الاستسلام لله وتفويض الأمور إليه: دل الحديث على أنه ينبغي لكل مسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل أن يستسلم لله ويفوض أموره إليه عز وجل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن قيس: «قل لا حول ولا قوة إلا بالله» قال الإِمام النووي رحمه الله: " الحول: الحركة والحيلة: أي لا حركة ولا استطاعة، ولا حيلة إلا بمشيئة الله تعالى، وقيل معناه: لا حول في رفع شر، ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته، وحكِيَ هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه، وكله ¬
متقارب " (¬1) وقال الكرماني رحمه الله: " لا حول ولا قوة إلا بالله: كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى، ومعناه؛ لا حيلة في رفع شر، ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله ". (¬2). فينبغي للعبد أن يتبرأ من كل حول ومن كل قوة، ومن أي استطاعة، إلا أن يكون المعين هو الله عز وجل، فهو صاحب الحول الكامل وصاحب الطول والقوة، ولا شك أن العبد له إرادة وقدرة وفعل، ولكن ذلك لا يخرج عن إرادة الله عز وجل ومشيئته، فالله سبحانه وتعالى يطلب من عبده العمل الصالح، والعبد يريده ويعمله ويسأل الله الإِعانة عليه، ويتبرأ من حوله وقوته، ويسلم الأمور إلى الله عز وجل لا معطي لما منع ولا مانع لما أعطي، لا إله غيره ولا رب سواه، ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه وتعالى (¬3). عاشرا: من صفات الداعية: التواضع: لا شك أن هذا الحديث دل على صفة التواضع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب على بغلة، وهو أفضل الخلق ومع ما أعطاه الله من الفضل والمكانة العالية لم يترفع عن ركوبها، وإلا فقد كان عنده من الخيل والإِبل ما يركب عليه، ولهذا قال عبد الله بن قيس رضي الله عنه: «نادى رجل فرفع صوته: لا إله إلا الله والله أكبر، قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته. . .». فينبغي للداعية أن يكون متواضعا اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم (¬4). الحادي عشر: من أساليب الدعوة: التشبيه: ظهر في هذا الحديث أسلوب التشبيه في قوله صلى الله عليه وسلم: «قل لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة» وذكر الطيبي رحمه الله أن المشبه الحوقلة " لا حول ولا قوة إلا بالله " والمشبه به الكنز، " فإنها كنز من كنوز الجنة " (¬5) وقال الكرماني رحمه الله: " كنز: أي كالكنز في كونه أمرا نفيسا مدخرا مكنونا عن أعين الناس " (¬6). ¬
وهذا يدل على أهمية التشبيه، وأنه أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله عز وجل يستخدم عند الحاجة إليه (¬1). الثاني عشر: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب؛ لترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في الحوقلة وفضلها وأنها كنز من كنوز الجنة، قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن قيس: «قل لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة» قال النووي رحمه الله: " قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام، وتفويض إلى الله تعالى، واعتراف بالإِذعان له، وأنه لا صانع غيره، ولا راد لأمره، وأن العبد لا يملك شيئَاَ من الأمر، ومعنى الكنز هنا أنه ثواب مدخر في الجنة، وهو ثواب نفيس، كما أن الكنز أنفس أموالكم " (¬2). وهذا يؤكد أهمية الترغيب في الدعوة إلى الله عز وجل (¬3). الثالث عشر: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: دل هذا الحديث على أن الحرص على الدقة في نقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفات الجميلة والأعمال الجليلة؛ لأن الراوي قال: «أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في عقبة أو قال ثنية» قال الكرماني رحمه الله: " شك الراوي في اللفظ على مذهب من يحتاط ويريد نقل اللفظ بعينه " (¬4) وثبت في هذا الحديث أيضا: «يا عبد الله بن قيس قل: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة "، أو قال: " ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة؛ لا حول ولا قوة إلا بالله»، فقول الراوي: أو قال: يدل على حرصه عل الدقة في نقل الحديث. وهذا يؤكد على أهمية الاتصاف بالحرص على الدقة في نقل الحديث (¬5). ¬
باب التسبيح إذا هبط واديا
132 - باب التسبِيح إذا هَبط وَاديا [حديث كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا] 111 - [2993] حَدّثنا محَمَّد بْن يوسفَ: حَدَثَنَا سفيَان، عَنْ حصَيْنِ بْنِ عَبْد الرَّحْمنِ، عَنْ سَالمِ بْنِ أِبي الجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (¬1) رضي الله عنهما، قَالَ: «كنَا إِذَا صَعِدْنَا كَبرنَا، وَإذَا نَزَلنا سَبَّحْنَا» (¬2). وفي رواية: «كنّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرنَا، وإِذَا تصوَّبْنَا سَبّحْنَا» (¬3). * شرح غريب الحديث: * " تصوَّبنا " أي انخفضنا ونزلنا (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - حرص الصحابة رضي الله عنهم على ذكر الله عز وجل. 2 - من صفات الداعية: تعظيم الله عز وجل. 3 - من صفات الداعية: تنزيه الله عز وجل. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: حرص الصحابة رضي الله عنهم على ذكر الله عز وجل: دل هذا الحديث على حرص الصحابة رضي الله عنهم على ذكر الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا كانوا رضي الله عنهم إذا صعدوا على عقبة أو جبل، أو مكان مرتفع قالوا: " الله أكبر " وفي حديث عبد الله بن قيس رضي الله عنه: «لا إله إلا الله والله أكبر» (¬5) وإذا نزلوا واديا أو مكانا منخفضا قالوا: " سبحان الله " كما قال جابر رضي الله عنه: " كنَّا ¬
إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا " (¬1). ثانيا: من صفات الداعية: تعظيم الله عز وجل: لا ريب أن تعظيم الله سبحانه وتعالى من أهم الواجبات على كل مسلم ومسلمة وخاصة الدعاة إلى الله عز وجل؛ ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظمون الله عز وجل ويكبرونه، وخاصة إذا كانوا على مكان مرتفع؛ لاستشعارهم عظمة الله عز وجل، وعلوَّه واستواءه على عرشه استواء يليق بجلاله، وكبريائه؛ ولأن الإِنسان إذا صعد على مكان مرتفع تقع عينه على عظيم خلق الله عز وجل فيتذكر أن الله أكبر وأعظم من كل شيء؛ ولهذا قال جابر رضي الله عنه: " كنا إذا صعدنا كبرنا ". قال الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62] (¬2) وقال سبحانه وتعالى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] (¬3). فينبغي لكل مسلم تعظيم الله عز وجل، ومن المناسب إذا صعد على شيء كبر الله تعظيما لشأنه عز وجل (¬4). ثالثا: من صفات الداعية: تنزيه الله عز وجل: إن تنزيه الله عز وجل عما لا يليق به من النقائص والعيوب من أهم المهمات وأعظم القربات؛ ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يسبحون الله وينزهونه، وخاصة إذا هبطوا واديا أو نزلوا وانخفضوا إلى مكان منحدر؛ لاستشعارهم تنزيه الله عز وجل عن الانخفاض، قال ابن حجر رحمه الله: " وقيل: مناسبة التسبيح في الأماكن المنخفضة من جهة أن التسبيح هو التنزيه، فناسب تنزيه الله عن صفات الانخفاض كما ناسب تكبيره عند الأماكن المرتفعة " (¬5). ¬
وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " النزول فيه السفول فناسب التسبيح؛ لأن الله في العلوِّ، والصعود فيه ارتفاع فناسب التكبير؛ لأن الله فوق العرش " (¬1) ولا مانع مع ذلك أن يستشعر المسلم عفو الله وقدرته عليه في بطون الأودية وغيرها، فيسبح الله لتعظيمه وعلوِّه وتنزيهه عن النقائص؛ ولينجيه كما أنجى يونس من الظلمات وبطن الحوت (¬2). قال الله عز وجل: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ - لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144] (¬3). فينبغي للداعية أن يكون منزِّها لله مسبحا؛ فإن الله عز وجل يسبحه كل شيء كما قال سبحانه وتعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44] (¬4) ولمكانة التنزيه لله عز وجل جعل الله الثواب العظيم على ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» (¬5) وعن مصعب بن سعد، عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ " فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: " يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة» (¬6) وهذا يؤكد على الداعية الصادق أن يعتني بالتسبيح؛ لعظمته ومكانته عند الله، ولثوابه الكبير. ¬
باب يكتب للمسافر ما كان يعمل في الإقامة
135 - باب يكتب للمسافر ما كان يعمل في الإقامة [حديث إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا] 112 - [2996]- حدثنا مطر بن الفضل: حدثنا يزيد بن هارون: حدثنا العوام: حدثنا إبراهيم أبو إسماعيل السكسكي قال: سمعت أبا بردة واصطحب هو ويزيد بن أبي كبشة في سفر فكان يزيد (¬1) يصوم في السفر، فقال له أبو بردة (¬2) سمعت أبا موسى (¬3) مرارًا يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا» الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحض على النية الصالحة. 2 - من صفات الداعية: النية الخالصة. 3 - من صفات الداعية: الحرص على الخير. 4 - من أساليب الدعوة: الترغيب. * والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولًا: من موضوعات الدعوة: الحض على النية الصالحة: إن الحث على النية الصالحة من أهم موضوعات الدعوة؛ لأن الأعمال ¬
بالنيات؛ ولهذا حض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم أمته على إصلاح النية بقوله في هذا الحديث: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا» * فينبغي للداعية أن يحث الناس على النية الصالحة؛ قال العلامة محمد بن صالح العثيمين حفظه الله: "وفي هذا تنبيه على أنه ينبغي للعاقل ما دام في حال الصحة والفراغ أن يحرص على الأعمال الصالحة، حتى إذا عجز عنها لمرض أو شغل كتبت له كاملة" (¬1) وهذا يؤكد على الدعاة أن يحثوا الناس على الأعمال الصالحة حتى يغتنموها في حال الفراغ والصحة، وتكتب لهم عند العجز والمرض والهرم (¬2). ثانيًا: من صفات الداعية: النية الخالصة: يظهر في هذا الحديث أنه ينبغي للمسلم، وخاصة الداعية إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، أن يتصف بالنية الصالحة؛ لأنها من أهم أعمال القلوب المخلصة؛ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا» وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء. * فينبغي للداعية أن يغتنم الفرص، والفراغ، والصحة، والشباب، والغنى قبل حصول ما يضاد هذه النعم؛ فإنه إذا اغتنمها كتب الله له أعماله عند مفارقة هذه النعم، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» (¬3) وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» (¬4). وهذا يبين أهمية ¬
اتصاف المسلم بحسن النية والعمل في حال الصحة والفراغ والإقامة (¬1). ثالثًا: من صفات الداعية: الحرص على الخير: ظهر في إسناد هذا الحديث حرص التابعي الجليل: يزيد بن أبي كبشة على الأعمال الصالحة في السفر رغبة وحرصًا على الثواب والخير؛ ولهذا كان يصوم في السفر، فبين له الصحابي الجليل أبو بردة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا» * فينبغي للداعية أن يكون حريصًا على فعل الخير، ولكن عليه أن يراعي في ذلك هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله المستعان (¬2). رابعًا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أن الترغيب من أساليب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ وقد رغب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأعمال الصالحة والمداومة عليها في الصحة والإقامة؛ ليكتب للعبد ما كان يعمل إذا مرض أو سافر؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا» * فينبغي للداعية أن يرغب الناس في الأعمال والمداومة عليها حتى يكتب لهم إذا سافروا أو مرضوا ما كانوا يعملون في صحتهم وإقامتهم (¬3). ¬
باب السير وحده
135 - باب السير وحده [حديث لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده] 113 - [2998] حدثنا أبو الوليد: حدثنا عاصم بن محمد قال: حدثني أبي عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حدثنا أبو نعيم: حدثنا عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن ابن عمر (¬1) عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده» الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: بيان آداب السفر. 2 - من صفات الداعية: الرحمة والشفقة على مصلحة المدعو. 3 - الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل. 4 - من أساليب الدعوة: الترهيب. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولًا: من موضوعات الدعوة: بيان آداب السفر: إن من الموضوعات المهمة في الدعوة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ أن يبين الداعية للمدعوين آداب السفر، ويحثهم على الالتزام بها؛ لما فيها من المصالح والثواب باتباع السنة؛ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث: «لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده» وهذا فيه إرشاد من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته، ولا شك أن التحذير من السفر منفردًا يشمل الماشي على الأقدام أيضًا؛ قال الكرماني رحمه الله: "وهذا من قبيل الغالب وإلا فالراجل أيضًا كذلك" (¬2) والسفر منفردًا فيه مضار كثيرة: منها الضرر الديني؛ لأن المسافر وحده لا يجد ¬
من يصلي معه جماعة، ودنيوي؛ لأنه لا يجد المعين في الطريق، وقيد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السير بالليل: «ما سار راكب بليل وحده»؛ لأن احتمال الضرر في الليل أكبر، وإلا فالمشروع أن لا يسافر المسلم وحده بليل ولا نهار إلا لضرورة أو مصلحة لا تنتظم إلا بالانفراد، كإرسال الجاسوس، والطليعة (¬1). قال ابن حجر رحمه الله: "ويحتمل أن تكون حالة الجواز مقيدة بالحاجة عند الأمن، وحالة المنع مقيدة بالخوف حيث لا ضرورة" (¬2) قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب» (¬3). قال الإمام الخطابي رحمه الله؛ "معناه والله أعلم: أن التفرد والذهاب وحده في الأرض من فعل الشيطان، أو هو شيء يحمله عليه الشيطان ويدعوه إليه، فقيل على هذا: إن فاعله شيطان. ويقال: إن اسم الشيطان مشتق من الشطون: وهو البعد والنزوح، ويقال: بئر شطون: إذا كانت بعيدة المهوى، فيحتمل على هذا أن يكون المراد أن الممعن في الأرض وحده مضاهئًا للشيطان في فعله، وشبه اسمه، وكذلك الاثنان ليس معهما ثالث، فإذا صاروا ثلاثة فهم ركب: أي جماعة وصحب" (¬4) ويوضح معنى الحديث ما رواه سعيد بن المسيب مرسلًا، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشيطان يهم بالواحد، والاثنين، فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم» (¬5). قال الإمام ابن عبد البر: "كان مالكًا رحمه الله يجعل الحديث الثاني في هذا ¬
الباب مفسرًا للأول، والمعنى أن الجماعة - وأقلها ثلاثة - لا يهم بهم الشيطان، ويبعد عنهم، وإنما سمي الواحد شيطانًا؛ لأن الشيطان في أصل اللغة: هو البعيد من الخير، من قولهم: نوى شطون: أي بائنة بعيدة، فالمسافر وحده بعيد عن خير الرفيق وعونه، والأنس به، وتمريضه، ودفع وسوسة النفس بحديثه، ولا يؤمن على المسافر وحده أن يضطر إلى المشي بالليل فتتعرضه الشياطين المردة: هازلين، ومتلاعبين، ومفزعين" (¬1). وقال الخطابي رحمه الله: "المنفرد وحده في السفر إن مات لم يكن بحضرته من يقوم بغسله ودفنه وتجهيزه، ولا عنده من يوصي إليه في ماله، ولا يحمل تركته إلى أهله ويورد خبره عليهم، ولا معه في سفره من يعينه على الحمولة، فإذا كانوا ثلاثة تعاونوا، وتناوبوا المهنة والحراسة، وصلوا الجماعة وأحرزوا الحظ منها" (¬2). وعن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: خطبنا عمر بالجابية فقال: "أيها الناس إني قمت فيكم كما قام رسول الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فينا فقال: «أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد، ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن» (¬3). فينبغي للداعية أن يحض الناس على أن لا يسافر الإنسان وحده، بل ثلاثة فأكثر إلا لضرورة، ويحثهم على العمل بآداب السفر؛ ليقتدوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك (¬4). ¬
ثانيًا: من صفات الداعية: الرحمة والشفقة على مصلحة المدعو: إن الداعية الصادق مع الله عَزَّ وَجَلَّ يحب للناس ما يحبه لنفسه، فيرحمهم، ويعطف عليهم، ويشفق على مصالحهم فيعلمهم ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، ولهذه الرحمة قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده» فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمؤمنين رحيما (¬1) فوجههم إلى ما يجلب لهم الخير ويدفع عنهم السوء والشر (¬2). ثالثًا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: إن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأن التوكل يقوم على أصلين: اعتماد القلب على الله عَزَّ وَجَلَّ، والعمل بالأسباب التي يقتضيها التوكل على الله سبحانه وتعالى، ففي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده» دلالة على أهمية الرفيق في السفر، وقد بينت الأحاديث الأخرى أن أقل المسافرين ثلاثة؛ لما يحصل بينهم من التعاون في أمور الدين والدنيا، وهذا لا ينافي التوكل، بل هو من التوكل على الله عَزَّ وَجَلَّ (¬3). رابعًا: من أساليب الدعوة: الترهيب: ظهر في هذا الحديث أسلوب الترهيب؛ في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده» وهذا فيه تخويف من سفر المسلم منفردًا؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم أضرارًا لا يعلمها الناس، وقد بين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للناس ذلك، وهذا يؤكد على أهمية أسلوب الترهيب في الدعوة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ (¬4). ¬
باب الجهاد بإذن الأبوين
138 - باب الجهاد بإذن الأبوين [حديث جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال أحي والداك] 114 - [3004] حدثنا آدم: حدثنا شعبة: حدثنا حبيب بن أبي ثابت قال: "سمعت أبا العباس الشاعر - وكان لا يتهم في حديثه - قال: سمعت عبد الله بن عمرو (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول: «جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستأذنه في الجهاد فقال: "أحي والداك؟ " قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد» (¬2). وفي رواية: ". . «قال رجل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أجاهد؛ قال: "ألك أبوان؟ " قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد» (¬3). الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية الشورى مع الإمام أو العلماء والدعاة. 2 - حرص الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم على الجهاد في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ. ¬
3 - أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه. 4 - من أساليب الدعوة: السؤال والجواب. 5 - من موضوعات الدعوة: الحض على بر الوالدين. 6 - من أساليب الدعوة: الترغيب. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولًا: أهمية الشورى مع الإمام أو العلماء والدعاة: إن الشورى لها أهمية بالغة؛ لما لها من المنافع والفوائد الدينية والدنيوية، ومما يوضح أهمية ذلك ما فعله هذا الرجل الذي جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستأذنه في الجهاد، ويستشيره في ذلك، قال عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: «جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستأذنه في الجهاد فقال: "أحي والداك؟» وفي رواية: «قال رجل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أجاهد؟ قال: "لك أبوان؟ " قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهد» فدل ذلك على أهمية الشورى وعظم مكانتها، وأن المستشار مؤتمن، فيتأكد عليه أن يشير بالنصيحة الخالصة (¬1). فينبغي للداعية أن يعتني بالشورى عناية فائقة؛ لما فيها من جلب المنافع ودفع المضار وزيادة الأجر؛ ولهذا حصل لهذا السائل بالشورى أفضل من جهاد التطوع الذي جاء في طلبه (¬2) وهذا يؤكد أهميتها (¬3) وأن الإنسان العاقل لا يستبد برأي نفسه في الأمور المهمة حتى يستشير من هو أعرف منه بهذا الأمر (¬4). ولا شك أن الداعية أو غيره ممن يستشار يتأكد عليه أن يتأنى ويتعرف على أحوال المستشير؛ ليقدم إليه الشورى السديدة؛ قال الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله: "فيه دليل على أن المستشار يسأل عن أحوال المستشير حتى يعلمها وحينئذ يشير عليه بما هو الأصلح في حقه؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما استشاره هذا الصحابي هل يخرج للجهاد أم لا؟ سأل عن حاله في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أحي والداك؟» حتى علم ¬
ما هو الأقرب في حقه بالنسبة إلى حاله، فأرشده إليه" (¬1). ثانيًا: حرص الصحابي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على الجهاد في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ: إن الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أفضل الناس وأحرص الخلق على الخير والرغبة فيما عند الله عَزَّ وَجَلَّ؛ ولهذا جاء هذا الرجل يستأذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجهاد، فقال: «أجاهد؟» فسأله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أحي والداك؟» قال: نعم، فدله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أفضل من جهاد التطوع فقال: «ففيهما فجاهد» أي خصصهما بجهاد النفس في رضاهما (¬2). وهذا كله يدل على حرص هذا الصحابي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على الأفضل؛ وقد بين ابن حجر رحمه الله: أن هذا الرجل استفصل ". . . عن الأفضل في أعمال الطاعات ليعمل به؛ لأنه سمع فضل الجهاد فبادر إليه، ثم لم يقنع حتى استأذن فيه فدل على ما هو أفضل منه في حقه" (¬3). فينبغي لكل مسلم وخاصة الداعية إلى الله عَزَّ وَجَلَّ أن يكون حريصا على فعل الطاعات دائما حتى يأتيه اليقين، والله المستعان وعليه التكلان. ثالثًا: أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه: إن السؤال عما أشكل من أمور الدين أمر مهم؛ لأنه يفتح للإنسان باب العلم والمعرفة؛ وقد ظهر في هذا الحديث أن رجلًا جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله بقوله: "أجاهد؟ " ثم أرشده النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الجهاد في بر والديه؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ولولا السؤال ما حصل له العلم بذلك " (¬4). فينبغي للمسلم أن يسأل عما أشكل عليه حتى يحصل له العلم النافع، ويرتفع عنه الجهل (¬5). ¬
رابعًا: من أساليب الدعوة: السؤال والجواب: لا ريب أن من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ أسلوب السؤال والجواب؛ وقد سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الرجل في هذا الحديث فقال: «أحي والداك»؟ " فلما أجابه الرجل بنعم قال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ففيهما فجاهد». فينبغي للداعية أن يسأل بعض المدعوين ليختبر ما عندهم ثم يجيبهم بالجواب الصحيح كما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل مع بعض المدعوين (¬1). خامسًا: من موضوعات الدعوة: الحض على بر الوالدين: إن الحث على بر الوالدين من أهم المهمات، وأعظم القربات، ولهذه الأهمية العظيمة قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن استأذنه في الجهاد: «أحي والداك؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد» قال ابن حجر رحمه الله: "أي إن كان لك أبوان فبالغ جهدك في برهما والإحسان إليهما؛ فإن ذلك يقوم مقام الجهاد" (¬2)؛ لأن المراد بالجهاد في الوالدين: بذل الجهد والوسع والطاقة في برهما؛ ولأهمية ذلك بينً العلماء أنه لا يجوز الخروج للجهاد إلا بإذن الأبوين بشرط أن يكونا مسلمين؛ لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية، فإن تعين الجهاد وكان فرض عين فلا إذن؛ لأن الجهاد أصبح فرضا على الجميع: إما باستنفار الإمام، أو هجوم العدو على البلاد، أو حضور الصف (¬3). وبر الوالدين ملزم به كل مسلم ومسلمة، وهو من أعظم الطاعات وأوجب الواجبات لعدة أدلة منها: 1 - قرن الله حق الوالدين والإحسان إليهما بعبادته سبحانه وتعالى كما قرن شكرهما بشكره؛ لأنه الخالق وحده، وقد جعل الوالدين السبب الظاهر ¬
في وجود الولد، وهذا يدل على شدة تأكد حقهما والإحسان إليهما قولًا وفعلًا؛ لأن لهما من المحبة للولد والإحسان إليه في حال صغره وضعفه ما يقتضي تأكد الحق ووجوب البر.، وتحريم أدنى مراتب الأذى: وهو التضجر أو التأفف من خدمتهما، وزجرهما بالكلمة العالية، أو نفض اليد عليهما، وقد جاء حق الوالدين مقرونة بعبادة الله عَزَّ وَجَلَّ في آيات كثيرة (¬1) منها قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36] (¬2). وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151] (¬3). وقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] (¬4) وقال عَزَّ وَجَلَّ: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] (¬5). 2 - بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر بذلك ورتبه بثم التي تعطي الترتيب والمهلة (¬6) فعن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال «سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي العمل أفضل؛ قال: "الصلاة لوقتها" قال: قلت: ثم أي؟ قال: "ثم بر الوالدين" قال: قلت: ثم أي؟ قال: "ثم الجهاد في سبيل الله» (¬7). 3 - بر الوالدين يرضي الرب عَزَّ وَجَلَّ، فعن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد» (¬8). 4 - بر الوالدين يدخل الجنة، فعن أبي الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال سمعت رسول ¬
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه» (¬1) وعن معاوية بن جاهمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما «أن جاهمة جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هل لك من أم؟ " قال؛ نعم. قال: "فالزمها فإن الجنة تحت (¬2) رجليها» (¬3). 5 - دعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من لم يبر والديه عند الكبر، فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رغم أنفه (¬4) ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه" قيل: من يا رسول الله؟ قال: "من أدرك والديه عند الكبر: أحدهما، أو كليهما ثم لم يدخل الجنة» (¬5) قال الإمام القرطبي رحمه الله: "وهذا دعاء مؤكد على من قصر في بر أبويه، ويحتمل وجهين: أحدهما أن يكون معناه: صرعه الله لأنفه فأهلكه، وهذا إنما يكون في حق من لم يقم بما يجب عليه من برهما. وثانيهما أن يكون معناه: أذله الله؛ لأن من ألصق أنفه - الذي هو أشرف أعضاء الوجه - بالتراب - الذي هو موطئ الأقدام وأخس الأشياء - فقد انتهى من الذل إلى الغاية القصوى، وهذا يصلح أن يدعى به على من فرط في متأكدات المندوبات، ويصلح لمن فرط في الواجبات، وهو الظاهر، وتخصيصه عند الكبر بالذكر - وإن كان برهما واجبًا على كل حال - إنما كان ذلك لشدة حاجتهما إليه؛ ولضعفهما عن القيام بكثير من مصالحهما، فيبادر الولد اغتنام فرصة برهما؛ لئلا تفوته بموتهما فيندم على ذلك" (¬6). ¬
وقد خص الله حالة الكبر للوالدين بمزيد من الأمر بالإحسان، والبر، والعطف، والشفقة والرحمة؛ لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره؛ لتغير الحال عليهما بالضعف، والكبر، فألزم سبحانه وتعالى في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل؛ لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلا عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه؛ ولهذا خص هذه الحالة بالذكر، وأيضًا فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة، ويحصل الملل، ويكثر الضجر، فيظهر غضبه على أبويه، وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما لقلة دينه وضعف بصيرته، وأقل المكروه ما يظهر بتنفسه المتردد من الضجر، وقد أمر الله أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة وهو السالم عن كل عيب (¬1) فقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] (¬2) وأمره الله عَزَّ وَجَلَّ أن يتواضع لهما ويخفض لهما جناح الذل من الرحمة احتسابا للأجر لا للخوف منهما، وأمره عَزَّ وَجَلَّ أن يدعو لهما بالرحمة أحياءً وأمواتا، جزاءً على تربيتهم وإحسانهم، فقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] (¬3) 6 - بين رسول الله عَزَّ وَجَلَّ بما يجزي الولد والده، فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يجزي ولد والدًا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» (¬4). وعن أبي بردة أنه شهد: «ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، ورجل يماني يطوف بالبيت، حمل أمه وراء ظهره يقول: إني لها بعيرها المذلل ... إن أذعرت ركابها لم أذعر ثم قال: يا ابن عمر، أتراني جزيتها؛ قال: "لا، ولا بزفرة واحدة» (¬5). ¬
7 - من بر الوالدين والإحسان إليهما أن لا يتعرض لسبهما، ولا يعقهما ولا يكون سببا في شتمهما، فعن عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا يا رسول الله، هل يشتم الرجل والديه؟ قال: "نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه» (¬1) وعن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثا (¬2) ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير منار الأرض» (¬3). 8 - بر الوالدين وإن كان فرضًا فإنه يتفاوت في الأحقية، فالأم عانت صعوبة الحمل، وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع والتربية، فهذه ثلاث منازل تمتاز بها الأم (¬4) «فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ (¬5) قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك» (¬6) وفي رواية لمسلم: «أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك» (¬7). 9 - من تمام البر صلة أهل ود الوالدين، فعن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أن رجلًا من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال عبد الله بن دينار: أصلحك الله إنهم الأعراب وإنهم يرضون باليسير، فقال عبد الله: إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن أبر ¬
البر صلة الولد أهل ود أبيه " (¬1) ومن الأعمال الطيبة المباركة التي يوصل بها الوالدان بعد موتهما: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما (¬2). 10 - بر الوالدين لا يختص بأن يكونا مسلمين، بل حتى ولو كانا كافرين، يبرهما ويحسن إليهما قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] (¬3). «وعن أسماء بنت أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا قالت: أتتني أمي راغبة (¬4) في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أأصلها؟ قال: "نعم» قال ابن عيينة فأنزل الله تعالى فيها: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] (¬5). ومن أعظم البر دعوتهما إلى الله عَزَّ وَجَلَّ وتعليمهما ما ينفعهما؛ لأنهما أحق الناس بالتوجيه مع الرفق والرحمة. 11 - من عظم حقهما قرن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقوقهما بالشرك بالله عَزَّ وَجَلَّ، فعن أبي بكرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " ثلاثًا. قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين" وجلس وكان متكئا فقال: "ألا وقول الزور" فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت» (¬6) وعن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الكبائر قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور» (¬7). ¬
12 - دعوة الوالدين مستجابة؛ ففي حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رجلًا عابدًا، وكان في صومعة له، فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج أنا أمك كلمني، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، وفي اليوم الثاني كذلك فأقبل على صلاته، وفي اليوم الثالث أتته، فقال: رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته، قالت: "اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات" فاستجاب الله دعاءها فبهتته بغي من بني إسرائيل حامل من الزنا، وقالت: هو الذي فعل بها، فعذب وهدمت صومعته، وأخيرًا أنجاه الله بعد العقوبة العاجلة (¬1). وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم " (¬2). 13 - ولعظم حقهما أكرم الله من برهما بإجابة دعواته، ومن ذلك حديث الثلاثة الذين انحدرت عليهم صخرة عظيمة فأغلقت عليهم باب الغار؛ فإن منهم رجلًا كان برًا بوالديه، فتوسل بذلك العمل الصالح فاستجاب الله دعاءه (¬3) ومن ذلك إخبار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أفضل التابعين وأنه لو أقسم على الله لأبره، والسبب أن له والدة هو بها بر (¬4). فينبغي للداعية أن يحض الناس ويحثهم على بر الوالدين، ويحذرهم من العقوق والقطيعة؛ فإن تعليم الناس ما ينفعهم مما أوجب الله عليهم من أهم الواجبات والله المستعان. ¬
سادسًا: من أساليب الدعوة: الترغيب: إن الترغيب من الأساليب المهمة التي تجذب قلوب المدعوين؛ وقد ظهر هذا الأسلوب في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «للرجل الذي يستأذن في الجهاد: " أحي والداك؟ " قال: نعم. قال: " ففيهما فجاهد» فدل ذلك على فضل بر الوالدين وأنه أفضل من جهاد التطوع في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي هذا الحديث فضل بر الوالدين، وتعظيم حقهما، وكثرة الثواب على برهما" (¬1) وهذا يوضح للداعية إلى الله عَزَّ وَجَلَّ أهمية الترغيب وأثره (¬2). ¬
باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل
239 - باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل [حديث لا تبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت] 115 - [3005] حدثنا عبد الله بن يوسف: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عباد بن تميم: أن أبا بشير الأنصاري (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أخبر أنه كان مع رسول الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في بعض أسفاره، قال عبد الله: حسبت أنه قال: والناس في مبيتهم، فأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولًا: «لا تبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت» (¬2). شرح غريب الحديث: " قلادة من وتر " قيل: أراد بالأوتار: جمع: وتر القوس، أي: لا تجعلوا في أعناقها الأوتار فتختنق؛ لأن الخيل ربما رعت الأشجار فنشبت الأوتار ببعض شعبها فخنقتها. وقيل: إنما نهاهم عنها؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن تقليد الخيل بالأوتار يدفع عنها العين والأذى، فتكون كالعوذة لها، فنهاهم وأعلمهم أنها لا تدفع ضررا ولا تصرف حذرًا، ولا ترد من أمر الله شيئًا (¬3). الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من ميادين الدعوة: السفر وطرق السير. ¬
2 - من وسائل الدعوة: إرسال الرسل. 3 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الشرك ووسائله. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولًا: من ميادين الدعوة: السفر وطرق السير: إن السفر وطرق السير من ميادين الدعوة التي استخدمها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعوته؛ ولهذا جاء في هذا الحديث عن عباد بن تميم أن أبا بشير الأنصاري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أخبره أنه كان مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض أسفاره، فأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولًا: «لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة إلا قطعت» فظهر أن السفر من ميادين الدعوة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ. فينبغي للداعية أن يعتني بالدعوة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ في السفر كما يعتني بها في غيره (¬1). ثانيًا: من وسائل الدعوة: إرسال الرسل: لا شك أن إرسال الرسل والدعاة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ من أهم وسائل الدعوة خارج البلاد أو في الأماكن البعيدة منها التي لا يصل إليها الدعاة في الغالب، أو في الجمع الكبير الذين لا يسمعون صوت الداعية؛ ولهذا أرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولًا يبلغ الناس أن: «لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت» وذكر الإمام ابن عبد البر رحمه الله: "أن الرسول الذي أرسله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث هو: زيد بن حارثة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (¬2) وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرسل الرسل، ويبعث البعوث للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. فينبغي العناية بهذه الوسيلة؛ لأهميتها (¬3). ثالثًا: من موضوعات الدعوة: التحذير من الشرك ووسائله: ظهر في هذا الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بقطع القلائد من الأوتار وغيرها سدًا ¬
لأبواب الشرك وقطعا لوسائله؛ ولهذا قال: «لا تبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت» قوله: "أو قلادة" قيل: للتنويع (¬1) وقيل: للشك (¬2) ووقع في رواية أبي داود: «لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر ولا قلادة إلا قطعت» (¬3) فدل ذلك على أنه من عطف العام على الخاص (¬4) وقد اختلف أهل العلم في المقصود بالأوتار: فقيل: إنهم كانوا يقلدون الإبل أوتار القسي؛ لئلا تصيبها العين، الواحد منه "وتر القوس" (¬5) فأمروا بقطعها إعلاما بأن الأوتار لا ترد من أمر الله شيئا. وقيل: نهاهم عن ذلك لئلا تختنق الدابة بها عند الركض أو عند الرعي في الأشجار. وقيل: نهاهم عن ذلك، لأنهم كانوا يعلقون فيها الأجراس؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس» (¬6)؛ ولحديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الآخر: «الجرس مزامير الشيطان» (¬7) وقيل: إن الأوتار في هذا الحديث بمعنى طلب الدم والثأر، أي: لا تطلبوا بها ذحول الجاهلية (¬8) وأنكر الإمام القرطبي وغيره هذا القول الرابع فقال: "يعني بالوتر: وتر القوس ولا معنى لقول من قال: إنه يعني بذلك: الوتر الذي هو الذحل: وهو طلب الثأر؛ لبعده لفظا ومعنى" (¬9) قلت: والصواب ما قاله الإمام مالك رحمه الله أنهم كانوا يقلدون الإبل أوتار القسي؛ لئلا تصيبها العين، وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "والصواب أن ذلك النهي في باب الاعتقاد، وخشية العين، ¬
أو المرض، أو الجن، أو غير ذلك من اعتقادات الجاهلية والقلادة من الأوتار: كالتمائم، سواء كانت على الإبل أو الخيل، أما للزينة فلا بأس بها" (¬1). فينبغي للداعية أن يحذر الناس من الشرك ووسائله؛ قال الله عَزَّ وجَلَّ: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] (¬2). وقال عَزَّ وجَلَّ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] (¬3). وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا: «من تعلق شيئًا وكل إليه» (¬4) وعن عقبة بن عامر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مرفوعًا: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة (¬5) فلا ودع الله له» (¬6) وفي رواية: «من تعلق تميمة فقد أشرك» (¬7). فينبغي للداعية أن يبين للناس أن تعليق القلائد من الوتر وغيرها من الخيوط والتمائم من وسائل الشرك؛ لأن بعض الناس يظنون أن تعليق ذلك من أسباب السلامة، ولا بد للعبد أن يعرف في الأسباب ثلاثة أمور: 1 - لا يجعل من الأسباب سببا إلا ما ثبت أنه من الأسباب المشروعة. 2 - لا يعتمد على الأسباب بل يعتمد على مسببها ومقدرها مع قيام العبد بالمشروع منها وحرصه على النافع منها. ¬
3 - يعلم أن الأسباب مهما عظمت وقويت فإنها مرتبطة بقضاء الله وقدره ولا خروج لها عنه، والله يتصرف فيها كيف يشاء إن شاء أبقى سببيتها جارية على مقتضى حكمته؛ ليقوم بها العباد ويعرفوا بذلك مقتضى حكمته حيث ربط المسببات بأسبابها والمعلولات بعللها، وإن شاء غيرها كيف شاء، لئلا يعتمد عليها العباد؛ وليعلموا كمال قدرته. إذا علم ذلك فمن علق شيئًا أو لبس حلقة أو خيط أو نحو ذلك، قاصدًا بها رفع البلاء بعد نزوله أو دفعه قبل نزوله فقد أشرك شركًا أكبر إذا اعتقد أنها هي الدافعة الرافعة للبلاء. أما إذا اعتقد أن الله هو الدافع الرافع وحده ولكن اعتقدها سببا، يستدفع بها البلاء فقد جعل ما ليس سببا شرعيًا سببا وهذا كذب على الشرع والقدر: فأما الكذب على الشرع؛ فلأن الشرع نهى عن ذلك أشد النهي وما نهى عنه فليس من الأسباب النافعة، وأما القدر؛ فلأن هذا ليس من الأسباب المعهودة ولا غير المعهودة التي يحصل بها المقصود ولا من الأدوية المباحة النافعة، وهو من جملة وسائل الشرك؛ لأن قلبه لا بد أن يتعلق بها، وذلك نوع شرك ووسيلة إليه (¬1) وهذا كله يؤكد تعليم الناس التوحيد وتحذيرهم من الشرك ووسائله. ¬
باب الجاسوس
141 - بَابُ الجَاسُوسِ وقول الله عَزَّ وجَلَّ: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ} [الممتحنة: 1] (¬1). التجسس: التبحث. [حديث انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها] 116 - [3007] حدثنا علي بن عبد الله: حدثنا سفيان: حدثنا عمرو بن دينار سمعت منه مرتين قال: أخبرني حسن بن محمد قال: أخبرني عبيد الله بن أبي رافع قال: «سمعت عليا " (¬2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول: "بعثني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا والزبير (¬3) والمقداد (¬4) وقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينةً ومعها كتاب فخذوه منها". فانطلقنا تعادى بنا خيلنا، حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب. فقالت: ما معي من كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب. فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة (¬5) إلى أناس من المشركين من أهل مكة ¬
يخبرهم ببعض أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا حاطب ما هذا؟ " قال: يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرأً ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفرًا ولا ارتدادًا ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد صدقكم". فقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق. قال: "إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». قال سفيان: وأي إسناد هذا؟ (¬1). وفي رواية: حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا أبو عوانة، عن حصين، عن فلان قال: تنازع أبو عبد الرحمن، وحبان بن عطية فقال أبو عبد الرحمن لحبان: لقد علمت الذي (¬2) جرأ صاحبك على الدماء - يعني عليا - قال: ما هو لا أبا لك؟ قال شيء سمعته يقوله: قال: ما هو؟ قال: بعثني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والزبير وأبا مرثد (¬3) وكلنا فارس قال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة ¬
حاج (¬1) " قال أبو سلمة: هكذا قال أبو عوانة حاج "فإن فيها امرأةً معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين فائتوني بها" فانطلقنا على أفراسنا حتى أدركناها حيث قال لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسير على بعير لها وكان كتب إلى أهل مكة بمسير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم فقلنا: أين الكتاب الذي معك؟ قالت: ما معي كتاب، فأنخنا بها بعيرها فابتغينا في رحلها فما وجدنا شيئًا فقال صاحبي (¬2) ما نرى معها كتابا قال: فقلت: لقد علمنا ما كذب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم حلف علي: والذي يحلف به لتخرجن الكتاب أو لأجردنك، فأهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء، فأخرجت الصحيفة، فأتوا بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين دعني فأضرب عنقه، فقال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا حاطب ما حملك على ما صنعت؟ " قال: يا رسول الله ما لي أن لا أكون مؤمنًا بالله ورسوله، ولكني أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع بها عن أهلي ومالي، وليس من أصحابك أحد إلا له هنالك من قومه من يدفع الله به عن أهله وماله. قال: "صدق لا تقولوا له إلا خيرًا" قال: فعاد عمر فقال: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين دعني فلأضرب عنقه، قال: "أوليس من أهل بدر؟ وما يدريك لعل الله اطلع عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة" فاغرورقت عيناه فقال: الله ورسوله أعلم. قال أبو عبد الله: خاخ أصح، ولكن كذلك قال أبو عوانة: حاج وحاج تصحيف، وهو موضع وهشيم يقول: خاخ» (¬3). وفي رواية: «ما حملك يا حاطب على ما صنعت؟ " قال: ما بي إلا أن أكون ¬
مؤمنا بالله ورسوله، وما غيرت ولا بدلت». . . " (¬1). وفي رواية: ". . . «فأنزل الله السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1] إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]» (¬2). وفي رواية: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها امرأةً من المشركين معها كتاب من حاطب». . . " (¬3). وفي رواية: «ما هذا يا حاطب؟ " قال: لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت امرأً من قريش». . . " (¬4). شرح غريب الحديث: * " روضة خاخ " هي بخاءين معجمتين: موضع بين مكة والمدينة (¬5). * " ظعينة " جمعها: ظعن، وأصل الظعينة؛ الراحلة التي يرحل ويظعن عليها، أي: يسار عليها، وقيل للمرأة ظعينة؛ لأنها تظعن مع الزوج حيثما ظعن (¬6). * " عقاصها " ضفائرها، وقيل: هو الخيط الذي تعقص به أطراف الذوائب ويقال: عقص الشعر: ضفره وفتله، وأصل العقص اللي والعقد (¬7). * " حجزتها " أصل الحجزة موضع شد الإزار ومعقده في الوسط عند السرة، ثم قيل للإزار: حجزة للمجاورة (¬8). ¬
* " ملصقا في قريش " الملصق. هو الرجل المقيم في الحي وليس منهم بنسب (¬1). الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من وسائل الدعوة: إرسال الرسل وبعث البعوث. 2 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الخيانة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 3 - من صفات الداعية: المسارعة في الاستجابة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 4 - من صفات الداعية: الشجاعة. 5 - من صفات الداعية: الأناة والتثبت. 6 - من معجزات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإخبار بالأمور الغيبية. 7 - أهمية هتك أستار الجواسيس والمفسدين. 8 - أهمية الشورى مع الإمام والعالم والحاكم. 9 - من صفات الداعية: اليقين بصدق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 10 - من أساليب الدعوة: الشدة على بعض أهل المعاصي بالقول والفعل عند الحاجة تأديبًا. 11 - أهمية صدق المدعو. 12 - أهمية قول الداعية لما لا يعلمه: الله أعلم. 13 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 14 - من صفات الداعية: العفو والصفح. 15 - من موضوعات الدعوة: الولاء والبراء. 16 - من أساليب الدعوة: الحوار. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولًا: من وسائل الدعوة: إرسال الرسل وبعث البعوث. دل هذا الحديث على أهمية وسيلة إرسال الرسل، ولهذا بعث صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي بن ¬
أبي طالب والزبير بن العوام، والمقداد، وفي رواية وأبا مرثد الغنوي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم وقال لهم: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها» وهذا يؤكد أهمية إرسال الرسل وبعثهم لنصرة الإسلام والدعوة إليه (¬1). ثانيًا: من موضوعات الدعوة: التحذير من الخيانة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ظهر في مفهوم هذا الحديث أن من موضوعات الدعوة تحذير الناس من الخيانة لله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن حاطب بن أبي بلتعة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أرسل كتابًا إلى قريش يخبرهم فيه بغزو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر ابن حجر رحمه الله أن لفظ الكتاب: "أما بعد يا معشر قريش؛ فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم، والسلام" (¬2). وهذا فيه إفشاء سر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخيانته، وقد حذر الله عَزَّ وجَلَّ من الخيانة لله ورسوله فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27 - 28] (¬3). فينبغي للداعية أن يحذر الناس من الخيانة عامة، وخاصة من خيانة الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثالثًا: من صفات الداعية: المسارعة في الاستجابة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دل هذا الحديث على أن المسارعة في الاستجابة لله ورسوله من أهم المهمات، وأعظم القربات؛ ولهذا سارع هؤلاء الأربعة: علي، والزبير، والمقداد، وأبو مرثد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، في الاستجابة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ". . . فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة فإذا نحن بالظعينة. . . " وهذا فيه دلالة ظاهرة على استجابتهم لله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسارعة في ذلك، قال الله عَزَّ وجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24] (¬4). ¬
فينبغي لكل مسلم وخاصة الداعية إلى الله أن يكون مسارعًا في الاستجابة لله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬1). رابعًا: من صفات الداعية: الشجاعة: إن الشجاعة القلبية والعقلية من أهم الصفات التي يتأكد على الداعية أن يتصف بها؛ لأنها من أجمل وأكمل الصفات الحميدة، وقد ظهرت صفة الشجاعة في هذا الحديث في قول علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ للظعينة: "أخرجي الكتاب" فقالت: ما معي من كتاب. فقال: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب فأخرجته من عقاصها" وفي رواية: "فأهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجت الصحيفة. . . " وقد جمع العلماء رحمهم الله بين هذين اللفظين؛ قال الإمام الكرماني رحمه الله: "لعلها أخرجتها من حجزتها أولًا وأخفتها في الشعر ثم اضطرت إلى الإخراج منها أو بالعكس" (¬2) وذكر الحافظ ابن حجر هذا الجمع ثم قال: "أو بأن تكون عقيصتها طويلة بحيث تصل إلى حجزتها فربطته في عقيصتها وغرزته حجزتها وهذا الاحتمال أرجح" (¬3) وعلى كل حال فقد وفق الله عَزَّ وجَلَّ عليًا وأصحابه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم للشجاعة العقلية والحكمة فاستخرجوا الكتاب وجاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (¬4). خامسًا: من صفات الداعية: الأناة والتثبت: دل فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله مع حاطب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى أهمية التثبت وعدم العجلة؛ ولهذا لم يبادر إلى قتله، بل سأله عن مقصده وعمله فقال: «يا حاطب ما هذا؟ " قال: يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرأً ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها». . . " ثم ذكر عذره للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقبله ولم يعاقبه. فينبغي للداعية التثبت والتأني، والله المستعان (¬5). ¬
سادسًا: من معجزات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإخبار بالأمور الغيبية: ظهر في هذا الحديث معجزة عظيمة تدل على صدق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن الله عَزَّ وجَلَّ أرسله؛ ولهذا قال العلامة العيني رحمه الله: "وفيه البيان عن بعض أعلام النبوة، وذلك إعلام الله تعالى نبيه بخبر المرأة، الحاملة كتاب حاطب إلى قريش ومكانها الذي هي به، وذلك كله بالوحي" (¬1) وهذا يؤكد على الدعاة أن يبينوا للناس أعلام نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الحاجة لذل (¬2). سابعًا: أهمية هتك أستار الجواسيس والمفسدين: إن الستر الذي رغب الشرع فيه هو الذي لا يترتب عليه مفسدة، ولا يفوت به مصلحة؛ ولهذا لم يستر على المرأة حاملة كتاب حاطب ولم يستر أيضًا على حاطب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بل وبخ وأدب بالكلام القوي؛ ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا حاطب ما هذا؟» وفي رواية: «يا حاطب ما حملك على ما صنعت؟» وقال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأصحابه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم للمرأة: "لتخرجن الكتاب أو لأجردنك"؛ قال الإمام النووي رحمه الله: "وفيه هتك أستار الجواسيس بقراءة كتبهم سواء كان رجلًا أو امرأة، وفيه هتك ستر المفسدة إذا كان فيه مصلحة، أو كان في الستر مفسدة، وإنما يندب الستر إذا لم يكن فيه مفسدة ولا يفوت به مصلحة، وعلى هذا تحمل الأحاديث الواردة في الندب إلى الستر" (¬3) وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "هذا الحديث عظيم وفيه مسألتان: 1 - جواز التجسس إذا كان فيه نفع للمسلمين، كما فعل علي والزبير والمقداد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم. 2 - تحريم التجسس إذا كان فيه ضرر للمسلمين، أو لم يكن فيه مصلحة للمسلمين، والتجسس فيما يضر المسلمين يوجب القتل، لكن هذا الرجل له شبهة؛ ولهذا قبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عذره؛ لأمرين؛ كونه شبه عليه الأمر، [و] كونه ¬
من أهل بدر، أما من فعل ذلك من المسلمين. . . فيقتل لأن هذا ردة" (¬1) "إلا في حق حاطب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ" (¬2). ثامنًا: أهمية الشورى. مع الإمام، والعالم، والحاكم: ظهر في هذا الحديث أن الشورى من الأمور المهمة مع الإمام أو العالم أو الحاكم في الأمور العظيمة؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق» وفي رواية قال: «يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين دعني فلأضرب عنقه» قال الإمام النووي رحمه الله: "وفيه إشارة جلساء الإمام والحاكم بما يرونه، كما أشار عمر بضرب عنق حاطب " (¬3) وهذا يبين أهمية الشورى ومكانتها؛ لأن عمر لم يقدم على قتل حاطب بل استشار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمنعه من ذل (¬4). تاسعًا: من صفات الداعية: اليقين بصدق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن من الصفات العظيمة للداعية أن يتيقن صدق النبي فيما صح عنه مما أخبر به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولهذا اليقين قال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ للمرأة حينما أنكرت أن يكون معها كتاب حاطب: «لقد علمنا ما كذب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم حلف علي: والذي يحلف به لتخرجن الكتاب أو لأجردنك فأهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجت الصحيفة» وهذا يدل على أهمية اليقين الصادق بصدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل ما صح عنه مما أخبر ب (¬5). عاشرًا: من أساليب الدعوة: الشدة على بعض أهل المعاصي بالقول والفعل عند الحاجة: دل هذا الحديث على أن من أساليب الدعوة: الشدة على بعض المدعوين ¬
العصاة بالقول، والفعل عند الحاجة إلى ذلك؛ ولهذا قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في شأن حاطب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين دعني فلأضرب عنقه» فأقره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على توبيخه وتأديبه لحاطب بهذا القول القوي، ولم يوافقه على قتله؛ قال الإمام الْأُبِّيّ رحمه الله: "وفيه الشدة على أهل المعاصي بالقول والفعل، وبالسب تأديبا لهم" (¬1). الحادي عشر: أهمية صدق المدعو: إن الصدق يهدي إلى البر، ولا يأتي إلا بخير، فإذا صدق العبد دل ذلك على إيمانه ونجاه الله بالصدق، وقد دل هذا الحديث على أهمية صدق المدعو وأن نجاته بذلك؛ ولهذا أنجى الله حاطبًا؛ ولأنه من أهل بدر. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا حاطب ما حملك على ما صنعت؟ " قل يا رسول الله ما بي أن لا أكون مؤمنًا بالله ورسوله ولكني أردت أن يكون لي عند القوم يدًا يدفع الله بها عن أهلي ومالي» وفي الرواية الأخرى: «وما فعلت كفرًا ولا ارتدادًا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام" فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد صدقكم»؛ قال الإمام ابن هبيرة رحمه الله: "وفيه أن المؤمن إذا أخطأ واستبان له الخطأ أن لا يتبع خطأه بأن يجحده ويناكر عليه بل يعترف بذلك ولا يجمع بين معصيتين: في الخطأ، والجحد، كما أنه يتعين على كل مخطئ إذا تيقن خطأه في شيء أن يقلع عنه حالة تيقنه ذلك، فإن الله يغفر له خطأه إذا رجع إلى الصواب، إن شاء الله تعالى" (¬2). فينبغي لكل مسلم أن يقول الحق ولو على نفسه إلا فيما شرع الله الستر فيه مع التوبة ورد المظالم لأهله (¬3). الثاني عشر: أهمية قول الداعية لما لا يعلمه: الله أعلم: دل هذا الحديث على أنه ينبغي للداعية إذا لم يعلم شيئًا مما حصل النقاش أو الحوار فيه والأسئلة أن يقول: الله أعلم؛ ولهذا قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عندما عفا ¬
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حاطب ولم يوافقه على قتله: "الله ورسوله أعلم" وانتهى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن المراجعة واغرورقت عيناه رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (¬1). الثالث عشر: من أساليب الدعوة: الترغيب: إن في هذا الحديث الدلالة على أن من أساليب الدعوة الترغيب؛ ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في قصة حاطب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وفي لفظ: "أوليس من أهل بدر؟ وما يدريك لعل الله اطلع عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة" قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قال العلماء إن الترجي في كلام الله وكلام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للوقوع" (¬2) وقال رحمه الله: "واتفقوا على أن البشارة المذكورة فيما يتعلق بأحكام الآخرة، لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها" (¬3). وقال الإمام القرطبي رحمه الله: "إن الله تعالى أظهر صدق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعيان في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك؛ فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة من أمور الدين ومراعاة أحواله والتمسك بأعمال البر والخير إلى أن توفوا على ذلك، ومن وقع منهم في معصية أو مخالفة لجأ إلى التوبة ولازمها حتى لقي الله تعالى عليها، يعلم ذلك قطعًا من أحوالهم من طالع سيرهم وأخبارهم" (¬4). وهذا يبين أهمية ترغيب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل خير وأنه واقع لا محال (¬5). الرابع عشر: من صفات الداعية: العفو والصفح: لا ريب أن العفو والصفح من الأخلاق الكريمة التي ينبغي لكل مسلم أن يتخلق بها، ولكن لا بد أن يكون العفو في محله، ولا يحصل به مفسدة، ولا يفوت ¬
به مصلحة أعظم؛ ولهذا عفا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حاطب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وصفح، وبين أن أهل بدر قد أوجب الله لهم الجنة. فينبغي أن يكون عفو الداعية عن حكمة، ومؤاخذته عن حكمة كحال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (¬1). الخامس عشر: من موضوعات الدعوة: الولاء والبراء: لا شك أن الولاء والبراء من موضوعات الدعوة، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث بعد ذكر قصة حاطب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "فأنزل الله السورة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1] إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] (¬2) وقد أمر الله المؤمنين بموالاة الله ورسوله والمؤمنين، ونهاهم عن موالاة أعداء الله ورسوله، قال عَزَّ وجَلَّ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] (¬3). وقال الله سبحانه وتعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ - وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 55 - 57] (¬4). وقد بين العلماء رحمهم الله حقيقة الولاية والعداوة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الولاية ضد العداوة، وأصل الولاية: المحبة والقرب، وأصل العداوة: البغض والبعد" (¬5)؛ ولأهمية الولاء والبراء ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال، «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان» (¬6) ¬
وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يرفعه: «أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله» وله شواهد منها حديث عبد الله بن مسعود والبراء (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما ومن أعظم الأحاديث في الولاء حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله قال من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب». . . " (¬2) وقد بين الله عَزَّ وجَلَّ أولياءه الكمل فقال: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ - لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62 - 64] (¬3) وأولياء الله درجات في الكمال الإيماني قال الله عَزَّ وجَلَّ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32] (¬4). ولا شك أن الولاء والبراء مبنيان على قاعدة: الحب والبغض، فينبغي للداعية أن يوضح للناس ويحضهم على الموالاة والمعاداة وتكون على ثلاثة أوجه: 1 - من يحب محبة كاملة: وهذه المحبة للمؤمنين المتقين: من الأنبياء والمرسلين وعباد الله المحسنين القائمين بجميع ما أمر الله به، المبتعدين عن جميع ما نهى الله عنه. 2 - من يحب من وجه ويكره من وجه؛ لأنه قد يجتمع في المؤمن ولاية من وجه وعداوة من وجه آخر وهذا هو المسلم الذي خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا فيحب ويوالى على قدر ما معه من الخير، ويبغض ويعادى على قدر ما معه من الشر. ¬
3 - من يبغض من كل وجه: وهو من كفر بالله عَزَّ وجَلَّ، فيجب بغضه بالقلب كاملًا لازمًا لا نقص فيه، أما بالبدن والأعمال فعلى حسب القدرة ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة لا نقص فيها، وفعل العبد معها بحسب قدرته فإنه يعطى ثواب الفعل الكامل إن شاء الله تعال (¬1). السادس عشر: من أساليب الدعوة: الحوار: ظهر أسلوب الحوار في هذا الحديث؛ لما دار فيه من الحوار بين حبان بن عطية وأبي عبد الرحمن في شأن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (¬2). ¬
باب الأسارى في السلاسل
144 - بَابُ الأُسَارَى فِي السَّلَاسِلِ [حديث عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل] 117 - [3010] حدثنا محمد بن بشار: حدثنا غندر: حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل» (¬2). وفي رواية: "عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] (¬3) قال: خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام" (¬4). الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: إثبات صفات الكمال لله عَزَّ وجَلَّ. 2 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 3 - من وظائف الداعية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 4 - من وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ. 5 - شدة إعراض بعض المدعوين حتى لا ينفع معهم إلا القوة. 6 - من خصائص أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الخيرية. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولًا: من موضوعات الدعوة: إثبات صفات الكمال لله عَزَّ وجَلَّ: إن إثبات صفات الكمال لله عَزَّ وجَلَّ من أهم الموضوعات التي يلزم الداعية بيانها للناس؛ لأن عقيدة أهل السنة والجماعة: إثبات ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تمثيل، ولا تكييف (¬5) وقد ظهر في هذا الحديث إثبات ¬
صفة العجب لله عَزَّ وجَلَّ على ما يليق بجلاله وعظمته، ولا يشبه في ذلك شيئًا من خلقه (¬1) لأن صفاته لا تشبه الصفات، كما أن ذاته لا تشبه الذوا (¬2). ثانيًا: من أساليب الدعوة: الترغيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يدخلون الجنة في السلاسل» ولقوله عَزَّ وجَلَّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] * وهذا يبين أهمية الترغيب في الدعوة إلى الله سبحانه وتعال (¬3). ثالثًا: من وظائف الداعية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إن من أهم وظائف الداعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولهذا ورد في أثناء هذا الحديث قول الله عَزَّ وجَلَّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] * ولا ريب أن الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله على حسب الحاجة، والحال، والقدرة، على كل مسلم بحسبه (¬4)؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] (¬5). ومدح الله أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] (¬6). وقال عَزَّ وجَلَّ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71] (¬7). وقد أوضح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ درجات إنكار المنكر فقال: «من رأى منكم منكرًا ¬
فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (¬1). وولي أمر المسلمين ينفع الله به في ذلك نفعًا عظيمًا؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، في إقامة الحدود وغيرها، وفي التعزير وهو أنواع: منه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن، ومنه ما يكون بالضرب، واختلف العلماء في أكثر التعزير، فقيل عشر جلدات، وقيل: أكثره دون أقل الحدود، وقيل: لا حد لأكثره لكن إذا كان التعزير فيما فيه مقدر لم يبلغ به ذلك المقدر. قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذا القول أعدل الأقوال وعليه دلت سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسنة خلفائه الراشدين (¬2) ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قتل. وهذا كله من وظائف الإمام الأعظم للمسلمين (¬3) ولا بد للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من أمور ثلاثة: العلم، والرفق، والصبر: العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعد (¬4). فينبغي للداعية أن يكون أمره بالمعروف معروفا ونهيه عن المنكر غير منكر (¬5) قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "إنكار المنكر أربع درجات: الأولى أن يزول ويخلفه ضده، والثانية أن يقل وإن لم يزل بجملته، الثالثة أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد والرابعة محرمة" (¬6). فينبغي للداعية أن يراعي هذه القواعد الدعوية حتى ينفع الله بأمره ونهيه والله المستعان. رابعًا: من وسائل الدعوة الجهاد في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ: إن من الوسائل النافعة في الدعوة إلى الله ودخول الناس في الإسلام: الجهاد ¬
في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ؛ لأن من البشر من لا ينفع فيهم إلا القوة؛ ولهذا جاء في خبر أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] "خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام " قال الإمام الكرماني رحمه الله على قوله: "خير الناس للناس": "أي خير بعض الناس لبعضهم وأنفعهم لهم من يأتي بأسير مقيد في السلسلة إلى دار الإسلام؛ ليسلم؛ وإنما كان خيرًا؛ لأنه بسببه صار مسلمًا وحصل أصل جميع السعادات الدنيوية والأخروية" (¬1) فينبغي للمسلمين العناية بهذه الوسيلة العظيمة. والله المستعا (¬2). خامسًا: شدة إعراض بعض المدعوين حتى لا ينفع فيهم إلا القوة: دل هذا الحديث على شدة إعراض بعض المدعوين؛ ولهذا قال أبو هريرة: "تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم" وقد عجب الله عَزَّ وجَلَّ من شأنهم وعنادهم، ثم دخولهم الجنة بسبب أسرهم في السلاسل ثم إسلامهم؛ ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول الحديث: «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل» ومن حكمته وعظمته عَزَّ وجَلَّ أن جعل لكل داء دواءً، فشرع استخدام القوة مع المعاندين المعرضين، وأذن في ذلك وأمر به فسبحانه ما أعظم شأنه وما أحكمه عَزَّ وجَلّ (¬3). سادسًا: من خصائص أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الخيرية: دل هذا الحديث والآية التي في سياقه أن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير الأمم، كما قال أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في قول الله عَزَّ وجَلَّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قال: "خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام" فالأمة الإسلامية خير الأمم؛ لأنها تخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، حتى لو كان ذلك بالجهاد في سبيل الله عَزَّ وجَل (¬4) ¬
باب أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذراري
146 - بَابُ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ، فَيُصَاُب الوِلْدَانُ وَالذَّرَارِيُّ {بَيَاتًا} [الأعراف: 4] (¬1) ليلًا. {لَنُبَيِّتَنَّهُ} [النمل: 49] (¬2) ليلًا. {بَيَّتَ} [النساء: 81] (¬3) ليلًا. [حديث حمى إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم] 118 - [3012] حدثنا علي بن عبد الله: حدثنا سفيان: حدثنا الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس «عن الصعب بن جثامة (¬4) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: مر بي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأبواء - أو بودان - وسئل (¬5) عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم، قال: "هم منهم ".» وسمعته يقول: «لا حمى إلا لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (¬6). شرح غريب الحديث: * " يبيتون " أي يصابون ليلًا، وتبييت العدو: هو أن يقصد في الليل من غير أن يعلم فيؤخذ بغتةً، وهو البيات (¬7). * " حمى " الحمى: خلاف المباح: وهو الممنوع، وحمى الله: محارمه التي حرمها ومنع منها، والحمى الذي حماه عمر مرعى الخيل التي كان يعدها للجهاد. وقيل: كان الشريف في الجاهلية إذا نزل أرضًا استعوى كلبا فحمى مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره، وهو شريك القوم في سائر ما يرعون فيه، فنهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، وأضاف الحمى إلى الله ورسوله: أي إلا ما يحمى للخيل التي ترصد للجهاد، والإبل التي يحمل عليها في سبيل الله، وإبل الزكاة، وغيرها، كما ¬
حمى عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النقيع لنعم الصدقة والخيل المعدة في سبيل الله (¬1). * " الأبواء " قرية من عمل الفرع من عمل المدينة بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلًا (¬2). * " ودان " بفتح الواو وتشديد الدال المهملة: قرية جامعة من عمل الفرع بينها وبين هرشى نحو ستة أميال، وبينها وبين الأبواء نحو ثمانية أميال قريب من الجحفة (¬3). الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه. 2 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث. 3 - من القواعد الدعوية: عمل الداعية بالعام حتى يرد الخاص. 4 - من وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ. 5 - من موضوعات الدعوة: الحض على إبطال عادات الجاهلية. 6 - أهمية رعاية مصالح المسلمين. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولًا: أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه: إن سؤال المدعو عن الأمور التي تشكل عليه من أهم الوسائل لتحصيل العلم؛ ولهذه الأهمية سأل بعض الصحابة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هم منهم" أي لا بأس بقتلهم إذا اختلطوا بآبائهم (¬4). ¬
فينبغي العناية بالسؤال عن كل ما يشكل، حتى يحصل العلم والبصيرة. (¬1). ثانيًا: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: لا شك أن الحرص على الدقة في نقل الحديث من صفات أهل العقول السليمة؛ لأنهم يخشون الوقوع في الكذب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولهذا الحرص جاء في هذا الحديث: «مر بي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأبواء أو بودان» فقد شك الراوي هل قال الصعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بالأبواء، أو قال: بودان. قال العلامة العيني رحمه الله: "شك من الراوي" (¬2). وهذا يبين أهمية الحرص على الدقة والتثبت في نقل الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬3). ثالثًا: من القواعد الدعوية: عمل الداعية بالعام حتى يرد الخاص: دل هذا الحديث على أنه إذا ثبت الدليل في العمل بأمر عام فإنه يعمل بالعام حتى يثبت الخاص؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفي هذا الحديث دليل على جواز العمل بالعام حتى يرد الخاص؛ لأن الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تمسكوا بالعمومات الدالة على قتل أهل الشرك، ثم نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل النساء والصبيان فخص ذلك العموم، ويحتمل أن يستدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة" (¬4)؛ ولهذا ثبت عن عبد الله ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقتولة فأنكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل النساء والصبيان» (¬5) قال النووي رحمه الله: "أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا، فإن ¬
قاتلوا، قال جماهير العلماء: يقتلون" (¬1) أما إذا اختلط النساء والأطفال أو الصبيان بأهل الشرك فلم يميز المسلمون بينهم فلا حرج في قتلهم معهم؛ قال الإمام الخطابي رحمه الله في ذكره لفوائد حديث الصعب بن جثامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "وفيه بيان أن قتلهم في البيات وفي الحروب إذا لم يتميزوا وإذا لم يتوصل إلى الكبار إلا بالإتيان عليهم جائز، وأن النهي عن قتلهم منصرف إلى حال التميز والتفرق" (¬2). رابعًا: من وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ: إن من وسائل الدعوة العظيمة: الجهاد في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ؛ ولهذا بذل الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم الجهود البارزة في جهاد أعداء الإسلام، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث؛ ولهذا سأل بعضهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم، قال: "هم منهم" (¬3). خامسًا: من موضوعات الدعوة: الحض على إبطال عادات الجاهلية: لا ريب أن حض الناس على إبطال عادات الجاهلية من أهم الموضوعات التي ينبغي للداعية أن يعتني بها عناية حكيمة مسددة؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث؛ «لا حمى إلا لله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» قال الإمام الخطابي رحمه الله: "وفيه إبطال ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من ذلك، وكان الرجل العزيز منهم إذا [نزل] بلدًا مخصبا أوفى بكلب على جبل ووقف من يسمع منتهى صوته بالعواء، فحيث انتهى صوته حماه من كل ناحية لنفسه ومنع الناس منه" (¬4) وهو شريك قومه في سائر ما يرعون فنهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك وأضاف الحمى إلى الله ورسوله، وأبطل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الظلم الذي هو من عادات الجاهلية قال الله عَزَّ وجَلَّ لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ - إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18 - 19] (¬5). ¬
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "ثم جعل محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على شريعة شرعها له، وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته" (¬1)؛ ولهذا امتثل أمر ربه وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة». . . " (¬2) وهذا يوضح للداعية أهمية إبطال عادات الجاهلية السيئة. فينبغي له أن يوجه الناس إلى ما أمر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى ترك ما نهى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عادات الجاهلية. سادسًا: أهمية رعاية مصالح المسلمين: إن رعاية مصالح المسلمين والنظر فيما يعود عليهم بالنفع والخير في الدنيا والآخرة من أعظم القربات؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا حمى إلا لله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» قال الإمام الخطابي رحمه الله: "معناه لا حمى إلا على الوجه الذي أذن الله ورسوله فيه، وذلك على قدر الحاجة ووجه المصلحة من غير منع حق المسلم؛ فإن المسلمين شركاء في الماء والكلأ" (¬3)؛ وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ، والماء، والنار» (¬4) قال ابن الأثير رحمه الله: "وأضاف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الحمى إلى الله ورسوله: أي إلا ما يحمى للخيل التي ترصد للجهاد، والإبل التي يحمل عليها في سبيل الله، وإبل الزكاة وغيرها كما حمى عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النقيع (¬5) لنعم ¬
الصدقة والخيل المعدة في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ" (¬1). وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: وأما قوله: «لا حمى إلا لله ورسوله»: فمعناه: لا يجوز لأحد أن يحمي الكلأ إلا لله ورسوله: أي يكون ذلك في مصلحة المسلمين، وولي الأمر يقوم مقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا دعت الحاجة لمصلحة المسلمين عامة لا لمصلحة خاصة، وبشرط أن لا يضر المسلمين" (¬2). وقد تعين في بعض الطرق لحديث الصعب بن جثامة ما حماه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم ما حماه عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لمصلحة المسلمين، فعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أن الصعب بن جثامة قال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا حمى إلا لله ورسوله» وقال: "بلغنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمى النقيع، وأن عمر حمى الشرف (¬3) والربذة (¬4) " (¬5) ¬
باب قتل الصبيان في الحرب
147 - بَابُ قَتْلِ الصِّبْيَانِ فِي الْحَرْبِ [حديث إنكار النبي صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان] 119 - [3014] حدثنا أحمد بن يونس: أخبرنا الليث، عن نافع: أن عبد الله (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أخبره: «أن امرأةً وجدت في بعض مغازي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقتولةً، فأنكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل النساء والصبيان» (¬2). وفي رواية: «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل النساء والصبيان» (¬3). الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: تحذير المجاهدين في سبيل الله عن قتل النساء والصبيان. 2 - من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين. 3 - من صفات الداعية: الرحمة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولًا: من موضوعات الدعوة: تحذير المجاهدين في سبيل الله عن قتل النساء والصبيان: إن الإسلام دين العدالة، والرحمة والرعاية لمصالح الناس؛ وقد أنكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث قتل النساء والصبيان في الجهاد في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ ونهى عن ذلك، وهذا يؤكد على أن ذلك من موضوعات الدعوة التي ينبغي أن يبينها الداعية للمجاهدين ويحذرهم من قتل النساء والصبيان إلا إذا شاركوا في المعارك الحربية، أو اختلطوا أثناء المعارك بالكفار ولا يستطيع المسلمون التمييز؛ فإنهم حينئذ يقتلون تبعًا لا قصدًا، لعدم التمييز (¬4)؛ ولهذا ثبت عن بريدة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: «كان رسول الله" إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه ¬
بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: "اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال. . . " ثم بين هذه الخصال: الإسلام والهجرة، أو الإسلام دون الهجرة ويكونون كأعراب المسلمين، فإن أبوا الإسلام دعاهم إلى بذل الجزية، فإن امتنعوا عن ذلك استعان بالله وقاتلهم» (¬1). وهذا يؤكد على أن الهدف من الجهاد هو إعلاء كلمة الله عَزَّ وجَلَّ (¬2). ثانيا: من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين: ظهر في هذا الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يراعي أحوال المدعوين؛ ولهذا أنكر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل النساء والصبيان في الجهاد، ونهى عن ذلك؛ لأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال، وهم من جملة غنائم المسلمين (¬3) ولكن إذا شاركوا في القتال أو اختلطوا بالمقاتلين الكفار قتلوا معهم، قال الله عَزَّ وجَلَّ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] (¬4). فقتال المجاهدين يكون لمن نصب الحرب للمسلمين أو أعان على ذلك معهم (¬5) وهذا يؤكد على أهمية مراعاة أحوال المدعوين (¬6). ثالثًا: من صفات الداعية: الرحمة: لا شك أن من الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها الرحمة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن قتل النساء والصبيان رحمة بهم، وأنكر قتل هؤلاء (¬7). ¬
باب لا يعذب بعذاب الله
149 - باب لا يعذب بعذاب الله [حديث لا تعذبوا بعذاب الله] 120 - [3017] حدثنا علي بن عبد الله: حدثنا سفيان، عن أيوب، عن عكرمة: أن عليا (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حرق قومًا، فبلغ ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تعذبوا بعذاب الله»، ولقتلتهم كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من بدل دينه فاقتلوه» (¬2). وفي رواية: "أتي علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لنهي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. «لا تعذبوا بعذاب الله»؛ ولقتلتهم؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من بدل دينه فاقتلوه» (¬3). شرح غريب الحديث: * " الزنديق ": المشهور على ألسنة الناس أن الزنديق هو الذي لا يتمسك بشريعة، ويقول بدوام الدهر، والعرب تعبر عن هذا بقولهم: ملحد: أي طاعن في الأديان (¬4) وقيل: الزنديق: من الثنوية، أو القائل بالنور والظلمة، أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية، أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان (¬5). وقيل: الزنديق: هو كل من ليس على ملة من الملل المعروفة، ثم استعمل في كل معطل، وفي من أظهر الإسلام وأسر غيره (¬6). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الزنديق في عرف الفقهاء: هو المنافق الذي كان على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أبطن ¬
دينًا من الأديان: كدين اليهود والنصارى، أو غيرهم، أو كان معطلًا جاحدًا للصانع والمعاد، والأعمال الصالحة" (¬1). الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: التحذير من التعذيب بعذاب الله عَزَّ وجَلَّ. 2 - أهمية ذكر الدليل عند الفتوى لرفع الإلباس. 3 - من أصناف المدعوين: الزنادقة الملحدون. 4 - من وظائف الإمام المسلم: قتل المرتدين بعد استتابتهم. 5 - من أساليب الدعوة: الترهيب. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولًا: من موضوعات الدعوة: التحذير من التعذيب بعذاب الله عَزَّ وجَلَّ: إن هذا الحديث فيه دلالة واضحة على أن التحذير من التعذيب بعذاب الله من موضوعات الدعوة التي ينبغي للداعية أن يحذر الناس من فعلها؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تعذبوا بعذاب الله» وهذا يعم تعذيب الإنسان والحيوان، أما ما فعله علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فلأنه لم يبلغه نهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التعذيب بالنار؛ قال الكرماني رحمه الله: "كان ذلك من علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بالرأي والاجتهاد" (¬2) والمجتهد المصيب له أجران، وغيره له أجر على اجتهاده (¬3). ثانيًا: أهمية ذكر الدليل عند الفتوى لرفع الإلباس: إن من الأمور المهمة للداعية أن يذكر الدليل على ما يقول أو يفتي به؛ لأن الدليل يرفع الإلباس، ويقوي اليقين، ويزيل الشك؛ ولهذا قال ابن عباس ¬
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في هذا الحديث: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تعذبوا بعذاب الله» ولقتلتهم كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من بدل دينه فاقتلوه». وهذا يبين أهمية ذكر الدليل والعناية به (¬1). ثالثًا: من أصناف المدعوين: الزنادقة الملحدون: ظهر في هذا الحديث أن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حرق الزنادقة، فدل ذلك على أنهم من أصناف المدعوين الذين يدعون إلى الله عَزَّ وجَلَّ. فينبغي للداعية أن يسلك معهم أربعة مسالك: 1 - بيان الأدلة الفطرية على وجود الله عَزَّ وجَلَّ وربوبيته؛ لأن الفطرة: الخلقة التي خلق عليها كل موجود أول خلقه (¬2) والخلقة التي خلق عليها المولود في بطن أمه، والدين (¬3) قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه» (¬4) واستدل أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بعد سياقه للحديث بقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] (¬5). فينبغي للداعية أن يوضح للملحدين أن كل مولود يولد على نوع من الجبلة والطبع المتهيئ لقبول الدين فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يعدل عنها من يعدل لآفة من آفات البشر والتقليد، وكل مولود يولد على معرفة الله والإقرار به، فلا تجد أحدًا إلا وهو يقر بأن له صانعًا، وإن سماه بغير اسمه، أو عبد معه غيره (¬6) وإذا نظر العاقل ورجع إلى نفسه وعقله أدنى رجوع عرف افتقاره إلى الخالق عَزَّ وجَلَّ: في تكوينه، وبقائه، وتقلبه في ¬
أحواله (¬1) وإذا نظر إلى الخلائق علم فقرهم كلهم إلى الخالق في كل شيء: فقراء إليه في الخلق والإيجاد، وفي البقاء والرزق والإمداد، وفقراء إليه في جلب المنافع ودفع المضار، فانظر إلى حالة الناس إذا كربتهم الشدائد ووقعوا في المهالك، وأشرفوا على الأخطار، أو شاهدوا شيئًا من الحوادث المتجددة: كالصواعق أو الرعد، والبرق والزلازل، والبراكين المتفجرة الثائرة، والريح الشديدة، وانهمار الأمطار الغزيرة، واضطراب أمواج البحار، وفيضانات الأنهار؛ فإنهم إذا حصلت هذه المشاهد العظيمة يلجئون إلى الله، وترتفع أصواتهم بالدعاء، وقلوبهم تنظر إلى إغاثة الخالق عَزَّ وجَلَّ، ولو لم يكن إلا خلق الإنسان؛ فإنه من أعظم الآيات، فكل يعلم أنه لم يحدث نفسه، ولا أبواه أحدثاه، ولا أحد من البشر أحدثه، ويعلم أنه لا بد له من خالق خلقه، وأن هذا الخالق موجود، حي، عليم، قدير، سميع، بصير، حكيم، حفيظ (¬2) قال الله عَزَّ وجَلَّ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] (¬3). 2 - بيان البراهين والأدلة العقلية؛ فإن هذه الأدلة لها التأثير البليغ في دعوة هؤلاء إلى الله عَزَّ وجَلَّ، فيقال لهؤلاء الذين ينكرون وجود الله عَزَّ وجَلَّ: الأمور الممكن تقسيمها في العقل ثلاثة لا رابع لها: (أ) إما أن توجد هذه المخلوقات بنفسها صدفة من غير محدث ولا خالق خلقها، فهذا محال ممتنع تجزم العقول ببطلانه ضرورة ويعلم يقينًا أن من ظن ذلك فهو إلى الجنون أقرب منه إلى العقل؛ لأن كل من له عقل يعرف أنه لا يمكن أن يوجد شيء من غير موجد ولا محدث، فلا بد لكل حادث من محدث ولا سبيل إلى إنكار ذلك؛ فإن وجود الشيء من غير موجد محال وباطل، بالمشاهدة والحس والفطرة السليمة. (ب) وإما أن تكون هذه المخلوقات الباهرة هي المحدثة الخالقة لنفسها، ¬
فهذا أيضًا محال ممتنع بضرورة العقل، وكل عاقل يجزم أن الشيء لا يحدث نفسه ولا يخلقها؛ لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقا؟! فإذا بطل هذان القسمان عقلًا وفطرة، وبان استحالتهما تعين القسم الثالث: (ج) وهو أن هذه المخلوقات بأجمعها علويها وسفليها، وهذه الحوادث لا بد لها من خالق ينتهي إليه الخلق، والملك، والتدبير، وهو الله العظيم الخالق لكل شيء المتصرف في كل شيء، المدبر للأمور كلها (¬1)؛ ولهذا الدليل العقلي والبرهان القطعي قال الله عَزَّ وجَلَّ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ - أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ - أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور: 35 - 37] (¬2). وهذا يوضح أن العدم لا يخلق شيئا، والطبيعة لا تملك قدرة، والصدفة العمياء لا توجد حياة. 3 - ذكر الأدلة الحسية المشاهدة التي تدل على وجود الله، وربوبيته، وأنه الخالق لكل شيء المستحق للعبادة، وهذه الأدلة على نوعين: (أ) النوع الأول: إجابة الله عَزَّ وجَلَّ للدعوات في جميع الأوقات، فلا يحصي الخلق ما يعطيه الله للسائلين وما يجيب به أدعية الداعين، ويرفع به كرب المكروبين فتحصل المطالب الكثيرة بأسباب دعاء بعض العباد لربهم، والطمع في فضله والرجاء لرحمته، وهذا برهان مشاهد محسوس، لا ينكره إلا مكابر (¬3) قال الله عَزَّ وجَلَّ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] (¬4). (ب) - النوع الثاني: معجزات الأنبياء وهي آيات يشاهدها الناس أو يسمعونها وهي من أعظم البراهين القاطعة على وجود مرسلهم؛ لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر يجريها الله عَزَّ وجَلَّ تأييدًا لرسله ونصرًا لهم عليهم ¬
الصلاة والسلام (¬1) ومن ذلك قوله عْزَّ وجْلّ: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] (¬2) إلى غير ذلك من الآيات العظيمة (¬3) 4 - ذكر الأدلة الشرعية: وهي طريق الهداية الكاملة، وهي ما جاء عن الله عَزَّ وجَلَّ وعن رسله عليهم الصلاة والسلام، وهي تجمع بين الأدلة العقلية والنقلية، فالكتب السماوية كلها تنطق بأن الله الخالق لكل شيء المستحق للعبادة، وما جاءت به من مصالح العباد دليل على أنها من رب حكيم عليم بمصالح خلقه، وما جاءت به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها دليل على أنها من رب قادر على إيجاد ما أخبر به (¬4). رابعًا: من وظائف الإمام المسلم: قتل المرتدين بعد استتابتهم: لا ريب أن من الوظائف العظيمة والأمور المهمة قتل إمام المسلمين للمرتدين عن دين الإسلام بعد استتابتهم وامتناعهم عن الرجوع إلى دين الإسلام؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث: «من بدل دينه فاقتلوه» وقد بين الله عَزَّ وجَلَّ عظم جريمة المرتدين فقال: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] (¬5). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: "وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين" (¬6) فإذا كان المرتد عن دين الإسلام بالغًا، عاقلًا،، دعاه الإمام أو نائبه إلى الإسلام ثلاثة أيام فإن رجع وإلا قتل (¬7). ¬
خامسًا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترهيب؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من بدل دينه فاقتلوه»؛ فإن فيه الترهيب من الردة؛ لأن من ارتد عن الإسلام قتل، وأسأل الله العفو والعافية لي ولجميع المسلمين (¬1). ¬
باب
153 - بَابٌ [حديث أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح الله] 121 - [3019] حدثنا يحيى بن بكير: حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة: أن أبا هريرة (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «قرصت نملة نبيا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه أن قرصتك نملة أحرقت أمةً من الأمم تسبح الله»! " (¬2). وفي رواية: «نزل نبيّ من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، ثم أمر ببيتها فأحرق بالنار، فأوحى الله إليه: فهلا نملةً واحدةً»! " (¬3). شرح غريب الحديث: * " فأمر بجهازه " الجهاز: جهاز السفر وما يحتاج إليه فيه (¬4). * "قرية النمل" هي مساكنها وبيتها، والجمع قرى، والقرية من المساكن والأبنية: الضياع وقد تطلق على المدن. (¬5). الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من أساليب الدعوة: القصص. 2 - من موضوعات الدعوة: التحذير من مؤاخذة أحد بذنب غيره. 3 - من صفات الداعية: الصبر على الأذى. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: ¬
أولًا: من أساليب الدعوة: القصص: إن أسلوب القصص في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها عناية خاصة؛ لما للقصص من تأثير على المدعو؛ لأنه يشد الأذهان ويقرب الفهم للسامعين؛ وقد قص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا قصة هذا النبي الكريم مع النملة وإحراقه لقرية النمل، وعتاب الله له على قتله لجميع النمل. فقال: «فهلا نملة واحدة» (¬1). ثانيًا: من موضوعات الدعوة: التحذير من مؤاخذة أحد بذنب غيره: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة: الحض على عدم مؤاخذة أحد بذنب غيره؛ ولهذا عاتب الله عَزَّ وجَلَّ هذا النبي الذي أحرق قرية النمل من أجل نملة واحدة: "فأوحى الله إليه أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح الله؟ " وقد قال الله عَزَّ وجَلَّ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] (¬2). وهذا يؤكد على أنه لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، قال الإمام النووي رحمه الله: "قال العلماء: وهذا الحديث محمول على أن شرع ذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فيه جواز قتل النمل، وجواز الإحراق بالنار، ولم يعتب عليه في أصل القتل والإحراق، بل في الزيادة على نملة واحدة، وقوله تعالى: «فهلا نملة واحدة» أي فهلا عاقبت نملة واحدة هي التي قرصتك؛ لأنها الجانية، وأما غيرها فليس لها جناية، وأما في شرعنا فلا يجوز الإحراق بالنار للحيوان (¬3) إلا إذا حرق إنسان فمات بالإحراق فلوليه الاقتصاص بإحراق الجاني. . " (¬4) وأما قتل النمل في شريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمنهي عنه، فعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: «إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد» (¬5) (¬6). ¬
قال الإمام الخطابي رحمه الله: "إن النهي إنما جاء في قتل النمل في نوع منه خاص. وهو الكبار منها، ذوات الأرجل الطوال وذلك: أنها قليلة الأذى والضرر، ونهى عن قتل النحلة؛ لما فيها من المنفعة، فأما الهدهد والصرد فنهيه في قتلهما يدل على تحريم لحومهما، وذلك أن الحيوان إذا نهي عن قتله، ولم يكن ذلك لحرمته ولا لضرر فيه كان ذلك لتحريم لحمه. . . " (¬1) وقال الإمام النووي رحمه الله: "وأما قتل النمل فمذهبنا أنه لا يجوز واحتج أصحابنا فيه بحديث ابن عباس. . . " (¬2). وهذا يبين للداعية أنه ينبغي له أن يحذر الناس من أخذ بعض الناس ومعاقبتهم بذنوب غيرهم أو جناية غيرهم، والله المستعان. ثالثًا: من صفات الداعية: الصبر على الأذى: لا ريب أن الصبر على الأذى في ذات الله عَزَّ وجَلَّ من الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ ولهذا عوتب هذا النبي الكريم في هذا الحديث؛ لأنه قتل أمةً من النمل من أجل واحدة، قال الإمام القرطبي رحمه الله: "وظاهر هذا الحديث أن هذا النبي إنما عاتبه الله تعالى، حيث انتقم لنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد منه، وكان الأولى به الصبر والصفح، لكن وقع للنبي: أن هذا النوع مؤذ لبني آدم، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان غير الناطق، فلو انفرد له هذا النظر، وينضم إليه التشفي الطبيعي يعاتب، والله تعالى أعلم. لكن لما انضاف إليه التشفي الذي دل عليه سياق الحديث عوتب عليه، والذي يؤيد ما ذكرنا: التمسك بأصل عصمة الأنبياء، وأنهم أعلم الناس بالله، وبأحكامه، وأشدهم له خشية" (¬3) رحم الله الإمام القرطبي فقد أجاد وأفاد (¬4). ¬
باب حرق الدور والنخيل
154 - باب حرق الدور والنخيل [حديث ألا تريحني من ذي الخلصة] 122 - [3020] حدثنا مسدد: حدثنا يحيى، عن إسماعيل قال: حدثني قيس بن أبي حازم قال: قال لي جرير (¬1) قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟» - وكان بيتًا في خثعم يسمى كعبة اليمانية - قال فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، قال: وكنت لا أثبت على الخيل، فضرب في صدري حتى رأيت أثر أصابعه في صدري وقال: «اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديًّا». فانطلق إليها فكسرها وحرقها. ثم بعث إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبره فقال رسول جرير: والذي بعثك بالحق ما جئتك حتى تركتها كأنها جمل أجوف أو أجرب. قال: "فبارك في خيل أحمس ورجالها خمس مرات" (¬2). وفي رواية: «ألا تريحني من ذي الخلصة؛» فقلت: بلى، فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضرب يده على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري فقال: «اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديًّا» قال: فما وقعت عن فرس بعد، قال وكان ذو الخلصة بيتًا باليمن لخثعم وبجيلة، فيه نصب يعبد يقال له: الكعبة، قال: فأتاها فحرقها بالنار وكسرها، قال: ولما قدم جرير اليمن كان بها رجل يستقسم بالأزلام فقيل له إن رسول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ها هنا فإن قدر عليك ضرب عنقك قال: فبينما هو يضرب بها إذ وقف عليه جرير، فقال: لتكسرنها ولتشهدن أن لا إله إلا الله، أو لأضربن عنقك، قال: فكسرها ¬
وشهد، ثم بعث جرير رجلًا من أحمس يكنى أبا أرطاة (¬1) إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبشره بذلك فلما أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب. قال: فبرك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خيل أحمس ورجالها خمس مرات (¬2). وفي رواية: "ما حجبني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي" (¬3). شرح غريب الحديث: * " ذو الخلصة" بيت كان فيه صنم لدوس وخثعم، وبجيلة، وغيرهم، وقيل: ذو الخلصة الكعبة اليمانية التي كانت باليمن (¬4). * "أحمس" أحمس طائفة من بجيلة، منهم أبو أرطاة: حصين بن ربيعة الأحمسي (¬5). الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: راحة القلب بالتوحيد ونشره بين الناس. 2 - من موضوعات الدعوة: الحض على إزالة الشركيات. 3 - من وسائل الدعوة: بعث البعوث وإرسال الدعاة. 4 - أهمية سرعة استجابة المدعو. 5 - من صفات الداعية: التواضع. ¬
6 - من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء. 7 - من وسائل الدعوة: إزالة كل ما يفتن به الناس من بناء وغيره. 8 - أهمية البشارة وأثرها في النفوس. 9 - أهمية التأكيد بالقسم. 10 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار. 11 - من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: استجابة دعواته. 12 - من أساليب الدعوة: الترهيب. 13 - من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين. 14 - من صفات الداعية: حسن الخلق. 15 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث. 16 - من وسائل الدعوة: استمالة قلب من له شأن في قومه. 17 - من وسائل الدعوة: تعليم المجاهدين وتدريبهم استعدادًا للجهاد. 18 - أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولًا: من صفات الداعية؛ راحة القلب بالتوحيد ونشره بين الناس: إن الداعية الصادق في دعوته هو الذي يرتاح قلبه بنشر التوحيد بين الناس، وإذا انتشر الشرك أتعب ذلك قلبه وأقلقه؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجرير بن عبد الله: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "المراد بالراحة راحة القلب؛ وما كان شيء أتعب لقلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بقاء ما يشرك به من دون الله تعالى" (¬1). فينبغي للداعية أن يتصف بهذه الصفة الكريمة فيسر ويفرح بانتشار التوحيد بين الناس، ويعلمهم ذلك. ثانيًا: من موضوعات الدعوة: الحض على إزالة الشركيات: لا ريب أن من أهم الموضوعات حض الناس وحثهم على إزالة كل ما يكون ¬
وسيلة للشرك: من مشاهد، وآثار، وأشجار، وأماكن شركية؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجرير بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟» وعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفا إلا سويته" (¬1). فينبغي للداعية أن يحض الناس على هدم الأشياء الشركية، ووسائل الشرك؛ لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك. ثالثًا: من وسائل الدعوة: بعث البعوث وإرسال الدعاة: إن من وسائل الدعوة التي لها أهمية بالغة: بعث البعوث وإرسال الرسل والدعاة إلى الله عَزَّ وجَلَّ؛ لتعليم الناس الخير والقضاء على الشرك ووسائله؛ ولهذا عرض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جرير بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ ليرسله إلى هدم ذي الخلصة، فقال: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟» فانطلق جرير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في خمسين ومائة فارس من قومه، فهدم ذا الخلصة وكسرها وأحرقها. وقد اعتنى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الوسيلة، فكان يرسل الدعاة ويبعث البعوث والسرايا للدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ (¬2). رابعًا: أهمية سرعة استجابة المدعو: المدعو ينبغي له الإسراع في الاستجابة لله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن ذلك من أهم المهمات وأعظم القربات له عَزَّ وجَلَّ؛ ولهذا أسرع جرير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في الاستجابة لله عَزَّ وجَلَّ ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانطلق بمائة وخمسين فارسًا على خيلهم حتى كسر الصنم المعروف: بذي الخلصة وحرقه (¬3). خامسًا: من صفات الداعية: التواضع: دل هذا الحديث على تواضع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه ضرب في صدر جرير بن عبد الله ¬
ودعا له؛ قال العلامة العيني رحمه الله: "فيه أنه لا بأس للإمام أو العالم إذا أشار إليه إنسان في مخاطبة أو غيرها أن يضع عليه يده، ويضرب بعض جسده، وذلك من التواضع واستمالة النفوس" (¬1) فينبغي للداعية الاقتداء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تواضعه وغيره، مما لا يكون من خصائصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬2). سادسًا: من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء: ظهر في هذا الحديث أن الدعاء من أساليب الدعوة، التي ينبغي للداعية العناية بها؛ لأهميتها في استمالة القلوب؛ قال ابن حجر رحمه الله: "وفيه استمالة نفوس القوم بتأمير من هو منهم، والاستمالة بالدعاء والثناء. . " (¬3). وهذا يؤكد أهمية العناية بالدعاء للمدعوين؛ لاستمالة قلوبهم (¬4). سابعًا: من وسائل الدعوة: إزالة كل ما يفتتن به الناس من بناء وغيره: إن من سائل الدعوة إزالة ما يفتتن به الناس من الشرك ووسائله؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجرير بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟» فانطلق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في خمسين ومائة فارس فكسرها وحرقها؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث مشروعية إزالة ما يفتتن به الناس من بناء وغيره، سواء كان إنسانًا، أو حيوانًا، أو جمادًا. . " (¬5) وهذا يؤكد أهمية إزالة كل ما يفتتن به الناس. (¬6). ثامنًا: أهمية البشارة وأثرها في النفوس: لا ريب أن البشارة بما يسر الإنسان من الأمور المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل؛ لما في ذلك من تأليف القلوب واستمالتها؛ ولهذا أرسل جرير بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ¬
حصين بن ربيعة أبا أرطاة؛ ليبشر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتكسير وتحريق صنم خثعم المعروف بذي الخلصة؛ ليدخل السرور على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أتى البشير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب، فسر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فبارك على خيل أحمس ورجالاتها خمس مرات. وهذا يدل على سروره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العظيم بذلك، ويدل على مكانة البشارة في النفوس (¬1)؛ قال النووي رحمه الله: "وفي هذا الحديث استحباب إرسال البشير بالفتوح ونحوها" (¬2). تاسعًا: أهمية التأكيد بالقسم: ظهر أسلوب القسم في هذا الحديث؛ لقول أبي أرطاة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب. ولا ريب أن التأكيد بالقسم من الأمور المهمة؛ لتأكيد ما يقوله الإنسان، وهذا يؤكد أهمية هذا الأسلوب عند الحاجة (¬3). عاشرًا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار: ظهر في هذا الحديث أسلوب التكرار، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برك في خيل أحمس ورجالها خمس مرات؛ وقد ذكر (¬4) رحمه الله الحكمة من ذلك، فقال: "قيل: مبالغة واقتصارًا على الوتر؛ لأنه مطلوب، ثم ظهر لي احتمال أن يكون دعا للخيل والرجال أولهما معًا، ثم أراد التأكيد في تكرير الدعاء ثلاثا، فدعا للرجال مرتين أخريين، وللخيل مرتين أخريين؛ ليكمل لكل من الصنفين ثلاثا، فكان مجموع ذلك خمس مرات" (¬5). وهذا يدل على أهمية أسلوب التكرار (¬6). ¬
الحادي عشر: من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: استجابة دعواته: دل هذا الحديث على أن من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إجابة دعواته؛ ولهذا دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجرير بعد أن اشتكى إليه عدم ثبوته على الخيل فضرب صدره وقال: «اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديًّا» قال الإمام القرطبي رحمه الله: "فدعا له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأكثر مما طلب بالثبوت (¬1) مطلقا، وبأن يجعله هاديًا لغيره، مهديًّا لنفسه، فكان كل ذلك، وظهر عليه جميع ما دعا له به، وأول ذلك أنه نفر في خمسين ومائة فارس لذي الخلصة فحرقها، وعمل فيها جميلًا لا يعمله خمسة آلاف" (¬2) وسمعت العًلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "وفيه علم من أعلام النبوة؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرب صدره فثبت على الراحلة" (¬3). وهذا يدل على صدقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه عبد الله ورسوله (¬4). الثاني عشر: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترهيب؛ لأن جرير بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عندما قدم إلى اليمن كان بها رجل يستقسم بالأزلام، فقيل له: إن رسول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ها هنا، فإن قدر عليك ضرب عنقك، فبينما هو يضرب بها إذ وقف عليه جرير فقال: "لتكسرنها ولتشهدن أن لا إله إلا الله أو لأضربن عنقك، فكسرها وشهد. . . ". وهذا يبين أهمية أسلوب الترهيب في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ. (¬5). الثالث عشر: من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين: ظهر في هذا الحديث أن من الصفات الحميدة الحكيمة؛ مراعاة أحوال المدعوين؛ ولهذا ما حجب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جرير بن عبد الله منذ أسلم، والمقصود أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما يعلم استئذان جرير يترك كل شيء ويأذن له فورًا، مبادرًا لذلك، ¬
مبالغة في إكرامه (¬1) قال الإمام القرطبي على قول جرير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "ما حجبني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ أسلمت": "ولا يفهم من هذا أن جريرًا كان يدخل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيته من غير إذن، فإن ذلك لا يصلح؛ لحرمة بيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولما يفضي ذلك إليه من الاطلاع على ما لا يجوز من عورات البيوت" (¬2). وهذا يدل على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راعى حال جرير بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لمكانته في قومه، فلم يحجبه ويمنعه من الدخول عليه كما يحجب بعض الناس في أوقات خاصة بل كان يبادر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإذن له بالدخول، وهذا يؤكد على الدعاة مراعاة أحوال المدعوين (¬3). الرابع عشر: من صفات الداعية: حسن الخلق: ظهر في هذا الحديث أن حسن الخلق من الصفات العظيمة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ ولهذا الخلق قال جرير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ولا رآني إلا تبسم في وجهي" قال الإمام القرطبي رحمه الله: "هذا منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرح به، وبشاشة للقائه، وإعجاب برؤيته؛ فإنه من كملة الرجال: خَلْقًا وَخُلُقًا" (¬4) وقال النووي رحمه الله: "وفعل ذلك إكرامًا، ولطفًا، وبشاشةً، ففيه استحباب هذا اللطف للوارد، وفيه فضيلة ظاهرة لجرير " (¬5) وقال العلامة العيني رحمه الله: "فيه أن لقاء الناس بالتبسم، وطلاقة الوجه من أخلاق النبوة، وهو مناف للتكبر، وجالب للمودة". (¬6) وهذا يؤكد على الداعية التزامه بحسن الخلق (¬7). الخامس عشر: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: ظهر في الحديث أن الدقة في نقل الحديث من الصفات الحميدة؛ لأن رسول جرير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذي الخلصة: "ما جئتك حتى تركتها كأنها ¬
جمل أجوف أو أجرب"، فالراوي شك هل قال: أجوف، أو قال: أجرب (¬1). وهذا يؤكد حرص السلف الصالح على العناية بنقل الحديث (¬2). السادس عشر: من وسائل الدعوة: استمالة قلب من له شأن في قومه: إن من الوسائل المهمة في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ استمالة قلب من له شأن في قومه؛ ليتألف؛ ولهذا ما رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جرير بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلا تبسم في وجهه، قال الإمام الأبي رحمه الله: "فيه بر أشراف الناس وحسن لقائهم؛ لأنه كان كبير قومه" (¬3) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "وهذا يدل على التأليف وتقدير أهل الفضل، ومن كان له شأن في قومه" (¬4). وعن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يرفعه: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» (¬5) وعن جابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يرفعه: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا أتاه كريم قوم فليكرمه» (¬6) وهذا يؤكد أهمية العناية بكبير القوم وإكرامه، تأليفًا له واستمالةً لقلبه؛ لأن له الأثر الكبير في قومه، فإذا وافق على شيء وافقوا عليه أو فعل شيئًا فعلوه. فينبغي العناية بهذه الوسيلة لأهميتها في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ. السابع عشر: من وسائل الدعوة: تعليم المجاهدين وتدريبهم استعدادًا للجهاد: ظهر في هذا الحديث أن من الوسائل المهمة في الدعوة إلى الله تعليم المجاهدين وتدريبهم على وسائل الجهاد؛ وقد اعتنى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك فدعا لجرير بن ¬
عبد الله أن يثبت على الخيل فقال: «اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديًّا» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث. . . فضل ركوب الخيل في الحرب" (¬1) وقال العلامة العيني رحمه الله: "وفيه فضل الفروسية، وأحكام ركوب الخيل؛ فإن ذلك مما ينبغي أن يتعلمه الرجل الشريف والرئيس" (¬2). فينبغي العناية بهذه الوسيلة عناية خاصة؛ لأهميتها في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ (¬3). الثامن عشر: أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه: ظهر في هذا الحديث أن جرير بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شكا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لا يثبت على الخيل، فدعا له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما سقط عنها قط، وهذا يؤكد أهمية السؤال؛ فإنه استفاد من هذا السؤال استفادة عظيمة فثبت على الخيل بدعوة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬4). ¬
باب قتل النائم المشرك
155 - بَابُ قَتْلِ النَّائِمِ المُشْرِكِ [حديث بعث الرسول صلى الله عليه وسلم رهطا من الأنصار إلى أبي رافع] 123 - [3022] حدثنا علي بن مسلم: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: حدثني أبي، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رهطا من الأنصار إلى أبي رافع؛ ليقتلوه، فانطلق رجل منهم فدخل حصنهم، قال: فدخلت في مربط دواب لهم، قال: وأغلقوا باب الحصن، ثم إنهم فقدوا حمارًا لهم فخرجوا يطلبونه، فخرجت فيمن خرج أريهم أنني أطلبه معهم، فوجدوا الحمار، فدخلوا ودخلت، وأغلقوا باب الحصن ليلًا، فوضعوا المفاتيح في كوة حيث أراها، فلما ناموا أخذت المفاتيح ففتحت باب الحصن، ثم دخلت عليه فقلت: يا أبا رافع، فأجابني، فتعمدت الصوت فضربته، فصاح، فخرجت، ثم جئت ثم رجعت كأني مغيث، فقلت يا أبا رافع -وغيرت صوتي- فقال: ما لك لأمك الويل، قلت: ما شأنك؟ قال: لا أدري من دخل علي فضربني، قال: فوضعت سيفي في بطنه، ثم تحاملت عليه حتى قرع العظم، ثم خرجت وأنا دهش، فأتيت سلما لهم لأنزل منه فوقعت، فوثئت رجلي، فخرجت إلى أصحابي فقلت: ما أنا ببارح، حتى أسمع الناعية، فما برحت حتى سمعت نعايا أبي رافع تاجر أهل الحجاز. قال: فقمت وما بي قلبة، حتى أتينا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرناه» (¬2). وفي رواية: «بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبي رافع اليهودي رجالًا من الأنصار فأمر عليهم عبد الله بن عتيك (¬3) وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس ¬
بسرحهم، فقال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإني منطلق ومتلطف للبواب، لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجةً، وقد دخل الناس فهتف به البواب يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب، فدخلت فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على وتد قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه فجعلت كلما فتخت بابا أغلقت علي من داخل قلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت؟ فقلت: أبا رافع، فقال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربةً بالسيف وأنا دهش فما أغنيت شيئًا، وصاح فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل إن رجلًا في البيت ضربني قبل بالسيف، قال فأضربه ضربةً أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة له فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة ثم انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته فلما صاح الديك قام الناعي على السور، فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز فانطلقت إلى أصحابي فقلت النجاء فقد قتل الله أبا رافع فانتهيت إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحدثته فقال لي: "ابسط رجلك" فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتكها قط». (¬1). وفي رواية: «بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبى رافع عبد الله بن عتيك وعبد الله بن عتبة في ناس معهم فانطلقوا حتى دنوا من الحصن فقال لهم عبد الله بن عتيك: ¬
امكثوا أنتم حتى أنطلق فأنظر قال: فتلطفت أن أدخل الحصن ففقدوا حمارًا لهم، قال: فخرجوا بقبس يطلبونه قال: فخشيت أن أعرف فغطيت رأسي ورجلي كأني أقضي حاجةً، ثم نادى صاحب الباب من أراد أن يدخل فليدخل قبل أن أغلقه، فدخلت ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن، فتعشوا عند أبي رافع وتحدثوا حتى ذهبت ساعة من الليل، ثم رجعوا إلى بيوتهم، فلما هدأت الأصوات ولا أسمع حركةً خرجت قال: ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوة فأخذته ففتحت به باب الحصن، قال: قلت إن نذر بي القوم انطلقت على مهل، ثم عمدت إلى أبواب بيوتهم فغلقتها عليهم من ظاهر، ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم فإذا البيت مظلم قد طفئ سراجه فلم أدر أين الرجل؟ فقلت: يا أبا رافع، قال: من هذا؟ قال: فعمدت نحو الصوت فأضربه وصاح فلم تغن شيئًا؟ قال: ثم جئت كأني أغيثه فقلت: ما لك يا أبا رافع؟ وغيرت صوتي، فقال: ألا أعجبك لأمك الويل؟ دخل علي رجل فضربني بالسيف، قال: فعمدت له أيضًا فأضربه أخرى فلم تغن شيئًا فصاح وقام أهله، قال: ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث، فإذا هو مستلق على ظهره فأضع السيف في بطنه أنكفئ عليه حتى سمعت صوت العظم، ثم خرجت دهشا حتى أتيت السلم أريد أن أنزل فأسقط منه فانخلعت رجلي فعصبتها ثم أتيت أصحابي أحجل، فقلت لهم: انطلقوا فبشروا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية، فلما كان في وجه الصبح صعد الناعية فقال: أنعى أبا رافع، قال: فقمت أمشي ما بي قلبة، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبشرته». (¬1). *شرح غريب الحديث: * " الرهط " الجماعة من الناس دون العشرة (¬2). ¬
* " الكوة " ثقب في جدار البيت أو الثقبة النافذة في الحائط (¬1). * " فوثئت " فوثئت رجلي: أصابها وهن وألم دون الخلع والكسر (¬2). * " الناعية " أي النائحة، والنعاة: المخبرون بموت من مات. (¬3). * " قلبة " ما به قلبة: أي ليست به علة يقلب بها فينظر إليه (¬4). * " سرحهم " السرح، والسارحة، والسارح سواء: الماشية (¬5). * " الأقاليد " المفاتيح (¬6). * " الأغاليق " هي المفاتيح واحدها إغليق (¬7). * " علالي " الغرفة في الطبقة الثانية من الدار وما فوقها (¬8). * " أثخنته " أي بالغت فيه يقال: أثخنته الجراحة: أي بالغت فيه (¬9). * " ظبة " وضعت ظبة السيف في بطنه: أي طرف السيف (¬10). * " النجاء " مصدر منصوب: أي انجوا النجاء، تكراره للتأكيد: النجاء، النجاء: أي انجوا بأنفسكم، والنجاء: السرعة: يقال: نجا ينجو نجاءً إذا أسرع (¬11). * " نذروا بي أي علموا بي (¬12). * " دهش " يقال: دهش ودهش: إذا بهت، وأنا داهش: أي باهت (¬13). ¬
* " أحجل " يحجل في مشيه إذا قارب الخطو، والحجل أن يرفع رجلًا ويقفز على الأخرى (¬1). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من وسائل الدعوة: بعث البعوث. 2 - من صفات الداعية: الفطنة والذكاء. 3 - من صفات الداعية: الشجاعة. 4 - من وسائل الدعوة: قتل الإمام كل من آذى الله ورسوله. 5 - الابتلاء والامتحان لأولياء الله عَزَّ وجَلَّ. 6 - الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل. 7 - أهمية الحرص على الأخذ باليقين في الأمور كلها. 8 - من صفات الداعية: إثبات النعم لله والثناء عليه بها. 9 - من معجزات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شفاء المرضى بإذن الله عَزَّ وجَلَّ. 10 - أهمية البشارة في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولًا: من وسائل الدعوة: بعث البعوث: لا ريب أن بعث البعوث للدعوة والجهاد من أهم وسائل الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ؛ ولهذا اعتنى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببعث البعوث ومن ذلك ما جاء في هذا الحديث: «بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رهطًا من الأنصار إلى أبي رافع؛ ليقتلوه». فينبغي العناية بهذه الوسيلة؛ لأهميتها في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ (¬2). ثانيًا: من صفات الداعية: الفطنة والذكاء: ظهر في هذا الحديث أهمية الفطنة والذكاء، وأن الداعية ينبغي له أن يتصف ¬
بهذه الصفة الحميدة؛ ولهذه الصفة عمل عبد الله بن عتيك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أمورًا تدل على ذكائه وفطنته: منها: دخوله في مربط الدواب؛ ليتمكن من دخول الحصن، وخروجه مع من يخرج يبحث معهم عن الحمار؛ ليظهر لهم أنه يطلبه معهم، وانتباهه لمكان المفاتيح؛ ليتمكن من قبضها، وتقنعه بثوبه كأنه يقضي حاجته حتى لا يفطن له، وأخذه المفاتيح وإغلاقه أبواب بيوتهم عليهم من ظاهر وإغلاقه الأبواب على نفسه من داخل حتى لا يستطيعوا الوصول إليه إذا علموا به، ونداؤه لأبي رافع عندما لم يستطع الحصول على مكانه في البيت المظلم، وتغييره لصوته ونداؤه مرة أخرى لأبي رافع؛ ليعرف مكانه ثم يجهز عليه فيتحقق من قتله، وهذه أمور تدل على ذكاء عبد الله بن عتيك وفطنته رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فينبغي للداعية أن يكون ذكيا فطنًا منتبها. والله المستعان (¬1). ثالثًا: من صفات الداعية: الشجاعة: ظهرت صفة الشجاعة في هذا الحديث من فعل عبد الله بن عتيك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لأنه عمل أعمالًا تدل على شجاعته وقوة قلبه وعقله؛ حيث دخل في حصن أبي رافع بن أبي الحقيق، وكان متسترًا في تلك الجموع الكثيرة: من الحراس، والضيوف وغيرهم، فتجسس على هذا الطاغية حتى قتله؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي هذا الحديث جواز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة وأصر (¬2) وجواز التجسس على أهل الحرب وتطلب غرتهم، والأخذ بالشدة في محاربة المشركين، وجواز إبهام القول للمصلحة. . . " (¬3). فينبغي للداعية أن يكون شجاعًا عقليًّا وقلبيًّا في أموره كلها، والله الموفق (¬4). رابعًا: من وسائل الدعوة: قتل الإمام كل من آذى الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دل هذا الحديث على أن من وسائل الدعوة قتل كل من صدر منه أذىً لله أو ¬
لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولهذا «بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رهطًا إلى أبي رافع ليقتلوه»؛ لأنه كان يؤذي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويعاديه، ويؤلب عليه الناس (¬1)؛ قال ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث من الفوائد جواز. . . قتل من أعان على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بيده، أو ماله، أو لسانه" (¬2) وهذا يؤكد أهمية قتل من آذى الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬3) وهو من أهم وسائل الدعوة؛ لأنه يزيل العوائق التي في طريقها، وفيه نصرة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك قتل الإمام للمرتدين بعد استتابتهم، وإقامة القصاص في قتل العمد، وتنفيذ الحدود، كل هذه الأمور من الوسائل الدعوية المهمة (¬4). خامسًا: الابتلاء والامتحان لأولياء الله عَزَّ وجَلَّ: ظهر في هذا الحديث أن من سنة الله عَزَّ وجَلَّ أن يبتلي عباده بالسراء والضراء؛ وقد حصل لعبد الله بن عتيك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من ذلك بعض الابتلاء، فانكسرت ساقه بعد أن قتل صاحب الأذية البالغة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أبا رافع: عبد الله بن أبي الحقيق، ويقال: سلام بن أبي الحقيق اليهودي " (¬5) وهذا يؤكد على الدعاة إلى الله عَزَّ وجَلَّ أن يعلموا أن الله عز وجل يبتلي عباده بالسراء والضراء، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط، أسأل الله لي ولجميع المسلمين العافية في الدنيا والآخرة (¬6). سادسًا: الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: دل هذا الحديث على أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل؛ ولهذا أخذ عبد الله بن عتيك بالأسباب في عدة أمور منها: أنه اختفى من الحرس وأهل الحصن، وعمل بالمكر لهم، وأغلق عليهم الأبواب، وأغلق على نفسه من ¬
الداخل، وعصب رجله عندما انكسرت، وغير ذلك، وهذا يؤكد أهمية الأخذ بالأسباب مع اعتماد القلب على الله وحده سبحانه وتعالى (¬1). سابعًا: أهمية الحرص على الأخذ باليقين في الأمور كلها: إن طرح الشك والأخذ باليقين من أهم القواعد الدعوية التي ينبغي للداعية أن يعمل بها في كل شيء من أمور حياته؛ ولهذه الأهمية عمل عبد الله بن عتيك في هذا الحديث بهذه القاعدة، فعندما ضرب أبا رافع بالسيف شك هل قتله أم لا، فرجع وغير صوته وقال: ما هذا الصوت يا أبا رافع فتأكد أنه لم يمت فوضع ظبة السيف في بطنه حتى سمع صوت العظم، وهذا يدل على رغبة عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في اليقين؛ ولهذا أراد أن يزداد يقينه فقال لأصحابه: ما أنا ببارح حتى أسمع الناعية، فبقي حتى صاح الديك فقام الناعي على السور فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فعندما تيقن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رجع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يؤكد أهمية العمل باليقين وطرح الشك (¬2). ثامنًا: من صفات الداعية: إثبات النعم لله والثناء عليه بها: لا شك أن من الأدب إثبات النعم لله ونسبتها إليه، والثناء عليه بها؛ لأنه سبحانه الذي أعطى النعم؛ ولهذا قال الله عَزَّ وجَلَّ: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] (¬3). وقد ظهرت تلك الصفة في قول عبد الله بن عتيك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء فقد قتل الله أبا رافع " وهذا يدل على صدقه وإخلاصه لله، وأدبه الكامل؛ لأنه لم يقل: قتلت وإنما قال: قتل الله، فنسب هذه النعمة لله عَزَّ وجَلَّ. فينبغي للداعية أن ينسب جميع النعم لله ويثني عليه بها (¬4). ¬
تاسعًا: من معجزات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شفاء المرضى بإذن الله عَزَّ وجَلَّ: إن من دلائل النبوة الحسية التي تدل على صدق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما جعل الله على يد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شفاء بعض المرضى، ومن ذلك ما فعله مع عبد الله بن عتيك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عندما انكسرت ساقه، قال عبد الله بن عتيك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فانتهيت إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحدثته فقال: "ابسط رجلك" فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتكها قط» وقد حصل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل ذلك في وقائع كثيرة (¬1). عاشرًا: أهمية البشارة في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ: إن البشارة لها أهمية بالغة في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ؛ لما لها من إدخال السرور والفرح المحمود على المسلم؛ ولهذا رغب عبد الله بن عتيك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في أن يكون هو الذي يبشر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل أبي رافع، فقال لأصحابه: "انطلقوا فبشروا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية، فلما كان في وجه الصبح صعد الناعية فقال: أنعى أبا رافع، قال فقمت أمشي ما بي قلبه فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبشرته". وهذا يدل على رغبة عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في أن يكون هو الذي يبشر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويدخل السرور عليه (¬2). ¬
باب لا تمنوا لقاء العدو
156 - باب لا تمنوا لقاء العدو [حديث لا تمنوا لقاء العدو] 124 - [3026] وقال أبو عامر: حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا» (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحث على سلوك الأدب. 2 - من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد. 3 - من صفات الداعية: الصبر. 4 - من صفات الداعية: التواضع (¬3). ¬
باب الحرب خدعة
157 - باب الحرب خدعة [حديث هلك كسرى ثم لا يكون كسرى بعده] 125 - [3027] حدثنا عبد الله بن محمد: حدثنا عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «هلك كسرى، ثم لا يكون كسرى بعده. وقيصر ليهلكن، ثم لا يكون قيصر بعده. ولتقسمن كنوزهما في سبيل الله» (¬2). [حديث تسمية النبي صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة] 126 - [3028]، «وسمى الحرب خدعةً» (¬3). وفي رواية: حدثنا أبو بكر بن أصرم: أخبرنا عبد الله: أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «سمى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحرب خدعة» (¬4). وفي رواية: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله» (¬5). وفي رواية: ". . «والذي نفس محمد بيده». . " (¬6). [حديث الحرب خدعة] 127 - [3030] حدثنا صدقة بن الفضل: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو: سمع جابر بن عبد الله (¬7) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحرب خدعة» (¬8). ¬
* شرح غريب الأحاديث: * " كسرى " لقب لكل من ملك الفرس (¬1). * " قيصر " لقب لكل من ملك الروم (¬2). * " خدعة " يروى بفتح الخاء وضمها مع سكون الدال: "خدعة" و "خدعة" وبضم الخاء مع فتح الدال: "خدعة" فالمعنى الأول: أن الحرب ينقضي أمرها بخدعة واحدة، من الخداع، أي أن المقاتل إذا خدع مرة واحدة لم تكن لها إقالة، وهي أفصح الروايات وأصحها. ومعنى الثاني: هو الاسم من الخداع، ومعنى الثالث: أن الحرب تخدع الرجال وتمنيهم ولا تفي لهم، كما يقال: فلان رجل لعبة وضحكة: أي كثير اللعب والضحك (¬3). *الدراسة الدعوية للأحاديث: في هذه الأحاديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: التحريض على خداع الكفار في الحرب. 2 - من وظائف الإمام المسلم: التدبير ووضع الخطط والحيل الحربية. 3 - من موضوعات الدعوة: الحث على أخذ الحذر والحيطة في الحروب. 4 - حرص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على انتصار أمته على أعداء الإسلام. 5 - من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تحقق وقوع ما أخبر به. 6 - من أساليب الدعوة: البشارة. 7 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولًا: من موضوعات الدعوة: التحريض على خداع الكفار في الحرب: إن من الموضوعات المهمة التي ينبغي العناية بها: التحريض على خداع ¬
الكفار في الحرب؛ لما في ذلك من أسباب النصر وهزيمة الأعداء؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث: «الحرب خدعة» وفي حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث" بمثل ما جعله يونس من قول ابن شهاب. ونص قول ابن شهاب: "ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها" (¬1). وهذا يؤكد العناية بخداع الكفار في الحرب؛ قالي الإمام القرطبي رحمه الله: ". . . وأما كذبة تنجي ميِّتًا، أو وليًّا، أو أممًا، أو مظلومًا ممن يريد ظلمه، فذلك لا تختلف في وجوبه أمة من الأمم: لا العرب، ولا العجم" (¬2) وقال الإمام النووي رحمه الله: "واتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب، وكيف أمكن الخداع إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل" (¬3). ثانيًا: من وظائف الإمام المسلم: التدبير ووضع الخطط والحيل الحربية: إن من وظائف الإمام التدبير ووضع الخطط؛ لأن الحرب تدبير، واحتيال، وكثيرًا ما كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع اعتماده على الله وتوكله عليه- يجتهد في وضع الخطط العسكرية والحيل الحربية، واستعمال الرأي والمشورة في الحرب (¬4)؛ ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث: «الحرب خدعة» وهذا يدل على أهمية التدبير ووضع الخطط في المعارك؛ للفوز بالنصر وتجنب الزلل؛ ولأن ذلك يشحذ الفكر، ويقوي العزيمة؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث إشارة إلى استعمال الرأي في الحرب: بل الاحتياج إليه أكبر من الشجاعة" (¬5)؛ قال كعب بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «ولم يكن ¬
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد غزوة إلا ورى (¬1) بغيرها. . .» (¬2) قال الإمام ابن العربي رحمه الله: "الخديعة في الحرب تكون بالتورية، وتكون بالكمين (¬3) يعده الجيش، وتكون بخلف الوعد، وذلك كذب من المستثنى الجائز من المحرم " (¬4). ثالثًا: من موضوعات الدعوة: الحث على أخذ الحذر والحيطة في الحرب: لا شك أن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحرب خدعة» يحث على أخذ الحذر والحيطة في الحروب القائمة بالجهاد في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ، وهذا يؤكد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطي جوامع الكلم، فهو يتكلم بالكلمة الواحدة التي تشمل المعاني والفوائد الكثيرة (¬5) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد حديث الباب: "فيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب، والندب إلى خداع الكفار في الحرب، وأن من لم يتيقظ لذلك لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه" (¬6)؛ قال الله عَزَّ وجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] (¬7). وهذا يؤكد على الدعاة إلى الله عَزَّ وجَلَّ أن يحضوا المسلمين وخاصة المجاهدين على أخذ الحذر والحيطة، والعمل بأسباب النجاة وعوامل النصر، والله المستعان (¬8). رابعًا: حرص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على انتصار أمته على أعداء الإسلام: دل هذا الحديث على حرص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على انتصار أمته على أعداء الإسلام؛ لأنه قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحرب خدعة» وهذا فيه توجيه منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته؛ لتأخذ بأسباب النصر والتمكين وخداع أعداء الدين في المعارك، وقد بين الله حرص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما يعود على أمته بالخير والصلاح فقال عَزَّ وجَلَّ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] (¬9). ¬
فينبغي للداعية أن يكون حريصًا على انتصار أمة الإسلام اقتداء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬1). خامسًا: من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تحقق وقوع ما أخبر به: دل الحديث على معجزة ظاهرة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تدل على صدقه وأنه رسول الله حقًّا؛ لأنه قال: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله» فقد وقع ذلك كله فافتتح المسلمون بلادهما، واستقرت لهم، واقتسموا كنوزهما (¬2) ولا شك أن هذا من أعلام نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬3). سادسًا: من أساليب الدعوة: البشارة: بشر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمين بأن ملك كسرى وقيصر سيزول، وأن كنوزهما ستنفق في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ، ووقعت البشارة وتحققت للمسلمين والحمد لله (¬4) وهذا يؤكد على أهمية البشارة وأنها من الأساليب النافعة في الدعوة إلى الله عَزَّ وجَلَّ؛ لما لها من التأثير المباشر في القلوب. فينبغي العناية بهذا الأسلوب عناية فائقة، والله المستعان (¬5). سابعًا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: ظهر في هذا الحديث أسلوب التأكيد بالقسم في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله». وهذا يؤكد أهمية القسم للتأكيد في الأمور المهمة عند الحاجة لذلك كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬6). [باب من لا يثبت على الخيل] ¬
باب من لا يثبت على الخيل
162 - باب من لا يثبت على الخيل [حديث ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي] 128 - [3035] حدثني محمد بن عبد الله بن نمير: حدثنا ابن إدريس، عن إسماعيل، عن قيس، عن جرير (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «ما حجبني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي» (¬2). وفي رواية: ". . «ولا رآني إ لا ضحك» (¬3). وفي رواية: «ولقد شكوت إليه أني لا أثبت على الخيل، فضرب بيده في صدري وقال: "اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديًّا» (¬4). *الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين. 2 - من صفات الداعية: حسن الخلق. 3 - من صفات الداعية: التواضع. 4 - من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء. 5 - من وسائل الدعوة: استمالة قلب من له شأن في قومه. 6 - من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: استجابة دعواته. 7 - من وسائل الدعوة: تعليم المجاهدين وتدريبهم استعدادًا للجهاد. 8 - أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه (¬5). [باب ما يكر من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه] [حديث جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد عبد الله بن] جبير ¬
164 - باب ما يكر من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه قال الله عَزَّ وجَلَّ: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] (¬1). وقال قتادة: الريح الحرب. 129 - [3039] حدثنا عمرو بن خالد: حدثنا زهير: حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب (¬2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما يحدث قال: «جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الرجالة يوم أحد -وكانوا خمسين رجلًا- عبد الله بن جبير (¬3) فقال: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم". فهزموهم. قال: فأنا والله رأيت النساء يشددن، قد بدت خلاخلهن وأسوقهن، رافعات ثيابهن. فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: نسيتم ما قال لكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير اثني عشر رجلًا، فأصابوا منا سبعين، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائةً وسبعين أسيرًا وسبعين قتيلا (¬4) فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات. فنهاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجيبوه. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاث مرات. ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاث مرات ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت والله يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوءك. ¬
قال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال. إنكم ستجدون في القوم مثلةً لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز: أُعْلُ هُبَلْ، أُعْلُ هُبَلْ. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا تجيبونه؟ " قالوا: يا رسول الله ما نقول؛ قال: "قولوا: الله أعلى وأجل". قال: إن لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا تجيبونه؟ " قال: قالوا يا رسول الله ما نقول؟ قال: "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم» (¬1). وفي رواية: «جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الرماة يوم أحد عبد الله بن جبير». . " (¬2). وفي رواية: «. . وأجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيشًا من الرماة، وأَمَّرَ عليهم عبد الله، وقال: "لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا. .» (¬3). وفي رواية: «. . . وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرًا، وسبعين قتيلًا» (¬4). * شرح غريب الحديث: * " الرجالة " جمع راجل: أي ماش (¬5). * " وأوطأناهم " أي غلبناهم وقهرناهم (¬6). * " الخلخال " حلية كالسوار تلبسها النساء في أرجلهن (¬7). ¬
* " أسوقهن " الساق ما بين الكعب والركبة: جمعه سوق، وسيقان، وأسؤق (¬1). * " يرتجز " الرجز: بحر من بحور الشعر ونوع من أنواعه، ويسمى قائله راجزًا، كما يسمى. قائل بحور الشعر شاعرًا، وقد قيل لفرس في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "المرتجز" سمي به لحسن صهيله (¬2). * " الحرب سجال " أي تكون مرة على هؤلاء ومرة على هؤلاء، أي تصيبون منا مرة ونصيب منكم أخرى. مأخوذ من السجل: وهو الدلو الذي يستقى به؛ لأن الواردين على الماء لكل واحد منهم سجل: أي لكل واحد منهم نوبة فالسقي بالدلو تكون له بعد صاحبه أو قبله على حسب الاتفاق. (¬3). * " مثلة " المثلة: الخروج بالعقوبات عن رسوم الشريعة، يقال: مثلت بالقتيل: إذا جدعت أنفه، أو مذاكيره، أو شيئًا من أطرافه، والاسم: المثلة: فأما مثل بالتشديد فهو للمبالغة (¬4). * " هبل " صنم للمشركين كانوا يعبدونه في مكة (¬5). * " العزى " صنم لأهل الجاهلية كانوا يحلفون به تعظيمًا له (¬6). *الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من وظائف الإمام: التخطيط والتدبير في القتال. 2 - من موضوعات الدعوة: التحذير من معصية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيان خطرها. ¬
3 - من صفات الداعية: تذكر النعم والاعتراف بالتقصير. 4 - من أساليب الدعوة: الجدل. 5 - من سنن الله عَزَّ وجَلَّ: ابتلاء الأنبياء وأتباعهم. 6 - من أصناف المدعوين: المشركون. 7 - من أساليب الدعوة: الترهيب. 8 - من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة أحد. 9 - خطر حب الدنيا وزينتها على قلب الإنسان. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من وظائف الإمام: التخطيط والتدبير في القتال: إن فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد يدل على حكمته ومعرفته العظيمة بالتخطيط والتدبير في الحرب؛ ولهذا أمر خمسين من أصحابه الرماة أن يجلسوا في الجبل وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير، وأمرهم أن لا يفارقوا مكانهم حتى يرسل إليهم، ولو أراد الله عَزَّ وجَلَّ بقاءهم كما أمرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تحصل هزيمة المسلمين؛ لأن هؤلاء الرماة سيحمون المجاهدين من التفاف المشركين على الجبل ولكن الله له الحكمة البالغة والحجة الدامغة. وهذا يبين أهمية التخطيط في الحرب. ثانيا: من موضوعات الدعوة: التحذير من معصية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيان خطرها: لا ريب أن التحذير من معصية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهم الموضوعات التي ينبغي للداعية أن يعتني بها؛ لأن معصية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أسباب الخذلان والهزيمة؛ ولهذا عندما خالف الرماة يوم أحد أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هزم المسلمون بسبب تلك المعصية، فقد قال لهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» فهزم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه المشركين فولوا مدبرين مخذولين، فقال الرماة لأميرهم عبد الله بن جبير: الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون؛ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالوا: والله لنأتين
الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فانقلبوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يبق مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا اثنا عشر رجلًا، فقتل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعون شهيدًا. قال الكرماني رحمه الله: "صرف وجوههم عقوبة لمعصية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (¬1) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "الهزيمة وقعت بسبب مخالفة الرماة" (¬2) وقال أيضًا: "وفيه شؤم ارتكاب النهي وأنه يعم ضرره من لم يقع منه، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] (¬3). وأن من آثر دنياه أضر بآخرته ولم تحصل له دنياه" (¬4) قال الله عَزَّ وجَلَّ عن المخالفة التي وقعت في يوم أحد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ - إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 152 - 153] (¬5) وقال عَزَّ وجَلَّ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] (¬6). ولا شك أن من أسباب النصر والتمكين في الأرض: طاعة الله ورسوله. فينبغي لكل مسلم أن يحذر معصية الله ورسوله، ويلزم طاعة الله ورسوله؛ فإن هذا من أسباب التوفيق والتسديد والإعانة (¬7). ¬
ثالثا: من صفات الداعية: تذكر النعم والاعتراف بالتقصير: ظهر في هذا الحديث أن تذكّر النعم والاعتراف بالتقصير من الصفات الحميدة؛ ولهذا قال البراء رضي الله عنه: " فأصابوا منا سبعين وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرا وسبعين قتيلا " ففي هذا الحديث اعتراف الصحابة - رضي الله عنهم - بالتقصير يوم أحد، وتذكرهم لنعمة الله عليهم يوم بدر، وما منَّ الله به عليهم من النصر والتأييد والإِعانة على عدوِّهم حتى قتلوا منهم سبعين رجلا، وأسروا سبعين؛ قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله: " وفي هذا الحديث. . . أنه ينبغي للمرء أن يتذكر نعمة الله ويعترف بالتقصير عن أداء شكرها " (¬1) فينبغي للداعية أن يتذكر نعمة الله عليه ويشكره عليها، ويعترف بالتقصير عن أداء شكرها. رابعا: من أساليب الدعوة: الجدل: لا ريب أن الجدل في اللغة مأخوذ من شدة الفتل، يقال: جدلتُ الحبل أجدله جدلًا إذا شددت فتله، وفتلته فتلا محكما (¬2) وهو في الحقيقة: دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبهة، ويقصد به تصحيح كلامه (¬3) ويكون في مقابلة الأدلة لظهور أرجحها، وإظهار الحق، وإلزام الخصم (¬4) وقد ظهر هذا الأسلوب في هذا الحديث عندما دار الجدل بين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأبي سفيان - رضي الله عنه - في يوم أحد، ومن ذلك قول أبي سفيان: " اعل هبل " فقال عمر: " الله أعلى وأجل " فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال عمر: الله مولانا ولا مولى لكم. إلى غير ذلك من جدل عمر - رضي الله عنه - لأبي سفيان. ¬
فينبغي للداعية أن يستخدم الجدل عند الحاجة إليه، ويقصد بذلك إظهار الحق وإبطال الباطل بالأدلة العقلية والنقلية (¬1) امتثالًا لأمر الله - عز وجل - بذلك: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (¬2). خامسا: من سنن الله - عز وجل: ابتلاء الأنبياء وأتباعهم: إنما حصل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - يوم أحد من الابتلاء والامتحان ما هو إلا سنة من سنن الله - عز وجل - كما قال - عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] (¬3) وقال - عز وجل - عن ابتلاء الصحابة وما أصابهم يوم أحد: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ - وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 166 - 167] (¬4). وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول في ذكره لبعض فوائد حديث البراء - رضي الله عنه: " وهذا ابتلاء وامتحان، فلو كان المسلمون لا يصيبهم شيء ما بقي على الكفر أحد، فهو سبحانه يبتلي هؤلاء بهؤلاء، وهؤلاء بهؤلاء، ولكن العاقبة تكون للمتقين " (¬5)؛ قال الله - عز وجل: ¬
{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ - وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ - أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 140 - 142] (¬1) وقال - عز وجل: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] (¬2) ولا شك أن الصحابة - رضي الله عنهم - استفادوا من هذا الابتلاء والامتحان، فلم يعودوا إلى مثل ما فعلوه في معركة أحد؛ وبالغوا في طاعة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ، وأخذوا الحذر من عدوِّهم، وعرفوا المنافقين من الصادقين - رضي الله عنهم (¬3)؛ ولهذا مدحهمِ الله - عز وجل - فقال: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ - الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ - فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 172 - 174] (¬4). وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - عندما رجع من أحد إلى المدينة أمر من حضر الجهاد في أحد أن يخرجوا معه على ما بهم من الجراح فاستجابوا لله ورسوله ووصلوا إلى حمراء الأسد، وجاءهم الخبر بأن أبا سفيان قد جمع لهم جموع الناس " فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " (¬5) وهذا يدل على صبرهم - رضي الله عنهم - الكامل على الابتلاء، ويدل على كمال إيمانهم - رضي الله عنهم - (¬6). سادسا: من أصناف المدعوين: المشركون: دل هذا الحديث على أن من أصناف المدعوين: المشركون؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - دعاهم إلى الله، وقاتلهم؛ لعدم استجابتهم لله وعدم دخولهم في الإِسلام، ¬
ولا شك أن دعوة المشركين لها أساليب ومناهج بينها الله في كتابه وبينها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - بسيرته وسنته. فينبغي السير على ضوئها، والله المستعان (¬1). سابعا: من أساليب الدعوة: الترهيب: ظهر أسلوب الترهيب في هذا الحديث في قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأبي سفيان: " كذبت والله يا عدوّ الله إن الذين عددت لأحياءٌ كلهم، وقد بقي لك ما يسوءك " وهذا فيه تخويف للأعداء، وإظهار للقوة، وأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - الذين عدهم أبو سفيان لا يزالون على قيد الحياة وهم مستعدون لقتال أعداء الله؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي هذا الحديث منزلة أبي بكر وعمر من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ، وخصوصيتهما به حيث كان أعداؤه لا يعرفون بذلك غيرهما إذ لم يسأل أبو سفيان عن غيرهما " (¬2) فرد عليه عمر رضي الله عنه، ليدخل الرعب في قلبه ويخوفه، وهذا أسلوب من أساليب الدعوة. فينبغي للداعية أن يعتني بأسلوب الترهيب عند الحاجة إليه (¬3). ثامنا: من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة أحد: لا شك أن من تاريخ الدعوة ذكر غزوة أحد وزمنها؛ لقول البراء بن عازب رضي الله عنه: " جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - على الرجالة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلا - عبد الله بن جبير "، وقد كانت في شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، وأتم التسليم (¬4). تاسعا: خطر حب الدنيا وزينتها على قلب الإِنسان: إن الحرص على الدنيا وزينتها من أخطر الأشياء على قلوب البشر، وقد ظهر هذا الحرص في قلوب بعض أصحاب عبد الله بن جبير رضي الله عنه، حيث خالفوا ¬
أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - وهو قوله لهم: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم»، فهزم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - والمسلمون المشركين، فقال أصحاب الجبل " الرماة ": الغنيمة الغنيمة، ونزلوا من الجبل فَهُزِمَ المسلمون بسبب حب الدنيا وزينتها، قال الله - عز وجل: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152] (¬1). فينبغي لكل مسلم أن يحذر من الحرص على حب الدنيا وزينتها؛ فإنها زائلة وفانية، قال الله - عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60] (¬2) والله المستعان (¬3). ¬
باب من رأى العدو فنادى بأعلى صوته يا صباحاه حتى يسمع الناس
166 - باب من رأى العدو فنادى بأعلى صوته: يا صباحاه, حتى يسمع الناس [حديث أخذ لقاح النبي صلى الله عليه وسلم] 130 - [3041] حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمة (¬1) أنَّهُ أَخْبَرَهُ قَالَ: «خَرَجْتُ مِن الْمَدينةِ ذَاهِبا نَحْوَ الْغَابَة، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيّهِ الْغَابة لَقيَنِي غُلام لِعبد الرَحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. قُلْتُ: وَيْحَكَ، مَا بِكَ؟ قَالَ: أُخِذَتْ لِقَاحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ. قُلْتُ: مَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطَفانُ وَفَزَارَةُ. فَصَرَخْتُ ثَلاث صَرَخَاتٍ أَسْمَعتُ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا: يَا صَبَاحَاهُ، يَا صَبَاحَاهُ. ثُمَّ انْدَفَعْتُ حَتَّى أَلْقَاهُم وَقَدْ أَخَذُوهَا، فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ وأَقُولُ: أَنا ابْنُ الأَكْوَعِ، وَالْيَومُ يَوْمُ الرُّضَّعِ. فَاسْتَنْقذْتُهَا منْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبوا، فَأَقْبَلْتُ بِهَا أَسُوقُهَا، فَلَقيَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - فقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! إِنَّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ، وَإِنِّي. أَعْجَلْتُهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا سِقيَهُم، فَابْعَثْ فِي إِثرِهِمْ. فَقَالَ: " يَا ابْنَ الأكوَعِ مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ، إِنَّ الْقَوْمَ يُقْرَوْنَ فِي قَوْمهمْ» (¬2). وفي رواية: ". . «ثُمَّ انْدَفَعْتُ عَلَى وَجْهِي حَتَّى أَدْرَكْتُهُمْ وَقَدْ أَخَذُوا يَسْتَقُونَ الْمَاءَ فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ بِنبلِي -وَكُنْتُ رَامِيا - وَأَقُولُ: أَنا ابْنُ الأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَومُ الرُّضعِ، وَأَرْتَجزُ حَتَّى اسْتَنْقَذْتُ اللِّقاحَ مِنْهُمْ، وَاسْتَلَبْتُ مِنْهُمْ ثَلاثِينَ بُرْدَة، قَالَ وَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - وَالنَّاسُ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله قَدْ حَمَيْتُ الْقَوْمَ المَاءَ وَهُمْ عِطَاش فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ السَّاعَةَ. فَقَالَ: " يَا ابْنَ الأَكْوَعِ مَلَكْتَ فَأسْجِحْ " قَالَ؛ ثُمَّ رَجَعْنَا وَيُرْدِفُني رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - علَى نَاقَتِهِ حَتَّى دَخَلْنَا المَدِينَةَ» (¬3). * شرح غريب الحديث: * " الغابة " الغابة قرب المدينة من عواليها، والغابة: الأجمة ذات الشجر المتكاثف؛ لأنها تُغيِّب ما فيها، وجمعها: غابات (¬4). ¬
* " لقاح " اللَّقاح من النوق: الحوامل، واحدها: لَقُوح ولواقح. وقيل: اللّوَاقح: الحَوَامِل، واللِّقاح: ذوات الألبان (¬1). * " اليوم يوم الرضع " أي: هذا يوم هلاك اللئام، والرضع جمع راضع: وهو اللئيم، وسُمِّي به؛ لأنه لِلُؤمِهِ يرضع إبله أو غنمه ليلا؛ لئلا يسمع صوت حلبه. (¬2). وقيل صنع ذلك؛ لئلا يتبدَّد من اللبن شيء إذا حلب في الإِناء (¬3) وقيل: هو الذي رضع اللؤم من ثدي أمه (¬4) * " ما بين لابتيها " أي ما بين جانبيها، واللاَّبة: الحرة، وهي حجارة سود قد أحاطت بالمدينة (¬5). * " ملكت فأسْجحْ " أي قدرْتَ فسهِّل الأمر وأحسن العفو، وَهُوَ مَثَلٌ سائر. والسُّجُح: السَّهلة، والسَّجحاء: تأَنيث الأسجح: وهو السَّهْل (¬6) * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: الصوت الجهوري. 2 - من صفات الداعية: الشجاعة. 3 - من موضوعات الدعوة: الحث على العفو والرفق وتسهيل الأمور. 4 - من أساليب الدعوة: تعريف الداعية بنفسه عند الحاجة. 5 - من أساليب الدعوة: الرجز. ¬
6 - من أساليب الدعوة: قول الداعية عند الحاجة: أنا ابن فلان. 7 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار. 8 - من أساليب الدعوة: التأليف بالثناء عند أمْنِ الفتنة. 9 - من وسائل الدعوة: الإِعداد للجهاد بالتدريب على الرمي وغيره. 10 - من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ: الإِخبار بالمغيبات. 11 - من صفات الداعية: التواضع. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآَتي: أولا: من صفات الداعية: الصوت الجهوري: إن الصوت الجهوري من الصفات التي يُفَضَّلُ أن يتصف بها الداعية؛ لأن ذلك يُسمع الناس ما يقوله الداعية؛ ولهذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - يرفع صوته في الخطب حتى كأنه منذر جيش (¬1) وقد دل هذا الحديث على رفع الصوت في إنذار الناس والمبالغة في إيصال الكلام إليهم؛ ولهذا قال سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه: " فصرخت ثلاث صرخات أسمعت ما بين لابتيها: يا صباحاه، يا صباحاه " قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله: " فيه إشعار بأنه كان واسع الصوت جدا، ويحتمل أن يكون ذلك من خوارق العادات " (¬2) وقال الإمام القرطبي - رضي الله عنه - على رفع سلمة صوته بقوله: يا صباحاه: " معناه هنا؛ الإِعلام بهذا الأمر المهم، الذي قد دهمهم في الصباح " (¬3) وقال الإمام الكرماني رحمه الله: " يا صباحاه: هو منادى مستغاث، والألف للاستغاثة، والهاء للسكت، وكأنه نادى الناس استغاثة بهم في وقت الصباح: أي وقت الغارة، وحاصله أنها كلمة يقولها المستغيث " (¬4) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وكانت عادتهم يغيرون وقت الصباح، فكأنه قال: تأهبوا لما دهمكم صباحا" (¬5). ¬
ثانيا: من صفات الداعية: الشجاعة: ظهر في هذا الحديث شجاعة سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه، لقوله رضي الله عنه: «ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم وقد أخذْوا يستقون الماء، فجعلت أرميهم بنبلي - وكنت راميا- وأقول: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع، وأرتجز حتى استنقذت اللقاح منهم، واستلبت منهم ثلاثين بردة» وهذا يدل على الشجاعة العظيمة؛ ولهذا ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله: أن سلمة - رضي الله عنه - كان مثل الأسد إذا حملت عليه الخيل فرَّ، ثم عارضهم فنضحها عنه بالنبل (¬1). فينبغي للداعية أن يكون شجاعا: عقليا وقلبيّا، وهذا من أعظم الصفات الحميدة (¬2). ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحث على العفو والرفق وتسهيل الأمور: إن الرفق، والعفو، ومعاملة الناس بالأسهل والأحسن من الموضوعات التي ينبغي للدعاة حث الناس عليها وترغيبهم في التعامل بها مع الناس؛ ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - لسلمة في هذا الحديث: " ملكت فأسْجِحْ " أي قدرت فسهِّل الأمر، وأحسن العفو، وارفق ولا تأخذ بالشدة (¬3). وهذا يؤكد الحض على تعليم الناس الأخذ بالتيسير وترك التعسير، والله المستعان (¬4). رابعا: من أساليب الدعوة: تعريف الداعية بنفسه عند الحاجة: دل هذا الحديث على أن من أساليب الدعوة: تعريف الإِنسان بنفسه عند الحاجة لذلك مع القصد الحسن والنية الصالحة؛ ولهذا قال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: " أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع ". قال الإمام النووي - رحمه الله: " فيه جواز مثل هذا الكلام في القتال، وتعريف الإِنسان بنفسه إذا كان شجاعا، ليرعب خصمه " (¬5). ¬
وهذا يؤكد للسامع أهمية تعريف الداعية بنفسه عند الحاجة وتخويف الأعداء " (¬1). خامسا: من أساليب الدعوة: الرجز: لا ريب أن من أساليب الدعوة: قول الرجز المحمود؛ ولهذا ارتجز سلمة - رضي الله عنه - في هذا الحديث بقوله: " أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع " ويكون ذلك عند الحاجة إلى الرجز مع بعض المدعوين على حسب الحاجة والمصلحة (¬2). سادسا: من أساليب الدعوة: قول الداعية عند الحاجة: أنا ابن فلان: إن قول الداعية والمجاهد في سبيل الله - عز وجل - عند الحاجة: أنا فلان، أو أنا ابن فلان من أساليب الدعوة، إذا كان في ذلك مصلحة واضحة؛ ولهذا قال سلمة: " أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع ". قال الإمام الكرماني - رحمه الله: " وفيه جواز. . . قولهم: أنا ابن فلان في الحرب، إذا كان شجاعا؛ لتخويف الخصم " (¬3). وهذا فيه تأكيد لأهمية هذا الأسلوب عند الحاجة (¬4). سابعا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار: إن أسلوب التأكيد بالتكرار من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله - عز وجل؛ لما له من تثبيت المعاني وتفهيم الكلام؛ ولهذا قال سلمة - رضي الله عنه: " فصرخت ثلاث صرخات: يا صباحاه، أسمعت ما بين لابتيها ". قال الإمام النووي رحمه الله: " فيه جواز مثله للإِنذار بالعدوِّ" (¬5) وهذا يؤكد أهمية تكرير الكلام عند الحاجة للتأكيد وتثبيت المعاني، والله المستعان (¬6). ¬
ثامنا: من أساليب الدعوة: التأليف بالثناء عند أَمْنِ الفتنة: لا شك أن من أساليب الدعوة: التأليف بالثناء على المدعو أو غيره، وذكر بعض ما فيه من الفضائل؛ ليستزيد من الخير ويثبت عليه، بشرط أن لا يدخل عليه العجب فيفتتن بذلك، وقد أثنى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - على سلمة - رضي الله عنه - بقوله: " ملكت فأسجح " والمعنى: قدرت فسهِّل وأحسن العفو (¬1) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث. . . استحباب الثناء على الشجاع ومن فيه فضيلة، ولا سيما عند الصنع الجميل؛ ليستزيد من ذلك، ومحلّهُ حيثُ يؤمَنُ الافتتان " (¬2). فينبغي مراعاة أحوال المدعوين في الثناء، فإن كان ينفع أثنى عليهم، وإن كان يجلب عجبا ترك (¬3). تاسعا: من وسائل الدعوة: الإعداد للجهاد بالتدريب على الرمي وغيره: ظهر في الحديث أهمية الرمي؛ لقول سلمة رضي الله عنه: " فجعلت أرميهم بنبلي، وكنت راميا " ولا زال - رضي الله عنه - يستخدم الرمي حتى استنقذ لقاح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ؛ قال العلامة العيني - رحمه الله - في ذكره لبعض فوائد هذا الحديث: " وفيه فضيلة الرمي، على ما لا يخفى" (¬4). وهذا يؤكد أهمية تعلم الرمي وتعليمه إعدادا للجهاد في سبيل الله - عز وجل - (¬5). عاشرا: من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ: الإخبار بالمغيبات: دل هذا الحديث على عَلَمٍ من أعلام النبوة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - لسلمة رضي الله عنه: " إن القوم يقرون في قومهم " والمقصود أنهم وصلوا إلى غطفان، وهم يضيفونهم فلا حاجة في الحال إلى البعث في الأثر؛ لأنهم لحقوا بأصحابهم (¬6) وهذا ¬
إعلام منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - بأمر لم يشاهده الصحابة ولم يشاهده هو، بل أمر غيبيٌّ؛ قال الإمام النووي رحمه الله: " وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ " (¬1). وهذا يؤكد على صدق نبوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - صدقا يقينا محققا (¬2). الحادي عشر: من صفات الداعية: التواضع: ظهر في هذا الحديث صفة التواضع؛ لأن سلمة - رضي الله عنه - قال: «ثم رجعنا ويردفني رسول الله على ناقته حتى دخلنا المدينة» وهذا فيه تواضع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - حيث أردف سلمة بن الأكوع على ناقته؛ لأن الكبراء والوجهاء لا يردفون على دوابهم؛ لتعاظمهم في الغالب، فخالفهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّْمُ - تواضعا وعطفا ورحمة (¬3). ¬
باب إذا نزل العدو على حكم رجل
[باب إذا نزل العدو على حكم رجل] [حديث حكم سعد في بني قريظة] 131 - [3043] حدثنا سليمان بن حرب: حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم وعن أبي أمامة هو ابن سهل بن حنيف، عن أبي سعيد الخدري (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد (¬2) بعث رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وكان قريبا منه - فجاء على حمار، فلما دنا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم: " قوموا إلى سيدكم "، فجاء فجلس إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم، فقال له: " إن هؤلاء نزلوا على حكمك ". قال فإني أحكم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية، قال: " لقد حكمت فيهم بحكم الملك» (¬3). وفي رواية: «نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، فأرسل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم - إلى ¬
سَعْدٍ فَأَتَى عَلَى حِمَارٍ فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْمَسْجدِ قَالَ لِلأنصَارِ: " قُومُوا إِلى سَيِّدِكُم أَوْ خَيْرِكُمْ - فَقَالَ: هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ " فَقَالَ: تُقْتَلُ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَاريهمْ قَالَ: " قَضَيْتَ بِحُكْم الله "، وَرُبَّمَا قَالَ: " بِحُكْم المَلِكِ» (¬1). * شرح غريب الحديث: * - " وتُسْبَى ذرَارِيهم " السَّبْي، والسَّبيَّة، والسَّبايا: النهبُ وأخذ الناس عبيدا وإماءً، والسَّبيَّة: المرأة المنهوبة، وجمعها: سبايا، والذرية: النساء والصبيانَ (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية حكم العالم برضى الخصمين. 2 - من وسائل الدعوة: القيام للمقابلة بالسلام والمصافحة والتهنئة. 3 - من صفات الداعية: التواضع. 4 - من صفات الداعية: وضع كل شيء في موضعه. 5 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث. 6 - من أصناف المدعوين: اليهود. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: أهمية حكم العالم برضى الخصمين: لا شك أن حكم العالم برضى الخصمين له أهمية بالغة؛ لما يفصل وينهي من المنازعات، والأصل في ذلك قصة سعد بن معاذ مع بني قريظة حينما نزلوا على حكمه فأرسل إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وعندما وصل قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - له: " إن هؤلاء نزلوا على حكمك " فقال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فإنِّي أحكم أن تقتل المقاتلة وأن تسبى الذرية. فقال النبي ¬
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " لقد حكمّت فيهم بحكم المَلِكِ ". قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " يستفاد منه لزوم حكم المحكم برضى الخصمين " (¬1) وقال العلامة العيني رحمه الله: " فيه لزوم حكم المحكم برضى الخصمين، سواء كان في أمور الحرب أو غيرها، وهو رد على الخوارج الذين أنكروا التحكيم على علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " (¬2) وقد تكلم الإمام النووي رحمه الله كلاما جامعا قال فيه: " فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين، وفي مهماتهم العظام، وقد أجمع العلماء عليه، ولم يخالف فيه إلا الخوارج، فإنهم أنكروا على عليٍّ التحكيم، وأقام الحجة عليهم، وفيه جواز مصالحة أهل قرية أو حصن على حكم حاكم مسلم، عدل، صالح للحكم، أمين على هذا الأمر، وعليه الحكم بما فيه مصلحة للمسلمين، وإذا حكم بشيء لزم حكمه، ولا يجوز للإِمام ولا لهم الرجوع عنه، ولهم الرجوع قبل الحكم، والله أعلم " (¬3) وحاصل ذلك أن الإمام إذا وافق على التحكيم لحَكَمٍ من أهل العلم والفقه، والديانة، فحكم بما فيه مصلحة المسلمين: من قتل، أو سباء، أو إقرار على الجزية، أو إجلاء، نفذ حكمه إذا لم يكن فيه مخالفة للشرع بأي وجه من الوجوه (¬4). ثانيا: من وسائل الدعوة: القيام للمقابلة بالسلام والمصافحة أو التهنئة: ظهر في هذا الحديث أن القيام للقادم لمقابلته بالسلام والمصافحة أو التهنئة، أو إجلاسه في مكانه، أو إنزاله من على دابته إذا كان مريضا من وسائل الدعوة؛ قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في هذا الحديث: " قوموا إلى سيدكم " وقد كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يقوم للمقابلة بالسلام لبعض أصحابه عند القدوم عليه (¬5) ومن ذلك حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ¬
قالت: «ما رأيت أحدا أشبه سمتا، ودلّا (¬1) وهديا برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم» قالت: «وكانت إذا دخلت على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قام إليها فقبّلها وأجلسها في مجَلسه، وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها» (¬2) ومن ذلك ما فعله طلحة بن عبيد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بحضرة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - حينما قام إلى كعب بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال كعب: «فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وَهَنَّاني» (¬3). وهذا كله يدل على أهمية المقابلة بالسلام، والتهنئة، والمعانقة، للقادم من السفر، والمصافحة عند المقابلة، فعن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا» (¬4) وعن سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده تحاتت عنهما ذُنُوبُهُمَا، كما تتحات الورق من الشجرة اليابسة في يومِ ريحٍ عاصفٍ، وإلا غُفِرَ لَهُمَا ولو كانت ذنوبهما مِثْلَ زبَدِ البحر» (¬5) وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال عن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «كانوا إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا» (¬6). ¬
وما تقدم يؤكد أن القيام للقادم - من أجل المقابلة بالسلام والمصافحة أو المعانقة، أو التهنئة، أو إجلاسه في مكان القائم - كل ذلك من وسائل الدعوة. وأما القيام للقادم أو القائم من المجلس بدون سلام ولا مصافحة أو معانقة أو تهنئة؛ أو لإِجلاسه في مجلس القائم فلا يجوز؛ لأن ذلك من فعل العجم لعظمائهم. ولا ينبغي للمسلم وخاصة الداعية أن يقوم الناس لتعظيمه واحترامه؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - كان لا يحب أن يقوم له أحد من أصحابه، فكانوا لا يقومون له، إِلا للسلام والمقابلة، أو إجلاسه مكان أحدهم (¬1) وقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ أحبَّ أنْ يُمثَّل له الرجال قياما فليتبوَّأْ مقعده من النار» (¬2) ولهذا قال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الصحابة - رضي الله عنهم: «لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهيته لذلك» (¬3). والخلاصة أن القيام ينقسم إلى ثلاث مراتب: قيام على رأس الرجل وهو جالس وهو فعل الجبابرة، وقيام له عند رؤيته أو عند قيامه من المجلس تعظيما له وهذا متنازع فيه، والصواب عدم جوازه، وقيام إليه عند قدومه لمقابلته بالمصافحة أو المعانقة، أو التهنئة مع المصافحة، أو إجلاسه في مجلس القائم وهذا لا بأس به، بل هو من وسائل الدعوة النافعة (¬4) قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " ففرق بين القيام للشخص المنهي عنه، والقيام عليه المشبه لفعل فارس والروم، والقيام إليه عند قدومه الذي هو سنة العرب، وأحاديث الجواز تدل عليه فقط " (¬5). ¬
ولكن إذا كان من عادة الناس إكرام القادم بالقيام، ولو تُرِكَ لاعتقد أن ذلك لترك حقه، أو قصد خفضه، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك أصلح لذات البين وإزالة التباغض والشحناء، وذلك من باب دفع أعظم المفسدتين بالتزام أدناهما كما يجب فعل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما (¬1) ولكن ينبغي للداعية أن يقرن القيام بالمقابلة والمصافحة على حسب الاستطاعة، ويعلم الناس السنة بالحكمة والموعظة الحسنة، والله المستعان. ثالثا: من صفات الداعية: التواضع: ظهر في هذا الحديث صفة التواضع من عدة وجوهٍ، منها: كون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وافق على طلب من أراد تحكيم سعد بن معاذ، ولو شاء - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لم يقبل ذلك (¬2) ويدل على التواضع قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " قوموا إلى سيدكم "؛ فإن العظماء لا يحبون أن يقام إلى غيرهم ولا مساعدته، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " قضيت فيهم بحكم الله " وهذا يؤكد تواضعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وبيانه للحق وعدم ردِّه. وكذلك ما فعله سعد بن معاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأنه ركب على حمار، وهذا يبين تواضعه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فينبغي للداعية أن يتصف بالتواضع لله - عز وجل (¬3). رابعا: من صفات الداعية: وضع كل شيء في موضعه: إن من صفات الداعية وضع كل شيء في موضعه بإحكام وإتقان، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد دل هذا الحديث على هذه الصفة العظيمة لسعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " قضيت فيهم بحكم الملك " وذلك أنه قال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فإني أحكم أن تقتل المقاتلة وأن تُسبى الذرية»، وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: " وهذا من توفيق الله لسعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فحكم فيهم ¬
بحكم الله، فقتل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - رجالهم البالغين، وسبى ذراريهم ونساءهم " (¬1). فينبغي للداعية أن يسأل الله الصواب في الأقوال والأفعال ويحرص على ذلك (¬2). خامسا: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: دل هذا الحديث على أن الحرص على الدقة في نقل الحديث من صفات الداعية المخلص؛ ولهذا قال الراوي في نقل كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " قوموا إلى سيدكم " أو " خيركم ". قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " الشك فيه من أحد رواته أي اللفظين قال " (¬3). وهذا يؤكد حرص السلف الصالح رحمهم الله على الدقة في نقل الحديث (¬4). سادسا: من أصناف المدعوين: اليهود دل هذا الحديث على أن اليهود من أصناف المدعوين؛ ولهذا دعاهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إلى الإسلام، ثم عقد معهم العهد، وعندما نقضوا العهد والميثاق حاصرهم، ووافق على أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فحكم فيهم بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " لقد حكمت فيهم بحكم الملِكِ " وفي لفظ: " قضيت بحكم الله " (¬5). ¬
باب هل يستأسر الرجل ومن لم يستأسر ومن ركع ركعتين عند القتل
170 - بَابُ هل يستأسر الرجل؟ ومن لم يستأسر، وَمَنْ ركَعَ رَكعَتينِ عندَ القتل [حديث بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية] 132 - [3045] حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أخْبَرني عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيد بْنِ جَارِيةَ الثَّقَفيُّ - وَهُوَ حَلِيف لِبَنِي زُهْرةَ، وكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَة - أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنا، وأَمَّرَ عَلِيْهمْ عَاصِمَ بنَ ثَابِتٍ الأنصَارِيَّ (¬2) - جَدَّ عاصِمٍ بنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ - فَانْطَلَقُوا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدْأَةِ - وَهُوَ بَيْنَ عُسْفانَ ومَكَّةَ - ذُكِروا لِحيّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لِحْيَانَ، فنَفَروا لَهُمْ قَرِيبا مِنْ مِائتي رجُلٍ كُلُهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرا تَزَوَّدُوهُ مِنَ المَدِيَنة، فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ، فَاقْتَصُّوا آثارَهُمْ، فَلَمَّا رآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَؤُوا إِلَى فَدْفَدٍ، وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا وَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمْ الْعَهدُ وَالميثاقُ وَلا نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدا. قَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ أَمِيرُ السَّرِيَّة: أَمَّا أنا فوالله لا أَنزِلُ الْيَوْمَ فِيِ ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللهمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبيَّكَ، فَرمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِما في سَبْعَةٍ. فنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاثةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاق، مِنْهُمْ خبيب الأنصَارِيُّ (¬3) وابْنُ دَثِنَة (¬4) وَرَجُل آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِم فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَالله لا أَصْحَبُكُم، إنَّ لِي فِي هَؤُلاءِ لأسْوَةً - يُرِيدُ الْقَتْلَى - فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصحَبَهُمْ ¬
فَأَبَى، فَقَتَلوهُ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْن دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقِيعَةِ بَدْر، فَابتَاع خُبَيْبا بَنُو الحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْن نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَان خُبَيْبٌ هُوَ قتل الحارِثَ بْنَ عَامرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرا فَأَخْبَرَني عُبَيْدُ الله بْنُ عِيَاضٍ أَنَّ بِنْتَ الحَارِثِ أَخْبَرتْهُ أنهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فأَعَارَتْهُ، فَأَخَذَ ابْنا لِي وأَنا غَافِلَة حِينَ أَتاهُ، قَالَتْ: فَوَجَدْتُهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِه وَالْمُوسَى بِيَدِهِ، فَفَزعْتُ فَزْعَةً عَرَفَها خُبَيْبٌ فِي وَجْهي، فَقَالَ: تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؛ مَا كُنْتُ لأِفْعَل ذَلِكَ. وَالله مَا رَأَيْتُ أَسِيرا قَطُّ خَيْرا مِنْ خُبَيْبٍ، والله لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْما يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِي يَدِهِ وإنَّهُ مُوثَق فِي الْحَدِيدِ وَمَا بِمَكَّةَ مِن ثَمَرٍ. وَكَانَتْ تَقُولُ إِنَّهُ لرِزقٌ مِنَ الله رَزَقَهُ خُبَيْبا. فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الحَرَمِ لِيَقتُلوهُ في الحِلِّ قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: ذَرُوني أَرْكَع رَكْعَتَينِ. ثُمَّ قَالَ: لَوْلا أَنْ تَظُنُّوا أَنْ مَا بِي جَزع لَطَوَّلتُها، اللهمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدا. وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِما ... عَلَى أَيِّ شِق كَانَ لله مَصْرَعِي وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلهِ , وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ فَقَتَلَهُ ابْنُ الحَارِثِ، فَكَانَ خُبَيْب هُوَ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِئ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرا. فاسْتَجابَ الله لِعَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ يَوْمَ أُصِيبَ، فَأَخبرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ وَمَا أُصِيبُوا، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوِا أَنَّه قُتِلَ ليؤتَوا بِشَيءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَدْ قتلَ رَجُلا مِنْ عُظَمائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فبُعِثَ على عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ، فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أنْ يقطعُوا مِنْ لحْمِهِ شَيْئا» (¬1). وفي رواية: «اللهمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدا، وَلا تَبْقِ مِنْهُمْ أَحدا، ثُمَّ أَنشَأَ يَقُولُ: ¬
فَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقتَلُ مُسْلِما ... عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ لله مَصْرَعِي وَذَلِكَ في ذَاتِ الإِلهِ وَإنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ أَبُو سِرْوَعَةَ عُقْبَةُ بْنُ الحَارِثِ فَقَتَلَهُ وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ قُتِلَ صبرا الصَّلاةَ. وَأَخْبَرَ - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُصِيبُوا خَبَرَهُمْ، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيشٍ إِلَى عَاصِم بْنِ ثابِتٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّه قُتِلَ أَنْ يؤتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ - وَكَانَ قَتَلَ رَجُلا عَظِيما مِنْ عُظَمَائِهمْ - فَبَعَثَ الله لِعَاصِم مِثْلَ الظُّلَّة مِن الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْطَعُوا مِنْهُ شَيْئا»، وقَال كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ (¬1) " ذَكَرُوا مُرَارَةَ بْنَ الرَّبيعِ الْعَمْرِي (¬2) وَهِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيَّ (¬3) رَجُليْنِ صَالِحيْنِ " (¬4). * شرح غريب الحديث: * " الرهط " الرهط من الناس: العصابة دون العشرة، وقيل إلى الأربعين، ولا تكون فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه. وأصل كلمة من الرهط: وهم عشيرة الرجل وأهله (¬5). * " عينا " العين: الجاسوس، يقال: اعتان له: إذا أتاه بالخبر. (¬6). * " فدفد " الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع. (¬7). ¬
* " ليستحد بها " الاستحداد: استعمال الحديد في الْحَلْقِ بِهِ، ثم استُعْملَ في حلق العانة (¬1). * " قطف " القطف: العنقود، وجمعه قطوف، وهو اسم لكل ما قطف، كالذبح لكل ما ذبح، والطحن لكل ما طحن (¬2). * " صبرا " القتل صبرا: هو أن يمسك شيء من ذوات الأرواح حيّا ثم يُرمَى بشيءٍ حتى يموت (¬3). * " الظُّلَّة " السحاب وكل شيء أظلك فهو ظلة، سواء من السحاب أو الجبال أو غير ذلك. (¬4). * " الدَّبْرُ " هو بسكون الباء: النحل، وقيل: الزنابير، والظلة: السحاب (¬5). * " شلْوٍ ممزع " الشَّلْو: العضو، وممزع: أي مقطع، يقال: يتمزع أي: يتقطع ويتشقق (¬6). * " أحصهم عددا " دعاءٌ عليهم بالهلاك استئصالًا: أي لا تبقِ منهم أحدا (¬7). * " اقتلهم بددا " يروى بكسر الباء، جمع بُدَّة، وهي الحصة والنصيب: أي اقتلهم حصصا مقسمة لكل واحد منهم حصته ونصيبه، ويروى بالفتح: أي متفرقين في القتل (¬8). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: ¬
1 - من وسائل الدعوة: إرسال الدعاة وبعث البعوث. 2 - من وسائل الدعوة: تأمير الأمير على السرايا والبعوث، أو الرسل أو المسافرين. 3 - أهمية أخذ الداعية بالشدة والقوة عند الحاجة أو المصلحة. 4 - من صفات الداعية: الأمانة. 5 - من صفات الداعية: قوة اليقين. 6 - من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان. 7 - من وسائل الدعوة: إغاظة الأعداء بالامتداح بالشعر وغيره وإظهار القوة. 8 - من أساليب الدعوة: تخويف الأعداء بالدعاء عليهم بالتعميم عند الحاجة. 9 - من معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ظهور الكرامات على أيدي أتباعه. 10 - من معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: الإِخبار بالمغيبات. 11 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 12 - من صفات الداعية: النظافة والاستعداد للقاء الله عز وجل. 13 - استجابة الله عز وجل للداعية المخلص وإكرامه حيّا وميتا. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولاٌ: من وسائل الدعوة: إرسال الدعاة وبعث البعوث: دل هذا الحديث على أن من وسائل الدعوة إرسال الدعاة وبعث البعوث؛ ولهذا جاء في هذا الحديث: «بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عشرة رهط سرية عينا وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري» وقد كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يبعث البعوث ويرسل السرايا والرسل والدعاة إلى الله - عز وجل؛ ليبلغوا الناس الإسلام قولًا وفعلا، وهذا من أعظم الوسائل النافعة في الدعوة إلى الله - عز وجل (¬1). ثانيا: من وسائل الدعوة: تأمير الأمير على السرايا والبعوث أو الرسل والمسافرين: دل هذا الحديث على أهمية تأمير الأمير على السرايا أو البعوث أو الرسل، أو المسافرين إذا كانوا ثلاثة فأكثر؛ لما في ذلك من اجتماع الكلمة والاعتصام بالله ¬
وحده ثم باتحاد الرأي وعدم التفرقة؛ ولهذا أمَّر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عاصم بن ثابت على الرهط الذين بعثهم وفيهم خبيب - رضي الله عنهم، وقد كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يقول: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدهم» (¬1). ولا شك أن تأمير الأمير على المسافرين والسرايا والبعوث يكون أجمع لشملهم، وأدعى لاتفاقهم، وأقوى لتحصيل غرضهم (¬2). ثالثا: أهمية أخذ الداعية بالشدة والقوة عند الحاجة أو المصلحة: لا شك أن من الأعمال الجليلة للداعية الأخذ بالقوة والشدة عند الحاجة أو المصلحة الراجحة؛ ولهذا قال عاصم بن ثابت أمير السرية: " أمَّا أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك " فرماه المشركون ومن معه بالنبل حتى قتلوا عاصما وسبعة معه، ونزل إليهم خبيب وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق الظفري بالعهد والميثاق، فلما استمكن المشركون من الثلاثة أوثقوهم، فقال عبد الله بن طارق (¬3) " هذا أول الغدر والله لا أصحبكم " فقتلوه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة - رضي الله عنهما. وهذا يؤكد على أهمية الأخذ بالشدة والقوة عند الحاجة أو المصلحة كما أخذ بها عاصم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. رابعا: من صفات الداعية: الأمانة: ظهر في هذا الحديث أهمية صفة الأمانة للداعية؛ لأن الداعية الصادق لا يغدر، ولا ينقض عهده؛ ولهذه الصفة الكريمة قالت بنت الحارث عن خبيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فأخذ ابنا لي وأنا غافلة حين أتاه فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي، فقال: تخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك، والله ما رأيت أسيرا قطَّ خيرا من خبيب ". وهذا يدل على أمانة خبيب؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه ¬
الوفاء للمشركين بالعهد والتورع عن قتل أولادهم " (¬1) وقال العلامة العيني رحمه الله: " وفيه أداء الأمانة إلى المشرك وغيره، وفيه التورع من قتل أطفال المشركين رجاء أن يكونوا مؤمنين " (¬2). فينبغي للمؤمن، وخاصة الداعية إلى الله - عز وجل، أن يلتزم بالعهد، وأداء الأمانة والابتعاد عن الخيانة؛ قال الله - عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] (¬3) وقال - عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] (¬4) وهذا يؤكد أهمية الأمانة وأنها تشمل القيام بحقوق الله - عز وجل - وحقوق عباده، والقيام بالواجبات والابتعاد عن المحرمات على علم وبصيرة، ورغبة فيما عند الله من الثواب وخوفا من عقابه وانتقامه، والله المستعان (¬5). خامسا: من صفات الداعية: قوة اليقين: ظهر في هذا الحديث أن قوة اليقين من صفات الداعية؛ ولهذا قال خبيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فلست أبالي حين أقتل مسلما ... على أيِّ جنب كان لله مصرعي وذلك في ذات الإِله وإن يشأ ... يُبارك على أوصالِ شِلْوٍ مُمزَّعِ وهذا يؤكد أهمية قوة اليقين عند الداعية، ويبين مكانة خبيب وقوة يقينه، وقوته في دين الله - عز وجل - وثباته عليه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (¬6). سادسا: من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان: دل الحديث على أهمية الصبر على الابتلاء والامتحان والاختبار؛ لأن هؤلاء العشرة من الصحابة صبروا على ذلك، فعاصم بن ثابت صبر مع سبعة من ¬
الصحابة - رضي الله عنهم - على مجاهدة الأعداء وعدم النزول على عهد الكفار حتى قتلوا، وخبيب وابن الدثنة وعبد الله بن طارق صبروا على أسر الأعداء وتعذيبهم وقتلهم صبرا؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه أن الله يبتلي عبده المسلم بما شاء كما سبق في علمه ليثيبه، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] (¬1). وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " وهذه قدرة الله تعالى؛ ليكون المؤمنون قدوة لغيرهم " (¬2) وهذا كله يؤكد أهمية الصبر على الابتلاء واحتساب الثواب عند الله - عز وجل، والله المستعان (¬3). سابعا: من وسائل الدعوة: إغاظة الأعداء بالامتداح بالشعر وغيره وإظهار القوة: دل هذا الحديث على أهمية إغاظة أعداء الإِسلام بالامتداح بالشعر وغيره مما يغيظهم، وإظهار القوة والشجاعة أمامهم؛ ولهذا قال خبيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أيِّ شق كان لله مصرعي وذلك في ذات الإِله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع وهذا فيه إظهار القوة والشجاعة والرغبة فيما عند الله - عز وجل - أمام أعداء الإِسلام؛ قال العلامة العيني رحمه الله: " وفيه الامتداح بالشعر حين ينزل بالمرء هوان في دينٍ، أو ذلة القتل، يرغم بذلك أنف عدوِّه، ويجدِّد في نفسه صبرا وأنفة " (¬4). فينبغي إظهار القوة والنشاط، وعدم المبالاة بالأعداء؛ ليكون ذلك من أسباب إذلال الأعداء وإدخال الرعب في قلوبهم. (¬5). ثامنا: من أساليب الدعوة: تخويف الأعداء بالدعاء عليهم بالتعميم عند الحاجة: ظهر في الحديث أن من أساليب الدعوة الدعاء على المشركين بالتعميم عند إعراضهم وعنادهم واستكبارهم ومحادتهم لله ورسوله، تخويفا لهم، ¬
وإذلالًا، وإهانة، وانتصارا للإِسلام؛ ولهذا قال خبيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في دعوته على الكفار: " اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبقِ منهم أحدا " وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يسلك طريق الحكمة في الدعاء للمشركين والدعاء عليهم فيعمل الأنسب والأصلح، وسار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم على هذا المنهج (¬1). تاسعا: من معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ظهور الكرامات على أيدي أتباعه: دل هذا الحديث على أن من معجزات النبي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ظهور الكرامات (¬2) على أيدي أتباعه، وقد ظهرت هذه الكرامات على أنواع كثيرة منها ما جاء على يد خبيب، حيث قالت بنت الحارث: " والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، والله لقد وجدته يوما يأكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر "، وكانت تقول: " إنه لرزق من الله رزقه خبيبا " وهذه الكرامة لخبيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تدل على صدق النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وهي معجزة له، ويمكن أن الله جعلها آية للكفار وبرهانا لنبيه لتصحيح رسالته (¬3) وقد جزم الإمام ابن تيمية - رحمه الله - أن كرامات الأولياء من معجزات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وأوضح أن الآيات الدالة على نبوة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وعموم رسالته نوعان: (أ) ما صار معلوما بالخبر الصادق كمعجزات موسى وعيسى عليهما السلام. (ب) ما هو باقٍ إلى اليوم، كالقرآن الذي هو من أعلام نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وكالعلم والإِيمان الذي في أتباعه؛ فإنه من أعلام نبوته، وكشريعته التي أتى بها؛ فإنه من أعلام نبوته، وكالآيات التي يظهرها الله وقتا بعد وقت من كرامات الصالحين من أمته، وظهور دينه بالحجة والبرهان، واليد والسنان، والعقوبات ¬
التي تحيق بأعدائه، وصفاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - الموجودة في كتب الأنبياء قبله، كل هذا وغيره من معجزاته التي تدل على صدق نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (¬1). عاشرا: من معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: الإخبار بالمغيبات: دل هذا الحديث على أن من أعلام نبوة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - الإِخبار بالمغيبات؛ ولهذا أخبر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أصحابه - رضي الله عنهم - بما حدث لعاصم وأصحابه وما أصابهم، وهذا يؤكد صدقه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وما جعل الله على يديه من الخوارق (¬2). الحادي عشر: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: ظهر في هذا الحديث أن القدوة الحسنة من وسائل الدعوة النافعة؛ لأنه جاء فيه: " فكان خبيب هو سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا "، لأنه قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عندما أراد المشركون قتله: " ذروني أركع ركعتين ". وهذا يؤكد أهمية القدوة الحسنة وما لها من الأثر العظيم (¬3). الثاني عشر: من صفات الداعية: النظافة والاستعداد للقاء الله - عز وجل -: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية النظافة؛ ولهذا استحد خبيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عندما أراد المشركون قتله، قال الإمام الكرماني رحمه الله: " وإنما أراد بالاستحداد التنظف استعدادا للقاء ربه؛ لأن ذلك كان حين فهم إجماعهم على القتل " (¬4). وهذا يؤكد أهمية النظافة والاستعداد للقاء الله - عز وجل (¬5). الثالث عشر: استجابة الله - عز وجل - للداعية المخلص وإكرامه حيّا وميِّتا: إن الله - عز وجل - يكرم عباده المؤمنين بإجابة دعواتهم وخاصة الدعاة المخلصين ¬
الصادقين؛ ولهذا استجاب الله دعاء عاصم بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حينما لم ينزل في ذمة المشركين حيث قال: " أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك " فاستجاب الله دعاءه فأخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أصحابه خبر عاصم وأصحابه وما أصيبوا. وهذا فيه إكرام لعاصم، وأكرمه الله كرامة أخرى وهو أنه سبحانه حمى لحمه من المشركين ففي هذا الحديث: " وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حُدِّثوِا أنه قُتِلَ ليُؤتوا بشيء منه يُعرف، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر، فبُعِث على عاصم مثل الظلة من الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ من رسولهم فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه استجابة دعاء المسلم وإكرامه حيّا وميتا ". (¬1). وهذا يؤكد إكرام الله - عز وجل - للداعية المخلص حيّا وميتا، والله المستعان وعليه التكلان. ¬
باب فكاك الأسير
171 - باب فكاك الأسير فيه عن أبي موسى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. [حديث فكوا العاني وأطعموا الجائع وعودوا المريض] 133 - [3046] حَدَّثَنَا قُتَيبةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائلٍ، عَنْ أِبِي مُوسَى (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «فكُّوا الْعَانِيَ - يَعْنِي الأَسِيرَ - وَأطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ» (¬2). وفي رواية: «فكُّوا الْعَانِي، وَأَجِيبُوا الدَّاعِي، وَعُودُوا الْمَرِيضَ» (¬3). * شرح غريب الحديث: * العاني العاني: الأسير، وفكاكه السعي في إطلاقه (¬4) ويقال: العاني: الأسير وكل من ذل واستكان وخضع فقد عنا يعنو، والمرأة عانية وجمعها عوانٍ (¬5). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: الحرص على تعليم الناس الخير. 2 - من موضوعات الدعوة: الحث على تخليص أسرى المسلمين من أعداء الإِسلام. 3 - من موضوعات الدعوة: الحض على إطعام الطعام. 4 - من موضوعات الدعوة: الحث على عيادة المرضى. 5 - من موضوعات الدعوة: الحض على إجابة الدعوة. ¬
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الحرص على تعليم الناس الخير: ظهر في هذا الحديث أن من صفات الداعية المخلص الحرص على تعليم الناس الخير؛ ولهذا حرص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - على ذلك حرصا بالغا، فحث أمته على تخليص أسرى المسلمين من أيدي أعداء الدين، وحضهم على إطعام الفقراء والمساكين، من الآدميين وغيرهم، ورغبهم وأمرهم بعيادة المرضى وإجابة دعوة الداعي. فينبغي لكل مسلم أن يحرص على نفع إخوانه، ويتأكد ذلك على الداعية المخلص، والله المستعان (¬1). ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحث على تخليص أسرى المسلمين من أعداء الإسلام: إن من الموضوعات المهمة حث المسلمين على تخليص أسراهم من أيدي أعداء الإسلام بأي وسيلة كانت: سواء كان ذلك بالجهاد، أو بالفِداء، أو بمبادلة الأَسرى، أو بغير ذلك من الوسائل المشروعة؛ ولهذا أمر النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بفك الأسير فقال: «فكُّوا العاني». . . "؛ ولأهمية ذلك فإن المسلمين لو كان عندهم أسارى، وعند المشركين أسارى، واتفقوا على المفاداة تعينت، ولم تُجْزِ مفاداة أسارى المشركين بالمال (¬2). فينبغي للداعية إلى الله - عز وجل - أن يحث على ذلك ويُرَغِّب فيه؛ لعناية النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وأمره بفك الأسرى وحثه على ذلك (¬3). ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحض على إطعام الطعام: إن إطعام الجائع والحث عليه من الموضوعات المهمة في الدعوة إلى الله - عز وجل؛ ولهذا أمر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في هذا الحديث فقال: ". . . «وأطعموا الجائع» وهذا فيه حفاظٌ على صحة الجائع وحياته، وصيانة لكرامته؛ ولأهمية إطعام ¬
الطعام فقد ثبت من حديث عبد الله بن سلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لما قدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - المدينة انجفل الناس قِبَلَه، وقيل: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. ثلاثا. فجئت في الناس؛ لأنظر، فلما تبيَّنتُ وجهه عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أوَّل شيء سمعته تكلم به أن قال: «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» (¬1). وعن أبي مالك الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أنه قال: «إن في الجنة غُرفا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن أطعم الطعام، [وأفشى السلام]، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام» (¬2). وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إن في الجنة لَغُرَفا يُرى ظهورها من بطونها وبُطونُها من ظهورِها " فقام إليه أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: " هي لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام» (¬3). والمقصود أن هذا الحديث العظيم فيه حث على هذه الخصال الكريمة: إطعام الطعام، وإفشاء السلام، وطيب الكلام، وإدامة الصيام، والصلاة بالليل والناس نيام؛ فإن من عمل ذلك كانت له هذه الغرف، وهي جمع غرفة: أي علالي في غاية اللطافة ونهاية الصفاء والنظافة، وهي شفافة لا تحجب من ¬
وراءها، وهي مخصصة لمن له خلق حسن مع الناس، وخاصة بمن يُطيِّب الكلام؛ لكونه من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وهي لمن أطعم الطعام: للعيال، والفقراء، والأضياف ونحو ذلك، ولمن أدام الصيام: أي أكثر منه بعد الفريضة، وأقله أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وصلى بالليل والناس نيام: أي غالبهم نيام أو غافلون عنه، لأن العمل بالليل والناس نيام لا رياء فيه ولا سمعة، وهذا يؤكد على أن من فعل ذلك فقد بلغ الغاية العظمى في الإِخلاص لله - عز وجل - (¬1) وقد ذكر الله هذه الغرف في القرآن الكريم فقال - عز وجل -: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر: 20] (¬2) وقال الله عز وجلَّ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت: 58] (¬3). رابعا: من موضوعات الدعوة: الحث على عيادة المريض: إن عيادة المريض من الموضوعات المهمة التي ينبغي للداعية أن يحث الناس عليها؛ لأن المريض بحاجة إلى تفقد أحواله، والتلطف به، وتكون عيادته سببا في نشاطه وقوته وصبره في الغالب؛ لأنه يستأنس بزيارة إخوانه ويدافع المرض مع ما في ذلك من الثواب العظيم؛ ولهذا أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في هذا الحديث بعيادة المريض فقال: ". . . «وعودوا المريض». . . " وهذا يؤكد أهمية العيادة لمرْضَى المسلمين (¬4). خامسا: من موضوعات الدعوة: الحض على إجابة الدعوة: إن إجابة الدعوة من الموضوعات التي ينبغي للداعية أن يحث الناس عليها، ويرغبهم فيها، ويخوفهم من عدم إجابتها؛ ولهذا أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في هذا الحديث ¬
بإجابة الدعوة فقال:. . . «وأجيبوا الداعي». . . . ". وقد حض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - على إجابة الداعي في أحاديث كثيرة، منها ما ثبت عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة (¬1) فليأتها» (¬2) وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول: " شر الطعام طعامُ الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - " (¬3) وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ دُعِيَ إلى عرس أو نحوه فليجب»، وفي لفظ «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسا كان أو نحوه». (¬4). وهذه الأحاديث تؤكد أهمية إجابة الدعوة والحض عليها سواء كانت لعرس أو غيره، ولكن تسقط إجابة الدعوة بأعذار منها: أن يكون في الطعام شبهة واضحة، أو يخص بالدعوة الأغنياء دون الفقراء، أو يكون هناك من يتأذَّى بحضوره معه، أو لا تليق به مجالسته، أو يدعوه لخوف شره أو لطمع في جاهه، أو لِيُعان على باطل، وأن لا يكون هناك منكر من: خمر، أو لهو، أو فرش حرير أو آَنية ذهب وفضة، أو صور إنسانِ، أو حيوان غير مفروشة (¬5) أو غير ذلك مما حرمه الله ورسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - " ورأى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صورة في البيت فرجع "؛ (¬6) وقد ذكر الإِمام القرطبي رحمه الله: أن الوليمة إذا كان فيها منكر فلا يجوز حضورها عند كافة العلماء (¬7). إلا إذا أمكنه الإِنكار وإزالة المنكر لزمه الحضور والإِنكار؛ لأنه يؤدي فرضين: ¬
إجابة دعوة أخيه المسلم وإزالة المنكر (¬1) ومن الأعذار في عدم الإجابة أن يعتذر إلى الداعي فيتركه ويعفو عنه، وقد بالغ بعض الصحابة - رضي الله عنهم - في ترك إجابة الدعوة إذا وجد فيها بعض المكروهات، لْقد دعا ابن عمر أبا أيوب فرأى في البيت سِترا على الجدار فقال ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: غلبنا عليه النساء، فقال: من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لكم طعاما فرجع (¬2) قال ابن قدامة رحمه الله: " فأما ستر الحيطان بستور غير مصورة؛ فإن كان لحاجة من وقاية حرٍّ أو بردٍ فلا بأس؛ لأنه يستعمله في حاجته، فأشبه الستر على الباب، وما يلبسه على بدنه، وإن كان لغير حاجة فهو مكروه وعذر في الرجوع عن الدعوة وترك الإِجابة " (¬3)؛ وإنما كره لما فيه من السرف (¬4). والذي ينبغي للداعية أن يحض على إجابة الدعوة وإزالة المنكر أو المكروه، فإذا لم يستطع الإِنكار أو لم يزل المنكر فلا حرج في عدم الإِجابة إلا إذا ترتب على ذلك منكر أنكر منه؛ فإنه يجيب ويرتكب أدنى المفسدتين لتفويت كبْرَاهما، والله المستعان. ¬
باب الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان
173 - باب الحربِي إِذَا دخَل دار الإسْلامِ بغَيْرِ أمَانٍ [حديث أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين وهو في سفر] 134 - [3051] حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو العُمَيْسِ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَع (¬1) عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عَيْنٌ مِنَ المُشْرِكِينَ- وَهُوَ فِي سَفَرٍ - فجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثمَ انفتلَ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " اطْلُبُوهُ، وَاقْتُلُوه "، فقتَلْتُهُ، فَنَفَّلَهُ سَلَبَه» (¬2). * شرح غريب الحديث: * " عين " العين: الجاسوس (¬3). * " انفتل " التوى وانصرف (¬4). * " نَفَّلَهُ " النفْل: الزيادة، والنَّفَل بالتحريك الغنيمة. (¬5). * " سلبه " السلب: هو الذي يُقْضَى به للقاتل في الحرب وهو ما كان على المقتول: من اللباس، وما كان معه من السلاح والدوابِّ وآلة الحرب وغير ذلك (¬6). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: طاعة ولي أمر المسلمين في المعروف. 2 - من صفات الداعية: الشجاعة. 3 - من وظائف الإمام المسلم: قتل الجاسوس الحربي الكافر. 4 - من وسائل الدعوة: تشجيع الشجاع على شجاعته. ¬
5 - من وسائل الدعوة: أخذ الحذر والحيطة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: طاعة ولي أمر المسلمين في المعروف: إن من الصفات الحميدة والأعمال الجليلة: طاعة ولي أمر المسلمين في غير معصية الله - عز وجل؛ ولهذه الأهمية بادر سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امتثال أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فلحق بالجاسوس فقتله، وهذا يبيِّن أهمية طاعة ولي أمر المسلمين بالمعروف (¬1). ثانيا: من صفات الداعية: الشجاعة: ظهر في هذا الحديث أن الشجاعة من صفات الداعية؛ ولهذا قتل ابن الأكوع الجاسوس بأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وظهرت قوته وشجاعته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في ذلك كما في هذا الحديث (¬2). ثالثا: من وظائف الإمام المسلم: قتل الجاسوس الحربي الكافر: إن من الأمور المهمة أن يُقْضَى على جواسيس الكفار بالقتل، وذلك من وظائف الإمام الأعظم، يأمر به ويشرف على تنفيذه؛ ولهذا أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ابن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بقتل الجاسوس فقتله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قال الإمام النووي - رحمه الله - في ذكره لفوائد هذا الحديث: " وفيه قتل الجاسوس الكافر الحربي وهو كذلك بإجماع المسلمين " (¬3). رابعا: من وسائل الدعوة: تشجيع الشجاع على شجاعته: لا شك أن من وسائل الدعوة تشجيع الشجاع على شجاعته؛ ولهذا أعطى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سلب الجاسوس الذي قتله ففي هذا الحديث: «فنفله سلبه»، وفي رواية مسلم قال ابن الأكوع رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فخرجت أشتد فكنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلما وضع ¬
ركبته في الأرض اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل فندر، ثم جئت بالجمل أقوده عليه رحله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - والناس معه، فقال: " من قتل الرجل؟ " قالوا: ابن الأكوع، قال: " له سلبه أجمع» (¬1) وهذا يؤكد أهمية تشجيع الشجاع؛ قال العلامة الملا علي القاري رحمه الله: " ويستحب للإِمام التحريض على القتال بالتنفيل، فيقول: من قتل قتيلا فله سلبه، أو يقول للسرية: قد جعلت لكم النصف أو الربع بعد الخمس " (¬2). خامسا: من وسائل الدعوة: أخذ الحذر والحيطة: دل هذا الحديث بمفهومه على أن من وسائل الدعوة أخذ الحذر والحيطة من أعداء الإِسلام؛ ولهذا أخذ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بالحذر عندما جاء الرجل وجلس مع أصحابه كما في هذا الحديث، ففطن - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لذكائه وعلم بأنه جاسوس فقال: «اطلبوه واقتلوه». وهذا يؤكد أهمية أخذ الحذر والحيطة مع الاستعانة بالله والاعتماد عليه (¬3). ¬
باب كيف يعرض الإسلام على الصبي
178 - بَابُ كيفَ يُعرَض الإسلامُ على الصّبيّ؟ [حديث ذكر الدجال وقوله فيه تعلمون أنه أعور وإن الله ليس بأعور] 135 - [3057] وَقَالَ سَالِمٌ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ (¬1). «ثمَّ قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: " إِنِّي أُنْذِرُكُمُوه، وَمَا مِنْ نَبِي إِلَّا قَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوح قَوْمَه: وَلَكِنْ سَأَقُولُ لَكُمْ فِيه قَوْلا لَم يَقُلْهُ نَبِي لِقَوْمهِ: تَعْلَمُون أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ الله لَيْسَ بِأَعْوَرَ» (¬2). وفي رواية: «إِنَّ الله لَيْسَ بأَعْوَرَ، ألا إنَّ المَسيحَ الدَّجَالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنى، كَأن عَيْنَهُ عِنَبَة طَافِيَة» (¬3). وفي رواية: «كُنَا نَتَحَدَّثُ بِحَجَّةِ الْوَدَاع وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بيْنَ أَظْهُرِنَا، وَلَا نَدْرِي مَا حَجَّةُ الْوَدَاعِ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمَسِيحَ الدَّجَّال فَأَطْنَبَ فِي ذِكْرِهِ وَقَالَ: " مَا بَعَثَ الله مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَهُ أُمَّتَهُ: أَنْذَرَهُ نُوح والنَّبيُّونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَإنَّه يَخْرُجُ فِيكُمْ فَمَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ شَأنِهِ، فَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْكُم أَنَّ رَبكُمْ لَيْسَ عَلَى مَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ " ثلاثا " إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّهُ أَعْوَرُ العَين الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَة طَافِيَة» (¬4). * شرح غريب الحديث: * " فأطنب " يقال: أطنب في الكلام أو الوصف أو الأمر: بالغ وأكثر (¬5). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من وسائل الدعوة: الخطابة. 2 - من آداب الداعية: الثناء على الله بما هو أهله. 3 - من صفات الداعية: الحرص على تعليم الناس الخير. 4 - من موضوعات الدعوة: التحذير من فتنة الدجال وبيان صفاته للحذر منه. 5 - من موضوعات الدعوة: بيان صفات الكمال لله - عز وجل. 6 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من وسائل الدعوة: الخطابة: إن من الوسائل المهمة في الدعوة إلى الله - عز وجل - الخطابة، وقد ظهر استخدام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لها في هذا الحديث؛ لقول ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «ثم قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في الناس فأثنى على الله بما هو أهله»، وهذا يؤكد أن الخطابة من أهم وسائل الدعوة. فينبغي للداعية العناية بها عناية فائقة (¬1). ثانيا: من آداب الداعية: الثناء على الله بما هو أهله: إن من الآداب العظيمة التي ينبغي للداعية أن يبدأ بها في خطبه ومحاضراته، وكلماته أن يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ويصلي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم؛ ولهذا جاء في هذا الحديث قول ابن عمر - رضي الله عنهما: " ثم قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال. . . ". وهذا يؤكد أهمية الثناء على الله - عز وجل - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وبما هو أهله كما فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، ومن ذلك خطبة الحاجة التي كان يخطب بها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في أول الخطبة (¬2). ¬
ثالثا: من صفات الداعية: الحرص على تعليم الناس الخير: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية الحرص على تعليم الناس الخير وتحذيرهم مما يضرهم؛ ولهذا حرص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - حرصا عظيما على تعليم أمته الصفات التي يعرف بها الدجال؛ ليحذر أمته. وهذا يؤكد أن من أهم صفات الداعية الحرص على تعليم الناس ما ينفعهم وتحذيرهم مما يضرهم (¬1). رابعا: من موضوعات الدعوة: التحذير من فتنة الدجال وبيان صفاته للحذر منه: إن من موضوعات الدعوة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها: التحذير من فتنة الدجال؛ ولهذا حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن الدجال فقال: «إني أنذركموه وما من نبي إلا قد أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، والنبيون من بعده»، قال الإمام النووي رحمه الله: " هذا الإِنذار؛ لِعِظَمِ فتنته وشدة أمرها " (¬2)؛ ولعظم فتنة الدجال وخطرها على المسلمين بَيَّن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - صفاته كاملةً؛ لِيَحْذَرَ منه المؤمنون، ومن هذه الصفات على وجه الإِجمال اقتباسا من أحاديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ما يأتي: هو شاب جعد الشعر، أعور العين اليمنى حقيقة، وعينه اليسرى معيبة (¬3) ويخرج من خلة بين الشام والعراق من المشرق: من خراسان، ويمكث في الأرض أربعين يوما: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وسائر أيامه كالأيام المعروفة، وتُصَلَّى الصلوات على تقدير الأيام العادية في كل أربعٍ وعشرين ساعة خمس صلوات، وسرعته في الأرض كالغيث استدبرته الريح، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت فتنبت، ومن أجابه إلى أنه الرب - تعالى الله عن قوله - أو أنه نبي كان في رغد من العيش وسعة، ومن عصاه ولم يجبه ذهبت أمواله معه وأصبح فقيرا، ويضرب شابَا مسلما بالسيف فيكون ¬
قطعتين ثم يقف بين القطعتين ويناديه فيحْيى، ويدخل جميع البلدان والقرى إلا مكة والمدينة فإنه لا يدخلهما لحراسة الملائكة لهما، ولكن ترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج الله كل كافر ومنافق فيصيبه الدجال، ومعه نار وماء، فماؤه نار وناره ماءٌ، فمن رأى ذلك فليلق بنفسه في النار ويبتعد عن الماء، ومعه جنة ونار فناره جنة وجنته نار، ومكتوب بين عينيه كافر [ك ف ر] يقرؤه كل مسلم قارئ وغير قارئ، وهو قصير متباعد ما بين الفخذين والرِّجل، ويتبعه سبعون ألفا من يهود أصبهان، وما خلق الله فتنة منذ أوجد السموات والأرض أعظم من فتنة الدجال؛ ولهذا حذره النبيون أممهم، ومن أعظم ما ينجي من الدجال قراءة عشر آيات من أول سورة الكهف والاستعاذة بالله من فتنته دبر كل صلاة، وفي آخر الأمر ينزل عيسى ابن مريم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فيقتل الدجال (¬1) نعوذ بالله من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن. وهذه الصفات التي ذكرها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عن الدجال تؤكد أهمية التحذير من فتنته، وتوضيح أمره للناس، حتى يسلم من فتنته من أدركه، أسأل الله العافية في الدنيا والآخرة لي ولجميع المسلمين. خامسا: من موضوعات الدعوة: بيان صفات الكمال لله - عز وجل -: إن من الموضوعات المهمة بيان صفات الكمال لله - عز وجل -، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في هذا الحديث: «إن ربكم ليس بأعور» والله - عز وجل - لا يشبهه شيء من خلقه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] (¬2). فينبغي للداعية أن يبيَن للناس منهج أهل السنة والجماعة في إثبات الأسماء الحسنى، والصفات العُلَى، ونفي النقائص والعيوب عن الله - عز وجل (¬3). ¬
سادسا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالتكرار: إن من أساليب الدعوة التأكيد بالتكرار؛ ولهذا استخدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - هذا الأسلوب في هذا الحديث عند ذكره لصفات الدجال فقال: «فما خَفِيَ عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم أن ربكم ليس على ما يخفى عليكم» ثلاثا. وهذا يؤكد أهمية هذا الأسلوب. فينبغي للداعية العناية به؛ لفعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (¬1). ¬
باب إذا أسلم قوم في دار الحرب ولهم مال وأرضون فهي لهم
180 - باب إذا أسلم قوم في دَارِ الحرب ولهُمْ مال وأَرَضُونَ فَهي لهمْ [حديث استعمال عمر بن الخطاب مولى له يدعى هنيا ونصيحته له] 136 - [3059] حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْن أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ (¬1) " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّاب - رضي الله عنهم - اسْتَعْملَ مَوْلىً لَهُ يُدْعَى هُنَيا (¬2) عَلَى الْحِمَى، فَقَالَ: يَا هُنَيُ اضْمُمْ جَنَاحكَ عَن الْمُسْلِمِينَ، وَاتَقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ (¬3) فإن دعْوَةَ الْمَظْلُومٍ مُسْتَجَابة. وأَدْخِلْ ربَّ الصُّرَيمَةِ، وَرَبَّ الغُنَيْمَةِ، وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ وَنعَمَ ابْنِ عَفَّانَ؛ فَإنَهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَىِ نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وإن رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الغُنَيْمَةِ إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَأْتِنِي بِبَنِيهِ فيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمؤمِنينَ أَفَتَارِكُهُمْ أَنا لَا أَبَا لَكَ؟ فَالْمَاءُ وَالْكَلأُ أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنَ الذَّهَب وَالْوَرِقِ، وَأيْمُ الله إِنَهُمْ لَيَرَوْنَ أني قَدْ ظَلَمْتُهُمْ؛ إِنَهَا لَبِلادُهُمْ، فَقَاتَلَوا عَلَيْهًا فِي الْجَاهِليِّة وَأسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الإِسْلامِ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ الله مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلادهِمْ شِبْرا". * شرح غريب الحديث: * " الحمى " الحمى خلاف المباح وهو الممنوع (¬4). * " اضمم جناحك عن المسلمين ": أي أَلِنْ جَانِبَك وارفق بهم (¬5). * " الصريمة " الإِبل القليلة (¬6). ¬
* " الغنيمة " الغنم القليلة (¬1). * " الكلأ " النبات والمرعى. (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية اختيار الرجل الصالح النبيل للأمور المهمة. 2 - من أصناف المدعوين: الموالي والخدم. 3 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الظلم. 4 - من موضوعات الدعوة: الحث على رحمة المسلمين والشفقة عليهم. 5 - من صفات الداعية: القوة وجودة النظر. 6 - من أساليب الدعوة: الترهيب. 7 - من أساليب الدعوة: الاستفهام الإِنكاري. 8 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم. 9 - أهمية رعاية مصالح المسلمين. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: أهمية اختيار الرجل الصالح النبيل للأمور المهمة: دل هذا الحديث على أنه ينبغي للداعية أو الإمام المسلم، أو من ولاه الله أمرا من أمور المسلمين أن يختار الرجل الصالح النبيل للأمور المهمة؛ لأن من الحكمة وضع الرجل المناسب في المكان المناسب؛ ولهذا جاء في هذا الحديث أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " استعمل مولىً له يُدعى هنيّا على الحمى "؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ولولا أنه كان من الفضلاء النبهاء الموثوق بهم لما استعمله عمر " (¬3). ¬
ثانيا: من أصناف المدعوين: الموالي والخدم: إن مما لا شك فيه أن من أصناف المدعوين الموالي والخدم، ونحوهم؛ ولهذا حَذَّر أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مولاه من الظلم، وأمره بالشفقة على الفقراء فقال: واتقِ دعوة المظلوم؛ فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة ". وهذا يؤكد أهمية عناية المسلم وخاصة الداعية إلى الله - عز وجل - بمن تحت يده من الموالي والخدم وغيرهم: من دعوتهم إلى الخير وتحذيرهم من الشر، ومراقبتهم مراقبة دقيقة؛ لإِلزامهم بطاعة الله - عز وجل - وإبعادهم عن معصيته. ثالثا: من موضوعات الدعوة: التحذير من الظلم: ظهر في هذا الحديث أن من موضوعات الدعوة المهمة تحذير الناس من الظلم؛ ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لمولاه: " واتق دعوة المظلوم؛ فإن دعوة المظلوم مستجابة " وقد حذر الله - عز وجل - من الظلم فقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ - مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ - وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ - وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم: 42 - 45] (¬1) وقال - عز وجل: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 52] (¬2) وقال - عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] (¬3) وقال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] (¬4). وعن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا». . . " (¬5). ¬
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلُوا محارمهم» (¬1) وقد ثبت عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة» (¬2). وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «أتدرون من المفلس؟ " قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: " إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فَيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناتُهُ قبل أن يُقضى ما عليه أُخِذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طُرِحَ في النار» (¬3). والظالم يؤدي ما عليه من حقوق الخلق حتى البهائم يقتص بعضها من بعض؛ ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لتؤدَّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» (¬4). والظلم للعباد يوجب النار وإن كان يسيرا، فعن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرَّم عليه الجنة " فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: " وإن قضيبا من أراك» (¬5) والله - عز وجل - وإن أمهل الظالم وذهبت الأيام والشهور، فإنه لا يغفل عنه ولا ينساه؛ ولهذا ثبت من حديث أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «إن الله - عز وجل - يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته» (¬6) ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] (¬7). ¬
وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بنصر المظلوم؛ فقال: ". . . «ولينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلوما فلينصره» (¬1). وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما "، قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: " تأخذ فوق يديه» (¬2). وينبغي لكل مسلم أن يتحلل من كانت له عنده مظلمة قبل أن يكون الوفاء من الحسنات؛ قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخِذَ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخِذ من سيئات صاحبه فَحُمِلَ عليه» (¬3). وقد يكون الظلم للرعية أو الأهل والذرية فيستحق الظالم العقاب على ذلك، قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «ما من عبد يسترعيه اللهُ رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» (¬4). وقد حذر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - من دعوة المظلوم، فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لمعاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ". . . «واتقِ دعوة المظلوم؛ فإنها ليس بينها وبين الله حجاب» (¬5) ومن أمثلة ذلك قصة سعيد بن زيد مع أروى بنت أويس؛ فإنها ادعت عليه أنه أخذ شيئا من أرضها، فخاصمته إلى مروان بن الحكم فقال: " أنا كنت آخذ من أرضها شيئا بعد الذي سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم؟ قال وما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم؟ قال: ¬
سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يقول: «من أخذ شبرا من الأرض ظلما طُوِّقه إلى سبع أرضين (¬1) يوم القيامة» فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا، فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرضها [وفي رواية: واجعل قبرها في دارها] قال: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار، [وفي رواية: تمشي في أرضها] مرت على بئر في الدار، فوقعت فيها، فكانت قبرها " (¬2). ومن صور استجابة دعوة المظلوم على من ظلمه، قصة سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فعن جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعزله واستعمل عليهم عمارا، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، قال أبو إسحاق: أمَّا أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ما أخرِمُ عنها، أصلي صلاة العشاء فأركدُ في الأوليين وأخفف في الأخريين، قال: ذاك الظنُّ بِك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رَجُلا أو رجالًا إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يدعْ مسجدا إلا سأل عنه، ويثنون معروفا حتى دخل مسجدا لبني عبس فقام رجلٌ منهم يقال له أسامة بن قتادة يُكنى أبا سعدة، قال: أمَّا إذا نشدتنا فإن سعدا كان لا يسير في السرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. قال سعدٌ: أَمَا والله لأدعوَنَّ بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا قام رياءً وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد، قال عبد الملك فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن (¬3). ¬
والأحاديث تؤكد أن دعوة المظلوم مستجابة حتى ولو كان فاجرا فاسقا، فعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه» (¬1). ، وقد ذكر الإِمام ابن عبد البر رحمه الله آثارا كثيرة عن السلف الصالح يحذرون فيها من الظلم ويبينون فيها استجابة دعوة المظلوم، ثم قال رحمه الله: ولقد أحسن القائل: " نامت جفونك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك وعين الله لم تنم " (¬2). والظلم في الحقيقة: وضع الأشياء في غير مواضعها (¬3). وهو على نوعين: 1 - ظلم النفس، وهو ضربان: ظلم النفس بالشرك الذي لا يغفره الله إذا مات العبد عليه قبل التوبة منه، وظلمها بالمعاصي التي يكون صاحبها تحت المشيئة إن لم يتب منها، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه بقدر معصيته ثم يخرجه من النار ويدخله الجنة، بعد التطهير من إثم المعصية. 2 - ظلم العبد لغيره من الخلق وهذا لا يترك الله منه شيئا بل يعطي المظلوم حقه من الظالم ما لم يستحله في الدنيا (¬4). والله - عز وجل - إذا عاقب الظالمين على ظلمهم لم يظلمهم؛ ولهذا قال - عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] (¬5) وقال - عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] (¬6) وقال سبحانه وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] (¬7). ¬
وقال سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112] (¬1). فينبغي للداعية أن يُحذِّر الناس من الظلم وعواقبه في الدنيا والآخرة. أسأل الله العافية لي ولجميع المسلمين في الدنيا والآخرة. رابعا: من موضوعات الدعوة: الحث على رحمة المسلمين والشفقة عليهم: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة الحث على الشفقة والرحمة بالمسلمين؛ ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لمولاه: " وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة. . " وهذا يؤكد أهمية العناية بالفقراء والمحاويج ورحمتهم، وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أول هذا الحديث لمولاه: " يا هنيُّ اضمم جناحك عن المسلمين ". قال الإمام الكرماني - رحمه الله - في مفهوم ذلك: " كناية عن الرحمة والشفقة " (¬2) وقد حث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - على الشفقة والرحمة بالمسلمين ورغب في ذلك فقال: «مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (¬3) فينبغي للداعية أن يحض الناس على التراحم والتعاطف والشفقة على المسلمين (¬4). خامسا: من صفات الداعية: القوة وجودة النظر: ظهر في هذا الحديث أن القوة وجودة النظر من صفات الداعية، ومما يدل على ذلك فعل عمر وقوله لمولاه هني، حيث أوصاه بضم الجناح للمسلمين، واتقاء دعوة المظلوم، والعناية بأصحاب الأموال القليلة ومراعاة أحوالهم، ومنع غيرهم من الحمى، وبين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رب الصريمة والغنيمة إذا هلكت ماشيتهما؛ فإنهم يأتون إليه ويسألونه الذهب والفضة، وقال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فالماء والكلأ أيسر ¬
علي من الذهب والورق ". وهذا يؤكد جودة نظره، وقوته حين منع الأغنياء من الحمى؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث ما كان فيه عمر من القوة وجودة النظر، والشفقة على المسلمين " (¬1). سادسا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل هذا الحديث على أن أسلوب الترهيب من أهم الأساليب في الدعوة إلى الله - عز وجل؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لمولاه: " واتقِ دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب "، وهذا فيه تخويف من دعوة المظلوم، وحينئذ يبتعد الإِنسان عن الظلم ووسائله (¬2). سابعا: من أساليب الدعوة: الاستفهام الإنكاري: ظهر في هذا الحديث أسلوب الاستفهام الإِنكاري، وذلك في قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لمولاه: " أفتاركهم أنا؟ " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " استفهام إنكاري، معناه لا أتركهم محتاجين " (¬3) وهذا يؤكد أهمية هذا الأسلوب (¬4). ثامنا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: دل هذا الحديث على أن من أساليب الدعوة التأكيد بالقسم؛ ولهذا قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وأيم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم؛ إنها لبلادهم فقاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإِسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا ". وهذا يؤكد أهمية التوكيد بالقسم في الدعوة إلى الله - عز وجل - (¬5). تاسعا: أهمية رعاية مصالح المسلمين: ظهر في هذا الحديث عناية عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بمصالح المسلمين ¬
وإنزال كل إنسان منزلته على حسب حاجته، مراعاة لحاله، وأنه لم يحمِ إلا لمصلحة المسلمين والجهاد في سبيل الله - عز وجل؛ ولهذا قال: " والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا " وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " وهذا يدل على أن لولي الأمر أن يحمي للجهاد لا لنفسه، [و] يوصي بالرحمة للفقراء وأهل الحاجة " (¬1) وهذا كله يؤكد أهمية العناية بمصالح المسلمين. (¬2). ¬
باب كتابة الإمام الناس
181 - باب كتابة الإمام الناس [حديث اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس] 137 - [3060] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عن أبي وائل، عن حذيفة (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس» فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل. فقلنا: نخاف ونحن ألف وخمسمائة؟ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا ابْتُلِينَا حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي وَحْدَه وَهُوَ خَائِفٌ ". حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزةَ، عَنِ الأَعْمش: " فَوَجَدْنَاهُمْ خَمْسَمائَة ". قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: " مَا بَيْنَ سِتّمِائَةٍ إِلَى سَبْعِمائَةٍ ". (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية الإِعداد للجهاد وإحصاء الإمام عدد الجيوش. 2 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الإِعجاب بالكثرة. 3 - من سنن الله - عز وجل: الابتلاء والامتحان. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: ¬
أولا: أهمية الإعداد للجهاد وإحصاء الإمام عدد الجيوش: دل هذا الحديث على أهمية الإِعداد للجهاد بكل ما يستطيعه المسلمون من قوة، كما دل على أن من الإِعداد للجهاد معرفة الإمام عدد الجيوش؛ لأخذ الحذر والحيطة والاستعداد للجهاد؛ ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «اكتبوا لي من تلفظ بالإِسلام من الناس» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث مشروعية كتابة ديوان الجيوش، وقد يتعين ذلك عند الاحتياج إلى تمييز من يصلح للمقاتلة بمن لا يصلح " (¬1). وهذا يؤكد أهمية العناية بالإِعداد للجهاد في سبيل الله - عز وجل. (¬2). ثانيا: من موضوعات الدعوة: التحذير من الإعجاب بالكثرة: إن من الموضوعات المهمة في الدعوة إلى الله - عز وجل - تحذير المسلمين من الإِعجاب بالكثرة والقوة؛ لأن ذلك من أسباب الهزيمة والخذلان، وقد دل هذا الحديث على خطر ذلك؛ لقول حذيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل، فقلنا: نخاف ونحن ألف وخمسمائة؟ فلقد رأيتنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف "، وهذا يؤكد أهمية التحذير من الإِعجاب بالكثرة والقوة؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه وقوع العقوبة على الإِعجاب بالكثرة " (¬3) وهو نحو قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] (¬4). فينبغي للداعية أن يحذر الناس عن الإِعجاب بالكثرة أو القوة، ويحثهم على التوكل والاعتماد على الله مع الأخذ بالأسباب والاستعانة بالله - عز وجل (¬5). ثالثا: من سنن الله - عز وجل: الابتلاء والامتحان: دل هذا الحديث على أن من سنن الله - عز وجل - الابتلاء والامتحان، لقول حذيفة ¬
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فلقد رأيتنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف " قال الإمام النووي رحمه الله: " أما قوله: ابتلينا، فلعله كان في بعض الفتن التي جرت بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فكان بعضهم يخفي نفسه ويصلي سرا مخافة من الظهور والمشاركة في الدخول في الفتنة والحروب والله أعلم " (¬1). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وأما قول حذيفة فيشبه أن يكون أشار بذلك إلى ما وقع في أواخر خلافة عثمان ومن ولاية بعض أمراء الكوفة كالوليد بن عقبة حيث كان يؤخر الصلاة أو لا يقيمها على وجهها، وكان بعض الورعين يصلي وحده سرا ثم يصلي معه خشية من وقوع الفتنة " (¬2). فينبغي للداعية أن يسأل الله العافية ويستعيذ به من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله المستعان (¬3). ¬
باب إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر
182 - بَاب إِن الله يُؤيِّدُ الدِّين بالرجُل الفاجر [حديث قال لرجل ممن يدعي الإسلام هذا من أهل النار] 138 - [3062] حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْب، عَنِ الزُّهْرِيِّ. ح. وَحَدثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلانَ: حَدَثَنَا عَبْدُ الرَّزّاق: أَخْبَرَنَا مَعْمرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُريْرَةَ (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «شَهِدْنَا مَعِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الإسْلامَ: " هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ ". فَلمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالا شَدِيدا فَأصَابَتْهُ جِرَاحَة فَقيلَ يَا رَسُولَ الله، الَّذِي قُلْتَ: إنهُ مِنْ أَهْلِ النَّار، فَإِنَّهُ قَاتَلَ اليَوْمَ قِتَالا شَدِيدا وَقَدْ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " إِلَى النَّارِ ". قَالَ فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْتَابَ. فَبيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يمتْ، وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحا شَدِيدا. فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْل لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِراحِ فَقَتلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بِذَلِكَ فَقَالَ: " الله أَكْبَرُ، أشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ ". ثمَّ أَمرَ بِلالا فَنَادَى فِي النَّاسِ: " إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْس مُسْلِمَة، وَإِنَّ الله لُيؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» (¬2). وفي رواية: «شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - خيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لرَجُلٍ مِمَّنْ معه يَدَّعِي الإِسْلامَ: " هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ " فَلمَا حَضَر الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَجُلُ. .» الحديث (¬3). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحض على الإِيمان بالقدر والعمل بأسباب النجاة. 2 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الاغترار بالأعمال. ¬
3 - من صفات الداعية: الجمع بين الخوف والرجاء. 4 - من معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: الإخبار بالمغيبات. 5 - من صفات الداعية: الأخذ بالظاهر والله يتولى السرائر. 6 - من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب. 7 - من موضوعات الدعوة: الحث على النية الصالحة. 8 - من موضوعات الدعوة: حث الناس على طلب حسن الخاتمة بالقول والفعل. 9 - عظم يقين الصحابة - رضي الله عنهم - بصدق ما يخبر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. 10 - قد يؤيد الله - عز وجل - الإِسلام بالمدعو الفاجر (¬1). ¬
باب من غلب العدو فأقام على عرصتهم ثلاثا
185 - باب من غلب العدو، فأقام على عرصتهم ثلاثا [حديث أنه كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال] 139 - [3065] حَدَّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عبد الرَحِيمِ: حَدَّثَنَا رَوحُ بنُ عُبَادةَ: حَدَّثَنَا سَعِيد، عَنْ قتَادَةَ قَالَ: " ذَكَرَ لَنَا أنسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحة (¬1) - رضي الله عنهما، «عنِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أنه كَانَ إِذَا ظَهرَ عَلَى قَوْم أَقَامَ بِالعَرْصَةِ ثَلاثَ لَيَالٍ». تَابَعهُ مُعَاذ وَعَبْدُ الأَعْلَى: " حَدَّثَنَا سَعِيد، عَنْ قَتَادةَ، عَن أنسٍ، عَنْ أبِي طَلْحَةَ، عَنِ النَبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم " (¬2). وفي رواية «أَنَّ نَبِيَّ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أَمَرَ يَوْم بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلا مِنْ قُرَيْشٍ فَقُذِفُوا فِي طَويٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمِ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلاثَ لَيَالٍ. فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ برَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُها، ثُمَّ مَشَى وَتَبعَهُ أَصْحَابُهُ وَقالُوا: مَا نَرى يَنْطَلِقُ إِلاّ لِبَعضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: " يَا فلانُ ابنَ فلَانٍ، وَيَا فلانُ ابنَ فلَانٍ، أيسُرُكُمْ أَنًكُمْ أَطَعْتُمُ الله وَرَسُولَهُ؟ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّا؟ " قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لا أَرْوَاحَ لَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنتمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهم» قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ الله حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ: تَوْبِيخا، وتَصْغِيرا، وَنقْمَةً، وحَسْرَةً، وَنَدَما " (¬3). * شرح غريب الحديث: * " ظهر على قوم " أي غلبهم (¬4). * " العَرْصةُ " كل موضع واسعٍ لا بناء فيه (¬5). ¬
* " صناديد " صناديد قريش: أشرافهم، وعظماؤهم، ورؤساؤهم، وكل عظيم غالب صنديد (¬1). * " طويّ " الطويُّ: البئر المطويّة (¬2). * " الركيّ " الركيّ: هي البئر التي لم تطوَ (¬3). * " القليب " القليب: البئر التي لم تطوَ أيضا (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من وسائل الدعوة: إظهار انتصار الإِسلام وشعار المسلمين. 2 - من معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: الإِخبار بالأمور الغيبية. 3 - من موضوعات الدعوة: بيان عذاب القبر ونعيمه. 4 - من أساليب الدعوة: الترهيب. 5 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من وسائل الدعوة: إظهار انتصار الإسلام وشعار المسلمين: لا ريب أن إظهار انتصار الإِسلام وشعار المسلمين من وسائل الدعوة التي تدخل الرعب في قلوب أعداء الإِسلام، وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال؛ قيل: الحكمة من ذلك؛ ليظهر تأثير الغلبة وتنفيذ الأحكام، وقلة المبالاة بأعداء الإِسلام، وإظهار شعار المسلمين، وإيقاع الطاعة في الأرض التي وقعت فيها المعاصي، وغير ذلك من الحكم التي تظهر أثناء الإِقامة: كالنظر ¬
في عدد القتلى والقيام بشؤونهم، وإراحة المجاهدين إذا أُمن مكر العدو (¬1). وهذه الأعمال تؤيد أن إظهار الانتصار والقوة من أهم وسائل الدعوة؛ لما في ذلك من المصالح التي من أعظمها تخويف الأعداء وإذلالهم. ثانيا: من معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: الإخبار بالأمور الغيبية: إن مما يدل على صدق رسالة النبي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وعمومها ما أخبر به من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله - عز وجل؛ ومن ذلك إخباره بأن صناديد المشركين يسمعون قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لهم: «أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا». وهذا يدل على أن ذلك من معجزاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - الباهرة (¬2). ثالثا: من موضوعات الدعوة: بيان عذاب القبر ونعيمه: إن من الموضوعات المهمة التي ينبغي أن يبينها الداعية للناس: عذاب القبر ونعيمه؛ وقد ظهر في هذا الحديث ما يدل على ذلك، فقد «قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - حينما خاطب صناديد قريش بعد إلقائهم في قليب بدر: " يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ " فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم». قال قتادة: " أحياهم الله حتى أسمعهم قوله: توبيخا، وتصغيرا، ونقمة، وحسرة، وندما "، وهذا يؤكد أهمية بيان عذاب القبر؛ ولهذا خاطب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - صناديد قريش يوبخهم؛ لإِعراضهم وعنادهم التام في الدنيا عن دين الإِسلام، بل وقفوا في طريقه وقاتلوا أهله؛ ولأهمية التحذير من عذاب القبر ذكر الله - عز وجل - عذاب آل فرعون في البرِزخ فقال - عز وجل: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ - النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45 - 46] (¬3) وقال - عز وجل - في عذاب الكفار في الدنيا والبرزخ: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ - يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ - وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الطور: 45 - 47] (¬4). ¬
وقد ذكر البراء بن عازب، وابن عباس، وعلي - رضي الله عنهم -، أن قوله - عز وجل: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الطور: 47] هو عذاب القبر، وقيل: هو الجوع في الدنيا والمصائب التي تصيبهم في الدنيا، ورجح الإمام الطبري رحمه الله أن ذلك يشمل الأمرين وأن للذين ظلموا أنفسهم بكفرهم به عذابا دون يومهم الذي فيه يصعقون، وذلك يوم القيامة، فعذاب القبر دون يوم القيامة؛ لأنه في البرزخ، والجوع والمصائب التي تصيبهم في أنفسهم وأموالهم وأولادهم دون يوم القيامة، ولم يخصص نوعا من ذلك أنه لهم دون يوم القيامة دون نوع بل عمَّ (¬1) وقد بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - للناس عذاب القبر في أحاديث كثيرة، ومن ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إن أحدكم إذا مات، عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله عليه يوم القيامة» (¬2) وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنهم - قال: «بينما النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به (¬3) فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: " من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ " قال رجل: أنا، قال: " فمتى مات هؤلاء؟ " قال: ماتوا في الإِشراك، فقال: " إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه "، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: " تعوّذوا بالله من عذاب النار " قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. فقال: " تعوذوا بالله من عذاب القبر " قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: " تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن " قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: " تعوّذوا ¬
بالله من فتنة الدجال " قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال» (¬1). وعن أبي أيُّوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بعدما غربت الشمس فسمع صوتا فقال: " يهودُ تعذب في قبورها» (¬2). وعن أنس - رضي الله عنهم - قال: قال نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولَّى عنه أصحابُه، إنه ليسمع قرعَ نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ " محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم " فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما. جميعا" [قال قتادة: " وذُكِرَ لنا أنه يفسح له في قبره " ثم رجع إلى حديث أنس قال] " وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؛ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقوله الناس، فيقال: لا دَريت ولا تليت، ويضرب بمطارِقَ من حديد ضربة، فيصيح صيحةً يسمعها من يليه غير الثقلين» (¬3) وعن البراء بن عازب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «إذا أقعد المؤمن في قبره أُتي ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]» (¬4). وفتنة القبر كانت تحدث عند الصحابة خشوعا لله وإقبالًا عظيما إلى طاعته حينما يذكرهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فعن أسماء بنت أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قالت: «قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - خطيبا فذكر فتنة القبر التي يفتتن بها المرءُ، فلما ذكر ذلك ضجَّ المسلمون ضجَّةً» (¬5). ¬
والقبر له ضغطة لا ينجو منها أحد، لكنَّ هذه الضغطة ضغطة سخط وغضب على المجرمين، وضغطة فرح وسرور للمؤمنين (¬1) فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء وشهده سبعون ألفا من الملائكة، لقد ضُمَّ ضمةً ثم فرِّج عنه» (¬2) يعني سعد بن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فينبغي للمسلم أن يسأل الله العافية؛ فإن للقبر ضغطة، فلو نجا أو سلم أحد منها لنجا سعد بن معاذ. ومما يزيد الأمر وضوحا في عذاب القبر قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أسرعُوا بالجنازة، فإن تكُ صالحةً فخيرٌ تقدمونها إليه، وان تَكُ غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» (¬3) وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتَها كلُّ شيءٍ إلا الإنسان، ولو سمعه لَصَعِق» (¬4). ولهول عذاب القبر أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أمته بالاستعاذة منه دبر كل صلاة، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال» (¬5) وكان هو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يدعو في صلاته فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم» فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم ¬
يا رسول الله؟ فقال: «إن الرجل إذا غرم حدّث فكذب ووعد فأخلف» (¬1). ولا شك أن القبور لها ظلمة إلا من نوَّر الله قبره بالإِيمان والعمل الصالح، فعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن امرأة سوداء كانت تَقُمّ المسجد، أو شابا، ففقدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فسأل عنها أو عنه فقالوا: مات، قال: " أفلا آذنتموني " فكأنهم صغَّروا أمرها أو أمره فقال: " دلوني على قبره " فدلوه فصلى عليها ثم قال: " إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله - عز وجل - ينوِّرها لهم بصلاتي عليهم» (¬2). ومن أعظم الأحاديث في عذاب القبر حديث البراء بن عازب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وفيه أن العبد المؤمن يفسح له في قبره مد بصره، وأن العبد الفاجر يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه (¬3). وعن هانئ مولى عثمان قال: كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تُذكَرُ الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا؟ فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «إن القبر أوّلُ منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشدُّ منه» وقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «ما رأيت منظرا قطُ إلا والقبر أفظع منه» (¬4). ومما يزيد المسلم يقينا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال عن أرواح المؤمنين في البرزخ: «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه» (¬5). وأرواح الشهداء أعظم من ذلك: فإن: «أرواحهم في ¬
جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل» (¬1) ولا شك أن أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها، وأحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبع لها، فإذا كان يوم القيامة كان الحكم والنعيم أو العذاب على الأرواح والأجساد جميعا (¬2). وعذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه، قبر أو لم يقبر، أو أكلته السباع، أو أحرق حتى صار رمادا أو نسف في الهواء؛ فإنه يصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل القبور (¬3). وأحاديث عذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين تبلغ حد التواتر؛ فقد بلغت الأحاديث في ذلك سبعين حديثا (¬4). ومما يجير من عذاب القبر معرفة الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور والابتعاد عنها، والأسباب المنجية من عذاب القبر والعمل بها. أما أسباب عذاب القبر فمنها: الجهل بالله، وإضاعة أوامره، وارتكاب معاصيه، والنميمة، وترك الاستبراء من البول، والكذب الذي يبلغ الآفاق، وترك العمل بالقرآن والنوم عنه بالليل، والزنا، وأكل الربا، والتثاقل عن الصلاة المفروضة، وترك الزكاة المفروضة، وأكل لحوم الناس بالغيبة والوقوع في أعراضهم، وغير ذلك من أسباب عذاب القبر التي ينبغي للداعية تحذير الناس منها. وأما أسباب النجاة من عذاب القبر فكثيرة، منها: تجنب الأسباب التي تسبب عذاب القبر، ومن أنفع أسباب النجاة أن يجلس المسلم عندما يريد النوم فيحاسب نفسه فيما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحا فينام على تلك التوبة " ومن أسباب النجاة من عذاب القبر: الموت مرابطا في سبيل الله، والشهادة في ¬
سبيل الله، وغير ذلك من الأسباب النافعة (¬1) فينبغي للداعية أن يبين للناس حقيقة عذاب القبر ونعيمه، اللهم عافني وسلمني وأعذني من عذاب القبر، ووالديَّ وجميع المؤمنين. رابعا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترهيب؛ ولهذا قال قتادة في آخره عن صناديد قريش: " أحياهم الله حتى أسمعهم قوله: توبيخا، وتصغيرا، ونقمة، وحسرة، وندما " وهذا يبين أهمية أسلوب الترهيب وتأثيره على القلوب. (¬2). خامسا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: ظهر في هذا الحديث أسلوب القسم الذي يبعث النفوس على التصديق وقوة اليقين؛ ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» وهذا واضح في الدلالة على أهمية أسلوب التأكيد بالقسم في الدعوة إلى الله - عز وجل - (¬3). ¬
باب إذا غنم المشركون مال المسلم ثم وجده المسلم
187 - باب إذا غنم المشركون مال المسلم ثم وجده المسلم [حديث أن ابن عمر ذهب فرس له فأخذه العدو] 140 - [3067] قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ نَافِع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (¬1) - رضي الله عنهما - قالَ: " ذَهَبَ فَرَسٌ لَهُ فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسلِمُونَ فَرُدَّ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وأَبَقَ عَبد لَهُ فَلَحقَ بِالرُوم، فَظَهَرَ عَلَيْهم الْمُسْلِمُونَ فَردَهُ عَلَيْهِ خَالدُ بْنُ الْوَلِيدِ بَعْدَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم " (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله - عز وجل. 2 - من صفات الداعية: العدل. 3 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله - عز وجل: إن الجهاد في سبيل الله - عز وجل - من أهم الوسائل؛ لنشر وتبليغ الإِسلام، ونصر المظلوم؛ وقد جاء في هذا الحديث أن فرس عبد الله بن عمر ذهب فأخذه العدو، فظهر المسلمون على العدوِّ ومما حصل عليه المسلمون مع الغنائم هذا الفرس، فرُدَّ على ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في زمن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. وهذا فيه إقامة لعلم الجهاد ونصر للمظلوم (¬3). ثانيا: من صفات الداعية: العدل: ظهر في هذا الحديث أن من صفات الداعية العدل؛ لأن المسلمين في زمن ¬
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عندما ظهروا على أعداء الإِسلام أعادوا فرس عبد الله بن عمر إليه، لعدلهم وأمانتهم، ورغبتهم في الخير. فينبغي للداعية أن يكون عدلًا منصفا من نفسه؛ قال الخطابي رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه من الفقه أن المسلمين إذا غنموا فكان في الغنيمة مال لمسلم؛ فإنه مردود عليه، وقال بعض الفقهاء: إن كان قبل القسم رُدَّ عليه وإن كان بعده لم يُرَدَّ، ولا فرق بين الأمرين؛ لأن القسمة لا تبطل الملك، ولا تبدل الحكم " (¬1) وهذا يؤكد أهمية العدل، والإِنصاف ومكانته في الدعوة إلى الله - عز وجل - (¬2). ثالثا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: ظهر في هذا الحديث أن القدوة الحسنة من وسائل الدعوة إلى الله - عز وجل -، وذلك أن المسلمين في زمن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - رَدُّوا فرس عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما، وهذا فيه قدوة لغيرهم، ولمن يأتي من بعدهم؛ ولهذا عندما أبق عبدٌ لعبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلحق بالروم فظهر عليهم المسلمون رَدّ خالدُ بن الوليد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ العبد بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهذا يدل على أن خالد بن الوليد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اقتدى بما فُعِلَ في زمن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - من رد الحقوق إلى أصحابها. وهذا يؤكد أهمية القدوة الحسنة وأثرها في الدعوة (¬3). ¬
باب من تكلم بالفارسية والرطنة
188 - باب من تكلم بالفارسية والرطنة وقول الله تعالى: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] (¬1) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] (¬2). [حديث إن جابرا قد صنع سور فحيهلا بكم] 141 - [3070] حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ: أَخْبَرَنَا حَنْظَلة بن أَبِي سُفْيَانَ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ: سَمعْتُ جَابِرَ بْنَ عبد الله (¬3) - رضي الله عنهما - قالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ الله ذَبحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنْتُ صَاعا مِنْ شَعِيرٍ فَتَعَالَ أنت وَنَفَرٌ. فَصَاحَ النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقَالَ: " يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرا قَدْ صَنَعَ سُور فحَيَّهَلا بكُمْ» (¬4). وفي رواية: " حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيىَ: حَدَّثَنَا عبد الوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ، عَنْ أبيه قالَ: أتيْتُ جَابِرا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: «إنا يَوْمِ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ فَعَرَضتْ كُدْيَةٌ شَدِيدة فَجَاؤُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقَالُوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضتْ فِي الْخَنْدَقِ، فَقَالَ: " أَنَا نَازِلٌ " ثم قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوب بِحَجَرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلاثةَ أَيَّام لا نَذُوقُ ذَوَاقا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - المِعْوَلَ، فَضَرَبَ فَعَادَ كَثِيبا أَهْيَلَ أَوْ أَهْيَمَ، فقُلْتُ: يا رَسُولَ الله ائْذَنْ لِي إلى الْبَيْتِ؛ فَقُلْتُ لاِمْرَأَتِي رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - شَيْئا، مَا كَانَ فِي ذَلِكَ صَبْرٌ فَعِنْدَك شَيْءٌ؟ قَالَتْ: عِنْدِي شَعِير وَعَنَاقٌ فَذَبَحْتُ الْعَنَاقَ وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ حَتَّى جعلنا اللحْمَ فِي الْبُرْمة، ثُمَّ جئْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - والْعَجينُ قَدِ انْكَسَرَ وَالْبُرْمَةُ بَيْنَ الأَثَافي قَدْ كَادَتْ أَنْ تَنْضَجِ فَقُلْتُ: طُعَيِّمٌ لِي فقُمْ أنتَ يَا رَسُولَ الله وَرَجُل أَوْ رَجُلان قَالَ: " كَمْ هُوَ؟ " فذكَرْتُ لَهُ قَالَ: " كَثيرٌ طَيِّبٌ " قَالَ: " قُلْ لَهَا لَا تَنْزِعِ الْبُرْمة ¬
وَلَا الْخُبْزَ مِنَ التّنّورِ حَتَّى آتِيَ " فَقَالَ: " قُومُوا " فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ والأنصَارُ فَلَمَّا دخَلَ عَلَى امْرَأتهِ قَالَ: وَيْحَكِ جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بالْمهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ وَمَنْ مَعَهُمْ، قَالَتْ: هَلْ سألكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: " ادْخُلُوا وَلَا تَضَاغَطوا " فَجَعَلَ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ الّلحْمَ وَيُخَمّرُ الْبُرْمَةَ وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ وَيُقَرِّبُ إِلَى أَصْحَابِهِ ثُمَّ يَنْزعُ فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا وَبَقِيَ بقِيَّة، قَالَ: " كلي هَذَا وَأهْدِي فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَة» (¬1). وفي رواية: " حَدَّثَني عَمْرُو بْنُ عَلِيّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ: أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سفْيَانَ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - خمَصا شَدِيدا فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرأَتِي فُقُلْتُ: هَلْ عنْدَكِ شَيْء فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - خَمَصا شَدِيدا، فأخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابا فِيهِ صاعٌ مِنْ شَعِيرٍ وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ فَذَبَحْتُهَا وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ ففَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي وقَطَّعْتُهَا في برمَتِهَا ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فَقَالَتْ: لا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وَبِمَنْ مَعَهُ، فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنَّا صاعا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا فَتَعَالَ أنتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ فَصَاحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فَقَالَ: " يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرا قَدْ صَنَعَ سُوْرا فَحَي هَلًا بِكُمْ "، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " لَا تُنْزِلُنَّ برْمَتكُمْ وَلَا تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أجِيءَ " فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يقْدُمُ النَّاسَ حَتَّى جِئتُ امْرَأَتِي فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ فَقُلْتُ قَدْ فَعَلْتُ الّذِي قُلْتِ فَأَخْرَجَتْ لَهُ عجِينا فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ ثُمَّ قَالَ: " ادْعُ خَابِزَةً فلْتَخْبِزْ مَعي (¬2) واقْدَحِي مِنْ برمَتِكُمْ وَلَا تُنْزِلُوهَا " وَهُمْ أَلْف فَأُقْسِمُ بِالله لَقَدْ أَكَلوا حتَّى تَرَكُوهُ وانْحَرَفُوا وَإِنَ برمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ» (¬3). ¬
* شرح غريب الحديث: * " سُوْرا " السور: الطَّعام الذي يُدعى إليه، وقيل: الطعام مطلقا، وهذا المقصود في هذا الحديث. والسور: كل ما يحيط بشيء من بناء أو غيره، كالبناء الذي يحيط بالمدينة، والسؤر بالهمز: البقية من الطعام أو الشراب: يقال: " سأر " أبقى بقية (¬1). * " فحيَّهلا " حيهلا: كلمتان جعلتا كلمة واحدة، ومعناها: تعالوا وعجلوا (¬2). * " كُدْية " الكدية: قطعة غليظة صلبة من الأرض لا يؤثر فيها الفأس (¬3). * " كثيبا أهيل أو أهيم " الكثيب الأهيل: المنهار السائل الذي لا يتماسك في انصبابه، والكثيب الأهيم مثلُهُ: وهو الرمل اليابس (¬4). * " عناق " العناق: الأنثى من أولاد المعز (¬5). * " البرمة " البرمة القدر مطلقا، وجمعها برام، وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز واليمن (¬6). * " الأثافي " هي الحجارة التي تنصب وتجعل القدر عليها وهي ثلاثة (¬7). * " التنور " التنور الذي يخبز فيه (¬8). * " ولا تضاغطوا " أي لا تزاحموا (¬9). ¬
* " داجن " الداجن من الغنم ما يربّى في البيوت ويألفها (¬1). * " المعول " الفأس الذي يكسر به الحجر (¬2). * " خمصا شديدا " الخمص، والخمصة، والمخمصة: الجوع والمجاعة، ويقال: رجل خُمصان، وخميص، إذا كان ضامر البطن وجمع الخميص: خِمَاص (¬3). * " بُهيمة " البهيمة: تصغير البهمة، وهي ولد الضأن، ويقع على المذكر والمؤنث منها، والسخال: أولاد المعز، فإذا اجتمعت البهائم والسخال قلت لها جميعا: بهائم وبهم (¬4). * " لتغطّ " يقال: غطَّت القدر تغطُّ: غلت وفارت، وغطيطها صوت غليانها (¬5). * " فانكفأت " يقال: انكفأ الرجل إلى أهله: رجع وانقلب والأصل في الانكفاء: الانقلاب، من كفأت الإِناء إذا قلبته (¬6). * " الجراب " الجراب وعاء من جلد يحفظ فيه الزاد (¬7). * " اقدحي " يقال: قدحت القدر إذا غرفت ما فيها، والقديح: المرق، فعيل بمعنى مفعول، والمقدحة: المغرفة، والمقدح: الحديدة التي تقدح بها النار، والمعنى: اغرفي. (¬8). * " العجين قد انكسر " أي لان ورطب، وتمكن من الخمير (¬9). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: إكرام العلماء والدعاة. 2 - من موضوعات الدعوة: الحث على الإِيثار. 3 - من صفات الداعية: التواضع. 4 - من صفات الداعية: إعانة المدعوين ومساعدتهم. 5 - أهمية الشورى مع العلماء والدعاة. 6 - أهمية الصبر على الابتلاء والامتحان. 7 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث. 8 - من صفات الداعية: الرحمة. 9 - من صفات الداعية: تعجيل المعروف وتحقيره. 10 - من آداب الداعية: تطييب الطعام وتعظيمه. 11 - أهمية كمال عقل المدعو. 12 - من معجزات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: تكثير الطعام. 13 - أهمية الأخذ بالأسباب. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا من صفات الداعية: إكرام العلماء والدعاة: إن من الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة إكرام العلماء والدعاة رغبة فيما عند الله - عز وجل؛ ولهذا أكرم جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «قلت يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطحنت صاعا من شعير فتعال أنت ونفر، فصاح النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقال: " يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع سورا فحيهَلا بكم» فأكرمهم جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأعانه الله وجعل طعامه مباركا نافعا شاملا لأهل الخندق كلهم فينبغي للداعية أن يكرم العلماء والدعاة ويقصد بذلك وجه الله - عز وجل - والدار الآخرة (¬1). ¬
ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحث على الإيثار: دل هذا الحديث بمفهومه على أن من موضوعات الدعوة الحث على الإِيثار؛ ولهذا آثر جابر بن عبد الله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - على نفسه وأهله، فإن الحال عندهم كانت ضعيفة؛ لقلة ما في اليد، والظاهر أن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - لم يجد في بيته إلا هذه العناق وصاع الشعير، فصنع ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ورجلٍ أو رجلين إيثارا منه، ولو كان عنده أكثر من ذلك لزاد؛ لكثرة الناس وحاجتهم الشديدة للطعام. كما يدل على الإِيثار ما فعله رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عندما نادى المهاجرين والأنصار جميعا فقال: " قوموا "، فقام المهاجرون والأنصار ومن معهم. وهذا يدل على إيثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وحبه الخير لأصحابه، ولو كان المدعو غيره من الكبراء لم يدع أحدا معه؛ ليحصل على ما يسد رمقه، ولا هم له غير ذلك، ولكن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أولى بالمؤمنين من أنفسهم كما قال الله - عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] (¬1) ولا شك أن الله - عز وجل - قد مدح أهل الإِيثار فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] (¬2) وهذا العمل قد بلغ بأصحابه أعلى درجات الإِيمان الكامل؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (¬3). وهذا يدل على أن من لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه فقد نقص إيمانه، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: " المراد بنفي الإِيمان نفي بلوغ حقيقته ونهايته؛ فإن الإِيمان كثيرا ما يُنفى لانتفاء بعض أركانه وواجباته " (¬4) " والمقصود أن من جملة خصال الإِيمان الواجبة أن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره ¬
له ما يكرهه لنفسه، فإذا زال ذلك عنه فقد نقص إيمانه بذلك " (¬1). أما الإِيثار فهو أعظم من ذلك في قوة حقيقة الإِيمان؛ لأن الإِيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية ورغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة والصبر على المشقة، يقال: آثرته بكذا: أي خصصته به وفضلْته بالمال أو بالمنازل، أو بالنفس، لا عن غنىً بل مع الحاجة لذلك (¬2) وقد وصل أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إلى الدرجات العلى من الإِيثار، فعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقال: إني مجهود (¬3) فأرسل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إلى بعض نسائهِ، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء، ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فقال: " من يُضِيف هذا الليلة رحمه الله؟ " فقام رجل من الأنصار (¬4) فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رَحْلِهِ (¬5) فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني، قال: فَعَلِّليهم بشيءٍ فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيهِ، قال: فقعدوا وأكل الضيف، فلما أصبح غدا على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقال: " قد عجب الله من صنيعِكما بضيفكما الليلة "، وفي رواية أن الصحابي قال لامرأته: نوِّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها. . . ونوَّمت صبيانها. . . فأنزل الله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]» (¬6) ومما يدل على الإِيثار قصة مؤاخاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بين عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وسعد بن الربيع رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ¬
فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لما قدم المدينة آخى بينهما فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثرُ الأنصار مالًا، سأقسم مالي بيني وبينك نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك [لا حاجة لي في ذلك] دلوني على السوق، فدلوه على السوق، فباع واشترى حتى تزوج، فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «بارك الله لك أولم ولو بشاة» (¬1) ومما يؤكد حرص السلف الصالح على الإِيثار قصة الرأس الذي عُرض على سبعة أبيات يقول صاحب كل بيت منهم: أعطه جاري وعياله؛ فهو أحق بذلك مني، حتى رُجِعَ بالرأس إلى البيت الأول (¬2) ومما يدل على الإِيثار العظيم في القُرَبِ وغيرها قصة عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وذلك أن عمر عند موته قال لابنه عبد الله - رضي الله عنهما: ". . . انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فَسَلَّمَ واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرنَهُ به اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت، قال: الحمد لله ما كان شيء أهمَّ إليَّ من ذلك، فإذا أنا قبضتُ فاحملوني ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين. (¬3). وهذا يؤكد جواز الإِيثار بالقرب، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " وقول من قال من الفقهاء: لا يجوز الإِيثار بالقُرَبِ، لا يصح، وقد آثرت عائشة عمر بن ¬
الخطاب بدفنه في بيتها جوار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وسألها عمر ذلك فلم تكره له السؤال، ولا لها البذل، وعلى هذا فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول لم يكره له السؤال، ولا لذلك البذل، ونظائره، ومن تأمل سيرة الصحابة وجدهم غير كارهين لذلك ولا ممتنعين منه، وهل هذا إلا كرم وسخاءٌ، وإيثارٌ على النفس بما هو أعظم محبوباتها، تفريجا لأخيه المسلم، وتعظيما لقدره، وترغيبا له في الخير؟ وقد يكون ثواب كل واحدٍ من هذه الخصال راجحا على ثواب تلك القربة، فيكون المؤثر بها ممن تاجر فبذل قربة وأخذ أضعافها " (¬1). وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يرجح جواز الإِيثار بالقرب وأنه لا حرج في ذلك إذا ظهرت المصلحة (¬2). وهذا كله وغيره كثير يدل على أهمية الإِيثار وأنه ينبغي للداعية إلى الله - عز وجل - أن يعتني به، ويحض الناس عليه، والله المستعان. ثالثا: من صفات الداعية: التواضع: دل هذا الحديث على أن صفة التواضع من الصفات الحميدة؛ ولهذا تواضع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فشارك أصحابه في حفر الخندق، فقال لهم: " أنا نازل " ثم قام وبطنه معصوب بحجر وشاركهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في الحفر. وهذا يؤكد تواضعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وطيب عقله ونفسه (¬3). رابعا: من صفات الداعية: إعانة المدعوين ومساعدتهم: ظهر في هذا الحديث أن من صفات الداعية الصادق إعانة المدعوين ومشاركتهم في الأعمال التي تخدم الجهاد والدعوة؛ ولهذا شارك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - الصحابة - رضي الله عنهم - في حفر الخندق. فينبغي الاقتداء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (¬4). ¬
خامسا: أهمية الشورى مع العلماء والدعاة: إن الشورى من أهم الأمور التي ينبغي أن يعتني بها الداعية إلى الله - عز وجل، لما فيها من اجتماع الكلمة، وسداد الرأي، والاستفادة من الخبرات والتجارب، وقد ظهرت الشورى في هذا الحديث؛ لقول جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاؤُوا إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: " أنا نازل " فأخذ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - المعول، فضرب فعاد كثيبا أهيل»، فقد استفاد الصحابة بهذه الشورى مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فأزيلت الكدية بعمل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. وفي هذا الحديث أيضا أن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - شاور زوجته في شأن إطعام الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقال: «رأيت بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - شيئا ما كان في ذلك صبر فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق». وهذا يؤكد أهمية الشورى وخاصة مع العلماء والدعاة، والأخيار الصالحين (¬1). سادسا: أهمية الصبر على الابتلاء والامتحان: دل هذا الحديث على أهمية الصبر على الابتلاء والامتحان؛ ولهذا صبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - على الجوع والخوف أيام الخندق، كما في الحديث أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قام وبطنه معصوب بحجر، وقد لبث أصحاب الخندق مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ثلاثة أيام لا يذوقون ذواقا؛ ولحكمة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عصب الحجر على بطنه؛ لأن الجوع يخشى منه أن يضمر البطن فينحني الصلب، فإذا وضع الحجر على البطن وَشُدَّ بالعصابة استقام الظهر، وقيل: لعل ذلك لتسكين حرارة الجوع ببرد الحجر؛ ولأنها حجارة رقاق قدر البطن تشد الأمعاء فلا يتحلل شيء مما في البطن، فلا يحصل ضعف زائد بسبب التحلل. (¬2). وهذا يؤكد ما أصاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وأصحابه - رضي الله عنهم - من شدة الحال، وقلة ما في اليد، فصبروا وصابروا والله المستعان (¬3). ¬
سابعا: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية المخلص الحرص على الدقة في نقل الحديث؛ لقول الراوي في هذا الحديث: " أهيل أو أهيم " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " شك من الراوي " (¬1). وهذا يؤكد حرص السلف الصالح على العناية الدقيقة بنقل أحاديث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وتبليغها للناس كما جاءت (¬2). ثامنا: من صفات الداعية: الرحمة: ظهرت صفة الرحمة في هذا الحديث من قول جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لامرأته: " رأيت بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - شيئا ما كان في ذلك صبر فعندكم شيء؟ " كما ظهرت صفة الرحمة من قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لزوجة جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: «كلي هذا وأهدي فإن الناس قد أصابتهم مجاعة». وهذا يبين أن الرحمة من صفات الدعاة إلى الله - عز وجل (¬3). تاسعا: من صفات الداعية: تعجيل المعروف وتحقيره: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية الكريم: بذل المعروف وتعجيله، وتصغيره؛ قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «. . . طُعَيِّم لي فقم أنت يا رسول الله، ورجلٌ أو رجلان قال: " كم هو؟ " فذكرت له، قال: " كثير طيِّب» وهذا يؤكد أهمية تقديم المعروف وفعله مع عدم استكثاره؛ قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عند ذكره لقول جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " طعيم لنا " هذا " على طريقة المبالغة في تحقيره، قالوا: من تمام المعروف: تعجيله وتحقيره " (¬4). فينبغي للداعية أن يتصف بهذه الصفة الكريمة. ¬
عاشرا: من آداب الداعية: تطييب الطعام وتعظيمه: ظهر في هذا الحديث أن من صفات الداعية تطييب الطعام وتعظيمه واستكثاره إذا قُدِّم له؛ ولهذا عندما قال جابر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " طعيم لنا " فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " كثير طيب "، وهذا من الأدب النبوي العظيم الذي فاق فيه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - جميع البشر؛ ولهذا كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لا يعيب الطعام، فعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ما عاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - طعاما قط، كان إذا اشتهى شيئا أكله وإن كرهه تركه» (¬1) وهذا من الأدب العظيم الذي ينبغي لكل مسلم التزامه اقتداءً بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وخاصة الدعاة إلى الله - عز وجل. الحادي عشر: أهمية كمال عقل المدعو: إن من الأمور المهمة التي تعين الدعاة إلى الله - عز وجل - على دعوتهم كمال عقل المدعو، وقد ظهرت هذه الصفة العظيمة في هذا الحديث عندما قالت زوجة جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: هل سألك؟ أي عن كمية الطعام، فقال جابر: نعم. فسكن ما عندها لعلمها بأن الله أعلم ورسوله؛ ولعلمها بإمكان خرق العادة؛ ولهذا قبل أن يذهب جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قالت له: لا تفضحني برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وبمن معه، وعندما أخبره بكمية الطعام لم تلمه بعد ذلك؛ ولهذا الصنيع العظيم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله عن هذه المرأة: " لما قال لها إنه جاء بالجميع ظنت أنه لم يعلمه فخاصمته، فلما أعلمها أنه أعلمه سكن ما عندها لعلمها بإمكان خرق العادة، ودل ذلك على وفور عقلها وكمال فضلها " (¬2). وهذا يبين أهمية كمال عقل المدعو. والله المستعان. الثاني عشر: من معجزات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: تكثير الطعام: إن من المعجزات الظاهرة الحسية التي تدل على صدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: تكثير ¬
الطعام على يديه، وقد ظهرت هذه المعجزة في هذا الحديث، وذلك أن عناق جابر وصاع الشعير أشبع أمة من الناس وبقي الطعام كما هو لم ينقص منه شيء، قال جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وهم ألف فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو " قال الإمام النووي رحمه الله: " وقد تضمن هذا الحديث علمين من أعلام النبوة: أحدهما تكثير الطعام القليل، والثاني علمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بأن هذا الطعام القليل الذي يكفي في العادة خمسة أنفس أو نحوهم سيكثر فيكفي ألفا وزيادة، فدعا له ألفا قبل أن يصل إليه، وقد علم أنه صاع شعير، وبهيمة والله أعلم " (¬1). وهذا يؤكد أهمية إبلاغ الداعية للناس بعلامات نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (¬2). الثالث عشر: أهمية الأخذ بالأسباب: ظهر في هذا الحديث أهمية الأخذ بالأسباب والتوكل على الله - عز وجل؛ ولهذا حفر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - الخندق من باب الأخذ بالأسباب وقد علم أن الأحزاب تكالبوا عليه من كل حدب وصوب ولكن لثقته العظيمة وتوكله الكامل على الله - عز وجل - صمد لذلك وحفر الخندق على ضعف الصحابة وقلة ما في اليد؛ ولضعفهم البدني حُدَّدَ لكل عشرة رجال عشرة أذرع (¬3) فأخذ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بالأسباب هو وأصحابه مع التوكل الكامل فنصرهم الله وأنزل جنوده، وريحه، وإعانته ونصره سبحانه - عز وجل (¬4). ¬
حديث أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي
[حديث أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي] 142 - [3071] حدثَنَا حبَّانُ بْنُ مُوسَى: أَخْبَرَنَا عبد الله، عَنْ خَالِدِ بْنِ سعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عنْ أُمِّ خَالِدٍ (¬1) بنْتِ خَالِد بْنِ سَعِيدٍ قَالَتْ: «أتيْتُ رَسُولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - معَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " سِنَهْ سِنَهْ ". قَالَ عبد الله: وَهِيَ بِالحَبَشِيّةِ: حَسَنَة. قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَم النبوَّةِ، فَزَبَرَني أَبِي. قالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " دَعْهَا ". ثُمِّ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " أَبْلِي وَأَخْلِقي، ثُمَّ أَبْلِي وأَخْلِقي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقي ". قَالَ عبد الله: فبَقِيَتْ حَتَّى (¬2) دَكَن. (¬3). وفي رواية الأكثر: " ذَكَر» (¬4). وفي رواية: «. . . قَدِمْتُ مِنْ أرْضِ الْحَبَشَةِ وَأَنَا وجُوَيْرِيَة، فَكَسَانِي رَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - خمِيصَةً لَهَا أَعْلام، فَجَعَلَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يمْسَحُ الأَعْلامَ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: " سَنَاهْ سَنَاهْ». قَالَ الْحُمَيْدِيّ: يَعنِي: حَسَن حَسَن (¬5). وفي رواية: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ فَقَالَ: " مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ؟ " فَسَكَتَ الْقَوْمُ. قَالَ: " ائتوني بِأمِّ خَالد "، فَأُتِي بِهَا تُحْمَلُ، فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا وَقَالَ: " أَبْلِي وَأَخْلِقِي ". وَكَانَ فِيهَا عَلَمٌ ¬
أخضر أو أصفر، فقال: " يا أم خالد هذا سناه " وسناه بالحبشية» (¬1). وفي رواية «. . . . فبقيت حتى ذكر. . . يعني من بقائها» (¬2). * شرح غريب الحديث: * " سَنَهْ " أو " سَنَاه " سنا بالحبشية: حَسَنٌ، وسَنّاه بالتشديد والتخفيف (¬3). * " زبرني " يقال: زبرتُ الرجل: زجرته وانتهرته (¬4). * " خميصة لها أعلام " الخميصة: كساء من خز أو صوف أسود، وجمعه خمائص، وكانت من لباس النساء، ولا تكون الخمائص إلا معلمة (¬5). * " دكن " يقال: دكن الثوب أي عاد لونه إلى الدكنة وهي السواد (¬6). * " أبلي وأخلقي " من إخلاق الثوب: أي تقطيعه (¬7). وأبلي: من أبليت الثوب إذا جعلته عتيقا، وهو بمعنى أخلقي (¬8). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من أصناف المدعوين: الأطفال. 2 - من صفات الداعية: التواضع. 3 - من صفات الداعية: الحلم. 4 - من صفات الداعية: المشاورة للأصحاب. ¬
5 - من أساليب الدعوة: استمالة قلب المدعو بمخاطبته بلغته. 6 - من أساليب الدعوة: الدعاء بطول العمر على طاعة الله - عز وجل. 7 - من معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: استجابة دعواته. 8 - من وسائل الدعوة: الإِهداء. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من أصناف المدعوين: الأطفال: دل هذا الحديث على أن من أصناف المدعوين الأطفال؛ ولهذا أدخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - السرور على أم خالد بنت خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - فقال لها: " سنهْ سنهْ " واستمال قلبها بذلك، وبالهدية، وبالدعاء، فدل ذلك كله على أهمية العناية بالأطفال؛ لأنهم من أصناف المدعوين؛ وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أنه استمال قلوب كثير من الأطفال إما بالدعاء والهدية والمداعبة كما في حديث أم خالد هذا، وإما بالسلام كما في حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه كان يمشي مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - " فمر بصبيان فسلم عليهم» (¬1) وكان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إذا رأى بعض الصبيان يعمل عملا لا ينبغي أنكر عليه بالأسلوب الحسن الجميل الذي يناسبه، فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أن الحسن بن علي أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بالفارسية: " كخْ، كخْ، ارمِ بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة» (¬2). وهذا يدل على أن الصبيان ينكر عليهم على حسب عقولهم؛ فإن معنى: كِخْ كِخْ: الزجر للصبي عما يريد فعله (¬3). وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " كِخ كِخ، يعني اتركها، وهذا فيه تعليم الصبيان ما أمر الله به، ونهيهم عما نهى الله عنه، حتى يتعوَّدوا؛ لئلا يتمردوا، وهكذا لا يلبسوا ¬
الذهب ولا الحرير، ويمنعوا من الإِسبال، وظاهر الحديث أن كلمة كخ كخ كانت تستخدم في المدينة، فخاطبهم بما يفهمون، وأصلها فارسي فأصبحت عربية بالنقل، وكل كلمة ليست بعربية ثم نقلت إلى العربية واستخدمها العرب، فإنها تصبح عربية بالنقل " (¬1) وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يؤدب الصبيان بالكلام الحكيم ويأمرهم بالأدب الكريم، فعن عمر بن أبي سلمة قال: «كنت غلاما في حجر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وكانت يدي تطيش (¬2) في الصحفة فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك " فما زالت تلك طعمتي بعد» (¬3) وكان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يعلم الصبيان ما ينفعهم، ويحذرهم مما يضرهم، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كنت خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يوما فقال: «يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف» (¬4) ومما يدل على عنايته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بتعليم الصبيان ما رواه عنه ابن عباس - رضي الله عنهما - " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - توضأ فقام يصلي، فقمت عن يساره فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة. . . " (¬5). وهذا كله يؤكد أن الأطفال من أصناف المدعوين، فينبغي العناية بهم، ومراعاة أحوالهم ومخاطبتهم على قدر عقولهم. ¬
ثانيا: من صفات الداعية: التواضع: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية التواضع؛ ولهذا تواضع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - مع أم خالد فلاطفها وقال: " سنهْ سنهْ " قال العلامة العيني رحمه الله في فوائد هذا الحديث: " وفيه تواضع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم " (¬1) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " فيه تواضعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - مع أم خالد وحسن خلقه؛ لكونه قال: " سناه سناه " يعني حسن حسن ". (¬2). فينبغي أن يعتني الداعية بهذه الصفة العظيمة (¬3). ثالثا: من صفات الداعية: الحلم: ظهر في هذا الحديث أن الحلم صفة عظيمة من أهم الصفات التي ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ ولهذا حلم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - على أم خالد عندما لعبت بخاتم النبوة، وقد زجرها أبوها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ولكن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قال له: " دعها " وهذا يؤكد عظم حلمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وحسن خلقه (¬4). فينبغي للداعية أن يقتدي به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم (¬5). رابعا: من صفات الداعية: المشاورة للأصحاب: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية المشاورة لأصحابه؛ ولهذا شاور النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فيمن يعطي الخميصة السوداء الصغيرة فقال: «من ترون أن نكسُوَ هذه؟ " فسكت القوم، قال: " ائتوني بأم خالد " فأخذ الخميصة بيده فألبسها فقال: " أبلي وأخلقي». وهذا يؤكد أهمية الشورى مع الأصحاب؛ لما في ذلك من تطييب القلوب وسداد الرأي، والله المستعان (¬6). ¬
خامسا: من أساليب الدعوة: استمالة قلب المدعو بمخاطبته بلغته: ظهر في هذا الحديث أن من أساليب الدعوة استمالة قلب المدعو بمخاطبته بلغته، ومن ذلك قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لأم خالد في هذا الحديث: " سنه سنه " أي حسنةٌ حسنة، أو حسنٌ حسنٌ، وخاطبها بذلك؛ لأنها ولدت في الحبشة وهذه لغة حبشية؛ قال الكرماني رحمه الله: " وإنما كان غرض رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - من التكلم بهذه الكلمة الحبشية استمالة قلبها؛ لأنها ولدت بأرض الحبشة " (¬1). فينبغي للداعية أن يخاطب الناس بما يستميل به قلوبهم، وإذا استطاع أن يستميل قلوبهم بمخاطبتهم بلغاتهم فعل؛ لما في ذلك من تأليف قلوبهم وجذبها لمحبة الإِسلام، والله المستعان. سادسا: من أساليب الدعوة: الدعاء بطول العمر على طاعة الله - عز وجل: إن من أساليب الدعوة الدعاء بطول العمر على طاعة الله - عز وجل؛ وقد دعا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لأمِّ خالد بطول العمر فقال عندما ألبسها الخميصة: «أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي» وهذا دعاء منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بطول العمر لأم خالد، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ووقع في نسخة الصاغاني هنا من الزيادة في آخر الباب " قال أبو عبد الله هو المصنف: " لم تعش امرأة مثل ما عاشت هذه، يعني أم خالد " ثم قال الحافظ ابن حجر: " قلت وإدراك موسى بن عقبة لها دال على طول عمرها؛ لأنه لم يلق من الصحابة غيرها " (¬2) وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أبلي وأخلقي» دعاء بطول العمر؛ لأن العرب تطلق ذلك وتريد الدعاء بطول البقاء للمخاطب بذلك: أي إنها تطول حياتها حتى يبلى الثوب ويخلق، يقال: أبلِ وأخلِقْ معناه: عش وخرق ثيابك وأرقعها (¬3) ولكن ينبغي أن يقيد الدعاء بطول العمر بطاعة الله - عز وجل؛ لحديث أبي بكرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أن رجلا قال: يا رسول الله أيُّ الناس خير؟ قال: " من طال عمره وحسن عمله " ¬
قال: فأي الناس شر؟ قال؛ " من طال عمره وساءَ عمله» (¬1) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: " الدعاء بطول العمر ينبغي أن يقرن بالطاعة، وإذا دعا بطول العمر ونوى بذلك على الطاعة كفت النية " (¬2). سابعا: من معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: استجابة دعواته: دل هذا الحديث على أن من معجزات الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - استجابة الله - عز وجل - لدعواته؛ ولهذا دعا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لأم خالد فقال لها: «أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي» وهذا الدعاء بطول العمر، وقد استجاب الله دعوته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فعاشت زمنًا طويلا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (¬3) وهذا يؤكد أن من معجزاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - استجابة دعواته (¬4). ثامنا: من وسائل الدعوة: الإهداء: دل هذا الحديث على أن من وسائل الدعوة الإهداء؛ لما في ذلك من استمالة القلوب، وإزالة الشحناء، وجمع القلوب؛ ولهذا أهدى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لأم خالد الخميصة كما في الحديث، وقد حث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - على الهدية فقال: «تهادوا تحابوا» (¬5). فينبغي العناية بالهدية، وقبولها والإثابة عليها. بشرط أن لا تكون سببا للوقوع في أخذ الرشوة التي حرم الشرع. فلا بد من التأمل أثناء الإهداء، وقبول الهدية والله المستعان (¬6). ¬
باب القليل من الغلول
190 - باب القليل من الغلول وَلَم يَذْكُر عبد الله بْنُ عَمْرو عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - أنهُ حَرَّقَ مَتَاعَهُ، وَهَذا أصَحّ. [حديث كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة] 143 - [3074] حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ عبد الله: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سالِم بْنِ أَبِي الجَعْدِ، عَنْ عبد الله بْن عَمْرٍو (¬1) قَالَ: «كَان عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - رجلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرَة (¬2) فَمَاتَ، فَقَال رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " هُوَ فِي النَّارِ "، فَذهَبُوا ينظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا». قَالَ أَبُو عبد الله: قَالَ ابْنُ سَلامٍ: كَرْكَرَة: يَعْنِي بفَتْحِ الكَافِ، وَهُوَ مَضْبُوط كَذَا. * شرح غريب الحديث: * ثقل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم " الثقل: الرَّحْلُ والمتاع، وجمعه: أثقال (¬3). * عباءة، العباءَة: ضرب ونوع من الأكسية فيها خشونة (¬4). * " غلها " الغلول في المغنم أن يخْفى من الغنيمة شيء ولا يرد إلى القسمة؛ لأن ذلك من حقوق من شهد الغنيمة، وهو في معنى الخيانة يقال: غل يغل غلولا: إذا أخذ من الأموال المغنومة شيئا فأخفاه، وكل من خان شيئا في خفاء فقد غل، وسمي ذلك غلولا؛ لأن الأيدي مغلولة عنه: أي ممنوعة منه (¬5). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: ¬
1 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الغلول. 2 - من صفات الداعية: الأمانة. 3 - من أساليب الدعوة: الترهيب. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: التحذير من الغلول: ظهر في هذا الحديث أن من موضوعات الدعوة التي ينبغي أن يعتني بها الداعية: التحذير من الغلول وبيان خطره؛ ولهذا قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فيمن غل العباءة: «هو في النار» وقد نفى الله - عز وجل - الغلول عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وحذر وتوعد أصحاب الغلول يوم القِيَامة فقال - عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161] (¬1). وحذر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عن الغلول، فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: «قام فينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - ذات يوم فذكر الغلول، فعظّمه وعظّم أمره ثم قال: " لَا أُلفِيَنَّ (¬2) أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء (¬3) يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك. لا أُلفِيَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة (¬4). فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك. لا أُلفِيَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاءٌ (¬5) يقول يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك. لا أُلفِيَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح (¬6) فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك. لا أُلْفِيَنَّ أحدكم ¬
يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع (¬1) تخفق (¬2) فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ولا ألفِيَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت (¬3) فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك» (¬4) وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مرُّوا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " كلا إني رأيتُهُ في النار في بردة (¬5) غلَّها، أو عباءَةٍ " ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " يا ابن الخطاب، اذهب فنادِ في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون " قال فخرجت فناديت: " ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون» (¬6) وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «خرجنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إلى خيبر، ففتح الله علينا، فلم نغنم ذهبا ولا ورقا إنما غنمنا [البقر، والإِبل] والطعام، والثياب [ثم انصرفنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إلى وادي القرى، ومعه عبد له يقال له مدعم أهداه له أحد بني الضباب]، وفي رواية مسلم: ومع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عبد له، وهبه له رجل من جُذام يُدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب، فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يحلُّ رحله، فرُمِيَ بسهم فقال الناس: هنيئا له الشهادة يا رسول الله، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا " فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بشراك (¬7) أو ¬
بشراكين، فقال: هذا شيء كنت أصبته، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: " شراك أو شراكان من نار» (¬1). ويدخل في الغلول ما يؤخذ من بيت مال المسلمين عن طريق الخفية، وما يأخذه العمال من هدايا من أجل وظائفهم، فعن أبي حميد الساعدي قال: «استعمل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عاملا (¬2) فجاء العامل حين فرغ من عمله فقال: يا رسول الله هذا لكم، وهذا أهدي إليّ فقال له: " أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فنظرت أيهدى لك أم لا؟ " ثم قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - عشيةً بعد الصلاة، فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: " أما بعد فما بال العامل نستعمله، فيأتينا فيقول: هذا من عملكم وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر هل يُهدى له أم لا؟ فوالذي نفس محمد بيده لا يغلُّ أحدكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، إن كان بعيرا جاء به له رغاء، وإن كانت بقرة جاء بها لها خوار، وإن كانت شاة جاء بها تيعرُ (¬3) فقد بلغت» [وفي رواية مسلم: «اللهم هل بلغت؟ " مرتين»] (¬4). والغلول من أعظم الذنوب ولو كان يسيرا، فعن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - «أن رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - توفي يوم خيبر فذكروا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - فقال: " صلوا على صاحبكم " فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: " إن صاحبكم غل في سبيل الله " ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين» (¬5). ¬
وعن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - يوم حنين إلى جنب بعير من المقاسم ثم تناول شيئا من البعير فأخذ منه قردة - يعني وبرة - فجعل بين أصبعيه ثم قال: " أيها الناس إن هذا من غنائمكم. أدوا الخيط والمخيطَ فما فوق ذلك فما دون ذلك، فإن الغلول عار على أهله يوم القيامة، وشنار (¬1) ونار» (¬2) فينبغي للداعية أن يحذر المدعوين من الغلول ويُبيِّن لهم خطره، أسأل الله لي ولجميع المسلمين العافية في الدنيا والآخرة. ثانيًا: من صفات الداعية: الأمانة: ظهر في مفهوم هذا الحديث أن الأمانة من صفات الداعية؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بين أن هذا الرجل دخل النار بسبب عباءة غلها، فدل ذلك على خيانته وعدم حفظه للأمانة، ودل مفهوم المخالفة على أنه ينبغي للداعية أن يكون أمينا في كل شيء، والله المستعان (¬3). ثالثا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل هذا الحديث على أن أسلوب الترهيب له مكانة عظيمة في الدعوة إلى الله - عز وجل؛ لما يحمل عليه من التخويف؛ ولهذا قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - لهذا الرجل: «هو في النار» بسبب العباءة التي غلها، وهذا فيه تخويف عظيم من الغلول يردع النفوس عن مثل هذا العمل القبيح (¬4). ¬
باب لا هجرة بعد الفتح
194 - باب لا هجرة بعد الفتح [حديث انقطعت الهجرة منذ فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم مكة] 144 - [3080] حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ عبد الله: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ: قَالَ عَمْرو وابْنُ جرَيجٍ: سَمِعْتُ عَطَاءً يَقَولُ: ذَهبْتُ مَعَ عُبَيدِ بْنِ عُمَيرٍ إِلَى عَائشةَ (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ مجَاوِرَةٌ بِثَبِيرٍ، فَقَالَتْ لَنَا: «انقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ منْذُ فَتَحَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - مكَّةَ» (¬2). وفي رواية: «زُرْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، مَعَ عُبيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِي فَسَأَلْنَاهَا عَنِ الْهِجْرَةِ فَقَالَتْ: لا هِجْرَةَ الْيَوْمَ، كَانَ الْمُؤمِنُونَ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بدِينِهِ إِلَى الله تَعالى وَإِلَى رَسُولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أظْهَرَ الله الإِسْلامَ، وَالْيَوْمَ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ، وَلَكِنْ جِهَاد وَنيَّةٌ» (¬3). وفي رواية: ". . «فَقَدْ أَظْهَرَ الله الإِسْلامَ، فَالمُؤمِنُ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ ونيَّةٌ» (¬4). * شرح غريب الحديث: * " ثبير " جبل عظيم بالمزدلفة على يسار الذاهب منها إلى منى، وعلى يمين الذاهب من منى إلى مزدلفة (¬5). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: ¬
1 - أهمية زيارة العلماء للاستفادة من علمهم. 2 - أهمية السؤال في تحصيل العلم. 3 - من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار ببقاء مكة دار إسلام. 4 - من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان. 5 - من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ. 6 - من موضوعات الدعوة: الحض على النية الصالحة. 7 - من موضوعات الدعوة: بيان بقاء الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام. 8 - من صفات الداعية: التحدث بنعم الله عزّ وجلّ. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: أهمية زيارة العلماء للاستفادة من علمهم: دل هذا الحديث على أنه ينبغي للمسلم وخاصة الداعية إلى الله عزّ وجلّ أن يزور العلماء؛ ليستفيد من علمهم ويتخلق بأخلاقهم الجميلة، لأنهم ورثة الأنبياء والأنبياء في الحقيقة إنما ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر؛ ولهذا زار عطاء بن أبي رباح وعبيد بن عمير رحمهما الله عائشة رضي الله عنها؛ ليستفيدا من علمها كما جاء في هذا الحديث، قال عطاء: «ذهبت مع عبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها وهي مجاورة بثبير فسألناها عن الهجرة فقالت: "لا هجرة اليوم». . . ". وهذا يبين أهمية زيارة العلماء والاستفادة من علمهم (¬1). ثانيا: أهمية السؤال في تحصيل العلم: ظهر في هذا الحديث أهمية السؤال في تحصيل العلم؛ ولهذا سأل عطاء وعبيد بن عمير عائشة رضي الله عنها عن الهجرة، فقالت رضي الله عنها: «لا هجرة اليوم. . . ولكن جهاد ونية». وهذا يؤكد أهمية العناية بالسؤال عن العلم؛ للاستفادة (¬2). ¬
ثالثا: من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإخبار ببقاء مكة دار إسلام: دل هذا الحديث على أن مكة تبقى دار إسلام فلا يهاجر منها إلى المدينة أو غيرها؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «انقطعت الهجرة منذ فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم مكة». وهذا يؤكد صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأن بقاء مكة دار إسلام من علامات نبوته (¬1). رابعا: من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان: ظهر في هذا الحديث أن من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث: "كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، مخافة أن يفتن عليه. . . " وهذا يبين ما وقع للصحابة رضي الله عنهم من الابتلاء والامتحان فصبروا وهاجروا، ونصرهم الله عزّ وجلّ (¬2) فينبغي للداعية أن يسأل الله العافية في الدنيا والآخرة دائما، وإذا حصل شيء من الابتلاء صبر واحتسب (¬3). خامسا: من موضوعات الدعوة: الحث على الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ: إن من الموضوعات المهمة التي ينبغي أن يعتني بها الدعاة الحض على الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ؛ بالنفس، والمال، والسنان، واللسان؛ ولهذا حثت عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث على الجهاد بقولها: «ولكن جهاد ونية». وهذا يؤكد أهمية الحث على الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ (¬4). سادسا: من موضوعات الدعوة: الحض على النية الصالحة: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة الحث والحض على النية ¬
الصالحة (¬1)؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث: «لكن جهاد ونية» وهذا فيه حث على النية الخالصة والعناية بها. فينبغي للداعية أن يبين ذلك للناس بيانا واضحا كاملا؛ لأهميتها ومكانتها في الإسلام (¬2). سابعا: من موضوعات الدعوة: بيان بقاء الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام: الناظر في هذا الحديث يظهر له أن الهجرة قد انقطعت؛ لقول عائشة رضي الله عنها: «انقطعت الهجرة منذ فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم مكة» ولكن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يفسر بعضها بعضا؛ فإن الهجرة التي انقطعت هي الهجرة من مكة إلى المدينة؛ لأن مكة صارت دار إسلام (¬3) أما الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، أو من بلد المعاصي والسيئات إلى بلد الطاعات والحسنات فهذه باقية إلى يوم القيامة (¬4). ثامنا: من صفات الداعية: التحدث بنعم الله عزّ وجلّ: دل هذا الحديث على أهمية التحدث بنعم الله عزّ وجلّ وشكره عليها؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء. . .» وهذا فيه إظهار النعم والتحدث بها. فينبغي للداعية أن يتحدث بنعم الله عليه ويثني على الله عزّ وجلّ بها ويشكره عليها بقوله وفعله (¬5). [باب استقبال الغزاة] ¬
باب استقبال الغزاة
196 - باب استقبال الغزاة [حديث قول ابن الزبير لابن جعفر أتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم] 145 - [3082] حدّثنا عبد الله بن أبي الأسود: حدّثنا يزيد بن زريع وحميد بن الأسود، عن حبيب بن الشّهيد، عن ابن أبي مليكة: «قال ابن الزّبير (¬1) لابن جعفر (¬2) رضي الله عنهم: أتذكر إذ تلقّينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت وابن عبّاس؛ قال: نعم، فحملنا وتركك» (¬3). ¬
حديث ذهبنا نتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصبيان إلى ثنية الوداع
[حديث ذهبنا نتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصبيان إلى ثنية الوداع] 146 - [3083] حدّثنا مالك بن إسماعيل: حدّثنا ابن عيينة، عن الزهريّ، قال: «قال السّائب بن يزيد (¬1). رضي الله عنه: ذهبنا نتلقّى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصبيان إلى ثنيّة الوداع». (¬2). وفي رواية: «أذكر أني خرجت مع الصّبيان نتلقّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ثنيّة الوداع مقدمه من غزوة تبوك». (¬3). * شرح غريب الحديثين: * " ثنية الوداع " موضع بالمدينة على طريق مكة، سميت بذلك؛ لأن الخارج من المدينة يودعه فيها مشيعه، وهو اسم جاهلي قديم سمي لتوديع المسافرين (¬4). * الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحث على الإحسان إلى اليتيم وحفظه. 2 - من صفات الداعية: الاعتزاز بما يقع من إكرام الشرع. 3 - من صفات الداعية: التواضع. 4 - أهمية تلقي العلماء والقادمين من سفر الطاعة. 5 - من أصناف المدعوين: الصبيان. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحث على الإحسان إلى اليتيم وحفظه: دل فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما على أن من موضوعات الدعوة ¬
الحث على الإحسان إلى اليتيم وحفظه؛ وقد حمل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، وقد اعتنى صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن جعفر؛ لأنه كان يتيما، فعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقّي بصبيان أهل بيته، قال: إنه قدم من سفر فسبق بي إليه فحملني بين يديه ثم جيء بأحد ابني فاطمة فأردفه خلفه، قال: فأدخلنا المدينة ثلاثة على دابة» (¬1) وهذا يدل على عناية النبي صلى الله عليه وسلم باليتيم وحفظه؛ لأن جعفر بن أبي طالب مات شهيدا فعطف النبي صلى الله عليه وسلم على ولده عبد الله فحمله بين يديه (¬2) وقد أمر الله عزّ وجلّ بالإحسان إلى اليتيم في آيات كثيرة (¬3) ومن ذلك قوله عزّ وجلّ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36] (¬4) وأمر بالمحافظة على أموالهم فقال عزّ وجلّ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] (¬5) وحذر من أكل أموالهم بالباطل فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] (¬6) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كافل اليتيم له أو لغيره، أنا وهو كهاتين في الجنة» وأشار مالك بالسبابة والوسطى (¬7). / +50 وبين صلى الله عليه وسلم ما لمن سعى على الضعفاء والأرامل من الثواب فقال: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار» (¬8). ¬
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أحرّج (¬1) حق الضعيفين: اليتيم والمرأة» (¬2) فينبغي للداعية أن يحث الناس على العناية باليتيم وهو الذي مات أبوه وهو دون البلوغ، والله المستعان. ثانيا: من صفات الداعية: الاعتزاز بما يقع من إكرام الشرع: إن من الصفات الحميدة أن يعتز المسلم وخاصة الداعية إلى الله عزّ وجلّ بما أكرمه الله عزّ وجلّ من الفضائل؛ ولهذا اعتز عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما بتفضيل النبي صلى الله عليه وسلم له على غيره من الصبيان وذلك عندما قال له ابن الزبير رضي الله عنهما: «أتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت وابن عباس؛ قال: نعم، فحملنا وتركك»، وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن من فوائد هذا الحديث: "جواز الفخر بما يقع من إكرام النبي صلى الله عليه وسلم" (¬3) وقال العلامة العيني رحمه الله: "وفيه الفخر بإكرام الشارع" (¬4) ولا حرج من الفرح بفضل الله ورحمته، بل ينبغي ذلك؛ لقول الله عزّ وجلّ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] (¬5). ثالثا: من صفات الداعية: التواضع: لا شك أن من صفات الداعية التواضع؛ ولهذا تواضع النبي صلى الله عليه وسلم فحمل الصبيان على دابته وأردفهم، ولاطفهم، كما في هذين الحديثين، قال عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما لعبد الله بن الزبير: "فحملنا وتركك" فكان صلى الله عليه وسلم من أعظم الناس تواضعا وخلقا (¬6). رابعا: أهمية تلقي العلماء والقادمين من سفر الطاعة: دل هذان الحديثان على أهمية تلقي المسافرين من العلماء ومن قدم من سفر ¬
الحج أو العمرة، أو الجهاد، أو الدعوة، أو غيرها من سفر الطاعة؛ قال عبد الله ابن الزبير لعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم: «أتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، وأنت، وابن عباس» وقال السائب رضي الله عنه: «ذهبنا نتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصبيان إلى ثنية الوداع»؛ قال الإمام النووي رحمه الله: "هذه سنة مستحبة أن يتلقى الصبيان المسافر، وأن يركبهم، وأن يردفهم، ويلاطفهم، والله أعلم" (¬1) وقال ابن العربي رحمه الله: "قيل: إذا سافر الرجل ودع إخوانه في منازلهم، وإذا جاء تلقوه، والتشييع سنة" (¬2) وقال العلامة العيني رحمه الله: "وفيه من الفوائد أن التلقي للمسافرين والقادمين من الحج والجهاد، بالبشر والسرور: أمر معروف ووجه من وجوه البر" (¬3) ولفظ الحديث في سنن أبي داود يدل على أن الناس تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجال والصبيان، قال السائب رضي الله عنه: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك تلقاه الناس، فلقيته مع الصبيان على ثنية الوداع» (¬4). خامسا: من أصناف المدعوين: الصبيان: دل هذان الحديثان على أن الصبيان من أصناف المدعوين؛ ولهذا اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بإكرامهم، والإحسان إليهم، وملاطفتهم، وإدخال السرور عليهم، وتعليمهم مكارم الأخلاق (¬5)؛ قال الإمام الخطابي رحمه الله في ذكره لفوائد حديث عبد الله بن السائب: "فيه تمرين الصبيان على مكارم الأخلاق، واستجلاب الدعاء لهم" (¬6) فينبغي العناية بالأطفال والإحسان إليهم ومراعاة أحوالهم في دعوتهم إلى الله بالقدوة الحسنة والعطف عليهم وإدخال السرور في قلوبهم (¬7). ¬
الفصل الثالث: كتاب الفرائض
الفصل الثالث: كتاب الفرائض
باب فرض الخمس
1 - باب فرض الخمس [حديث أن فاطمة سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها] 147 - [3092] حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله: حدّثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزّبير أنّ عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها أخبرته «أنّ فاطمة (¬1) عليها السلام ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت أبا بكر الصّدّيق (¬2). بعد وفاة ¬
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها ممّا ترك رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ممّا أفاء الله عليه".» (¬1). وفي رواية: «أن فاطمة عليها السلام أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما (¬2) أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، تطلب صدقة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، الّتي بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر".» (¬3). وفي رواية: «أنّ فاطمة عليها السلام، والعبّاس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما: أرضه من فدك وسهمه من خيبر".» (¬4). وفي رواية: «أنّ فاطمة عليها السلام بنت النّبيّ صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها بفيء رسول الله صلى الله عليه وسلم ممّا أفاء الله عليه بالمدينة، وفدك، وما بقي من خمس خيبر، ¬
فقال أبو بكر: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة"، إنما يأكل آل محمّد في هذا المال وإنّي والله لا أغيّر شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها الّتي كان عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملنّ فيها بما عمل به رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت (¬1) وعاشت بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فلمّا توفّيت دفنها زوجها عليّ ليلا ولم "يؤذن بها أبا بكر (¬2) وصلّى عليها، وكان لعلي من النّاس وجه (¬3). حياة فاطمة، فلمّا توفّيت استنكر عليّ وجوه النّاس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك كراهية لمحضر عمر فقال عمر: لا والله لا تدخل عليهم وحدك، فقال أبو بكر: وما عسيتهم أن يفعلوا بي والله لآتينّهم، فدخل عليهم أبو بكر فتشهّد عليّ فقال: إنّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك ولكنّك استبددت علينا بالأمر وكنّا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبا، حتّى فاضت عينا أبي بكر، فلمّا تكلم أبو بكر قال: والّذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إليّ أن أصل من قرابتي وأمّا الّذي ¬
حديث لا نورث ما تركنا صدقة
شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيها عن الخير ولم أترك أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلّا صنعته فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة فلما صلى أبو بكر الظهر رقي المنبر فتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالّذي اعتذر إليه ثمّ استغفر وتشهّد علي فعظّم حقّ أبي بكر وحدّث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر، ولا إنكارا للّذي فضّله الله به ولكنّا كنّا نرى لنا في هذا الأمر نصيبا فاستبدّ علينا فوجدنا في أنفسنا، فسرّ بذلك المسلمون وقالوا: أصبت وكان المسلمون إلى عليّ قريبا حين راجع الأمر بالمعروف".» (¬1). [حديث لا نورث ما تركنا صدقة] 148 - [3093] «فقال لها أبو بكر: إنّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث، ما تركنا صدقة". فغضبت فاطمة بنت رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت، وعاشت بعد رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ستّة أشهر. قالت: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها ممّا ترك رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وفدك، وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال: لست تاركا شيئا كان رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلّا عملت به، فإنّي أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ، فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ وعبّاس، وأمّا خيبر وفدك فأمسكها عمر وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانتا لحقوقه الّتي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى وليّ الأمر، قال: فهما على ذلك إلى اليوم". قال أبو عبد الله: (اعتراك، افتعلت، من عروته فأصبته، ومنه: يعروه، واعتراني» (¬2). ¬
وفي رواية: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة، إنّما يأكل آل محمّد من هذا المال - يعني مال الله - ليس لهم أن يزيدوا على المأكل"، وإنّي والله لا أغيّر شيئا من صدقات النّبيّ صلى الله عليه وسلم الّتي كانت عليها في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولأعملنّ فيها بما عمل فيها رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فتشهّد عليّ ثمّ قال: إنّا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك - وذكر قرابتهم من رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وحقّهم - فتكلّم أبو بكر فقال: والّذي نفسي بيده لقرابة رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إليّ أن أصل من قرابتي".» (¬1). وفي رواية: «قال أبو بكر: والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه إلّا صنعته، قال: فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتّى ماتت".» (¬2). شرح غريب الحديثين: * " لم ننفس عليك " أي لم نحسدك، يقال: نفاسة على فلان: أي صدا له ورغبة وحرصا على ما ناله، ولم يره له أهلا، ويقال: نفست عليه الشيء، نفاسة: إذا لم تره يستأهله (¬3). * " فلم آل فيها عن الخير " أي لم أقصّر (¬4). * " فدك " قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان بالسير، وقيل: ثلاثة، أفاءها الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم صلحا سنة سبع؛ لأنه عندما فتح خيبر بلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالحهم على النصف من ثمارهم، فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فيها عين فوارة، ونخيل كثيرة (¬5). ¬
* " فوجدت " أي غضبت، يقال: لا تجد عليّ: أي تغضب (¬1). * " وما عسيتهم " أي وما حسبتهم، فعسيت هنا بمعنى حسبت، وأجريت مجراها فنصبت ضمير الغائبين على أنه مفعول ثان (¬2) أما قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22 - 23] (¬3) فمعناها: فلعلكم إن توليتم. (¬4). * " استبددت " انفردت، يقال: استبدّ فلان بكذا: أي انفرد به، واستبدّ برأيه: انفرد به عن غيره (¬5). * " أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ " أزيغ: أجور وأعدل عن الحق. (¬6). * " تعروه " أي تغشاه وتنتابه (¬7). * " نوائبه " النوائب ما ينوب الإنسان: أي ما ينزل به من المهمات، ويقال: نابه ينوبه نوبا، وانتابه، إذا قصده مرة بعد مرة. ويقال: احتاطوا، هل الأموال في النائبة والواطئة: أي الأضياف الذين ينوبونهم (¬8) الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: الزهد. 2 - لا ينكر أن يغيب عن الداعية بعض العلم. 3 - من وسائل الدعوة: المنبر. 4 - من آداب الخطيب: البدء بالشهادتين بعد الحمد والثناء على الله عزّ وجلّ. ¬
5 - أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية. 6 - من صفات الداعية: الحذر من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. 7 - من أساليب الدعوة: الحوار. 8 - من صفات الداعية: الرجوع إلى الحق بدليله. 9 - من صفات الداعية: التواضع. 10 - أهمية الاعتراف بالفضل لأهله. 11 - من صفات الداعية: الخشوع لله عزّ وجلّ. 12 - أهمية محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته. 13 - من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض مناقبه عند الحاجة انتصارا للحق. 14 - من صفات الداعية: العفو والصفح. 15 - من صفات الداعية: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الزهد: إن الزهد من الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أزهد الناس في الدنيا؛ لأنهم لم يبعثوا لجمع الأموال، وإنما بعثوا لإخراج الناس من الظلمات إلى النور؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «لا نورث ما تركنا صدقة»، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم زاهدا ويزهّد الناس في الدنيا، فعن مطرف عن أبيه رضي الله عنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] قال: "يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك يا ابن آدم إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» (¬1) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول العبد: مالي مالي، إنما، له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وسوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس".» (¬2). ¬
وهذا يؤكد أن ما يقتنيه الإنسان للآخرة ويدخر ثوابه عند الله عزّ وجلّ هو الذي ينفعه حقيقة، وهذا لا يتحقق إلا بالزهد في الدنيا. (¬1). ثانيا: لا ينكر أن يغيب عن الداعية بعض العلم: إن الداعية أو العالم العظيم قد يغيب عنه بعض العلم ويعلمه غيره، وهذا يدل على أن علم البشر محدود، ويكمل بعضهم بعضا؛ ولهذا خفي على عليّ رضي الله عنه وفاطمة الزهراء رضي الله عنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا صدقة"،» قال الإمام القرطبي رحمه الله: "فأما طلب فاطمة ميراثها من أبيها من أبي بكر، فكان ذلك قبل أن تسمع الحديث الذي دل على خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وكانت متمسكة بما في كتاب الله من ذلك، فلما أخبرها أبو بكر بالحديث توقفت عن ذلك ولم تعد عليه بطلب" (¬2) وقال العيني رحمه الله: "قيل: إن فاطمة رضي الله عنه لم تكن علمت هذا" (¬3) وهذا لا ينقص من قدرها ولا من علمها وفضلها رضي الله عنها (¬4). ثالثا: من وسائل الدعوة: المنبر: لاشك أن من الوسائل المهمة التي تعين على إيصال العلم للناس استخدام المنبر في الخطب، وفي المواعظ التي يحضرها جموع من الناس؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم هذه الوسيلة، ثم استخدمها أصحابه رضي الله عنهم من بعده، ومن ذلك ما ثبت في هذا الحديث من قول عائشة رضي الله عنها: «فلما صلى أبو بكر الظهر رقي على المنبر فتشهد» وهذا يؤكد أهمية هذه الوسيلة (¬5). رابعا: من آداب الخطيب: البدء بالشهادتين بعد الحمدلة والثناء على الله عزّ وجلّ: لا ريب أن من الآداب التي ينبغي أن يعتني بها الداعية البدء في خطبه، ¬
ومواعظه، ومحاضراته، وكلماته: بالثناء على الله عزّ وجلّ بما هو أهله، وبالإقرار بالشهادتين والصلاة عنى النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا بدأ أبو بكر رضي الله عنه بذلك في هذا الحديث، وكذا علي رضي الله عنه لقول عائشة رضي الله عنها: «فلما صلى أبو بكر الظهر رقي المنبر فتشهد»، وقالت رضي الله عنها: «ثم استغفر وتشهد عليّ فعظّم حق أبي بكر» وهذا يؤكد أهمية استخدام هذا الأدب في الخطب والمواعظ، والله المستعان. (¬1). خامسا: أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية: ظهر في هذا الحديث أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية؛ لقول أبي بكر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة»، فقد استدل رضي الله عنه بهذا الحديث؛ ليقنع فاطمة وعليا رضي الله عنهما، وهذا يؤكد أهمية العناية بالأدلة من الكتاب والسنة، أو من أحدهما، وإقناع المدعوين بذلك (¬2). سادسا: من صفات الداعية: الحذر من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية الناجح الحذر من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم من أسباب الخذلان والهلاك في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه في هذا الحديث: «إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ» وصدق رضي الله عنه؛ فإن الله عزّ وجلّ قال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] (¬3) وقال عزّ وجلّ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] (¬4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجعل الذّلّ والصغار على من خالف أمري".» (¬5). ¬
سابعا: من أساليب الدعوة: الحوار: الحوار أسلوب مهم من أساليب الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، وقد ظهر في هذا الحديث الحوار بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، واستمر الحوار بينهما حتى فاضت عينا أبي بكر رضي الله عنه، ورضي كلّ منهما على صاحبه، ثم اعتذر عليّ رضي الله عنه، وبايع أبا بكر بحضرة الناس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يؤكد أهمية الحوار الهادف وأثره العظيم. فينبغي للداعية أن يعتني به في دعوته إلى الله عزّ وجلّ (¬1). ثامنا: من صفات الداعية: الرجوع إلى الحق بدليله: الحق هو مقصد كل مسلم إذا ظهر واتضح، والرجوع إليه من أهم الصفات التي ينبغي للداعية أن يتصف بها، وقد ظهر في هذا الحديث رجوع علي بن أبي طالب رضي الله عنه للحق عندما اتضح الدليل وبان البرهان فأرسل رضي الله عنه إلى أبي بكر؛ ليأتيه فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فدخل عليه، «فتشهد عليّ فقال: "إنّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك"،» ثم قال: «موعدك العشية للبيعة»، ثم حضر رضي الله عنه، وبعد صلاة الظهر بايع أبا بكر بحضرة الصحابة رضي الله عنهم واعتذر وعظّم حق أبي بكر، فسرّ بذلك المسلمون، وقالوا: "أصبت" ومن تأمل ما دار بين أبي بكر وعليّ رضي الله عنهما عرف أن كلا منهما كان يعترف بفضل الآخر، وأن قلبيهما متفقان على الاحترام والمحبة، وإن كان الطبع البشري قد يغلب أحيانا، لكن الديانة والتقوى ترد ذلك (¬2). ينبغي للداعية أن يكون من أوّل الناس رجوعا إلى الحق إذا ظهر بدليله كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تاسعا: من صفات الداعية: التواضع: دل هذا الحديث على أهمية التواضع وأنه ينبغي للداعية أن يتصف به، لما في ذلك من الفوائد العظيمة؛ ولهذا تواضع أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬
فذهب إلى بيت علي رضي الله عنه كما في هذا الحديث فحصل بهذا التواضع: سلامة القلوب، وطيب النفوس، واجتماع الكلمة والحمد لله، وهذا يبين أهمية التواضع والاتصاف به، وخاصة للدعاة إلى الله عزّ وجلّ (¬1). عاشرا: أهمية الاعتراف بالفضل لأهله: إن من الأمور المهمة الاعتراف بالفضل لأهله وشكرهم على أعمالهم الطيبة، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث من قول عليّ رضي الله عنه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: «إنّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك»، وهذا يبين أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قد أنصف، واعترف بالفضل لأبي بكر رضي الله عنه. قال الإمام القرطبي رحمه الله: "ولا يظنّ بعليّ أنه خالف الناس في البيعة، ولكنه تأخر عن الناس لمانع منعه، على الموجدة التي وجدها حين استبدّ بمثل هذا الأمر العظيم ولم ينتظر مع أنه كان أحق الناس بحضوره، وبمشورته، لكن العذر للمبايعين لأبي بكر على ذلك الاستعجال: مخافة ثوران الفتنة بين المهاجرين والأنصار، كما هو معروف في حديث السقيفة، فسابقوا الفتنة، فلم يتأتّ لهم انتظاره لذلك، وقد جرى بينهم في هذا المجلس من المحاورة، والمكالمة، والإنصاف ما يدل على معرفة بعضهم بفضل بعض، وأن قلوبهم متفقة على احترام بعضهم لبعض، ومحبة بعضهم لبعض ما يشرق به الرافضي وتشرق به قلوب أهل الدين". (¬2). فينبغي لكل مسلم الاعتراف بالفضل لأهله، وإنزال الناس منازلهم، وهذا يتأكد على الدعاة أكثر من غيرهم، والله المستعان. الحادي عشر: من صفات الداعية الخشوع لله عز وجل: إن الخشوع لله عزّ وجلّ من الصفات التي ينبغي للداعية إلى الله عزّ وجلّ أن يتصف بها، وقد دل خشوع أبي بكر في هذا الحديث على ذلك حينما تكلم عليّ رضي الله عنه ففاضت عينا أبي بكر رضي الله عنه وقال: «والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬
أحب إليّ أن أصل من قرابتي»، وقد مدح الله الخاشعين في كتابه العزيز وأثنى عليهم فقال عزّ وجلّ بعد أن ذكر آل زكريا بعد عدد من الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] (¬1)؛ ولأهمية الخشوع استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من قلب لا يخشع فقال: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها» (¬2) وأصل الخشوع لله عزّ وجلّ: لين القلب، ورقته، وسكونه وخضوعه، فإذا خشع القلب لله تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء، فإذا خشع القلب خشع السمع والبصر، والرأس، وسائر الأعضاء؛ لأنه أمير البدن، والجوارح رعيته وجنوده، وبصلاح الأمير تصلح الرعية (¬3). «وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: "هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء"، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منّا وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنّه، ولنقرئنّه نساءنا وأبناءنا، فقال: "ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدّك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؛» قال جبير فلقيت عبادة بن الصامت قلت: ألا تسمع إلى ما يقول أخوك أبو الدرداء؛ فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس؛ الخشوع، يوشك أن تدخل مسجدَ جماعةٍ فلا ترى فيه رجلا خاشعا" (¬4). فينبغي لكل مسلم وخاصة الداعية إلى الله عزّ وجلّ أن يسأل الله أن يصلح قلبه ويجعله خاشعا لله وحده، ويستعيذ بالله من قلب لا يخشع. ¬
الثاني عشر: أهمية محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته: محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته من أعظم الصفات الواجبة التي يتأكد على كل مسلم أن يتصف بها وخاصة الداعية إلى الله عزّ وجلّ؛ ولهذه الأهمية قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في هذا الحديث: «والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إليّ أن أصل من قرابتي»، وهذا يبين عظم محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته في قلوب أصحابه صلى الله عليه وسلم. فينبغي أن يتصف كل مسلم بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من النفس، والمال، والولد، والوالد، والناس أجمعين، كما يظهر في هذا الحديث أن من كمال الإيمان تقديم محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الصالحين على محبة الأقرباء، إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). الثالث عشر: من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض مناقبه عند الحاجة انتصارا للحق: لا شك أن من الأساليب النافعة عند الحاجة إليها، ذكر الداعية بعض مناقبه التي يكون في إظهارها نفع للمدعوين؛ ولهذا أظهر أبو بكر بعض مناقبه في هذا الحديث عندما رأى أن المصلحة تقتضي ذلك، فقال رضي الله عنه: «فلم آل جهدا عن الخير، ولم أترك أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته»، وهذه منقبة من أعظم المناقب العظيمة لأبي بكر رضي الله عنه، ذكرها انتصارا للحق (¬2). الرابع عشر: من صفات الداعية: العفو والصفح: العفو والصفح من أعظم الصفات السامية التي يتصف بها النبلاء: من العلماء، والدعاة، وأهل الديانة المستقيمة، والأخلاق الكريمة، ولهذا عفا وصفح الصديق رضي الله عنه عما حصل من علي رضي الله عنه؛ لأن عليا رضي الله عنه يرى أن الحق معه حتى تبين له الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا صدقة»، وعند اتضاح الحق لعليّ عفا عنه أبو بكر؛ ولهذا جاء في هذا "الحديث: «فلما صلى أبو بكر الظهر رقي المنبر فتشهد وذكر شأن عليّ ¬
رضي الله عنه وتخلفه عن البيعة، وعذره بالذي اعتذر إليه"،» فاجتمعت الكلمة وطهرت القلوب والحمد لله، وهذا يؤكد أهمية العفو ويوضح آثاره الحميدة، والله المستعان (¬1). الخامس عشر: من صفات الداعية: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وعملا: إن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهم الصفات وأعظم القربات التي يتقرب بها المخلصون إلى الله عزّ وجلّ؛ ولهذه الأهمية قال أبو بكر رضي الله عنه: «إنما يأكل آل محمد في هذا المال، وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم"،» وقال: «ولم أترك أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته"،» وهذا يدل على كمال اتباع الصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا. فينبغي للداعية أن يكون أكمل الناس في الاتباع وأبعدهم عن الابتداع، وأن يكون قدوة صالحة لغيره، والله المستعان (¬2). ¬
باب نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته
3 - باب نفقة نساء النّبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته [حديث توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيته من شيء] 149 - [3097] حدّثنا عبد الله بن أبي شيبة: حدّثنا أبو أسامة: حدّثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها (¬1). قالت: «توفّي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد، إلّا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه حتّى طال علي، فكلته، ففني".» (¬2). * شرح غريب الحديث: * " شطر الشعير " شطر الشيء: نصفه، إلا أن الحديث ليس فيه مقدار يكون ما أشارت إليه نصفه، فكأنها أشارت إلى جزء مبهم: أي شيء. من شعير وجزء من شعير (¬3). * " رف " الرّفّ خشب يرفع عن الأرض إلى جنب الجدار يوقى به ما يوضع عليه (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - حرص السلف الصالح على تعليم أولادهم الرقائق. 2 - من صفات الداعية: الزهد. 3 - من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان. 4 - أهمية التوكل على الله عزّ وجلّ. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: ¬
أولا: حرص السلف الصالح على تعليم أولادهم الرقائق: إن السلف الصالح كانوا حريصين أشد الحرص على تعليم أولادهم، وأقربائهم العلم النافع، ومما يؤكد ذلك ما ثبت في إسناد هذا الحديث من تعليم عروة بن الزبير بن العوام لابنه هشام حديث عائشة رضي الله عنها في وصفها شدة عيش النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من الزهد، فقالت رضي الله عنها: «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رف لي".» (¬1). فينبغي للداعية أن يعلم أولاده وأهل بيته ما ينفعهم، ويذكر لهم الرقائق؛ لتصح قلوبهم وترق وتخشع كما فعل سلفنا الصالح رحمهم الله (¬2). ثانيا: من صفات الداعية: الزهد: الزهد من الصفات الحميدة التي يجمل ويحسن لكل مسلم أن يتصف بها، وقد ظهر في هذا الحديث ما يؤكد ذلك من زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، قالت عائشة رضي الله عنها: «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفّ لي»، وقد كان صلى الله عليه وسلم يطيّب قلوب أتباعه الزهاد فيقول: «انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» (¬3) وهذا يؤكد عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالزهد والحث عليه؛ لما فيه من السلامة والعافية من الوقوع فيما لا يرضاه الله عزّ وجلّ (¬4). ثالثا: من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان: ظهر في هذا الحديث أن من صفات الداعية الصبر على الابتلاء والاختبار؛ ولهذا صبر النبي صلى الله عليه وسلم على شدة العيش وشظفه، وقد مات صلى الله عليه وسلم ولم يخلف شيئا لورثته؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها في الحديث: «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في ¬
بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير".» فينبغي لكل مسلم وخاصة الداعية أن يصبر على الابتلاء في السراء والضراء، وفي العسر واليسر، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة (¬1). رابعا: أهمية التوكل على الله عزّ وجلّ: دل مفهوم هذا الحديث على أن التوكل على الله واعتماد القلب عليه من أهم المهمات وأعظم القربات؛ لتوكل عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها على الله، فبقيت تأكل من الشعير القليل في الرف زمنا طويلا، ويبارك الله فيه حتى كالته ففني، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "يستفاد منه أن من رزق شيئا، أو أكرم بكرامة، أو لطف به في أمر ما، فالمتعين عليه موالاة الشكر، ورؤية المنة لله تعالى، ولا يحدث في تلك الحالة تغيير" (¬2) ويتعين على المتوكل العمل بالأسباب التي شرعها الله عزّ وجلّ (¬3). ¬
باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وما نسب من البيوت إليهن
4 - باب ما جاء في بيوت أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم وما نسب من البيوت إليهنّ وقول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] (¬1) و {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53] (¬2). [حديث ها هنا الفتنة من حيث يطلع قرن الشيطان] 150 - [3104] حدّثنا موسى بن إسماعيل: حدّثنا جويرية، عن نافع، عن عبد الله (¬3) رضي الله عنه، قال: " قام النّبيّ صلى الله عليه وسلم خطيبا فأشار نحو مسكن عائشة فقال: «ها هنا الفتنة - ثلاثا - من حيث يطلع قرن الشّيطان» (¬4). وفي رواية: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى المشرق فقال: «ها إنّ الفتنة هاهنا، إنّ الفتنة هاهنا، من حيث يطلع قرن الشّيطان» (¬5). وفي رواية: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر. . . " (¬6). وفي رواية: «الفتنة هاهنا، الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشّيطان - أو قال - قرن الشّمس» (¬7). وفي رواية: "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول. . . " (¬8). * شرح غريب الحديث: * " الفتنة ": أصل الفتنة من قولك: "فتنت الذهب" إذا أحرقته بالنار ليتبين الجيد من الرديء، وهي الابتلاء والاختبار، والامتحان، وكثر استعمالها ¬
بمعنى: الإثم، والكفر، والضلال، والقتال، والفضيحة، والعذاب (¬1). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية؛ منها: 1 - من وسائل الدعوة: الخطابة. 2 - من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإخبار ببعض المغيبات. 3 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الفتن. 4 - من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من وسائل الدعوة: الخطابة: دل الحديث على أن من وسائل الدعوة: الخطابة؛ لما فيها من إيصال الحق للناس؛ ولهذا قام النبي صلى الله عليه وسلم - كما في هذا الحديث - خطيبا فأشار إلى مسكن عائشة رضي الله عنها، وحذر من الفتن، وهذا يؤكد أهمية الخطابة، ويؤكد أهمية القيام فيها؛ ليرى الناس الخطيب ويسمعوا كلامه، والله المستعان (¬2). ثانيا: من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإخبار ببعض المغيبات: لا شك أن من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وسلم الإخبار ببعض المغيبات، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «هاهنا الفتنة - ثلاثا - من حيث يطلع قرن الشيطان»، وقد تحقق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم؛ فإن الفتن ظهرت من قبل المشرق كثيرا، والفتنة الكبرى التي كانت مفتاح فساد ذات البين هي قتل عثمان رضي الله عنه - وهي سبب وقعة الجمل، وحروب صفين - كانت في ناحية المشرق، ثم ظهور الخوارج في أرض نجد والعراق وما وراءها من المشرق، وأكثر البدع إنما ظهرت من المشرق فكانت سببا إلى افتراق كلمة المسلمين ومذهبهم، وفساد نيات كثير منهم إلى اليوم، وإلى قيام الساعة، وآخر الفتن خروج الدجال من قبل المشرق (¬3). ¬
وهذا كله يؤكد صدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لوقوع ما أخبر به على حقيقته (¬1). ثالثا: من موضوعات الدعوة: التحذير من الفتن: التحذير من الفتن من أهم الموضوعات التي ينبغي للداعية أن يعتني بها، ويحذر الناس منها؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «هاهنا الفتنة - ثلاثا - من حيث يطلع قرن الشيطان»، وهذا فيه تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من الفتن، وبيان منه صلى الله عليه وسلم أن الفتن تأتي من قبل المشرق؛ ليحذر منها الناس وينتبهوا أشد الانتباه، قال العيني رحمه الله: "وكان صلى الله عليه وسلم يحذر من ذلك ويعلم به قبل وقوعه، وذلك من دلالات نبوته صلى الله عليه وسلم" (¬2) وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على المبادرة بالأعمال الصالحة قبل الانشغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة والمتراكمة، المتكاثرة، فقال صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا» (¬3). قال القاضي عياض رحمه الله: "وفائدة المبادرة بالعمل: إمكانه قبل شغل البال والجسد بالفتن، وقطعها عن العمل" (¬4) ومما يؤكد التحذير من الفتن حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؛ قال: "نعم". فقلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؛ قال: "نعم وفيه دخن". قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر". فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: "نعم، قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا". قلت: يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركني ذلك؛ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ". فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ¬
ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضّ على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» (¬1). وهذا فيه التحذير العظيم من الفتن وبيان المخرج منها، ولاشك أن الزمان كلما تأخر زادت الفتن في الغالب حتى قيام الساعة؛ ولهذا قال أنس بن مالك رضي الله عنه: «اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم»، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم (¬2) فأسأل الله لي ولجميع المسلمين العافية في الدنيا والآخرة، والله المستعان. رابعا: من صفات الداعية: الحرص على الدقة في نقل الحديث: ظهر في هذا الحديث أن من صفات الداعية الحرص على الدقة في نقل الحديث؛ ولهذا قال الراوي: «من حيث يطلع قرن الشيطان»، أو قال: «قرن الشمس»، شك أي اللفظين قال النبي صلى الله عليه وسلم (¬3) والمقصود بقرن الشيطان: هو التمثيل لمن يسجد للشمس عند طلوعها فكأن الشيطان سوّل له ذلك، فإذا سجد لها كان كأن الشيطان مقترن بها (¬4). وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحرّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإنها تطلع بقرني شيطان» (¬5) قيل: المراد بقرني الشيطان: حزبه وأتباعه، وقيل: قوته وغلبته وانتشار فساده، وقيل: القرنان: ناحيتا الرأس وأنه على ظاهره، وهذا هو الأقوى، قالوا: ومعناه أنه يدني رأسه إلى الشمس في هذه الأوقات؛ ليكون الساجدون لها من الكفار كالساجدين له في الصورة، وحينئذ يكون له ولبنيه تسلط ظاهر وتمكن من أن يسلبوا على المصلين صلاتهم، فكرهت الصلاة حينئذ صيانة لها، كما كرهت في الأماكن التي هي مأوى الشيطان (¬6). ¬
باب ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم، وعصاه، وسيفه، وقدحه، وخاتمه وما استعمل الخلفاء بعده من ذلك مما لم يذكر قسمته، ومن شعره، ونعله، وآنيته، مما تبرك أصحابه وغيرهم بعد وفاته
5 - باب ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم، وعصاه، وسيفه، وقدحه، وخاتمه وما استعمل الخلفاء بعده من ذلك مما لم يذكر قسمته، ومن شعره، ونعله، وآنيته، ممّا تبرك أصحابه وغيرهم بعد وفاته. [حديث إخراج أنس نعلين جرداوين لهما قبالان] 151 - [3107] حدّثنا عبد الله بن محمّد: حدّثنا محمّد بن عبد الله الأسديّ: حدّثنا عيسى بن طهمان (¬1) قال: "أخرج إلينا أنس نعلين جرداوين لهما قبالان، فحدثني ثابت البنانيّ (¬2) بعد عن أنس (¬3) أنهما نعلا النّبيّ صلى الله عليه وسلم". (¬4). وفي رواية: "خرج إلينا أنس بن مالك بنعلين لهما قبالان، فقال ثابت البنانيّ: هذه نعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم" (¬5). [حديث إخراج عائشة كساء ملبدا وقولها في هذا نزع روح النبي صلى الله عليه وسلم] 152 - [3108] حدّثني محمّد بن بشّار: حدّثنا عبد الوهّاب: حدّثنا أيّوب: حدّثنا حميد بن هلال، عن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة (¬6) رضي الله عنها، كساء ملبّدا وقالت: في هذا نزع روح النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وزاد سليمان عن حميد، عن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة إزارا غليظا ممّا يصنع باليمن، وكساء من هذه الّتي يدعونها الملبّدة" (¬7). وفي رواية: "أخرجت إلينا عائشة كساء وإزارا غليظا فقالت: قبض روح النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذين" (¬8). ¬
حديث أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم كسر
[حديث أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم كسر] 153 - [3109] حدّثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن عاصم، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أنّ قدح النبيّ صلى الله عليه وسلم كسر فاتخذ مكان الشّعب سلسلة من فضّة. قال عاصم (¬1) رأيت القدح وشربت فيه" (¬2). وفي رواية: "عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبيّ صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع فسلسله بفضّة، قال: وهو قدح جيّد عريض من نضار. قال أنس: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا القدح أكثر من كذا وكذا. قال: وقال ابن سيرين: (¬3) إنّه كان فيه حلقة من حديد فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضّة فقال له أبو طلحة: لا تغيرنّ شيئا صنعه رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فتركه" (¬4). * شرح غريب الحديث: * " نعلين جرداوين " أي لا شعر عليهما. (¬5). * " قبالان " القبال: زمام النعل، وهو السير الذي يكون بين الإصبع الوسطى والتي تليها (¬6). ¬
* " كساء ملبّدا " أي مرقعا. يقال: لبدت القميص ألبده، ولبدته، وألبدته إذا رقعته، ويقال للخرقة التي يرقع بها صدر القميص: اللبدة، والتي يرقع بها قبله: القبيلة، وقيل: الملبّد: الذي ثخن وسطه وصفق حتى صار يشبه اللبدة. (¬1). * " فاتخذ مكان الشعب سلسلة " الشعب: أي الصدع والشق. (¬2). * " نضار " قدح جيد عريض من نضار: أي من خشب نضار، وهو خشب معروف، وقيل: هو الأثل الورسيّ اللون (¬3). * الدراسة الدعوية للأحاديث: في هذه الأحاديث الثلاثة دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية استخدام وسائل الإيضاح في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ. 2 - عظم محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 3 - من صفات الداعية: الزهد. 4 - من صفات الداعية: التواضع. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: أهمية استخدام وسائل الإيضاح في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ: إن استخدام وسائل الإيضاح الحسية في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ من الأمور المهمة؛ وقد استخدمها أنس بن مالك وعائشة رضي الله عنهما في هذه الأحاديث، فأنس: "أخرج نعلين جرداوين" وهما نعلا النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجت عائشة "إزارا غليظا مما يصنع باليمن وكساء"، وهذا فيه إيضاح للناس وتعليم لهم بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا، وإيثار الآخرة والرغبة فيها؛ لأن ما عند الله خير وأبقى. فينبغي للداعية أن يستخدم وسائل الإيضاح الحسية في دعوته إلى الله عزّ وجلّ، ¬
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم هذه الوسائل، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خطوطا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به - أو قد أحاط به - وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطوط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا» (¬1) وقيل: هذه صفة الخط (¬2). : وهذا يؤكد للداعية أهمية استخدام الوسائل الحسية للإيضاح والتبيين وشد الانتباه للمدعوين والله المستعان. ثانيا: عظم محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم حبا عظيما؛ وقد بلغ بهم هذا الحب العظيم إلى أن احتفظ بعضهم ببعض ما يختص به صلى الله عليه وسلم تبركا به صلى الله عليه وسلم، فقد احتفظ أنس رضي الله عنه بنعليه، وقدحه، واحتفظت عائشة رضي الله عنها، بإزاره، وكسائه كما في الحديث، وغير ذلك كثير، كالاحتفاظ بدرعه، وخاتمه (¬3) وهذا يؤكد حب الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله أكثر من أنفسهم وأموالهم، وأولادهم ووالديهم، والناس أجمعين، فينبغي لكل مسلم أن يكون كذلك (¬4). ثالثا: من صفات الداعية: الزهد: ظهر في هذه الأحاديث زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا؛ لكونه قبضه الموت وهو يلبس إزارا غليظا، وكساء ملبدا مرقعا، ويأكل في قدح من خشب النضار منصدع، قال الإمام النووي رحمه الله: "في هذه الأحاديث المذكورة في الباب ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهادة في الدنيا، والإعراض عن متاعها وملاذها، وشهواتها، وفاخر لباسها، ونحوه، واجتزائه بما يحصل به أدنى التجزئة في ذلك كله، وفيه الندب للاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هذا وغيره" (¬5) وهذا يؤكد عظم ¬
زهده صلى الله عليه وسلم ورغبته فيما عند الله عزّ وجلّ. (¬1). رابعا: من صفات الداعية: التواضع: دل الحديث على أن التواضع من الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ فقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم الإزار الغليظ والكساء المرقع كما في هذا الحديث تواضعا صلى الله عليه وسلم (¬2) وهذا يبين أن التواضع من الأخلاق الكريمة التي يحمد عليها المسلم، ويثاب عليها عند الله عزّ وجلّ، ويدخل الله عزّ وجلّ بها حبه في قلوب الناس (¬3). ولا شك أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في اللباس أجمل الهدي وأحسنه، فقد كان صلى الله عليه وسلم متواضعا في لباسه، ومع ذلك كان يتجمل للوفود، وفي يوم الجمعة، ويحث أمته على إظهار نعمة الله عليهم، فقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الرجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله جميل يحبّ الجمال، الكبر: بطر الحق (¬4) وغمط (¬5) الناس» (¬6) وعن أبي الأحوص عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: «إذا آتاك الله مالا فلير أثر نعمة الله عليك» (¬7) قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " لبس الدني من الثياب يذمّ في موضع ويحمد في موضع: فيذم إذا كان شهرة وخيلاء، ويمدح إذا كان تواضعا واستكانة، كما أن لبس الرفيع من الثياب يذمّ إذا كان تكبّرا وفخرا وخيلاء، ويمدح إذا كان تجملا وإظهارا لنعمة الله " (¬8). ¬
حديث لو كان علي ذاكرا عثمان ذكره يوم جاءه ناس. . .
[حديث لو كان علي ذاكرا عثمان ذكره يوم جاءه ناس. . .] 154 - [3111] حدّثنا قتيبة بن سعيد: حدّثنا سفيان، عن محمّد بن سوقة، عن منذر، عن ابن الحنفيّة (¬1) قال: "لو كان عليّ رضي الله عنه ذاكرا عثمان رضي الله عنه ذكره يوم جاءه ناس فشكوا سعاة عثمان، فقال لي عليّ: اذهب إلى عثمان فأخبره إنها صدقة رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فمر سعاتك يعملون فيها (¬2). فأتيته بها فقال: أغنها عنّا. فأتيت بها عليّا فأخبرته فقال: ضعها حيث أخذتها" (¬3) وفي رواية: "وقال الحميديّ: حدّثنا سفيان: حدّثنا محمّد بن سوقة قال: سمعت منذرا الثّوريّ، عن ابن الحنفيّة قال: أرسلني أبي: خذ هذا الكتاب فاذهب به إلى عثمان، فإنّ فيه أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالصّدقة". (¬4). * شرح غريب الحديث: * " سعاة عثمان " الساعي هو الذي يستعمل على الصدقات ويتولىّ استخراجها من أربابها، وبه سمي عامل الزكاة: الساعي (¬5). * " أغنها عنا " أي اصرفها وكفها، كقوله تعالى {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] (¬6) أي يكفيه ويكفيه (¬7). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: سلامة القلب وحفظ اللسان. 2 - من موضوعات الدعوة: الحض على النصيحة بالحكمة. 3 - من صفات الداعية: التثبت. 4 - من وسائل الدعوة: إرسال الكتب والرسائل. 5 - أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية. 6 - أهمية تربية الأبناء وتدريبهم على الأمور المهمة. 7 - من أصناف المدعوين: أهل العلم والتقوى. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: سلامة القلب وحفظ اللسان: إن سلامة القلب وحفظ اللسان من الصفات الكريمة الجميلة التي يتأكد على كل مسلم الاتصاف بها، وخاصة الدعاة إلى الله عزّ وجلّ، وقد دل قول محمد بن علي ابن الحنفية على ذلك حين قال في هذا الحديث: "لو كان عليّ رضي الله عنه ذاكرا عثمان رضي الله عنه ذكره يوم جاءه ناس فشكوا سعاة عثمان "، والمقصود لو كان عليّ رضي الله عنه ذاكرا عثمان رضي الله عنه بما لا يليق ولا يحسن لذكره يوم جاءه ناس فشكوا سعاة عثمان، ولكن، لسلامة قلبه أرسل إليه بالكتاب الذي فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة (¬1) وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل ومكانة صاحب القلب السالم من الحقد والبغضاء والحسد، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؛ قال: «كلّ مخموم القلب صدوق اللسان"، قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي، النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غلّ، ولا حسد» (¬2). ¬
وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة الرجل الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ثلاث مرات في ثلاثة أيام فتابعه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ ليقتدي به فبقي معه ثلاثة أيام فلم ير عملا زائدا على عمله، ولم يقم من الليل شيئا إلا أنه إذا استيقظ من الليل وتقلب على فراشه ذكر الله عزّ وجلّ وكبره حتى يقوم لصلاة الفجر، ولم يسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الثلاث ليال كاد أن يحتقر عبد الله عمل الرجل، فسأله وقال: ما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "ما هو إلا ما رأيت غير أنى لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا، ولا أحسد أحدا على خير أعطّاه الله إياه"، فقال عبد الله بن عمرو: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق (¬1). وهذا كله يؤكد على كل مسلم أن يسأل الله عزّ وجلّ أن يطهر قلبه من الحقد، والحسد، والبغضاء للمسلمين، وأن يطهر لسانه من قول الزور، ومن كل ما يغضب الله عزّ وجلّ، والله المستعان. ثانيا: من موضوعات الدعوة: الحض على النصيحة بالحكمة: النصيحة لله وكتابه، ورسوله، وأئمة المسلمين، وعامتهم من أعظم القربات، وأهم الواجبات؛ ولهذه الأهمية نصح عليّ رضي الله عنه لعثمان بن عفان رضي الله عنه، كما في هذا الحديث، فأرسل إليه كتاب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ويستفاد من هذا الحديث: بذل النصيحة للأمراء، وكشف أحوال من يقع منه الفساد من أتباعهم، وللإمام التنقيب عن ذلك" (¬2) وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على النصيحة بالحكمة، فعن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة" قلنا: لمن يا رسول الله؛ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم» (¬3). ¬
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنّصح لكلّ مسلم» (¬1). ، والنصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له، وقيل: النصيحة مأخوذة من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه، فشبّهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بما يسده من خلل الثوب، وقيل: إنها مأخوذة من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع، شبّهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط. فينبغي للمسلم أن يلمّ شعث أخيه كما يلم الخياط خرق الثوب ويخلص النصيحة لأخيه صافية كما يصفو العسل (¬2) ومما يؤكد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، وحفظها، وبلغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغلّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم» (¬3) وهذه الثلاث تستصلح بها الثوب فمن تمسك بها سلم قلبه من الحقد والحسد، والخيانة، والشحناء، ولا يبقى فيه شيء من ذلك (¬4). فينبغي لكل مسلم النصح لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، ويحث الناس على ذلك، والله المستعان (¬5). ثالثا: من صفات الداعية: التثبت: لا شك أن التثبت في الأمور وعدم العجلة من الأمور المهمة التي ينبغي العناية بها؛ ولهذا تثبّت عثمان بن عفان رضي الله عنه - كما في هذا الحديث - فلم يعجل على عقاب سعاته ولم يعزلهم في الحال، وهذا يدل على تثبته رضي الله عنه؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "يحتمل أن عثمان رضي الله عنه لم يثبت عنده ما طعن به ¬
على سعاته، أو ثبت عنده وكان التدبير يقتضي تأخير الإنكار، أو كان الذي أنكره من المستحبات لا من الواجبات؛ ولذلك عذره عليّ ولم يذكره بسوء" فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 6/ 215، وقيل: إن عثمان رضي الله عنه لم يرد الصحيفة إلا لأن عنده علما من ذلك، فاستغنى به، ورد الصحيفة بحكمة ورفق (¬1) وكل ما تقدم يوضح للداعية أهمية التثبت والأناة في الأمور؛ لما في ذلك من الصلاح والإصلاح، وسلامة القلوب واجتماع الكلمة (¬2). رابعا: من وسائل الدعوة: إرسال الكتب والرسائل: إن إرسال الكتب والرسائل من الوسائل النافعة التي ينبغي أن تستخدم في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ؛ ولهذه الأهمية أرسل عليّ رضي الله عنه بكتاب فيه الأمر بالزكاة إلى عثمان رضي الله عنه، كما قال محمد ابن الحنفية في هذا الحديث: "أرسلني أبي: خذ هذا الكتاب فاذهب به إلى عثمان؛ فإن فيه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة"، وهذا يؤكد أهمية إرسال الرسائل والكتب؛ للدعوة إلى الله وتبليغ العلم النافع للناس (¬3). خامسا: أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية: الاستدلال بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة أو من أحدهما من أهم الأمور وأعظم الطاعات، وقد دل على ذلك في هذا الحديث قول علي رضي الله عنه لابنه محمد: "خذ هذا الكتاب فاذهب به إلى عثمان؛ فإن فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة". فينبغي للداعية أن يعتني بذكر الأدلة على ما يقول، وعلى ما يدعو الناس إليه؛ لما في ذلك من إيجاد الثقة بما يقول في قلوب المدعوين، وحصول اليقين بصدقه، ومن ثم قبول قوله ودعوته (¬4). ¬
سادسا: أهمية تربية الأبناء وتدريبهم على الأمور المهمة: ظهر في هذا الحديث أهمية التربية والتدريب للأبناء على الأمور المهمة، والدعوة إلى الله عزّ وجلّ، ففيه أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أرسل ابنه محمد ابن الحنفية بكتاب الصدقة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، فيؤخذ من ذلك أنه ينبغي للداعية أن يربي أبناءه ويدربهم على تحمل المسؤولية، والقيام بالأمور المهمة؛ ليتعودوا على ذلك؛ ويشعروا بالثقة بالله ثم بأنفسهم، وحمل مصالح المسلمين، والله عزّ وجلّ المستعان. سابعا: من أصناف المدعوين: أهل العلم والتقوى: المدعوّون أصناف على حسب الأحوال، وقد يكون المدعو من أهل العلم والتقوى؛ لأن المسلم مرآة أخيه، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث من إرسال علي رضي الله عنه إلى عثمان بكتاب الصدقة؛ ليبلغه سعاته؛ لأن فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، وهذا يوضح ويدل على أن كل إنسان يحتاج إلى توجيه إخوانه وتذكيرهم له، فلا يأنف، ولا يرد الحق، بل عليه أن يقبل الحق بدليله (¬1). ¬
باب الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمساكين
6 - باب الدّليل على أنّ الخمس لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمساكين وإيثار النّبي صلى الله عليه وسلم أهل الفاقّة والأرامل، حين سألته فاطمة وشكت إليه الطّحن والرّحى أن يخدمها من السّبي فوكلها إلي الله. [حديث أن فاطمة اشتكت ما تلقى من الرحى مما تطحنه] 155 - [3113] حدّثنا بدل بن المحبّر: أخبرنا شعبة: أخبرني الحكم قال: سمعت ابن أبي ليلى: أخبرنا عليّ (¬1). «أنّ فاطمة (¬2) عليها السلام اشتكت ما تلقى من الرّحى ممّا تطحنه، فبلغها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسبي، فأتته تسأله خادما فلم توافقه، فذكرت لعائشة، فجاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك عائشة له، فأتانا وقد دخلنا مضاجعنا فذهبنا لنقوم فقال: "على مكانكما"، حتّى وجدت برد قدمه على صدري، فقال: "ألا أدلكما على خير ممّا سألتماه؛ إذا أخذتما مضاجعكما فكبّرا الله أربعا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وسبّحا ثلاثا وثلاثين، فإنّ ذلك خير ممّا سألتماه» (¬3). وفي رواية: "فذهبت لأقوم فقال: «على مكانكما» فقعد بيننا حتّى وجدت برد قدميه على صدري. . " (¬4). وفي رواية: «إذا أخذتما مضاجعكما أو أويتما إلى فراشكما فسبّحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبّرا أربعا وثلاثين» (¬5). وفي رواية: "عن عليّ بن أبي طالب: «أنّ فاطمة عليها السلام أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم تسأله خادما فقال: "ألا أخبرك ما هو خير لك منه: تسبّحين عند منامك ثلاثا وثلاثين، ¬
وتحمدين ثلاثا وثلاثين، وتكبرين الله أربعا وثلاثين»، ثمّ قال سفيان إحداهنّ أربع وثلاثون فما تركتها بعد. قيل: ولا ليلة صفّين؛ قال: ولا ليلة صفّين" (¬1). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء. 2 - من صفات الداعية: التواضع. 3 - أهمية أسلوب السؤال والجواب في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ. 4 - من موضوعات الدعوة: تعليم الأذكار المشروعة. 5 - من صفات الداعية: الرحمة. 6 - من أصناف المدعوين: الأهل والأقارب. 7 - أهمية الحرص على المداومة على العمل الصالح. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء: الصبر على الابتلاء والامتحان والاختبار من صفات الداعية؛ ولهذا صبرت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على التعب، ومشقة الرحى والطحن، وهي سيدة النساء بنت سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر القرطبي وابن حجر رحمهما الله أن في هذا الحديث من الفوائد: ما كان عليه السلف الصالح من شظف العيش وقلة الشيء، وشدة الحال، وأن الله حماهم الدنيا مع إمكان ذلك صيانة لهم من تبعاتها، وتلك سنة أكثر الأنبياء، والأولياء (¬2) فإذا كان هؤلاء صبروا فينبغي التأسي بهم والصبر على الابتلاء؛ أسأل الله لي ولجميع المسلمين العافية في الدنيا والآخرة (¬3). ¬
ثانيا: من صفات الداعية: التواضع: دل هذا الحديث على عظم تواضع النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا ذهب بنفسه في وقت النوم والراحة إلى بنته فاطمة وعلي رضي الله عنهما، ليعلمهما ما ينفعهما، فينبغي للداعية أن يكون متواضعا تأسّيا برسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). ثالثا: أهمية أسلوب السؤال والجواب في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ: ظهر في هذا الحديث أهمية أسلوب السؤال والجواب؛ لاستخدام النبي صلى الله عليه وسلم له بقوله لعلي وفاطمة رضي الله عنهما: «ألا أدلكم على خير مما سألتماه" ثم أخبرهما ودلهما على ذلك فقال: "إذا أخذتما مضاجعكما فكبّرا الله أربعا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وسبحا ثلاثا وثلاثين؛ فإن ذلك خير مما سألتماه»، فالنبي صلى الله عليه وسلم سألهما؛ ليشد الانتباه، ثم أجابهما صلى الله عليه وسلم بعد أن أحضرا ذهنيهما، وهذا يؤكد أهمية السؤال والجواب في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ (¬2). رابعا: من موضوعات الدعوة: تعليم الأذكار المشروعة: لاشك أن من أعظم الموضوعات في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ تعليم الناس الأذكار المشروعة؛ لأن بها ترفع الدرجات، ويبارك الله عزّ وجلّ في الأوقات، ويحفظ بها العبد المسلم من الشياطين، ويزيد الله بها في النشاط والقوة على الطاعات والأعمال، وبها تطمئن القلوب كما قال الله عزّ وجلّ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] (¬3). وقد دل هذا الحديث على مشروعية تعليم الأذكار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي وفاطمة رضي الله عنهما: «إذا أخذتما مضاجعكما فكبّرا الله أربعا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وسبحا ثلاثا وثلاثين، فإن ذلك خير مما سألتماه». قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ويستفاد من الحديث أن الذي يلازم ذكر الله يعطى قوة أعظم من القوة التي يعملها له الخادم، أو تسهّل الأمور عليه بحيث يكون تعاطيه أموره أسهل من تعاطي الخادم ¬
لها" (¬1) وقال العلامة الملا علي القاري: "كأن قراءة هذه الأذكار تزيل تعب خدمة النهار والآلام" (¬2) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "وهذا يدل على أن الذكر يعين ويستعان به على كل الأمور" (¬3) وهذا يؤكد تعليم الأذكار المشروعة للمدعوين على حسب الأحوال، والأوراد، والأوقات، والمناسبات التي تشرع فيها الأذكار (¬4). خامسا: من صفات الداعية: الرحمة: إن الرحمة من أعظم الصفات التي ينبغي للداعية أن يتحلىّ بها؛ ولهذا ظهرت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة رضي الله عنها في هذا الحديث، وذلك أنه عندما أخبرته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن فاطمة رضي الله عنها جاءت تسأل خادما، فذهب النبي إلى فاطمة وقت الراحة والنوم رحمة بها وشفقة عليها، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفيه بيان غاية التعطف والشفقة على البنت والصهر" (¬5) وهذا يوضح ويؤكد أهمية الرحمة والشفقة على الأقارب، والمدعوين. (¬6). سادسا: من أصناف المدعوين: الأهل والأقارب: دعوة الأقربين من أهم المهمات وأعظم القربات، وأولى الواجبات؛ ولهذا اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم ابنته فاطمة رضي الله عنها وابن عمه وصهره علي رضي الله عنه هذا الذكر العظيم: "إذا «أخذتما مضاجعكما فكبرا الله أربعا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وسبحا ثلاثا وثلاثين»، فنفعهما الله به، ونفع به المخلصين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "يستفاد من هذا الحديث حمل ¬
الإنسان أهله على ما يحمل عليه نفسه من التقلل والزهد في الدنيا، والقنوع بما أعد الله لأوليائه الصابرين في الآخرة" (¬1). وهذا يؤكد العناية بدعوة الأهل والأقارب وأنهم من أصناف المدعوين الذين ينبغي أن يعتني بهم الداعية عناية خاصة (¬2)؛ لأن الله عزّ وجلّ قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] (¬3). سابعا: أهمية الحرص على المداومة على العمل الصالح: ظهر في هذا الحديث أهمية الحرص على المداومة على العمل الصالح وملازمته في الشدة والرخاء؛ ولهذا قال علي رضي الله عنه: "فما تركتها بعد" أي لم يترك جملة التسبيح والتحميد والتكبير بالعدد المذكور بعد أن سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ولا ليلة صفين؛ قال: "ولا ليلة صفين"، وهذا فيه منقبة لعلي رضي الله عنه؛ فقد داوم على هذا العمل الصالح، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفيه أن من واظب على الذكر عند النوم لم يصبه إعياء؛ لأن فاطمة شكت التعب من العمل فأحالها صلى الله عليه وسلم على ذلك" (¬4) وهذا يؤكد أهمية قيمة المداومة على العمل الصالح. (¬5). ¬
باب قول الله تعالى: {فأن لله خمسه وللرسول}
7 - باب قول الله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] (¬1). يعني للرّسول قسم ذلك قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنمّا أنا قاسم وخازن، والله يعطي». [حديث إنما أنا قاسم وخازن والله يعطي] 156 - [3114] حدّثنا أبو الوليد: حدثنا شعبة، عن سليمان ومنصور وقتادة: أنهم سمعوا سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله (¬2). رضي الله عنه، أنه قال: «ولد لرجل منّا من الأنصار غلام، فأراد أن يسمّيه محمّدا» - قال شعبة في حديث منصور: إنّ الأنصاريّ قال: «حملته على عنقي، فأتيت به النّبيّ صلى الله عليه وسلم». وفي حديث سليمان: «ولد له غلام فأراد أن يسمّيه محمّدا قال: سمّوا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، فإنّي إنّما جعلت قاسما أقسم بينكم». وقال حصين: «بعثت قاسما أقسم بينكم». وقال عمرو: أخبرنا شعبة، عن قتادة: سمعت سالما، عن جابر: «أراد أن يسمّيه القاسم فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "سمّوا باسمي، ولا تكنّوا بكنيتي» (¬3). وفي رواية: «ولد لرجل منّا غلام فسمّاه القاسم، فقالت الأنصار: لا نكنيك أبا القاسم ولا ننعمك عينا. فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ولد لي غلام فسمّيته القاسم، فقالت الأنصار: لا نكنيك أبا القاسم ولا ننعمك عينا. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: " أحسنت الأنصار، سمّوا باسمي ولا تكنّوا بكنيتي، فإنّما أنا قاسم» (¬4). وفي رواية: «ولد لرجل منّا غلام فسماه القاسم، فقلنا: لا نكنيك أبا القاسم ولا كرامة، فأخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: "سمّ ابنك عبد الرّحمن» (¬5). ¬
حديث إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت
وفي رواية: «سمّوا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي، فإنّما أنا قاسم أقسم بينكم» (¬1). [حديث إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت] 157 - [3117] حدّثنا محمّد بن سنان: حدّثنا فليح: حدّثنا هلال، عن عبد الرّحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة (¬2). رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنّما أنا قاسم أضع حيث أمرت». * شرح غريب الحديثين: * "لا ننعمك عينا" أي لا نقول لك: نعمت عينك، بمعنى قرّت، ولا نقر عينك بذلك، ولا نرضيك به، ولا نساعدك عليه (¬3). * " إنما أنا قاسم " إشارة إلى أن هذه الكنية تصدق على النبي صلى الله عليه وسلم وحده؛ لأنه يقسم مال الله بين المسلمين كما أمره الله عزّ وجلّ، وغيره ليس بهذه المرتبة (¬4). * "ولا كرامة" أي لا نكرمك بذلك (¬5). * الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: الحض على احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيره. 2 - عظم محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم. 3 - من موضوعات الدعوة: الحث على اختيار التسمية بالأسماء الحسنة. 4 - من أساليب الدعوة: تطييب قلوب المدعوين وربطها بخالقها. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: الحض على احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيره: إن هذا الحديث يدل على أن الحض على احترام النبي صلى الله عليه وسلم، وتوقيره من ¬
الموضوعات التي ينبغي أن يحض الناس عليها؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي»، وقد ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «نادى رجل رجلا بالبقيع: يا أبا القاسم، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني لم أعنك، إنما دعوت فلانا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي» (¬1). * قال الإمام القرطبي رحمه الله عن هذا الحديث: "صدر هذا القول عن النبي صلى الله عليه وسلم مرات، فعلى حديث أنس إنما قاله حين نادى رجل: يا أبا القاسم، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل لم أعنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك القول، وهذه حالة تنافي الاحترام، والتعزير المأمور به، فلما كانت الكناية بأبي القاسم تؤدي إلى ذلك نهى عنها" (¬2). ، وقد أمر الله عزّ وجلّ بالتزام الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واحترامه وتوقيره فقال: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] (¬3). ، وقال عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1] (¬4). ، وقال عزّ وجلّ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] (¬5). ، وحرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وتوقيره، لازم كحال حياته، وذلك عند ذكر حديثه، وسنته، وسماع اسمه، وسيرته، وتعلم سنته، والدعوة إليها ونصرتها (¬6). * ولاشك أنه ينبغي للداعية أن يحض الناس على التزام الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان الصادق به وبما جاء به، وطاعته، واتباعه واتخاذه قدوة في جميع الأحوال إلا ما كان خاصا به، ومحبته أكثر من النفس، والأهل والولد، والوالد، والناس أجمعين، والصلاة عليه عند ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم، ووجوب التحاكم إليه والرضى بحكمه، وإنزاله مكانته التي أنزله الله إياها صلى الله عليه وسلم (¬7). ، وقد كان النهي عن الجمع بين اسمه وكنيته في ¬
حياته أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فقال الإمام القرطبي رحمه الله: "وذهب الجمهور من السلف والخلف وفقهاء الأمصار إلى جواز كل ذلك، فله أن يجمع بين اسمه وكنيته، وله أن يسمي بما شاء من الاسم والكنية" (¬1). وقد ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «قلت: يا رسول الله، إن ولد لي من بعدك ولد أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؛ قال: "نعم» (¬2). ، وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "نهى عليه الصلاة والسلام عن التكني بكنيته وأذن في التسمي باسمه، ثم بعد أن مات زالت العلة فجاز التكني بكنيته بعد موته كما جاز التسمي باسمه في حياته وبعد موته، والجمع بين اسمه وكنيته بعد موته" (¬3). * فينبغي للداعية أن يبين للناس حقوق النبي صلى الله عليه وسلم، ويحضهم على احترامه وتوقيره ونصرته صلى الله عليه وسلم. ثانيا: عظم محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: لاشك أن الصحابة يحبون النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أنفسهم، وأولادهم، ووالديهم والناس أجمعين، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث؛ لقول الأنصار: «ولد لرجل منا غلام فسماه القاسم فقلنا: لا نكنيك أبا القاسم ولا كرامة»، وفي لفظ: «لا نكنيك أبا القاسم ولا ننعمك عينا». . "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحسنت الأنصار سموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي فإنما أنا قاسم»، وهذا يؤكد محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي التأسي بهم رضي الله عنهم. (¬4). ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحث على اختيار التسمية بالأسماء الحسنة: دل هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة حث الناس على اختيار الأسماء الطيبة الحسنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث لرجل من الأنصار: ¬
" سمّ ابنك عبد الرحمن "، وهذا فيه حث وتأكيد على التسمية بهذا الاسم؛ وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن» (¬1). ، وهذا يؤكد للداعية أهمية حض الناس على تسمية أولادهم بالأسماء الطيبة الحسنة، والله المستعان (¬2). رابعا: من أساليب الدعوة: تطييب قلوب المدعوين وربطها بخالقها: إن في هذين الحديثين دلالة واضحة على أن من أساليب الدعوة إلى الله عزّ وجلّ تطييب قلوب المدعوين وربطها بخالقها، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا قاسم أقسم بينكم»، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «ما أعطيكم ولا أمنعكم إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت»، أي لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا إلا بأمر الله عزّ وجلّ (¬3). قال الإمام القرطبي رحمه الله: " فإنما أنا قاسم " "يعني أنه هو الذي يبين قسم الأموال في المواريث، والغنائم، والزكوات، والفيء وغير ذلك من المقادير، فيبلغ عن الله حكمه، ويبيّن قسمه، وليس ذلك لأحد إلا له" (¬4). ، وهذا فيه تطييب لقلوب المدعوين وربط لها بخالقها، ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي». . . " (¬5). * قال ابن بطال رحمه الله: "معناه أني لم أستأثر من مال الله تعالى شيئا دونكم، وقاله تطييبا لقلوبهم حين فاضل في العطاء، فقال: الله هو الذي يعطيكم لا أنا، وإنما أنا قاسم فمن قسمت له شيئا فذلك نصيبه قليلا كان أو كثيرا" (¬6). ، وهذا يؤكد أهمية تطييب قلوب المدعوين بما يدخل السرور عليهم ويربط قلوبهم بربهم عزّ وجلّ. ¬
حديث إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق
[حديث إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق] 158 - [3118] حدّثنا عبد الله بن يزيد: حدّثنا سعيد بن أبي أيّوب قال: حدّثني أبو الأسود، عن ابن أبي عيّاش - واسمه نعمان -، عن خولة الأنصاريّة (¬1). رضي الله عنها قالت: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ رجالا يتخوّضون في مال الله بغير حقّ، فلهم النّار يوم القيامة». * شرح غريب الحديث: * " يتخوضون في مال الله " أي يتصرفون فيه ويتقحمون في استحلاله، وأصل الخوض: المشي في الماء وتحريكه، ثم استعمل في التلبس في الأمر والتصرف فيه: والمقصود بالتخوض في المال: التصرف فيه بما لا يرضي الله عزّ وجلّ، وقيل: هو التخليط في تحصيله من غير وجهه كيف أمكن. (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: التحذير من صرف الأموال في الباطل. 2 - من أساليب الدعوة: الترهيب. 3 - من أساليب الدعوة: عدم التصريح بذكر اسم المخطئ. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: التحذير من صرف الأموال في الباطل: إن التحذير من صرف الأموال في الباطل من موضوعات الدعوة؛ ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن التصرف في المال بما لا يرضي الله عزّ وجلّ، وقيل عن التخليط في تحصيله من غير وجهه كيف أمكن (¬3). ، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة»، ويدخل في ذلك ¬
المال الذي جعل في مصالح المسلمين فقسم بالباطل بغير عدل، أو بغير إذن الإمام، لأن ما في بيت مال المسلمين: من الزكاة، والخراج، والجزية، والغنيمة، وغير ذلك يجب العناية به عناية فائقة كما يرضي الله عزّ وجلّ (¬1). قال الحافظ ابن حجر رضي الله عنه: " من مال الله " "مظهر أقيم مقام المضمر إشعارا بأنه لا ينبغي التخوض في مال الله ورسوله، والتصرف فيه بمجرد التشهّي" (¬2). ، وذكر رحمه الله أن في هذا الحديث من الفوائد: "أن من أخذ من الغنائم شيئا بغير قسم الإمام كان عاصيا، وفيه ردع الولاة أن يأخذوا من المال شيئا بغير حقه، أو يمنعوه من أهله" (¬3). ، وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "يجب أن تصرف الأموال في الطرق الشرعية، ومن خالف ذلك فهو متوعّد بالنار" (¬4). وقد نهى الله عزّ وجلّ عن أكل الأموال بالباطل فقال: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] (¬5). وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه» (¬6). ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا: فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، ولا تفرقوا، ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» (¬7). ، وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عزّ وجلّ حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات. وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال ¬
وإضاعة المال» (¬1). ، وهذا يؤكد على الداعية العناية بتحذير الناس عن إضاعة المال وعن صرفه في الباطل، وعن اكتسابه من غير حله والله المستعان. ثانيا: من أساليب الدعوة: الترهيب: إن الترهيب من الأساليب المهمة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها في دعوته إلى الله عزّ وجلّ؛ ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بأسلوب الترهيب فقال: «إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق، لهم النار يوم القيامة»، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله على قوله صلى الله عليه وسلم: «فلهم النار يوم القيامة»: "حكم مرتب على الوصف المناسب، وهو الخوض في مال الله، ففيه إشعار بالغلبة" (¬2). ، وهذا يؤكد استخدام هذا الأسلوب؛ للتنفير من صرف الأموال في غير حق، ومن اكتسابها من غير الطرق الشرعية (¬3). ثالثا: من أساليب الدعوة: عدم التصريح بذكر اسم المخطئ: عدم التصريح بذكر اسم المخطئ وعدم مواجهة الناس بالعتاب من أساليب الدعوة التي ينبغي للداعية العناية بها في دعوته إلى الله عزّ وجلّ؛ ولهذا والله أعلم لم يصرح النبي صلى الله عليه وسلم بذكر الرجال الذين يتخوضون في مال الله؛ بل قال: «إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة»، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم هذا الأسلوب كثيرا، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه، أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟». . " (¬4). ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم» (¬5). ، وغير ذلك كثير في أساليبه صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ (¬6). ¬
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم أحلت لكم الغنائم
8 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحلّت لكم الغنائم» وقول الله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] (¬1). وهي للعامّة حتّى يبيّنه الرّسول صلى الله عليه وسلم. [حديث أحلت لكم الغنائم] 159 - [3121] حدّثنا إسحاق سمع جريرا، عن عبد الملك، عن جابر بن سمرة (¬2). رضي الله عنهما قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والّذي نفسي بيده لتنفقنّ كنوزهما في سبيل الله» (¬3). * شرح غريب الحديث: * " كسرى " لقب لكل من ملك الفرس. (¬4). * " قيصر " لقب لكل من ملك الروم (¬5). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من أساليب الدعوة: البشارة. 2 - من أساليب الدعوة التأكيد بالقسم. 3 - من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: تحقق وقوع ما أخبر به. (¬6). ¬
حديث غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة
[حديث غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة] 160 - [3124] حدّثنا محمّد بن العلاء: حدّثنا ابن المبارك، عن معمر، عن همّام بن منبّه، عن أبي هريرة (¬1). رضي الله عنه قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولمّا يبن بها، ولا أحد بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر ولادها، فغزا. فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك، فقال للشّمس: إنّك مأمورة وأنا مأمور، اللهمّ احبسها علينا، فحبست حتّى فتح الله عليه، فجمع الغنائم، فجاءت - يعني النّار - لتأكلها فلم تطعمها، فقال: إنّ فيكم غلولا، فليبايعني من كلّ قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، فليبايعني قبيلتك، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذّهب فوضعوها، فجاءت النّار فأكلتها. ثمّ أحلّ الله لنا الغنائم، رأى ضعفنا وعجزنا فأحلّها لنا». [(¬2). * شرح غريب الحديث: * " ملك بضع امرأة " البضع يطلق على عقد النكاح والجماع معا، وعلى الفرج (¬3). * " خلفات " الخلفة - بفتح الفاء وكسر اللام - الحامل من النوق، وتجمع على خلفات، وخلائف (¬4). * " الغلول " الغلول في المغنم: أن يخفى من الغنيمة شيئا ولا يرد إلى القسمة؛ لأن ذلك من حقوق من شهد الغنيمة، وهو في معنى الخيانة؛ لأن كل من خان شيئا في خفاء فقد غل، وسمي ذلك غلولا؛ لأن الأيدي مغلولة عنه: أي ممنوعة منه (¬5). ¬
* " يبني بها " يقال: بنى الرجل بأهله: إذا دخل بها، والأصل فيه أن الرجل كان إذا تزوج امرأة بنى عليها قبة (¬1). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية تفريغ قلب الداعية من المشاغل الدنيوية. 2 - من أساليب الدعوة: القصص. 3 - من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأمته: حل الغنائم. 4 - من معجزات النبوة: حبس الشمس واستجابة الدعاء. 5 - من صفات الداعية: التواضع. 6 - من أساليب الدعوة: التشبيه. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: أهمية تفريغ قلب الداعية من المشاغل الدنيوية: من الأمور المهمة التي ينبغي أن يعتني بها الداعية تفريغ القلب من مشاغل الدنيا أثناء الدعوة والجهاد؛ ولهذا قال هذا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة ولما يبن بها، ولا أحد بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر ولادها»، وهذا يؤكد أهمية اختمار الرجل الحازم الذي قد فرّغ قلبه للأمور المهمة؛ لأن من كان قلبه معلقا بشيء من أمور الدنيا؛ فإنه ينقص من جدّه واجتهاده وحزمه وعزيمته في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ أو الجهاد؛ قال الإمام الكرماني رحمه الله: "وفيه أن الأمور المهمة لا ينبغي أن تفوض إلا إلى أولي الحزم وأولي الفراغ؛ لأن تعلق القلب بغيرها يفوت كمال بذل القاضي وسعه" (¬2). وقد أوضح الإمام النووي في فوائد هذا الحديث أهمية التفرغ للأمور المهمة فقال رحمه الله: "وفي هذا الحديث أن الأمور ¬
المهمة ينبغي أن لا تفوّض إلا إلى أولي الحزم وفراغ البال لها، ولا تفوّض إلى متعلق القلب بغيرها؛ لأن ذلك يضعف عزمه، ويفوت كمال بذل وسعه فيه" (¬1). ، وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "المقصود أن الغازي يفرّغ قلبه، فإذا دخل بأهله قبل الغزو كان ذلك أفرغ لقلبه، فيكون قلبه بعد ذلك معلقا بالجهاد" (¬2). ثانيا: من أساليب الدعوة: القصص: القصص الحكيم من الكتاب أو من السنة من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ؛ لما فيه من شحذ ذهن المدعو؛ ولهذا استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، ففي هذا الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها»، وهذا يوضح للداعية أهمية استخدام أسلوب القصص في دعوته إلى الله عزّ وجلّ (¬3). ثالثا: من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأمته: حل الغنائم: ظهر في هذا الحديث أن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأمته تفضل الله عزّ وجلّ عليهم بأن أحل لهم الغنائم، أما الأنبياء قبله فكانت الغنائم تجمع ثم يرسل الله عزّ وجلّ عليها نارا فتحرقها، ويكون ذلك علامة لقبولها، وعدم الغلول فيها (¬4). ؛ ولهذا بيّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الغنائم خاصة بأمته فقط: «ثم أحل الله لنا الغنائم رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا» (¬5). رابعا: من معجزات النبوة: حبس الشمس واستجابة الدعاء: دل هذا الحديث على أن من معجزات النبوة حبس الشمس واستجابة الدعاء؛ ¬
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم يحكي هذا النبي الغازي في الحديث: «فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا فحبست حتى فتح الله عليه»، وقد ذكر الإمام النووي، والحافظ الهيثمي، والحافظ ابن حجر رحمهم الله آثارا تدل على أن الشمس حبست لنبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم (¬1). ، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الشمس فتأخرت ساعة من نهار» (¬2) "، وهذا كله يؤكد أن حبس الشمس واستجابة الدعاء من معجزات النبوة التي تدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأنه مرسل من عند الله عزّ وجلّ. خامسا: من صفات الداعية: التواضع: لا ريب أن التواضع من الصفات الجميلة الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها الداعية إلى الله عزّ وجلّ، ومن ذلك ما ثبت في هذا الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ". . . «ثم أحل الله لنا الغنائم رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا»، وهذا يؤكد عظم تواضع النبي صلى الله عليه وسلم لله عزّ وجلّ حيث قال: "رأى ضعفنا وعجزنا"، فينبغي للداعية إلى الله أن يكون كذلك (¬3). سادسا: من أساليب الدعوة: التشبيه: إن التشبيه أسلوب نافع من أساليب الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، وقد ظهر هذا الأسلوب في هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: «فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعوها، فجاءت النار فأكلتها»، وهذا يؤكد أهمية استخدام هذا الأسلوب عند الحاجة إليه (¬4). ¬
باب بركة الغازي في ماله حيا وميتا، مع النبي صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر
13 - باب بركة الغازي في ماله حيّا وميتا، مع النّبي صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر [حديث لما وقف الزبير يوم الجمل دعا ابنه عبد الله] 161 - [3129] حدّثني إسحاق بن إبراهيم قال: قلت لأبي أسامة: أحدّثكم هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزّبير؟ (¬1) قال: "لمّا وقف الزّبير (¬2) يوم الجمل دعاني فقمت إلى جنبه فقال: يا بنيّ إنّه لا يقتل اليوم إلّا ظالم أو مظلوم، وإنّي لا أراني إلّا سأقتل اليوم مظلوما، وإنّ من أكبر همّي لديني، أفترى يبقي ديننا من مالنا شيئا؟ فقال: يا بنيّ، بع ما لنا، فاقض ديني. وأوصى بالثلث، وثلثه لبنيه - يعني بني عبد الله بن الزّبير، يقول: ثلث الثلث - فإن فضل من مالنا بعد قضاء الدّين فثلثه لولدك. قال هشام: وكان بعض ولد عبد الله قد وازى بعض بني الزّبير - خبيب وعبّاد - وله يومئذ تسعة بنين وبنات. قال عبد الله فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بنيّ إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه مولاي. قال: فوالله ما دريت ما أراد حتّى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله. قال: فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلّا قلت: يا مولى الزّبير اقض عنه دينه، فيقضيه. فقتل الزّبير رضي الله عنه ولم يدع دينارا ولا درهما، إلّا أرضين منها الغابة، وإحدى عشرة دارا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارا بالكوفة، ودارا بمصر. قال: وإنّما كان دينه الّذي عليه أنّ الرّجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إيّاه، فيقول الزّبير: لا، ولكنّه سلف، فإنّي أخشى عليه الضّيعة. وما ولي إمارة قطّ ولا جباية خراج، ولا شيئا إلّا أن يكون في غزوة مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو مع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم قال عبد الله بن الزّبير: فحسبت ما عليه من الدّين فوجدتة ألفي ألف ومائتي ألف قال: فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزّبير فقال: يا ابن أخي: كم على أخي من الدّين؛ فكتمه فقال مائة ألف. فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع لهذه. فقال له عبد الله: أفرأيتك إن كانت ألفي ألف ومائتي ¬
ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي. قال: وكان الزّبير اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف. فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف. ثمّ قام فقال: من كان له على الزّبير حقّ فليوافنا بالغابة. فأتاه عبد الله بن جعفر - وكان له على الزّبير أربعمائة ألف - فقال لعبد الله: إن شئتم تركتها لكم. قال عبد الله: لا. قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخّرون إن أخّرتم. فقال عبد الله: لا. قال: قال: فاقطعوا لي قطعة. فقال عبد الله: لك من هاهنا إلى هاهنا. قال فباع منها فقضى دينه فأوفاه. وبقي منها أربعة أسهم ونصف، فقدم على معاوية - وعنده عمرو بن عثمان والمنذر بن الزّبير، وابن زمعة - فقال له معاوية: كم قوّمت الغابة: قال: كلّ سهم مائة ألف. قال: كم بقي؟ قال: أربعة أسهم ونصف. فقال المنذر بن الزّبير: قد أخذت سهما بمائة ألف. قال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهما بمائة ألف. وقال ابن زمعة: قد أخذت سهما بمائة ألف. فقال معاوية كم بقي؛ فقال: سهم ونصف. قال: أخذته بخمسين ومائة ألف. قال: وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستّمائة ألف. فلمّا فرغ ابن الزّبير من قضاء دينه قال بنو الزّبير: اقسم بيننا ميراثنا. قال: لا والله لا أقسم بينكم حتّى أنادي بالموسم أربع سنين. ألا من كان له على الزّبير دين فليأتنا فلنقضه. قال: فجعل كلّ سنة ينادي بالموسم. فلمّا قضى أربع سنين قسم بينهم. قال: فكان للزّبير أربع نسوة، ورفع الثّلث فأصاب كلّ امرأة ألف ألف ومائتا ألف". فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف. * شرح غريب الحديث: * "الغابة " الغابة قرب المدينة من عواليها، والغابة الأجمة ذات الشجر المتكاثف، وسمّيت غابة؛ لأنها تغيّب ما فيها، وجمعها غابات، وغابة المدينة من ناحية الشام، كان فيها أموال لأهل المدينة وقيل: إن الغابة بريد من المدينة
على طريق الشام، وقد صنع منبر النبي صلى الله عليه وسلم من طرفاء الغابة (¬1). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: الاستعداد للقاء الله عزّ وجلّ. 2 - من صفات الداعية: الثقة بالله عزّ وجلّ. 3 - أهمية الالتجاء إلى الله عزّ وجلّ بالدعاء. 4 - أهمية الحرص على أداء الأمانة. 5 - من صفات الداعية: الجود والكرم. 6 - من صفات الداعية: العفة وقوة النفس. 7 - أهمية النية الصالحة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الاستعداد للقاء الله عزّ وجلّ: الاستعداد للقاء الله عزّ وجلّ من أهم المهمات وأعظم الواجبات، ومما ينبغي لكل مسلم أن يعتني به وخاصة الداعية إلى الله عزّ وجلّ، وقد دل هذا الحديث على هذه الصفة العظيمة؛ لقول الزبير بن العوام رضي الله عنه لابنه عبد الله: يا بني إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل مظلوما، وإن من أكبر همي لديني، أفترى يبقي ديننا من مالنا شيئا؟ يا بني بع ما لنا فاقض ديني، وأوصى بالثلث". وهذا يؤكد ويبين للداعية أهمية الاستعداد للقاء الله عزّ وجلّ، فيقوم بجميع الواجبات، ويبتعد عن جميع المحرمات، ويوصي بما يريد أن يوصي به من دين وغيره، والله المستعان (¬2). ثانيا: من صفات الداعية: الثقة بالله عزّ وجلّ: إن من الصفات العظيمة المهمة التي ينبغي أن يتحلى بها كل مسلم وخاصة ¬
الداعية إلى الله عزّ وجلّ: الثقة بالله عزّ وجلّ "ولهذه الثقة قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه عن أبيه: "فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بني إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه مولاي، قال عبد الله: فوالله ما دريت مما أراد حتى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله، قال: فوالله ما وقعت في كربة إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفيه منزلة الزبير عند نفسه، وأنه في تلك الحالة كان في غاية الوثوق بالله والإقبال عليه والرضا بحكمه والاستعانة به" (¬1) وهذا دليل على ثقة الزبير العظيمة بالله عزّ وجلّ، وقد كان سبحانه عند ظنه به؛ قال صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني» (¬2) وهذا يؤكد على الداعية أن يثق بربه عزّ وجلّ ويحسن الظن به. ثالثا: أهمية الالتجاء إلى الله عزّ وجلّ بالدعاء: إن الالتجاء إلى الله عزّ وجلّ من أعظم الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها؛ لأن الله عزّ وجلّ يجيب دعاء السائلين ويكشف كرب المكروبين؛ ولهذا التجأ عبد الله بن الزبير إلى الله فأجابه في قضاء دين والده، قال رضي الله عنه: "فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه، فيقضيه"، قال الله عزّ وجلّ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] (¬3) وهذا يؤكد أهمية الالتجاء إلى الله عزّ وجلّ عند الشدائد والكرب (¬4). رابعا: أهمية الحرص على أداء الأمانة: ظهر في هذا الحديث الحرص على أداء الأمانة؛ لأن الزبير بن العوام رضي الله عنه إنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: "لا، ولكنه سلف، فإنّي أخشى عليه الضيعة"، وهذا يبين عظم أمانته رضي الله عنه؛ ¬
لأنه يريد أن يضمن للناس أموالهم لو تلفت بدون تفريط منه. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفيه مبالغة الزبير في الإحسان لأصدقائه؛ لأنه رضي الله عنه يحفظ لهم ودائعهم في غيبتهم، ويقوم بوصاياهم على أولادهم بعد موتهم، ولم يكتف بذلك حتى احتاط لأموالهم وديعة أو وصية بأن يتوصل إلى تصييرها في ذمته مع عدم احتياجه لها غالبا، وإنما ينقلها من اليد للذمة مبالغة في حفظها لهم" (¬1) فينبغي للداعية أن يكون حريصا على أداء الأمانة وحفظها (¬2). خامسا: من صفات الداعية: الجود والكرم: الكرم والجود من الصفات الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها المسلم، وخاصة الداعية إلى الله عزّ وجلّ، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث من وجهين: الأول: كرم حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه في دين والده: "فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف أي مليونان ومائتا ألف، فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير فقال حكيم: يا ابن أخي كم على أخي من الدين؟ فكتمه فقال: مائة ألف، فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع لهذه، فقال له عبد الله: أفرأيت إن كانت ألفي ألف ومائتي ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي. وهذا يدل على كرم حكيم رضي الله عنه. الثاني: كرم عبد الله بن جعفر رضي الله عنه؛ فإنه كان يطلب الزبير أربعمائة ألف فقال لعبد الله بن الزبير: إن شئتم تركتها لكم، فامتنع عبد الله بن الزبير من ذلك وأعطاه من الغابة. وهذا يدل على كرم عبد الله بن جعفر رضي الله عنه؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفيه بيان جود ابن جعفر لسماحته بهذا المال العظيم" (¬3) وهذا يبين للداعية أهمية الكرم والجود وأثره في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ (¬4). ¬
سادسا: من صفات الداعية: العفة وقوة النفس: مما يدل على قوة النفس وعفتها ما فعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنه مع حكيم ابن حزام وعبد الله بن جعفر؛ فإن حكيم بن حزام رضي الله عنه طلب عبد الله بن الزبير أن يعينه على قضاء دين الزبير فامتنع ابن الزبير من ذلك، وسأله عبد الله بن جعفر رضي الله عنه أن يضع الدين عن الزبير - وكان أربعمائة ألف - فامتنع عبد الله بن الزبير عن ذلك، وهذا يدل على عفة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وقوة نفسه، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفيه قوة نفس عبد الله بن الزبير لعدم قبوله ما سأله حكيم بن حزام من المعاونة، وما سأله عبد الله بن جعفر من المحاللة" (¬1). سابعا: أهمية النية الصالحة: إن النية الصالحة من الصفات العظيمة التي يفوز صاحبها بسعادة الدنيا والآخرة، وهي من أسباب البركة، ومما يدل على ذلك ما وقع في هذا الحديث في قصة دين الزبير بن العوام، وأن دينه بلغ ألفي ألف ومائتي ألف، ولم يكن له في الظاهر من المال إلا الغابة اشتراها بمائة وسبعين ألفا، ثم باعها ابنه عبد الله بأموال طائلة عظيمة فاجتمعت تركته فكان جميع المال خمسين ألف ألف ومائتى ألف: [أي خمسين مليونا ومائتي ألف] قضى منها الدين وأخرجت الوصية ووزّع الباقي على الورثة، وهذا يدل على أن الله عزّ وجلّ بارك في مال الزبير؛ لنيته الصالحة رضي الله عنه. وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول في فوائد هذا الحديث إنه: "بركة من الله؛ لحسن النية، فبارك الله له، وهذا من ثمرات النية الصالحة" (¬2) وهذا يؤكد أهمية النية الصالحة وأثرها وثمراتها، والله المستعان. (¬3). ¬
باب إذا بعث الإمام رسولا في حاجة أو أمره بالمقام هل يسهم له
14 - باب إذا بعث الإمام رسولا في حاجة، أو أمره بالمقام، هل يسهم له؟ [حديث قوله صلى الله عليه وسلم لعثمان إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه] 162 - [3130] حدّثنا موسى: حدّثنا أبو عوانة: حدّثنا عثمان بن موهب، عن ابن عمر (¬1) رضي الله عنه قال: إنّما تغيّب عثمان عن بدر فإنّه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ لك أجر رجل ممّن شهد بدرا وسهمه» (¬2). وفي رواية: "كنّا في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثمّ عمر، ثم عثمان، ثمّ نترك أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم" (¬3). وفي رواية: عن عبيدة قال: "جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان، فذكر عن محاسن عمله، قال: لعلّ ذاك يسوءك؟ قال: نعم. قال: فأرغم الله بأنفك. ثمّ سأله عن عليّ، فذكر محاسن عمله قال: هو ذاك، بيته أوسط بيوت النّبيّ صلى الله عليه وسلم. ثمّ قال: لعلّ ذاك يسوءك؛ قال: أجل. قال: فأرغم الله بأنفك، انطلق فاجهد عليّ جهدك" (¬4). وفي رواية: عن عثمان بن موهب قال: "جاء رجل حجّ البيت فرأى قوما جلوسا فقال: من هؤلاء القعود؛ قال: هؤلاء قريش، قال: من الشّيخ؟ قالوا: ابن عمر فأتاه فقال: إنّي سائلك عن شيء أتحدّثني؟ قال: أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أنّ عثمان بن عفّان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم، قال: ¬
فتعلمه تغيّب عن بدر فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنه تخلّف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال فكبّر، قال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبيّن لك عمّا سألتني عنه أمّا فراره يوم أحد فأشهد أنّ الله عفا عنه، وأمّا تغيّبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ لك أجر رجل ممّن شهد بدرا وسهمه». وأمّا تغيّبه عن بيعة الرّضوان فإنّه لو كان أحد أعز ببطن مكّة من عثمان بن عفّان لبعثه مكانه، فبعث عثمان وكانت (¬1) بيعة الرّضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكّة فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: «هذه يد عثمان»، فضرب بها على يده فقال: "هذه لعثمان " اذهب بهذا الآن معك" (¬2). وفي رواية: عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، أتاه رجلان في فتنة ابن الزّبير فقالا: إنّ النّاس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أنّ الله حرّم دم أخي فقالا: ألم يقل الله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] (¬3) فقال: قاتلنا حتّى لم تكن فتنة، وكان الدّين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتّى تكون فتنة ويكون الدّين لغير الله (¬4). وفي رواية: عن بكير عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رجلا جاءه فقال: يا أبا عبد الرّحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] إلى آخر الآية، فما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟ فقال: يا ابن أخي أغترّ بهذه الآية ولا أقاتل أحبّ إليّ من أن أغترّ بهذه الآية الّتي يقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] (¬5) إلى آخرها قال: فإنّ الله يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] قال ابن عمر: قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ¬
كان الإسلام قليلا، فكان الرّجل يفتن في دينه إمّا يقتلوه، وإمّا يوثقوه، حتّى كثر الإسلام فلم تكن فتنة فلمّا رأى أنه لا يوافقه فيما يريد قال: فما قولك في عليّ وعثمان؟ قال " ابن عمر: ما قولي في عليّ وعثمان؟ أمّا عثمان فكان الله قد عفا عنه فكرهتم أن تعفوا عنه، وأمّا عليّ فابن عمّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وختنه، وأشار بيده وهذه ابنته أو بنته حيث ترون (¬1). وفي رواية: عن سعيد بن جبير قال: خرج علينا أو إلينا ابن عمر فقال رجل: كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال: وهل تدري ما الفتنة؟ كان محمّد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين وكان الدّخول عليهم فتنة، وليس كقتالكم على الملك (¬2). وفي رواية: قال: خرج علينا عبد الله بن عمر فرجونا أن يحدّثنا حديثا حسنا قال: فبادرنا إليه رجل فقال: يا أبا عبد الرّحمن حدّثنا عن القتال في الفتنة والله يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] فقال: هل تدري ما الفتنة ثكلتك أمّك؟ إنّما كان محمّد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين، وكان الدّخول في دينهم فتنة، وليس كقتالكم على الملك (¬3). * شرح غريب الحديث: * " فأرغم الله أنفك" أي ألصقه بالرّغام وهو التراب، هذا هو الأصل، ثم استعمل في الذّلّ والعجز عن الانتصاف والانقياد على كره (¬4). * "وختنه" أي زوج ابنته، والأختان من قبل المرأة، والإحماء من قبل الرجل، والصهر يجمعهما، وخاتن الرجل الرجل إذا تزوج إليه (¬5). * "ثكلتك أمك" أي فقدتك، والثكل: فقد الولد، ويجوز أن تكون من ¬
الألفاظ التي تجري على ألسنة العرب ولا يراد بها الدعاء، كقولهم تربت يداك، وقاتلك الله (¬1). * "اجهد عليّ جهدك" أي ابلغ غايتك في هذا الأمر واعمل في حقي ما تستطيع وتقدر عليه (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية النية الصالحة. 2 - من صفات الداعية: العدل. 3 - من وظائف الداعية الدفاع عن أئمة الهدى والتماس العذر لهم. 4 - من أساليب الدعوة: استخدام الشدة مع بعض المدعوين. 5 - أهمية الكف عما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم. 6 - من أساليب الدعوة: الجدل. 7 - أهمية اعتزال الفتن المضلة. 8 - أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: أهمية النية الصالحة: النية الصالحة من أهم الأعمال القلبية التي ينبغي أن يتصف بها كل مسلم؛ لما في ذلك من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة (¬3) وفي هذا الحديث دلالة على النية الصالحة، وأنه يكتب للعبد الصالح ما نوى ولم يقدر على عمله؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن عفان حينما لم يشهد بدرا: «إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه»؛ لأنه رضي الله عنه كان مشغولا بتمريض بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت ¬
زوجته، ولو لم يشغل بذلك لكان من المجاهدين فأعطاه الله عزّ وجلّ ما نوى (¬1). ثانيا: من صفات الداعية: العدل: العدل من أهم الصفات الحميدة التي ينبغي لكل مسلم أن يتصف بها وخاصة الداعية إلى الله عزّ وجلّ، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث؛ لقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه: "كنا لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان " ولم يقدم أباه على أبي بكر حمية، ولكن حمله إيمانه على الصدق، وهذا هو العدل، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وأنهم يرتبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على حسب فضلهم وسبقهم للإسلام وجهادهم رضي الله عنهم، فأفضل الصحابة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله" (¬2) وقد استقر إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ترتيب هؤلاء الأربعة في الفضل وفي الخلافة، وهذا هو العدل الذي أخذ به أهل السنة والجماعة (¬3) أهل الصراط المستقيم (¬4) وهذا يؤكد أهمية العدل، وأن الداعية ينبغي له أن يبتعد عن طرق أهل البدع (¬5) ويلتزم بصفة العدل في جميع أحواله (¬6). ثالثا: من وظائف الداعية: الدفاع عن أئمة الهدى والتماس العذر لهم: لاشك أن من الأعمال المباركة: الدفاع عن أئمة الهدى ومصابيح الدجى من الصحابة، والتابعين، ومن سلك طريقهم من أهل العلم والإيمان؛ ولهذا دافع عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن علي بن أبي طالب وعن عثمان رضي الله عنهما، فقال لهذا الرجل الضال الذي يظهر عداوته لعلي رضي الله عنه: "فأرغم الله بأنفك انطلق ¬
فاجهد علي جهدك! "، وقال رضي الله عنه في الدفاع عن عثمان حين سأل هذا الضال: "أما عثمان فكان الله قد عفا عنه وكرهتم أن تعفوا عنه، وأما عليّ فابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه"، ثم أخذ يذكر من محاسن علي وعثمان رضي الله عنهما حتى أفحم هذا الضال فذهب خائبا، وقال له ابن عمر رضي الله عنه: "اذهب بهذا الآن معك"، قال العيني رحمه الله: أي اقرن هذا العذر بالجواب حتى لا يبقى لك فيما أجبتك به حجة على ما كنت تعتقد" (¬1) فينبغي للداعية أن يدافع عن الصحابة رضي الله عنهم وعن أئمة الهدى من علماء أهل السنة والجماعة، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالحسنى. رابعا: من أساليب الدعوة: استخدام الشدة مع بعض المدعوين: الأصل في الأساليب في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ الرفق واللين، ولكن من المدعوين من لا يجدي ولا ينفع فيه ومعه إلا الشدة والقوة؛ ولهذا استخدم عبد الله بن عمر رضي الله عنه أسلوب الشدة مع الرجل الضال الذي يطعن في علي وعثمان رضي الله عنهما، فقال: "أرغم الله بأنفك"، وقال رضي الله عنه: "قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله"، وهذا فيه قوة في الأسلوب، ولكن لا يفعل ذلك إلا مع الأمن من الوقوع في المفاسد، والله المستعان (¬2). خامسا: أهمية الكف عما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم: إن من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية أن يعرض عنها ولا يخوض فيها ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم، وما حصل لبعضهم؛ لأن الكف عن ذلك مذهب أهل الحق والاعتدال (¬3)؛ ولهذا قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في هذا الحديث: "أما عثمان فكان الله قد عفا عنه فكرهتم أن تعفوا عنه، وأما عليّ فابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مذهب أهل ¬
السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم: "ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساوئهم، منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص، وغيّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه +مُعذرون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما صدر منهلا إن وجد. . "، ثم قال رحمه الله: "هذا في الذنوب المحققة فكيف بالذنوب التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور" (¬1). سادسا: من أساليب الدعوة: الجدل: إن أسلوب الجدل من الأساليب النافعة عند الحاجة إليه في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ؛ ولهذا استخدمه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مع الرجل الضال الذي يطعن في علي وعثمان رضي الله عنه في هذا الحديث، فسأله أولا عن عثمان وعن تخلفه، فرد عليه ابن عمر بقوله: أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم. «إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه»، وسأل هذا الرجل الضال عن علي رضي الله عنه وطعن فيه فقال له عبد الله: "وأما علي فابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه. . . " وجادله رضي الله عنه حتى أفحمه، فينبغي للداعية أن يستخدم أسلوب الجدل عند الحاجة إليه، ولكن بالحسنى (¬2). سابعا: أهمية اعتزال الفتن المضلة: ظهر في هذا الحديث أهمية اعتزال الفتن المضلة؛ ولهذا اعتزل عبد الله بن ¬
عمر رضي الله عنهما الفتن كما جاء في هذا الحديث، فجادله بعض الناس في ذلك قال: "قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله"، وهذا يؤكد اعتزال الفتن المضلة، أسأل الله لي ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة (¬1). ثامنا: أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية: الاستدلال بالأدلة الشرعية من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها في دعوته إلى الله عزّ وجلّ؛ لما لها من التأثير على المدعوين وإقناعهم؛ ولهذا استخدمها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في هذا الحديث، فرد على الرجل الضال الذي طعن في عثمان، وبين له بالدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان: «إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه»، واستدل رضي الله عنه على عدم الدخول في القتال في الفتنة بقوله عزّ وجلّ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] (¬2) وهذا فيه تخويف من الدخول في الفتن العمياء المضلة (¬3). ¬
باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين
15 - باب ومن الدّليل على أنّ الخمس لنوائب المسلمين ما سأل هوازن النّبيّ صلى الله عليه وسلم برضاعه فيهم فتحلّل من المسلمين، وما كان النّبي صلى الله عليه وسلم يعد النّاس أن يعطيهم من الفيء، والأنفال من الخمس وما أعطي الأنصار، وما أعطي جابر بن عبد الله من تمر خيبر. [حديث والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم] 163 - [3133] حدّثنا عبد الله بن عبد الوهّاب: حدّثنا حمّاد: حدّثنا أيّوب، عن أبي قلابة. قال: وحدّثني القاسم بن عاصم الكلينيّ - وأنا لحديث القاسم أحفظ - عن زهدم قال: كنّا عند أبي موسى (¬1) فأتى ذكر دجاجة وعنده رجل من بني تيم الله أحمر كأنه من الموالي، فدعاه للطّعام فقال: إنّي رأيته يأكل شيئا فقذرته فحلفت لا آكل. فقال: هلمّ فلأحدّثكم عن ذلك: إنّي أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريّين نستحمله، فقال: «والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم». وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل فسأل عنّا فقال: «أين النّفر الأشعريّون؟» فأمر لنا بخمس ذود غرّ الذّرى، فلمّا انطلقنا قلنا: ما صنعنا؟ لا يبارك لنا. فرجعنا إليه فقلنا: إنّا سألناك أن تحملنا، فحلفت أن لا تحملنا، أفنسيت؟ قال: «لست أنا حملتكم، ولكنّ الله حملكم، وإنّي والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا أتيت الّذي هو خير وتحلّلتها» (¬2). وفي رواية: لمّا قدم أبو موسى أكرم هذا الحيّ من جرم وإنّا لجلوس عنده، وهو يتغدّى دجاجا وفي القوم رجل جالس فدعاه إلى الغداء، فقال: إنّي رأيته ¬
يأكل شيئا فقذرته، فقال: هلمّ فإنّي رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يأكله" فقال: إنّي حلفت لا آكل!، فقال: هلمّ أخبرك عن يمينك، إنّا أتينا النّبيّ صلى الله عليه وسلم نفر من الأشعريّين فاستحملناه فأبى أن يحملنا فاستحملناه فحلف أن لا يحملنا ثمّ لم يلبث النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن أتي بنهب إبل فأمر لنا بخمس ذود فلمّا قبضناهما قلنا تغفّلنا النّبي صلى الله عليه وسلم يمينه لا نفلح بعدها أبدا، فأتيته فقلت: يا رسول الله إنك حلفت أن لا تحملنا وقد حملتنا قال: «أجل ولكن لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا أتيت الّذي هو خير منها». (¬1). وفي رواية: عن أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسأله الحملان لهم إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك فقلت: يا نبيّ الله إنّ أصحابي أرسلوني اليك لتحملهم، فقال: «والله لا أحملكم على شيء»، ووافقته وهو غضبان ولا أشعر ورجعت حزينا من منع النبي صلى الله عليه وسلم ومن مخافة أن يكون النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه عليّ فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الّذي قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلم ألبث إلّا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي أي عبد الله بن قيس فأجبته فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلمّا أتيته قال: «خذ هذين القرينين وهذين القرينين - لستّة أبعرة ابتاعهنّ حينئذ من سعد - فانطلق بهنّ إلى أصحابك فقل: إنّ الله - أو قال - إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء فاركبوهنّ» فانطلقت إليهم بهنّ فقلت: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يحملكم على هولاء، ولكنّي والله لا أدعكم حتّى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تظنّوا أني حدّثتكم شيئا لم يقله رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لي: إنك عندنا لمصدق، ولنفعلنّ ما أحببت فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتّى أتوا الذين سمعوا قول رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم منعه إيّاهم ثمّ إعطاءهم بعد فحدّثوهم بمثل ¬
ما حدّثهم به أبو موسى (¬1). وفي رواية: «رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يأكل دجاجا».! (¬2). وفي رواية: «والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم عليه» قال: ثمّ لبثنا ما شاء الله أن نلبث، ثمّ أتي بثلاث ذود غرّ الذّرى فحملنا عليها". وفيها: «ما أنا حملتكم بل الله حملكم وإنّي والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا كفّرت عن يميني، وأتيت الّذي هو خير، أو أتيت الّذي هو خير وكفّرت عن يميني» (¬3). وفي رواية: عن زهدم: "كان بين هذا الحيّ من جرم وبين الأشعريّين ودّ وإخاء، فكنّا عند أبي موسى الأشعريّ فقرّب إليه طعام فيه لحم دجاج. . . " الحديث (¬4). وفي رواية: عن زهدم الجرميّ أيضا: "كنّا عند أبي موسى وكان بيننا وبين هذا الحيّ من جرم إخاء ومعروف. . . " الحديث. (¬5). وفي رواية: "أخبرك أو أحدّثك إنّي أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريّين فوافقته وهو غضبان، وهو يقسم نعما من نعم الصدقة" (¬6). * شرح غريب الحديث: * " بنهب إبل " أي غنيمة إبل، والنهب الغارة والسّلب (¬7). * " ذود " الذود من الإبل ما بين الثنتين إلى التسع، وقيل: ما بين الثلاث إلى العشر، واللفظة مؤنثة ولا واحد لها من لفظها: كالنعم (¬8). ¬
* " غر الذرى " جمع ذروة وهي سنام البعير وذروة كل شيء: أعلاه (¬1). * " من جرم " نسبة إلى قبيلة "الجرمي" بفتح الجيم وسكون الراء، وهي نسبة إلى جرم بن ريان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وفي بجيلة: جرم بن علقمة بن أنمار، وفي عاملة: جرم بن شعل بن معاوية بن عاملة، وفي طي جرم وهو ثعلبة بن عمرو بن الغوث (¬2). * " تغفلنا يمينه " أي جعلناه غافلا عن يمينه بسبب سؤالنا. (¬3). * " وجد في نفسه عليّ " أي غضب (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية. 2 - من صفات الداعية: إضافة النعم إلى الله عزّ وجلّ. 3 - أهمية الحنث في اليمين والتكفير عنها للمصلحة الراجحة. 4 - أهمية تحصيل العلم من مصادره الأصلية مباشرة والتثبت في ذلك. 5 - حرص السلف الصالح على الدقة في نقل الحديث. 6 - من صفات الداعية: الكرم. 7 - أهمية الاستثناء في اليمين. 8 - من أدب الداعية: إكرام الضيف. 9 - من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة تبوك. 10 - من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان. 11 - حرص الصحابة على الجهاد والدعوة. 12 - عظم محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬
13 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم. 14 - من أساليب الدعوة: تأديب بعض المدعوين بالقول. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية: الاستدلال بالأدلة الشرعية يزيد اليقين ويزيل اللبس؛ ولهذا استدل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه على جواز التكفير عن اليمين لمن حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فقال عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: «وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها»، وقال أبو موسى لمن استقذر أكل الدجاج: "هلم فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكله"، وهذا يؤكد أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية (¬1). ثانيا: من صفات الداعية: إضافة النعم إلى الله عزّ وجلّ: النعم من فضل الله عزّ وجلّ وإحسانه على عباده، فينبغي أن تنسب إلى الله الكريم؛ ولهذا نسب النبي صلى الله عليه وسلم نعمة حمل المجاهدين على الذود إلى الله عزّ وجلّ؛ لأنه الذي يسّرها، فقال صلى الله عليه وسلم للأشعريين: «لست أنا حملتكم ولكن الله حملكم»، وهذا يؤكد أهمية إضافة النعم لمسديها والمنعم بها سبحانه (¬2). ثالثا: أهمية الحنث في اليمين والتكفير عنها للمصلحة الراجحة: إن من يسر الإسلام وسماحته أن المسلم إذا حلف على أمر من الأمور ثم رأى بأن غيره خير منه؛ فإنه يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير»، قال الإمام النووي رحمه الله: "وفي هذه الأحاديث دلالة على أن من حلف على فعل شيء أو تركه، وكان الحنث خيرا من التمادي على اليمين استحب له الحنث وتلزمه الكفارة، وهذا متفق ¬
عليه، وأجمعوا على أنه لا تجب عليه الكفارة قبل الحنث، وعلى أنه يجوز تأخيرها عن الحنث، وعلى أنه لا يجوز تقديمها على اليمين" (¬1) وهذا يؤكد أهمية الحنث في اليمين إذا رأى الحالف ما هو خير، والحمد لله. رابعا: أهمية تحصيل العلم من مصادره الأصلية مباشرة والتثبت في ذلك: العلم أعظم الكنوز التي ينعم الله بها على من يشاء من عباده، فينبغي أن يطلب من مصادره الأصلية، وسماعه من أهله مباشرة على قدر الاستطاعة، والتثبت في ذلك، وقد ثبت في هذا الحديث ما يؤكد ذلك، وذلك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عبد الله بن قيس ستة أبعرة؛ ليحمل عليها أصحابه، فانطلق بها إلى قومه ثم قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء ولكني والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تظنوا أني حدثتكم شيئا لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: إنك عندنا لمصدق ولنفعلن ما أحببت، فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: منعه إياهم ثم إعطاءهم بعد، فحدثوهم بمثل ما حدثهم به أبو موسى " وهذا يؤكد أهمية تلقي العلم عن أهله مباشرة إن أمكن ذلك (¬2). خامسا: حرص السلف الصالح على الدقة في نقل الحديث: كان السلف الصالح يحرصون على الدقة في نقل الحديث كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وإني والله إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير، أو أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني»، قال الكرماني رحمه الله: "هذا شك من الراوي في تقديم: "أتيت" على "كفّرت" أو العكس، وإما تنويع من تنويع رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة إلى جواز تقديم الحنث وتأخيرها" (¬3) وهذا يدل على حرص السلف رحمهم الله على الدقة في نقل العلم (¬4). ¬
سادسا: من صفات الداعية: الكرم: الكرم من الصفات الحميدة، ولهذا كان أكمل الخلق في الكرم هو إمامهم وخيرهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وقد دل هذا الحديث على شيء من كرمه؛ فإنه أعطى خمس ذود، وفي الرواية الأخرى: "ستة أبعرة"؛ ليحمل عليه عبد الله بن قيس الأشعري وأصحابه رضي الله عنهم، وهذا غيض من فيض من كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). سابعا: أهمية الاستثناء في اليمين: كرم الله على عباده وإحسانه لا يحصى، ومن ذلك الاستثناء في اليمين بقول الحالف في قسمه "إن شاء الله" فإذا قال ذلك لا يحنث ولا يحتاج إلى كفارة، وقد ثبت في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى فقال: "إني «والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير»، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن من حلف على يمين فاستثنى فيها فلا حنث عليه ولا كفارة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن قصة سليمان صلى الله عليه وسلم حينما أقسم أن يطأ في ليلة واحدة مائة امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ، ولم يقل: إن شاء الله، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، فقال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «لو قال: إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته» (¬2) قال الإمام النووي رحمه الله في فوائد حديث قصة سليمان صلى الله عليه وسلم: "ومنها أنه إذا حلف وقال متصلا بيمينه: إن شاء الله تعالى، لم يحنث بفعل المحلوف عليه، وأن الاستثناء يمنع انعقاد اليمين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو «قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته»، ويشترط لصحة الاستثناء شرطان: أحدهما أن يقوله متصلا باليمين، والثاني أن يكون نوى قبل فراغ اليمين أن يقول: "إن شاء الله" (¬3) ونقل رحمه الله: إجماع المسلمين على أن قوله: "إن شاء الله" يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا وأن الإمام مالكا، والأوزاعي والشافعي، والجمهور، يرون أن يكون قوله: ¬
إن شاء الله متصلا باليمين من غير سكوت بينهما، ولا تضر سكتة النفس (¬1) فينبغي للداعية أن يحفظ يمينه، وإذا كان لا بد من القسم استثنى في ذلك، والله المستعان. ثامنا: من أدب الداعية: إكرام الضيف: لا شك أن من الآداب السامية إكرام الضيف، واستقباله بالسرور، والبشاشة، والاستقبال الحسن، والتبسم، وقد ظهر في هذا الحديث حسن الأدب مع الضيف؛ لأن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه دعا ضيفه؛ ليأكل معه ومع أصحابه الغداء فامتنع الضيف؛ لأنه قد حلف أن لا يأكل الدجاج؛ ولحرص أبي موسى رضي الله عنه على إكرامه أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه أتى الذي هو خير وكفر عن يمينه، وهذا يدل على حسن أدب أبي موسى رضي الله عنه؛ فإنه يطلب من الضيف أن يتغدّى معه ويكفر عن يمينه؛ ولهذا قال " الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث دخول المرء على صديقه في حال أكله، واستدناء صاحب الطعام الداخل، وعرضه الطعام عليه، ولو كان قليلا؛ لأن اجتماع الجماعة على الطعام سبب للبركة فيه" (¬2) وقد ذكر الله عزّ وجلّ قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم وإكرامه لأضيافه فقال عزّ وجلّ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ - إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ - فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ - فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} [الذاريات: 24 - 27] (¬3) وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على إكرام الضيف، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» (¬4) وهذا يؤكد العناية بالضيف والآداب ¬
التي ينبغي للداعية أن يعتني بها (¬1). تاسعا: من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة تبوك: دل هذا الحديث على أن من تاريخ الدعوة ذكر غزوة تبوك، وما وقع فيها من الشدة والابتلاء، لقول أبي موسى رضي الله عنه: "أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك"، وقد كانت هذه الغزوة في السنة التاسعة للهجرة، وأظهر الله فيها كثيرا من المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضحهم الله. أسأل الله لي ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة (¬2). عاشرا: من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان: الله عزّ وجلّ يبتلي عباده بالسراء والضراء؛ ليختبرهم ويمتحنهم، فينبغي أن يقابل ذلك بالشكر في السراء، والصبر في الضراء، وقد ظهر في هذا الحديث الابتلاء بالضراء والصبر على ذلك، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد ما يحمل الأشعريين عليه؛ لقلة ما في اليد وشدة الحال، وهو سيد الخلق ويريد الغزو في جيش العسرة، ومع ذلك حصل له من الابتلاء ما جاء في هذا الحديث، فيقول لأبي موسى ومن معه: «والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه»، ثم يسر الله له صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه فحملهم بفضل الله عزّ وجلّ بعد الصبر على هذه الشدة (¬3). الحادي عشر: حرص الصحابة على الجهاد والدعوة: إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أحرص الناس على الجهاد والدعوة إلى الله عزّ وجلّ، ومما يدل على حرصهم ما ثبت في هذا الحديث أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه أرسله أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليحملهم معه في الجهاد، فلم يجد لهم رسول ¬
الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه، ثم يسر الله له صلى الله عليه وسلم بعض الإبل فأعطاهم ستة أبعرة، وفي رواية "خمس ذود" فحملهم صلى الله عليه وسلم، وهذا يؤكد حرص الصحابة على الجهاد؛ ولهذا جاء بعض الفقراء ليغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد لهم ما يحملهم عليه فنفى عنهم الحرج، قال عزّ وجلّ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ - وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91 - 92] (¬1) وهذا والله يدل على أعظم الحرص على الجهاد والدعوة فرضي الله عنهم (¬2). الثاني عشر: عظم محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الصحابة رضي الله عنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم حّبا عظيما، يفوق محبة النفس، والولد، والوالد، والناس أجمعين، ويشفقون عليه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا ثبت في هذا الحديث أن أبا موسى وأصحابه سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه»، ثم بعد أن يسر الله له وأعطاهم خمس ذود، أو ستة أبعرة، فلما أخذوها وذهبوا قالوا: تغفلنا النبي صلى الله عليه وسلم يمينه، لا نفلح، لا يبارك لنا، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا سألناك أن تحملنا فحلفت أن لا تحملنا أفنسيت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لست أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها»، وهذا يؤكد محبة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشفقتهم وعدم غشهم له صلى الله عليه وسلم (¬3). الثالث عشر: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: التأكيد بالقسم من أساليب الدعوة؛ ولهذا استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر في هذا الحديث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها ¬
خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير»، وهذا فيه تأكيد بالقسم (¬1). الرابع عشر: من أساليب الدعوة: تأديب بعض المدعوين بالقول: من الأساليب في الدعوة تأديب بعض المدعوين بالقول القوي، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: «والله لا أحملكم»، قال ذلك للأشعريين عندما سألوه أن يحملهم، قال الإمام القرطبي رحمه الله: "وفيه من الفقه ما يدل على جواز اليمين عند التبرّم (¬2) وجواز رد السائل المثقل عند تعذر الإسعاف، وتأديبه بنوع من الإغلاظ بالقول، وذلك أنهم سألوه في حال تحقق فيها أنه لم يكن عنده شيء، فأدبهم بذلك القول، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بقي مترقبا لما يسعف به طلبتهم ويجبر به انكسارهم، فلما يسر الله تعالى ذلك عليه أعطاهم وجبرهم على مقتضى كرم خلقه" (¬3). ¬
حديث بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية قبل نجد فيها عبد الله بن عمر
[حديث بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية قبل نجد فيها عبد الله بن عمر] 164 - [3134] حدّثنا عبد الله بن يوسف: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر (¬1) رضي الله عنهما: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سريّة فيها عبد الله بن عمر قبل نجد فغنموا إبلا كثيرة، فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا، ونفّلوا بعيرا بعيرا" (¬2). وفي رواية: "بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم سريّة قبل نجد فكنت فيها، فبلغت سهامنا اثني عشر بعيرا، ونفّلنا بعيرا بعيرا، فرجعنا بثلاثة عشر بعيرا" (¬3). [حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش] 165 - [3134] حدّثنا يحيى بن بكير: أخبرنا اللّيث عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر (¬4) رضي الله عنهما: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفّل بعض من يبعث من السّرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامّة الجيش". (¬5). * شرح غريب الحديثين: * " سهمانهم " السهم في الأصل: واحد السهام التي يضرب بها في الميسر، وهي: القداح، ثم سمّي به ما يفوز به الفالج سهمه، ثم كثر حتى سمّي كلّ نصيب سهما، ويجمع السهم على أسهم، وسهام، وسهمان. (¬6). * " نفلوا " النّفل بالتحريك: الغنيمة، وجمعه أنفال، والنّفل بالسكون وقد يحرّك: الزيادة (¬7). ¬
* الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من وسائل الدعوة: بعث البعوث وإرسال المجاهدين في سبيل الله عزّ وجلّ. 2 - من وسائل الدعوة: إعطاء النفل للشجعان تشجيعا لهم. 3 - أهمية الحرص على الدقة في نقل الحديث. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من وسائل الدعوة: بعث البعوث وإرسال المجاهدين في سبيل الله عزّ وجلّ: من الوسائل النافعة في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ بعث البعوث وإرسال المجاهدين؛ للجهاد والدعوة إلى الإسلام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بذلك عناية فائقة، وهذان الحديثان يدلان على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "بعث سرية فيها عبد الله بن عمر قبل نجد" فينبغي العناية بإرسال المجاهدين والدعاة إلى الله عزّ وجلّ؛ ليبلغوا الناس الإسلام (¬1). ثانيا: من وسائل الدعوة: إعطاء النفل للشجعان تشجيعا لهم: إن من الوسائل التي استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته تشجيع الشجعان بإعطائهم شيئا زائدا على الغنيمة، ففي هذا الحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا إبلا كثيرة، فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا، ونفلهم بعيرا بعيرا، فكان نصيب كل واحد منهم ثلاثة عشر بعيرا". وقد ذكر الإمام ابن عبد البر رحمه الله أن النفل يكون على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يريد الإمام تفضيل بعض الجيش بشيء يراه؛ لشجاعته وغنائه، وبأسه، وبلائه، أو لمكروه تحمله دون سائر الجيش، فينفله الإمام من خمس الخمس من سهام النبي صلى الله عليه وسلم، ويجعل له سلب قتيله. الثاني: إذا دفع الإمام سرية من العسكر فأراد أن ينفلهم مما غنمت دون ¬
أهل العسكر، فحقه أن يخمس ما غنمت، ثم يعطي السرية مما بقي بعد الخمس (¬1) ما شاء: ربعا أو ثلثا ولا يزيد على الثلث؛ لأنه أقصى ما ورد، ويقسم الباقي على الجيش والسرية معه. الثالث: أن يحرض الإمام أو أمير الجيش أهل العسكر على القتال قبل لقاء العدو، وينفل من شاء منهم أو جميعهم ما عسى أن يصير بأيديهم، ويفتحه الله عليهم: الربع، أو الثلث قبل القسم تحريضا لهم على القتال (¬2) وهذا يؤكد هذه الوسيلة، والله أعلم. ثالثا: أهمية الحرص على الدقة في نقل الحديث: إن الحرص على الدقة في نقل الحديث من أهم الأمور التي ينبغي العناية بها، ولهذا الحرص ثبت في هذا الحديث قول ابن عمر رضي الله عنهما عن نفل السرية التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد: "فغنموا إبلا كثير فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا" فشك الراوي هل قال: اثني عشر أو قال: أحد عشر، ولم يجزم بأحدهما؛ لحرصه على الدقة في نقل الحديث (¬3). ¬
حديث قسم النبي لإصحاب السفينة مع جعفر وأصحابه حين افتتح خيبر
[حديث قسم النبي لإصحاب السفينة مع جعفر وأصحابه حين افتتح خيبر] 166 - [3136] حدّثنا محمّد بن العلاء: حدّثنا أبو أسامة: حدّثنا يزيد ابن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى (¬1) رضي الله عنه قال: "بلغنا مخرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه - أنا وأخوان لي أنا أصغرهم: أحدهما أبو بردة والآخر أبو رهم - إما قال في بضع وإمّا قال في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلا من قومي، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النّجاشيّ بالحبشة، ووافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده، فقال جعفر: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هاهنا، وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا. فأقمنا معه حتّى قدمنا جميعا، فوافقنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فأسهم لنا - أو قال: فأعطانا - منها، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا، إلّا لمن شهد معه، إلّا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم" (¬2). وفي رواية: "فوافقنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لكم أنتم يا أهل السّفينة هجرتان» (¬3). وفي رواية: "فوافقنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، وكان أناس من النّاس يقولون لنا - يعني لأهل السّفينة - سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس - وهي ممّن قدم معنا - على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس (¬4) قال عمر: الحبشيّة هذه؟ البحريّة ¬
هذه؟ قالت أسماء: نعم. قال: سبقناكم بالهجرة فنحن أحقّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، منكم فغضبت وقالت: كلاّ والله كنتم مع رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنّا في دار أوفي أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم، وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتّى أذكر ما قلت لرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنّا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك للنّبي صلى الله عليه وسلم، وأسأله، والله لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد عليه" (¬1). وفي رواية: "فلمّا جاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: «يا نبي الله إنّ عمر قال: كذا وكذا، قال: "فما قلت له؟ "، قالت: قلت له: كذا وكذا. قال: "ليس بأحقّ بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السّفينة هجرتان»، قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السّفينة يأتوني أرسالا يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شي هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم ممّا قال لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم (¬2) [قال أبو بردة: قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنّه ليستعيد هذا الحديث منّى] ". (¬3). * شرح غريب الحديث: * " أرسالا " أي جماعة جماعة، وفرقا فرقا، وأفواجا أفواجا (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: ¬
1 - من صفات الداعية: الفرح بنعمة الله عزّ وجلّ والتحدث بها. 2 - من وسائل الدعوة: التأليف بالمال. 3 - حرص السلف الصالح على الدقة في نقل الحديث. 4 - أهمية النية الصالحة. 5 - من سنن الله عزّ وجلّ: الابتلاء والامتحان. 6 - أهمية الحرص على أخذ العلم من مصادره الأصلية مباشرة. 7 - من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله عزّ وجلّ: والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الفرح بنعمة الله عزّ وجلّ والتحدث بها: إن من الصفات الحميدة التي دل عليها هذا الحديث: الفرح بفضل الله ورحمته والتحدث بذلك؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لأسماء رضي الله عنها: "سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم "وذكر الإمام الأبي رحمه الله: "أن هذا القول من عمر على وجه الفرح بنعمة الله تعالى والتحدث بها؛ لما علم من عظيم شأن أجر الهجرة، لا على وجه الفخر، ولمّا سمعت أسماء ذلك غضبت على وجه المنافسة في الأجر" (¬1) وقد بين الله عزّ وجلّ لعباده أنه لا حرج على من فرح بفضل الله سبحانه فقال: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ - قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57 - 58] (¬2). ثانيا: من وسائل الدعوة: التأليف بالمال: إن التأليف بالمال من الوسائل النافعة في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ؛ ولهذا استخدم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الوسيلة في دعوته، ففي هذا الحديث أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا - أو قال: ¬
"فأعطانا - منها وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم"، وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "وهذا من تأليف القلوب بالمال؛ لما أصابهم من التعب" (¬1) وسمعته أيضا يقول: "تقديرا لتعبهم، وجهادهم، وصبرهم قسم لهم مع الناس في خيبر" (¬2) وهذا يؤكد أهمية التأليف بالمال في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ (¬3). ثالثا: حرص السلف الصالح على الدقة في نقل الحديث: لا شك أن السلف الصالح كانوا أحرص الناس على الدقة في نقل الحديث؛ ولهذا جاء في هذا الحديث: "فأسهم لنا، أو قال فأعطانا" شك الراوي، وفي الرواية الأخرى: "وكنا في دار أو في أرض البعداء" شك الراوي أيضا. وهذا يؤكد الحرص على الدقة في نقل الحديث؛ لئلا يدخل فيه ما ليس منه (¬4). رابعا: أهمية النية الصالحة: النية الصالحة هي أساس العمل، وبها يبارك الله عزّ وجلّ في الأعمال، وقد ظهر في مفهوم هذا الحديث أهميتها؛ لأن المهاجرين إلى الحبشة كتب الله لهم بنيتهم الصالحة هجرتين: هجرتهم من مكة إلى الحبشة، والهجرة الثانية: من الحبشة إلى المدينة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان»، وسمعت العلامة ابن باز حفظه الله يقول: "كتب لهم بالنية هجرتان وهذا فضل الله" (¬5) يؤتيه من يشاء (¬6). خامسا: من سنن الله عزّ وجلّ: الابتلاء والامتحان: لا شك أن الابتلاء بالخير والشر من سنن الله عزّ وجلّ، وقد ظهر الابتلاء بالخوف ¬
والتشريد لأصحاب الهجرتين كما في هذا الحديث، فابتلاهم سبحانه بأعدائهم فهاجروا إلى الحبشة، وكذلك ابتلاء الأشعريين وهجرتهم من أوطانهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة، يبتغون فضلا من الله ورضوانا، رضي الله عنهم ورحمهم (¬1). سادسا: أهمية الحرص على أخذ العلم من مصادره الأصلية مباشرة: أخذ العلم من مصادره الأصلية مباشرة من أهم المهمات؛ ولهذا اعتنى السلف الصالح بذلك، ومن هذا ما ثبت في هذا الحديث أن أسماء بنت عميس رضي الله عنها أخذت تحدث بحديث فضل هجرة الحبشة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «ولكم أصحاب السفينة هجرتان»، قالت: "فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالا يسألوني عن هذا الحديث"، وقالت: "فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني" وهذا يؤكد أهمية أخذ العلم وسماعه من أهله مباشرة بدون واسطة عند الاستطاعة؛ لأن الأشعريين رضي الله عنهم يريدون سماع هذا الحديث من أسماء رضي الله عنها؛ لكونها سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). سابعا: من صفات الداعية: الرغبة فيما عند الله عزّ وجلّ: إن الداعية المخلص الصادق يرغب فيما عند الله عزّ وجلّ، ويبذل جهده وطاقته فيما يقربه من ربه؛ ولهذه الرغبة صبر أصحاب الهجرتين على الشدة وفراق الأهل والأوطان؛ وأعظم من ذلك فراق النبي صلى الله عليه وسلم مع حبهم له؛ ولهذا قالت أسماء بنت عميس رضي الله عنها لعمر رضي الله عنه عندما قال: "سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم"، فقالت: "كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار، أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله، وفي رسوله صلى الله عليه وسلم"، وهذا يؤكد رغبتهم فيما عند الله عزّ وجلّ؛ ولهذا عندما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «ولكم أهل السفينة هجرتان»، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم (¬3). ¬
حديث لقد شقيت إن لم أعدل
[حديث لقد شقيت إن لم أعدل] 167 - [3138] حدّثنا مسلم بن إبراهيم: حدّثنا قرّة بن خالد: حدّثنا عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله (¬1) رضي الله عنه قال: «بينما رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنيمة بالجعرانة إذ قال له رجل: اعدل. قال له: " لقد شقيت إن لم أعدل» (¬2). * شرح غريب الحديث: * "غنيمة" الغنيمة، والغنم، والمغنم، والغنائم: هو ما أصيب من أموال أهل الحرب، وأوجف عليه المسلمون بالخيل، والركاب. (¬3). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: العدل. 2 - من أساليب الدعوة: الترهيب. 3 - من صفات الداعية: الحلم. 4 - سوء أدب بعض المدعوين. 5 - من القواعد الدعوية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: العدل: العدل من أهم الصفات التي يتأكد على الداعية أن يتصف بها، وقد ظهر في مفهوم هذا الحديث أهمية العدل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لقد شقيت إن لم أعدل»، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "بضم المثناة للأكثر، ومعناه ظاهر ولا محذور فيه، والشرط لا يستلزم الوقوع؛ لأنه ليس ممن لا يعدل حتى يحصل له الشقاء، ¬
بل هو عادل فلا يشقى" (¬1) عليه الصلاة والسلام (¬2). ثانيا: من أساليب الدعوة: الترهيب: دل هذا الحديث على أن الترهيب من أساليب الدعوة إلى الله عزّ وجلّ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل: "لقد شقيت إن لم أعدل"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "والمعنى لقد شقيت: أي ضللت أنت أيها التابع حيث تقتدي بمن لا يعدل، أو حيث تعتقد في نبيك هذا القول الذي لا يصدر عن مؤمن" (¬3) وهذا على رواية فتح التاء: "لقد شقيت"، ورجح الفتح الإمام النووي رحمه الله، (¬4) فتأكد أسلوب الترهيب (¬5). ثالثا: من صفات الداعية: الحلم: الحلم من أعظم صفات أهل العلم والإيمان؛ لما فيه من ضبط النفس عن هيجان الغضب والانتقام، وقد ظهر واضحا في هذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب هذا الرجل الذي قال: "اعدل"، ومما يؤكد حلمه صلى الله عليه وسلم رواية الحديث عند مسلم رحمه الله؛ فإنه قد زاد في آخره: «فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق؟ " فقال صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم (¬6) يمرقون منه كما يمرق السهم (¬7) من الرمية» (¬8) وهذا يؤكد حلم النبي وحكمته صلى الله عليه وسلم، فينبغي التأسي به (¬9). ¬
رابعا: سوء أدب بعض المدعوين: إن من أهم الآداب اللازمة مع الدعاة والعلماء: التأدب معهم، وأخذ العلم عنهم، والالتزام بأخلاق أهل العلم وطلاّبه، وقد ظهر في هذا الحديث سوء أدب هذا الرجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائد العلماء وإمام الأتقياء، فدل ذلك على أن بعض المدعوين يتصف بالجفاء وسوء الأدب والخلق، فيلزم المدعوين أن يسلكوا منهج الحق واحترام العلماء والاستفادة منهم، والله المستعان. خامسا: من القواعد الدعوية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح: ظهر من مفهوم هذا الحديث أن من القواعد الدعوية قاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، دل على ذلك أن هذا الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "اعدل" قد استحق القتل، ولكن عفا النبي صلى الله عليه وسلم عنه درءا للمفاسد، ومما يؤكد ذلك رواية الحديث عند الإمام مسلم رحمه الله، فقد زاد في آخره: "فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق؛ " فقال صلى الله عليه وسلم: «معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي» (¬1) فقتل هذا المنافق مصلحة، ولكن يعارض هذه المصلحة مفسدة وهي أن الناس سيقولون إن محمدا يقتل أصحابه، فحينئذ تترك المصلحة لتفويت المفسدة، قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "الدين مبنيّ على المصالح ... في جلبها والدرء للقبائح فإن تزاحم عدد المصالح ... يقدم الأعلى من المصالح وضده تزاحم المفاسد ... يرتكب الأدنى من المفاسد (¬2) ومن درء المفاسد أيضا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي ابن سلول، فقد عمل أعمالا كثيرة توجب قتله فقال عمر رضي الله عنه؛ «يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل ¬
أصحابه» (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «يا عائشة لولا أن قومك حديث عهدهم بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: بابا شرقيا، وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم» (¬2) وهذا يوضح للداعية أن المصالح إذا تعارضت قدم الأعلى منها، وإذا تعارضت مصلحة ومفسدة تركت المصلحة لدفع المفسدة، وإذا تعارضت مفسدة ومفسدة يرتكب الأدنى لدفع الأعلى من المفاسد، وهذه قواعد دعوية ينبغي للداعية أن يعتني بها، والله المستعان وعليه التكلان (¬3). ¬
باب ما من النبي صلى الله عليه وسلم على الأسارى من غير أن يخمس
16 - بَابُ ما مَنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأَسارى من غيرِ أن يخمّسَ [حديث قوله في أسارى بدر لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتتركتهم له] 168 - [3139] حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: أَخْبَرَنَا عبد الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا معمر، عَنِ الزُّهرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي أَسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِي حَيّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لتترَكتُهم لَهُ» (¬2). وفي رواية: "وَقَالَ اللَيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: "وَقَعَتْ الفتنة الأولى - يَعْنِي مَقْتَلَ عُثْمَانَ - فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَاب بَدْرٍ أَحَدا، ثُمَّ وَقَعَتْ الفتنَةُ الثَّانِيَةُ - يَعْنِي الْحَرَّةَ - فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَاب الْحُدًيْبيةِ أَحَدا، ثُمَّ وَقَعَتْ الثالِثَةُ فَلَمْ تَرْتَفِعْ وَللنَّاسِ طَبَاخٌ" (¬3). * شرح غريب الحديث: * "نتنى" يعني أسارى بدر، واحدهم نتن، كزمِنَ وزمنى، سماهم: نتنى: أي نجس؛ لكفرهم (¬4). * "طَبَاخٌ" أصل الطَّبَاخ: القوة والسِّمَن، ثم استعمل في غيره، فقيل: فلان لا طباخ له: أي لا عقل له ولا خير عنده، أراد أنها لم تبقِ في النَّاس من الصحابة أحدا (¬5). * "الفتنة" الابتلاء والاختبار، والامتحان، وأصل الفتنة من قولك: فتنت الذهب إذا أحرقته بالنار؛ ليتبيَّن الجيد من الرديء، وقد كثر استعمالها بمعنى: الكفر، والإِثم، والضلال، والقتال، والإحراق، والإِزالة، والصرف عن الشيء، والفضيحة، والعذاب، والجنون (¬6). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: المكافأة على المعروف. 2 - أهمية العناية بتعليم الأقارب. 3 - من موضوعات الدعوة: بيان خطر الفتن على الأمة. 4 - من أساليب الدعوة: الترهيب. 5 - من تاريخ الدعوة: تحديد وفاة البدريين وأهل الحديبية. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: المكافأة على المعروف: المكافأة على المعروف من مكارم الأخلاق؛ ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أسرى معركة بدر: "لو كان المُطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له"، وذلك، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل في جوار المطعم عندما رجع من الطائف فأجاره ودخل مكة (¬1) قال الإِمام الخطابي رحمه الله: "هذا يدل على أن للإِمام أن يَمُنَّ على الأسارى من غير فداء ولا مال" (¬2) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "وفي هذا الحث على المكافأة على المعروف، وقاله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه دخل في جواره عندما رجع من الطائف فأجاره، فشكر له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا العمل من باب المكافأة، وقد مات المطعم كافرا" (¬3) وقد حث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المكافأة على المعروف، فعن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من استعاذكم بالله فأَعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أن قد ¬
كافأتموه» (¬1) وعن أسامة بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن صُنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرا، فقد أبلغ في الثناء» (¬2) وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يشكُرُ الله من لا يشكرُ الناسَ» (¬3) وهذا يؤكد على الداعية المكافأة على المعروف بحسب الاستطاعة، ولو بالاعتراف والدعاء. ثانيا: أهمية العناية بتعليم الأقارب: لا شك أن تعليم الأقارب من أعظم القربات؛ لأن حقهم أعظم من حق غيرهم، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث؛ لأن جبير بن مطعم علَّم ابنه محمدا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أسارى بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له"، وهذا يبين أهمية تعليم الأبناء والأقارب العلم النافع (¬4). ثالثا: من موضوعات الدعوة: بيان خطر الفتن على الأمة: إن من الموضوعات التي ينبغي العناية بها: بيان أخطار الفتن للناس وأنها تضعف القوى وتوهن التكاتف والترابط بين المسلمين، وقد دل هذا الحديث على بيان ذلك للناس؛ لقول سعيد بن المسيب رحمه الله: "وقعت الفتنة الأولى - يعني مقتل عثمان - فلم تبقِ من أصحاب بدر أحدا، ثم وقعت الفتنة الثانية - يعني الحرة - فلمِ تبقِ من أصحاب الحديبية أحدا، ثم وقعت الفتنة الثالثة فلم ترتفع وللناس طبَاخٌ"، وهذا يوضح للداعية أهمية بيان أخطار الفتن على المسلمين، وأنها تذهب قوتهم وتضعفها؛ لقوله: "فلم ترتفع وللناس طباخ"، أسأل الله لي ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة (¬5). ¬
رابعا: من أساليب الدعوة الترهيب: لترهيب من أساليب الدعوة التي ينبغي للداعية العناية بها في دعوته، وقد ظهر هذا الأسلوب في مفهوم هذا الحديث؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أطلق على أسارى بدر الكفار "نتنى" أي نجس، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] الآية، (¬1) وهذا فيه تنفير من الكفر وأهله وأنهم نجس (¬2). خامسا: من تاريخ الدعوة: تحديد وفاة البدريين وأهل الحديبية: ظهر من مفهوم هذا الحديث تحديد آخر من مات من أهل بدر وآخر من مات من أهل الحديبية؛ لقول سعيد بن المسيب رحمه الله: "وقعت الفتنة الأولى فلم تُبْقِ من أصحاب بدر أحدا، ثم وقعت الفتنة الثانية فلم تبقِ من أصحاب الحديبية أحدا، ثم وقعت الفتنة الثالثة فلم ترتفع وللناس طَبَاخ". فالفتنة الأولى، هي مقتل عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في يوم الجمعة الثامن من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، والمقصود والله أعلم أن الفتنة الأولى كانت سببا لموت البدريين فماتوا منذ الفتنة الأولى إلى بداية الفتنة الثانية وهي فتنة الحرة في سنة ثلاث وستين للهجرة النبوية، وكان آخر من مات من البدريين سعد بن أبي وقاص، مات قبل فتنة الحرة ببضع سنين، ثم مات أهل الحديبية ابتداء من الفتنة الثانية. والثالثة من هذه الفتن رجح الحافظ ابن حجر رحمه الله، والعلامة العيني أنها فتنة يوم خروج أبي حمزة الخارجي في خلافة مروان بن محمد بن الحكم سنة مائة وثلاثين للهجرة، قبل موت يحيى بن سعيد بمدة (¬3). ¬
باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام وأنه يعطي بعض قرابته دون بعض
17 - باب وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الخُمُسَ لِلإِمَامِ، وأَنهُ يُعْطِي بعض قَرَابَتِهِ دُونَ بعض مَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي الْمُطَّلِبِ وَبَنِي هَاشِمٍ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ قَال عُمَرُ بْنُ عبد العزيز: لَمْ يَعُمَّهُمْ بِذَلِكَ ولم يخص قريبا دُون مَنْ أحوج إَلَيْهِ وَإَنْ كان الَّذِي أعطى لما يشكو إليه من الحاجة، ولما مستهم في جنبه من قومه وخلفائهم. [حديث إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد] 169 - [3140] حَدثنَا عبد الله بْن يوسُف: حَدثنَا الليْث، عنْ عقيلٍ، عنِ ابن شهَاب، عن ابْن المُسَيَّب، عَنْ جُبَيْر بْن مُطْعِمِ (¬1) قَالَ: مَشيت أنا وعثمان بن عفان إِلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلنا: - «يا رسول اللهِ، أعطيت بنِي المطلِبِ وتركتنا. ونحنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هاشم شيء وَاحدٌ». قَالَ الليثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ وَزَادَ: "قَالَ جُبَيْر: ولم يَقْسِم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبني عبد شمس ولا لبني نوفل. وقال ابن إِسْحَاق: عِبد شمسٍ، وَهاشِم، والمطلب إخوة لأمٍّ. وَأمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ. وَكَانَ نَوْفَل أخَاهُمْ لأبيهمْ" (¬2). وفي رواية: «أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خمس خَيْبَرَ وَتَرَكْتَنَا» (¬3). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين. 2 - أهمية السؤال عما أشكل. 3 - من صفات الداعية: المكافأة على المعروف. 4 - من وسائل الدعوة: التأليف بالمال. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: ¬
أولا: من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين: مراعاة أحوال المدعوين من الأمور المهمة، التي ينبغي للداعية أن يعتني بها؛ وقد دل مفهوم هذا الحديث على ذلك؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم لبني المطلب، وبني هاشم من سهم ذوي القربى ولم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل؛ لأن بني المطلب ناصروا بني هاشم في الشدة والرخاء، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "العلة النصرة، فلذلك دخل بنو هاشم وبنو المطلب ولم يدخل بنو عبد شمس وبنو نوفل؛ لفقدان جزء العلة أو شرطها" (¬1) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "بنو المطلب ناصروا بني هاشم في الشدة والرخاء، في الجاهلية والإسلام" (¬2) وهذا يؤكد مراعاة أحوال المدعوين (¬3). ثانيا: أهمية السؤال عما أشكل: السؤال عما أشكل من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها؛ وقد ظهر في هذا الحديث أهمية السؤال عما أشكل؛ لأن جبير بن مطعم وعثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما سألا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالا: أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث حجة للشافعي ومن وافقه أن سهم ذي القربى لبني هاشم والمطلب خاصة دون بقية قرابة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قريش" (¬4) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "بنو المطلب يعطون من الخمس؛ لأنهم ناصروا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجاهلية والإِسلام، ويعطون من الزكاة على الصحيح؛ لأن منع الزكاة عن بني هاشم فقط " (¬5) وهذا يؤكد أهمية السؤال للداعية، فينبغي أن يسأل عما أشكل عليه أهل العلم الراسخين فيه، والله المستعان (¬6). ¬
ثالثا: من صفات الداعية: المكافأة على المعروف: المكافأة على المعروف من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال التي ينبغي للداعية أن يعتني بها، ويتخلق، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى بني المطلب مع بني هاشم من الخمس، وترك بقية قرابته؛ لما لبني المطلب من النصرة لبني هاشم في الجاهلية والإِسلام؛ ولهذا كافأهم على معروفهم وإحسانهم (¬1). رابعا: من وسائل الدعوة: التأليف بالمال: لا ريب أن من وسائل الدعوة التأليف بالمال؛ ولهذا أعطى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني المطلب مع بني هاشم من خمس ذوي القربى، ولم يعطِ غيرهم من قرابته من قريش، وهذا والله أعلم فيه جبر لنفوسهم واستمالة لقلوبهم؛ لما لهم من النصرة لبني هاشم في الجاهلية والإِسلام، والله عزَّ وجلَّ أعلم وأحكم (¬2). ¬
باب من لم يخمس الأسلاب ومن قتل قتيلا فله سلبه من غير أن يخمس، وحكم الإمام فيه
18 - باب مَنْ لم يخَمِّس الأَسلابَ وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلا فَله سَلبه من غَير أن يخَمّسَ، وحكم الإمَامِ فيهِ [حديث قتل إبي جهل] 170 - [3141] حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ المَاجِشُونِ، عَنْ صالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عبد الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّه (¬1) «قَالَ: بَيْنَا أَنا واقِف في الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، فَإِذَا أَنا بِغُلامَيْنِ من الأنصَارِ حدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُما، فَغَمَزَني أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ هلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنهُ يَسُبُّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِه لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا. فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزنَي الآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أنشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاس فَقُلْتُ: أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلتُمَانِي، فَابْتَدَرَاه بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاهُ. ثُمَّ انصَرَفَا إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ. فَقَالَ: "أَيُّكُمَا قتلَهُ؟ " قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنا قَتَلْتُهُ. فَقَالَ: "هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ " قَالَا: لَا. فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: "كِلاكُمَا قتلَهُ". سلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ (¬2). وَكَانَا: مُعَاذَ ابْنَ ¬
عفْراء (¬1) وَمُعَاذَ بْن عَمْرو بْنِ الجَمُوحِ» (¬2). وفي رواية: «إِنِّي لفي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ إِذِ الْتَفَتّ فَإِذَا عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فتَيَانِ حَدِيثَا السِّنِّ فَكأني لَمْ آمَنْ بِمَكَانِهمَا إِذْ قَالَ لِي أَحَدُهُمَا سِرّا مِنْ صَاحِبِهِ: يَا عَمِّ أَرني أَبَا جَهْلٍ! فَقُلْتُ: يَا ابْنَ أَخِي وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: عَاهَدْتُ الله إِنْ رأَيتُهُ أَنْ أَقْتُلَهُ أَوْ أَمُوتَ دونَهُ، فَقَالَ لِي الآخرُ سِرّا مِنْ صَاحِبهِ مِثْلَهُ، قَالَ؛ فَمَا سرني أني بَيْنَ رَجُليْنِ مَكَانَهُمَا، فَأَشَرْتُ لَهُمَا إِلَيْهِ، فَشَدَّا عَلَيْهِ مِثْلَ الصَّقْرَيْنِ حتَّى ضَرَبَاهُ، وَهُمَا ابْنَا عَفْراءَ» (¬3). * شرح غريب الحديث: * "حديثة أسنانهما" أي أعمارهما: أي شباب حدث في العمر (¬4). * "بين أَضْلَعَ مِنْهُمَا" أي بين رجلين أقوى منهما (¬5). * "سوادي" أي شخصي، فقوله: "لا يفارق سوادي سواده" أي: لا يفارق شخصي شخصه (¬6). * "فلم أنشب" أي لم ألبث، وحقيقته لم يتعلق بشيء غيره، ولا أشتغل بسواه، ويقال: نَشِبَ في الشيء إذا وقع فيما لا مخلص له منه (¬7). ¬
"فغمزني" الغمز شبه النخس، يقال: غمزه بيده يغمزه: وهو كالنخس في الشيء بالشيء، ويقال: غمز بالعين والجفن والحاجب: أشار، ويقال غمز: إذا عاب وذكر بغير الجميل، والمغامز المعايب، ويقال: فيه مغمز أو غميزة: أي مطعن. والمقصود هنا: الغمز باليد (¬1). * "يجول" أي يدور، يقال: جال واجتال: إذا ذهب وجاء ومنه الجوَلان في الحرب (¬2). * "سلبه" السلب: الذي يُقضى به للقاتل في الحرب، وهو ما كان على المقتول: من لباسه، ومن آلة الحرب، والسلاح، والثياب، والدواب وغيرها (¬3). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: الحرص على تعليم الأقارب. 2 - أهمية سؤال الداعية عما أشكل عليه. 3 - من صفات الداعية: الشجاعة. 4 - من أساليب الدعوة: القصص. 5 - من تاريخ الدعوة: معرفة وقت غزوة بدر. 6 - من وسائل الدعوة: إعطاء السلب للقاتل تشجيعا له. 7 - من أساليب الدعوة: تطييب قلب المدعو. 8 - أهمية الأخذ بالقرائن في إثبات الحقوق عند عدم البينة. 9 - أهمية أسلوب التشبيه في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ. 10 - أهمية المسارعة إلى الخيرات. 11 - أهمية الغضب لله ولرسوله في حدود الحكمة. ¬
12 - أهمية عدم احتقار الصغار في الأمور المهمة. 13 - من صفات الداعية: التزام الأدب والتلطف ولين الكلام مع الكبير والصغير. 14 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الحرص على تعليم الأقارب: الحرص على تعليم الأقارب، من الأولاد وغيرهم من صفات الداعية الصادق، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث؛ لأن عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ علم ابنه إبراهيم هذا الحديث الذي يدل على شجاعة معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، ثم علمه إبراهيم بن عبد الرحمن لابنه صالح، وهذا يؤكد أهمية الحرص على تعليم الأبناء والأقارب ما ينفعهم (¬1). ثانيا: أهمية سؤال الداعية عما أشكل عليه: إن الداعية الحريص على العلم والفهم ينبغي له أن يسأل عن كل ما يشكل عليه؛ ليكون على بصيرة، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث؛ لأن معاذ ابن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح سألا عبد الرحمن بن عوف عن أبي جهل فقال كل منهما على انفراد: "يا عم هل تعرف أبا جهل؟ " وبعد السؤال أجابهما عبد الرحمن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بعد أن رأى أبا جهل يجول في الناس بقوله: "ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه"، وهذا يؤكد أهمية السؤال عما أشكل؛ لتحصل البصيرة والعلم بما سُئل عنه (¬2). ثالثا: من صفات الداعية: الشجاعة: الشجاعة صفة حميدة ينبغي أن يتصف بها الداعية عقليا وقلبيا، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث، وذلك أن معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، شدّا على أبي جهل مثل الصقرين حتى ضرباه فقتلاه. وهذا يثبت ¬
شجاعتهما، وقوة عزيمتيهما رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما (¬1). رابعا: من أساليب الدعوة: القصص: دل هذا الحديث على أن من أساليب الدعوة القصص؛ ولهذا قص عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على ابنه إبراهيم ما حصل يوم بدر من خبر هذين الشابين وقتلهما لأبي جهل، وحكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المعاذين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، وهذا يؤكد أهمية القصص الصحيح وما فيه من الفوائد والعبر (¬2). خامسا: من تاريخ الدعوة: معرفة وقت غزوة بدر: ظهر في هذا الحديث ذكر عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لغزوة بدر الكبرى، وأن أبا جهل قُتِلَ فيها، وقد كانت غزوة بدر في السنة الثانية للهجرة في رمضان المبارك، وجملة من حضر بدرا من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، معهم فرسان وسبعون بعيرا، أما المشركون فكانوا ألفا، والتحم القتال بين حزب الله وحزب الشيطان، وأمد الله حزبه بألف من الملائكة مردفين، فنصر الله المسلمين فقتلوا سبعين من المشركين، وأسروا سبعين، وانهزم الباقون، والحمد لله على نصره وتوفيقه (¬3). سادسا: من وسائل الدعوة: إعطاء السلب للقاتل تشجيعا له: إن إعطاء السلب للقاتل من وسائل الدعوة التي تشجع المقاتل، وتزيد في قوته ونشاطه، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى معاذ بن عمرو بن الجموح سلب أبي جهل؛ لكونه الذي قتله قتلا شرعيا يستحق به أخذ السلب (¬4). سابعا: من أساليب الدعوة: تطييب قلب المدعو: تطييب القلوب من أعظم وسائل الدعوة؛ لما في ذلك من المصالح الدينية ¬
والدنيوية، وقد ثبت في هذا الحديث ما يدل على تطييب قلوب المدعوين، وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل معاذ ابن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح عن قتل أبي جهل، فقال: "أيكما قتله؟ "، قال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: "هل مسحتما سيفيكما؟ " قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: "كلاكما قتله" سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. وقد اشترك هذان الشابان في جراحة أبي جهل، لكن معاذ بن عمرو بن الجموح أثخنه أولا فاستحق السلب، وإنما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كلاكما قتله، تطييبا لقلب الآخر، من حيث إنَّ له مشاركة في قتله، وإلا فالقتل الشرعي الذي يتعلق به استحقاق السلب، وهو الإِثخان وإخراجه عن كونه ممتنعا إنما وجد من معاذ بن عمرو بن الجموح، فلهذا قضى له بالسلب، وإنما أخذ السيفين؛ ليستدل بهما على حقيقة كيفية قتلهما، فعلم أن ابن الجموح أثخنه، ثم شاركه الثاني بعد ذلك وبعد استحقاقه السلب، فلم يكن له حق في السلب (¬1) وقد قيل: إن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حز رأسه، وقتله، وقيل: قتله معوّذ، قال ابن حجر رحمه الله: "فيحتمل أن يكون معاذ ابن عفراء شد عليه مع معاذ بن عمرو، وضربه بعد ذلك معوذ حتى أثبته، ثم حز رأسه ابن مسعود، فتجتمع الأقوال كلها" (¬2) والمقصود هنا هو تطييب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقلب معاذ ابن عفراء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (¬3). ثامنا: أهمية الأخذ بالقرائن في إثبات الحقوق عند عدم البينة: لا شك أن الأخذ بالقرائن في إثبات الحقوق عند عدم البينة من الأمور المهمة، فقد ثبت الحكم بذلك في هذا الحديث حينما حكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين معاذ ابن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح فيمن قتل أبا جهل فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هل مسحتما سيفيكما؟ " قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: "كلاكما قتله، سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح "، فقد ظهر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن معاذ بن عمرو بن الجموح هو الذي أثخنه أولا؛ وهذا فيه إثبات الحقوق المالية بالقرائن؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استدل بالدم الذي في السيف على ¬
مَنْ قَتَلَ أبا جهل وحكم له بالسلب. (¬1) وللحكم بالقرائن والاستدلال بالأمارات والفراسة أصل في القرآن الكريم، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ - وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ - فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 26 - 28] (¬2) وهذا يؤكد أهمية الأخذ بالقرائن والله عزَّ وجلَّ أعلم (¬3). تاسعا: أهمية أسلوب التشبيه في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ: التشبيه له أهمية في الأساليب الدعوية؛ لما له من تقريب المعاني، وقد ظهر هذا الأسلوب في هذا الحديث؛ لقول عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في شأن معاذ ابن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حينما قتلا أبا جهل: "فشدا عليه مثل الصقرين"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "شبههما به لما اشتهر عنه من الشجاعة، والشهامة، والإِقدام على الصيد؛ ولأنه إذا تشبث بشيء لم يفارقه حتى يأخذه" (¬4) وهذا يبين أهمية أسلوب التشبيه في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ (¬5). عاشرا: أهمية المسارعة إلي الخيرات: المسارعة إلى الخيرات من الصفات الحميدة التي ينبغي لكل مسلم أن يتصف بها، وخاصة الداعية إلى الله عزَّ وجلَّ، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن معاذ ابن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح بادرا إلى السؤال عن أبي جهل؛ ليسرعا إلى قتله، ولهذا عندما أشير إليه شدّا عليه مثل الصقرين حتى قتلاه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما (¬6). الحادي عشر: أهمية الغضب لله ولرسوله في حدود الحكمة: لقد دل هذا الحديث على أهمية الغضب لله عزَّ وجلَّ ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لقول كل ¬
واحد من: معاذ ابن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح في أبي جهل: "أخبرت أنه يسب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منَّا" وشدا عليه مثل الصقرين فقتلاه غضبا لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولا شك أن الغضبَ نوعان: غضب مذموم وهو الذي قال فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (¬1) وهو الذي أوصى بالابتعاد عنه لمن قال: «أوصني يا رسول الله"، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تغضب» وردد مرارا «لا تغضب» (¬2) أما النوع الثاني من أنواع الغضب فهو الغضب المحمود، الذي يكون من أجل الله عندما ترتكب حرماته أو تترك أوامره ويستهان بها، وهذا من علامات قوة الإِيمان، ولكن بشرط أن لا يخرج هذا الغضب عن حدود الحكمة، وقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغضب لله إذا انتهكت محارمه، وكان لا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء، ولم يضرب خادما، ولا امرأة، إلا أن يجاهد في سبيل الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد خدمه أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عشر سنوات، «فما قال له: أفٍّ قط، ولا قال له لشيء فعله: لمَ فعلت كذا؟ ولا لشيء لم يفعله: ألا فعلت كذا؟» (¬3) وهذا في الحقيقة هو عين الحكمة؛ لأن هذا الغضب لم يخرج عن حدود الحكمة التي هي في الحقيقة: الإِصابة في القول والفعل، كما قال مجاهد رحمه الله: "الحكمة: الإصابة" (¬4) كما رجح ذلك الإِمام ابن جرير رحمه الله في قوله عزَّ وجلَّ: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] قال: "تأويل الكلام: يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء، ومن يؤته الله ¬
ذلك فقد آتاه خيرا كثيرا" (¬1) فالغضب لله عزَّ وجلَّ هو الذي يكون في موضعه، صوابا في القول والفعل. والله أعلم. الثاني عشر: أهمية عدم احتقار الصغار في الأمور المهمة: لا شك أن الصغار يختلفون في قدراتهم العقلية والجسدية على حسب ما منَّ الله به على كل واحد منهم، فينبغي أن ينزلوا منازلهم على حسب أحوالهم، وقد ثبت في هذا الحديث ما فعله معاذ ابن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما من قتل عمرو بن هشام - أبي جهل - فدل ذلك على أن الصغار لا يحتقرون فقد يكون الصغير خيرا من كثير من الكبار؛ قال الإِمام الكرماني رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفي هذا الحديث المبادرة إلى الخيرات، والغضب لله ولرسوله، وأنه لا ينبغي أن يحتقر الصغار في الأمور الكبار" (¬2) ومن أهم العبادات بعد الشهادتين الصلاة وقد قدَّم بعض الصحابة من يؤمهم فيها وهو عمرو بن سلمة وكان أكثرهم قرآنا، وهو ابن سبع سنين أو ثمان سنين (¬3). الثالث عشر: من صفات الداعية: التزام الأدب والتلطف ولين الكلام مع الكبير والصغير: إن التزام الأدب، والتلطف، ولين الكلام من الصفات المهمة التي ينبغي للداعية أن يلتزم بها، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث؛ لأن كلا من معاذ ابن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قال لعبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "يا عمِّ هل تعرف أبا جهل؟ "، فرد على كل واحد منهما: "نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي"، وهذا فيه أدب الصغير مع الكبير بإنزاله منزلة العم، وأدب الكبير مع الصغير بإنزاله منزلة ابن الأخ، احتراما، وإكراما وتلطفا (¬4). ¬
الرابع عشر: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: دل هذا الحديث على أن من الأساليب المهمة التأكيد بالقسم عند الحاجة إليه؛ ولهذا قال كل من معاذ بن عمرو، ومعاذ ابن عفراء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في أبي جهل: "والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا"، وهذا يؤكد أهمية التأكيد بالقسم (¬1). ¬
باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه
19 - باب ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعطي المُؤلفة قلوبهم وغَيْرهم مِنَ الخمس وَنحوِه ورَوَاهُ عبد الله بْنُ زَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 171 - [3146] حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنسٍ (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أُعْطِي قُرَيْشا أتألفهم؛ لأنهم حَدِيثُ عَهْدٍ بجاهِلِيَّةٍ» (¬2). وفي رواية: «أَنَّ نَاسا مِنَ الأنصارِ قَالُوا لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا أَفَاءَ، فَطَفقَ يُعْطِي رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنَ الإِبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ الله لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِي قُريشا وَيَدَعنَا، وَسُيوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهمْ. قَالَ أنسٌ: فَحُدِّثَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمَقالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأنصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قبّةٍ مِنْ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ أَحَدا غَيْرَهُم، فَلَمَّا اجْتَمعُوا جَاءَهم رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَا كَانَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ " قَال: لَه فُقَهَاؤُهُمْ: أَمَّا ذَوُو رَأْينَا فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئا، وَأَمَّا أناس مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا: يَغْفرُ اللهُ لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي قُرَيْشا ويَتْركُ الأنصَارَ، وَسُيوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِم. فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لأُعْطِي رِجَالا حَدِيث عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ، أمَا تَرْضَوْنَ أنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأمْوَالِ، وَترجِعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوالله مَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ ". قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَدْ رَضِينَا. فَقَالَ لَهُمْ: " إِنَكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أثرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبرُوا حَتَّى تَلْقَوُا الله وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَوْضِ ". قَالَ أَنسٌ: فَلَمْ نَصْبِر ".» (¬3). ¬
وفي رواية: «دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنصَارَ فَقَالَ: "هَلْ فيكُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِكُمْ؟ " قَالُوْا: لا. إِلا ابْنُ أُخْتٍ لَنَا. فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ابْنُ أخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ".» (¬1). وفي رواية: «لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيا أَوْ شِعْبا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأنصَارِ أَوْ شِعْبَهُمْ» (¬2). وفي رواية: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ الْتَقَى هَوازِنُ وَمَعَ النَبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةُ آلافٍ وَالطُلَقَاءُ فأَدْبروا، قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الأنصَارِ؟ " قَالُوا: لَبَّيْكَ يا رَسُولَ الله وَسَعْدَيْكَ، لَبَّيْكَ نحنُ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَنَا عبد الله وَرَسُولُهُ" فانْهَزَمَ الْمُشْرِكينَ فَأعطَى الطُلَقَاءَ وَالْمُهاجِرِينَ وَلَمْ يُعْطِ الأنصَارَ شَيْئا، فَقَالُوا فَدَعَاهُمْ فَأَدْخَلَهُمْ فِي قبةٍ فَقَالَ: "أَمَا ترضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبَعيرِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللهِ" فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيا، وَسَلَكَتِ الأنصَارُ شِعْبا لاخْترتُ شِعْبَ الأنصَارِ» (¬3). وفي رواية: «جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسا مِنَ الأنصَار فَقَالَ: "إِنَّ قُرَيْشا حَدِيثُ عَهْدٍ بجاهِليةٍ وَمُصِيبةٍ، وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْبرهُمْ، وَأتألفهم، أمَا ترضَوْنَ أَنْ يرجِعَ الناسُ بِالدُّنْيَا وَترجِعُونَ برَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بُيوتكُم؟» (¬4). وفي رواية: «قَالَتِ الأنَصَارُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ - وَأَعْطَى قُرَيْشا - والله إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ، إِنَّ سَيُوفَنَا لتقْطُرُ مِنْ دِمَاءِ قُرَيْشٍ، وَغَنَائِمُنَا تُرَدُّ عَلَيْهِمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا الأنصَارَ، قَالَ: فَقَالَ: "مَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ " - وَكَانُوا لا يَكْذِبُونَ - فَقَالُوا: هُوَ الَّذِي بَلَغَكَ. قَالَ: "أَوَلَا تَرضَوْنَ أَنْ يَرجِعَ النَّاسُ بِالغَنائِم إِلى بُيوتهم وَترجِعُونَ بِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى بُيُوتكُمْ» (¬5). وفي رواية: «لما كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ أَقْبَلَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ وَغَيْرُهُمْ بنَعَمِهِم وَذَرَارِيِّهمْ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةُ آلافٍ وَمِنَ الطُلَقَاءِ فَأَدْبروا عَنْهُ حَتَّى بقِيَ وَحْدَهُ، فنَادَى يَوْمَئِذٍ ¬
نداءين لم يخلط بينهما التفت عن يمينه فقال: "يا معشر الأنصار" قالوا: لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك، ثم التفت عن يساره فقال: "يا معشر الأنصار". قالوا: لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك وهو على بغلة بيضاء فنزل فقال: "أنا عبد الله ورسوله" فانهزم المشركون فأصاب يومئذ غنائم كثيرة فقسم في المهاجرين والطلقاء ولم يعط الأنصار شيئا فقالت الأنصار: إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا فبلغه ذلك فجمعهم في قبة فقال: "يا معشر الأنصار ما حديث بلغني عنكم؛ " فسكتوا فقال: "يا معشر الأنصار ألا ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحوزونه إلى بيوتكم؟ " قالوا: بلى، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لأخذت شعب الأنصار" فقال هشام: يا أبا حمزة وأنت شاهد ذاك قال: وأين أغيب عنه؟.» (¬1). * شرح غريب الحديث: * قبة من أدم: القبة من البنيان تطلق على البيت المدور وهو معروف عند التركمان والأكراد، والجمع قباب، وهي من الخيام، والأدم بيت صغير مستدير وهو من بيوت العرب (¬2). * أدم: الأدم جمع أديم وهو الجلد (¬3). * أفاء: الفيء ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد، وأصل الفيء الرجوع، يقال: فاء يفيء فئة، وفيوءا كأنه كان في الأصل لهم فرجع إليهم، ومنه قيل للظل الذي يكون بعد الزوال: فيء لأنه يرجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق، ويكون الفيء: الرجوع من جهة إلى جهة أو من مفارقة إلى موافقة (¬4). * أثرة: الأثرة: الاستئثار: أي يستأثرون عليكم فيفضل عليكم غيركم، ¬
أو ينفرد بالاستئثار من الفيء دونكم، والاستئثار: الانفراد بالشيء (¬1). * فطفق: طفق: بمعنى أخذ في الفعل، وجعل يفعل، وهي من أفعال المقاربة (¬2). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من وسائل الدعوة: التأليف بالمال. 2 - من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الفتح وغزوة حنين. 3 - أهمية الستر على أهل الصلاح والتقوى. 4 - من صفات الداعية: التثبت. 5 - من وسائل الدعوة: التأليف بالجاه. 6 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم. 7 - من أساليب الدعوة: التأليف بطيب الكلام. 8 - من معجزات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإخبار بالمغيبات. 9 - من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض فضائله أو مناقبه عند الحاجة انتصارا للحق. 10 - من موضوعات الدعوة: الحض على الصبر. 11 - عظم محبة الصحابة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 12 - حسن أدب الأنصار مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 13 - من صفات الداعية: الصدق. 14 - من أسباب النصر: عدم الإعجاب بالكثرة والقوة. 15 - من صفات الداعية: الشجاعة. 16 - من أصناف المدعوين: المشركون. 17 - من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى. 18 - من صفات الداعية: التواضع. 19 - من أساليب الدعوة: الاستفهام الإنكاري. ¬
20 - من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من وسائل الدعوة: التأليف بالمال: تألف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث قريشا بالمال فأعطى رجالا منهم المائة من الإبل، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني أعطي قريشا أتألفهم؛ لأنهم حديث عهد بجاهلية»، وهذا يؤكد أهمية التأليف بالمال في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ (¬1). ثانيا: من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الفتح وغزة حنين: غزوة الفتح الأعظم ظهر ذكرها في هذا الحديث؛ لقول الراوي: «قالت الأنصار يوم فتح مكة: وأعطى قريشا؛ والله إن هذا لهو العجب»، كما ظهر ذكر غزوة حنين في قوله: «لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم». . . "، وهذا يبين أهمية ذكر الحوادث التاريخية التي نصر الله فيها الإسلام وأهله، فقد خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لغزوة فتح مكة في شهر رمضان ومعه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، ففتح الله عليه، ونصره، وأعز الله الإسلام وأهله، وطهر مكة من دنس الجاهلية (¬2) وبعد فتح مكة سمعت هوازن برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما فتح الله عليه من مكة فاجتمعوا لقتال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج إليهم في أصحابه الذين فتح الله بهم مكة، وخرج معه ألفان من أهل مكة، فحصل القتال العظيم، ثم نصر الله رسوله، والمؤمنين في معركة حنين، وأمدهم بالملائكة، وغنموا غنائم عظيمة، وأسلم بعد المعركة خلق كثير، والحمد لله (¬3). ثالثا: أهمية الستر على أهل الصلاح والتقوى: إن من أهم الوسائل الدعوية التي ينبغي للداعية أن يعتني بها، الستر على الناس وعدم التشهير بهم، وقد دل هذا الحديث على هذه الوسيلة؛ «لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بلغه قول الأنصار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم: " يغفر الله لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ يعطي قريشا ويدعنا؟ ¬
وسيوفنا تقطر من دمائهم" دعاهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجمعهم ولم يدع معهم أحدا غيرهم، وقال: " هل فيكم أحد من غيركم؟ " قالوا: لا، إلا ابن أخت لنا، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ابن أخت القوم منهم»، وهذا يؤكد أهمية الستر على المدعو إذا وقع في زلة أو خطأ؛ ولهذا حث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الستر فقال: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه؛ ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه» (¬1) والشاهد في هذا الحديث قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة». رابعا: من صفات الداعية: التثبت: ظاهر في هذا الحديث أهمية التثبت في الأمور؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما أخبر بمقالة الأنصار: «يغفر الله لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ يعطي قريشا ويدعنا» تثبت ولم يعجل، بل جمعهم وقال: «ما كان حديث بلغني عنكم» ثم بين لهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان يخفى عليهم، فاقتنعوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، فدل ذلك على أهمية التثبت والتأني وعدم العجلة (¬2). خامسا: من وسائل الدعوة: التأليف بالجاه: دل هذا الحديث على أن التأليف بالجاه من وسائل الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ؛ ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه للأنصار: «إني لأعطي رجالا حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به؛ " قالوا: بلى يا رسول الله، قد رضينا،» وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم: «لو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم»، وهذا يؤكد التأليف بالجاه، فقد تألفهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجاهه دون ماله (¬3). ¬
سادسا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: لا ريب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يستخدم التأكيد بالقسم عند الحاجة إليه؛ ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث للأنصار: «فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به»، فأكد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقسم تأكيدا على ما يقول، فاتضح بذلك أهمية التأكيد بالقسم عند الحاجة إليه (¬1). سابعا: من أساليب الدعوة: التأليف بطيب الكلام: لا شك أن طيب الكلام، والتلطف فيه من أساليب الدعوة النافعة؛ ولهذا استخدمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال في هذا الحديث للأنصار: «أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، وهذا الكلام الطيب يظهر فيه التلطف، واللين الحكيم؛ قال الإمام الكرماني رحمه الله: " إنما أراد به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تألف الأنصار، واستطابة نفوسهم، والثناء عليهم في دينهم، ومذهبهم، حتى رضي أن يكون واحدا منهم، لولا ما يمنعه عنه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها " (¬2) وهذا يؤكد للداعية أهمية طيب الكلام والتلطف فيه (¬3). ثامنا: من معجزات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإخبار بالمغيبات: أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببعض الغيوب ووقعت كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدل ذلك على أنه رسول الله حقا، ومن ذلك ما ثبت في هذا الحديث عندما قال للأنصار: " إنكم سترون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض "، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وفيه علم من أعلام النبوة، فكان كما قال (¬4) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (¬5). تاسعا: ذكر الداعية بعض فضائله أو مناقبه عند الحاجة انتصارا للحق: لا ريب أن ذكر الداعية بعض ما يتصف به من صفات حميدة عند الحاجة لا محذور فيه إذا لم يكن على وجه العجب أو الكبر، وقد ظهر في هذا الحديث ¬
قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنا عبد الله ورسوله»، فإذا احتاج الداعية إلى ذلك؛ لكونه يؤثر على المدعوين، فإنه من الأمور النافعة (¬1) والله المستعان (¬2). عاشرا: من موضوعات الدعوة: الحض على الصبر: إن الصبر من الموضوعات التي ينبغي للداعية أن يحض الناس عليها؛ ولهذا حث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث الأنصار على الصبر فقال: «إنكم سترون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض»، وهذا يؤكد أهمية الحث على الصبر. (¬3). الحادي عشر: عظم محبة الصحابة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم يحبون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبا عظيما، ولهذا ثبت في هذا الحديث قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا معشر الأنصار"، فقالوا: " لبيك يا رسول الله وسعديك، لبيك نحن بين يديك»، وهذه الاستجابة بالتلبية تدل على حبهم لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬4). الثاني عشر: حسن أدب الأنصار مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ظهر في هذا الحديث حسن أدب الأنصار مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنهم قالوا: «يغفر الله لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» عندما رأوه لم يقسم لهم؛ ولأنهم لم يجادلوه، ولم يماروه عندما جمعهم وبين لهم وجه الصواب، فأسلموا له قلوبهم وعقولهم؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ذكره لفوائد هذا الحديث: " فيه حسن أدب الأنصار في تركهم المماراة " (¬5) فيلزم كل داعية بل كل مسلم أن يلتزم الأدب مع رسول الله في حياته، وبعد موته باتباع سنته والسير على منهجه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثالث عشر: من صفات الداعية: الصدق: الصدق يهدي إلى البر؛ ولهذا كان من أهم الصفات التي ينبغي للداعية أن يتصف بها، وقد ظهر في هذا الحديث أن الأنصار صدقوا مع رسول الله ولم ¬
يكذبوا عليه عندما سألهم فقال: «ما الذي بلغني عنكم؟»، قال الراوي: وكانوا لا يكذبون، فقالوا: «هو الذي بلغك» وأخبروه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما حصل، فأخبرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما عنده فرضوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، وهذا يؤكد أهمية الصدق (¬1). الرابع عشر: من أسباب النصر: عدم الإعجاب بالكثرة والقوة: إن الإعجاب بالكثرة والقوة من أسباب الهزيمة، وعدم ذلك من أسباب النصر، وقد ظهر في هذا الحديث ما يشير إلى ذلك، وهو قول الراوي: «لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم، بنعمهم، وذراريهم، ومع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرة آلاف، ومن الطلقاء، فأدبروا عنه حتى بقي وحده». . . "، وهذا في أول الأمر ثم أنزل الله سكينته وجنوده، فنصر رسوله والمؤمنين، والهزيمة في أول المعركة إنما كانت بسبب من قال: «لن نغلب اليوم من قلة». (¬2). الخامس عشر: من صفات الداعية: الشجاعة: تحقق في هذا الحديث أن الشجاعة من أهم الصفات التي يتأكد على الداعية أن يتصف بها عقليا وقلبيا، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقي يقاتل يوم حنين وانهزم الناس، فقاتل قتالا عظيما حتى تراجع الناس وأنزل الله النصر والحمد لله (¬3). السادس عشر: من أصناف المدعوين: المشركون: دل جهاد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشركين، وقتاله لهم في معركة حنين وغيرها على أن المشركين من أصناف المدعوين الذين ينبغي للداعية أن يدعوهم على حسب الطرق الحكيمة في دعوتهم إلى الله عزَّ وجلَّ. (¬4). السابع عشر: من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى: إن أهل الصلاح والتقوى من أصناف المدعوين، وقد ظهر في هذا الحديث ما حصل من الأنصار ثم أقنعهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأرضاهم بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني لأعطي ¬
رجالا حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعوا إلى رحالكم برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، وهذا يؤكد أن أهل الصلاح والتقوى من أصناف المدعوين (¬1). الثامن عشر: من صفات الداعية: التواضع: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم الناس تواضعا؛ ولهذا ركب على البغلة في معركة حنين ثم نزل إلى الأرض فقاتل ففتح الله عليه، وهذا يدل على شجاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتواضعه، فينبغي لكل مسلم أن يتواضع لله وخاصة الداعية إلى الله عزَّ وجلَّ؛ لما لذلك من الفوائد والتأثير على قلوب المدعوين (¬2). التاسع عشر: من أساليب الدعوة: الاستفهام الإنكاري: إن الاستفهام الإنكاري من الأساليب الدعوية التي ينبغي للداعية أن يعتني بها؛ ولهذا استخدم هذا الأسلوب في هذا الحديث؛ لقول هشام: «يا أبا حمزة وأنت شاهد ذاك؟ قال: " وأين أغيب عنه» وهذا استفهام إنكاري (¬3). العشرون: من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين: ظهر في هذا الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راعى أحوال المدعوين، فمن كان منهم من أهل الإيمان الكامل الذي لا نقص فيه لم يقسم له من الغنائم في معركة حنين، ومن كان دون ذلك أعطاه العطاء العظيم؛ ليقوى إيمانه، ويجذب قلبه إلى الإسلام، وقد كان أصحاب الفضل العظيم في كمال الإيمان الأنصار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، وهذا يؤكد أهمية مراعاة أحوال المدعوين، والله المستعان (¬4). ¬
172 - [3149] حدثنا يحيى بن بكير: حدثنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس بن مالك (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «كنت أمشي مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء» (¬2). وفي رواية: "فجبذه بردائه جبذة شديدة" (¬3). * شرح غريب الحديث: * برد: البرد: نوع من الثياب معروف والجمع أبراد، وبرود، والبردة: الشملة، المخططة، وقيل: كساء أسود مربع فيه صور تلبسه الأعراب، وجمعها برد (¬4). * غليظ الحاشية: حاشية كل شيء: طرفه وجانبه. أي غليظ الجانب أو الطرف. (¬5). * فجبذه: الجبذ لغة في الجذب، وقيل: هو مقلوب. (¬6). * صفحة عاتق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صفحة كل شيء: وجهه، وجانبه، وناحيته، والعاتق ما بين المنكب والعنق. (¬7). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: ¬
1 - من صفات الداعية: التواضع. 2 - أهمية الزهد في حياة الداعية. 3 - من صفات الداعية: الحلم. 4 - من صفات الداعية: الكرم. 5 - أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة. 6 - من صفات الداعية: حسن الخلق. 7 - من وسائل الدعوة: التأليف بالعفو مكان الانتقام. 8 - أهمية التأليف بالمال. 9 - من صفات الداعية: الصبر على الأذى. 10 - من صفات الداعية: دفع السيئة بالحسنة. 11 - أهمية إعراض الداعية عن الجاهلين. 12 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 13 - من أصناف المدعوين: الأعراب. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: التواضع: التواضع من الصفات الكريمة التي يتأكد على الداعية أن يتصف بها، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث؛ لقول أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "كنت أمشي مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدل ذلك على تواضع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه مشى مع خادمه، والعظماء في الغالب لا يمشون مع الخدم، وإنما مع كبار القوم ومع القوات التي تحرسهم (¬1). ثانيا: أهمية الزهد في حياة الداعية: دل هذا الحديث على زهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبس البرد النجراني غليظ الحاشية، قال الإمام الكرماني رحمه الله في ذكره لفوائد هذا الحديث: "وفيه ¬
زهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحلمه، وكرمه، وأنه على خلق عظيم" (¬1) وهذا يؤكد زهده وغنى نفسه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي" (¬2) فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى بالزهد وغنى النفس؛ لمحبة الله له (¬3). ثالثا: من صفات الداعية: الحلم: حلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذا الأعرابي الجافي الذي جبذه ببرده حتى أثر في صفحة عاتقه، وقال: مر لي من مال الله الذي عندك، فلم يعاقبه على هذه الأعمال التي تثير الغضب، بل حلم ولم يغضب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فينبغي للداعية: أن يكون حليما رفيقا، متأنيا (¬4). رابعا: من صفات الداعية: الكرم: الكرم يدل على عظم الكريم وعلو مكانته؛ ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرم الخلق وأجودهم، ومما يؤكد ذلك ما فعله مع هذا الأعرابي الذي جبذه بردائه، وسأله من المال؛ فأمر له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعطاء، وهذا يؤكد غاية الكرم؛ فإن من يعطي عدوه بطيب نفس منه يدل على كرمه العظيم، وجوده المؤكد (¬5). خامسا: أهمية أدب المدعو مع العلماء والدعاة: لا شك أن هذا الأعرابي قد أساء الأدب، وبالغ في الإساءة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعمل أعمالا تدل على جهله: فجبذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببردته حتى أثر في صفحة عاتقه، ومع ذلك يأمره أن يعطيه! فلا ينبغي للمدعو أن يسيء الأدب بل يلزمه لزوما مؤكدا أن يتأدب مع العلماء والدعاة، ويناصرهم على الحق، ويدفع عنهم الأذى امتثالا لأمر الله عزَّ وجلَّ؛ وأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬6). ¬
سادسا: من صفات الداعية حسن الخلق: حسن الخلق من الصفات العظيمة التي يتأكد على الداعية إلى الله عزَّ وجلَّ أن يتصف بها؛ وقد دل هذا الحديث على هذه الصفة الحميدة؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما جبذه الأعرابي ببردته، حتى أثرت به حاشية الرداء من شدة جبذته، وقال: مر لي من مال الله الذي عندك، لم يزد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أن التفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء، وهذا والله يؤكد حسن خلقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأكيدا بالغا (¬1). سابعا: من وسائل الدعوة: التأليف بالعفو مكان الانتقام: العفو والصفح من الأمور العظيمة التي ينبغي العناية بها في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ؛ ولهذا عفا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذا الأعرابي، فلم يعاقبه، وصفح عنه فأزال ما في نفسه عليه فضحك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا فجبذه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببرده حتى أثرت في صفحة عاتقه، يؤكد عقوبته والغضب عليه، ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تألفه بالعفو مكان الانتقام؛ لأن الله عزَّ وجلَّ أمره بالعفو فقال: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89] (¬2) وقال عزَّ وجلَّ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] (¬3) فينبغي للداعية أن يتألف المدعوين بالعفو، ويتصف به، حتى يجذب قلوب المدعوين، ويحبه الله عزَّ وجلَّ. (¬4). ثامنا: أهمية التأليف بالمال: التأليف بالمال من أهم وسائل الدعوة التي تجذب بها قلوب المدعوين، وقد دل هذا الحديث على هذا الأسلوب؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تألف الأعرابي الذي جبذه ببرده وقال مر لي من مال الله، فأمر له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعطاء، وهذا يؤكد أهمية التأليف بالمال (¬5). ¬
تاسعا: من صفات الداعية: الصبر على الأذى: إن من الصفات الجميلة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها: الصبر على الأذى؛ لأن الصبر يحبس به الداعية نفسه ويضبطها عن الجزع؛ ولهذا صبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على أذى هذا الأعرابي الذي جبذه ببرده حتى انشق، وبقيت حاشيته في عنق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬1) وقد أمر الله عباده بالصبر ووعدهم عليه بالجزاء بغير حساب، قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] (¬2) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي هذا الحديث بيان حلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصبره على الأذى؛ في النفس، والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام؛ وليتأسى به الولاة بعده في خلقه الجميل: من الصفح، والإغضاء، والدفع بالتي هي أحسن" (¬3) وهذا يؤكد جملا من الأخلاق الكريمة، ومنها الصبر على الأذى (¬4). عاشرا: من صفات الداعية: دفع السيئة بالحسنة: الدفع بالحسنى من الصفات الجميلة التي ينبغي أن يتخلق بها الداعية إلى الله عزَّ وجلَّ، وقد دل هذا الحديث على هذه الصفة؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قابل إساءة الأعرابي بالحلم، والعفو، والعطاء؛ قال الإمام النووي رحمه الله في ذكره لفوائد هذا الحديث: "وفيه احتمال الجاهلين والإعراض عن مقابلتهم، ودفع السيئة بالحسنة، وإعطاء من يتألف قلبه، والعفو عن مرتكب كبيرة لا حد فيها، وإباحة الضحك عند الأمور التي يتعجب منها في العادة، وفيه كمال خلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحلمه" (¬5) والداعية قد جعل الله له مخرجا من أعدائه؛ فإن العدو عدوان: عدو يرى بالعين، وهو شيطان الإنس، والعدو الآخر شيطان الجن، وهو لا يرى، فالمخرج من شيطان الإنس: بالإعراض عنه، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن، والمخرج من شيطان الجن: بالاستعاذة بالله منه. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] (¬6) ¬
وقال عن النجاة من العدو الثاني: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] (¬1) وما أحسن ما قاله القائل. فما هو إلا الاستعاذة ضارعا ... أو الدفع بالحسنى هما خير مطلوب فهذا دواء الداء من شر ما يرى ... وذاك دواء الداء من شر محجوب (¬2) فينبغي للداعية: أن يدفع السيئة بالحسنة، ويحسن إلى من أساء إليه، ويعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويبش في وجه من قل أدبه، حتى يحصل على الثواب العظيم، وينجو من شر أهل الشر، ويجذب قلوب العقلاء إلى دعوته، والله المستعان (¬3). الحادي عشر: أهمية إعراض الداعية عن الجاهلين: الإعراض عن الجاهلين صفة من صفات الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولهذا أعرض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذا الأعرابي امتثالا لأمر الله عزَّ وجلَّ حيث قال عزَّ وجلَّ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] (¬4) وقد مدح الله من فعل ذلك فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] (¬5) ومما يدل على التزام الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم بهذا الخلق العظيم، ما ثبت عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قال: «قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شيبا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا ¬
بالعدل، فغضب عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حتى هم به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله» (¬1) وهذا يؤكد للدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ أهمية الإعراض عن الجاهلين. الثاني عشر: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: الداعية الصادق مع الله عزَّ وجلَّ: هو الذي يقتدي برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويكون قدوة لغيره، وقد دل هذا الحديث على هذه الوسيلة الجميلة؛ ولهذا ذكر الحافظ ابن حجر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في فوائد هذا الحديث: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صبر على الأذى، وتجاوز على جفاء من يريد تألفه للإسلام؛ ليتأسى به الولاة بعده في خلقه الجميل (¬2) فينبغي للداعية أن يكون كذلك، والله المستعان (¬3). الثالث عشر: من أصناف المدعوين: الأعراب: ظهر في هذا الحديث أن من أصناف المدعوين الأعراب؛ ولهذا حلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذا الأعرابي الذي جبذه بردائه، وتألفه بالعفو، والعطاء، فدل ذلك على أن الأعراب من أصناف المدعوين الذين ينبغي أن يدعوا إلى الله عزَّ وجلَّ على حسب عقولهم، والأعراب لهم جفاء، وشدة، وقسوة، ومن كان منهم من أهل الكفر كان أشد من غيره في الإعراض، قال الله عزَّ وجلَّ: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 97 - 99] سورة التوبة الآيات 97 - 99.، ولا شك أن من سكن البادية يغلب عليه الجفاء في الغالب والغلظة، وقد يكون بعض أهل البادية على غير ذلك، ولكن هذا هو الأغلب، فعن ¬
أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من بدا جفا (¬1) ومن اتبع الصيد غفل (¬2) ومن أتى أبواب السلطان افتتن (¬3) وما ازداد عبد من السلطان قربا إلا ازداد من الله بعدا» (¬4) وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن» (¬5) وهذا الحديث يبين أحوال الأعراب، فليعتن الداعية بهم على حسب حالهم. ¬
173 - [3150] حدثنا عثمان بن أبي شيبة: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «لما كان يوم حنين آثر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القسمة: فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك. وأعطى أناسا من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة. قال رجل (¬2) والله إن هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله. فقلت: والله لأخبرن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتيته فأخبرته. فقال: "فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ رحم الله موسى. قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» (¬3). وفي رواية: «قسم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسما فقال رجل: "إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله"، فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال: "يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر".» (¬4). وفي رواية: «رحمة الله على موسى». . . " (¬5). وفي رواية: ". . . «فأخبرته فتمعر وجهه». . . " (¬6). وفي رواية: ". . . «فأتيته وهو في أصحابه فساررته فشق ذلك على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتغير وجهه حتى وددت أني لم أكن أخبرته» (¬7). وفي رواية: ". . . «فغضب حتى احمر وجهه». . . " (¬8). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من وسائل الدعوة: نقل الكلام بقصد التحذير والإصلاح وإزالة المنكر. 2 - من صفات الداعية: الصبر على الأذى. 3 - أهمية الإعراض عن الجاهلين. 4 - من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة. 5 - أهمية التأليف بالمال في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ. 6 - من وسائل الدعوة: التأليف بالعفو مكان الانتقام. 7 - من صفات الداعية: الحلم. 8 - من أساليب الدعوة: الدعاء للقدوات الحسنة. 9 - من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين. 10 - من أساليب الدعوة: الاستفهام الإنكاري. 11 - من أصناف المدعوين: أشراف الناس. 12 - من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة حنين. 13 - من القواعد الدعوية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. * والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من وسائل الدعوة: نقل الكلام بقصد التحذير والإصلاح وإزالة المنكر: إن نقل الكلام على جهة التحذير والإصلاح من وسائل الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ عند الحاجة، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقول من قال: "والله إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله "، فأقر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن مسعود على هذا الإخبار وقال: «فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟، رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر»، وقد ترجم البخاري رحمه الله لهذا الحديث فقال: "باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه" (¬1) وقال الحافظ ¬
ابن حجر رحمه الله على هذه الترجمة: "المذموم من نقلة الأخبار من يقصد الإفساد، وأما من يقصد النصيحة، ويتحرى الصدق، ويجتنب الأذى فلا، وقل من يفرق بين البابين فطريق السلامة في ذلك لمن يخشى عدم الوقوف على ما يباح من ذلك مما لا يباح: الإمساك عن ذلك" (¬1) وقال رحمه الله في مراد البخاري رحمه الله بالترجمة: "وأراد البخاري بالترجمة بيان جواز النقل على جهة النصيحة؛ لكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينكر على ابن مسعود نقله ما نقل، بل غضب من مقول المنقول عنه، ثم حلم وصبر على أذاه، اتساء بموسى عليه السلام، وامتثالا (¬2) لقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] سورة الأنعام، الآية: 90، وقال النووي رحمه الله في النميمة ونقل الكلام: "فإن دعت حاجة إليها فلا مانع منها، وذلك كما إذا أخبره بأن إنسانا يريد الفتك به أو بأهله، أو بماله، أو أخبر الإمام أو من له ولاية: بأن إنسانا يفعل كذا، ويسعى بما فيه مفسدة، ويجب على صاحب الولاية الكشف عن ذلك، وإزالته، فكل هذا وما أشبهه ليس بحرام، وقد يكون بعضه واجبا وبعضه مستحبا على حسب المواطن والله أعلم" (¬3) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفي هذا الحديث جواز إخبار الإمام وأهل الفضل بما يقال فيهم مما لا يليق بهم؛ ليحذروا القائل، وفيه بيان ما يباح من النميمة، لأن صورتها موجودة في صنيع ابن مسعود هذا، ولم ينكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أن قصد ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كان نصح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإعلامه بمن يطعن فيه، ممن يظهر الإسلام ويبطن النفاق ليحذر منه، وهذا جائز كما يجوز التجسس على الكفار ليؤمن كيدهم" (¬4) وهذا يؤكد أهمية نقل الكلام عند الحاجة للتحذير والنصيحة الخالصة بشرط أن يكون الأمر واضحا لا شك فيه، وأن لا يحصل بذلك منكر أكبر، والله أعلم. ¬
ثانيا: من صفات الداعية: الصبر على الأذى: الصبر على الأذى من الصفات المهمة التي يتأكد على الداعية الاتصاف بها، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صبر على أذى هذا الرجل الذي قال له: " إن هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله! "، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قال بعض العلماء: الصبر على الأذى من باب جهاد النفس وقد جبل الله الأنفس على التألم بما يفعل بها ويقال فيها؛ لهذا شق على النبي صلى الله عليه وسلم نسبتهم له إلى الجور في القسمة، لكنه حلم عن القائل؛ لما علم من جزيل ثواب الصابرين، وأن الله تعالى يأجره بغير حساب، والصابر أعظم أجرا من المنفق؛ لأن حسنته مضاعفة إلى سبعمائة أما الصابر فيجزى بغير حساب " (¬1) وقال رحمه الله: "وفيه أن أهل الفضل قد يغضبهم ما يقال فيهم مما ليس فيهم، ومع ذلك فيتلقون ذلك بالصبر والحلم كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم اقتداء بموسى عليه السلام " (¬2) وهذا يبين للداعية أهمية الصبر على الأذى، والله المستعان (¬3). ثالثا: أهمية الإعراض عن الجاهلين: الإعراض عن الجاهلين من الصفات الحميدة؛ ولهذا أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المنافق الذي قال: "إن هذه قسمة ما عدل فيها"، وهذا يوضح للداعية ويبين له أن الإعراض عن الجاهلين من صفات الرسل عليهم الصلاة والسلام (¬4). رابعا: من وسائل الدعوة: القدوة الحسنة: لا شك أن القدوة الحسنة من أهم وسائل الدعوة؛ ولهذا اقتدى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بموسى في صبره على الأذى، فصبر صلى الله عليه وسلم على قول من قال: "إن هذه قسمة ما عدل فيها"، وقال صلى الله عليه وسلم: «رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر»، وهذا فيه استخدام قياس الأولى، فإذا كان موسى صلى الله عليه وسلم صبر على ¬
الأذى الذي هو أكثر من هذا، فالصبر على الأذى القليل أولى بالتحمل (¬1). خامسا: أهمية التأليف بالمال في الدعوة إلى الله عز وجل: التأليف بالمال له أهمية بالغة في الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولهذا أعطى النبي صلى الله عليه وسلم - كما في هذا الحديث- الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب فآثرهم في القسمة، وقد جاء التفصيل بأكثر من هذا في رواية الحديث عند مسلم، «فقد آثر صلى الله عليه وسلم يوم حنين أشرافا من العرب في القسمة: فأعطى صفوان بن أمية مائة من الإبل، وأعطى أبا سفيان مائة، وعيينة بن حصن مائة، والأقرع بن حابس مائة، وعلقمة بن علاثة مائة، وقيل: أعطى مالك بن عوف مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال عباس بن مرداس: أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع فما كان بدر ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تخفض اليوم لا يرفع فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، مائة من الإبل مثلهم» (¬2) وهذا يؤكد على أهمية التأليف بالمال وأثره على النفوس، وخاصة ضعفاء الإيمان (¬3). سادسا: من وسائل الدعوة: التأليف بالعفو مكان الانتقام: إن التأليف بالعفو مكان الانتقام من أهم الوسائل الدعوية؛ ولهذا عفا صلى الله عليه وسلم عن هذا الرجل الجافي الجاهل الذي قال: "إن هذه قسمة ما عدل فيها"، وهذا يؤكد للداعية أهمية التأليف بالعفو مكان الانتقام، والله المستعان (¬4). سابعا: من صفات الداعية: الحلم: حلم النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل الذي قال فيه: "إن هذه قسمة ما عدل فيها ¬
وما أريد بها وجه الله "، فلم يعاقبه على ذلك، فدل ذلك على كمال حلمه صلى الله عليه وسلم، فينبغي للداعية أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في حلمه، وعفوه وصفحه، وفي جميع أحواله التي لا تختص به صلى الله عليه وسلم (¬1). ثامنا: من أساليب الدعوة: الدعاء للقدوات الحسنة: إن من أساليب الدعوة النافعة الدعاء للقدوات الحسنة: من الأنبياء، والعلماء، والدعاة؛ لما في ذلك من لفت قلوب المدعوين إلى أعمالهم الطيبة، فيحبونهم ويقتدون بهم، وقد دل الحديث على هذا الأسلوب بقوله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر"؛ فإن هذا يشد قلوب المدعوين إلى الاقتداء بمن دعي له، فينبغي للداعية أن يدعو للعلماء عند ذكرهم ويترحم عليهم، ويثني عليهم بأعمالهم الطيبة بحضرة المدعوين؛ لما في ذلك من ترغيب في أعمالهم؛ ولحقهم على من استفاد من علمهم، والله عز وجل أعلم (¬2). تاسعا: من صفات الداعية: مراعاة أحوال المدعوين: ظهر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يراعي أحوال المدعوين؛ ولهذا أعطى أناسا من أشراف قريش وترك آخرين (¬3) قال صلى الله عليه وسلم: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه» (¬4) وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «أمرنا أن ننزل الناس منازلهم» (¬5) وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» (¬6). وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله» (¬7) ¬
وهذه الأحاديث وغيرها تؤكد مراعاة أحوال المدعوين على حسب عقولهم، وعقيدتهم، وأجناسهم، ومجتمعاتهم، وعلمهم، وغير ذلك (¬1). عاشرا: من أساليب الدعوة: الاستفهام الإنكاري: إن الاستفهام الإنكاري من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله عز وجل، وقد دل هذا الحديث على هذا الأسلوب في قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله»؟ "، وهذا يؤكد أهمية أسلوب الاستفهام الإنكاري، فينبغي أن يعتني به الداعية عند الحاجة إليه والله الموفق. (¬2). الحادي عشر: من أصناف المدعوين: أشراف الناس: إن أشراف الناس صنف من أصناف المدعوين؛ ولهذا تألفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاهم- كما في هذا الحديث- عطاء خاصا، مراعاة لأحوالهم، وإنزالا لهم منازلهم، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة»، وهم من الطلقاء الذين أسلموا يوم الفتح، ومنهم من هو من المهاجرين، وقد اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بجماعة فأجزل لهم العطاء، منهم أبو سفيان، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، ومالك بن عوف، والأقرع بن حابس، وعلقمة بن علاثة، والعباس بن مرداس، وغيرهم، وقد أعطى كل واحد من هؤلاء مائة من الإبل "، (¬3) فينبغي للداعية أن يعتني بدعوة أشراف الناس، ويخاطبهم على قدر مكانتهم، ومنازلهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلك هذا المنهج الحكيم وأنزل كل إنسان منزلته. الثاني عشر: من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة حنين: ظهر في هذا الحديث ذكر غزوة حنين؛ لقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «لما ¬
كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناسا في القسمة»، وهذا فيه بيان لأهمية هذه الغزوة، والعناية بها، وبذكرها، وتاريخها (¬1). الثالث عشر: من القواعد الدعوية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح: لا شك أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ ولهذا والله أعلم لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل الذي قال له في هذا الحديث: "إن هذه قسمة ما عدل فيها "؛ لأنه لو قتله، لقيل: إن محمدا يقتل أصحابه، وهذا فيه تنفير من الإسلام؛ لأن المنافقين من جملة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبدو للناس، فإذا قتلهم كان في ذلك مفاسد عظيمة، والله أعلم (¬2). ¬
حديث أسماء كنت أنقل النوى من أرض الزبير. . .
[حديث أسماء كنت أنقل النوى من أرض الزبير. . .] 174 - [3151] حدثنا محمود بن غيلان: حدثنا أبو أسامة: حدثنا هشام قال: أخبرني أبي عن أسماء بنت أبي بكر (¬1) رضي الله عنهما قالت: «كنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي. وهي مني على ثلثي فرسخ ".» وقال أبو ضمرة عن هشام، عن أبيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير أرضا من أموال بني النضير".» (¬2). وفي رواية: «عن أسماء رضي الله عنها قالت: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك، ولا شيء غير ناضح، وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء، وأخرز غربه، وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يوما والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ثم قال: "إخ إخ " ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، وكان أغير الناس، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه، فأناخ؛ لأركب فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه. قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم يكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني ".» (¬3). * شرح غريب الحديث: * " فرسخ " الفرسخ من المسافة المعلومة في الأرض مأخوذ منه، والفرسخ ثلاثة أميال أو ستة، سمي بذلك؛ لأن صاحبه إذا مشى قعد واستراح من ذلك ¬
كأنه سكن (¬1) وقيل: الفرسخ: ثلاثة أميال هاشمية، أو اثنا عشر ألف ذراع، أو عشرة آلاف (¬2). * " ناضح " الناضح، والنواضح: الإبل السواني التي يسقى عليها الزرع والنخل، واحدها: ناضح، وجمعها نواضح (¬3). * " غربه " الغرب الدلو (¬4). * " سياسة الفرس " أي القيام على الفرس بما يصلحه (¬5). * " الغيرة " أي الحمية والأنفة، يقال: رجل غيور، وامرأة غيور، بلا هاء؛ لأن فعولا يشترك فيه الذكر والأنثى (¬6). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - مكانة الصحابيات وصبرهن على خدمة الأزواج. 2 - من صفات الداعية: الكرم. 3 - من صفات الداعية: التواضع. 4 - أهمية الحياء وعظم منزلته. 5 - من صفات الداعية: الغيرة المحمودة. 6 - من صفات الداعية: الحرص على صلة الأرحام. 7 - أهمية الصدق ومكانته. 8 - من صفات الداعية: الرحمة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: ¬
أولا: مكانة الصحابيات وصبرهن على خدمة الأزواج: إن نساء الصحابة رضي الله عنهم كن مجاهدات عاملات في خدمة الأزواج، صابرات على المشقة والتعب ابتغاء وجه الله عز وجل، ومما يدل على ذلك ما فعلته أسماء بنت أبي بكر رضى الله عنهما، من العمل العظيم في خدمة الزوج الشجاع الزبير بن العوام رضي الله عنه، فقد كانت تنقل النوى من أرض بعيدة عن منزلها، وتخرز الغرب، وتستقي الماء، وتعجن وكل ذلك بيدها، والحمل على ظهرها ورأسها، وهذا يدل على قوة عزيمتها، ورغبتها فيما عند الله عز وجل (¬1). ثانيا: من صفات الداعية: الكرم: الكرم من الصفات الحميدة؛ ولهذا اتصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير أرضا، وهذا غيض من فيض من كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي لكل مسلم أن ينهج منهجه، ويسلك طريقه صلى الله عليه وسلم (¬2). ثالثا: من صفات الداعية: التواضع: ظهر في هذا الحديث تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن خلقه مع أصحابه؛ فقد رأى أسماء بنت أبي بكر تحمل النوى على رأسها من أرض الزبير البعيدة عن منزلها، فدعاها صلى الله عليه وسلم ثم قال: «إخ إخ» لراحلته؛ لتبرك فيحمل أسماء عليها خلفه، كما كان يردف أصحابه خلفه مرارا لا تحصر، وهذا يدل على عظم تواضعه صلى الله عليه وسلم (¬3). رابعا: أهمية الحياء وعظم منزلته: لا شك أن الحياء مهم وخاصة للمرأة، وقد دل هذا الحديث على عظم حياء أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها؛ لأنها عندما أناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته لتركب خلفه استحيت رضي الله عنها ولم تركب، قالت: «فاستحييت أن أسير مع الرجال»، وقالت: «فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى»، وهذا يؤكد أهمية ¬
الحياء (¬1) ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة (¬2) والحياء شعبة من الإيمان» (¬3) وفي رواية لمسلم: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأولها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» (¬4) وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحياء لا يأتي إلا بخير» (¬5) ولأهمية الحياء عده النبي صلى الله عليه وسلم من شرائع الأنبياء التي لم تنسخ، بل يكون إلى يوم القيامة (¬6) فعن أبي مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح (¬7). فاصنع ما شئت» (¬8) وأعظم من ذلك دلالة أن هذا الحياء من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي سعيد رضي الله عنه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء (¬9) في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه» (¬10) فينبغي للدعاة إلى الله عز وجل أن يلتزموا الحياء الذي يحبه الله عز وجل؛ وليعلم أن الحياء الذي يمنع من العلم أو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس حياء، وإنما هو من الضعف والخور، والجبن، والله المستعان. ¬
خامسا: من صفات الداعية: الغيرة المحمودة: إن الغيرة المحمودة هي التي تبعث على القيام بالواجبات وتنفر من المحرمات، وقد ظهر في هذا الحديث أن الغيرة من الصفات الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها الداعية، قالت أسماء رضي الله عنها: «فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس»، ويؤكد ذلك ما صح في مدح الغيرة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أغير من الله؛ ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله؛ ولذلك مدح نفسه، [وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل]»، " (¬1) وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: «قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه (¬2) فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتعجبون من غيرة سعد؛ فوالله لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله، ولا شخص أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة» (¬3) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم [الله] عليه» (¬4) ومما يؤكد غيرة الله على محارمه ما روته عائشة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أمة محمد، ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته يزني، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم ¬
لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» (¬1). وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله: أن الغيرة نوعان: غيرة من الشيء، وغيرة على الشيء، والغيرة من الشيء: كراهة مزاحمته ومشاركته لك في محبوبك، والغيرة على الشيء: شدة حرصك على المحبوب أن يفوز به غيرك دونك أو يشاركك في الفوز به. والغيرة أيضا نوعان: غيرة العبد من نفسه على نفسه، كغيرته من نفسه على قلبه، ومن تفرقه على جمعيته، ومن إعراضه على إقباله، ومن صفاته المذمومة على صفاته المحمودة، وهذه الغيرة خاصية النفس الشريفة الذكية، وما للنفس الدنية المهينة فيها نصيب. ثم الغيرة أيضا نوعان: غيرة الله على عبده، وغيرة العبد لربه لا عليه، فأما غيرة الرب على عبده، فهي أن لا يجعله للخلق عبدا، بل يتخذه عز وجل لنفسه وحده عبدا. وغيرة العبد لربه نوعان، أيضا: غيرة من نفسه وغيرة من غيره، فالتي من نفسه: أن لا يجعل شيئا من أعماله، وأقواله، وأحواله، وأوقاته، وأنفاسه لغير ربه، والتي من غيره: أن يغضب لمحارمه عز وجل إذا انتهكها المنتهكون، ولحقوقه إذ اتهاون بها المتهاونون (¬2) فينبغي للداعية أن يتصف بالغيرة التي يحبها الله عز وجل، ويدعو الناس إليها ويحثهم عليها، ويحذرهم من محارم الله عز وجل؛ لأن الله يغار وغيرته لا تشبه غيرة أحد من خلقه؛ فإنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] والله الموفق للصواب. سادسا: من صفات الداعية: الحرص على صلة الأرحام: دل هذا الحديث على أن من الصفات الحميدة الحرص على صلة الأرحام؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه أحسن إلى بنته أسماء رضي الله عنها فأرسل إليها خادما يكفيها الفرس وما يحتاج إليه؛ ولهذا قالت رضي الله عنها: ". . . «حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم يكفيني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني»، وقد تأثرت رضي الله عنها بهذه الصلة حتى ¬
قالت: «فكأنما أعتقني»، وهذا يؤكد ويحث على العناية بالأرحام وصلتهم؛ لما في ذلك من الثواب العظيم، والأجر الكبير؛ ولأهمية صلة الرحم ألزم الله بها كل مسلم ومسلمة لنصوص كثيرة وفوائد عظيمة منها ما يأتي: 1 - أمر الله عز وجل بصلة الأرحام فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36] (¬1) وقال الله عز وجل: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] (¬2) وقال سبحانه: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الروم: 38] (¬3) وقال عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] (¬4). 2 - صلة الأرحام يزيد الله بها في العمر، ويبسط في الرزق، ويصل من وصلها، وهي من أسباب المحبة بين الأهل والأقارب، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره (¬5) فليصل رحمه» (¬6) وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «إنه من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحسن الخلق وحسن الجوار، يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار» (¬7) وعن أبي هريرة ¬
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم؛ فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة (¬1) في الأثر» (¬2) وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول على المنبر: "تعلموا أنسابكم، ثم صلوا أرحامكم، والله إنه ليكون بين الرجل وبين أخيه الشيء، ولو يعلم الذي بينه وبينه من داخلة الرحم (¬3) لأوزعه ذلك عن انتهاكه " (¬4) وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم، فإنه لا قرب لرحم إذا قطعت وإن كانت قريبة، ولا بعد لها إذا وصلت وإن كانت بعيدة» (¬5) وزاد البخاري في الأدب المفرد موقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما: «. . . وكل رحم آتية يوم القيامة أمام صاحبها تشهد له بصلة إن كان وصلها، وعليه بقطيعة إن كان قطعها». (¬6). 3 - صلة الأرحام من أسباب دخول الجنة، فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه «أن رجلا قال يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: "تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم» (¬7) وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» (¬8). ¬
4 - صلة الرحم من أسباب النجاة من العقوبة؛ لأن قطيعة الرحم تسبب العقوبة، في الدنيا والآخرة، فعن أبي بكرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة: من البغي وقطيعة الرحم» (¬1) وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يدخل الجنة قاطع» (¬2) يعني قاطع رحم (¬3) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: "هذا مقام العائذ بك من القطيعة". قال: "نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؛ " قالت: بلى يا رب، قال: "فهو لك "، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ - أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 22 - 24]»، (¬4) وعن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله» (¬5) وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل أنا الرحمن، وأنا خلقت الرحم، وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته» (¬6). 5 - صلة الرحم الكاملة التي تحصل بها الإعانة هي أن المسلم يصل من ¬
قطعه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: "لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل (¬1) ولا يزال معك من الله ظهير عليهم (¬2) ما دمت على ذلك ".» (¬3) وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» (¬4) والمراد بالواصل في هذا الحديث: الكامل؛ فإن المكافأة نوع صلة، ولا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع، فهم ثلاث درجات: واصل، ومكافئ، وقاطع، فالواصل من يعطي ويتفضل ولا يتفضل عليه، والمكافئ الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع الذي يأخذ ولا يعطي، ويتفضل عليه ولا يتفضل، وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك تقع بالمقاطعة من الجانبين، فمن بدأ بالوصل فحينئذ هو الواصل. انظر: فتح الباري لابن حجر، 10/ 424. 6 - الصدقة على ذي الرحم: اثنتان: صدقة وصلة، فعن سليمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة، والصدقة على ذي الرحم اثنتان: صلة وصدقة». (¬5). 7 - والرحم التي أمر بصلتها، هي كل ما يرتبط بقرابة سواء كانت من الأصول: كالآباء والأمهات وإن علوا، والفروع وإن نزلوا، والحواشي: من الإخوة والأخوات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، كما دل على أصل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رجل: يا رسول الله، من أحق بحسن الصحبة؛ قال: " أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك، أدناك» (¬6). ¬
وصلة الرحم أنواع على حسب الحاجة، فتكون بالنفقة لمن يحتاج ذلك، وتكون بالهدية، وبالتودد إليهم، وبالعون والإعانة على الحاجات، وبالنصيحة، وبدفع الضرر، وبالإنصاف معهم، وطلاقة الوجه، وبالعدل والقيام بالحقوق الواجبة، وبالدعاء، وبتفقد أحوالهم، والتغافل عن زلاتهم، والزيارة، وبالشفاعة الحسنة، والمعنى الجامع: إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الضرر (¬1). ويجمع أنواع الصلة قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] (¬2) فينبغي للداعية أن يعتني بالرحم ويصلها؛ فيكون قدوة حسنة، ويحض على ذلك ويدعو إليه بالقول والفعل. والله المستعان وعليه التكلان. سابعا: أهمية الصدق ومكانته: ظهر في هذا الحديث أن الصدق من الصفات الحميدة؛ ولهذا أثنت أسماء بنت أبي بكر على من اتصف به فقالت: «ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق»، وهذا يؤكد أهمية الصدق ومكانة أهل الصدق في القلوب. (¬3). ثامنا: من صفات الداعية: الرحمة: دل هذا الحديث على صفة الرحمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رحم أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما وأشفق عليها من حمل النوى على رأسها، فأراد أن يحملها خلفه؛ لأن الزبير رضي الله عنه، قال حينما بلغه الخبر: «والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه»، قال الإمام النووي رحمه الله: "وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على المؤمنين والمؤمنات، ورحمتهم ومواساتهم فيما أمكنه " (¬4) وهذا يؤكد أهمية الرحمة بالمؤمنين والمؤمنات (¬5). ¬
باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب
20 - باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب [حديث استحياء عبد الله بن مغفل من رسول الله] 175 - [3153] حدثنا أبو الوليد: حدثنا شعبة، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن مغفل (¬1) رضي الله عنه قال: «كنا محاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم، فنزوت لآخذه فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحييت منه». (¬2). [حديث ابن عمر كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه] 176 - [3154] حدثنا مسدد: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، «عن ابن عمر (¬3) قال: "كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب، فنأكله ولا نرفعه ".» * شرح غريب الحديثين: * " جراب " الجراب: وعاء من جلد يحفظ فيه الزاد (¬4). * " فنزوت " أي وثبت وأسرعت. (¬5). * الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من خصائص الإسلام: التيسير ورفع الحرج. 2 - من صفات الداعية: توقير النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله. ¬
3 - من صفات الداعية: الحياء. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من خصائص الإسلام: التيسير ورفع الحرج: التيسير ورفع الحرج من خصائص الإسلام، وقد دل هذان الحديثان على ذلك؛ لأن بعض الصحابة رضي الله عنهم كانوا يأكلون من الغنيمة قبل القسم على قدر الحاجة: من الشحم، والعسل، والعنب، والطعام اليسير، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على جواز مثل ذلك، ويسر الإسلام وسماحته. ونقل النووي رحمه الله: "إجماع العلماء على جواز أكل طعام الحربيين ما دام المسلمون في دار الحرب، فيأكلون منه قدر حاجتهم، ويجوز بإذن الإمام وبغير إذنه "، (¬1) وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: لا أعلم خلافا بين الفقهاء أن الطعام لا يخمس، في جملة ما يخمس من الغنيمة، وأن لواجده أكله ما دام الطعام في حد القلة، وعلى قدر الحاجة، ما دام صاحبه مقيما في دار الحرب " (¬2) وهذا يبين أن من خصائص الإسلام التيسير ورفع الحرج، والحمد لله (¬3). ثانيا: من صفات الداعية: توقير النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله: الصحابة رضي الله عنهم كانوا يوقرون النبي صلى الله عليه وسلم، ويجلونه، إكراما، وتعظيما، ومحبة، وقد دل الحديث الأول من هذين الحديثين على ذلك؛ لقول عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: «كنا محاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم، فنزوت لآخذه، فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه»، قال العلامة العيني رحمه الله: "وفيه إشارة إلى ما كانوا عليه من توقير النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الإعراض عن خوارم المروءة" (¬4). فينبغي لكل مسلم أن يحترم النبي صلى الله عليه وسلم ويوقره، وينصره في حياته وبعد موته بنشر سنته والذب عن دينه، والدعوة إليه. قال الله عز وجل: ¬
{لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] (¬1) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1] (¬2) وهذا يبين أهمية احترام النبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه وإنزاله منزلته صلى الله عليه وسلم (¬3). ثالثا: من صفات الداعية: الحياء: إن الحياء من الصفات المهمة العظيمة التي ينبغي للداعية العناية بها، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث في قول عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: «فنزوت لآخذه، فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه»، وهذا يؤكد أهمية الحياء (¬4) وخاصة من أهل العلم والفضل، والله المستعان (¬5). * * * * ¬
حديث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الأهلية
[حديث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الأهلية] 177 - [3155] حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا عبد الواحد: حدثنا الشيباني قال: «سمعت ابن أبي أوفى (¬1) رضي الله عنهما يقول: "أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها، فلما غلت القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفئوا القدور فلا تطعموا من لحوم الحمر شيئا"، قال عبد الله: فقلنا إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لم تخمس. قال: وقال آخرون حرمها ألبتة. وسألت سعيد بن جبير فقال: حرمها ألبتة.» (¬2). وفي رواية: «لا تأكلوا من لحوم الحمر شيئا وأهريقوها"، قال ابن أبي أوفى فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس، وقال بعضهم: نهى عنها ألبتة؛ لأنها كانت تأكل العذرة» (¬3). وفي رواية: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر» (¬4). * شرح غريب الحديث: * العذرة: فناء الدار وناحيتها، ويطلق على الغائط الذي يلقيه الإنسان؛ لأنهم كانوا يلقون الغائط في أفنية الدور فسمي بالعذرة (¬5). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من تاريخ الدعوة: ذكر زمن وقعة خيبر. 2 - من القواعد الدعوية: الأصل في الأشياء الإباحة. 3 - أهمية تفقد الإمام أحوال رعيته. ¬
4 - من سنن الله عز وجل: الابتلاء والامتحان. 5 - أهمية الإسراع في تغيير المنكر وإزالته إذا ظهر. 6 - من موضوعات الدعوة: بيان تحريم الحمر الأهلية. 7 - من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى. 8 - من وسائل الدعوة: إرسال الدعاة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من تاريخ الدعوة: ذكر وقت غزوة خيبر: ظهر في هذا الحديث الإشارة إلى غزوة خيبر في قول عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: «أصابتنا مجاعة ليالي خيبر»، ولا شك أن غزوة خيبر كانت بعد غزوة الحديبية، فبعد أن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الحديبية في نهاية السنة السادسة للهجرة، غزا غزوة خيبر في السنة السابعة على قول الجمهور، وقد نصر الله عز وجل رسوله وأصحابه على اليهود، وغنموا غنائم كثيرة (¬1). ثانيا: من القواعد الدعوية: الأصل في الأشياء الإباحة: ظهر في هذا الحديث أن من القواعد الدعوية أن الأصل في الأشياء: من المآكل والمشارب، وأصناف الملابس: هو الإباحة، ولهذا أخذ الصحابة بهذا الأصل في غزوة خيبر، فأكلوا الحمر الإنسية؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله أثناء ذكره لفوائد هذا الحديث: "الأصل في الأشياء الإباحة، لكون الصحابة أقدموا على ذبحها وطبخها، كسائر الحيوان، من قبل أن يستأمروا، مع توفر دواعيهم على السؤال عما أشكل " (¬2) وهذا يؤكد للداعية أن الأصل في العادات الإباحة؛ لأن الله خلق لنا جميع ما على الأرض، لننتفع به بجميع أنواع الانتفاعات، إلا ما حرمه الشارع علينا، أما العبادات فالأصل فيها الحظر إلا ما ورد عن الشارع تشريعه (¬3). ¬
فينبغي للداعية أن يراعي الأصول والضوابط الشرعية حتى لا يأمر بشيء أو ينهى عن شيء والحق خلافه؛ ولهذا قال العلامة السعدي رحمه الله: والأصل في عاداتنا الإباحة ... حتى يجيء صارف الإباحة وليس مشروعا من الأمور ... غير الذي في شرعنا مذكور (¬1) ثالثا: أهمية تفقد الإمام أحوال رعيته: إن تفقد الإمام أو الأمير أحوال رعيته من الأمور المهمة، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم، بتفقده لأحوال أصحابه علم بأن بعضهم نحر الحمر وطبخها فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: ". «. . فلما غلت القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكفئوا القدور فلا تطعموا من لحوم الحمر شيئا»؛ ولهذا قال الإمام عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: "وفيه دليل على كثرة مشاهدته عليه [الصلاة] والسلام لشأن أصحابه، وما يزيد عليهم وما ينقص، والسؤال عن جميع أحوالهم، فعلى هذا فيجب على كل من كان راعيا على أي شيء استرعي دوام النظر إليه، والالتفات لما يزيد فيه وينقص، حتى يعلم ما حكم الله تعالى فيما يظهر من الزيادة والنقص فينفذه " (¬2) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ذكره لفوائد هذا الحديث: "ينبغي لأمير الجيش تفقد أحوال رعيته، ومن رآه فعل ما لا يسوغ في الشرع منعه، وأشاع منعه، إما بنفسه كأن يخاطبهم، وإما بغيره، بأن يأمر مناديا فينادي؛ لئلا يغتر به من رآه فيظنه جائزا" (¬3) وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم أهمية العناية بالرعية فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته: فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (¬4) ومما يؤكد أهمية العناية بالرعية ومراقبتهم، ¬
وإلزامهم بطاعة الله عز وجل قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» (¬1) ومع الأمر بالعناية بالرعية ومراقبة أحوالهم أمر صلى الله عليه وسلم بالرفق بهم وعدم المشقة عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به» (¬2). رابعا: من سنن الله عز وجل: الابتلاء والامتحان: إن الله عز وجل يختبر عباده ويمتحنهم بالسراء والضراء، وباليسر والعسر، وقد دل هذا الحديث على أنه سبحانه ابتلى أولياءه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالجوع وهم يجاهدون في سبيله عز وجل، قال عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: «أصابتنا مجاعة ليالي خيبر»، وهذا يؤكد ابتلاءه لعباده المؤمنين؛ ليعلم الصادق من الكاذب؛ ويرفع درجات الصابرين، أسأل الله لي ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة (¬3). خامسا: أهمية الإسراع في إزالة المنكر وتغييره إذا ظهر: دل هذا الحديث على أهمية الإسراع في إزالة المنكر، وتغييره إذا ظهر فعله؛ لقول عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: «وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها فلما غلت القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكفئوا القدور فلا تطعموا من لحوم الحمر شيئا»، قال الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله: "وفي هذا دليل على الإسراع في تغيير المنكر عند معاينته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه حين رآه حتى غيره " (¬4) وهذا يؤكد على كل مسلم- وخاصة الدعاة إلى الله عز وجل- أهمية الإسراع في إزالة المنكر (¬5). ¬
سادسا: من موضوعات الدعوة: بيان تحريم الحمر الأهلية: لا شك أن من الموضوعات المهمة بيان تحريم الحمر الأهلية لمن لا يعرف حرمتها من المدعوين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين لمن نحرها وأراد أكلها أنها لا تحل، وأرسل رسوله فنادى: «لا تأكلوا من لحوم الحمر شيئا وأهريقوها»، واختلف العلماء رحمهم الله في سبب النهي عن لحوم الحمر الأهلية لاختلاف الأدلة: فقيل: حرمت؛ لأنها لم تخمس، وقيل: لأنها كانت تأكل الجلة، وقيل: لأنها كانت تحمل الناس وهم بحاجة إليها، وقيل: لأنها رجس: أي نجس. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وهذه أصح العلل "، ثم قال: "وما عدا هذه من العلل فإنما هي حدس وظن ممن قاله " (¬1) فينبغي للداعية أن يبين للناس ما حرم الله عليهم، والله الموفق للصواب. سابعا: من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى: بين هذا الحديث أن من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه الذين نحروا الحمر الأهلية عن أكلها، بل أمر بإتلافها وإراقتها، وهم أفضل البشر بعد الأنبياء، فدل ذلك على أن كل إنسان من أهل الصلاح والتقوى قد يخفى عليه بعض العلم، فحينئذ يلزم تنبيهه وإرشاده، وتوجيهه؛ فإن المسلم مرآة أخيه، والله المستعان (¬2). ثامنا: من وسائل الدعوة: إرسال الدعاة: إرسال الدعاة من الوسائل النافعة؛ ولهذا أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الرسل بالكتب، وأرسل الدعاة والمجاهدين، ومن ذلك ما ثبت في هذا الحديث من إرساله من ينادي في الناس بتحريم الحمر الأهلية، قال عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: «فلما غلت القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكفئوا القدور فلا تطعموا من لحوم الحمر شيئا»، فينبغي العناية بإرسال الدعاة لتعليم الناس الخير، وتحذيرهم من الشر، والله الهادي إلى سواء السبيل (¬3). ¬
الفصل الرابع كتاب الجزية والموادعة
[الفصل الرابع كتاب الجزية والموادعة]
باب الجزية والموادعة, مع أهل الذمة والحرب
1 - باب الجزية والموادعة, مع أهل الذمة والحرب وقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] (¬1) يعني أذلاء. وما جاء في أخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس والعجم، وقال ابن عيينة عن ابن أبي نجيح: قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؛ قال: جعل ذلك من قبل اليسار. [حديث قول عمر فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس] 178 - [3156] حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان قال: سمعت عمرا قال: "كنت جالسا مع جابر بن زيد وعمرو بن أوس فحدثهما بجالة سنة سبعين- عام حج مصعب بن الزبير بأهل البصرة- عند درج زمزم قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب (¬2) قبل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس. ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس ". [حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر] 179 - [3157] حتى شهد عبد الرحمن بن عوف (¬3) «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر». * شرح غريب الحديثين: * " هجر " المقصود به هنا اسم بلد معروف بالبحرين، وهي قاعدتها، وقيل: هجر ناحية البحرين كلها (¬4) قال ياقوت الحموي رحمه الله "وهو الصواب " (¬5). ¬
* الدراسة الدعوية للحديثين: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من أساليب الدعوة: القصص. 2 - من وسائل الدعوة: إرسال الكتب والرسائل. 3 - من موضوعات الدعوة: إنكار المنكر إذا ظهر فعله. 4 - لا ينكر أن يغيب عن الداعية أو العالم الكبير ما علمه غيره. 5 - صفات الداعية: التثبت. 6 - من صفات الداعية: الانقياد للدليل الشرعي والعمل به. 7 - من أصناف المدعوين: المجوس. 8 - من وسائل الدعوة: أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من أساليب الدعوة: القصص: ظهر في هذا الحديث أن من أساليب الدعوة القصص؛ لأن بجالة بن عبدة التميمي التابعي الجليل (¬1) قص على جابر بن زيد أبي الشعثاء البصري وعمرو بن أوس الثقفي، وعمرو بن دينار يسمع، أنه كان كاتبا لجزء بن معاوية بن حصن بن عبادة التميمي التابعي عامل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على الأهواز، فأتاهم كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة، وفيه: "فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس "، وهذا يبين أهمية القصص، وأنه مما يلفت انتباه القلوب والأذهان، فينبغي للداعية أن يعتني به عند الحاجة إليه (¬2). ثانيا: من وسائل الدعوة: إرسال الكتب والرسائل: إن إرسال الكتب والرسائل؛ لبيان الحق وإنكار الباطل من وسائل الدعوة المهمة: ولهذا كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا إلى جزء بن معاوية عامله على ¬
الأهواز وفيه: "فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس "، وهذا فيه بيان لأهمية هذه الوسيلة؛ لما لها من الأهمية النافعة في إيصال الدعوة إلى المدعو، ونشرها (¬1). ثالثا: من موضوعات الدعوة: إنكار المنكر إذا ظهر فعله: لا شك أن من الموضوعات المهمة إنكار المنكر، وتغييره بأي وسيلة مشروعة، وقد ظهر جليا في هذا الحديث إنكار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المجوس استحلالهم المحارم، فكتب كتابه إلى جزء بن معاوية عامله على الأهواز، وفيه: "فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس "، قال الإمام الخطابي رحمه الله: "ولم يحملهم عمر على هذه الأحكام فيما بينهم وبين أنفسهم إذا خلوا، وإنما منعهم من إظهار ذلك للمسلمين، وأهل الكتاب لا يكشفون عن أمورهم التي يتدينون بها ويستعملونها فيما بينهم، إلا أن يترافعوا إلينا في الأحكام، فإذا فعلوا ذلك فإن على حاكم المسلمين أن يحكم فيهم بحكم الله المنزل، وإن كان ذلك في الأنكحة فرق بينهم وبين ذوات المحارم، كما يفعل ذلك في المسلمين " (¬2) وهذا يؤكد على المسلمين منع إظهار شعائر وعقائد الكفار بين المسلمين؛ لئلا يفتتن بها ضعفة المسلمين، ولا يُسأل عما أخفوه بينهم، ولم يظهروه في مجتمعات المسلمين. (¬3). رابعا: لا ينكر أن يغيب عن الداعية أو العالم الكبير ما علمه غيره: إن الداعية أو العالم العظيم قد تخفى عليه بعض المسائل ويعرفها غيره من أهل العلم، كما خفي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف بذلك؛» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفي الحديث قبول خبر الواحد، وأن الصحابي الجليل قد يغيب عنه علم ما اطلع عليه غيره من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأحكامه، وأنه لا نقص عليه في ذلك " (¬4) وهذا يؤكد أهمية عدم انتقاد العلماء إذا فاتهم بعض العلم؛ لهذا السبب (¬5). ¬
خامسا: من صفات الداعية: التثبت: التثبت في الأمور وعدم العجلة من الصفات الحميدة التي ينبغي للداعية أن يتصف بها، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يعلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من المجوس، فلم يأخذها حتى شهد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر»، وهذا فيه تثبت عمر رضي الله عنه وعدم عجلته حتى ثبت عنده الدليل (¬1). سادسا: من صفات الداعية: الانقياد للدليل الشرعي والعمل به: انقاد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعلم الشرعي بدليله وعمل به رضي الله عنه، وذلك أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه شهد: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر» فأخذها عمر رضي الله عنه انقيادا للدليل الشرعي؛ قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: "وفيه انقياد العالم للعلم حيث كان " (¬2) وهذا يؤكد أهمية الانقياد للأدلة الشرعية (¬3). سابعا: من أصناف المدعوين: المجوس: إن المجوس من أصناف المدعوين الذين ينبغي للداعية أن يعتني بدعوتهم إن وجدوا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم الجزية، وهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم قد دعاهم إلى الإسلام، فلم يدخلوا ووافقوا على دفع الجزية، وهذا يؤكد أهمية العناية بهم ودعوتهم إلى الله عز وجل على حسب أحوالهم؛ ولهذا أخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجزية منهم (¬4). ثامنا: من وسائل الدعوة: أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس: ظهر في هذا الحديث مشروعية أخذ الجزية من المجوس؛ لأن عبد الرحمن بن عوف شهد عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر»، ولا شك أن أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس من أعظم وسائل الدعوة؛ لما يحصل بذلك من إذلال الكافرين، ونفع المسلمين؛ ولهذا شرع الله ¬
عز وجل أخذ الجزية من أهل الكتاب: اليهود والنصارى، قال عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] (¬1) وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يوصي أمير الجيش بوصايا، ومنها: "أنه إذا لقي عدوه من المشركين يدعوهم إلى الإِسلام، فإن أبوا فيسألهم الجزية، فإن أبوا فيستعين بالله ويقاتلهم" انظر: (¬2) والجزية ثبت أخذها من أهل الكتاب بالقرآن الكريم والسنة، وأخذها من المجوس بالسنة كما في شهادة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم؛ قال الإِمام الخطابي رحمه الله: "وفي امتناع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر»، دليل على أن رأي الصحابة: "أن لا تقبل الجزية من مشرك " (¬3) أما غير أهل الكتاب والمجوس فلا تقبل منهم الجزية: فلا بد من الإِسلام أو يقاتلوا، وهذه مسألة خلافية بين أهل العلم (¬4) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله يقول: "الصواب أنها لا تؤخذ إلا من اليهود والنصارى والمجوس؛ لأن الله تعالى قال في اليهود والنصارى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وأخذ صلى الله عليه وسلم الجزية من المجوس، أما كفار العرب فلا يقبل منهم إلا الإِسلام أو يقاتلوا" (¬5). وأخذ الجزية من أهم وسائل الدعوة إلى الله عز وجل قال الإِمام ابن عبد البر رحمه الله: "الجزية لم تؤخذ من الكتابيين رفقا بهم، وإنما أُخذت منهم تقوية للمسلمين، وذلًّا للكافرين" (¬6) وسمعت العلامة ابن باز حفظه الله يقول: "والحكمة في أخذ الجزية والله أعلم: إذلال الكافرين، ونفع المسلمين " (¬7). ¬
حديث بعثه صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها
[حديث بعثه صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها] 180 - [3158] حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حدَثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أنَّه أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ الأنصارِيَّ (¬1) - وَهُوَ حَلِيف لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ شَهدَ بَدْرا- أَخْبَرَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ (¬2) إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ (¬3) ¬
فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأَنصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَافَتْ صَلاة الصُّبْح مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا صَلَّى بِهم الفَجْرَ انْصَرَفَ، فَتَعرَّضُوا لَهُ، فتَبَسَّمَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُمْ وَقَالَ: "أظنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عبيدَةَ قَدْ جَاءَ بِشيءٍ "، قَالوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ؟ "فَأَبْشرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسرُكُمْ، فَوَاللهِ لَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُم الدُّنْيَا كَمَا بُسِطتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» (¬1). وفي رواية: " وَتُلْهِيكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ ". (¬2). * شرح غريب الحديث: * " فوافت " أي أتت، يقال: وافيته موافاةً: أتيته، ووافيت القوم: أتيتهم (¬3). * " أمِّلوا " هذا أمر بالرجاء يقال: أمَلَهُ أمْلا، وأمَّلَهُ: رجاه وترقبه (¬4). * " فتنافسوها " أي تتحاسدون فيها فتختلفون، وتتقاتلون فيُهلك بعضكم بعضا (¬5). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من وسائل الدعوة: بعث البعوث وإرسال الدعاة. ¬
2 - من صفات الداعية: الفطنة والذكاء. 3 - من صفات الداعية: حسن الخلق. 4 - أهمية تأمير الأمراء على الأقطار. 5 - من أساليب الدعوة: السؤال والجواب. 6 - من موضوعات الدعوة: التحذير من التنافس في الدنيا والانشغال بها. 7 - أهمية التأكيد بالقسم في الدعوة إلى الله عز وجل. 8 - من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بما يقع. 9 - من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من وسائل الدعوة: بعث البعوث وإرسال الدعاة: بعث البعوث وإرسال الدعاة من أهم الوسائل النافعة في الدعوة إلى الله؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم هذه الوسيلة في دعوته، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أخبر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها»، وهذا فيه بيان لأهمية بعث الدعاة إلى الله عز وجل، للدعوة إلى الله؛ ولكل ما فيه نفع للإِسلام والمسلمين (¬1). ثانيا: من صفات الداعية: الفطنة والذكاء: لا ريب أن الفطنة والذكاء من أعظم الصفات التي ينبغي أن تكون من سمات الداعية؛ لأنه يحتاج إلى ذلك في معاملة الناس ودعوتهم إلى الله عز وجل، وقد ظهرت هذه الصفة في هذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى الأنصار تعرَّضوا له بعد صلاة الصبح، فطن لذكائه أنهم علموا بقدوم أبي عبيدة بمالٍ من البحرين فقال صلى الله عليه وسلم: «أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة جاء بشيء»، فينبغي للداعية أن يسأل الله عز وجل أن يوفقه ويعينه ويرزقه البصيرة والفطنة التي تنفعه في الدنيا والآخرة (¬2). ¬
ثالثا: من صفات الداعية: حسن الخلق: دل هذا الحديث على حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عندما رأى الأنصار تعرضوا له، وعلم ما أرادوا تبسم صلى الله عليه وسلم، ولم يغضب، ولم يسب بل بشَّرهم (¬1) وسمعت العلامة ابن باز حفظه الله يقول: "وفيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه ضحك تعجبا، ثم بشرهم، ولا شك أنهم أهل حاجة" (¬2) فينبغي للداعية أن يحسن أخلاقه (¬3). رابعا: أهمية تأمير الأمراء على الأقطار: من وسائل الدعوة النافعة تأمير الأمراء على الأقطار، والقبائل؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم على البحرين العلاء بن الحضرمي كما ثبت في هذا الحديث؛ لأن الأمير يجتمع إليه الناس، ويرفع مصالحهم للإِمام وما يحتاجون إليه، ويؤمهم في الجمعة والأعياد، ويتولىَّ قيادتهم في الجهاد، ويجمع الله به الكلمة وغير ذلك (¬4). خامسا: من أساليب الدعوة: السؤال والجواب: السؤال والجواب من أساليب الدعوة التي تشد انتباه المدعو، وقد دل هذا الحديث على هذا الأسلوب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: «أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء"، قالوا: أجل يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا». . . "، وهذا يؤكد أهمية أسلوب السؤال والجواب. (¬5). سادسا: من موضوعات الدعوة: التحذير من التنافس في الدنيا والانشغال بها: ظهر في مفهوم هذا الحديث التحذير من التنافس في الدنيا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما ¬
بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم»، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفيه أن المنافسة في الدنيا قد تجر إلى هلاك الدين" (¬1) "لأن المال مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه، فتمنع منه، فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة، المفضية إلى الهلاك " (¬2) وقوله صلى الله عليه وسلم: «وتلهيكم كما ألهتهم»، دليل على أن الانشغال بالدنيا فتنة، قال الإِمام القرطبي رحمه الله: "تلهيكم" أي تشغلكم عن أمور دينكم وعن الاستعداد لآخرتكم (¬3) كما قال الله عز وجل: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ - حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1 - 2] (¬4) وهذا يؤكد للمسلم أن التنافس في الدنيا والانشغال بها شر وخطر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض "، قيل وما بركات الأرض؛ قال: "زهرة الدنيا"، ثم قال: "إن هذا المال خَضِرة حلوة. . . من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع [ويكون عليه شهيدا يوم القيامة]». (¬5). وعن قيس بن حازم قال: دخلنا على خباب رضي الله عنه نعوده. . فقال: "إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعا إلا التراب ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوتُ به "، ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطا له فقال: "إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب" (¬6) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "أي الذي يوضع في البنيان، وهو محمول على ما زاد على الحاجة" (¬7) وذكر رحمه الله آثارا كثيرة في ¬
ذم البنيان ثم قال: "وهذا كله محمول على ما لا تمس الحاجة إليه مما لا بد منه للتوطن وما يقي البرد والحر" (¬1) وقد بين الله عز وجل حقيقة الدنيا فقال عز وجل: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] (¬2) وقال عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20] (¬3) وقال عز وجل: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا - الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 45 - 46] (¬4) ولا شك أن الإِنسان إذا لم يجعل الدنيا أكبر همه وفقه الله وأعانه، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول ربكم تبارك وتعالى يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقا، يا ابن آدم لا تباعد عني فأملأ قلبك فقرا وأملأ يديك شغلا» (¬5) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك» (¬6) ولا شك أن كل عمل صالح يُبْتَغى به وجه الله فهو عبادة، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل ¬
فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» (¬1). وقد ذم الله الدنيا إذا لم تستخدم في طاعة الله عز وجل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكرُ الله، وما والاهُ، وعالم، أو متعلمٌ» (¬2) وهذا يؤكد أن الدنيا مذمومة مبغوضة من الله وما فيها، مبعدة من رحمة الله إلا ما كان طاعة لله عز وجل؛ (¬3) ولهوانها على الله عز وجل لم يبلِّغ رسولَه صلى الله عليه وسلم فيها وهو أحب الخلق إليه، فقد «مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير» (¬4) ومما يزيد ذلك وضوحا وبيانا حديث سهل بن سعد رضي الله عنه يرفعه: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» (¬5) فينبغي للداعية أن لا ينافس في الدنيا، ولا يحزن عليها، وإذا رأى الناس يتنافسون في الدنيا، فعليه تحذيرهم، وعليه مع ذلك أن ينافسهم في الآخرة. والله المستعان. سابعا: أهمية التأكيد بالقسم في الدعوة إلى الله عز وجل: دل هذا الحديث على التأكيد بالقسم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ¬
ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم»، وهذا يؤكد أهمية أسلوب التأكيد بالقسم (¬1). ثامنا: من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإخبار بما يقع: إن هذا الحديث دل على أن الإِخبار بما يقع من معجزات النبوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن تبسط الدنيا على أمته فيتنافسوها فوقع كما خشي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفيه من أعلام النبوة إخباره صلى الله عليه وسلم بما يفتح عليهم " (¬2) وقد وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم. (¬3). تاسعا: من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والتقوى: دل هذا الحديث على أن أهل التقوى من أصناف المدعوين؛ ولهذا وعظ النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار وحذرهم التنافس في الدنيا؛ لأن ذلك يسبب الهلاك، فقال: «فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم» (¬4). ¬
حديث بعث عمر الناس في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين
[حديث بعث عمر الناس في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين] 181 - [3159] حَدَّثَنَا الفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ: حَدَّثَنَا عبد الله بْن جَعْفرٍ الرَّقِّيُّ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمانَ: حَدَّثَنَا سَعِيد بْنُ عُبَيْدِ اللهِ الثَّقَفِيُّ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عبد الله المُزَني (¬1) وَزِيَادُ بْنُ جُبَيْرٍ بنِ حَيَّةَ (¬2) قَالَ: «بَعَثَ عمر النَّاسَ فِي أَفْنَاءِ الأَمْصَارِ يُقَاتِلونَ المُشْرِكِينَ، فأَسْلَمَ الهُرْمزَان (¬3) فَقَالَ: إِنيِّ مُسْتَشِيرُكَ فِي مغَازِيَّ هَذِهِ؛ قَالَ: نَعَمْ، مَثَلُهَا وَمَثَلُ مَنْ فِيهَا مِنَ النَّاسِ مِنْ عَدُوِّ المسْلِمينَ مَثَلُ طَائِر لَهُ رَأس وَلَهُ جَنَاحَانِ وَلَهُ رِجْلانِ، فَإِنْ كسِرَ أَحَدُ الجَنَاحَيْنِ نَهَضَتِ الرِّجْلانِ بِجَنَاح وَالرَّأس. فَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الآخَرُ نَهضتِ الرِّجْلانِ وَالرَّأْسُ. وإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ ذَهبَتِ الرِّجْلانِ والْجَنَاحَانِ وَالرَّأْسُ. فَالرَّأْسُ كِسْرَى والْجَنَاح قيصَرُ وَالجَنَاحُ الآخَرُ فَارِسُ. فَمُرِ المُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إِلَى كِسْرَى. وَقَال بَكْر وَزِيَاد جَمِيعا عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ: فَنَدَبَنَا عُمَرُ. واستَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ. حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ العَدُوِّ، وَخَرَجَ عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى فِي أرْبَعِينَ ألْفا، فَقَامَ ترجمَانٌ فَقَال: لِيُكَلِّمْنِي رَجُل مِنكُمْ. فَقَالَ الْمُغِيرَة (¬4) سَلْ عَمَّا شِئْتَ. قَالَ: ¬
حديث كان إذا لم يقاتل في أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلوات
ما أنتمْ؛ قَالَ: نَحْن أناسٌ مِنَ العَرَب كنّا فِي شقاءٍ شدِيد وَبَلاء شدِيد. نمص الجلْدَ وَالنَّوى مِنَ الجُوع. وَنَلْبَسُ الوبر والشَّعرَ. وَنعْبدُ الشَّجَرَ والحَجَرَ. فَبَيْنَا نحنُ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ ربُّ السماوات وَرَبُّ الأَرَضِينَ- تَعَالى ذِكْرهُ وَجَلَّتْ عَظَمَته - إِلَيْنَا نَبيّا منْ أنفسِنَا نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّه فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسولُ رَبِّنا صلى الله عليه وسلم أَنْ نُقَاتلِكُم حَتَّى تَعْبدُوا اللهَ وَحْدهُ. أَوْ تؤدّوا الجزْيَةَ. وَأَخْبَرنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رسَالةِ رَبِّنَا أنهُ مَنْ قتِلَ مِنَّا صَارَ إلَى الجَنَّةِ فِي نَعيم لمْ يُرَ مِثْلُهَا قَط. وَمَنْ بقِيَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ». (¬1). [حديث كان إذا لم يقاتل في أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلوات] 182 - [3160] «فَقَالَ النُّعْمَان (¬2) "ربَّمَا أَشْهَدَكَ اللهُ مِثْلَهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُندِّمْكَ وَلَمْ يخْزِكَ وَلَكِنِّي شَهِدْتُ القِتَالَ مَع رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّل النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأَرْوَاحُ، وَتَحْضُرَ الصّلَوات». * شرح غريب الحديثين: * " نلبس الوبر والشعر " الوبر: صوف الإِبل والأرانب ونحو ذلك، والشعر: نبتة الجسم مما ليس بصوف ولا وبر (¬3) ¬
* " تهب الأرواح " جمع ريح؛ لأن أصلها الواو، وتجمع على أرياح قليلا، وعلى رياح كثيرا (¬1). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذين الحديثين دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من وسائل الدعوة: بعث البعوث للدعوة والجهاد. 2 - من صفات الداعية: الفصاحة والبلاغة. 3 - أهمية مراعاة أوقات نشاط المدعو. 4 - من وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله عز وجل. 5 - أهمية الشورى في الدعوة إلى الله عز وجل. 6 - من وسائل الدعوة: تأمير الأمراء على الجيوش. 7 - من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإِخبار بالمغيبات. 8 - من أساليب الدعوة: ضرب الأمثال. 9 - من وسائل الدعوة: البدء بقتال الأهم فالأهم من أعداء الإِسلام (¬2). 10 - من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب. 11 - من أصناف المدعوين: المشركون. 12 - من موضوعات الدعوة: الحض على الجهاد حتى يعبد الله وحده. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من وسائل الدعوة: بعث البعوث للدعوة والجهاد: بعث البعوث للدعوة إلى الله عز وجل، من أعظم الوسائل النافعة، وقد ظهر في هذا الحديث؛ لقول جبير بن حيَّة: " بعث عمر الناس في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين، فأسلم الهرمزان وهذا يؤكد أهمية هذه الوسيلة في الدعوة إلى الله عز وجل (¬3) ¬
ثانيا: من صفات الداعية: الفصاحة والبلاغة: لا شك أن الفصاحة والبلاغة من الصفات التي ينبغي للداعية أن يتحلى بها حسب الاستطاعة، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لقول المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لعامل كسرى: «نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد، وبلاء شديد، نمص الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبد الشجر والحجر، فبينما نحن كذلك إذ بعث رب السماوات والأرضين- تعالى ذكره وجلت عظمته- إلينا نبيا من أنفسنا، نعرف أباه وأمه، فأمرنا نبينا رسول ربنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط، ومن بقي منا ملك رقابكم»، قال الكرماني رحمه الله: "فيه فصاحة المغيرة من حيث إنَّ كلامه مبيِّن لأحوالهم فيما يتعلق بدنياهم: من المطعوم والملبوس، وبدينهم من العبادة، وبمعاملتهم مع الأعداء: من طلب التوحيد أو الجزية، ولمعادهم في الآخرة إلى كونهم في الجنة، وفي الدنيا إلى كونهم ملوكا، مُلَّاكا للرقاب " (¬1) أي الكافرة المعاندة، وهذا يؤكد أهمية البلاغة للداعية (¬2). ثالثا: أهمية مراعاة أوقات نشاط المدعو: إن مراعاة أوقات نشاط المدعو من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية العناية بها؛ ولهذا ثبت في هذا الحديث ما يدل على ذلك؛ لقول النعمان رضي الله عنه: «لكني شهدت القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا لم يقاتل في أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلوات»، وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "أن هذا يدل على فضل القتال بعد زوال الشمس على ما قبله، ولا يعارضه أنه صلى الله عليه وسلم كان يغير صباحا؛ لأن هذا عند المصافة، وذاك عن الغارة" (¬3) وهذا يؤكد أهمية مراعاة أوقات نشاط المدعو (¬4). ¬
رابعا: من وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله عز وجل: الجهاد في سبيل الله عز وجل من أعظم الوسائل في نشر الدعوة؛ ولهذه الأهمية بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس في أفناء الأمصار (¬1) يقاتلون المشركين فأسلم الهرمزان "، وهذا يبيِّن عناية الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الوسيلة سيرا على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي العناية بها (¬2). خامسا: أهمية الشورى في الدعوة إلي الله عز وجل: الشورى ذات أهمية بالغة؛ لما لها من الاتفاق على الحق وإصابة الصواب في الغالب؛ ولهذه الأهمية استشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه الهرمزان؛ لأنه كان من أهل تلك البلاد، وكان أعلم بأحوال أهلها من غيره؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفيه فضل المشورة وأن الكبير لا نقص عليه في مشاورة من هو دونه " (¬3) وهذا يؤكد على الداعية العناية بالشورى عناية خاصة؛ لمكانتها وفضائلها وحسن آثارها (¬4). سادسا: من وسائل الدعوة: تأمير الأمراء على الجيوش: تأمير الأمراء على الجيوش، والسرايا من الوسائل النافعة في الدعوة إلى الله عز وجل؛ لما يحصل بذلك من اجتماع الكلمة، واتحاد الصف، ونبذ الاختلاف؛ ولهذا استعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هذا الجيش المذكور في هذا الحديث: النعمان بن مقرِّن رضي الله عنه، (¬5) ففتح الله على يديه، وهذا يبين أهمية تأمير الأمراء على الجيوش (¬6). سابعا: من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: الإخبار بالمغيبات: دل هذا الحديث على أن من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، الإِخبار بالمغيبات؛ ¬
لأن المغيرة رضي الله عنه قال لعامل كسرى: «وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم دائم لم ير مثلها، ومن بقي منا ملك رقابكم»، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "أنه دل على بيان معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وإخباره بالمغيبات، ووقوعها كما أخبر" (¬1) وهذا لا شك يؤكد صدقه صلى الله عليه وسلم وأنهم ملكوا رقاب كسرى وقيصر (¬2). ثامنا: من أساليب الدعوة: ضرب الأمثال: ظهر في هذا الحديث أسلوب ضرب المثل؛ لأن الهرمزان قال لعمر رضي الله عنه عن مغازيه: "مثلها ومثل من فيها من الناس من عدوِّ المسلمين مثل طائر له رأس، وله جناحان، وله رجلان، فإن كسر أحد الجناحين نهضت الرجلان بجناح والرأس، فإن كسر الجناح الآخر نهضت الرجلان والرأس، وإن شدخ الرأس ذهبت الرجلان والجناحان والرأس، فالرأس كسرى، والجناح قيصر، والجناح الآخر فارس، فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى "، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفيه ضرب المثل وجودة تصور الهرمزان؛ ولذلك استشاره عمر، وتشبيهٌ لغائب المجوس بحاضر محسوس لتقريبه إلى الفهم " (¬3) وهذا يؤكد أهمية ضرب الأمثال في الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن ضرب الأمثال من أوضح وأقوى أساليب الإِيضاح والبيان في إبراز الحقائق المعقولة في صورة الأمر المحسوس، وفي القرآن الكريم كثير من الأمثال المضروبة، والداعية لا بد له من ذلك في دعوته، ومن ذلك أن الله تعالى مثَّلَ المنفق في سبيله بمن بذر بذرا فأنبتت كل حبّة سبع سنابل، اشتملت كل سنبلة على مائة حبّة، والله يُضاعف فوق ذلك لمن يشاء بحسب حال المنفق وإخلاصه (¬4). ومثل المنفق رياء وسمعة وبطلان عمله كمثل حجر أملس عليه تراب فأصابه ¬
مطر شديد، فتركه أملس لا شيء عليه (¬1) ومثل سبحانه الدنيا في زهرتها وسرْعة زوالها بالماء الذي ينزل من السماء فأنبت الكلأ والعشب، ثم صار بعد هذه النّضرة هشيما (¬2) ومن أعظم ضرب الأمثال قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ - مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73 - 74] (¬3). حق على كل عبد أن يستمع لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره؛ فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه، فالآلهة التي تُعبَد من دون الله لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف بما هو أكبر منه، بل لا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو أضعف المخلوقات، ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة الباطلة، ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله؟!. وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله تعالى في بطلان الشرك وتجهيل أهله (¬4). ومن أحسن الأمثال وأدلّها على بطلان الشرك، وخسارة صاحبه، وحصوله على ضد مقصوده، قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ - إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 41 - 43] (¬5) فهذا مثل ضربه الله لمن عبد معه غيره يقصد به التعزز والتقوي والنفع، فبين- سبحانه- أن ¬
هؤلاء ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياء من دون الله أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه "من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت التي هي من أضعف الحيوانات، اتخذت بيتا وهو من أضعف البيوت، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفا، وكذلك من اتخذ من دون الله أولياء، فإنهم ضعفاء، وازدادوا باتخاذهم ضعفا إلى ضعفهم (¬1) ومن أبلغ الأمثال التي تُبيّن أن المشرك قد تشتت شمله واحتار في أمره، ما بيّنه الله عز وجل بقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] (¬2) فهذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك والموحد، فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى مُثِّلَ بعبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون، سيئة أخلاقهم، متنافسون في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين، فهو في عذاب. والموحد لما كان يعبد الله وحده لا شريك له، فمثله كمثل عبد لرجل واحد، قد سلم له، وعلم مقاصده، وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه واختلافهم، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه، مع رأفة مالكه به، ورحمته له، وشفقته عليه، وإحسانه إليه، وتوليه لمصالحه، فهل يستوي هذان العبدان؛ والجواب: كلَّا. لا يستويان أبدا (¬3) والقرآن فيه كثير من ضرب الأمثال (¬4). وضرب النبي صلى الله عليه وسلم الأمثال في دعوته، ومن ذلك تمثيل الجليس الصالح بحامل المسك، والجليس السوء بنافخ الكير (¬5) وهذا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه جمع بين الترغيب والحثّ على مجالسة من يُستفاد من مجالسته في الدين والدنيا، وحذّر من مجالسة من يتأذّى بمجالسته فيهما (¬6). ¬
ومن أبلغ الأمثلة على ضرب الأمثال قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأَ والعشب الكثير، وكانت منها أجادبُ أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً. فذلك مثل من فَقهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فَعَلِمَ وَعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلت به» (¬1) والناس على هذه الأقسام الثلاثة: النوع الأول: من الناس من يبلغه الهدى والعلم فيحفظه، فيحيا قلبه ويعمل به ويعلمه غيره، فهو قد انتفع ونفع، فهؤلاء عَلِمُوا، وَعَمِلُوا، وعلَّمُوا، فهم أفضل الناس، والنوع الثاني: من الناس من لهم قلوب حافظة يحفظون بها العلم والهدى، ولكن ليست لهم أفهام ثاقبة ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعاني والأحكام، وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل بها، فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم فيأخذه منهم فينتفع به، فهؤلاء علموا وعلَّموا، فنفعوا بما بلغهم. والنوع الثالث: من الناس ليست لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية فإذا سمعوا العلم لا يحفظونه ولا ينتفعون به ولا ينفعون غيرهم (¬2) فينبغي للداعية أن يعتني بضرب الأمثال في دعوته إلى الله عز وجل، والله المستعان وبه الثقة وعليه التكلان (¬3). تاسعا: من وسائل الدعوة: البدء بقتال الأهم فالأهم من أعداء الإسلام: البدء بقتال الكفار ينبغي أن يكون بالأهم، ثم الذي يليه في الأهمية؛ ولهذا ¬
أشار الهرمزان على عمر رضي الله عنه أن يبدأ بقتال كسرى قبل قيصر وفارس؛ لأن كسرى بمثابة الرأس فإذا سقط الرأس فلا قيمة لبقية الجسد؛ ولهذا قال الهرمزان رحمه الله "فالرأس كسرى، والجناح قيصر، والجناح الآخر فارس، فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى "؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفيه البداءة بقتال الأهم فالأهمِّ " (¬1) فينبغي العناية بذلك وبالتدرج في جميع الأمور على حسب الحكمة والصواب. عاشرا: من أساليب الدعوة: الترغيب والترهيب: دل هذا الحديث على أسلوب الترغيب والترهيب؛ لأن المغيرة رضي الله عنه قال لعامل كسرى: «وأخبرنا نبينا عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم دائم لم ير مثلها قط (¬2) ومن بقي منا ملك رقابكم»، فقوله: «في نعيم دائم» فيه ترغيب في الجهاد وبيان فضل الشهادة في سبيل الله عز وجل. وقوله: «ومن بقي منا ملك رقابكم» فيه ترغيب للمجاهدين في أن من نصره الله استولى على الأعداء، وفيه ترهيب للأعداء وتخويف من البقاء على الكفر؛ لأن من بقي على ذلك يصير إلى القتل أو إلى الرق والذل. والله أعلم. (¬3). الحادي عشر: من أصناف المدعوين: المشركون: ظهر في هذا الحديث أن من أصناف المدعوين: كسرى، وقيصر، وفارس، ولا شك أن فارس عباد النار، والنصارى عباد عيسى صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا أهل كتاب، فينبغي أن يدعى هؤلاء كل على حسبه وبما يناسبه. (¬4). الثاني عشر: من موضوعات الدعوة: الحض على الجهاد حتى يعبد الله وحده: ظهر في الحديث الحض على الجهاد لقول المغيرة رضي الله عنه لعامل كسرى: «فأمرنا نبينا رسول ربنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية» (¬5). ¬
باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم
5 - بابُ إثم من قتل معاهدا بغير جرم [حديث من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة] 183 - [3166] حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ عَمْرو: حَدَّثَنَا مُجَاهِد، عَنْ عبد الله بْنِ عَمرو (¬1) رضي الله عنهما عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَاما» (¬2). * شرح غريب الحديث: * " معاهدا " المعاهد: من كان بينك وبينه عهد، وأكثر ما يطلق في الحديث على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب مدة معلومة (¬3). * " لم يَرَحْ " لم يرح رائحة الجنة: أي لم يشم ريحها (¬4) "لم يرح " فيه ثلاث لغات: فتح الياء والراء: أي لم يجد ريحها، وقيل: بضم الياء وكسر الراء "يُرِحْ "، وقيل بفتح الياء وكسر الراء "يَرِحْ "، ونقل الحافظ ابن حجر رحمه الله: أن الأجود الذي عليه الأكثر الأول "لم يرحْ " (¬5). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: التحذير من قتل أهل الذمة بغير حق. 2 - من أساليب الدعوة: الترهيب. 3 - من سماحة الإِسلام: حفظه لحرمة العهد والميثاق. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: ¬
أولا: من موضوعات الدعوة: التحذير من قتل أهل الذمة بغير حق: إن من موضوعات الدعوة: التحذير من قتل أهل الذمة بدون حق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة»، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "والمراد به من له عهد مع المسلمين، سواء كان بعقد جزية، أو هدنة من سلطان، أو أمان مسلم " (¬1) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "المعاهد هو الذي له ذمة، أي عهد، سواء كان من أهل الجزية أو أهل الأمان، فلا يجوز قتله حتى ينبذ إليه عهده " (¬2) فينبغي للداعية أن يُحذِّر الناس من قتل أهل الذمة بغير حق عند الحاجة للتحذير من ذلك. ثانيا: من أساليب الدعوة: الترهيب: الترهيب من أساليب الدعوة النافعة؛ ولهذا ثبت هذا الأسلوب في هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما»، وهذا فيه ترهيب ووعيد لمن فعل هذه الكبيرة، قال الإِمام الطيبي رحمه الله: "والمعنى: أنه لم يشم رائحة الجنة ولم يجد ريحها، ولم يرد به أنه لا يجده أصلا، بل أول ما يجدها سائر المسلمين الذين لم يقترفوا الكبائر، توفيقا بينه وبين ما تعاضدت به الدلائل النقلية والعقلية على أن صاحب الكبيرة إذا كان موحِّدا محكوما بإسلامه لا يخلد في النار ولا يحرم من الجنة" (¬3) هذا إن لم يستحل هذه الكبيرة، أو يأتِ بناقض من نواقض الإِسلام، وسمعت العلامة ابن باز حفظه الله يقول: "وهذا من باب الوعيد، فهو تحت المشيئة، فهذا جزاؤه إن جازاه " (¬4) فإن شاء الله عذبه بذنبه حتى يطهر ثم يخرجه من النار، وإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة من أول مرة بعفوه سبحانه، وإحسانه (¬5) أسأل الله لي ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة (¬6). ¬
ثالثا: من سماحة الإسلام: حفظه لحرمة العهد والميثاق: دل هذا الحديث على أن الإِسلام يحفظ حرمة العهد والميثاق؛ ولهذا حرم قتل المعاهد الذي دخل في ذمة المسلمين: بصلح، أو عهد، أو أمان، أو بدفع الجزية، إلا أن ينقض العهد ويأتي بما يحل دمه وماله؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة»، وقد أمر الله عز وجل المؤمنين بالوفاء بالعقود والعهود والمواثيق فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] (¬1). قال الإِمام أبو جعفر الطبري رحمه الله: "أوفوا بالعقود" يعني: أوفوا بالعهود التي عاهدتموها ربكم، والعقود التي عاقدتموها إياه، وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقا، وألزمتم أنفسكم بها لله فروضا، فأتموها بالوفاء، والكمال، والتمام منكم لله بما ألزمكم بها، ولمن عاقدتموه منكم، بما أوجبتموه له بها على أنفسكم، ولا تنكثوها، فتنقضوها بعد توكيدها" (¬2). ونقل رحمه الله: اتفاق أهل التفسير على أن معنى "العقود" العهود (¬3) وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم نقض العهد من علامات النفاق الخالص، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كُنَّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعَها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» (¬4) وهذا يؤكد للداعية أنه ينبغي له أن يبين سماحة الإِسلام وحفظه لحرمة العهود والمواثيق. ¬
باب إخراج اليهود من جزيرة العرب
6 - بابُ إِخْراجِ اليهُودِ من جزيرةِ العرب وَقَالَ عُمَرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أُقركم مَا أَقَرَّكُم الله». [حديث أقركم ما أقركم الله] 184 - [3167] حَدَّثَنَا عبد الله بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ (¬1) رضي الله عنه قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجدِ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "انْطلِقُوا إِلَى يَهُودَ" فَخَرَجْنا حَتَى جِئْنَا بَيْتَ المِدْرَاسِ فَقَال: "أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَرض، فَمَنْ يَجِدْ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئا فَلْيَبِعْهُ، وإِلَّا فَاعلَمُوا أَنَّ الأَرْض لِلَّهِ وَرَسُولِهِ». (¬2). وفي رواية: «فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَادَاهُمْ: "يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا" فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أبا الْقَاسِم، فَقَالَ: "ذَلِكَ أُرِيدُ"، ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ. فَقَالُوا: قَدْ بلَغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، ثُم قَالَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: " اعْلَمُوا أَنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» (¬3). * شرح غريب الحديث: * " بيت المدراس "المدراس: صاحب دراسة كتب اليهود، وبيت المدراس: البيت الذي يدرسون فيه (¬4). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من ميادين الدعوة: المسجد. 2 - من وسائل الدعوة: إرسال الدعاة. 3 - من موضوعات الدعوة: الحض على الدخول في الإِسلام. ¬
4 - من أساليب الدعوة: الجدل بالتي هي أحسن. 5 - من موضوعات الدعوة: الحض على إخراج المشركين من جزيرة العرب. 6 - من صفات الداعية: الفصاحة والبلاغة. 7 - من أساليب الدعوة: الترغيب. 8 - أهمية أسلوب التأكيد بالتكرار. 9 - من أصناف المدعوين: اليهود. 10 - من صفات اليهود: المكر والخديعة. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من ميادين الدعوة: المسجد: دل هذا الحديث على أن من ميادين الدعوة إلى الله عز وجل المسجد؛ لقول أبي هريرة رضي الله عنه: بينما نحن في المسجد خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "انطلقوا إلى يهود"، وهذا يؤكد أهمية الدعوة إلى الله في المسجد؛ لأنه من أعظم الميادين النافعة، لما جعل الله في المساجد من البركة، والاستفادة من العلم، وغير ذلك مما يختص بالدين ونشره وتعلمه وتعليمه، والله ولى التوفيق (¬1). ثانيا: من وسائل الدعوة: إرسال الدعاة: ظهر في هذا الحديث أن إرسال الدعاة من وسائل الدعوة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة: "انطلقوا إلى يهود"، فينبغي العناية بإرسال الدعاة إلى الله عز وجل؛ لنشر العلم بين الناس، وتبليغ الإِسلام إلى كافة الناس، والله المستعان (¬2). ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحض على الدخول في الإسلام: إن دعوة غير المسلمين وحضهم على الدخول في الإِسلام من أعظم الواجبات، وأعلى الثواب في رفع الدرجات؛ ولهذا حض النبي صلى الله عليه وسلم جميع البشر على الدخول في الإسلام، ومن ذلك حض اليهود وأمرهم بالدخول في دين الله عز وجل فقال: ¬
«يا معشر يهود أسلموا تسلموا، واعلموا أن الأرض لله ورسوله»، وهذا فيه بيان واضح على أن الحض على الدخول في الإِسلام من أهم المهمات. فينبغي للداعية أن يعتني بدعوة الناس إلى الإِسلام، وبيان محاسنه وخصائصه؛ لترغيب الناس فيه، ولا شك أن أول ما يبدأ الداعية به لدعوة الناس إلى الدخول في الإِسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فإن هم انقادوا لذلك فحينئذٍ يبدأ معهم بالتدرج في تعليم شرائع الإِسلام وأخلاقه (¬1). رابعا: من أساليب الدعوة: الجدل بالتي هي أحسن: إن من أهم الأساليب مع المعاندين المجادلة بالتي هي أحسن؛ ولهذا جادل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود فقال: «يا معشر يهود أسلموا تسلموا"، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، فقال "ذلك أريد»، ثم قالها الثانية، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، ثم قالها الثالثة، وهذا فيه مجادلة بالتي هي أحسن؛ وقد ذكر ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ اليهود، ودعاهم إلى الإِسلام والاعتصام به، فقالوا بلغت ولم يذعنوا لطاعته، فبالغ في تبليغهم وكرره، وهذه مجادلة بالتي هي أحسن " (¬2) وهذا يؤكد أهمية الجدل بالتي هي أحسن (¬3). خامسا: من موضوعات الدعوة: الحض علي إخراج المشركين من جزيرة العرب: إخراج المشركين من جزيرة العرب أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته، وقد ظهر في هذا الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم لليهود: «إني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن يجد " (¬4) منكم بماله شيئا فليبعه وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله»، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل موته بثلاثة أيام: «أوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم» ¬
وسكت عن الثالثة أو أنسِيهَا (¬1) وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما» (¬2) وجزيرة العرب التي يُخْرَجُ منها المشركون هي: ما بين أقصى عدن اليمن إلى ريف العراق في الطول، وأما في العرض فمن جدة وما والاها إلى أطراف الشام، وقيل لها جزيرة العرب؛ لأن بحر الحبش، وبحر فارس، ودجلة والفرات قد أحاطت بها، وأضيفت إلى العرب؛ لأنها الأرض التي كانت بأيديهم قبل الإِسلام (¬3). فينبغي إنفاذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أنفذها عمر رضي الله عنه في خلافته (¬4) ولا يمنع الكفار من التردد مسافرين في جزيرة العرب، ولا يمكنوا من الإِقامة فيها أكثر من ثلاثة أيام إلا لضرورة رآها ولي أمر المسلمين بدون إقامة دائمة، وإنما مؤقتة ثم يُخرجون بعد زوال الضرورة المحددة (¬5). وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "الواجب إخراج الكفرة من هذه الجزيرة، إلا إذا دخل لحاجة، كرسول لدولته، أو لبيع شيء وليس معه إقامة، فيبقى ثلاثة أيام أو نحوها ثم يخرج" (¬6) وسمعته حفظه الله يقول: "فعلى المسلمين أن لا يستقدموا الكفار، بل يستقدموا المسلمين، إلا إذا احتاج ولي الأمر لاستقدامهم للضرورة لبعض الأعمال، فليكن ذلك وقت الضرورة ثم يرجعوا إلى بلادهم " (¬7) وهذا وما قبله يؤكد أهمية التحريض على إخراج المشركين من جزيرة العرب، إنفاذا لوصية ¬
رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله المستعان وعليه التكلان (¬1). سادسا: من صفات الداعية: الفصاحة والبلاغة: الفصاحة والبلاغة من الصفات الجميلة التي يجمل أن يتصف بها الداعية، وقد ظهر هذا الأسلوب في الحديث، لقوله صلى الله عليه وسلم لليهود: "أسلموا تسلموا" قال الإِمام النووي رحمه الله: "وفي هذا الحديث استحباب تجنيس الكلام، وهو من بديع الكلام، وأنواع الفصاحة" (¬2) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم: «أسلموا تسلموا» من الجناس الحسن؛ لسهولة لفظه وعدم تكلفه" (¬3) وهذا يبيِّن أهمية الفصاحة للداعية في الدعوة إلى الله عز وجل (¬4). سابعا: من أساليب الدعوة: الترغيب: الترغيب في الدخول في الإِسلام بالوعد بالخير والسلامة من الشر من أساليب الدعوة الناجحة، وقد استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فقال لليهود: «أسلموا تسلموا»، قال الإِمام القرطبي رحمه الله: "أي: ادخلوا في دين الإِسلام طائعين تسلموا من القتل والسباء مأجورين " (¬5) وهذا يؤكد أهمية أسلوب الترغيب (¬6). ثامنا: أهمية أسلوب التأكيد بالتكرار: إن التكرار من الأساليب الجميلة التي ينبغي للداعية أن يستخدمها في دعوته إلى الله عز وجل، وقد ظهر هذا الأسلوب في هذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود: «أسلموا تسلموا»، ثم كرر ذلك ثلاث مرات؛ قال الحافظ ابن حجر ¬
رحمه الله: "بَلّغ اليهود ودعاهم إلى الإِسلام والاعتصام به، فقالوا: بلغت، ولم يذعنوا لطاعته، فبالغ في تبليغهم وكرره " (¬1) وهذا يدل على حرصه صلى الله عليه وسلم على هدايتهم، ولكن الله يهدي من يشاء (¬2). تاسعا: من أصناف المدعوين: اليهود: دل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أسلموا تسلموا» على أن اليهود من أمة الدعوة، فينبغي العناية بدعوتهم على حسب الطرق الحكيمة في دعوتهم، والله الهادي إلى سواء السبيل (¬3). عاشرا: من صفات اليهود: المكر والخديعة: ظهر في هذا الحديث مكر اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه قال لهم: "أسلموا تسلموا"، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، فقال: "ذلك أريد"، فكرر فكرروا، حتى قال ذلك ثلاث مرات. وقولهم: "قد بلغت يا أبا القاسم " كلمة مكر وخديعة تحمل العداوة المستترة؛ قال الإِمام القرطبي رحمه الله: "قولهم: قد بلغت يا أبا القاسم: كلمة مكر وخديعة، ومداجاة؛ (¬4) ليُدافعوه بما يوهمه ظاهرها، وذلك: أن ظاهرها يقتضي أنه قد بلغ رسالة ربه تعالى؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك أريد"، أي التبليغ، قالوا ذلك وقلوبهم منكرة، مكذبة" (¬5) وهذا فيه تحذير من مكر اليهود وغدرهم؛ قال الله عز وجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] (¬6) * * * * ¬
باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم
8 - بابُ إِذا غدر الْمُشْركُون بِالْمُسْلمين هلْ يُعْفى عنْهمْ؟ [حديث لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم] 185 - [3169] حَدَّثَنَا عبد الله بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، عَنْ أَبِي هُريْرَةَ (¬1) رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شاة فِيهَا سُمّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ يَهُودَ"، فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: "إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيء، فَهَلْ أَنتم صَادِقِيَّ عَنْهُ؟ " فَقَالُوا: نَعَمْ. قَالَ لَهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أَبُوكُمْ؟ " قَالُوا: فلانٌ. فَقَال: "كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فلانٌ ". قَالوا: صَدَقْتَ. قَالَ: "فَهَلْ أنتمْ صَادِقِيَّ عَنْ شيء إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ؟ " فَقَالُوا: نَعم يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبينَا. فَقَالَ لَهُمْ: "مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ " قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرا، ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا. فَقَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اخْسَؤُوا فيها، واللهِ لَا نَخْلُفكُمْ فِيهَا أَبَدا". ثُمَّ قَالَ: "هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ " فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أبَا القَاسِمِ. قَالَ: "هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمّا" قَالُوا: نعَمْ. قَالَ: "مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ " قَالُوا: أرَدْنا إِنْ كُنْتَ كَاذِبا نَسْتَريحُ، وإن كُنْتَ نَبيّا لَمْ يَضُرَّكَ» (¬2). وفي رواية: «مَنْ أَبُوكُمْ؟ " قَالُوا: أَبُونَا فُلان، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فلانٌ "، فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ» (¬3). * شرح غريب الحديث: * " اخسؤوا "يقال. خسأت الكلب: طردته وأبعدته، والخاسئ: المبعد كما قال الله عز وجل: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] (¬4) ويقال: اخسأ: أي تباعد تَبَاعُدَ سَخَطٍ وَصُغرٍ (¬5). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية منها: 1 - من تاريخ الدعوة: ذكر فتح خيبر. 2 - من أساليب الدعوة: السؤال والجواب. 3 - من أساليب الدعوة: الجدل. 4 - من صفات الداعية: العفو. 5 - من وسائل الدعوة: التأليف بقبول هدية المشرك مع الحذر. 6 - من أساليب الدعوة: استخدام الشدة بالقول عند الحاجة. 7 - من سنن الله عز وجل: الابتلاء لأوليائه. 8 - من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الإِخبار ببعض المغيبات. 9 - من أصناف المدعوين: اليهود. 10 - من صفات اليهود: الخيانة والخبث. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من تاريخ الدعوة: ذكر فتح خيبر: دل الحديث على ذكر شيء مما وقع في غزوة خيبر؛ لقول أبي هريرة رضي الله عنه: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاةٌ فيها سم "، وهذه الحادثة من الحوادث التاريخية المهمة في السنة السابعة للهجرة، وقد ظهر خبث اليهود وخيانتهم لله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1). ثانيا: من أساليب الدعوة: السؤال والجواب: السؤال والجواب من الأساليب الدعوية، وقد ظهر في هذا الحديث؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل اليهود عن أبيهم؟ ثم أجابهم، وسألهم: من أهل النار؟ ثم أجابهم بالجواب الصحيح، وسألهم هل جعلوا في الشاة سما؟ ثم سألهم عن السبب لذلك، وهذا يبين أهمية السؤال والجواب في الدعوة إلى الله عز وجل (¬2). ¬
ثالثا: من أساليب الدعوة: الجدل: الجدل بالتي هي أحسن من أساليب الدعوة؛ ولهذا استخدمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث في المجادلة في أول الأمر، فقال لليهود: «إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه"، فقالوا: نعم. فقال: "من أبوكم؟ " قالوا: فلان، فقال: "كذبتم بل أبوكم فلان" قالوا: صدقت. قال: "فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؛ " فقالوا؛ نعم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا. فقال لهم: "من أهل النار؟ " قالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اخسئوا فيها والله لا نخلفكم فيها أبدا» وقد دل هذا الجدل على القوة والغلظة على اليهود؛ لأنهم ظلموا وكذبوا ولم ينقادوا؛ قال الله عز وجل: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] (¬1) وهذا يؤكد أن الجدال بالتي هي أحسن إنما يكون مع من استمع للحق ولم يتجاوز حدود الأدب، فإذا تجاوز ذلك أغلظ عليه عند القدرة كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم: 9] (¬2) وهذا فيه تأكيد على أهمية استخدام الجدل على حسب أحوال المجادل، والله المستعان (¬3). رابعا: من صفات الداعية: العفو: ظهر في هذا الحديث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعاقب اليهود بالقتل، أو غيره انتقاما لنفسه، ولكنه عفا وصفح، وقد أكل معه من أصحابه من الشاة: بشر بن البراء ومات بعد ذلك بسبب السم فقتل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهودية التي سمته قصاصا بالبراء، أما هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد عفا عنها؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬4) فينبغي للداعية أن يعفو ويصفح ولا ينتقم لنفسه إلا أن يجاهد في سبيل الله لنصر الإِسلام (¬5). ¬
خامسا: من وسائل الدعوة: التأليف بقبول هدية المشرك مع الحذر: دل هذا الحديث على أن من وسائل الدعوة قبول هدية المشرك تأليفا له؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الشاة المصلية التي أهدتها له اليهود، ولكن لا يؤكل من ذبائح غير أهل الكتاب. وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن من فوائد هذا الحديث: "جواز الأكل من طعام أهل الكتاب وقبول هديتهم" (¬1) ولكن يتأكد على الداعية أن يأخذ حذره من المشركين كافة؛ لأن الله عز وجل قد بين أن اليهود والنصارى لا يرضون حتى تُتَّبع ملتهم، قال الله عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] (¬2) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] (¬3). سادسا: من أساليب الدعوة: استخدام الشدة بالقول عند الحاجة: إن استخدام الشدة بالقول عند الحاجة من الأساليب الدعوية إذا احتاج الداعية إلى ذلك، ولكن يشترط أن لا يحصل منكر بالشدة، وقد دل هذا الحديث على هذا الأسلوب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لليهود: «كذبتم بل أبوكم فلان»، وقال لهم: «اخسئوا فيها والله لا نخلفكم فيها أبدا»، وهذا كلام فيه شدة للحاجة إليه من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فينبغي للداعية أن يعمل الأصلح عند القدرة عليه والله عز وجل الموفق (¬4). سابعا: من سنن الله عز وجل: الابتلاء لأوليائه: إن من السنن الثابتة الابتلاء للأولياء من الأنبياء والصالحين، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن أعداء الله اليهود عملوا السم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتأثر بذلك وهو حبيب الله وخليله، فينبغي للداعية أن يسأل الله العفو والعافية كثيرا، وإذا حصل له ابتلاء فيلزم الصبر والاحتساب، والله المستعان (¬5). ¬
ثامنا: من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الإخبار ببعض المغيبات: لا شك أن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث لليهود: "أبوكم فلان"، وقوله لهم: «اخسؤوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدا»، وإعلام الله عز وجل له بأن اليهود جعلوا في الشاة المصلية سما، يدل ذلك كله على أنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقا وصدقا؛ لإِخباره بأمور غائبة عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي كما قال؛ لأن الله أخبره بذلك، والله المستعان وعليه التكلان (¬1). تاسعا: من أصناف المدعوين: اليهود: ظهر في هذا الحديث أن اليهود من أصناف المدعوين؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تألفهم بالعفو والصفح، فلم ينتقم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنفسه عندما سمَّه اليهود، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جادلهم بالتي هي أحسن، ثم أغلظ لهم في القول عندما احتاج إلى ذلك (¬2). عاشرا: من صفات اليهود: الخيانة والخبث: إن اليهود أعداء الله أشد خبثا وعداوة للمسلمين من غيرهم من الكفرة؛ ولهذا عملوا هذا العمل القبيح: من جعل السم في الشاة، ومن مجادلة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم كاذبون في جدالهم، وقد بين الله عز وجل خيانتهم وعداوتهم فقال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] (¬3) فينبغي الحذر منهم ومن غدرهم وخيانتهم، ومكرهم قاتلهم الله. ¬
باب هل يعفى عن الذمي إذا سحر؟
14 - بَاب هَل يُعفَى عنِ الذِّمِّيِّ إذا سَحَر؟ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أخبرني يُونُسَ، عَن ابْنِ شِهَابٍ سُئِلَ: أَعَلَى مَنْ سَحَرَ مِنْ أهْلِ الْعَهْدِ قَتْل؛ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ صُنِعَ لَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَقتلْ مَنْ صنَعَهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ. [حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يخيل إليه أنه صنع شيئًا ولم يصنعه] 186 - [3175] حَدَّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ المُثَنَّى: حَدَّثَنَا يَحْيَى: حَدَّثَنَا هِشَام قالَ: حَدَّثَنِي أبِي عَنْ عَائِشَة (¬1) «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُحِرَ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أنهُ صَنَعَ شَيْئًا وَلَمْ يَصنَعْهُ» (¬2). وفي رواية: «سُحِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أنه يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ، حتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ: "أشَعرتِ أَنَّ اللهَ أَفْتَانِي فيمَا فِيهِ شِفَائِي؟ أتانِي رجُلانِ فَقَعَدَ أحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَر عِنْدَ رِجْلَي فَقَالَ أَحَدهما لِلآخَرِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؛ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَم. قَالَ: في مَاذَا؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمَشَاقَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذرْوَانَ ". فَخَرَجَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ رَجَعَ: "نَخْلُهَا كَأَنَّهُ رؤوسُ الشَّيَاطِين"، فَقُلْتُ: أَسْتخرجْتَه؟ فَقَالَ: "لَا. أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللهُ وخَشِيتُ أَنْ يُثيرَ ذلكَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا، ثُمَّ دُفِنَتِ الْبِئر» (¬3). وفي رواية: «سَحَرَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ ¬
الأَعْصَمِ. . . "، وفيها: "مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَنْ طَبهُ؟ قَالَ؛ لَبيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وجُفِّ طَلْعِ نَخلَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بئْرِ ذَرْوَانَ. فَأَتَاهَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ وَكَأَنَّ رُؤوسَ نَخْلِهَا رُؤوسُ الشَّيَاطِين " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلا اسْتَخْرَجْتَهُ؛ قَالَ: "قَدْ عَافَانِي اللهُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا".، فأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ» (¬1). وفي رواية: «كانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُحِرَ حَتَّى كَانَ يَرَى أنهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ، قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا. . . "، وفي هذه الرواية قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: "فَأَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ». . . " (¬2). وفي رواية: «فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأُخْرِجَ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فَهَلاَّ - تَعْنِي تَنشَّرْتَ -؟ فَقَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَمَّا اللهُ فَقَدْ شَفَانِي، وَأَما أَنَا فَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا» (¬3). * شرح غريب الحديث: * سحر: السحر: كل ما لطف مأخذه ودق (¬4) وهو عبارة عما خفي ولطُف سببه (¬5) والسحر في عرف الشرع مختص بكل أمرٍ يخفى سببه ويتخيل على غير حقيقته ويُجرى مجرى التمويه والخداع (¬6) والسحر: عزائم وَرُقًى وَعُقدٌ تُؤَثِّرُ في الأبدان والقلوب، فيُمرضُ، وَيَقْتُلُ وَيُفرِّقُ بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه (¬7). ¬
* مطبوب: أي مسحور، كنوا بالطب عن السحر تفاؤُلًا بالبرء كما كنوا بالسليم عن اللديغ (¬1). * مشط ومشاطة: المشاطة: هي الشعر الذي يسقط من الرأس واللحية عند التسريح بالمشط (¬2). * مشاقة: هي المشاطة كما تقدم (¬3). * جف طلعة ذكر: الجف: وعاء الطلع للنخل، وهو الغشاء الذي يكون فوقه (¬4). * بئر ذروان: هي بئر لبني زريق بالمدينة (¬5). * نقاعة الحناء: النقع: الماء الناقع وهو المجتمع، فنقع البئر هو ماؤها الناقع المجتمع (¬6). * راعوفة البئر: راعوفة البئر وراعونة، تقال: بالفاء والنون، وهي صخرة تترك في أسفل البئر إذا حفرت تكون ثابتة هناك فإذا أرادوا تنقية البئر يقوم عليها المستقي، ويقال: بل هو حجر ثابت في بعض البئر يكون صُلْبا لا يمكنهم إخراجه ولا كسره، فيترك على حاله (¬7). * تنشرت: النُّشرة بالضم نوع من الرقية يعالج به من كان يُظنُّ أن به مسا من الجن، سميت نشرة؛ لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء: أي يكشف ويزال (¬8). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان. 2 - من صفات الداعية: الإلحاح في الدعاء وتكريره. ¬
3 - من صفات الداعية: العفو. 4 - من القواعد الدعوية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. 5 - من أساليب الدعوة: التشبيه. 6 - من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عصمته فيما يبلغه عن ربه عز وجل، وإخباره بمكان السحر. 7 - من موضوعات الدعوة: بيان أهمية الأخذ بالأسباب وأنها لا تنافي التوكل. 8 - من صفات اليهود: الخيانة لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 9 - من موضوعات الدعوة: التحذير من السحر وبيان خطره. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من صفات الداعية: الصبر على الابتلاء والامتحان: دل هذا الحديث على أن من صفات الداعية الصبر على الابتلاء والامتحان؛ لصبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أذى اليهود قاتلهم الله، فقد سحره اليهودي لبيد بن الأعصم، فلم يجزع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم ينتقم لنفسه، بل صبر، واحتسب وعفا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه (¬1). ثانيا: من صفات الداعية: الإلحاح في الدعاء وتكريره: من اليقين الذي لا شك فيه أن الإِلحاح في الدعاء وتكريره من أسباب الإِجابة وآداب الدعاء؛ ولهذا كرر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدعاء لطلب الشفاء من الله عز وجل من مرض السحر كما قالت عائشة رضي الله عنها: «سحر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى كان يخيل إليه أنه يقول الشيء وما يفعله، حتى كان ذات يومٍ دَعَا ودَعَا». . . " قال الإِمام القرطبي رحمه الله: "وقوله دعا ثم دعا: أي إظهارًا للعجز والافتقار، وعلما منه بأن الله هو الكاشف للكرب والأضرار، وقياما بعبادة الدعاء عند الاضطرار" (¬2) وقال الإِمام النووي رحمه الله في إلحاح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدعاء وتكريره: "هذا دليل لاستحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات، وحسن الالتجاء إلى الله ¬
تعالى" (¬1) ومعلوم أن الإِلحاح في الدعاء: هو الإِقبال على الدعاء ولزومه والمواظبة عليه والإِقبال عليه، وتكريره (¬2) كما ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه: يا ربِّ يا ربِّ " (¬3). وهذا يؤكد أهمية الإِلحاح في الدعاء؛ ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي " (¬4) فينبغي للداعية أن يلح في الدعاء، ويكرره، ولا يستهين به، وقد أحسن الإِمام الشافعي رحمه الله حيث قال: أتهزأُ بالدعاء وتزدريه ... وما تدري بما صنع الدعاءُ سهام الليل لا تخطي ولكن ... لها أَمَدٌ وللأَمدِ انقضاءُ (¬5) ثالثا: من صفات الداعية: العفو: ظهر في هذا الحديث كمال عفو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه لم يعاقب لبيد بن الأعصم، ولم يتعرض له حتى بالكلام، ولم يسأله لِمَ سحره؟ وقد ذكر الإِمام الكرماني رحمه الله في فوائد هذا الحديث أن فيه: "كمال عفو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (¬6) وهذا يوضح للداعية أهمية الاقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العفو والصفح، وعدم الانتقام للنفس، وبالله الثقة وعليه التكلان (¬7). رابعا: من القواعد الدعوية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح: لا شك أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ ولهذا لم يقتل النبي لبيد بن الأعصم، ولم يُخرج السحر للناس فينشره ويشيعه ويخبر به من ¬
قابله، لئلا يثير شرّا على المسلمين (¬1) وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما الله فقد شفاني، وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرّا»، قال الإِمام النووي رحمه الله: "هذا من باب ترك مصلحة لخوف مفسدة أعظم منها، وهو من أهم قواعد الإِسلام " (¬2) وهذا يؤكد على الداعية العناية بالعمل بهذه القاعدة الدعوية النافعة (¬3). خامسا: من أساليب الدعوة: التشبيه: التشبيه من أساليب الدعوة؛ ولهذا ثبت في هذا الحديث قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة عن صفة بئر ذروان: «يا عائشة كأن ماءَها نقاعة الحناء، وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين»، قال الإِمام الكرماني رحمه الله في هذا التشبيه: "في كونها وحشة المنظر، سمجة الأشكال، وهو مثل في استقباح الصورة" (¬4) وقال الإِمام القرطبي رحمه الله: "وتشبيهه نخلها برؤوس الشياطين يعني أنها مستكرهة، مستقبحة المنظر، والمخبر، وهذا على عادة العرب إذا استقبحوا شيئا شبهوه بأنياب أغوال أو رؤوس الشياطين. . . " (¬5). وهذا يبين أن أسلوب التشبيه يستخدم في التنفير، كما يستخدم في شد الانتباه، والله أعلم (¬6). سادسا: من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عصمته فيما يبلغه عن ربه عز وجل وإخباره بمكان السحر: من المعجزات التي تدل على صدق نبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إعلام الله عز وجل له بمكان السحر، وعصمته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يبلغه عن ربه سبحانه وتعالى، فلم يؤثِّر السحر على عقله، ولا على رسالته، وقد ثبت في هذا الحديث أن الله عز وجل أخبره عن طريق الملكين: بأنه مسحور، وأن الذي سحره لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة، وأن هذا السحر في بئر ذروان. وهذا كله يدل على صدق نبُوَّته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ¬
أما ما حصل له من السحر فلا شك فيه؛ لأن أهل السنة وجمهور العلماء من الأمة على إثبات السحر وأن له حقيقة، كحقائق غيره من الأشياء الثابتة خلافا لمن أنكره ونفى حقيقته، وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها، وقد ذكره الله تعالى في كتابه العزيز، وذكر أنه مما يُتَعَلَّم، وذكر ما فيه إشارة إلى أنه مما يكفر بتعلمه، وأنه يفرق بين المرء وزوجه، وهذا كله مما لا يمكن أن يكون فيما لا حقيقة له، وكيف يُتعلَّم ما لا حقيقة له؛ (¬1). وذكر الإِمام القرطبي رحمه الله: أن حديث عائشة رضي الله عنها يدل على أن السحر موجود، وأن له أثرا في المسحور بإذن الله عز وجل، قال: "وقد دل على ذلك مواضع كثيرة من الكتاب والسنة، بحيث يحصل بذلك القطع بأن السحر حق، وأنه موجود، وأن الشرع قد أخبر بذلك، كقصة سحرة فرعون "، ثم قال: "وبالجملة فهو أمر مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن وجوده، ووقوعه، فمن كذب بذلك فهو كافر، مكذب لله ولرسوله، منكر لما عُلم مشاهدة وعيانًا. . . " (¬2). أما ما حصل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنما سلط السحر على جسده وظاهر جوارحه، لا على عقله وقلبه واعتقاده (¬3) وقد بين الإِمام المازري، والإِمام القرطبي، والإِمام النووي رحمهم الله: أن بعض المبتدعة أنكر هذا الحديث، وزعم أنه يحط من منصب النبوة ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع، وهذا الذي ادعاه هؤلاء المبتدعة باطل؛ لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ بقوله وفعله وتقريره، والمعجزة شاهدة بذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل، فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسببها، ولا كان مفضلا من أجلها، وهو مما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له (¬4). ¬
قال الإِمام القرطبي رحمه الله: "وأما عدم علم الطاعن فقد سلبه الله تعالى العلم بأحكام النبوات، وما تدل عليه المعجزات، فكأنهم لم يعلموا أن الأنبياء من البشر، وأنه يجوز عليهم من الأمراض، والآلام، والغضب، والضجر، والعجز، والسحر، والعين، وغير ذلك ما يجوز على البشر، لكنهم معصومون عما يناقض دلالة المعجزة، من معرفة الله تعالى، والصدق، والعصمة عن الغلط في التبليغ. . . "، ثم قال في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وهو الذي شهد له العليُّ الأعلى، بأن بصره ما زاغ وما طغى، وبأن فؤاده ما كذب ما رأى، وبأن قوله وحيٌ يُوحى، وأنه ما ينطق عن الهوى" (¬1) وهذا كله يؤكد عصمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يبلغه عن ربه عز وجل، وأنها من معجزاته التي تدل على صدقه. سابعا: من موضوعات الدعوة: بيان أهمية الأخذ بالأسباب وأنها لا تنافي التوكل: دل هذا الحديث على أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل (¬2) ولهذا عندما سُحِرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، توكل على الله عز وجل وعمل بالأسباب، ومن أعظم ما فعله من الأسباب: أنه دعا الله عز وجل والتجأ إليه، وكرر الدعاء، فدعا ثم دعا، ثم عندما علم مكان السحر أمر بالبئر فدفنت، واستخرج السحر، وفي رواية: "فأمر به فأخرج"، وهذا يؤكد الأخذ بالأسباب وأنها لا تنافي التوكل، بل هي من التوكل (¬3). ومن الأسباب التي ينبغي أن يأخذ بها المسلم وخاصة الداعية إلى الله عز وجل الوقاية من السحر قبل وقوعه، وعلاجه إذا وقع ويكون ذلك على النحو الآتي: أولا: الوقاية من السحر قبل وقوعه: وذلك بالقيام بجميع الواجبات، وترك جميع المحرمات، والتوبة من جميع السيئات، والإِكثار من قراءة القرآن والتحصن بالدعوات والتعوذات المشروعة: كدعاء الصباح والمساء، وأدبار الصلوات المكتوبة، وأذكار النوم والاستيقاظ من النوم، وغير ذلك من الأذكار ¬
المشروعة (¬1) ومما ينفع بإذن الله عَزَّ وجلَّ قبل وقوع السحر أكل سبع تمرات على الريق كل صباح، فعن سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من اصطبح بسبع تمرات عجوة (¬2) لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر» (¬3) والأكمل أن تكون من تمر المدينة مما بين الحرتين؛ لرواية مسلم: «من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره سم حتى يمسي» (¬4) وقد ذكر الإمام ابن القيم أسبابا عشرة يندفع بها شر الحاسد، والعائن، والساحر، وهي: الاستعاذة بالله، وتقوى الله عزَّ وجلَّ، والصبر مع العفو، والتوكل على الله، ولا يخاف إلا من الله، والإقبال على الله والإخلاص له، والتوبة من الذنوب، والصدقة والإحسان، وإطفاء نار من يخاف شره بالإحسان إليه، وتجريد التوحيد وإخلاصه للعزيز الحكيم (¬5). ثانيا: علاج السحر بعد وقوعه: وذلك بإخراج السحر وإبطاله إذا علم مكانه بالطرق المباحة شرعا، وهذا من أبلغ ما يعالج به المسحور كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله، (¬6) وإذا لم يعلم مكانه بالطرق المباحة شرعا، فحينئذ لم يبق إلا الالتجاء إلى الله عز وجل، والرقية بالقرآن، والدعوات النبوية التي ثبتت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬7) وإن أخذ بالتجارب في العلاج بالرقية كان ذلك حسنا، ومن ذلك أن يدق سبع ورقات من سدر أخضر بين حجرين، أو نحوهما، ثم يصب عليها ما يكفيه للغسل من الماء، ويقرأ فيها: آية الكرسي (¬8) وآيات السحر: في سورة الأعراف، ويونس، وطه (¬9) وسورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وسور ¬
المعوذات الثلاث: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] ثم يشرب منه ثلاث مرات ويغتسل بالباقي، وبذلك يزول الداء إن شاء الله، وإن دعت الحاجة إلى إعادته أعيد ولو مرات، حتى يزول المرض، وقد جرب كثيرا فنفع الله به، وهو جيد لمن حبس عن زوجته (¬1). ثامنا: من صفات اليهود: الخيانة لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن اليهود لهم صفات قبيحة ذميمة منها الخيانة لله ولرسله عليهم الصلاة والسلام، وقد دل هذا الحديث على هذه الصفة؛ لأن لبيد بن الأعصم سحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحصل له ما حصل من الألم والمشقة، وقد فعلوا أكثر من هذا بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال عز وجل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155] (¬2). تاسعا: من موضوعات الدعوة: التحذير من السحر وبيان خطره: لا شك أن من موضوعات الدعوة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها تحذير الناس من السحر وبيان خطره، ومما يدل على خطره تأثر سيد الخلق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به، فكيف بضعفاء المسلمين؟ ولهذا الخطر العظيم حذر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من السحر أشد التحذير فقال: «اجتنبوا السبع الموبقات" (¬3) قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» (¬4) وقد بين الله عز وجل أن الساحر لا يفلح فقال: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] (¬5) ¬
والساحر ليس له في الآخرة من نصيب، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102] (¬1) وبين الله عز وجل أن من تعلم السحر كفر، فقال: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] (¬2)؛ ولخطر السحر على المسلمين حذر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الذهاب إلى السحرة والكهان فقال: «من أتى عرافا (¬3) فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» (¬4). وهذا فيه التحذير الشديد من إتيان الكهان والعرافين، وأن من فعل ذلك ولم يصدقهم فلا ثواب له في صلاة أربعين ليلة (¬5) أما من أتاهم وصدقهم فإنه يكفر بالقرآن والسنة (¬6)؛ لحديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتى كاهنا (¬7) أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -" (¬8). وهذا يؤكد كفر الكاهن والساحر والعراف؛ لأنهم يدعون علم الغيب، والمصدق لهم الذي يعتقد ذلك ويرضى به كافر، أسأل الله لي ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة (¬9). وقد برئ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ممن تعاطى السحر والكهانة وممن تلقى ذلك عنهم فقال: «ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر ¬
له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -" (¬1) ومما يؤكد خطر السحر والتحذير منه الأمر بقتل الساحر؛ لعظم شره، وإراحة الناس من سحره، فعن عمرو بن دينار سمع بجالة يحدث عمرو بن أوس وأبا الشعثاء: كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف بن قيس إذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسنة: "اقتلوا كل ساحر وساحرة"، قال فقتلنا في يوم ثلاث سواحر (¬2) وأمرت حفصة بنت عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بقتل جارية لها سحرتها فقتلت (¬3) وقتل جندب الأزدي ساحرا عند الوليد بن عقبة أمير الكوفة (¬4) وعن جندب البجلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "حد الساحر ضربة بالسيف" (¬5) قال الترمذي رحمه الله: "والصحيح عن جندب موقوف، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم، وهو قول مالك بن أنس، وقال الشافعي: إنما يقتل الساحر إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ به الكفر، فإذا عمل عملا دون الكفر فلم نر عليه قتلا" (¬6) وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: "وحد الساحر القتل روي ذلك عن عمر، وعثمان بن عفان، وابن عمر، وحفصة، وجندب بن عبد الله، وجندب بن كعب، وقيس بن سعد، وعمر بن عبد العزيز، وهو قول ¬
أبي حنيفة، ومالك " (¬1). وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "والمقصود أن الساحر إذا عرف يقتل، فحده السيف، مثل ما أمر عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بقتل السحرة، والسحر يعالج بالرقى الشرعية، ولا يجوز تعلم السحر، ولا تعليمه، ولا إقراره" (¬2). وكل ما سبق يؤكد للداعية أهمية تحذير الناس أشد التحذير من السحر وتعلمه، وتعليمه، والعلاج به، والله عز وجل المستعان. ¬
باب ما يحذر من الغدر
15 - باب ما يحذر من الغدر وقوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62] (¬1). [حديث اعدد ستا بين يدي الساعة] 187 - [3176] حدثنا الحميدي: حدثنا الوليد بن مسلم: حدثنا عبد الله بن العلاء بن زَبْر قال: سمعت بسر بن عبيد الله أنه سمع أبا إدريس قال: سمعت عوف بن مالك (¬2) قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك - وهو في قبة من أدم فقال: «اعدد ستا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا». * شرح غريب الحديث: * " قبة من أدم " القبة تطلق على البيت الصغير المدوَّر والقبة من الأدم كذلك (¬3). * " قعاص الغنم " القعاص: داء يأخذ الغنم لا يلبثها أن تموت (¬4). * " بني الأصفر " يعني الروم لأن أباهم كان أصفر اللون، وهو روم بن عيصون بن إسحاق بن إبراهيم (¬5). * " غاية " الغاية والراية سواء: فالغاية: الراية (¬6). ¬
* الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة تبوك. 2 - من أسباب تحصيل العلم: زيارة العلماء. 3 - من أساليب الدعوة: استخدام العدد إجمالا ثم تفصيلا. 4 - من موضوعات الدعوة: بيان علامات الساعة. 5 - من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإخبار بالمغيبات. 6 - من أساليب الدعوة: الموعظة الحسنة. 7 - من أصناف المدعوين: النصارى. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة تبوك: ظهر في الحديث ذكر غزة تبوك؛ لقول عوف بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، وهو في قبة من أدم"، وغزوة تبوك غزاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السنة التاسعة للهجرة، وقد أمر أصحابه قبل الغزو بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في زمان عسرة من الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، فالناس يحبون المقام في ثمارهم، ويكرهون مفارقتها، وهذا فيه امتحان وابتلاء، فقد أظهر الله المنافقين لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وظهر صدق أهل الإيمان والتقوى، فتخلف خلق كثير من المنافقين، وغزى بشر كثير من المؤمنين، ثم أعز الله أهل الإيمان وكفاهم القتال، وأخزى الله المنافقين وفضحهم، أسأل الله لي ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة (¬1). ثانيا: من أسباب تحصيل العلم: زيارة العلماء: دل هذا الحديث على أن من أسباب تحصيل العلم زيارة العلماء، للأخذ ¬
عنهم؛ لأن عوف بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، وهو في قبة من أدم فقال: "اعدد ستا بين يدي الساعة. .»، ثم عد له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علامات الساعة المذكورة في هذا الحديث، فلو لم يزر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويذهب إليه ما حصل على هذا العلم، وهذا يؤكد على طالب العلم أن يعتني بزيارة العلماء في الأوقات المناسبة، ويلازمهم للاستفادة من علمهم؛ ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: أخي لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء , وحرص , واجتهاد , وبلغة ... وصحبة أستاذ , وطول زمان (¬1) / 50 ثالثا: من أساليب الدعوة: استخدام العدد إجمالا ثم تفصيلا: ظهر في هذا الحديث أسلوب ذكر العدد إجمالا ثم تفصيلا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعوف بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «اعدد ستا بين يدي الساعة»، وهذا فيه إجمال يشد الانتباه؛ للتشوق إلى ذكر هذه الست تفصيلا، ثم قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «موتي ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا». . . " فينبغي العناية بهذا الأسلوب عند الحاجة لذكره في الدعوة إلى الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2). رابعا: من موضوعات الدعوة: بيان علامات الساعة: إن بيان علامات الساعة من الموضوعات التي ينبغي للداعية أن يعتني بها في دعوته إلى الله عز وجل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث لعوف بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «اعدد ستا بين يدي الساعة» فدل ذلك على أهمية بيان علامات الساعة للناس اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وعلامات الساعة تدل على اقتراب القيامة، فإذا ذكر الداعية بعض هذه العلامات؛ فإن فيها التحذير من الغفلة والحض على الإقبال علي الله عز وجل؛ قال الله عز وجل: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد: 18] (¬3). ¬
وقد قسم العلماء أشراط الساعة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما وقع وانقضى على وفق ما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والقسم الثاني: ما وقعت مباديه ولا يزال يزداد ويتتابع ويكثر. والقسم الثالث: ما لم يظهر إلى الآن وهي العلامات الكبرى (¬1) فأما القسمان الأولان فهما من أشراط الساعة الصغرى، ومن ذلك بعثة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وموته، وفتح بيت المقدس، وطاعون عمواس، واستفاضة المال وكثرته، وظهور الفتن، وظهور مدعي النبوة، وظهور نار الحجاز، وقتال الترك والعجم، وضياع الأمانة، وقبض العلم وظهور الجهل، وانتشار الزنا والربا، وظهور المعازف وشرب الخمر، والتطاول في البنيان، وكثرة القتل، وتقارب الزمان، وتقارب الأسواق، وظهور الفحش وقطيعة الرحم وكثرة الشح، وكثرة الزلازل، وأن تكون التحية للمعرفة، وظهور الكاسيات العاريات، وكثرة الكذب، وعدم التثبت في نقل الأخبار، وكلام الجماد والسباع للإنس. . . وغير ذلك من العلامات. وأما القسم الثالث الذي لم يظهر منها: فالدخان، وخروج المسيح الدجال وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وظهور المهدي، ونزول عيسى ابن مريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخروج يأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوفات: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم (¬2). فينبغي للداعية أن يبين للناس علامات الساعة في الأوقات المناسبة؛ لما في ذلك من الحث على الاستقامة، والتخويف الجالب للمسارعة إلى الخيرات. خامسا: من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الإخبار بالمغيبات: دل هذا الحديث على صدق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر بأمور غيبية وقعت كما أخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال لعوف بن مالك: «اعدد ستا بين يدي الساعة»، ثم ذكر موته؛ ¬
وفتح بيت المقدس، والموتان: وهو طاعون عمواس، واستفاضة المال وفتنة لا يبقى بيت إلا دخلته - وهي ما وقع من قتل عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وغدر الروم. وقد ذكر ابن حجر رحمه الله: "أن هذه العلامات قد خرجت كلها إلا قصة الروم فلم تقع إلى الآن" (¬1) وسمعت العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله يقول: "هذا من علامات النبوة؛ فإن هذا كله قد وقع، أما الخمس الأولى فقد وقعت، وأما السادسة، وهي تجمعات الروم فيحتمل أن يكون ما حصل في عهد عمر وعثمان من تجمعات، ويحتمل أن يكون ذلك هو الذي في آخر الزمان" (¬2) وهذا كله يؤكد صدق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويدل على معجزاته العظيمة التي جعلها الله من علامات نبوته (¬3). سادسا: من أساليب الدعوة: الموعظة الحسنة: ظهر في هذا الحديث ترغيب وترهيب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر أن هدنة تكون بين المسلمين والروم، فيغدر الروم ويأتون تحت ثمانين راية، تحت كل راية اثنا عشر ألفا، فيكون عددهم تسعمائة وستين ألفا، وهذا جيش عظيم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: "وفيه بشارة ونذارة، وذلك أنه دل على أن العاقبة للمؤمنين مع كثرة ذلك الجيش، وفيه إشارة إلى أن عدد جيوش المسلمين سيكون أضعاف ما هو عليه" (¬4) ولا شك أن الموعظة الحسنة: هي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، والقول الحق الذي يلين القلوب، ويؤثر في النفوس، ويكبح جماح النفوس المتمردة، ويزيد النفوس المهذبة إيمانا وهداية (¬5). فينبغي للداعية أن يستخدم هذا الأسلوب النافع مع المدعوين؛ ليحصل ¬
النفع التام بإذن الله عز وجل؛ ولأهمية الموعظة الحسنة قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] (¬1) وينبغي للداعية يكون وعظه للناس على نوعين: وعظ التعليم: ويكون ببيان عقائد التوحيد، وبيان الأحكام الشرعية الخمسة: من الواجب، والحرام، والمسنون، والمكروه، والمباح، ويراعي ذلك كله ما يناسب كل طبقة، ويسوق إلى الناس التعليم مساق الوعظ الذي يلين القلوب، ويبعثها على العمل، ولا يسرد سردا خاليا من وسائل التأثير (¬2). وعظ التأديب: ويكون بتحديد الأخلاق الحسنة: كالحلم، والأناة، والكرم، والصبر، وبيان آثارها ومنافعها في المجتمع، والحث على التخلق بها، والتزامها، وتحديد الأخلاق السيئة: كالغضب، والعجلة، والغدر، والجزع، والبخل. . والتحذير عن الاتصاف بها عن طريق: الترغيب والترهيب، ويتأكد على الداعية أن يستشهد في ذلك كله بما جاء فيه من الكتاب والسنة الثابتة، وآثار الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، والتابعين والأئمة المجتهدين، وأحوالهم في ذلك فإن لهذا شأنا عظيما يوصل إلى الغاية المقصودة متى صدر من قلب سليم متخلق بما يدعو إليه. والله المستعان (¬3). سابعا: من أصناف المدعوين: النصارى: إن هذا الحديث دل على أن من أصناف المدعوين النصارى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بقتال المسلمين لهم، ولهم طرق في دعوتهم ينبغي للداعية أن يلتزمها مراعاة لعقيدتهم وأحوالهم (¬4). ¬
باب إثم من عاهد ثم غدر
17 - باب إثم من عاهد ثم غدر وقول الله عز وجل: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} [الأنفال: 56] (¬1). [حديث كيف أنتم إذا لم تجتبوا دينارا ولا درهما] 188 - [3180] قَالَ أَبُو مُوسَى: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (¬2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا؟ فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ تَرَى ذَلِكَ كَائِنًا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: إِيْ وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، عَنْ قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ: قَالُوا: عَمَّ ذَلِكَ؟ قَالَ: تُنْتَهَكُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَشُدُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قُلُوبَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَمْنَعُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ». * شرح غريب الحديث: * " إذا لم تجتبوا دينارا ولا درهما " أي إذا لم تأخذوا من الجزية والخراج شيئا. (¬3). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من أساليب الدعوة: السؤال والجواب. 2 - من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم. 3 - أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية. 4 - من موضوعات الدعوة: الحض على الوفاء بالعهد. 5 - من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تحقق ما أخبر به. 6 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الظلم. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من أساليب الدعوة: السؤال والجواب: إن السؤال والجواب من أهم أساليب الدعوة؛ لما فيه من شحذ الهمم ولفت ¬
انتباه المدعو، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث؛ لقول أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا» فقيل له: «وكيف ترى ذلك كائنا يا أبا هريرة؟» فأجابهم بما يريد أن يلقي إليهم من العلم، وهذا يؤكد أهمية أسلوب السؤال والجواب (¬1). ثانيا: من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: التأكيد بالقسم أسلوب ناجح من أساليب الدعوة؛ ولهذا قال أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في هذا الحديث: «إي والذي نفس أبي هريرة بيده» ثم ساق الحديث وهذا يدل على استخدام الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم لهذا الأسلوب في دعوتهم لأهميته (¬2). ثالثا: أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية: إن الاستدلال بالأدلة الشرعية من أهم الأمور التي ينبغي للداعية أن يعتني بها في دعوته؛ ليثق الناس بما يقوله، ويسلم من الوقوع في الخطأ، وقد ظهر ذلك في قول أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في هذا الحديث: «إي والذي نفس أبي هريرة بيده عن قول الصادق المصدوق»، فنسب القول إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استدلالا على ما يقول رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (¬3). رابعا: من موضوعات الدعوة: الحض على الوفاء بالعهد: دل مفهوم الحديث على الحض على الوفاء بالعهد؛ لقول أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الذي رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كيف أنتم إذا لم تجتبوا دينارا ولا درهما» أي كيف تكون حالكم إذا انقطعت عنكم أموال الجزية والخراج، وبين السبب في انقطاع ذلك فقال: «تنتهك ذمة الله وذمة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -"، وذلك أن المسلمين ينقضون عهد الله وعهد رسوله الذي يتعلق بحقوق أهل الذمة، ويعاملونهم بالظلم والعدوان فيعاقب الله المسلمين في الدنيا قبل الآخرة: «فيشد الله عز وجل قلوب أهل الذمة فيمنعون ما في أيديهم» من الأموال: من الجزية والخراج فلا يدفعونها إلى المسلمين. وهذا يبين أنه يجب على المسلمين الوفاء بالعهد لأهل الذمة وإعطاؤهم حقوقهم ¬
بشرطين: الأول: أن يخضعوا لأحكام الإسلام في الجملة، والثاني: أن يدفعوا الجزية. فإذا فعلوا ذلك وجب القيام بالوفاء لهم بالعهود (¬1) وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن من فوائد هذا الحديث: «التوصية بالوفاء لأهل الذمة؛ لما في الجزية التي تؤخذ منهم من نفع للمسلمين» (¬2) فينبغي الوفاء بالعهد وحض الناس على ذلك؛ لما فيه من طاعة لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الله عز وجل: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] (¬3) وهذا يؤكد أهمية الوفاء بالعهود، والمواثيق (¬4). خامسا: من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تحقق ما أخبر به: إن من المعجزات الباهرة التي تدل على صدق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أعطاه الله من دلائل صدق النبوة، ومن ذلك تحقق ما أخبر به من أن أهل الذمة يمتنعون عن أداء الجزية والخراج، وقد وقع ذلك، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ذكره لفوائد هذا الحديث: "وفيه علم من أعلام النبوة" (¬5) وهذا فيه تأكيد لصدقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنه رسول الله حقا (¬6). سادسا: من موضوعات الدعوة: التحذير من الظلم: ظهر من مفهوم الحديث التحذير من ظلم أهل الذمة، والتحذير من نقض العهد المبرم؛ لأن نقض ذلك من كبائر الذنوب وسبب لضعف المسلمين، وزوال هيبتهم، وقلة مواردهم المالية؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث المتعلقة بظلم أهل الذمة: "وفيه التحذير من ظلمهم، وأنه متى وقع ذلك نقضوا العهد فلم يجتب المسلمون منهم شيئا، فتضيق أحوالهم" (¬7) فينبغي للداعية تحذير الناس من ظلم أهل الذمة وغيرهم، والابتعاد عن جميع أنواع الظلم (¬8). ¬
باب
18 - باب [حديث قول سهل بن حنيف اتهموا رأيكم رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر النبي لرددته] 189 - [3181] حَدَّثَنَا عَبْدَانُ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ: شَهِدْتَ صِفِّينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَسَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ (¬1) يَقُولُ: «اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ، رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا أَسْيَافَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا لِأَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلَّا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرَ أَمْرِنَا هَذَا» (¬2). وفي رواية: «كُنَّا بِصِفِّينَ، فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا؛ فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؛ فَقَالَ: "بَلَى". فَقَالَ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؛ قَالَ: "بَلَى". قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: "يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا". فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا. فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ فَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: "نَعَمْ".» (¬3). وفي رواية: «لَمَّا قَدِمَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ مِنْ صِفِّينَ أَتَيْنَاهُ نَسْتَخْبِرُهُ فَقَالَ: اتَّهِمُوا ¬
الرَّأْيَ فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ لَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرَهُ لَرَدَدْتُ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، وَمَا وَضَعْنَا أَسْيَافَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا لِأَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلَّا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ قَبْلَ هَذَا الْأَمْرِ، مَا نَسُدُّ مِنْهَا خَصْمًا إِلَّا انْفَجَرَ عَلَيْنَا خَصْمٌ مَا نَدْرِي كَيْفَ نَأْتِي لَهُ». (¬1). وفي رواية: عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: «أَتَيْتُ أَبَا وَائِلٍ أَسْأَلُهُ فَقَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ فَقَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ؛ فَقَالَ عَلِيٌّ: نَعَمْ. فَقَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ - يَعْنِي الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُشْرِكِينَ - وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؛ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؛ قَالَ: "بَلَى". قَالَ: فَفِيمَ أُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا؟ فَقَالَ: "يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا"، فَرَجَعَ مُتَغَيِّظًا فَلَمْ يَصْبِرْ حَتَّى جَاءَ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ» (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ» (¬3). * شرح غريب الحديث: * عواتقنا: جمع عاتق وهو المنكب (¬4). * أسهلن بنا: يقال: أسهل الرجل إذا ركب السهل من الأرض في سيره، وقوله: "أسهلن بنا" أي رأينا في عاقبته وفي السلوك إليه سهولة، وكأنه ركب السهل في طريقه إليه، ولم ير في آخره مكروها (¬5). ¬
* أعطي الدنية في ديننا: الدنية: النقيصة (¬1). * يفظعنا: أي يشتد علينا، يقال: أفظع الأمر: اشتد، وهو مفظِع وفظيع (¬2). * خُصْمٌ: الخصم: جانب الشيء، وخُصْمُ كل شيء طرفه وجانبه، وإنما ذلك إخبار عن انتشار الأمر وشدته، وأنه لا يتهيأ إصلاحه وتلافيه، وأنه بخلاف ما كانوا عليه من قبل ذلك (¬3). * الدراسة الدعوية للحديث: في هذا الحديث دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - أهمية سؤال الداعية عما أشكل عليه. 2 - أهمية إجابة السائل بأكثر مما سأل عند الحاجة. 3 - من موضوعات الدعوة: الحض على الأخذ بالكتاب والسنة واتهام الرأي. 4 - من تاريخ الدعوة: ذكر يوم أبي جندل. 5 - أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية. 6 - من أساليب الدعوة: الحوار. 7 - من صفات الداعية: الثقة بالله عز وجل. 8 - منزلة أبي بكر العظيمة رضي الله عنه في مؤازرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 9 - أهمية الانقياد والتسليم لأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 10 - من سنن الله عز وجل: الابتلاء والامتحان. 11 - من موضوعات الدعوة: الحث على التثبت والتبصر. 12 - من وسائل الدعوة: عقد الصلح والهدنة مع الأعداء عند العجز عن الجهاد. 13 - من أصناف المدعوين: المشركون. 14 - من أصناف المدعوين: المسلمون. 15 - من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تحقق ما أخبر به. 16 - من صفات الداعية: الحرص على الإصلاح بين الناس. ¬
والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: أهمية سؤال الداعية عما أشكل عليه: إن سؤال الداعية عما أشكل عليه من وسائل تحصيل العلم المهمة؛ ولهذا سأل سليمان الأعمش أبا وائل شقيق بن سلمة فقال له: شهدت صفين؟ فقال أبو وائل: نعم، فسمعت سهل بن حنيف يقول: "اتهموا رأيكم" (¬1) وهذا يدل على أهمية سؤال الداعية عما أشكل عليه؛ ليعلمه وينتفع به والله أعلم. ثانيا: أهمية إجابة السائل بأكثر مما سأل عند الحاجة: إجابة السائل بأكثر مما سأل دليل على علم الداعي وفقهه، وقد ظهر ذلك في هذا الحديث؛ لأن سليمان الأعمش سأل أبا وائل فقال: هل شهدت صفين؟ فأجابه أبو وائل فقال: "نعم"، فسمعت سهل بن حنيف يقول: "اتهموا رأيكم. . . "، ثم ساق له الحديث، فزاده على ما سأل علما كثيرا وفوائد نافعة، وهذا من أهم أساليب الدعوة " ولهذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستخدم هذا الأسلوب في دعوته، فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: «لما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي. قال: "ما لك يا عمرو؟ " قال قلت: أريد أن أشترط، قال: "تشترط بماذا؟ " قلت: أن يغفر لي، قال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟» (¬2) فأجاب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يفيد عدم المؤاخذة عن كل من اعتنق الإسلام، وعن كل من هاجر، وعن كل من حج حجا مبرورا، وقد كان يكفيه في الجواب أن يقول: غفر لك، أو نحوها، ولكنه زاده علما كثيرا نافعا (¬3) وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن سأله عن ماء البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» (¬4) فأجاب ¬
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السائل عن الحكم الذي سأل عنه، وزاده حكما لم يسأل عنه، وهو حل ميتة البحر؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندما عرف اشتباه الأمر على السائل في ماء البحر أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته، وقد يبتلى بها راكب البحر، فعقب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتة، وذلك من محاسن الفتوى أن يجاء في الجواب بأكثر مما سئل عنه تتميما للفائدة، وإفادة لعلم غير المسؤول عنه، ويتأكد عند ظهور الحاجة إلى الحكم أو المسألة كما هنا؛ لأن من توقف في طهورية ماء البحر فهو عن العلم بحل ميتته - مع تقدم تحريم الميتة - أشد توقفا (¬1). ثالثا: من موضوعات الدعوة: الحض على الأخذ بالكتاب والسنة واتهام الرأي: إن الأخذ بالكتاب والسنة من أهم الواجبات وأعظم القربات؛ لأن الأخذ بالرأي المجرد عن الدليل الشرعي يوصل إلى المهالك؛ ولهذا قال سهل بن حنيف رضي الله عنه في هذا الحديث: «اتهموا رأيكم، فلقد رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أرد على رسول الله أمره لرددته، والله ورسوله أعلم»، وهذا يؤكد أن الرأي لا يعتمد عليه، وإنما المعتمد على الكتاب والسنة؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] (¬2) وقال عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] (¬3) وقال عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10] (¬4). فالأصل في الحكم بين الناس أن يرد حكمه إلى كتاب الله عز وجل، وإلى سنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬5) وقد ذم الله القول عليه بغير علم، فقال عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] (¬6) ¬
فقرن سبحانه القول عليه بغير علم بالشرك بالله عز وجل وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ - إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 168 - 169] (¬1) وهذا يؤكد أن القول على الله بغير علم من أمر الشيطان، وقال عز وجل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] (¬2) وقد بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن القائل على الله بغير علم من الجاهلين الضالين المضلين، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله لا ينتزع العلم من الناس انتزاعا، ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم، ويبقي في الناس رؤوسا (¬3) جهالا يفتون بغير علم فيضلون ويضلون» (¬4). والحاصل أنه لا يجوز الاعتماد على الرأي، بل يرجع إلى الكتاب والسنة، أو إلى أحدهما، فإن لم يجد فيرجع إلى الإجماع، فإذا لم يجد الأمور الثلاثة رجع إلى أقوال الصحابة رضي الله عنهم، فإن وجد قولا لأحدهم ولم يخالفه أحد من الصحابة ولا عرف نص يخالفه، واشتهر هذا القول في زمانهم أخذ به؛ لأنه حجة عند جماهير العلماء، فإذا لم يجد قولا يحتج به من أقوال الصحابة واحتاج إلى القياس رجع إليه بدون تكلف بل يستعمله على أوضاعه، ولا يتعسف في إثبات العلة الجامعة التي هي من أركان القياس، بل إذا لم تكن العلة الجامعة واضحة فليتمسك بالبراءة الأصلية (¬5). وكما دل الحديث على التمسك بالكتاب والسنة دل على التحذير من الرأي؛ لقول سهل رضي الله عنه: «اتهموا رأيكم على دينكم» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ¬
"أي لا تعملوا في أمر الدين بالرأي المجرد الذي لا يستند إلى أصل من الدين" (¬1) وما أحسن ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله: كل العلوم سوى القرآن مشغلة ... إلا الحديث وعلم الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا ... وما سوى ذاك وسواس الشياطين (¬2) وقد ذم السلف رحمهم الله الرأي المجرد عن الدليل، فعن ابن الأشج عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: " إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ؛ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " (¬3). وعن عروة بن الزبير أنه كان يقول: " السُّنَنَ السُّنَنَ؛ فَإِنَّ السُنَّنَ قِوَامُ الدِّينِ [أَزْهَدُ النَّاسِ فِي الْعَالِمِ أَهْلُهُ] " (¬4) وقال الإمام أحمد رحمه الله: " لا تكاد ترى أحدا نظر في هذا الرأي إلا وفي قلبه دغل " (¬5) وقال الأوزاعي رحمه الله: " إذا أراد الله عز وجل أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه الأغاليط " (¬6) وقال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله بعد أن ساق آثارا كثيرة في ذم الرأي ما ملخصه: قال أكثر أهل العلم: إن الرأي المذموم المعيب المهجور الذي لا يحل النظر فيه والاشتغال به، هو الرأي المبتدع وشبهه من أنواع البدع (¬7) وقال جمهور أهل العلم: الرأي المذموم في الآثار المذكورة هو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات، ورد الفروع والنوازل بعضها على بعض قياسا دون ردها على أصولها من الكتاب أو من السنة (¬8). ثم قال: " ومن تدبر الآثار المروية في ذم الرأي المرفوعة وآثار الصحابة والتابعين في ¬
ذلك علم أنه ما ذكرنا " (¬1) فرجح رحمه الله هذا القول، ثم قال: " وليس أحد من علماء الأمة يثبت حديثا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يرده، دون ادعاء نسخ ذلك بأثر أو بإجماع، أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك أحد سقطت عدالته، فضلا عن أن يتخذ إماما، ولزمه اسم الفسق، ولقد عافاهم الله عز وجل من ذلك " (¬2) فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يعتصم بالكتاب والسنة، ثم بالإجماع، ثم بأقوال الصحابة رضي الله عنهم، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. رابعا: من تاريخ الدعوة: ذكر يوم أبي جندل: دل هذا الحديث على أن من تاريخ الدعوة ذكر يوم أبي جندل؛ لقول سهل بن حنيف رضي الله عنه: «فلقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره لرددت، والله ورسوله أعلم»، ويوم أبي جندل هو يوم صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة، ولكن أضافه سهل رضي الله عنه إلى أبي جندل؛ لما حصل للمسلمين من الغيظ على الكافرين فأرادوا القتال فقبل رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلح، والذي أفزع الصحابة رضي الله عنه أمور منها: 1 - أن سهيل بن عمرو لم يوافق على كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بموافقته على كتابة: " باسمك اللهم ". 2 - لم يوافق سهيل بن عمرو على كتابة محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوافقه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على كتابة: محمد بن عبد الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 3 - أن من أسلم من المشركين يرد إليهم، ومن ذهب من المسلمين لا يرد إليهم، ومن ذلك رد أبي جندل وقد جاء مسلما في قيوده، فرده رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، للوفاء بالعهد مع المشركين. 4 - منع الصحابة من العمرة هذه السنة. فأحدث ذلك غضب الصحابة رضي الله عنهم؛ ولكنهم لم يخالفوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ¬
وإنما راجعه عمر مراجعة عظيمة لعله أن يوافق على القتال فلم يوافق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعل الله ذلك فتحا مبينا لما فيه من المصالح العظيمة، فكان بعض الصحابة يسمي يوم الحديبية بيوم أبي جندل؛ لما حصل لهم من الغيظ العظيم برد أبي جندل إلى المشركين، وقد جاء مسلما معذبا من المشركين، وبما حصل من شروط الصلح المذكورة (¬1). خامسا: أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية: ظهر في هذا الحديث أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية؛ لأمرين: الأمر الأول: أن «عمر رضي الله عنه عندما راجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلح الحديبية فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا ابن الخطاب، إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا "، ثم نزلت سورة الفتح فقرأها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عمر إلى آخرها، فقال عمر: يا رسول الله، أَوَ فتح هو؟! قال: " نعم ".» الأمر الثاني: أن سهل بن حنيف استدل بصلح الحديبية على صلح يوم صفين فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتهموا رأيكم فلقد رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أرد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره لرددت والله ورسوله أعلم». (¬2) وهذا يؤكد للداعية أهمية الاستدلال بالأدلة الشرعية (¬3). سادسا: من أساليب الدعوة: الحوار: لقد دل هذا الحديث على أسلوب الحوار الهادئ النافع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاور عمر بن الخطاب حتى أقنعه قناعة تامة، وذلك أن عمر رضي الله عنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا رسول الله، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال: " بلى "، فقال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: "بلى"، فقال: فعلام نعطي الدنية في ¬
ديننا؟ أنرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا "، ثم حاور أبو بكر عمر نحو محاورة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت سورة الفتح فقرأها رسول الله من أولها إلى آخرها، فقال عمر: يا رسول الله، أَوَ فتح هو؟ قال: " نعم»، فهذه محاورة هادفة مقنعة أظهر الله الحق فيها على يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقبل عمر رضي الله عنه ذلك (¬1). سابعا: من صفات الداعية: الثقة بالله عز وجل: إن الثقة بالله عز وجل من أجل الصفات التي يلزم كل مسلم أن يتصف بها وخاصة الدعاة إلى الله عز وجل؛ ولهذه الثقة قال أعظم الناس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثقة بربه: «يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا»، وقال أبو بكر رضي الله عنه في محاورته لعمر رضي الله عنه: " يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا "، وهذا يؤكد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعظم الناس ثقة بربه، وأن أبا بكر رضي الله عنه أعظم الصحابة ثقة بالله عز وجل (¬2). ثامنا: منزلة أبي بكر العظيمة رضي الله عنه في مؤازرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أبو بكر خير الأمة بعد نبيها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومما يدل على ذلك ما ثبت في هذا الحديث أن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكر رضي الله عنه يوم الحديبية: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: " يا ابن الخطاب، إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا "، الله أكبر وافق قول أبي بكر قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ولهذه المنزلة العظيمة؛ ولغيرها من مؤازرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونصرته قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أمنّ الناس عَلَيّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوّة الإسلام ومودته» (¬3) وأبو بكر رضي الله عنه أعظم الناس منزلة عند الله عز وجل بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (¬4). ¬
تاسعا: أهمية الانقياد والتسليم لأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الانقياد والتسليم والقبول لأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أعظم الواجبات والفروض المتحتمات على كل مسلم، وخاصة الداعية إلى الله عز وجل، وقد دل هذا الحديث على ذلك لقول سهل بن حنيف رضي الله عنه: «فلقد رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أرد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره لرددت، والله ورسوله أعلم»، وهذا يدل على كمال الانقياد لأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم بلغ بهم الغيظ مبلغا عظيما على المشركين يوم صلح الحديبية؛ لأن في العهد أن يرد رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أسلم من المشركين إلى مكة ولا يرد المشركون من جاءهم من المسلمين، وبعد الموافقة على ذلك «جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسُفُ في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل بن عمرو: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنا لم نقض الكتاب بعد "، قال فوالله إذًا لم أصالحك على شيء أبدا، فطلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من سهيل أن يجيزه له فمنع، فقال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت؛ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله. وهذا الذي أغضب عمر كثيرا، فجاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: ألست نبي الله حقا؟ قال: " بلى"، قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: " بلى "، قال عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟! قال: " إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري "، قال عمر: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: " بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ " قال عمر: لا، قال: " فإنك آتيه، ومطوف به» (¬1) وفعلا جعل الله هذا الصلح فتحا ونزلت سورة الفتح، وكان هذا الصلح خيرا للمسلمين والحمد لله. والمقصود أن الانقياد والاستسلام لأمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لازم، ولو يعلم الإنسان الحكمة؛ قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] (¬2) وقال عز وجل: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] (¬3) ¬
، وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] (¬1) فينبغي الانقياد والاستسلام لأمر الله عز وجل وأمر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. عاشرا: من سنن الله عز وجل: الابتلاء والامتحان: ظهر الابتلاء في هذا الحديث من وجهين: الوجه الأول: ما حصل بين الصحابة رضي الله عنهم في صفين؛ ولهذا قال سهل بن حنيف رضي الله عنه: " وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر، ما نسد منها خُصما إلا انفجر علينا خصم ما ندري كيف نأتي له "، والمعنى أنهم رضي الله عنهم وقعوا في الفتنة العظيمة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما؛ فإنهم كل ما سدوا ثغرة انفتح عليهم ثغرة أخرى، قال القرطبي رحمه الله في كلام سهل رضي الله عنه: " ويعني هذا الكلام أن كل قتال قاتل فيه ما رفع سيفه فيه إلا عن بصيرة، لعاقبة أمره، فسهل عليه ما يلقاه من مشقات الحروب، غير تلك الأمور التي كانوا فيها، فكانوا كلما لاح لهم فيها مصلحة وعاقبة حسنة ظهر لهم نقيضها " (¬2). والوجه الثاني: ما حصل للصحابة رضي الله عنهم من الابتلاء في صلح الحديبية، فإنه أصابهم بلاء عظيم؛ لما في ظاهر الصلح من الهضم لحق المسلمين، ولكن في الحقيقة أن ذلك كان فتحا ونصرا، ولكن هذا الفتح لم يأت إلا بعد الابتلاء والاختبار حتى قال عمر رضي الله عنه يا رسول الله: «ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بلى»، وفي آخر كلام عمر رضي الله عنه: «ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟»، قال القرطبي رحمه الله على كلام عمر رضي الله عنه: " يعني بالدنية: الحالة الخسيسة، ويعني به الصلح على ما شرطوا، ولم يكن ذلك من عمر شكا ولا معارضة، بل كان استكشافا لما خفي عنه، وحثا على قتال أهل الكفر، وإذلالهم، وحرصا على ظهور المسلمين ¬
على عدوهم، وهذا على مقتضى ما كان عنده من القوة في دين الله، والجرأة، والشجاعة التي خصه الله بها، وجواب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر بما جاوباه به، يدل على أن عندهما من علم باطنه ذلك، وعاقبة أمره ما ليس عند عمر، ولذلك لم يسكن عمر حتى بشره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفتح، فسكن جأشه وطابت نفسه " (¬1) رضي الله عنه، وهذا فيه دلالة واضحة على صبر الصحابة على الابتلاء، والله المستعان (¬2). الحادي عشر: من موضوعيات الدعوة: الحث على التثبت والتبصر: دل مفهوم هذا الحديث على أن من موضوعات الدعوة: الحث على التثبت والتأني في الأمور؛ لقول سهل بن حنيف رضي الله عنه: «أيها الناس اتهموا أنفسكم، رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرددته»، قال الإمام القرطبي رحمه الله: " يعني به التثبت فيما كانوا فيه، والتصبر، وألا يستعجلوا في أمورهم، ووجه استدلاله بها: أن تلك الحالة كان ظاهرها مكروها لهم، صعبا عليهم، فلما تثبتوا في أمرهم، وأطاعوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جعل الله لهم من أمرهم فرجا ومخرجا، فكأنه يقول لهم: إن صبرتم على المكروه، وتثبتم في أمركم، واتقيتم الله، جعل الله لكم من هذه الفتن مخرجا كما جعله لأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الحديبية " (¬3) وهذا يؤكد أهمية التثبت في الأمور، فينبغي للداعية أن يحث على التثبت والتأني؛ لما في ذلك من المصالح العاجلة والآجلة (¬4). الثاني عشر: من وسائل الدعوة: عقد الصلح والهدنة مع الأعداء عند العجز عن الجهاد: عقد الصلح مع أعداء الإسلام مهم عند عجز المسلمين عن الجهاد؛ ولهذا ثبت في هذا الحديث أن حبيب بن أبي ثابت قال: «أتيت أبا وائل أسأله فقال: كنا بصفين فقال رجل: ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله؛ فقال علي: نعم، فقال سهل بن حنيف: " اتهموا أنفسكم، فلقد رأيتنا يوم الحديبية - يعني صلح ¬
الحديبية الذي كان بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمشركين لو نرى قتالا لقاتلنا، فجاء عمر فقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بلى "، قال: ففيم أعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا؛ فقال: " يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا "، فرجع عمر متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: " يا ابن الخطاب إنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولن يضيعه الله أبدا، فنزلت سورة الفتح ".» وسياق سهل بن حنيف رضي الله عنه لذلك دعوة إلى الصلح بين علي ومعاوية رضي الله عنه؛ ليحصل من الفوائد ما حصل بصلح الحديبية. وقد حصل أمور عظيمة وفتح عظيم بصلح الحديبية؛ قال الإمام النووي رحمه الله في صلح الحديبية: " قال العلماء: المصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة، وفوائده المتظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة، وإسلام أهلها ودخول الناس في دين الله أفواجا، وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين، ولا تتظاهر عندهم أمور النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما هي، ولا يحلون بمن يعلمهم بها مفصلة، فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين، وجاءوا إلى المدينة، وذهب المسلمون إلى مكة، وحلوا بأهلهم وأصدقائهم، وغيرهم ممن يستنصحونه، وسمعوا منهم أحوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مفصلة بجزئياتها، ومعجزاته الظاهرة، وأعلام نبوته المتظاهرة، وحسن سيرته، وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك، فما زالت نفوسهم إلى الإيمان حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة، فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلا إلى الإسلام، فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم؛ لما كان قد تمهد لهم من الميل، وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش، فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي " (¬1). قال الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3] (¬2) قال الإمام القرطبي ¬
رحمه الله: " وهذا الحديث يدل على جواز الصلح على ما شرطه العدو عند ضعف المسلمين عن مقاومة عدوهم، وعند الحاجة إلى ذلك. . . " ثم قال رحمه الله: " واختلف في مقدار مدة الصلح حيث يجوز. فقال مالك: ذلك مفوض إلى اجتهاد الإمام، وحد الشافعي أكثره بعشرة أعوام بناء منه على صلح الحديبية؛ فإن كان عشر سنين " (¬1) وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في فوائد صلح الحديبية: " وفيها جواز صلح أهل الحرب على وضع القتال عشر سنين، وهل يجوز فوق ذلك؟ الصواب: أنه يجوز للحاجة والمصلحة الراجحة، كما إذا كان بالمسلمين ضعف وعدوهم أقوى منهم، وفي العقد لما زاد عن العشر مصلحة الإسلام " (¬2) وسمعت سماحة العلامة ابن باز حفظه الله يقول على قول ابن القيم: " وهذا هو الصواب، فإذا رأى الإمام المصالحة عشرين سنة أو ثلاثين فلا حرج على حسب الحاجة " (¬3) وهذا من وسائل الدعوة التي تعين المسلمين على التأهب والإعداد، والله أعلم. الثالث عشر: من أصناف المدعوين: المشركون: إن الصلح الذي وقع بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمشركين في هذا الحديث يدل على أن المشركين من أصناف المدعوين؛ ولهذا قال سهل بن حنيف رضي الله عنه: «اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية - يعني الصلح الذي كان بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمشركين ولو نرى قتالا لقاتلنا». . . "، وهذا يؤكد مراعاة الأصلح في دعوة المشركين: من صلح، أو أخذ جزية، أو قتال لمن لم ينقد للإسلام ولم يدفع الجزية (¬4). الرابع عشر: من أصناف المدعوين: المسلمون: إن في قول سهل بن حنيف رضي الله عنه: " اتهموا رأيكم. . . " دعوة المسلمين: ¬
من أصحاب علي ومعاوية إلى الصلح وعدم الاستمرار في الفتنة؛ ولهذا قال رضي الله عنه: فلو رأيتنا يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا " يريد رضي الله عنه اتهام الرأي وأن الصواب قد يكون بخلافه كما في صلح الحديبية؛ فإن الصواب كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر خلافا لرأي الصحابة رضي الله عنهم (¬1). الخامس عشر: من معجزات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تحقق ما أخبر به: إن ما حصل في صلح الحديبية من الشروط التي فيها غضاضة وهضم من حقوق المسلمين في الظاهر يدل دلالة واضحة على أن النبي محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسول الله حقا؛ لأنه قبل هذا الصلح لتوفيق الله له بالموافقة على ذلك؛ لما فيه من الفتح والنصر؛ ولهذا قال لعمر عند محاورته: «يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا»، فأنزل الله سورة الفتح بشارة بالنصر والفتح، فقرأها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عمر، فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله: أو فتح هو؟ قال: " نعم "، ثم حصل الفتح الأعظم فتح مكة فدخل الناس في دين الله أفواجا، وهذه معجزة عظمى لإخبار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفتح قبل وقوعه، ثم تحقق (¬2). السادس عشر: من صفات الداعية: الحرص على الإصلاح بين الناس: إن الإصلاح بين الناس والحرص عليه من أعظم القربات وأهم الصفات التي ينبغي لكل مسلم الحرص عليها، وقد ظهر في هذا الحديث؛ لقول سهل بن حنيف رضي الله عنه: «أيها الناس اتهموا أنفسكم فلقد رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أرد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره لرددت، والله ورسوله أعلم». . . "، وهذا يؤكد حرص سهل رضي الله عنه على الإصلاح بين هاتين الفئتين العظيمتين؛ قال الإمام النووي رحمه الله على قول سهل رضي الله عنه: " أراد بهذا تبصير الناس على الصلح وإعلامهم بما يرجى بعده من الخير، فإنه يرجى مصيره إلى خير، وإن كان ظاهره في الابتلاء مما تكرهه النفوس، كما كان شأن صلح الحديبية، وإنما قال سهل رضي الله عنه هذا القول ¬
حين ظهر من أصحاب علي رضي الله عنه كراهة التحكيم فأعلمهم بما جرى يوم الحديبية من كراهة أكثر الناس الصلح وأقوالهم في كراهيته، ومع هذا فأُعْقِبَ خيرا عظيما، فقررهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصلح مع أن إرادتهم كانت مناجزة كفار مكة بالقتال " (¬1) فينبغي للداعية أن يكون حريصا على الإصلاح بين الناس؛ لما في ذلك من الفضل العظيم؛ ولهذا الفضل قال الله عز وجل: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] (¬2) وقال عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] (¬3) وقال عز وجل: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] (¬4). وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] (¬5) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل سلامى (¬6) من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين الاثنين صدقة (¬7) وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط (¬8) الأذى عن الطريق صدقة» (¬9) وعن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ¬
ويقول خيرا، أو ينمي (¬1) خيرا» (¬2) قالت: «ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها» (¬3) وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدق؟ " قالوا: بلى، قال: " إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة» (¬4) وهذا يؤكد أهمية إصلاح ذات البين، فينبغي للداعية أن يعتني بذلك عناية فائقة. والله الموفق للصواب. ¬
باب إثم الغادر للبر والفاجر
22 - باب إثم الغادر للبر والفاجر [حديث لكل غادر لواء يوم القيامة] 190، 191 - [3186, 3187]- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (¬1) - وَعَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ (¬2) - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، قَالَ أَحَدُهُمَا: يُنْصَبُ - وَقَالَ الْآخَرُ: يُرَى - يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ» (¬3). [حديث لكل غادر لواء ينصب لغدرته] 192 - [3188] حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (¬4) رضي الله عنهما قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لكل غادر لواء ينصب لغدرته» (¬5). وفي رواية: «إِنَّ الْغَادِرَ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ»، (¬6). وفي رواية: عَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايِعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ وَلَا بَايَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا كَانَتِ الْفَيْصَلُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ " (¬7). * شرح غريب الأحاديث: * " لواء " اللواء: الراية، ولا يمسكها إلا صاحب الجيش، والمعنى هنا أن لكل ¬
غادر علامة يشتهر بها في الناس؛ لأن موضوع اللواء: شهرة مكان الرئيس، وجمعه ألوية (¬1). * " غادر " الغدر ضد الوفاء وهو نقض العهد، والزوال عيه، وإبطاله، والفجور عن الحق، والانبعاث في الباطل (¬2). * " حشمه " أي عصبته، وخدمه، وأهل بيته من أولاد وغيرهم من أتباعه (¬3). * " الفيصل بيني وبينه " أي القطيعة التامة (¬4). * الدراسة الدعوية للأحاديث: في هذه الأحاديث الثلاثة دروس وفوائد دعوية، منها: 1 - من موضوعات الدعوة: التحذير من الغدر. 2 - من أساليب الدعوة: الترهيب. 3 - من أصناف المدعوين: الأقارب. 4 - من أساليب الدعوة: الشدة بالقول مع الأقرباء عند الحاجة والمصلحة الراجحة. 5 - أهمية الوفاء ببيعة الإمام المسلم. والحديث عن هذه الدروس والفوائد الدعوية على النحو الآتي: أولا: من موضوعات الدعوة: التحذير من الغدر: الغدر صفة قبيحة ينبغي للداعية أن يحذر الناس عنه؛ لقبحه، وعظم إثمه؛ وقد بين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه الأحاديث: أن لكل غادر علامة ترفع له يوم القيامة أمام الأشهاد فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان، والغادر هو الذي يواعد على أمر ولا يفي به، قال الإمام النووي رحمه الله: "وفي هذه الأحاديث بيان غلظ تحريم الغدر لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير" (¬5) فيتأكد عليه أن يفي بعهوده ولا يغدر فيها، سواء كان ذلك لرعيته أو ¬
للكفار وغيرهم، وإذا أراد قتال قوم من الكفار وقد عاهدهم، فإذا انقضى عهده أو خاف غدرهم نبذ إليهم عهدهم: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] (¬1) وينبغي للرعية أن لا يشقوا على إمامهم العصا، ولا يتعرضوا لما يسبب الفتن (¬2) وقد بين الإمام القرطبي رحمه الله: أن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له»، جاء خطاب بنحو ما كانت تفعل العرب، وذلك أنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء ليشهروا به الوفي، فيعظموه ويمدحوه، والغادر فيذموه ويلوموه بغدره، قال " وقد شاهدنا هذا فيهم عادة مستمرة إلى اليوم " (¬3) فمقتضى هذا الحديث الغادر يفعل به يوم القيامة مثل ذلك؛ ليشتهر بالخيانة والغدر، فيذمه أهل الموقف وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن هذا اللواء يكون عند مقعدة الغادر بحيث لا يقدر على مفارقته؛ ليمر به الناس فيروه، ويعرفوه، فيزداد خجلا وفضيحة عند كل من مر به (¬4) فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ» (¬5) وكأنه عومل بنقيض قصده؛ لأن عادة اللواء أن يكون على الرأس، فنصب عند السفل زيادة في فضيحته؛ لأن الأعين غالبا تمتد إلى الألوية فيكون ذلك سببا لامتدادها إلى التي بدت له ذلك اليوم فيزداد بها فضيحة (¬6) وفي لفظ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمَ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ» (¬7) فالغدر على هذا اللفظ دركات، فإذا كانت غدرته كبيرة عظيمة رفع له لواء كبير عظيم، مرتفع، حتى يعرفه بذلك من قرب منه ومن بعد، وأعظم الغدر وأفحشه غدر الأمير العام؛ لما في غدر الأئمة من المفسدة فإنهم إذا غدروا وعلم ذلك منهم، لم يأمنهم العدو على عهد ولا صلح، فحينئذ ¬
تشتد شوكته، ويعظم ضرره على المسلمين، ويكون ذلك منفرا من الدخول في الإسلام، موجبا لذم أئمة المسلمين (¬1). ومن التشهير والفضيحة للغادر أنه ينادى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد باسمه واسم أبيه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ»، فظهر في هذه الرواية: أن الغادر ينسب إلى أبيه في الموقف الأعظم، وفي هذا الحديث رد لقول من زعم أنهم لا يدعون يوم القيامة إلا بأمهاتهم سترا على آبائهم (¬2) والدعاء بالآباء أشد في التعريف، وأبلغ في التمييز، وهذا يقتضي جواز الحكم بالظواهر، وحمل الآباء على من كان ينسب إليه في الدنيا لا على ما هو في نفس الأمر، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وهو المعتمد" (¬3) والظاهر من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذه غدرة فلان بن فلان»، أن لكل غدرة واحدة لواء. قال الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله: " ظاهر الحديث يعطي أن لكل غدرة لواء " (¬4) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " فعلى هذا يكون للشخص الواحد عدة ألوية بعدد غدراته " (¬5). ولأهمية التحذير من الغدر قال الوزير العالم ابن هبيرة رحمه الله: " لما أتى الغادر بالشنعاء في اللوم وهي الغدرة، وإنما يأتي ذلك؛ لذل فيه عن المجاهرة بالغدر، رفع اللواء عليه (¬6). لإظهار شهرته، بعقوبة يشهدها الأولون والآخرون ". (¬7) وقد ذم الله المنافقين أشد الذم وأقبحه فقال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ - فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ - فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77] (¬8). ¬
وقد جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغدر إحدى الخصال التي من وجدت فيه كان منافقا خالصا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» (¬1) وبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن من نقض عهد الله وعهد رسوله فإنه يسلط عليهم عدوا من غيرهم، فيأخذوا بعض ما في أيديهم، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «كُنْتُ عَاشِرَ عَشَرَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةُ، وَابْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا "، قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ (¬2) قَالَ: " أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لَهُ اسْتِعْدَادًا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ أُولَئِكَ مِنَ الْأَكْيَاسِ "، ثُمَّ سَكَتَ الْفَتَى، وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمُؤْنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَأْخُذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ إِلَّا أَلْقَى اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ» (¬3) فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يحذر الناس من الغدر ويبين لهم عاقبة أمره، والله المستعان. ثانيا: من أساليب الدعوة: الترهيب: إن الترهيب أسلوب مؤثر في نفوس المدعوين؛ ولهذا استخدمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ¬
هذه الأحاديث للتخويف والتنفير من الغدر فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ لِغَدْرَتِهِ». . . "، وهذا يؤكد أهمية الترهيب؛ لما له من التنفير عن المعاصي وتقبيحها. (¬1). ثالثا: من أصناف المدعوين: الأقارب: إن الأقارب من أهم أصناف المدعوين الذين يتأكد على الداعية أن يعتني بهم في التوجيه، والتربية، والعناية بما يعود عليهم بالنفع في الدنيا والآخرة، وقد دل هذا الحديث على ذلك؛ لأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عندما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع أقاربه وأهل بيته، وحاشيته فقال: إني سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدرا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه "، وفي هذا الكلام العظيم دليل على وفاء عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعدم غدره، وأنه اعتنى بأقاربه فوجههم إلى الصواب وحذرهم من الغدر، وألزمهم بذلك، فينبغي للداعية أن يعتني بأقاربه وأهل بيته (¬2). رابعا: من أساليب الدعوة: الشدة بالقول مع الأقرباء عند الحاجة والمصلحة الراجحة: الأصل في أساليب الدعوة: الرفق، لكن قد يحتاج الداعية إلى قوة في الأسلوب على حسب القدرة وأمن وقوع المفاسد، والداعية قد يحتاج إلى قوة الكلمة في الأسلوب مع الأهل والأقارب؛ لإلزامهم بما يدعو إليه؛ ولهذا قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في هذا الحديث لأهله وخدمه وحاشيته في شأن يزيد بن معاوية: " إني سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدرا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه "، فقد حذر رضي الله عنه أهله ومن تحت يده بالكلمة القوية عن الخروج على الإمام، وهكذا كان يفعل أبوه عمر رضي الله عنهما مع ¬
أقاربه عند الحاجة والمصلحة الراجحة، فكان إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء جمع أهله، فقال: " إِنِّي نَهَيْتُ النَّاسَ عَنْ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكُمْ نَظَرَ الطَّيْرِ إِلَى اللَّحْمِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَا أَجِدُ أَحَدًا مِنْكُمْ فَعَلَهُ إِلَّا أَضْعَفْتُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ " (¬1) وهذا يؤكد للداعية أهمية أسلوب القوة مع الأهل عند الحاجة لذلك وظهور المصلحة المحققة، والله ولي التوفيق. خامسا: أهمية الوفاء ببيعة الإمام المسلم: إن الوفاء ببيعة الإمام المسلم من أولى الواجبات وأعظم الحسنات؛ ولهذا ثبت في هذا الحديث ما يؤكد ذلك؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع حشمه وولده فقال: " إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني والله لا أعلم غدرا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه "، وهذا يؤكد أهمية الوفاء ببيعة الإمام المسلم. قال الإمام ابن هبيرة رحمه الله: " وفي هذا الحديث ما يدل على أن ابن عمر لم يوافق على خلع يزيد " (¬2) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي هذا الحديث وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، والمنع من الخروج عليه ولو جار في حكمه، وأنه لا ينخلع بالفسق " (¬3) وإذا بايع المسلم الإمام المسلم لزمه طاعته في المعروف؛ لقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] (¬4) ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي» (¬5). ¬
ولا شك أن طاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال، فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم، فهذا لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذاب أليم (¬1) ويحرم الخروج على إمام المسلمين وفاء بالعهد والبيعة؛ لقول الله عز وجل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91] (¬2) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] (¬3) ومعلوم أن العقود هي: العهود والمواثيق التي يجب على المسلم التزامها وعدم نقضها. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ [وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ]، وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ. ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]» (¬4)؛ ولعظم الوفاء ببيعة الإمام المسلم قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ". . . «وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ» (¬5) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مَيْتَةَ جَاهِلِيَّةٍ (¬6) وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ (¬7) يَغْضَبُ ¬
لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً (¬1) فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا (¬2) وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ» (¬3). ولا شك أن من وفى بالعهد يثاب ويشكر؛ ولهذا استنبط الإمام ابن هبيرة رحمه الله من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ»: أن من وفى بالعهد فله الكرامة ", قال رحمه الله: " وفي هذه الإهانة للغادر إكرام لأهل الوفاء بالعهود من جهة أنه شاركهم في العهد وتميز بالعقوبة، فلما أهين علمت كرامتهم " (¬4) وقد بين الإمام القرطبي رحمه الله بعد أن ذكر أن الغادر يرفع له لواء يوم القيامة لغدره؛ ليشتهر بذلك فيذم ويفضح في الموقف: فقال: " ولا يبعد أن يكون الوفي بالعهد يرفع له لواء يعرف به وفاؤه وبره، فيحمده أهل الموقف كما يرفع لنبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لواء الحمد فيحمده كل من في الموقف " (¬5) ولواء الحمد الذي أشار إليه رحمه الله هو ما ثبت من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إِنِّي لَأَوَّلُ النَّاسِ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْ جُمْجُمَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأُعْطَى لِوَاءَ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ». . . " (¬6). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ ¬
يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» (¬1). ومن علامات الوفاء ببيعة الإمام المسلم: الدعاء له بالهداية والتوفيق، والسداد، والإعانة، وأن ينصر الله به الحق؛ ولهذا كان السلف الصالح: كالفضيل بن عياض، والإمام أحمد بن حنبل، وغيرهم يقولون: " لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان " (¬2) وقال الإمام البربهاري رحمه الله: " إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله تعالى " (¬3) وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: " لو كان لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا للسلطان "، قيل له: يا أبا علي فسر لنا هذا؛ قال: " إذا جعلتها في نفسي لم تعدني، وإذا جعلتها في السلطان صلح، فصلح بصلاحه العباد والبلاد " (¬4) فأمرنا أن ندعو لهم بالصلاح، ولم نؤمر أن ندعو عليهم؛ وإن جاروا وظلموا؛ لأن جورهم وظلمهم على أنفسهم، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين. (¬5). فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يفي بعهده، ومن ذلك الوفاء لإمام المسلمين بالبيعة، وأن يدعو لأئمة المسلمين بالتوفيق والصلاح والسداد. والله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يصلح جميع المسلمين وولاتهم، وأن يسدد خطاهم على الهدى، وأن ينصر بهم الحق، ويجعلهم هداة مهتدين إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يصلح قلبي وعملي وذريتي وجميع المسلمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. (¬6). ¬
القسم الثاني المنهج الدعوي المستخلص من الدراسة
القسم الثاني المنهج الدعوي المستخلص من الدراسة 1 - الفصل الأول: المنهج الدعوي المتعلق بالداعية. 2 - الفصل الثاني: المنهج الدعوي المتعلق بالمدعو. 3 - الفصل الثالث: المنهج الدعوي المتعلق بموضوع الدعوة. 4 - الفصل الرابع: المنهج الدعوي المتعلق بالوسائل والأساليب.
الفصل الأول: المنهج الدعوي المتعلق بالداعية
الفصل الأول: المنهج الدعوي المتعلق بالداعية
الداعية هو الذي يدعو إلى دين أو فكرة، قال ابن منظور - رحمه الله -: "والدعاة قوم يدعون إلى بيعة هدى أو ضلالة، واحدهم: داع، ورجل داعية إذا كان يدعو الناس إلى بدعة أو دين، أدخلت الهاء فيه للمبالغة، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داعي الله تعالى " (¬1) يدعو الأمة إلى توحيد الله وطاعته (¬2) قال الله عز وجل عن الجن الذين استمعوا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين وقالوا لهم (¬3) {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31] (¬4) وقال الله عز وجل النبي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46] (¬5) وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» (¬6) فتبين بذلك أن لفظ الداعية يدخل فيه: الداعية إلى الحق، والداعية إلى الضلالة، وأن دعاة الحق هم الذين يدعون إلى الله على بصيرة، ويقين، وبرهان: عقلي، وشرعي، وهذه طريقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومسلكه وسنته، هو ومن اتبعه (¬7) قال الله - ¬
سبحانه وتعالى -: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] (¬1) وحقيقة ذلك أن الداعية: ((هو المسلم المبلغ للإسلام، والمعلم له، والساعي إلى تطبيقه)) (¬2) فاتضح أن الداعي هو المسلم الدال على الخير، والمحذر عن الشر، وقد استخلصت على ضوء هذا التعريف الفوائد المتعلقة بالداعية على النحو الآتي (¬3) م عنوان الدرس الصفحة 1 حرص النبي صلي الله عليه وسلم على تعليم أمته الخير والشفقة عليهم 49، 256، 772، 782 2 من صفات الداعية الحرص على هداية الناس 524، 529 3 أهمية الحزم والجزم والاحتياط في الأمور المهمة 50 4 الاستعداد والتأهب للموت قبل فوات الأوان 51، 316، 769، 898 5 أهمية الكتابة في ضبط الأمور المهمة 53 6 من صفات الداعية: الزهد 57، 142، 291، 379، 400، 413، 468، 852، 861، 870، 961 7 من صفات الداعية الكرم 58، 144، 148، 247، 256، 900، 916، 962، 978 8 من صفات الداعية الرحمة 71، 109، 135، 312، 401، 529، 657، 699، 821، 881، 986. 9 من صفات الداعية: الفهم والفقه 71 10 من صفات الداعية الصدق 82، 109، 248، 576، 957، 986 11 أهمية ربط المدعوين بخالقهم 83 12 من صفات الداعية: إثبات النعم لله، والتحدث والثناء عليه بها 107، 296، 606، 727، 839، 914 13 من صفات الداعية: قوة الإيمان 108، 480 ¬
14 - من صفات الداعية: محبة الله ورسوله صلي الله عليه وسلم 186 15 من صفات الداعية: الأخذ بالظاهر والله يتولى السرائر 111، 442، 543، 799 16 من صفات الداعية: الحرص على حسن الخاتمة 112 17 من صفات الداعية: الصبر وتحمل المشاق 112، 197، 205، 225، 235، 290، 509، 561، 564، 729، 964 18 الابتلاء والامتحان 112، 149، 290، 376، 389، 398، 405، 591، 611، 625، 709، 726، 742، 766، 796، 820، 838، 861، 879، 918، 927، 971، 993، 1031، 1036، 1066 19 العناية بالمتخلفين عن الطاعة 115 20 تأديب المدعو بالهجر إذا اقتضت المصلحة لذلك 115 21 من صفات الداعية: المداومة على الخير 117، 162، 882 22 أهمية قول الداعية لما لا يعلمه: الله أعلم، أو لا أدري 118، 348، 683 23 معاتبة الداعية أصحابه على التقصير 119 24 من صفات الداعية: القول اللطيف الحسن 122، 316 25 الرد بالحكمة على من خالف النصوص 123 26 الرغبة فيما عند الله تعالى 135، 148، 176، 203، 282، 401، 536، 928 27 من صفات الداعية: الخلق الحسن 138، 174، 380، 454، 598، 717، 735، 963، 1003. 28 من آداب الداعية: ترك العتاب على ما فات استئلافا 139 29 من صفات الداعية الداعي: الكيس والنشاط 140، 212، 255، 581، 610 30 مسئولية الداعية تجاه أقاربه 144 31 من صفات الداعية: المسارعة إلى الخيرات 148، 219، 946 32 إظهار الداعية مناقبه عند الحاج 149، 956 33 خلوة الداعية عند وجود الفتن المضلة 166، 908 34 مراعاة أحوال المدعوين 167، 346، 495، 530، 699، 716، 735، 938، 959، 973 35 السرور بانتصار الإسلام 175 36 الحرص على الدقة في نقل الحديث 64، 179، 216، 241، 283، 297، 326، 506، 591، 647، 694، 717، 759، 821، 866، 915، 923، 927 37 الحرص على هداية الأقربين 80، 857، 572، 861، 935، 943 38 من صفات الداعية: اغتنام فرص الخير قبل حرمانها 110 39 من صفات الداعية: احتساب الأجر والثواب 198، 226، 336
40 - من صفات الداعية: جهاد النفس 186 41 من صفات الداعية: استصحاب النية الصالحة 184، 218، 242، 282، 299، 652، 901، 905، 927 42 من صفات الداعية: بذل النفس والتضحية في سبيل الله عز وجل 202 44 من صفات الداعية: صحة الإيمان وقوة اليقين 204، 317، 324، 485، 491، 585، 727، 766 45 من صفات الداعية: الشجاعة 204، 248، 256، 317، 323، 368، 386، 399، 454، 478، 486، 419، 540، 591، 680، 725، 749، 778، 943، 958 46 شجاعة النبي وثباته صلي الله عليه وسلم 368 47 من صفات الداعية: الفطنة والذكاء 210، 724، 1003 48 تقييد العلم وضبطه بالكتابة 211، 283 49 من صفات الداعية: العقل السليم 212 50 من صفات الداعية: الأمانة 212، 765، 835، 899 51 من صفات الداعية: الخبرة 212 52 من صفات الداعية: الحرص على العناية بالقرآن الكريم 214 53 من صفات الداعية: الحرص على الإقتداء بالنبي صلي الله عليه وسلم 215، 859 54 أهمية اختيار الداعية الصلح للأمور المهمة 216، 406، 786 55 الأخذ بالأسباب لا ينفي التوكل 221، 241، 289، 361، 387، 404، 492، 495، 580، 611، 657، 726، 823 56 أهمية الخوف من عذاب الله تعالى 226 57 محبة الصحابة للنبي صلي الله عليه وسلم 383، 389، 400، 405، 418، 536، 561، 564، 567، 642، 858، 870، 886، 919، 957 58 من أسباب نصر الداعية: الدعاء 237، 509 59 أهمية قول المسلم: إن شاء الله، لما يريد عمله في المستقبل 240 60 حرص الأنبياء على الجهاد في سبيل الله عز وجل 240 61 أهمية تذكير الناسي 242 62 من صفات الداعية: الحلم 246، 514، 526، 622، 828، 930، 962، 972 63 من صفات الداعية: الالتجاء إلى الله عز وجل 257، 899 64 من صفات الداعية: الورع 262، 582 65 أهمية صحبة الأخيار 263
66 - الدفاع عن النفس بالصدق والحكمة 272 67 من صفات الداعية: الحرص على فعل الخيرات 275، 653 68 من صفات الداعية: التواضع 237، 294، 312، 343، 379، 401، 414، 418، 425، 509، 619، 646، 713، 729، 735، 752، 758، 819، 828، 843، 855، 871، 880، 895، 959، 961، 978 69 من صفات الداعية: إعانة المدعوين 295، 819 70 من صفات الداعية: الاستفادة مما عند الآخرين 296 71 حرص الصحابة رضي الله عنهم على الجهاد وعد تخلفهم بغير عذر 299، 660 72 من صفات الداعية: الإخلاص 303، 336، 412 73 من صفات الداعية: الإحسان 312 74 تأديب المدعو بالكلمة القوية عند الحاجة 318 75 من فقه الدعوة: معرفة أحوال المدعوين 322 76 من صفات الداعية: التزام الأدب والتلطف في الكلام مع الكبير والصغير 316، 948 77 من صفات النبي صلي الله عليه وسلم: الفصاحة والبلاغة 330، 357 78 من صفات الداعية: الفصاحة والبلاغة 1012، 1026 79 التصريح بذكر بعض الألفاظ المستقذرة عند الحاجة 337 80 أهمية تعليم العامة قبل أن يسألوا 345، 606 81 من صفات الداعية: حب الخير للناس وتبشيرهم لإدخال السرور عليهم 354 82 من صفات لداعية: التوكل على الله عز وجل 355، 361، 862 83 أهمية اختيار الداعية الوسائل المعينة على الدعوة 358 84 من صفات الداعية العدل 363، 391، 557، 809، 906، 929 85 من أسباب نصر الدعاة: عدم الإعجاب بالكثرة أو القوة 370، 958 86 من صفات الداعية: حسن الأدب في الجواب 371 87 من صفات الداعية: الاستنصار بالله عز وجل 371 88 أهمية الإشراف على المدعو وملاحظته 387 89 أهمية مشاركة النساء في الجهاد بالخدمة والعلاج عند الحاجة 388، 392، 394، 613 90 من صفات الداعية: مكافأة المحسن وتشجيعه على إحسانه 392، 419 91 أهمية استشارة العلماء والدعاة والأصحاب 127، 392، 630، 659، 682، 820، 828، 1013 92 من صفات الداعية: وضع كل شيء موضعه 393، 457، 758 93 من صفات الداعية: التعاون على البر والتقوى 399، 421
94 - ذكاء النبي صلي الله عليه وسلم وفطنته 383 95 من صفات الداعية: القناعة 412 96 من صفات الداعية: إتقان العمل 414 97 من صفات الداعية: حسن الصحبة 417، 420 98 من النصر والرزق: الإحسان إلى الضعفاء 423 99 من أسباب النصر: استقامة المجاهدين والدعاة على دين الله عز وجل 429 100 من صفات الداعية: الجمع بين الخوف والرجاء 439، 799 101 عظم يقين الصحابة بما يخبر به رسول الله صلي الله عليه وسلم 450، 682، 799 102 من صفات الداعية: الرفق 461، 512 103 الادخار لا ينافي التوكل على الله عز وجل 468 104 أهمية الحرص على طلب الحديث وتحصيله من مصادره الأصلية 469، 915، 928 105 من صفات الداعية: عدم الحرص على الإمارة والعلو في الأرض والجاه 472 106 لا ينكر أن يغيب عن الداعية أو العالم بعض العلم 474، 853، 998 107 أهمية العمل بمقتضى الدليل الشرعي 474 108 أهمية اجتماع المجاهدين والدعاة وعدم تفرقهم 484 109 من صفات الداعية: العفو والصفح 485، 597، 630، 684، 858، 1030، 1037. 110 أهمية تكرار لفظ الجلالة عند الاستغاثة والاستعانة 487 111 أهمية قصر الأمل في الدنيا والمسارعة إلى ما ينجي من الفتن 503 112 حرص النبي صلي الله عليه وسلم على أداء الصلاة في وقتها 505 113 من آداب الداعية: إفشاء السلام، ورده على المسلمين، ورده على أهل الكتاب بـ: "وعليكم". 512، 621 114 من صفات الداعية: التغافل عن سفه المبطلين 515 115 أهمية تدريب الداعية نفسه ولسانه على الأب 515 116 من صفات الداعية: التأني والتثبت 526، 537، 680، 875، 955، 999 117 أهمية السؤال عما يشكل على الداعية 345، 537، 837، 938، 943، 1058 118 من صفات الداعية: الرجوع على الحكم والفتوى إذا ظهر الدليل 548 119 من وظائف الإمام المسلم قتل كل من آذى الله ورسوله صلي الله عليه وسلم بدون استتابة 549 120 أهمية استنابة الإمام والداعية من يقوم مقامه في الأمور المهمة 550 121 من صفات الداعية: الصبر على جور الولاة والأمراء 552 122 أهمية ذكر الدليل عند الفتوى رفع الإلباس 550، 701 123 أهمية القتال مع إمام المسلمين وحمايته من الأعداء 556
124 - من صفات الداعية: الابتعاد عن الفتن عدم الخروج على الإمام المسلم 565 125 من صفات الداعية: الثبات والصبر 561، 564، 567 126 أهمية السؤال في تحصيل العلم ونشره 63، 570، 585 127 من صفات الداعية: الحرص على التثبت في حمل الحديث 576 128 أهمية إخبار الداعية أصحابه بما ينفعهم 580 129 من صفات الداعية: الحرص على الدعوة والجهاد 581، 918 130 من صفات الداعية: التيسير على المدعوين 581 131 من صفات الداعية: التقوى 584 132 أهمية طاعة ولاة أمر المسلمين 583 133 من صفات الداعية: العناية الدائمة بالدعوة إلى الله عز وجل 629 134 من صفات الداعية: النظافة 590، 769 135 من صفات الداعية: الإيجاز في اللفظ والاتساع في المعاني 604 136 من صفات الداعية: الاعتزاز بطاعة الله عز وجل 612 137 من وظائف الداعية: إطفاء نار الفتن 625 138 من صفات الداعية: الحرص على إكرام وتعظيم القرآن الكريم 636 139 من صفات الداعية: عدم اليأس من رحمة الله سبحانه وتعالى 268 140 حرص الصحابة على ذكر الله عز وجل 640، 648 141 من صفات الداعية: الحرص على زيادة الخير للمدعو 643 142 من صفات الداعية: الاستسلام لله وتفيض الأمور إليه عز وجل 645 143 من صفات الداعية: تعظيم الله عز وجل 649 144 من صفات الداعية: تنزيه الله عز وجل 649 145 من صفات الداعية: المسارعة في الاستجابة لله ورسوله صلي الله عليه وسلم 679 146 أهمية هتك أستار الجواسيس والمفسدين 681 147 من وظائف الداعية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 689، 993 148 أهمية رعاية مصالح المسلمين 696، 793 149 من القواعد الدعوية: عمل الداعية بالعام حتى يرد الخاص 694 150 من وظائف الإمام المسلم قتل المرتدين بعد استتابتهم 705 151 من صفات الداعية: راحة القلب بالتوحيد ونشره بين الناس 712 152 حرص النبي صلي الله عليه وسلم على انتصار أمته 733 153 من وظائف الإمام المسلم: التدبير ووضع الخطط والحيل الحربية 732، 739
154 - من صفات الداعية: تذكر النعم والاعتراف بالتقصير 741 155 من صفات الداعية: الصوت الجهوري عند الحاجة 748 156 أهمية حكم العالم برضى الخصمين 754 157 أهمية اخذ الداعية بالشدة والقوة عند الحاجة أو المصلحة 765 158 استجابة دعاء الداعية وإكرامه حيا وميتا 769 159 من صفات الداعية: طاعة ولي أمر المسلمين بالمعروف 778 160 من وظائف الإمام المسلم: قتل الجاسوس الحربي الكافر 778 161 من آداب الداعية: الثناء على الله بما هو أهله 781، 853 162 من صفات الداعية: إكرام العلماء والدعاة 815 163 من صفات الداعية: القوة وجودة النظر 792 164 من صفات الداعية: تعجيل المعروف وتحقيره 821 165 من آداب الداعية: تطييب الطعام وتعظيمه 822 166 أهمية زيارة العلماء للاستفادة من علمهم 837 167 من صفات الداعية: الاعتزاز بما يقع من إكرام الشرع 843 168 من صفات الداعية: الحذر من مخالفة أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم 854 169 من صفات الداعية: الرجوع إلى الحق بدليله 855 170 من صفات الداعية: الخشوع لله عز وجل 856 171 أهمية الاعتراف بالفضل لأهله 856 172 من صفات الداعية: سلامة القلب وحفظ اللسان 873 173 أهمية تربية الأبناء على الأمور المهمة 877 174 أهمية تفريغ قلب الداعية من المشاغل الدنيوية 893 175 من صفات الداعية: الثقة بالله عز وجل 898، 1064 176 من صفات الداعية العفة وقوة النفس 901 177 أهمية الكف عما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم 907 178 من وظائف الداعية الدفاع عن أئمة الهدى والتماس العذر لهم 906 179 أهمية الحنث في اليمين والتكفير عنها للمصلحة الراجحة 914 180 أهمية الاستثناء في اليمين 916 181 من آداب الداعية: إكرام الضيف 917 182 من صفات الداعية: الفرح بنعمة الله عز وجل والتحدث بها 926 183 من صفات الداعية: المكافأة على المعروف 934، 939
184 - أهمية الغضب لله ولرسوله في حدود الحكمة 946 185 أهمية عدم احتقار الصغير في الأمور المهمة 948 186 حسن أدب الأنصار مع رسول الله صلي الله عليه وسلم 957 187 من صفات الداعية: دفع السيئة بالحسنة 964 188 من صفات الداعية: الإعراض عن الجاهلين 965، 971 189 مكانة الصحابيات وصبرهم على خدمة الأزواج 978 190 أهمية الحياء وعظم منزلته 978، 989 191 من صفات الداعية: الغيرة 980 192 من صفات الداعية: الحرص على صلة الأرحام 981 193 من صفات الداعية: توقير النبي صلي الله عليه وسلم وإجلاله 988 194 أهمية تفقد الإمام أحوال رعيته ومراقبتهم 992 195 من صفات الداعية: الانقياد للدليل الشرعي والعمل به 999 196 من صفات الداعية: الإلحاح في الدعاء 1036 197 من أسباب تحصيل العلم: زيارة العلماء 1047 198 منزلة أبي بكر العظيمة رضي الله عنه ومؤازرته لرسول الله صلي الله عليه وسلم 1064 199 أهمية الانقياد والتسليم لأمر رسول الله صلي الله عليه وسلم 1065 200 من صفات الداعية: الحرص على الإصلاح بين لناس 1070 201 أهمية الوفاء ببيعة الإمام المسلم 1079 وعلى ضوء ما تقدم من الفوائد الدعوية في الجدول السابق يظهر أن المنهج الدعوي المتعلق بالداعية على النحو الآتي: أولا: كل مسلم دل على خير، أو حذر عن شر، فهو داعية؛ لأن الدعوة تجب على كل أحد بحسبه، فيدخل في لفظ الداعي كل مسلم دل على خير أو حث عليه، أو حذر من شر، أو نفر عنه. ثانيا: الداعية ينجح في دعوته بإذن الله عز وجل بصفات، منها: 1 - العلم (¬1). ¬
2 - الرفق (¬1). 3 - الصبر (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ((فلا بد من هذه الثلاثة: العلم، والرفق، والصبر، العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، فإن كان كل من هذه الثلاثة مستصحبا في هذه الأحوال)) (¬3). 4 - الإخلاص (¬4). 5 - موافقة القول للعمل (¬5). 6 - مراعاة أحوال المدعوين (¬6). ثالثا: يزيد نشاط الداعية بصفات، منها: 1 - قوة الإيمان (¬7). 2 - محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم (¬8). 3 - الرغبة فيما عند الله عز وجل (¬9). 4 - الغيرة لله عز وجل (¬10). 5 - قوة اليقين والثقة بالله عز وجل (¬11). 6 - الحذر من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬12). ¬
7 - الحرص على هداية الناس (¬1). 8 - الحرص على فعل الخيرات (¬2). 9 - الحرص على حسن الخاتمة (¬3). رابعا: العناية بصفات الحزم والعزيمة والثبات، ومنها: 1 - الأخذ بالحزم والاحتياط في الأمور المهمة (¬4). 2 - تحمل المشاق (¬5). 3 - الاستعداد والتأهب للموت قبل فوات الأوان (¬6). 4 - اغتنام فرص الخير قبل حرمانها (¬7). 5 - الشجاعة: العقلية والقلبية (¬8). 6 - إتقان العمل (¬9). 7 - العفة وقوة النفس (¬10). 8 - الأخذ بالشدة والقوة عند الحاجة والمصلحة (¬11). 9 - الغضب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم في حدود الحكمة (¬12). وغير ذلك من الصفات التي ينبغي العناية بها عناية فائقة لأهميتها. ¬
خامسا: الاتصاف بالخلق الحسن، لأنه يشمل جميع الصفات الحميدة، ومنها: 1 - الزهد (¬1). 2 - الجود والكرم (¬2). 3 - الرحمة (¬3). 4 - الصدق (¬4). 5 - الورع (¬5). 6 - التواضع (¬6). 7 - الحلم (¬7). 8 - الإحسان (¬8). 9 - اللين (¬9). 10 - العدل (¬10). 11 - العفو والصفح (¬11). 12 - التثبت والأناة (¬12). ¬
13 - الثبات (¬1). 14 - الوفاء (¬2). 15 - الأمانة (¬3). 16 - التوكل (¬4). 17 - الإيثار (¬5). قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: ((وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل))، ثم قال - رحمه الله -: ((ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة، ومنشأ جميع الأخلاق السافلة وبناؤها على أربعة أركان: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب)) (¬6). فينبغي للداعية العناية بصفة الخلق الحسن وأركانه؛ لاشتماله على جميع الأخلاق الحميدة، والله سبحانه وتعالى الهادي إلى سواء السبيل. سادسا: يسلم الداعية من الزلل بإذن الله، بالتزامه بالعمل بدرجات إنكار المنكر: باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب، وأن يكون أمره بالمعروف معروفا، ونهيه عن المنكر غير منكر، وأن ينهى عن المنكر الذي يزول بجملته ويخلفه ضده، أو يقل وإن لم يزل بجملته، ولا ينهى عن المنكر الذي يخلفه شر منه (¬7). ¬
الفصل الثاني المنهج الدعوي المتعلق بالمدعو
[الفصل الثاني المنهج الدعوي المتعلق بالمدعو]
المدعو: هو الإنسان المخاطب بدعوة الإسلام (¬1) فاتضح أن المدعو كل إنسان دل على خير، أو حذر عن شر، وعلى ضوء هذا التعريف استخلصت الفوائد الدعوية المتعلقة بالمدعو على النحو الآتي: الدرس الصفحة 1 قبول شهادة النفي من الداعية 67 2 قرب المدعو من أهل الفضل لا ينفع إلا بصالح الأعمال 83 3 أهمية سؤال المدعو عما أشكل عليه 91، 126، 132، 159، 169، 220، 225، 496، 660، 693، 719، 735 4 مسارعة المدعو إلى عمل الخير 91، 126، 219 5 كرم المدعو 92 6 إيثار المدعو طاعة الله ورسوله على طاعة القريب 114 7 استشارة المدعو للعلماء والدعاة 127 8 أدب المدعو مع العلماء والدعاة 140، 173، 245، 272، 381، 471، 612، 622، 962 9 دفاع المدعو عن العلماء والدعاة 68، 386، 630 10 من أصناف المدعوين: النساء 227 11 أهمية استجابة المدعو لله ولرسوله صلي الله عليه وسلم 297، 324، 713 12 أهمية إعانة الدعاة والمجاهدين في سبيل الله عز وجل 307 13 أهمية نصر الداعية وشد عضده 324 14 أهمية تعاون المدعو مع ولي أمر المسلمين 339 15 من أدب المدعو: الاقتراب من مجالس العلم 348 16 من أصناف المدعوين المشركون 376، 402، 531، 599، 626، 743، 958، 1018، 1069 17 من وظائف المدعو الصلح: حراسة السلطان المسلم والعالم العامل بعلمه 406، 486 18 حسن أدب الصحابة مع النبي صلي الله عليه وسلم 455 19 من أصناف المدعوين: أهل الصلاح والاستقامة 427، 462، 475، 516، 877، 958، 994، 1008 20 من أصناف المدعوين: اليهود مع خبثهم 517، 541، 626، 759، 1027، 1032 21 من أصناف المدعوين: النصارى 523، 1051 ¬
22 - النطق بالشاهدتين والعمل بهما أمان للمدعو المخلص ظاهرا وباطنا 544 23 من أصناف المدعوين: الزنادقة والملحدون 702 24 من أدب المدعو: توديع العلماء والدعاة إذا أرادا سفرا 549 25 من أصناف المدعون: المسلمون 626، 1069 26 من أسباب إعراض المدعوين: الحسد وحب الرياسة والجاه 631 27 شدة عداوة أعداء الدين وخطرهم على الإسلام وأهله 637 28 أهمية صدق المدعو 683 29 شدة إعراض بعض المدعوين حتى لا ينفع معهم إلا القوة 691 30 خطر حرص المدعو على الدنيا 372، 744 31 من أصناف المدعوين الموالى والخدم 787 32 قد يؤيد الله عز وجل الإسلام بالمدعو الفاجر 451، 799 33 أهمية كمال عقل المدعو 822 34 من أصناف المدعوين: الأطفال 826، 844 35 أهمية تلقي العلماء والقادمين من سفر الطاعة 843 36 من أصناف المدعوين: الأقارب 881، 1078 37 سوء أدب بعض المدعوين 931 38 من أصناف المدعوين الأعراب 252، 966 39 من أصناف المدعوين: أشراف الناس 974 40 من أصناف المدعوين: المجوس 999 41 من صفات اليهود: الخبث 1032 42 من صفات اليهود: المكر والخديعة 1027 43 من صفات اليهود: الخيانة لله ولرسوله صلي الله عليه وسلم 1042 وعلى ضوء ما تقدم من الفوائد الدعوية في الجدول السابق يظهر أن المنهج الدعوي المتعلق بالمدعو على النحو الآتي: أولا: المدعو كل إنسان دُعي إلى خير، أو حُذِّر عن شر، فيدخل في هذا التعريف جميع الناس المدعوين إلى الإسلام، والمدعوين إلى تطبيقه، أو تطبيق شيء منه، وهذا يبين للداعية أن الناس جميعا يحتاجون إلى دعوة أو توجيه كل على حسب حاله، وعلمه، ومكانته، قال الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] (¬1) ¬
، وهذا يؤكد أن الدعوة توجه إلى جميع الناس بدون استثناء، لكن - يدعى كل منهم على حسب حاجته بالأساليب المناسبة له (¬1). ثانيا: المدعوون أصناف على حسب عقائدهم، وقد ذكرت من أصنافهم ما يأتي: 1 - المسلمون (¬2). 2 - النصارى (¬3). 3 - اليهود (¬4). 4 - المجوس (¬5). 5 - المشركون (¬6). 6 - الزنادقة والملحدون (¬7). ثالثا: المدعوون أصناف على حسب أعمارهم، وأجناسهم، واستقامتهم، وأمكنتهم، ومكانتهم، وقربهم، وبعدهم من الداعية، على النحو الآتي: 1 - الأطفال (¬8). 2 - النساء (¬9). 3 - أهل الصلاح والتقوى (¬10). ¬
4 - الأعراب (¬1). 5 - أشراف الناس (¬2). 6 - الأقارب (¬3). 7 - الموالي والخدم (¬4). رابعا: إن المدعوِّين لهم صفات على حسب عقائدهم، وعقولهم، وأخلاقهم، وصفاتهم تنقسم إلى نوعين: النوع الأول: الصفات الحسنة، ومنها: 1 - الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم (¬5). 2 - المسارعة إلى عمل الخير (¬6). 3 - إيثار طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على محبة القريب (¬7). 4 - الجود والكرم (¬8). 5 - كمال العقل ورجاحته (¬9). 6 - الصدق (¬10). النوع الثاني: الصفات السيئة، ومنها: 1 - شدة العداوة والخطر على الإسلام وأهله (¬11). 2 - الحرص على الدنيا (¬12). ¬
3 - الإعراض والجفاء (¬1). 4 - الحسد وحب الرياسة (¬2). 5 - الخيانة لله ولرسله عليهم الصلاة والسلام (¬3). 6 - الخبث، والمكر، والخديعة (¬4). 7 - قد يؤيد الله الإسلام بالمدعو الفاجر (¬5). خامسا: المدعوون مسؤولون عن أمور مهمة، منها: 1 - قبول الحق (¬6). 2 - سؤال أهل العلم عما أشكل (¬7). 3 - الأدب مع العلماء والدعاة (¬8). 4 - الدفاع عن العلماء والدعاة وإعانتهم (¬9). 5 - استشارة العلماء والدعاة (¬10). 6 - حراسة السلطان المسلم، والعالم العامل بعلمه (¬11). سادسا: اختلاف أحوال المدعوين يؤكد أهمية مراعاة أحوالهم، على حسب عقائدهم، وعقولهم، ومكانتهم، وأجناسهم، ولغاتهم، ومجتمعاتهم، وعلمهم، وصفاتهم (¬12) فينبغي للداعية أن يعتني بهذه الفروق عناية دقيقة، والله عز وجل الموفق والمعين. ¬
الفصل الثالث المنهج الدعوي المتعلق بموضوع الدعوة
[الفصل الثالث المنهج الدعوي المتعلق بموضوع الدعوة]
موضوع الدعوة: لا شك أن الدعوة إلى الله عز وجل هي: الدعوة إلى لإيمان به، وبما جاءت به رسله - عليهم الصلاة والسلام - بتصديقهم بما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا به (¬1) وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية "رحمه الله -: أن الدعوة إلى الله تتضمن الأمر بكل ما أمر الله به، والنهي عن كل ما نهى الله عنه، وهذا هو الأمر بكل معروف، والنهي عن كل منكر (¬2) فظهر من هذا التعريف أن موضوع الدعوة: الدعوة إلى الخير، والحث عليه، والتحذير من الشر، والتنفير منه. قال الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] (¬3). وعلى ضوء هذا التعريف استخلصت الفوائد الدعوية المتعلقة بموضوع الدعوة على النحو الآتي: م الدرس الصفحة 1 الحديث عن حقوق العباد 55 2 رفع الحرج عن الأمة 53، 229، 284، 301، 988 3 أهمية الوقف في العمل الدعوي 60 4 الحث على الجهاد والإعداد له وبيان أهميته 59، 160، 183، 192، 234، 315، 322، 329، 335، 339، 363، 453، 457، 459، 468، 477، 481، 509، 545، 572، 729، 796، 838، 1018 5 الحث على العلم والعمل بالكتاب والسنة 62 6 الرد على الفرق الضالة 66 7 تبليغ العلم النافع 74 8 بيان الناسخ والمنسوخ 76، 122 ¬
9 - عناية الإسلام بحقوق الإنسان 75، 154 10 التحذير من المعاصي وبيان خطرها 117 11 التحذير من السبع المهلكات 131 12 إنكار الغيبة وردها 118 13 الحث على الإحسان إلى الأقرباء واليتامى والمساكين 121 14 الحث على الإحسان إلى الوالدين بعد موتهما 92، 126 15 الحث على أداء الزكاة 128 16 الحث على الإنفاق والصدقات في وجوه الخير 147 17 الحث على الوصية عند الموت 153 18 من أعلام النبوة الإخبار بالمغيبات 175، 195، 331، 429، 441، 499، 502، 535، 591، 605، 643، 681، 734، 751، 769، 799، 802، 864، 956، 1008، 1013، 1032، 1049، 1054، 1070 19 الحث على العمل بأصول الإيمان 181، 571 20 الحث على العمل بأصول الإسلام 182، 571 21 الحث على الدعاء 185، 235، 509 22 تاريخ الدعوة في تحريم الخمر 230 23 تعليم المدعوين: الدعاء والأذكار 260 ,880 24 الحث على سلوك الأدب وتعلي المدعوين ما يحتاجون إليه 233، 509، 729 25 الحث على مكارم الأخلاق 251، 618 26 إثبات صفات الكمال لله عز وجل 265، 641، 688، 783 27 الحث على التوبة النصوح 268 28 من خصائص الإسلام: شهداء غير المعركة 277 29 الحث على اخذ الحذر والأهبة لصد أعداء الإسلام 290 30 الحث على صيام التطوع 302 31 الحث على تجهيز وإعداد الدعاة والغزاة في سبيل الله عز وجل 307 32 من خصائص الإسلام: البقاء إلى يوم القيامة 331، 498 33 الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك 352 34 الحض على الطاعات واجتناب المعاصي 349 35 التحذير من الاتكال 354 36 الحث على الثبات في الجهاد في سبيل الله عز وجل 367 37 الحث على التواضع والتحذير من الكبر 379
38 - تاريخ الدعوة في الأمر بالحجاب 388 39 التحذير من إرادة الدنيا دون الآخرة 410 40 الحث على العناية بالفقراء والضعفاء 423 41 بيان فضل السلف الصالح للتأسي بهم 430 42 الإيمان بالقدر والعمل بأسباب النجاة 434، 798 43 التحذير من الاغترار بالأعمال 438، 798 44 الحث على النية الصالحة 442، 651، 799، 838 45 الحث على طلب حسن الخاتمة بالقول والفعل 443، 799 46 الحث على الرمي والترغيب فيه 477 47 من معجزات النبي صلي الله عليه وسلم: ثبات القلب وعدم الخوف والجزع 487 48 الحث على الالتجاء إلى الله عز وجل والإلحاح في الدعاء 490 49 من خصائص الإسلام: يسر الدين وسماحة الشريعة 301، 494، 988 50 من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الأحزاب 507 51 الحث على أداء الصلاة في وقتها 505 52 الحض على لين الجانب بالقول والفعل 512 53 الدعوة إلى كلمة التوحيد 521، 538، 542 54 من معجزات النبي صلي الله عليه وسلم: إجابة دعوته 532، 716، 735، 830 55 الحث على نشر العلم، وتعليم الناس الخير 538 56 من معجزات النبي صلي الله عليه وسلم شفاء المرضى على يديه 535، 727 57 التحذير من التعذيب بعذاب الله عز وجل 547، 701 58 الحض على طاعة ولاة الأمر بالمعروف 551، 556 59 الحث على طاعة الله ورسوله صلي الله عليه وسلم 555 60 البيان ببقاء الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام 573، 839 61 من معجزات النبي صلي الله عليه وسلم: الإخبار ببقاء مكة دار إسلام 573، 839 62 أهمية الحراسة في الأمور المهمة 596 63 تعظيم الكعبة وبيت الله الحرام 599 64 بيان خصائص النبي صلي الله عليه وسلم 602 65 الحث على حسن التفهم لمعاني جوامع الكلم 605 66 الحض على إعانة العلماء والمجاهدين وشد أزرهم 610 67 من تاريخ الدعوة: ذكر الهجرة 613 68 الحض على تعظيم القرآن الكريم 635
644 - 69 الحث على ذكر الله عز وجل 644 70 الحض على خفض الصوت بالذكر إلا ما شرع الجهر به 644 71 بيان آداب السفر 654 72 الحض على بر الوالدين 661 73 التحذير من الشرك ووسائله 670 74 التحذير من الخيانة لله ولرسوله صلي الله عليه وسلم 679 75 الولاء والبراء 685 76 من خصائص الإسلام الخيرية 691 77 الحض على إبطال عادات الجاهلية 695 78 تحذير المجاهدين عن قتل النساء والصبيان 698 79 التحذير من مؤاخذة أحد بذنب غيره 708 80 لحض على إزالة الشركيات 712 81 التحريض على خداع الكفار في الحرب 731 82 الحث على اخذ الحذر والحيطة في الحروب 733 83 التحذير من معصية النبي صلي الله عليه وسلم وبيان خطرها 739 84 من تاريخ الدعوة: ذكر عزوة أحد 744 85 الحث على العفو والرفق وتسهيل الأمور 749 86 من معجزات النبي صلي الله عليه وسلم ظهور الكرامات لأتباعه 768 87 الحث على تخلص أسرى المسلمين من أعداء الإسلام 772 88 الحض على إطعام الطعام 772 89 الحث على عيادة المرضى 774 90 الحض على إجابة الدعوة 774 91 التحذير من فتنة الدجال 782 92 التحذير من الظلم 787، 1054 93 الحث على الشفقة والرحمة بالمسلمين 792 94 التحذير من الإعجاب بالكثرة 796 95 بيان عذاب القبر ونعيمه 802 96 الحث على الإيثار 816 97 من معجزات النبي صلي الله عليه وسلم تكثير الطعام 822 98 التحذير من الغلول 832 99 الحث على الإحسان إلى الأيتام 136، 841
100 - التحذير من الفتن 685، 935 101 الحض على النصيحة بالحكم 874 102 الحض على احترام النبي صلي الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيزه 884 103 الحث على اختيار التسمية بالأسماء الحسنة 886 104 التحذير من صرف الأموال في الباطل 888 105 من خصائص النبي صلي الله عليه وسلم وأمته: حل الغنائم 602، 894 106 من معجزات النبوة: حبس الشمس واستجابة الدعاء 894 107 من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة تبوك 918، 1047 108 من تاريخ الدعوة: ذكر موت البدريين وأهل الحديبية 936 109 من تاريخ الدعوة: معرفة زمن وقعة بدر 944 110 من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة الفتح وحنين 577، 954، 974 111 الحض على الصبر 957 112 من تاريخ الدعوة: ذكر غزوة خيبر 991، 1029 113 بيان تحريم الحمر الأهلية 994 114 إنكار المنكر إذا ظهر فعله 998 115 التحذير من التنافس في الدنيا والانشغال بها 1004 116 التحذير من قتل أهل الذمة بغير حق 1020 117 من سماحة الإسلام: حفظه لحرمة العهد والميثاق 1021 118 الحض على الدخول في الإسلام 1023 119 الحض على إخراج المشركين من جزيرة العرب 1024 120 من معجزات الرسول صلي الله عليه وسلم عصمته فيما يبلغه وإخباره بمكان السحر 1038 121 أهمية الأخذ بالأسباب وأنها لا تنافي التوكل 1040 122 التحذير من السحر وبيان خطره 1042 123 بيان علامات الساعة 1048 124 الحض على الوفاء بالعهد 1053 125 الحض على الأخذ بالكتاب والسنة 1059 126 من تاريخ الدعوة: ذكر يوم أبي الجندل 1062 127 الحث على التثبت 1067 128 التحذير من الغدر 1074 129 الأصل في الأشياء الإباحة 991
وعلى ضوء ما تقدم من الفوائد الدعوية في الجدول السابق يتضح أن المنهج الدعوي المتعلق بموضوع الدعوة على النحو الآتي: أولا: موضوع الدعوة: هو: الدعوة إلى كل خير، والحث عليه، والتحذير من كل شر، والتنفير منه. ثانيا: تقدم موضوعات الدعوة على حسب أهميتها، فيقدم منها ما يتعلق بأركان الإيمان، ثم ما يتعلق بأركان الإسلام، ثم ما يتعلق بالتحذير من كبائر الذنوب، والحض على عمل الواجبات، ثم ما يتعلق بالترهيب من المعاصي، والترغيب في الطاعات، ومن هذه الأصول ما يأتي: 1 - الدعوة إلى كلمة التوحيد ((شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم))، وبيان معنى هذه الكلمة، ومقتضاها، وأركانها، وشروطها، وفضلها، ونواقضها، ونواقصها؛ فإن ذلك كله هو أساس الإسلام (¬1). 2 - بيان أنواع التوحيد، وفضله، وحث الناس، وترغيبهم في العناية به عناية دقيقة فائقة (¬2). 3 - التحذير من الشرك: كبيره، وصغيره، وبيان أنواعه، ووسائله؛ لأن الشرك أعظم الذنوب، وأشنعها (¬3). 4 - أهمية بيان صفات الكمال لله، وإثبات ما أثبته الله عز وجل لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل (¬4). 5 - بيان وتوضيح أصول الإيمان، وأصول الإسلام، والإحسان، ¬
بالتفصيل والإيضاح؛ لأهمية ذلك، وحاجة الناس إليه (¬1). 6 - التحذير من كبائر الذنوب: كالسبع الموبقات، وغيرها من المهلكات، والحض على القيام بجميع الواجبات (¬2). 7 - الحث على جميع أنواع الطاعات، والتنفير عن جميع أنواع المعاصي والسيئات (¬3). ثالثا: العناية باختيار موضوعات الدعوة على حسب أحوال المدعوين، فيقدم لكل فئة ما يحتاجون إليه، ويراعى في عرض هذه الموضوعات ما يأتي: 1 - الأصل في الأشياء الإباحة؛ لأن الله خلق لعباده جميع ما على الأرض لينتفعوا به، إلا ما حرمه سبحانه وتعالى (¬4). 2 - الأصل في العبادات الحظر والتوقيف إلا ما ثبت في الشرع تشريعه عن الله عز وجل، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم (¬5). 3 - تقديم أعلى المصالح عند تعارض عدد المصالح (¬6). 4 - تقديم أدنى المفاسد عند تعارض عدد المفاسد (¬7). 5 - درء المفاسد مقدم على جلب المصالح (¬8). رابعا: الإسلام له خصائص ينبغي بيانها للناس؛ لما في ذلك من المصالح، ومن ذلك ما يأتي: ¬
1 - العموم لجميع الإنس والجن (¬1). 2 - البقاء إلى قيام الساعة (¬2). 3 - اليسر والسماحة (¬3). 4 - رفع الحرص عن الأئمة (¬4). 5 - العناية بحقوق الإنسان (¬5). 6 - حفظ العهود والمواثيق (¬6). 7 - الإسلام خير الأديان، وأمته خير الأمم (¬7). خامسا: الدلائل النبوية توضح الحق، وتزيد الإيمان، وتزيل الشبه، فينبغي توضيحها للناس عند الحاجة لذلك؛ لما فيها من الفوائد الكثيرة، والمنافع المتعددة (¬8). وإذا قدمت الموضوعات الدعوية على حسب القواعد، والضوابط، والأحوال، والفئات، والأهمية، فإنها ستثمر، وتُنتج، وتنجح بإذن الله عز وجل. ¬
الفصل الرابع المنهج الدعوي المتعلق بالوسائل والأساليب
الفصل الرابع: المنهج الدعوي المتعلق بالوسائل والأساليب المبحث الأول: المنهج الدعوي المتعلق بالوسائل المبحث الثاني: المنهج الدعوي المتعلق بالأساليب
المبحث الأول: المنهج الدعوي المتعلق بالوسائل
المبحث الأول: المنهج الدعوي المتعلق بالوسائل الوسيلة في الأصل: ما يتوصل به إلى الشيء (¬1) ووسائل الدعوة: هي ما يتوصل به الداعية إلى تبليغ دعوته من أشياء وأمور (¬2) وقيل: ((ما يتوصل به الداعية إلى تطبيق مناهج الدعوة من أمور معنوية، أو مادية)) (¬3) قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: ((والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود)) (¬4) فظهر من هذه التعريفات والحدود أن الوسيلة في الدعوة إلى الله عز وجل هي: ما يستعمله الداعية من أمور حسية، أو معنوية ينقل بها دعوته إلى المدعوين. وعلى ضوء هذا التعريف استخلصت الفوائد الدعوية المتعلقة بالوسائل على النحو الآتي: م الدرس الصفحة 1 القول اعظم وسائل الدعوة 54 2 القدوة الحسنة 63، 93، 116، 127، 140، 150، 250، 259، 263، 293، 311، 318، 334، 375، 382، 407، 455، 473، 480، 522، 531، 583، 633، 769، 810، 859، 966، 971 3 من وسائل الدعوة: الخطابة 84، 236، 509، 781، 864 4 البروز للناس على مكان مرتفع 84، 853 5 أهمية مراعاة أوقات نشاط المدعو 85، 233، 509، 1012 6 التأليف بالمال 85، 926، 939، 954، 963، 972 7 التأليف بالجاه والنسب 56، 955 8 من وسائل الدعوة: اغتنام التذكير عند الحوادث الملمة 236، 509 ¬
9 - من وسائل الدعوة: الجهاد في سبيل الله عز وجل 216، 690، 695، 809، 1013 10 من وسائل الدعوة: ركوب البحر 178 11 من وسائل الدعوة: الكتب والرسائل 232، 509، 521، 876 12 من وسائل الدعوة: تسلية المدعوين وتنشيطهم 292 13 من وسائل الدعوة إثارة غيرة الرجال 387 14 من وسائل الدعوة: إرسال الرسل والدعاة والمجاهدين في سبيل الله 273، 399، 521، 540، 546، 670، 678، 713، 724، 764، 922، 994، 997، 1003، 1011، 1023 15 من وسائل الدعوة: زيارة أهل المصائب وتسليتهم 311 16 من وسائل الدعوة: أن يتولى أمر كل قبيلة كبيرهم الصالح 469 17 من وسائل الدعوة: التطبيق العملي في التعليم 488 18 من وسائل الدعوة: التأليف بالعفو مكان الانتقام 516، 963، 972 19 من وسائل الدعوة: إزالة الأماكن التي يفتتن بها الناس 559، 714 20 من وسائل الدعوة: البيعة لإمام المسلمين 562، 565، 568 21 من وسائل الدعوة وأسباب النصر: إظهار القوة والنشاط أمام الأعداء 589، 598، 76 22 أهمية اللواء والراية في الجهاد في سبيل الله عز وجل 589، 591، 596 23 من وسائل الدعوة: الخروج في سبيل الله عز وجل 596 24 من وسائل الدعوة: الزيارة والعيادة 619 25 من وسائل الدعوة: استخدام القوة عند الحاجة 632، 691 26 إخفاء المنافقين النفاق دليل على قوة المسلمين 633 27 من وسائل الدعوة: استمالة قلب من له شان في قومه 718، 735 28 من وسائل الدعوة: قتل الإمام لكل من آذى الله ورسوله صلي الله عليه وسلم 725 29 من وسائل الدعوة: تعليم المجاهدين وتدريبهم استعدادا للجهاد 718، 735، 751 30 من وسائل الدعوة: القيا للمقابلة بالسلام والمصافحة والتهنئة 755 31 من وسائل الدعوة: تأمير الأمراء على السريا والبعوث والرسل والمسافرين والأقطار 764، 1004، 1013ذ 32 من وسائل الدعوة: إغاظة الأعداء بالامتداح بالشعر وإظهار القوة 767 33 من وسائل الدعوة: أخذ الحذر والحيطة 779 34 من وسائل الدعوة: إعطاء السلب للقاتل تشجيعا له 778، 944 35 من وسائل الدعوة: إظهار انتصار وشعار المسلمين 801 36 من وسائل الدعوة: الإهداء 830 37 أهمية استخدام وسائل الإيضاح في الدعوة إلى الله عز وجل 869 38 من وسائل الدعوة: إعطاء النفل للشجعان تشجيعا لهم 922 39 من وسائل الدعوة: الأخذ بالقرائن عند عدم البينة 945 40 من وسائل الدعوة: الستر على أهل الصلاح والتقوى 954 41 من وسائل الدعوة: نقل الكلام بقصد التحير والإصلاح وإزالة المنكر 969
42 - من القواعد الدعوية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح 931، 975، 1027 43 من وسائل الدعوة: أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس 999 44 من وسائل الدعوة: البدء بقتال الأهم فالأهم من أعداء الإسلام 1017 45 من وسائل الدعوة: التأليف بقبول هدية المشرك مع الحذر 1031 46 من وسائل الدعوة: عقد الصلح والهدنة مع الأعداء عند العجز عن الجهاد 1067 47 من ميدان الدعوة: مراكب المواصلات 343 48 تقديم أعلى المصلحتين عند التعارض 275 49 من ميادين الدعوة: طرق السير والسفر 300، 670 50 من ميادين الدعوة: المسجد 460، 1023 51 من ميادين الدعوة: المجالس العامة 634 52 الاستعانة بنوم القائلة على قيام الليل والدعوة 178 وعلى ضوء ما تقدم من الفوائد الدعوية في هذا الجدول يظهر أن المنهج الدعوي المتعلق بالوسائل على النحو الآتي: أولا: الوسائل ذات أهمية بالغة؛ لأن الداعية إلى الله عز وجل يتوصل بها إلى تبليغ دعوته، وهي أوعية الأساليب، تحملها وتوصلها إلى الناس، وهذا كله يدل على مكانة الوسائل، وأنه يتأكد العناية بها عناية فائقة. ثانيا: وسائل الدعوة تنقسم إلى قسمين: 1 - الوسائل المحسوسة الملموسة، وهذا النوع هو أكثر وسائل الدعوة في الغالب، ومن هذا القسم: أ- الجهاد في سبيل الله عز وجل بالنفس والمال، واللسان (¬1). ب- الكتب والرسائل (¬2). ¬
جـ - إرسال الدعاة (¬1). د- إزالة الأماكن التي يفتتن بها الناس (¬2). هـ - التطبيق العملي في التعليم (¬3). ووالخطابة على المنبر، أو على مكان مرتفع (¬4). ز- الهداية (¬5). ح- التأليف بالمال (¬6). وغير ذلك (¬7). 2 - الوسائل المعنوية، مثل: أ- اغتنام التذكير عند الحوادث الملمة (¬8). ب- مراعاة أوقات نشاط المدعو (¬9). ج- التأليف بالعفو مكان الانتقام (¬10). د- استمالة قلب من له شأن في قومه (¬11). ¬
هـ - الستر على أهل الصلاح والتقوى (¬1). والاستعانة بالنوم في القائلة على قيام الليل وأمور الدعوة إلى الله عز وجل (¬2). ز - التأليف بالجاه والنسب (¬3). ح - إظهار القوة والنشاط أمام الأعداء (¬4). وغير ذلك من الوسائل المعنوية (¬5). ثالثا: العناية بجميع الوسائل المناسبة التي لا محذور فيها، ولا مخالفة شرعية، والعمل بجميع أسباب النجاة لا يقدح ذلك كله في التوكل على الله عز وجل؛ بل الأخذ بالأسباب من التوكل (¬6). رابعا: مراعاة القواعد والضوابط الشرعية أثناء استخدام الوسائل، ومراعاة أحوال من تستخدم معهم هذه الوسائل، فتوضع الوسيلة المناسبة للأحوال المناسبة، وذلك يكون بعد التأمل، والنظر، والتأني، وبذلك تنجح الوسائل بإذن الله عز وجل (¬7). ¬
المبحث الثاني المنهج الدعوي المتعلق بالأساليب
[المبحث الثاني المنهج الدعوي المتعلق بالأساليب] المبحث الثاني: المنهج الدعوي المتعلق بالأساليب الأسلوب: الطريق والفن، يقال: هو على أسلوب من أساليب القوم: أي على طريق من طرقهم، ويقال: أخذنا في أساليب من القول: أي فنون متنوعة (¬1). وحقيقة أساليب الدعوة: هي العلم الذي يتصل بكيفية مباشرة تبليغ الدعوة وإزالة العوائق عنه، وهي الطريقة التي يسلكها الداعية في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه، وتأدية معانيه، ومقاصده من كلامه (¬2) وقيل: هي الطرق التي يسلكها الداعية في دعوته، أو كيفيات تطبيق مناهج الدعوة (¬3) فظهر أن أساليب الدعوة هي الطرق والكيفيات المؤثرة المقنعة التي يتم بها تبليغ الإسلام، والحث على تطبيقه، ولعل الفرق بين الأساليب والوسائل يظهر من خلال التعريفات السابقة؛ وهو أن الوسائل في الغالب تكون حسية أكثر منها معنوية، وأن الأساليب في الغالب تكون معنوية، فاتضح من ذلك أن الوسائل تنقل الأساليب وتحملها إلى المدعوين، والله أعلم. وقد استخلصت على ضوء هذا التعريف الفوائد الدعوية المتعلقة بأساليب الدعوة على النحو الآتي: م الدرس الصفحة 1 من أساليب الدعوة: السؤال والجواب 344، 643، 661، 880، 1004، 1029، 1025 2 الاستفهام الاستنكاري 68، 226، 426، 487، 591، 793، 959، 974 3 التوكيد 69، 87، 295، 325، 347، 415، 567، 715، 750، 784، 1026 4 التدرج في الدعوة 81، 229 5 من أساليب الدعوة: الوعد بالخير 250 ¬
6 - الترغيب 88، 92، 128، 135، 150، 161 165، 177، 183، 190، 194، 205، 219، 225، 235، 269، 273، 274، 279، 284، 294، 300، 303، 308، 332، 337، 355، 364، 413، 421، 425، 442، 509، 540، 544، 558، 647، 653، 668، 684، 689، 799، 1018، 1026 7 الترهيب 88، 132، 135، 154، 381، 411، 442، 506، 524، 545، 558، 657، 706، 716، 744، 793، 799، 808، 835، 890، 930، 936، 1018، 1020، 1077 8 التوكيد بالقسم 123، 140، 242، 295، 373، 541، 582، 715، 734، 793، 808، 919، 949، 956، 1008، 1053 9 التهنئة 113، 400 10 التبشير والبشارة والبشرى 113، 398، 514، 714، 728، 734، 891 11 السرور بما يسر المدعو 113 12 إخبار الداعية عن تقصيره تحذيرا لغيره 118 13 من أساليب الدعوة: ذكر العدد إجمالا ثم تفصيلا 132، 1048 14 التشبيه 160، 170، 191، 234، 334، 415، 503، 509، 539، 557، 586، 607، 634، 646، 895، 946، 1038 15 من أساليب الدعوة: التأليف بالدعاء 176، 293، 402، 530، 537، 714، 735 16 من أساليب الدعوة: تخويف الأعداء بالدعاء عليهم بالتعميم عند الحاجة 767 17 من أساليب الدعوة: الأسلوب الحكيم 187 18 من أساليب الدعوة: التمني لأفضل الأعمال 195 19 من أساليب الدعوة: الرجز والشعر المحمود 198، 292، 373، 750 20 من أساليب الدعوة: القصة 154، 206، 241، 708، 894، 944، 997 21 من أساليب الدعوة: الحوار 215، 325، 470، 687، 855، 1063 22 من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض عمله الصلح ليقتدى به 263 23 من أساليب الدعوة: تسلية المصاب بذكر الثواب 279 24 من أساليب الدعوة: رفع الصوت في الخطب والمواعظ 293 25 من أساليب الدعوة: استفسار الداعية المدعو ليختبر ما عنده 344 26 من أساليب الدعوة: النداء والإجابة لتأكيد الاهتمام 345 27 من سنة إلقاء العلم: الوقار والتثبت 347 28 من أساليب الدعوة: الثناء على من تبرع بالخير 406، 751 29 من أساليب الدعوة: تعظيم الأمر 415 30 من أساليب الدعوة: ذكر الصفات الحسنة للمدعوين 418 31 من أساليب الدعوة: الحكمة 426 32 أهمية الشفاعة الحسنة في الدعوة إلى الله عز وجل 470
33 - من أساليب الدعوة: استشهاد من حضر لتقوى الحجة 471 34 من أساليب الدعوة: ذكر الداعية بعض مناقبه عند الحاجة انتصارا للحق 250، 373، 474، 749، 858 35 من أساليب الدعوة: الدعاء لمن فعل خيرا 477 36 من أساليب الدعوة: الثناء على الداعية لمخلص ليتأسى به 591 37 من أساليب الدعوة: التذكير بالقرآن والسنة في المجامع المشتركة وغيرها 623 38 من أساليب الدعوة: النداء بالأنساب والكنى 86، 87، 631 39 من أساليب الدعوة: الشدة على بعض أصحاب المعاصي بالقول والفعل عند الحاجة 682، 907، 1031 40 من أساليب الدعوة: قول الداعية عند الحاجة: أنا فلان وأنا ابن فلان 373، 750 41 من أساليب الدعوة: الجدل 741، 908، 1024، 1030 42 من أساليب الدعوة: التأليف بالثناء عند أمن الفتنة 751 43 من أساليب الدعوة: استمالة قلب المدعو بمخاطبته بلغته 829 44 من أساليب الدعوة: الدعاء بول العمر على طاعة الله عز وجل 829 45 من أساليب الدعوة: تطييب قلوب المدعوين وربطها بخالقها 182، 887، 944 46 من أساليب الدعوة: عدم التصريح بذكر اسم المخطئ 890 47 من أساليب الدعوة: تأديب بعض المدعوين بالقول 920 48 من أساليب الدعوة: التأليف بطيب الكلام 944، 956 49 من أساليب الدعوة: الدعاء للقدوات الحسنة 973 50 من أساليب الدعوة: ضرب الأمثال 1014 51 من أساليب الدعوة: الموعظة الحسنة 1050 52 أهمية إجابة السائل بأكثر مما سأل عند الحاجة 1058 53 من أساليب الدعوة: الشدة بالقول مع الأقارب عند الحاجة ولمصلحة الراجحة 1078 54 من أساليب الدعوة: الاستدلال بالأدلة الشرعية 473، 550، 701، 854، 876، 909، 914، 1053، 1063. وعلى ضوء ما تقدم من الفوائد الدعوية في الجدول السابق يظهر أن المنهج الدعوي المتعلق بالأساليب على النحو الآتي: أولا: الأساليب لها مكانة بالغة في الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأنها في الحقيقة هي الطرق المؤثرة المقنعة التي يتم بها تبليغ الناس الدين الإسلامي، والحض على تطبيقه، والعمل به.
ثانيا: الأساليب كثيرة ومتنوعة، وهذا يؤكد أهميتها، ويبين للدعاة إلى الله عز وجل أنه ينبغي اختيار الأساليب التي لا محذور فيها، ولا مخالفة شرعية، فيقدم المناسب منها لكل صنف من أصناف المدعوين، ويراعي الداعية في ذلك أحوال المدعو وما يناسب: عقيدته، ومكانته، ومجتمعه، وعقله، وزمانه، وعلمه، ولغته (¬1). ثالثا: أهم الأساليب هي التي استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته كثيرا، واعتنى بها عناية فائقة، ومن هذه الأساليب ما يأتي: 1 - أسلوب الترغيب والترهيب (¬2). 2 - أسلوب التشبيه وضرب الأمثال (¬3). 3 - أسلوب التأكيد بالقسم (¬4). 4 - أسلوب السؤال والجواب (¬5). 5 - أسلوب التوكيد بالتكرار (¬6). 6 - أسلوب القصص (¬7). 7 - أسلوب الحوار (¬8). 8 - أسلوب الجدل (¬9). 9 - أسلوب التأليف بالدعاء (¬10). ¬
10 - أسلوب الاستدلال بالأدلة الشرعية (¬1). 11 - أسلوب ذكر العدد إجمالا ثم تفصيلا (¬2). فينبغي العناية بهذه الأساليب أكثر من غيرها لأهميتها. رابعا: الأساليب في الغالب لا تخرج عن خمسة أنواع على النحو الآتي: 1 - أساليب تحريك الشعور والوجدان والعاطفة، مثل أساليب: أ - الموعظة الحسنة (¬3). ب - الترغيب (¬4). ج - الترهيب (¬5). د - أسلوب الدعاء للمدعو (¬6). هـ - أسلوب البشارة (¬7). 2 - أساليب التدبر والاعتبار والتعقل، ومن ذلك: أ - أسلوب التشبيه (¬8). ب - أسلوب الحوار (¬9). ج - أسلوب الجدل والمناظرة (¬10). د - أسلوب الاستفهام الإنكاري (¬11). ¬
3 - الأساليب التي لها علاقة بالحس والتجارب، مثل: أ - أسلوب ذكر الداعية بعض أعماله؛ ليقتدى به (¬1). ب - أسلوب إخبار الداعية عن تقصيره، وتفريطه تحذيرا لغيره (¬2). 4 - الأساليب القوية، مثل: أ - أسلوب تأديب بعض المدعوين بالقول (¬3). ب - أسلوب الشدة بالقول مع الأقارب عند الحاجة والمصلحة الراجحة (¬4). جـ - أسلوب القوة مع بعض أهل المعاصي في حدود الحكمة (¬5). 5 - الأساليب العامة، ومنها: أ - أسلوب التدرج (¬6). ب - أسلوب الحكمة (¬7). جـ - أسلوب التذكير بالقرآن والسنة في المجامع المشتركة وغيرها (¬8). د- أسلوب السؤال والجواب (¬9). هـ - أسلوب التأليف بطيب الكلام (¬10). وغير ذلك من الأساليب، والله أسأل لي ولجميع المسلمين التوفيق والسداد والإعانة. ¬
الخاتمة
[الخاتمة] الخاتمة الحمد لله الذي أعانني على إتمام هذه الرسالة على هذه الصورة، والمنة له أولا وآخرا، {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70] (¬1). بعد هذه الرحلة المباركة - إن شاء الله عز وجل - التي طفت من خلالها بمفهوم فقه الدعوة الصحيح، وبترجمة موجزة للإمام البخاري، والتعريف بصحيحه، وجهوده في الصحيح، ومكانته عند الأمة الإسلامية، وبعد دراسة مائة واثنين وتسعين حديثا مع رواياتها المتعددة في الصحيح، واستخراج الدروس الدعوية منها، والعناية والتركيز والاهتمام بالدروس الخاصة بالداعية، والمدعو، وموضوع الدعوة، ووسائلها، وأساليبها، وتاريخ الدعوة، وميادينها، وخصائصها، ودلائل النبوة، وآداب الجدل، والحوار، والمناظرة، ثم ذكر المنهج المستخلص من الدراسة. أقول: هذا ما من الله به علي وأعان عليه، فإن يكن صوابا فمن الله الكريم الوهاب، وإن يكن فيه خطأ، أو نقص، فتلك سنة الله في بني الإنسان، فالكمال لله وحده، والنقص والقصور، واختلاف وجهات النظر من صفات البشر، وحسبي أني قد حاولت التسديد والمقاربة، وبذلت الجهد ما استطعت بتوفيق الله عز وجل، والله أسأل أن ينفعني بذلك، وينفع به جميع المسلمين إلى يوم الدين؛ إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. أما أهم النتائج التي أعانني الله عز وجل، ويسر لي التوصل إليها في هذا ¬
البحث، فمنها: 1 - أن فقه الدعوة إلى الله عز وجل هو استنباط وفهم تاريخ الدعوة، والدروس التي تتعلق بالداعي، والمدعو، وموضوع الدعوة، وأساليبها، ووسائلها، وخصائص الإسلام، ودلائل النبوة، وآداب الجدل، والمناظرة، والحوار، وأهداف الدعوة، ونتائجها: استنباطا، وفهما على ضوء الكتاب والسنة، وفهم السلف الصالح؛ ليتمكن الدعاة إلى الله عز وجل من القيام بالدعوة، وعرضها على أحسن طريقة، وأقوم منهج. 2 - أن العلاج لما يحصل بين بعض الدعاة من خلاف وتنازع في بعض قضايا الدعوة ومناهجها، لا يكون إلا بالرد إلى كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة، وفهمها فهما سليما، والعمل بما فيهما عملا يقصد به وجه الله عز وجل. 3 - أن الداعية إلى الله هو كل مسلم دل على خير، أو حذر عن شر، فيدخل في ذلك جميع المسلمين؛ كل على حسب علمه وفهمه، وقدرته، ومكانته، ولا يكون الداعية موفقا مسددا إلا بصفات يلتزمها، وأعمال يكون بها قدوة لغيره في كل خير، والتزامه منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته على بصيرة، ومعرفته لأحوال الناس؛ ليقدم لكل قوم ما يناسبهم، وينزلهم منازلهم، ومع ذلك كله يسأل الله التوفيق، والسداد، والإعانة، والثبات. 4 - أن المدعوين هم كل الناس، وكل مخاطب بدعوة الإسلام، فكل من دُلَّ على خير، أو حُثَّ عليه، أو حُذِّر من شر، أو نُفِّر عنه، فهو مدعو، مهما ارتفعت منزلته، ولا شك أن كل إنسان بحاجة إلى دعوة على حسب حاله، وعقيدته، وجنسه، ومجتمعه، وعقله، وعلمه، فيكون المدعوون على ذلك أصنافا متعددة، وأقساما كثيرة، يقدم لكل إنسان ما يناسب حاله. 5 - أن موضوعات الدعوة تتضمن: الدعوة لكل خير، والتحذير من كل شر، وهي تقدم للناس على حسب أحوالهم، ويبدأ فيها بأمور
العقيدة، ثم بالذي يليها في الأهمية، فالذي يليه، على حسب الأحوال، والأزمان، وما يحتاجه الناس، ولا بد في ذلك كله من مراعاة الأصول الشرعية، والقواعد المرعية، ومن ذلك: تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، وارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أكبرهما عند التعارض، وتقديم أعلى المصالح عند التعارض بينها، والتزام الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة على كل ما يقدمه الداعية للناس من توجيه وتعليم، وتفقيه، مع بيان خصائص الإسلام، ودلائل النبوة، وغير ذلك مما يعود على المدعوين بالخير والبركة والنجاة. 6 - أن وسائل الدعوة هي ما يستعمله الداعية من أمور حسية أو معنوية، ينقل بها دعوته إلى الناس، وأن هذه الوسائل أنواع متعددة، وأصناف مختلفة، وأنه ينبغي له أن يختار ما يناسب حال المدعو، ويستخدم جميع الوسائل في دعوته التي لا محذور فيها ولا مخالفة شرعية، ويقدم ما يحتاج إليه من الوسائل على حسب أصول الحكمة، ومراعاة الضوابط الشرعية، والمناسبة لكل حال، ويكون بذلك ناجحا بإذن الله عز وجل. 7 - أن الأساليب الدعوية هي: الطرق التي يسلكها الداعية في دعوته، والكيفيات المؤثرة المقنعة، التي يتم بها تبليغ الإسلام، والحث على تطبيقه، والعمل بأصوله وفروعه، وهي تنقل عن طريق الوسائل؛ لأن الوسائل أوعية الأساليب، ومما يدل على أهمية الأساليب كثرة أنواعها، وأقسامها، ولهذا ينبغي للداعية أن يختار الأساليب التي لا محذور فيها ولا مخالفة شرعية، ويقدم المناسب منها لكل صنف من أصناف المدعوين، ويراعي في ذلك ما يناسب عقيدة كل صنف، وعلمه، ومكانته، وجنسه، ولغته، ومجتمعه، والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
التوصيات والمقترحات
[التوصيات والمقترحات] 1 - أوصي نفسي وإخواني الباحثين والدعاة بوصية الله تعالى للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] (¬1). 2 - التزام منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم - في الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأن هذا المنهج خير المناهج، لقيامه على التزام توجيهات كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. 3 - العناية التامة بكتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم: حفظا، وفهما، وعملا، وتعليما للناس، وسؤال الله عز وجل التوفيق والهداية، والثبات، والتسديد، وحسن العاقبة؛ فإنه القادر على ذلك: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] (¬2). 4 - النظر إلى أن الدنيا مزرعة للآخرة، وأن ما فيها من متاع فهو زائل لا محالة {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60] (¬3). 5 - أقترح تدريس فقه الدعوة في السنة المطهرة في جميع أقسام الكليات الشرعية، وأن يكون ذلك عن طريق التدرج في كتب السنة النبوية، لجميع المستويات الدراسية. وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يجعلني وإخواني الدعاة والباحثين، وجميع المسلمين من الهداة المهتدين، وأن يحسن لنا النية والقصد، والعاقبة، إنه حسبنا، ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده، ورسوله، وخيرته من خلقه؛ نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ¬