فقه الأدعية والأذكار

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمة ... فقه الأدعية والأذكار بقلم: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمَّداً عبده ورسوله. {يَأَيّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُمْ مُسْلِمُونَ} . {يَأُيَّهَا النَّاسُ اتّقُوا رَبَّكمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً واتَّقُوا اللهََ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} . {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكمْ ويَغْفِرْ لَكمْ ذُنوبَكُمْ ومَن يُطِعِ اللهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} . أمَّا بعد: فلا ريب أنَّ ذِكر الله ودعاءه هو خير ما أُمضيت فيه الأوقات وصُرفت فيه الأنفاس، وأفضل ما تقرّب به العبدُ إلى ربّه سبحانه وتعالى، وهو مفتاحٌ لكلِّ خير يناله العبد في الدنيا والآخرة "فمتى أعطى (الله) العبدَ هذا المفتاح فقد أراد أنْ يفتح له، ومتى أضلَّه بقي باب الخير مُرْتَجاً دونه"1 فيبقى مضطربَ القلب، مُشَوَّشَ الفؤاد، مُشَتَّتَ الفِكر، كثيرَ القلَقِ، ضعيفَ الهِمَّةِ والإرادةِ، أمّا إذا كان محافظاً

_ 1 الفوائد لابن القيم (ص:127) .

على ذِكر الله ودعائه وكثرةِ اللجأ إليه فإنَّ قلبَه يكون مطمئناً بذكره لربِّه {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} 1، وينال من الفوائد والفضائل والثمار الكريمة اليانعة في الدنيا والآخرة ما لا يحصيه إلاَّ الله تعالى. فذِكر إلَهِ العرشِ سرًّا ومعلناً ... يُزِيلُ الشَّقَا والهَمَّ عنك ويَطردُ ويجلبُ للخيراتِ دنيا وآجلاً ... وإنْ يأتِك الوَسواسُ يوماً يشَرَّدُ فقد أخبَر المختارُ يوماً لصحبِه ... بأنَّ كثيرَ الذِّكرِ في السَّبق مُفرِدُ ووَصَّى معاذاً يَستَعين إلهه ... على ذكرِه والشكر بالحسن يعبدُ وأوصى لشخصٍ قد أتى لنصيحةٍ ... وقد كان في حمْل الشرائِعِ يَجْهَدُ بأنْ لا يزالَ رطباً لسانُك هذه ... تُعينُ على كلِّ الأمورِ وتُسعِدُ وأخبَرَ أنَّ الذِكرَ غَرسٌ لأهلِه ... بجنَّاتِ عَدن والمساكنُ تُمْهَدُ وأخبَر أنَّ الله يذكرُ عبدَهُ ... ومَعْهُ عى كلِّ الأمرِ يُسَدِّدُ وأخبَر أنَّ الذِّكرَ يبقى بجنّة ... ويَنقطعُ التَّكليفُ حين يُخلَّدُوا ولو لَم يكنْ في ذِكره غيرَ أنَّه ... طريقٌ إلى حبِّ الإلَه ومُرشِدُ ويَنهَى الفتَى عن غِيبةٍ ونَميمةٍ ... وعن كلِّ قولٍ للدِّيانَةِ مُفسِدُ لكان لنَا حَظٌّ عظيمٌ ورغبةٌ ... بكثرةِ ذكرِ الله نعمَ المُوَحَّدُ ولكنَّنَا من جَهلِنا قلَّ ذِكرُنا ... كما قلَّ منَّا للإلَه التَّعبُّدُ2 ولهذا فإنَّ الأذكارَ الشرعية والأدعية النبويّة لها منزلةٌ عاليةٌ في

_ 1 سورة الرعد، الآية: (28) . 2 ناظم هذه الأبيات هو الشيخ العلاّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله.

الدِّين، ومكانةٌ خاصّةٌ في نفوس المسلمين، وكُتُبُ الأذكار على تنوُعها تلقى في أوساطهم اهتماماً بالغاً وعنايةً فائقةً، ولا يمكن إحصاءُ ما كتبه أهلُ العلم قديماً وحديثاً في الذِّكر والدعاء لكثرة ما أُلِّف في ذلك، فمنهم الراوي الأخبارَ بالأسانيد، ومنهم الحاذف لها، ومنهم المطوِّل المسهب، ومنهم المختصِر والمتوسِّط والمهذِّب، مع تفاوت بينهم في جمع النصوص، وعرض الأدلة، وطرق تبويبها وتصنيفها، والاهتمام بشرحها وتوضيحها، إلى غير ذلك. ناهيك أنَّ أهل الأهواء لهم في هذا الباب مؤلّفات كثيرة مشتملة على الشططِ والانحراف والبعدِ عن الحقِّ، بسبب عدم تقيّد مؤلِّفيها بالسنة وإعراضهم عن الالتزام بالمأثور. هذا وقد دلَّ الكتابُ والسنَّةُ وآثارُ السلف على جنس المشروع والمستحبِّ في ذِكر الله ودعائه كسائر العبادات، وبيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأمّته ما ينبغي لهم أن يقولوه من ذِكر ودعاء في الصباح والمساء، وفي الصلوات وأعقابها، وعند دخول المسجد، وعند النوم، وعند الانتباه منه، وعند الفزع فيه، وعند تناول الطعام وبعده، وعند ركوب الدابَّة، وعند السفر، وعند رؤية ما يحبّه المرء، وعند رؤية ما يكره، وعند المصيبة، وعند الهمِّ والحزن، أو غير ذلك من أحوال المسلم وأوقاته المختلفة. كما بيّن صلوات الله وسلامه عليه مراتب الأذكار والأدعية وأنواعَها وشروطَها وآدابها أتمَّ البيان وأكمله، وترك أمَّتَه في هذا الباب وفي جميع أبواب الدين على محجّة بيضاء، وطريق واضحة، لا يزيغ عنها

بعده إلاَّ هالك، و "لا ريب أنَّ الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فالأدعية والأذكار النبوية هي أفضل ما يتحرّاه المتحرِّي من الذِّكر والدعاء، وسالكها على سبيل أمان وسلامة، والفوائد والنتائج التي تحصل لا يعبِّر عنه لسان، ولا يحيط به إنسان، وما سواها من الأذكار قد يكون محرَّماً، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون فيه شرك ممَّا لا يهتدي إليه أكثرُ الناس، وهي جملة يطول تفصيلها"1. فالمشروع للمسلم هو أن يذكرَ الله بما شرع، وأن يدعوَ بالأدعية المأثورة، وقد نهى الله عن الاعتداء في الدعاء، فينبغي لنا أن نتبّع فيه ما شُرع وسنَّ، كما أنَّه ينبغي لنا ذلك في غيره من العبادات، وأنْ لا نعدل عن ذلك إلى غيره "ومن أشدِّ الناس عيباً من يتّخذ حزباً ليس بمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان حزباً لبعض المشايخ، ويَدَعُ الأحزاب النبوية التي كان يقولها سيِّد بني آدم، وإمام الخلق وحجّة الله على عباده"2، فالخير كلُّه في اتباعه، والاهتداء بهديه، وترسُّم خطاه، فهو القدوة والأسوة صلوات الله وسلامه عليه، وقد كان أكملَ الناس ذِكراً لله وأحسنَهم قياماً بدعائه سبحانه. ولهذا فإنَّه إذا اجتمع للعبد في هذا الباب لزومُ الأذكار النبوية والأدعية المأثورة مع فهم معانيها ومدلولاتها، وحضورِ قلبٍ عند الذِّكر فقد كمل نصيبُه من الخير.

_ 1 مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/510،511) . 2 مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/525) .

قال ابن القيّم رحمه الله: "وأفضل الذِّكر وأنفعُه ما واطأ القلبُ اللسانَ، وكان من الأذكار النبوية، وشهد الذَّاكر معانيه ومقاصده"1. ولَمّا كان الأمر بهذه المنزلة وعلى هذا القدر من الأهمية نشأ عندي رغبةٌ في أنْ أعدَّ وأقدِّم ـ مع الاعتراف بالعجز وعدم الأهلية ـ دراسةً في الأذكار والأدعية النبوية في بيان فقهها وما اشتملت عليه من معان عظيمة، ومدلولات كبيرة، ودروس جليلة، وعِبرة مؤثّرة، وحِكم بالغة، واجتهدتُ في جمع كلام أهل العلم في ذلك، فاجتمع عندي من ذلك بحمد الله فوائدُ كثيرةٌ ولطائفُ عديدةٌ وتنبيهاتٌ دقيقةٌ من كلام أهل العلم المحقّقين، ولا سيما الإمامين الجليلين شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، ثمَّ نظَّمتُ ما اجتمع عندي من ذلك وألّفتُ بينه، وجعلته بعنوان: "فقه الأدعية والأذكار" وقد أُذيع جزءٌ كبير منه في حلقات عبر الإذاعة المباركة، إذاعة القرآن الكريم بالمملكة العربية السعودية ـ حرسها الله ـ ولا يزال مستمرًّا عرضُه حتى الآن، وقد رغِب غيرُ واحد من مشايخي وإخواني أن أقوم بنشره مطبوعاً ليتنوّع مجالُ نفعه، ولتكثر فائدته، فأجريت عليه تعديلات يسيرة في أسلوبه ليكون مناسباً للنشر، وجعلتُ لكلِّ حلقة عنواناً خاصاً يدلُّ على مضمونها، ويُرشد إلى موضوعها، وسوف يصدر ـ بإذن الله ـ في مجموعات متناسبة الحجم والموضوع، وهذا هو القسم الأول منه، وإني لأرجو الله الكريم أن يتقبَّل مني هذا العمل

_ 1 الفوائد لابن القيم (ص:247) .

وسائر أعمالي، وأن يُبارك فيه، وأن يجعله نافعاً لعباده المسلمين، فهو سبحانه سميع الدعاء، وأهل الرجاء، وهو حسبنا نِعم الوكيل. ولا يفوتني في هذا المقام أن أتقدّم بالشكر الجزيل لسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله تعالى، الذي تفضَّل مشكوراً بقراءة هذا الكتاب والتعليق عليه1 والتقديم له على كثرة أعماله، وأسأل الله تعالى أن يجعل ذلك في موازين حسناته وأن يجزيه عنَّا وعن المسلمين خير الجزاء، إنَّه سميع مجيب. وكتب: عبد الرزاق البدر غفر الله له، وعفا عنه، ورحمه، ووالديه وجميع المسلمين.

_ 1 وقد جعلتُ تعليقاته حفظه الله بين معقوفين [] في داخل المتن.

أهمية الذكر وفضله

1 / أهميّةُ الذِّكر وفضله غيرُ خافٍ على كلِّ مسلم أهميّةُ الذكر وعظيمُ فائدته؛ إذ هو من أجلِّ المقاصد وأنفع الأعمال المقرِّبة إلى الله تعالى، وقد أمر الله به في القرآن الكريم في مواطن كثيرة، ورغّب فيه، ومدح أهله وأثنى عليهم أحسن الثناء وأطيبه. يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً} 1، ويقول تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكَمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكَمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} 2، ويقول تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} 3، ويقول تعالى: {وَالذَاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 4. فأمر تعالى في هذه الآيات بذكره بالكثرة، وذلك لشدّة حاجة العبد إلى ذلك وافتقاره إليه أعظم الافتقار، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فأيُّ لحظة خلا فيها العبدُ عن ذِكر الله عز وجل كانت عليه لا له، وكان خسرانه فيها أعظمَ ممّا ربح في غفلته عن الله، وندم على ذلك ندماً شديداً عند لقاء الله يوم القيامة.

_ 1 سورة الأحزاب، الآية: (41) . 2 سورة البقرة، الآية: (200) . 3 سورة آل عمران، الآية: (191) . 4 سورة الأحزاب، الآية: (35) .

بل لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في شعب الإيمان للبيهقي، والحلية لأبي نعيم من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّه قال: " ما من ساعة تمرُّ بابن آدم لا يذكر الله تعالى فيها إلاّ تحسّر عليها يوم القيامة"1. والسُّنّةُ مليئةٌ بالأحاديث الدّالة على فضل الذِّكر، ورفيع قدره، وعلوِّ مكانته، وكثرةِ عوائده وفوائده على الذّاكرين الله كثيرًا والذّاكرات. فقد أخرج الترمذي، وابن ماجه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذّهبي، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبِّئُكم بخير أعمالِكم، وأزكاها عند مَليكِكم، وأرفعها في درَجاتِكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهبِ والورِق، وخيرٌ لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله"2. وروى مسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "سبق المُفرِّدون، قالوا: وما المُفرِّدون يا رسول الله؟ قال: الذّاكرون الله كثيراً والذّاكرات" 3.

_ 1 شعب الإيمان (رقم:508) ، الحلية (5/362) ، وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:5720) . 2 سنن الترمذي (رقم:3377) ، سنن ابن ماجه (3790) ، والمستدرك (1/496) ، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:2629) . 3 صحيح مسلم (رقم:2676) .

وروى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَثلُ الذي يذكُرُ ربَّه والّذي لا يذكرُ ربّه مثَلُ الحيِّ والميِّت"1. والأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ، ولعلّ من المناسب هنا والحديث ماضٍ بنا في فضل الذكر أن ألخِّص بعض ما ذكره أهلُ العلم من فوائد لذكر الله تعالى يَجنيها الذّاكرون في حياتهم الدُّنيا ويوم القيامة، ومن أحسن من رأيتُه تكلَّم في هذا الموضوع وجمع أطرَافَه، ولمَّ شَتاتَه الإمامُ العلاّمةُ ابن القيِّم رحمه الله في كتابه العظيم الوابل الصيِّب من الكَلِمِ الطيِّب، وهو مطبوعٌ طبعاتٌ كثيرةٌ، ومُتَداوَلٌ بين أهل العلم وطلاّبه، فقد قال رحمه الله في كتابه المذكور2: وفي الذِّكر أكثرُ من مائة فائدة ... ، ثمّ أخذ يعدِّد فوائد الذِّكر، فذكر ما يزيد على السبعين فائدة، كلُّ واحدة منها بمفردها كافيةٌ لحفز النُّفوس وتحريك الهِمم للاشتغال بالذِّكر، كيف وقد اجتمعت تلك الفوائد الكُثار والعوائد الغِزار، والأمر فوق ما يصفه الواصفون، ويعدُّه العادُّون {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهْمْ مِن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6407) . (ص:84) . 3 سورة السَّجدة، الآية: (17) .

ولعلّي أذكر لك أخي المسلم هنا فائدةً واحدةً من فوائد الذِّكر مما ذكره رحمه الله، على أن أستكمل لك بعض هذه الفوائد إن شاء الله، مع وصيَّتي لك باقتناء الكتاب المذكور والانتفاع به، فهو حقًّا كتابٌ عظيم النَّفع، كبيرُ الفائدة. ـ فمن فوائد الذِّكر: أنّه يطردُ الشيطان ويقمعُه ويكسِرُه1، يقول الله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 2، ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} 3. وثبت في مسند الإمام أحمد، وسنن الترمذي، ومستدرك الحاكم وغيرها بإسناد صحيح، من حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " إنّ اللهَ سبحانه أمر يحيى بن زكريّا بخمس كلمات، أن يعمل بها، ويأمُرَ بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنّه كاد أن يُبطّئ بها، فقال له عيسى عليه السلام: إنّ الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمُرَ بني إسرائيل أن يعملوا بها فإمّا أن تأمرهم وإمّا أن آمُرَهم. فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يُخسفَ بي أو أعذب، فجمع النّاسَ في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وقعدوا على الشُّرَف، فقال: إنّ اللهَ أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهنَّ وآمرَكم أن تعملوا بهنَّ ... "4.

_ 1 انظر: الوابل الصيّب (ص:84) . 2 سورة الزُّخرف، الآية: (36) . 3 سورة الأعراف، الآية: (201) . 4 المسند (4/202) ، سنن الترمذي (رقم:2863) ، المستدرك (1/117، 118، 421) ، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:1724)

فذكر أمرَهم بالتوحيد، والصلاة، والصيام، والصّدقة، ثمّ ذكر الخامسةَ فقال: "وآمُرُكم أن تذكروا اللهَ، فإنّ مَثَلُ ذلكَ كمَثَلِ رجُلٍ خرج العدوُّ في أثَرِه سراعاً حتى إذا أتى على حِصنٍ حصينٍ فأحرز نفسَه منهم، كذلك العبدُ لا يحرزُ نفسَه من الشَّيطان إلاّ بذكر الله تعالى ... "، إلى آخر هذا الحديث العظيم. وقد وصفه العلاّمةُ ابن القيِّم رحمه الله بأنَّه حديث عظيمُ الشَّأن، وينبغي لكلِّ مسلم حِفظُهُ وتعقُّلُه1. فهذا الحديث مشتملٌ على فضيلةٍ عظيمةٍ للذِّكر، وأنّه يطرُد الشيطان، ويُنجي منه، وأنّه بمثابَة الحِصن الحصين والحِرز المكين الّذي لا يحرزُ العبدُ نفسَه من هذا العدوِّ اللّدود إلاّ به، وهذه ولا ريب فضيلة عظيمة للذِّكر؛ ولهذا يقول ابن القيّم رحمه الله: "فلو لم يكن في الذّكر إلاّ هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقًا بالعبد أن لا يفتُرَ لسانُه من ذكر الله تعالى، وأن لا يزال لهِجا بذكره، فإنّه لا يحرز نفسه من عدوِّه إلاّ بالذِّكر، ولا يدخل عليه العدوُّ إلاّ من باب الغفلة، فهو يرصُدُه، فإذا غفل وثب عليه وافترسَه، وإذا ذكرَ اللهَ تعالى انخنس عدوُّ الله وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع وكالذّباب، ولهذا سُمِّيَ (الوسواسُ الخنَّاس) ، أي: يوسوس في الصدور فإذا ذكرَ الله تعالى خنس أي كفَّ وانقبضَ.

_ 1 الوابل الصيّب (ص:31) .

وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: الشَّيطان جاثِمٌ على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله تعالى خنَس"1. فنسأل الله تعالى أن يعيذنا من شرِّ الشيطان وشِركِه، ومن همزِه ونَفخِه ونفثِه، إنّه سميعٌ مجيبٌ قريبٌ.

_ 1 الوابل الصيب (ص:72) .

من فوائد الذكر

مِن فوائد الذِكر لايزال الحديث موصولاً في بيان فوائد الذِّكر، وقد مرَّ معنا فيما سبق ذكرُ فائدةٍ واحدةٍ له وهي: أنّه حِرزٌ لصاحبه من الشيطان، فمن خلى من الذِّكر لازمه الشَّيطان ملازمة الظِّلِّ، والله يقول: {ومَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 1 ولا يستطيع العبدُ أن يُحْرِزَ نفسه من الشيطان إلاّ بذكر الله تعالى، وهذه فائدةٌ جليلةٌ من فوائد الذِّكر العديدة. وكما مرَّ بنا فإنّ الإمام العلاّمة ابن القيِّم رحمه الله عدّ في كتابه القيِّم الوابلُ الصّيِّب ما ينيف على السَّبعين فائدة للذِّكر، ونستكمل هنا بعضَ تلك الفوائد العظيمة، ممّا أورده رحمه الله في كتابه المُشار إليه آنفا2. ـ فمن فوائد ذكر الله العظيمة: أنّه يجلُبُ لقلب الذَّاكر الفرَحَ والسرورَ والرَّاحةَ، ويورثُ القلبَ السكونَ والطُّمأنينةَ، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} 3، ومعنى قوله تعالى: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} أي: يزول ما فيها من قلقٍ أو اضطراب، ويكون فيها بدَلَ ذلك الأنسُ والفرحُ والرَّاحة، وقوله: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} أي: حقيقٌ بها وحَرِيٌّ أن لا تطمئنَّ

_ 1 سورة الزخرف، الآية: (36) . 2 وانظر: الوابل الصيب (ص:84 ـ 100) و (ص:145) . 3 سورة الرعد، الآية: (28) .

لشيءٍ سوى ذكره تبارك وتعالى. بل إنّ الذكرَ هو حياةُ القلب حقيقةً، وهو قوتُ القلب والرّوح، فإذا فقده العبدُ صار بمنزلة الجسم إذا حيلَ بينَه وبين قوتِه، فلا حياةَ للقلب حقيقةً إلاّ بذكر الله، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الذِّكرُ للقلب مثلُ الماء للسَّمك، فكيف يكون حالُ السَّمك إذا فارق الماء"1. ـ ومن فوائد ذكر العبد لِلَّه: أنّه يورثُه ذكرَ الله له، كما قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} 2. وفي الصّحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربِّه تبارك وتعالى: "من ذكرَني في نفسِه ذكرتُه في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خيرٍ منهم" 3. ـ ومن فوائده: أنّه يحطُّ الخطايا ويُذهبُها، ويُنجّي الذّاكرَ من عذاب الله، ففي المسند عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عمل آدميٌّ عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله تعالى"4. ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّه يترتّبُ عليه من العطاء والثّواب والفضل ما لا يترتَّبُ على غيره من الأعمال، مع أنَّه أيسرُ العبادات؛ فإنَّ حركة

_ 1 انظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص:85) . 2 سورة البقرة، الآية: (152) . 3 صحيح البخاري (رقم:7405) ، وصحيح مسلم (رقم:2675) . 4 المسند (5/239) ، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم5644) .

اللسان أخفُّ حركات الجوارح وأيسرُها، ولو تحرّك عضو من الإنسان في اليوم والليلة بقدر حركة لسانه لشقّ عليه غاية المشقّة، بل لا يمكنُه ذلك، ومع هذا فالأجور المترتِّبة عليه عظيمةٌ والثّوابُ جزيلٌ. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ في يومٍ مائة مرّة كانت له عدلُ عشر رقاب، وكُتبت له مائة حسنة، ومُحيت عنه مائة سيِّئة، وكانت له حِرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل ممّا جاء به إلاّ رجلٌ عمل أكثر منه"1. وفي الصّحيحين أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " من قال سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرّة حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زَبَدِ البحر"2. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأَن أقول سبحان الله، والحمدُ لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر أحبُّ إليَّ ممّا طلعت عليه الشّمسُ "3، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّه غِراسُ الجنَّة، فالجنّة كما جاء في الحديث قيعانٌ، وهي طيِّبةُ التُّربة، عذبة الماء، وغِراسُها ذكرُ الله، فقد روى الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال

_ 1 صحيح البخاري (رقم:3293،6403) ، وصحيح مسلم (رقم:2691) . 2 صحيح البخاري (رقم:6405) ، وصحيح مسلم (رقم:2691) . 3 صحيح مسلم (رقم:2695) .

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقيتُ ليلةَ أُسريَ بي إبراهيمَ الخليل عليه السلام فقال: يا محمّد أَقرئ أُمَّتك منّي السلام، وأخبِرهُم أنّ الجنّة طيِّبةُ التُّربة، عذبةُ الماء، وأنّها قيعانٌ، وأنَّ غِراسَها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر"، قال الترمذي: حديث حسنٌ غريبٌ من حديث ابن مسعود1. ورواه الإمامُ أحمد من حديث أبي أيُّوب الأنصاري رضي الله عنه، ولفظه: " أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به مرَّ على إبراهيم فقال: مَنْ معك يا جبريلُ؟ قال: هذا محمّد، فقال له إبراهيم: مُرْ أمتك فليُكثروا من غِراس الجنّة، فإنّ تربتَها طيِّبة وأرضَها واسعةٌ، قال: وما غِراسُ الجنَّة؟ قال: لا حول ولا قوَّةَ إلاّ بالله". فهذا شاهدٌ للحديث الّذي قبله2. وروى الترمذي من حديث أبي الزُّبير، عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال: سبحان الله وبحمده، غُرِست له نخلةٌ في الجنَّة"، قال الترمذي: حديث حسن صحيح3. ورواه الإمامُ أحمد من حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "من قال: سبحان الله العظيم، نبت له غرسٌ في الجنّة"4.

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3462) ، وحسنه الألباني بما له من الشواهد في السلسلة الصحيحة (رقم:105) . 2 المسند (5/418) . 3 سنن الترمذي (رقم:3465) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم:6429) . 4 المسند (3/440) .

ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّه يكون نورًا للذَّاكر في الدنيا، ونورًا له في قبره، ونورًا له في مَعَاده، يسعى بين يديه على الصِّراط، فما استنارَت القلوبُ والقبورُ بمثل ذكر الله تعالى. قال اللهُ تعالى: {أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} 1. فالأوّل: هو المؤمن، استنار بالإيمان بالله ومحبَّته ومعرِفتِه وذكرِه. والآخرُ: هو الغافلُ عن الله تعالى، المعرِضُ عن ذكره ومحبَّته. والشَّأنُ كلُّ الشَّأن والفلاحُ كلُّ الفلاح في النّور، والشَّقاءُ كلُّ الشَّقاءِ في فَواتِه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ من سُؤال الله تبارك وتعالى ذلك بأن يجعَلَه في كلِّ ذرّاته الظّاهرة والباطنة، وأن يجعلَه محيطًا به من جميع جهاته، وأن يجعل ذاتَه وجملَتَه نوراً. فقد خرّج مسلمٌ في صحيحه من حديث عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما في ذكر دعاء النَّبيّ صلى الله عليه وسلم باللّيل قال: "وكان في دعائه اللهمّ: اجعلْ في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخَلْفي نوراً، وعظِّم لي نوراً "، قال كُرَيب ـ أَحَدُ رواة الحديث ـ: وسبعًا في التَّابوت. فلَقيتُ بعضَ ولَد العبّاس فحدّثني بهنَّ، فذكر: عصبي، ولحمي، ودمي، وشعري، وبشَري، وذكر خصلتين2.

_ 1 سورة الأنعام، الآية: (122) . 2 صحيح مسلم (رقم:763) .

فالذِّكرُ نورٌ لِقلب الذَّاكر ووجهِه وأعضائِه، ونورٌ له في دنياه وفي البرزخ وفي يوم القيامة. ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّه يوجبُ صلاةَ الله عز وجل وملائكتِه على الذّاكر، ومن صلَّى اللهُ عليه وملائِكتُه فقد أفلح كلَّ الفلاح، وفاز كلَّ الفوز، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينِ رَحِيماً} 1.

_ 1 سورة الأحزاب، الآية: (41،42،43) .

فوائد أخرى للذكر

3/ فوائدُ أخرى للذكر نواصل الحديثَ في عدِّ بعض فوائد الذِّكر، وذكر شيءٍ من منافعه وعوائده على الذَّاكرين في الدنيا والآخرة؛ وذلك من خلال ما ذكره الإمام العلاّمة ابن القيِّم رحمه الله في كتابه الوابل الصيِّب1. ـ فمِن فوائده: أنّ الذِّكر سببٌ لتصديق الرّبِّ عز وجل عبدَه، فإنّ الذَّاكرَ يُخبرُ عن الله تعالى بأوصاف كماله ونُعوت جلاله، فإذا أخبر بها العبدُ صدَّقه ربُّه، ومن صدّقه اللهُ تعالى لم يُحشَر مع الكاذبين، ورُجي له أن يُحشر مع الصّادقين. روى ابن ماجه، والترمذي، وابن حبّان، والحاكم، وغيرُهم عن أبي إسحاق، عن الأغرّ أبي مسلم، أنّه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنّهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "إذا قال العبدُ: لا إله إلاّ الله والله أكبر، قال: يقول الله تبارك وتعالى: صَدَقَ عبدي لا إله إلاّ أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده، قال: صدق عبدي لا إله إلاّ أنا وحدي، وإذا قال: لا إله إلا الله لا شريك له، قال: صدق عبدي لا إله إلاّ أنا لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملكُ وله الحمدُ، قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا لي الملكُ ولي الحمدُ، وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوَّة إلاّ بالله، قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوَّة إلاّ بي". ثمّ قال الأغرُّ شيئًا لم أفهمه، قلتُ لأبي جعفر: ما قال؟ قال:

_ 1 انظر: الوابل الصيب (ص:160،164،142،143،144،132،153،154)

"من رُزِقَهُنَّ عند موته لم تمسَّه النَّار". وقال الترمذي حديث حسن، وصحّحه الحاكم ووافقه الذّهبي، وقال الشيخ الألباني حفظه الله: وهو حديث صحيح1. ـ ومن فوائده: أنّ كثرةَ ذكر عز وجل وسلم أمانٌ من النِّفاق، فإنّ المنافقين قليلو الذِّكر لله عز وجل، قال الله تعالى في المنافقين: {وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً} 2. قال كعب: "من أكثر ذكرَ الله عز وجل برئ من النِّفاق". ولعلّه لأجل هذا ختم اللهُ سورة المنافقين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} 3. فإنّ في ذلك تحذيرًا من فتنة المنافقين الّذين غَفَلوا عن ذكر الله عز وجل فوقَعُوا في النِّفاق والعياذُ بالله. وقد سُئِل عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه عن الخوارج: منافقون هم؟ فقال: "المنافقون لا يذكرون اللهَ إلاّ قليلاً". فهذا من علامة النِّفاق، قلَّةُ ذكر الله عز وجل، وعلى هذا فكثرة ذكره تعالى أمانٌ من النِّفاق، واللهُ عز وجل أكرمُ مِن أن يبتلي قلبًا ذاكرًا بالنِّفاق، وإنّما ذلك لقلوب غفلت عن ذكر الله عز وجل.

_ 1 سنن ابن ماجه (3794) ، وسنن الترمذي (رقم:3430) ، وصحيح ابن حبان (رقم:851) ، ومستدرك الحاكم (1/5) ، والسلسلة الصحيحة (رقم:1390) . 2 سورة النساء، الآية: (142) . 3 سورة المنافقون، الآية: (9) .

ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّه شفاءٌ للقلب، ودواءٌ لأمراضه، قال مكحول بن عبد الله رحمه الله: "ذكرُ الله تعالى شفاء، وذكرُ النّاس داء". ثمّ إنَّ الذِّكرَ أيضا يُذهبُ قسوةَ القلب، ففي القلب قسوةٌ لا يُذيبُها إلاّ ذكرُ الله تعالى، جاء إلى الحسنِ البصري رحمه الله رجلٌ فقال: يا أبا سعيد: أشكو إليك قسوةَ قلبي، قال: "أَذِبْهُ بالذِّكر". ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّ الذَّاكرَ قريبٌ من مذكوره، ومذكورُه معه، وهذه المعيَّةُ معيَّةٌ خاصةٌ غيرُ معيَّة العلم والإحاطة العامّة، فهي معيَّةٌ بالقرب والولاية والمحبَّة والنُّصرة والإعانة والتَّوفيق، كقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 1، وقولِه: {وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} 2، وقوله: {وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} 3، فالذَّاكرُ له من هذه المعيَّة النَّصيبُ الوافر، كما في الحديث الإلهي: "أنا مع عبدي ما ذكَرني وتحرَّكَتْ بي شفَتاه"، رواه البخاري تعليقاً، وأحمد، وابن ماجه، والحاكم، وغيرُهم4. ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّه جَلاَّب للنِّعم، دافعٌ للنِّقم، فما استُجلِبت نعمة ولا استُدفِعت نِقمَة بمثل ذكر الله عز وجل، قال اللهُ تعالى: {إِنّ اللهَ

_ 1 سورة النحل، الآية: (128) . 2 سورة البقرة، الآية: (249) . 3 سورة العنكبوت، الآية: (69) . 4 صحيح البخاري (8/572) ، والمسند (2/540) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3792) ، ومستدرك الحاكم (1/496) .

يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} 1، فدفاعُه تبارك وتعالى عنهم هو بحسَب قوَّة إيمانهم وكماله، ومادَّةُ الإيمان وقوَّتُه ذكرُ الله تعالى، فمن كان إيمانُه أكملَ، وذكرُه لله أكثرَ كان نصيبُه من دفاع الله عنه أعظمَ وحظُّه منه أوفرَ، ومن نَقَصَ نَقَص، ذِكْرًا بذكرٍ ونسيانًا بنسيانٍ. ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّ إدامته تنوبُ عن الطّاعات، وتقوم مقامها سواءً كانت بَدَنيَّةً أو ماليّةً، أو بدنيَّةً ماليَّةً كحجِّ التَّطوُّع. وقد جاء ذلك صريحاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ذهب أهلُ الدُّثور بالأجور والنَّعيم المُقيم، يُصلّون كما نُصلّي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضلُ أموالهم يحُجُّون بها ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدَّقون، فقال: ألا أُعلِّمُكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدَكم، ولا أحدٌ يكون أفضلَ منكم إلاّ من صنع ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: تسبِّحون وتحْمدون وتكبِّرون خلف كلِّ صلاة ... " إلى آخر الحديث، وهو متّفق عليه2. فجعل الذِّكر عوضًا لهم عما فاتهم من الحج والعمرة والجهاد، وأخبر أنَّهم يسبقونهم بهذا الذِّكر، فلما سمع أهلُ الدُّثور بذلك عملوا به، فازدادوا إلى صَدّقتهم وعبادتهم بمالِهم التعبُّدَ بهذا الذِكر، فحازوا الفضيلتين، فنافسهم الفقراء، وأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنَّهم قد شاركوهم في ذلك، فانفردوا عنهم بما لا قدرة لهم عليه، فقال عليه

_ 1 سورة الحج، الآية: (38) . 2 صحيح البخاري (رقم:843) ، وصحيح مسلم (رقم:1006) .

الصلاة والسلام: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ". وفي حديث عبد الله بن بُسر رضي الله عنه الذي خرّجه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وغيرهم قال: جاء أعرابيٌّ فقال: يا رسول الله كثُرت عليّ خلالُ الإسلام وشرائعه، فأخبرني بأمرٍ جامعٍ يكفيني. قال: "عليك بذكر الله تعالى". قال: ويكفيني يا رسول الله؟ قال: "نعم، ويفضل عنك"1. فدلّه الناصح صلى الله عليه وسلم على شيء يعينه على شرائع الإسلام والحِرص عليها، والاستكثار منها، فإنَّه إذا اتّخذ ذكرَ الله تعالى شعارَه، أحبّه وأحبَّ ما يحبّ، فلا شيء أحبُّ إليه من التقرّب بشرائع الإسلام، فدلّه صلى الله عليه وسلم ما يتمكّن به من شرائع الإسلام، وتسهلُ به عليه، فالذِّكرُ من أكبرِ العونِ على طاعة الله، فإنَّه يحبّبُها إلى العبد ويسهِّلها عليه، ويلذِّذُها له بحيث لا يجد لها من الكلفة والمشقة والثقل ما يجده الغافلُ، ثم هو أيضاً يسهل الصعبَ، وييسِّرُ العسيرَ، ويخفّفُ المشاقَّ، فما ذُكر اللهُ على صعبٍ إلا هانَ، ولا على عسيرٍ إلا تيسَّرّ، ولا مشقّةٍ إلا خفَّت، ولا شدّةٍ إلا زالت، ولا كُربَةٍ إلا انفرجت، فذكرُ الله هو الفرجُ بعد الشدّةِ، واليسرُ بعد العسرِ، والفرحُ بعد الغمِّ، فاللهم إياك نسأل، وبأسمائك وصفاتكَ نتوسّل أن تجعلنا من عبادِك الذاكرين، وأن تعيذَنا برحمتكَ من سبيل المُعرِضين الغافلين، إنَّك على كلِّ شيء قدير.

_ 1 سنن الترمذي (رقم:) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3793) ، ومستدرك الحاكم (1/495) .

فضل مجالس الذكر

4/ فضلُ مجالس الذكر لقد مرّ معنا شيءٌ يسيرٌ من فوائد الذِّكر، وأنَّها كثيرةٌ لا تُحصى، وعديدةٌ لا تُستقصى، يعجز عن إحصائها المحصون، ولا يقدر على عدّها العادون، ولا يحيط بها إنسانٌ، ولا يُعبِّر عنها لسانٌ، كيف لا وهو من أجلِّ القُرُبات، وأفضل الطّاعات. وكم للذِّكر من فوائد مغدقةٍ، وثمار يانِعةٍ، وجنى لذيذٍ، وأكلٍ دائمٍ، وخيرٍ مستمرٍّ في الدنيا والآخرة. ومجالسُ الذِّكر هي أزكى المجالس وأشرَفُها، وأنفعُها وأرفعُها، وهي أعلى المجالس قدراً عند الله، وأجلُّها مكانةً عنده. وقد ورد نصوصٌ كثيرةٌ في فضلِ مجالس الذِّكر، وأنّها حياةٌ للقلوب، ونماءٌ للإيمان، وصلاحٌ وزكاءٌ للعبد، بخلاف مجالس الغفلة الّتي لا يقوم منها الجالسُ إلاّ بنقصٍ في الإيمان، ووَهاءٍ في القلب، وكانت عليه حسرةٌ وندامة. وكان السَّلفُ رحمهم الله يهتمّون بهذه المجالس أعظمَ الاهتمام، ويعتنون بها غاية العناية، كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يأخذ بيد النفر من أصحابه فيقول: "تعالوا نؤمن ساعةً، تعالوا فلنذكُر الله، ونزدادُ إيماناً بطاعته، لعلّه يذكرُنا بمغفرته". وكان عُمير بن حبيب الخطميُّ رضي الله عنه يقول: "الإيمان يزيد وينقص، فقيل وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه وسبَّحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا وضيَّعنا ونسينا فذلك

نقصانه"، والآثار عنهم في هذا المعنى كثيرةٌ1. إنَّ مجالسَ الذِّكر هي رياضُ الجنّة في الدنيا، روى الإمام أحمدُ والترمذي وغيرُهما، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مررتم برياض الجنّة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنّة؟ قال: حِلَقُ الذِّكر "2. ورواه ابن أبي الدنيا والحاكم وغيرُهما، من حديث جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيُّها النَّاس ارتعوا في رياض الجنّة، قلنا: يا رسول الله وما رياض الجنّة؟ قال: مجالس الذِّكر"، ثمّ قال: "اغدوا وروحوا واذكروا، فمن كان يحبُّ أن يعلم منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلةُ الله تعالى عنده، فإنّ الله تعالى يُنزل العبدَ منه حيث أنزله من نفسه"3. وهو حسنٌ بهذين الطريقين المذكورين4. قال ابن القيِّم رحمه الله: "من شاء أن يسكن رياض الجنّة في الدنيا فليستوطن مجالس الذِّكر، فإنّها رياض الجنّة"5. ومجالس الذِّكر هي مجالسُ الملائكة، فليس من مجالس الدنيا لهم

_ 1 سنن الترمذي (رقم:) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3793) ، ومستدرك الحاكم (1/495) . 1 انظر كثيراً من هذه الآثار مخرّجة في كتاب "زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه" لعبد الرزاق البدر (ص:106 وما بعدها) . 2 المسند (3/150) ، وسنن الترمذي (رقم:3510) . 3 المستدرك (1/494) . 4 وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (رقم:2562) . 5 الوابل الصيب (ص:145) .

مجلسٌ إلا مجلسٌ يُذكرُ اللهُ تعالى فيه كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لله ملائكةً فُضُلاً، يطوفون في الطُّرق يلتمسون أهل الذِّكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تعالى تنادوا: هلُمُّوا إلى حاجتكم، قال: فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السّماء الدنيا، قال: فيسألُهم ربُّهم تعالى وهو أعلمُ بهم: ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يُسبِّحونك ويكبِّرونك ويحمدونك ويمجّدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: فيقولون: لو رأوك كانوا أشدَّ لك عبادة، وأشدَّ لك تحميداً وتمجيداً، وأكثرَ لك تسبيحاً، قال: فيقول: ما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنّة، قال: فيقول: هل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا ربّ ما رأوها، قال: فيقول: فكيف لو أنّهم رأوها؟ قال: يقولون: لو أنّهم رأوها كانوا أشدَّ عليها حِرصاً، وأشدَّ لها طلبًا، وأعظمَ فيها رغبةً، قال: فيقول: فممَّ يتعوّذون؟ قال: من النار، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا ربّ ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشدَّ منها فراراً، وأشدَّ لها مخافةً، قال: يقول: فأشهدُكم أنّي قد غفرتُ لهم. قال: فيقول ملكٌ من الملائكة: فيهم فلانٌ ليس منهم، إنَّما جاء لحاجة، قال: همُ الجلساءُ لا يشقى بهم جليسُهم"1. فمجالس الذِّكر مجالسُ الملائكة، ومجالس اللّغو والغفلة مجالس الشَّياطين، وكلٌّ مضاف إلى شكله، وكلُّ امرئ يصير إلى ما يناسبه،

_ 1 سنن الترمذي (رقم:) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3793) ، ومستدرك الحاكم (1/495) . 1 صحيح البخاري (رقم:6408) ، وصحيح مسلم (رقم:2689) .

فليختر العبدُ أعجبهما إليه، وأولاهما به، والذَّاكر يسعد به جليسه بخلاف الغافل واللاغي فإنّه يشقى به جليسه ويتضرّر1. ومجالسُ الذِّكر تُؤمِّنُ العبدَ من الحسرة والنّدامة يوم القيامة، بخلاف مجالس اللهو والغفلة، فإنَّها تكون على صاحبها حسرةٌ وندامةٌ يوم القيامة، فقد روى أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قعدَ مقعدًا لم يذكُر اللهَ تعالى فيه، كانت عليه من اللهِ تعالى تِرَةٌ، ومن اضطجع مضطجعًا لا يذكر اللهَ فيه كانت عليه من الله تعالى تِرَة"2، أي: نقصٌ وتبعةٌ وحسرةٌ. ومن شرَف مجالس الذِّكر وعلوِّ مكانها عند الله، أنَّ الله عز وجل يُباهي بالذَّاكرين ملائكته، كما روى مسلمٌ في صحيحه، عن أبي سعيد الخدري قال: خرج معاويةُ على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكرُ اللهَ تعالى. قال: آللهِ ما أجلسكم إلاّ ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلاّ ذاك، قال: أما إنّي لم أستحْلِفْكم تُهمَةً لكم، وما كان أحدٌ بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلَّ عنه حديثًا منّي، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: "ما أجلسكم؟ "، قالوا: جلسنا نذكرُ اللهَ تعالى ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا. قال: "آللهِ ما أجلسكم إلاّ ذاك؟ "، قالوا: والله ما أجلسنا إلاّ ذاك، قال: "أما إنّي لم أستحْلِفْكم تُهمَةً لكم، ولكنَّه أتاني جبريل فأخبرني أنَّ الله تبارك يُباهي بكم الملائكة"3.

_ 1 سنن الترمذي (رقم:) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3793) ، ومستدرك الحاكم (1/495) . 1 انظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص:146 ـ 148) . 2 سنن أبي داود (رقم:4856) ، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم:87) . 3 صحيح مسلم (رقم:2701) .

فهذه المباهاةُ من الرّبِّ دليلٌ على شرف الذِّكر عند الله، ومحبّته له، وأنّ له مزيّةً على غيره من الأعمال1. ومجالس الذِّكر سببٌ لنزول السّكينة، وغِشيان الرَّحمة، وحفوف الملائكة بالذَّاكرين فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي مسلم الأغرّ، قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنّهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لايقعد قومٌ في مجلس يذكرون اللهَ فيه إلاّ حفَّتهم الملائكة، وغَشِيتهمُ الرَّحمة، ونزلت عليهم السّكينة، وذكرهم اللهُ فيمن عنده"2. ومجالس الذِّكر سببٌ عظيم من أسباب حفظ اللِّسان، وصونه عن الغِيبة والنَّميمة، والكذب والفُحش والباطل، فإنّ العبدَ لا بُدَّ له من أن يتكلّم، فإن لم يتكلّم بذكر الله تعالى وذكر أوامره وبالخير والفائدة، تكلّم ولا بُدَّ بهذه المحرّمات أو بعضها، فمن عوّد لسانه على ذكر الله، صان لسانَه عن الباطل واللّغو، ومن يَبَسَ لسانُه عن ذكر الله نطق بكلِّ باطل ولغوٍ وفحش3. واللهَ المسئول أن يعمرَ أوقاتنا وأوقاتكم بطاعته، وأن يشغلنا مجالسنا ومجالسكم بذكره وشكره وحُسن عبادته، وأن يقيَنا من مجالس الغفلة واللهو والباطل، فإنهّ خير مسئول، وهو وحده المستعان، ولا حول ولا قوَّة إلاّ به.

_ 1 سنن الترمذي (رقم:) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3793) ، ومستدرك الحاكم (1/495) . 1 انظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص:148،149) . 2 صحيح مسلم (رقم:2700) .

ذكر الله هو أزكى الأعمال وأفضلها

5/ ذِكرُ الله هو أزكى الأعمال وأفضلُها إنَّ ذكرَ الله جلَّ وعلا هو أزكى الأعمال وخيرُها وأفضلُها عند الله تبارك وتعالى، ففي المسند للإمام أحمد، وسنن ابن ماجه، ومستدرك الحاكم، وغيرها من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُنبِّئُكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مَليكِكم، وأرفعها في درَجاتِكم، وخيرٌ لكم من إعطاء الذهبِ والورِق، وخيرٌ لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر عز وجل "1. فهذا الحديث العظيم أفاد فضيلة الذِّكر، وأنّه يعدل عتق الرِّقاب، ونفقة الأموال، والحمل على الخيل في سبيل الله عز وجل، ويعدل الضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل. قال ابنُ رجب رحمه الله: "وقد تكاثرت النّصوص بتفضيل الذِّكر على الصّدقة بالمال وغيره من الأعمال"2. ثمّ أورد حديث أبي الدرداء المتقدِّم، وجملة من الأحاديث الأخرى الدّالة على المعنى نفسه. وقد روى ابنُ أبي الدنيا كما في الترغيب والترهيب للمنذري3، وقال: إسناده حسن، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد قال: قيل

_ 1 المسند (5/195) ، سنن ابن ماجه (3790) ، والمستدرك (1/496) . وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:2629) . 2 جامع العلوم والحكم (ص:225) . (2/395) .

لأبي الدرداء: إنّ رجلا أعتق مائة نسَمة قال: "إنّ مائة نسَمة من مال رجل كثيرٌ، وأفضلُ من ذلك إيمانٌ ملزومٌ بالليل والنّهار وأن لا يزال لسانُ أحدكم رطباً من ذكر الله". فبيّن رضي الله عنه فضل عتق الرِّقاب وأنّه مع عظم فضله لا يعدل ملازمة الذِّكر والمداومة عليه، وقد جاء في هذا المعنى آثارٌ كثيرةٌ عن السَّلفِ رحمهم الله. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "لأَنْ أُسبِّح الله تعالى تسبيحات أحبُّ إليَّ من أن أُنفق عددهن دنانير في سبيل الله". وجلس عبد الله بن عمرو وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم فقال عبد الله ابن مسعود: لأَن آخذ في طريق أقول فيه: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر أحبُّ إليَّ من أن أنفق عددهن دنانير في سبيل الله عز وجل، فقال عبد الله بن عمرو: "لأن آخذ في طريق فأقولهنّ أحبُّ إليَّ من أن أحمل عددهنّ على الخيل في سبيل الله عز وجل ". وكذلك قال غيُر واحدٍ من الصحابة والتّابعين، إنّ الذِّكر أفضل من الصّدقة بعدده من المال1. والآثارُ في هذا المعنى عنهم كثيرةٌ، وهي لا تعني لا من قريب ولا من بعيد التّقليل من شأن النّفقة في سبيل الله، والحمل على الخيل في سبيله، وعتق الرِّقاب في سبيله، وإنَّما المرادُ بها تعليةُ شأن الذِّكر، وبيانُ عظيم قدره، ورِفعة مكانته، وأنّه لا يعدله شيءٌ من هذه الأمور، بل إنّ الأعمال كلَّها والطّاعات جميعها إنّما شرعت لإقامة ذكر الله،

_ 1 انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص:225،226) .

والمقصودُ بها تحصيل ذكر الله تعالى. ولهذا يقول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} 1، أي: أقم الصلاة لأجل ذكر الله جلّ وعلا، وهذا فيه تنبيهٌ على عظيم قدر الصلاة؛ إذ هي تضرُّعٌ إلى الله تعالى، وقيامٌ بين يديه، وسؤالٌ له تبارك وتعالى، وإقامةٌ لذكره. وعلى هذا فالصلاة هي الذِّكر، وقد سمّاها الله تعالى ذكراً، وذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ} 2، فسمّى الصّلاة هنا ذكراً؛ لأنّ الذِّكر هو روحُها ولُبُّها وحقيقتُها، وأعظمُ النّاس أجرًا في الصّلاة أقواهم وأشدُّهم وأكثرهم فيها ذكرًا لله تعالى. وهكذا الشّأنُ في كلِّ طاعة وعبادةٍ يتقرّب بها العبدُ إلى الله. روى الإمامُ أحمد، والطبراني من طريق عبد الله بن لهيعة، قال: حدّثنا زبّان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجُهني، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ رجلاً سأله فقال: أيُّ المجاهدين أعظمُ أجراً يا رسول الله؟ فقال: "أكثرهم لله ذكرًا". فقال: فأيُّ الصّائمين أكثرُهم أجراً؟ قال: "أكثرهم لله ذكرًا"، ثمّ ذكر الصّلاة والزكاة والحجّ والصّدقة، كلُّ ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثرُهم لله ذكرًا". فقال أبو بكر لِعُمر رضي الله عنهما: ذهب الذّاكرون بكلّ خير. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجَل "3.

_ 1 سورة طه، الآية: (14) . 2 سورة الجمعة، الآية: (9) . 3 المسند (3/438) ، والمعجم الكبير للطبراني (20/رقم:407) .

قال الهيثمي رحمه الله: "وفيه زبّان بن فائد وهو ضعيف وقد وُثِّق، وكذلك ابن لهيعة"1. اهـ. لكن له شاهدٌ مرسلٌ بإسناد صحيح، رواه ابن المبارك في الزُّهد قال: أخبرني حيوةُ قال: حدّثني زُهرة بنُ معبَد أنّه سمع أبا سعيد المقبُري يقول: قيل: يا رسول الله أيُّ الحاج أعظم أجرًا؟ قال: "أكثرهم لله ذكرًا"، قال: فأيُّ المصلّين أعظم أجرًا؟ قال: "أكثرهم لله ذكرًا"، قال: فأيّ الصّائمين أعظم أجراً؟ قال: "أكثرهم لله ذكراً"، قال: فأيُّ المجاهدين أعظمُ أجراً؟ فقال: "أكثرهم لله ذكرًا". قال زُهرة: فأخبرني أبو سعيد المقبُري: أنّ عمر بن الخطّاب قال لأبي بكر: ذهب الذّاكرون بكلِّ خير2. وله شاهدٌ آخر أورده ابن القيِّم في كتابه الوابل الصيِّب قال: وقد ذكر ابن أبي الدنيا حديثاً مرسلاً أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئل أيُّ أهل المسجد خير؟ قال: "أكثرهم ذكرًا لله عز وجل "، قيل: أيُّ أهل الجنازة خير؟ قال: "أكثرهم ذكرًا لله عز وجل "، قيل: فأيُّ المجاهدين خير؟ قال: "أكثرهم ذكرًا لله عز وجل "، قيل: فأيُّ الحُجّاج خير؟ قال: "أكثرهم ذكراً لله عز وجل "، قيل: وأيُّ العوّاد خير؟ قال: "أكثرهم ذكرًا لله عز وجل "، قال أبو بكر: ذهب الذّاكرون بالخيركلِّه3. فالحديث بشاهديه صالحٌ للاحتجاج إن شاء الله، ومعناه الّذي دلَّ

_ 1 مجمع الزوائد (10/74) . 2 الزهد (رقم:1429) . 3 الوابل الصيب (ص:152) .

عليه حقٌ لا ريب في صحّته. يقول ابن القيِّم رحمه الله: "إنّ أفضل أهل كلِّ عمل أكثرهم فيه ذكرًا لله عز وجل، فأفضلُ الصُّوَّام أكثرهم ذكرًا لله عز وجل في صومهم، وأفضل المتصدّقين أكثرهم ذكرًا لله عز وجل، وأفضلُ الحجّاج أكثرهم ذكرًا لله عز وجل، وهكذا سائر الأعمال"1، ثمّ أورد الحديث المتقدّم، وأورد عقبه عن عبيد بن عُمير رحمه الله أنّه قال: "إنْ أَعْظَمَكم هذا اللّيلُ أن تُكابدوه، وبَخِلتم بالمال أن تنفقوه، وجنبتم عن العدوِّ أن تقاتلوه، فأكثروا من ذكر الله عز وجل ". فذِكرُ الله تعالى هو أفضل الأعمال، وهو أكبر من كلِّ شيء، يقول الله جلّ وعلا: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ} 2، أي: ذكرُ الله لكم أكبرُ من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم، وهو ذاكرٌ مَن ذَكَرَه، قال معناه ابنُ مسعود وابن عبّاس وأبو الدرداء وأبو قرَّة وسلمانُ والحسنُ، واختاره ابن جرير الطبري. وقيل: ذِكْرُكُم الله في صلاتكم وفي قراءة القرآن أفضلُ من كلِّ شيء. قال ابن زيد وقتادة: ولَذِكرُ الله أكبرُ من كلِّ شيء، أي أفضل من العبادات كلُّها بغير ذكر. وقيل المعنى: إنّ ذكر الله أكبر مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الصّحيح أنّ معنى الآية أنّ الصّلاة فيها مقصودان عظيمان، وأحدهما أعظم من الآخر، فإنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي مشتملة على ذكر الله تعالى، ولِمَا

_ 1 الوابل الصيب (ص:152) . 2 سورة العنكبوت، الآية: (45) .

فيها من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر"1. اهـ كلامه رحمه الله. وقد سُئل سلمان الفارسي رضي الله عنه: "أيُّ الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ القرآن: ولذكرُ الله أكبر". وذكر ابن أبي الدنيا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه سُئل: أيُّ العمل أفضل؟ قال: "ذكرُ الله أكبر"2. فالله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، ملءَ سمواتِه، وملءَ أرضِه، وملءَ ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، لا ينقطع ولا يبيد ولا يفنى، عدد ما حمده الحامدون، وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون، عدد خلقه ورضا نفسه وزِنة عرشه ومِدادَ كلماته، وصلّى الله وسلّم على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

_ 1 نقله ابن القيم في الوابل الصيب (ص:152) . 2 وانظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص:149 ـ 153) .

فضل الإكثار من ذكر الله

6/ فضلُ الإكثار من ذكرِ الله لقد أمَرَ الله في كتابه عبادَه المؤمنين بالإكثار من ذكره قيامًا وقُعودًا وعلى الجنوب، بالليل والنّهار، وفي البرِّ والبحر، وفي السّفر والحضر، وفي الغنى والفقر، وفي الصّحة والسقم، وفي السّرِّ والعَلَن، وفي كلِّ حال، ورتّب لهم على ذلك جزيلَ الأجرَ، وعظيمَ الثّوابَ، وجميلَ المآبَ. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكْرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} 1. ففي هذه الآية الحثُّ على الإكثار من ذكر الله تعالى، وبيانُ ما يترتَّبُ على ذلك من أجرٍ عظيمٍ وخيرٍ عميمٍ، وقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ} فيه أعظمُ التّرغيب في الإكثار من ذكر الله، وأحسنُ حظٍ على ذلك، أي: أنّه سبحانه يَذْكُرُكُم فاذكروه أنتم، وهو نظيرُ قولِه تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعلِّمُكُمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} 2 فالجزاء من جنس العمل، فمن ذكر اللهَ في نفسه ذكره الله في نفسه، ومن ذكر الله في ملأٍ ذكره الله في ملأٍ خير منهم، ومن نسي الله نسيه الله.

_ 1 سورة الأحزاب، الآيات: (41 ـ 44) . 2 سورة البقرة الآية: (151،152) .

فالمكثرون من ذكر الله لهم الحظُّ الأوفر، والنَّصيب الأكمل من ذكر الله لهم، وصلاتِهِ عليهم وملائكتِهِ. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية أنّه قال: فإذا فعلتم ذلك ـ أي أكثرتم من ذكر الله ـ صلّى اللهُ عليكم هو وملائكتُه. وصلاةُ الله على عباده الذّاكرين له، هي ثناؤه عليهم في الملأ الأعلى عند الملائكة الكرام البررة، وصلاةُ الملائكة عليهم هي بمعنى الدعاء لهم والاستغفار، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كَلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ، رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} 1. وقد حكى البخاري في صحيحه عن أبي العالية رحمه الله، أنّه قال في معنى قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَملاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2 "صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة: الدعاء"3. ثمّ إنّ الله تبارك وتعالى بسبب رحمته بالذّاكرين الله كثيرًا، وثنائِهِ عليهم، ودعاءِ ملائكته لهم، يخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور، ولهذا قال:

_ 1 سورة غافر، الآيات: (7 ـ 9) . 2 سورة الأحزاب، الآية: (56) . 3 صحيح البخاري كتاب التفسير (6/326) .

{هُوَ الّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 1 من ظلمات الجهل والضّلال إلى نور الهدى واليقين، ثمّ قال تعالى: {وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} أي: في الدنيا والآخرة، أمّا في الدنيا فإنَّه هداهم إلى الحقِّ الّذي جهله غيرُهم، وبصّرهم الطريق الّذي ضلّ عنه وحاد عنه من سواهم من الدعاة إلى الكفر أو البدعة أو الباطل، وأمّا رحمته بهم في الآخرة فآمنهم من الفزع الأكبر، وأمر ملائكته يتلقّونهم بالبشارة بالفوز بالجنّة والنّجاة من النَّار، وما ذاك إلاّ لمحبّته لهم ورأفته بهم، جعلنا الله وإيّاكم منهم. ويقول الله تعالى في آية أخرى مبيِّنًا فضل الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات، منوِّهًا بشأنهم، معليًا لذكرهم، مبيِّنًا لعظيم أجرهم وثوابهم، {إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَالقَانِتِينَ وَالقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ واَلصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالخَاشِعِينَ وَالخَاشِعَاتِ وَالمُتَصَدِّقِينَ وَالمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّآئِمِينَ وَالصَّآئِمَاتِ وَالحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 2. أي: هيّأ لذنوبهم الصّفح والغفران، ولأعمالهم الصّالحة الأجرَ العظيم والدّرجات العالية في الجنان، ممّا لا عينٌ رأت، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب إنسان. إنّ الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات همُ المفرِدون السّابقون إلى الخيرات، المحظوظون بأرفع الدرجات وأعلى المقامات، روى مسلم في

_ 1 سورة الأحزاب، الآية: (43) . 2 سورة الأحزاب الآية: (35)

صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكّة فمرّ على جبل يقال له جُمْدان فقال: سيروا هذا جُمدان، سبق المفرّدون. قالوا: وما المفرِّدون؟ قال: الذَّاكرون الله كثيرًا والذّاكرات "1. وقد فسّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المفردين بأنّهم الذّاكرون الله كثيرًا والذّاكرات، وأصلُ المفردين كما يقول ابن قتيبة وغيره: الّذين هلك أقرانهم وانفردوا عنهم فبقوا يذكرون الله تعالى. إنّ من يتأمّلُ هذه النصوص وغيرها من النصوص الكثيرة الواردة في بيان عظيم أجر الذّاكرين الله كثيرًا والذّاكرات، وجزيل ثوابهم، وما أعدّ الله لهم من النّعيم المقيم، والثّواب الكبير يوم القيامة لتتحرّك نفسه شوقًا وطمعًا، ويهتزُّ قلبُه حبًّا ورغبًا في أن يكون من هؤلاء، أهلِ هذا المقام الرّفيع والمنزلة العالية. ولكن بما ينالُ العبدُ ذلك؟ وهذا سؤالٌ عظيم يجدر بكلِّ مسلم أن يقف عنده ويعرف جوابه، وقد جاء عن السّلف في معنى الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات نقولٌ عديدةٌ منها: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه قال: المراد: يذكرون الله في أدبار الصّلوات وغدوًّا وعشيًّا، وفي المضاجع، وكلّما استيقظ من نومه، وكلّما غدا أو راح من منزله ذكر الله تعالى. وقال مجاهد: "لا يكون من الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات حتّى يذكر الله قائما وقاعدًا ومضطجعًا".

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2676) .

وقال عطاء: "من صلّى الصّلوات الخمس بحقوقها فهو داخلٌ في قول الله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} 1" 2. ومن صفة هؤلاء: الصّلاةُ من الليل، فقد روى أبو داود وابن ماجه، والحاكم، وغيرهم، بإسناد صحيح، صحّحه الحاكم والذّهبي والنّووي والعراقي وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أيقظ الرّجل أهله من الليل فصلّيا أو صلّى ركعتين جميعاً كُتِبا من الذّاكرين الله كثيرًا والذّاكرات "3. وقد سُئل أبو عمرو بن الصّلاح فيما نقله النووي رحمه الله عنه في كتاب الأذكار عن القَدْر الذي يصير به العبد من الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات فقال: "إذا واظب على الأذكار المأثورة المُثبتة صباحًا ومساءً في الأوقات والأحوال المختلفة ليلاً ونهارًا، وهي مبيّنة في كتاب عمل اليوم والليلة، كان من الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات"4. ويقول الشيخ العلاّمة عبد الرّحمن بن سعدي رحمه الله: "وأقلُّ ذلك أن يلازم الإنسان أوراد الصّباح والمساء وأدبار الصّلوات الخمس وعند العوارض والأسباب، وينبغي مداومة ذلك في جميع الأوقات على جميع الأحوال، فإنَّ ذلك عبادة يسبق بها العامل وهو مستريح،

_ 1 سورة الأحزاب، الآية: (35) . 2 انظر: هذه الآثار في الأذكار للنووي (ص:9، 10) . 3 سنن أبي داود (رقم:1309) ، سنن ابن ماجه (رقم:1335) ، ومستدرك الحاكم (1/316) ، وصحح العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:6030) . 4 نقله النووي في الأذكار (ص:10) .

وداعٍ إلى محبّة الله ومعرفته، وعونٍ على الخير وكفِّ اللّسان عن الكلام القبيح"1. اهـ كلامه رحمه الله. وأسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى أن يجعلني وإيّاكم من الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات، ومن الذين أعدّ الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا، إنّه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.

_ 1 تيسير الكريم الرّحمن (6/112) .

تنوع الأدلة الدالة على فضل الذكر

7/ تنوّع الأدلّة الدّالة على فضل الذِكر مرّ معنا فضيلةُ الذِّكر وعظيمُ أجره، وبيان ما أعدّه الله لأهله من جميل الثّواب، وكريم المآب، وحُسن العاقبة، وهناءة العيش، ومرّ معنا شيءٌ يسيرٌ من فوائده العطِرة، وثماره الكريمة اليانعة، وعواقبه الحميدة في الدنيا والآخرة. ولمّا كان الذِّكر بهذه المنزلة الرّفيعة والدّرجة العالية، فإنّ دلالات النصوص المبيِّنة لفضله جاءت متنوِّعة، وكان مجيئه في القرآن الكريم على وجوه كثيرة، وهي بمجموعها وأفرادها تدلُّ على عظيم شأن الذِّكر وجليل قدره. وقد ذكر الإمام ابن القيِّم رحمه الله في كتابه مدارج السّالكين1: أنَّ الذِّكر ورد في القرآن الكريم على عشرة أوجه، ذكرها مجملة، ثمّ أورد بعد ذلك تفصيلها. قال رحمه الله: الأوّل: الأمرُ به مطلقاً ومقيّداً. الثاني: النّهي عن ضدّه من الغفلة والنسيان. الثالث: تعليق الفلاح باستدامته وكثرته. الرّابع: الثناء على أهله، والإخبار بما أعدّ الله لهم من الجنّة والمغفرة. الخامس: الإخبار عن خسران من لها عنه بغيره. السادس: أنّه سبحانه جعل ذكره لهم جزاءً لذكرهم له. السابع: الإخبار بأنّه أكبرُ من كلِّ شيء.

_ 1 انظره (2/424 وما بعدها) .

الثامن: أنّه جعله خاتمة الأعمال الصالحة، كما كان مفتاحها. التاسع: الإخبار عن أهله بأنّهم هم أهل الانتفاع بآياته، وأنّهم أولو الألباب دون غيرهم. العاشر: أنّه جعله قرين جميع الأعمال الصالحة وروحها، فمتى عدمته كانت كالجسد بلا روح. ثم قال رحمه الله في بيان تفصيل هذه الأوجه العشرة: ـ أمّا الأوّل: وهو الأمر به مطلقاً ومقيّداً، فكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهََ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} 1، وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضُرُّعاً وَخِيفَةً} 2. ـ وأمّا النهي عن ضدّه فكقوله: {وَلاَ تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ} 3، وقوله: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} 4. ـ وأمّا تعليق الفلاح بالإكثار منه فكقوله: {وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 5. ـ وأمّا الثناء على أهله وحسن جزائهم فكقوله: {إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله {وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ

_ 1 سورة الأحزاب، الآية: (41،42،43) . 2 سورة الأعراف، الآية: (205) . 3 سورة الأعراف، الآية: (205) . 4 سورة الحشر، الآية: (19) . 5 سورة الجمعة، الآية: (10) .

أَعَدَّ اللهُ لَهْمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 1. ـ وأمّا خسران من لها عنه فكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} 2. ـ وأمّا جعل ذكره لهم جزاء لذكرهم له، فكقوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونَ} 3، وذكر العبد لربِّه محفوف بذكرين من ربِّه له: ذكر قبله به صار العبد ذاكراً له، وذكر بعده به صار العبد مذكورًا، فذكر الربّ لعبده نوعان: نوعٌ قبل ذكر العبد لربِّه، ونوعٌ بعده. ـ وأمّا الإخبار عنه بأنّه أكبرُ من كلِّ شيء، فكقوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ} 4. ـ وأمّا ختم الأعمال الصالحة به، فكما ختم به عمل الصيام بقوله: {ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 5، وختم به الحجّ في قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكَمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكَمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} 6، وختم به الصلاة بقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللهَ

_ 1 سورة الأحزاب، الآية: (35) . 2 سورة المنافقون، الآية: (9) . 3 سورة البقرة، الآية: (152) . 4 سورة العنكبوت، الآية: (205) . 5 سورة البقرة، الآية: (185) . 6 سورة البقرة، الآية: (200) .

قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} 1، وختم به الجمعة بقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2، ولهذا كان خاتمة الحياة الدنيا، وإذا كان آخرُ كلام العبد أدخله الله الجنة. ـ وأمّا اختصاص الذّاكرين بالانتفاع بآياته، وهم أولو الألباب والعقول، فكقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِم} 3. ـ وأمّا مصاحبته لجميع الأعمال واقترانه بها وأنّه روحها، فإنّه سبحانه قرنه بالصلاة كقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} 4، وقرنه بالصيام وبالحج ومناسكه، بل هو روح الحج ولبِّه ومقصوده، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنّما جُعل الطواف بالبيت والسعيُ بين الصفا والمروة ورميُ الجمار لإقامة ذكر الله". وقرنه بالجهاد وأمر بذكره عند ملاقاة الأقران، ومكافحة الأعداء فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 5. فهذه وجوهٌ عشرةٌ ورد فيها الذِّكر في القرآن الكريم، وذُكِرَ لكلِّ

_ 1 سورة النساء، الآية: (103) . 2 سورة الجمعة، الآية: (10) . 3 سورة آل عمران، الآية: (191) . 4 سورة طه، الآية: (14) . 5 سورة الأنفال، الآية: (45) .

وجه منها بعضُ أمثلة من الآيات القرآنية، والقرآن الكريم مليءٌ بالآيات المندرجة تحت هذه الأنواع، وهي يسيرة الحصول، قريبة المتناول لمن قرأ القرآن الكريم وتدبّر آياته، وما أحسن وأروع ما قاله الإمامُ الشَّوكاني رحمه الله في سياق آخر وهو ينطبق على سياقنا هذا تمام الانطباق حيث قال رحمه الله: "واعلم أن إيراد الآيات القرآنية على إثبات كلِّ مقصد من هذه المقاصد لا يحتاج إليه من يقرأ القرآن العظيم، فإنّه إذا أخذ المصحف الكريم وقف على ذلك في أيِّ موضع شاء، ومن أيِّ مكان أحبَّ، وفي أيِّ محلٍ أراد، ووجده مشحوناً به من فاتحته إلى خاتمته"1. اهـ كلامه رحمه الله. بل إنَّ القرآن الكريم كلّه كتابُ ذكرٍ لله، فذكر الله تعالى هو لبُّ القرآن وروحُه وحقيقته وغايةُ مقصوده، يقول الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ} 2، وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 3، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهْمْ أَجْراً كَبِيراً} 4، وقال تعالى: {فَذِكِّرْ بِالقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيد} 5، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

_ 1 إرشاد الثقات (ص:4) . 2 سورة ص، الآية: (29) . 3 سورة ق، الآية: (37) . 4 سورة الإسراء، الآية: (9) . 5 سورة ق، الآية: (45) .

وقد سمّى الله سبحانه وتعالى كتابَه العزيز ذكرًا فقال: {وَهَذَاذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} 1، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2، وقال تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ} 3، وقال تعالى: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِن رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} 4، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 5، وقال تعالى: {ص وَالقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} 6، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 7.وفي هذا المعنى آيات كثيرة في القرآن الكريم. قال سفيان الثّوري رحمه الله: "سمعنا أنّ قراءة القرآن أفضلُ الذِّكر إذا عمل به"8. وروى الطبري بإسناده إلى عون بن عبد الله قال: أتينا أمّ الدرداء نتحدّث إليها، قال: ثمّ قلتُ: يا أمَّ الدرداء لعلّنا أمللناكِ؟ قالت: "أمللتموني والله، لقد التمستُ العبادة في كلِّ شيء فما وجدتُ شيئاً أشفى لنفسي من مجلس ذكرٍ، قال: ثمّ اختبأت، ثمّ

_ 1 سورة الأنبياء، الآية: (50) . 2 سورة النحل، الآية: (44) . 3 سورة آل عمران، الآية: (58) . 4 سورة الأعراف، الآية: (63) . 5 سورة الحجر، الآية: (9) . 6 سورة ص، الآية: (1) . 7 سورة فصلت، الآية: (41،42) . 8 أورد هذا الأثر والذي بعده القرطبي في التذكار في فضل الأذكار (ص:55،59) .

قالت لرجلٍ: اقرأ {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القَولَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 1 ") . رحم الله أمَّ الدرداء، ورحم الله السّلف الصّالح أجمعين، كيف حفظوا أوقاتهم وأعمارهم وعمروها بذكر الله وما يقرِّب إليه، ولم تتردّد رحمها الله عندما سألها: لعلّنا أمللناك؟ أن تقول: نعم أمللتموني والله، فهي الحافظة لوقتها الحريصة على كمال دينها وتمامه، فلله ما أزكاها من ألفاظٍ صادقة، وأنفاسٍ عَطِرة، وإيمانيّات مؤَثِّرة، وخير متدفّق، والله المستعان وهو حسبُنا ونعم الوكيل.

_ 1 سورة القصص، الآية: (51) .

ذم الغفلة عن ذكر الله

8/ ذمُّ الغفلة عن ذكرِ الله إنّ الله تبارك وتعالى لمّا أمر بذكره في القرآن الكريم، وحثَّ عليه ورغّب فيه في آيٍ كثيرةٍ منه، حذّر أيضا من الوقوع في ضدّه وهو الغفلة، إذ لا يتمُّ الذِّكرُ لله حقيقةً إلاّ بالتخلُّص من الغفلة والبعد عنها، وقد جمع الله بين هذين الأمرين في آية واحدة من القرآن ـ أعني الأمر بالذِّكر والنهي عن الغفلة ـ وذلك في قوله تعالى من آخر سورة الأعراف: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ} 1. والمراد بقوله في الآية {وَلاَ تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} أي: من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فإنهم حُرِموا خيري الدنيا والآخرة، وأعرضوا عن مَن كلُّ السعادة والفَوز في ذكره وعبوديّته، وأقبلوا على مَن كلُّ الشقاوة والخيبة في الاشتغال به، وفي الآية أمرٌ بالذكر والمواظبة عليه وتحذيرٌ من الغفلة عنه، وتحذيرٌ من سبيل الغافلين. والغفلةُ داءٌ خطير إذا اعترى الإنسان وتمكّن منه لم يشتغل بطاعة الله وذكره وعبادته، بل يشتغل بالأمور الملهية المبعدة عن ذكر الله، وإن عمل أعمالاً من الطّاعة والعبادة فإنّها تأتي منه على حال سيِّئة ووضع غير حسن، فتكون أعماله عاريةً من الخشوع والخضوع والإنابة والطُمأنينة والخشية والصّدق والإخلاص. ولهذا جاء في القرآن الكريم في مواطن كثيرة منه التحذيرُ منها

_ 1 سورة الأعراف، الآية: (205) .

وذمّها وبيان سوء عاقبتها، وأنّها من خصال الكافرين وصفات المنافقين المعرضين. يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ، لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْينٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} 1، ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 2، ويقول تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} 3، والآيات في هذا المعنى كثيرة. إنّ مَثَل الغافل عن ذكر الله مثَلُ الميِّت، وقد تقدّم معنا أنّ الذِّكر هو حياةً القلوب حقيقةً، فلا حياة لها بدونه، وحاجتها إليه أعظم من حاجة السّمك إلى الماء، فالقلب الذَّاكر هو القلب الحيّ، والقلب الغافل هو القلب الميِّت. وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَل الذي يذكر ربّه والذي لا يذكره مَثَلُ الحيِّ والميِّت". ولفظ مسلم: " مَثَل البيت الذي يُذكر الله فيه والبيت الذي لا يُذكر الله فيه مَثَلُ الحيِّ والميِّت"4. ففي هذا التمثيل كما يقول الشوكاني رحمه الله: "منقبةٌ للذَّاكر

_ 1 سورة الأعراف، الآية: (179) . 2 سورة يونس، الآية: (7) . 3 سورة الروم، الآية: (7) . 4 صحيح البخاري (رقم:6407) ، وصحيح مسلم (رقم:779)

جليلةٌ، وفضيلة له نبيلة، وأنّه بما يقع منه من ذكر الله عز وجل في حياةٍ ذاتيةٍ وروحيّةٍ لما يغشاه من الأنوار، ولما يصل إليه من الأجور، كما أنّ التارك للذِّكر وإن كان في حياةٍ ذاتيةٍ فليس لها اعتبارٌ بل هو شبيه بالأموات"1. لقد جعل النبيُّ الكريمُ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بيت الذَّاكر بمنزلة بيت الحيّ، وبيت الغافل بمنزلة بيت الميِّت وهو القبر، وفي اللّفظ الأوّل جعل الذّاكر نفسه بمنزلة الحيّ، والغافل بمنزلة الميِّت، فتضمّن الحديثُ بمجموع لفظيه أنّ القلب الذّاكر كالحيِّ في بيوت الأحياء، والقلب الغافل كالميّت في بيوت الأموات، وعلى هذا فإنّ أبدان الغافلين قبورٌ لقلوبهم، وقلوبهم فيها كالأموات في القبور، ولهذا قيل: فنسيان ذكر الله موت قلوبهم ... وأجسامهم قبل القبور قبورُ وأرواحهم في وحشة من جسومهم ... وليس لهم حتى النشور نشورُ وقيل: فنسيان ذكر الله موت قلوبهم ... وأجسامهم فهي القبور الدوارسُ وأرواحهم في وحشة من حبيبهم ... ولكنها عند الخبيث أوانسُ2 ولهذا صحّ في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم النهيُ عن جعل البيوت قبورًا، أي: لا يصلّى فيها ولا يذكر فيها الله تعالى. ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتّخذوها قبوراً"3.

_ 1 تحفة الذاكرين (ص:15) . 2 انظر: مدارج السالكين لابن القيم (2/429،430) . 3 صحيح البخاري (رقم:432) ، وصحيح مسلم (رقم:777) .

وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإنَّ الشيطان يفرُّ من البيت الذي يسمع سورة البقرة تُقرأ فيه"1. وفي سنن أبي داود وغيره بإسناد حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلّوا عليَّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم" 2. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في بيان معنى قوله: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا" قال: "أي لا تُعطِّلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحرّيها عند القبور عكس ما يفعله المشركون من النّصارى ومن تشبّه بهم"3. اهـ كلامه رحمه الله. ولَمَّا كان القلب بهذه المثابة يوصف بالحياة وضدّها انقسمت القلوب بحسب ذلك إلى ثلاثة أقسام4: الأوّل: القلب السليم، وهو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شركٌ بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى إرادةً ومحبّةً وتوكُّلاً وإنابةً وإخباتًا وخشيةً ورجاءً، وخلُص عملُه لله، فإن أحبَّ أحبَّ في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع

_ 1 صحيح مسلم (رقم:780) . 2 سنن أبي داود (رقم:2042) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم:7226) . 3 اقتضاء الصراط المستقيم (2/662) . 4 انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1/13 ـ 15) .

لله، ويكون الحاكم عليه في أموره كلّها هو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يتقدّم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل. الثاني: ضد هذا وهو القلب الميّت، الذي لا حياة به فهو لا يعرف ربّه ولا يعبده ولا يمتثل أمره ولا يفعل ما يحبّه ويرضاه، بل هو واقفٌ مع شهواته ولذّاته، ولو كان فيها سخطُ ربِّه وغضبُه، فهو متعبِّدٌ لغير الله حبًّا وخوفًا ورجاءً ورضًا وسخطًا وتعظيمًا وذلاًّ، إن أحبَّ أحبَّ لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه، فهو آثَرُ عنده وأحبُّ إليه من رضا مولاه، فالهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائقه، والغفلة مركّبة. الثالث: قلب له حياة وبه علّة، فله مادّتان تُمدُّه هذه مرّة، وهذه تُمدُّه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما، ففيه من محبّة الله تعالى والإيمان به والإخلاصِ له والتوكّلِ عليه ما هو مادة حياته، وفيه من محبّة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها، ومن الحسد والكبر والعجب وحب العُلُوِّ ما هو مادة هلاكه وعَطَبِه. فالقلب الأوّل حيٌّ مخبتٌ ليِّنٌ، والثاني يابسٌ ميِّت، والثالث مريض فإمّا إلى السلامة أدنى وإمّا إلى العطب أدنى، وعلى هذا فإن القلب لكي تبقى له حياتُهُ وتزول عنه غفلتُهُ وتتم له استقامتُهُ محتاجٌ إلى ما يحفظ عليه قوتَه وهو الإيمان وأوراد الطاعات والمحافظة على ذكر الله، والبعدُ عن كلّ ما يسخطه تبارك وتعالى، ولا سعادة للقلب ولا لذّة ولا نعيم ولا صلاح إلاّ بأن يكون اللهُ وحده إلهه وفاطره ومعبوده وغاية مطلوبه، وأحبّ إليه من كلِّ ما سواه، فبهذا تكون نجاة القلب من الغفلة وسلامته من الهلَكة، وبهذا تسري فيه الحياة، والتوفيق بيد الله وحده.

من آداب الذكر

9/ من آداب الذِكر تقدّم معنا قولُ الله تبارك: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ} 1 وبيان ما اشتملت عليه الآية الكريمة من الجمع بين الأمر بذكر الله والنّهي عن ضدِّه وهو الغفلة، وهذه الآية إضافة إلى دلالتها على ذلك فقد اشتملت على جملةٍ طيِّبةٍ من الآداب الكريمة التي ينبغي أن يتحلّى بها الذَّاكر. فمن هذه الآداب: أوّلاً: أن يكون الذِّكر في نفسه؛ لأنَّ الإخفاء أدخلُ في الإخلاص، وأقربُ إلى الإجابة وأبعدُ من الرِّياء. ثانياً: أن يكون على سبيل التضرُّع، وهو التّذلُّل والخضوع والاعتراف بالتّقصير ليتحقّق فيه ذِلَّة العبودية والانكسار لعظمة الرُّبوبيّة. ثالثاً: أن يكون على وجه الخيفة أي الخوف من المؤاخذة على التّقصير في العمل، والخشية من الرد، وعدم القَبول، قال الله تعالى في صفة المؤمنين المسارعين في الخيرات، السّابقين لأرفع الدّرجات: {وَالَّذِينَ يُؤُتونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} 2. وقد ثبت في المسند وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنّها سألت النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء فقالت: يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق

_ 1 سورة الأعراف، الآية: (205) . 2 سورة المؤمنون، الآية: (60) .

ويشرب الخمر ويخاف أن يُعذَّب؟ قال: "لا، يا ابنة الصِّدّيق، ولكنَّه الرجل يصلّي ويصوم ويتصدّق ويخاف أن لا يقبل منه "1. رابعاً: أن يكون دون الجهر؛ لأنَّه أقرب إلى حسن التفكُّر، قال ابن كثير رحمه الله: "ولهذا قال: {وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ} وهكذا يُستحبُّ أن يكون الذِّكر، لا يكون نداءً وجهرًا بليغاً"2، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رفع النّاس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "ياأيُّها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنّ الذي تدعونه سميعٌ قريبٌ أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" 3. خامساً: أن يكون باللسان لا بالقلب وحده، وهو مستفادٌ من قوله: {وَدُونَ الجَهْرِ} لأنَّ معناه: ومتكلِّمًا كلامًا دون الجهر، ويكون المرادُ بالآية الأمرَ بالجمع في الذكر بين اللسان والقلب، وقد يقال: هو ذكره في قلبه بلا لسانه بقوله بعد ذلك: {وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ} إلاّ أنّ الأوّل هو الأصحّ كما حقّق ذلك شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيرُه من أهل العلم. وقد نظر له رحمه الله بقوله صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربّه أنَّه قال: "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم"4، قال: وهذا يدخل فيه ذكره باللسان في نفسه، فإنَّه

_ 1 المسند (6/159،205) . 2 تفسير القرآن العظيم (3/544) . 3 صحيح البخاري (رقم:4205) ، وصحيح مسلم (رقم:2704) . 4 صحيح البخاري (رقم:7405) ، وصحيح مسلم (رقم:2675) .

جعله قسيمَ الذكر في الملأ وهو نظير قوله: {وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ} ، والدليل على ذلك أنَّه قال: {بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ} ، ومعلوم أنَّ ذكر الله المشروعَ بالغدوِّ والآصال في الصلاة وخارج الصلاة هو باللسان مع القلب، مثل صلاتي الفجر والعصر، والذِّكر المشروع عقب الصلاتين، وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وعلّمه وفعله من الأذكار والأدعية المأثورة من عمل اليوم والليلة المشروعة طرفي النّهار بالغدو والآصال1. سادساً: أن يكون بالغدوّ والآصال، أي في البكرة والعشيِّ، فتدلُّ الآية على مزيَّة هذين الوقتين، لأنَّهما وقت سكون ودعة وتعبُّد اجتهاد، وما بينهما الغالبُ فيه الانقطاع إلى أمر المعاش، وقد ورد أنَّ عمل العبد يصعد أوّل النّهار وآخره فطلبُ الذكر فيهما ليكون ابتداء عمله واختتامه بالذكر. ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلّون وأتيناهم وهم يصلّون"2. سابعاً: النهي عن الغفلة عن ذكره بقوله: {وَلاَ تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ} 3، أي: من الذين يغفلون عن ذكر الله ويلهون عنه، وفيه

_ 1 انظر: الفتاوى لابن تيمية (15/33 ـ 36) . 2 صحيح مسلم (رقم:632) . 3 سورة الأعراف، الآية: (205) .

إشعارٌ بطلب دوام ذكره تعالى والاستمرار عليه، وأحبُّ العمل إلى الله أَدْوَمُه وإن قلّ. فهذه سبعةُ آداب عظيمة اشتملت عليها هذه الآية الكريمة، ذكرها القاسمي في كتاب محاسن التأويل1، وللذكر آداب كثيرة أخرى سيأتي معنا شيء منها لاحقاً إن شاء الله. ثم إنَّ الله تبارك وتعالى لمّا حثّ على الذكر في هذه الآية ورغّب فيه وحذّر من ضدّه وهو الغفلة، ذكر عقبها في الآية التي تليها ما يقوي دواعي الذكر وينهض الهمم إليه بمدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} 2. والمراد بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} أي: الملائكة، وقد وصفهم الله في هذه الآية بعدم الاستكبار عن عبادة الله، وأنَّهم يسبّحونه وله يسجدون، وهذا فيه حثٌّ للمؤمنين وترغيب لهم في أن يقتدوا بهم فيما ذكر عنهم؛ لأنَّه إذا كان أولئك وهم معصومون من الذنب والخطأ هذه حالهم في التسبيح والذكر والعبادة فكيف ينبغي أن يكون غيرهم. ولهذا يقول ابن كثير رحمه الله: "وإنما ذكرهم بهذا ليُتشبَّه بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم، ولهذا شُرِعَ لنا السجودُ ها هنا لمّا ذكر سجودهم لله عز وجل، كما جاء في الحديث: "ألا تصفُّون كما تصفّ الملائكة عند ربّها، يتمّون الصفوف الأُوَل ويتراصّون في

_ (7/2936،2937) . 2 سورة الأعراف، الآية: (206) .

الصف"1، وهذه أوّل سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعيها السجود بالإجماع"2. ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: "ثم ذكر تعالى أنَّ له عبادًا مستديمين لعبادته، ملازمين لخدمته وهم الملائكة لتعلموا أنَّ الله لا يريد أن يتكثر بعبادتكم من قلَّةٍ، ولا ليتعزّز بها من ذلَّةٍ، وإنما يريد نفع أنفسكم وأن تربحوا عليه أضعاف أضعاف ما عملتم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} من الملائكة المقرَّبين وحملة العرش والكروبيين {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} بل يذعنون لها وينقادون لأوامر ربِّهم {وَيُسَبِّحُونَه} الليل والنهار لا يفترون {وَلَهُ} وحده لا شريك له {يَسْجُدُونَ} فليقتد العباد بهؤلاء الملائكة الكرام وليداوموا على عبادة الملك العلاّم"3. اهـ كلامه رحمه الله. والمقصود أنَّ الله تبارك وتعالى لما نهى عباده عن أن يكون من الغافلين ذكر بعد ذلك مثالاً من اجتهاد الملائكة لِيُحْتَذَى ولِيَبْعَثَ على الجدِّ في طاعة الله وذكره، والحمد لله وحده.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:430) . 2 تفسير القرآن العظيم (3/544) . 3 تيسير الكريم الرحمن (3/68) .

أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبسُ به الألسن، ولا يشبعُ منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم. إنَّ قدر القرآن وفضله هو بقدر الموصوف به وفضله، فالقرآن كلام الله وصفته، وكما أنَّه تبارك وتعالى لا سميَّ له ولا شبيه في أسمائه وصفاته، فلا سميَّ له ولا شبيه له في كلامه، فله تبارك وتعالى الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته، لايشبهه شيء من خلقه، ولا يشبه هو تبارك وتعالى شيئًا من خلقه، تعالى وتقدّس عن الشبيه والنّظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 1، والفرق بين كلام الله وكلام المخلوقين هو كالفرق بين الخالق والمخلوقين. قال أبو عبد الرحمن السُّلمي رحمه الله: "فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الربِّ على خلقه، وذلك أنَّه منه"2. وقد روي هذا اللفظ مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلاّ أنّ رفعه لا يثبت كما أوضح ذلك الإمام البخاري رحمه الله في كتابه "خلقُ أفعال العباد"3 وغيرُه من أئمّة العلم. وأما معناه فحق لا ريب فيه، ولا ريب في حسنه وقوّته واستقامته وجمال مدلوله، وقد استشهد أهل العلم

_ 1 سورة الشورى، الآية: (11) . 2 رواه البيهقي في الأسماء والصفات (1/504) . (ص:162) ، وانظر: السلسلة الضعيفة للألباني (3/505) .

لصحّة معناه بنصوص عديدة، بل إنَّ الإمام البخاري رحمه الله جعله عنواناً لأحد تراجم أبواب كتاب فضائل القرآن من صحيحه، فقال في الباب السابع عشر منه: "باب فضل القرآن على سائر الكلام"، وأورد تحت هذا الباب حديثين عظيمين: الأوّل: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مثلُ الذي يقرأ القرآن كالأترُجَّةِ طَعمُها طيِّب وريحُها طيِّب، والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة طعمها طيِّب ولا ريح فيها، ومَثَلُ الفاجر الذي يقرأ القرآن كَمَثَل الرَّيحانة ريحها طيّب وطعمها مُرٌّ، ومَثَل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرٌّ ولا ريح لها "1. قال ابن كثير رحمه الله في كتاب فضائل القرآن، وهو عبارة عن شرح مختصر وعظيم الفائدة لكتاب فضائل القرآن من صحيح البخاري: "ووجه مناسبة الباب لهذا الحديث أن طيب الرائحة دَارَ مع القرآن وجودًا وعدمًا، فدلّ على شرفه على ما سواه من الكلام الصادر من البر والفاجر"2. والحديث الثاني: حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما أجلُكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر ومغرب الشمس، ومثلكم ومثل اليهود والنّصارى كمثل رجل استعمل عمّالا، فقال: من يعملُ لي إلى نصف النّهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود، فقال: من يعمل لي من نصف النهار إلى العصر؟ فعملت

_ 1 صحيح البخاري (رقم:5020) ، وصحيح مسلم (رقم:797) . 2 فضائل القرآن (ص:101) .

النصارى، ثم أنتم تعملون من العصر إلى المغرب بقيراطين قيراطين، قالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء، قال: هل ظلمتكم من حقّكم، قالوا: لا، قال: فذاك فضلي أوتيه من شئتُ"1. قال ابن كثير رحمه الله: "ومناسبته للترجمة أنَّ هذه الأمة مع قصر مدّتها فَضَلَت الأمم الماضية مع طول مدّتها، كما قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 2 وفي المسند والسنن عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم تُوفُّون سبعين أمّة، أنتم خيرُها وأكرمُها على الله "3، وإنَّما فازوا بهذا ببركة الكتاب العظيم: القرآن الذي شرّفه الله على كلِّ كتاب أنزله وجعله مهيمنًا عليه، وناسخاً له وخاتمًا له، لأنَّ كلَّ الكتب المتقدّمة نزلت إلى الأرض جملةً واحدةً، وهذا القرآن نزل مُنجَّماً بحسب بحسب الوقائع لشدّة الاعتناء به وبمن أنزل عليه، فكل مرّة كنزول كتاب من الكتب المتقدّمة. وأعظم الأمم المتقدّمة هم اليهود والنّصارى، فاليهود استعملهم الله من لدن موسى إلى زمن عيسى عليهما السلام، والنّصارى من ثمّ إلى أن بعث محمّداً صلى الله عليه وسلم، ثم استعمل أمّته إلى قيام الساعة، وهو المُشَبَّه بآخر النهار، وأعطى المتقدّمين قيراطًا قيراطًا، وأعطى هؤلاء قيراطين قيراطين، ضعفي ما أعطى أولئك، فقالوا: أيْ ربَّنا، ما لنا أكثر عملاً

_ 1 صحيح البخاري (رقم:5021) . 2 سورة أل عمران، الآية: (110) . 3 المسند (5/3) ، سنن الترمذي (رقم:3001) ، سنن ابن ماجه (رقم:4288) ، وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:2301) .

قل أجراً؟ فقال: هل ظلمتكم من أجرِكم شيئاً، قالوا: لا، قال: فذاك فضلي، أي: الزائد على ما أعطيتكم أوتيه من أشاء، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} 1") 2. إنَّ الواجب علينا أن نعظّم القرآن الكريم، الذي هو مصدر عزِّنا وسبيل سعادتنا، ونحفظ له منزلته ومكانته، ونَقدرَه حق قدره، [ونعمل به] . يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "من كان يحب أن يعلم أنَّه يحب الله فليعرض نفسه على القرآن، فإن أحبّ القرآن فهو يحبُّ الله، فإنَّما القرآن كلام الله". ويقول رضي الله عنه: "القرآن كلامُ الله، فمن ردّ منه شيئاً فإنَّما يردّ على الله". والآثار في هذا المعنى كثيرةٌ، فنسأل الله الكريم أن يعمر قلوبنا بحب القرآن وتعظيمه وتوقيره [والعمل به] ، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصّته.

_ 1 سورة الحديد، الآيات: (28،29) . 2 فضائل القرآن (ص:102،103) .

نزول القرآن في شهر رمضان

11 / نزول القرآن في شهر رمضان لا ريب أنَّ [من] أجلِّ نِعم الله على الإطلاق وأشرفِها وأعظمِها نعمةُ إنزالِه الكتاب العظيم على عبده ورسوله نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهذه نعمةٌ عظمَى ومنّة كبرى امتنّ الله بها على عباده وحمد نفسه عليها وتمدّح إلى عباده بها، وبيّن عظم شأنها في آيٍ كثيرة من القرآن. يقول الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} 1، ويقول تعالى: {تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ، إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلاَ للهِ الدِّينُ الخَالِصُ} 2، ويقول تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِيُن عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 3، ويقول تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ} 4. إنَّ لشهر رمضان الكريم شهر الصوم خصوصيةً بالقرآن، فهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن الكريم هدى للنّاس. وقد امتدح الله تعالى في الآية الكريمة المتقدّمة شهرَ الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهنَّ لإنزال القرآن العظيم، بل قد ورد في الحديث بأنَّه الشهرُ الذي كانت الكتبُ الإلهيةُ تنزل فيه على الأنبياء، ففي المسند للإمام

_ 1 سورة الفرقان، الآية: (1) . 2 سورة الزمر، الآيات: (1 ـ 3) . 3 سورة الشعراء، الآيات: (192 ـ 195) . 4 سورة البقرة، الآية: (185)

أحمد، والمعجم الكبير للطبراني، من حديث واثلة بن الأسقع أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُنزلت صُحُفُ إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراةُ لِسِتٍّ مضين من رمضان، والإنجيلُ لثلاث عشرةَ خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان"1. قال الهيثمي: "وفيه عمران بن داود القطان، ضعّفه يحيى ووثّقه ابن حبان. وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث، وبقيّة رجاله ثقات"2. وله شاهدٌ من حديث جابر رضي الله عنه أخرجه أبو يعلى في مسنده3 بنحو الحديث المتقدّم، وفي إسناده سفيان بن وكيع وهو ضعيف. وله شاهدٌ آخر يرويه ابن عساكر في تاريخه من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس وهو منقطعٌ، فعليٌّ لم ير ابن عباس رضي الله عنهما. فإن صحّ هذا الحديث فهو يدلّ على أنَّ شهر رمضان هو الشهر الذي كانت تنزل فيه الكتب الإلهية على الرسل عليهم السلام. إلاّ أنّها كانت تنزل على النبيّ الذي أنزلت عليه جملةً واحدةً، وأمّا القرآن الكريم فلمزيد شرفه وعظيم فضله، فإنَّما نزل جملةً واحدةً إلى بيت العزّة من السماء الدنيا، وكان ذلك في ليلة القدر من شهر رمضان

_ 1 المسند (4/107) ، والمعجم الكبير للطبراني (22/رقم:185) ، وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم:1575) . 2 مجمع الزوائد (1/197) . 3 مسند أبي يعلى (رقم:2187)

المبارك. قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} 1، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ} 2، وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ} 3، فدلّت هذه الآياتُ الثلاث على أنَّ القرآن الكريم أنزل في ليلةٍ واحدةٍ، توصف بأنَّها ليلةٌ مباركةٌ وهي ليلة القدر، وهي من ليالي شهر رمضان المبارك، ثم بعد ذلك نزل مفرّقًا على مواقع النّجوم يتلو بعضه بعضًا، هكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من غير وجه. فروى الحاكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "أُنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا وكان بمواقع النّجوم، وكان الله ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض"4. وروى أيضاً عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: "أُنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة. ثم قرأ: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناَكَ بِالحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} 5، {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلِى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} 6") 7. وروى ابنُ أبي حاتم عن ابن عباس أنَّه سأله عطيّة بن الأسود فقال: وقع في قلبي الشك في قول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ

_ 1 سورة الدخان، الآية: (3) . 2 سورة القدر، الآية: (1) . 3 سورة البقرة، الآية: (185) . 4 المستدرك (2/222) . 5 سورة الفرقان، الآية: (33) . 6 سورة الإسراء، الآية: (106) .

فِيهِ القُرْآنُ} وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ} ، وقد أنزل في شوّال وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة وفي المحرّم وصفر وشهر ربيع؟ فقال ابن عباس: "إنَّه نزل في رمضان في ليلة القدر، وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النّجوم ترتيلاً في الشّهور والأيّام"1. إنَّ الحكمة في هذا النزول هي تعظيم القرآن الكريم وتعظيم أمر مَن نزل عليه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيم الشهر الذي نزل فيه وهو شهر رمضان، واللَّيلة التي نزل فيها وهي ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر، يقول الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ، لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ المَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِن كُلِّ أَمْرٍ سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ} . ثم إنَّ ما تقدّم لَيدلُّ أعظم دلالة على عظم شأن شهر الصوم، شهر رمضان المبارك، وأنَّ له خصوصية بالقرآن الكريم، إذ فيه حصل للأمّة من الله هذا الفضل العظيم، نزول وحيه العظيم، وكلامه الكريم المشتملِ على الهداية {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ} 2 الهداية لمصالح الدين والدنيا، وفيه تبيان الحقِّ بأوضح بيان، وفيه الفرقان بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والظلمات والنّور. فحقيقٌ بشهرٍ هذا فضلُه وهذا إحسانُ الله على عباده فيه أن يعظِّمه العباد وأن يكون موسمًا لهم للعبادة وزادًا ليوم المعاد.

_ 1 تفسير ابن أبي حاتم (1/310) . 2 سورة البقرة، الآية: (185) .

وهذا فيه دلالةٌ بالغةٌ على استحباب دراسة القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك، والاجتهاد في ذلك، والإكثار من تلاوته فيه، وعرض القرآن على من هو أحفظُ له، والزيادة في مدارسته. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أجودَ النّاس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه كلّ ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجودَ بالخير من الرّيح المرسلة"1. وقد كان صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره، وهذا أمرٌ يشرع لكل من أراد أن يزيد في القراءة ويطيل وكان يصلّي لنفسه فليطوّل ما شاء، وكذلك من صلّى بجماعة يرضون بصلاته، وأمّا سوى ذلك فالمشروع التخفيف، قال الإمامُ أحمدُ لبعض أصحابه وكان يصلّي بهم في رمضان: "هؤلاء قوم ضعفى اقرأ خمسًا ستًّا سبعًا، قال فقرأت فختمتُ ليلة سبع وعشرين"2. فأرشدَه رحمه الله إلى أن يراعي حال المأمومين فلا يشقُّ عليهم. وكان السَّلفُ رحمهم الله يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها، فكان الأسود يقرأ القرآن في كلِّ ليلتين في رمضان. وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة وفي بقيّة الشهر في ثلاث.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1902) ، وصحيح مسلم (رقم:2308) . 2 ذكره ابن رجب في لطائف المعارف (ص:180) .

وكان قتادة يختم في كلِّ سبع دائماً وفي رمضان في كلِّ ثلاث، وفي العشر الأواخر كلَّ ليلة. وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنَّما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام. وكان مالكٌ رحمه الله إذا دخل رمضان يفرُّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ويُقبل على تلاوة القرآن من المصحف. وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان. وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على تلاوة القرآن. والآثارُ عنهم في هذا المعنى كثيرة1، رزقنا الله وإيّاكم حسن اتّباعهم والسير على آثارهم، ونسأله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.

_ 1 انظر: لطائف المعارف لابن رجب (ص:181) .

المطلوب من القرآن فهم معنيه والعمل به

المطلوب من القرآن فهم معنيه والعمل به ... 12/ المطلوب من القرآن فهمُ معانيه والعمل به يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَن تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} 1. إنَّ تلاوة القرآن وتدبّره هي أعظم أبواب الهداية، فإنَّ الله تبارك وتعالى قد أنزل كتابه المبين على عباده هدى ورحمة وضياءً ونورًا وبشرى وذكرى للذّاكرين، وجعله مباركًا وهدى للعالمين، وجعل فيه شفاء من الأسقام ولا سِيَما أسقام القلوب وأمراضها من شبهات وشهوات، وجعله رحمة للعالمين، يهدي للتي هي أقوم، وصرّف فيه من الآيات والوعيد لعلّهم يتّقون أو يحدث لهم ذكرى. قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرًى لِلْمُسْلِمِينَ} 2، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 4، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} 5، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي

_ 1 سورة فاطر، الآية: (29، 30) . 2 سورة النحل، الآية: (89) . 3 سورة الأعراف، الآية: (52) . 4 سورة الأنعام، الآية: (155) . 5 سورة الأنعام، الآية: (92) .

هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالحِاَتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} 1، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} 2. ولهذا فإنَّ الله تبارك وتعالى أمر عباده وحثّهم على قراءة القرآن وتدبُّره في غير آية من القرآن، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} 3، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 4، وأخبر سبحانه أنَّه إنَّما أنزله لتُتدبر آياتُه، فقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ} 5، وبيّن سبحانه أنَّ سبب عدم هداية من ضلَّ عن الصراط المستقيم هو ترك تدبُّر القرآن والاستكبار عن سماعه فقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ، مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ، أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ} 6، أي: أنَّهم لو تدبّروا القرآن لأوجب لهم الإيمان، ولمنعهم من الكفر والعصيان، فدلّ ذلك على أنَّ تدبّر القرآن يدعو إلى كلِّ خير ويعصم من كلِّ شر.

_ 1 سورة الإسراء، الآية: (9) . 2 سورة الإسراء، الآية: (82) . 3 سورة النساء، الآية: (82) . 4 سورة محمد، الآية: (24) . 5 سورة ص، الآية: (29) . 6 سورة المؤمنون، الآية: (66 ـ68) .

ووصف الله القرآن بأنَّه أحسنُ الحديث، وأنَّه تعالى ثنى فيه من الآيات وردّد القول فيه ليفهم، وأنَّ جلود الأبرار عند سماعه تقشعرّ خشيةً وخوفاً فقال تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ، ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 1. وعاتب سبحانه المؤمنين على عدم خشوعهم عند سماع القرآن، وحذّرهم من مشابهة الكفّار في ذلك، فقال سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينّ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 2، وأخبر سبحانه عن القرآن أنَّه يزيد المؤمنين إيمانًا إذا قرأوه وتدبّروا آياته فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 3. وأخبر عن صالح أهل الكتاب أنَّ القرآن إذا تلي عليهم يخرّون للأذقان سُجَّداً يبكون ويزيدهم خشوعاً وإيماناً وتسليماً، فقال سبحانه: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً، وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} 4.

_ 1 سورة الزّمر، الآية: (23) . 2 سورة الحديد، الآية: (16) . 3 سورة الأنفال، الآية: (2) . 4 سورة الإسراء، الآية: (107 ـ 109) .

وأخبر سبحانه بأنَّه لو أنزل القرآن الكريم على جبل لخشع وتصدّع من خشية الله عز وجل، وجعل هذا مثلاً للنّاس يبيِّن لهم عظمة القرآن وقوّة أثره فقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1. ثم مع هذا فإنَّ الله تعالى قد حذّر عباده من الإعراض عن القرآن الكريم أشدَّ التحذير، وبيّن لهم خطورة ذلك، وما يجنيه مَن فَعلَ ذلك من الإثم والوزر الذي يحمله معه يوم القيامة بسبب إعراضه عن القرآن وعدم تلقّيه بالقبول والتسليم، يقول الله تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً، مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْراً، خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ِحْملاً} 2، فإذا كان القرآن ذكرًا للرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمّته، فيجب تلقّيه بالقبول والتسليم والانقياد والتعظيم، وأن يُهتدى بنوره إلى الصراط المستقيم، وأن يُقبل عليه بالتعلّم والتعليم، وأما مقابلته بالإعراض والصدود، أو بما هو [أخطر] من ذلك من الإنكار والجحود، فإنَّه كفرُ لهذه النعمة يستحق فاعله العقوبة. ولهذا قال تعالى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْراً} 3، وقوله في الآية: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً} فيه وصف للقرآن الكريم بأنَّه ذكر، وقد مرّ معنا آيات كثيرة في هذا المعنى، وهذا يعني أنَّ القرآن

_ 1 سورة الحشر، الآية: (21) . 2 سورة طه، الآية: (99 ـ 101) . 3 سورة طه، الآية: (100) .

الكريم فيه ذكر للأخبار السابقة واللاَّحقة، وذِكرٌ يُتَذكّرُ به ما لله تعالى من الأسماء والصفات الكاملة، ويتذكّر به أحكام الأمر والنهي وأحكام الجزاء، وهذا أيضا ممّا يدلّ على أنَّ القرآن مشتملٌ على أحسن ما يكون من الأحكام التي تشهد العقول والفطر بحسنها وكمالها. إنَّ كتاباً هذا بعض شأنه لحريٌّ بكل مسلم أن يعظّمه ويقدره حق قدره، ويتلوه حق تلاوته بتدبر آياته والتفكر والتعقل لمعانيه، وبالعمل بما يقتضيه، وكما يقول العلاّمة ابن القيِّم رحمه الله: "فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبّر والتفكّر فإنَّه جامعٌ لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه. فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبّر لاشتغلوا بها عن كلِّ ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مرّ بآيةٍ وهو محتاجٌ إليها في شفاء قلبه كرّرها ولو مائة مرّة ولو ليلة، فقراءة آيةٍ بتفكّرٍ وتفهّمٍ خيرٌ من قراءة ختمةٍ بغير تدبّر وتفهُّم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن"1. اهـ كلامه رحمه الله. وهو كما ترى واف الدلالة عظيم الفائدة، ومن كان في قراءته للقرآن على هذا الوصف أثّر فيه القرآن غاية التأثير وانتفع بتلاوته تمام الانتفاع، وكان بذلك من أهل العلم والإيمان الراسخين، وهذا هو

_ 1 مفتاح دار السعادة (ص:204) .

مقصود القرآن وغاية مطلوبه، ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به، فإنَّه إن لم تكن هذه همّة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين"1. اللهم وَفِّقنا لتحقيق ذلك على الوجه الذي يُرضيك عنّا يا ذا الجلال والإكرام.

_ 1 الفتاوى الكبرى (1/213) .

آداب حملة القرآن

13/ آدابُ حملة القرآن لقد مرّ معنا بيان فضل القرآن الكريم، كلام ربّ العالمين وعظم شأن تلاوته وتدبّره، وما يترتّب على ذلك من أجورٍ عظيمةٍ وأفضالٍ كريمةٍ وخيراتٍ عميمةٍ في الدنيا والآخرة، وسيكون الحديثُ هنا بإذن الله عن أخلاق حملة القرآن التي ينبغي أن يتحلوا بها، وآداب وصفات أهله التي ينبغي أن يتأدّبوا بها، ولا ريب في شرف هذا الموضوع وعظم شأنه وحاجتنا دائماً إلى تذاكره ومدارسته. وقد كان أهلُ العلم وأئمّة الفضل والخير يولون هذا الموضوع عنايةً خاصةً ويعتنون به عنايةً فائقةً، إذ به تأتي ثمرة القرآن، وينال ما يترتّب عليه من أجورٍ عظيمةٍ وثوابٍ وإحسانٍ، وبدون هذه الآداب لا ينال التالي الثمرة المرجوة، ولا يحصل الخير العظيم والثواب الجزيل المأمول، بل ربَّما كان القرآن حجّةً عليه، وخصيماً له يوم القيامة. فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " إنَّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين". وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "والقرآن حجّة لك أو عليك "، وكلاهما في صحيح مسلم1. فالقرآن حجَّةٌ لمن عمل به وتأدّب بآدابه، وأمّا من ضيّع حدوده وأهمل حقوقه، وفرّط في واجباته فإنَّ القرآن يكون حجّةً عليه يوم القيامة. ولهذا يقول قتادة رحمه الله: "لم يجالس هذا القرآن أحدٌ إلاّ قام

_ 1 صحيح مسلم (رقم:817) ، (رقم:223) .

عنه بزيادة أو نقصان"1. أي: بزيادة في الإيمان والخير إن عمل به، أو نقصان من ذلك إن أهمله وضيّع حقوقه. لقد كتب أهلُ العلم في هذا الموضوع آدابِ وأخلاقِ حملة القرآن كتاباتٍ عظيمةً، وألّفوا في هذا الباب مؤلّفاتٍ قيِّمةً نافعةً، وهي عديدةٌ ومتنوِّعةٌ إلاَّ أنَّ من أحسنها وفاء بهذا الموضوع كتاب "أخلاق حملة القرآن" للإمام العلاّمة أبي بكر محمّد بن الحسين الآجري المتوفّى سنة (360هـ) ، فهو كتابٌ عظيمُ القدر، جليل الفائدة، وحريٌّ بكل حافظ للقرآن الكريم بل بكل مسلم أن يقف عليه ويفيد منه. وقد تحدّث فيه مؤلّفه رحمه الله قبل بيانه لآداب حملة القرآن عن فضل حملة القرآن، وفضل من تعلّم القرآن وعلّمه، وفضل الاجتماع في المسجد لدرس القرآن، وقصد رحمه الله من البدء بهذه الأبواب الترغيب في تلاوة القرآن والعمل به والاجتماع لمدارسته، ثم شرع بعد ذلك في بيان آداب حملة القرآن مستدلاًّ على كل ما يقول بالنّصوص القرآنية والأحاديث النبويّة والآثار المرويّة عن سلف الأمّة. ولعلّنا نأتي هنا على جملةٍ طيِّبةٍ من هذه الآداب الكريمة والخلال العظيمة التي ينبغي أن يتحلّى بها أهل القرآن وحملته، بل ينبغي أن يتحلّى بها المسلمون جميعهم. فمن هذه الآداب2: أن يتحلّى صاحب القرآن بتقوى الله في سرِّه وعلنه، ويقصد بعلمه وعمله وجه الله تعالى، ويريد بتلاوته

_ 1 رواه الآجري في أخلاق حملة القرآن (ص:73) . 2 انظر: أخلاق حملة القرآن للآجري (ص:24 وما بعدها) .

وحفظه القرب منه سبحانه. جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه قال: "لقد أتى علينا حينٌ وما نرى أنَّ أحدًا يتعلّم القرآن يريد به إلاّ الله عز وجل، فلمّا كان هاهنا بأخرةٍ خشيتُ أنَّ رجالاً يتعلّمونه يريدون به النّاس وما عندهم فأريدوا اللهَ بقراءتكم وأعمالكم". ومن هذه الآداب: أن يتخلّق بأخلاق القرآن الشريفة، ويتأدّب بآدابه الكريمة، ويجعل القرآن ربيعًا لقلبه يعمر به ما خرِب من قلبه، ويصلح به ما فسد منه، يؤدّب نفسه بالقرآن ويصلح به حاله ويقوّي به إيمانه، يقول الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} 1. فحاملُ القرآن يجعل القرآن دليله إلى كلِّ خير، ورائده إلى كلِّ خُلُقٍ حسنٍ جميلٍ، حافظًا لجميع جوارحه عمّا نهى الله عنه، إن مشى مشى بعلم، وإن قعد قعد بعلم، وإن تكلّم تكلّم بعلم، وإن شرب شرب بعلم، وإن أكل أكل بعلم، يتصفّح القرآن ويقرؤه ليؤدّب نفسه، وليهذّب به سلوكه، وليزيّن به عمله، وليقوِّيَ به إيمانه. لهذا أُنزل القرآن الكريم، ولم ينزل للقراءة والتّلاوة فقط بدون العلم والعمل، قال الفضيل رحمه الله: "إنّما أنزل القرآن ليعمل به فاتّخذ النّاس قراءته عملاً"2.

_ 1 سورة طه، الآية: (124، 125) . 2 رواه الآجري في أخلاق حملة القرآن (ص:43) .

ومعنى قولِه: لِيُعْمَلَ به: أي ليُحِلُّوا حلالَه ويحرِّموا حرامَه، فاتّخذ النّاس قراءته عملاً، أي لا يتدبّرونه ولا يعملون به. ومن هذه الآداب: أن تكون همّة من يقرأ القرآن ايقاع الفهم لما ألزمه الله من اتّباع ما أمر والانتهاء عمّا نهى، ليس همّته متى أختم السورة، وإنّما همّته متى أستغني بالله عن غيره، متى أكون من المتقين، متى أكون من المحسنين، متى أكون من الخاشعين، متى أكون من الصادقين، متى أعرف قدر النِّعم المتواترة، متى أشكر الله عليها، متى أتوب من الذنوب، متى أعقل عن الله الخطاب، متى أفقه ما أتلو، متى أكون بزجر القرآن متّعظًا، متى أكون بذكر الله عن ذكر غيره مشتغلاً، متى أُحبُّ ما أحبَّ وأُبغض ما أبغضَ، فهذه همّته عند تلاوة القرآن. يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله وهو من أجلّة التّابعين، يصف بعض قرّاء زمانه وهو بصدد بيان أهمّيّة تدبّر القرآن والتفقه فيه، يقول: "أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إنَّ أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفًا، وقد والله أسقطه كلّه، ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل، حتى إنَّ أحدهم ليقول: إنّي لأقرأ السورة في نَفَس، والله ما هؤلاء بالقرّاء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة، متى كانت القرّاء مثل هذا، لا كثَّر الله في النّاس مثل هؤلاء"1.

_ 1 رواه عبد الرزاق في المصنف (3/363) ، والآجري في أخلاق حملة القرآن (ص:41) .

هذه بعض آداب حملة القرآن ممّا أورده الآجريُّ رحمه الله في كتابه المشار إليه، وقد أنهى ذكره لتلك الآداب بقوله: "فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن فكان كالمرآة يرى بها ما حسن من فعله وما قبح منه، فما حذّره مولاه حذره، وما خوّفه به من عقابه خافه، وما رغّبه فيه مولاه رغب فيه ورجاه، فمن كانت هذه صفته أو ما قارب هذه الصفة فقد تلاه حق تلاوته ورعاه حق رعايته، وكان له القرآنُ شاهدًا وشفيعًا وأنيسًا وحرزًا، ومن كان هذا وصفه نفع نفسه ونفع أهله، وعاد على والديه وعلى ولده كلُّ خير في الدنيا والآخرة"1. واللهَ المرجو أن يوفّقنا وإيّاكم لذلك ولكلِّ خير والله وحده المستعان.

_ 1 أخلاق حملة القرآن (ص:29) .

تفاضل سور القرآن, وفضل سورة الفاتحة

14/ تفاضلُ سوَر القرآن، وفضل سورة الفاتحة مرّ معنا فيما سبق، بيانُ فضل القرآن الكريم، سُوَره وآياته وحروفه، وبيان شرفه وخيريته وعظيم قدره وفضله على سائر الكلام، إذ هو كلام الرب تبارك وتعالى ووحيه وتنزيله، ولعلّ من الحسن والحديثُ ماضٍ بنا في ذلك أنْ نشير إلى ما ورد من النّصوص في تفضيل بعض سُوَر القرآن الكريم وآياته، فإنَّ ذكر الله تبارك وتعالى بتلاوتها وتدبُّرها يترتّب عليه من الأجر والثواب ما لا يترتّب على غيرها لِعِظَم مدلولاتها وقوّة متعلّقها، فإنَّ القرآن الكريم وإنْ كان كلّه كلامَ الله إلاّ أنَّ الكلام نوعان: إمّا إنشاء وإمّا إخبار، والإخبار إمّا خبر عن الخالق وإمّا خبر عن المخلوق، فالإنشاء هو الأحكام كالأمر والنهي، والخبر عن المخلوق هو القصص، والخبر عن الخالق هو ذكر أسمائه وصفاته، وما من ريبٍ في أنَّ النصوص القرآنية المشتملة على توحيد الله والخبر عن أسمائه وصفاته أفضل من غيرها، كما قال أحد أهل العلم: كلام الله في الله أفضل من كلامه في غيره فـ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} ، أفضل من {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} ، وهذا التفاضل بين السُوَر والآيات ليس باعتبار نسبته إلى المتكلّم، فإنّ المتكلِّمَ به واحدٌ وهو الله سبحانه، ولكن باعتبار معانيه التي تكلّم بها وباعتبار ألفاظه المبيّنة لمعانيه، والنصوص والآثار في تفضيل كلام الله بعضه على بعض كثيرةً جدًّا. فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه فضّل من السور سورة الفاتحة، وأخبر أنَّه لم يُنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلُها، وأخبر أنَّها أمّ القرآن.

روى الترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبيّ بن كعب فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا أُبيّ ـ وهو يصلي ـ فالتفت أُبَيٌّ فلم يجبه، وصلّى أُبيٌّ وخفّف، ثمّ انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعليك السلام، ما منعك يا أبيّ أن تجيبني إذ دعوتك"، فقال: يا رسول الله، إني كنت في الصلاة، قال: "أفلم تجد فيما أوحى الله إليَّ أنْ {اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} 1") قال: بلى، ولا أعود إن شاء الله، قال: "أتحبُّ أن أُعلِّمَك سورةً لم يُنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزّبور ولا في القرآن مثلُها"، قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف تقرأ في الصلاة؟ "، قال: فقرأ أمَّ القرآن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلُها، وإنَّها سبعٌ من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته"، وصحّحه العلاّمة الألبانيُّ حفظه الله2. [وفي صحيح البخاري3 من حديث أبي سعيد بن المعلَّى نحو حديث أُبَيٍّ، وفيه التصريح بأنَّها أعظم سورة في القرآن، وأنَّها السبع المثاني والقرآن العظيم] . وروى البخاري في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله

_ 1 سورة الأنفال، الآية: (24) . 2 سنن الترمذي (رقم:2875) ، صحيح سنن الترمذي (3/3) . (برقم:4475،4647،5006) .

عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمّ القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم "1. ومن فضل هذه السورة أنّها لا صلاة لمن لم يقرأ بها، وكلُّ صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداجٌ غيرُ تمام، خرّج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداجٌ ـ ثلاثاً ـ غيرُ تمام"، فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولِعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مجّدني عبدي، وقال مرّة: فوّض إليَّ عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذه بيني وبين عبدي ولِعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمِ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} قال: هذا لِعبدي ولعبدي ما سأل"2. فهذه الأحاديثُ ونحوُها تدلُّ على عظيم قدر هذه السورة الكريمة وأنَّها أعظم سُوَر القرآن بل لم يُنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلُها، وهي أمُّ القرآن، فالقرآن كلُّه تفسير لها وشرحٌ لمجملها، وذلك لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء

_ 1 صحيح البخاري (رقم:4704) . 2 صحيح مسلم (رقم:395) .

على الله تعالى بما هو أهله، ومن التعبد بالأمر والنهي، ومن الوعد والوعيد ونحو ذلك. قال ابن القيِّم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين بين منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين: "اعلم أنَّ هذه السورة اشتملت على أمّهات المطالب العالية أتمّ اشتمال وتضمّنتها أكمل تضمّن، فاشتملت على التّعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها ومدارها عليها، وهي: الله والرّبُّ والرّحمن، وبنيت السورة على الإلهية والربوبية والرّحمة.. إلى أن قال: وتضمّنت إثبات المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم حسنها وسيِّئها، وتفرّد الربّ تعالى بالحكم إذ ذاك بين الخلائق، وكون حكمه بالعدل، وكلُّ هذا تحت قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وتضمّنت إثبات النّبوّات من جهات عديدة ... "1، ثمّ أطال النّفَسَ رحمه الله في بيان ما تضمّنته هذه السورة من أمّهات المطالب العالية، وما تضمّنته من الرّدّ على جميع طوائف أهل البدع والضلال، وما تضمّنته من منازل السائرين ومقامات العابدين، وبيان أنّه لا يقوم غيرُ هذه السورة مقامها ولا يسدُّ مسدّها. ومن هنا فإنَّه يتأكّد على كلّ مسلم أن تعظم عنايتة بهذه السورة الكريمة حفظًا وتلاوةً ومدارسةً وتدبُّرًا، فالمسلم يقرؤها في الصلاة المكتوبة في اليوم والليلة سبع عشرة مرّة، وإذا كان محافظًا على النّوافل أو على كثيرٍ منها فإنَّه يقرؤها مرّات كثيرة، لا يحصيها مدّة عمره وطول حياته إلاّ اللهُ تبارك وتعالى، ومن أسفٍ أنَّك ترى مع ذلك في

_ 1 مدارج السالكين (1/7) .

بعض المسلمين من لا يحسن قراءة هذه السورة الكريمة، بل لربّما يلحن فيها لحنًا يفسد معناها، أو يخلُّ بمدلولها، أو ترى فيهم من لا يُعْنَى بتدبّرها وتفهُّمِها وتعقُّل معانيها ومعرفة مدلولاتها. والواجب من عباد الله المؤمنين كلِّهم تعظيمُ هذه السورة الكريمة وقدرُها حقّ قدرها، وتلاوتُها حقّ تلاوتها؛ إذ هي أعظم سُوَر القرآن وأفرضُها على الأمّة، وأجمعُها لكلِّ ما يحتاج إليه العبد، وأعمُّها نفعاً. قال ابن القيِّم رحمه الله: "وتالله لا تجد مقالةً فاسدةً ولا بدعةً باطلةً إلاّ وفاتحةُ الكتاب متضمّنةٌ لردّها وإبطالها بأقرب الطرق وأصحّها وأوضحها، ولا تجد باباً من أبواب المعارف الإلهية وأعمال القلوب وأدويتها من عللها وأسقامها إلاّ وفي فاتحة الكتاب مفتاحه وموضع الدِّلالة عليه، ولا منزلاً من منازل السائرين إلى ربّ العالمين إلاّ وبدايته ونهايته فيها، ولَعَمْرُ اللهِ إنَّ شأنَها لأعظمُ من ذلك، وهي فوق ذلك، وما تحقّق عبدٌ بها واعتصم بها وعقل عمّن تكلّم بها، وأنزلها شفاءً تاماًّ، وعصمةً بالغةً، ونورًا مبينًا، وفهمها وفهم لوازمها كما ينبغي ووَقَع في بدعةٍ ولا شركٍ ولا أصابه مرضٌ من أمراض القلوب إلاّ لماماً غير مستقرّ"1. وبهذا نأتي إلى نهاية ما قُصد بيانه هنا، حامدين لله، مثنين عليه بما هو أهله، وبما أثنى به على نفسه، حمداً غيرَ مكفيٍّ ولا مكفورٍ ولا مودعٍ، ولا مستغناً عنه ربنا.

_ 1 زاد المعاد (4/347 ـ 348) .

فضل آية الكرسي وسورة الإخلاص وسور أخرى

15/ فضل آية الكرسي، وسورة الإخلاص، وسُوَر أخرى نواصل الحديث عن تفضيل بعض سور القرآن وآياته، حيث سبق تناول شيء ممّا ورد في فضل سورة الفاتحة التي هي أفضل سور القرآن وأعظمُها على الإطلاق. وقد صحّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ أفضل آية في القرآن الكريم هي آيةُ الكرسي، ففي صحيح مسلم من حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا المنذر أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} ، قال: فضرب في صدري وقال: واللهِ لِيَهْنِكَ العلمُ أبا المنذر"1. أي: ليكن العلمُ هنيئًا لك. وهذه الآية الكريمة إنَّما كانت بهذه المنزلة لعظم ما دلّت عليه من توحيد الله وتمجيده وحسن الثناء عليه، وذِكْرِ نعوت جلاله وكماله، فتضمّنت من أسماء الله خمسة أسماء، وتضمّنت من الصفات ما يزيد على العشرين صفة للربّ تبارك وتعالى، فهي قد اشتملت من ذلك على ما لم تشتمل عليه آية أخرى في القرآن، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وليس في القرآن آية واحدة تضمّنت ما تضمّنته آيةُ الكرسي، وإنَّما ذَكَرَ اللهُ في أوّل سورة الحديد وآخر سورة الحشر عدّة آيات لا آيةً واحدةً"2.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:810) . 2 جواب أهل العلم والإيمان (ص:133) .

ولهذا كان من فضل هذه الآية الكريمة أنَّ مَن قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يَقْرَبُه شيطان حتى يُصبح، وهو في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في سياق طويل1. ومن فضلها ما ثبت في سنن النسائي وغيره من حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " من قرأ آية الكرسي في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ لم يمنعه من دخول الجنة إلاّ أن يموت" 2، يعني لم يكن بينه وبين دخول الجنة إلاّ الموت، قال ابن القيّم رحمه الله: "بلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية ـ قدّس الله روحه ـ أنَّه قال: ما تركتها عقيب كلِّ صلاة"3. وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم تفضيل سورة الإخلاص، وأنَّها تعدلُ ثلُث القرآن، ففي البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رجلا سمع رجلاً يقرأ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} يردّدها، فلمّا أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكأنَّ الرجل يتقالُّها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنَّها لتعدل ثلث القرآن"4. وروى البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة"، فشقّ ذلك

_ 1 صحيح البخاري (رقم:2311) . 2 السنن الكبرى للنسائي (6/رقم:9928) ، وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم:972) . 3 زاد المعاد (1/304) . 4 صحيح البخاري (رقم:5013) .

عليهم وقالوا: أيُّنا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: "الله الواحد الصمد ثلثُ القرآن"1. وأهل العلم قد تكلّموا في بيان وجه كون هذه السورة تعدل ثلث القرآن، وذكروا في ذلك أجوبةً عديدةً، وأحسنها كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو الجواب المنقول عن أبي العباس بن سريج حيث قال: "معناه أُنزل القرآن على ثلاثة أقسام: ثلث منها الأحكام، وثلث منها وعد ووعيد، وثلث منها الأسماء والصفات، وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات"2. قال شيخ الإسلام: "وإذا كانت {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن، لم يلزم من ذلك أنَّها أفضلُ من الفاتحة ولا أنّها يكتفى بتلاوتها ثلاث مرّات عن تلاوة القرآن، بل قد كره السلف أن تقرأ إذا قرئ القرآنُ كلُّه إلاّ مرّة واحدة كما كتبت في المصحف، فإنَّ القرآن يقرأ كما كتب في المصحف لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه ... ولكن إذا قُرئت {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} مفردةً تقرأ ثلاث مرّات وأكثر من ذلك، ومن قرأها فله من الأجر ما يعدل ثلث القرآن، لكن عدلَ الشيء يكون من غير جنسه"3.اهـ. ثمّ إنَّ الأحاديث المشتملة على ذكر فضائل السور وثواب من قرأها كثيرة، وجملة منها لا تخلو من ضعف، بل إنَّ فيها ما هو كذب

_ 1 صحيح البخاري (رقم:5015) . 2 جواب أهل العلم والإيمان (ص:113) . 3 جواب أهل العلم والإيمان (ص:133،134) .

على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا فإنه يتأكّد على المسلم تحرّي معرفة الصحيح في ذلك، بسؤال أهل العلم، ومدارسة أهل الاختصاص، قال ابن القيِّم رحمه الله في كتابه المنار المنيف في الصحيح والضعيف: "ومنها: ـ أي الأحاديث الموضوعة ـ ذكر فضائل السور وثواب من قرأ سورة كذا، فإنّ أجره كذا، من أوّل القرآن إلى آخره، كما ذكر ذلك الثعلبي والواحدي في أوّل كلِّ سورة، والزمخشري في آخرها، قال عبد الله بن المبارك: أظن الزنادقة وضعوها. والذي صحّ في أحاديث السُوَر، حديث فاتحة الكتاب، وأنَّه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلُها، وحديث البقرة وآل عمران أنهما الزهراوان، وحديث آية الكرسي وأنها سيِّدة آي القرآن، وحديث الآيتين من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلةٍ كفتاه، وحديث سورة البقرة لا تقرأ في بيت فيقربه شيطان، وحديث العشر آيات من أوّل سورة الكهف من قرأها عصم من فتنة الدّجّال، وحديث {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} وأنَّها تعدل ثلث القرآن، ولم يصح في فضائل سورةٍ ما صحّ فيها، وحديث المعوّذتين وأنَّه ما تعوّذ المتعوِّذون بمثلها، وقوله: صلى الله عليه وسلم "أنزل عليَّ آيات لم يُر مثلُهنَّ، ثمّ قرأها". ويلي هذه الأحاديث وهو دونها في الصحة حديث {إِذَا زُلْزِلَتْ} تعدل نصف القرآن، وحديث {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} تعدل ربع القرآن، وحديث {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ} هي المنجية من عذاب القبر. ثم سائر الأحاديث بعدُ، كقوله: من قرأ سورة كذا أعطي ثواب كذا فموضوعةٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اعترف بوضعها واضعُها، وقال:

قصدت أن أشغل الناس بالقرآن عن غيره، وقال بعض جهلاء الوضّاعين في هذا النوع: نحن نكذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نكذب عليه، ولم يعلم هذا الجاهل أنَّه من قال عليه ما لم يقل فقد كذب عليه واستحقّ الوعيد الشديد"1. اهـ كلام ابن القيّم رحمه الله. وممّا ينبغي أن يعلم هنا أن فضل القراءة لهذه السور وغيرها يختلف باختلاف حال التّالي لتلك السور، فالقراءة بتدبّر أفضل من القراءة بلا تدبّر، فقد يكون حال بعض الناس في قراءة بعض السور وما يصاحبهم حال القراءة من خشوع وتدبّر وتفهّم لكلام الله وعزم صادق على العمل به، خيرًا وأفضل من حال غيرهم ممن ليسوا كذلك، وإن كانت السور التي يقرؤها هؤلاء أفضل، بل إنَّ الإنسان الواحد يختلف حاله فقد يفعل العمل المفضول على وجه كامل فيكون به أفضل من سائر أعماله الفاضلة. قال شيخ الإسلام: "وكان بعضُ الشيوخ يرقي بـ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} وكان لها بركةٌ عظيمة، فيرقي بها غيرُه فلا يحصل ذلك، فيقول ليس {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} من كلِّ أحد تنفع كلَّ أحد"2. وإنَّما اختلف أثر هاتين القراءتين مع أنَّ السورةَ المقروءة واحدةٌ، بسبب اختلاف ما قام بالقلب من صدق وإخلاص وتدبّر ويقين ورغبة وخشوع. واللهَ نرجو أن يوفّقنا وإيّاكم لتحقيق ذلك وحسن القيام به، فهو تبارك وتعالى وحده الموفق لكل خير.

وسطية أهل القرآن

16/ وَسَطيَّةُ أهلِ القرآن مرّ معنا أنَّ خير الذكر وأجلّه وأفضله هو القرآن الكريم، ومرّ معنا فضل حملته فهم أهل الله وخاصّته، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أنَّ لحملة القرآن صفاتٍ جليلةً ونعوتا كريمةً وهي كثيرة جدا، إلا أن أهمّ نعوتهم وأجلّ صفاتهم وأبرز علامتهم التوسطُ والاعتدالُ، وذلك بلزوم ما جاء في القرآن والوقوف عنده، دون غلو أو جفاء، ودون إفراطٍ أو تفريطٍ، أو زيادةٍ أو تقصيرٍ. يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} 1، فلما جعل الله هذه الأمة أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم أمةً وسطاً أي خياراً عدولاً، خصّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، وجعل كتابه المبين يهدي للتي هي أقوم ويدعو للتي هي أرشد وأحكم، كما قال سبحانه: {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} 2. ولم ينزل اللهُ هذا القرآن الكريم ليشقى به الناس، وإنما أنزله ليسعدوا به سعادة لا شقاء بعدها، وليهتدوا به هداية لا ضلال بعدها، كما قال سبحانه: {طَهَ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى، إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشَى، تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ العُلَى، الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ

_ 1 سورة البقرة، الآية: (143) . 2 سورة الإسراء، الآية: (9) .

اسْتَوَى} 1، وقد ذكر المفسِّرون في سبب نزول هذه الآيات، أنَّ الله لمّا أنزل القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم قام به هو وأصحابه خير قيام، فقال المشركون: ما أنزل هذا القرآن على محمّد إلاّ ليشقى، فأنزل الله تعالى قوله: {طَهَ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى، إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشَى} أي: فليس الأمر كما زعمه هؤلاء المبطلون، بل من آتاه الله العلم بوحيه والفقه في تنزيله فقد أراد به خيراً كثيراً، قال قتادة رحمه الله في قوله: {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى} قال: "لا والله ما جعله شقاءً، ولكن جعله رحمة ونورًا ودليلاً إلى الجنّة"2. فحقيقٌ بحامل القرآن بل وبكلِّ مسلم أن يقف عنده فيحلّ حلاله ويحرِّم حرامه ويصدّق بأخباره، ولا يتجاوز بغلوٍّ وإفراط، أو يَقْصِرُ عنه بجفاء وتفريط، بل يكون في ذلك وسطًا. روى أبو داود في سننه، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من إجلال الله إكرامَ ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وذي السلطان المقسط"، وإسناده حسن، حسّنه الذهبي في الميزان، وابن حجر في التلخيص الحبير وغيرُهما من أهل العلم3. فوصف صلى الله عليه وسلم أهلَ القرآن حقًّا وحملته صدقاً الذين يستحقون

_ 1 سورة طه، الآيات: (1 ـ 5) . 2 تفسير ابن كثير (5/267) . 3 سنن أبي داود (رقم:4843) ، وشعب الإيمان (رقم:2431) ، والميزان (2/118) ، والتلخيص الحبير (4/565) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (رقم:2199) .

الإجلال والإكرام، بأنَّ حالهم فيه بين الغلوّ والجفاء، وأخبر أنَّ إكرام هؤلاء أي أهل هذا الوصف من إجلال الله تبارك وتعالى، وما من ريبٍ أنَّ هذه درجةٌ منيفة، ومنزلة شريفة تبوّأها هؤلاء بسبب لزومهم القرآن، وعدم تجانفهم عنه بغلوٍّ أو جفاء أو زيادة أو تقصير. قال أبو عبيد القاسم بن سلاّم رحمه الله في بيان معنى حديث أبي موسى المتقدّم: "فالغالي المفرط في اتباعه حتى يخرجه إلى إكفار النّاس مثل الخوارج، والجافي عنه المضيّع لحدوده المستخفِّ به. وفي معنى هذا الحديث قولُ رابعِ الخلفاء الراشدين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "إنَّ دين الله بين الغالي والمقصِّر، فعليكم بالنُّمرقة الوسطى، فإنَّ بها يلحق المقصّر وإليها يرجع الغالي". وهو كلام حسن عظيم الفائدة، قال فيه ثعلب اللغوي المشهور: "ما روي في التوسُّط أحسن من قول أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه" ـ يشير إلى كلامه هذا المتقدّم ـ. إنّ الشيطان أحرصُ ما يكون على صرف المسلم عن الجادة وإبعاده عن الصراط المستقيم، إمّا إلى غلوّ أو إلى الجفاء، ولا يبالي عدوُّ الله بأيِّ الأمرين منهما ظفر. قال بعض السلف: "ما أمر الله تعالى بأمر إلاّ وللشيطان فيه نزغتان: إمّا إلى تفريط وتقصير، وإمّا إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيِّهما ظفر"1. ولِعَدوِّ الله في هذا الأمرِ مكرٌ عجيبٌ وكيدٌ غريبٌ.

_ 1 إغاثة اللهفان لابن القيم (1/136) .

قال ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: "ومن كيده ـ أي الشيطان أعاذنا الله وإيّاكم منه ـ أنَّه يشامُّ النفس حتى يعلم أي القوّتين تغلب عليها قوّة الإقدام والشجاعة، أم الانكفاف والإحجام والمهانة، فإن رأى الغالبَ على النفس المهانة والإحجام أخذ في تثبيطه وإضعاف همّته وإرادته عن المأمور به، وثقله عليه، فهوّن عليه تركه حتى يتركه جملةً أو يقصّر فيه ويتهاون، وإن رأى الغالب عليه قوّة الإقدام وعلوّ الهمّة، أخذ يقلّل عنده المأمور به، ويوهمه أنَّه لا يكفيه، وأنَّه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة فيَقْصُرُ بالأوّل ويتجاوز بالثاني ... وقد اقتطع أكثر الناس إلاّ أقلّ القليل في هذين الواديين وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدّي، والقليل منهم جدًّا الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ... "1. ثم أطال رحمه الله في ضرب الأمثلة على ذلك ثم قال: "وهذا باب واسع جدًّا لو تتبّعناه لبلغ مبلغاً كثيرًا"2. وقد صحّ في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "القصدَ القصدَ تبلغوا"3، أي عليكم بالقصد من الأمور في الأقوال والأفعال، والقصد هو الوسط بين الطرفين، وصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال كما في المسند وغيره: "عليكم هديًا قاصدًا، فإنَّه من يشادّ الدّين يغلبه"4، وكان ابن

_ 1 إغاثة اللهفان (1/136) . 2 إغاثة اللهفان (1/138) . 3 صحيح البخاري (رقم:6463) . 4 المسند (5/350،361) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم:4086)

مسعود رضي الله عنه يقول: "الاقتصاد في سنَّة خيرٌ من الاجتهاد في بدعة"1. قال ابن القيِّم رحمه الله: "فدينُ الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النمط الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلوّ المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطاً، وهي الخيار العدل، لتوسّطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط، والآفات إنّما تتطرّق إلى الأطراف والأوساط محميةٌ بأطرافها فخيار الأمور أوساطها"2. فنسأل الله أن يهدينا إليه صراطًا مستقيمًا، وأن يجنِّبنا الزلل في القول والعمل، وأن يوفِّقنا للعمل بكتابه واتّباع سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ 1 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (1/88) . 2 إغاثة اللهفان (1/201)

أفضلية القرآن على مجرد الذكر

17/ أفضليَّةُ القرآن على مجرَّدِ الذكر إنَّ ملازمة ذكر الله دائماً هي أفضل ما شغل العبد به وقته وصرف فيه أنفاسه، بعد قيامه بفرائض الله التي افترضها على عباده. والذِّكر شاملٌ لكلِّ قولٍ صالحٍ يحبّه الله ويرضاه من تلاوةٍ لكلام الله أو تسبيحٍ أو تحميدٍ أو تكبيرٍ أو تهليلٍ أو دعاءٍ أو غيرِ ذلك، وما من شكٍّ في أنَّ أفضلَ هذه الأذكار وأجلِّها وأعظمها وأرفعها قدراً قراءة القرآن الكريم كلام ربّ العالمين، كما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أحبُّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر"1، وفي لفظٍ كما في المسند للإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهنَّ من القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر"2. وفي سنن الترمذي وحسّنه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"3. وكما في الحديث الذي في السنن في الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن، فعلِّمني ما يجزئني في صلاتي، قال: "قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر "4.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2137) . 2 المسند (5/20) . 3 سنن الترمذي (رقم:2926) . 4 سنن أبي داود (رقم:832) ، سنن النسائي (2/143) ، وحسنه العلامة الألباني في صحيح أبي داود (1/157) .

ولهذا كانت القراءةُ واجبةً في الصلاة، ولا يُعدلُ عنها إلى الذِّكر إلاّ عند العجز عن ذلك، وهذا واضحٌ في الدِّلالة على أفضلية قراءة القرآن، ويدل على ذلك أيضاً أنَّ القراءة يشترط لها الطهارة الكبرى دون الذِّكر فإنَّه لا يشترط فيه ذلك، وما لم يشرع إلاّ على الحال الأكمل فهو أفضل، كما أنَّ الصلاة لمّا اشترط لها الطّهارتان كانت أفضل من مجرّد القراءة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أنَّ خيرَ أعمالكم الصلاة"1، ولهذا نصّ العلماء على أنَّ أفضل تطوّع البدن الصلاة، وأيضاً فما يكتب فيه القرآن لا يمسّه إلاّ طاهر دون ما يكتب فيه الذِّكر فإنَّه لا يشترط فيه ذلك. فهذا كلّه يدلّ على أن قراءة القرآن الكريم هي أفضل من التسبيح والتحميد والتكبير وغير ذلك من الأذكار، هذا من حيث الجملة، وإلاّ فإنَّه قد يقترن بالعمل المفضول ما يجعله أفضل. وقد أوضح هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وبيَّنه بيانًا وافيًا في جوابٍ له عن هذه المسألة2، يقول رحمه الله: "وتحقيق ذلك أنَّ العمل المفضول قد يقترن به ما يصيّره أفضل من ذلك وهو نوعان: أحدهما: ما هو مشروع لجميع الناس. والثاني: ما يختلف باختلاف أحوال الناس.

_ 1 المسند للإمام أحمد (5/276، 282) ، وصححه العلاَّمة الألباني في صحيح الجامع (رقم:952) . 2 انظر: الفتاوى الكبرى (1/233 وما بعدها) .

أما الأوّل: فمثل أن يقترن إما بزمان أو بمكان أو عمل يكون (به) أفضل، مثل ما بعد الفجر والعصر ونحوهما من أوقات النهي عن الصلاة، فإنَّ القراءة والذِّكر والدعاء أفضلُ في هذا الزمان، وكذلك الأمكنةُ التي نُهي عن الصلاة فيها كالحمّام وأعطانِ الإبل، فالذِّكرُ والدعاء فيها أفضل، وكذلك الجنب الذِّكر في حقّه أفضل، فإذا كُره الأفضل في حال حصول مفسدة كان المفضول هناك أفضل بل هو المشروع. وكذلك حال الركوع والسجود، فإنَّه قد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "نُهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، أما الركوع فعظِّموا فيه الرّب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم "1. وقد اتّفق العلماء على كراهة القراءة في الركوع والسجود، وتنازعوا في بطلان الصلاة بذلك على قولين هما وجهان في مذهب الإمام أحمد، وذلك تشريفاً للقرآن وتعظيماً له أن لا يقرأ في حال الخضوع والذُّلّ، وما بعد التشهّد هو حال الدعاء المشروع بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره، والدعاءُ فيه هو الأفضل، بل هو المشروع دون القراءة والذِّكر، وكذلك حال الطّواف، وبعرفة ومزدلفة وعند رمي الجمار المشروع هناك هو الذكر والدعاء. ثم ذكر رحمه الله النوع الثاني: وهو أن يكون العبد عاجزاً عن العمل الأفضل، إما عاجزاً عن أصله كمن لا يحفظ القرآن ولا يستطيع حفظه كالأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم، أو عاجزاً عن فعله على وجه

_ 1 رواه مسلم (رقم:479) .

الكمال مع قدرته على فعل المفضول على وجه الكمال، إلى أن قال: وليس كلُّ ما كان أفضل يشرع لكلِّ أحد، بل كلُّ واحد يشرع له أن يفعل ما هو أفضل له، فمن الناس من تكون الصدقة أفضل له من الصيام وبالعكس، وإن كان جنس الصدقة أفضل، ومن الناس من يكون الحج أفضل له من الجهاد كالنساء وكمن يعجز عن الجهاد، وإن كان جنس الجهاد أفضل، ثم قال: إذا عُرف هذا فيقال: الأذكار المشروعة في أوقات متعيّنة، مثل ما يقال عند جواب المؤذّن هو أفضل من القراءة في تلك الحال، وكذلك ما سنّه النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقال عند الصباح والمساء وإتيان المضطجع هو مقدّمٌ على غيره، وأما إذا قام من الليل فالقراءة له أفضل إذا أطاقها، وإلاّ فليعمل ما يطيق، والصلاةُ أفضل منهما، ولهذا نقلهم عند نسخ وجوب قيام الليل إلى القراءة فقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ} 1") . اهـ. وبهذا التحقيق الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله يتبيّن القول الفصل في هذه المسألة العظيمة، فتلاوة القرآن الكريم هي أفضل الأذكار، ومقدَّمة على التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والدعاء والاستغفار وغير ذلك من الأدعية والأذكار، إلاّ أنَّ هناك حالات معيَّنة تقترن بالعمل الفاضل يكون بها أفضل من غيره، وقد أشار شيخ الإسلام في تحقيقه المتقدّم إلى أمثلة عديدة لذلك.

_ 1 سورة المزّمّل، الآية: (20) .

روى الطبري عن عمرو بن أبي سلمة، قال: "سألتُ الأوزاعي عن قراءة القرآن أعْجَبُ إليك أم الذكر؟ فقال: سل أبا محمّد ـ يعني سعيد بن المسيّب ـ فسألته؟ فقال: بل القرآن. فقال الأوزاعي: إنَّه ليس شيءٌ يعدل القرآن، ولكن إنَّما كان هدي من سلف يذكرون الله تعالى قبل طلوع الشمس وقبل الغروب"1. فأشار رحمه الله إلى أنَّ القرآن هو أفضل الأذكار ولا يعدله شيء، لكنَّ الأذكار الوارندة في الصباح والمساء وأدبار الصلوات وغيرها تكون في وقتها أفضل، والله أعلم، وصلّى الله وسلّم على نبيِّنا محمّد وآله وصحبه.

_ 1 أورده القرطبي في التذكار في أفضل الأذكار (ص:59) .

فضل طلب العلم

18/ فضلُ طلب العلم ما من شكٍّ في أنَّ الاشتغال بطلب العلم وتحصيله، ومعرفة الحلال والحرام، ومدارسة القرآن الكريم، وتدبُّره، ومعرفة سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته وأخباره هو خيرُ الذكر وأفضلُه، ومجالسه خير المجالس، وهي أفضل من مجالس ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتكبير؛ لأنَّها دائرة بين فرض عين أو فرض كفاية، والذكر المجرّد تطوّع محض. ولهذا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفضيل العلم وتقديمه على العبادة، وتقديم العالم على العابد أنَّه قال: " وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب" خرّجه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم من حديث أبي الدرداء1. وقد تضمّن هذا الحديث مثلاً بديعاً يتضّح من خلاله مدى الفرق بين العالم والعابد، حيث شبّه صلى الله عليه وسلم العالم بالقمر ليلة البدر، أي ليلة الخامسَ عشر والتي فيها يكون نهاية كمال القمر وتمام نوره، وشبّه العابد بالكواكب، وفي هذا التشبيه سرٌّ لطيف نبّه عليه أهل العلم. يقول الإمام ابن رجب رحمه الله: "والسّر في ذلك والله أعلم، أنَّ الكوكب ضوءه لا يعدو نفسه، وأما القمر ليلة البدر فإنَّ نوره يشرقُ على أهل الأرض جميعًا فيعمّهم نورُه، فيستضيئون بنوره، ويهتدون به في سيرهم، وإنَّما قال على سائر الكواكب، ولم يقل على

_ 1 المسند (5/196) ، وسنن الترمذي (رقم:2682) ، وسنن ابن ماجه (رقم:223) ، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:6297) .

سائر النّجوم؛ لأنَّ الكواكب هي التي تسير ولا يُهتدى بها، فهي بمنزلة العابد الذي نفعه مقصور على نفسه"1. فدلّ الحديث على تفضيل العلم على العبادة تفضيلاً بيِّناً، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسند البزار، ومستدرك الحاكم وغيرهما، من حديث سعد ابن أبي وقّاص رضي الله عنه أنَّه قال: "فضل العلم أحبُّ إليَّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع"2. ومما يدلّ على تفضيل العلم على جميع النوافل والمستحبّات، بما فيها الذِّكر، أنَّ العلم يجمع جميع فضائل الأعمال المتفرّقة، روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلّموا العلم فإنَّ تعلُّمه حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنَّه معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل أهل الجنّة، وهو الأنس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السّرّاء والضّرّاء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاّء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادةً وأئمّةً، تُقتصُّ آثارهم، ويقتدى بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلّتهم، وبأجنحتها تمسحهم، يستغفر لهم كلّ رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامّه، وسباع البرّ وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم

_ 1 شرح حديث أبي ذر في طلب العلم (ص:33) . 2 مسند البزار (7/رقم:2969) من حديث حذيفة بن اليمان، والمستدرك (1/92) من حديث سعد، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:4214) .

منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، والتفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل، والعمل تابعه، يلهَمه السعداء ويُحرمه الأشقياء". رواه ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله، وقال: "وهو حديث حسن جداً، ولكن ليس له إسنادٌ قويٌّ1. وقد جاء عن السلف الصالح رحمهم الله في تفضيل العلم آثارٌ كثيرةٌ2، يقول الثوري رحمه الله: "ما يُراد الله عز وجل بشيء أفضلُ من طلب العلم، وما طُلب العلم في زمان أفضلَ منه اليوم". وقال ميمون بن مهران: "إنَّ مثل العالم في البلد كمثل عين عذبة في البلد". وقال الحسن البصري: "العالم خيرٌ من الزاهد في الدنيا المجتهد في العبادة، ينشر حكمة الله فإن قبلت حمد الله، وإن رُدّت حمد الله". وقال الإمام الشافعي: "طلب العلم أفضل من صلاة النافلة". وسئل الإمام أحمد: "أيُّما أحبُّ إليك أن أصلّي بالليل تطوُّعاً أو أجلس أنسخ العلم؟ قال: إذا كنت تنسخ ما تعلم من أمر دينك فهو أحبُّ إليّ". وقال أيضا: "العلم لا يعدله شيء". وإذا كان أهل العلم بهذه المنزلة الرفيعة والدرجة العالية فإنَّ الواجب على من سواهم أن يحفظ لهم قدرهم ويعرف لهم مكانتهم

_ 1 جامع بيان العلم (1/65) . 2 انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/99 وما بعدها) ، وشرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم (ص:36،37) .

وينزلهم منازلهم، فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "ليس منّا من لم يرحم صغيرنا ويوقّر كبيرنا، ويعرف لِعالمنا [حقَّه] "1. هذا وإنَّ من عدم معرفة قدر أهل العلم وحفظ مكانتهم الإدّعاءَ بأنَّ علماءَ الأمّة وفقهاءَ الملّة وأهل الحلّ والعقد فيها لا يفقهون غير علم الحيض والنفاس، ممّا يترتّب على ذلك الحطُّ من شأنهم والتقليلُ من قدرهم، وصرفُ النّاس عن الإفادة منهم، وهي مقالةٌ فاسدةٌ وكلمةٌ خطيرةٌ، نشأت قديما عند أرباب البدع وأهل الأهواء، ولكلِّ قومٍ وارثٌ، وفي الغالب أنَّ أهلَ هذه المقالة لا يسلم الواحد منهم من أحد توجهين: ـ إما توجّه صوفيٌّ، ينحى بهذه المقالة إلى الحطِّ من قدر العلم والتنقيص من مكانته، ليخلص من ذلك إلى تفضيل العبادة والذكر عليه، وربّما استشهد بعض هؤلاء على هذا بما يحكى عن رابعة العدوية أنَّها أتت ليلة بالقدس تصلّي حتى الصباح، وإلى جانبها بيت فيه فقيه يكرر على باب الحيض إلى الصباح، فلمّا أصبحت رابعة قالت له: يا هذا وصل الواصلون إلى ربّهم، وأنت مشتغل بحيض النّساء؟ 2. ولهذا دأب هؤلاء على النهي عن العلم والتحذير منه وعدّه آفة من الآفات، كما يقول أحدهم: "آفة المريد ثلاث: التزوّج، وكتابة الحديث، والأسفار".

_ 1 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/235) ، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (رقم:2196) . 2 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/396) .

ـ وإما توجّه فكريٌّ ينحى بهذه المقالة إلى إقحام الناس في متاهاتٍ فكريةٍ وتخرُّصاتٍ عقليةٍ وظنونٍ وأوهامٍ، وهذا يكثر عند أهل الكلام الباطل كالمعتزلة وغيرهم. روي عن إسماعيل بن علَيَّة، قال حدّثني اليسع، قال: تكلّم واصل ابن عطاء يومًا، فقال عمرو بن عبيد: "ألا تسمعون؟ ما كلام الحسن وابن سيرين عندما تسمعون إلاّ خرقة حيض ملقاة". وروي أنَّ زعيمًا من زعماء أهل البدع كان يريد تفضيل الكلام على الفقه فكان يقول: "إنَّ علم الشافعي وأبي حنيفة جملته لا يخرج من سراويل امرأة". ذكر هذا والذي قبله الشاطبي في كتابه الاعتصام1، ثم قال: "هذا كلام هؤلاء الزائغين قاتلهم الله". ولا ريب أنَّ هذه توجُّهاتٌ متحلّلةٌ من ربقة العلم مستحكمةٌ في الهوى والباطل، فنسأل الله أن يحفظنا وإيّاكم من الأهواء المطغية، والفتن المردية، بمنّه وكرمه، كما نسأله أن يحفظ علينا علماءنا الذين هم أمناء الشريعة وحفّاظ الدّين وأنصار الملّة، وأن يجزيهم عن الإسلام وأهله خير الجزاء، وأن يعلي قدرهم في الدنيا والآخرة، وأن ينصر بهم دينه ويعلي بهم كلمته إنّه وليُّ ذلك والقادر عليه.

_ (2/239) .

أركان التعبد القلبية وغيره من العبادات

أركان التعبد القلبية وغيره من العبادات ... 19/ أركانُ التعبّد القلبيَّة للذكر وغيره من العبادات إنَّ ذكر الله عز وجل والتقرّب إليه بما يحبّ من صالح الأعمال والأقوال لا يكون مقبولاً عند الله إلاّ إذا أقامه العابد على أركان ثلاثة، وهي الحب والخوف والرّجاء. فهذه الأركان الثلاثة هي أركان التعبّد القلبية التي لا قبول لأيِّ عبادة إلاّ بها، فالله جلّ وعلا، يعبد حبًّا فيه ورجاءً لثوابه وخوفًا من عقابه، وقد جمع الله تبارك وتعالى بين هذه الأركان الثلاثة في سورة الفاتحة التي هي أفضل سور القرآن، فقوله سبحانه: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} فيه المحبّة؛ لأنَّ الله منعم، والمنعم يُحب على قدر إنعامه؛ ولأنَّ الحمد هو المدح مع الحبّ للممدوح. وقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فيه الرجاء، فالمؤمن يرجو رحمة الله ويطمع في نيلها، وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيه الخوف، ويوم الدّين هو يوم الجزاء والحساب، ثمّ قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي أعبدك يا ربّ بما مضى بهذه الثلاث: بمحبّتك ورجائك وخوفك، فهذه الثلاث هي أركان العبادة التي عليها قيام {إِيَّاكَ نَعْبُدُوَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لا تقوم إلاّ على المحبّة التي دلّ عليها قوله {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} والرّجاء الذي دلّ عليه قوله {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} والخوف الذي دلّ عليه قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 1. وقد جمع الله أيضًا بين هذه الأركان في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ

_ 1 انظر: مؤلّفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (القسم الأول: العقيدة والآداب الإسلامية، ص:382،383) .

يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 1، فإنَّ ابتغاء الوسيلة إليه هو التقرب إليه بحبّه وفعل ما يحبّه، ثم قال: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} فذكر الحبّ والخوف والرّجاء2، وكذلك في قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} 3. ولذا يجب أن يكون العبد في عبادته وذكره لله جامعًا بين هذه الأركان الثلاثة المحبّة والخوف والرّجاء، ولا يجوز له أن يعبد الله بواحد منها دون باقيها، كأن يعبد الله بالحبّ وحده دون الخوف والرّجاء، أو يعبد الله بالرّجاء وحده، أو بالخوف وحده، ولذا قال بعض أهل العلم: "من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرّجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرّجاء فهو مؤمن موحّد"4. وأعظم هذه الأركان الثلاثة وأجلّها هو الحبّ، حبُّ الله تبارك وتعالى الذي هو أصل دين الإسلام وقطب رحاه، والمحبّة منزلةٌ شريفةٌ فيها يتنافس المتنافسون، وإليه شمّر المسابقون، وهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرّة العيون، وروح الإيمان والعمل، ومن لم يظفر بها في هذه الحياة فحياته كلُّها شقاءٌ وألمٌ.

_ 1 سورة الإسراء، الآية: (57) . 2 انظر: طريق الهجرتين لابن القيم (ص:465) . 3 سورة الأنبياء، الآية: (90) . 4 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/81) .

وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أسبابًا عظيمة جالبة للمحبّة فقال: "إنَّ الأسباب الجالبة للمحبّة عشرة: أحدها: قراءة القرآن بالتدبّر، والتفهُّم لمعانيه وما أريد به. الثاني: التقرُّب إلى الله تعالى بالنّوافل بعد الفرائض. الثالث: دوام ذكره على كلّ حال باللّسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبّة على قدر هذا. الرّابع: إيثار محابّه على محابّك عند غلبات الهوى. الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها وتقلّبه في رياض هذه المعرفة وميادينها. السادس: مشاهدة برّه وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة. السابع: وهو أعجبها، انكسار القلب بين يديه. الثّامن: الخلوة وقت النزول الإلهي، وتلاوة كتابه ثمّ ختم ذلك بالاستغفار والتوبة. التاسع: مجالسة المحبّين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، ولا تتكلّم إلاّ إذا ترجّحت مصلحة الكلام، وعلمت أنَّ فيه مزيدًا لحالك ومنفعةً لغيرك. العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل". ثم قال: "فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبّون إلى منازل المحبّة"1.

_ 1 مدارج السالكين (3/17، 18) .

ثم مع المحبّة يجب على العبد أن يكون خائفًا من الله راجيًا له راغبًا راهبًا، إن نظر إلى ذنوبه وعدل الله وشدّة عقابه خشي ربّه وخافه، وإن نظر إلى فضله العام والخاص وعفوه الشّامل رجا وطمع، إن وُفِّق لطاعة رجا من ربّه تمام النِّعمة بقبولها، وخاف من ردّها بتقصيره في حقِّها، وإن ابتلي بمعصية رجا من ربّه قبول توبته ومحوها وخشي بسبب ضعف التّوبة والالتفات للذّنب أن يعاقب عليها، وعند النّعم والمسارّ يرجو الله دوامها والزيادة منها والتوفيق لشكرها، ويخشى بإخلاله بالشكر من سلبها، وعند المكاره والمصائب يرجو الله دفعها وينتظر الفرج بحلّها، ويرجو أيضًا أن يثيبه عليها حين يقوم بوظيفة الصبر، ويخشى من اجتماع المصيبتين فوات الأجر المحبوب، وحصول الأمر المكروه إذا لم يوفّق للقيام بالصبر الواجب. فالمؤمن الموحّد ملازم في كل أحواله للخوف والرّجاء، وهذا هو الواجب وهو النّافع، وبه تحصل السعادة، لكن يخشى على العبد من خُلُقين مذمومين: إمّا أن يستولي عليه الخوف حتى يقنط من رحمة الله، أو يتجارى به الرّجاء حتى يأمن من مكر الله وعقوبته، ومتى بلغت الحال بالعبد إلى هذا فقد ضيّع واجب الخوف والرّجاء اللّذين هما من أكبر أصول الدّين ومن أعظم واجباته1. إنَّ الخوف المحمود الصادق هو ما حال بين صاحبه وبين محارم الله، فإذا تجاوز ذلك خيف منه أن يقع صاحبه في اليأس من رَوْح الله والقنوط من رحمة الله، والرّجاء المحمود الصادق هو الرّجاء الذي يكون

_ 1 انظر: القول السديد لابن سعدي (ص:119،120) .

مع عملٍ بطاعة الله على نور من الله، أمّا إذا كان الرّجل متمادياً في التفريط والخطايا، مُنْهَمِكا في الذنوب والمعاصي، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمنّي والرّجاء الكاذب، ولذا قال بعض السّلف: "الخوف والرّجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير وتمّ طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النّقص وإذا ذهبا صار الطائر في حدّ الموت". هذا واللهَ الكريمَ أسأل أن يوفِّقنا وإيّاكم لتحقيق هذه المقامات العظيمة المحبّة والخوف والرّجاء، وأن يجعلنا ممن عبد الله حبًّا فيه، ورجاءً لثوابه، وخوفًا من عقابه، وأن يعيننا على تكميل ذلك وحسن القيام به، إنَّه سميع الدعاء، وهو أهل الرّجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ذكر الله بذكر أسمائه وصفاته

20/ ذكرُ الله بذكرِ أسمائه وصفاته إنّ من أجلّ الذكر وأفضله ذِكْرَ الربّ تبارك وتعالى بذكر أسمائه الحسنى وصفاته العظيمة، والثناء عليه بما هو أهله، بما أثنى به على نفسه، وبما أثنى عليه به عبده ورسوله محمّد صلى الله عليه وسلم من نعوت الجلال وصفات الكمال وأنواع المحامد ونحو ذلك. إذ إنَّ الذكر نوعان: أحدهما: ذكر أسماء الربّ الحسنى وصفاته العظيمة والثناء عليه بها، وتنزيهه سبحانه وتقديسه عمّا لا يليق به تبارك وتعالى. وهذا أيضًا نوعان: أحدهما: إنشاء الثناء عليه بها من الذاكر، وهذا النوع هو المذكور في الأحاديث المشتملة على الحثّ على حمد الله وتكبيره وتسبيحه وحسن الثناء عليه، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " أحبّ الكلام إلى الله بعد القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرّة حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر"2، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللّسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان للرّحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" 3، ونحو هذه الأحاديث.

_ 1 رواه مسلم (رقم:2137) . 2 صحيح البخاري (رقم:6405) ، وصحيح مسلم (رقم:2691) . 3 صحيح البخاري (رقم:6049) ، وصحيح مسلم (رقم:2694)

وأفضل هذا النوع أجمعه للثناء وأعمُّه نحو قول: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، فهذا أفضل من مجرّد: سبحان الله. وكذلك قول: الحمد لله عدد ما خلق، والحمد لله ملء ما خلق، والحمد لله عدد ما في السموات والأرض، والحمد لله ملء ما في السموات والأرض، فهذا أفضل من مجرّد قول: الحمد لله. روى مسلم في صحيحه عن جويرية رضي الله عنها أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بُكرةً حين صلّى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسةٌ فقال: ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد قلت بعدك أربعَ كلمات ثلاث مرّات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهنَّ: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته"1. وروى الإمام أحمد، والطبراني، والحاكم، وغيرهم بإسناد جيّد، عن أبي أمامة الباهلي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ به وهو يحرّك شفتيه فقال: "ماذا تقول يا أبا أمامة؟ قال: أذكر ربي، قال: ألا أخبرك بأكثر أو أفضل من ذكر اللّيل مع النّهار والنّهار مع اللّيل أن تقول: سبحان الله عدد ما خلق، وسبحان الله ملء ما خلق، وسبحان الله عدد ما في الأرض والسماء، وسبحان الله ملء ما في الأرض والسماء، وسبحان الله عدد ما أحصى كتابه، وسبحان الله

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2726) .

عدد كلِّ شيء، وسبحان الله ملء كلِّ شيء، وتقول: الحمد لله مثل ذلك"1. فهذا جميعه من ذكر أسماء الرب وصفاته. والنوع الثاني من هذا: هو الخبر عن الربّ تعالى بأحكام أسمائه وصفاته نحو قولك: الله عز وجل يسمع أصوات عباده، ويرى حركاتهم، ولا تخفى عليه من أعمالهم خافية، وهو أرحم بهم من آبائهم وأمّهاتهم وهو على كلِّ شيء قدير، وهو أفرح بتوبة عبده من الفاقد راحلته، ونحو ذلك من الثناء عليه بما هو أهله ممّا أثنى به على نفسه، وما أثنى به عليه عبده ورسوله محمّد صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل. وهذا النوع يندرج تحته ثلاثة أنواع: حمدٌ وثناءٌ وتمجيدٌ. فالحمد: الإخبار عنه بصفات كماله سبحانه وتعالى مع محبّته والرضى به، فلا يكون المحبّ الساكت حامدًا، ولا المثني بلا محبّة حامداً حتى يجمع له المحبّة والثناء، فإن كرّر المحامد شيئاً بعد شيء كانت ثناء، فإن كان المدح بصفات الجلال والعظمة والكبرياء والملك كان مجداً. وقد جمع الله تعالى الأنواع الثلاثة في أوّل سورة الفاتحة، فإذا قال العبد: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مجّدني عبدي.

_ 1 المسند (5/249) ، والمعجم الكبير (8/رقم:8128) ، والمستدرك (1/513) ، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:2615) .

إنّ ما تقدّم هو النوع الأوّل من أنواع الذِّكر، وهو ذكر الرب بذكر أسمائه وصفاته، وهو نوعان كما سبق، وسيأتي مزيد تفصيل لهذا النوع من الذِّكر لاحقاً إن شاء الله. أما النوع الثاني: فهو ذكر أمر الربّ ونهيه وأحكامه، وهو أيضاً نوعان: ـ أحدهما: ذكره سبحانه بذلك إخبارًا عنه بأنَّه أمر بكذا ونهى عن كذا، وأحبّ كذا، وسخط كذا، ورضي كذا، فكلُّ هذا من ذكر الله تبارك وتعالى، ولهذا فإنَّ مجالس العلم التي يبيَّن فيها الحلال والحرام، وتوضّح فيها الأحكام مجالس ذكر لله. قال عطاء الخرساني: "مجالس الذِّكر مجالس الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيع، وتصلي وتصوم، وتنكح وتطلّق وتحجّ وأشباه هذا". وكان أحد السلف وهو أبو السُّوَار العدوي في حلقة يتذاكرون العلم ومعهم فتى شاب فقال لهم: قولوا: سبحان الله والحمد لله، فغضب أبو السُّوار، وقال: "ويحك في أيِّ شيء كنّا إذًا"1. فليست مجالس الذكر مختصّة بالمجالس التي يذكر فيها اسم الرّبّ بالتسبيح والتحميد والتكبير ونحو هذا، بل هي شاملةٌ للمجالس التي يذكر فيها أمره ونهيه وحلاله وحرامه، وما يحبّه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، بل ربَّما كان هذا الذكر أنفع من ذلك.

_ 1 أورد هذا الأثر والذي قبله ابنُ رجب في شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم (ص:23) .

ـ والنوع الثاني: ذكره سبحانه عند أمره فيبادر إليه، وعند نهيه فيهرب منه، فامتثال العبد لأوامر الله وانقياده لشرعه وإذعانه لحكمه واجتنابه لنواهيه، كلُّ ذلك من إقامة ذكر الله تعالى، فذكر أمره ونهيه شيءٌ، وذكره عند أمره ونهيه شيءٌ آخر. وقد أوضح هذه الأقسام المتقدّمة ابنُ القيِّم رحمه الله في كتابه الوابل الصيّب1، وذكر أنَّها إذا اجتمعت للذاكر فذِكْرُه أفضلُ الذكر وأجلّه وأعظمه. فنسأل الله الكريم أن يحقِّق لنا ولكم ذلك، وأن يعيننا جميعاً على ذكره وشكره وحسن عبادته إنَّه سميعٌ مجيبٌ قريبٌ

_ (ص:178 ـ 181) .

أهمية العلم بأسماء الله وصفاته

21 / أهمّيَّةُ العلم بأسماء الله وصفاته لقد مرّ معنا بيانُ فضل ذِكر الله بذِكر أسمائه وصفاته الواردة في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما من ريبٍ في فضل ذلك وعِظم شأنه وكثرة عوائده وفوائده، وكم للاشتغال بهذا الأمر من الفوائد المغدقة والثمار اليانعة، والأجر الدائم والخير المستمر في الدنيا والآخرة، وهذا الفضل يرجع إلى أسبابٍ عديدةٍ، أهمُّها: أوّلاً: أنَّ علم توحيد الأسماء والصفات أشرفُ العلوم وأفضلُها وأعلاها مكانةً وأجلُّها شأناً، وشرف العلم وفضلُه من شرف معلومه، ولا أشرف وأفضل من العلم بالله وأسمائه وصفاته الواردة في الكتاب والسنة، ولهذا فإنَّ الاشتغال بفهمه والعلم به والبحث عنه اشتغال بأشرف المطالب وأجَلِّ المقاصد. ثانياً: أنَّ معرفة الله والعلم به تدعو العبد إلى محبّته وتعظيمه وإجلاله وخشيته وخوفه ورجائه وإخلاص العمل له، وحاجة العبد إلى هذا وتحصيله هي أعظمُ الحاجات وأفضلها وأجلها، قال ابن القيم رحمه الله: "وليست حاجة الأرواح قطُّ إلى شيءٍ أعظمَ منها إلى معرفة باريها وفاطرها ومحبّتِهِ وذِكره والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه والزلفى عنده، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلَّما كان العبد بها أعلم كان بالله أعرف وله أطلب وإليه أقرب، وكلَّما كان لها أنكر كان بالله أجهل وإليه أكره ومنه أبعد، والله ينزِل العبد من نفسه حيث يُنزله العبدُ من نفسه"1. اهـ كلامه رحمه الله.

_ 1 مفتاح دار السعادة (ص:202) .

ولا سبيل لنيل هذا وتحصيله إلا بمعرفة أسماء الله وصفاته والتفقّه فيها والفهم لمعانيها. ثالثاً: أنَّ الله خلق الخلق وأوجدَهم من العَدَم، وسخّر لهم السموات والأرض وما فيهما ليعرِفوه ويعبدوه، كما قال سبحانه: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثَلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} 1، وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِن رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينِ} 2، فهذه الغاية التي خُلق الخلقُ لأجلها وأوجِدوا لتحقيقها، فالاشتغال بمعرفة أسماء الله وصفاته اشتغال بما خُلق له العبد، وتركه وتضييعه إهمال لما خُلق له، ولا ينبغي لعبد فضلُ الله عليه عظيم، ونِعَمُه عليه متوالية أن يكون جاهلاً بربّه معرضاً عن معرفته سبحانه. رابعاً: أنَّ أحد أركان الإيمان الستة، بل أفضلها وأصلها الإيمان بالله، وليس الإيمانُ مجرّدَ قول العبد آمنت بالله من غير معرفته بربّه، بل حقيقة الإيمان أن يعرف ربّه الذي يؤمن به ويَبذل جهدَه في معرفة أسمائه وصفاته حتى يبلغ درجة اليقين، وبحسب معرفته بربّه يكون إيمانُه، فكلما ازداد معرفة بأسمائه وصفاته ازداد معرفةً بربِّه، وازداد إيمانُه، وكلما نقص نقص، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} 3 قال ابن كثير رحمه الله: "أي إنَّما يخشاه حق خشيته

_ 1 سورة الطلاق، الآية: (12) . 2 سورة الذاريات، الآيات: (56 ـ 58) . 3 سورة فاطر، الآية: (28) .

العلماءُ العارفون به؛ لأنَّه كلَّما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال، المنعوت بالأسماء الحسنى، كلما كانت المعرفةُ به أتمَّ والعلمُ به أكملَ، كانت الخشيةُ له أعظمَ وأكثر"1. اهـ. وقد جمع هذا المعنى أحدُ السلف في عبارة مختصرة فقال: "من كان بالله أعرف كان له أخوف"2. ولا ريب أنَّ معرفة الله ومعرفة أسمائه وصفاته الواردة في الكتاب والسنة تثمر في العبد أنواعاً كثيرةً من العبادة والطاعة وابتغاء الوسيلة إلى الله، وتقوي فيه جانب الخوف والمراقبة، وتعظم فيه الرجاء، وتزيد في إيمانه ويقينِه وثقتِه بربِّه سبحانه. خامساً: أنَّ العلم به تعالى أصلُ الأشياء كلِّها، حتى إنَّ العارفَ به حقيقة المعرفة يستدل بما عرف من صفاته وأفعاله على ما يفعله وعلى ما يشرعه من الأحكام؛ لأنَّه سبحانه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته، فأفعاله دائرةٌ بين العدل والفضل والحكمة، ولذلك لا يشرع ما يشرعه من الأحكام إلاّ على حسب ما اقتضاه حمده وحكمته وفضله وعدله، فأخباره كلُّها حقٌ وصدقٌ، وأوامره ونواهيه كلُّها عدلٌ وحكمةٌ؛ ولهذا فإنَّ العبدَ إذا تدبّر كتاب الله وما تعرَّف به سبحانه إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما نزّه نفسه عنه مما لا ينبغي له ولا يليق به سبحانه، وتدبّر أيامه وأفعاله في أوليائه وأعدائه التي قصَّها على عباده وأشهدهم إياها ليستدلوا بها على أنَّه إلهُهُم الحق

_ 1 تفسير ابن كثير (6/530) . 2 وهو من قول أبي عبد الله الأنطاكي كما في الرسالة للقشيري (ص:141) .

المبين، الذي لا تنبغي العبادةُ إلا له، ويستدلوا بها على أنَّه على كلِّ شيء قدير، وأنَّه بكلِّ شيء عليم، وأنَّه شديد العقاب، وأنَّه غفور رحيم، وأنَّه العزيز الحكيم، وأنَّه الفعّال لما يريد، وأنَّه الذي وسع كلَّ شيء رحمةً وعلماً، وأنَّ أفعالَه كلَّها دائرةٌ بين الحكمة والرحمة والعدل والمصلحة، لا يخرج شيءٌ منها عن ذلك، فإذا تدبّر العبدُ ذلك أورثه ولا ريب زيادةً في اليقين، وقوّةً في الإيمان، وتماماً في التوكّل. فهذه خمسةُ أسبابٍ عظيمةٍ1 تدلُّ على فضل العلم بأسماء الله وصفاته وشدّة حاجة العباد إليه، بل ليس هناك حاجةٌ أعظمَ من حاجة العباد إلى معرفة ربِّهم وخالقهم ومليكهم ومُدبِّر شئونهم ومُقدِّر أرزاقهم، الذي لا غنى لهم عنه طرفة عين، ولا أقَلّ من ذلك، ولا صلاح لهم ولا زكاء إلا بمعرفته وعبادته والإيمان به وحده سبحانه، ولهذا فإنَّ حظَّ العبد من الصلاح واستحقاقه من المدْح والثناء إنَّما يكون بحسب معرفته بربه سبحانه [وعمله بذلك] ، وذلك بتدبُّر أسمائه الحسنى وصفاته العليا الواردة في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفهِمَها فهما صحيحاً سليماً دون أن يجحد شيئاً منها، أو يحرِّفه عن مراده ومدلوله، أو يُشبِّهه بشيءٍ من صفات الخلق تعالى الله عن ذلك وتنزَّه وتقدّس، فالله جلّ وعلا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 2 فله الحمد كلُّه على أسمائه الحسنى وصفاته العظيمة وآلائه الجسيمة، وله الثناء الحسن لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه.

_ 1 انظر: تفسير ابن سعدي (1/10) ، وخلاصته (ص:15) . 2 سورة الشورى، الآية: (11) .

اقتضاء الأسماء والصفات لآثارها من العبودية لله

22 / اقتضاء الأسماء والصفات لآثارها من العبوديّة لله لا يزال الحديثُ ماضياً بنا في بيان أهمِّية ذِكر الله بذكر أسمائه وصفاته الواردة في الكتاب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد مرّ بنا جملةٌ طيّبةٌ من الفوائد المترتّبة على ذلك، ومن هذه الفوائد أيضاً أنَّ معرفةَ أسماء الله الحسنى وصفاته العلى مقتضيةٌ لآثارها من العبودية كالخضوع والذلّ والخشوع والإنابة والخشية والرهبة والمحبة والتوكل وغير ذلك من أنواع العبادات الظاهرة والباطنة، بل إنَّ لكل صفة من صفات الربّ تبارك وتعالى عبوديةً خاصةً هي من مقتضياتها وموجبات العلم بها والتحققِ بمعرفتها، وهذا مُطَّرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح1. وبيان ذلك أنَّ العبد إذا علم بتفرّد الربّ تعالى بالضُرّ والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة فإنَّ ذلك يُثمرُ له عبودية التوكّل على الله باطناً، ولوازم التوكّل وثمراته ظاهراً. قال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ} 2، وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى العَزِيزِ الرَّحِيمِ} 3، وقال تعالى: {رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} 4، وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً} 5.

_ 1 وانظر في هذا: مفتاح دار السعادة لابن القيم (ص:424،425) . 2 سورة الفرقان، الآية: (58) . 3 سورة الشعراء، الآية: (217) . 4 سورة المزمل، الآية: (9) . 5 سورة النساء، الآية: (81) .

وإذا علم العبد بأنَّ الله سميعٌ بصيرٌ عليمٌ لا يخفى عليه مثقالُ ذرةٍ في السموات والأرض، وأنَّه يعلم السرَّ وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، وأنَّه تبارك وتعالى أحاط بكلِّ شيء علماً، وأحصى كلَّ شيء عددًا، فمن عرَّف نفسه باطلاع الله عليه ورؤيته له وإحاطته به، فإنَّ ذلك يُثمرُ له حفظ اللسان والجوارح وخطرات القلب عن كل ما لا يُرضي الله، وجَعْلَ تعلّقات هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه. قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى} 1، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ} 2، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 3، وقال تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 4، وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} 5، فلا ريب أنَّ هذا العلم يورث عند العبد خشيةَ الله ومراقبتَه والإقبالَ على طاعته والبعدَ عن مناهيه. قال ابن رجب: "راودَ رجلٌ امرأةً في فلاة ليلاً فأبت، فقال لها: ما يرانا إلا الكواكب فقالت: فأين مُكَوكِبُها"6. أي أين الله ألا يرانا، فمنعها هذا العلم اقتراف هذا الذنب والوقوع في هذه الخطيئة. وإذا علم العبد بأنَّ الله غنيٌّ كريمٌ، بَرٌّ رحيمٌ، واسعُ الإحسان، وأنَّه تبارك وتعالى مع غناه عن عباده فهو محسنٌ إليهم رحيمٌ بهم، يريد

_ 1 سورة العلق، الآية: (14) . 2 سورة الفجر، الآية: (14) . 3 سورة الحجرات، الآية: (1) . 4 سورة فصلت، الآية: (40) . 5 سورة البقرة، الآية: (235) .

بهم الخيرَ، ويكشف عنهم الضرَّ، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمةً منه وإحساناً، فهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثّر بهم من قلّة، ولا ليعتزّ بهم من ذِلَّة، ولا ليرزقوه ولا لينفعوه، ولا يدفعوا عنه كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِن رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينِ} 1، وقال تعالى: {وُقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} 2، وقال تعالى فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي إنَّكم لن تبلُغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلُغوا ضَرِّي فتضروني"3. فإذا عَلِم العبد ذلك أثمر فيه قوَّةَ الرّجاء ـ قوَّةَ رجائه بالله ـ وطمعه فيما عنده، وإنزال جميع حوائجه به، وإظهار افتقاره إليه واحتياجه له {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمْ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} 4، والرجاء يُثمر أنواعَ العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفة العبد وعلمه. وإذا علِم العبدُ بعدلِ الله وانتقامه وغضبه وسخطه وعقوبته فإنَّ هذا يثمر له الخشية والخوفَ والحذرَ والبعدَ عن مساخط الرب، قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} 5، وقال الله

_ 1 سورة الذاريات، الآيات: (56 ـ 58) . 2 سورة الإسراء، الآية: (111) . 3 جزء من حديث أبي ذر رضي الله عنه، أخرجه مسلم في صحيحه (برقم:2577) . 4 سورة فاطر، الآية: (15) . 5 سورة البقرة، الآية: (196) .

تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} 1، وقال تعالى: {فَإِن زَلَلْتُمْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ البَيِّنَاتِ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 2. وإذا علِمَ العبدُ بجلال الله وعظمته وعلوِّه على خلقه ذاتاً وقهراً وقدراً فإنَّ هذا يثمر له الخضوعَ والاستكانةَ والمحبةَ وجميعَ أنواع العبادة، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ} 3، وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِياًّ كَبِيراً} 4، وقال: {عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ} 5، وقال: {وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ} 6، وقال: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 7. وإذا علِمَ العبدُ بكمال الله وجماله، أوجبَ له هذا محبّةً خاصةً وشوقاً عظيماً إلى لقاء الله "ومن أحبّ لقاء الله أحبّ اللهُ لقاءَه"، ولا ريب أنَّ هذا يُثمر في العبد أنواعاً كثيرةً من العبادة، ولهذا قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 8.

_ 1 سورة البقرة، الآية: (203) . 2 سورة البقرة، الآية: (209) . 3 سورة الحج، الآية: (62) . 4 سورة النساء، الآية: (34) . 5 سورة الرعد، الآية: (9) . 6 سورة البقرة، الآية: (255) . 7 سورة الزمر، الآية: (67) . 8 سورة الكهف، الآية: (110) .

وبهذا يُعلم أنّ العبودية بجميع أنواعها راجعةٌ إلى مقتضيات الأسماء والصفات، ولهذا فإنَّه يتأكّد على كلِّ عبد مسلم أن يعرف ربَّه ويعرفَ أسماءه وصفاته معرفةً صحيحةً سليمةً، وأن يعلم ما تضمّنته، وآثارَها، وموجبات العلم بها، فبهذا يعظُم حظ العبد ويكمل نصيبه من الخير. قال الإمام أبو عمر الطلمنكي رحمه الله: "من تمام المعرفة بأسماء الله تعالى وصفاته التي يستحق بها الداعي والحافظ ما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المعرفةُ بالأسماء والصفات وما تتضمّن من الفوائد وتدل عليه من الحقائق، ومن لم يعلم ذلك لم يكن عالماً لمعاني الأسماء ولا مستفيداً بذكرها ما تدل عليه من المعاني"1. اهـ. والله المرجو أن يوفِّقنا وإياكم لتحقيق ذلك والقيام به على أحسن حال، فهو سبحانه سميع الدعاء، وأهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

_ 1 فتح الباري لابن حجر (11/226) .

العلم بأسماء الله وصفاته ومنهج أهل السنه في ذلك

23 / العلمُ بأسماء الله وصفاته ومنهج أهل السنة في ذلك إنَّ من مقامات الدين الرفيعة ومنازله العالية العظيمة، العلم بكمال الربّ الكريم، وما يجب له من صفاته العظيمة وأسمائه الحسنى الكريمة الواردة في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتي أثنى بها على نفسه وأثنى عليه بها عبدُه ورسولُه محمد صلى الله عليه وسلم، بل إنَّ هذا العلم والإيمان أصلٌ من أصول الدين، وركنٌ من أركان التوحيد، وأساسٌ من أُسُسِ الاعتقاد. ولهذا ندب الله عباده وحثّهم ورغّبهم في مواطن كثيرة من القرآن الكريم على تعلّم أسماء الرب وصفاته، ومعرفتها معرفةً صحيحةً سليمةً، دون مَيْل بها عن وجهها، أو صرفٍ لها عن مقصودها بتحريف أو تعطيل أو تكييف أو تمثيل أو نحو ذلك. يقول الله تعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاًمَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} 2، وقال تعالى: {هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلاَمُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهَ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 3، وقال تعالى:

_ 1 سورة الأعراف، الآية: (180) . 2 سورة الإسراء، الآية: (110) . 3 سورة الحشر، الآيات: (22 ـ 24)

{اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضَ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} 1، وقال تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 2 وقال: {وَاعْلَمُوا اَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 4، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} 5، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 6، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} 7، وقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 8، وقال: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرِ} 9، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ} 10، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} 10، وقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ} 11، والآيات في هذا المعنى كثيرة. إنَّ هذه الآيات وما ورد في معناها لَتدلُّ أوضحَ دلالة على عِظم

_ 1 سورة الطلاق، الآية: (12) . 2 سورة البقرة، الآية: (209) . 3 سورة البقرة، الآية: (231) . 4 سورة البقرة، الآية: (233) . 5 سورة البقرة، الآية: (235) . 6 سورة البقرة، الآية: (244) . 7 سورة البقرة، الآية: (267) . 8 سورة المائدة، الآية: (98) . 9 سورة الأنفال، الآية: (40) . 10 سورة البقرة، الآية: (194) ، والآية: (235) . 11 سورة محمد، الآية: (19) .

شأن العلم بأسماء الله تبارك وتعالى الحسنى، وصفاته العظيمة على وفق ما جاء في النصوص، وعلى ضوء ما ورد في الأدلة، فلا يُتجاوز في ذلك القرآن والحديث؛ إذ أسماء الربّ وصفاته توقيفيةٌ لا مجال إلى العلم به ومعرفتها إلا من خلال ما ورد في الكتاب والسنة، كما قال الإمام أحمد: "لا يُوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يُتجاوز القرآن والحديث"1. وقال ابن عبد البر رحمه الله: "ليس في الاعتقاد كلِّه في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء به منصوصاً في كتاب الله أو صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كلِّه أو نحوه يُسلّم له ولا يُناظر فيه"2. إنَّ وصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم يُعدُّ من أصول الإيمان الراسخة، وأسسِه العظيمة التي لا إيمان إلا بها، فمن جحد شيئاً من صفاته سبحانه ونفاها وأنكرها فليس بمؤمن، وكذلك من عطّلها أو شبَّهَها بصفات المخلوقين، سبحان الله عما يصفون، وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. قال نعيم بن حماد الخزاعي رحمه الله: "من شبّه الله بشيء من خلقه فقد كَفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسَه فقد كفر، فليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيه"3.

_ 1 مجموع الفتاوى لابن تيمية (5/26) . 2 جامع بيان العلم وفضله (2/943) . 3 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (رقم:936) .

ولهذا فإنَّ مذهب أهل السنة والجماعة يقوم في هذا الباب على أصلين عظيمين وأساسين متينين، هما: الإثبات بلا تمثيل، والتنزيه بلا تعطيل، فلا يُمثِّلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يُمثِّلون ذاته سبحانه بذواتهم، ولا ينفون عنه صفات كماله ونعوت جلاله الثابتة في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل يؤمنون بأنَّ الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. والواجب على كلِّ مسلم في هذا الباب العظيم أن يقف مع نصوص الكتاب والسنة دون زيادة أو نقصان، بل يؤمن بما ورد فيهما، ولا يحرِّف كلام الله عن مواضعه، ولا يُلحد في أسمائه وآياته، ولا يُكيّف صفاته، ولا يمثل شيئاً بشيءٍ من صفات خلقه؛ لأنَّ سبحانه لا سَمِيَّ له ولا كفؤ ولا نِدّ، ولا يُقاس بخلقه، وهو سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً من خلقه، وكذلك رسله الذين أخبروا عنه بتلك الصفات صادقون مصدوقون بخلاف الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، ولهذا قال الله سبحانه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 1، فسبَّح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلّم على المرسلين، لسلامة ما قالوه من النقص والعيب؛ ولهذا فإنَّ أهل السنة والجماعة المتَّبِعين لمحمّد وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه، يُثبتون ما أثبته رسل الله لربهم من صفات الكمال ونعوت الجلال، كتكليم الله لعباده ومحبّته لهم، ورحمته بهم، وعُلوِّه عليهم،

_ 1 سورة الصافات، الآيات: (180 ـ 183) .

واستوائه على عرشه، ونحو ذلك مما ورد من نعوت الرب الكريمة وصفاته الجليلة، فآمنوا بما قال الله سبحانه في كتابه وصحّ عن نبيّه صلى الله عليه وسلم وأمرّوه كما جاء من غير تعرض لكيفيةٍ أو اعتقاد مشابهةٍ أو مثليةٍ، أو تأويلٍ يؤدي إلى تعطيل صفات رب البرية، بل وسعتهم السنةُ المحمدية والطريقة المرضية، ولم يتجاوزوها إلى ضلالات بدعية أو أهواء رديَّة، فحازوا بسبب ذلك الرتب السَّنية والمنازل العليَّة في الدنيا والآخرة1. رزقنا الله وإياكم حسن اتباعهم والسَير على نهجهم وترسّم خطاهم إنَّه سميع مجيب قريب.

_ 1 انظر: عقيدة الحافظ تقي الدِّين عبد الغني المقدسي (ص:39) .

وصف أسماء الله بأنها حسنى ومدلول ذلك

24 / وصفُ أسماء الله بأنَّها حسنى ومدلول ذلك لقد ورد في القرآن الكريم الترغيبُ في دعاء الله بأسمائه الحسنى العظيمة، والتحذيرُ الشديدُ من سبيل الملحدين في أسمائه، وأنَّ الله سيحاسبهم على ذلك الحساب الشديد، وذلك في قوله سبحانه: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، ولذا فإنَّه يتأكّد على كلِّ مسلم أن يُعنى بأسماء الله الحسنى، وفهمها فهماً صحيحاً بعيداً عن سبيل الملحدين في أسماء الله الذين توعّدهم في هذه الآية بقوله: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وتوعّدهم على ذلك في آية أخرى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَونَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ القِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2، والإلحاد في أسماء الله إلحاد في آياته. وقد دلّت الآية الكريمة المتقدّمة على أنَّ أسماء الله كلَّها حسنى، إذ إنَّ الله تبارك وتعالى لكماله وجلاله وجماله وعظمته لا يُسمى إلا بأحسن الأسماء، كما أنَّه لا يُوصف إلا بأحسن الصفات، ولا يُثنى عليه إلا بأكمل الثناء وأحسنه وأطيبه، فأسماؤه جلّ وعلا هي أحسن الأسماء وأكملُها، وليس في الأسماء أحسنُ منها ولا يقوم غيرُها مقامها ولا يؤدي معناها، ولا يسدّ مسدّها، وقد وصف الرب تبارك وتعالى أسماءه بأنَّها حسنى في القرآن الكريم في أربعة مواضع، في الآية المتقدمة، وفي

_ 1 سورة الأعراف، الآية: (180) . 2 سورة فصلت، الآية: (40) .

قوله: {قُلْ ادْعُوا اللهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاًمَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} 1، وقوله: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} 2، وقوله: {هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} 3. فهذه أربعة مواطن في القرآن وُصفت فيها أسماء الله تبارك وتعالى بهذه الصفة العظيمة، والحسنى في اللغة: جمع أحسن، وليست جمع حسن، فهي أحسن الأسماء وأكملها وأعظمها، كما قال تعالى: {وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى} 4، أي له سبحانه الكمال الأعظم في ذاته وأسمائه وصفاته، ولذا كانت أسماؤه أحسن الأسماء. وأسماء الله إنَّما كانت حسنى لكونها قد دلت على صفة كمال عظيمة لله، فإنَّها لو لم تدل على صفة بل كانت علَماً محضاً لم تكن حسنى، ولو دلّت على صفةٍ ليست بصفة كمال لم تكن حسنى، ولو دلّت على صفةٍ ليست بصفة كمالٍ بل إما صفة نقص أو صفة منقسمة إلى المدح والقدح لم تكن حسنى، فأسماء الله جميعها دالةٌ على صفات كمال ونعوت جلال للرب تبارك وتعالى، وكلُّ اسم منها دالٌ على معنى من صفاته ليس هو المعنى الذي دل عليه الاسم الآخر5، فالرّحمن مثلاً يدل على صفة الرحمة، والعزيز يدل على صفة العزة، والخالق يدل

_ 1 سورة الإسراء، الآية: (110) . 2 سورة طه، الآية: (8) . 3 سورة الحشر، الآية: (24) . 4 سورة النحل، الآية: (60) . 5 انظر: الحق الواضح المبين لابن سعدي (ص:55) .

على صفة الخلق، والكريم يدل على صفة الكرم، والمحسن يدل على صفة الإحسان، وهكذا وإن كانت جميعها متفقةً في الدلالة على الرب تبارك وتعالى، ولهذا فهي من حيث دلالتُها على الذات مترادفةٌ، ومن حيث دلالتُها على الصفات متباينةٌ؛ لدلالة كل اسم منها على معنى خاص مستفاد منه. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "أسماء الرب تبارك وتعالى كلُّها أسماء مدح، ولو كانت ألفاظاً مجرّدةً لا معاني لها لم تدل على المدح، وقد وصفها الله بأنَّها حسنى كلُّها فقال: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1 فهي لم تكن حسنى لمجرّد اللفظ، بل لدلالتها على أوصاف الكمال، ولهذا لما سمع بعضُ العرب قارئاً يقرأ: {والسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ} (والله غفور رحيم) . قال: ليس هذا كلامَ الله تعالى، فقال القارئ: أتُكذّب بكلام الله؟ فقال: لا، ولكن ليس هذا بكلام الله، فعاد إلى حفظه، وقرأ: {وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 2، فقال الأعرابي: صدقتَ، عزَّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع. ولهذا إذا خُتمت آية الرحمة باسم العذاب أو بالعكس ظهر تنافرُ الكلام وعدمُ انتظامه"3. اهـ. وبهذا يتبيّن أنَّ فهم أسماء الله الحسنى والعلم بمعانيها أساس لا بد

_ 1 سورة الأعراف، الآية: (180) . 2 سورة المائدة، الآية: (38) . 3 جلاء الأفهام (ص:108) .

منه لتحقيق قول الله: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 1 فدعاء الله بأسمائه الذي أمر الله به في هذه الآية إنَّما يكون ويتحقق إذا علم الداعي معاني هذه الأسماء التي دعا الله بها، فإن لم يكن عالماً بمعانيها فإنَّه يجعل في دعائه الاسم في غير موطنه كأن يختم طلب الرحمة باسم العذاب أو العكس، فيظهر التنافر في الكلام وعدمُ الانتظام، ومن يتدبرّ الأدعية الواردة في القرآن أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنَّه ما من دعاء منها يختم بشيءٍ من أسماء الله الحسنى إلا ويكون في ذلك الاسم ارتباطٌ وتناسبٌ مع الدعاء المطلوب كقوله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} 2، وقوله: {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} 3، وقوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ} 4، ونحو ذلك من الآيات. ثم إنَّ دعاء الله بأسمائه يتناول دعاء المسألة ودعاء الثناء ودعاء التعبّد، وفي بيان ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: "وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظِّهم من عبوديّتها، وهو سبحانه يحبّ موجب أسمائه وصفاته، فهو عليمٌ يحب كلَّ عليم، وجوادٌ يحب كلَّ جواد، وِترٌ يحب الوتر، جميلٌ يحب الجمال، عَفُوٌّ يحب العفو وأهله، حَيِيٌّ يحبُّ الحياء وأهله، برٌّ يحب

_ 1 سورة الأعراف، الآية: (180) . 2 سورة البقرة، الآية: (127) . 3 سورة المؤمنون، الآية: (109) . 4 سورة الأعراف، الآية: (89) .

الأبرار، شكورٌ يحب الشاكرين، صبورٌ يحب الصابرين، حليمٌ يحب أهل الحلم ... "1، إلى آخر كلامه رحمه الله. ثم أيضاً من أهم ما ينبغي أن يتنبّه له المسلم في هذا الباب العظيم أن يحذر أشدّ الحذر من سبيل الملحدين في أسماء الله الذين توعّدهم الله في هذه الآية بأنَّهم سيُجزون ما كانوا يعملون، وهم أصنافٌ وأنواع، جَمَعَهم وصْفُ الإلحاد وتفرّقت بهم طرقُه، وعن هذا الموضوع الهام سيكون الحديث الآتي إن شاء الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

_ 1 مدارج السالكين (1/420) .

التحذير من الإلحاد في أسماء الله

25 / التحذير من الإلحاد في أسماء الله كان الحديث في ما مضى عن قول الله تبارك وتعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، وقد بقي معنا من معنى الآية تحذيرُ الله من الإلحاد في أسمائه، وتوعّده الملحدين فيها بأنَّه سيجازيهم على أعمالهم، ويُحاسبهم عليها أشدّ الحساب، فهو سبحانه يُمهِل ولا يُهمِل. وقد تهدّد الله في هذه الآية الذين يلحدون في أسمائه بتهديدين: الأول: صيغة الأمر في قوله: {وَذَرُوا} فإنَّها للتهديد. الثاني: في قوله: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2. والإلحاد في اللغة هو الميل والعدول، ومنه اللّحد، وهو الشقّ في جانب القبر الذي مال عن الوسط، ومنه المُلحد في الدين، أي: المائل عن الحق إلى الباطل، قال ابن السِّكِّيت: "الملحد العادل عن الحق المُدخل فيه ما ليس منه"3. والإلحاد في أسماء الله سبحانه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها، وهو أنواع عديدة يجمعها هذا الوصف، ولما حذّر الله في هذه الآية من الإلحاد في أسمائه هذا التحذير كان متأكّداً على المسلم أن يعرف الإلحاد في أسمائه وأنواعَه؛ لئلا يقع فيه كما قال الله

_ 1 سورة: الأعراف، الآية: (180) . 2 انظر: أضواء البيان للشنقيطي (2/329) . 3 تهذيب اللغة للأزهري (4/421) .

تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ} 1، أي: تتضحُ للناس فيكونون منها على حذر وحيطة، وقد قيل: ... تعلَّم الشرَّ لا للشرِّ ولكن لتَوَقِّيه ... فإنَّ من لم يعرف الشرَّ من النَّاس يَقَع فيه والإلحاد في أسماء الله كما تقدّم أنواع 2: أحدها: أن يسمَّى الأصنام والأوثان بها، كتسمية المشركين اللاَّت من الإله، والعُزَّى من العزيز، ومنَاةَ من المنَّان، وتسميتهم الصنم إلهاً، قال ابن جرير في تفسير قوله: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} : "يعني به المشركين، وكان إلحادهم في أسماء الله أنَّهم عدلوا بها عما هي عليه، فسمّوا بها آلهتهم وأوثانهم، وزادوا فيها ونقصوا منها، فسمّوا بعضها اللاَّت اشتقاقاً منهم لها من اسم الله الذي هو الله، وسمّوا بعضها العزى اشتقاقاً لها من اسم الله الذي هو العزيز"3. ثم روى عن مجاهد في معنى الآية أنَّه قال: "اشتقوا العزى من العزيز، واشتقوا اللات من الله". اهـ. فهذا إلحاد حقيقة فإنَّهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة. النوع الثاني: تسمية الله بما لا يليق بجلاله وكماله، وأسماءُ الله الحسنى توقيفيةٌ لا يجوز لأحد أن يتجاوز فيها القرآن والسنة، ولهذا فإنَّ من أدخل فيها ما ليس منها فهو ملحدٌ في أسماء الله، قال الأعمش

_ 1 سورة الأنعام، الآية: (55) . 2 انظر: بدائع الفوائد لابن القيم (3/169) . 3 جامع البيان (6/133) .

رحمه الله في تفسير الآية المتقدمة: "تفسيرها: يُدخلون فيها ما ليس منها"1. اهـ. ومن ذلك تسمية النصارى له أباً، وتسمية الفلاسفة إياه العلةَ الفاعلة بالطبع، وتسمية بعض أهل الضلال له بمهندس الكون ونحو ذلك، فكلُّ ذلك من الإلحاد في أسماء الله. النوع الثالث: تعطيل الأسماء عن معانيها وجَحدُ حقائقها، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الإلحاد التكذيب"2، ولا ريب أنَّ من أنكر معاني هذه الأسماء وجحد حقائقها فهو مكذبٌ بها ملحدٌ في أسماء الله، ومن ذلك قول من يقول من المعطلة: إنَّها ألفاظٌ مجرّدةٌ لا تدل على معاني، ولا تتضمّن صفات، فيطلقون عليه اسم السميع والبصير والحي والرحيم، ويقولون: لا حياة له، ولا سمع له، ولا بصر له، ولا رحمة، تعالى الله عما يقولون، وسبحان الله عما يصفون، ولا ريب أنَّ هذا من الإلحاد في أسماء الله، ثم إنَّ هؤلاء المعطلين متفاوتون في هذا التعطيل، فمنهم من تعطيله جزئيٌّ، بمعنى أنَّه يعطّل بعضاً ويثبت بعضاً، ومنهم من تعطيله كليٌّ، بمعنى أنَّه يعطل الجميعَ فلا يُثبت شيئاً من الصفات التي تدل عليها أسماء الله الحسنى، وكلُّ من جحد شيئاً مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ألحد في ذلك، وحظّه من هذا الإلحاد بحسب حظِّه من هذا الجحد. النوع الرابع: تشبيه ما تضمّنته أسماء الله الحسنى من صفاتٍ

_ 1 رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/1623) . 2 رواه ابن جرير في تفسيره (6/134) .

عظيمةٍ كاملةٍ تليق بجلال الله وجماله بصفات المخلوقين، تعالى الله عما يقول المشبّهون علوًّا كبيرًا، والله يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 1، ويقول سبحانه: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ} 2، فالله سبحانه لا سميّ له ولا شبيه ولا مثيل، فهو سبحانه لا يشبه شيئاً من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه، والمشَبِّه كما يقول الإمام أحمد رحمه الله هو الذي يقول: "يد الله كيَدِي، وسمعه كسمعي، وبصره كبصري تعالى الله عن ذلك"3، أما من يُثبت أسماء الله وصفاته على وجه يليق بجلال الله وكماله فهو بريء من التشبيه، وسالم من التعطيل. فهذه أنواعٌ أربعةٌ للإلحاد في أسماء الله الحسنى، وقد وقع في كل منها جماعات من المبطلين حَمَانا الله وإياكم، وَوَقَانا ووقاكم بمنّه وكرمه من كل ضلال وباطل، وقد برّأ الله أتباع رسله وورثته القائمين بسنته من ذلك كلِّه فلم يصفوا الله إلا بما وصف به نفسه ووصفه به نبيّه صلى الله عليه وسلم، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبّهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لا لفظاً ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات، فكان إثباتُهم برياً من التشبيه، وتنزيهُهم خليّا من التعطيل، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . وبهذه الآية الكريمة نختم الحديث هنا حامدين لله، مُثنين عليه بما هو أهله، وبما أثنى به على نفسه، حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى.

_ 1 سورة الشورى، الآية: (11) . 2 سورة مريم، الآية: (65) . 3 انظر: نقض التأسيس لابن تيمية (1/476) .

تدبر أسماء الله وصفاته وعدم تعطيلها وعظم أثر ذلك على العبد

26 / تدبّرُ أسماء الله وصفاته وعدم تعطيلها وعِظم أثر ذلك على العبد لا يخفى أنَّ حاجة العباد إلى معرفة ربهم وخالقهم ومليكهم هي أعظمُ الحاجات، وضرورتهم إلى ذلك هي أعظم الضرورات، وكلما كان العبدُ أعرفَ بأسماء ربه وما يستحقه من صفات الكمال ونعوت الجلال، وما يتنزّه عنه مما يضاد ذلك من النقائص والعيوب كان حظُّه من الثناء ونصيبه من المدح بحسب ذلك، والسبيل إلى تحقيق هذا المطلب الجليل والمقصد النبيل أن يتدبّر العبد أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة، ويتأمّلها اسماً اسماً، ويثبت ما دلّت عليه من معنى على وجه يليق بجلال الرب وكماله وعظمته، ويعتقد أنَّ هذا الكمال والعظمة ليس له منتهى، ويؤمن أنَّ كلَّ ما ناقض هذا الكمال بوجه من الوجوه فإنَّ الله تعالى منزّهٌ مقدّسٌ عنه، ويبذل ما استطاع من وسعه في معرفة أسماء الله وصفاته، ويجعل هذه المسألة العظيمة الجليلة أهم المسائل وأولاها بالعناية وأحقها بالتقديم ليفوز من الخير بأوفر نصيب. روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سريّة، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "سلوه لأي شيء كان يصنع ذلك؟ "، فسألوه فقال: لأنَّها صفةُ الرّحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أنَّ الله يحبّه"1.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:7375) ، وصحيح مسلم (رقم:813)

فهذه السورة الكريمة أُخلصت لذِكر أوصاف الرّحمن ونعوت كماله وجلاله، فأحب هذا الصحابي رضي الله عنه الإكثار من قراءتها، ولهذا لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب ملازمته لقراءتها قال: لأنَّها صفة الرّحمن وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال: " أخبروه أنَّ الله يحبّه "، وفي رواية أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حُبُّك إياها أدخلك الجنة ". فدل ذلك على أنَّ حب العبد لصفات الرحمن وملازمتَه تذكّرها واستحضار ما دلّت عليه من المعاني الجليلة اللائقة بكمال الرب وجلاله، والتفقّه في معانيها سببٌ عظيم من أسباب دخول الجنة، ونيل رضى الرب تبارك وتعالى ومحبته كما هو الحال في قصة هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه. إنَّ الواجب على كل مسلم أن يقف مع جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة موقف الرضا والقبول والتسليم، كما قال الإمام الزهري رحمه الله: "مِن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم"1. ولا يجوز لمسلم قَدَرَ الله حقّ قدْرِه أن يُقابل شيئاً منها برَدٍّ أو استنكارٍ أو تعطيلٍ أو نحو ذلك. روى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أنَّه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك، فقال: ما فَرَقُ هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه"2.

_ 1 أورده البخاري في صحيحه (13/503 ـ فتح) . 2 المصنف (11/423) ، وأورده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه التوحيد، وانظر شرحه في تيسير العزيز الحميد (ص:578) .

وصفات الله في القرآن والسنة من المحكم، إلا أنَّ هذا الرجل لقلة علمه وضعف تفريقه اشتبه عليه الأمر فبادر إلى الاستنكار، فأنكر عليه ابن عباس رضي الله عنهما ذلك وأخبر أنَّ هذا الاستنكار سبيلُ هلكه. فتبيّن بذلك أنَّ الواجب في الأسماء والصفات هو التسليم والقبول، وأن يحذر المسلمُ أشدّ الحذر من سبيل من يُلحدون في أسماء الله وصفاته إما بتعطيل لها، أو تكذيب لبعضها، أو تحريف لمعانيها، أو تمثيل لها بصفات المخلوقين، أو نحو ذلك من سبل الضلال، تعالى الله وتقدّس عن ذلك. وأهل السنة والجماعة منهجهم في هذا الباب العظيم: هو إثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونعوت الجلال، دون تحريف أو تعطيل، ودون تكييف أو تمثيل، ونفي ما نفاه الله عن نفسه وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من النقائص والعيوب، ولا يتجاوزون في ذلك القرآن والحديث. ولا ريب أنَّ لهذا المنهج العظيم آثاراً كثيرةً على العبد في صلاحه واستقامته وخوفه من ربّه ومراقبته له؛ إذ إنَّ العبد كلَّما كان بالله وبأسمائه وصفاته أعلم كان من الله أخوف، وله أطلب، وإليه أقرب. أما من خالف هذا المنهج وتَنَكَّبَ هذه الجادة وسلك طرقَ أهل الزيغ في أسماء الله وصفاته فما أبعده عن معرفة ربه وخالقه، بل إنَّه يكون أضعف الناس معرفة بالله، وأقلّهم خوفاً وخشيةً منه. ولذا يقول ابن القيم رحمه الله بعد أن بيّن أنَّ تفاوت الناس في معرفة الله يرجع إلى تفاوتهم في معرفة النصوص النبوية وفهمها والعلم

بفساد الشبه المخالفة لحقائقها: "وتجد أضعف الناس بصيرة أهل الكلام الباطل المذموم، الذي ذمّه السلف لجهلهم بالنصوص ومعانيها، وتمكُّنِ الشُّبه الباطلة من قلوبهم". ثم بيّن رحمه الله أنَّ العوام أحسنُ حالاً من هؤلاء وأقوى معرفة بربهم منهم فقال: "وإذا تأملت حال العامة الذين ليسوا مؤمنين عند أكثرهم ـ أي عند أكثر المتكلمين ـ رأيتهم أتمّ بصيرةً منهم وأقوى إيماناً وأعظم تسليماً للوحي وانقياداً للحق"1 اهـ. ولهذا وجب على كلِّ مسلم أن يكون في هذا الباب وفي جميع أبواب الدين على سنن أهل السنة والجماعة ووَفْق منهجهم، وأن يحذر سبل الضلال كلَّها وأبواب الباطل جميعها، والتوفيق بيد الله وحده، فنسأله سبحانه أن يوفّقنا وإياكم لكل خير يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، إنَّه سميعٌ مجيبٌ قريبٌ.

_ 1 مدارج السالكين (1/125) .

أسماء الله الحسنى غير محصوره بعدد معين وبيان المراد بقوله: "من أحصاها دخل الجنة"

27 / أسماءُ الله الحسنى غيرُ محصورة بِعددٍ معيَّنٍ وبيانُ المراد بقوله: "مَنْ أحصاها دخل الجنّة" لقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما خرّجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: "إنَّ لله تسعة وتسعين اسماً، مائةً إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة"1. ولا ريب أنَّ هذا الفضل العظيم ألا وهو دخول الجنة المترتِّب على إحصاء هذا العدد من أسماء الله ليحرك في النفس الجِدّ في نيل هذا المطلب العظيم والسعي في تكميله، والحرص الشديد على تحقيقه. ولقد ظن بعضُ النّاس خطأً أنَّ المرادَ بإحصاء أسماء الله المرغب فيه في هذا الحديث هو عدُّ ألفاظ تسعة وتسعين اسماً من أسماء الله، واستظهارها في القلب، والتلفّظ بها في أوقات معيّنة مخصوصة، وربما جعلها بعضهم في جملة ذكره لله في صباحه ومسائه دون فقه من هؤلاء لهذه الأسماء الجليلة العظيمة، أو تدبّر لمدلولاتها، أو تحقيق لموجباتها ومستلزماتها، أو عمل بمقتضياتها ومتطلباتها. ولقد نبّه العلماء رحمهم الله أنَّه ليس المراد بإحصاء أسماء الله عدّ حروفها فقط، بلا فقه لها أو عمل بها، بل لا بد في ذلك من فهم معناها والمراد بها فهماً صحيحاً سليماً، ثم العمل بما تقتضيه. قال أبو عمر الطلمنكي رحمه الله: "من تمام المعرفة بأسماء الله تعالى وصفاته التي يستحق بها الداعي والحافظ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،

_ 1 صحيح البخاري (رقم:2736) ، وصحيح مسلم (رقم:2677) .

المعرفة بالأسماء والصفات وما تتضمّن من الفوائد، وتدل عليه من الحقائق، ومن لم يعلم ذلك لم يكن عالماً لمعاني الأسماء، ولا مستفيداً بذكرها ما تدل عليه من المعاني"1. فنبّه رحمه الله إلى أنَّ تمام المعرفة بالأسماء الحسنى والتي ينال بها الداعي لله بها هذا الثواب العظيم الوارد في الحديث إنَّما يكون بالمعرفة بالأسماء والصفات وبما تتضمّنه من فوائد وتدل عليه من الحقائق، لا عدّها فقط دون فهم لها أو علم بما تدل عليه. وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله أنَّ لإحصاء أسماء الله الحسنى ثلاثَ مراتبَ بتكميلها وتحقيقها ينال العبدُ ثوابَ الله العظيم المذكور في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدم: المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها. المرتبة الثانية: فهم معانيها ومدلولاتها. المرتبة الثالثة: دعاء الله بها، وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة2. فبتحقيق هذه المراتب الثلاثة العظيمة يكون الإحصاء الصحيح لهذا القدر من أسماء الله الحسنى. ومما ينبغي أن يُعلم هنا أنَّ أسماء الله الحسنى ليست محصورةً في هذا العدد المعيّن المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة"، فالكلام في هذا الحديث جملة واحدة، فقوله:

_ 1 فتح الباري لابن حجر (11/226) . 2 بدائع الفوائد (1/164) .

"من أحصاها" صفةٌ، وليس خبراً مستقلاً، والمعنى أنَّ لله تسعة وتسعين من شأنها أنَّ من أحصاها دخل الجنة، وهذا لا ينافي أن يكون له أسماءٌ غيرها، ولهذا نظائر كثيرة في لغة العرب كما تقول: إنَّ عندي تسعة وتسعين درهماً أعددتها للصدقة، فإنَّ هذا لا ينافي أن يكون عندك غيرها معدةً لغير ذلك، وهذا أمر معروف لا خلاف فيه بين العلماء. بل لقد ورد في السنة ما يدل على أنَّ أسماء الله غيرُ محصورة ولا تُحدّ بعدد معيّن، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان، وهو يقول: "اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"1، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّه لا يحصي ثناء عليه، ولو أحصى جميع أسمائه لأحصى الثناء عليه. ومن ذلك أيضاً ما ورد في حديث الشفاعة الطويل أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ثم يفتح الله عليّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحدٍ قبلي"، فدل الحديث على أنَّ هناك محامد من أسماء الله وصفاته يفتح الله بها على رسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، وهي بلا شك غير المحامد المأثورة في الكتاب والسنة. وأيضاً فقد ثبت في المسند وغيره من حديث عبد الله بن مسعود

_ 1 صحيح مسلم (رقم:486) .

رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أصاب عبداً همٌّ ولا حزنٌ فقال: اللهم إنِّي عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همِّي، إلا أذهب الله همّه وحزنه وأبدله مكانه فرحاً"1. قال ابن القيم رحمه الله: "فجعل أسماء الله ثلاثة أقسام: قسم: سمى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم ولم ينزل به كتابه. وقسم: أنزل به كتابه فتعرف به إلى عباده. وقسم: استأثر به في علم غيبه فلم يُطلِع عليه أحداً من خلقه، ولهذا قال: "استأثرت به" أي: تفردت بعلمه"2. وبهذا يتبيّن أنَّ أسماء الله غيرُ محصورة في هذا العدد المعيّن، بل هي في القرآن والسنة أكثرُ من ذلك، وقصارى الحديث الدلالة على فضيلة إحصاء هذا العدد من أسماء الله. ومما ينبّه عليه هنا أنَّه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثٌ صحيحٌ في عدّ هذه الأسماء وسردها، وأما ما ورد في سنن الترمذي وسنن ابن ماجه وغيرهما من ذكرٍ لهذه الأسماء مسرودةً عَقِبَ حديث أبي هريرة

_ 1 المسند (1/391) ، وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم:199) . 2 بدائع الفوائد (1/166) .

المتقدّم1 فإنَّ هذا باتفاق أهل المعرفة والعلم بالحديث ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنَّما هو مدرجٌ من بعض الرواة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذا خرّجه البخاري ومسلم دون ذكر لها لضعفها ولعدم ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتفاصيل ذلك يجدها طالب العلم مبسوطة في مظانها من كتب أهل العلم2. ثم إنَّ هذه الأسماء موجودة كما تقدّم في الكتاب والسنة، فمن قرأهما وعوّل عليهما في دينه، واجتهد في تدبر أسماء الله الحسنى الواردة فيهما فقد ظفر بالمراد، وحصل المقصود، وبالله وحده التوفيق.

_ 1 انظر: سنن الترمذي (رقم:3507) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3861) . 2 وانظر في ذلك: فتح الباري لابن حجر (11/215 وما بعدها) .

تفاضل الأسماء الحسنى وذكر الاسم الأعظم

28 / تفاضلُ الأسماء الحسنى، وذكرُ الاسم الأعظم لقد مرّ معنا بيانُ أنَّ أسماء الله الحسنى غيرُ محصورةٍ في عدد معيّن، وأنَّ قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجَنَّة " لا يفيد حصر الأسماء الحسنى في هذا العدد، وأنَّ قصاراه الدلالةُ على فضيلة هذه الأسماء التسعة والتسعين، وأنَّها اختصت بأنَّ من أحصاها دخل الجنة. وفي هذا دلالةٌ على تفاضل الأسماء الحسنى خلافاً لمن نفى ذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقول من قال صفات الله لا تتفاضل ونحو ذلك قولٌ لا دليل عليه ... ، وكما أنَّ أسماءه وصفاته متنوعة فهي أيضا متفاضلة كما دلَّ على ذلك الكتابُ والسنةُ والإجماعُ مع العقل"1. اهـ. ومما يدل على تفاضل الأسماء الحسنى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأخبار الصحيحة أنَّ لله اسماً أعظم إذا سُئل به أَعطى، وإذا دُعيَ به أجاب، ولا ريب أنَّ هذه فضيلةٌ عظيمةٌ اختص بها هذا الاسم الذي وُصف بأنَّه اسم الله الأعظم، ولعلنا نستعرض بعض الأحاديث الواردة في ذلك، ثم نقف بعد ذلك على كلام بعض أهل العلم في تعيينه. روى الإمام أحمد في المسند، وأهل السنن الأربعة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إنِّي أسألك بأنَّ لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنانُ بديعُ السموات والأرض ذو الجلال والإكرام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد سألتَ

_ 1 انظر: جواب أهل العلم والإيمان (ص:197 ـ 200) .

الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى"، وزاد أبو داود والنسائي في آخره: "يا حيّ يا قيّوم" 1. وروى ابن ماجه، والحاكم وغيرهما عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب في ثلاث سور من القرآن، في البقرة، وآل عمران، وطه"2. وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 3، وفاتحة آل عمران: {ألم اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} "4. وروى أصحاب السنن، وابن حبان عن بريدة رضي الله عنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: اللهمّ إنِّي أسألك بأنِّي أشهد أنَّك أنت الله لا إله أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد سأل الله باسمه الأعظم

_ 1 المسند (3/265) ، وسنن أبي داود (رقم:1495) ، وسنن النسائي (3/52) ، وسنن الترمذي (رقم:3544) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3858) ، وصححه العلامة الألباني في صحيح الأدب المفرد (رقم:543) . 2 سنن ابن ماجه (رقم:3856) ، ومستدرك الحاكم (1/506) ، وحسنه العلامة الألباني في الصحيحة (رقم:746) . 3 سورة البقرة، الآية: (163) . 4 المسند (6/461) ، وسنن أبي داود (رقم:1496) ، وسنن الترمذي (رقم:3478) ، وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:980) .

الذي إذا سئل به أعطى وإذا دُعي به أجاب"1. فهذه بعض الأحاديث الثابتة في ذكر اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سئل به أعطى، ولأجل ذا فقد كان لهذا الاسم ومعرفته والبحث عنه شأن عظيم عند أهل العلم، ولهم في هذا أبحاثٌ كثيرةٌ مطولةٌ ومختصرةٌ، قال الإمام الشوكاني رحمه الله في كتابه تحفة الذاكرين: "وقد اختلف في تعيين الاسم الأعظم على نحو أربعين قولا، قد أفردها السيوطي بالتصنيف"2 اهـ. ولم يذكر السيوطي في كتابه الذي أفرده في ذلك والذي أسماه "الدر المنظم في الاسم الأعظم" سوى عشرين قولاً، وكثيرٌ منها ظاهرٌ ضعفُه لعدم قيام دليلٍ صحيحٍ صريحٍ على صحته وثبوته، وبعض المتصوفة لهم في هذا الباب أباطيل كثيرةٌ لا يلتفت إلى شيءٍ منها، ويروون في ذلك أحاديثَ موضوعةً وآثارًا مخترعةً، وقصصاً منكرةً يخدعون بها عوام المسلمين ويغرون بها جهالهم، والواجب على كلِّ مسلم أن يكون في دينه على حيطة وحذر من الوقوع في إفك هؤلاء وباطلهم، فكم غرّ هؤلاء من عوام المسلمين، وكم خدعوا من جهالهم، وكم من ضلال وشر وباطل انتشر بسببهم، والله المستعان. إنَّ أشهر الأقوال في تعيين الاسم الأعظم وأولاها بالصواب وأقربها للأدلة هو أنَّ اسم الله الأعظم هو "الله"، وإلى هذا القول

_ 1 سنن أبي داود (رقم:1493) ، وسنن الترمذي (رقم:3475) ، والسنن الكبرى للنسائي (رقم:7666) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3857) ، وصحيح ابن حبان (رقم:891،892) ، 2 تحفة الذاكرين (ص:67) .

ذهب جمعٌ كبيرٌ من أهل العلم. قال الإمام أبو عبد الله بن منده في كتابه التوحيد، وقد اختار فيه أنَّ اسم الله الأعظم هو الله، قال: "فاسمه الله معرفة ذاته، منع الله عز وجل خلقَه أن يتسمّى به أحدٌ من خلقه، أو يدعى باسمه إله من دونه، جعله أول الإيمان وعمود الإسلام، وكلمة الحق والإخلاص، ومخالفة الأضداد والإشراك فيه، يحتجز القائل من القتل، وبه تفتتح الفرائض وتنعقد الأيمان، ويُستعاذ من الشيطان، وباسمه يفتتح ويُختم الأشياء، تبارك اسمه ولا إله غيره"1 اهـ. ولهذا الاسم الكريم من الخصائص ما ليس لغيره من الأسماء، ومن خصائصه أنَّ الله يضيف سائر الأسماء إليه كقوله: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} ، ويقال: العزيز والرحمن والكريم والقدوس من أسماء الله، ولا يُقال: الله من أسماء الرحمن، بل إنَّ هذا الاسم الكريم مستلزمٌ لجميع معاني الأسماء الحسنى دالٌ عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيلٌ وتبيينٌ لصفات الإلهية، فلهذه المعاني العظيمة وغيرها مما اختص به هذا الاسم صار غير واحد من أهل العلم إلى اختيار أنَّ الاسم الأعظم هو الله، ومما يُقوي هذا أنَّ هذا الاسم الكريم قد ورد في جميع الأحاديث التي فيها إشارة إلى الاسم الأعظم. ومن أهل العلم من ذهب إلى أنَّ الاسم الأعظم هو "الحي القيوم"، قال ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد: "فإنَّ صفة الحياة متضمّنةٌ لجميع صفات الكمال، مستلزمةٌ لها، وصفة القيومية متضمّنةٌ لجميع

_ 1 التوحيد (2/21) .

صفات الأفعال، ولهذا كان اسمُ الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى هو اسم الحي القيوم". اهـ1. وقد ورد هذا الاسم في أكثر الأحاديث التي فيها إشارةٌ إلى الاسم الأعظم، فهذا القول والذي قبله هما أقوى ما قيل في الاسم الأعظم2، وعلى كلِّ حالٍ فهذه مسألة اجتهاد، لعدم ورود دليلٍ قطعي الدلالة على التعيين يجب أن يُصار إليه، إلا أنَّ من دعا الله بالأدعية المتقدّمة فقال في دعائه: "اللهم إنِّي أسألك بأنَّ لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنانُ بديعُ السموات والأرض، ذو الجلال والإكرام"، أو قال: "اللهمّ إنِّي أسألك بأنِّي أشهد أنَّك أنت الله لا إله ألا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد"، فقد دعا الله باسمه الأعظم لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عمّن دعا الله بذلك بأنَّه دعاه باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب. على أنَّه ينبغي أن نتذكّر أنَّ لقبول الدعاء شروطاً عديدةً وردت في الكتاب والسنة، وسيأتي لها بسط إن شاء الله. وفي الختام أسأل الله الكريم لي ولكم التوفيق لكل خير يحبه ويرضاه.

_ 1 زاد المعاد (4/204) . 2 علّق سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله على هذا الموطن بقوله: "والصواب أنَّ الأعظم بمعنى العظيم، وأنَّ أسماءَ الله سبحانه كلّها حسنى، وكلّها عظيمة، ومَن سأل الله سبحانه بشيء منها صادقاً مخلصاً سالماً من الموانع رُجيت إجابتُه، ويدلُّ على ذلك اختلاف الأحاديث الواردة في ذلك؛ ولأنَّ المعنى يقتضي ذلك، فكلُّ أسمائه حسنى، وكلُّها عظمى عز وجل، والله وليُّ التوفيق".

فضائل الكلمات الأربع: سبحان الله والحمد الله ولا أله إلا الله والله أكبر

فضائل الكلمات الأربع: سبحان الله والحمد الله ولا أله إلا الله والله أكبر ... 29 / فضائل الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر إنَّ خير الكلام وأفضل الذِكر بعد القرآن الكريم أربعُ كلمات، لهنَّ قدرٌ رفيعٌ وشأنٌ عظيمٌ ومكانةٌ عاليةٌ في دين الله، هنّ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وقد ورد في فضل هذه الكلمات الأربع نصوصٌ كثيرةٌ تدل دلالةً قويةً على عظم شأن وقدر هذه الكلمات، وما يترتّب على القيام بهنَّ من أجورٍ عظيمةٍ وأفضالٍ كريمةٍ، وخيراتٍ متواليةٍ في الدنيا والآخرة. ولعلنا نستعرض بعضَ فضائل هذه الكلمات من خلال بعض النصوص الواردة في ذلك: 1 ـ فمن فضائل هذه الكلمات: أنَّهنَّ أحب الكلام إلى الله، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الكلام إلى الله تعالى أربع، لا يضرك بأيّهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" 1، ورواه الطيالسي في مسنده بلفظ: "أربع هنَّ من أطيب الكلام، وهنّ من القرآن، لا يضرك بأيِّهنَّ بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"2.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2137) . 2 مسند الطيالسي (ص:122) .

2 ـ ومن فضائلهنَّ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنّهنَّ أحبُّ إليه مما طلعت عليه الشمس (أي من الدنيا وما فيها) ، لما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحبُّ إلي ممّا طلعت عليه الشمس" 1. 3 ـ ومن فضائلهن: ما ثبت في مسند الإمام أحمد، وشعب الإيمان للبيهقي بإسناد جيّد عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: إنِّي قد كبرتُ وضعُفت ـ أو كما قالت ـ فمُرني بعمل أعمله وأنا جالسة. قال: "سبّحي اللهَ مائة تسبيحة، فإنَّها تعدل لك مائة رقبة تعتقينها من ولد إسماعيل، واحمدي الله مائة تحميدة، تعدل لكِ مائة فرس مُسرجة ملجمة تحملين عليها في سبيل الله، وكَبِّري اللهَ مائة تكبيرة فإنَّها تعدل لك مائة بدَنة مُقلّدة متقبّلَة، وهلِّلي مائة تهليلة ـ قال ابن خلف (الراوي عن عاصم) أحسبه قال ـ: تملأ ما بين السماء والأرض، ولا يرفع يومئذ لأحدٍ عملٌ إلا أن يأتي بمثل ما أتيتِ به" 2. قال المنذري: رواه أحمد بإسناد حسن3. وحسّن إسناده العلامة الألباني حفظه الله4. وتأمَّل هذا الثواب العظيم المترتِّب على هؤلاء الكلمات، فمن

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2695) . 2 المسند (6/344) ، شعب الإيمان (رقم:612) . 3 الترغيب والترهيب (2/409) . 4 السلسلة الصحيحة (3/303) .

سبّح اللهَ مائة، أي قال: سبحان الله مائة مرّة فإنَّها تعدل عِتق مائة رقبة من ولد إسماعيل، وخصَّ بني إسماعيل بالذِّكر لأنَّهم أشرفُ العرب نَسباً، ومن حَمِد الله مائة، أي من قال: الحمد لله مائة مرّة كان له من الثواب مثل ثواب من تصدّق بمائة فرس مسرجةٍ ملجمةٍ، أي عليها سراجها ولجامها لحمل المجاهدين في سبيل الله، ومن كبّر اللهَ مائة مرّة، أي قال: الله أكبر مائة مرّة كان له من الثواب مثلُ ثواب إنفاق مائة بدنةٍ مقلّدةٍ متقبّلةٍ، ومن هلّل مائة، أي قال: لا إله إلا الله مائة مرة فإنَّها تملأ ما بين السماء والأرض، ولا يُرفع لأحدٍ عملٌ إلا أن يأتي بمثل ما أتى به. 4 ـ ومن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّهنَّ مكفِّرات للذنوب، فقد ثبت في المسند، وسنن الترمذي، ومستدرك الحاكم من حديث عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما على الأرض رجل يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلا كُفِّرت عنه ذنوبُه ولو كانت أكثر من زَبَد البحر"، حسنه الترمذي، وصححه الحاكم وأقرَّه الذهبي، وحسّنه الألباني1. والمراد بالذنوب المكفَّرة هنا أي الصغائر، لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّراتٌ

_ 1 المسند (2/158،210) ، وسنن الترمذي (رقم:3460) ، ومستدرك الحاكم (1/503) ، وصحيح الجامع (رقم:5636)

ما بينهنَّ إذا اجتُنبت الكبائر"1، فقيّد التكفير باجتناب الكبائر؛ لأنَّ الكبيرة لا يُكفِّرها إلا التوبة. وفي هذا المعنى ما رواه الترمذي وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بشجرة يابسة الورق فضربها بعصاه فتناثر الورق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر لَتُساقط من ذنوب العبد كما تَساقط ورق هذه الشجرة"، وحسّنه الألباني2. 5 ـ ومن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّهنَّ غرس الجنة، روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لقيت إبراهيم ليلة أُسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلامَ، وأخبِرهم أنَّ الجنةَ طيِّبةُ التربة، عذبةُ الماء، وأنَّها قيعان، غِراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر "3، وفي إسناد هذا الحديث عبد الرحمن بن إسحاق، لكن للحديث شاهدان يتقوى بهما من حديث أبي أيوب الأنصاري، ومن حديث عبد الله بن عمر. والقيعان جمع قاع، وهو المكان المستوي الواسع في وطأة من الأرض يعلوه ماء السماء، فيمسكه ويستوي نباته، كذا في النهاية لابن الأثير4، والمقصود أنَّ الجنة ينمو غراسها سريعاً بهذه الكلمات كما

_ 1 صحيح مسلم (رقم:233) . 2 سنن الترمذي (رقم:3533) ، وصحيح الجامع (رقم:1601) . 3 سنن الترمذي (رقم:3462) ، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم:105) .

ينمو غراس القيعان من الأرض ونبتها. 6 ـ ومن فضائلهنَّ: أنَّه ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام يكثر تكبيره وتسبيحه وتهليله وتحميده، روى الإمام أحمد، والنسائي في عمل اليوم والليلة بإسناد حسن عن عبد الله بن شداد: أنَّ نفرًا من بني عُذْرَة ثلاثةً أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأسلموا قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يكفينيهم" قال طلحةُ: أنا، قال: فكانوا عند طلحة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً فخرج فيه أحدُهم فاستشهدَ، قال: ثم بَعَثَ بعثاً آخر، فخرج فيهم آخر فاستشهد، قال: ثم مات الثالثُ على فراشه، قال طلحة: فرأيت هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة، فرأيت الميت على فراشه أمامهم، ورأيت الذي استُشهد أخيرًا يليه، ورأيت الذي استُشهد أولَهم آخرَهم، قال: فدخلني من ذلك، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنكرتَ من ذلك، ليس أحدٌ أفضل عند الله من مؤمن يُعمّرُ في الإسلام يَكثُر تكبيرُه وتسبيحُه وتهليله وتحميده"1. وقد دلّ هذا الحديث العظيم على عِظم فضل من طال عمرُه وحسُن عملُه، ولم يزل لسانُه رَطْباً بذكر الله عز وجل، وللحديث صلة وبالله وحده التوفيق.

_ 1 المسند (1/163) ، والسنن الكبرى للنسائي كتاب: عمل اليوم والليلة (6/رقم:10674) ، وحسنه العلامة الألباني في الصحيحة (رقم:654) .

فضائل أخرى لهؤلاء الكلمات الأربع

30 / فضائل أخرى لهؤلاء الكلمات الأربع لقد مرّ معنا ذكرُ جملة من الفضائل لكلمات أربع هنَّ أفضل الكلام بعد القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. ونواصل هنا ذِكْر جملةٍ أخرى من فضائل هؤلاء الكلمات من خلال أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الواردة في ذلك: 7 ـ فمن فضائلهنَّ: أنَّ الله اختار هؤلاء الكلمات واصطفاهنَّ لعِباده، ورتّب على ذِكر الله بهنّ أجورًا عظيمةً، وثواباً جزيلاً، ففي المسند للإمام أحمد ومستدرك الحاكم بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله اصطفى من الكلام أربعاً: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله كُتب له عشرون حسنة، وحُطّت عنه عشرون سيّئة، ومن قال: الله أكبر فمثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله فمثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين مِن قِبَل نفسِهِ كُتبت له ثلاثون حسنة، وحُطّ عنه ثلاثون خطيئة"1. وقد زاد في ثواب الحمد عندما يقوله العبد مِن قِبَل نفسه عن الأربع؛ لأنَّ الحمد لا يقع غالباً إلا بعد سبب كأكلٍ أو شُربٍ، أو حدوث نعمة، فكأنَّه وقع في مقابلة ما أُسديَ إليه وقت الحمد، فإذا

_ 1 المسند (2/302) ، والمستدرك (1/512) ، وقال العلاّمة الألباني في صحيح الجامع (رقم:1718) : صحيح.

أنشأ العبد الحمد من قِبَل نفسه دون أن يدفعه لذلك تجدُّدُّ نعمةٍ زاد ثوابه. 8 ـ ومن فضائلهنَّ: أنَّهنَّ جُنّةٌ لقائلهنّ من النار، ويأتين يوم القيامة مُنجيات لقائلهنّ ومقدّمات له، روى الحاكم في المستدرك، والنسائي في عمل اليوم والليلة، وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُذوا جُنَّتَكم"، قلنا: يا رسول الله من عدو قد حضر! قال: "لا، بل جُنَّتُكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنَّهنّ يأتين يوم القيامة منجيات ومقدّمات، وهنّ الباقيات الصالحات". قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وصححّه العلامة الألباني حفظه الله1. وقد تضمّن هذا الحديث إضافة إلى ما تقدّم وصفَ هؤلاء الكلمات بأنَّهنَّ الباقيات الصالحات، وقد قال الله تعالى: {وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} 2 والباقيات أي التي يبقى ثوابُها، ويدوم جزاؤُها، وهذا خيرُ أمَلٍ يؤمِّله العبد وأفضل ثواب. 9 ـ ومن فضائلهنَّ: أنَّهنَّ يَنعَطِفْن حول عرش الرحمن ولهنّ دويٌّ كدويِّ النحل، يذكرن بصاحبهنّ، ففي المسند للإمام أحمد، وسنن ابن ماجه، ومستدرك الحاكم عن النعمان بن بَشير رضي الله عنه قال: قال

_ 1 المستدرك (1/541) ، السنن الكبرى كتاب: عمل اليوم والليلة (6/212) ، صحيح الجامع (رقم:3214) . 2 سورة الكهف، الآية: (46) .

رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ مما تذكرون من جلال الله التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد، يَنعَطِفْن حول العرش لهنّ دَوِيٌّ كدَوِيِّ النحل، تذكر بصاحبها، أما يحب أحدكم أن يكون له، أو لا يزال له من يذكر به ". قال البوصيري في زوائد سنن ابن ماجه: إسناده صحيح، رجاله ثقات، وصحّحه الحاكم1. فأفاد هذا الحديث هذه الفضيلة العظيمة، وهي أنَّ هؤلاء الكلمات الأربع يَنعَطِفْن حول العرش أي يَمِلن حوله، ولهنّ دَوِيٌّ كدَوِيِّ النحل أي صوتٌ يشبه صوتَ النحل يُذَكِّرن بقائلهنّ، وفي هذا أعظم حضٍّ على الذِّكر بهذه الألفاظ، ولهذا قال في الحديث: "ألا يحب أحدكم أن يكون له أو لا يزال له من يذكر به". 10 ـ ومن فضائلهنَّ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّهنّ ثقيلاتٌ في الميزان، روى النسائي في عمل اليوم والليلة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وغيرهم عن أبي سلمى رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بَخٍ بَخٍ، ـ وأشار بيده بخمس ـ ما أثقلهنّ في الميزان: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والولدُ الصالح يُتوفى للمرء المسلم فيحتسبُه"، صححه الحاكم، ووافقه الذهبي2، وللحديث شاهد من حديث ثوبان رضي الله عنه، خرّجه البزار في مسنده، وقال: إسناده حسن3.

_ 1 المسند (4/268،271) ، سنن ابن ماجه (رقم:3809) ، المستدرك (1/503) . 2 السنن الكبرى كتاب: عمل اليوم واليلة (6/50) ، صحيح ابن حبان (الإحسان) (3/114/رقم:338) ، المستدرك (1/511،512) . 3 كشف الأستار عن زوائد البزار (4/9/رقم:3072) .

وقوله في الحديث: "بَخٍ بَخٍ" هي كلمة تُقال عند الإعجاب بالشيء وبيان تفضيله. 11 ـ ومن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّ للعبد بقول كلِّ واحدة منهنّ صدقة، روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه: أنَّ ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يصلّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدّقون بفضولِ أموالهم. قال: "أوَ ليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون؟ إنَّ بكلِّ تسبيحة صدقة، وكلِّ تكبيرة صدقة، وكلِّ تحميدة صدقة، وكلِّ تهليلةٍ صدقة، وأمرٍ بالمعروف صدقة، ونهيٍ عن منكرٍ صدقة، وفي بُضعِ أحدكم صدقة". قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوتَه ويكون له فيها أجرٌ؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ" 1. وقد ظنّ الفقراء أن لا صدقة إلا بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ جميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقةٌ، وذكر في مقدّمة ذلك هؤلاء الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. 12 ـ ومن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعلهنّ عن القرآن الكريم في حقِّ من لا يُحسنه، روى أبو داود، والنسائي، والدارقطني، وغيرهم عن ابن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: جاء

_ 1 صحيح مسلم (رقم:1006) .

رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنِّي لا أستطيع أن أتعلّمَ القرآنَ، فعلِّمني شيئا يُجزيني. قال: "تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله". فقال الأعرابي: هكذا ـ وقبض يديه ـ فقال: هذا لله، فمَا لي؟ قال: "تقول: اللهمّ اغفر لي وارْحمني وعافِني وارْزقني واهْدِني"، فأخذها الأعرابيُّ وقبض كفّيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد مَلأَ يديه بالخير" 1. قال المحدّث أبو الطيّب العظيم آبادي في تعليقه على سنن الدارقطني: سنده صحيح. وقال الألباني حفظه الله: سنده حسن2. فهذه بعض الفضائل الواردة في السنة النبوية لهؤلاء الكلمات الأربع، وقد ورد لكلِّ كلمة منهن فضائلُ مخصوصةٌ سيأتي تفاصيلها إن شاء الله، ومن يتأمل هذه الفضائل المتقدّمة يجد أنَّها عظيمةٌ جدًا، ودالّةٌ على عظيم قدرِ هؤلاء الكلمات، ورِفعة شأنهنّ وكثرة فوائدهنّ وعوائدهنّ على العبد المؤمن، ولعلّ السر في هذا الفضل العظيم والله أعلم ما ذُكر عن بعض أهل العلم أنَّ أسماء الله تبارك وتعالى كلَّها مندرجةٌ في هذه الكلمات الأربع، فسبحان الله يندرج تحته أسماء التنزيه كالقدّوس والسلام، والحمد لله مشتملة على إثبات أنواع الكمال لله تبارك في أسمائه وصفاته، والله أكبر فيها تكبير الله وتعظيمه، وأنَّه لا

_ 1 سنن أبي داود (رقم:832) ، سنن النسائي (2/143) ، سنن الدارقطني (1/313،314) . 2 صحيح أبي داود (1/157) .

يُحصي أحدٌ الثناءَ عليه، ومن كان كذلك فـ لا إله إلا هو أي لا معبود حق سواه1. فلله ما أعظمَ هؤلاء الكلمات، وما أجلَّ شأنهنَّ، وما أكبرَ الخير المترتّب عليهنّ، فنسأل الله أن يوفقنا للمحافظة والمداومة عليهنّ، وأن يجعلنا من أهلهنّ الَّذين ألسنتهم رطبةٌ بذلك، إنَّه وليّ ذلك والقادر.

_ 1 انظر: جزء في تفسير الباقيات الصالحات للعلائي (ص:40) .

فضائل كلمة التوحيد لا إله إلا الله

31 / فضائل كلمة التوحيد لا إله إلاّ الله كان الحديث فيما سبق حول ذِكرِ جملةٍ من النصوص النبوية الدالّة على فضل الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وفيما يلي سيكون الحديث في ذكر فضائل كلمة التوحيد لا إله إلاّ الله، التي هي أفضل هؤلاء الكلمات الأربع، وأجلّهنّ وأعظمهنّ؛ فلأجل هذه الكلمة خُلقت الخليقةُ، وأُرسلت الرسلُ، وأُنزلت الكتبُ، وبها افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة وأشقياء أهل النار، فهي العروة الوثقى، وهي كلمة التقوى، وهي أعظم أركان الدِّين وأهم شعب الإيمان، وهي سبيل الفوز بالجنة والنجاة من النار، وهي كلمة الشهادة، ومفتاح دار السعادة، وأصل الدين وأساسه ورأس أمره، وفضائل هذه الكلمة وموقعها من الدين فوق ما يصفُه الواصفون ويعرفه العارفون {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِماً بِالقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1. إنَّ لهذه الكلمة الجليلة فضائلَ عظيمةً، وفواضلَ كريمةً، ومزاياً جمّةً، لا يُمكن لأحد استقصاؤها، ومما ورد في فضل هذه الكلمة في القرآن الكريم أنَّ الله تبارك وتعالى جعلها زبدةَ دعوة الرسل، وخلاصةَ رسالاتهم، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً

_ 1 سورة آل عمران، الآية: (18) . 2 سورة الأنبياء، الآية: (25) .

أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، وقال تعالى في أول سورة النحل: {يُنَزِّلُ المَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَّشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ} 2، وهذه الآية هي أول ما عدّد الله على عباده من النعم في هذه السورة، فدلّ ذلك على أنَّ التوفيق لذلك هو أعظم نعم الله تعالى التي أسبغها على عباده كما قال سبحانه: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} 3. قال مجاهد: "لا إله إلا الله"4. وقال سفيان بن عيينة: "ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرّفهم لا إله إلا الله"5. ـ ومن فضائلها: أنَّ الله وصفها في القرآن بأنَّها الكلمة الطيّبة، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حَينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 6. ـ وهي القول الثابت في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} 7.

_ 1 سورة النحل، الآية: (36) . 2 سورة النحل، الآية: (2) . 3 سورة لقمان، الآية: (20) . 4 رواه ابن جرير في تفسيره (11/78) . 5 ذكره ابن رجب في "كلمة الإخلاص" (ص:53) . 6 سورة إبراهيم، الآية: (24) . 7 سورة إبراهيم، الآية: (27) .

وهي العهد في قوله تعالى: {لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} 1، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال: "العهد: شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرّأ إلى الله عز وجل من الحول والقوة، وهي رأس كلِّ تقوى"2. ـ ومن فضائلها: أنَّها العروة الوثقى التي من تمسّك بها نجا، ومن لم يتمسّك بها هلك، قال تعالى: {فَمَن يَّكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 3، وقال تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى} 4. ـ ومن فضائلها: أنَّها الكلمة الباقية التي جعلها إبراهيم الخليل عليه السلام في عقِبِه لعلهم يرجعون، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 5. ـ وهي كلمة التقوى التي ألزمها الله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أحقَّ بها وأهلَها، قال الله تعالى: {إِذْ َجَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاِهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} 6.

_ 1 سورة مريم، الآية: (87) . 2 رواه الطبراني في الدعاء (3/1518) . 3 سورة البقرة، الآية: (256) . 4 سورة لقمان، الآية: (22) . 5 سورة الزخرف، الآية: (26 ـ 28) .

روى أبو إسحاق السبيعي، عن عمرو بن ميمون قال: ما تكلّمَ الناس بشيء أفضل من لا إله إلا الله، فقال سعد بن عياض: "أتدري ما هي يا أبا عبد الله؟ هي والله كلمة التقوى ألزمها الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا أحقّ بها وأهلَها رضي الله عنهم"1. ـ ومن فضائل هذه الكلمة: أنَّها منتهى الصواب وغايته، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلاَئِكَةُ صَفاًّ لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ‍ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} 2. روى علي بن طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} أنَّه قال: "إلا من أذنَ له الربّ عز وجل بشهادة أن لا إله إلا الله، وهي منتهى الصواب"3. وقال عكرمة: "الصواب: لا إله إلا الله"4. ـ ومن فضائلها: أنَّها هي دعوة الحق المرادة بقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} 5. ـ ومن فضائلها: أنَّها هي الرابطة الحقيقية التي اجتمع عليها أهل دين الإسلام، فعليها يُوالون ويعادون، وبها يُحبّون ويُبغضون، وبسببها

_ 1 رواه الطبراني في الدعاء (3/1533) . 2 سورة النبأ، الآية: (38) . 3 رواه الطبراني في الدعاء (3/1520) . 4 رواه الطبراني في الدعاء (3/1520) . 5 سورة الرعد، الآية: (14) .

أصبح المجتمع المسلم كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص يَشُدُّ بعضها بعضاً. قال الشيخ العلاّمة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه أضواء البيان: "والحاصل أنَّ الرابطة الحقيقية التي تَجمع المفترقَ وتؤلف المختلف هي رابطة لا إله إلا الله، ألا ترى أنَّ هذه الرابطة التي تجمع المجتمع الإسلامي كلَّه كأنَّه جسدٌ واحدٌ، وتجعله كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً، عطفت قلوب حملة العرش ومن حوله من الملائكة على بني آدم في الأرض مع ما بينهم من الاختلاف، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كَلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} 1، فقد أشار تعالى إلى أنَّ الرابطة التي ربطت بين حملة العرش ومن حوله وبين بني آدم في الأرض حتى دعوا الله لهم هذا الدعاء الصالح العظيم إنَّما هي الإيمان بالله جلّ وعلا. إلى أن قال رحمه الله: وبالجملة فلا خلاف بين المسلمين أنَّ الرابطة التي تربط أفراد أهل الأرض بعضهم ببعض وتربط بين أهل الأرض والسماء هي رابطة لا إله إلا الله، فلا يجوز ألبتة النداء برابطة غيرها"2 اهـ.

_ 1 سورة غافر، الآية: (7 ـ 9) . 2 أضواء البيان (3/447،448) .

ـ ومن فضائل هذه الكلمة: أنَّها أفضل الحسنات، قال الله تعالى: {مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} 1. وقد ورد عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وغيرهم: أنَّ المراد بالحسنة: "لا إله إلا الله"2، وعن عكرمة رحمه الله في قول الله عز وجل: {مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} قال: "قول: لا إله إلا الله. قال: له منها خير؛ لأنَّه لا شيء خير من لا إله إلا الله"3. وقد ثبت في المسند وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله عَلِّمني عملاً يُقرّبني من الجنة ويُباعدني من النار. فقال: "إذا عملتَ سيّئةً فاعمل حسنةً فإنَّها عشر أمثالها". قلت: يا رسول الله، أفَمِنَ الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: "نعم هي أحسن الحسنات"4. فهذه بعض فضائل هذه الكلمة العظيمة، من خلال ما ورد في القرآن الكريم، وسوف نستكمل ذكر بعض فضائلها من خلال ما وَرَد من ذلك في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتوفيق بيد الله وحده.

_ 1 سورة النمل، الآية: (89) ، القصص، الآية: (84) . 2 انظر: الدعاء للطبراني (3/1497،1498) . 3 أورده ابن البنا في "فضل التهليل وثوابه الجزيل" (ص:74) . 4 المسند (5/169) .

فضائل أخرى لكلمة التوحيد لا إله إلا الله

32 / فضائلُ أخرى لكلمة التوحيد لا إله إلاّ الله تحدّثنا فيما سبق عن فضائل كلمة التوحيد: لا إله إلا الله من خلال ما ورد من ذلك في القرآن الكريم، تلك الكلمة العظيمة التي لأجلها قامت الأرض والسماوات، وخُلقت جميعُ المخلوقات، وبها أُرسل الرسلُ، وأُنزلت الكتبُ، وشُرعت الشرائعُ، ولأجلها نُصبت الموازين، ووُضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وانقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرار والفجّار، فهي منشأ الخلق والأمر، والثواب والعقاب، وهي الحق الذي أسست عليه الملّة ونُصبت القبلة، وعنها يُسأل الأولون والآخرون يوم القيامة، فلا تزول قَدَما عبدٍ بين يدي الله حتى يُسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسَلِين؟ فجواب الأولى: بتحقيق كلمة التوحيد لا إله إلا الله علماً وإقرارًا وعملاً. وجواب الثاني: بتحقيق أنَّ محمدا رسول الله علماً وإقرارًا وانقيادًا وطاعةً1. إنَّ فضائل كلمة التوحيد لا إله إلاّ الله لا يُمكن لمخلوق عدُّها، إذ يترتّبُ عليها من الأجر والثواب والفوائد الجمّة في الدنيا والآخرة ما لا يخطر ببال ولا يدور في خيال، ولعَلِّي أستعرضُ جملةً من فضائل هذه الكلمة من خلال ما ورد من ذلك في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ 1 انظر: زاد المعاد لابن القيم (1/34) .

ـ فمن فضائلها: أنَّها أفضلُ الأعمال وأكثرُها تضعيفاً، وتَعدِلُ عِتقَ الرِّقاب، وتكون لقائلها حِرزًا من الشيطان، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيء قديرٌ في يوم مائة مرّة كانت له عِدْل عشرِ رقاب، وكُتب له مائة حسنة، ومُحي عنه مائة سيّئة، ولم يأت أحدٌ بأفضل مما جاء به، إلا أحدٌ عملَ أكثرَ من ذلك" 1. وفيهما أيضاً عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قالها عشرَ مرات كان كمن أَعتقَ أربعة أنفس من وَلَدِ إسماعيل"2. ـ ومن فضائلها: أنَّها أفضل ما قاله النبيّون، لما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "أفضل ما قلتُ أنا والنبيّون عشيةَ عَرَفَةَ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيء قدير"3، وفي لفظ: "خيرُ الدعاءِ دعاءُ يوم عرفة، وخيرُ ما قلته أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيء قدير"4.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:3293) ، و (رقم:6403) ، وصحيح مسلم (رقم:2691) . 2 صحيح البخاري (رقم:6404) ، وصحيح مسلم (رقم:2693) . 3 أخرجه الطبراني في الدعاء (رقم:874) من حديث علي رضي الله عنه. 4 أخرجه الترمذي في السنن (رقم:3585) من حديث عبد الله بن عمرو. وحسنه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (4/7،8) ، وقال: الحديث ثابت بمجموع هذه الشواهد.

ـ ومن فضائلها: أنَّها ترجحُ بصحائف الذنوبِ يوم القيامة كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما المُخرَّج في المسند، وسنن النسائي، والترمذي، وغيرهما بإسناد جيّد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "يُصاح برجل من أمّتي على رؤوس الخلائق يوم القيامةِ، فيُنشرُ له تسعةٌ وتسعون سِجِلاً، كلُّ سِجِلٍّ منها مدّ البصر، ثم يقول الله تبارك وتعالى له: أَتُنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا يا ربّ. فيقول عز وجل: أَلَكَ عُذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا يا رب. فيقول عز وجل: بلى إنَّ لك عندنا حسنة، وإنَّه لا ظلم عليك، فتُخرجُ له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السِجِلاَّت؟ فيقول عز وجل: إنَّك لا تُظلم، قال: فتُوضَع السجلات في كِفَّة والبطاقة في كِفَّة، فطاشت السِجِلاَّت وثقُلت البطاقة"1. ولا ريب أنَّ هذا قد قام بقلبه من الإيمان ما جعل بطاقته التي فيها لا إله إلا الله تطيش بتلك السِجلاّت، إذ الناس متفاضلون في الأعمال بحسب ما يقوم بقلوبهم من الإيمان، وإلا فكم من قائل لا إله إلا الله لا يحصل له مثل هذا لضعف إيمانه بها في قلبه، فقد ورد في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرةٍ من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برّة من خير، ويخرج من النار

_ 1 المسند (2/213) ، سنن الترمذي (رقم:2639) ، سنن ابن ماجه (رقم:4300) . وقال العلامة الألباني: صحيح. صحيح الجامع (رقم:8095)

من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير"1، فدلّ ذلك على أنَّ أهل لا إله إلا الله متفاوتون فيها بحسب ما قام في قلوبهم من إيمان. ـ ومن فضائل هذه الكلمة: أنَّها لو وُزِنت بالسموات والأرض رجحت بهنّ كما في المسند عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنَّ نوحاً قال لابنه عند موته: آمُرُك بلا إله إلا الله، فإنَّ السموات السبع والأرضين السبع لو وُضعت في كفة، ووُضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهنّ لا إله إلا الله، ولو أنَّ السموات السبع في حلقة مبهمة لقصمتهنّ لا إله إلا الله"2. ـ ومن فضائلها: أنَّها ليس لها دون الله حجاب، بل تخرق الحُجب حتى تصل إلى الله عز وجل، ففي الترمذي بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " ما قال عبدٌ لا إله إلا الله مخلصاً إلا فُتحت له أبواب السماء حتى تُفضي إلى العرش ما اجتَنَب الكبائر"3. ـ ومن فضائلها: أنَّها نجاة لقائلها من النار، ففي صحيح مسلم: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع مؤذِّناً يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: "خرج من النار" 4، وفي الصحيحين من حديث عِتبان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ الله حرّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" 5.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:44) ، وصحيح مسلم (رقم:193) (325) . 2 المسند (2/170) ، وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم:134) . 3 سنن الترمذي (3590) ، وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع

ـ ومن فضائل هذه الكلمة: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعلها أفضل شُعب الإيمان، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"1. ـ ومن فضائلها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّها أفضلُ الذِّكر كما في الترمذي وغيره من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أفضل الذِّكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله"2. ـ ومن فضائلها: أنَّ من قالها خالصاً من قلبه يكون أسعد الناس بشفاعة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: قيل: يا رسول الله من أَسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك لما رأيت من حِرصك على الحديث، أَسعدُ الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه"3. وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: " من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه" دليلٌ على أنَّ لا إله إلا الله لا تُقبل من قائلها بمجرّد

_ 1 صحيح البخاري (رقم:9) ، وصحيح مسلم (رقم:35) . 2 سنن الترمذي (رقم:3383) ، وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:1104) . 3 صحيح البخاري (رقم:99) .

قوله لها بلسانه فقط، بل لا بدّ من استيفاء شروطها والإتيان بقيودها الواردة في الكتاب والسنة، إذ هي لا تُقبل من قائلها إلا بذلك، وعن هذا الموضوع الهام سيكون الكلام القادم إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين.

شروط لا إله إلا الله

33 / شروط لا إله إلاّ الله لقد تقدّم معنا ذكرُ شيء من فضائل كلمة التوحيد لا إله إلا الله التي هي خير الكلمات وأفضلُها وأجلُّها، وذِكرُ ما يترتّبُ عليها من أجورٍ كريمةٍ، وفضائلَ عظيمةٍ، وثمارٍ نافعةٍ في الدنيا والآخرة، لكن يجب على المسلم أن يعلمَ أنَّ لا إله إلا الله لا تُقبل من قائلها بمجرّد نطقه لها باللسان فقط، بل لا بدّ من أداء حقّها وفرضها، واستيفاء شروطها الواردة في الكتاب والسنة، وكلُّ مسلمٍ يعلم أنَّ كلَّ طاعةٍ يتقرّب بها إلى الله لا تُقبل منه إلا إذا أتى بشروطها، فالصلاة لا تُقبل إلا بشروطها المعلومة، والحج لا يُقبل إلا بشروطه، وجميع العبادات كذلك لا تُقبل إلاّ بشروطها المعلومة من الكتاب والسنة، وهكذا الشأن في لا إله إلا الله لا تُقبل إلا إذا قام العبد بشروطها المعلومة في الكتاب والسنة. وقد أشار سلفُنا الصالح رحمهم الله إلى أهميّة العناية بشروط لا إله إلا الله ووجوب الالتزام بها، وأنَّها لا تُقبل إلا بذلك، ومن ذلك ما جاء عن الحسن البصري رحمه الله: أنَّه قيل له: إنَّ ناساً يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة. فقال: من قال لا إله إلا الله فأدّى حقّها وفرضَها دخل الجنة. وقال الحسن للفرزدق وهو يدفن امرأته: ما أعددتَّ لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة. فقال الحسن: نِعمَ العُدّة، لكن للا إله إلا الله شروطاً فإياك وقذف المحصنات. وقال وهب بن منبه لمن سأله: أليس مفتاح الجَنَّة لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن أتيت بمفتاح له أسنان

فُتح لك، وإلا لم يُفتح. يشير بالأسنان إلى شروط لا إله إلا الله1. ثم إنَّه باستقراء أهل العلم لنصوص الكتاب والسنة تبيّن أنَّ لا إله إلا الله لا تُقبل إلا بسبعة شروط وهي: 1 ـ العلم بمعناها نفياً وإثباتاً المنافي للجهل. 2 ـ اليقين المنافي للشك والريب. 3 ـ الإخلاص المنافي للشرك والرياء. 4 ـ الصدق المنافي للكذب. 5 ـ المحبّة المنافية للبغض والكره. 6 ـ الانقياد المنافي للترك. 7 ـ القبول المنافي للردّ. وقد جمع بعضُ أهل العلم هذه الشروط السبعة في بيتٍ واحدٍ فقال: علمٌ يقينٌ وإخلاصٌ وصدقُك معْ ... محبّةٍ وانقيادٍ والقَبولُ لها ولنقِف وقفةً مختصرةً مع هذه الشروط لبيان المراد بكلِّ واحدٍ منها، مع ذِكر بعض أدلّتها من الكتاب والسنة2. ـ أما الشرط الأول: وهو العلم بمعناها المراد منها نفياً وإثباتاً المنافي للجهل، وذلك بأن يعلم من قالها أنَّها تنفي جميع أنواع العبادة عن كلِّ من سوى الله، وتُثبت ذلك لله وحده، كما في قوله سبحانه

_ 1 أورد هذه الآثار ابن رجب في "كلمة الإخلاص" (ص:14) . 2 وانظر شرحها موسعاً في: معارج القبول للشيخ حافظ حكمي (1/377 وما بعدها) .

وتعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي نعبدُك ولا نعبد غيرَك، ونستيعن بك ولا نستعين بسواك. قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ} 1، وقال تعالى: {إِلاّ مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2 قال المفسِّرون: إلا من شهد بـ لا إله إلا الله، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: معنى ما شهدوا به في قلوبهم وألسنتهم. وثبت في صحيح مسلم من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات وهو يعلم أنَّه لا إله إلا الله دخل الجنة"3، فاشترط عليه الصلاة والسلام العلمَ. ـ أما الشرط الثاني: فهو اليقين المنافي للشك والريب، أي أن يكون قائلها موقناً بها يقيناً جازماً لا شك فيه ولا ريب، واليقين هو تمام العلم وكماله، قال الله تعالى في وصف المؤمنين: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 4، ومعنى قوله: {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} أي أيقنوا ولم يشكّوا. وثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله، لا يلقى اللهَ بهما عبدٌ غيرُ شاكٍّ فيهما إلا دخل الجنة"5.

_ 1 سورة محمد، الآية: (19) . 2 سورة الزخرف، الآية: (86) . 3 صحيح مسلم (رقم:26) . 4 سورة الحجرات، الآية: (15) .

وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلاَّ الله مستيقناً بها قلبه فبشِّره بالجنة" 1، فاشترط اليقين. ـ والشرط الثالث: هو الإخلاص المنافي للشرك والرياء، وذلك إنَّما يكون بتصفية العمل وتنقيته من جميع الشوائب الظاهرة والخفيّة، وذلك بإخلاص النية في جميع العبادات لله وحده، قال تعالى: {أَلاَ للهِ الدِّينُ الخَالِصُ} 2، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 3، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "أسعدُ الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه"4، فاشترط الإخلاص. ـ والشرط الرابع: هو الصدق المنافي للكذب، وذلك بأن يقولَ العبدُ هذه الكلمة صادقاً من قلبه، والصدق هو أن يواطئ القلبُ اللسانَ، ولذا قال الله تعالى في ذمِّ المنافقين: {إِذَا جَآءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 5، فوصفهم سبحانه بالكذب؛ لأنَّ ما قالوه بألسنتهم لم يكن موجوداً في قلوبهم، وقال سبحانه وتعالى: {ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا

_ 1 صحيح مسلم (رقم:31) . 2 سورة الزمر، الآية: (3) . 3 سورة البينة، الآية: (5) . 4 صحيح البخاري (رقم:99) . 5 سورة المنافقون، الآية: (1) .

أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} 1، وثبت في الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً عبده ورسوله صادقاً من قلبه إلا حرّمه الله على النار"2، فاشترط الصدق. ـ الشرط الخامس: المحبَّة المنافية للبغض والكره، وذلك بأن يحب قائلُها اللهَ ورسولَه ودينَ الإسلام والمسلمين القائمين بأوامر الله الواقفين عند حدوده، وأن يُبغض من خالف لا إله إلا الله وأتى بما يُناقضها من شرك وكفر، وممّا يدل على اشتراط المحبة في الإيمان قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ للهِ} 3، وفي الحديث: "أوثق عُرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله"4. ـ والشرط السادس: القبول المنافي للردّ، فلا بدّ من قبول هذه الكلمة قبولاً حقاً بالقلب واللسان، وقد قصّ الله علينا في القرآن الكريم أنباء من سبق ممّن أنجاهم لقبولهم لا إله إلا الله، وانتقامه وإهلاكه لمن ردّها ولم يقبلها، قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقاًّ عَلَيْنَا نُنجِ المُؤْمِنِينَ} 5، وقال سبحانه في شأن المشركين:

_ 1 سورة العنكبوت، الآية: (1 ـ 3) . 2 صحيح البخاري (رقم:128) ، وصحيح مسلم (رقم:32) . 3 سورة البقرة، الآية: (165) . 4 مسند الإمام أحمد (4/286) ، وحسّنه العلاّمة الألباني في الصحيحة (رقم:1728) .

{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 1. ـ الشرط السابع: الانقياد المنافي للترك؛ إذ لا بد لقائل لا إله إلا الله أن ينقاد لشرع الله، ويُذعنَ لحكمه ويسلمَ وجهه إلى الله إذ بذلك يكون متمسكاً بـ لا إله إلا الله، ولذا يقول تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى} 2، أي فقد استمسك بـ لا إله إلا الله، فاشترط سبحانه الانقياد لشرع الله، وذلك بإسلام الوجه له سبحانه. فهذه هي شروط لا إله إلا الله، وليس المرادُ منها عدَّ ألفاظها وحفظَها فقط، فكم من عاميٍّ اجتمعت فيه والتزمها ولو قيل له: اعددها لم يُحسن ذلك، وكم من حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم، وتراه يقع كثيراً فيما يناقضها، فالمطلوب إذاً العلم والعمل معاً ليكون المرء بذلك من أهل لا إله إلا الله صدقاً، ومن أهل كلمة التوحيد حقاً، والموفَّق لذلك والمعين هو الله وحده، فنسأله سبحانه أن يوفِّقنا وإياكم لتحقيق ذلك، والحمد لله وحده.

_ 1 سورة الصافات، الآية: (35،36) . 2 سورة لقمان، الآية: (22) .

مدلول ومعنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله

34 / مدلولُ ومعنى كلمة التوحيد لا إله إلاّ الله إنَّ كلمة التوحيد لا إله إلا الله التي هي خير الذِّكر وأفضله وأكمله لا تكون مقبولة عند الله بمجرّد التلفّظ بها باللسان فقط، دون قيامٍ من العبدِ بحقيقة مدلولها، وتطبيق لأساس مقصودها من نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله، مع الاعتقاد الجازم لما تضمّنته من ذلك والعمل به، فبذلك يكون العبد مسلماً حقاً، وبذلك يكون من أهل لا إله إلا الله. وقد تضمّنت هذه الكلمة العظيمة أنَّ ما سوى الله ليس بإله، وأنَّ إلهية ما سواه أبطلُ الباطلِ، وإثباتَها أظلمُ الظلم، ومنتهى الضلال، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِن مَن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعُآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُوا بِعِبِادِتِهِمْ كَافِرِينَ} 1، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ} 2، وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 3، وقال تعالى: {وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَالِمُونَ} 4، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، ولا ريب أنَّ صرف العبادة لغير الله ظلم؛ لأنَّه وضع لها في غير موضعها، بل إنَّه أظلم الظلم وأخطره.

_ 1 سورة الأحقاف، الآية: (5،6) . 2 سورة الحج، الآية: (62) . 3 سورة لقمان، الآية: (13) . 4 سورة البقرة، الآية: (254

إنَّ لِـ لاَ إله إلا الله ـ هذه الكلمة العظيمة ـ مدلولاً لا بدّ من فهمه، ومعنىً لا بدّ من ضبطه، إذ غيرُ نافع بإجماع أهل العلم النطقُ بهذه الكلمة من غير فهم لمعناها، ولا عمل بما تقتضيه، كما قال الله سبحانه: {وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1، ومعنى الآية كما قال أهل التفسير أي: إلا من شهد بلا إله إلا الله وهم يعلمون بقلوبهم معنى ما نطقوا به بألسنتهم، إذ إنَّ الشهادة تقتضي العلم بالمشهود به، فلو كانت عن جهل لم تكن شهادة، وتقتضي الصدق، وتقتضي العمل بذلك، وبهذا يتبيّن أنَّه لا بدّ في هذه الكلمة من العلم بها مع العمل والصدق، فبالعلم ينجو العبد من طريقة النصارى الذين يعملون بلا علم، وبالعمل ينجو من طريق اليهود الذين يعلمون ولا يعملون، وبالصدق ينجو من طريقة المنافقين الذين يُظهرون ما لا يُبطنون، ويكون بذلك من أهل صراط الله المستقيم، من الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين. والحاصل أنَّ لا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفياً وإثباتاً، واعتقد ذلك وعمل به، أما من قالها وعمل بها ظاهراً من غير اعتقاد فهو المنافق، وأما من قالها وعمل بضدّها وخلافها من الشرك فهو الكافر، وكذلك من قالها وارتدّ عن الإسلام بإنكار شيء من لوازمها وحقوقها فإنَّها لا تنفعه ولو قالها ألف مرّة، وكذلك من قالها وهو يصرف أنواعاً من العبادة لغير الله كالدعاء، والذبح، والنذر،

_ 1 سورة الزخرف، الآية: (86) .

والاستغاثة، والتوكل، والإنابة، والرجاء، والخوف والمحبة، ونحو ذلك، فمن صرفَ مما لا يصلحُ إلا لله من العبادات لغير الله فهو مشرك بالله العظيم ولو نطق بلا إله إلا الله؛ إذ لم يعمل بما تقتضيه من التوحيد والإخلاص الذي هو معنى ومدلول هذه الكلمة العظيمة1. فإنَّ لا إله إلا الله معناها: لا معبود حق إلا إله واحد، وهو الله وحده لا شريك له، والإله في اللغة هو المعبود، ولا إله إلا الله: أي لا معبود حق إلا الله كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2 مع قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 3، فتبيّن بذلك أنَّ معنى الإله هو المعبود، وأنَّ لا إله إلا الله معناها إخلاص العبادة لله وحده واجتناب عبادة الطاغوت، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش: قولوا: لا إله إلا الله قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 4، وقال قومُ هودٍ لنبيّهم لما قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 5، قالوا ذلك وهو إنَّما دعاهم إلى لا إله إلا الله؛ لأنَّهم فهموا أنَّ المراد بها نفي الألوهية عن كلِّ من سوى الله وإثباتُها لله وحده لا شريك له، فـ لا إله إلا الله اشتملت

_ 1 انظر: تيسير العزيز الحميد (ص:78) . 2 سورة الأنبياء، الآية: (25) . 3 سورة النحل، الآية: (36) . 4 سورة ص، الآية: (5) . 5 سورة الأعراف، الآية: (70) .

على نفي وإثبات، فنفت الإلهية عن كلِّ ما سوى الله تعالى، فكلُّ ما سوى الله من الملائكة والأنبياء فضلاً عن غيرهم فليس بإله، وليس له من العبادة شيء، وأثبتت الإلهية لله وحده، بمعنى أنَّ العبد لا يأْلَهُ غيرَه، أي لا يقصده بشيء من التألّه، وهو تعلّق القلب الذي يوجب قصده بشيء من أنواع العبادة كالدعاء والذبح والنذر وغير ذلك. وقد جاء في القرآن الكريم نصوصٌ كثيرةٌ تُبيّنُ معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وتوضح المراد بها، ومن ذلك قول الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1، وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} 2، وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 3، وقال تعالى حكاية عن مؤمن يس~: {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} 4، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} 5، وقال تعالى حكاية عن مؤمن آل

_ 1 سورة البقرة، الآية: (163) . 2 سورة البينة، الآية: (5) . 3 سورة الزخرف، الآية: (26 ـ 28) . 4 سورة يس، الآية: (22 ـ 24) . 5 سورة الزمر، الآية: (11 ـ 14) .

فرعون: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى العَزِيزِ الغَفَّارِ لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ المُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} 1، والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ جدًّا، وهي تُبيِّن أنَّ معنى لا إله إلا الله هو البراءة من عبادة ما سوى الله من الشفعاء والأنداد، وإفرادُ الله وحده بالعبادة، فهذا هو الهدى ودين الحق الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه، أما قول الإنسان لا إله إلا الله من غير معرفة لمعناها ولا عمل بمقتضاها، بل لربما جعل لغير الله حظاً ونصيباً من عبادته من الدعاء والخوف والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادات فإنَّ هذا لا يكفي العبدَ لأن يكون من أهل لا إله إلا الله، ولا ينجيه يوم القيامة من عذاب الله2. فليست لا إله إلا الله اسماً لا معنى له، أو قولاً لا حقيقة له، أو لفظاً لا مضمون له، كما قد يظنّه بعض الظانين، الذين يعتقدون أنَّ غاية التحقيق في ذلك هو النطق بهذه الكلمة من غير اعتقاد في القلب بشيء من المعاني، أو التلفظ بها من غير إقامة لشيء من الأصول والمباني، وهذا قطعاً ليس هو شأن هذه الكلمة العظيمة، بل هي اسم لمعنى عظيم، وقول له معنى جليل هو أجل من جميع المعاني، وحاصله كما تقدّم البراءةُ من عبادة كلِّ ما سوى الله، والإقبال على الله وحده خضوعاً وتذلّلاً، وطمعاً ورغباً، وإنابةً وتوكّلاً، ودعاءً وطلباً، فصاحب

_ 1 سورة غافر، الآية: (41 ـ 43) . 2 انظر: تيسير العزيز الحميد (ص:140) .

لا إله إلا الله لا يَسأل إلا الله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يتوكّل إلا على الله، ولا يرجو غير الله، ولا يذبح إلا لله، ولا يصرف شيئاً من العبادة لغير الله، ويكفر بجميع ما يُعبد من دون الله، ويبرأ إلى الله من ذلك. فيا لها من مسألة ما أجلَّها، ويا له من أمر ما أبيَنَه وأوضَحَه، ولكن التوفيق بيد الله وحده، وهو وحده المستعان.

نواقض شهادة أن لا إله إلا الله

35 / نواقض شهادة أن لا إله إلاّ الله لقد مرّ معنا شروطُ كلمة التوحيد لا إله إلا الله التي لا بد من توفّرها في العبد لتكون مقبولةً منه عند الله، وهي شروطٌ عظيمةُ الشأن، جليلةُ القدر يجب على كلِّ مسلم أن يُعنى بها عنايةً كبيرةً، ويهتمّ بها اهتماماً بالغاً، وإنَّ مما ينبغي أن يهتم به المسلم في هذا الباب العظيم معرفة نواقض هذه الكلمة ليكون منها في حذر، فإنَّ الله تبارك وتعالى قد بيّن في كتابه سبيل المؤمنين المحقّقين لهذه الكلمة مفصّلة، وبيّن سبيل المجرمين المخالفين لها مفصّلة، وبيّن سبحانه عاقبة هؤلاء وعاقبة هؤلاء، وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء، والأسباب التي وفق بها هؤلاء والأسباب التي خذل بها هؤلاء، وجلا سبحانه الأمرين في كتابِه وكشفَهما وأوضحَهما وبيّنَهما غايةَ البيانِ، كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ} 1، وقال سبحانه: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِّعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسآءَتْ مَصِيراً} 2، ومن لم يعرف سبيل المجرمين ولم تستبِن له طريقهم أوشك أن يقع في بعض ما هم فيه من الباطل، ولذا قال أمير المؤمنين عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه: "إنَّما تُنقض عرى الإسلام عروةً عروةً إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية"3.

_ 1 سورة الأنعام، الآية: (55) . 2 سورة النساء، الآية: (115) . 3 انظر: الفوائد لابن القيم (ص:201 وما بعدها) .

ولهذا جاءت النصوص الكثيرةُ في الكتاب والسنة المحذرةُ من أسباب الرِّدة وسائر أنواع الشرك والكفر المناقضة لكلمة التوحيد لا إله إلا الله، وقد ذكر العلماء رحمهم الله في باب حكم المرتدّ من كتب الفقه: أنَّ المسلم قد يرتدُّ عن دينه بأنواعٍ كثيرةٍ من النواقض إذا وقع فيها، أو في أيِّ شيء منها ارتَدَّ عن الدِّين وانتقل من الملّة، ولم ينفعه مجرّد التلفّظ بـ لا إله إلا الله؛ إذ إنَّ هذه الكلمة العظيمة التي هي خير الذِّكر وأفضله لا تكون نافعة لقائلها إلا إذا أتى بشروطها واجتنب كلَّ أمرٍ يُناقضها. وما من ريب أنَّ في معرفة المسلم لهذه النواقض فائدةً عظيمةً في الدين، إذا عرفها معرفة يقصد من ورائها السلامة من هذه الشرور، والنجاة من تلك الآفات، ولهذا فإنَّ من عَرَفَ الشركَ والكفرَ والباطلَ وطرقَه وأبغضها وحذرها وحذّر منها ودفعها عن نفسه ولم يدعها تخدش إيمانه، بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له، وكراهة لتلك الأمور ونفرةً عنها كان له في معرفته هذه من الفوائد والمنافع ما لا يعلمه إلا الله، والله سبحانه يُحبُّ أن تُعرف سبيلُ الحق لتُحب وتُسلك، ويحب أن تُعرف سبيل الباطل لتُجتنب وتُبغض؛ إذ إنَّ المسلم كما أنَّه مطالب بمعرفة سبيل الخير ليطبّقها، فهو كذلك مطالب بمعرفة سبل الشر ليحذرها، ولهذا ثبت في الصحيحين عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنَّه قال: كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني1. ولهذا أيضاً قيل:

_ 1 صحيح البخاري (رقم:3606) ، وصحيح مسلم (رقم:1847) .

عرفت الشرَّ لا للشرِّ ولكن لتوقِّيه ... ومن لم يعرف الشرَّ من الناس يقع فيه وإذ كان الأمر بهذه الحال وعلى هذا القدر من الأهمية فإنَّ الواجب على كلِّ مسلم أن يعرف الأمور التي تناقض كلمة التوحيد لا إله إلا الله ليكون منها على حذر، وهي كما تقدّم تنتقض بأمورٍ كثيرةٍ، إلا أنَّ أشدَّ هذه النواقض خطرًا وأكثرها وقوعاً عشرةُ نواقض ذكرها غيرُ واحد من أهل العلم رحمهم الله1، وفيما يلي ذكرٌ لهذه النواقض على سبيل الإيجاز، ليحذرها المسلم وليحذِّر منها غيره من المسلمين رجاءَ السلامة والعافية منها. أما الأول: فهو الشرك في عبادة الله، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشآءُ} 2، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} 3، ومن ذلك دعاءُ الأموات والاستغاثةُ بهم، والنذرُ والذبحُ لهم، ونحو ذلك. الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكّل عليهم فقد كفر إجماعاً، قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 4.

_ 1 انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/232 وما بعدها) . 2 سورة النساء، الآية: (48) . 3 سورة المائدة، الآية: (72) . 4 سورة يونس، الآية: (18) .

الثالث: من لم يُكفِّر المشركين أو شَكَّ في كفرهم أو صحّح مذهبهم كَفَر. الرابع: من اعتقد أنَّ هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكملُ من هديه، أو أنَّ حكم غيره أحسنُ من حكمه، فهو كافرٌ؛ كالذين يفضِّلون حكم الطاغوت على حكمه سبحانه وتعالى. الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به فقد كفر؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} 1. السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو ثوابه أو عقابه كفر، والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2. السابع: السحرُ، ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} 3. الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} 4. التاسع: من اعتقد أنَّ بعض الناس يَسَعُه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كافر؛ لقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ

_ 1 سورة محمد، الآية: (9) . 2 سورة التوبة، الآية: (65،66) . 3 سورة البقرة، الآية: (102) . 4 سورة المائدة، الآية: (51) .

وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} 1. العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلّمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} 2. فهذه عشرة أمورٍ من نواقض كلمة التوحيد لا إله إلا الله، فمن وقع في شيء منها ـ والعياذ بالله ـ انتقض توحيده، وانهدم إيمانه، ولم ينتفع بقوله لا إله إلا الله. وقد نصّ أهل العلم على أنَّه لا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد، والخائف إلا المكره، وجميع هذه النواقض هي من أعظم ما يكون خطرًا، وأكثر ما يكون وقوعاً، فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، ونسأله سبحانه أن يُوفِّقنا جميعا لما يرضيه، وأن يهدينا وجميع المسلمين صراطه المستقيم، إنَّه سميعٌ مجيبٌ قريبٌ.

_ 1 سورة آل عمران، الآية: (85) . 2 سورة السجدة، الآية: (32) .

بيان فساد الذكر بالاسم المفرد مظهرا أو مضمرا

36 / بيان فساد الذِّكر بالاسم المفرد مظهَراً أو مضمَراً كان الحديث فيما مضى في بيانِ فضل كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وأنَّها خيرُ ما ذَكَر به الذاكرون ربَّهم، وأفضلُ ما لهجت به ألسنتهم، وهي كلمةٌ يسيرٌ لفظها، عظيمٌ معناها، وحاجةُ العباد إليها هي أعظم الحاجات، وضرورتُهم إليها هي أعظم الضرورات، بل إنَّ حاجتهم وضرورتهم إليها أعظمُ من حاجتهم وضرورتِهم إلى طعامهم وشرابهم ولباسهم وسائر شؤونهم، ولما كان بالناس ـ بل بالعالم كله ـ من الضرورة إلى لا إله إلا الله ما لا نهاية له ولا حَدَّ كانت من أكثر الأذكار وجودًا وأيسرها حصولاً وأعظمها معنى وأجلِّها مكانة، ومع هذا كلِّه إلا أنَّ بعض العوام والجُهال يعدلون عنها وينصرفون إلى دعواتٍ مبتدعةٍ وأذكارٍ مخترعةٍ ليست في الكتاب ولا في السنة، وليست مأثورةً عن أحد من سلف الأمة1. ومن ذلك ما يفعله بعض الطرقيَّة من أهل التصوّف في أذكارهم، حيث يذكرون الاسم المفرد مظهرًا فقط، فيقولون: (الله، الله) ، يكرِّرون لفظ الجلالة، وربما أتى بعضهم بدل ذلك بالاسم المضمر (هو) مكرّرًا، وقد يغلو بعضهم في ذلك فيجعل ذكر كلمة التوحيد لا إله إلا الله للعامة، وذِكر الاسم المفرد للخاصة، وذكر الاسم المضمر لخاصة الخاصة، وربما قال بعضُهم: لا إله إلا الله للمؤمنين، والله للعارفين، وهو للمحققين، فيفضِّلون بذلك ذكرَ الاسم المفرد مظهرًا، أو ذكره

_ 1 انظر: فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ص:45) .

مضمرًا على كلمة التوحيد لا إله إلا الله التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنَّها أفضلُ الذِّكر، وأنَّها أفضلُ ما قاله عليه الصلاة والسلام هو والنبيّون من قبله، وقد سبق أن مرَّ معنا بعضُ الأحاديث الدالة على ذلك، هذا مع أنَّ ذِكر الاسم المفرد مظهرًا أو ذِكره مضمرًا ليس بمشروع في الكتاب ولا في السنة، ولا هو مأثورٌ عن أحدٍ من سلف الأمة، وإنَّما لهَج به قوم من ضلاّل المتأخرين بلا حجة ولا برهان. وقد فنَّد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله دعاوى هؤلاء في ذكرهم المحدث هذا، وبَيَّن فساد ما قد يتشبّثون به لنصرته وتقريره، قال رحمه الله: "وربما ذكر بعض المصنفين في الطريق تعظيم ذلك واستدل عليه تارةً بوَجدٍ، وتارةً برأيٍ، وتارةً بنقلٍ مكذوبٍ، كما يروي بعضُهم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لقّن عليَّ بن أبي طالب أن يقول: "الله، الله، الله، فقالها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ثم أمر عليّاً فقالها ثلاثاً"، وهذا حديثٌ موضوعٌ باتفاق أهل العلم بالحديث، وإنَّما كان تلقين النبي صلى الله عليه وسلم للذِّكر المأثور عنه، ورأس الذكر لا إله إلا الله، وهي الكلمة التي عرضها على عمِّه أبي طالب حين الموت، وقال: "يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله"، وقال: "إنِّي لأعلمُ كلمةً لا يقولها عبدٌ عند الموت إلا وجد روحُه لها رَوْحاً"، وقال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"، وقال: "أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقِّها وحسابهم على الله"، والأحاديثُ كثيرةٌ في هذا المعنى.

ثم قال: فأما ذكر الاسم المفرد فلم يُشرع بحال، وليس في الأدلة الشرعية ما يدل على استحبابه، وأمَّا ما يتوهّمه طائفةٌ من غالطي المتعبدين في قوله تعالى: {قُلِ اللهُ، ثُمَّ ذَرْهُمْ} 1، ويتوهّمون أنَّ المراد قولُ هذا الاسم، فخطأ واضحٌ، ولو تدبّروا ما قبل هذا تبيّن مرادُ الآية، فإنَّه سبحانه قال: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ ولاَ آبَآؤُكُمْ قُلِ اللهُ} 2، أي قُلْ الله أنزلَ الكتاب الذي جاء به موسى، فهذا كلامٌ تامٌّ، وجملةٌ اسميّةٌ مركّبةٌ من مبتدأ وخبر، حُذف الخبر منها لدلالة السؤال على الجواب، وهذا قياس مطَّرَد في مثل هذا في كلام العرب ... وذكر أمثلة على ذلك، إلى أن قال رحمه الله: وقد ظهر بالأدلة الشرعية أنَّه غير مستحب ـ أي الذكرُ بالاسم المفرد من غير كلام تام ـ وكذلك بالأدلية العقلية الذوقية، فإنَّ الاسم وحده لا يُعطي إيماناً ولا كفراً، ولا هدى ولا ضلالاً، ولا علماً ولا جهلاً ... إلى أن قال: ولهذا اتفق أهل العلم بلغة العرب وسائر اللغات على أنَّ الاسم وحده لا يحسن السكوت عليه، ولا هو جملةً تامة ولا كلاماً مفيداً، ولهذا سمع بعضُ العرب مؤذِّناً يقول: أشهد أنَّ محمداً رسولَ الله، قال: فعل ماذا؟ فإنَّه لما نصب الاسمَ صار صفةً، والصفةُ من تمام الموصوف، فطَلَبَ بصحة طَبْعِه الخبرَ المفيد، ولكن المؤذِّن قصد الخبر

_ 1 سورة الأنعام، الآية: (91) . 2 سورة الأنعام، الآية: (91) .

ولَحَن، ولو كرّرَ الإنسان اسم الله ألف ألف مرّة لم يَصِر بذلك مؤمناً، ولم يستحقّ ثوابَ الله ولا جنّتَه، فإنَّ الكفار من جميع الأديان يذكرون الاسم مفردا، سواءً أقرّوا به وبوحدانيتِه أم لا، حتى إنَّه لما أمرنا بذِكر اسمه كقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ} 1، وقوله: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} 2، وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} 3، وقوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ} 4، ونحو ذلك كان ذكرُ اسمه بكلام تام مثل أن يقول: باسم الله، أو يقول: سبحان ربي الأعلى، وسبحان ربي العظيم، ونحو ذلك، ولم يُشرع ذكرُ الاسم المجرّد قط، ولا يحصل بذلك امتثالُ أمرٍ، ولا حِلُّ صيدٍ ولا ذبيحةٍ ولا غير ذلك. إلى أن قال رحمه الله: فثبت بما ذكرناه أنَّ ذكر الاسم المجرّد ليس مستحباً، فضلاً عن أن يكون هو ذِكر الخاصة، وأبعدُ من ذلك ذكر الاسم المضمر، وهو: هو، فإنَّ هذا بنفسه لا يدل على معيّن، وإنَّما هو بحَسَب ما يُفسِّره من مذكورٍ أو معلومٍ فيبقى معناه بحَسَب قصد المتكلّم ونيّته"5. وقال في موضع آخر: "والذِّكرُ بالاسم المضمر المفرد أبعدُ من

_ 1 سورة المائدة، الآية: (4) . 2 سورة الأنعام، الآية: (121) . 3 سورة الأعلى، الآية: (1) . 4 سورة الواقعة، الآية: (74) . 5 مجموع الفتاوى (10/556 ـ 565) .

السنة وأدخلُ في البدعة وأقربُ إلى إضلال الشيطان ... إلى أن قال: والمقصود هنا أنَّ المشروع في ذكر الله سبحانه هو ذكره بجملة تامّة، وهو المسمّى بالكلام، والواحد منه بالكلمة، وهو الذي ينفع القلوب، ويحصل به الثواب والأجر، والقربُ إلى الله ومعرفتُه ومحبّتُه وخشيتُه، وغيرُ ذلك من المطالب العالية والمقاصد السامية، وأما الاقتصار على الاسم المفرد مظهرًا أو مضمرًا فلا أصل له، فضلاً عن أن يكون من ذكر الخاصّة والعارفين، بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضلالات، وذريعة إلى تصوُّرات فاسدة من أحوال أهل الإلحاد وأهل الاتحاد ... ، وجماع الدين أصلان: أن لا نعبد إلاّ الله ولا نعبده إلاّ بما شرع لا نعبده بالبدع"1. اهـ كلامه رحمه الله، وفيه من التحقيق والبيان ما لا يدَعُ مجالاً للتّردد في الأمر، والحقُّ أبلج. إنَّ تكالب هؤلاء على هذه الأذكار المحدثة، التي لا أصل لها في دين الله، ولا أساس لها من شرعه، وتركهم في مقابل ذلك السُّنن الصحيحة، والأذكار الشرعيّة، ليثير في المسلم تساؤلات وتساؤلات، ما الذي حمل هؤلاء على الانصراف عن هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم والرغبة عن سنّته، إلى أمورٍ ما أنزل الله بها من سلطان، وأذكارٍ ليس عليها في الشرع أيُّ دليل ولا برهان، ثمّ مع هذا يعظِّمونها غاية التعظيم ويفخِّمون شأنها، ويقلّلون من شأن الأدعية النبويّة والأذكار الشرعيّة التي كان يقولها سيِّد الخلق أجمعين، وخير الأنبياء والمرسلين، وإمام وقدوة المخبتين الذّاكرين، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

_ 1 مجموع الفتاوى (10/227 ـ 134) .

فضل التسبيح

37/ فضل التسبيح لقد كان الحديث فيما سبق عن كلمة التوحيد لا إله إلا الله، فضلِها ومعناها وشروطها، وأمورٍ أخرى هامّة متعلّقة بها، وفيما يلي ننتقل إلى الحديث عن كلمة: (سبحان الله) ، فهي إحدى الكلمات الأربع التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنَّها خيرُ الكلام وأحبُّه إلى الله، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: " أحبّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"1، وقد مرّ معنا جملة طيّبة من أحاديث النبيّ صلى الله عليه وسلم في تفضيل هؤلاء الكلمات، وبيان ما لهنّ من منزلةٍ عاليةٍ ومكانةٍ رفيعةٍ. وكلمة: سبحان الله، التي هي إحدى هؤلاء لها شأن عظيم، فهي من أجلِّ الأذكار المقربة إلى الله، ومن أفضل العبادات الموصلة إليه، وقد جاء في بيان فضلها وشرفها وعِظم قدرها نصوصٌ كثيرة في الكتاب والسنة، بل إنَّ ما ورد في ذلك لا يُمكن حصرُه لكثرته وتعدّده، وقد ورد ذكر التسبيح في القرآن الكريم أكثر من ثمانين مرة، بصِيغ مختلفة وأساليب متنوِّعة، فورد تارة بلفظ الأمر كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} 2، وتارة بلفظ الماضي كما في قوله تعالى: {سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 3، وتارة بلفظ المضارع كما في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ للهِ

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2137) . 2 سورة الأحزاب، الآية: (41 ـ 42) . 3 سورة الحشر، الآية: (1) .

مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} 1، وتارة بلفظ المصدر كما في قوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 2. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى التسبيح في مُفتتح ثمان سُوَر من القرآن الكريم، فقال تعالى في أول سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 3، وقال تعالى في أول سورة النحل: {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 4، وقال تعالى في أوّل سورة الحديد: {سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 5، وقال تعالى في أوّل سورة الحشر: {سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 6، وقال تعالى في أول سورة الصف: {سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 7، وقال تعالى في أول سورة الجمعة: {يُسَبِّحَ للهِ

_ 1 سورة الجمعة، الآية: (1) . 2 سورة الصافات، الآية: (180 ـ 182) . 3 سورة الإسراء، الآية: (1) . 4 سورة النحل، الآية: (1 ـ 2) . 5 سورة الحديد، الآية: (1) . 6 سورة الحشر، الآية: (1) . 7 سورة الصف، الآية: (1) .

مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} 1، وقال تعالى في أول سورة التغابن: {يُسَبِّحَ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2، وقال تعالى في أول سورة الأعلى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ المَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى} 3. قال بعض أهل العلم4: والتسبيح ورد في القرآن على نحو من ثلاثين وجهاً، ستةٍ منها للملائكة، وتسعةٍ لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأربعةٍ لغيره من الأنبياء، وثلاثةٍ للحيوانات والجمادات، وثلاثةٍ للمؤمنين خاصة، وستةٍ لجميع الموجودات. أما التي للملائكة فمنها قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} ، الآية5، وقوله: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} 6، وقوله: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} 7، وقوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ} 8.

_ 1 سورة الجمعة، الآية: (1) . 2 سورة التغابن، الآية: (1) . 3 سورة الأعلى، الآية: (1 ـ 5) . 4 انظر: بصائر ذوي التمييز للفبروزابادي (2/285 وما بعدها) . 5 سورة غافر، الآية: (7) .

وأما التي لنبيّنا صلى الله عليه وسلم فمنها قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} 1، وقوله: {وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} 2، وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} 3. وأما التي للأنبياء فقول الله تعالى لزكريا عليه السلام: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} 4، وقوله تعالى عن زكريا عليه السلام في وصيّته لقومه بالمحافظة على التسبيح: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِياًّ} 5، وقوله تعالى عن يونس عليه السلام في إنجائه من ظلمات البحر وبطن الحوت لملازمته للتسبيح: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 6. وأما التي للمؤمنين فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} 7، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} 8، وقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ

_ 1 سورة الحجر، الآية: (98 ـ 99) . 2 سورة الإنسان، الآية: (26) . 3 سورة النصر، الآية: (3) . 4 سورة آل عمران، الآية: (41) . 5 سورة مريم، الآية: (11) . 6 سورة الصافات، الآية: (143،144) . 7 سورة الأحزاب، الآية: (41،42) . 8 سورة السجدة، الآية: (15) .

وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَبَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ} 1، الآية. وأما التي في الحيوانات والجمادات فمنها قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} 2، وقوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ وَالإِشْرِاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} 3، وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} 4. وأما التي لعموم المخلوقات فمنها قوله تعالى: {سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 5، وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كَلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 6. وقد ذكر الله تعالى لفظة {سُبْحَانَ} في القرآن في خمسة وعشرين موضعاً، في ضمن كلِّ واحد منها إثباتُ صفة من صفات المدح، أو نفيُ صفة من صفات الذم7، ومنها قوله تعالى: {سُبْحاَنَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} 8، وقوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ

_ 1 سورة النور، الآية: (36،37) . 2 سورة الإسراء، الآية: (44) . 3 سورة ص، الآية: (18،19) . 4 سورة النور، الآية: (41) . 5 سورة الحشر، الآية: (1) . 6 سورة التغابن، الآية: (1) . 7 انظر: بصائر ذوي التمييز للفيروزابادي (3/176) . 8 سورة البقرة، الآية: (116) .

العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 1، وقوله تعالى: {سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2، وقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِياًّ وَحِينَ تُظْهِرُونَ} 3، وقوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 4، وقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} 5. إنَّ هذه النصوص القرآنية الكريمة وما جاء في معناها في كتاب الله لتدل أوضح دلالة على جلالة قدر التسبيح، وعظيم شأنه من الدين، وأنَّه من أجَلِّ الأذكار المشروعة، ومن أنفع العبادات المقربة إلى الله عز وجل، فسبحان من أفاض على عباده النعمة، وكتب على نفسه الرّحمة، سبحانه وبحمده عددَ خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته. وسوف نواصل إن شاء الله بيان فضل التسبيح ومكانته من خلال ما ورد في ذلك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ترك أمته على المحجة البيضاء والطريقة الواضحة الغراء، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه أعلم الناس بالله، وأتقاهم له، وأكثرهم تسبيحاً وتقديساً وتنزيهاً لربِّه، فصلّى الله وملائكتُه وأنبياؤُه ورسلُه والصالحون من عباده عليه، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً.

_ 1 سورة الصافات، الآية: (180 ـ 182) . 2 سورة الطور، الآية: (43) . 3 سورة الروم، الآية: (17،18) . 4 سورة الزخرف، الآية: (82) . 5 سورة يونس، الآية: (10) .

من فضائل التسبيح في السنة

38/ من فضائل التسبيح في السُّنَّة تناولت فيما سبق بيان فضل التسبيح وعظيم أجره، وأنَّه مِن أفضلِ الأذكار المأثورة، ومِن أنفع العبادات المشروعة، ومِن أجلِّ الطاعات التي يحبُّها اللهُ من عباده، وقد أوردتُ جملةً طيِّبةً من النصوص القرآنيَّة الكريمة الدّالة على ذلك. ولعلّ من المناسب هنا أن نقف على بعض النصوص النبويّة الواردة في فضل التسبيح والدّالة على عظيم شأنه ورفيع مكانته. إذ السنّة مليئةٌ بالنصوص الدّالة على عظيم شأن التسبيح، وشريف قدره، وجزيل ثواب أهله، وبيان ما أعدّ الله لهم من أجورٍ كريمةٍ، وأفضالٍ عظيمةٍ، وعطايا جمَّةٍ. وقد تضمّنت تلك النصوص الدلالةَ على ذلك من وجوهٍ كثيرةٍ: ومن ذلك أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّ التسبيح أفضل الكلام وأحبُّه إلى الله، وقد سبق أنْ مرَّ معنا قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أحبُّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر"1. وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذرٍّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل: أيُّ الكلام أفضل؟ قال: "ما اصطفى الله لملائكته أو لِعباده: سبحان الله وبحمده"2. وفي لفظ آخر للحديث أنَّ أبا ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2137) . 2 صحيح مسلم (رقم:2731) .

أُخبرُك بأحبِّ الكلام إلى الله؟ قلتُ: يا رسول الله أخبرني بأحبِّ الكلام إلى الله. قال: إنَّ أحبَّ الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده"1. فدلّ هذا الحديث على عظيم مكانة هذه الكلمة عند الله عز وجل. ومِن فضائل التسبيح ما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ مَن قال: سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرّة حُطَّت عنه ذنوبُه ولو كثُرت. ففي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرّة حُطَّت خطاياه وإن كانت مِثلَ زَبَدِ البحر" 2. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّ من قالها في الصّباح مائة مرّة وفي المساء مائة مرّة، لم يأتِ أحدٌ يومَ القيامة بأفضلَ مما جاء به، إلاّ مَن قال مثل ذلك وزاد عليه. فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن قال حين يُصبحُ وحين يُمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرّة لم يأتِ أحدٌ يومَ القيامة بأفضلَ مما جاء به، إلاّ أَحدٌ قال مثل ما قال أو زاد عليه"3. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّ من قالها في يومٍ مائة مرّة كُتبت له ألفُ حسنةٍ أو حُطَّت عنه ألفُ خطيئةٍ، والحسنةُ بِعشر أمثالها. روى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه قال: كُنَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيَعجزُ أحدُكم أن يكسب كلَّ يومٍ ألفَ

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2731) . 2 صحيح البخاري (رقم:6405) ، وصحيح مسلم (رقم:2691) . 3 صحيح مسلم (رقم:2692) .

حسنةٍ؟ فسأله سائلٌ من جلسائِه: كيف يكسب أحدُنا ألفَ حسنة؟ قال: يسبِّح مائة تسبيحة فيُكتبُ له ألفُ حسنةٍ أو يُحطُّ عنه ألفُ خطيئةٍ" 1. ومما ورد في فضل التسبيح إخبار النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن ثِقل التسبيح في الميزان يوم القيامة مع خفّة ويسر العمل به في الدنيا. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرّحمن، خفيفتان على اللّسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم "2. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "كلمتان" هي خبرٌ مقَدَّمٌ مُبتَدَؤُه "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم"، قال بعض أهل العلم: "والنكتة في تقديم الخبر تشويقُ السّامع إلى المبتدأ، وكلَّما طال الكلام في وصف الخبر حسُن تقديمه؛ لأنَّ كثرةَ الأوصاف الجميلة تزيد السّامع شوقاً"3. وقد وُصفت الكلمتان في الحديث بثلاثة أوصاف جميلةٍ عظيمةٍ، وهي أنَّهما حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان. وقد خُصَّ لفظ الرحمن بالذِّكر هنا؛ لأنَّ المقصود من الحديث بيانُ سِعة رحمة الله تعالى على عباده حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الجزيل، والأجر العظيم، فما أيسرَ النطق بهاتين الكلمتين على اللسان، وما أعظم أجر ذلك وثوابه عند الكريم الرحمن، وقد وُصفت الكلمتان في الحديث بالخفّة والثقل، الخفّةِ على اللسان

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2698) . 2 صحيح البخاري (رقم:6406) ، وصحيح مسلم (رقم:2694) . 3 فتح الباري لابن حجر (13/540) .

والثقلِ في الميزان، لبيان قلّة العمل وكثرة الثواب. فما أوسعَ فضلَ الله، وما أعظمَ عطاءَه. ومن فضائل هذه الكلمة العظيمة، ما رواه الترمذي، وابن حبّان، والحاكم، وغيرهم، من طريق أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "مَن قال: سبحان الله العظيم وبحمده غُرست له نخلةٌ في الجنَّةِ "1، وله شاهدان: أحدهما: من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ موقوفاً، خرّجه ابن أبي شيبة في مصنَّفه2. والآخر: من حديث معاذ بن سهل مرفوعاً، خرّجه الإمام أحمد في مسنده3. ومن فضائل هذه الكلمة ما رواه الطبراني، والحاكم، من حديث نافع بن جُبير بن مطعم، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن قال سبحان الله وبحمده، سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فقالها في مجلس ذكرٍ كانت كالطّابع يطبع عليه، ومَن قالها في مجلس لغوٍ كانت كفَّارة له".

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3464) ، وصحيح ابن حبان (رقم:826،827) ، ومستدرك الحاكم (1/501) ، وصححه العلاّمة الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم:64) . 2 المصنف (6/56) . 3 المسند (3/440) .

قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وصحّحه العلاّمة الألبانيُّ1. وروى الترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "مَن جلس في مجلس فكثُر فيه لغَطُه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلاّ غُفر له ما كان في مجلسه ذلك"2. فهذه جملةٌ من الأحاديث الواردة في التسبيح والدّالة على عظيم فضله وثوابه عند الله، وفي أكثر هذه الأحاديث قُرن مع التسبيح حمدُ الله تعالى؛ وذلك لأنَّ التسبيح هو تنزيه الله عن النقائص والعيوب، والتحميدُ فيه إثباتُ المحامد كلّها لله عز وجل، والإثبات أكملُ مِنَ السّلب، ولهذا لم يَرِد التسبيحُ مجرّداً، لكن ورد مقروناً بما يدلّ على إثبات الكمال، فتارةً يُقرنُ بالحمد كما في هذه النصوص، وتارةً يُقرنُ باسم من الأسماء الدّالة على العظمة والجلال، كقول: سبحان الله العظيم، وقول: سبحان ربّي الأعلى، ونحو ذلك3. والتنزيه لا يكون مدحاً إلاّ إذا تضمّن معنىً ثبوتيًّا، ولهذا عندما نزَّه الله تبارك وتعالى نفسه عمّا لا يليق به ممّا وصفه به أعداء الرُّسل

_ 1 المعجم الكبير (رقم:1586) ، والمستدرك (1/537) ، والسلسلة الصحيحة (رقم:81) . 2 سنن الترمذي (رقم:3433) ، وصحيح ابن حبان (رقم:594) ، والمستدرك (1/536) ، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:6192) . 3 انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص:204) .

سلَّم على المرسلين الذين يثبتون لله صفات كماله ونعوت جلاله على الوجه اللاّئق به، وذلك في قوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 1، وفي هذه الآية أيضاً حمد الله نفسه بعد أن نزّهها؛ وذلك لأنَّ الحمدَ فيه إثباتُ كمال الصفات، والتسبيحَ فيه تنزيه الله عن النّقائص والعيوب، فجمع في الآية بين التنزيه عن العيوب بالتسبيح وإثبات الكمال بالحمد، وهذا المعنى يرِد في القرآن والسنّة كثيراً، فالتسبيحُ والحمدُ أصلان عظيمان وأساسان متينان يقوم عليهما المنهجُ الحقُّ في توحيد الأسماء والصفات، وبالله وحده التوفيق.

_ 1 سورة الصافات، الآيات (180 ـ 182) .

تسبيح جميع الكائنات لله

39/ تسبيحُ جميع الكائنات لله إنَّ الله تعالى لكمال عظمته، ولتمام ملكه وعزَّته، تسبِّحُ له جميعُ الكائنات، من سماء، وأرض، وجبال، وأشجار، وشمس، وقمر، وحيوان، وطيرٍ، وإنْ مِن شيءٍ إلاّ يُسبِّح بحمده. يقول الله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} 1، ويقول تعالى: {ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَاجِبَالَ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرُ} 2، ويقول تعالى: {وسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} 3، وقال تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ وَالإِشْرِاقِ} 4، فهذه النصوص العظيمة تدلُّ دلالة ظاهرة أنَّ جميعَ الكائنات تسبِّح اللهَ عز وجل، فالحيوانات تسبِّح لله، والنباتات تسبِّح لله، والجمادات تسبِّح لله، وإنْ مِن شيءٍ خلقه الله إلاّ يسبِّح بحمد الله عز وجل، وإنْ كُنّا لا نفقه تسبيحه، وهو تسبيحٌ حقيقيٌّ يصدر من هذه الكائنات بلسان المقال، وليس بلسان الحال كما يدّعيه بعضهم، واللهُ جلّ وعلا يجعل لهذه الكائنات إدراكات تسبِّح بها يعلمها هو جلّ وعلا ونحن لا نعلمها، كما قال سبحانه: {وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} 5.

_ 1 سورة الإسراء، الآية: (44) . 2 سورة سبأ، الآية (10) . 3 سورة الأنبياء، الآية: (79) . 4 سورة ص، الآية: (18) . 5 سورة الإسراء، الآية: (44) .

قال الإمام أبو منصور الأزهريُّ رحمه الله في كتابه تهذيبُ اللغة: "وممّا يدلُّك على أنَّ تسبيح هذه المخلوقات تسبيحٌ تُعُبِّدت به، قول الله جلّ وعزّ للجبال: {يَاجِبَالَ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْر} 1، ومعنى أوِّبي أي سبِّحي مع داود النّهار كلّه إلى الليل، ولا يجوز أن يكون معنى أمر الله جلّ وعزّ للجبال بالتأويب إلاّ تعبُّداً لها، وكذلك قوله جلّ وعزّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنُّجُومُ والجِبَالُ والشَّجَرُ والدَّوَابُّ وكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} 2، فسجود هذه المخلوقات عبادة منها لخالقها لا نفقهها عنها كما لا نفقه تسبيحها، وكذلك قوله: {وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} 3، وقد علم الله هبوطها من خشيته، ولم يعرّفنا ذلك، فنحن نؤمن بما أعلمنا ولا ندّعي بما لم نكلّف بأفهامنا، مِن عِلْمِ فِعلِها كيفيّةً نحدّها"4 اهـ. كلامه رحمه الله، وهو كلام عظيم وتقرير حسن. وقال النووي رحمه الله بعد أن أشار إلى ما قيل في المراد بالتسبيح، قال: "والصحيح أنَّه يسبِّح حقيقة، ويجعل الله تعالى فيه تمييزاً بحسبه"5.

_ 1 سورة سبأ، الآية: (10) . 2 سورة الحج، الآية: (18) . 3 سورة البقرة، الآية: (74) . 4 تهذيب اللغة (4/340) . 5 شرح صحيح مسلم (15/26)

وهذا القول هو القول الحق في هذه المسألة بلا ريب، فالله تبارك وتعالى هو الذي بيده أزمّةُ الأمور، وهو القادرُ على كلِّ شيء، وهو سبحانه الذي أنطق كلَّ شيء، لا يتعاظمه أمر، ولا يُعجِزه شيء في الأرض ولا في السماء، إنَّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. وأمّا قولُ من قال: إنَّ هذا التسبيح ليس حقيقياً وإنَّما هو تسبيح بلسان الحال فقط فهو قول مجانبٌ للحقيقةِ، بعيدٌ عن الصواب، ولا يعضُدُه دليل، بل الأدلّةٌ صريحةٌ في عدم صحّتِه. وليس هذا الأمر بأعجب من تسبيح الحصا في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسبيحُ الطعام وهو يُؤكل، وقد كان يسمع ذلك الصحابةُ رضي الله عنهم. روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كنّا نعدُّ الآيات بركة وأنتم تعدّونها تخويفاً، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فقلَّ الماءُ، فقال: اطلبوا فضلةً من ماء، فجاؤوا بإناء فيه ماءٌ قليل، فأدخل يدَه في الإناء ثم قال: حيَّ على الطهور المبارك، والبركة من الله، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنّا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل "1. فلله ما أعظمها من آيةٍ تدلّ على كمال المرسِل سبحانه، وصدق المرسَل صلواتُ الله وسلامُه عليه. وروى الطبراني في المعجم الأوسط، وأبو نعيم في دلائل النبوة عن أبي ذر رضي الله عنه قال: إنّي لشاهدٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم في حلقة وفي يده

_ 1 صحيح البخاري (رقم:3579) .

حصى فسبَّحن في يده، وفينا أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ، فسمع تسبيحهنّ مَن في الحلقة، ثمّ دفعهنَّ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فسبّحن مع أبي بكر، سمع تسبيحَهنَّ مَن في الحلقة، ثمّ دفعَهنَّ إلى النّبيِّ صلى الله عليه وسلم فسبَّحن في يده، ثمّ دفعهنَّ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى عمر فسبَّحن في يده، وسمع تسبيحَهنَّ مَن في الحلقة، ثم دفعهنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفّان فسبَّحن في يده، ثمّ دفعهنّ إلينا فلم يسبِّحن مع أحد منّا"1. ولا شكّ أنَّ تسبيح الحصى الصغار والطعام أعجبُ وأبلغُ من تسبيح الجبال، ولذا فإنَّ المعجزة لنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك أبلغُ من المعجزة لنبيِّ الله داود عليه السلام في تسبيح الجبال معه. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وأمّا تسبيح الطّير مع داود عليه السلام فتسبيح الجبال الصمّ أعجبُ مِن ذلك، وقد تقدّم في الحديث أنّ الحصا سبّح في كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن حامد: وهذا حديثٌ معروفٌ مشهورٌ، وكانت الحجارُ والأشجارُ والمدرُ تسلِّم عليه صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود قال: "لقد كنّا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل" يعني بيد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكلّمه ذراعُ الشّاة المسمومة وأعلمه بما فيه من السُّمِّ، وشهدت بنبُوَّته الحيواناتُ الإنسيّة والوحشيّة، والجمادات أيضاً كما تقدّم بسط ذلك كلِّه، ولا شكّ أنَّ صدور التسبيح من الحصا الصغار الصمّ التي لا تجاويف فيها أعجبُ مِن

_ 1 المعجم الأوسط (رقم:1244) ، ودلائل النبوة للبيهقي (2/555) ، وانظر: دلائل النبوة لأبي القاسم التيمي (1/404 وما بعدها) ـ بتحقيق: الشيخ مساعد الراشد ـ قوله: "فصل في تسبيح الحصى في يده صلى الله عليه وسلم".

صدور ذلك من الجبال لما فيها من التجاويف والكهوف، فإنَّها وما شاكلها تردّد صدى الأصوات العالية غالباً كما قال عبد الله بن الزبير كان إذا خطب وهو أمير المدينة بالحرم الشريف تجاوبه الجبال أبو قبيس وزَرُود، ولكن من غير تسبيح، فإنَّ ذلك من معجزات داود عليه السلام، ومع هذا كان تسبيح الحصا في كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان أعجب"1 اهـ. كلامه رحمه الله. والشّاهد مِن ذلك كلِّه هو أنَّ هذه الكائنات تسبِّح الله تعالى تسبيحاً حقيقاً لا يفقهه النّاس ولا يسمعونه، وقد يشاء الله فيُسمِع بعض ذلك من يشاء مِن عباده كما في النصوص المتقدّمة. ولا ريب أنَّ في هذا أَعظمَ عبرةٍ وأجلَّ عِظةٍ للنّاس إذ تدبّروا في حال هذه الجبال وهي الحجارة الصلبة والصخور الصّمّاء كيف أنَّها تسبِّح بحمد ربِّها وتخشع له وتسجد وتشفق وتهبط من خشيته، وكيف أنّها خافت من ربِّها وفاطرها وخالقها على شدّتها وعِظم خلقها من الأمانة إذ عرَضَها عليها وأشفقت من حملها. قال ابن القيِّم رحمه الله وهو يتحدّثُ عن هذا الباب العظيم: "فسبحان من اختصَّ برحمته من شاء مِن الجبال والرِّجال ... هذا وإنَّها لَتعلمُ أنَّ لها موعداً ويوماً تنسف فيها نسفاً، وتصير كالعهن من هوله وعظمه، فهي مشفقةٌ من هول ذلك الموعد، منتظرةٌ له ... فهذا حال الجبال وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقّتُها وخشيتُها وتدكدكها من جلال ربِّها وعظمته، وقد أخبر عنها فاطرُها وباريها أنَّه لو أنزل

_ 1 البداية والنهاية (6/286) .

عليها كلامه لخشعت ولتصدّعت من خشية الله. فيا عجباً من مضغة لحمٍ أقسى مِن هذه الجبال تسمع آيات الله تتلى عليها ويُذكرُ الرّبُّ فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب ... "1. فنسأل الله جلّت قدرته وتبارك اسمه أن يحييَ قلوبَنا بالإيمان، وأن يعمُرَها بذكر الكريم الرحمن، وأن يعيذنا من الرّجيم الشيطان، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.

_ 1 مفتاح دار السعادة (2/89) .

معنى التسبيح

40 / معنى التسبيح لا ريب أنَّ التسبيح يُعدُّ من الأصول المهمّة والأُسُس المتينة التي ينبني عليها المُعتَقَد فيما يتعلّق بمعرفة الربّ تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته، إذ إنَّ المُعتَقَدَ في الأسماء والصفات يقوم على أصلين عظيمين وأساسين متينين هما الإثبات للصفات بلا تمثيل، وتنزيه الله عن مشابهة المخلوقات بلا تعطيل. والتسبيح هو التنزيه، فأصل هذه الكلمة من السَّبح وهو البُعد، قال الأزهري في تهذيب اللغة: "ومعنى تنزيه الله من السوء تبعيده منه، وكذلك تسبيحه تبعيده، من قولك: سبحتُ في الأرض إذا أبعدتَ فيها، ومنه قوله جلّ وعزّ: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 1، وكذلك قوله: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً} 2") 3. فالتسبيح هو إبعادُ صفات النقص من أن تُضافَ إلى الله، وتنزيهُ الربِّ سبحانه عن السوء وعمَّا لا يليقُ به، "وأصلُ التسبيح لله عند العرب التنزيه له من إضافة ما ليس من صفاته إليه، والتبرئة له من ذلك"4. وقد ورد هذا المعنى في تفسير التسبيح في حديث يُرفع إلى

_ 1 سورة: يس، الآية: (40) . 2 سورة: النازعات، الآية: (3) . 3 تهذيب اللغة (4/338) . 4 جامع البيان لابن جرير (1/211) .

النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ أنَّ في إسناده كلاماً، فقد روى الحاكمُ في المستدرك عن عبد الرحمن بن حمّاد، ثنا حفص بن سليمان، ثنا طلحة بن يحيى بن طلحة، عن أبيه، عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله، فقال: "هو تنزيه الله عن كلِّ سوءٍ". قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقّبه الذهبي في تلخيصه للمستدرك بقوله: "بل لم يصح فإن طلحة منكر الحديث، قاله البخاري، وحفصٌ واهي الحديث، وعبد الرحمن قال أبو حاتم: منكر"1. ورويَ الحديث من وجه آخر مرسلاً. وورد في هذا المعنى آثارٌ عديدةٌ عن السلف رحمهم الله، روى جملةً منها الطبريُّ في تفسيره والطبرانيُّ في كتابه الدعاء في باب: تفسير سبحان الله2، وغيرهما من أهل العلم، منها: ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "سبحان الله: تنزيه الله عزّ وجلّ عن كُلِّ سُوءٍ". وعن عبد الله بن بريدة أنَّ رجلاً سأل علياًّ رضي الله عنه عن سبحان الله فقال: "تعظيم جلال الله". وجاء عن مجاهد أنه قال: "التسبيح انكفاف الله من كلِّ سوءٍ". قال ابن الأثير في النهاية: "أي تنزيهه وتقديسه". وعن ميمون بن مهران قال: "سبحان الله اسم يُعظَّمُ الله به،

_ 1 المستدرك (1/502) . 2 الدعاء للطبراني (3/1591 وما بعدها) .

ويحاشى به من السوء". وعن أبي عبيدة معمر بن المثنّى قال: "سبحان الله: تنزيه الله وتبرئته". وعن محمد بن عائشة قال: "تقول العرب إذا أنكرت الشيء وأعظمته سبحان الله، فكأنّه تنزيه الله عز وجل عن كلِّ سوء، لا ينبغي أن يوصف بغير صفته". والآثار في هذا المعنى عن السلف كثيرة. ونقل الأزهري في كتابه تهذيب اللغة عن غير واحد من أئمّة اللغة تفسير التسبيح بالمعنى السابق وقال: "وجِماعُ معناه بُعدُه تبارك وتعالى عن أن يكون له مثلٌ أو شريكٌ أو ضِدٌّ أو نِدٌّ"1. وبهذه النقول المتقدِّمة يتبيَّنُ معنى التسبيح والمراد به، وأنَّه تنزيه الله عز وجل عن كلِّ نقص وعيبٍ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والأمر بتسبيحه يقتضي تنزيهه عن كلِّ عَيبٍ وسُوءٍ، وإثباتَ المحامد التي يُحمد عليها، فيقتضي ذلك تنزيهه وتحميده وتكبيره وتوحيده"2. اهـ كلامه رحمه الله. وبه يتبيّن أنَّ تسبيحَ الله إنَّما يكون بتبرئة الله وتنزيهه عن كلِّ سوء وعيبٍ، مع إثبات المحامد وصفات الكمال له سبحانه، على وجهٍ يليقُ به، أمَّا ما يفعله المعطِّلةُ من أهل البدع كالمعتزلة وغيرهم من تعطيل للصفات وعدم إثبات لها وجحدٍ لحقائقها ومعانيها بحجة أنَّهم

_ 1 تهذيب اللّغة (4/339) . 2 دقائق التفسير لابن تيمية (5/59) .

يسبِّحون الله وينزِّهونه، فهو في الحقيقة ليس من التسبيح في شيء، بل هو إنكارٌ وجحودٌ، وضلالٌ وبهتانٌ، ولذا يقول ابن هشام النحوي في كتابه مغني اللبيب: "ألا ترى أنَّ تسبيحَ المعتزلة اقتضى تعطيل كثير من الصفات"1. ويقول ابن رجب رحمه الله في معنى قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} 2 أي: "سبِّحه بما حمد به نفسه؛ إذ ليس كلُّ تسبيحٍ بمحمود، كما أنَّ تسبيح المعتزلة يقتضي تعطيل كثير من الصفات"3. وقوله رحمه الله: "إذ ليس كلُّ تسبيح بمحمود" كلامٌ في غاية الأهميَّة والدقَّة؛ إذ إنَّ تسبيح الله بإنكار صفاته وجحدها وعدم إثباتها أمرٌ لا يُحمد عليه فاعله، بل يُذمُّ غايةَ الذمِّ، ولا يكون بذلك من المسبِّحين بحمد الله، بل يكون من المعطّلين المنكرين الجاحدين، من الذين نزّه الله نفسه عن قولهم ووصفهم بقوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 4. فسبّح الله نفسه عمّا وصفه به المخالفون للرسل وسلَّم على المرسلين لسلامة ما قالوه في الله من النقص والعيب. إنَّ تسبيحَ الله وتنزيهَه وتقديسَه وتعظيمَه يجب أن يكون وفق الضوابط الشرعيّة، وعلى ضوء الأدلّة النقليّة، ولا يجوز بحال أن يُبنى

_ 1 مغني اللبيب (1/140) ، مع أنَّه وقع في بعض ذلك، غفر الله له ورحمه. 2 سورة: الحِجر، الآية: (98) . 3 تفسير سورة النصر (ص:73) . 4 سورة: الصافات، الآيات: (180 ـ 182) .

ذلك على الأهواء المجرّدة، أو الظنون الفاسدة، أو الأقيسة العقليّة الكاسدة كما هو الشأن عند أرباب البدع المعطّلين لصفات الربّ سبحانه، ومن كان يعتمد في باب التعظيم على هواه بغير هدى من الله، فإنَّه يزِلُّ في هذا الباب ويقع في أنواع من الباطل وصنوف من الضلال. جاء عن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله وقد ذُكر عنده أنَّ الجهميّة ينفون أحاديث الصفات، ويقولون: الله أعظم من أن يوصف بشيء من هذا أنَّه قال: "قد هلك قوم من وجه التعظيم فقالوا: الله أعظم من أن ينزل كتاباً أو يرسل رسولاً ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ} 1 ثم قال: هل هلكت المجوس إلاّ من جِهة التعظيم؟ قالوا: الله أعظم من أنْ نعبُدَه، ولكن نعبدُ من هو أقربُ إليه منّا، فعبدوا الشمس وسجدوا لها، فأنزل الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} 2") 3. وفي كلامه هذا رحمه الله إشارة إلى أنّ التعظيم والتنزيهَ إنْ لم يكن على هديِ الكتاب والسنة فإنّه يكون غاية التعطيل، ومنتهى الجحود والعياذ بالله، ومن يتأمّل حالَ الطوائف الضالّة والفرق المنحرفة التي سلكت في التنزيه والتعظيم هذا الطريق يجد أنهم لم يستفيدوا من ذلك سوى التنقّص لربّ العالمين وجحد صفات كماله ونعوت جلاله، حتى

_ 1 سورة: الأنعام، الآية: (91) . 2 سورة: الزمر، الآية: (3) . 3 ذكره التيمي في الحجة في بيان المحجّة (1/440) .

آل الأمر ببعضهم في التنزيه إلى الاعتقاد بأنّه ليس فوق العرش إله يُعبد ولا ربٌّ يُصلى له ويُسجدُ تعالى الله عمّا يقولون، وسبحان الله عمّا يصفون. إنّ التسبيحَ طاعةٌ عظيمةٌ وعبادةٌ جليلةٌ، والله تبارك وتعالى يحبُّ المسبّحين، والواجب على عبد الله المؤمن أن يكون في تسبيحه لربّه على هديٍ مستقيمٍ، فيُسبّح الله وينزّهه عن كلِّ ما لا يليقُ به من النقائص والعيوب ويُثبتُ له مع ذلك نعوتَ جلاله وصفات كماله، ولا يتجاوزُ في ذلك كلِّه كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: "لا يُوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسولُه صلى الله عليه وسلم لا يُتجاوَزُ القرآن والحديث"1. ومن كان على ذلك فهو على هدي قويمٍ، وعلى صراطٍ مستقيمٍ.

_ 1 ذكره شيخ الإسلام في الحموية، انظر: مجموع الفتاوى (5/26) .

فضل الحمد والأدلة عليه من القرآن

41 / فضلُ الحمدِ والأدلَّةُ عليه من القرآن الكريم تناولتُ فيما سبق فضلَ كلمة التوحيد لا إله إلا الله وفضلَ التسبيح، وهما إحدى الكلمات الأربع التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنّها أحبّ الكلام إلى الله، وتناولتُ فيها جملة من الأمور المهمّة المتعلّقة بهاتين الكلمتين العظيمتين، وأبدأ الحديث هنا عن الحمد (حمد الله تبارك وتعالى) ، فإنّ له شأناً عظيماً وفضلاً كبيراً، وثوابُه عند الله عظيمٌ، ومنزلته عنده عالية. فقد افتتح سبحانه كتابه القرآن الكريم بالحمد فقال: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وافتتح بعض السور فيه بالحمد فقال في أول الأنعام: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ، وقال في أوَّلِ الكهف: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً} ، وقال في أول سبأ: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ} ، وقال في أول فاطر: {الحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ ورُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وافتتح خلقَه بالحمد فقال: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ} 1، واختتمه بالحمد فقال بعد ما ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار: {وَتَرَى المَلآئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ

_ 1 سورة: الأنعام، الآية: (1) .

رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَقِيلَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 1، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 2. فالحمد له سبحانه أوَّله وآخره، وله الحمد في الأولى والآخرة أي في جميع ما خلق وما هو خالق، كما قال سبحانه: {وَهُوَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3، وقال سبحانه: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ} 4، فهو سبحانه المحمود في ذلك كلِّه كما يقول المصلي: "اللهمّ ربّنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئتَ من شيء بعد". فهذه النصوصُ دالّةٌ على شُمولِ حمده سبحانه لخلقِه وأمرِه، فهو سبحانه حمد نفسه في أول الخلق وآخره، وعند الأمر والشرع، وحمد نفسه على ربوبيته للعالَمين، وحمد نفسه على تفرّده بالإلهية وعلى حياته، وحمد نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليق بكماله من اتخاذ الولد والشريك وموالاة أحد من خلقه لحاجته إليه، كما في قوله تعالى: {وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ

_ 1 سورة: الزمر، الآية: (75) . 2 سورة: يونس، الآية: (10) . 3 سورة: القصص، الآية: (70) . 4 سورة: سبأ، الآية: (1) .

الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} 1، وحمد نفسه على علوّه وكبريائه كما قاله سبحانه: {فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ وَلَهُ الكِبْرِيَآءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 2، وحمد نفسه في الأولى والآخرة، وأخبر عن سريان حمده في العالم العلوي والسفلي، ونبّه على هذا كلّه في كتابه في آيات عديدة تدل على تنوّع حمده سبحانه، وتعدّد أسباب حمده، وقد جمعها الله في مواطن من كتابه، وفرّقها في مواطن أخرى ليتعرّف إليه عباده، وليعرفوا كيف يحمدونه وكيف يثنون عليه، وليتحبّب إليهم بذلك، ويحبّهم إذا عرفوه وأحبّوه وحمدوه3. وقد ورد الحمد في القرآن الكريم في أكثر من أربعين موضعاً، جُمع في بعضها أسباب الحمد، وفي بعضها ذُكرت أسبابه مفصّلةً، فمن الآيات التي جُمع فيها أسباب الحمد قوله تعالى: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، وقوله: {لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ} 4، وقوله: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} 5. ومن الآيات التي ذُكر فيها أسباب الحمد مفصّلة قوله تعالى: {وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ} 6،

_ 1 سورة: الإسراء، الآية: (111) . 2 سورة: الجاثية، الآيات: (36،37) . 3 انظر: طريق الهجرتين لابن القيّم (ص:228) . 4 سورة: القصص، الآية: (70) . 5 سورة: سبأ، الآية: (1) . 6 سورة: الأعراف، الآية: (43) .

ففيها حمده على نعمة دخول الجَنّة. وقوله تعالى: {فَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي نَجّاَنَا مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ} 1، ففيها حمده على النصر على الأعداء والسلامة من شرّهم. وقوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 2، ففيها حمده على نعمة التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده. وقوله تعالى: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} 3، ففيها حمده سبحانه على هبة الولد. وقوله تعالى: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجاً} 4، ففيها حمده سبحانه على نعمة إنزال القرآن الكريم قيّماً لا عِوج فيه {لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} 5. وقوله تعالى: {وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} 6 ففيها حمده سبحانه لكماله وجلاله، وتنزّهه عن النقائص والعيوب، والآيات في هذا المعنى كثيرة، فالله تبارك وتعالى هو الحميد المجيد. و"الحميد" اسم من أسماء الله الحسنى العظيمة، وقد ورد هذا

_ 1 سورة: المؤمنون، الآية: (28) . 2 سورة: غافر، الآية: (65) . 3 سورة: إبراهيم، الآية: (39) . 4 سورة: الكهف، الآية: (1) . 5 سورة: الكهف، الآية: (2) . 6 سورة: الإسراء، الآية: (111) .

الاسم في القرآن الكريم في أكثر من خمسة عشر موضعاً، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} 1، وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} 2، وقوله تعالى: {للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} 3، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ} 4، وقوله تعالى: {فَإِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً} 5، فهو تبارك وتعالى الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو تبارك وتعالى المستحق لكل حمد ومحبة وثناء لما اتصف به من صفات الحمد التي هي صفة الجمال والجلال، ولما أنعم به على خلقه من النعم الجزال، فهو المحمود على كل حال، وهو سبحانه حميد من جميع الوجوه: "لأنّ جميع أسمائه تبارك وتعالى حمدٌ، وصفاته حمد، وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه حمد، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد، والخلق والأمر إنما قام بحمده، ووُجد بحمده، وظهر بحمده، وكان الغاية هي حمده، فحمده سبب ذلك وغايته"، "وجميع ما يوصف به ويُذكر به ويُخبر عنه به فهو محامد له وثناءٌ وتسبيح وتقديس، فسبحانه وبحمده لا يحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما

_ 1 سورة: فاطر، الآية: (15) . 2 سورة: البقرة، الآية: (267) . 3 سورة: لقمان، الآية: (26) . 4 سورة: الشورى، الآية: (28) . 5 سورة: النساء، الآية: (131) .

يثني به عليه خلقُه، فله الحمد أولاً وآخراً حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه كما ينبغي لكرم وجهه وعِزّ جلاله ورفيع مجده وعلوّ جدّه"1. وهو سبحانه كما أنَّه محمودٌ على أسمائه وصفاته فهو محمودٌ على فضله وعطائه ونعمائه لما له على عباده "من جزيل مواهبه، وسعة عطاياه، وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وحسن معاملته لعباده، وسعة رحمته لهم، وبرّه ولطفه وحنانه، وإجابته لدعوات المضطرين، وكشف كربات المكروبين، وإغاثة الملهوفين، ورحمته للعالمين، وابتدائه بالنعم قبل السؤال"، إلى غير ذلك من نعمه وعطائه، وأهمّ ذلك وأعظمه "هدايته خاصَّتَه وعبادَه إلى سبيل دار السلام، ومدافعته عنهم أحسن الدفاع، وحمايتهم عن مراتع الآثام، وحبّب إليهم الإيمان وزيّنه في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين"2. فالحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه، كما يحب ربّنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعِزّ جلاله، حمداً يملأ السموات والأرض وما بينهما، وما شاء ربنا من شيء بعد، بمجامع حمده كلّها، ما علمنا منها وما لم نعلم، على نعمِه كلّها ما علمنا منها وما لم نعلم، عدد ما حمده الحامدون، وغفل عن ذكره الغافلون، وعدد ما جرى به قلمه، وأحصاه كتابه، وأحاط به علمه.

_ 1 انظر: طريق الهجرتين لابن القيّم (ص:220،230) . 2 انظر: طريق الهجرتين لابن القيّم (ص:231) .

الأدلة من السنة على فضل الحمد

42 / الأدلّة من السنة على فضل الحمد وكما أنّ القرآن الكريم قد دلّ على فضل الحمد وعِظم شأنه بأنواع كثيرة من الأدلة سبق الإشارة إلى طرف منها، فكذلك السنة مليئة بذكر الأدلة على فضل الحمد وعِظم شأنه، وما يترتّب عليه من الفوائد والثمار والفضائل في الدنيا والآخرة، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد، وهذه مفخرةٌ عظيمةٌ ومكانةٌ رفيعةٌ حظيَ بها صلوات الله وسلامه عليه، روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواءُ الحمد ولا فخر، وما من نبيٍّ يومئذ آدم فمَن سواه إلاّ تحت لوائي، وأنا أول شافعٍ، وأوّل مشفّعٍ ولا فخر" 1. فلمّا كان صلوات الله وسلامه عليه أحمدَ الخلائق لله، وأكملَهم قياماً بحمده أُعطي لواءَ الحمد، ليأوي إلى لوائه الحامدون لله من الأولين والآخرين، وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم عندما قال في الحديث: "وما من نبيٍّ يومئذ آدم فمَن سواه إلاّ تحت لوائي"، وهو لواءٌ حقيقيٌّ يحمله النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بيده ينضوي تحته وينضمّ إليه جميعُ الحمّادين من الأولين والآخرين، وأقربُ الخلق إلى لوائه أكثرُهم حمداً لله وذِكراً له وقياماً بأمره، وأمّتُه صلى الله عليه وسلم هي خيرُ الأمم، وهم الحمّادون الذين يحمدون الله على السرّاء والضرّاء، وقد رُوي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أوَّلُ من يُدعى إلى الجنّة الحمّادون، الذين يحمدون الله في السرّاء

_ 1 المسند (3/2) ، وسنن ابن ماجه (رقم:4308) ، وسنن الترمذي (3615) .

والضرّاء"، رواه الطبراني في المعجم الكبير، وأبو نعيم في الحلية، والحاكم في المستدرك، لكن في إسناده ضعف، وقد رواه ابن المبارك في الزهد بسند صحيح موقوفاً على سعيد بن جُبير رحمه الله1. وجاء في أثر يُروى عن كعب قال: "نجده مكتوباً محمّدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا فظٌّ ولا غليظٌ، ولا صخّابٌ بالأسواق، ولا يجزي بالسيّئة السيّئة، ولكنه يعفو ويغفر، وأمّتُه الحمّادون يكبِّرون الله عز وجل على كلِّ نجدٍ، ويحمدونه في كلِّ منزلة ... "، رواه الدارمي في مقدّمة سننه2. وفي الجَنّة بيتٌ يُقال له بيتُ الحمد، خُصَّ للذين يحمدون الله في السرّاء والضراء ويصبرون على مُرِّ القضاء، روى الترمذي بإسناد حسن عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ولَدُ العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتُم ولدَ عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدَك واسترجع. فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجَنّة وسمُّوه بيتَ الحمد" 3. فهذا حَمِدَ الله على الضرّاء فنال بحمده هذه الرتبة العلية، ولكن كيف يبلغ العبدُ هذه المنزلة، وكيف يصل إلى هذه الدرجة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والحمد على الضرّاء يوجبه مشهدان:

_ 1 انظر: السلسة الضعيفة للألباني (2/94) . 2 سنن الدارمي (1/16) . 3 سنن الترمذي (رقم:1021) ، وحسّنه العلاّمة الألباني في الصحيحة (رقم:1408) .

أحدهما: علم العبد بأنّ الله سبحانه مستوجبٌ ذلك، مستحقٌّ له بنفسه، فإنّه أحسنَ كلَّ شيء خلقه، وأتقن كلَّ شيء، وهو العليم الحكيم، الخبير الرحيم. والثاني: علمُه بأنّ اختيارَ الله لعبدِه المؤمن خيرٌ من اختياره لنفسه، كما روى مسلمٌ في صحيحه وغيرُه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلاّ كان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلاّ للمؤمن، إن أصابته سرّاءُ شكرَ فكان خيراً له، وإنْ أصابته ضرّاءُ صبر فكان خيراً له "1، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنّ كلَّ قضاء يقضيه الله للمؤمن الذي يصبر على البلاء ويشكر على السرّاء فهو خير له" 2. اهـ. فإذا عَلم ذلك العبدُ وتيقّنه أقبل على حمد الله في أحواله كلِّها في سرّائه وضرّائه، وفي شدّته ورخائه، ثم هو في حال شدّته لا ينسى فضلَ الله عليه وعطاءَه ونعمتَه. جاء رجلٌ إلى يونس بن عبيد رحمه الله يشكو ضيقَ حاله، فقال له يونس: "أيسُرُّك ببصرك هذا مائةَ ألف درهم؟ قال الرجل: لا، قال: فبيديك مائة ألفِ؟ قال: لا، قال: فبرجليك مائةُ ألفِ؟ قال: لا. قال: فذكّره نعم الله عليه، فقال يونس: أرى عندك مئين الألوف وأنت تشكو الحاجة".

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2999) بلفظ: "عجباً لأمر المؤمن إنَّ أمره كلَّه خير، وليس ذلك لأحد إلاَّ للمؤمن ... "، الحديث. 2 مجموع الفتاوى (10/43،44) .

وجاء عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنَّه قال: "إنّ رجلاً بُسط له من الدنيا فانتزع ما في يديه، فجعل يحمدُ الله ويثني عليه حتى لم يكن له فراشٌ إلاّ بارِيَّةٌ1، قال: فجعل يحمدُ الله ويثني عليه، وبُسط لآخر من الدنيا فقال لصاحب الباريّة: أرأيتك أنت على ما تحمد الله؟ قال: أحمده على ما لو أُعطيت به ما أُعطي الخلق لم أعطِهم إيّاه. قال: وما ذاك؟ قال: أرأيتك بصرك، أرأيتك لسانك، أرأيتك يديك، أرأيتك رجليك "2. وثبت في فضل الحمد ما رواه الترمذي وابن ماجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أفضل الذِكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله"3، فجعل صلوات الله وسلامه عليه حمدَ الله أفضلَ الدعاءِ، مع أنَّ الحمد إنّما هو ثناءٌ على المحمود مع حبِّه، ولهذا سُئل ابن عيينة رحمه الله عن هذا الحديث فقيل له: كأنّ الحمد لله دعاء؟ فقال: "أما سمعتَ قولَ أمية بن أبي الصلت لعبد الله ابن جدعان يرجو نائلة: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حباؤك إن شيمتَك الحياءُ إذا أثنى عليك المرءُ يوما ... كفاه من تعرضه الثناء كريم لا يغيره صباحٌ ... عن الخلق الجميلِ ولا مساءُ

_ 1 الحصير المنسوج. القاموس المحيط (ص:452) . 2 ذكرهما ابن القيّم في عِدة الصابرين (ص:167) . 3 سنن الترمذي (رقم:3383) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3800) ، وحسّنه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:1104) .

فهذا مخلوقٌ اكتفى من مخلوقٍ بالثناء عليه، فكيف بالخالق سبحانه". ويؤيّد هذا المعنى قولُ الله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 1، فجعل الحمدَ دعاء. قال ابن القيّم رحمه الله: "الدعاء يُراد به دعاءُ المسألة ودعاء العبادة، والمُثنِي على ربّه بحمده وآلائه داعٍ له بالاعتبارين، فإنَّه طالبٌ منه، طالبٌ له، فهو الداعي حقيقة، قال تعالى: {هُوَ الحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 2") 3. وممّا ورد في فضل الحمد وعِظم ثوابه عند الله ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطَهور شطرُ الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض، والصلاةُ نورٌ، والصدقةُ برهانٌ، والصَّبرُ ضِياءٌ، والقرآن حجّةٌ لك أو عليك، كلُّ الناس يغدو فبائعٌ نفسَه فمعتقُها أو موبقُها" 4. فأخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن عظيم فضل الحمد وعظيم ثوابه، وأنَّه يملأ الميزان، وقد قيل: إنَّ المراد بملائه الميزان أي: لو كان الحمد جسماً لملأ الميزان، وليس بسديد، بل إنَّ الله عز وجل يمثّل أعمال بني آدم وأقوالهم صُوَراً يوم القيامة وتوزن حقيقةً، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما في

_ 1 سورة: يونس، الآية: (10) . 2 سورة: غافر، الآية: (65) . 3 صيغ الحمد المطبوع باسم مطالع السعد (ص:90) . 4 صحيح مسلم (رقم:223) .

الصحيحين: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم"1. فالحمد شأنُه عظيمٌ، وثوابُه جزيلٌ، ويترتّب عليه من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلاّ الله، وأهله هم الحَرِيُّون يوم القيامة بأعلى المقامات وأرفع الرُّتب وأعلى المنازل، فإنّ الله عز وجل يحبُّ المحامدَ، ويحبُّ من عبده أن يُثنيَ عليه، ويرضى عن عبده أن يأكلَ الأكْلةَ فيحمده عليها، ويشربَ الشربَةَ فيحمده عليها، وهو تبارك وتعالى المانُّ عليهم بالنعمة والمتفضِّل عليهم بالحمد، فهو يبذل نعمه لعباده، ويطلبُ منهم الثناءَ بها وذكرها والحمد عليها، ويرضى منهم بذلك شكراً عليها، وإن كان ذلك كلُّه من فضله عليهم، وهو غير محتاج إلى شكرهم، لكنه يحبُّ ذلك من عباده حيث كان صلاحُ العبد وفلاحُه وكمالُه فيه، فلله الحمد على نعمائه، وله الشكر على وافر فضله وجزيل عطائه حمداً كثيراً طيّباً مباركاً كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6049) ، وصحيح مسلم (رقم:2694) .

المواطن التي يتأكد فيها الحمد

43 / المواطن التي يتأكّد فيها الحمد لقد مرّ معنا بيانُ فضل الحمد وعظيم ثوابه من خلال النصوص الواردة في ذلك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي تدل على أنّ الحمد من أفضل الطاعات وأجلِّ القُربات التي يتقرّب بها العبدُ إلى الله تعالى. والحمدُ مطلوبٌ من المسلم في كلِّ وقت وحين؛ إذ إنَّ العبد في كلِّ أوقاته متقلِّبٌ في نعمة الله، وهو سبحانه خالقُ الخلق ورازقهم، وأسبغ عليهم نعمَه ظاهرة وباطنة، دينية ودنيوية، ودفع عنهم النِّقم والمكاره، فليس بالعبادٍ من نعمة إلاّ وهو مولّيها، ولا يدفع الشرَّ عنهم سواه، فهو سبحانه يستحقّ منهم الحمد والثناء في كلِّ وقتٍ وحين، كما أنّه سبحانه يستحقُّ الحمدَ لكمال صفاته، ولِما له من الأسماء الحسنى والنعوت العظيمة التي لا تنبغي إلاّ له، فكلُّ اسم من أسمائه، وكلُّ صفةٍ من صفاته يستحقُّ عليها أكملَ الحمد والثناءِ، فكيف بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العظيمة. وكما أنَّ الحمدَ مطلوبٌ من المسلم في كلِّ وقتٍ، إلاَّ أنَّ هناك أوقاتاً معيّنةً وأحوالاً مخصوصةً تمرُّ بالعبد يكون فيها الحمدُ أكثرَ تأكيداً. ومن هذه الأوقات والأحوال حمدُ الله في الخطبة وفي استفتاح الأمور، وفي الصلاة، وعقِب الطعام والشراب واللباس، وعند العطاس، ونحو ذلك من المواطن التي ورد في السنة تخصيصها بتأكّد الحمد فيها، ولعلّ من الحسن أن نقف مع بعض النصوص المشتملة على ذكر الأوقات والمواطن التي يتأكّد فيها الحمدُ ممّا وردت به سنّة النبي صلى الله عليه وسلم.

ـ فمن هذه المواطن حمد الله عند الفراغ من الطعام والشرب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 1، روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلةَ فيحمدُه عليها ويشربَ الشربةَ فيحمدُه عليها" 2، وروى الترمذي بإسناد حسن عن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكلَ طعاماً فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حولٍ منِّي ولا قوّةٍ، غفر له ما تقدّم من ذنبه "3، وروى البخاري عن أبي أمامة رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: "الحمدُ لله حمداً كثيراً طيّباً مُباركاً فيه، غير مَكْفِيٍّ، ولا مُوَدَّعٍ، ولا مستغنى عنه ربّنا "4، وروى النسائي في السنن الكبرى بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن جُبير: أنّه حدّثه رجل خَدمَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثمان سنين أنّه كان يسمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا قَرَّب إليه طعاماً يقول: "بسم الله"، وإذا فرغ من طعامه قال: "اللهمَّ أطعمتَ وسقيتَ وأغنيتَ وأقْنيتَ وهدَيتَ وأحييتَ، فلك الحمد على ما أعطيتَ"5. ـ ومِن مواطن الحمد حمدُ الله في الصلاة، ولا سيّما عند الرفع من

_ 1 سورة: البقرة، الآية: (172) . 2 صحيح مسلم (رقم:2734) . 3 سنن الترمذي (رقم:3458) ، وحسّنه العلاّمة الألباني في الإرواء (7/48) . 4 صحيح البخاري (رقم:5459) . 5 السنن الكبرى (رقم:6898) .

الركوع، ففي صحيح مسلم عن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه قال: "سمع الله لمن حمده ربّنا لك الحمد ملءَ السموات وملءَ الأرض، وملءَ ما شئتَ من شيءٍ بعد "1، وفيه أيضاً عن أبي سعيد الخدري: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهمَّ ربَّنا لك الحمد، ملءَ السموات وملءَ الأرض، وملءَ ما شئتَ من شيء بعد، أهلَ الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبدُ، وكلُّنا لك عبد، اللهمَّ لا مانع لما أعطيتَ، ولا معطِيَ لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدّ"2، وروى البخاري في صحيحه عن رفاعة بن رافع الزُّرَقيِّ رضي الله عنه قال: كنَّا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسَه من الركوع قال: "سمع الله لمن حمده"، قال رجلٌ وراءه: ربّنا لك الحمد حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه، فلمّا انصرف قال: "مَن المتكلِّم؟ " قال: أنا، قال: "قد رأيتُ بضعةً وثلاثين مَلَكاً يبتدرونها أيّهم يكتبها أوّل "3، وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهمَّ لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمدُ أنت قيُّوم السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت الحقُّ، ووعدُك حقٌّ، ولقاؤُك حقٌّ، والجنّةُ حقٌّ، والنار حقٌّ، والنبيّون ... "،

_ 1 صحيح مسلم (رقم:771) . 2 صحيح مسلم (رقم:477) . 3 صحيح البخاري (رقم:799) .

إلى آخر الحديث1. وروى مسلمٌ في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رجلٌ: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن القائل كذا وكذا؟ " فقال رجل من القوم: أنا قلتُها يا رسول الله. قال: "عجبتُ لها فُتحت لها أبواب السماء"، قال ابن عمر: فما تركتها منذ سمعت رسول الله يقولهنَّ2. ـ ومن المواطن التي يتأكّد فيها الحمد حمدُ الله في ابتداء الخُطب والدروس، وفي ابتداء الكتب المصنّفة ونحوِ ذلك، روى أهل السنن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خُطبةَ الحاجة: "الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلّ فلا هادي له"3، ويُستحبّ البدء به في تعليم الناس وفي الخطب سواءً كانت خطبةَ نكاح أو خطبةَ جمعة أو غيرهما. كما يُستحبُّ الحمد عند حصول نعمة أو اندفاع مكروه، سواءً حصل ذلك للحامِد نفسه أو لقريبه أو لصاحبه أو للمسلمين، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أُتي

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1120) ، وصحيح مسلم (رقم:769) . 2 صحيح مسلم (رقم:601) . 3 سنن النسائي (6/89) ، وسنن الترمذي (رقم:1105) ، وسنن أبي داود (رقم:2118) ، وسنن ابن ماجه (1892) ، وانظر في تخريج الحديث والكلام عليه "خطبة الحاجة" للألباني حفظه الله.

ليلة أُسريَ به بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما فأخذ اللبن، فقال له جبريل عليه السلام: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذتَ الخمر غَوَت أمَّتُك"1، وفي سنن أبي داود والنسائي بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استجدَّ ثوباً سمّاه باسمه عِمامة أو قميصاً أو رداء ثم يقول: " اللهمّ لك الحمد أنتَ كسوتنيه أسألك خيرَه وخيرَ ما صُنع له، وأعوذ بك من شرِّه وشرِّ ما صُنع له"2. ـ ويتأكّد الحمدُ إذا عطس العبدُ، والعطاس نعمة عظيمة من نعم الله على عباده؛ إذ به يزول المحتقن في الأنف، والذي قد يكون في بقائه أذى أو ضررٌ على العبد، ولهذا يتأكّد على العبد حمدُ الله على هذه النعمة، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عطس أحدكم فليقُل: الحمد لله، وليَقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويصلحُ بالَكم"3. ويُستحب للمسلم أن يحمد الله إذا رأى مبتلىً بعاهةٍ أو نحوها، ففي الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن رأى مبتلىً فقال: الحمد لله الذي عافاني ممّا ابتلاك به وفضّلني على كثير ممّن خلق تفضيلاً لم يصبه ذلك البلاءُ" 4.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:168) . 2 سنن أبي داود (رقم:4020) ، والسنن الكبرى النسائي (رقم:10141) . 3 صحيح البخاري (رقم:6224) . 4 سنن الترمذي (رقم:3432) ، وحسّنه الألباني في صحيح الجامع (رقم:6248)

كما ينبغي للمسلم أن يكون حامداً لله في سرّائه وضرّائه، وفي شدّته ورخائه، وفي سائر شؤونه، وروى ابن ماجه في سننه، والحاكم في مستدركه عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحبّه قال: "الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات"، وإذا رأى ما يكره قال: "الحمد لله على كلِّ حال"1. فهذه بعضُ المواطن التي يتأكّد فيها الحمد مما وردت به السنة، وسيمرّ معنا بإذن الله الإشارةُ إلى مواطن أخرى، فالحمدُ لله حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه كما يحبّ ربُّنا ويرضى، حمداً لا ينقطع ولا يبيد ولا يفنى عدد ما حمده الحامدون، وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون.

_ 1 سنن ابن ماجه (رقم:3803) ، والمستدرك (1/499) ، وصححه العلاّمة الألباني في صحيح الجامع (رقم:4727) .

أعظم موجبات الحمد العلم بأسماء الرب وصفاته

44 / أعظم موجبات الحمد العلم بأسماء الرب وصفاته لا ريب أنَّ الحمدَ كلَّه لله ربِّ العالمين، فإنّه سبحانه المحمود على كلِّ شيء، وهو المحمود على ما خلقه وأمر به ونهى عنه، والحمدُ أوسعُ الصفات وأعمُّ المدائح وأعظم الثناء، والطرقُ إلى العلم به في غاية الكثرة؛ لأنَّ جميعَ أسمائه تبارك وتعالى حمدٌ، وصفاته حمدٌ، وأفعاله حمدٌ، وأحكامه حمدٌ، وعدله حمدٌ، وانتقامه من أعدائه حمدٌ، وفضله وإحسانه إلى أوليائه حمدٌ، والخلق والأمر إنّما قام بحمده ووُجد بحمده وظهر بحمده، وكان الغاية منه هي حمده، فحمدُه سبحانه سبب ذلك وغايته ومظهره وحامله، فحمده روح كلِّ شيء، وقيامُ كلّ شيء بحمده، وسريان حمده في الموجودات وظهور آثاره أمرٌ مشهودٌ بالأبصار والبصائر. وقد نبّه سبحانه على شمول حمده لخلقه وأمره بأنْ حَمِدَ نفسَه في أول الخلق وآخره، وعند الأمر والشرع، وحمد نفسه على ربوبيته للعالمين، وحمد نفسه على تفرّده بالإلهية وعلى حياته، وحمد نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليق به من اتخاذ الولد والشريك إلى غير ذلك من أنواع ما حمد اللهُ به نفسه في كتابه. ولهذا فإنَّ من الطرق العظيمة الدالة على شمول معنى الحمد وتناوله لجميع الأشياء معرفةَ العبد لأسماء الربِّ تبارك وتعالى وصفاته، وإقرارَه بأنَّ للعالَم إلهاً حيًّا جامعاً لكلِّ صفة كمال، واسمٍ حسنٍ وثناء جميل وفعل كريم، وأنّه سبحانه له القدرة التامَّةُ والمشيئةُ النافذة والعلم

المحيط، والسمعُ الذي وسع الأصوات، والبصرُ الذي أحاط بجميع المبصرات، والرحمة التي وسعت جميع المخلوقات، والملكُ الكامل الذي لا يخرج عنه ذرّة من الذرّات، والغنى التامُّ المطلق من جميع الجهات، والحكمة البالغة المشهودة آثارها في الكائنات، والعزّة الغالبة بجميع الوجوه والاعتبارات، والكلمات التامّات النافذات التي لا يجاوزهنّ بَرٌّ ولا فاجر من جميع البريّات، واحدٌ لا شريك له في ربوبيّته ولا في إلهيته، ولا شبيه له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وليس له من يشركه في ذرّة من ذرّات ملكه، وهو سبحانه قيّوم السموات والأرضين إله الأولين والآخرين، ولا يزال سبحانه موصوفاً بصفات الجلال، منعوتاً بنعوت الكمال، منزَّهاً عن أضدادها من النقائص والعيوب، فهو الحيّ القيوم الذي لكمال حياته وقيّوميّته لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، مالكُ السموات والأرض الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، العالم بكلِّ شيء الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلفهم، فلا تسقطُ ورقةٌ إلاَّ بعلمه، ولا تتحرّك ذرّةٌ إلاّ بإذنه، يعلم دبيبَ الخواطر في القلوب حيث لا يطلع عليه الملك، ويعلم ما سيكونُ منها حيث لا يطلع عليه القلب، البصير الذي لكمال بصره يرى تفاصيل خلق الذرّة الصغيرة وأعضاءَها ولحمَها ودمَها ومخَّها وعروقَها، ويرى دبيبَها على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء، ويرى ما تحت الأرضين السبع، كما يرى ما فوق السموات السبع، السميعُ الذي قد استوى في سمعه سرُّ القول وجهرُه، وسع سمعُه الأصوات فلا تختلف

عليه أصوات الخلق ولا تشتبه عليه، ولا يُشغلُه منها سمع عن سمع، ولا تغلطُه المسائل، ولا يبرمُه كثرة السائلين، قالت عائشة رضي الله عنها: " الحمد لله الذي وسع سمعُه الأصوات، لقد جاءت المجادِلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني ليخفى عليّ بعضُ كلامها، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ واللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 1 ") ، القديرُ الذي لكمال قدرته يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء، ويجعل المؤمنَ مؤمناً والكافرَ كافراً، والبرَّ برًّا والفاجرَ فاجراً، ولكمال قدرته سبحانه لا يحيط أحدٌ بشيء من علمه إلاّ بما شاء أن يُعلمه إيّاه، ولكمال قدرته خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيّامٍ وما مسَّه من لغوب، ولا يُعجزه أحدٌ من خلقه ولا يفوته، بل هو في قبضته أين كان، ولكمال غناه استحال إضافة الولد والصاحبة والشريك والشفيع بدون إذنه إليه، ولكمال عظمته وعلوّه وسِعَ كرسيُّه السموات والأرض، ولم تسعه أرضُه ولا سمواتُه، ولم تُحط به مخلوقاته، بل هو العالي على كلِّ شيء، وهو بكلِّ شيء محيط، يقول الله تعالى في أوّل سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقاًّ إِنَّهُ يَبْدَؤُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا

_ 1 سورة: المجادلة، الآية: (1) . وحديث عائشة رواه أحمد في المسند (6/46) ، وغيره، وصححه الألباني في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم (رقم:625) .

لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. وهو سبحانه يحبُّ رسُلَه ويُحبُّ عبادَه المؤمنينَ وهم يحبُّونه ويحمدونه، بل لا شيء أحبُّ إليهم منه، ولا أشوقَ إليهم من لقاءه، ولا أقرَّ لعيونهم من رؤيته، ولا أحظى عندهم من قربه، وهو سبحانه له الحكمة البالغة في خلقه وأمره، وله النعمة السابغة على خلقه، وكلُّ نعمةٍ منه فضلٌ، وكلُّ نقمةٍ منه عدلٌ، وهو سبحانه أرحمُ بعباده من الوالدة بولدها، وأفرحُ بتوبة عبده من واجد راحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلِكة بعد فقدها واليأس منها. وهو سبحانه رحيمٌ بعباده لم يُكلِّفهم إلاَّ وُسعهم وهو دون طاقتهم، فقد يطيقون الشيء ويضيق عليهم بخلاف وسعهم فإنَّه ما يسعونه ويسهل عليهم ويفضل قدرهم عنه، ولا يعاقب سبحانه أحداً بغير فعله، ولا يعاقبه على فعل غيره، ولا يعاقبه بترك ما لا يقدر على فعله، ولا على فعل ما لا قدرة له

_ 1 سورة: يونس، الآيات: (3 ـ 10) .

على تركه، وهو سبحانه حكيمٌ كريمٌ جوادٌ ماجدٌ محسنٌ وَدودٌ صَبورٌ شَكورٌ، يُطاعُ فيَشكرُ، ويُعصى فيَغفِر، لا أحد أصبر على أذى سمعه منه، ولا أحد أحبُّ إليه المدح منه، ولا أحد أحبُّ إليه العذر منه، ولا أحد أحبُّ إليه الإحسان منه، فهو محسن يحبُّ المحسنين، شَكور يحبُّ الشاكرين، جميلٌ يحب الجمال، طيِّبٌ يحبُّ كلَّ طيِّب، عليم يحب العلماءَ من عباده، كريمٌ يحبُّ الكرماء، قويٌّ والمؤمن القويُّ أحبُّ إليه من المؤمن الضعيف، برٌّ يحبُّ الأبرار، عدلٌ يحبُّ أهل العدل، حييٌّ سِتِّيرٌ يحبُّ أهل الحياء والستر. وهو سبحانه يحبُّ أسماءَه وصفاته ويحبُّ المتعبِّدين له بها، ويحبُّ من يسأله ويمدحه بها، ويحبُّ من يعرفها ويعقلها ويثني عليه بها، ويحمده ويمدحه بها كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا أحد أحبُّ إليه المدح من الله من أجل ذلك أثنى على نفسه، ولا أحد أغيرُ من الله من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحبُّ إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشِّرين ومنذرين" 12. وبهذا يُعلم أنَّ من كان له نصيب من معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العليا الواردة في كتابه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم عَلِمَ تَمام العلم أنَّ اللهَ لا يكون له من ذلك إلاَّ ما يوجب الحمد والثناء، فالحمد موجب أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة، ولا يُخْبَرُ عنه سبحانه إلاَّ بالحمد، ولا يُثنى عليه إلاَّ بأحسن الثناء، كما لا يسمّى إلاَّ بأحسن

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2760) . 2 انظر: طريق الهجرتين لابن القيِّم (ص:210 ـ 226) .

الأسماء، فكلُّ صفة عليَا واسم حسن وثناء جميل، وكلُّ حمدٍ ومدحٍ وتسبيحٍ وتنزيهٍ وتقديسٍ وإجلالٍ وإكرامٍ فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه وأتمِّها وأدومِها. فسبحان الله وبحمده لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني به عليه خلقه. فله الحمد أولاً وآخراً حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه كما يُحبُّ ربُّنا الكريمُ ويرضى.

حمد الله على نعمه وآلائه

45/ حمد الله على نعمه وآلائه تقدّم معنا الإشارةُ إلى شمول حمد الله سبحانه وتناوله لجميع ما يُحدِثه من إحسان ونعمة وغير ذلك وأنَّ حمدَه سبحانه هو موجبُ أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة. وبهذا يتبيَّن أنَّ حمد الله نوعان: حمدٌ على إحسانه إلى عباده وهو من الشكر، وحمدٌ لما يستحقُّه هو بنفسه من صفات كماله ونعوت جلاله سبحانه، وقد كان أكثر الحديث عن حمد الله على أسمائه الحسنى وصفاته العظيمة، وأنَّ علم العبد بها علماً صحيحاً هو من أعظم موجبات قيامه بحمد الله على أحسن وجه وأتمِّ حالٍ، وأماَّ الحديث هنا فسيكون عن النوع الثاني من أنواع الحمد وهو حمد الله على نعمه وآلائه. يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاَنَّى تُأْفَكُونَ} 1، ويقول تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِيِ الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} 2، ويقول تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} 3، ويقول تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} 4، فنِعمُ الله على عباده كثيرةٌ ومتنوّعةٌ، وكلُّ نعمة منها موجبة لحمد المُنعِم سبحانه،

_ 1 سورة: فاطر، الآية: (3) . 2 سورة: لقمان، الآية: (20) . 3 سورة: النحل، الآية: (53) . 4 سورة: إبراهيم، الآية: (34) .

وكما أنَّ أسباب الحمد وموجباته متنوِّعةٌ متعدِّدةٌ، فكذلك الحمدُ تنوَّع بتنوّعها وكثُرَ بكثرتها، وقد فصَّل ابن القيّم رحمه الله الحديث عن هذا النوع في كتابه "طريق الهجرتين"، وذكر رحمه الله أنَّ هذا النوع من الحمد حمد النِّعم والآلاء مشهودٌ للخليقة برِّها وفاجرِها، مؤمنِها وكافرِها من جزيل مواهبه، وسعة عطاياه، وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وحسن معاملته لعباده، وسعة رحمته لهم، وبرّه ولطفه وحنانه وإجابته لدعوات المضطرّين، وكشف كربات المكروبين، وإغاثة الملهوفين، ورحمته للعالمين، وابتدائه بالنعم قبل السؤال ومن غير استحقاق، بل ابتداءً منه بمجرّد فضله وكرمه وإحسانه، ودفع المِحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها، وصرفها بعد وقوعها، ولطفه تعالى في ذلك إلى ما لا تبلغه الآمال، وهداية خاصّته وعباده إلى سبيل دار السلام، ومدافعته عنهم أحسن الدفاع، وحمايتهم عن مراتع الآثام، وحبّب إليهم الإيمان وزيّنه في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان وجعلهم من الراشدين، وكتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه، وسمّاهم المسلمين مِن قبل أن يخلقهم، وذكرهم قبل أن يذكروه، وأعطاهم قبل أن يسألوه، وتحبّب إليهم بنعمه مع غناه، وتبغضّهم إليه بالمعاصي وفقرهم إليه، ومع هذا كلِّه فاتّخذ لهم داراً، وأعدّ لهم فيها من كلِّ ما تشتهيه الأنفسُ وتلَذُّ الأعين، وملأها من جميع الخيرات، وأودعها من النَّعيم والحَبرة والسرور والبهجة ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم أرسل إليهم الرّسل يدعونهم إليها،

ثم يسَّر لهم الأسباب التي توصلهم إليها وأعانهم عليها، ورضي منهم باليسير في هذه المدّةِ القصيرة جدًّا بالإضافة إلى بقاء دار النعيم، وضَمِن لهم إن أحسنوا أن يثيبهم بالحسنة عشراً، وإن أساءوا واستغفروا أن يغفر لهم، ووعدهم أن يمحو ما جَنَوه من السيّئات بما يفعلونه بعدها من الحسنات وذكّرهم بآلائه، وتعرَّف إليهم بأسمائه، وأمرهم بما أمرهم به رحمة منه بهم وإحساناً، لا حاجة منه إليهم، ونهاهم عمّا نهاهم عنه حمايةً وصيانةً لهم لا بُخلاً منه عليهم، وخاطبهم بألطف خطاب وأحلاه، ونصحهم بأحسن النصائح، ووصّاهم بأكمل الوصايا، وأمرهم بأشرف الخصال، ونهاهم عن أقبح الأقوال والأعمال، وصرّف لهم الآيات، وضرب لهم الأمثال، ووسع لهم طرقَ العلم به ومعرفته، وفتح لهم أبواب الهداية، وعرّفهم الأسباب التي تدنيهم مِن رضاه، وتبعدهم عن غضبه، ويخاطبهم بألطف الخطاب، ويسمّيهم بأحسن أسمائهم، كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ} 1، {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} 2، {قُلْ لِعِبَادِي} 3، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِي} 4، فيخاطبهم بخطاب الوِداد والمحبّة والتلطّف، كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ

_ 1 سورة: النور، الآية: (31) . 2 سورة: الزمر، الآية: (53) . 3 سورة: إبراهيم، الآية: (31) . 4 سورة: البقرة، الآية: (186) .

تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} 1، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ} 2، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} 3، وأكثرُ القرآن جاء على هذا النمط من خطابه لعباده بالتودّد والتحنّن واللطف والنصيحة البالغة. يقول تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} 4، قال ابن القيّم رحمه الله: "فتحت هذا الخطاب: إني عاديت إبليس وطردتُه من سمائي وباعدته من قربي؛ إذ لم يسجد لأبيكم آدم، ثم أنتم يا بنيه توالونه وذريّته من دوني وهم أعداؤكم، فليتأمّل اللبيبُ مواقع هذا الخطاب وشدّة لصوقه بالقلوب والتباسه بالأرواح. ثم إنَّه سبحانه قد أعلمَ عباده بأنَّه لا يرضى لهم إلاّ أكرمَ الوسائلِ وأفضلَ المنازلِ، وأجَلَّ العلوم والمعارفِ، قال تعالى: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنكُمُ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} 5، وقال: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً} 6، وقال:

_ 1 سورة: البقرة، الآيات: (21،22) . 2 سورة: لقمان، الآية: (33) . 3 سورة: الإنفطار، الآية: (6) . 4 سورة: الكهف، الآية: (50) . 5 سورة: الزمر، الآية: (7) . 6 سورة: المائدة، الآية: (3) .

{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} 1، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} 2. ثم هو سبحانه لم يخلق عبادَه لحاجة منه إليهم، ولا ليتكثَّر بهم من قلّةٍ، ولا ليتعزَّز بهم من ذِلَّة، بل كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِن رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينِ} 3، وقال سبحانه عقِب أمره لعباده بالصدقة ونهيهم عن إخراج الرديء من المال: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنَيٌّ حَمِيدٌ} 4، فهو سبحانه غنيٌّ عما ينفقون أن ينالَه منه شيء، حميد مستحقٌّ المحامد كلّها، فإنفاق العباد لا يسدُّ منه حاجة ولا يوجب له حمداً، بل هو الغنيُّ بنفسه، الحميد بنفسه وأسمائه وصفاته، وإنفاقُ العباد نفعه عائدٌ لهم وإحسانهم عائدٌ إليهم، كما قال سبحانه: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} 5، وقال: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ

_ 1 سورة: البقرة، الآية: (185) . 2 سورة: النساء، الآيات: (26 ـ 28) . 3 سورة: الذاريات، الآيات: (56 ـ 58) . 4 سورة: البقرة، الآية: (267) . 5 سورة: الإسراء، الآية: (7) .

يَمْهَدُونَ} 1، وقال: {مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} 2") 3. هذا ومن أراد مطالعة أصول النِّعم وما توجبه من حمد الله وذكرِه وشكره وحسن عبادتِه فَليُدِمْ سرح الذِّكر في رياض القرآن الكريم، وليتأمّل ما عدّد الله فيه من نعمه وتعرّف بها إلى عباده من أول القرآن إلى آخره {فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ وَلَهُ الكِبْرِيَآءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 4.

_ 1 سورة: الروم، الآية: (44) . 2 سورة: يونس، الآية: (108) . 3 انظر: طريق الهجرتين لابن القيّم (ص:231 ـ 237) . 4 سورة: الجاثية، الآيات: (36،37) .

حمد الله هو أفضل النعم

46 / حمدُ الله هو أفضلُ النِّعَم لا رَيب في عِظم شأن الحمدِ وجلالة قدره وكثرةِ ثوابه، فهو من أجلّ الطاعات وأحسن القُربات، وهو أحقُّ ما تقرّب به العبد إلى ربّه سبحانه. ثبت في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: "ربّنا ولك الحمد، ملءَ السموات، وملءَ الأرض، وملءَ ما شئت من شيء بعد، أهلَ الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلُّنا لك عبد لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجَد منك الجد"1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " هذا لفظ الحديث "أحقُّ" أفعل تفضيل، وقد غلط فيه طائفةٌ من المصنِّفين فقالوا "حقٌ ما قال العبد" وهذا ليس لفظ الرسول، وليس هو بقول سديد، فإنَّ العبدَ يقول الحقَّ والباطل، بل الحقُّ ما يقوله الربُّ، كما قال تعالى {فَالحَقُّ وَالحَقَ أَقُولُ} 2، ولكن لفظه "أحقُّ ما قال العبد" خبر مبتدأ محذوف، أي الحمدُ أحقُّ ما قال العبد أو هذا ـ وهو الحمد ـ أحقُّ ما قال العبد، ففيه بيّن أنّ الحمد أحق ما قاله العبد، ولهذا أوجب قولَه في كلِّ صلاة، وأَنْ تُفْتَتَحَ به الفاتحة، وأوجب قولَه في كلِّ خطبة وفي كلِّ أمر ذي بال"3. اهـ.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:477) . 2 سورة: ص، الآية: (84) . 3 الفتاوى (14/312) .

والحمد هو أفضل نعم الله على عباده، وهو أجل من نعم الله التي أنعم بها على العبد من رزقه وعافيته وصحته والتوسعةِ عليه في دنياه ونحوِ ذلك، ويشهد لهذا ما رواه ابنُ ماجه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله على عبد بنعمة فقال: " الحمد لله إلا كان ما أعطى أفضل ممّا أخذ "1. وروي هذا أيضاً عن الحسن البصري موقوفاً عليه، رواه ابن أبي الدنيا في كتابه الشكر، وروى ابن أبي حاتم في تفسيره أنّ بعض عمال عمر بن عبد العزيز كتب إليه: إني بأرضٍ قد كثرت فيها النعم، حتى لقد أشفقتُ على أهلها من ضعف الشكر، فكتب إليه عمر: "إنِّي قد كنت أراك أعلم بالله ممّا أنت، إنَّ الله لم ينعم على عبده نعمة، فحمد الله عليها إلا كان حمدُه أفضلَ من نعمه، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل، قال الله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ} 2، وقال الله {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَراً حَتَى إِذَا جَآؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} 3، وأيُّ نِعمة أفضل من دخول الجنة".

_ 1 سنن اين ماجه (رقم:3805) ، وحسّنه العلاّمة الألباني كما في السلسلة الضعيفة (5/24) . 2 سورة: النمل، الآية: (15) . 3 سورة: الزمر، الآية: (73،74) .

فهذا فيه أوضحُ دلالةٍ على أنَّ حمدَ الله على النِّعمة أفضلُ منَ النِّعمة نفسها، وقد استشكل هذا بعضُ أهل العلم وقال: لا يكون فعلُ العبد أفضلَ من فعل الربِّ عز وجل، أورد هذا الاستشكال ابنُ رجب في كتابه "جامع العلوم والحكم" وأجاب عنه جواباً وافياً مسدَّداً فقال رحمه الله: "المرادُ بالنِّعمِ النِّعمُ الدنيويةُ، كالعافية والرزق والصحة ودفع المكروه ونحوِ ذلك، والحمدُ هو من النعم الدينية، وكلاهما نعمةٌ من الله، لكن نعمة الله على عبده بهدايته لشكر نعمه بالحمد عليها أفضل من نعمه الدنيوية على عبده، فإنَّ النِّعم الدنيوية إن لم يقترن بها الشكرُ كانت بليَّة، كما قال أبو حازم: كلُّ نعمة لا تقرِّب من الله فهي بلية. فإذا وفَّق الله عبده للشكر على نعمه الدنيوية بالحمد أو غيره من أنواع الشكر كانت هذه النعمة خيراً من تلك النعم وأحبَّ إلى الله عز وجل منها، فإنَّ الله يحب المحامد، ويرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها، والثناء بالنعم والحمد عليها وشكرها عند أهل الجود والكرم أحبُّ إليهم من أموالهم، فهم يبذلونها طلباً للثناء، والله عز وجل أكرمُ الأكرمين وأجودُ الأجودين، فهو يبذل نعمه لعباده، ويطلب منهم الثناء بها وذكرها والحمد عليها، ويرضى منهم بذلك شكراً عليها، وإن كان ذلك كلُّه من فضله عليهم، وهو غيرُ محتاجٍ إلى شكرهم، لكنَّه يُحبُّ ذلك من عباده، حيث كان صلاحُ العبد وفلاحُه وكمالُه فيه، ومن فضله أنَّه نسب الحمدَ والشكرَ إليهم، وإن كان من أعظم نعمه عليهم، وهذا كما أنَّه أعطاهم ما أعطاهم من الأموال ثمَّ استقرض منهم بعضَه ومَدَحَهم بإعطائه، والكلُّ ملكه، ومن

فضله، ولكن كرمه اقتضى ذلك"1. اهـ كلامه رحمه الله. وبه يتبين معنى الحديث المتقدم: "ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان ما أعطى أكثر مما أخذ" فالعبد أعطى الحمد، وحمده نفسه نعمة من الله عليه، ولولا توفيقُ الله وإعانتُه لما قام بحمده، فنعمة الله على عبده بتوفيقه للحمد أفضل من نعمة الله عليه بالصحة والعافية والمال ونحو ذلك، والكلُّ نعمة الله، قال ابن القيم رحمه الله: "فنعمة الشكر أجَلُّ من نعمة المال والجاه والولد والزوجة ونحوها"2. اهـ. ولهذا فإنَّ حمد الله عز وجل وشكره على نعمه هو بحَدِّ ذاته نعمةٌ عظيمةٌ تستوجب حمداً آخر وشكراً متجدداً. روى ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر عن بكر بن عبد الله قال: "ما قال عبد قط الحمد لله إلا وجبت عليه نعمة بقوله: الحمد لله فما جزاء تلك النعمة؟ جزاؤها أن يقول الحمد لله فجاءت أخرى، ولا تنفد نعم الله عز وجل "3. ولذا قال الإمام الشافعي رحمه الله في حمد الله: "الحمد لله الذي لا تؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها"4.

_ 1 جامع العلوم والحكم (2/82،83) . 2 عدة الصابرين (ص:169) . 3 الشكر (ص:17) . 4 أورده ابن كثير في تفسيره (2/540) .

أيْ إنَّ العبد إذا حمد الله فهذه نعمة أخرى حادثة تستوجب حمداً آخر. قال ابن أبي الدنيا: أنشدني محمود الورّاق: إذا كان شُكري نعمةَ الله نعمةً ... عَلَيَّ له في مثلِها يجبُ الشُّكرُ فكيف وقوعُ الشكرِ إلاَّ بفضله ... وإن طالت الأيامُ واتَّصَلَ العُمْرُ إذا مسَّ بالسرَّاء عَمّ سرورُها ... وإذا مسَّ بالضرَّاء أعقَبها الأجْرُ وما منهما إلاَّ فيه منّةٌ ... تَضِيقُ بهَا الأَوْهامُ والبِرُّ والبحرُ1 وقال آخر في المعنى نفسه لو كلُّ جارحةٍ منِّي لها لغةٌ ... تثني عليكَ بما أوْلَيْتَ من حَسَنِ لكان ما زاد شكري إذ شكرتُ به ... إليك أبلغَ في الإحسانِ والمِنَنِ2 فاللَّهمَّ لك الحمد شكراً، ولك المن فضلاً، لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، لك الحمد بكلِّ نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو خاصة أو عامة، لك الحمد على ذلك حمداً كثيراً، اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد ربَّنا إذا رضيت.

_ 1 الشكر (ص:44) . 2 أورده ابن كثير في تفسيره (2/540) .

أفضل صيغ الحمد وأكملها

47 / أفضلُ صِيَغِ الحمد وأكملُها تقدّم بيانُ فضل الحمد وعظم ثوابه عند الله، والإشارةُ إلى بعض صِيَغه الواردة في القرآن الكريم وفي أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كقول: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} ، وقول: "الحمد لله حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه كما يحب ربّنا ويرضى"، ونحو ذلك مما ورد في القرآن الكريم مما حمد به الربُّ نفسه، وما ورد في سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مما حمد به الرسول صلى الله عليه وسلم ربَّه، وهي صيغٌ عظيمةٌ مشتملةٌ على أحسن الحمد وأكمله وأوفاه، وقد ذكر بعضُ أهل العلم أنَّ أفضل صيغ الحمد "الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده"، واحتجّ بما ورد عن أبي نصر التمّار أنَّه قال: قال آدم عليه السلام: يا رب شغلتَني بكسب يديّ فعلّمني شيئاً من مجامع الحمد والتسبيح، فأوحى الله إليه يا آدمُ إذا أصبحت فقل ثلاثاً وإذا أمسيت فقل ثلاثاً: "الحمدلله ربِّ العالمين حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، فذلك مجامع الحمد". وقد رُفع ذلك للإمام المحقق ابن قيِّم الجوزية رحمه الله فأنكره على قائله غايةَ الإنكار وبيَّن رحمه الله أنَّ ذلك لم يَرِد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الصحاح أو السنن أو المسانيد ولا يُعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وبَسَط القول رحمه الله في ذلك في رسالة مفردة. قال رحمه الله: "هذا الحديث ليس في الصحيحين ولا في أحدهما ولا يُعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة، ولا له إسناد معروف، وإنَّما يُروى عن أبي نصر التمّار عن آدم أبي البشر، لا يَدري كم بين

أبي نصر وآدم إلا الله تعالى، وذكر الحديث المتقدّم ثم قال: فهذا لو رواه أبو نصر التمّار عن سيِّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم لما قبلت روايته لانقطاع الحديث فيما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بروايته له عن آدم. وقد ظنَّ طائفة من الناس أنَّ هذا الحمد بهذا اللفظ أكمل حمدٍ حُمِد اللهُ به وأفضله وأجمعه لأنواع الحمد، وبنوا على هذا مسألة فقهيّة فقالوا: لو حلف إنسانٌ ليحمدنَّ اللهَ بمجامع الحمد وأجلِّ المحامد فطريقه في برِّ يمينه أن يقول: "الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده" قالوا: ومعنى يوافي نعمه أي يلاقيها فتحصل النعم معه، ويكافئ ـ مهموز ـ أي يساوي مزيد نعمه، والمعنى: أنَّه يقوم بشكر ما زاد من النعم والإحسان". قال ابن القيِّم رحمه الله: والمعروف من الحمد الذي حمد الله به نفسه وحمده به رسوله صلى الله عليه وسلم وسادات العارفين بحمده من أمته ليس فيه هذا اللفظ ألبتة، وأورد بعض صيغ الحمد الواردة في القرآن ثم قال: فهذا حمدُه لنفسه الذي أنزله في كتابه وعلَّمه لعباده، وأخبر عن أهل جنَّته به، وهو آكد من كلِّ حمدٍ وأفضلُ وأكملُ، كيف يبرُّ الحالف في يمينه بالعدول إلى لفظ لم يحمد به نفسه، ولا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سادات العارفين من أمته، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حمد الله في الأوقات التي يتأكّد فيها الحمد لم يكن يذكر هذا الحمدَ ألبتة كما في حمد الخطبة، والحمد الذي تستفتح به الأمور، وكما في تشهّد الحاجة، وكما في الحمد عقب الطعام والشراب واللباس والخروج من الخلاء، والحمد عند رؤية ما يسرّه وما لا يسرّه ... ".

ثم ساق رحمه الله جملةً كبيرةً مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من صيغ الحمد مما يقال في مثل هذه الأوقات، ثم قال: "فهذا جُملُ مواقع الحمد في كلام الله ورسوله وأصحابه والملائكة قد جُلِّيتْ عليك عرائسها وجُلِبَتْ إليك نفائسها، فلو كان الحديث المسؤول عنه أفضلَها وأكملَها وأجمعَها كما ظنّه الظانّ لكان واسطة عقدها في النظام، وأكثرِها استعمالاً في حمد ذي الجلال والإكرام"1. اهـ. وبهذا التحقيق الذي ذكره رحمه الله يتبيّن ضعف هذه الصيغة في الحمد من جهة الرواية، وأنها لو كانت صحيحةً ومشتملةً على أكمل الصيغ لما عدل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما آثر غيرها عليها، قالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحبّ الجوامع من الدعاء، ويدَعُ ما سوى ذلك"، رواه أبو داود وغيرُه. وسبق أن مرّ معنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ الدعاء الحمد لله"، وبهذا يُعلم أنَّ هذه الصيغة في الحمد لو كانت أكملَ لما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إنَّه أيضاً لا يمكن للعبد أن يحمد الله حمداً يوافي نعمة واحدة من نعم الله، فضلاً عن موافاته جميع نعم الله، ولا يمكن أن يكون فعلُ العبد وحمدُه له مكافئاً للمزيد، قال ابن القيّم رحمه الله: "فهذا من أمحل المحال، فإنّ العبد لو أقْدَرَه الله على عبادة الثَّقلين لم يقم بشكر أدنى نعمة عليه ... فمن الذي يقوم بشكر ربِّه الذي يستحقه سبحانه فضلاً عن أن يكافئه"2.

_ 1 صيغ الحمد المطبوع باسم مطالع السعد (ص:98) . 2 صيغ الحمد المطبوع باسم مطالع السعد (ص:41،44) .

وقال رحمه الله: " ... ولكن يحمل على وجه يصح، وهو أنَّ الذي يستحقه الله سبحانه من الحمد حمداً يكون موافياً لنعمه ومكافئاً لمزيده وإن لم يَقدِر العبدُ أن يأتي به"1. وأحسنُ من هذا وأكملُ ما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن أبي أمامة الباهلي أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: "الحمد لله حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه غير مكفيٍّ، ولا مودَّع، ولا مستغنى عنه ربّنا"2، فلو كانت تلك الصيغة وهي قوله: "حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده" أكمل وأفضل من هذه لما عدل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّه لا يختار إلاّ الأفضل والأكمل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معنى هذا الحديث: "المخلوق إذا أنعم عليك بنعمة أمكنك أن تكافئه، ونعمُهُ لا تدوم عليك، بل لا بدّ أن يودِّعك ويقطعها عنك، ويمكنك أن تستغني عنه، والله عز وجل لا يمكن أن تكافئه على نعمه، وإذا أنعم عليك أدام نعمَه، فإنّه هو أغنى وأقنى، ولا يُستغنى عنه طرفة عين". اهـ3. وفيه بيانٌ لعظم دلالات الأدعية المأثورة والأذكار الثابتة وعمق معانيها وسلامتها من الخطأ الذي قد يعتري ما سواها، وبهذا تكون السلامةُ وتحصيل الكامل. فالحمد لله بمحامده التي حمد بها نفسه، وحمده بها الذين اصطفى من خلقه حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه كما يحب ربّنا ويرضى.

_ 1 عدة الصابرين (ص:176) . 2 صحيح البخاري (رقم:5459) . 3 صيغ الحمد لابن القيم المطبوع باسم مطالع السعد (ص:49) .

تعريف الحمد والفرق بينه وبين الشكر

48 / تعريفُ الحمد، والفرقُ بينه وبين الشكر لا يزال الحديث موصولاً في الكلام عن الحمد، حيث سبق الحديثُ عن فضل الحمد وبيان ثوابه وذكر الأوقات التي يُشرع فيها، وذكر بعض صيغه إلى غير ذلك من أمور مرَّت معنا تتعلّق بالحمد، وسيكون الحديث هنا عن معنى الحمد في اللغة والشرع، والكلام على الفَرق بينه وبين الشكر، والفرق بينه وبين المدح. أما معنى الحمد في اللغة، فهو نقيض الذم، قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: "الحاء والميم والدال كلمةٌ واحدة وأصلٌ واحد يدل على خلاف الذمّ، يُقال: حمدتُ فلاناً أحمده، ورجلٌ محمودٌ ومحمدٌ إذا كثرت خصالُه المحمودة غير المذمومة.. ولهذا الذي ذكرناه سُمِّيَ نبيّنا محمداً صلى الله عليه وسلم "1. اهـ. وقال الليث: أحمدت الرجل وجدته محموداً، وكذلك قال غيرُه: يُقال أتينا فلاناً فأحمدناه وأذممناه أي وجدناه محموداً أو مذموماً2. وقوله تعالى: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 3 فيه تنبيه على أنّه صلوات الله وسلامه عليه محمود في أخلاقه وأفعاله ليس فيه ما يُذمّ، وكذلك قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ} 4 فمحمّدٌ ههنا وإن

_ 1 معجم مقاييس اللغة (2/100) . 2 انظر: تهذيب اللغة للأزهري (4/434) . 3 سورة: الصف، الآية: (6) . 4 سورة: الفتح، الآية: (29) .

كان اسماً له عَلَماً عليه ففيه إشارة إلى وصفه بذلك وتخصيصه بوافر معناه، وأما سواه فقد يُسمَّى بذلك ويكون له حظ من الوصف الذي دلّ عليه هذا الاسم وقد لا يكون، أما الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه فهو محمّدٌ اسماً ووصفاً. فالحمد هو الثناء بالفضيلة وهو أخصُّ من المدح وأعمُّ من الشكر، فإنَّ المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره ومما يكون منه وفيه بالتسخير، فقد يُمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه، كما يُمدح ببذل ماله وشجاعته وعلمه، والحمد يكون في الثاني دون الأول، أي أنَّ الإنسان يُحمد على بذل المال والشجاعة والعلم ونحو ذلك مما يكون منه باختياره، ولا يُحمد على صباحة الوجه وطول القامة وحسن الخِلقة ونحو ذلك مما ليس له فيه اختيار. والشكر لا يُقال إلاَّ في مقابلة نعمة، فكلُّ شكر حمد، وليس كلُّ حمدٍ شكراً، وكلُّ حمد مدح، وليس كلُّ مدح حمداً1. قال ابن القيّم رحمه الله: "الفرق بين الحمد والمدح أن يُقال: الإخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخباراً مجرّداً من حبٍّ وإرادة أو مقروناً بحبّه وإرادته، فإن كان الأول فهو المدح، وإن كان الثاني فهو الحمد، فالحمد إخبارٌ عن محاسن الممدوح مع حبِّه وإجلاله وتعظيمه"2. اهـ.

_ 1 انظر: بصائر ذوي التمييز للفيروزابادي (2/499) . 2 بدائع الفوائد (2/93) .

وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الحمد والشكر ما حقيقتهما؟ هل هما معنى واحد أو معنيان؟ وعلى أيّ شيء يكون الحمد؟ وعلى أي شيء يكون الشكر؟ فأجاب رحمه الله بقوله: "الحمد يتضمّن المدحَ والثناءَ على المحمود بذكر محاسنه سواء كان الإحسان إلى الحامد أو لم يكن، والشكر لا يكون إلاّ على إحسان المشكور إلى الشاكر، فمِن هذا الوجه الحمد أعمّ من الشكر؛ لأنّه يكون على المحاسن والإحسان، فإنّ الله يُحمد على ما له من الأسماء الحسنى والمثل الأعلى، وما خلقه في الآخرة والأولى؛ ولهذا قال تعالى: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} 1، وقال: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ} 2، وقال: {الحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَآءُ} 3، وأما الشكر فإنّه لا يكون إلاّ على الإنعام، فهو أخصُّ من الحمد من هذا الوجه، لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، كما قيل: أفادتكم النَّعماءُ مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجّبا ولهذا قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} 4، والحمد إنما يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعمّ من جهة أنواعه، والحمد

_ 1 سورة: الأنعام، الآية: (1) . 2 سورة: سبأ، الآية: (1) . 3 سورة: فاطر، الآية: (1) . 4 سورة: سبأ، الآية: (13) .

أعمّ من جهة أسبابه، ومن هذا الحديثُ: "الحمد لله رأس الشكر، فمن لم يحمد الله لم يشكره"1، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها" 2") 3. اهـ كلامه رحمه الله. وبه يتبيّن أن بين الحمد والشكر عموماً وخصوصاً من وجه، فيجتمعان فيما إذا كان باللسان في مقابلة نعمة، فهذا يُسمَّى حمداً ويُسمَّى شكراً، وينفرد الحمد فيما إذا أثنى العبد على ربّه بذكر أسمائه الحسنى ونعوته العظيمة فهذا يُسمَّى حمداً، ولا يُسمَّى شكراً، وينفرد الشكر فيما إذا استعمل العبد نعمة الله في طاعة الله فهذا يُسمى شكراً ولا يُسمَّى حمداً. إنَّ حمدَ الله هو الثناءُ على الله بذكر صفاته العظيمة ونعمِه العميمة مع حبّه وتعظيمه وإجلاله، وهو مختصٌّ به سبحانه لا يكون إلاّ له، فالحمد كلّه لله رب العالمين؛ "ولذلك قال سبحانه: {الحَمْدُ للهِ} ب لام الجنس المفيدة للاستغراق، فالحمد كلُّه له إمّا ملكاً وإما استحقاقاً، فحمده لنفسه استحقاق، وحمد العباد له وحمدُ بعضهم لبعض ملكٌ له ... فالقائل إذا قال: الحمد لله تضمّن كلامه الخبر عن كلِّ ما يحمد

_ 1 رواه عبد الرزاق في المصنف (10/424) ، والبيهقي في الآداب (ص:459) من طريق قتادة: أنَّ عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره. قال البيهقي: "هكذا جاء مرسلاً بين قتادة ومن فوقه". 2 صحيح مسلم (رقم:2734) . 3 الفتاوى (11/133،134) .

عليه تعالى باسم جامع محيطٍ متضمّنٍ لكلّ فرد من أفراد الحمد المحققة والمقدَّرة، وذلك يستلزم إثبات كلِّ كمال يُحمد عليه الربُّ تعالى؛ ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه وهو الحميد المجيد"1. وإذا قيل: الحمد كلّه لله، فإنَّ هذا له معنيان: أحدهما: أنّه محمودٌ على كلِّ شيء، وهو ما يُحمد به رسله وأنبياؤه وأتباعهم، فذلك من حمده تبارك وتعالى، بل هو المحمود بالقصد الأول وبالذات، وما نالوه من الحمد فإنّما نالوه بحمده، فهو المحمود أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً. والمعنى الثاني: أن يُقال: لك الحمد كلّه أي التامّ الكامل هذا مختصٌّ بالله ليس لغيره فيه شركه. قال ابن القيّم رحمه الله بعد أن ذكر هذين المعنيين: "والتحقيق أنَّ له الحمد بالمعنيين جميعاً، فله عمومُ الحمد وكمالُه، وهذا من خصائصه سبحانه، فهو المحمود على كلِّ حال، وعلى كلِّ شيء أكمل حمد وأعظمه"2. فالحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه كما يحب ربُّنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعِزِّ جلاله بمجامع حمده كلِّها ما علمنا منها وما لم نعلم.

_ 1 بدائع الفوائد لابن القيم (2/92،93) . 2 طريق الهجرتين (ص:206) .

فضل الشكر

49/ فضل الشكر لا ريب في عِظَم فضلِ الشُّكرِ ورِفعة شأنِه، شُكرِ الله على نعمه المتوالية وعطاياه المتتالية وأياديه السابغة، وقد أمر الله به في كتابه ونهى عن ضدِّه، وأثنى على أهله، ووصف به خواصَّ خلقِه، وجعله غاية خلقه وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سبباً للمزيد من فضله وعطائه، وحارساً وحافظاً لنعمته، وأخبر أنَّ أهلَه هم المنتفعون بآياته1، ونوّع سبحانه الدلالة إليه والحثَّ عليه. فأمر به سبحانه في غير موطن من القرآن الكريم، قال الله تعالى: {وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 2، وقال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} 3، وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 4. وقرنه سبحانه بالإيمان وأخبر أنَّه لا غرض له سبحانه في عذاب خلقه إن شكروه وآمنوا به فقال سبحانه: {مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} 5، أي إن أدّيتم ووفّيتم ما خُلقتم له وهو الشكرُ والإيمان فما أصنعُ بعذابكم.

_ 1 انظر: مدارج السالكين لابن القيِّم (2/242) . 2 سورة النحل، الآية (114) . 3 سورة البقرة، الآية (152) . 4 سورة العنكبوت، الآية (17) . 5 سورة النساء، الآية (147) .

وأخبر سبحانه أنَّ أهلَ الشُّكرِ هم المَحْضوضون بمنّته عليهم من بين عباده، فقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلآءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} 1. وعلّق سبحانه المزيدَ بالشكر، والمزيدُ منه لا نهاية له كما لا نهاية لشكره، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} 2، فالشكر معه المزيدُ أبداً؛ ولذا قيل: "فمتى لم ترَ حالَكَ في مزيدٍ فاستقبل الشكرَ". وقسّم سبحانه الناسَ إلى قسمين: شكورٌ وكفورٌ، فأبغضُ الأشياءِ إليه الكفرُ وأهلُه، وأحبُّ الأشياء إليه الشكرُ وأهلُه، قال تعالى في الإنسان: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} 3، وقال تعالى: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} 4، وقال تعالى: {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} 5، وقال تعالى: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} 6. وأخبر سبحانه أنَّه إنَّما يعبدُه من شكَرَه فمن لم يشكُرْه لم يكن

_ 1 سورة الأنعام، الآية (53) . 2 سورة إبراهيم، الآية (7) . 3 سورة الإنسان، الآية (3) . 4 سورة الزمر، الآية (7) . 5 سورة لقمان، الآية (12) . 6 سورة النمل، الآية (40) .

من أهل عبادته فقال سبحانه: {وَاشْكُرُوا للهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 1. وأخبر أنَّ رضاه في شكره فقال تعالى: {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} 2. وأوّلُ وصيّةٍ وصَّى بها الإنسانَ بعد ما عقل عنه بالشكر له وللوالدين فقال: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ} 3. وقد وقف سبحانه كثيراً من الجزاء في أنواعٍ كثيرةٍ من العبادات على المشيئة كقوله: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ} 4، وقولِه في الإجابة: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَآءَ} 5، وقولِه في الرزق: {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} 6، وقولِه في المغفرة: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} 7، وقولِه في التوبة: {وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَآءُ} 8، أمَّا الشكر فقد أطلق جزاءَه

_ 1 سورة البقرة، الآية (172) . 2 سورة الزمر، الآية (7) . 3 سورة لقمان، الآية (14) . 4 سورة التوبة، الآية (28) . 5 سورة الأنعام، الآية (41) . 6 سورة البقرة، الآية (212) ، وسورة آل عمران، الآية (37) ، وسورة النور، الآية (38) ، وسورة الشورى، الآية (19) . 7 سورة آل عمران، الآية (129) ، سورة المائدة، الآية (18) ، سورة الفتح، الآية (14) . 8 سورة التوبة، الآية (15) .

إطلاقاً حيث ذُكر، كقولِه: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} 1، وقولِه: {وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} 2. وأخبر سبحانه أنَّ عدوَّ الله إبليس قد جعل غايتَه أنْ يسعى في قطع النَّاس عن الشكر؛ وذلك لمّا عرف عِظم قَدْرِ مقام الشكر، وأنَّه مِن أجلِّ المقامات وأعلاها كما في قوله تعالى: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} 3. وأخبر سبحانه أنَّ الشاكرين هم القليلُ من عباده فقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} 4، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} 5. وأخبر سبحانه أنَّ الشكرَ هو الغايةُ من خلقه للخلق وتنويعه للنعم، قال تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 6، وقال تعالى: {وَمِن رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 7، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا

_ 1 سورة آل عمران، الآية (145) . 2 سورة آل عمران، الآية (144) . 3 سورة الأعراف، الآية (17) . 4 سورة سبأ، الآية (13) . 5 سورة البقرة، الآية (243) ، سورة يوسف، الآية (38) ، سورة غافر، الآية (61) . 6 سورة النحل، الآية (78) . 7 سورة القصص، الآية (73) .

تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1، والنصوصُ في هذا المعنى كثيرةٌ جداًّ. ثمَّ إنَّ الشكر هو سبيلُ رُسُل الله وأنبيائه أخصِّ خلق الله وأقربِهم إليه صلواتُ الله وسلامُه عليهم أجمعين. فقد أثنى الله سبحانه على أوَّل رسولٍ بعثه إلى أهل الأرض بالشكر، فقال تعالى: {ذُرِيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} 2، وفي تخصيص نوحٍ ها هنا بالذِّكر وخطابِ العباد بأنَّهم ذريَّتُه إشارةٌ إلى الاقتداء به، فإنَّه أبوهم الثاني، فإنَّ الله تعالى لم يجعل للخلق بعد الغرَق نسلاً إلاّ من ذريّته، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ} 3، فأمر الذريّةَ أنْ يتشبّهوا بأبيهم في الشكر فإنَّه كان عبداً شكوراً. وأثنى سبحانه على خليله إبراهيم بشكر نعمه فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4، فأخبر عنه سبحانه بأنَّه أمَّةٌ، أي: قدوةٌ يؤتمُّ به في الخير، وأنَّه قانتٌ لله، والقانتُ هو المطيع المقيم على طاعته، والحنيفُ هو المقبلُ على الله المعرضُ عمَّا سواهُ، ثمَّ ختم له هذه الصفات بأنَّه شاكرٌ لأنعُمِه، فجعل الشكرَ غايةَ خليله عليه السلام. وأمر سبحانه وتعالى عبدَه موسى عليه السلام أنْ يتلقّى ما آتاه من النبوّة

_ 1 سورة النحل، الآية (14) . 2 سورة الإسراء، الآية (3) . 3 سورة الصافات، الآية (77) . 4 سورة النحل، الآية (120،121) .

والرسالة والتكليم بالشكر فقال تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِنَ الشَّاكِرِينَ} 1، والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ في بيان شكر الأنبياء عليهم السلام لله، وأنَّ ذلك هو سبيلُهم وطريقُهم2. أمَّا شكرُ خاتم النبيّين وسيِّد ولد آدم أجمعين محمدِ بن عبد الله عليه أفضلُ الصلاة وأزكى التسليم فبابٌ واسعٌ وبحرٌ خِضَمٌّ، فهو أعرفُ الخلق بالله، وأقومُهم بخشيته، وأشكرُهم لنعمه، وأعلاهم عنده منزلةً، ثبت في الصحيح عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: "قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورّمت قدماه، فقيل له غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر قال: أفلا أكون عبداً شكوراً "3. فصلّى اللهُ وملائكتُه وأنبياؤُه ورسلُه وجميعُ المؤمنين عليه كما وحّد اللهَ وعرّف به ودعا إليه وقام بشكره حقَّ القيام وسلّم تسليماً كثيراً.

_ 1 سورة الأعراف، الآية (144) . 2 انظر: عدة الصابرين لابن القيم (ص:150 وما بعدها) . 3 صحيح البخاري (رقم:4836) .

حقيقة الشكر ومكانته عند السلف

50/ حقيقة الشكر ومكانته عند السلف كان الحديثُ فيما مضى عن فضل الشكر وعِظم مكانته عند الله وتنوّع دلالاته في القرآن الكريم، وسنتحدّث هنا عن أصل الشكر وحقيقتِه والإشارة إلى مكانته عند السلف الصالح رحمهم الله. أمّا أصل الشكر وحقيقتهُ فهو الاعتراف بإنعام المنعِم على وجه الخضوع له والذلِّ والمحبّة، "فمن لم يعرف النعمةَ بل كان جاهلاً بها لم يشكرها، ومن عرف النعمة ولم يعرف المنعِم بها لم يشكرها أيضاً، ومن عرف النعمة والمنعِم ولكن جحدها كما يجحد المنكرُ لنعمته المنعم عليه بها فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعِم وأقرّ بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ويحبه ويرضى به وعنه لم يشكرها أيضاً، ومن عرفها وعرف المنعم بها وخضع له وأحبّه ورضي به وعنه واستعملها في محابه وطاعته فهذا هو الشاكر لها"1. وبهذا يتبيّن أنَّ الشكر مبنيٌّ على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبُّه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وأن لا يستعملُها فيما يكره، فهذه الخمسُ هي أساسُ الشكر، وبناؤه عليها، فمتى عدِم منها واحدةٌ اختلَّ من قواعد الشكر قاعدة، وكلُّ من تكلَّم في الشكر وحدِّه فكلامه إليها يرجع وعليها يدور2. وهو يكون بالقلب واللسان

_ 1 طريق الهجرتين لابن القيم (ص:175) . 2 انظر: مدارج السالكين لابن القيم (2/244) .

والجوارح، "يكون بالقلب خضوعاً واستكانةً [ومحبّة] ، وباللسان ثناءً واعترافاً، وبالجوارح طاعةً وانقياداً"1. روى ابن أبي الدنيا في كتابه الشكر أنَّ رجلاً قال لأبي حازم سلمةَ ابن دينار: "ما شكرُ العينين يا أبا حازم؟ قال: إن رأيت بهما خيراً أعلنته، وإن رأيت بهما شراًّ سترته، قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت بهما خيراً وعيته، وإن سمعت بهما شراًّ دفعته، قال: ما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقاًّ لله عز وجل هو فيهما، قال: فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفلُه طعاماً وأعلاه علماً، قال: ما شكر الفرج؟ قال: كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ} 2، قال: فما شكر الرجلين؟ قال: إذا رأيت ميتاً غبطته استعملت بهما عمله، وإن رأيت ميتاً مقتّه كمقتهما عن عمله وأنت شاكرٌ لله عز وجل، فأما من شكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه فمثله كمثل رجلٍ له كساءٌ فأخذ بطرفه ولم يلبسه، فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر"3. إنَّ نعمة الله على عبده في لسانه ويده وقدمه وجميع بدنه لا يمكن أن تحصى، وكلُّها تستوجب شكرَ المنعم بها، قال عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم رحمه الله: "الشكر يأخذ بحزم الحمد وأصله وفرعه، فلينظر

_ 1 مدارج السالكين لابن القيم (2/246) . 2 سورة المؤمنون، الآية (5 ـ 7) ، وسورة المعارج، الآية (29 ـ 31) . 3 الشكر لابن أبي الدنيا (رقم:129) .

في نعم من الله في بدنه وسمعه وبصره ويديه ورجليه وغير ذلك، ليس من هذا شيءٌ إلاَّ وفيه نعمةٌ من الله، حقٌّ على العبد أن يعملَ بالنعم التي هي في بدنه لله عز وجل في طاعته، ونعم أخرى في الرزق حق عليه أن يعمل لله فيما أنعم به عليه من الرزق في طاعته، فمن عمل بهذا فقد أخذ بحزم الشكر وأصله وفرعه"1.ا. هـ ومن نعم الله العظيمة على عبده ما متّعه به من عافيته في سمعه وبصره وجميع بدنه، وكم لله في عبده من نعمة في عرق ساكن، والعافية نعمة تستوجب الشكر وتستحق الحمد، كان عبد الأعلى التيمي يقول: "أكثروا سؤال الله عز وجل العافية فإنَّ المبتلى وإن اشتدَّ بلاؤه ليس بأحق بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء، وما المبتلون اليوم إلاَّ من أهل العافية بالأمس، وما المبتلون بعد اليوم إلاَّ من أهل العافية اليوم، ولو كان بلاءٌ يجرُّ إلى خير ما كنا من رجال البلاء، إنَّه رُبَّ بلاءٍ قد أجهد في الدنيا وأخزى في الآخرة، فما يأمن من أطال المُقام على معصية الله جلّ وعزّ أن يكون قد بقي له في بقيّة عمره من البلاء ما يجهده في الدنيا ويفضحه في الآخرة ثم يقول عند ذلك: الحمد لله الذي إن نعد نعمه لا نحصيها وإن ندأب له عملاً لا نجزيها وإن نعمر فيها لا نُبليها"2. بل لو أنَّ العبد أُوتي عُمُر الدنيا، وقطع ذلك العمر مستغرقاً في

_ الشكر لابن أبي الدنيا (رقم:157) . 2 انظر: نتائج الأفكار في شرح حديث سيِّد الاستغفار للسفاريني (ص:311،312) .

طاعة الله وعبادته ولم يعصه في لحظة واحدة ولا لفظةٍ ما أدّى شكر عشر معشار نعمه سبحانه، بل لو أنفق كلَّ عمره مضاعفاً إلى ما لا نهاية من الأعمار ما أدّى شكر نعمة واحدة، كيف والشكر نعمة تحتاج إلى مثلها من الشكر، فلا سبيل إلى تأدية شكر عُشر معشار نعمه إلاَّ بالاعتراف بالعجز والتقصير، ولهذا جاء في سيِّد الاستغفار "أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنَّه لا يغفر الذنوب إلاَّ أنت". ولفظُ النعمة وإن كان مفرداً في هذا الدعاء لكنه مضاف فيعمّ كلَّ نعمة من الظاهرة والباطنة من نعمة الإيمان والوجود من العدم والسمع والبصر والعقل والعلم والصحة وغير ذلك من النعم اللاّتي أنعم الله بها على عباده1. والنعمة نعمتان: نعمة مطلقة ونعمة مقيَّدة. فأما النعمة المطلقة فهي المتصلة بسعادة الأبد وهي نعمة الإسلام والسنة، وهي النعمة التي أمرنا الله سبحانه أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط أهلها ومن خصّهم بها وجعلهم أهل الرفيق الأعلى حيث يقول تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيِهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} 2. وأما النعمة المقيَّدة كنعمة الصحة وعافية الجسد وبسط الجاه وكثرة الولد وأمثال هذا، والنعمة المطلقة هي التي يُفرَح بها في الحقيقة،

_ 1 انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم (ص:2 ـ 4) . 2 سورة النساء، الآية (69) .

والفرح بها مما يحبه الله ويرضاه وهو لا يحب الفرِحين، قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 1. إنَّ الشكر لله على نعمه عموماً المطلقة والمقيَّدة واجبٌ على كلِّ مسلم ومتعيِّنٌ على كلِّ مؤمن، وهو السبيل لبقائها ودوامها ونموها، كما أنَّ عدم شكر النعمة سببٌ لزوالها واضمحلالها، وقد قيل: كلُّ شكرٍ وإن قلَّ ثمنٌ لكلِّ نوالٍ وإن جلّ، فإذا لم يشكر المرءُ فقد عرّض النعمة للزوال، وقيل أيضاً: الشكر قيدٌ للنعم الموجودة، وصيدٌ للنعم المفقودة، وقيل أيضاً: كفران النعم بوار، وهو وسيلة إلى الفرار، وكانوا يسمّون الشكر الحافظ؛ لأنَّه يحفظ النعم الموجودة، والجالب؛ لأنَّه يجلب النعم المفقودة2. وقيل أيضاً: النعمةُ إذا شكرت قرَّت وإذا كُفرت فرّت. نسأل الله أن يوزعنا شكر نعمه وأن يعيذنا من كفرانها، إنَّه سميع مجيب.

_ 1 سورة يونس، الآية (58) . 2 انظر: عدة الصابرين لابن القيم (ص:155) ، ونتائج الأفكار للسفاريني (ص:325) .

فضل التكبير ومكانته من الدين

51 / فضل التكبير ومكانته من الدِّين لا يزال الحديث ماضياً عن الكلمات الأربع التي هي خير الكلام وأحبه إلى الله وهي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وسبق الحديث مفصلا بعض الشيء عن التسبيح والتحميد والتهليل وبقي الكلام عن التكبير، فضلِه ومعناه في اللغة والشرع وبعضِ الأمور الأخرى المتعلقة به. إنَّ التكبير شأنُه عظيم وثوابُه عند الله جزيل وقد تكاثرت النصوص في الحث عليه والترغيب فيه وذكر ثوابه. يقول الله تعالى: {وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} 1، وقال تعالى في شأن الصيام: {وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2، وقال تعالى في شأن الحج وما يكون فيه من نُسك يَتقرَّب فيه العبدُ إلى الله: {لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ} 3، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} 4.

_ 1 سورة: الإسراء، الآية: (111) . 2 سورة: البقرة، الآية: (185) . 3 سورة: الحج، الآية: (37) . 4 سورة: المدثّر، الآيات: (1 ـ 3) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو بصدد بيان تفضيل التكبير وعظم شأنه: "ولهذا كان شعائرُ الصلاة والأذان والأعياد والأمكان العالية هو التكبير، وهو أحد الكلمات التي هي أفضل الكلام بعد القرآن: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجئ في شيء من الأثر بدل قول الله أكبر، الله أعظم ولهذا كان جمهور الفقهاء على أن الصلاة لا تنعقد إلا بلفظ التكبير، فلو قال الله أعظم لم تنعقد به الصلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم" 1. وهذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف وداود وغيرهم، ولو أتى بغير ذلك من الأذكار مثل سبحان الله والحمد لله لَم تنعقد به الصلاة. ولأنَّ التكبيرَ مختصٌّ بالذكر في حال الارتفاع كما أن التسبيح مختص بحال الانخفاض كما في السنن عن جابر بن عبد الله قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا علونا كبرنا وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك" 2 ... "3. اهـ. ثم إنَّ التكبيرَ مصاحِبٌ للمسلم في عبادات عديدة وطاعات متنوعة فالمسلم يكبر الله عند ما يكمل عدَّة الصيام، ويكبر في الحج كما سبق الإشارة إلى دليل ذلك من القرآن الكريم، وأما الصلاة فإنَّ

_ 1 رواه أبو داود في سننه (برقم:61) ، وصححه العلاّمة الألباني في الإرواء (2/8) . 2 رواه مسلم في صحيحه (برقم:2734) . 3 الفتاوى (16/112،113) .

للتكبير فيها شأناً عظيماً ومكانة عالية، ففي النداء إليها يشرع التكبير وعند الإقامة لها وتحريمها هو التكبير، بل إنَّ تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة، ثم هو يصاحب المسلم في كلِّ خفض ورفع من صلاة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبّر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول: ربنا لك الحمد، ثم يكبر حين يهوي، ثمَّ يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلِّها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس" 1. وبهذا فالتكبير يتكرر مع المسلم في صلاته مرات كثيرة، فالصلاة الرباعية فيها اثنتان وعشرون تكبيرة، والثنائية فيها إحدى عشرة تكبيرة، وكلُّ ركعة فيها خمسُ تكبيرات، وعلى هذا فالمسلم يكبر الله في اليوم والليلة في الصلوات الخمس المكتوبة فقط أربعاً وتسعين تكبيرة، فكيف إذا كان محافظاً مع ذلك على الرواتب والنوافل، وكيف إذا كان محافظاً على الأذكار التي تكون أدبار الصلوات وفيها التكبير ثلاثٌ وثلاثون مرة، فالمسلم إذا كان محافظاً على الصلوات الخمس مع السنن الرواتب وعددُها ثنتا عشرة ركعة مع الشفع والوتر ثلاث ركعات ومحافظاً على التكبير المسنون أدبار الصلوات ثلاثا وثلاثين مرة فإنَّ عدد تكبيره لله في

_ 1 صحيح البخاري (رقم:789) ، وصحيح مسلم (رقم:392) .

يومه وليلته يكون ثلاثمائة واثنتين وأربعين تكبيرة، ولا ريب أنَّ هذا فيه دلالة على فضيلة التكبير حيث جعل الله للصلاة منه هذا النصيب الوافر، فإذا ضُمَّ إلى ذلك التكبيرُ في الأذان للصلاة والإقامة لها ممّن يؤذِن أو يُحافظ على إجابة المؤذِن، زاد بذلك عدد تكبيره في يومه وليلته، فإنَّ عدد ما يكون فيهما من تكبيرات في اليوم والليلة خمسون تكبيرة، فإنَّ عدد التكبير بذلك يزيد. ثم إنَّ المسلم إذا كان محافظاً على التكبير المطلق غير المقيد بوقت فإن عدد تكبيره لله في أيامه ولياليه لا يحصيه إلا الله سبحانه. والتكبير ركنٌ من أركان الصلاة، فتحريمها لا يكون إلاّ به، وهذا يُشعِر ولا ريب بمكانة التكبير من الصلاة، وأنّ الصلاة إنما هي تفاصيل للتكبير الذي هو تحريمها، يقول ابن القيّم رحمه الله: " ... لا أحسن من كون التكبير تحريماً لها، فتحريمها تكبير الربّ تعالى الجامع لإثبات كلِّ كمال له، وتنزيهه عن كلِّ نقص وعيبٍ، وإفراده وتخصيصه بذلك، وتعظيمه وإجلاله، فالتكبير يتضمّن تفاصيل أفعال الصلاة وأقوالها وهيآتها، فالصلاة من أوّلها إلى آخرها تفصيل لمضمون "الله أكبر"، وأيّ تحريم أحسن من هذا التحريم المتضمّن للإخلاص والتوحيد! "1. اهـ. وبهذا يتبيّن مكانةُ التكبير وجلالةُ قدره وعِظمُ شأنه من الدين، فليس التكبيرُ كلمةً لا معنى لها، أو لفظةً لا مضمون لها، بل هي كلمةٌ، عظيمٌ شأنها، رفيعٌ قدرها تتضمّن المعاني الجليلةَ والمدلولاتِ العميقةَ والمقاصد السامية الرفيعة.

_ 1 الصلاة لابن القيم (ص:106) .

قال ابن جرير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} 1: "يقول وعظِّم ربَّك يا محمد بما أمرك أن تعظِّمه به من قول وفعل، وأطِعه فيما أمرك ونهاك"2. وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسير الآية نفسها: "أي عظِّمه تعظيماً شديداً، ويظهر تعظيم الله في شدّة المحافظة على امتثال أمره واجتناب نهيه والمسارعة إلى كلِّ ما يرضيه"3. وفي هذا إشارةٌ إلى أنّ الدِّينَ كلَّه يُعدُّ تفصيلاً لكلمة "الله أكبر" فالمسلم يقوم بالطاعات جميعها والعبادات كلّها تكبيراً لله وتعظيماً لشأنه وقياماً بحقِّه سبحانه، وهذا ممّا يبيّن عظمةَ هذه الكلمة وجلالةَ قدرها، ولهذا يروى عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال: "قول العبد: الله أكبر، خيرٌ من الدنيا وما فيها"4، فالله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.

_ 1 سورة: الإسراء، الآية: (111) . 2 جامع البيان (9/179) . 3 أضواء البيان (3/635) . 4 أورده القرطبي في تفسيره (10/223) .

معنى التكبير وبيان مدلوله

52 / معنى التكبير وبيان مدلوله كان الحديث الماضي عن التكبير فضله وبيان مكانته من الدين، وسيكون الحديث عن معنى التكبير والمراد به؛ إذ إنَّ فقه الأذكار الشرعية وفهم المراد بها يُعدّ أساساً عظيماً ومطلباً جليلاً لا بدّ منه. والتكبير هو تعظيم الربّ تبارك وتعالى وإجلاله، واعتقاد أنّه لا شيء أكبرُ ولا أعظمُ منه، فيصغر دون جلاله كلُّ كبير، فهو الذي خضعت له الرقاب وذلَّت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كلَّ شيء، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوّه وقدرته الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت حكمه وقهره المخلوقات. قال الإمام الأزهري في كتابه تهذيب اللغة: "وقول المصلي: الله أكبر، وكذلك قول المؤذِّن، فيه قولان: أحدهما: أنّ معناه الله كبير، كقول الله جلّ وعزّ: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيهِ} 1، أي هو هيّنٌ عليه، ومثله قول مَعنِ بن أوس: لعمرك ما أدري وإني لأوجلُ. معناه: وإني لوجلٌ. والقول الآخر: أنّ فيه ضميراً، المعنى: الله أكبرُ كبيرٍ، وكذلك الله الأعزّ، أي: أعزُّ عزيزٍ، قال الفرزدق:

_ 1 سورة: الروم، الآية: (27) .

إنّ الذي سَمَكَ السماءَ بنى لنا ... بيتاً دعائمُه أَعَزُّ وأطولُ معناه: أعز عزيز، وأطول طويل"1. اهـ. والصواب من هذين القولين اللذين ذكرهما رحمه الله هو الثاني، بمعنى أن يكون اللهُ عند العبد أكبرَ من كلِّ شيء، أي لا أكبرَ ولا أعظمَ منه، أما الأول فهو غيرُ صحيحٍ وليس هو معنى الله أكبر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "التكبير يُراد به أن يكون (الله) عند العبد أكبر من كلِّ شيء، كما قال صلى الله عليه وسلم لعديِّ بن حاتم: "يا عديّ ما يُفرُّك؟ أيُفرُّك أن يُقال: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم مِن إله إلاّ الله؟ يا عديّ ما يفرُّك. أيُفرُّك أن يقال: الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟ "، وهذا يُبطل قولَ من جعل أكبر بمعنى كبير"2. اهـ. وحديث عديٍّ هذا رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان وغيرهم بإسناد جيّد3. وبه يتبيّن أن معنى الله أكبر أي من كلِّ شيء، فلا شيء أكبرُ ولا أعظمُ منه، ولهذا يُقال إنَّ أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال هي: الله أكبر، أي صِفْهُ بأنّه أكبرُ من كلِّ شيء، قال الشاعر: رأيتُ الله أكبر كلِّ شيء ... محاولةً وأكثرهم جنوداً4

_ 1تهذيب اللغة (10/214) . 2 الفتاوى (5/239) . 3 المسند (4/378) ، وسنن الترمذي (2935م) ، وصحيح ابن حبان (الإحسان) (رقم:7206) . 4 انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/223) .

والتكبير معناه كما تقدّم التعظيم، لكن ينبغي أن يُعلم أنّ التعظيم ليس مرادفاً في المعنى للتكبير، فالكبرياء أكمل من العظمة؛ لأنّه يتضمّنها ويزيد عليها في المعنى، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وفي قوله "الله أكبر" إثبات عظمته، فإنّ الكبرياء تتضمّن العظمة، ولكن الكبرياء أكمل، ولهذا جاءت الألفاظ المشروعة في الصلاة والأذان بقول: "الله أكبر" فإنّ ذلك أكمل من قول الله أعظم، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما عذّبته"1، فجعل العظمة كالإزار والكبرياء كالرداء، ومعلوم أنّ الرداء أشرف، فلمّا كان التكبيرُ أبلغَ من التعظيم صرّح بلفظه، وتضمّن ذلك التعظيم"2. اهـ. وها هنا أمرٌ ينبغي التنبّه له وعدم إغفاله، وهو أن المسلم إذا اعتقد وآمن بأنّ الله سبحانه وتعالى أكبر من كلِّ شيء، وأنّ كلَّ شيء مهما كبر يصغر عند كبرياء الله وعظمته، علمَ من خلال ذلك علم اليقين أن كبرياءَ الربِّ وعظمتَه وجلالَه وجمالَه وسائرَ أوصافه ونعوته أمرٌ لا يمكن أن تحيط به العقول أو تتصوّره الأفهام أو تدركه الأبصار والأفكار، فالله أعظم وأعظم من ذلك، بل إنّ العقولَ والأفهامَ عاجزةٌ عن أن تدركَ كثيراً من مخلوقات الرب تبارك وتعالى، فكيف بالرب سبحانه. ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: "بين السماء الدنيا

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2620) . 2 الفتاوى (10/253) .

والتي تليها خمسمائة عام، وبين كلِّ سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسيِّ خمسمائة عام، وبين الكرسيِّ والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم"1. وروي عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما السموات السبع في الكرسي إلاّ كدراهم سبعة أُلقيت في ترس"2. وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما الكرسي في العرش إلاّ كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض"3. وليتأمّل المسلم في عظم السماء بالنسبة إلى الأرض، وعظم الكرسيِّ بالنسبة إلى السماء، وعِظم العرش بالنسبة إلى الكرسيِّ، فإنّ

_ 1 رواه الدارمي في الرد على الجهمية (ص:26،27) ، والطبراني في الكبير (9/228) ، وأبو الشيخ في العظمة (2/689) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/290) ، وغيرهم. قال الهيثمي في المجمع (1/86) : "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الذهبي في العلو (ص:103 ـ مختصره) ، وابن القيم في اجتماع الجيوش (ص:100) . 2 رواه ابن جرير في تفسيره (3/10) ، وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف، وزيد تابعي، فهو مرسل. 3 رواه أبو نعيم في الحلية (1/166) ، وأبو الشيخ في العظمة (2/648 ـ 649) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/300 ـ 301) ، وغيرهما، وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم:109) بمجموع طرقه.

العقولَ عاجزةٌ عن أن تدرك كمال هذه الأشياء أو أن تحيط بكُنْهِها وكيفيتها وهي مخلوقة، فكيف بالأمر إذاً في الخالق سبحانه، فهو أكبر وأجلُّ من أن تعرف العقولُ كُنْهَ صفاته أو تدرك الأفهامُ كبرياءَه وعظمتَه، ولهذا جاءت السنةُ بالنهي عن التفكّر في الله؛ لأنّ الأفكار والعقول لا تدرك كنه صفاته، فالله أكبر من ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: "تفكّروا في آلاء الله، ولا تفكّروا في الله عز وجل "1. والتفكّرُ المأمور به هنا كما يبيّن ابن القيّم رحمه الله هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة2، وهذا يتضح بالمثال، فالمسلم إذا أحضر في قلبه كبر هذه المخلوقات من سموات وأرض وكرسي وعرش ونحو ذلك، ثم أحضر في قلبه عجزه عن إدراك هذه الأشياء والإحاطة بها حصل له بذلك معرفة ثالثة وهي عظمة وكبرياء خالق هذه الأشياء وعجز العقول عن أن تدرك صفاته أو تحيط بنعوته سبحانه، يقول سبحانه: {وقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} 3، فالله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.

_ 1 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (3/525) ، وأبو الشيخ في العظمة (2/210) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وإسناده ضعيف جدًّا، لكن له شاهد من حديث أبي هريرة، وعبد الله بن سلاَم، وأبي ذر، وابن عباس. وقد حسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم:1788) بمجموع طرقه. 2 مفتاح دار السعادة (ص:181) . 3 سورة: الإسراء، الآية: (111) .

التلازم بين الكلمات الأربع

53/ التلازم بين الكلمات الأربع تحدثتُ فيما سبق عن الكلمات الأربع "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر" وما ورد في فضل هذه الكلمات إجمالاً وتفصيلاً، وما يتعلّق كذلك بمعاني هذه الكلمات ومدلولهنّ، ولعلَّ من الحسن في ختام الحديث عن هؤلاء الكلمات أن أشير إلى ما بينهنَّ من ترابط وتلازم، وقد علمنا من خلال ما تقدّم أنَّ هؤلاء الكلمات هنَّ أفضل الكلام بعد القرآن الكريم وهنَّ من القرآن الكريم، وتقدّم معنا أيضاً الإشارة إلى جملة كبيرة من النصوص الدالة على عظم شأن ذكر الله تعالى بهؤلاء الكلمات الأربع وما يترتّب على ذلك من أجور كثيرة وفضائل وفيرة وخير مستمر في الدنيا والآخرة، ولا شك أنَّ هذا فيه أوضح إشارة على قوة الارتباط بين هذه الكلمات الأربع وشدة الصلة بينهنَّ. ثمَّ إنَّ هؤلاء الكلمات كما أوضح أهل العلم "شطران فالتسبيح قرين التحميد، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة1. وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي ذر: "أفضل الكلام ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده"2، وفي القرآن يقول الله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6406) ، وصحيح مسلم (رقم:2694) . 2 صحيح مسلم (رقم:2731) .

بِحَمْدِكَ} 1، وقال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} 2، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي "، يتأوّل القرآن، هكذا في الصحاح عن عائشة رضي الله عنها3، فجعل قوله: "سبحانك اللهم وبحمدك" تأويل {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ، وقد قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} 4، وقال: {فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} 5، والآثار في اقترانهما كثيرة. وأمَّا التهليلُ فهو قرينُ التكبيرِ كما في كلمات الأذان: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلاَّ الله أشهد أنَّ محمداً رسول الله، ثم بعد دعاء العباد إلى الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلاَّ الله، فهو مشتملٌ على التكبير والتشهد (في) أوله وآخره، وهو ذكر لله تعالى، وفي وسطه دعاء الخلق إلى الصلاة والفلاح، فالصلاة هي العمل، والفلاح هو ثواب العمل، لكن جعل التكبير شفعاً والتشهد وتراً، فمع كلِّ تكبيرتين شهادة، وجعل أوله مضاعفاً على آخره، ففي أول الأذان يكبر أربعاً، ويتشهّد مرّتين، والشهادتان جميعاً باسم الشهادة، وفي آخره التكبير مرتان فقط مع التهليل الذي لم يقترن به لفظ الشهادة.

_ 1 سورة البقرة، الآية (30) . 2 سورة النصر، الآية (3) . 3 صحيح البخاري (رقم:817) ، وصحيح مسلم (رقم:484) . 4 سورة غافر، الآية (55) . 5 سورة الروم، الآية (17،18) .

.. وكما جمع بين التكبير والتهليل في الأذان جمع بينهما في تكبير الإشراف، فكان على الصفا والمروة، وإذا علا شرفاً في غزوة أو حجة أو عمرة يكبر ثلاثاً ويقول: "لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلاَّ الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعزّ جنده وهزم الأحزاب وحده" يفعل ذلك ثلاثاً، وهذا في الصحاح1، وكذلك على الدابة كبّر ثلاثاً وهلّل ثلاثاً فجمع بين التكبير والتهليل، وكذلك حديث عدي بن حاتم الذي رواه الترمذي فيه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا عدي ما يُفِرُّك؟ أيُفِرُّك أن يقال: لا إله إلاَّ الله، فهل تعلم من إله إلاَّ الله؟ يا عدي ما يُفِرُّك؟ أيُفِرُّك أن يقال: الله أكبر فهل من شيء أكبر من الله" فقرن النبي صلى الله عليه وسلم بين التهليل والتكبير"2") 3. ثم إنَّ أفضل هؤلاء الكلمات هو التهليل لاشتماله على التوحيد الذي هو أصل الإيمان، وهو الكلام الفارق بين أهل الجنة وأهل النار، وهو ثمن الجنة، ولا يصلح إسلام أحد إلاَّ به ومن كان آخر كلامه لا إله إلاَّ الله دخل الجنة، ومنزلة التحميد والتسبيح منه منزلة الفرع من الأصل، فالتهليل أصل وما سواه فرع له وتابع، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " الإيمان بضع

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1797) ، وصحيح مسلم (رقم:1344) . 2 سنن الترمذي (2935م) ، وتقدّم (ص:280) . 3 مجموع الفتاوى (24/231 ـ 233) .

وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلاَّ الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق "1. فجعل صلوات الله وسلامه عليه التهليل أعلا وأرفع شعب الإيمان، وفي المسند عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله أفمن الحسنات لا إله إلاَّ الله؟ قال: هي أفضل الحسنات"2، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداًّ، وقد تقدّم معنا جملة كبيرة منها. ولا يعارض هذا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "أفضل الكلام ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده"3؛ إذ لا يلزم منه ـ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ أن يكون أفضل مطلقاً بدليل أنَّ قراءة القرآن أفضل من الذكر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها في الركوع والسجود وقال: "إني نُهيتُ أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، أما الركوع فعظموا فيه الربّ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمِنٌ أن يستجاب لكم"4. وها هنا أصل عظيم نبّه عليه شيخ الإسلام رحمه الله وهو أنَّ الشيء إذا كان أفضل من حيث الجملة لم يجب أن يكون أفضل في كل حال ولا لكل أحد، بل المفضول في موضعه الذي شرع فيه أفضل من الفاضل المطلق، كما أنَّ التسبيح في الركوع والسجود أفضل من قراءة

_ 1 صحيح البخاري (رقم:9) ، وصحيح مسلم (رقم:35) . 2 المسند (5/169) . 3 صحيح مسلم (رقم:2731) . 4 صحيح مسلم (رقم:479) .

القرآن ومن التهليل والتكبير، والتشهد في آخر الصلاة والدعاء بعده أفضل من قراءة القرآن، فالتفضيل مختلف باختلاف الأحوال فقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل أي الكلام أفضل فقال: "سبحان الله وبحمده"، هذا خرج على سؤال سائل، فربما علم النبي صلى الله عليه وسلم من حال السائل حالاً مخصوصة. وعلى كلٍّ فالتفضيل مختلف باختلاف الأحوال، وإن كان التهليل أفضل مطلقاً والأحوال ثلاثة: حال يستحب فيها الإسرار ويكره فيها الجهر لأنَّها حال انخفاض كالركوع والسجود، فهنا التسبيح أفضل من التهليل والتكبير، وكذلك في بطون الأودية، وحال يستحب فيه الجهر والإعلان كالإشراف والأذان فهنا التهليل والتكبير أفضل من التسبيح، وحال يشرع فيه الأمران1. نسأل الله الكريم أن يوفقنا وجميع المسلمين لكل خير يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (24/235 ـ 239) .

فضل لاحول ولا قوة إلا بالله

54 / فضل لا حول ولا قوة إلاَّ بالله فإنَّ من الكلمات العظيمة التي جاءت النصوصُ بتفضيلها وبيانِ عِظم شأنها، الحَوْقَلة، وهي قول لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، وقد جاءت في بعض الأحاديث مضمومة إلى الكلمات الأربع التي سبق الحديث عنها مفصَّلاً فيما مضى، ومن النصوص التي وردت فيها هذه الكلمة مضمومة إلى أولئك الكلمات ما رواه الترمذي والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما على الأرض رجل يقول لا إله إلاَّ الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله، إلاَّ كُفِّرت عنه ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر "1، وأيضاً ما رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم عن ابن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني لا أستطيع أن أتعلّم القرآن فعلِّمني شيئاً يجزيني قال: "تقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاَّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله"، فقال الأعرابي هكذا وقبض يديه فقال: هذا لله فمالي، قال: "تقول: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني واهدني"، فأخذها الأعرابي وقبض كفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد ملأَ يديه بالخير"2.

_ 1 المسند (2/158،210) ، وسنن الترمذي (رقم:3460) ، ومستدرك الحاكم (1/503) ، وصحيح الجامع (رقم:5636) . 2 سنن أبي داود (رقم:832) ، وسنن النسائي (2/143) ، وسنن الدارقطني (1/313،314) .

وروي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والحمد ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله "، رواه أحمد وابن حبان والحاكم وغيرُه1، وفي إسناده أبو السمح دراج بن سمعان صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعف2، وهذا منها. لكن جاء عد لا حول ولا قوة إلاَّ بالله في جملة {الباقيات الصالحات} 3 عن غير واحد من الصحابة والتابعين، فقد روى الإمام أحمد في مسنده أنَّ أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه سُئل عن "الباقيات الصالحات" ما هي؟ فقال: " هي لا إله إلاَّ الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله"4. وروى ابن جرير عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّه سئل عن "الباقيات الصالحات" فقال: لا إله إلاَّ الله، والله أكبر، وسبحان الله ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله. وروى مالك عن سعيد بن المسيب قال: "الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله".

_ 1 المسند (3/75) ، وصحيح ابن حبان (الإحسان) (رقم:840) ، والمستدرك (1/512) . 2 تقريب التهذيب لابن حجر (ص:201) . 3 سورة الكهف، الآية (46) ، وسورة مريم، الآية (76) . 4 المسند (1/71) .

وروى ابن جرير الطبري عن عمارة بن صياد قال: "سألني سعيد ابن المسيب عن "الباقيات الصالحات"، فقلت: الصلاة والصيام، قال: لم تُصب، فقلت: الزكاة والحج، فقال: لم تصب، ولكنهن الكلمات الخمس: لا إله إلاَّ الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله". وأثر ابن المسيب هذا يوهم أنَّ "الباقيات الصالحات" محصورة في هؤلاء الكلمات الخمس، والذي عليه المحققون من أهل العلم أنَّ "الباقيات الصالحات" هنَّ جميع أعمال الخير، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {والباقيات الصالحات} قال: هي ذكر الله قول لا إله إلاَّ الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، وتبارك الله، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله، وأستغفر الله، وصلى الله على رسول الله، والصيام والصلاة والحج والصدقة والعتق والجهاد والصلة وجميع أعمال الحسنات وهن الباقيات الصالحات، التي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السموات والأرض. وقد ورد في فضل هذه الكلمة وبيان عظم مكانتها عند الله وما يترتّب عليها من أجر وثواب نصوصٌ خاصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكنا إذا علونا كبّرنا، وفي رواية: فجعلنا لا نصعد شرفاً ولا نعلو شرفاً ولا نهبط في واد إلاَّ رفعنا أصواتنا بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً ولكن تدعون سميعاً بصيراً"، ثم أتى عليَّ وأنا أقول في نفسي:

لا حول ولا قوة إلاَّ بالله فقال: "يا عبد الله بن قيس، قل: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله فإنَّها كنزٌ من كنوز الجنة"، أو قال: "ألا أدلُّك على كلمة هي كنزٌ من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلاَّ بالله" 1. قال بعض أهل العلم في التعليق على هذا الحديث: "كان عليه السلام معلِّماً لأمته فلا يراهم على حالة من الخير إلاَّ أحبَّ لهم الزيادة، فأحب الذين رفعوا أصواتهم بكلمة الإخلاص والتكبير أن يضيفوا إليها التبري من الحول والقوة فيجمعوا بين التوحيد والإيمان بالقدر، وقد جاء في الحديث: "إذا قال العبد لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، قال الله: أسلم عبدي واستسلم"، رواه الحاكم بإسناد قال عنه الحافظ ابن حجر: "قوي" 2. وفي رواية: "ألا أدلُّك على كلمة من تحت العرش من كنز الجنة؟ تقول: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، فيقول الله عز وجل: أسلم عبدي واستسلم" رواه الحاكم وقال: "صحيح ولا يحفظ له علة" ووافقه الذهبي. وروى الإمام أحمد والترمذي وابن حبان وغيرهم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مرَّ على إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقال: "يا محمد مُرْ أمَّتَك أن يكثروا

_ 1 صحيح البخاري (رقم:4205،6384) ، وصحيح مسلم (رقم:2704) . 2 فتح الباري (11/501) .

من غراس الجنة، قال: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله"1. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا من قول لا حول ولا قوة إلاَّ بالله فإنَّها كنزٌ من كنوز الجنّة"2. وروى أحمد والترمذي والحاكم وغيرهم عن قيس بن سعد بن عبادة أنَّ أباه دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخدمه قال: فمرَّ بي النبي صلى الله عليه وسلم وقد صلّيت فضربني برجله وقال: "ألا أدلُّك على باب من أبواب الجنة؟ قلت: بلى، قال: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله"3. فهذه بعض الأحاديث المشتملة على بيان فضل هذه الكلمة العظيمة وما يترتّب عليها من أجور عظيمة وخيرات جليلة وفوائد متنوعة في الدنيا والآخرة، وقد نظم ابن العراقي رحمه الله جملة من الفضائل الواردة لهذه الكلمة في أبيات لطيفة فقال: يا صاح أكثر قول لا حول ولا ... قوة إلاَّ فهي للداء دوا وإنَّها كنزٌ من الجنة يا ... فوز امرئ لجنّة المأوى أوا له يقول ربنا أسلم لي ... عبدي واستسلم رضياً هوا وأنشد أيضاً لنفسه:

_ 1 المسند (5/418) ، وصحيح ابن حبان (الإحسان) (رقم:821) . 2 المسند (2/333) ، وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (رقم:2528) . 3 المسند (3/422) ، والمستدرك (4/290) ، وانظر: الصحيحة (4/35 ـ 37) .

تبرّأ من الحول والقوة ... تنل أيَّ كنز من الجنة وسلم أمورك لله كي ... تبيت وتُصبحَ في جنَّة ولا ترج إن مسَّ خطب سوى ... إلهك ذي الفضل والمنَّة وواظب على الخير واحرص على ... أداء الفرائض والسنة وكن سالم الصدر للمسلمين ... من غلٍّ وحقدٍ ومن ظنَّةٍ1 فنسأل الله الكريم أن يوفِّقنا لكلِّ خير يحبُّه ويرضاه، وأن يقينا من الزَلَل في القولِ والعمل، فلا حول لنا ولا قوة إلاَّ به، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

_ 1 انظر: فضل لا حول ولا قوة إلاَّ بالله لابن عبد الهادي (ص:39،40) .

حقيقة لا حول ولا قوة إلا بالله

55 / حقيقة لا حول ولا قوة إلاَّ بالله تقدّم الكلامُ على فضل قول: "لا حول ولا قوة إلاَّ بالله" تلك الكلمة العظيمة ذاتِ المعاني الجليلة والدلالات العميقة، وقد تنوّعت الأحاديث في الدلالة على تشريف هذه الكلمة وتعظيمِها، حيث أخبر صلوات الله وسلامه عليه أنَّها من أبواب الجنّة، وأنَّها من كنز تحت العرش، وأنَّها غِراس الجنَّة، وأنَّها من الباقيات الصالحات التي ينبغي للعبد أن يستكثر منها، ومرَّ معنا أيضاً أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من قول: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، وكلُّ هذا يدلُّ بجلاء على عِظم فضل هذه الكلمة ورِفعة شأنها، وأنَّها كلمةٌ عظيمةٌ جليلةٌ ينبغي على المسلمين أن يعنوا بها وأن يكثروا من قولها، وأن يعمروا أوقاتهم بكثرة تردادها لعِظم فضلها عند الله، ولكثرة ثوابها عنده، ولما يترتَّب عليها من خيرات متنوّعة، وأفضال متعدّدة في الدنيا والآخرة. ومن الأمور اللازمة في هذا الباب والمتأكّدة على كلِّ مسلم أن يفهم مدلولَ هذه الكلمة ومعناها؛ ليكون ذكره لله بها عن علم وفهم وإدراكٍ لمدلول ما يذكر اللهَ به، أمَّا أن يردِّد المسلم كلاماً لا يفهم معناه، أو ألفاظاً لا يدرك مدلولها، فهذا عديمُ التأثير ضعيفُ الفائدة، ولهذا فإنَّه لا بدَّ على المسلم في هذا الذِّكر، بل وفي كلِّ ما يذكر الله به أن يكون عالماً بمعنى ما يقول، مدركاً لمدلوله؛ إذ بذلك يؤتي الذِّكرُ ثمارَه، وتتحقّقُ فائدتُه، وينتفع به الذاكر، وقد تقدّم معنا قولُ النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه: "ألا أدلُّك على كلمة من تحت العرش من

كنز الجنَّة؟ تقول: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، فيقول الله عز وجل: أسلم عبدي واستسلم "1. فهي كلمة إسلامٍ واستسلامٍ، وتفويض وتبرّؤٍ من الحَول والقوَّة إلاَّ بالله، وأنَّ العبدَ لا يملك من أمرِه شيئاً، وليس له حيلةٌ في دفعِ شرٍّ، ولا قوّةٌ في جلبِ خيرٍ إلاَّ بإرادة الله تعالى. فلا تحوّل للعبد من معصية إلى طاعة، ولا من مرض إلى صحة، ولا من وهنٍ إلى قوة، ولا من نقصان إلى كمال وزيادة إلاَّ بالله، ولا قوَّة له على القيام بشأن من شؤونه، أو تحقيق هدفٍ من أهدافه أو غاية من غاياته إلاَّ بالله العظيم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فأزِمَّةُ الأمور بيده سبحانه، وأمورُ الخلائق معقودة بقضائه وقدره، يصرفها كيف يشاء ويقضي فيها بما يريد، لا رادَّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمه، فما شاء كان كما شاء في الوقت الذي يشاء، على الوجه الذي يشاء من غير زيادة ولا نقصان، ولا تقدّم ولا تأخر، له الخلق والأمر، وله الملك والحمد، وله الدنيا والآخرة، وله النِّعمة والفضل، وله الثناء الحسن، شملت قدرتُه كلَّ شيء، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونَ} 2، {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} 3، ومن كان هذا شانه فإنَّ الواجبَ الإسلامُ لألوهيته، والاستسلامُ لعظمته،

_ 1 تقدّم (ص:298) . 2 سورة يس، الآية (82) . 3 سورة فاطر، الآية (2) .

وتفويض الأمور كلِّها إليه، والتبرؤُ من الحول والقوة إلاَّ به، ولهذا تعبّد اللهُ عبادَه بذكره بهذه الكلمة العظيمة التي هي باب عظيم من أبواب الجنَّة وكنز من كنوزها. فهي كلمةٌ عظيمةٌ تعني الإخلاص لله وحده بالاستعانة، كما أنَّ كلمةَ التوحيد لا إله إلا الله تعني الإخلاص لله بالعبادة، فلا تتحقق لا إله إلا الله إلاَّ بإخلاص العبادة كلِّها لله، ولا تتحقّق لا حول ولا قوة إلاَّ بالله إلاَّ بإخلاص الاستعانة كلِّها لله، وقد جمع الله بين هذين الأمرين في سورة الفاتحة أفضل سورة في القرآن وذلك في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فالأول تبرؤٌ من الشرك، والثاني تبرؤٌ من الحول والقوة والتفويض إلى الله عز وجل، والعبادة متعلّقة بألوهية الله سبحانه، والاستعانة متعلّقة بربوبيّته، العبادةُ غاية، والاستعانة وسيلة، فلا سبيل إلى تحقيق تلك الغاية العظيمة إلاَّ بهذه الوسيلة: الاستعانة بالله الذي لا حول ولا قوة إلاَّ به، ولهذا يخطئ من يستخدمها في غير بابها، أو يجعلها في غير مقصودها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وذلك أنَّ هذه الكلمة (أي: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله) هي كلمة استعانة لا كلمة استرجاع، وكثيرٌ من الناس يقولها عند المصائب بمنزلة الاسترجاع، ويقولها جزعاً لا صبراً"1. وعلى هذا المعنى المُشار إليه يدور فهمُ السلف رحمهم الله لهذه الكلمة العظيمة، أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس رضي

_ 1 الاستقامة (2/81) .

الله عنهما في "لا حول ولا قوة إلاَّ بالله" قال: "لا حول بنا على العمل بالطاعة إلاَّ بالله، ولا قوة لنا على ترك المعصية إلاَّ بالله". وأخرج أيضاً عن زهير بن محمد أنَّه سئل عن تفسير "لا حول ولا قوة إلاَّ بالله"، قال: "لا تأخذ ما تحبُّ إلاَّ بالله، ولا تمتنع مما تكره إلاَّ بعون الله"1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقول: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله يوجب الإعانة؛ ولهذا سنَّها النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال المؤذِّن: حي على الصلاة، فيقول المجيب: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، فإذا قال: حي على الفلاح، قال المجيب: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، وقال المؤمن لصاحبه: {وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ} 2، ولهذا يُؤمر بهذا من يخاف العين على شيء، فقوله: ما شاء الله، تقديره: ما شاء الله كان، فلا يأمن، بل يؤمن بالقدر، ويقول: لا قوة إلاَّ بالله، وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه المتفق عليه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هي كنز من كنوز الجنَّة"، والكنز مال مجتمع لا يحتاج إلى جمع، وذلك أنَّها تتضمّن التوكّل والافتقار إلى الله تعالى، ومعلوم أنَّه لا يكون شيء إلاَّ بمشيئة الله وقدرته، وأنَّ الخلق ليس منهم شيء إلاَّ ما أحدثه الله فيهم، فإذا انقطع القلب للمعونة منهم وطلبها من الله فقد طلبها من خالقها الذي لا يأتي بها إلاَّ هو ... ولهذا يأمر الله بالتوكّل عليه

_ 1 أوردهما السيوطي في الدر المنثور (5/393 ـ 394) . 2 سورة الكهف، الآية (39) .

وحده في غير موضع، وفي الأثر: "من سرَّه أن يكون أقوى الناس فليتوكّل على الله، ومن سرّه أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده"" اهـ1. ولا ريب أنَّ أنفعَ الدعاء وأفضلَه للعبد هو طلبُه من الله العونَ على مرضاته والتوفيقَ لطاعته، وهو الذي علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم لِحِبِّه معاذ ابن جبل رضي الله عنه فقال: "يا معاذ، والله إني لأحبُّك، فلا تنسَ أن تقول دُبر كلِّ صلاة: اللَّهمَّ أَعِنِّي على ذكرِك وشكرك وحسن عبادتك"، وهذه كلمة استعانة كما هو الشأن في قول لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، استعانةٌ بالله لتحقيق أفضل الغايات وأجلِّ المطالب على الإطلاق، عبادة الله سبحانه التي أوجد الخلقَ لتحقيقها، وخُلقوا للقيام بها، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "تأمَّلتُ أنفعَ الدعاء، فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} "2. فاللهمَّ إيَّاك نعبد ولك نصلِّي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتَك ونخاف عذابك، ولا حول ولا قوة إلاَّ بك، فلا تكِلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقلَّ من ذلك، أنت ربُّ العالمين وإله الأولين والآخرين، لا إله إلاَّ أنت نستغفرك ونتوب إليك.

_ 1 الفتاوى (13/321 ـ 322) . 2 مدارج السالكين لابن القيم (1/78) .

المجلد الثاني

المجلد الثاني مقدمة ... فقه الأدعية والأذكار بقلم: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسَلين وخيرةِ ربِّ العالمين، نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فهذا القسم الثاني من كتاب فقه الأدعية والأذكار، وهو خاصٌّ بالدعاء، احتوى على جُملةٍ من الموضوعات المفيدة، والأبحاث النافعة والمسائل المهمَّة التي تَمسُّ الحاجةُ إليها لدى كلِّ مسلمٍ ومسلمة، ومِن أبرَزِ الموضوعات التي اشتمل عليها هذا القسم ما يلي: * بيانُ فضل الدُّعاء وأهميَّتِه ومكانتِه من الدِّين الإسلاميِّ الحنيف. * الشروط التي ينبغي أن تتوافر في الدعاء ليكون مقبولاً عند الله عزَّ وجلَّ. * الآدابُ التي ينبغي أن يتحَلَّى بها مَن يدعو اللهَ عزَّ وجلَّ؛ ليكمل دعاؤُه، وليتحقَّق رجاؤُه، ولينال سؤلَه. * فضلُ الأدعيَّة المأثورةِ وكمالها في مبانيها ومعانيها، وبيان اشتمالِها على غاية المطالب العالية، وكمال المقاصد النبيلة. * خطورة الأدعيَّة المنحرفة والأوراد المخترعة، وبيان عِظم جنايتِها على أهلها المستمسكين بها المحافظين عليها. * التحذير من الشِّرك في الدُّعاء، وبيان أنَّه أعظم انحرافٍ وقع في هذا الباب. بيان أنواع التوسُّل المشروع، والتحذيرُ من جملةٍ من الانحرافات

* التي وقعت في الدُّعاء تُسمَّى توسُّلاً، وهي في الحقيقة انحرافٌ وضلال. * بيان أوقات وأحوال للمسلم تكون فيها الإجابةُ لدعائِه أحرى من غيرها. * فضلُ الدُّعاء للمسلمين والاستغفار لهم، وبيان ما يترتَّب عليه من أجورٍ عظيمة وخيرات عميمة. * بيانُ أهميَّة تبصُّر المسلم فيما يدعو به، والحذر من الاستعجال بالدعاء على نفسِه أو غيره من المسلمين بالهلاك أو العذاب أو نحو ذلك. إلى غير ذلك من الموضوعات النافعة المتعلِّقة بالدُّعاء، وقد جعلته كالقسم الأول من حيث حجمُه وعددُ موضوعاته، فهذا القسم يشتمل على خمسة وخمسين موضوعاً متناسبة من حيث الحجم، وجعلتُ لكلِّ منها عنواناً خاصًّا يُرشد إلى مضمونه. وهي في الأصل حلقات إذاعيةٌ قُدِّمت عبر إذاعة القرآن الكريم بالمملكة العربية السعودية، تلك الإذاعة المباركة التي يُقدم فيها من الجهود العظيمة والمساعي الحثيثة والأعمال المشكورة في سبيل نشر دين الله في أنحاء المعمورة ما لا يخفى عظم نفعه وكبر فائدته على كلِّ مسلم، فنسأل الله أن يَجزيَ القائمين عليها خير الجزاء، وأن يُسدِّدهم في أقوالهم وأعمالهم وأن يُبارك في جهودهم وأن يُوفِّقهم لكلِّ خير، وأسأله سبحانه أن يتقبَّل منِّي عملي هذا وسائر أعمالي وأن ينفع به ويُبارك فيه، إنَّه سميع مجيب.

فضل الدعاء

56 ـ فضل الدعاء الدعاءُ شأنُه في الإسلام عظيمٌ، ومكانتُه فيه ساميةٌ، ومنزلتُه منه عالية؛ إذ هو أجلُّ العبادات وأعظمُ الطاعات وأنفعُ القربات، ولهذا جاءت النصوصُ الكثيرةُ في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المبيِّنةُ لفضله والمُنَوِّهةُ بمكانته وعظم شأنه، والمرغِّبةُ فيه والحاثَّةُ عليه، وقد تنوَّعت دلالاتُ هذه النصوص المبيِّنة لفضل الدعاء، فجاء في بعضها الأمرُ به والحثُّ عليه، وفي بعضها التحذير من تركه والاستكبار عنه، وفي بعضها ذكرُ عِظم ثوابه وكبر أجره عند الله، وفي بعضها مدحُ المؤمنين لقيامهم به، والثناءُ عليهم بتكميله، وغيرُ ذلك من أنواع الدلالات في القرآن الكريم على عظم فضل الدعاء. بل إنَّ الله سبحانه قد افتتح كتابه الكريم بالدعاء واختممه به، فسورة " الحمد " التي هي فاتحة القرآن الكريم مشتملةٌ على دعاء الله بأجلِّ المطالب وأكمل المقاصد، ألا وهو سؤال الله عزَّ وجلَّ الهدايةَ إلى الصراط المستقيم والإعانةَ على عبادته، والقيامَ بطاعته سبحانه، وسورةُ " الناس " التي هي خاتمة القرآن الكريم مشتملةٌ على دعاء الله سبحانه، وذلك بالاستعاذة به سبحانه من شرِّ الوسواس الخنَّاس الذي يوسوسُ في صدور الناس من الجِنَّة والناس، وما من ريبٍ أنَّ افتتاحَ القرآن الكريم بالدعاء واختتامَه به دليلٌ على عِظم شأن الدعاء وأنَّه روحُ العبادات ولبُّها. بل إنَّ الله جلَّ وعلا سمَّى الدعاءَ في القرآن عبادةً في أكثر من آية،

مِمَّا يدلُّ على عِظم مكانته، كقوله سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 1، وكقوله فيما حكاه عن نبيِّه إبراهيم عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَن لاَ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا} 2، ونحوها من الآيات، وسمَّى سبحانه الدعاءَ دِيناً كما في قوله: {فَادْعُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 3، ونحوها من الآيات. وهذا كلُّه يُبيِّن لنا عِظمَ شأن الدعاء، وأنَّه أساسُ العبودية وروحُها، وعنوانُ التذلُّل والخضوع والانكسار بين يدي الربِّ، وإظهارِ الافتقار إليه، ولهذا حثَّ الله عبادَه عليه، ورغَّبهم فيه في آيٍ كثيرة من القرآن الكريم، يقول الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعًا إنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنينَ} 4، وقال تعالى: {هُوَ الحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 5. وأخبر سبحانه ـ مرَغِّباً عبادَه في الدعاءِ ـ بأنَّه قريبٌ منهم يُجيب

_ 1 سورة غافر، الآية: (60) . 2 سورة مريم، الآيتان: (48، 49) . 3 سورة غافر، الآية: (14) . 4 سورة الأعراف، الآيتان: (55 ـ 56) . 5 سورة غافر، الآية: (65) .

دعاءَهم، ويُحقِّقُ رجاءَهم، ويعطيهم سؤلهم، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 1، وقال تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} 2. ولهذا فإنَّ العبدَ كلَّما عظُمت معرفتُه بالله وقويت صِلتُه به كان دعاؤُه له أعظمَ، وانكسارُه بين يديه أشدَّ، ولهذا كان أنبياءُ الله ورُسُلُه أعظمَ الناس تحقيقاً للدعاء وقياماً به في أحوالهم كلِّها وشؤونهم جميعِها، وقد أثنى الله عليهم بذلك في القرآن الكريم، وذَكَر جملةً من أدعيتهم في أحوالٍ متعدِّدةٍ ومناسبات متنوِّعةٍ، قال تعالى في وصفهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} 3. ومن أدعية الأنبياء ما ذكره الله عن نبيِّه إبراهيم عليه السلام حيث قال: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ} 4. وذكر سبحانه دعاءَ نبيِّه نوح عليه السلام عندما سأل ربَّه أن ينصرَه على قومه الذين كذَّبوه وعادَوه، فقال سبحانه: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ

_ 1 سورة: البقرة، الآية: (186) . 2 سورة النمل، الآية: (62) . 3 سورة الأنبياء، الآية: (90) . 4 سورة إبراهيم، الآيات: (39 ـ 41) .

نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَن كَانَ كُفِرَ} 1. وذكر سبحانه دعاء نبيِّه أيوب عليه السلام عندما مسَّه الضرُّ فقال سبحانه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلعَابِدِينَ} 2. وذكر دعاءَ نبيِّه يونس عليه السلام عندما التقمه الحوتُ فدعا ربَّه وهو في جوفِ الحوت في قعر البحر، واستجاب الله دعاءَه فقال سبحانه: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَن نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤْمِنِينَ} 3، وهكذا مَن يتأمَّلُ القرآنَ الكريم يجد فيه من أدعية الأنبياء وسؤالهم ربّهم واطِّراحهم بين يديه في جميع أحوالِهم ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ شيئاً كثيراً. وكما أنَّه سبحانه وصَفَ الأنبياء بالدعاء ونَعتهم به، وأثنى عليهم

_ 1 سورة القمر، الآيات: (9 ـ 14) . 2 سورة الأنبياء، الآيتان: (83، 84) . 3 سورة الأنبياء، الآيتان: (87، 88) .

بتحقيقه، فقد وصف بذلك سبحانه المؤمنين الصادقين وعبادَ الله الصالحين، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} 2، وقال سبحانه في وصف أهل الجنَّة عندما يدخلونها بسلام آمنين: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 3. فالدعاء هو روحُ هذا الدِّين، وزادُ المؤمنين المتقين، وعنوانُ التذلُّل والخضوع لرب العالمين، جعلنا الله وإيَّاكم من أهله المحققين له، إنَّه سَميعٌ مجيبٌ.

_ 1 سورة السجدة، الآيتان: (16، 17) . 2 سورة الكهف، الآية: (28) . 3 سورة يونس، الآيتان: (9، 10) .

من أدلة السنة على فضل الدعء وذكر ضابط في المفاضلة بين الذكر والدعاء

من أدلة السنة على فضل الدعء وذكر ضابط في المفاضلة بين الذكر والدعاء ... 57 ـ من أدلة السنة على فضل الدعاء وذكر ضابط في المفاضلة بين الذِّكر والدعاء تقدَّم معنا فضلُ الدعاء من خلال عرض جملة من نصوص القرآن الكريم الدَّالة على عِظم فضله وجلالة شأنه، وفي ما يلي ذِكرُ جملةٍ من نصوص السنة الدالَّة على فضل الدعاء، وكثرة عوائِدِه وثِمارِه وفوائده، والسنَّةُ مليئةٌ بالنصوص المشتملة على الحثِّ على الدعاء وبيان فضله وعِظم ثوابه وأجره عند الله. فمن ذلك ما ثبت في السنن عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: أنَّ رسول الله قال: " الدعاء هو العبادة، ثمَّ قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 1 "2، فدلَّ ذلك على عِظم شأن الدعاء، وأنَّه أرفعُ أنواع العبادة وأفضلُها. وقد روى الحاكم بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: " أفضل العبادة الدعاء، وقرأ: {وَقَالَ رَبُّكُم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} "3.

_ 1 سورة غافر، الآية: (60) . 2 سنن الترمذي (رقم:3247) ، والمسند (4/267) ، والأدب المفرد (رقم:714) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم:1757) . 3 المستدرك (1/491) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:1579) .

وروى الترمذي وغيرُه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " ليس شيء أكرم على الله من الدعاء "1. ففي هذه الأحاديث دلالةٌ على فضل الدعاء، وعظيم كرمه عند الله، ورفيع مكانته من العبادة، وأنَّه روحُها ولبُّها وأفضلُها، وإنَّما كان ذلك كذلك لأمور عديدة ذكرها أهل العلم: منها: أنَّ الدعاءَ فيه التضرُّعُ إلى الله وإظهارُ الضعف والحاجة إليه سبحانه. ومنها: أنَّ العبادةَ كلَّما كان القلبُ فيها أخشعَ والفكرُ فيها حاضراً فهي أفضلُ وأكملُ، والدعاء أقربُ العبادات إلى حصول هذا المقصود، فإنَّ حاجةَ العبد تدفعه إلى الخشوع وحضور القلب. ومنها: أنَّ الدعاءَ ملازمٌ للتوكُّل والاستعانةِ بالله، فإنَّ التوكُّلَ هو الاعتمادُ بالقلب على الله والثقةُ به في حصول المحبوبات واندفاع المكروهات، والدعاءُ يقويه، بل يعبر عنه ويصرح به، فإنَّ الداعي يعلم ضرورته التامة إلى الله، وأنَّ أمورَه جميعَها بيده، فيطلبها من ربِّه راجياً له واثقاً به، وهذا هو روحُ العبادة2، إلى غير ذلك من الأمور التي تبيِّن عِظم قدر الدعاء ورِفعة شأنه، على أنَّه ينبغي أن يتنبَّه إلى أنَّ هذا لا

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3370) ، وابن ماجه (رقم:3829) ، وصحيح ابن حبان (رقم:870) ، المستدرك (1/490) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم:549) . 2 انظر: مجموع الفوائد واقتناص الأوابد لابن سعدي (ص:46) .

يعنِي تفضيل الدعاء على غيره من العبادات مطلقاً، بل جنس الذِّكر أفضلُ من جنس الدعاء من حيث النظر إلى كلٍّ منهما مجرَّداً، وقراءة القرآن أفضلُ من الذِّكر، والذِّكرُ أفضل من الدعاء، هذا من حيث النظر إلى الكلِّ مجرَّداً، وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل1. وهذا بابٌ شريفٌ من العلم ينبغي للمسلم أن يدركه وأن يعتني بفهمه تمام العناية؛ ليدرك الأفضل في كلِّ وقت وحال، وليحوز على الأكمل له في عبادته لربِّه وطاعته لمولاه في كلِّ زمان ومكان، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ضابطاً دقيقاً للتفاضل بين العبادات وتنوع ذلك بحسب أجناس العبادات وأوقاتها واختلاف أمكنتها واختلاف القدرة على القيام بها ونحو ذلك، وعلى ضوئه يُدرك المسلمُ الأفضلَ له بحسب تلك الاعتبارات المشار إليها. قال رحمه الله: " إنَّ الأفضل يتنوَّع: تارة بحسب أجناس العبادات، كما أنَّ جنسَ الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذِّكر، وجنس الذِّكر أفضلُ من جنس الدعاء. وتارة يختلف باختلاف الأوقات كما أنَّ القراءةَ والذِّكرَ والدعاءَ بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلاة. وتارة باختلاف عمل الإنسان الظاهر، كما أنَّ الذِّكرَ والدعاءَ في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة، وكذلك الذِّكرُ والدعاءُ

_ 1 انظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص:187) .

في الطواف مشروع بالاتفاق، وأما القراءة في الطواف ففيها نزاع معروف. وتارة باختلاف الأمكنة، كما أنَّ المشروعَ بعرفة ومزدلفة وعند الجِمار وعند الصفا والمروة هو الذِّكرُ والدعاء دون الصلاة ونحوها، والطواف بالبيت للوارد أفضلُ من الصلاة، والصلاة للمقيمين بمكة أفضل. وتارة باختلاف مرتبة جنس العبادة، فالجهاد للرجال أفضل من الحج، وأمَّا النساء فجهادهنَّ الحج، والمرأة المتزوجة طاعتها لزوجها أفضلُ من طاعتها لأبويها، بخلاف الأيِّمة فإنَّها مأمورة بطاعة أبويها. وتارة يختلف باختلاف حال قدرة العبد وعجزه، فما يقدر عليه من العبادات أفضلُ في حقِّه مما يعجز عنه، وإن كان جنسُ المعجوز عنه أفضلَ، وهذا بابٌ واسعٌ يغلو فيه كثيرٌ من الناس ويتَّبعون أهواءهم. فإنَّ من الناسِ مَن يرى أنَّ العملَ إذا كان أفضلَ في حقِّه لمناسبة له ولكونه أنفع لقلبه وأطوع لربِّه يريد أن يجعله أفضلَ لجميع الناس ويأمرهم بمثل ذلك. والله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالكتاب والحكمة، وجعله رحمة للعباد وهادياً لهم يأمر كلَّ إنسانٍ بِما هو أصلح له، فعلى المسلم أن يكون ناصحاً للمسلمين، يقصد لكلِّ إنسان ما هو أصلح له. وبهذا تبيَّن لك أنَّ من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له، ومنهم من يكون تطوُّعُه بالجهاد أفضلَ، ومنهم من يكون تطوُّعُه

بالعبادات البدنية كالصلاة والصيام أفضلَ له1، والأفضل المطلق ما كان أشبه بحال النبيِّ صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، فإنَّ خيرَ الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم "2. اهـ كلامه رحمه الله. وهو كما ترى مشتملٌ على تحقيق متقن، وتأصيل واف في هذا الباب العظيم لِمَن أراد لنفسه الأفضلَ والأكملَ في العبادات والأمور المُقرِّبة إلى الله عزَّ وجلَّ، وحاصلُه أنَّ الأفضلَ في كلِّ وقتٍ وحالٍ هو مراعاة سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه، فبذلك يدرك المسلم الكمال، ويظفر بالأفضل والأكمل. على أنَّه ينبغي أن يعلم أنَّ الأعمالَ المتساوية في الجنس تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان بالله والمحبة له والتعظيم لشرعه وقصد وجهه بالعمل تفاضلاً لا يحصيه ولا يحيط به إلاَّ الله. فنسأله سبحانه أن يهدينا وإياكم إلى أحسن الأعمال لا يهدي إلى أحسنها إلاَّ هو، وأن يرزقنا جميعاً الإخلاصَ في القول والعمل.

_ 1 ومن لطيف ما يُذكر في هذا الباب ما أورده الذهبيُّ في سير أعلام النبلاء (8/114) في ترجمة الإمام مالك بن أنس، أنَّ عبد الله بن عمر العُمري العابد كتب إلى الإمام مالك يَحُضُّه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالكُ بن أنس: " إنَّ الله قسم الأعمالَ كما قسم الأرزاق، فرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنَشرُ العلم من أفضل أعمال البِرِّ، وقد رضيت بِما فتح لي، وما أظنُّ ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كِلانَا على خير وبِرٍّ)) . (2) مجموع الفتاوي (10/427-429)

ومن فضائل الدعاء

58 ـ ومن فضائل الدعاء لا يزال الحديث موصولاً بذكر الأدلَّةِ على فضل الدعاء، من خلال ما ورد من ذلك في سُنَّة الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وقد مرَّ معنا طرَفٌ من هذه الأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس شيء أكرم على الله عزَّ وجلَّ من الدعاء "1، وهو دالٌّ على كرمِ الدعاء وعِظم مكانته عند الله؛ وذلك أنَّ الدعاءَ هو العبادةُ وهو لبُّها وروحُها، والعبادةُ هي الغايةُ التي خُلق الخلقُ لأجلها وأُوجدوا لتحقيقها، وأكرمها عند الله هو الدعاء، كما تقدَّم. ومِمَّا ورد في فضل الدعاء في السنة ما رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم بإسناد جيِّد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن لَم يدعُ الله سبحانه غَضِبَ عليه " 2، وهذا فيه دليلٌ على حبِّ الله للدعاء، وحبِّه سبحانه لعبده الذي يدعوه، ولذا فإنَّه سبحانه يغضب من عبده إذا ترك دعاءَه، ولا ريب أنَّ هذا فيه " دليل على أنَّ الدعاءَ من العبد لربِّه من أهمِّ الواجبات وأعظمِ المفروضات؛

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3370) ، وابن ماجه (رقم:3829) ، وصحيح ابن حبان (رقم:870) ، المستدرك (1/490) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم:549) . 2 المسند (2/443، 477) ، وسنن الترمذي (رقم:3373) ، وابن ماجه (رقم:3827) ، وقال ابن كثير عن إسناده: " هذا إسنادٌ لا بأس به)) . التفسير (4/92) ، وحسَّنه الألبانيُّ في الصحيحة (رقم:2654) .

لأنَّ تجنُّبَ ما يغضب الله منه لا خلاف في وجوبِه "1، وقد سبق ذِكرُ قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 2، وهو يدلُّ على أنَّ تركَ العبدِ دعاءَ ربِّه يُعدُّ من الاستكبار، وتجنُّبُ ذلك لا شكَّ في وجوبه. ومِمَّا ورد أيضاً في فضل الدعاء ما رواه البخاري في الأدب المفرد، وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً، والطبراني في الأوسط عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً قال: " أعجزُ الناس مَن عجز عن الدعاء، وأبْخلُ الناس مَن بخل بالسلام "3، فالدعاءُ أمرُه يسيرٌ جدًّا على كلِّ أحدٍ، فهو لا يتطلَّب جهداً عند القيام به، ولا يلحق الداعي بسببه تعبٌ ولا مشقَّةٌ، ولهذا فإنَّ العجزَ عنه والتواني في أدائه هو أشدُّ العَجز، وحَرِيٌّ بِمَن عجز عنه مع يُسرِه وسهولته أن يعجز عن غيره، ولا يَعجزُ عن الدعاء إلاَّ دنيُّ الهمَّةِ ضعيفُ الإيمان. ومِمَّا جاء في فضل الدعاء ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما عن ثوبان رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يردُّ القدرَ إلاَّ الدعاءُ "4، فهذا فيه دليل على أنَّ الله سبحانه يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد،

_ 1 تحفة الذاكرين للشوكاني (ص:28) . 2 سورة غافر، الآية: (60) . 3 الأدب المفرد (رقم:1042) ، وصحيح ابن حبان (رقم:4498) ، والمعجم الأوسط (رقم:5591) ، وصحح العلامة الألباني رحمه الله الموقوف والمرفوع. الصحيحة (رقم:601) . 4 المسند (5/280) ، وسنن ابن ماجه (رقم:90) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:154) .

وقد ورد في هذا المعنى أحاديثُ عديدة، وحاصل معناها أنَّ الدعاءَ مِن قَدَرِ الله عزَّ وجلَّ؛ إذ إنَّه سبحانه قد يقضي بالأمر على عبدِه قضاءً مقيَّداً بأن لا يدعوه، فإذا دعاه اندفع عنه، وفي هذا دلالةٌ على أنَّ الدعاءَ من أعظم الأسباب التي تُنال بها سعادة الدنيا والآخرة، خلافاً لبعض المتصوِّفة الذين يعتقدون أنَّ الدعاءَ لا تأثيرَ له في حصول مطلوبٍ ولا دفع مرهوبٍ، وإنَّما هو مجرَّدُ عبادةٍ محضةٍ، وأنَّ ما حصل به يحصل بدونه، ولا يقول هذا مَن عَرَفَ قدرَ الدعاء، " ولهذا أُمر الناسُ بالدعاءِ والاستعانَةِ وغيرِ ذلك مِن الأسباب، ومَن قال: أنا لا أدعو ولا أسألُ اتِّكالاً على القَدَرِ كان مخطئاً؛ لأنَّ اللهَ جعلَ الدعاءَ والسؤالَ من الأسباب التي ينال بها مغفرتُه ورحمتُه وهداه ونصرُه ورزقُه، وإذا قدَّر للعبد خيراً يناله بالدعاءِ لَم يَحصل بدون الدعاء، وما قدَّره اللهُ وعَلِمَه من أحوالِ العباد وعواقبِهم فإنَّما قدَّره الله بأسبابٍ يسوقُ المقاديرَ إلى المواقيت، فليس في الدنيا والآخرة شيء إلاَّ بسبب، والله خالقُ الأسباب والمسبَّبَات "1. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " أساسُ كلِّ خيرٍ أن تعلَم أنَّ ما شاء اللهُ كان وما لَم يشأ لَم يكن، فتيقَّن حينئذٍ أنَّ الحسناتِ مِن نِعمه فتشكرَه عليها وتتضَرَّعَ إليه أن لا يقطعَها عنك، وأنَّ السيِّئاتِ مِن خذلانِه وعقوبتِه، فتَبْتَهِلَ إليه أن يَحُولَ بينك وبينها، ولا يَكِلَكَ في فعلِ الحسنات وترك السيِّئات إلى نفسِك، وقد أَجْمع العارفون على أنَّ كلَّ

_ 1 مجموع الفتاوى (8/69 ـ 70) .

خيرٍ فأصلُه بتوفيقِ الله للعبد، وكلَّ شرٍّ فأصلُه خذلانه لعبده، وأجمعوا أنَّ التوفيقَ أن لا يكِلَك الله إلى نفسك، وأنَّ الخذلانَ هو أن يخلي بينَك وبين نفسك، فإذا كان كلُّ خيرٍ فأصلُه التوفيق وهو بيد الله لا بيد العبدِ؛ فمفتاحُه الدعاءُ والافتقارُ وصدقُ اللَّجَأ والرغبةِ والرهبةِ إليه، فمتى أعطى العبدَ هذا المفتاحَ فقد أراد أن يفتح له، ومتى أضلَّه عن المفتاح بقي بابُ الخير مُرْتَجًّا دونه ... وما أُتي مَن أُتي إلاَّ مِن قِبَل إضاعة الشكرِ وإهمالِ الافتقار والدعاء، ولا ظَفِرَ مَن ظَفِرَ ـ بمشيئة الله وعونِه ـ إلاَّ بقيامه بالشكرِ وصدقِ الافتقارِ والدعاء " اهـ1. إنَّ حاجةَ المسلم إلى الدعاء ماسَّةٌ في أموره كلِّها وضرورتَه إليه ملحَّةٌ في شؤونه جميعِها، وقد ضَرَبَ أَحدُ أهل العلم لِحال المسلم مع الدعاء مَثلاً بديعاً تستبين به شدَّةُ حاجته إليه، ويظهرُ به عظمُ ضرورته إليه، روى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن قتادة قال: قال مُوَرِّقٌ رحمه الله: " ما وجدتُ للمؤمن مثلاً إلاَّ رجلاً في البحر على خشبة، فهو يدعو يا ربِّ يا ربِّ، لعل الله عزَّ وجلَّ أن ينجيَه "2. ومَن أقبل على الله بصدقٍ، وألَحَّ عليه بالدعاء، وأَكثَرَ من سؤالِه أجاب الله دعاءَه، وحقَّق رجاءَه، وأعطاه سُؤْلَه، وفتح له أبوابَ الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.

_ 1 الفوائد لابن القيم (ص:127 ـ 128) . 2 الزهد (رقم:371) .

إفتقار العبد إلى الله وحاجته إلى دعائه

59 ـ افتقار العبد إلى اللَّه وحاجته إلى دعائه إنَّ من فضائل الدعاء ودلائل عِظم شأنه أنَّ الله تبارك وتعالى يُحبُّه من عباده مع كمالِ غِناه عنهم، ووعدَ الدَّاعين له من عباده بالإجابة، وذلك في قوله سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 1. وهذا من لُطف الله بعباده وعظيم إكرامه لهم وإحسانه بهم، فهو سبحانه لا يُخيِّب عبداً دعاه، ولا يرُدُّ مؤمناً ناجاه، يقول الله تعالى كما في الحديث القدسي: " يا عبادي كلُّكم ضالٌّ إلاَّ مَن هديتُه، فاستهدوني أهدِكم، يا عبادي كلُّكم جائعٌ إلاَّ مَن أطعمته، فاستطعِموني أطعمكم، يا عبادي كلُّكم عارٍ إلاَّ من كسوتُه، فاستكسوني أكسُكم، يا عبادي إنَّكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ... "، وقال فيه: " يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم قاموا على صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيتُ كلَّ واحد مسألتَه ما نقصَ ذلك مِمَّا عندي إلاَّ كما ينقص المِخيَطُ إذا أُدخل البحر "، رواه مسلم في سياق طويل من حديث أبي ذر رضي الله عنه2. وفي الحديث دلالةٌ على أنَّ اللهَ يحبُّ أن يسأله العبادُ جميعَ مصالح دينهم ودنياهم من الطعام والشراب والكسوة وغير ذلك، كما يسألونه

_ 1 سورة غافر، الآية: (60) . 2 صحيح مسلم (رقم:2577) .

الهدايةَ والمغفرةَ والتوفيقَ والإعانةَ على الطاعةِ ونحوَ ذلك، ووعدَهم سبحانه على ذلك كلِّه بالإجابة. وفيه أيضاً دلالةٌ على كمال قدرةِ الله سبحانه وكمال ملكِه، وأنَّ ملكَه وخزائنَه لا تنفدُ ولا تنقصُ بالعطاء، ولو أعطى الأوَّلين والآخرين من الجنِّ والإنس جميعَ ما سألوه في مقام واحد، وفي ذلك حثٌّ على الإكثار من سؤاله وإنزال جميع الحوائجِ به، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يدُ الله ملأى لا تغيضُها نفقة، سَحَّاءُ الليل والنهار، أفرأيتم ما أنفق ربُّكم منذ خلق السموات والأرض، فإنَّه لَم يَغِضْ ما في يمينه "1، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دعا أحدُكم فلا يقُلْ اللَّهمَّ اغفر لي إن شئتَ، ولكن ليعزم المسألةَ وليُعظم الرغبةَ، فإنَّ الله لا يتعاظمه شيءٌ "2. وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: " إذا دعوتم اللهَ فارفعوا في المسألة، فإنَّ ما عنده لا ينفد منه شيء، وإذا دعوتم فاعزموا فإنَّ الله لا مستكره له "3. وتأمَّل قوله سبحانه في الحديث المتقدِّم: " لَم ينقص ذلك ممَّا عندي إلاَّ كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر "، فإنَّ فيه تحقيقاً بأنَّ ما عند الله

_ 1 صحيح البخاري (رقم:4684) ، وصحيح مسلم (رقم:993) . 2 صحيح مسلم (رقم:2679) . 3 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (6/21، 47) مقطعاً.

لا ينقص ألبتة، كما قال تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ} 1، فإنَّ البحرَ إذا غُمس فيه إبرة ثمَّ أُخرجت لَم تُنقص من البحر بذلك شيئاً، وكذلك لو فُرض أنَّ عصفوراً شرب منه فإنَّه لا يُنقص البحر ألبتة، وهو سبحانه إذا أراد شيئاً من عطاءٍ أو عذاب أو غيرِ ذلك قال له: كن فيكون، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} 2، وقال سبحانه: {إَنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} 3، فكيف يُتصوَّر فيمن هذا شأنُه أن ينقص ما عنده أو ينفد، ولقد أحسن مَن قال: لا تخضعنَّ لمخلوق على طمع ... فإنَّ ذاك مُضرٌّ منك بالدِّين واسترزق الله مِمَّا في خزائنه ... فإنَّما هي بين الكاف والنون4 إنَّ العبدَ محتاجٌ إلى الله في كلِّ شؤونِه، ومفتقرٌ إليه في جميعِ حاجاتِه، لا يستغني عن ربِّه ومولاه طرفة عين ولا أقلَّ من ذلك، وأما الربُّ سبحانه فإنَّه غنيٌّ حميدٌ، لا حاجة له بطاعات العباد ودعواتهم، ولا يعود نفعُها إليه، وإنَّما هم الذين ينتفعون بها، ولا يتضرَّرُ بمعاصيهم وإنَّما هم الذين يتضرَّرون بها، ولهذا قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبُكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا

_ 1 سورة النحل، الآية: (96) . 2 سورة يس، الآية: (82) . 3 سورة النحل، الآية: (40) . 4 انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص:214 ـ 218) .

ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ} 1، وقال تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} 2، وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} 3، والآيات في هذا المعنى كثيرة. ثمَّ إنَّ الله تبارك وتعالى مع كمال غِناه عن عباده، وعن طاعاتهم ودعواتهم، وتوباتهم، فإنَّه يُحبُّ سماعَ دعاءِ الدَّاعينَ المخبتين، ورؤيةَ عبادةِ العابدين المطيعين، ويفرحُ بتوبة التائبين المُنيبين، بل إنَّه سبحانه يفرح بتوبة عبده أشدَّ من فرح مَن ضلَّت راحلتُه التي عليها طعامه وشرابه بفلاة من الأرض، وطلبها حتى أَيِسَ منها، واستسلم للموت، ثمَّ غلبته عينُه فنام واستيقظ، وهي قائمةٌ عنده، وهذا أعلى ما يتصوَّرُه المخلوقُ من الفَرَحِ، فالله سبحانه يَفرحُ بتوبة عبادِه أَشَدَّ مِن فرحِ هذا بِلُقياه لراحلته، هذا مع غِناه سبحانه الكامل عن طاعات عباده وتوباتهم إليه، وذلك كلُّه إنَّما يعود نفعُه إليهم دونَه، وهذا من كمال جُودِه وإحسانِه إلى عباده ومحبَّته لنفعهم ودفع الضر عنهم، فهو يُحبُّ من عباده أن يعرفوه ويُحبُّوه ويتَّقوه ويخافوه ويُطيعوه ويتقرَّبوا إليه، ويُحبُّ أن يعلموا أنَّه يغفر الخطيئات ويجيب الدعوات ويُقيلَ العَثَرات ويُكفِّر السيِّئات ويرزق من يشاء بغير حساب.

_ 1 سورة فاطر، الآيات: (15 ـ 17) . 2 سورة الإسراء، الآية: (15) . 3 سورة إبراهيم، الآيتان: (7، 8) .

فحريٌّ بعبد الله المؤمن إذا عرف كمالَ ربِّه وجلالَه، وكرمه وإحسانه، وفضلَه وجُودَه أن ينزل به جميع حاجاته، وأن يُكثر من دعائه ومناجاته، وأن لا يَقْنَط مِن رحمة ربِّه ولا ييأس من رَوْحِه فإنَّه لا يَيْأَسُ مِن رَوْحِ الله إلاَّ القومُ الكافرون. فاللَّهمَّ وفِّقنا لِهُداك، وأعِنَّا على طاعتك، ولا تَكِلْنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك.

إجابه الله سبحانه للداعيين

إجابه الله سبحانه للداعيين ... 60 ـ إجابة الله سبحانه للدَّاعين لا يزال الحديثُ ماضياً بنا عن بيان مكانةِ الدعاءِ وفضلِه ورِفعةِ شأنِه عند الله تبارك وتعالى؛ فإنَّ من فضل الدعاء أنَّ الله تبارك وتعالى وعدَ مَن دعاه أن يجيب دعاءَه ويحقِّقَ رجاءَه، ويُعطيَه سُؤْلَه، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 1، وهذا من فضله تبارك وتعالى وكرمِه أنَّه ندبَ عبادَه إلى دعائه وتكفَّلَ لهم بالإجابة، وأحبَّ منهم أن يُكثروا من دعائه وسؤاله، كما قال سفيان الثوري رحمه الله: " يا مَن أحبُّ عباده إليه مَن سأله فأكثر سؤاله، ويا مَن أبغضُ عباده إليه مَن لَم يسأله، وليس كذلك غيرُك يا ربِّ "، رواه ابن أبي حاتم وغيرُه2. لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديثُ كثيرةٌ في الترغيب في الدعاء ببيان أنَّ الله تبارك يُعطي السائلين ويُجيب الدَّاعين، ولا يُخيب رجاء المؤمنين، فهو سبحانه حيِّيٌّ كريم، أكرمُ مِن أن يردَّ مَن دعاه أو يخيبَ من ناجاه أو يمنع مَن سأله. روى أبو داود، والترمذي، وغيرُهم بإسنادٍ جوَّده الحافظ في الفتح عن سلمان الفارسي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ اللهَ حَيِيٌّ

_ 1 سورة غافر، الآية: (60) . 2 انظر: تفسير ابن كثير (4/85) .

كريمٌ يستحيي مِن عبده إذا رفع يديه إليه أن يردَّهما صِفْراً "1، أي: خالية. وفي حديث النزول الإلهي يقول صلى الله عليه وسلم: " ينزل ربُّنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثُلث الليل الآخر فيقول: مَن يدعوني فأستجيب له، مَن يسألني فأعطيَه، مَن يستغفرني فأغفرَ له " 2، وهو حديث متواتر رواه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم جمعٌ من الصحابة بلغ عددُهم ثمانية وعشرين صحابياً. وجاء في الحديث القدسي في بيان منزلة أولياء الله المتقين عند الله، أنَّ اللهَ تبارك وتعالى يقول: " مَن عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ ممَّا افترضتُه عليه، وما يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنتُ سَمْعَه الذي يَسمع به، وبصرَه الذي يُبصر به، ويدَه التي يَبطِش بها، ورِجلَه التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه ولئن استعاذ بي لأعيذنَّه ... "، رواه الإمام البخاري في صحيحه3. إنَّ هذه الأحاديث وما جاء في معناها تدلُّ أبين دلالة على أنَّ الله تبارك وتعالى لا يردُّ مَن سأله من عباده المؤمنين، ولا يخيب مَن رجاه، لكن قد استُشكل هذا، كما ذكر الحافظ ابن حجر بأنَّ جماعةً من

_ 1 سنن أبي داود (رقم:1488) ، وسنن الترمذي (رقم:3556) ، وصحيح ابن حبان (رقم:876) ، وفتح الباري (11/143) . 2 صحيح البخاري (رقم:1145) ، (6321) ، (7494) ، وصحيح مسلم (رقم:758) . 3 صحيح البخاري (رقم:6502) .

العُبَّاد والصُلحاء دَعَوا وبالغوا ولَم يُجابوا، قال رحمه الله: " والجواب أنَّ الإجابةَ تتنوَّع، فتارة يقع المطلوب بعينه على الفور، وتارة يقع ولكن يتأخَّر لحكمةٍ، وتارة قد تقع الإجابةُ ولكن بغير عين المطلوب حيث لا يكون في المطلوب مصلحةٌ ناجزةٌ، وفي الواقع مصلحةٌ ناجزةٌ أو أصلحُ منها "1، وقال رحمه الله: " إنَّ كلَّ داعٍ يُستجاب له، لكن تتنوَّع الإجابةُ فتارة تقع بعين ما دعا به وتارة بعِوض "2، وقد ورد في هذا المعنى الذي ذكره رحمه الله أحاديث عديدة، منها: ما رواه الترمذي، والحاكم، وصححه الحافظ ابن حجر من حديث عُبادة بن الصامت رضي الله عنه رفعه: " ما على الأرض مسلمٌ يدعو بدعوة إلاَّ أتاه الله إيَّاها أو صرف عنه من السوء مثلَها "3. وروى الإمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والحاكم، وغيرهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " ما مِن مسلمٍ يدعو بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعةُ رحِم إلاَّ أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إمَّا أن يُعجِّل له دعوتَه، وإمَّا أن يدَّخِرها له في الآخرة، وإمَّا أن يصرفَ عنه من السوء مثلَها، قالوا: يا رسول الله إذاً نُكثر، قال: الله أكثر "4.

_ 1 فتح الباري (11/345) . 2 فتح الباري (11/95 ـ 96) . 3 سنن الترمذي (رقم:3573) ، فتح الباري (11/96) . 4 المسند (3/18) ، والأدب المفرد (رقم:710) ، والمستدرك (1/493) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب (رقم:547) .

فقد أخبر الصادقُ المصدوق في هذه الأحاديث أنَّه لا بدَّ في الدعوةِ الخالية من العدوان من إعطاء السُؤل معجَّلاً أو مثلِه من الخير مؤجَّلاً أو يصرفُ عنه من السوء مثله، وبهذا يتبيَّن أنَّ إجابةَ الداعي في سؤاله أعمُّ من إعطائه عينَ المسؤول. فهذا هو جواب الاستشكال السابق، وقد ذكر أهل العلم أيضاً جوابين آخرين: أحدهما: أنَّ إجابةَ الداعي لَم تضمَّن عطيَّة السؤال مطلقاً، وإنّما تضمَّنت إجابة الداعي، والداعي أعمُّ من السائل، وإجابةُ الداعي أعمُّ من إعطاء السائل كما تقدَّم معنا في حديث النزول التفريق بينهما بقوله سبحانه: " مَن يدعوني فأستجيب له، مَن يسألني فأعطيه "، ففرق بين الداعي والسائل، وبين الإجابة والإعطاء، لكن الاستشكال مع هذه الإجابة قائمٌ من جهة أنَّ السائلَ أيضاً موعودٌ بالإعطاء كما في الحديث المتقدِّم. الجواب الثاني: أنَّ الدعاءَ في اقتضائه الإجابة شأنه كسائر الأعمال الصالحة في اقتضائها الإثابة، فالدعاءُ سببٌ مقتضٍ لنيل المطلوب والسبب له شروط وموانع، فإذا حصلت شروطه وانتفت موانعه حصل المطلوب، وإلاَّ فلا يحصل ذلك المطلوب، كما هو الشأن في قبول الأعمال الصالحة والكلمات الطيِّبة، وللموضوع صلة

إجابه الدعاء موقوفة على توفر شروط وانتفاء موانع

61 ـ إجابة الدعاء موقوفةٌ على توفُّرِ شروطٍ وانتفاء موانع تقدَّم معنا ذكرُ قول الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 1، وبيانُ ما فيه من دلالة على إجابة الله لِمَن دعاه، وتقدَّم معنا أيضاً استشكالُ بعض أهل العلم لذلك، بأنَّ بعضَ الداعين قد يدعو ويسأل اللهَ أموراً قد لا يرى أنَّه تحقَّق له شيءٌ منها أو تحقَّق له بعضُها دون بعض، وقد أجاب عن ذلك أهلُ العلم بأجوبةٍ عديدة تقدَّم ذكرُ ثلاثةٍ منها، إلاَّ أنَّ أحسنَ ما قيل في ذلك هو أنَّ الدعاءَ سببٌ مقتضٍ لنيل المطلوب، ونيل المطلوب له شروط وموانع، فإذا حصلت شروطُه وانتفت موانعُه تحقَّق المطلوبُ وإلاَّ فلا، كما هو الشأنُ في جميع الأعمال الصالحة والأذكار النافعة، لا تُقبل إلاَّ إذا استوفى المسلمُ شروطَها وابتعد عن موانع قبولها، أما إذا وُجد المانعُ وانتفى الشرط فإنَّ العملَ لا يُقبل. والشأنُ في الدعاء كذلك، فإنَّ الدعاءَ في نفسه نافعٌ مفيدٌ، وهو مفتاحٌ لكلِّ خير في الدنيا والآخرة، لكنه يستدعي قوَّةَ هِمَّة الداعي وصحةَ عزيمَتِه وحسنَ قصدِه وبُعدَه عن الأمور التي تمنع من القبول. قال ابن القيم رحمه الله: " فإنَّه ـ أي الدعاء ـ من أقوى الأسباب في دفعِ المكروه وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلَّف عنه أثرُه؛ إمَّا لضعفٍ

_ 1 سورة غافر، الآية: (60) .

في نفسه بأن يكون دعاءً لا يُحبُّه اللهُ لِمَا فيه من العدوان، وإمَّا لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيَّتِه عليه وقت الدعاءِ، فيكون بمنزلةِ القَوسِ الرَّخوِ جدًّا، فإنَّ السهمَ يخرج منه خروجاً ضعيفاً، وإمَّا لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام والظلمِ ورَيْنِ الذنوب على القلوب، واستيلاءِ الغفلةِ والشهوةِ واللَّهو وغلبتِها عليها، كما في مستدرك الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ادعوا اللهَ وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أنَّ اللهَ لا يَقبلُ دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ "1، فهذا دواءٌ نافع مزيلٌ للدَّاء، ولكنَّ غفلةَ القلب عن الله تُبطلُ قوَّتَه، وكذلك أكلُ الحرام يُبطلُ قوَّته ويُضعفها كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أيُّها الناس، إنَّ اللهَ طيِّبٌ لا يقبل إلاَّ طيِّباً، وإنَّ اللهَ أمَرَ المؤمنين بما أمر به المرسَلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} 2، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} 3، ثمَّ ذَكرَ الرَّجلَ يُطيل السَّفر أشعث أغبر يَمدُّ يديه إلى السماء يا ربِّ يا ربِّ، ومطعمُه حرام، ومشربُه حرامٌ، وملبسُه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك "4 "5.

_ 1 المستدرك (1/493) ، وهو في سنن الترمذي (رقم:3479) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:245) . 2 سورة المؤمنون، الآية: (51) . 3 سورة البقرة، الآية: (171) . 4 صحيح مسلم (رقم:1015) . 5 الجواب الكافي (ص:9 ـ 10) .

فأشار صلوات الله وسلامه عليه في هذا الحديث إلى آداب الدعاء وإلى الأسباب التي تقتضي إجابته وإلى ما يمنع من إجابته، والحديث فيه دلالةٌ عظيمةٌ وإشاراتٌ نافعةٌ في هذا الباب سيأتي بيانُها لاحقاً إن شاء الله. ومِمَّا يدلُّ على أنَّ الدعاءَ متوقِّفٌ في قبوله على وجود شروط وانتفاء موانع، ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يُستجاب لأحدكم ما لَم يعجَل، يقول: دعوتُ فلم يُستجب لي "1. وثبت في صحيح مسلم عنه رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزال يُستجاب للعبد ما لَم يدعُ بإثمٍ أو قطيعة رحِم ما لَم يستعجل، قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوتُ، وقد دعوتُ فلم أَرَ يستجيبُ لي، فيَسْتَحْسِرُ عند ذلك، ويَدعُ الدعاءَ "2. وفي المسند بإسناد جيِّد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يزال العبدُ بخير ما لَم يستعجل، قالوا: يا رسول الله كيف يستعجل؟ قال: يقول: قد دعوتُ ربِّي فلم يستجب لي "3. فاستعجالُ الإجابةِ آفةٌ من الآفات تمنع ترتُّبَ أثر الدعاء عليه، حيث إنَّ المستعجلَ عندما يستبطئ الإجابةَ يستحسرُ ويدعُ الدعاءَ، ويكون

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6340) ، وصحيح مسلم (رقم:2735) . 2 صحيح مسلم (رقم:2735) . 3 المسند (3/193، 210) .

بذلك كما يقول ابن القيم رحمه الله: " بِمنزلةِ مَن بذرَ بذراً، أو غرَسَ غرساً فجعل يتعهده ويسقيه، فلمَّا استبطأ كمالَه وإدراكَه تركَه وأهمله "1. كما أنَّ في قولِه صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: " ما لَم يدْع بإثم أو قطيعة رحم " إشارةً أخرى إلى مانعٍ من موانع قبول الدعاء، وهو أن لا يدعو الإنسانُ بإثمٍ أو معصيةٍ أو سوءٍ يلحقه أو يلحق غيره، وهذا من حكمة الله تبارك وتعالى ولُطفِه بخَلقِه، ولو أنَّه سبحانه أجاب العبدَ في كلِّ ما يريد ويطلب لأدَّى ذلك إلى وقوع مفاسد عديدة له أو لغيره، كما قال سبحانه: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} 2، وقال تعالى: {وَلَوْ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} 3، وقال تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} 4. وبهذا يُعلم أنَّ النصوصَ قد دلَّت على أنَّ إجابةَ الدعاء موقوفةٌ على تحقُّق شروط وانتفاء موانع، وقد أشرتُ إلى بعضها، وسيأتي ذكرُ جملةٍ منها إن شاء الله.

_ 1 الجواب الكافي (ص:13) . 2 سورة يونس، الآية: (11) . 3 سورة المؤمنون، الآية: (71) . 4 سورة الإسراء، الآية: (11) .

أربعة أسباب لإجابة الدعاء

62 ـ أربعة أسباب لإجابة الدعاء إنَّ من الأحاديث العظيمة الجامعة لذكرِ آداب الدعاء وشروطِه وموانعِ قبوله ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ اللهَ تعالى طيِّبٌ لا يقبل إلاَّ طيِّباً، وإنَّ اللهَ تعالى أمَرَ المؤمنين بما أمر به المرسَلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} 1، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 2، ثمَّ ذَكرَ الرَّجلَ يُطيل السَّفر أشعث أغبر يَمدُّ يديه إلى السماء يا ربِّ يا ربِّ، ومطعمُه حرام، ومشربُه حرامٌ، وملبسُه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك "3. هذا الحديث يُعدُّ من جوامعِ كَلِم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جمع فيه صلوات الله وسلامه عليه جملةً طيِّبةً من آداب الدعاء وشروط قبوله، والأمور المانعة من القبول، وقد بدأه عليه الصلاة والسلام بالإشارةِ إلى خطورة أكلِ الحرام، وأنَّه مانعٌ من موانع قبول الدعاء، ومفهوم المخالفة لذلك أنَّ إطابةَ المطعم سببٌ من أسباب قبول الدعاء، كما قال وهبُ ابن منبِّه رحمه الله: " مَن سرَّه أن يستجيب الله دعوتَه فليُطيب طُعْمَتَه "، ولَمَّا سئل سعدُ بن أبي وقاص رضي الله عنه تستجاب دعوتك من بين

_ 1 سورة المؤمنون، الآية: (51) . 2 سورة البقرة، الآية: (171) . 3 صحيح مسلم (رقم:1015) .

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " ما رفعتُ إلى فمي لُقمةً إلاَّ وأنا عالِمٌ من أين مجيئُها ومن أين خرجت "1. أمَّا من استمرأ ـ والعياذ بالله ـ أكلَ الحرام وشربه ولبسَه والتغذي به، فإنَّ فعلَه هذا يكون سبباً موجباً لعدم إجابةِ دعوته، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: " فأنَّى يُستجاب لذلك "، أي كيف يُستجاب له، فهو استفهامٌ وقع على وجه التعجب والاستبعاد، وقد يكون أيضاً ارتكابُ المحرَّمات الفعلية مانعاً من الإجابةِ، وكذلك تركُ الواجبات، كما قال بعض السلف: " لا تستبطئ الإجابةَ وقد سددتَ طُرقَها بالمعاصي "2. ولهذا فإنَّ توبةَ العبد إلى ربِّه، وبُعدَه عن معاصيه، وإقبالَه على طاعته وعبادته، وإطابتَه لمطعمه ومشربِه وملبسه، وانكسارَه بين يديه، وذُلَّه وخضوعَه له سبحانه كلُّ ذلك من موجبات القبول ومن أسباب إجابةِ الدعاء، وأضدادُ ذلك من موجبات الردِّ. لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدِّم أربعةَ أسباب عظيمةٍ لقبولِ الدعاء تقتضي إجابتَه: أحدها: إطالة السفر، والسفر بمجرَّده يقتضي إجابةَ الدعاء، كما في حديث أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " ثلاثُ دعوات مستجابات لا شكَّ فيهنَّ: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده "، رواه أبو

_ 1 أوردهما ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/275) . 2 شعب الإيمان للبيهقي (2/54) .

داود وابن ماجه والترمذي بإسناد حسن، ولفظ الترمذي: " ودعوة الوالد على ولده "1، ومتى طال السفرُ كان أقربَ إلى إجابةِ الدعاء؛ لأنَّه مظنَّةُ حصولِ انكسار النفس بطول الغُربةِ عن الأوطان وتحملِ المشاق، والانكسارُ من أعظم أسباب إجابة الدعاء. الثاني: أن يكون متواضِعاً مُتذلِّلاً مستكيناً، فهذا أيضاً من مقتضيات الإجابة كما في الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم: " رُبَّ أشعث أغبَر مدفوع بالأبواب، لو أَقسمَ على الله لأبرَّه " 2. وعن ابن عباس رضي الله عنهما لَمَّا سُئل عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء؟ قال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متبذِّلاً متواضعاً مُتضرِّعاً ... "، الحديث رواه أبو داود، وغيرُه3. الثالث: مدُّ اليدين إلى السماء، وهو مِن آداب الدعاء التي يُرجى بسببها إجابته، ففي سنن أبي داود وغيره عن سلمان الفارسيِّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ اللهَ حيِيٌّ كريم، يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردَّهما صِفْراً خائبتين "4.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:1536) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3862) ، وسنن الترمذي (رقم:1905) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:596) . 2 صحيح مسلم (2622) . 3 سنن أبي داود (رقم:1165) ، وسنن الترمذي (رقم:558) ، وحسَّنه العلاَّمة الألباني في الإرواء (3/133) . 4 سنن أبي داود (رقم:1488) ، وسنن الترمذي (رقم:3556) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:1753) .

الرابع: الإلحاح على الله بتكرير ذكر ربوبيَّته، وهو من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء، روي عن عطاء أنَّه قال: " ما قال عبدٌ يا رب يا رب ثلاث مرَّات إلاَّ نَظر اللهُ إليه، فذُكر ذلك للحَسن فقال: أما تقرؤون القرآن؟ ثمَّ تلا قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنكُمْ} 1 "2. ولهذا فإنَّ غالبَ الأدعيةِ المذكورةِ في القرآن مفتتحةٌ باسم الربِّ، ولهذا لَمَّا سُئل مالك رحمه الله عمَّن يقول في الدعاء يا سيِّدي، قال: " يقول: يا ربِّ كما قالت الأنبياء في دعائهم "3. فهذه أربعة أسباب عظيمةٍ لإجابة الدعاء انتظمها قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الرجل " يطيل السفر، أشعث أغبر، يمدُّ يديه إلى السماء، يا رب يا رب "، ومع ذلك استبعد صلوات الله وسلامه عليه إجابةَ دعائه؛ لأنَّ

_ 1 سورة آل عمران، الآيات: (191 ـ 195) . 2 حلية الأولياء (3/313) . 3 انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص:98 ـ 101) .

مطعمَه حرامٌ وملبسَه حرامٌ، ومَشربَه حرامٌ، وغُذي بالحرام، فكيف يُستجاب لِمَن كانت هذه حاله. ولهذا فليتق اللهَ عبدُ الله المؤمن في طعامه وشرابه وسائر شؤونه، وليَستعِن بالله على ذلك، فالتوفيق بيده وحده، فنسأله سبحانه أن يرزُقَنا الرزقَ الطيب الحلال، والدعوةَ الصالحة المستجابة، إنَّه نِعم المرجو ونعم المعين.

الدعاء حق خالص لله

63 ـ الدعاءُ حقٌّ خالصٌ لله لقد مرَّ معنا قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: " الدعاء هو العبادة، ثمَّ قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 1 "2، ولا ريبَ أنَّ في هذا الحديث أبلغَ دلالة على عِظم شأن الدعاء، وأنَّه نوعٌ من أنواع العبادة، ولا يخفى على كلِّ مسلم أنَّ العبادةَ حقٌّ خالصٌ لله وحده، فكما أنَّ الله تبارك وتعالى لا شريك له في الخلق والرزق والإحياء والإماتة والتصرُّف والتدبير، فكذلك لا شريك له في العبادة بجميع أنواعها ومنها الدعاء، فمَن دعا غير الله عزَّ وجلَّ طالباً منه أمراً من الأمور التي لا يقدرُ عليها إلاَّ الله فقد عَبَدَ غيرَ الله وأَشركَ معه غيرَه، والله تبارك وتعالى لَم يَبعث رُسلَه ولم يُنزل كتبَه إلاَّ لدعوةِ الناس إلى الإخلاص في العبادة والتحذير من صرفِها لغير الله، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِداً لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 5، وقال تعالى: {أَلاَ للهِ الدِّينُ

_ 1 سورة غافر، الآية: (60) . 2 المسند (4/267) ، وسنن الترمذي (رقم:3247) ، والأدب المفرد (رقم:714) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم:1757) . 3 سورة التوبة، الآية: (31) . 4 سورة البينة، الآية: (5) . 5 سورة الذاريات، الآية: (56) .

الخَالِصُ} 1، والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ. ولهذا فقد تواترت الأدلةُ وتضافرت النصوص في الكتاب والسنة على التحذير من صرفِ الدعاء لغير الله والنهي عن ذلك وذمِّ فاعله بأشدِّ أنواع الذمِّ، حتى صار ذلك من ضروريات هذا الدِّين التي لا يرتابُ فيها كلُّ مَن فهم كتاب الله وسنَّةَ رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تنوَّعت دلالاتُ نصوص القرآن الكريم المشتملةِ على ذلك وتكرَّرت في مواطن كثيرة، وذلك لشدَّةِ خطورةِ دعاء غير الله، ولكونه أكثر أنواع الشرك وقوعاً، حتى قال بعضُ أهل العلم: " لا نعلم نوعاً من أنواع الكفر والرِّدة ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله بالنهي عنه والتحذير من فعلِه والوعيد عليه "2. فمِن هذه النصوص قول الله تبارك وتعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنينَ} 3، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} 4، وقال تعالى: {هُوَ الحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 5.

_ 1 سورة الزمر، الآية: (3) . 2 النبذة الشريفة النفيسة في الردِّ على القبوريِّين، للشيخ حمد بن ناصر بن عثمان آل معمر (ص:37) . 3 سورة الأعراف، الآية: (55 ـ 56) . 4 سورة الإسراء، الآية: (110) . 5 سورة غافر، الآية: (65) .

قال الشوكاني رحمه الله في رسالةٍ له في وجوب توحيد الله عزَّ وجلَّ بعد أن أورد طرفاً من هذه النصوص: " فهذه الآياتُ البيِّنات دلَّت على أنَّ الدعاءَ مطلوبٌ لله عزَّ وجلَّ من عباده، وهذا القدر يكفي في إثبات كونه عبادة، فكيف إذا انضمَّ إلى ذلك النهيُ عن دعاء غير الله سبحانه، قال الله عزَّ وجلَّ: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً} 1، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} 2، وقال سبحانه ناعياً على مَن يدعو غيرَه ضارباً له الأمثال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} 3، وقال تعالى: {قُل ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} 4. فكيف إذا صرَّح القرآنُ الكريمُ بأنَّ الدعاءَ عبادةٌ تصريحاً لا يبقى عنده ريبٌ لمرتابٍ، قال الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 5، فقد طلبَ اللهُ سبحانه من عباده في هذه الآيةِ أن يدعوه، وجعلَ جزاءَ الدعاء له منهم الإجابةَ منه فقال: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، ولهذا جزمه لكونه جواباً للأمر، ثمَّ توعَّدهم على الاستكبار عن هذه العبادة

_ 1 سورة الجنّ، الآية: (18) . 2 سورة الرعد، الآية: (14) . 3 سورة الأعراف، الآية: (194) . 4 سورة سبأ، الآية: (22) . 5 سورة غافر، الآية: (60) .

ـ أعني الدعاءَ ـ بما صرَّح به في آخر الآية وجعل العبادةَ مكان الدعاء تفسيراً له وإيضاحاً لمعناه، وبياناً لعباده بأنَّ هذا الأمرَ الذي طلبه منهم وأرشدهم إليه هو نوعٌ من عبادته التي خصَّ بها نفسَه وخلق لها عباده كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 1، ومع هذا كلِّه فقد جاءت السنة المطهرةُ بما يدلُّ أبلغ دلالة على أنَّ الدعاءَ من أكمل أنواع العبادة ... "2، ثمَّ ذكر رحمه الله ما يدل على ذلك من السنة. إنَّ الواجبَ على كلِّ مسلمٍ أن يدركَ خطورةَ الأمر، وأن يعلمَ أنَّ هذا حقٌّ خالصٌ لله عزَّ وجلَّ لا يجوز أن يُشرَك معه فيه غيرُه، وكيف يُشرَك المخلوقُ الضعيفُ العاجزُ بالملِكِ العظيم الذي بيده أزمَّةُ الأمور، المتفرِّدُ بإجابةِ الدعاءِ وكشف الكروب، الذي له الأمرُ كلُّه، وبيده الخيرُ كلُّه، وإليه يرجعُ الأمرُ كلُّه، لا مُعقِّب لحكمه، ولا رادَّ لقضائه، الذي ما تعلَّق به ضعيفٌ إلاَّ أفاده القوَّةَ، ولا ذليلٌ إلاَّ أناله العزَّةَ، ولا فقيرٌ إلاَّ أعطاه الغنى، ولا مستوحشٌ إلا آنسَه، ولا مغلوبٌ إلاَّ أيَّده ونصره، ولا مضطرٌ إلاَّ كشف ضُرَّه، ولا شريدٌ إلاَّ آواه، فهو سبحانه الذي يجيب المضطرِّين، ويغيثُ الملهوفين، ويُعطي السائلين، لا مانعَ لما أعطى، ولا مُعطي لما منع، لا إله إلاَّ هو الملكُ الحقُّ المبين.

_ 1 سورة الذاريات، الآية: (56) . 2 رسالة في وجوب توحيد الله عزَّ وجلَّ، للشوكاني (ص:56 ـ 58) .

وقد أجمع أهلُ العلم على أنَّ مَن صرف شيئاً من الدعاء لغير الله فهو مشركٌ بالله العظيم، ولو قال لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله، ولو صلَّى وصام؛ إذ شرطُ الإسلام أن لا يُعبدَ إلاَّ الله، فليحذر مَن يريد لنفسه الفوزَ والسعادةَ مِن هذا الإثم المبين والخطرِ العظيم. نسأل الله الكريم أن يُجنِّبنا والمسلمين ذلك، وأن يقينا من الزلل في القول والعمل، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.

أهمية إتباع السنة في الدعاء

64 ـ أهميَّةُ اتباع السنة في الدعاء لقد تقدَّم معنا الإشارةُ إلى جملةٍ من الضوابطِ المهمِّةِ والشروطِ العظيمة التي ينبغي أن يتقيَّدَ بها المسلمُ في الدعاءِ، وأهمُّها هو إخلاصُه لله وحده لا شريك له؛ إذ الدعاءُ نوعٌ من أنواعِ العبادة وفردٌ من أفرادها، والعبادةُ حقٌّ لله عزَّ وجلَّ لا شريك له فيها، فهو سبحانه المعبود بحقٍّ ولا معبود بحقٍّ سواه، ولذا فإنَّ أخطرَ جانبٍ يُخلُّ به في الدعاءِ هو أن يُصرف لغير الله بأن يُجعل لغيره شركةٌ فيه، والله يقول: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ الله مَن لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 1، ويقول تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُو مَعَ اللهِ أَحَداً} 2، والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ، وقد مضى معنا طرفٌ منها. وكما أنَّ الدعاءَ يُشترطُ فيه إخلاصُه لله عزَّ وجلَّ ليكون مقبولاً عنده، فكذلك يُشترطُ فيه المتابعةُ للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؛ إذ إنَّ هذين الأمرين ـ أعني الإخلاصَ والمتابعةَ ـ هما شرطَا قبول الأعمال كلِّها، فلا قبول لأيِّ عملٍ من الأعمال إلاَّ بهما، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: " دين الله أخلصُه وأصوبُه، قيل: يا أبا علي، ما أخلصُه

_ 1 سورة الأحقاف، الآيات: (5، 6) . 2 سورة الجن، الآية: (18) .

وأصوبُه؟ فقال: إنَّ العملَ إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لَم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لَم يُقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالصُ ما كان لله، والصواب ما كان على السنة "1. وقد جاءت السنةُ النبوية بالهدى المبين والسَنن القويم والصراط المستقيم، الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم، سواءً في الدعاء أو في غيره من الأعمال التي يُقصد بها التقرُّبُ إلى الله، فالسنةُ قد دلَّت على جنس المشروع والمستحبِّ في ذكر الله ودعائه كسائر العبادات، فقد بيَّن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لأمَّته ما ينبغي لهم أن يقولوه من ذِكر ودعاءٍ في الصباح والمساء، وفي الصلوات وأعقابِها، وعند دخول المسجد، وعند النوم، وعند الانتباه منه، وعند الفَزَع فيه، وعند تناول الطعام وبَعده، وعند ركوب الدَّابَّةِ، وعند السفر، وعند رؤية ما يُحبُّه المرءُ، وعند رؤيةِ ما يكره، وعند المصيبة، وعند الهمِّ والحزن، أو غير ذلك من أحوال المسلم وأوقاته المختلفة. كما أنَّه صلى الله عليه وسلم بيَّن مراتبَ الأذكار والأدعية وأنواعَها وشروطَها وآدابَها أتمَّ البيان وأوفاه وأكمَلَه، وتركَ أمَّتَه في هذا الباب وفي جميع أبواب الدِّين على محجَّةٍ بيضاء وطريقٍ واضحةٍ لا يزيغُ عنها بعده إلاَّ هالكٌ، فالمشروع للمسلم هو أن يذكرَ اللهَ بما شرع، وأن يدعوه بالأدعيةِ المأثورة؛ لأنَّ الذِّكرَ والدعاءَ عبادةٌ، والعبادةُ مبناها على الاتِّباع

_ 1 رواه ابن أبي الدنيا في كتابه الإخلاص والنية (ص:50 ـ 51) ، وأبو نعيم في الحلية (8/95) .

للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " لا ريب أنَّ الأذكارَ والدعواتِ من أفضل العبادات، والعباداتُ مبناها على التوقيف والاتِّباع، لا على الهوى والابتداع، فالأدعيةُ والأذكارُ النبويَّةُ هي أفضلُ ما يتحرَّاه المتحرِّي من الذِّكر والدعاء، وسالكُها على سبيل أمانٍ وسلامة ... وما سواها من الأذكار قد يكون محرَّماً، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون فيه شركٌ ممَّا لا يهتدي إليه أكثرُ الناس، وهي جملةٌ يطول تفصيلها. وليس لأحدٍ أن يَسُنَّ للناسِ نوعاً من الأذكار والأدعيةِ غير المسنون، ويجعلَها عبادةً راتبةً يواظب الناسُ عليها كما يُواظبون على الصلوات الخمس، بل هذا ابتداعُ دينٍ لَم يأذن الله به، بخلاف ما يدعو به المرءُ أحياناً من غير أن يجعله للناسِ سنة، فهذا إذا لَم يُعلم أنَّه يتضمَّن معنى محرَّماً لَم يُجزم بتحريمه، لكن قد يكون فيه ذلك، والإنسان لا يَشعرُ به، وهذا كما أنَّ الإنسانَ عند الضرورةِ يدعو بأدعيةٍ تُفتحُ عليه ذلك الوقت فهذا وأمثالُه قريب. وأمَّا اتِّخاذُ وِرْدٍ غير شرعيٍّ، واستنانُ ذِكرٍ غير شرعيٍّ فهذا مِمَّا يُنهى عنه، ومع هذا ففي الأدعيةِ الشرعية والأذكار الشرعيةِ غايةُ المطالبِ الصحيحةِ، ونهايةُ المقاصدِ العلية، ولا يَعدلُ عنها إلى غيرها من الأذكارِ المُحدَثةِ المبتَدَعة إلاَّ جاهلٌ أو مفرِّطٌ أو مُتعدٍّ "1. اهـ كلامه رحمه الله.

_ 1 مجموع الفتاوى (22/510 ـ 511) .

ومع أنَّ الأدعيةَ المأثورةَ مشتملةٌ على جِماع الخير وتمامِ الأمرِ ونهايةِ المقاصدِ العليَّة وأشرفِ المطالبِ الصحيحةِ إلاَّ أنَّك ترى في كثيرٍ من الناس مَن يعدِلُ عنها ويرغَبُ في غيرها، بل ولربَّما فضَّل غيرَها عليها، ومِن هؤلاء مَن يجعلُ لنفسه وِرْداً خاصًّا قاله بعضُ الشيوخ، فيلتزمُه ويحافظُ عليه ويعظِّمُ من شأنه، ويقدِّمُه على الأدعية المأثورة، والأورادِ الصحيحةِ الثابتة عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهذا من أشدِّ الناس نكوباً عن الجادَّة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: " ومِن أشدِّ الناس عَيباً مَن يتَّخذُ حزباً ليس بمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان حزباً لبعض المشايخ، ويَدَعُ الأحزابَ النبويَّة التي كان يقولها سيِّدُ بني آدم، وإمامُ المرسَلين، وحجَّةُ الله على عباده "1. وقال العلاَّمة المعلّمي رحمه الله: " ... وما أخسر صفقة مَن يَدَع الأدعيةَ الثابتة في كتاب الله عزَّ وجلَّ، أو في سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكاد يدعو بها، ثمَّ يعمدُ إلى غيرِها فيَتحرَّاه ويُواظبُ عليه، أليس هذا من الظلم والعدوان؟ "2. فالخيرُ كلُّ الخير في اتِّباع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والاهتداءِ بهديِه وترسمِ خُطاه، ولزوم نهجه، فهو القدوةُ لأمَّته، والأُسوةُ الحسنةُ لهم، وقد كان أكملَ الناس ذكراً لله، وأحسنَهم قياماً بدعائه سبحانه.

_ 1 مجموع الفتاوى (22/232) . 2 كتاب العبادة للمعلمي (ص:524 ـ النسخة الخطية) .

ولهذا فإنَّ مَن اجتمع له في هذا الباب لزومُ الأذكار النبوية والأدعية المأثورة مع فهم معانيها ومدلولاتها، وحضورِ القلب عند الذكرِ والدعاءِ بها، فقد كمل نصيبُه من الخيرِ وعظم حظّه من السداد. ولهذا أيضاً اعتنى أهل العلم بجمع الأدعية المأثورة لتكون بين أيدي الناس وفي متناولهم، فيستغنوا بها عن الأوراد المُحدَثة والأدعية المبتدعة، قال الإمامُ أبو القاسم الطبراني رحمه الله في مقدِّمة كتابه الدعاء: " هذا كتابٌ ألَّفته جامعاً لأدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم حداني على ذلك أنِّي رأيتُ كثيراً من الناس قد تمسَّكوا بأدعية سجعٍ، وأدعيةٍ وُضعت على عدد الأيام ممَّا ألَّفها الورَّاقون لا تُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من أصحابه ولا عن أحدٍ من التابعين بإحسان، مع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكراهية للسجعِ في الدعاء والتعدِّي فيه، فألَّفتُ هذا الكتابَ بالأسانيد المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... "1، إلى آخر كلامِه رحمه الله. ومن المؤلفات الجيِّدة في هذا الباب: " الأذكار " للنووي، و" الكلم الطيِّب " لابن تيمية، و" الوابل الصيب " لابن القيم، فحريٌّ بالمسلم أن يُفيدَ من مثل هذه الكتب القيِّمة، المبنيَّة على ما أُثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويَدَع ما سوى ذلك مِمَّا أحدثه الورَّاقون، وأنشأه المتكلِّفون، رزقنا الله جميعاً لزومَ السنَّة واقتفاء آثار خير الأمة صلوات الله وسلامه عليه.

_ 1 الدعاء للطبراني (2/785) .

التحذير من الأدعية المحدثة

65 ـ التحذيرُ من الأدعية المُحدَثة تقدَّم الكلامُ حول أهميَّة التقيُّد بالسنة في الدعاء، وضرورة لزومِ هَدي النبي صلى الله عليه وسلم فيه؛ لأنَّ الدعاءَ عبادةٌ، والعبادةُ مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الهوى والابتداع، وسبق الإشارةُ إلى أنَّ السنةَ قد جاء فيها بيانُ الدعاءِ وجميعُ ما يتعلَّق به بياناً وافياً شافياً لا مزيد عليه بذكر أنواعه وشروطه وآدابه وأوقاته وغير ذلك ممَّا يتعلَّق به. ولهذا فإنَّ المتأكَّدَ على كلِّ مسلمٍ في هذا البابِ العظيمِ أن يجتهدَ في طلب هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الدعاء، وأن يحرصَ أشدَّ الحِرصِ على معرفة سبيله فيه؛ ليقتفي آثاره، وليسير على نهجه، وليلزمَ طريقته صلوات الله وسلامه عليه. ولا يجوز لمسلم أن يلتزم أدعيةً راتبةً أو مُخصَّصة بأوقات معيَّنة أو بصفات معيَّنة سوى ما ورد من ذلك في سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، أمَّا الأدعيةُ العارضةُ التي تحصلُ من المسلم بسبب أمورٍ قد تعرضُ له، فله أن يسألَ اللهَ ما شاء فيما لا يتنافى مع الشرع. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والعباداتُ مبناها على الاتباع، وليس لأحد أن يسُنَّ منها غيرَ المسنون، ويجعلَه عادةً راتبةً يواظب الناسُ عليها، بل هذا ابتداعُ دينٍ لم يأذن به الله، بخلاف ما يدعو به المرء أحياناً من غير أن يجعله سنة "1 اهـ.

_ 1 مجموع مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب " ملحق المصنفات)) (ص:46) في ضمن فوائد عديدة لخَّصها رحمه الله من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

ولهذا نجد أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم بادروا إلى إنكار تخصيص هيئات معيَّنة للأذكار والأدعيةِ أو أوقات معيَّنة أو نحو ذلك ممَّا لَم يرِد به الشرعُ ولم تثبت به السنةُ، ومِن ذلكم إنكارُ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على أولئك النفر الذين تحلَّقوا في المسجد وفي أيديهم حصًى يُسبِّحون بها ويُهلِّلون ويُكبِّرون بطريقة مُحدَثةٍ وصفةٍ مبتدعةٍ، لَم تكن موجودةً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبادرهم بالإنكار ونهاهم عن ذلك أشدَّ النهي، وبيَّن لهم خطورةَ ذلك وسوءَ مغَبَّتِه عليهم، روى الإمام الدارمي رحمه الله بإسنادٍ جيِّد عن عمرو بن سلمة الهمداني قال: " كنّا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخَرَج إليكم أبو عبد الرحمن بعدُ؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلمّا خرج قُمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! إنّي رأيتُ في المسجد آنفاً أمراً أنكرتُه، ولَم أَرَ والحمد لله إلا خيراً، قال: فما هو؟ فقال: إن عِشْتَ فستراه، قال: رأيت في المسجد قوماً حِلَقاً جلوساً ينتظرون الصلاةَ، في كلِّ حَلْقَةٍ رَجلٌ، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبِّروا مائة! فيكبّرون مائة، فيقول: هلِّلوا مائة! فيهلِّلون مائة، ويقول: سبِّحوا مائة! فيسبّحون مائة، قال: فماذا قلتَ لهم؟ قال: ما قلتُ لهم شيئاً انتظارَ رأيِك قال: أفلا أمرتَهم أن يَعُدّوا سيئاتهم وضَمنتَ لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء. ثمَّ مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نَعُدُّ به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدّوا

سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء؛ وَيْحَكم يا أمّة محمد! ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيّكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لَم تَبْلَ، وآنيتُه لَم تكسر، والذي نفسي بيده إنّكم لعلى ملّة هي أهدى من ملّة محمد؟ أو مفتتحوا باب ضلالة؟ قالوا: والله، يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه "1. فتأمّل كيف أنكر عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه على أصحاب الحلقات هؤلاء، مع أنَّهم في حلْقة ذِكرٍ ومجلسِ عبادة لما كان ذكرُهم لله وتعبُّدُهم له بغير الوارد المشروع، وفي هذا دلالةٌ على أنَّه ليس العبرة في العبادة والدعاءِ والذِّكر كثرتَه، وإنَّما العبرةُ في موافقته للسنَّةِ، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه في مقام آخر: " اقتصادٌ في سنة خيرٌ من اجتهاد في بدعة "2، وابن مسعود رضي الله عنه لَم يُنكر عليهم ذكرَهم لله واشتغالَهم بذلك، وإنَّما أنكر عليهم مفارقتهم للسنة في صفة أدائه وكيفيةِ القيام به مع أنَّ الألفاظَ التي كانوا يذكرون الله بها ألفاظٌ صحيحةٌ وردت بها السنة، فكيف الحال بمَن ترك السنة في ذلك جملةً وتفصيلاً في الألفاظ وصفة الأداء وغير ذلك، كالأوراد التي يقرؤها بعض الناس ممَّا كتبه بعضُ أشياخ الطرق الصوفية بصِيَغٍ مختلفةٍ وأساليبَ متنوِّعةٍ ممَّا هو متضمِّنٌ لأنواعٍ من الباطل وصنوفٍ من الضلالِ كالتوسُّلات الشركية والألفاظ البِدعيةِ والأذكار المُحدَثةِ،

_ 1 سنن الدارمي (1/79) (رقم:204) . 2 انظر: المعجم الكبير للطبراني (10/208) .

ويُرتِّبُ هؤلاء لأورادهم وظائف محدَّدة وصفات معيَّنة وأوقات ثابتة، وهذا كلُّه ولا ريب من الإحداثِ في الدِّين، ومن المفارقة لسبيل سيِّد الأنبياء والمرسَلين، والاستعاضة عنه بما أحدثه شيوخ الضلال وأئمة الباطل، وهو تشريعٌ في الدِّين بما لَم يأذن به الله، والله تعالى يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ} 1، ثمَّ تجدُهم مع ذلك يعظِّمون أورادهم هذه ويُعْلُون من شأنها، ويرفعون من قَدْرِها، ويُقدِّمونها على الأوراد الصحيحة والأدعية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضلِ الخلق وأكملِهم ذكراً ودعاءً لربِّه سبحانه. قال القاضي عياضٌ رحمه الله: " أذن الله في دعائه، وعلَّم الدعاءَ في كتابه لخليقته، وعلَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الدعاءَ لأمَّته، واجتمعت فيه ثلاثةُ أشياء: العلمُ بالتوحيد، والعلم باللغة، والنصيحة للأمَّة، فلا ينبغي لأحدٍ أن يعدلَ عن دعائه صلى الله عليه وسلم، وقد احتال الشيطانُ للناس من هذا المقام، فقيَّض لهم قومَ سوء يخترعون لهم أدعيةً يشتغلون بها عن الاقتداء بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "2. وقال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: " فعلى الإنسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء ويدع ما سواه، ولا يقول أختار كذا؛ فإنَّ الله قد اختار لنبيِّه وأوليائه وعلَّمهم كيف يدعون " اهـ3.

_ 1 سورة الشورى، الآية: (21) . 2 انظر: الفتوحات الربانية لابن علان (1/17) . 3 الجامع لأحكام القرآن (4/149) .

فالواجبَ على مَن أراد لنفسه الفضيلةَ والسلامةَ والتمامَ والرِفعةَ أن يلزمَ هديَ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ويتقيَّد بسنَّته، ويدع ما أحدثه المحدِثون وأنشأه المبطلون ممَّا لا أصل له ولا أساس إلاَّ اتِّباعُ الأهواء، والله المستعان وإليه المشتكى وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الآثار السيئة للأدعية المحدثة

66 ـ الآثار السيِّئة للأدعية المُحدَثة لقد تميَّزت الأدعيةُ الشرعية والأذكار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكمالها في مبناها ومعناها، فألفاظُها وعباراتُها موجزةٌ مختصرةٌ، ومعانيها ودلالاتُها عظيمة واسعة، متضمِّنةٌ الخيرَ كلَّه، مشتملةٌ على المقاصد العالية، والمطالب العظيمة، والخيرات العميمة، ولهذا فإنَّ من الخيرِ لكلِّ مسلم، بل من الواجب عليه أن يجتهد قدرَ الاستطاعةِ في تعلُّمها وحفظِها والتعبُّد بها، ويَدَعَ ما سواها من الأوراد والأحزاب المخترعةِ التي أنشأها بعضُ شيوخ الضلالة وأئمة الباطل، والتي صَدُّوا بها كثيراً من عوام المسلمين وجهالهم عن الأدعيةِ المأثورةِ والأذكار المشروعةِ. ومَن يتأمَّل واقعَ بعض المسلمين ولا سيما مَن انتسب إلى بعضِ الطرق الصوفية يجدُ أنَّهم قد انشغلوا بهذه الأذكار المُختَرعةِ والأدعية المبتَدعة، فأصبحوا يتلونَها ليلاً ونهاراً، وصباحاً ومساءً، تاركين بسببها كتاب الله تعالى، مُعرضين عن الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ إنَّ لكلِّ فئةٍ من هؤلاء أوراداً خاصةً يتلونها بطريقة خاصة ونَمط معيَّن، فلكلِّ طريقةٍ من هذه الطرق الصوفية أحزابُها وأورادُها الخاصة و {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 1، وكلٌّ منهم يعتقد أنَّ أورادَه أفضلُ من أوراد الطرق الصوفية الأخرى.

_ 1 سورة المؤمنون، الآية: (53) ، والروم، الآية: (32

وما مِن ريبٍ أنَّ هذه الأدعيةَ المبتدَعَة لها نتائجُها المؤسفة وآثارها السيِّئة على المسلم في عقيدتِه وأعماله التعبُّديَّة، وهي آثارٌ كثيرةٌ يطول حصرُها، لكن قد أوجزها ولخَّصها الشيخ جيلان بن خضر العروسي في كتابه القيِّم: " الدعاءُ ومنزلتُه من العقيدة الإسلامية "1، في النقاط التالية: أولاً: أنَّ الأدعيةَ المبتدعة لا تفي بالغرض المطلوب من العبادات من تزكية النفوس وتطهيرها من الرعونات، وتقريبها إلى باريها، وتعلقها بربِّها رجاءً ورغبة ورهبةً، فهي لا تشفي عليلاً ولا تُروي غليلاً، ولا تهدي سبيلاً. وأما الأدعيةُ المشروعةُ فهي الدواءُ الناجعُ والبلسم الشافي للأدواء النفسية والأمراض القلبية والأهواء الشيطانية، فمَن استبدل بها الأدعية المبتَدعة فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. ثانياً: أنَّ الأدعيةَ المبتدعَة تفوِّت على العبد الأجرَ العظيم والثوابَ الجزيل الذي يحصل لِمَن التزم بالأدعية الواردة وحافظ عليها وطبَّقها كما وردت، فإنَّه يحوز السبق، ويتعرَّض لنفحات الربِّ وجُودِه، بخلاف مَن يدعو بالأدعية المبتَدَعة، فإنَّه يفوِّت على نفسه الأجر والثوابَ ويعرضها لسخط الله وغضبه. ثالثاً: عدم إجابة الأدعية المبتَدَعة مع أنَّ الهدفَ والأساسَ للداعي في الغالب هو إجابةُ مطلوبه، ونيلُ مرغوبه، ودفعُ مرهوبِه، والأدعية

_ 1 انظره: (2/592 ـ 598) .

المبتَدَعة لا يُجاب الداعي بها، ولا تكون متقبَّلةً منه، وفي الحديث: " مَن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "1. رابعاً: أنَّ الأدعيةَ المبتَدَعة تشتمل غالباً على محذورٍ شرعيٍّ، وقد يكون ذلك المحذورُ من وسائل الشرك وذرائعه؛ إذ البدعةُ تجُرُّ إلى الشركِ والضلالِ، فمِن الأدعية البدعية التي تجُرُّ إلى الشرك: التوسُّل البدعي، فهو الذي فتح البابَ لدعاء غير الله والاستغاثة والاستمدادِ بغيره، وقد يكون ذلك المحذورُ اعتداءً في الدعاء ومجاوزةً للحدِّ، وسوءَ أدبٍ في خطاب الربِّ ومناجاته، وقد يكون ذلك المحذورُ ما يصحب تلك الأدعية من بدع أخرى من تحديدها بأوقات معيَّنة وبصفات خاصة، ورفع الأصوات على نغمات معيَّنة، وإيقاعات خاصة وأسجاع مصطنعة، وتراكيب ركيكة تمجُّها الأسماعُ، وتستقبحُها القريحةُ السليمةُ. خامساً: أنَّ الأدعيةَ المبتَدَعةَ مَن التزم بها واعتادها قلَّما يرجع عنها إلى الأدعية المشروعة، إلاَّ إذا وفَّقه اللهُ وأعانه وهداه إلى الخير، وذلك لأنَّ القلوبَ متى اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن، حيث إنَّ الملتزمَ بتلك الأدعية المبتَدَعة يعتقدها مشروعةً ويُدافعُ عنها، ولا يسمع إلى حُجَّةٍ ولا برهانٍ. سادساً: أنَّ استعمالَ الأدعية البدعية، وتركَ الأدعيةَ المشروعة من باب استبدال الخبيث بالطيِّب، والضاربالنافع، والشرِّ بالخير، وهذا ـ ولا ريب ـ غبنٌ فاحش، وتهور ظاهر، وخسارةٌ فادحةٌ.

_ 1 صحيح مسلم (3/1343) .

سابعاً: أنَّ في الأدعيةِ المبتَدَعة المخترعة تشبُّهاً بأهل الكتاب في اختراعهم للأدعية المخالفة لما جاءت به رسلهم، وفيها أيضاً تشبُّه بهم في النَّغمات والإيقاعات والتمايلات وغير ذلك. ثامناً: أنَّ الذي يُلازم الأدعية المبتَدَعة المخترعة لا سيما التي هي مؤلفةٌ من أحزابٍ وأورادٍ يكون في الغالب جاهلاً لمعناها، وتنصرف همَّتُه إلى ألفاظها، وإلى سردها سرداً بدون تدبُّر، مع أنَّ المطلوبَ في الدعاء إحضارُ القلب والإخلاصُ في السؤال، ولا سيما أنَّ كثيراً من هذه الأدعيةِ عبارةٌ عن كلمات مرصوصة خفيَّة المعنى غامضة الدلالة، وهذا الداعي بمثل هذه الأدعية غيرُ سائل ولا داع، بل هو حاكٍ لكلام غيره، ثمَّ إنَّ اختيارَه ذلك الدعاء على غيره من الأدعية لأجل الذي نظمه وإعجابَه به، ففي ذلك تقديس لهذا الذي جمعها، ورفعٌ له فوق منزلته من حيث يعتقدُ الداعي أنَّ لأدعيتِه خاصيَّةً لا توجد في غيرها، وإلاَّ لَما داوم عليها ليل نهار، بل بعضهم يصرِّحُ أنَّ وِرْدَ شيخه أفضلُ الأوراد وأتمُّها وأكملُها. وبهذا يُعلم مدى جناية هذه الأدعية المخترعَة على المسلمين وعِظمُ خطورتها عليهم، وأنَّ الواجبَ على كلِّ مسلم الحذَرُ منها والبُعدُ عنها ومجانبتُها، وأن يقتصرَ على الوارِد والمأثور عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فإنَّه أقومُ قيلاً، وأهدى سبيلاً. وإنَّا لنسأل الله الكريم أن يرزقنا لزومَ سنَّته واتباعَ هديه واقتفاءَ أثرِه وسلوكَ منهجه، إنَّه سميعٌ مجيبٌ.

جوامع الكلم والأدعية المأثورة

67 ـ جوامع الكلم والأدعية المأثورة لا يزال حديثنا موصولاً في بيان فضل الأذكار النبويةِ والأدعيةِ المأثورةِ التي كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم ويعلِّمُها أصحابَه؛ لكمالها في مبانيها ومعانيها، ولاشتمالِها على جوامع الخير وفواتحِه وخواتِمِه، كما قالت أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعجبُه الجوامعُ من الدعاءِ، ويدع ما بين ذلك "، رواه أبو داود في سننه، والإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه1. وروى الفريابي وغيرُه من حديث عائشة أيضاً أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لها: " يا عائشة، عليكِ بجوامع الدعاء: اللَّهمَّ إنِّي أسألكَ من الخيرِ كلِّه عاجلِه وآجلِه، ما علمتُ منه وما لَم أعلم، وأعوذُ بكَ من الشرِّ كلِّه عاجلِه وآجلِه، ما علمتُ منه وما لَم أعلم، اللَّهمَّ إنِّي أسألكَ مِن خيرِ ما سألكَ منه محمدٌ عبدُك ونبيُّك، وأعوذ بك من شرِّ ما عاذ منه عبدُك ونبيُّك، اللَّهمَّ إنِّي أسألكَ الجنَّةَ وما قرَّب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النارِ وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، وأسألكَ ما قضيتَ لي من قضاءٍ أن تجعلَ عاقبتَه رشداً " 2. وخرَّجه الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، 1 سنن أبي داود (رقم:1482) ، والمسند (6/148، 189) ، وصحيح ابن حبان (رقم:867) ، وهو في صحيح أبي داود (رقم:1315) .

_ 2 ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/533) .

والحاكم، وليس عندهم ذكر جوامع الدعاء، وعند أحمد والحاكم: " عليكِ بالكوامل ... "، وذكرَه1. وخرَّجه أبو بكر الأثرم وعنده أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لها: " ما منعكِ أن تأخذي بجوامع الكَلِم وفواتِحَه ... "، وذكر هذا الدعاء2. وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عُلِّم فواتحَ الخير وجوامعَه، أو جوامعَ الخير وفواتحَه وخواتمه ... "3. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، فإنَّه صلى الله عليه وسلم أُعطي جوامع الكلم، وخُصَّ ببدائع الحكَم، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بُعثتُ بجوامع الكَلِم "4، قال الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله: " جوامع الكلم فيما بلغنا أنَّ الله يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تُكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين ونحو ذلك "5 اهـ. وحاصلُه أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يتكلَّم بالكلام الموجَزِ القليلِ اللفظ، الكثير المعاني، وهكذا الشأن في أذكاره وأدعيته صلوات الله وسلامه عليه،

_ 1 المسند (6/134، 146) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3846) ، وصحيح ابن حبان (رقم:869) ، والمستدرك (1/521، 522) . 2 ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/534) . 3 المسند (1/408، 437) . 4 صحيح البخاري (رقم:7013) ، وصحيح مسلم (رقم:523) . 5 ذكره البخاري في صحيحه بإثر حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

كان يُعجبه من ذلك جوامع الذِّكر والدعاء ويدع ما بين ذلك. وإذاً فالواجبُ على كلِّ مسلمٍ أن يعرف عِظَمَ قدر الأدعيةِ النبوية ورفيع مكانتها وأنَّها مشتملةٌ على مجامع الخير وأبواب السعادةِ ومفاتيح الفلاح في الدنيا والآخرة، فخيرُ السؤال أن يسألَ المسلمُ ربَّه مِن خير ما سأله منه عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وسلم، وأفضلُ الاستعاذة أن يستعيذ بالله من شرِّ ما استعاذ منه عبدُ الله ورسولُه صلى الله عليه وسلم، فإنَّ في ذلك فواتحَ الخير وخواتِمَه وجوامعَه، وأوَّلَه وآخرَه، وظاهره وباطنَه، ومن يتأمَّل جميعَ الأدعيةِ الواردةِ في القرآن والسنةِ يجدها كذلك، فإنَّ الله تبارك وتعالى قد اختار لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم جوامعَ الأدعيةِ وفواتح الخير وتمام الأمرِ وكماله في الدنيا والآخرة، فكيف يدَعُ المسلمُ هذا الخيرَ العميمَ والفضلَ العظيم الذي اشتملت عليه أدعيةُ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ويُقبِلُ على أدعيةٍ أخرى لغيره ممَّن لا تُؤمَنُ غائلتُهم من شيوخ الضلال وأئمَّة الباطل، المتكلِّفين في الدِّين ما ليس منه، ولهذا يقول الخطابي رحمه الله: " أولى ما يُدعى به ويُستعمل منه ما صحَّت به الروايةُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عنه بالأسانيد الصحيحة، فإنَّ الغلطَ يعرض كثيراً في الأدعية التي يختارها الناس لاختلاف معارفهم وتباينِ مذاهبهم في الاعتقاد والانتحال، وبابُ الدعاء مطيَّةٌ مظنَّةٌ للخطر، وما تحت قدم الداعي دحضٌ، فليحذر فيه الزلل، وليسلك منه الجَدَد، الذي يؤمن معه العِثار، وما التوفيق إلاَّ بالله عزَّ وجلَّ "1. اهـ.

_ 1 شأن الدعاء للخطابي (ص:2 ـ 3) .

ومَن يتأمَّل الأدعيةَ المأثورة التي جاءت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجدُ فيها الجمالَ والكمالَ والوفاءَ بتحقيق المطالبِ العاليةِ، والمقاصدِ الرفيعةِ، والخيرِ الكاملِ في الدنيا والآخرة، مع السلامة فيها والأمان من الوقوع في الخطأ والزلل، فهي معصومة من ذلك؛ لأنَّها وحيُ الله وتنزيله. ولذا نجد أئمةَ العلم الأمناءَ الناصحين يُرغِّبون الناسَ في المحافظةِ على الأدعيةِ المأثورة والأذكار المشروعة، ويعتنون تمام الاعتناءِ بربط الناس بكتاب ربِّهم وسنَّةِ نبيِّهم صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ في ذلك السلامةَ والعصمةَ والفوزَ بأكبر الغنيمة، ومن ذلك قول الإمام الجليل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة، فإنَّ ذلك لا ريب في فضله وحُسنِه، وأنَّه الصراطُ المستقيم، صراطُ الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقا "1. فتأمَّل كلامَ هذا الإمام الناصح وغيرِه من أهل العلم أهل السنة والجماعة كيف أنَّهم كرَّسوا جهودَهم وبذلوا أوقاتَهم وأنفاسَهم في سبيلِ تفقيهِ الناسِ بالسنَّةِ وربطِهِم بِها ودعوتِهم إلى تحقيقها وحسنِ القيام بها؛ إذ هي صراطُ الله المستقيم وحبلُه المتين. تأمَّل قولَه رحمه الله: " ينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة " تجد فيه تمامَ النصيحةِ للخَلْق وصِدقَ القيام

_ 1 مجموع الفتاوى (1/346) .

بالحقِّ، بخلاف أئمةِ الضلال ودعاةِ الباطل، فإنَّهم يدعون الناسَ إلى أنفسهم ويربطونهم بأشخاصهم، فتراهم يُنشئون للناس أوراداً وأدعيةً من قِبَل أنفسهم، ويعظمون من شأنِها، ويُعلونَ من قدرها رغبةً في تكثير الأتباع واستقطاب المريدين، كما قال الصحابيُّ الجليلُ معاذ بن جبل رضي الله عنه: " إنَّ مِن ورائِكم فتناً يكثر فيها المالُ، ويُفتحُ فيها القرآن حتى يأخذَه المؤمنُ والمنافقُ والرَّجلُ والمرأةُ والصغيرُ والكبيرُ والعبدُ والحرُّ، فيوشكُ قائلٌ أن يقول: ما للناسِ لا يتَّبعوني وقد قرأتُ القرآنَ؟ ما هم بمتَّبعيَّ حتى أبتدعَ لهم غيرَه، فإيَّاكم وما ابتدع، فإنَّ ما ابتدعَ ضلالةٌ "، رواه الإمام أبو داود في سننه والآجريُّ في الشريعة، وسنده صحيح1. فليكن المسلمُ على تَمام الحذر من مثل هؤلاء، وليحرص تَمام الحرص على لزوم السُّنَّة، ففيها السلامة والرِّفعة، والتوفيق بيد الله وحده.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:4611) ، والشريعة (رقم:90، 91) .

أهمية العناية بالألفاظ النبوية في الذكر والدعاء

68 ـ أهميَّة العناية بالألفاظ النبوية في الذِّكر والدعاء تقدَّم معنا الإشارةُ إلى عِصمةِ الأدعيةِ المأثورة في مبناها ومعناها، وسلامتِها من الخطأ والزللِ في ألفاظها ودلالتها؛ لأنَّها وحيُ الله وتنزيلُه، اختارها اللهُ لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم وعلَّمه إيَّاها، فعلِمَها صلوات الله وسلامه عليه وعمل بها على التمام والكمال، وبلَّغها أمَّتَه البلاغ المبين، وتلقاها عنه صحبُه الكرام خيرَ تلقٍّ فعملوا بها واجتهدوا في تطبيقها وعمارةِ الأوقات بها، ثمَّ بلَّغوها مَن وراءَهم وافيةً تامَّةً بحروفها وألفاظها، فكان لهم بذلك الحظُّ الأوفرُ والنصيب الأكملُ من قوله صلى الله عليه وسلم: " نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها، ثمَّ أدَّاها إلى مَن لَم يسمعها "1، ولعلنا نقف وقفة، نتأمَّلُ فيها حرصَ الصحابة رضي الله عنهم على ضبطِ الأدعيةِ النبويَّة وتعلُّمِها، وحرصَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على توجيههم وتسديدِهم فيها. فمِن ذلك ما ورد في عدَّةِ أحاديث متعلِّقة بالذِّكر والدعاء أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُعلِّمهم إيَّاها كما يُعلِّمهم السورةَ من القرآن الكريم. منها ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُعلِّمهم هذا الدعاءَ كما يُعلِّمهم السورةَ من

_ 1 المسند (1/437) ، (4/80) ، وسنن الترمذي (رقم:2657) ، وسنن ابن ماجه (رقم:232) ، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:6766) .

القرآن يقول: اللَّهمَّ إنَّا نعوذ بك من عذاب جهنَّم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنةِ المسيح الدجَّال، وأعوذ بكَ من فتنة المحيا والممات "1. وكذلك دعاء الاستخارة في صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا دعاءَ الاستخارة كما يُعلِّمنا السورةَ من القرآن "2. قال ابن أبي جمرة: " التشبيه في تحفظ حروفه وترتيب كلماته ومنع الزيادة والنقص فيه والدرْسِ له والمحافظة عليه، ويَحتمل أن يكون من جهة الاهتمام به والتحقق لبركته والاحترام له، ويحتملُ أن يكون من جهة كون كلٍّ منهما علم بالوحي "3 اهـ. ومن ذلك أيضاً أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم كانوا يأتونه ويطلبون منه أن يعلِّمهم دعاءً يدعون به مع أنَّهم كانوا أهلَ علمٍ وفصاحةٍ، ومن هذا ما رواه البخاري ومسلم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنَّه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللَّهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوبَ إلاَّ أنتَ فاغفرْ لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنَّك أنت الغفور الرحيم "4، قال الحافظ في الفتح: " وفي هذا الحديث من الفوائد أيضاً: استحباب طلبِ التعليم

_ 1 صحيح مسلم (رقم:590) . 2 صحيح البخاري (رقم:1162) . 3 فتح الباري (11/184) . 4 صحيح البخاري (رقم:834) ، وصحيح مسلم (رقم:2705) .

من العالِم، خصوصاً في الدعوات المطلوبِ فيها جوامعُ الكلِم "1. اهـ. ومِن ذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُصوِّبُ من يخطئ منهم ولو في لفظ من ألفاظ الذِّكر والدعاء، كما في الصحيحين من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتيتَ مَضجعَك فتوضَّأ وضوءك للصلاة، ثمَّ اضطجع على شِقِّك الأيمن وقل: اللَّهمَّ أسلمتُ وجهي إليك، وفوَّضتُ أمري إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلاَّ إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلت، وبنبيِّك الذي أرسلت، فإن مُتَّ متَّ على الفطرة، فاجعلهنّ آخر ما تقول، فقلت أستذكرهنّ: وبرسولك الذي أرسلت، قال: لا، وبنبيِّك الذي أرسلت "2. قال الحافظ في الفتح: " وأولى ما قيل في الحكمة في ردّه صلى الله عليه وسلم على من قال الرسول بدل النبيّ أنَّ ألفاظ الأذكار توقيفيّة، ولها خصائص وأسرار لا يدخلها القياس، فيجب المحافظة على اللّفظ الذي وردت به "3. ومن ذلك أيضاً أنَّ الإنسان قد يختار لنفسه صيغةً معيَّنةً من الدعاء يرى أنَّ فيها تحقيق سعادته في الدنيا والآخرة، ويخفى عليه ما قد تتضمّنه من شرٍّ أو خطر إمّا في الدنيا أو الآخرة، بينما الأدعية النبوية

_ 1 فتح الباري (2/320) . 2 صحيح البخاري (رقم:247) ، (رقم:6311) ، وصحيح مسلم (رقم:2710) . 3 فتح الباري (11/112) .

ليس فيها إلاَّ الخير والصلاح والسلامة في الدنيا والآخرة، روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خفَتَ فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إيّاه، قال: نعم كنت أقول: اللَّهمَّ ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهمّ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النّار، قال: فدعا اللهَ له فشفاه "1. فجمع له صلوات الله وسلامه عليه في هذا الدعاء العظيم الذي أرشده إليه بين خيري الدنيا والآخرة والسلامة فيهما من جميع الشرور. ومن ذلك أيضاً أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم كانوا ينكرون على من يسمعون منه المخالفة لهدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الذِّكر والدعاء والأمثلة على ذلك عنهم كثيرة منها: ما رواه الترمذي والحاكم عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما: " أنَّه سمع رجلاً عطس فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، فقال له، ما هكذا علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قال: إذا عطس أحدكم فليحمد الله، ولم يقل وليصلّ على رسول الله "2.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2688) . 2 سنن الترمذي (رقم:2738) ، والمستدرك (4/265) ، وصححه العلاَّمة الألباني رحمه الله في الإرواء (3/245) .

وروى أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال: سمِعَني أبي وأنا أقول: " اللهمّ إنّي أسألك الجنّة ونعيمها وبهجتها، وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا، فقال: يا بنيّ إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سيكون قومٌ يعتدون في الدعاء " فإيّاك أن تكون منهم، إن أعطيت الجنّة أعطيتها وما فيها من الخير، وإن أُعذتَ من النار أُعذت منها ومن ما فيها من الشرّ "1. ومثلُه ما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم عن عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه أنّه سمع ابنَه يقول: اللهمّ إنّي أسألك القصرَ الأبيض عن يمين الجنّة إذا دخلتُها، فقال: أي بنيّ! سل الله الجنّة وتعوّذ به من النار، فإنّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سيكون في هذه الأمّة قومٌ يعتدون في الطُّهور والدعاء "2. فهذه نماذج يسيرة تبيِّن مكانةَ الدعاء النبوي وأهميّة العناية بألفاظه المأثورة لكمالِها ورِفعتِها وسلامتِها ووفائها بتحقيق أهمّ المطالب وأجلِّ الغايات.

_ 1 المسند (1/172) ، وسنن أبي داود (رقم:1480) ، وصححه العلاَّمة الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (رقم:1313) . 2 المسند (4/86، 87) ، (5/55) ، وسنن أبي داود (رقم:96) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3864) ، وصححه العلاَّمة الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (رقم:87) .

التحذير من الاعتداء في الدعاء

69 ـ التحذير من الاعتداء في الدعاء إنَّ من الضوابطِ المهمَّةِ للدعاء أن يحذر المسلمُ أشدَّ الحَذر من الاعتداء فيه، والاعتداءُ هو تجاوز ما ينبغي أن يُقتصرَ عليه، يقول الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} 1، فأرشد تبارك وتعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ عبادَه إلى دعائه الذي هو صلاحُ دينهم ودنياهم وآخرتهم، ثمَّ نهاهم سبحانه في هذا السياق عن الاعتداء بإخباره أنَّه لا يحبُّ المعتدين، فدلَّ ذلك على أنَّ الاعتداء مكروهٌ له مسخوطٌ عنده، لا يُحبُّ فاعلَه، ومن لا يحبُّه الله فأيُّ خيرٍ ينال، وأي فضلٍ يُؤمِل. ثمَّ إنَّ النهيَ عن الاعتداء في الآية وإن كان عاماً يشملُ كلَّ نوع من الاعتداء، إلاَّ أنَّه لمجيئِه عقِب الأمر بالدعاء يدلُّ دلالةً خاصة على المنع من الاعتداءِ في الدعاء والتحذير منه، وبيانِ أنَّ الدعاءَ المشتملَ على الاعتداء لا يحبُّه الله من عباده ولا يرضاه لهم؛ ولهذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} قال: " في الدعاء ولا في غيره "2. وعن قتادة في معنى الآية قال: " اعلموا أنَّ في بعض الدعاء اعتداء فاجتنبوا العدوان والاعتداء إن استطعتم ولا قوة إلاَّ بالله ".

_ 1 سورة الأعراف، الآية: (55) . 2 تفسير الطبري (5/207) .

وعن الربيع في معنى الآية قال: " إيَّاك أن تسأل ربَّك أمراً قد نُهيتَ عنه أو ما ينبغي لك ". وعن ابن جريج في معنى الآية قال: " إنَّ من الدعاء اعتداءً، يُكره رفع الصوت والنداءُ والصياحُ بالدعاء، ويؤمرُ بالتضرُّع والاستكانة "1. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على أنَّ من الأمَّة مَن سيقع في الاعتداء في الدعاء، وهو صلى الله عليه وسلم عندما أخبر بذلك أخبر به محذِّراً منه ناهياً عنه مبيناً لخطره، وهذا من تَمام وكمال نصحه لأمَّته صلوات الله وسلامه عليه، وهو أيضاً من علامات نُبوَّته صلى الله عليه وسلم. روى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وغيرُهم عن عبد الله بن مغفل: أنَّه سمع ابنه يقول: " اللَّهمَّ إنِّي أسألك القصرَ الأبيض عن يمين الجنَّة إذا دخلتها، فقال: أي بُنيَّ سلِ الله الجنَّة وتعوَّذ بالله من النار، فإنِّي سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في هذه الأمة قومٌ يعتدون في الدعاء والطُهور "2. وروى الإمام أحمد، وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص أنَّه سمع ابناً له يدعو يقول: " اللَّهمَّ إنِّي أسألك الجنَّة ونعيمَها وإستبرقها ونحواً من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، فقال: لقد سألتَ اللهَ خيراً كثيراً، وتعوَّذتَ بالله من شرٍّ كثير، وإنِّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1 تفسير الطبري (5/207) . 2 المسند (4/86، 87) ، (5/55) ، وسنن أبي داود (رقم:96) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3864) ، وصححه العلاَّمة الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (رقم:87) .

يقول: إنَّه سيكون قومٌ يعتدون في الدعاء، وقرأ هذه الآية: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} ، وإنَّ بحسبِك أن تقول: اللَّهمَّ إنِّي أسألك الجنَّة وما قرَّب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قول أو عمل "1. فأخبر صلوات الله وسلامه عليه أنَّه سيكون قومٌ من أمته يعتدون في الدعاء ناهياً عن ذلك، وليكون المسلمون في حَيطةٍ وحَذرٍ من الوقوع في شيء منه، ولا سبيل إلى السلامةِ من ذلك إلاَّ بلزوم السنة واقتفاء آثار الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال عليه الصلاة والسلام: " فإنَّه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين مِن بعدي تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ "2. إنَّ الاعتداءَ في الدعاء بابٌ واسعٌ، ومَهْيَعٌ فجٌّ؛ إذ هو كما تقدَّم تعريفُه: تجاوز ما ينبغي أن يُقتصرَ عليه، وعلى هذا فكلُّ مخالفةٍ للسنة ومفارقة للهدي النبوي الكريم في الدعاء يُعدُّ اعتداء، ومن المعلوم أنَّ المخالفات متنوِّعةٌ وكثيرةٌ لا يجمعها نوعٌ واحد، ثمَّ هي أيضاً متفاوتةٌ في خطورتها، فمِن الاعتداءِ ما قد يبلغ حدَّ الكفر، ومنه ما هو دون ذلك، فمَن اعتدى في دعائه بأن دعا غيرَ الله أو سأله أو طلب منه

_ 1 المسند (1/172) ، وسنن أبي داود (رقم:1480) ، وصححه العلاَّمة الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (رقم:1313) . 2 المسند (4/127) ، وسنن أبي داود (رقم:4607) ، وسنن الترمذي (رقم:2676) ، وصححه العلاَّمة الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (رقم:2157) .

كشف ضرِّه أو جلب نفعه أو شفاءَ مرضه أو نحو ذلك، فقد وقع في أعظمِ أنواع الاعتداء في الدعاء وأشدِّها خطراً، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ الله مَن لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 1، وحاصلُ كلام المفسرين في معنى هذه الآية أنَّ الله تعالى حكم بأنَّه لا أضلُّ مِمَّن يدعو من دون الله مَن لا يستجيب له إلى يوم القيامة، ومعنى الاستفهام في الآية إنكارُ أن يكون في الضُلاَّل كلِّهم أبلغُ ضلالاً مِمَّن عبَد غيرَ الله ودعاه، حيث يترك دعاء السميعِ المجيبِ القدير، ويدعو مِن دونه الضعيفَ العاجزَ الذي لا قدرة له على الاستجابة، كما قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} 2، فهذا أخطرُ أنواع الاعتداء في الدعاء وأشدُّها ضرراً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فهؤلاء أعظمُ المعتدين عدواناً، فإنَّ أعظم العدوان الشرك وهو وضع العبادة في غير موضعها، فهذا العدوان لا بدَّ أن يكون داخلاً في قوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} "3. وأيُّ اعتداءٍ أعظم وأشدُّ من هذا، أن يَصرفَ العبدُ حقَّ الله الخالص الذي لا يجوز أن يُصرف لأحدٍ سواه إلى مخلوقٍ لا يَملكُ لنفسه ضرًّا

_ 1 سورة الأحقاف، الآية: (5) . 2 سورة الرعد، الآية: (14) . 3 مجموع الفتاوى (15/23) .

ولا رَشداً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فضلاً عن أن يَملك شيئاً من ذلك لغيره، قال الله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا} 1، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} 2، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِن ظَهِيرٍ} 3. وما من ريب أنَّ هذا هو أعظم العدوان وأشد الانحراف والطغيان، نسأل الله العافية والسلامة.

_ 1 سورة الفرقان، الآية: (3) . 2 سورة الأعراف، الآية: (194) . 3 سورة سبأ، الآية: (22) .

من الاعتداء في الدعاء

70 ـ من الاعتداء في الدعاء إنَّ مِمَّا ينبغي للمسلم أن يتنبّه له في أمر الدعاء أن يحذرَ غايةَ الحَذَر من الاعتداء فيه، فإنَّ اللهَ جلَّ وعلا لَماَّ أَمر عبادَه في آية الأعراف بالدعاء تضرعاً وخفيةً أخبر في أثناء ذلك بأنَّه لا يحب المعتدين، وذلك في قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} 1، وهذه الآيةُ الكريمةُ وإن كان التحذيرُ فيها من الاعتداء وَرَدَ بصيغةِ العموم متناولاً لكلِّ نوعٍ من أنواع الاعتداء، إلاَّ أنَّ تناولَها للتحذير من الاعتداء في الدعاء أكثرُ لِمَجيئِها في سياق الأمر به وذِكرِ شروطه وآدابه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وقوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} قيل: المراد إنَّه لا يحبُّ المعتدين في الدعاء، كالذي يَسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير ذلك، وقد روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن مغفَّل أنَّه سمع ابنَه يقول: " اللَّهمَّ إنِّي أسألك القصرَ الأبيض عن يمين الجنَّة إذا دخلتها، فقال: يا بُنيَّ سلِ الله الجنَّة وتعوَّذ به من النار، فإنِّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في هذه الأمة قومٌ يعتدون في الطُهور والدعاء "2. ثمَّ قال رحمه الله: وإن كان الاعتداء مراداً بها فهو من جملة المراد

_ 1 سورة الأعراف، الآية: (55) . 2 سنن أبي داود (رقم:96) ، والمسند (4/86، 87) ، (5/55) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3864) ، وصححه العلاَّمة الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (رقم:87) .

والله لا يحب المعتدين في كلِّ شيء دعاءً كان أو غيرَه، كما قال الله تعالى: {وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} 1 "2 اهـ. وعلى هذا فإنَّ الآيةَ الكريمة تكون دالةً على أمرين اثنين: أحدهما: محبوبٌ إلى الله مرغَّبٌ فيه، وهو دعاءُ الله عزَّ وجلَّ تضرُّعاً وخُفيةً. والثاني: مكروهٌ له مسخوطٌ عنده، مُحذَّرٌ منه أشدَّ التحذير، وهو الاعتداء، فأمر بِما يُحبُّه وندب إليه ورغَّب فيه، وحذَّر مما يُبغضُه، وزجر عنه بما هو أبلغ طرق الزجر والتحذير، وهو إخبارُه سبحانه بأنَّه لا يحبُّ فاعلَه، ومَن لا يحبُّه الله فأيُّ خيرٍ ينال وأيُّ فضلٍ يؤمل3. ومن هنا كان متأكَّداً على كلِّ مسلم أن يكون في حذرٍ بالغٍ وحَيْطةِ كاملة من الاعتداء في الدعاء بتجاوز حدِّ الشريعة فيه، والبعدِ عن ضوابِطه وأصولِه المعلومة، والاعتداء مشتقٌّ من العدوان، وهو تجاوز ما ينبغي أن يُقتصر عليه من حدود الشريعة وضوابِطها المعلومة، كما قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} 4، أي أنَّ ما فصله الله سبحانه لعباده من الشرائع والأحكام يجب ملازمتُه والوقوفُ عنده وعدمُ تعدِّيه {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} 5، وأيُّ ظلمٍ

_ 1 سورة البقرة، الآية: (190) . 2 مجموع الفتاوى (15/22 ـ 23) . 3 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (15/23 ـ 24) . 4 سورة البقرة، الآية: (229) . 5 سورة الطلاق، الآية: (1) .

للنفس أنكى وأشد من تجاوز الحدود الشرعية وضوابطها المهمَّة المتَّبَعة. ثمَّ كيف يُؤَمِّل في الإجابة ويَطمع في القبول مَن يتجاوز في دعائه ضوابطَ الشريعة ويتعدَّى حدودَها المقرَّرة، فالدعاءُ المعتدَى فيه لا يحبُّه الله ولا يرضاه، فكيف يؤمل صاحبُه أن يُستجاب منه ويُقبل. والاعتداء في الدعاء يتناولُ أموراً عديدة متفاوتةً في الخطورة والبُعدِ عن الحقِّ والاعتدال، إلاَّ أنَّ أشدَّ الاعتداء خطراً وأعظمَه ضرراً على صاحبِه دعاءُ غير الله تعالى، فإنَّ ذلك أعظمُ العدوان وأقبحُ الذُّلِّ والهوان؛ إذ كيف يتوجَّه المخلوق بدعائه ورجائه وذُلِّه وخضوعه إلى مخلوق مثله لا يُعطي ولا يمنع، ولا يخفض ولا يرفع، ويَدَعُ مَن بيده أزمَّة الأمور ومقاليدُ السموات والأرض؛ ولهذا فإنَّ مَن يدعو غيرَ الله وهو يؤمِل أن يُستجاب له قد بلغ النهاية في الضلال ولم يحصل مِن ذلك إلاَّ على الخَيْبة والحِرمان والذُّلِّ والخُسران في الدنيا والآخرة {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ الله مَن لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 1. ومِن الاعتداء في الدعاء سؤالُ الله عزَّ وجلَّ ما لا يجوز أن يُسأَلَه من المعونة على فعلِ المُحرَّمات وارتكاب الذنوب وغشيان المعاصي، كأن يسأل الله أن يعينه على سفر يريد به الإثمَ والباطلَ، أو أن يُيسِّرَ له طريقاً للفاحشة والعدوان.

_ 1 سورة الأحقاف، الآية: (5) .

ومن الاعتداء في الدعاء أن يسألَ الله ما عُلم من حكمته سبحانه أنَّه لا يفعله، كأن يسأله تخليده إلى يوم القيامة، أو أن يسأله أن يرفع عنه لوازمَ البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب والهواء، أو أن يسأله إطلاعَه على غَيبِه وما استأثر سبحانه بعلمه، أو أن يسأله أن يَجعلَه من المعصومين، أو أن يَهبَ له ولداً من غير زوجة، ونحو ذلك مِمَّا سؤالُه اعتداءٌ لا يحبُّه الله ولا يحب فاعله1. ومن الاعتداء في الدعاء سؤالُ الله ما لا يليق بالسائل من المنازل والدرجات، كأن يسأل الله منازلَ الأنبياء والمرسَلين، أو يكون ملَكاً أو نحو ذلك. وكذلك من العدوان في الدُّعاء أن يدعوَ اللهَ غير متضرِّع، بل دعاء هذا يكون كالمستغنِي المدلِي على ربِّه. ومن الاعتداء أن يَعبدَه بِما لَم يشرع، ويُثنِي عليه بِما لَم يُثنِ به على نفسِه ولا أذِنَ فيه. ومن الاعتداء في الدعاء كذلك الدعاءُ على المؤمنين باللَّعنة والخِزي والهوان، قال بعضُ السلف في معنى المعتدين في الآية المتقدِّمة: " هم الذي يدعون على المؤمنين فيما لا يحلُّ، فيقولون: اللَّهمَّ اخزِهم، اللَّهمَّ الْعَنْهم "2. وجاء عن سعيد بن جُبير في معنى الآية قال: " لا تدعوا على المؤمن

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (15/22) . 2 تفسير البغوي (2/166) .

والمؤمنة بالشَّرِّ: اللَّهمَّ اخْزِه والْعَنه ونحو ذلك، فإنَّ ذلك عدوان "1. ومن الاعتداء رفع الصوت به رفعاً يُخلُّ بالأدب، قال عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج: " إنَّ من الدعاء اعتداء: يكره رفعُ الصوت والنداءُ والصياحُ بالدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة "2. وعموماً فإنَّ الإنسانَ بحسب مفارقته للسنة وابتعاده عن هدي خير الأمة محمد بن عبد الله صلواتُ الله وسلامه عليه يكون نصيبُه من الاعتداء والتجاوز، ومَن لزِمَ هديَ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وتقيَّد بسنَّته أمِن من الزَلل، وحفظ بإذن الله من الخطل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وإنَّما اشتغلت قلوب طوائف من الناس بأنواع من العبادات المبتدَعة إمَّا بالأدعية، وإمَّا من الأسفار، وإمَّا من السماعات ونحو ذلك؛ لإعراض قلوبِهم عن المشروع، وإن قاموا بصورة المشروع، وإلاَّ فمَن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه عاقلاً لما اشتملت عليه من الكلِم الطيب والعمل الصالح مهتماً بها كلَّ الاهتمام أَغْنَتْه عن كلّ ما يَتوهم فيه خيراً من جنسها، ومَن أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بعقله، وتدبَّر بقلبه وجد فيه من الفهم والحلاوة والهدى وشفاء القلوب والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام لا منظومه ولا منثوره، ومَن اعتاد الدعاءَ المشروع في أوقاته كالأسحار وأدبار الصلوات والسجود ونحو ذلك،

_ 1 رواه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور للسيوطي (3/475) . 2 تفسير الطبري (5/207) .

أغناه عن كلِّ دعاء مبتدَع في ذاته، أو في بعض صفاته، فعلى العاقلِ أن يجتهدَ في اتِّباع السنة في كلِّ شيء من ذلك، ويعتاض عن كلِّ ما يظنُّ من البدع أنَّه خيرٌ بنوعِه من السنن، فإنَّه من يتحرَّى الخيرَ يُعطه، ومَن يتوقَّى الشرَّ يوقه ". اهـ كلامه رحمه الله1. وهو كما ترى كلامٌ عظيمُ النفع جليلُ الفائدة من عَلَم الأعلام وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأسكنه الجنَّة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء وأوفرَه.

_ 1 اقتضاء الصراط المستقيم (ص:384) .

من آداب الدعاء إخفاؤه

71 ـ من آداب الدعاء إخفاؤُه مرَّ معنا قولُ الله تبارك وتعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} ، وما فيه من نهيٍ وتحذيرٍ من الاعتداء في الدعاء بجميع صُوَرِه، وأنَّ الدعاءَ الذي يتضمَّنُ الاعتداءَ لا يحبُّه الله ولا يرضاه ولا يَقبله، مِمَّا يتطلَّب من المسلمِ الحيطةَ والحذَرَ من الوقوع في شيء من ذلك. والآيةُ الكريمةُ مع هذا تضمَّنت أيضاً بيانَ أدبٍ آخر عظيمٍ من آداب الدعاءِ، ألا وهو إخفاؤُه وإسرارُه وعدمُ الجهرِ به، وذلك في قوله سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} ، أي: سرًّا لا علناً، كما قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} ، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه قال: " رفع الناسُ أصواتَهم بالدعاءِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّها الناس، اربَعُوا على أنفسِكم، فإنَّكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنَّ الذي تدعونَه سميعٌ قريبٌ "1. قال الحسن البصريُّ: " لقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرضِ من عملٍ يقدرون أن يعملوه في السرِّ فيكون علانيةً أبداً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يُسمع لهم صوتٌ، إن كان إلاَّ همساً بينهم وبين ربِّهم عزَّ وجلَّ، وذلك أنَّ الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّك

_ 1 صحيح البخاري (رقم:2992) ، وصحيح مسلم (رقم:2704) .

تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} ، وذلك أنَّ اللهَ ذكَرَ عبداً صالحاً رضيَ فِعلَه فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} 1 "2. وقال ابن جُريج رحمه الله: " يكره رفعُ الصوت والنداءُ والصياحُ في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة "3. فإخفاء الدعاء وعدمُ الجهرِ به أدبٌ لا بدَّ منه، ويترتَّبُ عليه من الفوائد والفضائل والمنافعِ ما لا يُعدُّ ولا يُحصى، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لإخفاء الدعاء فوائدَ عديدةً يتبيَّن من خلالها أهميَّةُ إخفاء الدعاء وكثرةُ العوائدِ والفضائل المترتِّبةِ على إخفائِه. أحدها: أنَّه أعظمُ إيماناً؛ لأنَّ صاحبَه يعلم أنَّ الله يسمع الدعاءَ الخفيَّ. وثانيها: أنَّه أعظمُ في الأدب والتعظيمِ، فإذا كان يسمع الدعاءَ الخفيَّ فلا يليق بالأدب بين يديه إلاَّ خفض الصوت به. ثالثها: أنَّه أبلغُ في التضرُّعِ والخشوع، الذي هو روح الدعاء ولُبُّه ومقصودُه، فإنَّ الخاشعَ الذليلَ إنَّما يسألُ مسألةَ مسكين ذليلٍ، قد انكسر قلبُه وذلَّت جوارحُه وخشع صوتُه. رابعها: أنَّه أبلغُ في الإخلاص. خامسُها: أنَّه أبلغُ في جَمعيَّةِ القلبِ على الذِّلَّةِ في الدعاء، فإنَّ رفعَ

_ 1 سورة مريم، الآية: (3) . 2 الزهد لابن المبارك (ص:45) ، وتفسير الطبري (5/514) . 3 تفسير الطبري (5/515) .

الصوتِ يفرقه، فكلما خفض صوتَه كان أبلغَ في تجريدِ همَّته وقصدِه للمدعو سبحانه. سادسها: أنَّه دالٌّ على قربِ صاحبِه للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد، ولهذا أثنى الله على عبدِه زكريا بقوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} 1، فلمَّا استحضر القلبُ قُرْبَ الله عزَّ وجلَّ، وأنَّه أقربُ إليه من كلِّ قريبٍ أخفى دعاءَه ما أمكنه. سابعُها: أنَّه أدْعى إلى دوامِ الطلبِ والسؤال، فإنَّ اللسانَ لا يمَلُّ، والجوارحَ لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوتَه، فإنَّه قد يملُّ اللسان، وتضعفُ قواه، وهذا نظير من يقرأُ ويكرِّر، فإذا رفع صوتَه فإنَّه لا يطول له، بخلاف مَن خفض صوتَه. ثامنها: أنَّ إخفاءَ الدعاء أبعدُ له من القواطعِ والمشوشات، فإنَّ الداعيَ إذا أخفى دعاءَه لَم يدرِ به أحدٌ، فلا يحصلُ على هذا تشويشٌ ولا غيره، وإذا جهر به فرطت له الأرواحُ البشريَّة ولا بدَّ، ومانعته وعارضته، ولو لَم يكن إلاَّ أن تعلقها به يُفزع عليه همتَه، فيضعفُ أثرُ الدعاء، ومَن له تجربةٌ يعرف هذا، فإذا أسرَّ الدعاءَ أمِن هذه المفسدةَ. تاسعُها: أنَّ أعظمَ النعمةِ الإقبالُ والتعبُّد، ولكلِّ نعمةٍ حاسد على قَدرِها، دقَّت أو جلَّت، ولا نعمةَ أعظمُ من هذه النعمةِ، فإنَّ أنفسَ الحاسدين متعلِّقةٌ بها، وليس للمحسود أسلمُ من إخفاءِ نعمتِه عن

_ 1 سورة مريم، الآية: (3) .

الحاسدِ، وقد قال يعقوب ليوسف عليهما السلام: {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} 1 الآية. فهذه جملةٌ من الفوائدِ العظيمةِ والثمارِ الكريمةِ التي تترتَّبُ على إخفاءِ الذِّكرِ وعدمِ الجهرِ به، ومِن خلالها يظهرُ للمسلم أهميَّةُ إخفاءِ الدعاء وإسرارِه، بخلاف الجهرِ به وإعلانِه، فإنَّه يترتَّبُ عليه ضِدُّ ذلك. ثمَّ إنَّ شيخ الإسلام رحمه الله عقَدَ مقارنةً مفيدةً بين الذِّكرِ والدعاءِ في هذا الباب، بعد أن بيَّنَ أنَّ كلَّ واحدٍ من الدعاء والذِّكر يتضمَّن الآخرَ ويدخل فيه، قال رحمه الله: " وتأمَّل كيف قال [تعالى] في آيةِ الذِّكر: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضُرُّعاً وَخِيفَةً} 2، وفي آية الدعاء قال: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} 3، فذكر التضرُّعَ فيهما معاً، وهو التذلُّلُ والتمسكنُ والانكسارُ، وهو روحُ الذِّكر والدعاء. وخصَّ الدعاء بالخُفية لِما ذكرنا من الحِكَم وغيرها، وخصَّ الذِّكرَ بالخِيفَة لحاجة الذَّاكر إلى الخوف، فإنَّ الذِّكرَ يستلزم المحبَّةَ ويُثمرُها، ولابدَّ لِمَن أكثرَ من ذكر الله أن يُثمرَ له ذلك محبَّتَه، والمحبَّةُ ما لَم تقترن بالخوفِ فإنَّها لا تنفعُ صاحبَها بل تضرُّه؛ لأنَّها توجبُ التواني ... فما حفظت حدود الله ومحارمه، ووصل الواصلون إليه بمثلِ خوفِه ورجائه ومحبَّتِه، فمتى خلا القلبُ من هذه الثلاث فسد فساداً لا يُرجى صلاحه

_ 1 سورة يوسف، الآية: (5) . 2 سورة الأعراف، الآية: (205) . 3 سورة الأعراف، الآية: (55) .

أبداً، ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانُه بحسبه، فتأمَّل أسرارَ القرآن وحكمته في اقتران الخِيفَةِ بالذِّكر، والخُفيةِ بالدعاء. ... وذكرَ الطمعَ الذي هو الرجاءُ في آية الدعاءِ؛ لأنَّ الدعاءَ مبنيٌّ عليه، فإنَّ الداعيَ ما لَم يطمع في سؤالِه ومطلوبِه لَم تتحرَّك نفسيتُه لطلبه؛ إذ طَلَبُ ما لا طمعَ له فيه ممتنعٌ. وذَكَرَ الخوفَ في آية الذِّكرِ لشدَّةِ حاجة الخائف إليه، فذكَرَ في كلِّ آيةٍ ما هو اللائقُ بها من الخوفِ والطمعِ، فتباركَ مَن أنزلَ كلامَه شفاءً لِمَا في الصدور "1. اهـ كلامُه رحمه الله. وإذا كان الجهرُ بالدعاءِ يترتَّبُ عليه ما تقدَّم من فواتٍ لتلكَ المصالحِ والفوائدِ إن كان صادراً من فردٍ، فلا ريبَ أنَّ صدورَه من جماعة وبأداءٍ واحد أبلغُ في تفويتِ تلك المصالحِ والفوائد المترتِّبةِ عليه وكان السلفُ رحمهم الله يعدُّون ذلك نوعاً من الإحداث في الدِّين والخروج عن نهج سيِّدِ المرسَلين. روي عن مجالد بن مسعود السلمي رضي الله عنه: أنَّه سمع قوماً يعجُّون في دعائهم، فمشى إليهم، فقال: أيُّها القوم، لقد أصبتُم فضلاً على مَن كان قبلكم، أو لقد هلكتم، فجعلوا يتسلَّلون رجلاً رجلاً حتى تركوا بُقعتَهم التي كانوا فيها "2. فالله وحده المستعان، وهو ولِيُّ التوفيق والسداد.

_ 1 مجموع الفتاوى (15/19 ـ 20) . 2 أورده السيوطي في الدر المنثور (3/475) .

أنواع التوسل المشروع

72 ـ أنواع التوسُّل المشروع إنَّ مِن آداب الدعاء العظيمة التوسلَ إلى الله تبارك وتعالى بين يدي الدعاء بما شرعه وأحبَّه ورضيَه لعباده وسيلةً تقرِّبهم إليه، يقول الله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ} 1، أي: القُربة، ومن المعلوم أنَّ التوسلَ إلى الله والتقرُّبَ إليه وطلَبَ مرضاته إنَّما يكون بما شرع وأحبَّ، لا بالأهواء والبِدع، وهذا بابٌ هامٌّ للغاية ينبغي للمسلم أن يتفطَّن له، وأن يحذرَ من الوقوعِ في المخالفةِ فيه؛ إذ إنَّ من الناسِ مَن يقعُ في هذا البابِ في مخالفات عديدةٍ وانحرافاتٍ متنوِّعةٍ، وهو يظنُّ أنَّ ما يفعله أمرٌ يُقرِّبه إلى الله، ووسيلةٌ تدنيه منه، إلاَّ أنَّ التوسُّلَ إلى الله والتقرُّبَ إليه لا يكون نافعاً للعبد مقبولاً عند الله إلاَّ إذا كان مشروعاً قد دلَّ على مشروعيَّته كتابُ الله وسنةُ رسوله صلى الله عليه وسلم، وعند التأمُّل للنصوص في هذا نجد أنَّها قد دلَّت على أنواع معيَّنةٍ يُشرع للعباد أن يتوسَّلوا إلى الله بها، وهي: أولاً: التوسُّلُ إلى الله بأسمائه الحسنى الواردة في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاًمَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} 3.

_ 1 سورة المائدة، الآية: (35) . 2 سورة الأعراف، الآية: (180) . 3 سورة الإسراء، الآية: (110) .

ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالى: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصَّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} إلى آخر السورة، فقدَّم بين يدي الدعاء وهو قوله: {اهْدِنَا الصَّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} الثناءَ على الله بذِكر أسمائه الحسنى العظيمة، ومِن ذلك أيضاً قولُ الداعي: يا رحمن ارحمني، أو يا غفور اغفر لي، أو يا رزاق ارزقني، ونحو ذلك من التوسلات إلى الله بأسمائه الحسنى. ثانياً: التوسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحةِ التي يقوم بها العبدُ، كأن يتوسَّل إلى الله بالإيمان به وطاعته واتِّباع رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبَّته، ومن هذا النوع قولُ الله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 1، وقوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} 2، ومِن ذلك توسُّل النفر الثلاثةِ بأعمالهم عندما انطبقت عليهم الصخرة وهم في الغار، فاستجاب الله دعاءَهم وفرج همَّهم، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " بينما ثلاثة نَفَرٍ يتَمَشَّوْنَ أخذَهم المطرُ، فأَوَوا إلى غار في جبل فانحطت على فمِ غارِهم صخرةٌ من الجبل، فانطبقت عليهم، فقال بعضُهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتُمُوها صالحةً

_ 1 سورة آل عمران، الآية: (16) . 2 سورة آل عمران، الآية: (193) .

لله، فادعوا الله تعالى بها لعلَّ الله أن يفرِّج عنكم، فقال أحدهم: اللَّهمَّ إنَّه كان لي والدان شيخان كبيران، وامرأتي ولِي صِبْيةٌ صغارٌ أرعى عليهم، فإذا أرحتُ عليهم حلبتُ، فبدأتُ بوالديَّ فسقيتُهما قبل بَنِيَّ، وإنَّه نأى بي ذات يومٍ الشجر، فلم آت حتى أمسيتُ، فوجدتُهما قد ناما، فحلبتُ كما كنتُ أحلبُ، فجئتُ بالحِلابِ فقمتُ عند رؤوسِهما، أكره أن أوقظَهما من نومِهما، وأكره أن أسقيَ الصِبيةَ قبلهما، والصِبيةُ يتَضَاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبَهُم حتى طلع الفجرُ، فإن كنتَ تعلم أنِّي فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافرج لنا منها فرجةً، نرى منها السماء، ففرَج الله منها فرجةً فرأوا منها السَّماءَ. وقال الآخرُ: اللَّهمَّ إنَّه كانت لي ابنةُ عمٍّ أحببتها كأشدِّ ما يحبُّ الرجالُ النساءَ، وطلبتُ إليها نفسَها فأبَت حتى آتيها بمائة دينار، فتعبتُ حتى جمعتُ مائةَ دينار، فجئتها بها، فلمَّا وقعت بين رجليها قالت: يا عبدَ الله اتَّقِ اللهَ ولا تفتح الخاتَم إلاَّ بحقِّه، فقُمتُ عنها، فإن كنتَ تعلمُ أنِّي فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافرج لنا منها فرجةً ففرج لهم. وقال الآخرُ: اللَّهمَّ إنِّي كنتُ استأجرتُ أجيراً بفَرَق أَرُزٍّ، فلمَّا قضى عملَه قال: اعطني حقِّي، فعرضتُ عليه فرقَه، فرغب عنه، فلم أزَل أزرعه حتى جمعتُ منه بقراً ورِعاءَها، فجاءني، فقال: اتَّق الله ولا تظلمني حقِّي، قلت: اذهب إلى تلك البقر ورِعائِها، فخذها، فقال: اتقِّ الله ولا تستهزئ بي، فقلتُ: إنِّي لا أستهزئ بك، خذ ذلك البقر ورِعاءَها، فأخذه فذهب به، فإن كنتَ تعلم أنِّي فعلتُ ذلك ابتغاء

وجهك فافرج لنا ما بقي، ففرج الله ما بقي "1. فهؤلاء توسَّل كلُّ واحد منهم إلى الله تعالى بعملٍ صالحٍ يحبُّه اللهُ ويرضاه، فكان ذلك سبباً لإجابة دعائهم وتحقيق رجائهم وكشف كربتهم. ثالثاً: التوسل إلى الله تعالى بدعاء الصالحين الأحياء، بأن يطلب المسلم من أخيه الحيّ الحاضر أن يدعو الله له، فهذا النوع من التوسل مشروعٌ لثبوته عن بعض الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان بعضهم يأتيه صلوات الله وسلامه عليه ويطلب منه الدعاء له أو لعموم المسلمين، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ أعرابياًّ قام يوم الجمعة والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: يا رسول الله! هلك المالُ وجاع العيالُ، فادع اللهَ لنا، فرفع يديه ـ وما نرى في السماء قَزَعَة ـ فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثمَّ لَم ينزل عن مِنبره حتى رأيتُ المطرَ يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم.. "، إلى آخر الحديث، ومثله كذلك توسل الصحابة رضي الله عنهم بدعاء العباس رضي الله عنه، وهو في صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله عنه " أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قُحطوا استسقى بالعباس ابن عبد المطلب، فقال: اللهمّ إناَّ كناَّ نتوسّل إليك بنبيِّنا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإناَّ نتوسّل إليك بعمِّ نبيِّنا فاسقنا، قال: فيسقون "2.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:2333) ، وصحيح مسلم (رقم:2743) . 2 صحيح البخاري (رقم:1010) .

والمراد بقوله " إناَّ نتوسّل إليك بعمِّ نبيِّنا " أي بدعائه. فهذه الأنواع الثلاثة من التوسل كلُّها مشروعة لدلالة نصوص الشرع عليها، وأمّا ما سوى ذلك مما لا أصل له، ولا دليل على مشروعيته فينبغي على المسلم أن يجتنبه، والله الموفِّق.

التحذير من الأنحراف في فهم معنى التوسل

73 ـ التحذير من الانحراف في فهم معنى التوسُّل تقدم الحديث عن التوسل أو ابتغاء الوسيلة إلى الله وهو لفظ شرعي ورد في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ} 1، وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى ربِّهِم الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} 2. وهذه الوسيلةُ التي أمر الله أن تُبتَغى إليه وأَخبَر عن ملائكتِه وأنبيائِه أنَّهم يَبتغونها إليه، وهي ما يُتقرَّب به إليه من الواجبات والمستحبات، وما ليس بواجبٍ ولا مستَحبٍّ لا يدخل في ذلك سواء كان مُحرَّماً أو مكروهاً أو مباحاً. والواجب والمستحبُّ هو ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم فأَمر به أَمرَ إِيجابٍ أو استحبابٍ، وأصلُ ذلك الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا يُمكن أن يُقال إنَّ جماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتِّباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا وسيلة لأحد إلى الله إلاَّ بذلك. وسبق الإشارةُ إلى أنواعٍ ثلاثةٍ من التوسُّلِ قام الدليلُ على مشروعيَّتِها في دعاء المسلم لربِّه، وهي التوسُّلُ إلى الله بأسمائه، والتوسُّلُ إليه بالأعمال الصالحة، والتوسُّلُ إليه بدعاء الصالحين الأحياء. لكن

_ 1 سورة المائدة، الآية: (35) . 2 سورة الإسراء، الآية: (57) .

ينبغي على المسلم أن يعلم أنَّ لفظ الوسيلة والتوسل صار فيه إجمالٌ واشتباه في إطلاقات الناس وفهومهم بسبب كثرة الأهواء وانتشار البدع، ولهذا فإنَّ الواجبَ أن تُعرف معانيه ويُعطى كلُّ ذي حقٍّ حقَّه، فيُعرف ما ورد به الكتابُ والسنة من ذلك ومعناه، وما كان يتكلّم به الصحابةُ ويفعلونه من ذلك، وأيضاً ينبغي أن يُعرف ما أحدثه المحدِثون في هذا اللفظ ومعناه، إذ إنَّ المفاهيم الخاطئة في هذا الباب قد كثُرت، والأهواء والبدع فيه عمّت وانتشرت، فأُدخل في معنى التوسل أمورٌ كثيرةٌ محدثةٌ لا أصل لها ولا أُسُسَ، لَم تكن موجودةً زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن معروفةً في شيء من الأدعية المشهورة بينهم. وأخطرُ ما كان ويكون في هذا الأمرِ هو دعاءُ الأموات والغائبين والاستغاثةُ بهم وسؤالُهم وإنزالُ الحوائج بهم، وطلبُهم قضاءَ الحاجات، وكشفَ الكربات، وشفاءَ المرضى ونحو ذلك، وتسميّة ذلك توسلاً، فجعل هؤلاء لفظ التوسل متكأً لهم نشروا من خلالِه هذه الأمور الكفرية والضلالات الخطيرة، وحقيقةُ هذه الأمور أنَّها توسُّلٌ إلى الشيطان لا إلى الرحمن وإلى الضلال والباطل لا إلى الحقِّ والهُدى؛ إذ هي من الشرك الأكبر الناقل من الملّة والعياذ بالله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وإن قال أنا أسأله لكونه أقربَ إلى الله منِّي، ليشفع لي في هذه الأمور؛ لأنِّي أتوسل إلى الله به كما يُتوسَّل إلى السلطان بخواصِّه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى، فإنَّهم يزعمون أنَّهم يتخذون أحبارَهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم، وكذلك أخبر الله عن المشركين أنَّهم قالوا

{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} 1، وقال سبحانه وتعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَ لَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 2، وقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفَيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} 3، وقال تعالى {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 4، فبيّن الفرقَ بينه وبين خلقِه، فإنَّ مِن عادةِ الناس أن يستشفعوا إلى الكبير من كبرائهم بمن يكرُمُ عليه فيسأله ذلك الشفيع، فيقضي حاجتَه إما رغبة وإما رهبةً وإما حياءً وإما مَوَدَّةً وإما غير ذلك، والله سبحانه لا يشفعُ عنده أحدٌ حتى يأذن هو للشافع، فلا يفعلُ إلاَّ ما شاء، وشفاعةُ الشافع من إذنه فالأمر كلُّه له "5 اهـ كلامه رحمه الله. إنَّ تسميةَ هذه الأمور الشركية توسلاً لا يغيّر من حقيقة الأمر، ولا يغني من الحقِّ شيئاً، فمجرَّدُ الاختلافِ في التسمية لا يؤثر تحليلاً ولا تحريماً، فالحلال لو سمّاه أحدٌ بغير اسمه لا يصبح حراماً، والحرام إذا سمّاه أحد بغير اسمه لا يصبح حلالاً، فمَن أطلق على الخمر غيرَ اسمِها وشَرِبَها كان حكمُه حكمَ مَن شرِبَها وهو يُسَمِّيها باسمها بلا خلاف بين المسلمين.

_ 1 سورة الزمر، الآية: (3) . 2 سورة الزمر، الآيات: (43، 44) . 3 سورة السجدة، الآية: (4) . 4 سورة البقرة، الآية: (255) . 5 مجموع الفتاوى (27/72 ـ 73) .

ولا شك أنَّ الدعاءَ من جملة العبادات، بل هو أفضل أنواع العبادة، فصَرْفُه لغير الله شرك، وتسمية ذلك توسلاً لا يغير من حقيقة الأمر شيئاً، فمن دعا المخلوقين من الموتى والغائبين واستغاث بهم كان مشركاً بالله العظيم وخسر الخسران المبين. ولقد فتح هؤلاء بهذه الضلالات الطريق أمام أعداء الدين لنشر ضلالهم، وإنفاذ باطلهم، والدفاع عن عقائدهم، والكيد للمسلمين، وإليكم قصةً عجيبةً فيها تجليةٌ لهذا الأمر وبيانٌ لخطورته: لقي ثلاثةٌ من الرهبان شيخَ الإسلام ابن تيمية فناظرهم رحمه الله وأقام عليهم الحجةَ بأنَّهم كفار، وأنَّهم ليسوا على ما كان عليه إبراهيم وعيسى عليهما السلام، فقالوا له: نحن نعمل مثل ما تعملون: أنتم تقولون بالسيدة نفيسة، ونحن نقول بالسيدة مريم، وقد أجمعنا نحن وأنتم على أنَّ المسيح ومريم أفضل من الحسين ومن نفيسة، وأنتم تستغيثون بالصالحين الذين قبلكم ونحن كذلك. فانظر أخي المسلم كيف فتح هؤلاء الطريق أمام أعداء الدين عندما شابهوهم في العمل وابتعدوا عن روح الإسلام وحقيقته. ولهذا أجاب شيخ الإسلام هؤلاء الرهبان بقوله: إنَّ مَن فعل ذلك ففيه شبهٌ منكم، وهذا ما هو دينُ إبراهيم الذي كان عليه، فإنَّ الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه السلام أن لا نعبد إلاَّ الله وحده لا شريك له ولا نِدَّ له ولا صاحبة ولا ولد له، ولا نشرك معه ملكاً ولا شمساً ولا قمراً ولا كوكباً، ولا نشرك معه نبياً من الأنبياء ولا صالحاً، وذكر رحمه الله أموراً بيّن فيها حقيقةَ توحيد الأنبياء والمرسَلين بخلاف ما عليه

أولئك المبطلون، فلما سمع الرهبان ذلك قالوا له: الدينُ الذي ذكرته خيرٌ من الدين الذي نحن وهؤلاء عليه، ثمّ انصرفوا من عنده1. فهذه القصة فيها عظة وعبرة وفوائد متنوِّعة، أهمُّها ضرورة العناية بدين الله عزَّ وجلَّ كما جاء ووَرَد، بعيداً عن انحراف المُضلِّين وضلال المُبطلِين، والله وحده المستعان.

_ 1 مجموع الفتاوى (1/370 ـ 371) .

من التوسل الباطل دعاء الصالحين من دون الله

74 ـ من التوسُّل الباطل دعاء الصالِحين من دون الله لقد تقدَّم معنا الكلامُ على التوسُّل وبيانُ معناه الصحيح الثابتِ في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك سبق الإشارةُ إلى وجود جملةٍ من المفاهيم الخاطئةِ والتقريرات الفاسدة شاعت بين بعض الناسِ ظنُّوها من التوسلِ المشروعِ المقرِّبِ إلى الله عزَّ وجلَّ، وربَّما أيضاً حَمل بعضَهم حبُّهم للأولياء والصالحين على تعظيمهم تعظيماً غيرَ مشروع بالاستغاثةِ بهم، ودعائهم مِن دون الله، وإنزال الحاجات بهم، وتسميةُ ذلك توسُّلاً. إنَّ من الواجب على المسلمِ في هذا الباب العظيم أن يعرف للأولياء والصالحين قدرَهم ومكانتَهم ومنزلتَهم دون أن يحمله ذلك على الغلوِّ فيهم؛ إذ إنَّ الغلوَّ في الأولياء والصالحين أصلُ الشرك وسببُه في قديم الزمان وحديثه، لقرب الشرك بهم من النفوس، فإنَّ الشيطان يُظهرُ ذلك في قالب المحبَّة والتعظيم والاحترام والتوقير للأولياء والصالحين. روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 1، قال: " هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلمَّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسّخَ العلمُ عُبدت "2.

_ 1 سورة نوح، الآية: (23) . 2 صحيح البخاري (رقم:4920) .

وبهذا يتبيَّن أنَّ الشيطانَ يتنقَّلُ بهؤلاء في طريق الباطل عبر مراتبَ عديدة، ودرجات متنوِّعة إلى أن يصلَ بهم إلى غايةِ الباطلِ ومنتهاه، فيبدأ معهم عدوُّ الله أولاً بدعوتهم إلى تعظيم الصالحين تعظيماً مبتدعاً بالبناء على قبورهم أو اتخاذ تصاويرَ لهم أو نحوِ ذلك، فإذا فعلوا ذلك نقلَهم إلى ما هو أعظمُ من ذلك، وهو الإقسام على الله بهم، وشأنُ الله أعظمُ مِن أن يُقسم عليه أو يُسأل بأحد مِن خلقه، فإذا تقرَّر ذلك عندهم نقلَهم مِن ذلك إلى دعائِهم وعبادتِهم وسؤالهم الشفاعةَ مِن دون الله واتخاذِ قبورهم أوثاناً يُعكفُ عليها، وتُعلَّقُّ عليها القناديلُ والستورُ، ويُطاف بها وتستلم وتُقبَّل ويحجُّ إليها ويُذبحُ عندها، فإذا تقرَّر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادتها واتخاذها عيداً ومَنسكاً ورأوا أنَّ ذلك أنفعُ لهم في دنياهم وأُخراهم. فإذا تقرَّر ذلك عندهم نقلهم منه إلى التحذير ممَّن ينهى عن ذلك ووصفِه بأنَّه يتنقَّص الصالحين ويحطُّ من أقدارهم ولا يُعظِّمهم ونحو ذلك، ومعلوم أنَّ ذلك ليس من التعظيم في شيء؛ بل من البهتان المبين والكفرِ الصريحِ والضلالِ العظيمِ. إنَّ بابَ التعظيم عندما لا يُضبطُ بالضوابط الشرعية، ولا يتقيَّدُ فيها بنصوص الكتاب والسنةِ يوقِعُ الإنسانَ في صنوف من الخطأ وأنواع من الضلال، يتوهَّمُ أنَّها من التعظيم وليست كذلك، والشرعُ المطهَّرُ قد دلَّ على مشروعيةِ تعظيم الأنبياء والأولياء والصالحين في حدودٍ معيَّنةٍ، دون رفعٍ لهم عن منزلتهم التي أنزلهم الله إيَّاها، فمَن عظَّمهم بغير ما حُدَّ في الشرعِ وأتت به الأدلةُ فقد جاء بضدِّ التعظيم ونقيضِه، ولهذا قال

الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لِمَن أطراه: " أنا محمد بن عبد الله عبدُ الله ورسولُه، والله ما أحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزَّ وجلَّ "1، فمَن عظَّمه صلى الله عليه وسلم بما لا يُحبُّ فإنَّما أتى بضدِّ التعظيم، والتعظيمُ الحقُّ قد دلَّ عليه الشرعُ ومحلُّه القلب واللسان والجوارح. أمَّا التعظيمُ بالقلب فهو ما يتبعُ اعتقاد كونِه رسولَ الله من تقديم محبَّتِه على النفس والولد والوالد والناسِ أجمعين، ويُصدِّق هذه المحبَّةَ أمران: أحدهما: تجريد التوحيد لله سبحانه وتعالى، فإنَّه صلى الله عليه وسلم كان أحرصَ الناس على تجريدِه حتى قطع أسبابَ الشركِ ووسائلَه من جميعِ الجهات، فنهى أن يُقال " ما شاء الله وشئتَ "، وأن يُحلف بغير الله، وأخبر أنَّ ذلك شركٌ، ونهى أن يُصلَّى إلى القبورِ، وأن تُتَّخذَ مسجداً أو عيداً، أو أن يُوقد عليها السُرُجَ، أو غير ذلك ممَّا قرَّره صلى الله عليه وسلم أتمَّ التقرير بقوله وفِعلِه وهديِه، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم إنَّما يكون بموافقته على ذلك لا بمناقضتِه فيه. الأمر الثاني: تجريدُ متابعته وتحكيمُه وحده في الدقيق والجليلِ من أصولِ الدين وفروعه، والرضا بحكمه والانقيادُ له والتسليمُ والإعراضُ عمَّن خالفه، وعدمُ الالتفات إليه حتى يكون وحده الحاكمَ المتبَعَ المقبولَ قولُه، كما كان ربُّه تعالى وحده المعبودَ المألوهَ المخوفَ المرجوَّ المستعانَ لا شريك له

_ 1 المسند (3/153) ، وصحيح ابن حبان (رقم:6240) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه العلاَّمة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:1572) .

أمَّا تعظيمُه صلى الله عليه وسلم باللسان، فيكون بالثناءِ عليه بما هو أهلُه مِمَّا أثنى به على نفسه وأثنى به عليه ربُّه من غير غلوٍّ ولا تقصيرٍ، فكما أنَّ المقصِّرَ المفرِّطَ تاركٌ لتعظيمه، فالغالي المُفْرِط كذلك، وكلٌّ منهم شرٌّ من الآخر من وجهٍ دون وجه، وأولياؤُه سلكوا بين ذلك قَواماً. أمَّا التعظيمُ بالجوارحِ فهو العملُ بطاعته والسعيُ في إظهارِ دينِه وإعلاءِ كلماتِه ونصرِ ما جاء به، وبتصديقِه فيما أخبر وطاعتِه فيما أَمَرَ والانتهاءِ عمَّا نهى عنه وزَجَر، والموالاةُ والمعاداةُ والحبُّ والبغضُ لأجلِه وفيه، وتحكيمُه وحده والرضا بحكمِه1. فهذا هو مدارُ دينِه عليه الصلاة والسلام، وبهذا يكون تعظيمُه وتوقيرُه، وهذا هو التعظيمُ الحق المطابقُ لحال المعظَّمِ النافعُ للمعظِّم في معاشه ومعاده، خلافاً لِمَن سلكَ في حقِّه صلى الله عليه وسلم جانبَ الغلوِّ والإفراطِ، أو جانبَ الجفاءِ والتفريطِ، وكلا هذين قد أضاعوا الواجبَ عليهم تجاه رسولهم الكريم محمد بن عبد الله عليه صلوات الله وسلامه وبركاته. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى بنَ مريم فإنَّما أنا عبدٌ فقولوا عبد الله ورسوله "، رواه البخاري2، ورغم وضوح هذا المنهجِ وبيانه إلاَّ أنَّ أهل الأهواءِ أبَوا إلاَّ مخالفةَ أمره وارتكاب نهيه وناقضوه أعظمَ المناقضةِ، وظنُّوا أنَّهم إذا وصفوه بأنَّه عبد الله ورسوله وأنَّه لا يُدعى ولا يُستغاثُ به ولا يُنذرُ له

_ 1 انظر: الصارم المنكي لابن عبد الهادي (ص:452 ـ 454) . 2 صحيح البخاري (رقم:3445) ،

ولا يُطافُ بحُجرتِه ونحو ذلك، أنَّ في ذلك هضماً لجنابه وغضًّا من قدرِه وانتقاصاً من شأنِه، وقد جهل هؤلاء أنَّ التعظيمَ للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إنَّما يكون بالمتابعةِ له في هديِه ولزومِ نهجه وترسُّمِ خُطاه، لا بالأهواء والضلالات والبدعِ والمنكرات.

أوقات يستجاب فيها الدعاء

75 ـ أوقاتٌ يُستجابُ فيها الدعاء إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لَمَّا شرع لعبادِه الدعاء ورغَّبهم فيه وحثَّهم عليه ووعدهم عليه الإجابةَ تفضُلاً منه سبحانه وتكرُّماً؛ هيَّأ لهم مع ذلك أمكنةً فاضلةً وأزمنةً فاضلةً، وآداباً عظيمةً يكون حظُّ العبد ونصيبُه من القبول والإجابةِ بحسب حظِّه ونصيبِه من تحقيق تلك الأمور وعنايتِه بها. ومن الأوقات الفاضلةِ التي يحسن بالمسلمِ أن يتحرَّى دعاءَ الله فيها وقتُ السَّحَر وحين يبقى ثلثُ الليل الأخير، قال الله تعالى: {وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} 1، وقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} 2، وثبت في الحديث المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " ينزل ربُّنا تبارك تعالى كلَّ ليلةٍ إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلثُ الليل الآخر، يقول: مَن يدعوني فأستجيب له، مَن يسألني فأعطيَه، مَن يستغفرني فأغفر له "3. وهذا الحديث العظيمُ يدلُّ على شرف هذا الوقتِ عند الله وعِظمَ شأنه عنده، وأنَّه سبحانه لكمال إحسانه وتمام لُطفِه ينزل في ذلك الوقت هو سبحانه بنفسه إلى سماء الدنيا نزولاً حقيقياً يليق به سبحانه، لا يُشبه نزولَ المخلوقين تعالى الله وتنزَّه عن ذلك، ولا يدركُ أحدٌ من المخلوقين كيفيةَ نزوله سبحانه؛ إذ إنَّ كيفيةَ صفاته سبحانه مجهولةٌ

_ 1 سورة آل عمران، الآية: (17) . 2 سورة الذاريات، الآيات: (17، 18) . 3 صحيح البخاري (رقم:1145) ، (6321) ، (7494) ، وصحيح مسلم (رقم:758) .

للخَلق، كما أنَّ كيفيةَ ذاتِه مجهولةٌ لهم، وليس لأحدٍ أن يخوضَ في شيء من صفات الله ـ لا النزول ولا غيره ـ بتحريف أو تعطيل، أو تكييف أو تمثيل. والحديثُ دليلٌ على فضلِ هذا الوقتِ المباركِ، وأنَّه أفضلُ أوقات الدعاء والاستغفار والإقبال على الله بالسؤال، وأنَّ الدعاءَ في ذلك الوقت مستجابٌ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " والناس في آخر الليل يكون في قلوبهم من التوجُّه والتقرُّب والرِّقةِ ما لا يوجد في غير ذلك الوقت، وهذا مناسبٌ لنزوله إلى سماء الدنيا، وقوله: هل من داعٍ، هل من سائل، هل من تائب "1. اهـ كلامُه رحمه الله. ومِن الأوقات الفاضلة التي يُستجابُ فيها الدعاء الساعةُ التي في يوم الجمعةِ، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَكَر يومَ الجمعة فقال: " فيه ساعةٌ لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ قائمٌ يصلِّي يسأل الله تعالى شيئاً إلاَّ أعطاه إياه، وأشار بيده يُقلِّلُها "2. وقد اختلف أهلُ العلم في تعيين هذه الساعةِ على أقوالٍ عديدةٍ تُقارب الأربعين قولاً، إلاَّ أنَّ أقواها وأقرَبَها للدليل قولان: أحدهما: أنَّها ما بين جلوس الإمام على المنبر إلى حين فراغه من الصلاة، وحُجَّةُ هذا القول حديثُ أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريِّ: أنَّ عبدَ الله بنَ عمر قال له: أَسَمِعتَ أباك يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في

_ 1 مجموع الفتاوى (5/130 ـ 131) . 2 صحيح البخاري (رقم:935) ، وصحيح مسلم (رقم:852) .

شأنِ ساعةِ الجمعة شيئاً؟ قال: نعم، سمعتُه يقول: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: " هي بين أن يجلس الإمامُ إلى أن تُقضى الصلاة "1. والقول الثاني: أنَّها بعد العصر إلى غروب الشمس، ومِن أدلةِ هذا القول ما رواه أحمد وابن ماجه في سننه عن عبد الله بن سلام قال: قلتُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ: إنَّا لنجدُ في كتاب الله (يعني التوراة) في يوم الجمعة ساعةٌ لا يوافقُها عبدٌ مؤمنٌ يصلِّي يسألُ الله عزَّ وجلَّ شيئاً إلاَّ قضى الله له حاجتَه، قال عبد الله: فأشار إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعض ساعة، قلتُ: صدقتَ يا رسول الله أو بعض ساعة، قلت: أيُّ ساعة هي؟ قال: هي آخرُ ساعة من ساعات النهار، قلتُ: إنَّها ليست ساعةَ صلاةٍ، قال: بلى، إنَّ العبدَ المؤمنَ إذا صلَّى ثمَّ جلس لا يُجلسُه إلاَّ الصلاة فهو في صلاة "2. قال الحافظ ابن حجر وقد سرَدَ الأقوالَ: " ولا شكَّ أنَّ أرجحَ الأقوال المذكورةِ حديثُ أبي موسى وحديثُ عبد الله بن سلام "3 اهـ. ورجَّح ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد القولَ الثاني، وهو أنَّها بعد صلاة العصر، واحتجَّ بحديث عبد الله بن سلام المتقدِّم وأحاديث أخرى وردت في الباب4.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:853) . 2 المسند (5/451) ، وسنن ابن ماجه (رقم:1139) ، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " حديث صحيح، وظاهر سياقه الرفع)) . نتائج الأفكار (2/410) . 3 فتح الباري (2/421) . 4 زاد المعاد (1/390 ـ 391) .

ومن الأزمنة الفاضلةِ شهرُ رمضان المبارك، ولا سيما العشرُ الأواخر منه، وخاصة ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر، وقد ثبت في الترمذي وغيره عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ يا رسول الله: أرأيتَ إن علِمتُ ليلةَ القدر، ما أقول فيها، قال: قولي " اللَّهمَّ إنَّك عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فاعْفُ عنّي "1. ومن الأوقات الفاضلة أيضاً والتي ينبغي للمسلم أن يتحرّى فيها الدعاءَ يومُ عرفة، فهو يومٌ فاضلٌ تُستجابُ فيه الدعواتُ وتُغفر فيه الزَّلاَّتُ وتُكفَّر فيه الخطيئات، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " أفضلُ الدعاءِ دعاءُ يوم عرفة وأفضل ما قلتُه أنا والنبيون من قبلي لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلِّ شيء قدير "2. ومن الأوقات التي يُرجى فيها قبولُ الدعاء ما بين الأذان والإقامة لِمَا ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " الدعاء لا يُردُّ بين الأذان والإقامة فادعوا " أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم3.

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3513) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3850) ، وصححه الترمذي، والألباني في تخريج المشكاة (رقم:2091) . 2 سنن الترمذي (رقم:3585) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (4/7، 8) بمجموع الطرق والشواهد. 3 المسند (3/119، 155) ، وسنن الترمذي (رقم:212) ، وسنن أبي داود (رقم:521) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:3408) .

وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الدعاء لا يردُّ عند النداء للصلاة، وذلك فيما رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثنتان لا تُرَدَّان، أو قَلَّما تُرَدَّان، الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يلحمُ بعضهم بعضاً "1. ومِمَّا ينبغي للمسلم أن يتحرَّى فيه الدعاءَ أدبار الصلوات المكتوبة، ففي الترمذي وغيره بسند جيِّد عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله أيُّ الدعاء أَسْمَعُ؟ قال: " جوف الليل الآخر، ودُبر الصلوات المكتوبات "2. وأوصى صلوات الله وسلامه عليه معاذ بن جبل أن يقول في دبر كلِّ صلاة " اللَّهمَّ أعِنِّي على ذِكْرِك وشُكرِك وحُسنِ عبادتك "3، ودبر الصلاة المذكور في هذا الحديث والذي قبله يحتمل قبل السلام وبعده، قال ابن القيم رحمه الله: " وكان شيخُنا ـ يعني ابنَ تيمية رحمه الله ـ يُرجِّح أن يكون قبل السلام، فراجعتُه فيه، فقال: دُبر كلِّ شيء منه كدبر الحيوان "4.وبالله التوفيق.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:3540) ، والمستدرك (1/198) ، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " حديث حسن صحيح)) . نتائج الأفكار (1/381) . 2 سنن الترمذي (رقم:3499) ، وحسَّنه العلاَّمة الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (رقم:2782) . 3 المسند (5/244) ، وسنن أبي داود (رقم:1522) ، وصحيح ابن حبان (رقم:2020) ، وصححه العلاَّمة الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (رقم:1347) . 4 زاد المعاد (1/305) .

أحوال للمسلم يستجاب فيها الدعاء

76 ـ أحوالٌ للمسلم يُستجابُ فيها الدعاء سبق الإشارةُ إلى جُملةٍ من الأوقات الفاضلةِ التي يُرجى فيها قبولُ الدعاء أكثرَ من غيرها؛ إذ إنَّ المسلمَ في كلِّ وقتٍ يدعو اللهَ عزَّ وجلَّ في أيِّ ساعةٍ من ليل أو نهارٍ يرجو أن يتقبَّلَ اللهُ منه، إلاَّ أنَّ هناك أوقاتاً فاضلةً خصَّها الشارعُ بِمزيد فضيلةٍ فكان القبولُ فيها أرجى، والإجابةُ فيها أحرى من غيرها، فينبغي للمسلم أن يتحرَّى فيها الدعاءَ كثلثِ الليل الآخر، وكالساعة التي في يوم الجمعة، وغيرِ ذلك مِمَّا سبق الإشارةُ إليه. وكما أنَّ هناك أوقاتاً فاضلةً ينبغي أن يتحرَّى المسلمُ فيها الدعاءَ، فكذلك هناك أحوالٌ فاضلةٌ في المسلم يزيد فيها قُربُه من الله وإقبالُه عليه وخشوعُه وخضوعُه واستكانتُه، ينبغي على المسلم أن يكثر فيها الدعاء وأن يعظم فيها الطلب. ومِن ذلك في الصلاة، عندما يقفُ العبدُ بين يدي الله خاشعاً خاضعاً متذلِّلاً منيباً، ولا سيما حال السجود، فإنَّ العبدَ في سجوده يكون قريباً من ربِّه، فينبغي في هذه الحال أن يُكثرَ من دعاء الله وسؤالِه ومناجاتِه؛ لعِظَمِ قربِه فيه من الله عزَّ وجلَّ، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أقربُ ما يكون العبدُ من ربِّه وهو ساجد، فأكثِروا الدعاء " 1.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:482) .

وروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " ألاَ إنِّي نُهيتُ أن أقرأَ القرآنَ راكعاً أو ساجداً، فأمَّا الرُّكوعُ فعَظِّموا فيه الرَّبَّ عزَّ وجلَّ، وأمَّا السجودُ فاجتهدوا في الدعاءِ، فقَمِنٌ أن يُستجاب لكم " 1، أي حقيقٌ وجديرٌ أن يُستجاب لكم. وكذلك يُتحرَّى الدعاء في آخر الصلاة قبل السلام بعد الصلاة الإبراهيمية على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وغيرُهم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " كنتُ أصلِّي والنبيُّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر معه، فلمَّا جلستُ بدأتُ بالثناء على الله، ثمَّ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثمَّ دعوتُ لنفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سَلْ تُعطه، سل تُعطه "2. وروى الترمذي والنسائي وغيرُهما عن فضالةَ بن عبيد رضي الله عنه قال: " سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاتِه لَم يُمجِّد اللهَ ولم يُصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجِلتَ أيُّها المصلِّي، ثمَّ علَّمهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وسَمِعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلِّي فمجَّد اللهَ وحمِدَه وصلَّى على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادْعُ تُجب، وسَلْ تُعط "3.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:479) . 2 المسند (1/445) ، وسنن الترمذي (رقم:593) ، والسنن الكبرى للنسائي (رقم:8258) ، وحسَّنه العلاَّمة الألباني رحمه الله في تخريج المشكاة (رقم:931) . 3 سنن الترمذي (رقم:3476) ، وسنن النسائي (2/44) ، وصححه العلاَّمة الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (رقم:2765) .

ومِن الأحوال التي يكون فيها المسلمُ حريًّا بالقبول وإجابة الدعاء، دعوته حال صيامِه، فقد روى البيهقي من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً: " ثلاثُ دعواتٍ لا تُردُّ: دعوةُ الوالد، ودعوةُ الصائم، ودعوة المسافر "1. وكذلك عندما يكون المسلمُ متلبِّساً بإحرامه قاصداً بيتَ ربِّه، يريد الحجَّ أو العمرةَ، فإنَّ هذا من أسبابِ إجابةِ الدعاء، روى ابنُ ماجه في سننه وغيرُه بإسناد حسن عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الغازي في سبيل الله والحاجُّ والمعتمرُ وَفْدُ الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم "2. وأفضلُ ما يكون الدعاء للحاج يوم عرفة، فهو يوم إجابة الدعوات، وإقالةِ العثرات، وتفريج الكربات، وإغاثةِ الملهوفين، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " خيرُ الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلتُه أنا والنبيُّون من قبلي لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كلِّ شيء قدير "3؛ إذ في هذا اليوم المبارك يَغشى الناسَ من الإيمان والطمأنينةِ والخشوع والخضوع ما يكون سبباً لقبول دعواتِهم

_ 1 السنن الكبرى للبيهقي (3/345) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:1797) . 2 سنن ابن ماجه (رقم:2893) ، وصحيح ابن حبان (رقم:4613) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:1820) . 3 سنن الترمذي (رقم:3585) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (4/7، 8) بمجموع الطرق والشواهد.

وإقالة عثراتهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " مِن المعلوم أنَّ الحجيجَ عشية عرفة ينزل على قلوبهم من الإيمان والرحمة والنورِ والبركةِ ما لا يمكن التعبير عنه "1. وفي الحجِّ أمكنةٌ خاصةٌ ينبغي للمسلم أن يقفَ بها ويتحرَّى فيها الدعاءَ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيث ثبت عنه أنَّه كان يقفُ فيها ويستقبلُ القبلةَ ويدعو الله عزَّ وجلَّ، وهي بالأخصِّ ستة أماكن: في عرفة كما تقدَّم، وفي المَشعر الحرام كما قال الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} 2، وقد جاء في حديث جابر رضي الله عنه في صفة حجَّة النبي صلى الله عليه وسلم: " أنَّه ركب القصواءَ حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبَّره وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جدًّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس "، رواه مسلم3. وكذلك على الصفا والمروة لما ثبت في صحيح مسلم في حديث جابر المتقدِّم: " أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وقف على الصفا يُكبِّر ثلاثا ويقول: لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كلِّ شيء قدير، يصنع ذلك ثلاث مرَّات ويدعو، ويصنع على المروةِ مثلَ ذلك "4.

_ 1 مجموع الفتاوى (5/374) . 2 سورة البقرة، الآية: (198) . 3 صحيح مسلم (2/891) . 4 انظر: صحيح مسلم (2/888) .

وكذلك بعد رمي الجمرتين الصغرى والوسطى، لما ثبت في صحيح البخاري أنَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يُكبِّر على إثر كلِّ حصاة ثمَّ يتقدَّم حتى يُسهلَ فيقوم مستقبلَ القبلة، فيقومُ طويلاً يدعو ويرفع يديه، ثمَّ يرمي الوسطى ثمَّ يأخذ ذات الشمال فيسهل ويقومُ مستقبلَ القبلة فيقومُ طويلا ويدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً، ثمَّ يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثمَّ ينصرف فيقول: هكذا رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يفعله "1. فهذه ستة مواضع ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقف فيها ويتحرَّى الدعاء ويرفع يديه، وعموماً فالدعاءُ له شأنٌ عظيم في الحج والصلاة والصيام، بل له شأنٌ بالغٌ في العبادات كلِّها، بل هو روحُ العبادة ولُبُّها.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1751) .

من تستجاب دعوتهم

77 ـ مَن تُستجابُ دعوتُهم تقدم معنا الإشارةُ إلى أوقاتٍ وأحوالٍ تُجاب فيها الدعوات، وهي أوقاتٌ وأحوالٌ فاضلة يزداد فيها قُربُ العبدِ من ربِّه ويَعْظُم إلْحاحُه عليه، ويَقوى إقبالُه وقربه وإخلاصه، وفي السنة النبوية المباركة إشاراتٌ إلى أمور عديدة من هذا القبيل يُنبّه فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ من كان كذلك فإنَّ دعوتَه لا تُردُّ. ولَعلِّي أشير هنا إلى جملةٍ من نصوص السنة الواردة فيمن لا ترد دعوتهم. فمِمَّا ورد في السنة أنَّ دعوتهم لا ترد: الصائم حتى يفطر، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده أو عليه، ودعوة المظلوم، ففي السنن الكبرى للبيهقي من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً: " ثلاثُ دعواتٍ لا تُردُّ: دعوةُ الوالد، ودعوةُ الصائم، ودعوة المسافر "1. وروى الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثُ دعوات يستجاب لهنّ لا شكّ فيهنَّ: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده "2، وقد رواه

_ 1 السنن الكبرى للبيهقي (3/345) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:1797) . 2 سنن أبي داود (رقم:1536) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3862) ، وسنن الترمذي (رقم:1905) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:596) .

الإمام أحمد في مسنده بلفظ " دعوة الوالد على ولده "1. ومِمَّا ورد أيضاً في دعوة المظلوم حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما في ذكر بعثة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وفيه: " واتقِ دعوة المظلوم فإنَّها ليس بينها وبين الله حجاب " 2. وكُتُب السير والأخبار مليئةٌ بذكر الوقائع والشواهد على ذلك، ومِن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن عروة بن الزبير: أنَّ أروى بنت أويس ادَّعت على سعيد بن زيد أنَّه أخذ شيئاً من أرضها فخاصمته إلى مروان بن الحكم فقال سعيدٌ: أنا كنتُ آخذُ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: وما سمعتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مَن أخذ شبراً من الأرض ظلماً طُوِّقه إلى سبع أرضين "، فقال له مروان: لا أسألك بيِّنة بعد هذا. فقال: اللَّهمَّ إن كانت كاذبةً فعمِّ بصرَها واقتلها في أرضها، قال: فما ماتت حتى ذهب بصرُها، ثمَّ بَيْنَا هي تمشي في أرضِها إذ وقعت في حُفرة فماتت " 3. وكذلك دلّت السنة أنَّ دعوةَ المسلم لأخيه المسلمِ بظهر الغيب لا تُرَد، ففي صحيح مسلم عن أم الدرداء رضي الله عنها: أنَّها قالت لصفوان أتريد الحج العام؟ قال: فقلت: نعم، قالت فادعُ الله لنا بخير فإنَّ

_ 1 المسند (2/258) . 2 صحيح البخاري (رقم:2448) . 3 صحيح مسلم (3/1231) .

النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابةٌ، عند رأسه مَلَكٌ كلَّما دعا لأخيه بخير قال المَلَكُ الموكَّلُ به: آمين، ولك بمثل "1. وروى مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلاَّ قال المَلَك ولك بمثل " 2. ومِمَّا ورد في السنة في إجابة الدعاء ما ثبت في صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلِّ شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلاَّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله، ثمَّ قال: اللهمّ اغفر لي أو دعا استُجيب له، فإن توضأ وصلّى قُبلت صلاتُه "3. وروى أبو داود في سننه، وأحمد في المسند، وغيرُهما عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مسلم يبيت على ذكر الله طاهراً فيتعارَّ من الليل فيسأل الله خيراً من الدنيا والآخرة إلاَّ أعطاه الله إيّاه "4.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2733) . 2 صحيح مسلم (رقم:2732) . 3 صحيح البخاري (رقم:1154) . 4 سنن أبي داود (رقم:5042) ، والمسند (5/234، 241، 244) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:5754) .

والعبدُ كلَّما كان قريباً من الله مطيعاً له محافظاً على أوامره كان حرياًّ بالإجابة والقبول في دعواته ومناجاته لربّه، وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله تعالى قال: مَن عادى لي ولياًّ فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذ بي لأعيذنَّه، وما ترددتُ عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته "1. وكذلك عندما يُقبِل العبد على الله إذا مسّه الضرُّ بصدقٍ وإخلاصٍ وشدّة رغبةٍ فإنَّ دعاءَه لا يُردّ، والله يقول: {أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} 2، قال بعض أهل العلم في هذه الآية: " ضَمِن الله تعالى إجابةَ المضطر إذا دعاه، وأخبرَ بذلك عن نفسه، والسببُ في ذلك أنَّ الضرورةَ إليه باللَّجَأ ينشأ عن الإخلاص وقطع القلب عما سواه، وللإخلاص عنده سبحانه موقعٌ وذمّةٌ وُجِدَ من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر "3. ودعوةُ ذي النون عليه السلام التي دعا بها في بطن الحوت لها شأنٌ

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6502) . 2 سورة النمل، الآية: (62) . 3 تفسير القرطبي (13/148)

عظيمٌ في الإجابة والقبول، قال الله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَن نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤْمِنِينَ} 1، وقد ثبت في السنة أنَّ هذه الدعوةَ العظيمة المباركة لا يدعو بها مسلم في شيء إلاّ استجاب الله له، روى الترمذي وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دعوةُ ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت: لا إله إلاَّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لَم يَدْعُ بها رجل في شيء قط إلاَّ استجاب الله له "2. وإذا ضمّ العبدُ إلى ذلك التوسلَ إلى الله بأعمالِه الصالحة التي قام بها في حياته متقرِّباً بها إلى الله طالباً بها مرضاته لَم تُردَّ له دعوة كما هو الشأن في النفر الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة وهم في الغار فتوسَّلَ كلُّ واحد منهم بعمل من أعماله الصالحة حتى فرّج الله عنهم بذلك وقد مضت قصّتهم كاملة. فتقرُّبُ العبد إلى الله وإكثارُه من الأعمال الصالحة وإقبالُه على ربِّه بما يرضيه هو أعظمُ أسباب القبول وأهمُّ دواعي الإجابة، والتوفيق بيد الله وحده.

_ 1 سورة الأنبياء، الآيات: (87، 88) . 2 سنن الترمذي (رقم:3505) ، والمسند (1/170) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:3383) .

التحذير من الأدعية المبتدعة

78 ـ التحذيرُ من الأدعية المبتدعة إنَّ الدعاءَ طاعةٌ عظيمةٌ وعبادةٌ جليلةٌ يلزم المسلمَ فيها ـ شأن جميع العبادات ـ التقيّدُ بهدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولزوم سنّته، واتباعُ طريقته، وسلوكُ سبيله، فإنَّ خيرَ الهدي وأكملَه وأقومَه هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقول كلَّ جمعة إذا خطب الناس: " أما بعد فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله وخيرَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها وكلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة وكلَّ ضلالة في النار "1، ولذا فإنَّ الواجب على كلِّ مسلم أن يحذر أشدَّ الحذر من المحدثات في الدين، ويلزم في جميع أمور دينه هديَ سيِّد الأنبياء والمرسَلين. إنَّ هديَ النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء هديٌ كاملٌ لا نقصَ فيه بوجه من الوجوه، فلم يَدَعْ صلى الله عليه وسلم شيئاً من الخير والفائدة المتعلِّقةِ بالدعاء إلاَّ بيّنها على أتمِّ الوجوه وأكملِها وأوفاها كما هو شأنُه صلوات الله وسلامه عليه في جميع جوانب الدين، ولم يمت صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله قوله: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} 2، ومَن يتأمّل هديَه صلى الله عليه وسلم في الدعاء يجدُه هدياً كاملاً وافياً شاملاً لا نقصَ فيه، فبيّن للأمَّة الأدعيةَ المتعلِّقة بالأوقات المعيّنة أو الأمكنة المعيّنة أو الأحوال المعيّنة، ووضّح المطلق من الدعاء والمقيّد، وقد سبق

_ 1 صحيح مسلم (رقم:867) . 2 سورة المائدة، الآية: (3) .

ذكرُ بعض ما ورد عنه مما يتعلّق بالأوقات الفاضلة التي يُستحَبُّ للمسلمين أن يتحرّوا فيها الدعاءَ، وسبق ذكرُ ما ورد عنه من بيان للأمكنة الفاضلة التي يستحب تحري الدعاء فيها، وكذلك سبق الإشارةُ إلى جملة من الأحوال الفاضلة التي يكون عليها المسلم فيستحب له فيها تحري الدعاء؛ لعِظم قربِه فيها من الله وشدَّةِ إخباته وخضوعه وذُلِّه. وقد اشتملت أدعيةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الثابتةُ عنه جميعَ أحوال الناس من سرورٍ أو حزنٍ، وصحةٍ أو سقمٍ، ونعمةٍ أو مصيبةٍ، وسفرٍ أو إقامة وغير ذلك، فدلَّ أمّتَه صلى الله عليه وسلم في ذلك كلِّه إلى خير ما ينبغي أن يقولوه في جميع تلك الأحوال، ولَم يَدَعْ صلى الله عليه وسلم شيئاً من الدعاء المقرِّب إلى الله والموصِل إلى الخير والسعادة في الدنيا والآخرة إلاَّ بيَّنه للأمَّة تاماًّ كاملاً، كيف لا وهو القائلُ صلوات الله وسلامه عليه: " ما بَعث الله من نبِيٍّ إلاَّ كان حقاًّ عليه أن يدلَّ أمَّتَه على خير ما يعلمه لهم، ويُنذِرهم شرّ ما يعلمه لهم "، رواه مسلم1. وإنَّ من العجب حقاًّ أن يَدَعَ بعضُ عوامِّ المسلمين الأدعيةَ الصحيحةَ الثابتةَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مجموعة في كتبٍ كثيرة معتَبَرةٍ مُتَداولَة بين المسلمين ويُقْبِلوا على أدعِيةٍ مُحْدَثَةٍ مُبتدَعَةٍ أنشأها بعضُ المتكلِّفِين، وكتبَها بعضُ المتخرِّصين دون تعويلٍ على الكتاب والسنة، ودون اعتبارٍ لِهَدْيِ خيرِ الأمَّةِ صلوات الله وسلامه عليه، فشَغَلُوا بذلكَ الناسَ عن السُّنَنِ وأوقَعوهم في البدعِ، وفي مثل هذا يقولُ بعضُ

_ 1 صحيح مسلم (رقم:1844) .

السَّلف: " ما ابتدع قومٌ بدعةً في دينهم إلاَّ نَزَع الله من سنَّتِهم مثلَها، ثمّ لا يُعيدُها إليهم إلى يوم القيامة "1، وكيف يليق بمسلم يعرفُ فضلَ الرسول صلى الله عليه وسلم وقَدْرَه ونُصْحَه لأمَّته، ثمَّ مع ذلك يَدَعُ هديَه وأدعِيتَه العظيمة المبارَكة، ويُقْبِلُ على أدعيةِ وكتبِ هؤلاء المتخرِّصين المتَكَلِّفين. قال أبو بكر محمد بن الوليد الطَرْطُوشيُّ صاحبُ كتاب الحوادث والبدع: " ومِن العَجب العُجاب أن تُعرِضَ عن الدعوات التي ذَكَرها الله في كتابه عن الأنبياء والأولياء والأصفياءِ مقرونةً بالإجابةِ، ثمَّ تنتقي ألفاظَ الشُّعراء والكتَّاب، كَأنَّك قد دعوتَ في زعمِك بجميع دعواتِهم ثمّ استعنتَ بدعوات مَن سواهم "2. ويقول الإمام القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} وهو يذكر جملة من أنواع الاعتداء في الدعاء: " ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة فيتخيّر ألفاظاً مفقرةً، وكلماتٍ مسجَّعةً، قد وجدها في كراريس، لا أصل لها ولا معوّل عليها فيجعلها شعارَه، ويترك ما دعا به رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلُّ هذا يَمنع من استجابة الدعاء "3. وإنَّ أشدَّ ما يكون في هذا الأمر خطورةً أنَّ بعضَ هذه الأدعية المؤلّفةِ مشتملةٌ على ألفاظٍ كفرية واستغاثات شركية وشطط بالغ، قال

_ 1 سنن الدارمي (1/85) ، والمصنف لعبد الرزاق (1/93) . 2 الفتوحات الربانية لابن علان (1/17) . 3 الجامع لأحكام القرآن (7/144) .

أبو العباس أحمدُ بن إدريس القرافي بعد أن ذكر أنَّ الأصلَ في الدعاء التوقف، وذكر أنواعاً من الأدعية الكفرية الناقلة من الملّة الإسلامية: " إذا تقرّر هذا فينبغي للسائلِ أن يحذرَ هذه الأدعيةَ وما يجري مجراها حَذراً شديداً؛ لما تؤدي إليه من سَخطِ الدَيَّان والخلودِ في النيران وحبوط الأعمال وانفساخ الأنكحة واستباحة الأرواح والأموال، وهذا فسادٌ كلّه يتحصل بدعاء واحد من هذه الأدعية ولا يرجع إلى الإسلام، ولا ترتفع أكثر هذه المفاسد إلاَّ بتجديد الإسلام، والنطق بالشهادتين؛ فإن مات على ذلك كان أمره كما ذكرناه، نسأل الله تعالى العافية من موجبات عقابه "1. إنَّ الواجب على كلِّ مسلم أن يَحذر أشدّ الحَذر من مِثل هذه الأدعيةِ التي أَحْدَثَها بعضُ شيوخ الضلال وأئمّة الباطلِ، فصدُّوا بها الناسَ عن هَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم وصرَفُوهم بها عن سنَّتِه، فضَلُّوا وأضَلُّوا كثيراً وضَلُّوا عن سواء السبيل، وإنَّ المسلم الفَطِن ليتساءل في هذا المقام ما الذي دعا أولئكَ إلى ابتكار تلك الأدعيةِ واختراعِ تلك الأورادِ رَغم ما فيها من ضلال وباطل، فلا يَجِد جواباً على ذلك إلاَّ أنَّ أولئك يريدون أكلَ أموال الناس بالباطل وتكثيرَ الأتباع والمريدين، وقد سبق أن مرَّ معنا قولُ معاذ بن جبل رضي الله عنه: " إنَّ من ورائكم فتناً يكثر فيها المال ويُفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحرُّ، فيوشكُ قائلٌ أن يقول ما للناس لا

_ 1 الفروق للقرافي (4/264 ـ 265) .

يتبعوني وقد قرأتُ القرآن؟ ما هم بمتبعيَّ حتى أبتدع لهم غيرَه، فإيّاكم وما ابتدع، فإنَّ ما ابتدع ضلالةٌ "1، رواه أبو داود في سننه والآجري في الشريعة، فمِن هؤلاء يجب أن يكون المسلم على حَذَرٍ بالغٍ وحَيْطَةٍ كاملة، وليلزم السُّنَّةَ، وليتبِّع سبيلَ أهلِها، ففي ذلك السلامة والفلاح.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:4611) ، والشريعة (رقم:90، 91) ، وصححه العلاَّمة الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (رقم:3855) .

خطورة دعاة الباطل وأئمة الضلال

79 ـ خطورة دعاة الباطل وأئمَّة الضلال لقد تضافرت الأدلّةُ وكثرت النصوصُ في الكتاب والسنة الدالّة على تحريم صَرفِ الدعاءِ لغير الله، وأنَّ ذلك نوعٌ من الشرك الناقلِ من الملَّةِ، وأنَّ الدعاءَ لا يكون إلاَّ لِمَن بيده المنع والعطاء، والخفض والرفع، والقبض والبسط، وليس لله شريك في شيء من ذلك، قال الله تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 1، وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} 2، وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} 3، ولهذا فإنَّه كيف يليق بإنسانٍ، ويصحُّ من عاقلٍ خلقه الله فيدعو غيرَه، ويرزقُه الله ويسألُ سواه، ويعطيه الله ويُقبل على غيره، مع أنَّ كلَّ مدعوٍّ غير الله ليس بيده عطاءٌ ولا منعٌ ولا نفعٌ ولا ضرٌّ، يقول الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاَ} 4، ويقول

_ 1 سورة النمل، الآية: (62) . 2 سورة فاطر، الآية: (2) . 3 سورة يونس، الآيتان: (106، 107) . 4 سورة الإسراء، الآية (56) .

تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِن ظَهِيرٍ وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ} 1، ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 2، والآيات في هذا المعنى كثيرة. ورغم وضوحِ هذا الأمرِ وكثرةِ الشواهد عليه، وظهور دلالتها على ذلك إلاَّ أنَّ مِن الناس مَن لا يزال يفتُ في عضدهم دعاةُ الضلال وأئمةُ الباطل، فيُشبِّهون عليهم الأمورَ، ويلْبسون عليهم الحقائق، ويزيِّنون لهم الباطل، وقد خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمَّته من الأئمَّة المضلِّين، روى الإمام أحمد وأبو داود والحاكم وغيرُهم بإسناد صحيح من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " وإنَّما أخاف على أمتي الأئمةَ المضلِّين "3، وهذا الذي خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته قد وقع في بعض فترات التاريخ، حيث تسلَّط بعضُ دعاةِ الباطل وأئمةِ الضلال فزيَّنوا للناس دعاءَ الأحجار والتعلُّقَ بالقبور، والتقدُّمَ إليها بأنواع القرابين والنذور، قال أبو الوفاء

_ 1 سورة سبأ، الآيتان: (22، 23) . 2 سورة فاطر، الآيتان: (13، 14) . 3 المسند (5/278، 284) ، وسنن أبي داود (رقم:4252) ، والمستدرك (4/449) في حديث طويل، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:1773) .

ابنُ عقيل رحمه الله: " صبئت قلوب أهل الإلحاد لانتشار كلمة الحق وثبوت الشرائع بين الخلق والامتثال لأوامرها ... ثمَّ مع ذلك لا يرون لمقالتهم نباهةً ولا أثراً، بل الجوامع تتدفَّق زحاماً، والأذانات تملأ أسماعهم بالتعظيم لشأن النبي صلى الله عليه وسلم والإقرار بما جاء به، وإنفاق الأموال والأنفس في الحج مع ركوب الأخطارِ ومعاناة الأسفار ومفارقةِ الأهلِ والأولاد، فجعل بعضُهم يندسُّ في أهل النقل فيضع المفاسد على الأسانيد، ويضع السِير والأخبار، وبعضُهم يروي ما يُقارب المعجزات مِن ذِكرِ خواصٍّ في أحجار، وخوارق العادات في بعض البلاد، وإخبار عن الغيوب عن كثير من الكهنةِ والمنجِّمين ويُبالغ في تقرير ذلك ... فقالوا تعالوا نكثر الجوْلان في البلاد والأشخاص والنجوم الخواص ... "1، إلخ كلامِه رحمه الله. فتأمَّل أخي المسلم كيف تمكَّن هؤلاء بخفيِّ مكرهم وعِظم كيدهم من صدِّ كثير من عوام المسلمين وجهالهم عن الحقِّ والهدى الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقلِهم منه إلى أنواع من الضلالات وصنوفٍ من الباطل، مِن تعلُّقٍ بقبور أو تبرُّكٍ بأشجار وأحجار، أو ذبحٍ ونذر لأضرحةٍ وقِباب، ونحو ذلك من الضلال المفارق لدين الإسلام، المبايِنِ لِملِّة التوحيد القائمةِ على إخلاص العمل للمعبود، والمتابعةِ في ذلك كلِّه للرسول صلى الله عليه وسلم. ومِمَّا ينبغي أن يُعلم هنا أنَّ سببَ ضلال هؤلاء وغيرِهم مِمَّن تأثَّر

_ 1 انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص:68، 69) .

بهم وسار على طريقهم ثلاثةُ أشياء: أحدُها: إمَّا اعتمادُهم على ألفاظٍ متشابهةٍ مُجملةٍ مشكلة منقولة عن الأنبياء، وعدلوا عن الألفاظ الصريحة المحكمة وتمسَّكوا بها، وهم كلَّما سمعوا لفظاً فيه شبهةٌ تمسَّكوا به وحملوه على مذهبهم وإن لَم يكن دليلاً على ذلك، والألفاظُ الصريحةُ المخالفةُ لذلك إمَّا أن يفوِّضوها وإما أن يتأوَّلوها كما يصنع أهل الضلال يتِّبعون المتشابه من الأدلة العقلية والسمعية، ويعدِلون عن المحكم الصريح، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} 1. الأمر الثاني: أخبارٌ منقولةٌ إليهم عن الأنبياء ظنُّوها صدقاً، وهي مكذوبةٌ عليهم، وَضَعها عُبَّاد الأصنام وأئمَّةُ الباطلِ انتصاراً لمذاهبهم وتأييداً لباطلهم، وليس في جميع ما يُروى في هذا الباب حديثٌ واحدٌ مرفوعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُعتمد عليه باتِّفاق أهل المعرفة بحديثه صلى الله عليه وسلم، بل المرويُّ في ذلك إنَّما يَعرفُ أهلُ المعرفة بالحديث أنَّه من الموضوعات، إمَّا تعمُّداً من واضعه، وإمَّا غلطاً منه، مثل نسبتهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " لو حسَّن أحدُكم ظنَّه في حجر لنفعه الله به "2، ونحو ذلك من

_ 1 سورة آل عمران، الآية: (7) . 2 أورده ملاَّ علي قاري في الموضوعات (ص:189) ، وقال: " قال ابن تيمية: موضوع. وقال ابن القيم: هو من كلام عُبَّاد الأصنام الذين يُحسنون ظنَّهم بالأحجار. وقال ابن حجر العسقلاني: لا أصل له)) .

الإفك البيِّن والكذب الواضح. الأمر الثالث: خوارقُ ظنُّوها من الآيات، وهي من أحوال الشيطان1، وحكاياتٌ حُكيت لهم عن أصحاب القبور مثل أنَّ فلاناً استغاث بالقبر الفلانيِّ في شدَّة فخُلِّص منها، وفلاناً دعاه أو دعا به في حاجة فقُضيت له، وفلاناً نزل به ضرٌّ فاسترجى صاحبَ القبر فكشف ضُرَّه، والنفوسُ مولعةٌ بقضاء حوائجها وإزالة ضروراتها، ومِن هذا المدخل نفذ الشيطانُ إلى قلوب هؤلاء، وتدرَّج بهم في دعوتهم إليه، فحسَّن للواحد من هؤلاء أولاً الدعاءَ عند القبور، وأنَّه أرجحُ منه في بيته ومسجده وأوقات سَحَرِه، فإذا تقرَّر ذلك عنده نقلَه درجةً أخرى من الدعاء عنده إلى الدعاء به والإقسام على الله به، وهذا أعظمُ من الذي قبله، فإذا قرَّر الشيطانُ عنده أنَّ الإقسامَ على الله به أبلغُ في تعظيمِه واحترامِه وأنجحُ في قضاءِ حاجته نقله درجةً أخرى إلى دعائه نفسِه من دون الله، ثمَّ ينقله بعد ذلك درجةً أخرى إلى أن يتَّخذ قبرَه وثناً يعكفُ عليه، ويوقدُ عليه القناديل، ويُعلِّقُ الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبدُه بالسجود له والطواف به وتقبيله واستلامِه والحج إليه والذبح عنده2، والواجبُ الحذرُ من الشيطان وجنوده، ولزومُ سبيلِ المؤمنين بإخلاص العمل كلِّه لله عزَّ وجلَّ مع المتابعة في ذلك كلِّه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، جعلنا الله وإياكم مِن أتباعه وهدانا لزومَ سنَّتِه.

_ 1 انظر: الجواب الصحيح لابن تيمية (1/316 ـ 317) . 2 انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1/233 ـ 234) .

خطورة التعلق بالقبور

80 ـ خطورة التعلُّق بالقبور لقد تقدَّم الكلامُ على فضلِ الدعاء ومكانتِه من الدِّين، وأنَّه حقٌّ خالصٌ لله لا يجوز صرفُه لغيره، كما قال تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُو مَعَ اللهِ أَحَداً} 1، أي لا تشركوا مع الله أحداً، ولكن أَفرِدوا له التوحيد، وأَخلِصوا له الدِّين، والمسلمُ مطلوبٌ منه أن يسألَ اللهَ في كلِّ أحواله، ويدعو اللهَ في جميعِ حاجاته، يسأله وحده دون سواه، ويرجوه ولا يرجو غيرَه، ويُنزل حاجاته كلَّها به، ومن عجيب أمر بعضِ الناس في هذا الباب الخطير أنَّهم أَقبلوا على غير الله من القِباب والقبور والأضرحة ونحوها، يستنجدون بأهلها ويستغيثون بهم، ويسألونهم النصرَ والرِزقَ والعافيةَ وقضاءَ الديون وتفريجَ الكُربات وإغاثةَ اللهفات، وغيرَ ذلك من أنواع الطلبات، فبدَّل هؤلاء قولاً غير الذي قيل لهم، بدَّلوا الدعاءَ لهم بدعائهم من دون الله، والترحُّم عليهم بطلب الرَّحمة والمغفرة منهم، ومن المُحال أن يكون دعاءُ الموتى أو الدعاءُ بهم أو الدعاءُ عندهم أمراً مشروعاً أو عملاً صالحاً يقبله الله، فهذه سنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور بضعاً وعشرين سنة حتى توفاه الله وهذه سنةُ خلفائه الراشدين، وهذه طريقةُ جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هل يمكن لبشرٍ على وجه الأرض أن يأتي عن أحدٍ منهم بنقلٍ صحيح أو ضعيف أو منقطع أنَّهم كانوا إذا كان لهم حاجة

_ 1 سورة الجن، الآية: (18) .

قصدوا القبورَ فدعوا عندها وتمسَّحوا بها، فضلاً عن أن يُصلُّوا عندها أو يسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم، ولو كان ذلك سنةً أو فضيلةً لنُقل عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولَفَعله الصحابةُ والتابعون، وقد كان عندهم قبرُ النبي صلى الله عليه وسلم وقبورُ سادات الصحابة، فما منهم مَن استغاث عند قبر صاحبٍ ولا دعاه ولا دعا به ولا دعا عنده ولا استشفى به ولا استسقى به، وحاشاهم أن يفعلوا شيئاً من ذلك، بل ثبت عنهم إنكارُ ما هو دون ذلك بكثير. روى غيرُ واحد، عن المعرور بن سُويد قال: " صليتُ خلفَ عمرَ ابن الخطاب رضي الله عنه في طريق مكةَ صلاةَ الصبح، فقرأ فيها {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ} ، و {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} ، ثمَّ رأى الناسَ يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهبُ هؤلاء؟ فقيل: يا أميرَ المؤمنين، مسجدٌ صلَّى فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فهُم يُصلُّون فيه، فقال: إنَّما هلك مَن كان قبلكم بمثلِ هذا، كانوا يتَّبعون آثارَ أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبِيَعاً، فمَن أدركته الصلاةُ منكم في هذه المساجد فليُصلِّ، ومَن لا فليمضِ ولا يتعمَّدها "1. وأرسل رضي الله عنه أيضاً فقطع الشجرةَ التي بايع تحتها أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم خشيةَ افتتان الناس بها2. وروى محمد بن إسحاق في مغازيه عن خالد بن دينار، قال: حدَّثنا

_ 1 المصنف لعبد الرزاق (رقم:2734) ، والمصنف لابن أبي شيبة (2/152) . 2 رواه ابن سعد في الطبقات (2/76) ، وصححه الحافظ في الفتح (7/513) .

أبو العالية رحمه الله قال: " لَمَّا فتحنا تُستُر وَجدنا في بيت مال الهُرمزان سريراً عليه رجلٌ ميِّتٌ، عند رأسه مُصحفٌ له، فأخذنا المُصحفَ فحملناه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدعا له كعباً فنسَخَه بالعربية، فأنا أوَّلُ رجل من العرب قَرَأَه، قرأته مثل ما أقرأُ القرآنَ، فقلتُ لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتُكم وأمورُكم ولحون كلامكم وما هو كائنٌ بعدُ، قلتُ: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرِّقة، فلمَّا كان الليلُ دفنَّاه، وسوينا القبور كلَّها لنُعْميه على الناس لا ينبشونه، قلتُ: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماءُ إذا حُبست عنهم برزوا بسريرِه فيُمطرون، فقلتُ: مَن كنتم تظنُّون الرجل؟ قال: رجلٌ يُقال له دانيال، فقلتُ: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة، قلتُ: ما كان تغيَّر منه شيء؟ قال: لا إلاَّ شُعيراتٌ من قفاه، إنَّ لحومَ الأنبياء لا تُبليها الأرض، ولا تأكلها السباع "، أورد هذا الأثرَ ابنُ كثير في كتاب البداية والنهاية، وقال: " إسناده صحيح إلى أبي العالية "1. وفي هذا الأثر دلالةٌ على ما كان عليه السلفُ رحمهم الله من حَيطةٍ كاملة وحذرٍ شديدٍ في هذا الباب الخطير، وما فعله المهاجرون والأنصارُ بتوجيه من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من إخفاءٍ لقبر دانيال وتَعْمِيةٍ لمكانه دليلٌ على ما كانوا عليه من حيطةٍ وحذرٍ لئلا يَفتتن به الناس، ولو كان الدعاءُ عند القبور والصلاةُ عندها والتبرُّكُ بها

_ 1 البداية والنهاية (2/40) .

فضيلةً وسنةً أو مباحاً لَنَصَبَ الصحابةُ هذا القبرَ عَلَماً لذلك، ودعوا عنده، وسنوا ذلك لِمَن بعدهم، ولكن كانوا أعلمَ بالله ورسولِه ودينِه مِمَّن جاء بعدهم، وكذلك التابعون لهم بإحسانٍ ساروا على هذا السبيل واقتفوا تلك الآثار، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عددٌ كثير وهم متوافرون فما منهم مَن استغاث عند قبرِ صاحب ولا دعاه ولا دعا به ولا دعا عنده، ومن المعلوم أنَّ مثلَ هذا ممَّا تتوافر الهِممُ والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونَه، ولم ينقل عنهم في فعل شيء من ذلك حرفٌ واحد، وحينئذ يُقال إن كان هذا الأمرُ مشروعاً وسنةً فكيف يخفى علماً وعملاً على الصحابة والتابعين وتابعيهم، وكيف تكون القرونُ الثلاثةُ المفضَّلةُ جاهلةً به مع حرصهم على كلِّ خير، وبهذا يتبيَّنُ أنَّ هذا الأمرَ ليس من دين الله ولا من شرعه، والله يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ} 1، فإذا لَم يشرع اللهُ ذلك فمَن شرعه فقد شرع من الدِّين ما لَم يأذن به الله، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} 2. لقد ذكر علماءُ الإسلام وأئمَّةُ الدِّين الأدعيةَ الشرعيةَ المأخوذةَ من الكتاب والسنةِ بحدودها الشرعيةِ وضوابِطها المرعيةِ، وأعرضوا تمام

_ 1 سورة الشورى، الآية: (21) . 2 سورة الأعراف، الآية: (33) .

الإعراضِ عن الأدعيةِ البدعية، والواجبُ اتِّباعهم في ذلك، ومَن يتأمَّل الأدعيةَ التي أحدثها الناسُ في هذا الباب ولم تكن موجودةً عند الصحابة ومَن اتَّبعهم بإحسان يجد أنَّها على ثلاث مراتب1: أحدِها: أن يدعوَ غير الله وهو ميِّتٌ أو غائب سواء كان من الأنبياء أو الصالحين أو غيرهم، فيقول: يا سيدي فلان أَغِثني، أو أنا أستجير بك، أو أستغيث بك، أو انصرني على عدوي، وأعظمُ من ذلك أن يقول: اغفر لي وتُب عليَّ كما يفعله طائفةٌ من الجهال المشركين، وأعظمُ من ذلك أن يسجد لقبره ويصلي إليه ويرى الصلاةَ فيه أفضلَ من استقبال القبلة، وكلُّ ذلك من الشركِ الناقل عن ملِّة الإسلام. الثانية: أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادعُ اللهَ لي، أو ادع لنا ربَّك، أو اسأل الله لنا، فهذا لا يستريب عالمٌ أنَّه غير جائز، وأنَّه من البدع التي لَم يفعلها أحدٌ من سلف الأمة المُفضية إلى الشرك بالله، بل نصَّ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنَّ ذلك عين الشرك " سواء طلب منهم قضاءَ الحاجات وتفريجَ الكربات، أو طلب منهم أن يطلبوا ذلك من الله "2. الثالثة: أن يُقال: أسألك بحقِّ فلان أو بجاه فلان عندك، أو نحو ذلك، وهذا أيضاً لَم يكن الصحابةُ رضي الله عنهم يفعلونه، ولا يُعرف

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى (1/350 ـ 356) . 2 اقتضاء الصراط المستقيم (ص:406) .

هذا في شيءٍ من الأدعية المشهورة بينهم، وإنَّما يُنقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة أو موضوعة. وينبغي أن يُعلم هنا أنَّه لو كان في شيءٍ ممَّا تقدَّم ذكرُه خيرٌ لسَبَقَنا إليه الصحابةُ ولدلُّونا عليه، فإن كان هدياً صواباً فقد ضلُّوا عنه، وهذا لا يقوله عاقل، وإن كان الذي كانوا عليه هو الهدى والحق، فماذا بعد الحقِّ إلاَّ الضلال.

الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد

81 ـ الغلُوُّ في قبور الصالِحين يصيرها أوثاناً تُعبد إنَّ مِن أعظمِ أسباب وقوع الشرك في الدعاءِ ما أوحاه عدوُّ الله وعدوُّ عباده المؤمنين إبليسُ إلى حِزبِه وأوليائِه من الفتنة بقبور الأنبياء والأولياء والصالحين، حتى آل الأمرُ فيها إلى أن عُبد أربابُها من دون الله، وعُبدت قبورُهم واتُّخذت أوثاناً، وبُنيت عليها الهياكل، وصُوِّرت أربابها ثمَّ جُعلت تلك الصُور أجساداً لها ظِلٌّ، ثمَّ جُعلت أصناماً وعُبدت مع الله تعالى، وكان أولُ وقوع هذا الداء في قوم نوح كما أخبر الله سبحانه عنهم في كتابه حيث يقول: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} 1، روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلمَّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسّخَ العلمُ عُبدت "2. وقال ابن جرير في تفسيره: " وكان مِن خبرِ هؤلاء فيما بلغنا ما حدَّثنا به ابنُ حُميد قال: حدَّثنا مهران، عن سفيان، عن موسى، عن محمد بن قيس: أنَّ يغوث ويعوقَ ونسراً كانوا قوماً صالحين من بني

_ 1 سورة نوح، الآيات: (21 ـ 24) . 2 صحيح البخاري (رقم:4920) .

آدم، وكان لهم أتباعٌ يقتدون بهم، فلمَّا ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوَّرناهم كان أشوقَ لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوَّروهم، فلمَّا ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس فقال: إنَّما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر، فعبدوهم "1. ونُقل هذا المعنى عن عددٍ من السلف رحمهم الله، قال ابن القيم: " قال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلَمَّا ماتوا عكفوا على قبورهم، ثمَّ صوروا تماثيلهم، ثمَّ طال عليهم الأمَدُ فعبدوهم "2. ولهذا تضافرت الأدلةُ وتواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في المنع مِن ذلك والتحذير منه والتغليظ فيه، ولعن فاعله، ووصفِ مَن فعله بأنَّه من شرار الخلق، وأنَّ ذلك ليس من سُنَن المسلمين وإنَّما من سُنَن اليهود والنصارى، والنصوص عنه في هذا المعنى كثيرة. روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسةً رأتها بأرض الحَبشة وما فيها من الصُوَر، فقال: " أولئك إذا مات فيهم الرجلُ الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوَّروا فيه تلك الصُوَر، أولئك شِرار الخلق عند الله "3. وروى مسلم في صحيحه عن جُندب بن عبد الله البجلي رضي الله

_ 1 تفسير ابن جرير (12/254) . 2 إغاثة اللهفان (1/203) . 3 صحيح البخاري (رقم:1341) ، وصحيح مسلم (رقم:528) .

عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: " إنِّي أبرأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإنَّ الله قد اتَّخذني خليلاً كما اتَّخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنتُ متَّخذاً من أمَّتِي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكر خليلاً، ألاَ وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد فإنِّي أنهاكم عن ذل ك "1. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل الله اليهودَ اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2، وفي رواية لمسلم: " لعن الله اليهودَ والنصارى اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد "3. وروى البخاري عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم قالا: " لَمَّا نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفِق يطرح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها، فقال وهو كذلك: لعنةُ الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد، يُحذِّر ما صنعوا "4. وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لَم يقُم منه: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ولولا ذلك لأُبرز قبرُه، غير أنَّه خشي أن يتخذ مسجداً "، رواه البخاري ومسلم5. فقد نهى صلواتُ الله وسلامه عليه عن اتخاذ القبور مساجد في آخر

_ 1 صحيح مسلم (رقم:532) . 2 صحيح البخاري (رقم:437) . 3 صحيح مسلم (رقم:530) . 4 صحيح البخاري (رقم:435، 436) . 5 صحيح البخاري (رقم:1390، 4441) ، وصحيح مسلم (رقم:529) .

حياته، ثمَّ إنَّه لعن ـ وهو في السياق ـ مَن فَعَلَ ذلك مِن أهل الكتاب ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك، والأحاديث والآثار المروية في هذا الباب كثيرةٌ جدًّا. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّما نهى أمته عن اتخاذ القبور مساجد بتحري الدعاء أو العبادة عندها سَدًّا لذريعة الشرك، ولأنَّه مظنَّةُ اتخاذها أوثاناً، قال الإمام الشافعي رحمه الله: " وأكره أن يُعظَّم مخلوق حتى يُجعل قبرُه مسجداً مخافة الفتنة عليه وعلى مَن بعده من الناس ". وقد ذكر هذا المعنى غيرُ واحد من أهل العلم، وأما مَن علَّل ذلك بأنَّها مظنَّةُ النجاسة لما يختلطُ بالتراب مِن صديد الموتى فقد أبعدَ غايةَ البُعد؛ لأنَّ نجاسةَ الأرض مانعٌ من الصلاة عليها، سواء كانت مقبرةً أو لَم تكن، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد نبَّه على العلَّة بقوله: " اللَّهمَّ لا تَجعل قبري وثناً يُعبد "، وبقوله: " إنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتخذون القبورَ مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنِّي أنهاكم عن ذلك ". قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " وبالجملة فمَن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفَهِم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصدَه جزم جزماً لا يحتمل النقيض أنَّ هذه المبالغة منه باللَّعن والنهي بصيغتيه: صيغة (لا تفعلوا) وصيغة (إنِّي أنهاكم) ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بِمَن عصاه وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربَّه ومولاه، وقلَّ نصيبُه أو عدم في تحقيق شهادة لا إله إلاَّ الله، فإنَّ هذا وأمثالَه من النبي صلى الله عليه وسلم صيانةٌ لحِمى التوحيد أن يلحقه الشركُ ويغشاه وتجريدٌ له، وغضبٌ لربِّه أن يُعدل به سواه، فأبى المشركون إلاَّ معصيةً

لأمرِه وارتكاباً لنهيه، وغرَّهم الشيطانُ فقال: بل هذا تعظيمٌ لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشدَّ لها تعظيماً وأشدَّ فيهم غُلوًّا كنتم بقربهم أسعدَ ومِن أعدائهم أبعدَ، ولعمر الله مِن هذا الباب بعينه دخل على عُبَّاد يغوث ويعوق ونسر، ومنه دخل على عُبَّاد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة، فجمع المشركون بين الغلوِّ فيهم والطعن في طريقتهم، وهدى اللهُ أهلَ التوحيد لسلوك طريقتهم وإنزالهم منازلَهم التي أنزلهم الله إيَّاها من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم، وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم "1. وبما تقدَّم يتبيَّن أنَّ أصلَ الشرك في الأولين والآخرين إلى قيام الساعةِ الغلوُّ في الصالحين، والله عزَّ وجلَّ إنَّما أمرنا بمحبَّتهم وإنزالهم منازلَهم من العبودية وسلبِ خصائص الإلهية عنهم، وهذا غايةُ التعظيمِ لهم وطاعتِهِم واتباعِ سبيلهم، ونهانا عن الغلوِّ فيهم فلا نرفعهم فوق منازلهم ولا نحطُّهم منها؛ لما يعلمه تعالى في ذلك من الفساد العظيم، فما وقع الشركُ إلاَّ بسبب الغلوِّ فيهم، فتجد الغالين فيهم عاكفين على قبورهم يدعونهم ويسألونهم وينذرون لهم، وفي الوقت نفسه هم معرِضون عن طريقتهم وسبيلهم، بل عائبين لها ومشتغلين بقبورهم عمَّا أُمروا به ودُعوا إليه، وتعظيمُ الأنبياء والصالحين إنَّما يكون باتِّباع ما دُعوا إليه من العلم النافع والعمل الصالح، واقتفاء آثارهم وسلوك طريقتهم دون عبادتهم وعبادة قبورهم.

_ 1 إغاثة اللَّهفان (1/208 ـ 209) .

إذا سألت فاسأل الله

82 ـ إذا سألتَ فاسأل الله لا شكّ أنَّ كلَّ مسلم يدعو الله تبارك وتعالى، يدعوه وهو يرجو أن يجيب دعاءَه ويحقِّقَ رجاءَه، ويعطيه سُؤْله، إلاَّ أنَّ الدعاءَ له شروطٌ عظيمة وآداب مهمة ينبغي على المسلم أن يعتنيَ بها ويحافظَ عليها؛ ليُستجاب له بتحقيقها دعاؤه، وليتحقق له بتكميلها أملُه بالله ورجاؤه، وهذه الشروطُ والآدابُ وإن كانت جميعُها مهمةً عظيمةً إلاَّ أنَّها متفاوتةٌ في الأهميَّةِ بعضها أهمّ من بعض، فمنها شروطُ صحةٍ لا يُستجاب الدعاء إلاَّ بها، ومنها آدابٌ وسُننٌ ومُكمّلات، والمسلم الموفَّقُ يحافظ على ذلك كلِّه ويعتني به جميعه ليَكمُل له نصيبُه من الخير. وقد مرَّ معنا الإشارةُ إلى جملةٍ طيبةٍ من شروط الدعاء وآدابِه، ولا سيما عند ذكرِ حديث أبي هريرة رضي الله عنه المخرَّج في صحيح مسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ الله طيِّبٌ لا يقبل إلاَّ طيِّباً، وإنَّ اللهَ تعالى أَمَر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} 1، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} 2، ثمَّ ذكر الرجلَ يطيل السفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يديه إلى السماء يا ربّ يا ربّ ومطعمُه حرام، ومشربُه حرام، وملبسُه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك "3.

_ 1 سورة المؤمنون، الآية: (51) . 2 سورة البقرة، الآية: (171) . 3 صحيح مسلم (رقم:1015) .

وفي قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث " فأنَّى يستجاب لذلك " إشارةٌ إلى أنَّ لقبول الدعاء واستجابته شروطاً لا بد من تحقيقها وضوابطَ لا بد من التزامها، والمخلُّ بها حري به ألاَّ يستجاب دعاؤه. ويأتي في مقدمة شروط الدعاء بل وفي مقدمة شروط كلِّ طاعة يَتقرب بها العبدُ إلى الله الإخلاصُ لله تبارك وتعالى فهو شرطٌ أساسٌ وقَيدٌ مُهمٌّ، لا قبول للدعاء ولا لأي عبادةٍ إلاَّ بتحقيقه والإتيان به، قال الله تعالى: {أَلاَ للهِ الدِّينُ الخَالِصُ} 1، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} 2، وقال تعالى: {فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} 3، وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} 4، وثبت في الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس رضي الله عنهما: " إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أنَّ الأمَّةَ لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيء لَم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيء لَم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلامُ وجَفَّت الصُّحف "5.

_ 1 سورة الزمر، الآية: (3) . 2 سورة البينة، الآية: (5) . 3 سورة غافر، الآية: (14) . 4 سورة الأعراف، الآية: (29) . 5 المسند (1/293) ، وسنن الترمذي (رقم:2516) ، وصححه العلاَّمة الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (رقم:2043) .

فقوله صلى الله عليه وسلم " إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله " أمرٌ بالإخلاصِ لله تعالى في السؤال والاستعانة بأن لا يُسأل إلاَّ الله، ولا يُستعان إلاَّ به، وهذا أمرٌ متعيِّنٌ على كلِّ مسلم " لأنَّ السؤالَ فيه إظهارُ الذُّلِّ من السائل والمسكنةِ والحاجةِ والافتقارِ، وفيه الاعترافُ بقُدرةِ المسؤول على دفع هذا الضررِ ونيلِ المطلوب وجلبِ المنافعِ ودرءِ المضارِ، ولا يصلحُ الذُّلُّ والافتقارُ إلاَّ لله وحده؛ لأنَّه حقيقةُ العبودية "1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ومِن أعظم الاعتداء والعدوان والذُّلِّ والهوان أن يُدعى غير الله، فإنَّ ذلك من الشركِ، والله لا يغفر أن يُشرك به، و {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 2، {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لقَاءَ ربِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} 3، وسؤالُ المخلوق محرَّمٌ لغير الحاجة [أي فيما يَقدرُ عليه] ، كما ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة في تحريم المسألة له ولغيره، كحديث حكيم وقبيصة وغيرهما، ففي حديث حكيم بن حزام قال: " سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثمَّ سألتُه فأعطاني، ثمَّ سألتُه فأعطاني، ثمَّ قال: يا حكيم إنَّ هذا المالَ خَضِرَةٌ حُلوةٌ، فمَن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومَن أخذه بإشراف نفسٍ لَم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خيرٌ من اليد السفلى "، أخرجاه4.

_ 1 جامع العلوم والحكم (1/481) . 2 سورة لقمان، الآية: (13) . 3 سورة الكهف، الآية: (110) . 4 صحيح البخاري (رقم:1472) ، وصحيح مسلم (رقم:1035) .

وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: " كنَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعةً أو ثمانيةً، فقال: ألا تُبايعون؟ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلامَ نُبايعك يا رسول الله؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وأن تُطيعوا ـ وأسرَّ كلمةً خفية ـ ولا تسألوا الناسَ شيئاً، قال: فلقد رأيتُ بعضَ أولئك النفر يسقط سوطُ أحدهم فما يسأل أحداً أن يناوله إياه " رواه مسلم1 ... وعن قبيصة بن مخارق الهلاليِّ أنَّه قال: " تحملتُ حَمالةً فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: أَقِم حتى تأتينا الصدقةُ فنأمرَ لك بها، ثمَّ قال: يا قبيصة إنَّ المسألةَ لا تحلُّ إلاَّ لأحدِ ثلاثة: رجلٌ تحمَّل حَمالةً فحلَّت له المسألةُ حتى يصيبها ثمَّ يمسك، ورجلٌ أصابته جائحةٌ اجتاحت مالَه فحلَّت له المسألةُ حتى يصيب قَواماً من عيش، ورجلٌ أصابته فاقةٌ حتى يقول ثلاثةٌ مِن ذوي الحِجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقةٌ، فحلَّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال: سداداً، فما سواهنَّ مِن المسألة يا قبيصة فسُحْتٌ يأكلها صاحبُها سُحْتاً "، رواه مسلم وأبو داود والنسائي2. وتركُ السؤال للمخلوق اعتياضاً بسؤال الخالق أفضلُ مطلقاً، كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: " أصابتني فاقةٌ فأتيتُ

_ 1 صحيح مسلم (رقم:1043) . 2 صحيح مسلم (رقم:1044) ، وسنن أبي داود (رقم:1640) ، وسنن النسائي (5/89) .

النبيَّ صلى الله عليه وسلم فوجدته يخطبُ الناسَ وهو يقول: يا أيُّها الناس، والله مهما يكونُ عندنا من خيرٍ فلن ندَّخره عنكم، وإنَّه مَن يستغن يُغنه الله، ومن يستعف يُعفَّه الله، ومَن يتصبَّر يصبِّره الله، وما أُعطي أحدٌ عطاء خيراً وأوسعَ من الصبر، فقلتُ في نفسي: والذي بعثك بالحقِّ لا أسألكَ شيئاً، فرجعتُ فأغنى اللهُ وجاء بخيرٍ "1، فأبو سعيد فهِم من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ تركَ سؤالِه تعفُّفاً واستغناءً خيرٌ له من سؤالِه، فإذا كان تركُ سؤال الأنبياء في حياتهم أفضلَ مع الحاجة والفاقة، ومع عدم الحاجة يكون حراماً، فكيف سؤالُ الغائب والميِّت منهم ومِن غيرهم ... "2. وقال رحمه الله: " ... فإنَّ سؤالَ المخلوقين فيه ثلاثُ مفاسد: مفسدةُ الافتقار إلى غير الله، وهي من نوع الشرك، ومفسدةُ إيذاء المسؤول وهي من نوع ظلم الخلق، وفيه ذُلٌّ لغير الله، وهو ظلمٌ للنفس، فهو مشتملٌ على أنواع الظلم الثلاثة "3 اهـ كلامُه رحمه الله. والمسلمُ الموفَّقُ يعلم علمَ يقين أنَّه لا ينفع ولا يضرُّ ولا يُعطي ولا يمنع غيرُ الله، ولهذا فهو يُفرده وحده بالخوف والرجاء، والمحبَّة والسؤال، والتضرُّع والدعاء، والذُّلِّ والخضوع، وإنَّا لنرجوه سبحانه أن يوفِّقنا وإيَّاكم لتحقيق ذلك، وألاَّ يكِلنا إلى أحد سواه، فإنَّه سبحانه نِعم المسؤول ونِعم المرجو والمستعان.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1469، 6470) ، وصحيح مسلم (رقم:1053) بلفظ مقارب. 2 تلخيص الاستغاثة (1/210 ـ 216) باختصار. 3 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص:66) .

ترويج أهل الباطل للأدعية الباطلة بالحكايات الملفقة

83 ـ ترويجُ أهل الباطل للأدعية الباطلة بالحكايات المُلفَّقة سبق الكلامُ على أهميَّةِ الإخلاصِ في الدعاء وأنَّه شرطٌ هامٌّ من شروطِ قبوله، وأنَّ عدمَ إخلاصِه لله من أعظم الاعتداء والعدوان، والذُّلِّ والهوانِ، سواءٌ في ذلك مَن دعا غيرَ الله دعاءً مستقِلاًّ، أو جعله واسطةً بينه وبين الله، فإنَّ ذلك من أعظمِ الإثمِ وأشدِّ الضلال، والله يقول: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ الله مَن لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 1. وها هنا أمرٌ لا بدَّ من التنبيه عليه، وهو أنَّ طائفةً من الضُّلال من عُبَّاد القبور والأضرحة والقِباب ونحوها قد يلبِّسون على العوام وجهَّال الناس في هذا الباب بذكرِ بعض القصص والأخبار بأنَّ فلاناً دعا عند قبر فلانٍ فأُجيب، وأنَّ جماعاتٍ دعوا عند قبور جماعاتٍ من الأنبياء والصالحين فاستجيب لهم الدعاء، وكقولهم: إنَّ قبرَ فلان ترياقُ المجرِّبين، وزعمهم بأنَّه عند القبور تُقال العثراتُ، وتستجابُ الدعواتُ، وتتنزَّلُ الرحمات، وأنَّ بعضَهم رأى منامات في الدعاء عند قبور بعض الأشياخ، وجرَّب أقوامٌ استجابة الدعاء عند قبور معروفة، ونحو ذلك مِمَّا لبَّس به هؤلاء الضُّلاّل على بعض جُهال المسلمين، فصرفوهم بذلك عن التوحيد الخالص واليقين الصادق والثقة بالله إلى التعلُّق بالقبورِ والعكوفِ عندها والاستغاثةِ بأهلها ودعائِهم من دون الله.

_ 1 سورة الأحقاف، الآية: (5) .

وما مِن ريبٍ أنَّ القَصصَ والحكاياتِ لها تأثيرٌ بالغٌ في قلوب العامَّةِ والجُهالِ، فكم أوقعت كثيراً منهم في صنوف الضَلال وأنواعٍ من الباطل، والواجبُ على عبد الله المسلمِ أن لا يَبْنِيَ دينَه على شيء من ذلك؛ إذ لا عبرةَ به ولا مُعوَّلَ عليه، ولا حُجَّة فيه وإنَّما الحُجَّةُ في كتاب الله تعالى وسنَّةِ رسوله صلى الله عليه وسلم، لا في الحكايات المختلقَة والقصص الملَفَّقةِ والأخبار المزوَّرة. قال الإمام العلاَّمة ابن القيم رحمه الله وهو بصدد بيان بعض الأمور التي أوقعت بعضَ الناسِ في الافتتان بالقبور والتعلُّقِ بها مع أنَّ ساكنيها أمواتٌ لا يملكون لهم ضرًّا ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، قال رحمه الله: " ومنها [أي الأمور التي أدَّت إلى ذلك] : حكايات حُكيت لهم عن تلك القبور أنَّ فلاناً استغاث بالقبر الفلاني في شدَّة فخلص منها، وفلاناً دعاه أو دعا به في حاجة فقُضيت له، وفلاناً نزل به ضرٌّ فاسترجى صاحبَ ذلك القبر فكشف ضُرَّه، وعند السَدنة والمَقَابريَّة مِن ذلك شيءٌ كثير يطول ذكرُه، وهم مِن أكذبِ خَلق الله تعالى على الأحياء والأموات ... "، إلى آخر كلامه رحمه الله1. وما كان لهذا التقرير الفاسد والاستدلال الباطل أن يَرُوجَ بين أحد من المنتسبين للإسلام والمنتمين لهذه الملَّة الحنيفية؛ لولا غلبةُ الجهل وقلَّةُ العلم بحقيقة ما بعث الله به رسولَه صلى الله عليه وسلم، بل جميعَ الرسل من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك ووسائلِه. وقد ذكر أهل العلم أجوبةً كثيرةً ووجوهاً عديدة في الردِّ تُبيِّن وهاءَ

_ 1 إغاثة اللهفان (1/233) .

هذا الاستدلال وفسادَه، ومِن تلك الأجوبة: أنَّ دينَ الله تامٌّ كاملٌ لا نقص فيه، والله يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} 1، فما لَم يكن ديناً زمن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه فليس اليوم ديناً، ولن يكون ديناً إلى أن تقوم الساعة، والله جلَّ وعلا لا يقبل في الدِّين إلاَّ ما دلَّ عليه كتابه وسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وأما الحكاياتُ والمناماتُ والقَصصُ والأخبارُ فليست مما يُقام عليه شرعٌ أو يُبنى عليه دينٌ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وإنَّما المتَّبَع عند علماء الإسلام في إثبات الأحكام هو كتابُ الله وسنةُ رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيلُ السابقين الأولين، ولا يجوز إثباتُ حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة نصًّا أو استنباطاً بحال "2. ولَم يرِد في تحرِّي الدعاء عند القبور آيةٌ مُحكمةٌ ولا سنَّةٌ متَّبَعةٌ ولم يُنقل في جواز ذلك شيءٌ ثابتٌ عن القرون الثلاثة المفضَّلة التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: " خير أمتي القرن الذي بُعثتُ فيهم ثمَّ الذين يلونهم ثمَّ الذين يلونهم "3، ولم يُنقل شيءٌ من ذلك عن إمامٍ معروف، ولا عالِمٍ متَّبَع. ثمَّ إنَّ كثيراً من هذه الحكايات والمنامات التي تُروى في هذا الباب لا تصح عمَّن نُقلت عنه، وإنَّما هي متقوَّلةٌ مكذوبةٌ مفتراةٌ، ولا سيما منها ما يُنسب إلى بعض أهل العلم والفضل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وهذا والحمد لله لَم يُنقل عن إمام معروف ولا عالم

_ 1 سورة المائدة، الآية: (3) . 2 اقتضاء الصراط (ص:344) . 3 صحيح مسلم (رقم:2534) ، والمسند (2/228) .

متبع، بل المنقول في ذلك إمَّا أن يكون كذباً على صاحبه، وإما أن يكون المنقولُ من هذه الحكايات عن مجهول لا يُعرف، ومنها ما قد يكون صاحبُه قاله أو فعله باجتهاد يخطئ فيه ويُصيب، أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه لا محذور فيه، فحُرِّف النقلُ عنه كما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أذِن في زيارة القبور بعد النهي عنها فَهِمَ المبطلونَ أنَّ ذلك هو الزيارةُ التي يفعلونها من حجها للصلاة عندها والاستغاثة بها "1.اهـ. ثمَّ إنَّ قضاءَ حاجات بعض هؤلاء الداعينَ وتحقُّقَ رغباتهم لا يدلُّ على صحَّةِ عملِهم وسلامتِه، فقد تكون الإجابةُ استدراجاً وابتلاءً وامتحاناً، فليس مجرَّدُ كونِ الدعاءِ حصل به المقصودُ أو تحقَّقَ به المرادُ دليلاً على أنَّه سائغٌ في الشريعة، فإنَّ حصولَ التأثير ليس دليلاً على المشروعية، فالسِّحرُ والطلِسمات والعين وغيرُ ذلك من المؤَثِّرات في العالم بإذن الله قد يقضي الله بها كثيراً من أغراض النفوس الشرِّيرة، ومع ذلك فهي محرَّمةٌ وباطلةٌ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وليس مجرَّد كون الدعاء حصل به المقصود ما يدلُّ على أنَّه سائغٌ في الشريعة، فإنَّ كثيراً من الناس يدعون مِن دون الله من الكواكب والمخلوقين، ويحصُلُ ما يحصل من غرضِهم، وبعضُ الناس يقصدون الدعاء عند الأوثان والكنائس وغير ذلك، ويدعو التماثيل التي في الكنائس ويحصل ما يحصل من غرضه، وبعض الناس يدعو بأدعيةٍ محرَّمة باتِّفاق المسلمين ويحصل ما يحصل من غرضهم.

_ 1 اقتضاء الصراط المستقيم (ص:343 ـ 344) مختصراً.

فحصول الغرض ببعض الأمور لا يستلزم إباحته، وإن كان الغرض مباحاً، فإنَّ ذلك الفعل قد يكون فيه مفسدة راجحة على مصلحته، والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلاَّ فجميع المحرَّمات من الشرك والخمر والميسر والفواحش والظلم قد يحصل لصاحبه به منافع ومقاصد، لكن لمَّا كانت مفاسدُها راجحةً على مصالحها نهى الله ورسوله عنها كما أنَّ كثيراً من الأمور كالعبادات والجهاد وإنفاق الأموال قد تكون مضرَّةً، لكن لَمَّا كانت مصلحتُه راجحةً على مفسدتِه أمر به الشارع، فهذا أصل يجب اعتبارُه "1. ثمَّ إنَّ تلك التأثيرات قد تكون من الشيطان فإنَّه قد يتراءى لبعض هؤلاء في صورة من يعظِّمُه أو يعتقد فيه أو ينتسب إليه، وقد يخاطبُ هؤلاء أو يقضي بعض حوائجهم بإذن الله فيكونُ فتنةً لهم ويُظنُّ أنَّ ذلك كرامةٌ لهؤلاء المدعوِّين، وما هو في الحقيقة إلاَّ فتنة، ولا يعلم هؤلاء أنَّ هذا من جنس ما تفعله الشياطين بعُبَّاد الأوثان حيث تتراءى أحياناً لِمَن يعبدها وتخاطبُهم ببعض الأمور الغائبة وتقضي لهم بعض طلباتهم فكان ذلك أعظمَ أسباب عبادة الأوثان والتعلُّقِ بها. والحاصلُ أنَّ مثلَ تلك الحكايات لا يستقيمُ الاحتجاجُ بها ولا يصح الاعتمادُ عليها، ولا يُبنى دينُ الله على شيءٍ منها وإنَّما يُبنى على ما جاء في الكتاب والسنة لا على الظنون والتخرُّصات والقَصص والحكايات والتجارب والمنامات، أعاذنا الله من الزَّلَلِ ووفّقنا لصائبِ القول وصحيحِ العمل.

_ 1 مجموع الفتاوى (1/264 ـ 265) .

من آداب الدعاء عدم استعجال الإجابة

84 ـ من آداب الدعاء عدم استعجال الإجابة إنَّ من آداب الدعاء العظيمة ألاَّ يستعجلَ الدعاء ويستبطئ الإجابةَ، فيستحسر ويمل ويترك الدعاءَ، ويقع في اليأس من روْح الله والقنوط من رحمته، وقد ورد في الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم النهيُ عن استعجال الدعاء وأنَّ ذلك من موانع إجابته وأسباب عدم قبوله، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يُستجاب لأحدكم ما لَم يعجَل، يقول: دعوتُ فلم يستجب لي "1، وفي لفظٍ عند مسلم: " لا يزال يُستجابُ للعبد ما لَم يَدعُ بإثم أو قطيعة رحم ما لَم يستعجل، قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوتُ وقد دعوتُ، فلَم أر يستجيبُ لِي، فيستحسر عند ذلك ويدَعَ الدعاءَ "2. قال ابن حجر رحمه الله: " وفي هذا الحديث أدبٌ من آداب الدعاء، وهو أنَّه يُلازِم الطلبَ ولا ييأس من الإجابة؛ لِمَا في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار، حتى قال بعضُ السلف: لأنا أشدُّ خشية أن أُحرَم الدعاء من أن أُحرَم الإجابة ... وقال الداودي: يُخشى على مَن خالف وقال: قد دعوتُ فلم يستجب لي أن يُحرم الإجابة وما قام مقامها من الادخار والتكفير "3.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6340) ، وصحيح مسلم (رقم:2735) . 2 صحيح مسلم (رقم:2735) . 3 فتح الباري (11/141) .

ونقل عن ابن بطَّال أنَّه قال في شرح الحديث: " المعنى أنَّه يسأم فيترك الدعاء، فيكون كالمانِّ بدعائه، أو أنَّه أتى من الدعاء ما يستحق به الإجابة، فيصير كالمُبَخِّل للرَّبِّ الكريم الذي لا تعجزه الإجابة ولا يُنقصه العطاء ". إنَّ الواجبَ على مَن أراد أن يُحقِّق الله رجاءَه وأن يُجيب دعاءَه أن يدعو ربَّه وهو موقنٌ بالإجابة؛ عظيمُ الثقة بالله، شديدُ الرجاء فيما عنده. قال ابن رجب رحمه الله: " ومِن أعظم شرائطه [أي الدعاء] حضورُ القلب ورجاءُ الإجابة من الله تعالى كما خرَّج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإنَّ الله لا يقبلُ دعاءً من قلبِ غافلٍ لاَهٍ "1، وفي المسند عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ هذه القلوبَ أوعيةٌ، فبعضُها أوعى من بعض، فإذا سألتم اللهَ فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإنَّ اللهَ لا يستجيبُ لعبدٍ دعاءً من ظهرِ قلبٍ غافل "2، ولهذا نُهي العبدُ أن يقول في دعائه: " اللَّهمَّ اغفر لي إن شئتَ، ولكن ليعزِم المسألةَ فإنَّ الله لا مكره له "3، ونُهي أن يستعجل ويترك الدعاء؛ لاستبطاء الإجابة، وجُعل ذلك من موانع الإجابة، حتى لا يقطع رجاءَه من إجابة دعائه

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3479) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:245) . 2 المسند (2/177) ، وانظر: الصحيحة (رقم:594) . 3 صحيح مسلم (رقم:2679) .

ولو طالت المُدَّة، فإنَّه سبحانه يحبُّ الملحِّين في الدعاء ... فما دام العبدُ يُلحُّ في الدعاء ويطمع في الإجابة من غير قطع الرجاء، فهو قريبٌ من الإجابة، ومن أدمَن قَرْعَ الأبواب يوشك أن يُفتح له " اهـ1. وكيف لا يكون المسلمُ واثقاً بربِّه والأمورُ كلُّها بيده، ومعقودةٌ بقضائه وقَدَرِه، فما شاء الله كان كما شاء، في الوقت الذي يشاء، على الوجه الذي يشاء، من غير زيادة ولا نقصان ولا تقدُّم ولا تأخُّر، وحُكمه سبحانه نافذٌ في السموات وأقطارها وفي الأرض وما عليها وما تحتها وفي البحار والجوِّ، وفي سائر أجزاء العالَم وذرَّاته يُقلِّبها ويصرفها ويُحدث فيها ما يشاء {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} 2، أحاط بكلِّ شيء علماً، وأحصى كلَّ شيء عدداً، ووسع كلَّ شيء رحمة وحكمة، له الخلقُ والأمر، وله المُلكُ والحمد، وله الدنيا والآخرة، وله النعمة والفضل، وله الثناء الحسن، شملت قدرتُه كلَّ شيء، ووسعت رحمتُه كلَّ شيء {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} 3، لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفرَه، ولا حاجةٌ يُسألها أن يعطيها، لو أنَّ أهلَ سمواته وأهل أرضه إنسهم وجِنَّهم حيَّهم وميِّتَهم صغيرَهم وكبيرَهم رطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كلَّ واحد منهم ما سأله ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ

_ 1 جامع العلوم والحكم (2/403 ـ 404) . 2 سورة فاطر، الآية: (2) . 3 سورة الرحمن، الآية: (29) .

لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1، ولهذا فإنَّ مِمَّا يتنافى مع تمام الإيمان به وكمال توحيده سبحانه أن يدعوَه العبدُ وهو غير عازم في مسألته؛ بأن يقول في دعائه: اللَّهمَّ ارحمني إن شئت، أو اللَّهمَّ اغفر لي إن شئت، أو اللَّهمَّ وفِّقني إن شئت، ونحوَ ذلك لِما في هذا القول من إيهام الاستغناء عن الله وعدم الثقةِ فيما عنده، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يقولنَّ أحدُكم: اللَّهمَّ اغفر لي إن شئتَ، اللَّهمَّ ارحمني إن شئتَ، ولكن ليعزم المسألةَ وليُعظِّم الرغبة، فإنَّ اللهَ تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه "، وهذا لفظ مسلم2. وفي الصحيحين أيضاً من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا دعا أحدكم فليعزم في الدعاء، ولا يَقُل: اللَّهمَّ إن شئتَ فأعطِني، فإنَّ الله لا مستكره له " 3. وقد أورد الإمام المجدِّد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذا الحديث في كتاب التوحيد، وترجم له بقوله: " باب قول: اللَّهمَّ اغفر لي إن شئت "، وهو رحمه الله ينبِّه بهذه الترجمة إلى أنَّ عدمَ العزم في الدعاء وتعليقه بالمشيئة ممَّا يتنافى مع التوحيد الواجب الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم؛ لأنَّ قولَ القائلِ: " اللَّهمَّ اغفر لي إن شئتَ "، يدلُّ على فتورٍ في الرغبة، وقلَّةِ اهتمامٍ في الطلب، وكأنَّ هذا القول يتضمَّن أنَّ هذا المطلوبَ إن حصلَ وإلاَّ استغنى عنه، ومَن كان هذه حاله لَم

_ 1 سورة يس، الآية: (82) . 2 صحيح مسلم (رقم:2679) . 3 صحيح البخاري (رقم:6338) ، صحيح مسلم (رقم:2678) .

يتحقق من حاله الافتقارُ والاضطرارُ الذي هو روحُ العبادة ولُبُّها، وكان ذلك دليلاً على قلَّة معرفته بذنوبه وسوء عاقبتها وقلَّة معرفته برحمة ربِّه، وشِدَّة احتياجه إليه، وضعف يقينه بالله عزَّ وجلَّ وإجابته للدعاء. ولهذا قال في الحديث: " وليَعزِم المسألةَ "، أي ليجْزِم في طلبته، ويحقق رغبته، ويتيقَّن الإجابة، فإنَّه إذا فعل ذلك دلَّ على علمه بعظيم ما يطلب من المغفرة والرحمة، وعلى أنَّه مفتقرٌ إلى ما يطلب مضطرٌّ إليه، وعلى أنَّه محتاجٌ إلى الله مفتقرٌ إليه، لا يستغني عن مغفرته ورحمته طرفةَ عين1. ولهذا فإنَّ الواجبَ على المسلم إذا دعا الله أن يجتهدَ ويُلحَّ في الدعاء، ولا يَقُل: " إن شئتَ "، كالمستثنِي، بل يدعو دعاءَ البائس الفقير بإلحاحٍ وصِدق وجِدٍّ واجتهاد، مع الثقة الكاملة بالله والطمع فيما عنده، وحسن الظنِّ به سبحانه، وهو جلَّ وعلا يقول كما في الحديث القدسي: " أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني "، أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما2. وإنَّا نسأل الله الكريم أن يرزقنا حسنَ الظنِّ به وعظيم الثقة فيما عنده، وأن يُوفِّقنا لكلِّ خير يحبه ويرضاه في الدنيا والآخرة.

_ 1 انظر: تيسير العزيز الحميد (ص:651 ـ 652) . 2 صحيح البخاري (رقم:7405) ، وصحيح مسلم (رقم:2675) .

أهمية حضور القلب في الدعاء وجملة من الآداب الأخرى

85 ـ أهميَّة حضور القلب في الدعاء وجُملة من الآداب الأخرى إنَّ الدعاءَ من أقوى الأسباب التي تُجلبُ بها الأمور المحبوبة، وتدفع بها الأمور المكروهة، لكنه قد يتخلَّف أثرُه وتضعف فائدتُه، وربَّما تنعدم لأسباب منها: إمَّا ضعف في نفس الدعاء، بأن يكون دعاءً لا يحبُّه الله لِما فيه من العدوان، وإمَّا لضعف القلبِ وعدم إقباله على الله وقت الدعاء، وإمَّا لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام، ورَيْنِ الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والسهو واللهو وغلبتهما عليها؛ إذ إنَّ هذه الأمور تُبطل الدعاءَ، وتُضعف من شأنِه. ولهذا فإنَّ من الضوابط المهمَّة والشروطِ العظيمةِ التي لا بدَّ من توفرها في الدعاء حضورَ قلب الداعي وعدم غفلته،؛ لأنَّه إذا دعا بقلب غافلٍ لاهٍ ضعُفت قوةُ دعائه، وضعُف أثرُه، وأصبح شأنُ الدعاء فيه بمنزلة القوس الرخو جدًّا، فإنَّه إذا كان كذلك خرج منه السهم خروجاً ضعيفاً، فيضعف بذلك أثرُه، ولهذا فإنَّه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الحثُّ على حضور القلب في الدعاء، والتحذيرُ من الغفلة، والإخبارُ بأنَّ عدمَ ذلك مانعٌ من موانع قبوله. روى الإمامُ أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " القلوبُ أوعيةٌ، وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتُم اللهَ عزَّ وجلَّ أيُّها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإنَّ اللهَ لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر

قلبٍ غافلٍ "1، وإسناده ضعيف؛ لأنَّ فيه عبد الله بن لهيعة سيء الحفظ، وباقي رجاله ثقات، إلاَّ أن له شاهدا يتقوَّى به عند الإمام الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه2. ومعنى الحديث صحيحٌ؛ إذ لا بدَّ للمسلم مع الدعاء مِن حضور القلب وعدم الغفلة والإيقان بالإجابة، ولهذا فقد عدَّ الإمام العلاَّمةُ ابن القيم رحمه الله في كتابه الجواب الكافي غفلةَ القلبِ وعدمَ حضوره مانعاً من موانع إجابة الدعاء، واحتجَّ على ذلك بهذا الحديث ثمَّ قال: " وهذا دواءٌ نافعٌ مزيلٌ للداء، ولكن غفلة القلب تُبطل قوَّتَه "، وقال رحمه الله: " وإذا جُمع مع الدعاء حضورُ القلب وجَمعِيَّتُه بكليَّتِه على المطلوب، وصادف وقتاً من أوقات الإجابة الستة، وهو الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبة، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تُقضى الصلاة من ذلك اليوم، وآخر ساعة بعد العصر، وصادف خشوعاً في القلب وانكساراً بين يدي الربِّ، وذُلاًّ له، وتضرُّعاً ورِقَّةً، واستقبل الداعي القبلةَ، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثمَّ ثنَّى بالصلاة على محمد عبده ورسوله، ثمَّ قدَّم بين يدي حاجته التوبةَ والاستغفار، ثمَّ دخل على الله، وألحَّ عليه في المسألة، وتَملَّقه ودعاه رغبة ورهبة، وتوسَّل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدَّم بين يدي دعائه صدقةً، فإنَّ هذا الدعاءَ لا يكاد يُردُّ أبداً، ولا سيما إن

_ 1 المسند (2/177) . 2 سنن الترمذي (رقم:3479) ، وانظر: الصحيحة (رقم:594) .

صادف الأدعيةَ التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّها مظنَّةُ الإجابةِ، أو أنَّها متضمِّنَةٌ للاسم الأعظم ". اهـ كلامه رحمه الله1. وهو كلامٌ عظيم النفع، مشتملٌ على ذِكر جملة من الشروط المهمَّة والآداب العظيمةِ التي لا يكاد يُرَدُّ الدعاء حال توفرها، ويُمكن تلخيص هذه الآداب في الأمور التالية: الأول: حضورُ القلب وجَمعِيَّتُه بكليَّته على المطلوب. الثاني: تحرِّي أوقات الإجابة. الثالث: أن يكون عن خشوع في القلب وتذلُّل وتضرُّع ورِقَّةٍ وانكسارٍ بين يدي الله عزَّ وجلَّ. الرابع: أن يستقبل الداعي القبلةَ. الخامس: أن يكون على طهارة. السادس: أن يرفع يديه إلى الله عزَّ وجلَّ عند الدعاء. السابع: أن يبدأ دعاءَه بحمد الله وحسن الثناء عليه، ثمَّ يُثَنِّي بالصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. الثامن: أن يقدِّم بين يدي حاجته وطلبه التوبةَ والاستغفارَ. التاسع: أن يُلحَّ على الله ويتملَّقه ويُكثر من مناجاته. العاشر: أن يجمع في دعائه بين الرغبة والرهبة. الحادي عشر: أن يتوسَّل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العظيمة وتوحيده.

_ 1 الجواب الكافي (ص:9) .

الثاني عشر: أن يُقدِّم بين يدي دعائه صدقة. الثالث عشر: أن يتخيَّر الأدعية الجامعة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّها مظنَّةُ الإجابة، أو أنَّها متضمِّنَةٌ لاسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى. فإذا جمع المسلمُ في دعائه هذه الأمورَ العظيمةَ، فإنَّ دعاءَه لا يكاد يُردُّ أبداً، إلاَّ أنَّ ها هنا أمراً نبَّه عليه أهل العلم لا بدَّ من العناية به وتحقيقه، وهو أنَّ الداعيَ ينبغي له مع قيامه بالدعاء مستوفياً لشروطه وآدابه أن يستتبع ذلك القيامَ بلوازم ذلك ومُتَمِّماته، وذلك بالسعي والجدِّ والاجتهاد في نيل المطلوب " فسؤال الله الهدايةَ يستدعي فِعلَ جميعِ الأسبابِ التي تُدركُ بها الهدايةُ؛ العلميةُ والعمليةُ، وسؤالُ الله الرحمةَ والمغفرةَ يقتضي مع ذلك فعل الممكن من الأسباب التي تُنال بها الرحمة والمغفرة، وهي معروفة في الكتاب والسنة، وإذا قال الداعي: اللَّهمَّ أَصلِح لي ديني الذي هو عِصمةُ أمري، وأَصلِح لي دنياي التي فيها معاشي، إلى آخره يقتضي في هذا الطلب والالتجاء إلى الله أن يَسعى العبدُ في إصلاح دينه بمعرفة الحقِّ واتِّباعه، ومعرفة الباطل واجتنابه، ودفع فتن الشبهات والشهوات، ويقتضي أن يسعى ويقومَ بالأسباب التي تَصلُحُ بها دنياه، وهي متنوعةٌ بحسب أحوال الخلق، وإذا قال الداعي: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ} 1،

_ 1 سورة الأحقاف، الآية: (15) .

فمع هذا التضرع إلى الله يسعى في شكر نعم الله عليه وعلى والديه اعترافاً وثناءً وحمداً واستعانةً بها على طاعته، وتعرّف الأعمال الصالحة التي ترضي الله والعمل بها، والسعي في تربية الذرية تربية إصلاحية دينية، وهكذا جميع الأدعية صريحة في الاتكال والتضرع إلى الله والالتجاء إليه في حصول المطالب المتنوعة، وصريحة في الاجتهاد في فعل كلِّ سبب ينال به ذلك المقصود، فإنَّ الله تعالى جعل المطالبَ كلَّها أسباباً بها تنال، وأمرَ بفعلها مع قوة الاعتماد على الله، والدعاء يعبر عن قوة الاعتماد على الله، ولهذا كان رُوحَ العبادة ومُخَّها، وإذا سأل العبدُ ربَّه أن يتوفاه مسلماً وأن يتوفاه مع الأبرار كان سؤالاً لحسن الخاتمة، ويستدعي فعل الأسباب والتوفيق للأسباب التي تنال بها الوفاة على الإسلام، ولهذا يقول الله تعالى: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُسْلِمُونَ} 1، وذلك بفعل الأسباب والاعتماد على مسبِّبها "2، وهو الله وحده الذي بيده أزمة الأمور.

_ 1 سورة آل عمران، الآية: (102) . 2 مجموع الفوائد واقتناص الأوابد لابن سعدي (ص:98) .

افتقار العبد الى الله

86 ـ افتقارُ العبدِ إلى الله إنَّ من الخصال الكريمة والخلال العظيمة التي ينبغي أن يتصفَ بها مَن يدعو اللهَ عزَّ وجلَّ أن يعلم علمَ يقينٍ أنَّه مفتقرٌ إلى الله عزَّ وجلَّ، محتاجٌ إليه، لا يستغني عنه طرفة عين، وذلك أنَّ الإنسان بل وجميعَ المخلوقات عبادٌ لله تعالى، فقراءُ إليه، مماليكُ له، وهو ربُّهم ومليكُهم وإلَهُهم، لا إله لهم سواه، فالمخلوقُ ليس له من نفسه شيءٌ أصلاً، بل نفسُه وصفاتُه وأفعالُه وما ينتفع به أو يستحقه وغيرُ ذلك إنَّما هو من خلق الله، والله عزَّ وجلَّ ربُّ ذلك كلِّه، ومليكُه وبارئُه وخالقُه ومصوِّرُه، ومدبِّرُ شؤونه، فما شاء الله كان وما لَم يشأ لَم يكن، فلا رادَّ لقضائه ولا معقِّب لحكمه {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} 1. فالمخلوقُ فقيرٌ إلى الله، محتاجٌ إليه، ليس فقيراً إلى سواه، يقول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمْ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} 2، فليس المخلوق مستغنياً بنفسه ولا بغير ربِّه سبحانه؛ إذ إنَّ ذلك الغيرَ فقيرٌ أيضاً، محتاجٌ إلى الله، ولهذا قيل استغاثةُ المخلوق بالمخلوقِ كاستغاثة الغريق بالغريق، وقيل: استغاثةُ المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون.

_ 1 سورة فاطر، الآية: (2) . 2 سورة فاطر، الآية: (15) .

وقد جاء في الحديث القدسي أنَّ الله تبارك وتعالى يقول: " يا عبادي كلُّكم ضالٌّ إلاَّ مَن هديتُه، فاستهدوني أهدِكم، يا عبادي كلُّكم جائعٌ إلاَّ مَن أطعمته، فاستطعِموني أُطعمكم، يا عبادي كلُّكم عارٍ إلاَّ من كسوتُه، فاستكسوني أكسُكم، يا عبادي إنَّكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوبَ جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ... "1، قال ابن رجب رحمه الله: " هذا يقتضي أنَّ جميع الخلق مُفتَقِرون إلى الله تعالى في جلب مصالِحِهم، ودفع مضارِّهم، في أمور دينهم ودنياهم، وأنَّ العبادَ لا يملكون لأنفسهم شيئاً من ذلك كلِّه، وأنَّ من لَم يتفضّل الله عليه بالهدى والرزق فإنَّه يحرمهما في الدنيا، ومن لَم يتفضَّل الله عليه بمغفرة ذنوبه أَوْبَقته خطاياه في الآخرة "2. اهـ كلامه رحمه الله. فالأمورُ كلُّها بيده، الهدايةُ والعافيةُ والرزقُ والصحةُ وغيرُ ذلك، وما شاء سبحانه من ذلك كان، وما لَم يشأ لَم يكن {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3، قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} 4، فعطاؤُه سبحانه كلام، وعذابُه كلام، فإذا أراد شيئاً من عطاء أو عذاب أو غير ذلك قال له كن فيكون، ولهذا فكيف ـ والأمر كذلك ـ يُلجأ إلى سواه، أو يُخضع لمن دونه، أو يُطلب ويدعى غيره؟

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2577) . 2 جامع العلوم والحكم (2/37 ـ 38) . 3 سورة يس، الآية: (82) . 4 سورة النحل، الآية: (40) .

ولهذا قال الله تعالى: {فَابْتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} 1 " فالعبد لا بدَّ له من رزقٍ، وهو محتاجٌ إلى ذلك، فإذا طلب رزقَه من الله صار عبداً لله، فقيراً له، وإذا طلبه من مخلوق صار عبداً لذلك المخلوق فقيراً له "2. إنَّ فقرَ المخلوق واحتياجَه لربِّه أمرٌ ذاتيٌّ له، لا وجود له بدونه، لكنَّ المخلوقين يتفاوتون في إدراك ذلك الافتقار أو العزوب عنه، والعبد فقيرٌ إلى الله من جهتين، من جهة العبادة، ومن جهة الاستعانة كما قال الله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فالعبد يفتقر إلى الله من جهة أنَّه معبودُه الذي يحبُّه حبَّ إجلال وتعظيم، وقلبُه لا يصلح ولا يفلح، ولا يُسرُّ ولا يلتذُّ، ولا يطيب ولا يسكن، ولا يطمئن إلاَّ بعبادة ربِّه والإنابة إليه، ولو حصل له كلُّ ما يلتذُّ به من المخلوقات لَم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقرٌ ذاتي إلى ربِّه من حيث هو معبودُه ومحبوبُه ومطلوبُه، وبهذا يحصل له الفرحُ والسرورُ واللذَّةُ والنِّعمةُ والسكونُ والطمأنينة، والعبد يفتقر إلى الله من جهة استعانته به للاستسلام لأمره، والانقياد لحكمه، والخضوع لشرعِه؛ إذ لا يقدر على تحصيل شيء من ذلك والقيام به إلاَّ إذا أعانه الله "3. وها هنا قاعدةٌ مهمةٌ نبّه عليها أهلُ العلم، وهي أنَّ كلَّ حيٍّ سوى الله،

_ 1 سورة العنكبوت، الآية: (17) . 2 العبودية لابن تيمية (ص:22) . 3 انظر: العبودية لابن تيمية (ص:29) ، ومجموع الفتاوى له (14/31) .

فهو فقيرٌ إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، فلا بدَّ له من أمرين: أحدهما: هو المطلوب المحبوب الذي ينتفع به ويتلذذ به. والثاني: هو المعين الموصل لذلك المقصود والمانعُ لحصول المكروه، والدافعُ له بعد وقوعه. فهنا أربعة أشياء يحتاج إليها الإنسان: أحدها: أمر محبوب مطلوب الوجود. والثاني: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم. والثالث: الوسيلة إلى حصول المحبوب. والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه. فهذه أربعة أمور ضرورية للعبد بل ولكلِّ حيّ، لا يقوم وجودُه ولا يكون صلاحُه إلاَّ بها. إذا عُرف هذا فالله سبحانه هو المطلوبُ المعبودُ المحبوبُ وحده، لا شريك له، وهو وحده المُعِينُ للعبد على حصول مطلوبه، فلا معبودَ سواه، ولا مُعينَ على المطلوب غيره، فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة المتقدمة دون ما سواه، وهذا معنى قول العبد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فإنَّ هذه العبادةَ تتضمن المقصودَ المطلوبَ على أكملِ الوجوه، والمستعان هو الَّذي يُستعان به على حصول المطلوب ودفع المكروه، وفي القرآن الكريم سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين:

أحدها: قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . الثاني: قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} 1. الثالث: قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 2. الرابع: قوله تعالى: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} 3. الخامس: قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} 4. السادس: قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابْ} 5. السابع: قوله تعالى: {وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} 6. إنَّ حاجةَ العبد إلى أن يعبد الله وحده ولا يُشرك به شيئاً في محبَّتِه، ولا في خوفِه، ولا في رجائِه، ولا في التوَكُّلِ عليه، ولا في التذَلُّلِ والتعظيمِ والتقرُّبِ أعظمُ من حاجة الجسد إلى روحه، والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظيرٌ تُقاس به، فالعبدُ لا بدّ له من إلَهِه الحق في كلِّ حالة وكلِّ دقيقة وكلِّ طرفة عين، وضرورته وحاجته إليه

_ 1 سورة هود، الآية: (88) ، والشورى، الآية: (10) . 2 سورة هود، الآية: (123) . 3 سورة الممتحنة، الآية: (4) . 4 سورة الفرقان، الآية: (58) . 5 سورة الرعد، الآية: (30) . 6 سورة المزمل، الآية: (9) .

لا تشبهها ضرورة ولا حاجة، بل هي فوق كلِّ ضرورة وأعظم من كلِّ حاجة، والقرآنُ الكريم مملوءٌ مِن ذكرِ حاجةِ العباد إلى الله دون ما سواه، ومِن ذكرِ نعمائه عليهم، ومِن ذكرِ ما وعدهم في الآخرة من صنوف النعيم واللّذات، وعلمُ العبد بهذا يحقِّقُ له تمامَ التوكُّلِ على الله، وكمالَ الشكر له، ومحبّته على إحسانه واللجوءَ إليه وحده دون ما سواه في الأمور كلِّها، صغيرِها وكبيرِها، دقيقِها وجليِّها1. وإنا لنسأل الله الكريم أن يوفقنا لتحقيق ذلك وحسن القيام به، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقلَّ من ذلك، وأن يهدينا إليه صراطاً مستقيماً.

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (1/20 ـ 36) ، وطريق الهجرتين لابن القيم (ص:100 ـ 104) .

جملة من آداب الدعاء

87 ـ جملةٌ من آداب الدعاء إنَّ من آداب الدعاء المهمَّة وأسباب قبوله العظيمة أن يسبق الدعاءَ توبةٌ من العبد إلى الله عزَّ وجلَّ من جميع ذنوبه وخطاياه، فيُقرُّ بذنبه، ويعترف بتقصيره، ويندم على تفريطه، فإنَّ تراكمَ الذنوب واجتماعَ الخطايا سببٌ من أسباب عدم الإجابة، كما قال بعض السلف: " لا تستبطئ الإجابةَ وقد سددتَ طُرقَها بالمعاصي "، وقد نظم بعضُهم هذا المعنى في بيتين من الشعر فقال: نحن ندعو الإلهَ في كلِّ كرب ثمَّ ننساه عند كشف الكروب كيف نرجو إجابةً لدعاءٍ قد سددنا طريقَها بالذنوب وقد سبق أن مرَّ معنا حديثُ النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر الرجلَ يطيل السفر أشعث أغبر يَمدُّ يديه إلى السماء يقول: يا رب يا رب، ومطعمُه حرام، وملبسُه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك، فاستبعد النبي صلى الله عليه وسلم إجابةَ دعاء مَن كانت هذه حاله " وقد يكون ارتكاب المحرمات الفعليةُ مانعاً من الإجابة أيضاً، وكذلك ترك الواجبات "1. ولهذا فإنَّ مَن أراد أن يجيب الله دعاءَه ويُحقق رجاءَه، فعليه أن يتوب إلى الله توبةً نصوحاً من ذنوبه وخطاياه، والله جلّ وعلا لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره، ولا حاجةٌ يُسألها أن يعطيها، وقد كان أنبياء الله ورسلُه يُرَغِّبون أممَهم ويحثُّونهم على التوبة والاستغفار، ويُبيِّنون لهم

_ 1 جامع العلوم والحكم (1/275) .

أنَّ ذلك سببٌ من أسباب إجابة الدعاء ونزول الأمطار وكثرة الخير وانتشار البركة في الأموال والأولاد، قال تعالى عن نوح عليه السلام أنَّه قال لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنَينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ أَنْهَارَا} 1، وقال عن هود عليه السلام أنَّه قال لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} 2، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} 3، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْسَآءِ وَالضَرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَّرَّعُونَ فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4، وقال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} 5. فالتوبةُ إلى الله واستغفارُه سببُ نزول الخيرات وتوالي البركات وإجابة الدعوات، يُروى أنَّ أميرَ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فأُمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيتَ؟ فقال: " لقد طلبتُ المطرَ بِمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر، ثمَّ قرأ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا

_ 1 سورة نوح، الآيات: (10 ـ 12) . 2 سورة هود، الآية: (52) . 3 سورة الأعراف، الآية: (96) . 4 سورة الأنعام، الآيتان: (42، 43) . 5 سورة هود، الآية: (3) .

يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِدْرَارًا} "1. وقال ابن صَبيح: " شكا رجلٌ إلى الحسن البصري رحمه الله الجدوبةَ، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله، فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إنَّ الله تعالى يقول في سورة نوح: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنَينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ أَنْهَارَا} " 2. ومعنى الآية: " أي إذا تُبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه، كثر الرزق عليكم وأسقاكم من بركات السماء، وأنبتَ لكم من بركات الأرض، وأنبتَ لكم الزرعَ، وأدر لكم الضرع، وأمدَّكم بأموالٍ وبنينَ، أي أعطاكم الأموالَ والأولادَ وجعل لكم جنَّاتٍ فيها أنواع الثِّمار وخلَلها بالأنهار الجارية بينها "3، إلى غير ذلك من صنوف الخيرات وأنواع العطايا والهبات، وسيأتي الكلام على الاستغفار، فضله وأهميته وفوائده في الدنيا والآخرة. ومن آداب الدعاء المهمة أن يدعو المسلم ربَّه وهو في حال تضرُّعٍ وخشوعٍ وخضوعٍ وتَذلُّلٍ، بل إنَّ ذلك " هو روحُ الدعاء ولبُّه ومقصودُه، فإنَّ الخاشعَ الذليلَ إنَّما يسأل مسألةَ مسكين ذليل قد

_ 1 ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/98) . 2 رواه عبد الرزاق في مصنفه (3/87) ، والطبراني في الدعاء (رقم:964) . 3 تفسير ابن كثير (8/260) .

انكسر قلبُه وذلَّت جوارحُه وخشع صوتُه "1، قال الله تبارك وتعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} ، فأمر سبحانه بدعائه بتضرُّع وخفية، وحذَّر في هذا السياق من الاعتداء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ومِن العدوان أن يدعوه غير متضرِّع، بل دعاءُ هذا كالمستغني المدلي على ربِّه، وهذا من أعظم الاعتداء لمنافاته لدعاء الذليل، فمَن لَم يسأل مسألة مسكين متضرِّع خائف فهو مُعتد "2. وقد سبق الكلامُ على الاعتداء في الدعاء وأنواعه، وأنَّ كلَّ تجاوز لما حدَّته الشريعة في ذلك فهو اعتداء. ومِن آداب الدعاء الإلحاحُ على الله وكثرةُ سؤاله وعدمُ السآمة والملل " والله يحبُّ الملحٍّين في الدعاء، ولهذا تجد كثيراً من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم فيها من بسط الألفاظ وذكر كلِّ معنى بصريح لفظه، دون الاكتفاء بدلالة اللفظ الآخر عليه ما يشهد لذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث علي رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه: " اللَّهمَّ اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخرتُ وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به منِّي، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر لا إله إلاَّ أنت "3، ومعلومٌ أنَّه لو قيل: اغفر لي كلَّ ما صنعت كان أوجز، ولكن لفظ الحديث في مقام الدعاء والتضرُّع وإظهار العبودية والافتقار باستحضار الأنواع التي يتوب العبدُ منها تفصيلاً أحسن وأبلغ من الإيجاز والاختصار، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في

_ 1 مجموع الفتاوى (15/16) . 2 الفتاوى (15/23) . 3 صحيح مسلم (رقم:771) .

الحديث الآخر: " اللَّهمَّ اغفر لي ذنبي كلَّه دقَّه وجُلَّه، سرَّه وعلانيته، أوَّلَه وآخره "1، وفي الحديث: " اللَّهمَّ اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به منِّي، اللَّهمَّ اغفر لي جدي وهَزلي وخطئي وعمدي وكلُّ ذلك عندي "2، وهذا كثيرٌ في الأدعية المأثورة، فإنَّ الدعاءَ عبوديةٌ لله وافتقارٌ إليه وتذلُّلٌ بين يديه، فكلَّما كثَّره العبدُ وطوَّله وأعاده وأبداه ونوَّع جُملَه كان ذلك أبلغَ في عبوديته وإظهار فقره وتذلُّلِه وحاجته، وكان ذلك أقربَ له من ربِّه وأعظمَ لثوابه، وهذا بخلاف المخلوق، فإنَّك كلَّما كثرت سؤاله وكررت حوائجك إليه أبرمته وثقلت عليه وهنتَ عليه، وكلما تركت سؤاله كان أعظمَ عنده وأحبَّ إليه، والله سبحانه كلَّما سألته كنتَ أقربَ إليه وأحبَّ إليه، وكلَّما أَلْححت عليه في الدعاء أحبَّكَ، ومَن لَم يسأل الله يغضب عليه. فالله يغضب إن تركتَ سؤاله وبُنَيُّ آدم حين يُسأل يغضب "3. وقد روي في سنن أبي داود وغيره من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُعجبه أن يدعو ثلاثاً ويستغفر ثلاثا "4، وقال الأوزاعي رحمه الله: " كان يُقال: أفضل الدعاء الإلحاح على الله والتضرع "5.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:483) . 2 صحيح مسلم (رقم:2719) . 3 جلاء الأفهام لابن القيم (ص:203) . 4 سنن أبي داود (رقم:1524) ، المسند (1/394، 397) ، وأورده العلاَّمة الألباني رحمه الله في ضعيف الجامع (رقم:4984) . 5 رواه البيهقي في شعب الإيمان (2/38) .

تعرف الى الله في الرخاء يعرفك في الشدة

88 ـ تعرَّف إلى الله في الرَّخاءِ يعرفك في الشدَّة تقدَّم معنا ذكر ثلاثة آدابٍ للدعاء عظيمة، وهي أن يقدم العبدُ بين يدي دعائه توبة من ذنوبه وخطاياه، وأن يكون دعاؤه لربِّه في حال تضرُّع وخشوعٍ وخضوع، وأن يُلحَّ على الله في الدعاء ويُكثر من سؤاله دون سآمة أو ملل، وهذه جملة أخرى من آداب الدعاء التي ينبغي أن يعتني بها المسلم. فمِن آداب الدعاء المهمة أن لا يقتصرَ المسلم على دعائه ربَّه في حال الشدَّة فقط، بل الواجب أن يدعوَ ربَّه في سرَّائه وضرَّائه، وشدَّته ورخائه، وصحته وسقمه، وفي أحواله كلِّها، وملازمةُ المسلم للدعاء حال الرخاءِ، ومواظبتُه عليه في حال السرَّاء سببٌ عظيمٌ لإجابة دعائه عند الشدائد والمصائب والكُرَب، وقد جاء في الحديث أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " مَن سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فلْيُكثِر الدعاءَ في الرخاء "، رواه الترمذي، والحاكم، وغيرُهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وسنده حسن1. وقد ذمَّ الله المشركين في مواطن كثيرة من كتابه العزيز بأنَّهم لا يلجأون إلى الله ولا يُخلصون الدِّين إلاَّ في حال شدَّتهم، أمَّا في حال رخائهم ويُسرهم وسرَّائهم، فإنَّهم يشركون مع الله غيرَه، ويُقبلون

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3382) ، والمستدرك (1/544) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:6290) .

على أوثان لا تَملِكُ لهم شيئاً ولا تنفعهم ولا تضرُّهم، فيَسْتَنْجِدون بها ويستغيثون بها ويُنزلون بها حاجاتهم وطلباتهم، يقول الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ للهِ أَندَادًا} 1، ويقول تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} 2، ويقول تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} 3، ويقول تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} 4، والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ، وهي تدلُّ دلالة واضحة على ذمِّ مَن لا يعرف الله إلاَّ في حال ضرَّائه وشدَّته، أمَّا في حال رخائه فإنَّه يكون في صدود وإعراض ولَهوٍ وغفلة وعدم إقبال على الله تبارك وتعالى. ولهذا فإنَّ الواجبَ على المسلم أن يُقبلَ على الله في أحواله كلِّها في اليُسرِ والعُسرِ، والرخاءِ والشدِّةِ، والغنى والفقرِ، والصحةِ والمرضِ، ومَن تعرَّف على الله في الرخاء عرفه الله في الشدَّة، فكان له معيناً وحافظاً ومؤيِّداً وناصراً.

_ 1 سورة الزمر، الآية: (8) . 2 سورة يونس، الآية: (12) . 3 سورة الزمر، الآية: (49) . 4 سورة فصلت، الآية: (51) .

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما المشهور: " تعرَّف إلى الله في الرَّخاء يعرفك في الشدَّة "1. قال ابن رجب رحمه الله في جزء له أفرده في شرح هذا الحديث: " المعنى أنَّ العبدَ إذا اتقى الله وحفظ حدودَه وراعى حقوقه في حال رخائه وصحته، فقد تعرَّف بذلك إلى الله، وكان بينه وبينه معرفة، فعرفه ربُّه في الشدَّة، وعرف له عملَه في الرخاء، فنجَّاه من الشدائد بتلك المعرفة ... وهذا التعرُّفُ الخاص هو المشار إليه في الحديث الإلَهي " ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ـ إلى أن قال ـ ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه "2 "3. ثمَّ أورد عن الضحاك بن قيس أنَّه قال: " اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدَّة، إنَّ يونس عليه السلام كان يذكر اللهَ، فلمَّا وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 4، وإنَّ فرعونَ كان طاغياً ناسياً لذكر الله، فلمَّا أدركه الغرقُ قال: آمنتُ، فقال الله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ} 5 "، فمَن لَم يتعرَّف إلى الله في الرخاء فليس له أن يعرفه في الشدَّة لا في الدنيا ولا في الآخرة.

_ 1 المسند (1/307) ، وصححه العلاَّمة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:2961) . 2 صحيح البخاري (رقم:6502) . 3 نور الاقتباس لابن رجب (ص:43) . 4 سورة الصافات، الآيتان: (143، 144) . 5 سورة يونس، الآية: (91) .

قال رجل لأبي الدرداء: " أوصِني، فقال: اذكر الله في السرَّاء يذكرك الله عزَّ وجلَّ في الضرَّاء "1. وعنه رضي الله عنه أنَّه قال: " ادع الله في يوم سرَّائك لعلَّه أن يستجيب لك في يوم ضرَّائك "2. وإنَّ من التعرُّف على الله في الرخاء أن يجتهد العبدُ في حال رخائه بالتقرُّب إلى الله وطلبِ مرضاته، والإكثار من الأعمال الصالحة المُقرِّبة إليه، كالبر والصلة، والصدقة والإحسان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من وجوه البِرِّ وسُبل الخير " وحديث الثلاثة الذين دخلوا الغارَ وانطبقت عليهم الصخرةُ يشهد لهذا، فإنَّ الله فرج عنهم بدعائهم بما كان منهم من الأعمال الصالحة الخالِصة في حال الرخاء من بر الوالدين، وترك الفجور، والأمانة الخفية "3. وحديث هؤلاء مشهور خرَّجه الإمام البخاري في مواطن عديدة من صحيحه، وخرَّجه مسلم وغيرُهما من الأئمة، ولفظ الحديث في باب: حديث الغار من كتاب: أحاديث الأنبياء من صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينما ثلاثة نفر مِمَّن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطرٌ، فأَوَوا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضُهم لبعض: إنَّه والله يا هؤلاء لا يُنجيكم إلاَّ الصدقُ، فلْيدعُ

_ 1 حلية الأولياء (1/209) . 2 المصنف لعبد الرزاق (11/180) ، وشعب الإيمان للبيهقي (2/52) ، وانظر: جامع العلوم والحكم (1/475 ـ 476) . 3 نور الاقتباس لابن رجب (ص:46) .

كلُّ رجل منكم بما يعلم أنَّه قد صَدَقَ فيه، فقال واحدٌ منهم: اللَّهمَّ إن كنتَ تعلم أنَّه كان لي أجيرٌ عمل لي على فَرَق من أرُزٍّ فذهب وتركه، وأنِّي عمدتُ إلى ذلك الفرَق فزرعته، فصار من أمره أنِّي اشتريتُ منه بقراً، وأنَّه أتاني يطلبُ أجرَه، فقلتُ له: اعمد إلى تلك البقر فسُقها، فقال لي: إنَّما لي عندك فرَق من أَرُزٍّ، فقلتُ له: اعمد إلى تلك البقر، فإنَّها من ذلك الفَرَق، فساقها، فإن كنتَ تعلم أنِّي فعلتُ ذلك من خشيتِك ففرِّج عنَّا، فانساخت عنهم الصخرةُ، فقال الآخر: اللَّهمَّ إن كنتَ تعلمُ أنَّه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنتُ آتيهما كلَّ ليلةٍ بلبن غنم لي، فأبطأتُ عنهما ليلة، فجئتُ وقد رَقَدَا، وأهلي وعِيالي يتضاغون من الجوع، وكنتُ لا أسقيهم حتى يشرب أبواي، فكرهتُ أن أوقظهما، وكرهتُ أن أدعهما فيستكنَّا لشربتهما، فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجرُ، فإن كنتَ تعلم أنِّي فعلتُ ذلك من خشيتك ففرِّج عنَّا، فانساخت عنهم الصخرةُ حتى نظروا إلى السماء، فقال الآخر: اللَّهمَّ إن كنتَ تعلم أنَّه كان لي ابنةُ عمٍّ من أحبِّ الناس إليَّ، وإنِّي راودتُها عن نفسها فأَبَتْ إلاَّ أن آتيها بمائة دينار، فطلبتُها حتى قدرتُ، فأتيتُها بها فدفعتُها إليها فأمكنتني من نفسها، فلمَّا قعدتُ بين رِجليها فقالت: اتَّق الله ولا تفُضَّ الخاتَم إلاَّ بحقِّه، فقمتُ وتركتُ المائةَ دينار، فإن كنتَ تعلم أنِّي فعلتُ ذلك من خشيتك ففرِّج عنَّا، ففرَّج الله عنهم فخرجوا "1.

_ 1 صحيح البخاري (3465) .

فكانت أعمالُ هؤلاء الثلاثة الصالحةُ سبباً لتفريج همِّهم وكشف كربتهم وإجابة دعوتهم وتحقيق أملهم ورجائهم، فلمَّا تعرَّف هؤلاء إلى ربِّهم في حال رخائهم، تعرَّف إليهم ربُّهم سبحانه في حال شدَّتهم، فأمدَّهم بعونه، وأحاطهم بحفظه، وكلأهم برعايته وعنايته، وهو وحده الموفِّق والمعين لا شريك له.

رفع اليدين في الدعاء

89 ـ رفع اليدين في الدعاء إنَّ من آداب الدعاء العظيمة رفعَ اليدين في الدعاء إلى الله عزَّ وجلَّ؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة عدَّها بعضُ أهل العلم في جملة ما تواتر فيه النقلُ عن النبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم، قال السيوطي في شرحه لتقريب الإمام النووي رحمهما الله ممثِّلا لِما تواتر معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم نحوُ مائة حديث فيه رفعُ يديه في الدعاء، وقد جمعتها في جزء، لكنها في قضايا مختلفة، فكلُّ قضية منها لَم تتواتر، والقدر المشترَك فيه هو الرفعُ عند الدعاء تواتَر باعتبار المجموع "1. وعقد الإمام البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح في كتاب الدعوات منه باباً بعنوان: رفع الأيدي في الدعاء، وأورد تحته عن أبي موسى الأشعري قال: " دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثمَّ رفع يديه، ورأيتُ بياضَ إبطيه "2، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " رفع النبيُّ صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللَّهمَّ إنِّي أبرأُ إليك ممَّا صنع خالد "3، وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " رفع يديه حتى رأيتُ بياض إبطيه "4. وقد أشار شارح الصحيح الحافظُ ابن حجر رحمه الله إلى كثرة الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، وذكر جملةً من

_ 1 تدريب الراوي (2/180) . 2 صحيح البخاري (7/198) تعليقاً. 3 صحيح البخاري (7/198) تعليقاً. 4 صحيح البخاري (رقم:6341) .

الأحاديث في ذلك، منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: " قدم الطُفيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ دوساً عصت فادعُ اللهَ عليها، فاستقبل القبلةَ ورفع يديه، فقال: اللَّهمَّ اهدِ دوساً "، أخرجه الإمام البخاري في الأدب المفرد، وهو في الصحيحين دون قوله: " ورفع يديه "1. ومنها: حديث جابر بن عبد الله: " أنَّ الطفيل بن عمرو هاجر ... "، وذَكَر قصَّةَ الرَّجل الذي هاجر معه، وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللَّهمَّ ولِيَدَيْه فاغفر، ورفع يديه "، قال الحافظ: " وسنده صحيح، وأخرجه مسلم "2. وحديث عائشة: " أنَّها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو رافعاً يديه يقول: اللَّهمَّ إنَّما أنا بشر ... "، الحديث3، قال الحافظ: " وهو صحيح الإسناد ". قال الحافظ: " ومن الأحاديث الصحيحة في ذلك ما أخرجه المصنِّف [أي البخاري] في جزء رفع اليدين: " رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رافعاً يديه يدعو لعثمان "4، ولمسلم من حديث عبد الرحمن بن سمرة في قصة الكسوف: " فانتهيتُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو رافعٌ يديه يدعو "5، وعنده في

_ 1 الأدب المفرد (رقم:611) ، وانظر: صحيح البخاري (رقم:2937) . 2 الأدب المفرد (رقم:614) ، وهو في صحيح مسلم (رقم:116) ، دون قوله: " ورفع يديه)) . 3 الأدب المفرد (رقم:613) . 4 رفع اليدين (رقم:157) . 5 صحيح مسلم (رقم:913) .

حديث عائشة في الكسوف أيضاً " ثمَّ رفع يديه يدعو "1، وفي حديثها عنده في دعائه لأهل البقيع: " فرفع يديه ثلاث مرَّات "، الحديث2، ومن حديث أبي هريرة الطويل في فتح مكة: " فرفع يديه وجعل يدعو "3، وفي الصحيحين من حديث أبي حُميد في قصة ابن اللُّتْبِيَّة: " ثمَّ رفع يديه حتى رأيتُ عفرة إبطيه يقول: اللَّهمَّ هل بلَّغت "4، ومن حديث عبد الله بن عمرو: " أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذكر قولَ إبراهيم وعيسى فرفع يديه وقال: اللَّهم أمتي "5، وفي حديث عمر: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحيُ يُسمع عند وجهه كدويِّ النحل، فأنزل الله عليه يوماً ثمَّ سُريَّ عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه ودعا "، والحديث أخرجه الترمذي واللفظ له، والنسائي والحاكم6، وفي حديث أسامة: " كنت ردف النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعرفات فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته فسقط خطامها فتناوله بيده وهو رافعٌ اليدَ الأخرى "، أخرجه النسائي بسند جيِّد7، وفي حديث قيس بن سعد عند أبي داود: " ثمَّ

_ 1 صحيح مسلم (رقم:901) . 2 صحيح مسلم (رقم:974) . 3 صحيح مسلم (رقم:1780) . 4 صحيح البخاري (رقم:2597) ، وصحيح مسلم (رقم:1832) . 5 صحيح مسلم (رقم:202) . 6 سنن الترمذي (رقم:3173) ، والنسائي في الكبرى (رقم:1439) ، والمستدرك (2/392) . وقال النسائي: " هذا حديث منكر، لا نعلم أحداً رواه غير يونس بن سليم، ويونس بن سليم لا نعرفه، والله أعلم)) . 7 السنن الكبرى (رقم:4007) ، والصغرى (5/254) .

رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول: اللَّهمَّ صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة "، الحديث، وسنده جيِّد1، والأحاديث في ذلك كثيرة ". اهـ كلام الحافظ رحمه الله2، وقد تقصَّى فيه جملةً مباركة من أحاديث رفع الأيدي في الدعاء. ومن الأحاديث الثابتة في ذلك ما رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما عن سلمان الفارسي رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ ربَّكم حيِّيٌ كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً "3. فهذه الأحاديثُ وما جاء في معناها تدلُّ على أنَّ من آداب الدعاء العظيمة رفع اليدين إلى الله، وأنَّ ذلك من أسباب إجابة الدعاء وقبوله، ودلَّت السنة أيضاً أنَّ لرفع اليدين في الدعاء صفاتٍ ثلاث ترجع إلى نوع الدعاء، فإذا كان ابتهالاً، وهو شدة المبالغة في الطلب فلرفع اليدين فيه صفة، وإذا كان دعاءً ومسألةً فللرفع فيه صفة، وإذا كان استغفاراً أو توحيداً وتمجيداً فللرفع فيه صفة، يوضح ذلك ويبيِّنه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً وموقوفاً: " المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمدَّ يديك جميعاً "، وفي لفظ: " هكذا الإخلاص

_ 1 سنن أبي داود (رقم:5185) ، وذكره العلاَّمة الألباني رحمه الله في ضعيف سنن أبي داود (رقم:1111) . 2 فتح الباري (11/142) . 3 سنن أبي داود (رقم:1488) ، وسنن الترمذي (رقم:3556) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:1753) .

يشير بإصبعه التي تلي الإبهام، وهذا الدعاء فرفع يديه حذو منكبيه، وهذا الابتهال، فرفع يديه مدًّا "، رواه أبو داود في سننه والطبراني في الدعاء وغيرهما1. قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله معلِّقاً على هذا الحديث: " وقد جاءت الأحاديثُ من فعل النبيِّ صلى الله عليه وسلم مبيِّنة مقام كلِّ حالة من هذه الصفات الثلاث، لا أنَّها من اختلاف التنوع، وبيانها كالآتي: المقام الأول: مقام الدعاء العام ويُسمى المسألة، ويُقال: الدعاء، وهو رفع اليدين إلى المنكبين أو نحوهما ضامًّا لهما باسطاً لبطونهما نحو السماء، وظهورهما إلى الأرض، وإن شاء قنَّع بهما وجهه وظهورهما نحو القبلة، وهذه هي الصفةُ العامة لرفع اليدين حال الدعاء مطلقاً وفي قنوت الوتر والاستسقاء أو في مواطن رفعهما الستة في الحج [أي في عرفة، والمشعر الحرام، وبعد رمي الجمرتين الصغرى والوسطى، وعلى الصفا والمروة] ، وغير ذلك. المقام الثاني: الاستغفار، ويُقال: الإخلاص، وهو رفع أصبع واحدة وهي السبابة من اليد اليمنى، وهذه الصفة خاصة بمقام الذِّكر والدعاء حال الخطبة على المنبر وحال التشهد في الصلاة، وحال الذِّكر والتمجيد والهيللة خارج الصلاة ...

_ 1 سنن أبي داود (رقم:1489) ، (1490) ، والدعاء للطبراني (208) ، وصححه العلاَّمة الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (رقم:1321، 1322، 1324) موقوفاً ومرفوعاً.

المقام الثالث: الابتهال، وهو التضرُّع والمبالغة في المسألة، ويُسمى أيضاً دعاء الرَّهب، وصفته رفع اليدين مدًّا نحو السماء حتى ترى عفرة إبطيه أي بياضهما، ويُقال في وصفه حتى يبدو عضداه، أي يرتفعان من المبالغة في الرفع، وهذه الصفة أخصُّ من الصفتين السابقتين في المقام الأول والثاني، وهي خاصة في حال الشدَّة والرَّهبة كحال الجدب، والنازلة بتسلُّط العدو، ونحو ذلك من مقامات الرَّهب " اهـ1. فهذه أحوال الرفع في الدعاء، وهي أحوال ثلاثة بحسب نوع الدعاء، وللموضوع صلة، والله الموفِّق.

_ 1 تصحيح الدعاء (ص:116 ـ 117) .

مراتب رفع اليدين في الدعاء

90 ـ مراتب رفع اليدين في الدعاء كان الحديث فيما سبق عن أدبٍ عظيمٍ من آداب الدعاء، وسببٍ عظيمٍ من أسباب إجابته، ألا وهو رفع اليدين إلى الله عزَّ وجلَّ عند الدعاء بتذلُّلٍ وتمسكُنٍ وافتقار، ومرَّ معنا جملةٌ من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأنَّ ذلك ممّا تواتر معناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما مرَّ أيضاً صفاتُ الرفع في الدعاء، وأنَّها ثلاثة بحسب نوع الدعاء، فإذا كان الدعاءُ ابتهالاً وتضرُّعاً فإنَّ رفعَ اليدين يكون بمدِّهما نحو السماء حتى يبدو بياضُ الإبط، وإذا كان الدعاءُ دعاءَ المسألة فيكون رفع اليدين إلى المنكبين أو نحوهما، وإذا كان الدعاءُ استغفاراً وتمجيداً وثناءً فإنَّ الرفعَ يكون بإصبع واحدة، وهي السبابة من اليد اليمنى. وقد ثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّه قال: " كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلاَّ في الاستسقاء "، متفق عليه1. فذهب بعضُ أهل العلم عملاً بهذا الحديث إلى أنَّ الدعاءَ لا يُشرع فيه رفع اليدين إلاَّ في الاستسقاء فقط، أمَّا سوى ذلك من الأدعية فلا يُشرع فيها رفع اليدين، لكنَّ هذا الحديث معارَضٌ بأحاديث كثيرة دالة على مشروعية رفع اليدين في الدعاء في غير الاستسقاء، ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " والصحيح الرفع مطلقاً، فقد تواتر

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1031) ، وصحيح مسلم (رقم:895) .

في الصحاح: " أنَّ الطفيل قال: يا رسول الله إنَّ دوساً قد عصتِ وأبت فادعُ عليهم، فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللَّهمَّ اهدِ دوْساً وأتِ بهم "1، وفي الصحيح: " أنَّه عليه الصلاة السلام لَمَّا دعا لأبي عامر رفع يديه "2، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: " لَمَّا دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع رفع يديه ثلاث مرَّات "، رواه مسلم3، وفيه: " أنَّه صلى الله عليه وسلم رفع يديه فقال: أُمَّتِي أُمَّتِي "، وفي آخره: " قال الله تعالى: إنَّا سنُرضيك في أُمَّتك ولا نسوؤك "4، وفي قصة بدر لَمَّا رأى صلى الله عليه وسلم المشركين مدَّ يديه وجعل يهتف بربِّه، فما زال يهتف بربِّه مادًّا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه5، وفي حديث قيس بن سعد رضي الله عنهما: " فرفع يديه صلى الله عليه وسلم وهو يقول: اللَّهمَّ اجعل صلاتك ورحمتَك على آل سعد بن عبادة "6، وبعث جيشاً فيه عليٌّ رضي الله عنه فرفع يديه وقال: " اللَّهمَّ لا تُمتني حتى تريني عليًّا "7، وفي حديث القنوت رفع يديه8 ... ، ثمَّ ذكر شيخ الإسلام رحمه الله حديث أنس المتقدِّم في أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يرفع

_ 1 الأدب المفرد (رقم:611) ، وهو في صحيح البخاري (رقم:2937) دون ذكر رفع اليدين. 2 صحيح البخاري (رقم:4323) ، وصحيح مسلم (رقم:2498) . 3 صحيح مسلم (رقم:974) . 4 صحيح مسلم (رقم:202) . 5 صحيح مسلم (رقم:1763) . 6 سنن أبي داود (رقم:5185) ، وذكره العلاَّمة الألباني رحمه الله في ضعيف سنن أبي داود (رقم:1111) . 7 سنن الترمذي (رقم:3737) ، وذكره العلاَّمة الألباني رحمه الله في ضعيف سنن الترمذي (رقم:781) . 8 المسند (3/137) ، والسنن الكبرى للبيهقي (2/211) عن أنس رضي الله عنه.

يديه في شيء من دعائه إلاَّ في الاستسقاء، ثمَّ قال: " والجمع بين حديث أنس هذا وسائر الأحاديث ما قاله طوائف من العلماء، وهو أنَّ أنساً ذكر الرفعَ الشديد الذي يُرى فيه بياضُ إبطيه وينحني فيه بدنه، وهذا الذي سمَّاه ابنُ عباس الابتهال، فجعل المراتبَ ثلاثة: الإشارة بإصبعٍ واحدة، كما كان يفعل يوم الجمعة على المنبَر، والثانية: المسألة، وهو أن يجعل يديه حذو منكبيه، كما في أكثر الأحاديث، والثالث: الابتهال، وهو الذي ذكره أنس، ولهذا قال: " كان يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه "1، وهذا الرفعُ إذا اشتدَّ كان بطون يديه مِمَّا يَلِي وجهه والأرض، وظهورُهما مما يلي السماء، ويؤيِّد هذا التأويل ما روى أبو داود في مراسيله من حديث أبي أيوب سليمان بن موسى الدِّمشقي رحمه الله قال: " لَم يحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه رفع يديه الرفع كلَّه إلاَّ في ثلاثة مواطن: الاستسقاء، والاستنصار، وعشية عرفة، ثمَّ كان بعدُ رفعاً دون رفع "2. قال: وقد يكون أنسٌ أراد بالرفع على المنبر يوم الجمعة كما في مسلم وغيره: " أنَّه كان لا يزيد على أن يرفع إصبعه المسبِّحة "3، قال: وفي هذه المسألة قولان هما وجهان في مذهب الإمام أحمد، يعني في رفع الخطيب يديه، قيل: يُستحب، قاله ابنُ عقيل، وقيل: لا بل يُكره، وهو أصح ". اهـ4. وقال الحافظ ابنُ حجر في الجمع بين حديث أنس والأحاديث الأخرى الدالة على مشروعية الرفع في سائر الأدعية: " لكن جُمع بينه

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1030) ، (1031) . 2 المراسيل (رقم:148) . 3 انظر: صحيح مسلم (رقم:874) . 4 انظر: شرح ثلاثيات المسند للسفاريني (1/653 ـ 654) .

وبين أحاديث الباب وما في معناها بأنَّ المنفيَّ صفةٌ خاصة لا أصل الرفع، فإنَّ الرفعَ في الاستسقاء يخالف غيرَه بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في حذو الوجه مثلاً، وفي الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يُعكِّر على ذلك أنَّه ثبت في كلٍّ منهما: " حتى يُرى بياض إبطيه "، بل يُجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره، وإما أنَّ الكفين في الاستسقاء يليان الأرض وفي الدعاء يليان السماء، قال المنذري: وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح. قلت: [أي ابن حجر] : ولا سيما مع كثرة الأحاديث الواردة في ذلك ". اهـ1. وبِما تقدَّم يتبيَّن أنَّ الدعاءَ مشروعٌ فيه رفع اليدين سواء في الاستسقاء أو غيره، بل إنَّ الرفعَ من أسباب الإجابة، كما في الحديث: " إنَّ ربَّكم حيِّيٌ كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً "2، أي خائبتين، لكن صفة الرفع في الاستسقاء الذي هو مقام شدَّة ورهب تكون بالمبالغة في الرفع والابتهال الشديد، وأما ما سواه فيكون الرفعُ إلى المنكبين أو نحوِهما، عملاً بجميع الأحاديث الواردة في الباب. وقد ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه في حديث آخر: " أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء "، رواه مسلم3، وفي ذلك إشارةٌ إلى المبالغة في رفع اليدين في حال الجدب في الاستسقاء، ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " إنَّما هو لشدَّة الرفع

_ 1 فتح الباري (11/142) . 2 سنن أبي داود (رقم:1488) ، وسنن الترمذي (رقم:3556) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:1753) . 3 صحيح مسلم (رقم:896) .

انحنت يدُه فصارت كفُّه مما يلي السماء لشدَّة الرفع، لا قصداً لذلك، كما جاء أنَّه رفعهما حذاء وجهه ". وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله: " رفع اليدين في الدعاء على ثلاثة أقسام: الق سم الأول: ما وردت به السنَّة، فهذا ظاهر أنَّه يُسَن فيه الرفع، مثل دعاء الاستسقاء، والدعاء على الصفا والمروة، وفي عرفة. والقسم الثاني: ما ورد فيه عدم الرفع مثل الدعاء في الصلاة، والتشهد الأخير. القسم الثالث: ما لَم يرِد فيه الرفع ولا عدم الرفع، فهذا الأصل فيه أنَّ من آداب الدعاء أن يرفع الإنسانُ يديه "1. ثمَّ إنَّ رفعَ اليدين في الدعاء فيه من التذلُّل والخضوع والانكسار والمسكنة وإظهار الحاجة والافتقار إلى الربِّ الكريم ما يكون سبباً لقبوله وإجابته، قال السفاريني رحمه الله: " قال العلماء: إنَّما شرع رفع اليدين في الدعاء لزيادة التذلل، فيجتمع للإنسان أحوالُ الضراعة في مقام العبودية، وأيضاً فإنَّ العبدَ ربما عجز عن إيقاظ قلبه من الغفلة، وله قدرة على حركة اليد واللسان فيهما، فكان ذلك وسليةً إلى خشوع القلب، وقد قالوا: حركات الظواهر توجب بركات السرائر، وهو نظير رفع السبابة في تشهد الصلاة، فيوحِّد الجنان ويترجم اللسان وتزكيه الأركان "2.

_ 1 لقاء الباب المفتوح (51 ـ 60) (ص:17 ـ 18) باختصار. 2 انظر: شرح ثلاثيات المسند للسفاريني (1/655 ـ 656) .

الدلائل والمعاني المستفادة من رفع اليدين

91 ـ الدلائل والمعاني المستفادة من رفع اليدين لا يزال الحديث ماضياً في الكلام على رفع اليدين إلى الله عزَّ وجلَّ حال الدعاء، ذالكم الأدب الرفيع من المخلوق الفقير المحتاج مع ربِّه الغنيِّ الجواد الكريم؛ حيث يُظهرُ المخلوقُ برفعه يديه احتياجَه لربِّه، وافتقارَه إليه، وذُلَّه، وخضوعَه وانكسارَه بين يدي ربِّه، وكلَّما عظمت حاجة المخلوق واشتدت رغبتُه وزاد إلحاحُه بالَغَ في رفعه يديه وزاد في مدِّهما إلى الله متذلِّلاً متوسِّلاً، ولهذا لَمَّا كان دعاءُ الاستسقاء فيه من الرغبةِ والإلحاح ما ليس في غيره كان رفعُ النبي صلى الله عليه وسلم وإشارتُه فيه أعظمَ منه في غيره، وفي ذلك أعظمُ دلالة على توحيد الله وتعظيمه وتكبيره والإيمان بعلوِّه على خلقه وقيُّوميَّته، وغِناه الكامل عنهم وافتقارهم واحتياجهم إليه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمْ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} 1، وقال تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} 2. ففي رفع اليدين إلى الله إقرار بقيوميّته الله جلَّ وعلا، وأنَّه قائم على كلِّ شيء، وقائم على كلِّ نفس، وأنَّه المدبِّر للأمور كلِّها، والمتصرِّف في الخلائق جميعهم، ومَن كان كذلك فهو المستحقُّ أن يُؤْلَه ويُعبد ويُصلّى له ويُسجد، وهو المستحقُّ نهاية الحبِّ مع نهاية الذُّلِّ لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، وهو المُطاع المعبود وحده على الحقيقة {ذَلِكَ

_ 1 سورة فاطر، الآية: (15) . 2 سورة الرعد، الآية: (33) .

بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ} 1، فكلُّ عبودية لغيره باطلة وعَناء وضلال، وكلُّ محبَّة لغيره عذاب لصاحبها، وكلُّ غِنًى لغيره فقرٌ وضلالٌ، وكل عِزٍّ بغيره ذُلٌّ وصَغار، وكلُّ تكثُّر بغيره قلَّة وفاقة، فهو الذي انتهت إليه الرغبات، وتوجَّهت نحوه الطلبات، وأنزلت ببابه الحاجات {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} 2. وفي مدِّ اليدين إلى الله إقرارٌ بأنَّ الله كريمٌ جوادٌ محسنٌ، يجيب الداعين ويُغيث الملهوفين ويُعطي السائلين، لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره، ولا حاجةٌ يُسألها أن يُعطيها، لو أنَّ أهلَ سمواته وأهل أرضه إنسهم وجِنَّهم حيَّهم وميِّتَهم رطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كلَّ واحد منهم ما سألَه ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة، وَسِعت رحمتُه كلَّ شيء، يمينه ملأى لا تُغيضُها نفقة، سحَّاء الليل والنهار، وفي الحديث: " إنَّ ربَّكم حيِّيٌ كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً "3. وفي مدِّ اليدين إلى الله إقرارٌ بعلم الله، وإحاطته بخلقه، واطِّلاعه عليهم، وأنَّه لا تخفى عليه منهم خافية، لا يشغله سبحانه سمعٌ عن سمع، ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها، بل هي عنده

_ 1 سورة الحج، الآية: (62) . 2 سورة الرحمن، الآية: (29) . 3 سنن أبي داود (رقم:1488) ، وسنن الترمذي (رقم:3556) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:1753) .

كصوتٍ واحد، كما أنَّ خلْقَ الخَلقِ جَميعِهم وبعثَهم عنده بمنزلة نفسٍ واحدة، يرى دبيبَ النملة السوداء على الصخرة الصَمَّاء في ظلمة الليل، ويرى تفاصيل خلق الذرَّة الصغيرة، ومُخَّها وعروقَها ولحمَها وحركتها، ويرى مدَّ البعوضة جناحَها في الليل المظلم. وفي مدِّ اليدين إلى الله إقرارٌ بعلوِّه على خلقِه؛ ذلك أنَّ الذين يرفعون أيديهم إلى السماء وقتَ الدعاء تقصد قلوبهم الربَّ الذي هو فوق عباده، وتكون حركةُ جوارحهم بالإشارة إلى فوق تبَعاً لحركة قلوبهم إلى فوق، وهذا أمرٌ يجده كلُّ داعٍ وَجْداً ضروريًّا، إلاَّ مَن تغيَّرت فطرتُهم وانحرفت عقيدتُهم، وعلوُّ الله على خلقه قامت عليه الأدلة الكثيرة والبراهين العديدة، فدلَّ عليه الكتاب الكريم والسنة الثابتة وإجماع الأمة والعقل السليم والفِطر المستقيمة، حُكي عن أبي جعفر الهمداني: أنَّه حضر مجلسَ أبي المعالي الجويني ـ أحدِ علماء الكلام ـ فذكر العرشَ وقال: كان الله ولا عرش، ونحو ذلك، يريد بذلك أن يتوصَّل إلى إنكار علوِّ الله، فقال له الهمداني: يا شيخ، دَعْنا من ذلك، وأخبِرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنَّه ما قال عارفٌ قطُّ يا الله إلاَّ وَجدَ في قلبه ضرورة لطلب العلوِّ، لا يلتفتُ يمنة ولا يسرة، فضرب أبو المعالي على رأسه، وقال: حيَّرني الهمداني. والهمداني رحمه الله إنَّما بيَّن ما يقوم في قلب كلِّ داعٍ عندما يقول: يا الله، مِن حركة في قلبه ضروريةٍ إلى العلوِّ، وهذا يقتضي أنَّه مركوزٌ في الفِطر أنَّ اللهَ فوق عباده عليٌّ على خلقه.

وإذا أقرَّ العبدُ بذلك يصير لقلبه صَمَدٌ يتجه إليه مناجياً له، مُطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز، فيشعرُ بأنَّ كلامَه وعملَه صاعدٌ إليه معروضٌ عليه، فيستحيي أن يصعد إليه من كلامه ما يُخزيه ويفضحه هناك، ويجتهد في قول الخير وفعل الخير لعلمِه بأنَّه سبحانه {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 1. ولهذا فإنَّه لا يُنكر علوَّ الله على خلقه إلاَّ ضُلال الناس وجهالهم مِمَّن تحوَّلت فطرُهم وانحرفت عقائدُهم وصدَّهم الشيطانُ عن سواء السبيل، وإلاَّ فكيف يصح من عاقل إنكارُ علوِّ الله مع كثرة الشواهد على ذلك وتنوُّعِ البراهين، مِن ذلك كما تقدَّم أنَّ المؤمنين جميعَهم عندما يدعون الله يرفعون أيديهم إلى الله ويمدُّونها نحوَه، وهذا إجماع منهم على علوِّ الله على خلقه. قال أبو الحسن الأشعري: " ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحوَ العرش كما لا يحطُّونها إذا دعوا نحو الأرض ". وهذا الاحتجاجُ منه رحمه الله احتجاجٌ بإجماع المسلمين على رفع أيديهم في الدعاء على أنَّ الله فوق سمواته عالٍ على خلقه؛ لأنَّهم إنَّما يرفعون إليه نفسه لا إلى غيره. ولهذا فإنَّ غالبَ النفاة لأَن يكون الله فوق العرش فيهم من الانحلال عن دعاء الله ومسألته وعبادته بقدر ما قام في قلوبهم من إنكارٍ لعلوِّ الله

_ 1 سورة: فاطر، الآية: (10) .

على خلقه، إلاَّ مَن يكون منهم جاهلاً بحقيقة مذهبهم فيوافقهم بلسانه على قول لا يفهم حقيقته، وفطرتُه على الصحة والسلامة، فإذا استحوذ قولُهم على قلبه انحرفت فطرتُه وتغيَّرت1، فنحمد الله تعالى على السلامة من هذه الأهواء ونسأل الله رافعين أيدينا إليه الثباتَ على الحقِّ والعزيمة على الرشد، فإنَّه تبارك وتعالى نعم المجيب.

_ 1 انظر: نقض تأسيس الجهمية (2/445 ـ 451) .

رفع الأيدي الى الله من دلائل علوه

92 ـ رفع الأيدي إلى الله من دلائل عُلُوِّه لقد كان الحديثُ فيما مضى عن دلالات رفع الأيدي في الدعاء إلى الله وما يتضمَّنه ذلك من الإقرار بتوحيد الله وتعظيمه، والإيمان بعلوِّه على خلقه، وغِناه الكامل عنهم، وافتقارهم إليه من جميع الوجوه، وقد مضى الإشارةُ إلى أنَّ هذا أمرٌ ـ أعني الإيمان بعُلُوِّه ـ يجده الناسُ في فطرهم صغيرُهم وكبيرُهم، عالِمهم وجاهلُهم. يقول الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب التوحيد: " وكما هو مفهوم في فطَر المسلمين علماؤهم وجهالهم، وأحرارهم ومماليكهم، وذكرانهم وإناثهم، بالِغيهم وأطفالهم، كلُّ من دعا الله ـ جلَّ وعلاَ ـ فإنَّما يرفع رأسه إلى السماء ويمدُّ يديه إلى الله تعالى إلى أعلاه لا إلى الأسفل "1. ويقول الإمام أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة رحمه الله: " ولو أنَّ هؤلاء ـ أي من ينكرون علوَّ الله ـ رجعوا إلى فطرهم وما ركبت عليه خلقتهم من معرفة الخالق سبحانه، لَعلموا أنَّ الله تعالى هو العلي وهو الأعلى، والأيدي ترفع بالدعاء إليه، والأممُ كلّها عربُها وعجمُها تقول إنَّ الله في السماء ما تركت على فطرها "2. اهـ. فالإيمان بعلوّ الله على خلقه مستقرٌّ في الفطر السليمة، ثابتٌ في

_ 1 التوحيد لابن خزيمة (1/254) . 2 تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (ص:183) باختصار.

نصوص الكتاب والسنّة، متقرّرٌ في العقول القويمة، مجمعٌ عليه بين علماء الأمّة، ولذا كان توجّهُ الناس عند الدعاء بقلوبهم وإشارتهم ورفع أيديهم إنَّما يكون إلى العلوّ لا إلى جهة أخرى، وهذا أمرٌ فطريٌّ ضروريٌّ عقلي، يجده كلُّ داع في قلبه، فالقلب عند التوجه والسؤال والدعاء والابتهال والمناجاة له وِجهة واحدة يقصدها ويتَّجِه إليها هي إلى الله عزَّ وجلَّ في علوِّه، لا يتّجه إلى يمين أو شمال أو أسفل أو نحو ذلك، وإنَّما يتجه إلى العلوّ، وهذا أمرٌ ضروري لا ينفك منه القلب إلاَّ إذا فسد وانتكس وأظلم وتحول عن الفطرة. ولهذا ترى في أحوال الداعين والذاكرين أنَّه يحصل من بعضهم حركة في جوارحهم اضطراراً إلى فوق إلى جهة العلو، وذلك تبعاً لحركة قلوبهم بالإشارة أو الإصبع أو العين أو الرأس أو غير ذلك من الإشارات الحسية، وهذا أمرٌ قد تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفق عليه المسلمون، ولذا تراهم يقولون بألسنتهم ارفعوا أيديكم إلى الله ونحو ذلك من العبارات، وهذا إخبار منهم عن أنفسهم أنَّهم يقصدون الإشارة إلى الله ورفع الأيدي إليه سبحانه وتعالى. وقد تواتر من هديِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رفعُ الأيدي إلى الله في الدعاء، والإشارةُ بالسبابة من اليد اليمنى يدعو بها في خطبة الجمعة وفي التشهد في الصلاة، ورفعُ البصر إلى السماء، والإشارةُ بالإصبع إلى السماء ونحوُ ذلك. أما رفعه يديه في الدعاء فهو ثابتٌ في أحاديث كثيرة جداً، وقد مضى معنا ذكرُ جملةٍ منها.

وأمّا إشارتُه بالسبابة من اليد اليمنى يدعو بها في خطبة الجمعة فهو ثابتٌ فيما رواه حصين بن عبد الرحمن قال: " رأى عمارة بن رؤيبة بشرَ بن مروان وهو يدعو في يوم الجمعة فقال عمارة: قبّح الله هاتين اليدين، لقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ما يزيد على هذه ـ يعني السبابة ـ "، وفي رواية " رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يخطب إذا دعا يقول هكذا فرفع السبابة وحدها "1. وأمَّا إشارتُه بالسبابة من اليد اليمنى يدعو بها في التشهد فثابتٌ فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها، ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها "، وفي رواية " كان إذا جلس في الصلاة وضع كفَّه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلَّها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفَّه اليسرى على فخذه اليسرى "، رواهما مسلم، وأحمد، وغيرُهما2. وفي الباب أحاديث عديدة. وأمَّا رفعُه بصرَه إلى السماء فيقول الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} 3، قال ابن عباس رضي الله عنهما: " كان أوّل ما نُسخ من القرآن القبلة، وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1 صحيح مسلم (رقم:874) ، والمسند (4/136) ، وسنن أبي داود (رقم:1105) . 2 صحيح مسلم (رقم:580) ، والمسند (2/65) ، وسنن النسائي (3/36) . 3 سورة البقرة، الآية: (144) .

َمَّا هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} إلى آخر الآية. وفي صحيح البخاري عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناسَ يوم النحر، وقال: " يا أيها الناس أيُّ يوم هذا؟ قالوا: هذا يوم حرام، قال: فأيُّ بلدٍ هذا؟ قالوا: بلدٌ حرام، قال: فأيُّ شهرٍ هذا؟ قالوا: شهرٌ حرام، قال: فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحُرمَةِ يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ـ فأعادها مراراً ثمَّ رفع رأسه ـ فقال: اللَّهمَّ هل بلَّغت، اللَّهمَّ هل بلّغت "1. وأمَّا إشارتُه بإصبعه إلى السماء فقد ثبت في حديث جابر بن عبد الله في ذكر حجة الوداع، وفيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم عرفة: ألا هل بلّغت؟ فقالوا: نعم، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكتها إليهم ويقول: اللَّهمَّ اشهد ـ ثلاث مرّات ـ "، أخرجه مسلم في صحيحه2. والنصوص في هذا المعنى العظيمِ كثيرةٌ، وهي دالَّةٌ دلالةً ظاهرةً على علوِّ الله جلَّ وعلا وفوقيته، وأنَّه تبارك وتعالى الكبيرُ المتعال، ولهذا

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1739) . 2 صحيح مسلم (رقم:1218) .

تقصده القلوبُ، وتصمدُ إليه الخلائق، ويرفعون أكفّهم إليه عند دعائهم وسؤالهم، ويشيرون إليه في علوِّه بأصابعهم موحِّدين له مقرِّين بعظمته، خلافاً للمنكرين لعلوِّ الله من أهل الضلال والباطل، فإنَّ هؤلاء في الحقيقة ينكرون حقيقة كونه أحداً صمداً، ويجحدون حقيقةَ دعائِه وصدق التوجه إليه، ويسوغون الإشراك به، ويعطِّلون صفاتِ كماله، والله المستعان، وهو الهادي وحده إلى سواء السبيل.

الأخطاء المتعلقة برفع اليدين

93 ـ الأخطاء المتعلِّقة برفع اليدين لا يزال حديثُنا عن رفع الأيدي في الدعاء، وقد سبق الكلامُ على فائدة ذلك وأهميته في الدعاء، وأنَّه سببٌ من أسباب قبوله؛ لِمَا في ذلك من إظهار الافتقار والاستكانة والحاجة إلى الربِّ الكريم، حيث يمدُّ العبدُ يديه إليه مستطعماً، سائلاً، متذلِّلاً، والله جلَّ وعلا لا يردُّ يدين مُدَّت إليه صفراً خائبتين. وإنَّ مِمَّا يجب على المسلم أن يعتني به في هذا الباب الحرصَ على معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وترسُّمَ خطاه، ولزومَ منهجه، والبعدَ عما أحدثه الناس من صفاتٍ في الرفع وهيئات، وحركات لَم تثبت عن خير الأمة وأكملهم دعاءً وطاعةً لله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " إذا سألتم اللهَ فاسألوه ببطون أكفِّكم، ولا تسألوه بظهورها "1، وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً ومرفوعاً " المسألةُ أن ترفع يديك حذوَ منكبيك، أو نحوهما، والاستغفارُ أن تشير بأصبع واحدة، والابتهال أن تمدَّ يديك جميعاً "2، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التعليق على هذا الحديث: " فجعل المراتبَ ثلاثة: الإشارة بأصبع واحدة كما كان يفعل يوم الجمعة على المنبر، والثانية: المسألة، وهو أن يجعل يديه حذو منكبيه

_ 1 سنن أبي داود (رقم:1486) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:595) . 2 سنن أبي داود (رقم:1489) ، (1490) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:6694) .

كما في أكثر الأحاديث، والثالثة: الابتهال "1. اهـ. فعلى المسلم أن ينظر إلى الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فيلتزمُه ويتقيّدُ به، فهديُه صلى الله عليه وسلم خير الهدي، وليحذر المسلم من تكلّفات الناس وتجاوزاتهم في هذا الباب، فقد كان السلف رحمهم الله يحذرون من جعلِ صفة من الصفات المأثورة في غير موضعها المشروع، كمن يرفع يديه في الدعاء وهو على المنبر يوم الجمعة في غير الاستسقاء، مع أنَّ رفع اليدين في الدعاء مشروعٌ في غير هذا الموطن. روى مسلم في صحيحه عن عمارة بن رؤيبة أنَّه رأى بشرَ بن مروان على المنبر رافعاً يديه، فقال: " قبّح الله هاتين اليدين، لقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المس بِّحة "2، فكيف بمن يخترع في الرفع صفات لا أساس لها أو حركات لا أصل لها، ومن يتأمّل أحوالَ الداعين يرى منهم عجباً في هذا الباب3. ومن ذلك أنَّ بعض الداعين ينزل في رفعه يديه مفرّقتين أو مجموعتين إلى ما تحت السرّة أو إلى السرَّة، ولا يخفى ما في ذلك من عدم المبالاة، وقلّة الاهتمام بهذا الأمر العظيم. ومنهم من يجعل يديه عندما يرفعهما مفرّقتين، رؤوسُ الأصابع إلى القبلة والإبهامان إلى السماء، ولا يخفى ما في ذلك من المخالفة لقول

_ 1 انظر: ثلاثيات المسند للسفاريني (1/653) . 2 صحيح مسلم (رقم:874) . 3 انظر: تصحيح الدعاء للشيخ بكر أبو زيد (ص:126 ـ 129) .

النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم " إذا سألتم اللهَ فاسألوه ببطون أكفِّكم ". ومنهم من يقلّب يديه إذا رفعهما في الدعاء إلى جهات عديدة أو يقوم بهزّهما أو يحركهما حركات متنوّعة. ومنهم من إذا دعا أو قبل أن يدعو يمسح إحدى اليدين بالأخرى أو ينفض يديه ونحو ذلك، ومنهم من يُقبِّلُ يديه بعد رفعهما للدعاء، وهذا لا أصل له. ومنهم من إذا دعا مسح وجهه بيديه بعد الدعاء، وهذا ورد فيه بعض الأحاديث إلاَّ أنَّها لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وأمّا رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه في الدعاء فقد جاء فيه أحاديث كثيرةٌ صحيحةٌ، وأمّا مسحه وجهه بيديه فليس عنه فيه إلاَّ حديثٌ أو حديثان لا يقوم بهما حجة "1. ومن الهيئات المحدَثة في رفع اليدين تقبيل الإبهامين ووضعُهما على العينين عند ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان أو غيره، وقد روي في ذلك حديثٌ باطلٌ لا يصح عن

_ 1 الفتاوى (22/519) ، وانظر: جزء في مسح الوجه باليدين بعد رفعهما للدعاء للشيخ بكر أبو زيد.

النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه: " من قال حين يسمع أشهد أنَّ محمداً رسول الله: مرحباً بحبيبي وقرة عيني محمد بن عبد الله ثمَّ يُقبِّل إبهامَه ويجعلهما على عينيه لَم يعمَ ولم يرمد أبداً "، وقد نصَّ غيرُ واحدٍ من أهل العلم على أنَّ هذا الحديث باطلٌ لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم1، ومن خزعبلات المتصوِّفة أنَّ بعضهم ينسب ذلك لقول الخضر عليه السلام2. ومن الأمور المحدثة في ذلك ما يفعله بعضهم حيث يجمع أصابع يده اليمنى ويجعلها على عينه اليمنى وأصابع يديه اليسرى على عينه اليسرى ثمَّ يُهَمْهِم بالقراءة أو الدعاء. ومن الأمور التي تُفعل ولم تثبت أنَّ بعضَهم يجعلُ يدَه اليمنى على رأسه عقب السلام من الصلاة يدعو، ويستنِدون في ذلك إلى ما يُروى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قضى صلاتَه مسح جبهته بيده اليُمنى ويقول: بسم الله الذي لا إله إلاَّ هو الرحمن الرحيم، اللَّهمَّ أذهب عنّي الغمَّ والحزن "، رواه الطبراني في الأوسط والبزار، وهو حديث لَم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم3، ومِن الأخطاء في هذا الباب أنَّ بعضَ المصلِّين قد يشير بالسبَّابتين في التشهد، وقد ثبت في الحديث: " أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ على إنسان يدعو وهو يشير بأصبعيه السبابتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَحِّد أحِّد "، رواه الترمذي4. ومن المخالفات في هذا الباب أنَّ بعضَ الدَّاعين قد يُخصِّص أوقاتاً يرفع فيها يديه بالدعاء دون مستند شرعي لذلك التخصيص كمن يرفع

_ 1 انظر: الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة (ص:20) . 2 انظر: كشف الخفاء للعجلوني (2/270) . 3 المعجم الأوسط (رقم:2499) . 4 سنن الترمذي (رقم:3557) ، وصححه العلاَّمة الألباني رحمه الله في صحيح سنن اللترمذي (رقم:2820) .

يديه بعد إقامة الصلاة وقبل تكبيرة الإحرام، وكرفع اليدين عقب السلام من الصلاة المفروضة جماعياً أو كلٌّ بمفرده، قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله: " لَم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يرفع يديه بعد صلاة الفريضة، ولم يصح ذلك أيضاً عن أصحابه رضي الله عنهم فيما نعلم، وما يفعله بعضُ الناس من رفع أيديهم بعد صلاة الفريضة بدعةٌ لا أصل لها "1. ومِن ذلك أيضاً رفع الأيدي بالدعاء بعد سجود التلاوة، وكذلك رفعهما عند رؤية الهلال ونحو ذلك. والحاصل أنَّ المواضعَ التي وُجدت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رفع فيها يديه لا يجوز الرفع فيها؛ لأنَّ فعلَه سنةٌ، وتركَه سنةٌ، وهو صلى الله عليه وسلم الأسوةُ الحسنة فيما يأتي ويذر2، والواجب التقيُّد بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم وترك ما سوى ذلك.

_ 1 مجموع فتاواه (11/184) . 2 انظر: مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (11/178 ـ 183) .

إستقبال الداعي الى القبلة

إستقبال الداعي الى القبلة ... 94 ـ استقبال الداعي القبلة إنَّ من آداب الدعاء أن يستقبلَ الداعي القبلةَ وقت دعائه، ذلك أنَّ القبلةَ هي الجهة الفاضلة التي أُمر المسلمون بالاتّجاه إليها في عبادتهم، فكما أنَّها قبلةٌ للمسلمين في الصلاة فهي قبلةٌ لهم في الدعاء، وقد ثبت استقبالُ النبي صلى الله عليه وسلم للقبلة عند دعائه في أحاديث عديدة. من ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبةَ فدعا على نفر من قريش، على شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأبي جهل بن هشام، فأشهد بالله لقد رأيتهم صرعى قد غيّرتهم الشمس وكان يوماً حاراًّ "1. وخرّج مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألفٌ، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً فاستقبل نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم القبلةَ ثمَّ مدَّ يديه، فجعل يهتف بربِّه: اللَّهمَّ أنجز لي ما وعدتني، اللَّهمَّ آتِ ما وعدتني، اللَّهمَّ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض، فما زال يهتف بربِّه ماداًّ يديه مستقبلَ القبلة حتى سقط رداؤُه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءَه فألقاه على منكبيه ثمَّ التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتُك ربَّك، فإنَّه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي

_ 1 صحيح البخاري (رقم:3960) ، وصحيح مسلم (3/1420) .

مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ} 1 فأمدَّه الله بالملائكة "2. وخرّج البخاري ومسلم عن عبد الله بن زيد قال: " خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى هذا المصلَّى يستسقي فدعا واستسقى ثمَّ استقبل القبلة وقلب رداءَه "3. وثبت كذلك استقبالُ القبلة في الدعاء في الحج على الصفا والمروة وفي عرفة وعند المشعر الحرام وعند الجمرة الأولى والثانية، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي تدلُّ على مشروعية استقبال القبلة وقت الدعاء، وأنَّ ذلك أفضلُ وأكملُ للداعي، على أنَّ ذلك ليس لازماً ولا واجباً في الدعاءِ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنَّه دعا وهو غير مستقبل القبلة، وقد عقد الإمام البخاري في كتاب الدعوات من صحيحه باباً بعنوان " الدعاء غير مستقبل القبلة "، وخرّج فيه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله ادع اللهَ أن يسقينا، فتغيّمت السماء ومطرنا حتى ما كاد الرجلُ يَصِل إلى منزله، فلم تزل تمطر إلى الجمعة المقبلة، فقام ذلك الرجل أو غيرُه فقال: ادع اللهَ أن يصرفه عنّا، فقد غرقنا، فقال: اللَّهمَّ حوالَينا ولا علَينا، فجعل السّحابُ يتقطّع حول المدينة ولا يمطرُ أهلَ المدينة "4، ومعلومٌ أنَّ الخطيب وقت الخطبة يكون معطياً القبلة ظهره، فهذا فيه دلالة على أنَّ استقبال القبلة ليس شرطاً في الدعاء، لكنَّه هو

_ 1 سورة الأنفال، الآية: (9) . 2 صحيح مسلم (رقم:1763) . 3 صحيح البخاري (رقم:1023، 6343) ، وصحيح مسلم (رقم:894) . 4 صحيح البخاري (رقم:6342) .

الأولى والأكمل، قال شيخ الإسلام: " ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في الدعاء يستقبلها كما فعله في أثناء الاستسقاء الذي رفع فيه يديه رفعاً تاماًّ، فعن عباد بن تميم عن عمّه: " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي، فصلّى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيهما وحوّل رداءه، ورفع يديه فدعى واستسقى واستقبل القبلة " 1، رواه الجماعة أهل الصحاح والسنن والمسانيد، كالبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم، فأخبر أنَّه استقبل القبلةَ التي هي قبلة الصلاة في أثناء دعاء الاستسقاء "2. وقال رحمه الله: " إنَّ المسلمين مجمعون على أنَّ القبلة التي يُشرع للداعي استقبالها حين الدعاء هي القبلة التي شرع استقبالها حين الصلاة، فكذلك هي التي شرع استقبالها حين ذكر الله كما تستقبل بعرفة والمزدلفة وعلى الصفا والمروة، وكما يستحب لكلِّ ذاكرٍ لله وداعٍ أن يستقبل القبلةَ كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه كان قد يقصد أن يستقبل القبلة حين الدعاء، كذلك هي التي يشرع استقبالها بتوجه الميِّت إليها، وتوجيه النسائك والذبائح إليها، وهي التي يُنهى عن استقبالها بالبول والغائط، فليس للمسلمين بل ولا لغيرهم قبلتان أصلاً في العبادات التي هي من جنسين كالصلاة والنسك فضلاً عن العبادات التي هي من جنس واحد وبعضها متصلٌ ببعض، فإنَّ الصلاةَ فيها الدعاء في الفاتحة وغيرها، والدعاء نفسه هو الصلاة، قد سمّاه الله في كتابه صلاةً

_ 1 انظر: صحيح البخاري (رقم:1024) . 2 انظر: نقض التأسيس لابن تيمية (2/459) .

حيث قال: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} 1، وفي الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفى " أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قومٌ بصدقتهم صلّى عليهم، وإنَّ أبي أتاه بصدقةٍ فقال: اللَّهمَّ صلِّ على آل أبي أوفى "2، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 3، وقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم أمَّتَه الصلاةَ عليه في غير حديث في الصحاح وغيرها، وفي جميعها إنَّما يعلّمها الدعاء له بصلاة الله وبركاته ... " إلى آخر كلامه رحمه الله4. وقد ذكر ذلك في سياق ردِّه على مَن ينكر علوَّ الله كالجهمية ومَن تأثَّر بهم مِن أهل الأهواء حيث يزعمون أنَّ رفعَ الأيدي في الدعاء إلى العلوِّ إنَّما يُشرع لأنَّ السماءَ قبلةُ الدعاء كما أنَّ الكعبة قبلةُ الصلاة، فجعلوا بذلك قبلتين للمسلمين قبلةً للدعاء وهي السماء، وقبلةً للصلاة وهي الكعبة، وقد ألجأهم إلى هذا التقرير الفاسد إنكارُهم لعلوِّ الربِّ تبارك وتعالى على خلقه، وتعسُّفُهم في حمل النصوص الكثيرة الدالّة على علوِّ الله على غير وجهها ومرادها بأنواعٍ من التأويلات، وصنوفٍ من التحريفات التي هي في الحقيقة نوعٌ من الإلحاد في آيات الله وأسمائه وصفاته، والله يقول: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 5، ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ

_ 1 سورة التوبة، الآية: (103) . 2 صحيح البخاري (رقم:1497) ، وصحيح مسلم (رقم:1078) . 3 سورة الأحزاب، الآية: (56) . 4 نقض التأسيس (2/452 ـ 453) . 5 سورة الأعراف، الآية: (180) .

من آداب الدعاء (1)

95 ـ من آداب الدعاء إنَّ من ضوابط الدعاء المهمة وآدابه العظيمة أن يقدِّم المسلم بين يدي دعائه الثناءَ على ربِّه بما هو أهلُه من نعوت الجلال، وصفات العظمة والكمال، وذكر جوده وفضله وكرَمه وعظيم إنعامه، وذلك أنَّه أبلغُ ما يكون في حال السائل والطالب ثناؤُه على ربِّه، وحمدُه له، وتمجيدُه، وذكرُ نعمه وآلائه، وجعل ذلك كلِّه بين يدي مسألته وسيلةً للقبول ومفتاحاً للإجابة. ومَن يتأمّل الأدعيةَ الواردة في الكتاب والسنة يجد كثيراً منها مبدوءاً بالثناء على الله وعدِّ نِعمه وآلائه، والاعتراف بفضله وجوده وعطائه، ومن الأمثلة على ذلك الدعاءُ العظيم الذي اشتملت عليه سورة الفاتحة التي هي أعظم سور القرآن الكريم وأجلُّها لاشتمالها على أجلِّ المطالب العالية، وأعلى المقاصد الجليلة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ولهذا كان أنفعُ الدعاء وأعظمُه وأحكمُه دعاءَ الفاتحة {اهْدِنَا الصَّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} ، فإنَّه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته وترك معصيته فلم يصبه شرٌّ لا في الدنيا ولا في الآخرة "1.اهـ فهذا الدعاءُ العظيم مبدوءٌ بالثناء على الله وحمده وتمجيده، مما هو سببٌ لقبوله، ومفتاحٌ لإجابته، يوضِّح ذلك ويبيِّنُه ما رواه مسلم

_ 1 مجموع الفتاوى (8/215 ـ 216) .

في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: قَسَمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله تعالى: مجّدني عبدي، وقال مرّة: فوّض إليّ عبدي، فإذا قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال {اهْدِنَا الصَّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل "1. فعلّم سبحانه عباده في هذه السورةِ العظيمةِ كيف يدعونه ويسألونه ويتوسّلون إليه، قال ابن القيم رحمه الله: " ولما كان سؤال الله الهدايةَ إلى الصراط المستقيم أجلَّ المطالب ونيلُه أشرفَ المواهب، علّم الله عبادَه كيفيةَ سؤاله، وأمرهم أن يقدِّموا بين يديه حمدَه والثناء عليه وتمجيدَه، ثمَّ ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم، توسلٌ إليه بأسمائه وصفاته وتوسلٌ إليه بعبوديته، وهاتان الوسيلتان لا يكاد يُردُّ معهما الدعاء ... إلى أن قال رحمه الله: وقد جَمعت الفاتحة الوسيلتين، وهما التوسلُ بالحمد والثناء عليه وتمجيده، والتوسلُ إليه بعبوديته وتوحيده، ثمَّ جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين، فالداعي به حقيقٌ بالإجابة.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:395) .

ونظير هذا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو به إذا قام يصلي من الليل، رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما " اللَّهمَّ لك الحمد أنت نورُ السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمدُ أنت قيُّوم السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت الحقُّ، ووعدُك حقٌّ، ولقاؤُك حقٌّ، والجنّةُ حقٌّ، والنار حقٌّ، والنبيّون حق، والساعةُ حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللَّهمَّ لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنت إلَهي لا إله إلاَّ أنت "1، فذكر التوسل إليه بحمده والثناء عليه وبعبوديته له ثمَّ سأله المغفرة "2.اهـ. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: " وفيه استحبابُ تقديم الثناء على المسألة عند كلِّ مطلوب اقتداءً به صلى الله عليه وسلم "3. ومن الأمثلة على ذلك دعاء يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيث فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} 4، ودعاء أيوب عليه السلام، قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَذِكْرَى

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1120) . 2 مدارج السالكين (1/23 ـ 24) . 3 فتح الباري (3/5) . 4 سورة يوسف، الآية: (101) .

لِلعَابِدِينَ} 1، ودعاءُ أولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 2، ودعاءُ الملائكة {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهْمْ عَذَابَ الجَحِيمِ} 3، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ جداًّ، يطول عدُّها، فينبغي على المسلم أن يحافظ على هذا الأدب الرفيع عند سؤاله له سبحانه بأن يُثْنِيَ عليه ويَحمده ويمجّده، ويعترف بفضله وإنعامه، ثمَّ يسأله بعد ذلك ما يشاء من خَيْرَي الدنيا والآخرة. كما ينبغي للمسلم أيضاً بين يدي دعائه أن يصلي على صفيِّ الله وخليله وعبده ورسوله نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاء الحثُّ على ذلك في أحاديث عديدة منها: حديث فَضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: " سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته فلم يصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عجل هذا، ثمَّ دعاه فقال له ولغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثمَّ ليصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم ثمَّ ليدع بعد بما شاء "4. ولهذا ثلاث مراتب: أحدها: أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء، وبعد حمد الله تعالى.

_ 1 سورة الأنبياء، الآيات: (83، 84) . 2 سورة آل عمران، الآية: (191) . 3 سورة غافر، الآية: (7) . 4 المسند (6/18) ، وسنن أبي داود (رقم:1481) ، وسنن الترمذي (رقم:3477) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:648) .

والمرتبة الثانية: أن يصلي عليه في أول الدعاء وأوسطه وآخره. والمرتبة الثالثة: أن يصلي عليه في أوله وآخره ويجعل حاجته متوسطة بينهما. والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للدعاء مثل المفتاح، قال ابن القيم رحمه الله: " فمفتاح الدعاء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما أنَّ مفتاح الصلاة الطهور ". ثمَّ نقل عن أحمد بن أبي الحوراء قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول " من أراد أن يسأل الله حاجته فليبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وليسأل حاجته، وليختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّ الصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم مقبولةٌ، والله أكرمُ أن يردَّ ما بينهما "1.

_ 1 جلاء الأفهام (ص:260 ـ 262) .

من آداب الدعاء (2)

96 ـ من آداب الدعاء مِمَّا ينبغي للمسلم تجنُّبُه في دعائه تكلُّفُ السجع في الدعاء، وتكلُّفُ صنعة الكلام له، قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الدعوات من صحيحه: " بابُ ما يُكره من السجع في الدعاء "، ثمَّ ساق بسنده إلى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " حَدِّث الناس كلَّ جُمُعة مرّة، فإن أبيتَ فمرّتين، فإن أكثرت فثلاث مرّات، ولا تُملَّ الناس هذا القرآن، ولا ألفينَّك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقصُّ عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملّهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدّثهم وهم يشتهونه، فانظر السَّجعَ من الدعاء فاجتنبه، فإنِّي عهدتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه لا يفعلون إلاَّ ذلك ـ يعني لا يفعلون إلاَّ ذلك الاجتناب ـ "1. والسَّجعُ هو الكلام المقفّى من غير مراعاة وزن، وتكلّف ذلك في الدعاء أمرٌ مكروهٌ لَم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحدٌ من أصحابه، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: " فإني عهدتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه لا يفعلون إلاَّ ذلك الاجتناب "، قال الأزهري رحمه الله: " وإنَّما كرهه صلى الله عليه وسلم لمشاكلته كلام الكهنة، كما في قصة المرأة من هُذيل "2، يشير إلى ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: " اقتتلت امرأتان من هُذيل فرمَتْ إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6337) . 2 فتح الباري (11/139) .

في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ ديةَ جنينها غرَّةٌ: عبدٌ أو وليدةٌ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها وَلَدَها ومَن معهم، فقال حَمَلُ بنُ النابغة الهُذلي: يا رسول الله كيف أغرمُ من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهلّ؟ فمثلُ ذلك يُطلُّ [أي يُهدر] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّما هذا من إخوان الكهان "1. من أجل سجعه الذي سجع. ولذا عدَّ بعضُ أهل العلم تكلُّفَ السجع في الدعاء في جملة موانع الإجابة، قال القرطبي رحمه الله: " ومنها: أن يدعو بما ليس من الكتاب والسنة فيتخيَّر ألفاظاً مفقرة، وكلمات مسجعةً، قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معوَّل عليها، فيجعلها شعارَه، ويترك ما دعا به رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلُّ هذا يمنع من استجابة الدعاء "2. والسجعُ المذمومُ هو المتكلَّف الذي يجتهد صاحبُه في تصنعه، فيشغله ذلك عن الإخلاص والخشوع، ويُلهيه عن الضراعة والافتقار، فأمَّا إن وُجد وحصل بلا تصنُّع ولا تكلُّف ومِن غير قصدٍ إليه فلا بأس به. قال السفاريني رحمه الله: " ولا يتكلَّف السجع في الدعاء، فإنَّه يُشغل القلبَ ويُذهب الخشوعَ، وإن دعا بدعوات محفوظة معه له أو لغيره من غير تكلُّف سجع فليس بممنوع "3.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:1681) . 2 الجامع لأحكام القرآن (7/266) . 3 غذاء الألباب (1/409) .

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه لحديث ابن عباس المتقدِّم في ذمِّ السجع في الدعاء: " ولا يَرِد على ذلك ما وقع في الأحاديث الصحيحة؛ لأنَّ ذلك كان يصدر من غير قصدٍ إليه؛ ولأجل هذا يجيء في غاية الانسجام، كقوله صلى الله عليه وسلم في الجهاد: " اللَّهمَّ مُنزلَ الكتاب، سريع الحساب، هازم الأحزاب "1، وكقوله صلى الله عليه وسلم: " صدق وعده وأعزَّ جندَه ... "، الحديث2، وكقوله: " أعوذ بك من عَين لا تدمع، ونفسٍ لا تشبع، وقلب لا يخشع "3، وكلُّها صحيحة "4. وينبغي للداعي أن يتجنَّب اللَّحنَ في الدعاء، ولا سيما إذا كان اللَّحنُ مُحِيلاً للمعنى، مُخِلاًّ بالمقصود، مفسداً للمراد، فإنَّ الإعرابَ عمادُ الكلام، وبه يستقيم المعنى، وبعدمِه يختلُّ ويفسد، وربَّما انقلب المعنى باللَّحنِ إلى معنى باطل أو دعاء محرَّم أو نحو ذلك. ولهذا قال أبو عثمان المازني لبعض تلاميذه: " عليك بالنحوِ، فإنَّ بني إسرائيل كفرت بحرف ثقيلٍ خفَّفوه، قال الله عزَّ وجلَّ لعيسى: إنِّي ولَّدتُكَ "، فقالوا: إنِّي وَلَدتُك "، فكفروا ". ويُذكر عن الأصمعيِّ: أنَّه مرَّ برجل يقول في دعائه: يا ذو الجلال والإكرام، فقال له: ما اسمك؟ قال ليث، فأنشأ يقول:

_ 1 صحيح البخاري (رقم:2933، 2966) ، وصحيح مسلم (رقم:1742) . 2 صحيح البخاري (رقم:2933، 2966) ، وصحيح مسلم (رقم:1742) . 3 صحيح مسلم (رقم:2722) بلفظ مقارب. 4 فتح الباري (11/139) .

يُنادي ربَّه باللَّحن ليثُ لذاك إذا دعاه لا يُجيبُ1. ولهذا ينبغي على الداعي تجنُّبُ اللَّحنِ في الدعاء إن كان مستطيعاً لذلك قادراً عليه، وإلاَّ فإنَّ اللهَ جلَّ وعلاَ لا يُكلِّف نفساً إلاَّ وُسعها. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل دعا دعاء ملحوناً فقال له رجل: ما يقبل الله دعاءً ملحوناً؟ فأجاب رحمه الله بما نصُّه: " مَن قال هذا القول فهو آثمٌ مخالفٌ للكتاب والسنة، ولما كان عليه السلف، وأمَّا مَن دعا اللهَ مخلصاً له الدين بدعاء جائز سمعه الله وأجاب دعاءَه سواء كان مُعرباً أو ملحوناً، والكلام المذكور لا أصل له، بل ينبغي للداعي إذا لَم تكن عادتُه الإعرابَ أن لا يتكلَّف الإعرابَ، قال بعضُ السلف: إذا جاء الإعرابُ ذهب الخشوعُ، وهذا كما يُكره تكلُّف السجع في الدعاء، فإذا وقع بغير تكلُّف فلا بأس به، فإنَّ أصلَ الدعاء من القلب، واللسان تابعٌ للقلب. ومَن جعل همَّتَه في الدعاء تقويمَ لسانِه أضعفَ توجه قلبه، ولهذا يدعو المضطرُّ بقلبِه دعاءً يُفتح عليه لا يحضره من قبل ذلك، وهذا أمرٌ يَجده كلُّ مؤمن في قلبه، والدعاءُ يجوز بالعربية، وبغير العربية، والله سبحانه يعلم قصدَ الداعي ومرادَه، وإن لَم يُقوِّم لسانه فإنَّه يعلم ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تنوُّع الحاجات "2.

_ 1 انظر: شأن الدعاء للخطابي (19 ـ 20) . 2 مجموع الفتاوى (22/488 ـ 489) .

ولا يجوز للمسلم أن يتحرَّى في دعائه أنغاماً معيَّنة أو تكلُّفات في الأداء مِن خفض ورفع أو تطريب أو ترجيع أو نحو ذلك، مما يُسمِّيه البعض في زماننا ابتهالات ويجعل له أداءً معيَّناً شبيهاً بالتغنِّي، فمِثل هذا لا يجوز؛ لأنَّ مقامَ الدعاء مقامُ طلبٍ وإظهارِ حاجة وخشوع وتضرُّعٍ إلى الله، وليس مقامَ تغنٍ، وهو مقامُ خضوع وعبوديةٍ، وليس مقامَ إظهارٍ للصناعة النغمية، وهو مقامُ ذُلٍّ وخضوعٍ وإيمان، وليس مقامَ شغلٍ للخواطر بتنميق الأداء وإقامة الأوزان، والله وحده الهادي والموفِّق، وهو وحده المستعان.

التحذير من السماعات المبتدعة

97 ـ التحذير من السماعات المبتدعة لا يزالُ حديثُنا موصولاً ببيان ضوابط الدعاء المشروع الذي كان عليه سيِّد الأنبياء والمرسَلين، واتَّبعه فيه سادات الأولياء والصالحين من الصحابة والتابعين، وهو وحده المقبول عند الله، دون ما أحدثه المحدثون، وأنشأه المتكلِّفون، ممن هجروا الأذكارَ المشروعة، والأدعيةَ المأثورة، واستبدلوها بسماعات مبتدَعة، وتعبدٍ بإنشادِ أشعارٍ، وأراجيزَ محدثةٍ اتَّخذوها أوراداً، ووظَّفوا لها أوقاتاً، وادّعوا أنَّ تأثيرها في القلوب أبلغُ، وتحريكَها للنفوس أقوى، فمالت لها قلوبُهم، واطمأنَّت إليها نفوسُهم، وآثروها على الأذكار المشروعة والأدعية المأثورة. وما مِن ريبٍ أنَّ هذا حدَثٌ في الدين، ومخالفةٌ لِهَدي سيِّد الأنبياء والمرسلين، والنقولُ عن أهل العلم في ذمِّ ذلك، والتحذيرِ منه، والنهيِ عنه، وبيانِ أنَّه من البدع المحدَثة كثيرةٌ جداًّ. يقول الإمام الشافعي رحمه الله: " خرجتُ من بغداد وخلَّفتُ بها شيئاً أحدثه الزنادقة، يُسمّونه التغبير، يصدّون الناسَ به عن القرآن ". والتغبيرُ ذكرٌ أحدثه هؤلاء بنوعٍ من التغنّي بالشعر مع ضربِ قضيبٍ على جلدٍ أو نحوِ ذلك. ولَمَّا سُئل عنه الإمامُ أحمدُ رحمه الله، قال: " بدعةٌ محدثةٌ "1.

_ 1 انظر: كتاب الكلام على مسألة السماع لابن القيم (ص:119 ـ 128) .

ويقول محمد بن الوليد الطرطوشي: " ومِن العَجب العُجاب أن تُعرِضَ عن الدعوات التي ذَكَرها الله في كتابه عن الأنبياء والأولياء والأصفياءِ مقرونةً بالإجابةِ، ثمَّ تنتقي ألفاظَ الشُّعراء والكتَّاب، كَأنَّك قد دعوتَ في زعمِك بجميع دعواتِهم ثمّ استعنتَ بدعوات مَن سواهم "1. اهـ. وقد نبّه أهلُ العلم على أنَّ السماعَ على نوعين: نوعٌ هو سماعُ لهوٍ وطربٍ، فهذا حكمه محرَّمٌ وباطلٌ، وقد بسط غيرُ واحدٍ من أهل العلم الأدلّة على منعه وتحريمه، منهم ابن القيِّم رحمه الله في كتابه إغاثةُ اللهفان. والنوعُ الثاني: السماعُ المحدَثُ على وجهِ التديُّن والتقرُّب إلى الله تعالى، فهذا يُقال فيه إنَّه بدعةٌ ضلالةٌ، فإنَّ اللهَ جلَّ وعلا إنَّما يُتقرَّبُ إليه بما شرع لا بالأهواء والمحدثات والبدع، وقد ضمّ بعضُ هؤلاء إلى ذلك على وجه التديُّن والتقرُّب التلحينَ والتطريبَ وآلاتِ اللهو، والتصفيق والتمايل، ونحو ذلك من الأعمال التي يقومون بها ويُؤدّونها بزعمهم تقرُّباً إلى الله جلَّ وعلاَ، وطلباً لثوابه، ولا ريب أنَّ ذلك من أقبح الأعمال، وأقبح أنواع الاعتداء في الذكر والدعاء. وهكذا صار هؤلاء يترقَّون في درجاتِ الباطل ويتمادون في الغي والضلال إلى أن بلغوا إلى هذه الحال المُزْرِية والنهاية المؤسفة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فإنَّ أصلَ سماع القصائد كان تلحيناً بإنشاد قصائدَ مرقِّقةٍ للقلوب تحرِّك المحبةَ والشوقَ أو الخوفَ

_ 1 الفتوحات الربانية لابن علان (1/17) .

والخشيةَ أو الحزن والأسف وغيرَ ذلك، وكانوا يشترطون له المكان والإمكان والخلاّن، فيشترطون أن يكون المجتمعون لسماعها من أهل الطريق المريدين لوجه الله والدار الآخرة، وأن يكون الشعرُ المنشدُ غيرَ متضمنٍ لما يُكره سماعُه في الشريعة، وقد يشترط بعضُهم أن يكون القوَّالُ منهم، وربّما اشترط بعضُهم ذلك في الشاعر الذي أنشأ تلك القصائد، وربّما ضمُّوا إليه آلةً تُقوِّي الصوتَ وهو الضربُ بالقضيب على جلد مخدةٍ أو غيرها وهو التغبيرُ. ومن المعلوم أنَّ استماع الأصوات يوجب حركة النفس بحسب ذلك الصوت الذي يوجب الحركة ... وللأصوات طبائعُ متنوِّعة، تتنوع آثارها في النفس، وكذلك للكلام المسموع نظمه ونثره، فيجمعون بين الصوت المناسب والحروف المناسبة لهم. وهذا الأمر يفعله بنو آدم من أهل الديانات البدعية كالنصارى والصابئة، وغير أهل الديانات مِمَّن يحرك بذلك حبه وشوقه ووجده أو حزنه وأسفه أو حميّته وغضبه أو غير ذلك، فخلف بعد أولئك من صار يجمع عليه أخلاطاً من الناس ويرون اجتماعهم لذلك شبكة تصطاد النفوس بزعمهم إلى التوبة والوصول في طريق أهل الإرادة ... "1. الخ كلامه. وقد سُئل رحمه الله عن رجلٍ من المعروفين بالخير أراد تتويب جماعةٍ يجتمعون على قصد الكبائر من القتل وقطع الطريق والسرقة وشرب

_ 1 الاستقامة (1/305 ـ 306) .

الخمر وغير ذلك، فلم يمكنه إلاَّ أن يقيم لهم سماعاً يجتمعون فيه بهذه النية، وهو بدفٍّ بلا صلاصل، وغناءُ المغني بشعرٍ مباح بغير شبابة، فلمَّا فعل هذا تاب منهم جماعةٌ، وأصبح مَن لا يصلي ويسرق ولا يزكي يتورَّعُ عن الشبهات، ويُؤدي المفروضات، ويتجنَّب المحرَّمات، فهل يُباح فعلُ هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه لِما يترتَّب عليه من المصالح مع أنَّه لا يمكنه دعوتهم إلاَّ بهذا؟ فقال رحمه الله في جوابه على هذا السؤال: " إنَّ الشيخَ المذكورَ قصد أن يُتوِّب المجتمعين على الكبائر فلم يُمكنه ذلك إلاّ بما ذكره من الطريق البدعي، يدلُّ أنَّ الشيخَ جاهلٌ بالطرق الشرعية التي بها تتوبُ العصاة، أو عاجزٌ عنها، فإنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم والصحابةَ والتابعين كانوا يدعون مَن هو شرٌّ من هؤلاء مِن أهل الكفر والفسوقِ والعصيان بالطرق الشرعية التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية، فلا يجوز أن يُقال إنَّه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيَّه ما يتوب به العصاة، فإنَّه قد عُلم بالاضطرار والنقل المتواتر أنَّه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان مَن لا يُحصيه إلاَّ الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية التي ليس فيها ما ذكر من الاجتماع البدعي بل السابقون والأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وهم خيرُ أولياء الله المتقين من هذه الأمة تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية، لا بهذه الطرق البدعية، وأمصارُ المسلمين وقراهم قديماً وحديثاً ممَّن تاب إلى الله واتَّقاه، وفعل ما يحبُّه الله ويرضاه بالطرق الشرعية لا بهذه الطرق البدعية، فلا يُمكن أن يُقال إنَّ العصاةَ لا تمكن توبتهم إلاَّ بهذه

الطرق البدعية، بل قد يُقال: إنَّ في الشيوخ مَن يكون جاهلاً بالطرق الشرعية عاجزاً عنها، ليس عنده علمٌ بالكتاب والسنة وما يُخاطِب به الناسَ ويُسمعهم إيَّاه مِمَّا يتوب الله عليهم به، فيعدِلُ هذا الشيخُ عن الطرق الشرعيةِ إلى الطرق البدعية "1، إلى آخر كلامه رحمه الله، وهو عظيمُ الفائدة، جليلُ النفع، غنيٌّ عن البيان والتعليق، وللموضوع صلة، وبالله وحده التوفيق والسداد.

_ 1 مجموع الفتاوى (11/620 ـ 635) .

الفرق بين السماع المشروع والمحدث

الفرق بين السماع المشروع والمحدث ... 98 ـ الفرق بين السماع المشروع والسماع المحدَث سبق الحديثُ عمَّا أحدثه بعضُ الناس في الذِّكر والدعاء من السماعات المُحدَثة، والتعبُّدِ لله باتِّخاذ أراجيز وأشعارٍ أوراداً لهم، فجَنَى عليهم ذلك جنايات بالغة، وأفسد عليهم مسلكَهم، وصدَّهم عن الذِّكر القويم والدعاء السليم الوارد في هدي سيِّد الأنبياء والمرسَلين نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم. والواجب على كلِّ مسلم أن يُفرِّق بين السماع الذي ينتفع به في الدِّين المتقرِّر في شرع ربِّ العالمين، وبين السماعات المحدَثة التي أنشأها واخترعها بعضُ الناس على وفق أهوائهم. فأما السماع الذي شرعه الله تعالى لعباده وكان سلفُ الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم يجتمعون عليه لصلاح قلوبهم وزكاةِ نفوسهم، فهو سماعُ آياتِ الله تعالى، وهو سماع النبيّين والمؤمنين وأهل العلم، قال الله تعالى لَمَّا ذكر مَن ذَكره من الأنبياء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وبُكِيًّا} 1، وقال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 2، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن

_ 1 سورة مريم، الآية: (58) . 2 سورة الأنفال، الآية: (2) .

قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًّا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} 1، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ} 2. وبهذا السماع أَمَر الله تعالى عباده كما قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 3، وعلى أهله أثنى كما في قوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 4، وقال في الآية الأخرى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} 5، فالقولُ الذي أُمروا بتدبُّره هو القولُ الذي أُمروا باستماعه، وقد قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 6، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} 7. وكما أثنى الله على هذا السماع ذمَّ المُعرضين عنه فقال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} 8،

_ 1 سورة الإسراء، الآيات: (107 ـ 109) . 2 سورة المائدة، الآية: (83) . 3 سورة الأعراف، الآية: (204) . 4 سورة الزمر، الآيات: (17، 18) . 5 سورة المؤمنون، الآية: (68) . 6 سورة محمد، الآية: (24) . 7 سورة ص، الآية: (29) . 8 سورة لقمان، الآية: (7) .

وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} 1، وقال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ المُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} 2، وقال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} 3، وقال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} 4، وقال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلى قُلُوبِهْمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} 5. فهذا هو السماعُ الذي شرعه الله لعباده، ورتَّب لهم عليه الأجورَ الكثيرةَ والخيراتِ العظيمةَ في الدنيا والآخرة، وعلى هذا السماع كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون، فكانوا إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأَ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى رضي الله عنه: " يا أبا موسى ذكِّرنا ربَّنا، فيقرأ وهم يسمَعون "6، وهذا هو السماعُ الذي كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يشهده مع

_ 1 سورة فصلت، الآية: (26) . 2 سورة الفرقان، الآيات: (30، 31) . 3 سورة المدثر، الآية: (49 ـ 51) . 4 سورة فصلت، الآية: (5) . 5 سورة الإسراء، الآيات: (45، 46) . 6 رواه ابن سعد في الطبقات (4/109) ، وأورده الذهبيُّ في السير (2/398) .

أصحابه ويستدعيه منهم، كما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " اقرأ عليَّ القرآن، قلتُ: أقرأه عليك وعليك أُنزل، فقال: إنِّي أحِبُّ أن أسمعه من غيري، فقرأتُ عليه سورة النساء حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} 1 قال: حسبُك، فنظرتُ فإذا عيناه تذرفان "2. فهذا هو سماعُ أهل الإيمان الذي مَن سمعه وآمن به واتبعه اهتدى وأفلح، ومَن أعرض عنه شقيَ وضلَّ، ثمَّ إنَّ له من الآثار الإيمانية والمعارف القدسية والأحوال الزكية والنتائج المحمودة في الدنيا والآخرة ما لا يُعدُّ ولا يُحصى. وأمَّا سماعُ المكاء والتصدية، وهو التصفيقُ بالأيدي والصفيرُ ونحوُه، فهذا هو سماع المشركين الذي ذكره الله تعالى في قوله: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} 3، فأخبر عنهم أنَّهم كانوا يتَّخذون التصفيقَ باليد، والتصويت بالفم قُربةً وديناً، ولم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه يجتمعون على مثل هذا السماع ولا حضروه، ولم يكن في القرون الثلاثة المفضلة من أهل الدِّين والصلاح والعبادة مَن يَجتمع على مثل هذا المكاء والتصدية، لا بدُفٍّ ولا بكفٍّ ولا بقضيبٍ، وإنَّما أُحدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية، فلمَّا رآه الأئمةُ

_ 1 سورة النساء، الآية: (41) . 2 صحيح البخاري (رقم:4582) ، وصحيح مسلم (رقم:800) . 3 سورة الأنفال، الآية: (35) .

أنكروه، وقد مرَّ قولُ الإمام الشافعي والإمام أحمد رحمهما الله في ذلك، فمَن فعل هذه الأمورَ على وجه الديانة والتقرُّبِ إلى الله عزَّ وجلَّ فلا ريب في ضلالته وجهالته وانحرافه عن الصراط المستقيم. وأمَّا إذا فعلها الإنسان على وجه التمتُّع واللعب، فمذهبُ الأئمة الأربعة أنَّ آلات اللَّهو كلَّها حرامٌ، فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّه سيكون من أمته من يستحلُّ الحرَ والحريرَ والخمرَ والمعازف1، والمعازفُ هي الملاهي، جمع معزفة، وهي الآلة التي يُعزف بها، أي يُصوَّت بها، ولا خلاف بين أهل العلم وأئمة السلف في تحريم ذلك2. وينبغي أن يُعلم أنَّ ثمَّةَ فرقاً بين مَن يفعل هذه الأمور على وجه اللهو واللعب، وبين من يفعلها على وجه التديُّن والتعبُّد، فإنَّ الأولَ يفعل ذلك وهو لا يعدُّه من صالح عمله، ولا يرجو به الثواب، بل ربَّما كان يفعله وهو يشعر بالذنب والخطأ، أما مَن فعله على وجه التقرُّب والتعبُّد، وأنَّه طريقٌ إلى الله تعالى، فإنَّه يتَّخذه دِيناً، وإذا نُهي عنه كان كمن يُنهى عن دينه، ورأى أنَّه قد انقطع عن الله، وحرم نصيبَه من الله تعالى إذا تركه، فهؤلاء ضلاَّلٌ باتفاق المسلمين، وهذا الأمر أحبُّ إلى إبليس من الأول؛ لأنَّ العاصيَ يعلمُ أنَّه عاصٍ فيتوب، والمبتدعُ يحسب أنَّ الذي يفعله طاعة فلا يتوب، فالبدعةُ أحبُّ إلى إبليس من المعصية، حمانا الله وإياكم منه، وهدانا إلى صراطه المستقيم.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:5590) . 2 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/557 ـ 586) .

الدعاء للمسلمين

99 ـ الدعاء للمسلمين إنَّ من الأمور المهمَّة التي ينبغي أن يلحظها المسلمُ في الدعاء، بل قد عدَّه بعضُ أهل العلم في جملة آداب الدعاء العنايةَ بالدعاء للمسلمين بالتوفيق والمغفرة والرحمة والإعانة على الخير؛ إذ إنَّ الجميعَ مشتركون في الحاجة إلى ذلك، وما من ريب أنَّ كلَّ مسلمٍ يحبُّ من إخوانِه المسلمين أن يدعوا له، ويُسَرُّ بذلك، ويتمنى زيادته، والمسلمُ يُحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه من الخير، فكما أنَّه يحبُّ ذلك لنفسه فينبغي أن يكون معتنياً بذلك تجاه إخوانه المسلمين بحب الخير لهم، والدعاء لهم، والاستغفار ونحو ذلك، ومَن كان هذا شأنُه مع إخوانه المسلمين قيَّض الله له من إخوانه من يدعون له ويستغفرون له، والمسلم ينتفع بدعوة أخيه المسلم حيًّا وميِّتاً. وإذا نظر المسلمُ إلى أحوال إخوانه المسلمين وجدها أحوالاً متفاوتة، وكلُّ واحد منهم بحاجة إلى دعاءِ إخوانه، فذاك مريضٌ يعاني من المرض ويُكابد آلامَه، ولربما يكون قد أمضى في مرضه الأسابيعَ العديدة أو الشهورَ الطويلة، وقد لا يغمض له جفن، ولا يهدأ له بالٌ في آلامٍ متعبة وأوجاع مؤلمة، فهو بحاجة إلى دعاء إخوانه المسلمين له بأن يشفي الله مرضَه، ويزيل بأسه، ويفرج همَّه، ويكشف كربَه، ويُلبسَه ثوبَ الصحة والعافية. روى أبو داود والترمذي، وقال: " حسن "، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَن عاد مريضاً لَم يحضر أجلُه فقال

عنده سبعَ مرَّات: أسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يشفيك إلاَّ عافاه الله "1. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى المريض يدعو له قال: اللَّهمَّ ربَّ الناس أذهب الباس، واشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلاَّ شفاؤك، شفاءً لا يغادر سُقماً "2. ومن المسلمين مَن اخترمته المنيَّةُ وأدركه الموتُ، فهو في قبره محتَجزٌ، وبأعماله مرتَهن، وبما قدَّمت يداه مجزيٌّ، فهو بحاجة إلى دعاء إخوانه المسلمين بأن يُقيلَ الله عثرتَه، ويغفرَ زلَّتَه، ويتجاوزَ عن خطيئته، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 3، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: " هذا شاملٌ لجميع المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين التي من فروعها أن يدعو بعضُهم لبعض وأن يحبَّ بعضُهم بعضاً، ولهذا ذكر الله في هذا الدعاء نفيَ الغلِّ عن القلب، الشامل لقليله وكثيره، الذي إذا انتفى ثبت ضدُّه وهو المحبَّةُ بين المؤمنين والموالاةُ والنصحُ ونحوُ ذلك ممَّا هو من حقوق المؤمنين ... "4.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:3106) ، وسنن الترمذي (رقم:2083) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:6388) . 2 صحيح البخاري (رقم:5675) ، وصحيح مسلم (4/1722) . 3 سورة الحشر، الآية: (10) . 4 تيسير الكريم الرحمن (8/103) .

ومن المسلمين مَن يعيشون في بلدانهم في فتن مؤرقة، وحروبٍ مهلكة، وبلاء شديد، قد تسلَّط عليهم عدوُّهم، فأُريقت فيهم الدماء، ورُمِّلت النساء، ويُتِّمَ الأطفالُ، ونُهبت الأموالُ، وهم بحاجة إلى الدعاء لهم بأن يُنفِّسَ اللهُ كربَهم، ويفرج هَمَّهم، ويكبِتَ عدوَّهم، وينشرَ الأمنَ والاطمئنانَ بينهم، وقد كان من هدي النبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم القنوتُ في النوازل التي تنزل بالمسلمين، فيدعو للمسلمين بالنصر والنجاة، ولعدوِّهم بالهزيمةِ والهلاك، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قنتَ في صلاة العَتَمَةِ شهراً يقول في قنوته: اللَّهمَّ أنْجِ الوليدَ بن الوليد، اللَّهمَّ أنْجِ سلمةَ بنَ هشام، اللَّهمَّ أنْجِ عيَّاشَ بن أبي ربيعة، اللَّهمَّ أنْجِ المستضعفين من المؤمنين، اللَّهمَّ اشدد وطأتَك على مُضر، اللَّهمَّ اجعلها عليهم سنينَ كسِني يوسف، قال أبو هريرة: وأصبح ذات يوم فلم يدعُ لهم، فذكرتُ ذلك له، فقال: أَوَما تراهم قد قَدِموا "1. وثبت في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " قنتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على رِعْلٍ وذكوان ويقول: عُصيَّة عَصت الله ورسولَه "2. وكذلك قنوتُ أبي بكر الصديق رضي الله عنه في محاربة الصحابة لمسيلمة الكذاب، وعند محاربة أهل الكتاب، وكذلك قنوتُ عمر بن

_ 1 صحيح البخاري (رقم:804) ، وصحيح مسلم (1/467) ، واللفظ له. 2 صحيح البخاري (رقم:4094) .

الخطاب رضي الله عنه، وفيه يقول: " اللَّهمَّ عَذِّب كفرةَ أهل الكتاب الذين يصدُّون عن سبيلك، ويجحدون آياتك، ويكذبون رسلَك، ويتعدَّون حدودَك ... "، إلى آخر دعائه رضي الله عنه1. ومِن المسلمين مَن أرقهم الفقرُ، وأقعدتهم الحاجةُ، فمنهم مَن قد لا يجد لباساً يواريه، أو مسكناً يؤويه، أو طعاما يُشبعه ويغذيه، أو شراباً يرويه، بل منهم مَن أدركه حتفُه في مجاعات مهلكة، وقَحْطٍ مفجع، فهم بحاجة إلى دعوات صادقة بأن يغني الله فقيرَهم، ويُشبعَ جائعَهم، ويكسو عاريَهم، ويَسُدَّ حاجتَهم، ويكشفَ فاقتَهم، إلى غير ذلك من أنواع الاهتمام بأمور المسلمين وحبِّ الخيرِ لهم، والدعاء لهم، وذلك كلُّه منطلقٌ من الرابطة الإيمانية التي تجمعهم وتؤلف بينهم، قال الله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 2، وقال تعالى: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 3، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى "، رواه البخاري ومسلم4.

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/372 ـ 373) ، وزاد المعاد لابن القيم (1/285) . وأثر عمر أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (2/155 ـ 156) وغيره ـ مع اختلاف في اللفظ عما أورد هنا ـ وقد صحَّحه الألبانيُّ في تعليقه على صحيح ابن خزيمة، وصحَّحه قبله الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار (2/150) . 2 سورة الحجرات، الآية: (10) . 3 سورة التوبة، الآية: (71) . 4 صحيح البخاري (رقم:6011) ، وصحيح مسلم (رقم:2586) .

وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينُه اشتكى كلُّه، وإن اشتكى رأسُه اشتكى كلُّه "1. وثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من حديث أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشُدُّ بعضُه بعضاً "2. وروى الطبراني عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه أنَّه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: " لن تؤمنوا حتى تراحموا، قالوا: يا رسول الله كلُّنا رحيم، قال: إنَّه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنَّها رحمةُ الناس رحمةُ العامة "3. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، فينبغي على المسلم أن يكون مراعياً لحقوق إخوانه المسلمين، مُحبًّا الخيرَ لهم، رحيماً بهم، عَطوفاً عليهم، داعياً لهم بالتوفيق والسداد، والخير والفلاح، والصلاح والاستقامة.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:4/2000) . 2 صحيح البخاري (رقم:6026) ، وصحيح مسلم (رقم:2585) . 3 رواه الطبراني كما في مجمع الزوائد (8/186) ، وقال الهيثمي: " رجاله رجال الصحيح)) ، ورواه الحاكم في المستدرك (4/185) ، وقال: " صحيح الإسناد)) ، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (10/438) : " رجاله ثقات)) ، وللحديث شاهد من حديث أنس رواه أبو يعلى في مسنده (7/251) .

الاستغفار للمسلمين

100 ـ الاستغفار للمسلمين تقدَّم بيانُ أهميَّةِ دعاء المسلم لغيره من إخوانه المسلمين بالمغفرة والتوفيقِ والهداية والسدادِ ونحوِ ذلك، وتقدَّم الإشارةُ إلى أنَّ حاجةَ الجميعِ إلى ذلك مشتَرَكَةٌ، فكما أنَّ المسلمَ بحاجةٍ إلى دعوات إخوانه المسلمين، فكذلك إخوانه المسلمون بحاجة إلى ذلك، قال العلاَّمةُ ابنُ القيِّم رحمه الله: " والجميعُ مشتركون في الحاجة بل في الضرورة إلى مغفرةِ الله وعفوِه ورحمتِه، فكما يُحبُّ [أي المسلم] أن يَستغفرَ له أخوه المسلمُ، كذلك هو أيضاً ينبغي أن يستغفرَ لأخيه المسلم، فيصير هِجِّيراه: ربِّ اغفر لي ولوالديَّ وللمسلمين والمسلمات وللمؤمنين والمؤمنات، وقد كان بعضُ السلف يستحبُّ لكلِّ أحدٍ أن يُداوم على هذا الدعاء كلَّ يوم سبعين مرَّة، فيجعل له منه وِرداً لا يُخلُّ به. وسمعتُ شيخَنا ـ أي ابن تيمية ـ يذكرُه، وذكر فيه فضلاً عظيماً لا أحفظه، وربَّما كان مِن جملة أوراده التي لا يُخلُّ بها، وسمعتُه يقول: إنَّ جعلَه بين السجدتين جائزٌ، فإذا شهدَ العبدُ أنَّ إخوانه مصابون بمثل ما أُصيب به، محتاجون إلى ما هو محتاجٌ إليه لَم يمتنع من مساعدتهم إلاَّ لفرطِ جهله بمغفرة الله وفضلِه، وحقيقٌ بهذا أن لا يُساعَد، فإنَّ الجزاءَ من جنس العمل "1. ومِن الأجور الواردةِ في هذا الدعاء العظيم ما ثبت في المعجم الكبير

_ 1 مفتاح دار السعادة (2/298) .

للطبراني بإسناد حسن عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن استغفر للمؤمنين والمؤمنات، كتب الله له بكلِّ مؤمنٍ ومؤمنَة حسنةً "1. فتأمَّل ـ رحِمكَ الله ـ عِظمَ هذا الأجر المترتِّب على هذا الدعاء وكثرته، فالمسلمُ عندما يقول في دعائه: اللَّهمَّ اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، يكون له بكلِّ واحد من المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات المتقدِّمين منهم والمتأخرين حسنة، فهي حسنات لا تُحصى، فأعداد المسلمين المتقدِّمين والمتأخرين لا يُحصيهم إلاَّ الله جلَّ وعلا، ولهذا كان هذا الدعاءُ العظيم في جملة أدعية النبيِّين، وأَمَرَ الله به خاتَمهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وذكره في جملة ما امتدح به عباده المؤمنين، قال الله تعالى إخباراً عن نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلمُؤْمِنينَ وَالمُؤْمِنَاتِ} 2، وقال تعالى إخباراً عن إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ} 3، وقال تعالى آمراً نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ} 4، وقال تعالى عن عباده المؤمنين الذين جاؤوا مِن بعد

_ 1 مجمع الزوائد (10/210) ، وصحيح الجامع (رقم:5906) ، وانظر تعليق الشوكاني على هذا الحديث في تحفة الذاكرين (ص:320) . 2 سورة نوح، الآية: (28) . 3 سورة إبراهيم، الآية: (41) . 4 سورة محمد، الآية: (19) .

الصحابة: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} 1. وكلُّ ذلك دالٌّ على عِظم شأن هذا الدعاء، وجلالةِ قدرِه، وكثرةِ ثوابِه عند الله، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يعظم شأنَ هذا الدعاء، وكان من جملة أورادِه التي لا يُخلُّ بها، كما سبق نقلُ ذلك عن الإمام ابن القيم رحمه الله. وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال: قلتُ لعطاء: أَستَغفرُ للمؤمنين والمؤمنات؟ قال: نعم، قد أُمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فإنَّ ذلك الواجبَ على الناس، قال الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ} ، قلتُ: أفتدع ذلك في المكتوبة أبداً؟ قال: لا، قلت: فبِمَن تبدأ، بنفسك أم بالمؤمنين؟ قال: بل بنفسي، كما قال الله {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ} "2. وروى البيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن المبارك رحمه الله: " أنَّه كان إذا ختم القرآنَ أكثَرَ دعاءَه للمؤمنين والمؤمنات "3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فالأمرُ الذي كان معروفاً بين المسلمين في القرون المفضَّلةِ أنَّهم كانوا يعبدون اللهَ بأنواع العبادات المشروعة فرضها ونفلها من الصلاة والصيام والقراءةِ والذِّكر وغيرِ

_ 1 سورة الحشر، الآية: (10) . 2 مصنف عبد الرزاق (2/217) . 3 شعب الإيمان (2/411) .

ذلك، وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك لأحيائهم وأمواتهم في صلاة الجنازة وعند زيارة القبور وغير ذلك، وروي عن طائفة من السلف: عند كلِّ ختمة دعوةٌ مستجابة، فإذا دعا الرجلُ عُقيب الختم لنفسه ولوالديه ولمشائخه وغيرِهم من المؤمنين والمؤمنات كان هذا من جنس المشروع، وكذلك دعاؤه لهم في قيام الليل وغير ذلك من مواطن الإجابة "1. ثمَّ إنَّ دعوةَ المسلمِ لأخيه أو إخوانه المسلمين بظهر الغيب مستجابةٌ، بل إنَّ الله جلَّ وعلا وكَّل ملَكاً عند رأس الداعي كلَّما دعا لأخيه بخير قال الملَك: " آمين ولك بمثلِه ". روى مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء رضي الله عنه: أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما مِن عبدٍ مسلمٍ يدعو لأخيه بظهر الغيب إلاَّ قال الملَكُ: ولك بمثل "2، وفي رواية أخرى في صحيح مسلم عن أبي الدرداء: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دعوةُ المرءِ المسلمِ لأخيه بظهرِ الغيب مستجابةٌ، عند رأسِه مَلَكٌ موكَّلٌ كلَّما دعا لأخيه بخير قال الملَكُ المُوَكَّلُ به: آمين ولك بمثلِه "3. قال النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: " وفي هذا فضلُ الدعاء لأخيه المسلم بظهر الغيب، ولو دعا لجماعةٍ من المسلمين

_ 1 مجموع الفتاوى (24/322) . 2 صحيح مسلم (رقم:2732) . 3 صحيح مسلم (رقم:2732) .

حصلت هذه الفضيلةُ، ولو دعا لجملة المسلمين فالظاهر حصولها أيضاً، وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوةِ؛ لأنَّها تُستجابُ ويحصُلُ له مثلُها "1. إنَّ جميعَ ما تقدَّم فيه أبلغُ دلالةٍ على أهميَّة الدعاء للمسلمين بالمغفرة والرحمة ونحو ذلك، فحريٌّ بكلِّ مسلمٍ أن يُكثرَ من الدعاء لإخوانه لينال تلك الأجورَ الكريمةَ والفضائل العظيمة، ومِن لطيف ما يُستأنسُ به في هذا المقام ما رواه أبو نعيم في حلية الأولياء عن أحمد بن الضحاك الخشاب قال: " رأيتُ فيما يرى النائمُ شُريحَ بنَ يونس، فقلتُ: ما فعل بكَ ربُّكَ يا أبا الحارث؟ قال: غفر لي، ومع ذلك جعل قصري إلى جنب قصر محمد بن بشير بن عطاء الكندي، فقلتُ: يا أبا الحارث أنتَ عندنا أكبرُ من محمد بن بشير، فقال: لا تقُل ذاك، فإنَّ الله تعالى جعل لمحمد بن بشير حظًّا في عمل كلِّ مؤمن ومؤمنة؛ لأنَّه كان إذا دعا قال: اللَّهمَّ اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات "2. فنسأل الله الكريم أن يغفرَ لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.

_ 1 شرح صحيح مسلم (17/49) . 2 حلية الأولياء (10/113) .

فضل الدعاء للمؤمنين والإمساك عن الطعن فيهم

101 ـ فضلُ الدعاء للمؤمنين والإمساك عن الطعن فيهم لقد مرَّ الكلامُ على أهميَّة الدعاء للمسلمين بالمغفرةِ والرحمةِ والتوفيقِ، ونحوِ ذلك، وبيانُ ما يترتَّبُ على ذلك من فوائد عظيمة وأجورٍ كريمة، وخيراتٍ متواليةٍ في الدنيا والآخرة، وما مِن شكٍّ أنَّ وجودَ مثل ذلك بين المسلمين دليلٌ على قوَّةِ اللُّحمة، وشدَّة الرابطةِ، ووثوق الصلةِ، وهو دليلٌ أيضاً على كمال العقلِ وسلامة الصَّدر ورجاحةِ الفهم، والمسلمُ الموفَّقُ يكون دائماً محبًّا الخيرَ لإخوانه المسلمين، عطوفاً عليهم، رحيماً بهم، راجياً صلاحَهم وفلاحَهم وهدايتَهم، متمنِّياً تحقُّق الخير لهم، مكثراً من دعاء الله وسؤاله لهم، ومَن كان كذلك فهو حريٌّ بأن يكون من الشهداء والشفعاء للناس يوم القيامة، ثبت في الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " لا يكون الطعَّانون واللَّعانون شفعاءَ ولا شهداءَ يوم القيامة "، رواه مسلم، وأحمد، وأبو داود1. قال ابن القيم رحمه الله في معنى هذا الحديث: " إنَّ الشهادةَ من باب الخبر، والشفاعةَ من باب الطلبِ، ومَن يكون كثيرَ الطعن على الناس، وهو الشهادةُ عليهم بالسوء، وكثيرَ اللعن لهم، وهو طلب السوء لهم لا يكون شهيداً عليهم ولا شفيعاً لهم؛ لأنَّ الشهادةَ مبناها على الصِدق، وذلك لا يكون فيمَن يُكثر الطعنَ فيهم، ولا سيما فيمَن هو

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2598) ، وسنن أبي داود (رقم:4907) ، والمسند (6/448) .

أولى بالله ورسوله منه، والشفاعةُ مبناها على الرحمة وطلب الخير، وذلك لا يكون ممَّن يُكثر اللَّعنَ لهم، ويترك الصلاة عليهم "1. ولهذا حريٌّ بالمسلم أن يكون مصليًّا على إخوانه المسلمين، محبًّا الخيرَ لهم، مبتعداً عن لعنهم وسبِّهم والوقيعة فيهم؛ إذ ليس ذلك من شأن المسلم ولا من خُلُقِه. روى الحاكم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعَّاناَ "2. وروى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللَّعان ولا الفاحش ولا البذيء "3. وثبت في صحيح البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " المسلمُ مَن سلم المسلمون من لسانه ويده "4، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وهذه أقلُّ أحوال المسلم إن لَم يكن داعياً لإخوانه المسلمين، باذلاً الخيرَ لهم، ساعياً في حاجتهم ومصالحهم، فلا أقلَّ من أن يكون كافاًّ عن أذيَّتهم وإيصال الشرِّ لهم.

_ 1 الصواعق المرسلة (4/1505) . 2 المستدرك (1/47) ، وانظر: سنن الترمذي (رقم:2019) ، ورواه مسلم (رقم:2597) بلفظ: " لا ينبغي لصديِّق أن يكون لعَّاناً)) . 3 المسند (1/404) ، وسنن الترمذي (رقم:1977) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:320) . 4 صحيح البخاري (رقم:10) ، وصحيح مسلم (رقم:41) .

روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " على كلِّ مسلمٍ صدقة، قالوا: فإن لَم يجِد؟ قال: فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدَّق، قالوا: فإن لَم يستطع أو لَم يفعل؟ قال: فيُعينُ ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لَم يفعل؟ قال: فليأمر بالخير أو قال بالمعروف، قالوا: فإن لَم يفعل؟ قال: فليُمسك عن الشرِّ فإنَّه له صدقة "1. ففي هذا دليلٌ على أنَّه لا أقلَّ من الإمساكِ عن الشرِّ إن لَم يحصل من المسلم فعلُ الخير لإخوانه المسلمين، وتقديمه المساعدة لهم. وليُعلَم أنَّ لعنَ المسلمين على مراتب، أخطرُها وشرُّها لعنُ خيارِهم ومقدميهم وأفاضِلهم، كالصحابةِ ومَن اتَّبعهم بإحسان من ذوي العلمِ والفضلِ والإيمان، ومثلُ ذلك لا ينشأ إلاَّ عند ذوي القلوب المريضة والأهواء البغيضةِ من أهل الأهواء والبِدع. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " لا تسبُّوا أحداً من أصحابي، فلو أنَّ أحدَكم أنفق مثلَ أُحدٍ ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَه "2. وروى ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّه كان يقول: " لا تسبُّوا أصحابَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فلَمقامُ أحدهم ساعة خيرٌ من عمل أحدِكم

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1445) ، وصحيح مسلم (رقم:1008) . 2 صحيح البخاري (رقم:3673) ، وصحيح مسلم (رقم:2540) .

عمره "1، فمَن أضلُّ مِمَّن يكون في قلبه غِلٌّ لخيار المؤمنين وساداتِ أولياء الله تعالى بعد النبيِّين، أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وهكذا الشأن أيضاً فيمَن يتناول بالطعن علماءَ الأمة وخيارَهم من ذوي العلم والفقه والنصح للمسلمين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ومن الكلام السائر: لحومُ العلماء مسمومة "2. وهكذا الشأنُ في لعن أموات المسلمين الذين أَفضوا إلى ما قدَّموا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " الكلام في لعنة الأموات أعظمُ من لعنة الحيِّ، فإنَّه قد ثبت في الصحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " لا تسبُّوا الأمواتَ فإنَّهم أَفضوا إلى ما قدَّموا "3، حتى إنَّه قال: " لا تسبُّوا أمواتَنا فتُؤذوا أحياءَنا "4، لما كان قومٌ يسبُّون أبا جهلٍ ونحوَه من الكفار الذين أسلموا أقاربَهم فإذا سبُّوا ذلك آذوا قرابَتَه "5. وأما ما يتعلَّق بلعن العُصاة والفساق وذوي الفجور من أهل الملَّة، فإنَّ السنَّةَ لَم تأتِ بالأمر بلعن الفاسق المعيَّن، وإنَّما جاءت السُنَّةُ بلعنة الأنواع، كقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " لعن الله السارقَ يسرق البَيْضَةَ فتُقطعُ

_ 1 سنن ابن ماجه (رقم:162) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح سنن ابن ماجه (رقم:133) . 2 الصارم المسلول (ص:143) . 3 صحيح البخاري (رقم:1393) . 4 المسند (4/252) ، وسنن الترمذي (1982) ، بلفظ مقارب، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:7312) . 5 منهاج السنة (4/572 ـ 573) .

يدُه " 1، وقوله: " لعن اللهُ مَن أحدثَ حدَثاً أو آوى مُحدثاً "2، وقوله: " لعن اللهُ آكِلَ الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه "3، وقوله: " لعن الله المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ له "4، وقوله: " لعن اللهُ الخمرَ، وعاصرَها، ومُعتصِرَها، وحامِلَها، والمحمولةَ إليه، وساقيَها، وشاربَها، وآكلَ ثَمنها "5. وقد تنازع العلماءُ في لعنة الفاسقِ المعيَّن، فقيل: إنَّه جائزٌ، وقيل: إنَّه لا يجوز، والمعروف عن الإمام أحمد رحمه الله كراهةُ لعن المعيَّن، وأن يقول كما قال الله تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} 6، وقد ثبت في صحيح البخاري: " أنَّ رجلاً كان يُدعى حماراً، وكان يشربُ الخمرَ، وكان يُؤتى به إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيضربُه، فأُتي به إليه مرَّة، فقال رجل: لعنه الله، ما أكثر ما يُؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه، فإنَّه يُحبُّ اللهَ ورسولَه "7.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6783) ، وصحيح مسلم (رقم:1687) . 2 انظر: صحيح البخاري (رقم:1870) ، وصحيح مسلم (رقم:1370) . 3 صحيح مسلم (رقم:1598) . 4 سنن أبي داود (رقم:2076) ، وسنن الترمذي (رقم:1120) ، وسنن ابن ماجه (رقم:1936) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الإرواء (رقم:1897) . 5 المسند (1/316) ، (2/71) ، وسنن أبي داود (رقم:3673) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الإرواء (رقم:2385) . 6 سورة هود، الآية: (18) . 7 انظر: صحيح البخاري (رقم:6780) .

فقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن لعنةِ هذا المعيَّن الذي كان يُكثر شرب الخمر مُعلِّلاً ذلك بأنَّه يحبُّ اللهَ ورسولَه، مع أنَّه صلى الله عليه وسلم لعنَ شاربَ الخمر مطلقاً، فدلَّ ذلك على أنَّه يجوز أن يُلعن المطلق، ولا يجوز أن يُلعن المعيَّن الذي يحبُّ اللهَ ورسولَه1، وعلى كلٍّ فاللعن وعيدٌ، والوعيدُ لا يستلزم ثبوته في حقِّ المعيَّن إلاَّ إذا وُجدت شروطُه وانتفت موانعُه، والله أعلم.

_ 1 منهاج السنة (4/567 ـ 574) .

الدعاء للوالدين ولذوي القربى

102 ـ الدعاء للوالدين ولذوي القربى سبق أن مرَّ معنا بيانُ فضل الدعاء للمسلمين بالخير والرحمة والمغفرة، وما يترتَّبُ على ذلك من أجورٍ عظيمةٍ، وخيراتٍ عميمة، وإذا كان الدعاءُ مطلوباً من المسلم لعموم المسلمين فإنَّه متأكِّدٌ ومطلوبٌ بشكل أخصّ لقرابة الإنسان؛ إذ الأقربون أولَى بالمعروف وأحقُّ بالإحسان، ولا سيما الوالدان. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: " جاء رجلٌ فقال: يا رسول الله! مَن أحقُّ الناس بحسن صحابَتي؟ قال: أمُّك، قال: ثمَّ مَن؟ قال: أمُّكَ، قال: ثمَّ مَن؟ قال: أمُّك، قال: ثمَّ مَن؟ قال: ثمَّ أبوك "، وزاد مسلم: " ثمَّ أدناك أدناك "1. وروى الترمذي والبخاري في الأدب المفرد عن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جدِّه قلت: يا رسول الله مَن أبَرُّ؟ قال: أمَّك، قلتُ: مَن أَبَرُّ؟ قال: أمَّك، قلتُ: مَن أَبَرُّ؟ قال: أمَّك، قلتُ: مَن أَبَرُّ؟ قال: أباك، ثمَّ الأقربَ فالأقرب "2. ومن أعظمِ البرِّ الدعاءُ، قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أن لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا

_ 1 صحيح البخاري (رقم:5971) ، وصحيح مسلم (رقم:2548) . 2 سنن الترمذي (رقم:1897) ، والأدب المفرد (رقم:3) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم:3) .

فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} 1، فأمر جلَّ وعلاَ بالإحسان إليهما بجميع وجوه الإحسان القوليِّ والفعليِّ؛ لأنَّهما سببُ وجود العبد، ولهما من المحبة والحقوق والإحسان والقرب ما يقتضي تأكُّدَ الحق ووجوبَ التقديم في البرِّ، وخصَّ بالذِّكر من ذلك الدعاء لهما بالرحمة أحياء وأمواتاً، جزاء على إحسانهما. والدعاءُ للوالدين بالرحمة خاصٌّ فيما إذا كانا مسلمين، أما المشركُ فلا يُدعى له بالرحمة والمغفرة، قال ابنُ عباس رضي الله عنه في قوله عزَّ وجلَّ: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} : " فنسختها2 الآيةُ التي في براءة: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} 3 " 4. وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " استأذنتُ ربِّي أن أستغفرَ لأُمِّي فلَم يأذَنْ لي، واستأذنتُه أن أزورَ قبرَها فأَذِنَ لي "5.

_ 1 سورة الإسراء، الآيات: (23، 24) . 2 أي: قيَّدتها. 3 سورة التوبة، الآية: (113) . 4 الأدب المفرد (رقم:23) ، وتفسير الطبري (8/63) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم:3) . 5 صحيح مسلم (رقم:671) .

لكن لا بأس، بل يَحسُن أن يدعو لهما بالهداية والتوفيق لقبول الحقِّ، كما في الصحيح أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " اللَّهمَّ اهْدِ دوساً وَأْتِ بهم "1، وروى مسلمٌ في صحيحه عن يزيد بن عبد الرحمن قال: حدَّثني أبو هريرة رضي الله عنه قال: " كنتُ أدعو أمي إلى الإسلام، وهي مشركةٌ، فدعوتُها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلتُ: يا رسول الله، إنِّي كنتُ أدعو أمِّي إلى الإسلام فتأبى عليَّ، فدعوتُها اليومَ فأسمعتني فيك ما أكره، فادعُ اللهَ أن يهديَ أمَّ أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهمَّ اهدِ أمَّ أبي هريرة، فخرجتُ مستبشراً بدعاءِ نبيِّ الله، فلمَّا جئتُ فصِرتُ إلى الباب، فإذا هو مجافٍ، فسمعَتْ أمِّي خشفَ قدمَيَّ، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعتُ خضخضةَ الماء، قال: فاغتسلتْ، ولبِسَتْ درعَها، وعجلتْ عن خمارِها، ففتحتِ الباب، ثمَّ قالت: يا أبا هريرة، أشهدُ أن لا إله إلاَّ الله، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، قال: فرجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيتُه وأنا أبكي من الفرح، قال: قلتُ: يا رسول الله أَبشِر، قد استجاب اللهُ دعوتَك وهدى أمَّ أبي هريرة، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه وقال خيراً، قال: قلتُ: يا رسول الله ادعُ اللهَ أن يحبِّبَني أنا وأمِّي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهمَّ حبِّب عُبيْدَك هذا ـ يعني أبا هريرة ـ وأمَّه إلى عبادك المؤمنين، فما خُلِق مؤمنٌ يسمع بي ولا يراني إلاَّ أحبَّني " 2.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:2937) 2 صحيح مسلم (رقم:2491) .

فهذه القصَّةُ العظيمةُ الرائعةُ دالةٌ على جواز الدعاءِ للوالدين إذا كانا مشركَيْن بالهدايةِ، وأهميَّةِ ذلك وعِظمِ فائدته، وينبغي له أن يجمع لهما بين الدعاء والدعوة، كما فعل أبو هريرة رضي الله عنه مع أمِّه رضي الله عنها، فقد كان يُكثر من دعوتها إلى الإسلام، والدعاءِ لها بالهداية والتوفيق، ثمَّ إنَّه رضي الله عنه كان يُكثر من الدعاءِ لَها ـ بعد هدايتها ـ بالرحمة والمغفرة. روى البخاري في الأدب المفرد عن أبي مرَّة مولى أمِّ هانئ بنت أبي طالب: أنَّه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه بالعقيق، فإذا دخل أرضَه صاح بأعلى صوتِه: عليكِ السلامُ ورحمةُ الله وبركاتُه يا أمَّتاه، تقول: وعليكَ السلام ورحمة الله وبركاته، يقول: رَحمَكِ الله كما ربَّيتنِي صغيراً، فتقول: يا بُني، وأنت جزاك الله خيراً ورضي عنك كما بررتني كبيراً "1. وروى أيضاً عن محمد بن سيرين قال: " كنَّا عند أبي هريرة ليلة فقال: اللَّهمَّ اغفر لأبي هريرة ولأمِّي، ولِمَن استغفر لهما، قال محمد بن سيرين: فنحن نستغفر لهما حتى ندخل في دعوة أبي هريرة "2. ودعاء الولدِ لوالديه ينفعهما بعد موتهما حيث ينقطع عملُهما في

_ 1 الأدب المفرد (رقم:14) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم:11) . 2 الأدب المفرد (رقم:37) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم:28) .

هذه الحياة، فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات الإنسانُ انقطع عملُه إلاَّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علمٍ يُنتفع به، أو وَلَدٍ صالح يدعو له "1. وروى البخاري في الأدب المفرد بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " تُرفع للميِّت بعد موته درجتُه، فيقول: أيْ ربِّ، أيُّ شيءٍ هذه؟ فيُقال: ولدُك استغفرَ لك "2. وإذا كان الدعاءُ للوالدين بالرحمة والمغفرَة بِرًّا وإحساناً وحقًّا ينبغي على الابن أن يعتني به، فإنَّ مِن أعظمِ الإثمِ ومِن كبائرِ الذنوب أن يَسُبَّ ـ والعياذ بالله ـ الولدُ والديه، سواء ابتداء ـ وهو أشدُّ ـ أو تسبُّباً، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ مِن أكبر الكبائرِ أن يلعنَ الرَّجلُ والديه. قيل: يا رسول الله، وكيف يَلعنُ الرَّجلُ والِدَيه؟ قال: يسبُّ الرَّجلُ أبا الرَّجلِ، فيسُبُّ أباه ويسُبُّ أُمَّه "3. وفي الأدب المفرد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: " من الكبائر عند الله أن يستسبَّ الرجل لوالده "4.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:1631) . 2 الأدب المفرد (رقم:36) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم:27) . 3 صحيح البخاري (رقم:5973) ، وصحيح مسلم (رقم:90) . 4 الأدب المفرد (رقم:28) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم:22) .

وثبت في صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " لعن اللهُ مَن لعن والديه "1. ومثلُ هذا لا يكون إلاَّ مِن ذوي النفوس الدنيئة والأخلاق الرديئة، نسأل الله الحفظ والعافية، ونسأله سبحانه أن يغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات إنَّه غفور رحيم.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:1978) .

الدعاة لولاة امر المسلمين

الدعاة لولاة امر المسلمين ... 103 ـ الدعاء لولاة أمر المسلمين إنَّ الدعاءَ بالخيرِ والمغفرةِ لعموم المسلمين له شأنٌ عظيمٌ، ويترتَّبُ عليه أجورٌ كثيرة، وخيرات متنوِّعة في الدنيا والآخرة، وهو من مقتضيات أخوَّة الإيمان التي تجمعهم وتربطهم، وقد سبق ذكرُ بعضِ الأدلَّة على ذلك، أمَّا الحديث هنا فسيكون خاصًّا بالدعاء لولاة أمر المسلمين الذين بهم ـ بتوفيقٍ من الله ـ تنتظم مصالحهم، وتجتمع كلمتهم، وتؤمن سبلهم، وتُقام صلاتُهم، ويُجاهد عدوهم، وبدونهم تتعطَّل الأحكام، وتعمُّ الفوضى، ويختلُّ الأمنُ، ويكثر السلبُ والنهبُ وأنواع الاعتداء، وينثلمُ صرحُ الإسلام، ولا يأمن الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " يجب أن يُعرف أنَّ ولايةَ أمر الناسِ من أعظمِ واجبات الدِّينِ، بل لا قيام للدِّين إلاَّ بها، فإنَّ بني آدم لا تتمُّ مصلحتُهم إلاَّ بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بدَّ لهم عند الاجتماع من رأس ... ـ إلى أن قال ـ: ولأنَّ اللهَ تعالى أوجب الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكرِ، ولا يتمُّ ذلك إلاَّ بقوَّةٍ وإمارةٍ، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحجِّ والجُمَع والأعيادِ ونصر المظلومِ وإقامة الحدود لا تتمُّ إلاَّ بالقوَّة والإمارة ... ـ إلى أن قال ـ: فالواجبُ اتِّخاذُ الإمارةِ ديناً وقُربةً يُتقرَّبُ بها إلى الله، فإنَّ التقرُّبَ إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات "1.

_ 1 السياسة الشرعية (ص:161 ـ 162) .

ومِن هنا فإنَّه يتأكَّد على كلِّ مسلم أن يكون ناصحاً لِمَن وليَ أمرَه، مطيعاً له بالمعروف، غير مبطنٍ لشرٍّ أو غِشٍّ أو خديعة؛ لمنافاة ذلك لهدي الإسلام، وما دعا إليه الرسول عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ} 1. روى مسلم في صحيحه عن تميم بن أوس الداريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدِّينُ النصيحةُ، قالوا: لِمَن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّةِ المسلمين وعامَّتهم " 2. وثبت في صحيح مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ اللهَ يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه لا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا، وأن تُناصِحوا مَن ولاَّه اللهُ أمرَكم "3. وفي السنن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وزيد بن ثابت رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " نضَّر الله امرأً سمع منَّا حديثاً فبلَّغه إلى مَن لَم يسمعه، فرُبَّ حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه، ورُبَّ حامل فقه غير فقيه، ثلاثٌ لا يغلُّ عليهنَّ قلبُ مسلم: إخلاص العمل لله،

_ 1 سورة النساء، الآية: (59) . 2 صحيح مسلم (رقم:55) . 3 صحيح مسلم (رقم:1715) ، ورواه أحمد (2/327، 360) ، والبخاري في الأدب المفرد (رقم:442) ، وابن حبان في صحيحه (رقم:4560) ، وسقط من أصل مسلم الخصلة الثالثة المأمور بها.

ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإنَّ دعوتَهم تحيط من ورائهم "1. وما مِن ريبٍ أنَّ من النصحِ لولاةِ أمر المسلمين الدعاءَ لهم بالتوفيق والسدادِ والصلاحِ والمعافاةِ، فهُم أوْلَى مَن يُدعى له بذلك؛ لأنَّ صلاحَهم صلاحٌ للأمَّة، وسدادَهم نفعُه عائدٌ عليهم وعلى المسلمين، فالدعاءُ لهم من أهمِّ الدعاءِ وأكثرِه عائدة ونفعاً، ولهذا قال الإمام الفُضيلُ بنُ عياض رحمه الله: " لو كانت لي دعوةٌ مستجابةٌ لَم أجعلها إلاَّ في إمام؛ لأنَّه إذا صلح الإمامُ أمن البلاد والعباد "2. وهذا من تمام فقهه وحسنِ فهمِه، ولهذا قال عبد الله بن المبارك رحمه الله معلِّقاً على كلمته هذه: " يا معلِّم الخير من يجتري على هذا غيرُك ". يقصِد أنَّ الفضيلَ لَم يُرِد أن يخصَّ نفسَه بالدعوة المستجابة لو كانت له، بل أراد أن يجعلها لِمَن يعمُّ نفعُه إذا صلُح وهو السلطان. وقد نُقل أيضاً عن الإمام أحمد رحمه الله نحوُ كلمة الفضيل المتقدِّمة، قال أبو بكر المروزي: سمعتُ أبا عبد الله ـ يعني أحمدَ بنَ حنبل ـ وذَكَر المتوكِّلَ رحمه الله فقال: إنِّي لأدعو له بالصلاحِ والعافية "3.

_ 1 سنن الترمذي (رقم:2658) ، وسنن ابن ماجه (رقم:230) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:6766) . 2 رواه أبو نعيم في الحلية (8/91) ، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1/197) . 3 رواه الخلال في السنة (رقم:16) .

ولهذا تكاثرت النقول عن أهل السنة والجماعة في تقرير هذا في ضمن ما كتبوه في ييان المنهج الحقّ والمعتقَدِ السليم الذي ينبغي أن يكون عليه كلُّ مسلم، ومِن ذلك قولُ الإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله: " ولا نرى الخروجَ على أئمَّتِنا وولاةِ أمورِنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم ولا ننزعُ يداً من طاعتهم، ونرى طاعتَهم من طاعة الله عزَّ وجلَّ فريضة، ما لَم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة "1. وقال شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني رحمه الله: " ويرى أصحابُ الحديث الجمعةَ والعيدين وغيرَهما من الصلوات خلف كلّ إمام، برًّا كان أو فاجراً، ويرون جهادَ الكفرةِ معهم، وإن كانوا جوَرة فجَرة، ويرون الدعاءَ لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح وبسط العدل في الرعيَّة "2. وقال الإمام الحافظ أبو بكر الإسماعيلي: " ويرون ـ أي أهل السنة ـ الصلاةَ، والجمعة وغيرها خلف كلِّ إمام مسلم بَرًّا كان أو فاجراً ... ويرون الدعاءَ لهم بالصلاح والعطفِ إلى العدل "3. والنقول عن السلف في هذا المعنى كثيرة. ويجب على المسلم أن يحذرَ أشدَّ الحذر من سبِّ الولاةِ والوقيعة فيهم وعدم الدعاء لهم بالخير، والدعاءِ عليهم بالشرِّ، روى ابن أبي عاصم في السنة ـ وصححه الألباني ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " نهانا كبراؤنا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

_ 1 شرح العقيدة الطحاوية (ص:428) . 2 عقيدة السلف (ص:106) . 3 اعتقاد أهل السنة (ص:55 ـ 56) .

لا تسُبُّوا أمراءَكم ولا تغشُّوهم ولا تبغضوهم، واتَّقوا اللهَ واصبروا فإنَّ الأمرَ قريبٌ "1. وقال ابن عبد البر رحمه الله في كتابه التمهيد: " إن لَم يكن يتمكن نصحُ السلطان، فالصبر والدعاء، فإنَّهم كانوا ـ أي الصحابة ـ ينهون عن سبِّ الأمراء "، ثمَّ ساق بسنده حديث أنس المتقدِّم2. وكان السلف رحمهم الله يعدُّون الاشتغال بسبِّ الولاةِ والدعاءِ عليهم مِن الأمور المحدَثة، وفي ذلك يقول الإمام الحسن بن علي البربهاري رحمه الله: " إذا رأيت الرجلَ يدعو على السلطان فاعلم أنَّه صاحبُ هوى، وإذا سمعتَ الرجلَ يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنَّه صاحبُ سنَّة إن شاء الله تعالى "3. وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عمَّن يمتنع عن الدعاء لولاة الأمر فقال: " هذا مِن جهله وعدم بصيرتِه، الدعاءُ لوليِّ الأمر من أعظم القُربات وأفضل الطاعات، ومن النصيحة لله ولعباده ... "، إلى آخر كلامه رحمه الله وغفر له وجعل منزلته في الجنَّة الفردوس الأعلى، كما نسأله سبحانه أن يُصلح لنا شأننا كلَّه، وأن يُوفِّقنا لكلِّ خير يُحبُّه في الدنيا والآخرة، وأن يُصلح ولاةَ أمرِنا، وأن يهديَنا وإيَّاهم إليه صراطاً مستقيماً.

_ 1 السنة (ص:488) . 2 التمهيد (21/287) . 3 شرح السنة (ص:113) .

أقسام الدعاء باعتبار المدعو له

104 ـ أقسام الدعاء باعتبار المدعو له لا يزال الحديثُ موصولاً في بيان فضل دعاء المسلم لإخوانه المسلمين الذي هو من مقتضيات أخوة الإسلام التي تجمعهم، ورابطة الدين التي تربطهم، كما قال الله تعالى: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 1، وقال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 2، وما من ريبٍ أنَّ من متطلَّبات هذه الأخوة ومقتضياتها الدعاءَ من كلِّ فردٍ من أفراد المسلمين لعموم المسلمين بالخير والعافية والمغفرة والرحمة ونحو ذلك؛ إذ المسلمُ يُحبُّ لإخوانه ما يُحبُّه لنفسه من الخير، كما قال صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه " 3، وقد سبق أن مرَّ معنا جملةٌ من الأدلَّة الدَّالةِ على فضل الدعاءِ للغيرِ، وعظم ما يترتب على ذلك من الأجر والثواب والخير. وممَّا يحسن أن يُعلم في هذا المقامِ أنَّ كلَّ دعاءٍ يدعو به المسلمُ لا يخلو من أقسامٍ أربعة، وذلك باعتبار المدعو له: أحدها: أن يدعوَ المسلمُ لنفسه بما يشاء من خيري الدنيا والآخرة، كأن يقول: " اللَّهمَّ إنِّي أسألكَ الهدى والسداد "، أو يقول: " اللَّهمَّ إنِّي أسألك الهدى والتُقى والعفافَ والغنى "، أو يقول: " اللَّهمَّ اغفر لي ذنبي "، ونحو ذلك من الأدعية، فيأتي بها بلفظ الإفراد، حتى الإمام في

_ 1 سورة التوبة، الآية: (71) . 2 سورة الحجرات، الآية: (10) . 3 صحيح البخاري (رقم:13) ، وصحيح مسلم (رقم:45) .

الصلاة في الأدعية التي يدعو بها لنفسه في السجود أو في الجلسة بين السجدتين، أو في آخر الصلاة قبل السلام. قال ابن القيم رحمه الله: " والمحفوظ في أدعيته كلِّها بلفظ الإفراد، كقوله: " ربِّ اغفر لي وارحمني واهدني "1، وسائر الأدعية المحفوظة عنه، ومنها قوله في دعاء الاستفتاح: " اللَّهمَّ اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبَرَد، اللَّهمَّ باعِد بيني وبين خطاياي كما باعدتَ بين المشرق والمغرب "، الحديث2، وروى الإمام أحمد وأهل السنن من حديث ثوبان عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " لا يؤُمُّ عبدٌ قوماً فيخصُّ نفسَه بدعوةٍ دونهم، فإن فعل فقد خانهم "3 ... ثمَّ قال ابن القيم رحمه الله: سمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث عندي في الدعاء الذي يدعو به الإمام لنفسه وللمأمومين، ويشتركون فيه، كدعاء القنوت ونحوه "4. ثمَّ إنَّه إذا كان الدعاءُ الذي دعا به في صلاته من أدعية القرآن الكريم فإنَّه يأتي به على الصيغة التي وردت في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {اهْدِنَا الصَّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} ، فهذا دعاءٌ عظيمٌ يدعو به المسلم في صلاته، بل في كلِّ ركعة من ركعات الصلاة، ووجهُ الإتيان بصيغة

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2696) . 2 صحيح البخاري (رقم:744) ، وصحيح مسلم (رقم:595) . 3 المسند (5/280) ، وسنن أبي داود (رقم:90) ، وسنن الترمذي (رقم:357) ، وسنن ابن ماجه (رقم:923) ،وذكره العلامة الألباني رحمه الله في ضعيف سنن أبي داود (رقم:15) . 4 زاد المعاد لابن القيم (1/263 ـ 264) .

ضمير الجمع في هذا الدعاء ـ كما بيَّن ذلك ابن القيم رحمه الله ـ ليكون مطابقاً لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، " والإتيان بضمير الجمع في الموضعين أحسن وأفخم، فإنَّ المقامَ مقامُ عبودية وافتقار إلى الربِّ تعالى وإقرار بالفاقة إلى عبوديته واستعانته وهدايته، فأتى به بصيغة ضمير الجمع، أي: نحن معاشر عبيدك مُقرُّون لك بالعبودية "1. وأما القسم الثاني من أقسام الدعاء باعتبار المدعو له، فهو أن يدعو المسلم لغيره بالهداية أو المغفرة أو نحو ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه لأنس بنِ مالك رضي الله عنه: " اللَّهمَّ أَكْثِر مالَه وولدَه، وبارك له فيما رزقته "2، وكقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: " اللَّهمَّ اجعله هادياً مهدياً، واهده واهدِ به "3، وهذه تُعدُّ منقبةٌ عظيمةٌ لهذا الصحابيِّ الجليل، الذي هو خال المؤمنين، وكاتب وحي ربِّ العالمين، وأحد خلفاء المسلمين، وأول ملوكهم، وخير ملوكهم رضي الله عنه وأرضاه، ومن ذلك أيضاً قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في دعائه له: " اللَّهمَّ علِّم معاويةَ الكتاب والحساب وَقِهِ العذاب "4. القسم الثالث: أن يدعو لنفسه ولغيره، فيبدأ بالدعاء لنفسه أولاً ثمَّ يدعو لغيره؛ لحديث أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه: " أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان

_ 1 انظر: بدائع الفوائد (2/39) . 2 صحيح البخاري (رقم:6378) ، وصحيح مسلم (رقم:2480) . 3 المسند (4/216) ، وسنن الترمذي (رقم:3842) ، والطبقات الكبرى لابن سعد (7/292) ، واللفظ له، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:1969) . 4 المسند (4/127) .

إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه "، رواه الترمذي1. وفي القرآن الكريم من هذا النوع أمثلةٌ عديدةٌ، كقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ} 2، وقوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلمُؤْمِنينَ وَالمُؤْمِنَاتِ} 3، وقوله: {رَبَّنا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ} 4، وهذا يقوله الداعي عندما يريد الدعاءَ لنفسه ولغيره، وأمَّا إن أراد الدعاءَ لغيره فقط، فلا يلزمه في هذه الحالة أن يدعو لنفسه، كما ورد مثلُ ذلك في كثير من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدَّم معنا في دعائه صلى الله عليه وسلم لأنسٍ، ودعائه لمعاوية رضي الله عنهما. القسم الرابع: أن يدعو لنفسه ولغيره بضمير الجمع، كما في دعاء القنوت، ودعاء الاستسقاء، ودعاء الخطيب يوم الجمعة. ومن ذلك ما رواه الترمذي وغيرُه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قلَّما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: " اللَّهمَّ اقسِم لنا من خشيتِك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتِك ما تبلِّغنا به جنَّتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا، اللَّهمَّ متِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوَّتنا ما أحييتنا، واجعله الوارثَ منَّا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وانصرنا على من

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3385) . 2 سورة محمد، الآية: (19) . 3 سورة نوح، الآية: (28) . 4 سورة إبراهيم، الآية: (41) .

عادانا، ولا تجعل مُصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبرَ همِّنا، ولا مبلغَ علمِنا، ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا " 1، فهذه أقسامٌ أربعة للدعاء باعتبار المدعو له. ويُستحبُّ للمسلم أن يدعوَ لِمَن أحسن إليه، ولا سيما قولُ جزاك الله خيراً، فإنَّها أبلغ ما يكون في الدعاء، لِما ثبت في المسند عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " مَن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لَم تجدوا ما تكافؤونه به فادعو له حتَّى تروا أنَّكم قد كافأتموه "2، وفي الترمذي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن صُنع إليه معروفٌ فقال لفاعلِه: جزاك الله خيراً فقد أبلغَ في الثناء "3، والحمد لله ربِّ العالَمين.

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3502) . 2 المسند (2/68، 99) ، والأدب المفرد (رقم:216) ، وصححه الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:254) . 3 سنن الترمذي (رقم:2035) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:6368) .

خطورة الدعاء على النفس أو الغير

105 ـ خطورة الدعاء على النفس أو الغير إنَّ من الأمور المهمة التي ينبغي أن يراعيها المسلم في دعائه أن يكون متبصِّراً بما يدعو به ويطلبُه من ربِّه سبحانه وتعالى، غيرَ مستعجل ولا متسرِّع فيما يطلب ويسأل، بل ينبغي أن يتدبَّر في أموره حقَّ التدبُّر؛ ليتحقق ما هو خير حقيقٌ بالدعاء به، وما هو شرٌّ جدير بالاستعاذة منه، وذلك أنَّ كثيراً من الناس عند غضبه وتضجُّره وحصولِ الأمور المزعجة له قد يدعو على نفسه أو ولده أو ماله بما لا يسرُّه تحقُّقُه وحصولُه، وهذا ناشىء عن تسرُّع الإنسان وعجلتِه وعدم نظره في العواقب، يقول الله تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} 1، أي: يُسارعُ إلى طلبِ ما يخطرُ بباله، متعامياً عن ضررِه وسوء عواقبه، وإنَّما يَحمِلُ الإنسانَ على ذلك عجَلتُه وقَلقُه، ولهذا قال تعالى: {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} . وإنَّ من أبلغ ما يكون خطراً وأشدّ ما يكون ضرراً في هذا المقام الدعاءَ على النفس بالهلاك أو العذاب أو دخول النار أو الحرمان من دخول الجنة أو نحو ذلك، وهذا لا يفعله إلاَّ مَن بلغ الغايةَ في السَّفَهِ والنهايةَ في الغيِّ، كما حكى الله ذلك عن الكفار المعرضين عن دعوة الرسُل المعارضين لدعوتهم، كقولهم: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 2،

_ 1 سورة الإسراء، الآية: (11) . 2 سورة الأنفال، الآية: (32) .

وقولهم: {فَائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 1، إلى غير ذلك مِمَّا حكى الله عنهم، مما يدلُّ على تمام جهلهم، وعِظم غيِّهم وسَفَهِهم، وشدَّةِ إعراضِهم وصدودهم. وقوله تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} 2 يحتَمل أنَّ المرادَ بالإنسان القائل هذه المقالة هو الكافرُ، أي: يدعو على نفسه بالشرِّ والهلاك واستعجالِ العقوبة والعذاب دعاءَه بالخير، كما تقدَّمت الأمثلة على ذلك. ويَحتمل أنَّ المرادَ بالإنسان هنا الجنس؛ لوقوع هذا الدعاء من بعض أفراده، وهو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر والغضب بما لا يحبُّ أن يُستجاب له فيه3. قال ابن كثير رحمه الله في معنى الآية: " يخبر تعالى عن عجلةِ الإنسانِ ودعائِه في بعض الأحيان على نفسه أو ولدِه أو ماله بالشرِّ، أي بالموت أو الهلاك أو الدَّمار أو اللعنة أو نحوِ ذلك، فلو استجاب له ربُّه لهلك بدعائه، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} 4 ... "5. وقد جاء في هذا المعنى آثار عديدة عن السلف، منها ما جاء عن

_ 1 سورة الأعراف، الآية: (70) . 2 سورة الإسراء، الآية: (11) . 3 انظر: فتح القدير للشوكاني (3/211) . 4 سورة يونس، الآية: (11) . 5 تفسير القرآن العظيم (5/45 ـ 46) .

ابن عباس رضي الله عنهما قال: " قوله: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} 1 يعني قول الإنسان: اللَّهم الْعَنه واغضب عليه، فلو يُعجِّل له ذلك كما يُعجِّل له الخيرَ لَهلك ". وقال قتادة في معنى الآية: " أي: يدعو على ماله فيلعن مالَه وولدَه، ولو استجاب الله له لأهلكه ". وقال مجاهد: " ذلك دعاءُ الإنسانِ بالشرِّ على ولده وعلى امرأته، فيَعْجَل فيدعو عليه، ولا يُحبُّ أن يصيبَه ". أخرج هذه الآثار ابنُ جرير في تفسيره2. وأخرج ابنُ أبي حاتم عن الحسن قال: " ذلك دعاءُ الإنسان بالشرِّ على ولدِه وعلى امرأتِه، يغضب أحدهم فيدعو عليه، فيسبُّ نفسَه ويسبُّ زوجتَه ومالَه وولدَه، فإن أعطاه الله ذلك شقَّ عليه، فيمنعُه ذلك، ثمَّ يدعو بالخير فيعطيه "3. ومِن رحمة الله بعباده أنَّه لا يستجيب لهم في دعائهم بالشرِّ حال غضبهم وضجرِهم كاستجابته لهم في دعائهم بالخير؛ رحمة منه وإحساناً، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 4.

_ 1 سورة الإسراء، الآية: (11) . 2 جامع البيان (9/47 ـ 48) . 3 انظر: الدر المنثور (5/246) . 4 سورة يونس، الآية: (11) .

قال ابن كثير رحمه الله: " يُخبر تعالى عن حلمِه ولُطفِه بعباده أنَّه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو لأموالهم أو أولادهم في حال ضجرهم وغضبهم، وأنَّه يعلم منهم عدمَ القصد إلى إرادة ذلك، فلهذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفاً ورحمة، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو أموالهم وأولادهم بالخير والبركة والنماء، ولهذا قال: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} ، أي: لو استجاب لهم كلَّما دعوه به في ذلك لأهلَكهم، ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك "1. فالواجب على المسلم أن يحذرَ تمام الحَذَر ولا سيما حال غضبه وتضجره من أن يدعو على نفسه أو ماله أو ولده باللعنة أو العذاب أو النار أو نحو ذلك مما لا يسرُّه تحقُّقُه، وذلك أنَّ مقصودَ الدعاء جلبُ النفع ودفعُ الضرِّ، وأما الدعاءُ على النفس أو المال أو الولد فليس فيه أيُّ منفعة، بل هو ضررٌ محضٌ ووبالٌ وهلاكٌ. روى مسلم في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه في حديث طويل عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: " سِرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بَطْن بُواطٍ، وهو يطلب المَجْدِيَّ بنَ عمرو الجُهنيَّ، وكان الناضحُ [وهو البعير الذي يُستقى عليه] يعقُبُه منَّا الخمسةُ والستةُ والسبعةُ، فدارت عُقبةُ رجل من الأنصار على ناضحٍ له [أي جاءت نوبتُه في الركوب] ، فأناخه فركبه ثمَّ بعثه، فتَلَدَّن عليه بعض

_ 1 تفسير القرآن العظيم (4/188) .

التلدن [أي تلكأ وتوقَّف] فقال له: شَأْ لعنَك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن هذا اللاَّعِن بعيرَه؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: انزل عنه، فلا تصحبنا بملعونٍ، لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا تُوافقوا من الله ساعةً يُسألُ فيها عطاءٌ فيستجيبُ لكم "1. وفي هذا الحديث دلالةٌ على أنَّ ذلك قد يُستجاب، لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تُوافقوا من الله ساعةً يُسألُ فيها عطاءٌ فيستجيبُ لكم "، وثبت في الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " ثلاث دعوات مستجابات: دعوةُ المظلوم، ودعوةُ المسافر، ودعوة الوالد على ولدِه "، رواه أبو داود، والترمذي، وغيرُهما بإسناد صحيح2. ولهذا ينبغي على المسلم أن يُعوِّدَ نفسَه الدعاءَ لنفسه وولدِه ومالِه بالخير والنماءِ والبركةِ والصلاحِ ونحوِ ذلك، وأن يملكَ نفسه ولا سيما عند غضبه من أن يدعو على نفسه أو ولده أو ماله بالهلاك أو الشرِّ أو الفساد، فقد يُستجاب له في ذلك فيندمُ ويتحسَّرُ، مع أنَّه هو الذي دعا بذلك وطلبَه، وإنَّا لنرجو اللهَ أن يهدينا جميعاً سواء السبيل، وأن يوفِّقَنا لكلِّ خيرٍ يُحبُّه ويرضاه في الدينا والآخرة

_ 1 صحيح مسلم (رقم:3004) . 2 سنن أبي داود (رقم:1536) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3862) ، وسنن الترمذي (رقم:1905) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:596) .

التوبة من الذنوب بين يدي الدعاء

106 ـ التوبةُ من الذنوب بين يدي الدعاء سبقت الإشارةُ إلى أنَّ من آداب الدعاء العظيمة أن يُقدِّم الداعي بين يدي دعائه التوبةَ إلى الله عزَّ وجلَّ من كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فإنَّ تراكمَ الذنوب واجتماعها قد يكون سبباً من أسباب عدم إجابة الدعاء، كما أنَّ التوبةَ والإقبالَ على الله والصدقَ معه سببٌ من أسباب القبول والإجابة؛ ولهذا قال يحيى بنُ معاذ الرازيُّ رحمه الله: " لا تستبطئ الأجابةَ إذا دعوت وقد سَدَدتَ طرقَها بالذنوب "1. فالذنوب لها عواقب وخيمة ونتائجُ أليمة في الدنيا والآخرة، فهي تُزيل النِّعم وتحلُّ النِّقم، فما زالت عن العبد نعمةٌ إلاَّ بذنب، ولا حلَّت به نقمة إلاَّ بذنب، كما قال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه: " ما نزل بلاءٌ إلاَّ بذنب، ولا رُفع إلاَّ بتوبة "2، وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} 3، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} 4، فأخبر سبحانه أنَّه لا يُغيِّر نعمه التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يُغيِّر ما بنفسه، فيُغيِّر طاعةَ الله بمعصيته، وشكرَه بكفره، وأسبابَ رضاه بأسباب سخطه، فإذا غيَّرَ غُيِّر عليه جزاء وفاقاً.

_ 1 رواه البيهقي في شعب الإيمان (2/54) . 2 ذكره ابن القيم في الجواب الكافي (ص:85) . 3 سورة الشورى، الآية: (30) . 4 سورة الأنفال، الآية: (53) .

ثمَّ إنَّ الذنوبَ سببٌ لهوانِ العبد على ربِّه، وإذا هان العبدُ على الله لَم يكرمه أحد، كما قال تعالى: {وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُكْرِمٍ} 1، وأكرمُ الخلق عند الله أتقاهم له، وأقربُهم منه منزلة أطوعُهم له، وعلى قدر طاعة العبدِ تكون منزلته عنده، فإذا عصاه هان عنده، وأوجب ذلك القطيعةَ بين العبد وبين مولاه، وإذا وقعت القطيعةُ انقطعت عن العبد أسبابُ الخير واتصلت به أسبابُ الشرِّ، فأيُّ فلاح، وأيُّ رجاء، وأيُّ عيش لِمَن انقطعت عنه أسبابُ الخير وقُطع ما بينه وبين وليِّه ومولاه الذي لا غنى له عنه طرفةَ عين ولا أقل من ذلك. ثمَّ إنَّ الذنوبَ تستدعي نسيانَ الله لعبدِه وتركَه وتخليتَه بينه وبين نفسه وشيطانه، وهناك الهلاكُ الذي لا يُرجى معه نجاة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} 2، فأمر سبحانه بتقواه ونهى أن يتشبَّه عبادُه المؤمنون بِمَن نسيَه بتركِ تقواه، وأخبر أنَّه عاقب مَن ترك التقوى بأن أنساه نفسه، أي: أنساه مصالحَها وما يُنجيها من عذابه، فترى العاصي مهمِلاً مصالح نفسه، مضيِّعاً لها، قد انفرطت عليه مصالحُ دينه ودنياه، بل إنَّ أمورَه تتعسَّرُ عليه، فلا يتوجَّه لأمرٍ إلاَّ يجده مُغلَقاً دونَه أو متعسِّراً عليه، وهذا كما أنَّ مَن اتَّقى اللهَ جعلَ له من أمرِه يُسراً،

_ 1 سورة الحج، الآية: (18) . 2 سورة الحشر، الآيات: (18، 19) .

فمَن عطَّل التقوى جعل له من أمرِه عُسراً، فالخيرُ والراحةُ والسعادةُ والطمأنينةُ في الطاعةِ، والشرُّ والشقاوةُ والتعسيرُ في المعصية. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " إنَّ للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلبِ، وسعةً في الرزقِ، وقوةً في البَدن، ومحبةً في قلوب الخلقِ، وإنَّ للسيِّئةِ سواداً في الوجه، وظُلمةً في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضةً في قلوب الخَلق "1. وعلى كلٍّ فالذنوبُ تُحدِثُ للعبدِ أضراراً كثيرةً في قلبه وبدنه ومالِه وحياته كلِّها، فليس في الدنيا شرٌّ وداءٌ إلاَّ سببُه الذنوبُ والمعاصي، ولها من الآثار القبيحة والنتائج المذمومةِ والمضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلاَّ الله2. ولهذا فإنَّ الواجبَ على كلِّ مسلمٍ أن يحذرَ أشدَّ الحذَر من الذنوب والمعاصي، وأن يتوبَ إلى الله عزَّ وجلَّ من كلِّ ذنبٍ وخطيئة، وأن ينيبَ إلى ربِّه ومولاه لينالَ السعادةَ والطمأنينةَ وليتحقق له الفلاحُ في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 3، فلا سبيل إلى الفلاح إلاَّ بالتوبة، وهي الرجوعُ ممَّا يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبُّه ظاهراً وباطناً، ولهذا فإنَّ التوبةَ واجبةٌ ومتعيِّنةٌ على كلِّ مسلم ومسلمة، والأدلةُ على وجوبها متظاهرة في الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.

_ 1 ذكره ابن القيم في الجواب الكافي (ص:62) . 2 انظر: الجواب الكافي لابن القيم (ص:46 ـ 105) . 3 سورة النور، الآية: (31) .

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سِيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 1. وروى مسلم في صحيحه عن الأغر بن يَسَار المُزنيِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أيُّها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإنِّي أتوب في اليوم مائة مرَّة "2. قال النووي رحمه الله في كتابه العظيم رياض الصالحين: " قال العلماءُ: التوبةُ واجبةٌ مِن كلِّ ذنبٍ، فإن كانت المعصيةُ بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلَّق بحقِّ آدميٍّ فلها ثلاثةُ شروط: أحدها: أن يُقلعَ عن المعصية، والثاني: أن يندم على فعلِها، والثالث: أن يعزمَ أن لا يعودَ إليها أبداً، فإن فُقدَ أحدُ الثلاثة لَم تصحَّ توبتُه. وإن كانت المعصيةُ تتعلَّق بآدميٍّ فشروطُها أربعةٌ: هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حقِّ صاحبِها، فإن كانت مالاً أو نحوَه ردَّه إليه، وإن كان حدّ قذف ونحوه مكّنَه منه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبةً استحلَّه منها، ويجب أن يتوب من جميع الذنوب، فإن تاب من بعضِها صحَّت توبتُه عند أهل الحقِّ من ذلك الذنب، وبقيَ عليه الباقي، وقد تظاهرت دلائلُ الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة "3، ثمَّ ساق

_ 1 سورة التحريم، الآية: (8) . 2 صحيح مسلم (4/2076) . 3 رياض الصالحين (ص:7) .

رحمه الله جملةً من أدلَّةِ الكتاب والسنة الدَّالَّةِ على ذلك. فحريٌّ بالمسلم أن يكون تائباً إلى ربِّه، منيباً إليه؛ لترتفعَ درجاتُه، وتُقال عثراتُه، وتُقبل دعواتُه، وتعلو منزلتُه عند ربِّه، وإنَّا لنرجو اللهَ أن يكتبَ لنا توبةً نصوحاً، وأن يوفِّقنا لكلِّ خير يُحبُّه ويرضاه.

المبادرة الى التوبه والنصح فيها

107 ـ المبادرة إلى التوبة والنصح فيها تقدَّم الحديثُ عن التوبةِ إلى الله عزَّ وجلَّ وأهميَّتِها، وشدِّةِ حاجة العبد إليها ليتحقَّقَ فلاحُه، وليظفرَ بسعادة الدنيا والآخرة، وحقيقةُ التوبة الرجوعُ إلى الله بالتزام ما يُحبُّ وتركِ ما يكره، فهي رجوعٌ من مكروه إلى محبوبٍ، فهي تتضمَّنُ أمرين: تركٌ للذنوب وندمٌ على فعلها وعزمٌ على عدم العودة إليها، وإقبالٌ على الطاعة، والتزامٌ بها، وعزمٌ على الاستقامة عليها، ولهذا علَّق الله سبحانه الفلاحَ المطلقَ على فعل ذلك بقوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1، فكلُّ تائبٍ مفلحٌ، ولا يكون مفلحاً إلاَّ إذا أتى بالأمرين معاً، فإن أخَلَّ بذلك بأن ارتكب المحظور أو ترَكَ المأمور نقص حظُّه ونصيبُه من الفلاح بحسب ذلك، وكان بتركِه للمأمور وفعلِه للمحظور ظالماً لنفسه بحسب ذلك، والله يقول: {وَمَن لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2، فتاركُ المأمور ظالمٌ لنفسه، كما أنَّ فاعلَ المحظورِ ظالمٌ لها، وزوال اسم الظلمِ عنه إنَّما يكون بالتوبة الجامعة للأمرين. ولهذا فإنَّ التوبةَ جامعةٌ لشرائعِ الإسلام وحقائقِ الإيمانِ، والدِّينُ كلُّه داخلٌ في مسمَّاها، وبهذا استحقَّ التائبُ أن يكون حبيبَ الله، فإنَّ اللهَ يُحبُّ التوَّابين ويُحبُّ المتطَّهرين3، بل لقد ثبت في الحديث عن النبيِّ

_ 1 سورة النور، الآية: (31) . 2 سورة الحجرات، الآية: (11) . 3 انظر: مدارج السالكين لابن القيم (1/305 ـ 307) .

صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " لله أشدُّ فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلتِه بأرضِ فلاةٍ، فانفلتت منه، وعليها طعامُه وشرابُه، فأيِس منها، فأتى شجرةً، فاضطجع في ظلِّها، قد أيِسَ من راحلتِه، فبينما هو كذلك، إذ هو بها قائمةً عنده، فأخذ بِخِطامها، ثمَّ قال ـ من شدَّةِ الفرَح ـ: اللَّهمَّ أنت عبدي وأنا ربُّك، أخطأ من شدَّةِ الفرح "، رواه مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه1. ولا ينبغي للمسلم أن يُؤخِّرَ التوبةَ ويُؤجِّلَها ويسوِّف فيها، بل الواجبُ المبادرةُ والمسارعةُ، فإنَّ المرءَ لا يدري ما يَعرِضُ له في هذه الحياة، ولا يزالُ بابُ التوبةِ مفتوحاً للعبدِ ما لَم يُغرْغِر، قال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} 2، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ اللهَ تعالى يقبلُ توبةَ العبدِ ما لَم يُغَرْغِر " 3، أي: ما لَم تبلغ روحُه حلقومَه. وكذلك لا يقبل الله توبةَ العبد إذا طلعت الشمس من مغربِها، ففي المسند للإمام أحمد وسنن أبي داود عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تنقطعُ الهجرةُ حتى تنقطعَ التوبةُ، ولا تنقطعُ التوبةُ حتى تطلعَ الشمسُ من مغربِها "4.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2747) . 2 سورة النساء، الآية: (18) . 3 المسند (2/132، 153) . 4 المسند (4/99) ، وسنن أبي داود (رقم:2479) .

وروى الطبراني عن صفوان بن عسَّال رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ للتوبةِ باباً عرضُ ما بين مِصراعَيْه ما بين المشرق والمغرب، لا يُغلقُ حتى تطلعَ الشمسُ من مغربِها "، حسَّنه الألباني رحمه الله1. ولهذا فإنَّ الواجبَ على الإنسانِ أن يُبادر إلى التوبةِ قبل فواتِ أوانها، وقبل أن يُحال بينه وبينها، ولا يجوز له تأخيرُها في أيِّ حال من الأحوال، بل إنَّ تأخيرها يُعدُّ معصيةً ينبغي أن يُتاب منها. قال العلاَّمةُ ابنُ القيِّم رحمه الله: " إنَّ المبادرةَ إلى التوبةِ من الذنب فرضٌ على الفَور، ولا يجوز تأخيرُها، فمتى أخَّرَها عصى اللهَ بالتأخيرِ، فإذا تاب من الذنب بقيَ عليه توبةٌ أخرى، وهي توبتُه من تأخير التوبةِ، وقلَّ أن تخطُرَ هذه ببالِ التائبِ، بل عنده أنَّه إذا تاب من الذنب لَم يبق عليه شيءٌ آخر، وقد بقيَ عليه التوبةُ من تأخير التوبةِ، ولا يُنجي مِن هذا إلاَّ توبةٌ عامة، مِمَّا يَعلَمُ من ذنوبه ومِمَّا لا يَعلَم، فإنَّ ما لا يَعلمه العبدُ من ذنوبه أكثرُ مِمَّا يعلمه، ولا ينفعه في عدم المؤاخذة بها جهلُه إذا كان مُتمكِّناً من العلمِ، فإنَّه عاصٍ بترك العلمِ والعمل، فالمعصيةُ في حقِّه أشدُّ، وفي المسند للإمام أحمد، والأدب المفرد للبخاري أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " الشركُ في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، فقال أبو بكر: فكيف الخلاصُ منه يا رسول الله؟ قال: أن تقول: اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك أن أُشركَ بك وأنا أعلمُ، وأستغفرُك لِما لا أعلم "2، فهذا طلب

_ 1 المعجم الكبير (8/65) (رقم:7383) ، وصحيح الجامع (رقم:2177) . 2 المسند (4/403) ، والأدب المفرد (716) ، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الأدب (رقم:551) .

الاستغفار مِمَّا يعلمه الله أنَّه ذنبٌ، ولا يعلمه العبدُ. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: " أنَّه كان يدعو في صلاته: اللَّهمَّ اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به منّي، اللَّهمَّ اغفر لي جدِّي وهزلِي، وخطئي وعمدي، وكلُّ ذلك عندي، اللَّهمَّ اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أنت أعلمُ به منِّي، أنتَ إلهي لا إله إلاَّ أنتَ " 1. وفي الحديث الآخر: " اللَّهمَّ اغفر لي ذنبي كلَّه، دِقَّه وجلَّه، خطأَه وعمدَه، سِرَّه وعلانيتَه، أولَه وآخرَه "2. فهذا التعميم وهذا الشمولُ؛ لتأتي التوبةُ على ما علمَه العبدُ مِن ذنوبِه وما لَم يعلمه "3. اهـ. ولا ريبَ أنَّ هذا من النصحِ في التوبة المأمورِ به في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سِيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 4، وقد بيَّن ابن القيم رحمه الله أنَّ النصحَ في التوبةِ يتضمَّن ثلاثةَ أشياء: الأول: تعميمُ جميعَ الذنوب واستغراقُها بها، بحيث لا تَدَعُ ذنباً إلاَّ تناولتْه.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2719) . 2 صحيح مسلم (رقم:483) ، وليس فيه: " خطأ وعمده)) . 3 مدارج السالكين (1/272 ـ 273) . 4 سورة التحريم، الآية: (8) .

والثاني: إجماع العزم والصدق بكليَّته عليها، بحيث لا يبقى عنده تردُّدٌ ولا تلوُّمٌ ولا انتظارٌ، بل يجمع عليها كلَّ إرادته وعزيمتِه مبادراً بها. الثالث: تخليصُها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصِها، ووقوعُها لمحضِ الخوفِ من الله وخشيتِه والرغبة فيما لديه والرهبة ممَّا عنده، لا كمَن يتوب لحِفظ جاهه وحُرمتِه ومنصِبه ورياستِه، ولحفظ حاله، أو لحفظ قوَّته وماله، أو استدعاء حمدِ الناس، أو الهربِ من ذمِّهم، أو لئلاَّ يتسلط عليه السفهاء، أو لقضاء نهمته من الدنيا، أو لإفلاسِه وعجزه، ونحوِ ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصِها لله عزَّ وجلَّ. فالأول يتعلَّق بما يتوب منه، والثالث يتعلَّق بمَن يتوب إليه، والأوسطُ يتعلَّق بذات التائبِ ونفسِه1، وبهذه الأمورِ الثلاثة يكون العبدُ قد أتى بأكمل ما يكون من التوبةِ، والتوفيق بيد الله وحده، فنسأله أن يَمُنَّ علينا بالتوبة النصوح، وأن يهدينا سواء السبيل.

_ 1 انظر: مدارج السالكين (1/310) .

قرن التوبة بالاستغفار ,وقرن الاستغفار بالتوحيد

108 ـ قرن التوبة بالاستغفار، وقرن الاستغفار بالتوحيد لقد كان حديثُنا السابق عن التوبةِ وبيانِ فضلِها وعِظمِ شأنِها وشدَّةِ احتياجِ العبد إليها، وعن بعضِ الأحكام المتعلِّقةِ بها، وكثيراً ما تأتي التوبةُ في النصوصِ مقرونةً بالاستغفار، كقوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} 1، وقول هود لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} 2، وقول صالح لقومه: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} 3، وقول شعيب: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} 4. وفي هذا دلالةٌ على عِظم التلازم بين الاستغفار والتوبة، وشدَّةِ احتياج العبد إليهما للوقاية من شرور الذنوب وغوائلها، والذنوب نوعان: " ذنبٌ قد مضى، فالاستغفار منه: طلبُ وقايةِ شرِّه، وذنبٌ يُخاف وقوعُه، فالتوبة: العزمُ على أن لا يفعله، والرجوعُ إلى الله يتناول النوعين، رجوعٌ إليه ليقيَه شرَّ ما مضى، ورجوعٌ إليه ليقيَه شرَّ ما

_ 1 سورة هود، الآية: (3) . 2 سورة هود، الآية: (52) . 3 سورة هود، الآية: (61) . 4 سورة هود، الآية: (90) .

يستقبل من نفسه وسيِّئات أعماله. وأيضاً فإنَّ المذنبَ بمنزلةِ مَن ركب طريقاً تؤدِّيه إلى هلاكه، ولا توصله إلى المقصود، فهو مأمور أن يولِّيها ظهره، ويرجع إلى الطريقِ التي فيها نجاته، والتي توصله إلى مقصوده، وفيها فلاحه، فههنا أمران لا بدَّ منهما: مفارقة شيء والرجوع إلى غيره، فخُصَّت التوبةُ بالرجوعِ، والاستغفارُ بالمفارقةِ ... "1. أمَّا إذا أُفردت التوبةُ بالذِّكر أو أُفرد الاستغفار، فإنَّ كلَّ واحدٍ منهما يتناول معنى الآخر. والاستغفار له شأنٌ عظيم ومكانةٌ عاليةٌ، فهو كما بيَّن شيخ الإسلام " يُخرج العبدَ من الفعلِ المكروه إلى الفِعلِ المحبوبِ، ومن العمل الناقصِ إلى العمل التامِّ، ويرفعُ العبدَ من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل، فإنَّ العابدَ لله، والعارفَ بالله في كلِّ يوم، بل في كلِّ ساعة، بل في كلِّ لحظة يزدادُ علماً بالله وبصيرةً في دينه وعبوديَّتِه، بحيث يجدُ ذلك في طعامه وشرابه ونومِه ويَقَظتِه وقولِه وفعلِه، ويرى تقصيرَه في حضورِ قلبِه في المقامات العالية وإعطائِها حقّها، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، بل هو مضطَّرٌ إليه دائماً في الأقوال والأحوال، في الغوائب والمشاهد؛ لِما فيه من المصالحِ وجلب الخيرات ودفعِ المضرَّات، وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية اليقينية الإيمانية "2.

_ 1 مدارج السالكين لابن القيم (1/308) . 2 مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/696) .

وممَّا يُبيِّن عِظَمَ شأن الاستغفار ورفيع مكانته أنَّه كثيراً ما يأتي في النصوص مقروناً مع كلمة التوحيد لا إله إلاَّ الله التي هي خيرُ الكلمات وأفضلُها وأجلُّها على الإطلاق، كقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ} 1، وقوله: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} 2، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} 3، وقوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} إلى قوله: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} 4، وكقوله صلى الله عليه وسلم في كفَّارة المجلس: " سبحانك اللَّهمَّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلاَّ أنت أستغفرك وأتوب إليك "5، وكقوله صلى الله عليه وسلم عقِب الانتهاء من الوضوء: " أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، اللَّهمَّ اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين "6، وكقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه الذي كان يختم به الصلاةَ: " اللَّهمَّ اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أنت أعلم به منِّي، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر

_ 1 سورة محمد، الآية: (19) . 2 سورة هود، الآية: (3) . 3 سورة فصلت، الآية: (6) . 4 سورة هود، الآيات: (50 ـ 52) . 5 سنن أبي داود (رقم:4857) ، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (4487) . 6 سنن الترمذي (رقم:55) ، وصححه الألباني رحمه الله في الإرواء (1/134) .

لا إله إلاَّ أنت "1، والنصوصُ في هذا المعنى كثيرة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وقد ثبتت دائرة الاستغفار بين أهل التوحيد، واقترانها بشهادة أن لا إله إلاَّ الله، مِن أولِّهم إلى آخرهم، ومن آخرهم إلى أوَّلِهم، ومن الأعلى إلى الأدنى، وشمول دائرة التوحيد والاستغفار للخلق كلِّهم، وهم فيها درجات عند الله، ولكلِّ عاملٍ مقامٌ معلوم، فشهادةُ أن لا إله إلاَّ الله بصِدق ويقين تُذهبُ الشركَ كلَّه، دقَّه وجلَّه خطأه وعمده، أوَّلَه وآخرَه، سِرَّه وعلانيتَه، وتأتي على جميع صفاتِه وخفاياه ودقائِقه، والاستغفار يمحو ما بقي من عثراته، ويَمحو الذنبَ الذي هو من شُعب الشرك، فإنَّ الذنوبَ كلَّها من شعب الشرك، فالتوحيد يُذهبُ أصلَ الشرك، والاستغفار يمحو فروعَه، فأبلغ الثناء قولُ لا إله إلاَّ الله، وأبلغُ الدعاء قول أستغفر الله "2. وقد جمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين التوحيد والاستغفار في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه المخرَّج في سنن الترمذي يقول صلى الله عليه وسلم: " قال الله تعالى: يا ابن آدم إنَّك ما دعوتَني ورَجوتَني غفرتُ لك ما كان منك ولا أُبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبُك عنانَ السماء ثمَّ استغفرتني غفرتُ لك، يا ابن آدم إنَّك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثمَّ لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتُك بقُرابِها مغفرة "3.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:771) . 2 مجموع الفتاوى (11/696 ـ 697) . 3 سنن الترمذي (رقم:3540) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:127) .

وهو حديث عظيمٌ جامعٌ لأهمِّ وأعظم أسباب مغفرة الذنوب، حيث تضمَّن الحديثُ ثلاثةَ أسباب عظيمةٍ يحصُلُ بها مغفرةُ الذنوب: أحدها: دعاءُ الله مع رجائه، فمِن أعظم أسباب المغفرة أنَّ العبدَ إذا أذنبَ ذنباً لَم يرج مغفرته من غير ربِّه، ويعلم أنَّه لا يغفر الذنوب إلاَّ الله. الثاني: الاستغفار، فإنَّ الذنوبَ ولو عظُمت وبلغت من الكثرةِ عنانَ السماء، فإنَّ اللهَ يغفرُها إذا طلبَ العبدُ من ربِّه المغفرةَ. الثالث: التوحيد، وهو السببُ الأعظمُ للمغفرة، فمَن فقده فقد المغفرة، ومَن جاء به فقد أتى بأعظمِ أسباب المغفرة، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} 1، فمَن جاء يوم القيامة موحِّداً فقد أتى بأعظمِ أسباب المغفرةِ2. فهذه أبوابُ الخير مفتوحةٌ، ومداخلُه مشرعةٌ، ومناراته ظاهرةٌ، فنسأله سبحانه الهداية إليها والتوفيق لتحقيقها.

_ 1 سورة النساء، الآية: (48، 116) . 2 انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص:367 ـ 375) .

مكانة الاستغفار وحال المستغفرين

109 ـ مكانة الاستغفار وحال المستغفرين إنَّ للاستغفار مكانةً في الدِّين عظيمة، وللمستغفرين عند الله أجوراً كريمة، وثمارُ الاستغفار ونتائجُه الحميدةُ في الدنيا والآخرة لا يحصيها إلاَّ الله، ولهذا كثرت النصوصُ القرآنية والأحاديثُ النبويةُ المرشدةُ إلى الاستغفار، والحاثَّةُ عليه، والمبيِّنةُ لفضله وعظيمِ أجرِه. يقول الله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا} 1، ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ الله} 2، ويقول تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} 3، ويقول تعالى عن نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنَينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ أَنْهَارًا} 4، والآياتُ في هذا المعنى كثيرة، وهي دالَّةٌ على عظيم شأن الاستغفار وتنوُّع فوائده وثمراته. جاء في الأثر عن الحسن البصري رحمه الله: " أنَّ رجلاً شكى إليه الجدبَ، فقال: اسْتَغْفِرِ الله، وشكى إليه آخر الفقرَ، فقال: اسْتَغْفِرِ الله، وشكى إليه آخر جفاف بُستانه، فقال: اسْتَغْفِرِ الله، وشكى إليه آخر

_ 1 سورة النساء، الآية: (110) . 2 سورة آل عمران، الآية: (135) . 3 سورة الأنفال، الآية: (33) . 4 سورة نوح، الآيات: (10 ـ 12) .

عدم الولد، فقال: اسْتَغْفِرِ الله، ثمَّ تلا عليهم قول الله تعالى عن نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنَينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ أَنْهَارًا} "1، " أي إذا تُبتُم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه، كثر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدر لكم الضرع، وأمدَّكم بأموال وبنين، أي: أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنَّات فيها أنواع الثمار، وخللها بالأنهار الجارية بينها "2، وفي هذا دلالةٌ على عِظم فوائد الاستغفار وكثرة خيراته وتعدُّد ثمراته. وهذه الثمرات المذكورة هنا هي مِمَّا يناله العبدُ في دنياه من الخيرات العميمة والعطايا الكريمة والثمرات المتنوِّعة، وأمَّا ما يناله المستغفرون يوم القيامة من الثواب الجزيلِ والأجرِ العظيمِ والرحمةِ والمغفرةِ والعِتقِ من النار والسلامة من العذاب، فأمرٌ لا يُحصيه إلاَّ الله تعالى. روى ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن بُسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طوبى لِمَن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً "، وسنده صحيح3. وروى الطبراني في الأوسط والضياء المقدسي في الأحايث المختارة

_ 1 ذكره الحافظ في الفتح (11/98) . 2 تفسير القرآن العظيم لابن كثير (8/260) . 3 سنن ابن ماجه (رقم:3818) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:3930) .

عن الزبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن أحبَّ أن تسرَّه صحيفتُه فليُكثر فيها من الاستغفار "1. وروى أبو داود والترمذي وغيرُهما عن بلال بن يسار بن زيد، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " مَن قال: أستغفر الله الذي لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيوم وأتوب إليه، غفر له، وإن كان فرَّ من الزحفِ "2. وفي هذا الحديث دلالةٌ على أنَّ الاستغفارَ يمحو الذنوبَ سواء كانت كبائر أو صغائرَ، فإنَّ الفرارَ من الزحفِ من الكبائر. لكن ممَّا ينبغي أن يُعلم هنا أنَّ المرادَ بالاستغفار ما اقترن به ترك الإصرار، فهو حينئذ يُعدُّ توبةً نصوحاً تجُبُّ ما قبلَها، أما إن قال المرءُ بلسانه: أستغفر الله، وهو غير مقلعٍ عن ذنب، فهو داعٍ لله بالمغفرة، كما يقول: اللَّهمَّ اغفر لي، وهذا طلبٌ من الله المغفرةَ ودعاءٌ بها، فيكون حكمُه حكمَ سائر الدعاء لله، ويُرجى له الإجابة. وقد ذكر أهلُ العلم أنَّ القائلَ: أستغفر الله وأتوب إليه له حالتان: الأولى: أن يقول ذلك وهو مصِرٌّ بقلبه على الذنب، فهذا كاذبٌ في قوله: وأتوب إليه؛ لأنَّه غير تائب، فإنَّ التوبةَ لا تكون مع الإصرار من العبدِ على الذنب.

_ 1 الأوسط (رقم:839) ، والأحاديث المختارة (رقم:892) ، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:2299) . 2 سنن أبي داود (رقم:1517) ، وسنن الترمذي (رقم:3577) .

والحالة الثانية: أن يقول ذلك وهو مقلعٌ بقلبه وعزمه ونيَّته عن المعصية، وجمهور أهل العلم على جواز قول التائب: أتوب إلى الله، وعلى جواز أن يُعاهد العبدُ ربَّه على أن لا يعود إلى المعصية أبداً، فإنَّ العزمَ على ذلك واجبٌ عليه، فهو مخبرٌ بما عزم عليه في الحال، وقد تقدَّم أنَّ من شروط قبول التوبة العزمَ من العبد على عدم العودةِ إلى الذنب، فإن صحَّ منه العزمُ على ذلك قُبلت توبتُه، فإن عاد إلى الذنب مرَّة ثانية احتاج إلى توبةٍ أخرى ليغفر له ذنبه، ولهذا فإنَّ العبدَ ما دام كذلك كلَّما أذنب تاب وكلَّما أخطأ استغفر فهو حريٌّ بالمغفرة وإن تكرَّر الذنب والتوبة. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربِّه عزَّ وجلَّ: قال: " أذنب عبدٌ ذنباً، فقال: اللَّهمَّ اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أنَّ له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثمَّ عاد فأذنب، فقال: أي ربِّ اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً فعلِمَ أنَّ له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثمَّ عاد فأذنب، فقال: أي ربِّ اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلِمَ أنَّ له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئتَ فقد غفرتُ لك "1. أي: ما دُمتَ تائباً أوَّاهاً منيباً. فهذه توبةٌ مقبولةٌ وإن تكرَّر الذنبُ، فإنَّه كلَّما كرَّر العبدُ التوبةَ مستوفياً شروطها قُبلت منه، أما الاستغفار بدون توبة فلا يستلزم

_ 1 صحيح البخاري (رقم:7507) ، وصحيح مسلم (رقم:2758) .

المغفرةَ، بل هو سببٌ من الأسباب التي ترجى بها المغفرة. ولا ينبغي للعبدِ أن يقنَطَ من رحمة الله وإن عظُمت ذنوبُه وكثرت وتنوَّعت، فإنَّ بابَ التوبةِ والمغفرَةِ والرحمةِ واسعٌ، فالله يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} 1. قال ابن عباس رضي الله عنهما: " مَنْ آيس عبادَ الله من التوبة بعد هذا فقد جَحَدَ كتاب الله عزَّ وجلَّ "2. ويقول سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} 3، ويقول: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا} 4، وقال الله تعالى في حقِّ المنافقين: {إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} 5، وقال في شأن النصارى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وِإِن لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 6، وقال في شأن الكُفَّار: {إِنَّ الَّذِينَ

_ 1 سورة الزمر، الآية: (53) . 2 ذكره ابن كثير في تفسيره (4/59) . 3 سورة التوبة، الآية: (104) . 4 سورة النساء، الآية: (110) . 5 سورة التوبة، الآية: (145) . 6 سورة المائدة، الآيتان: (73، 74) .

ملا زمة النبي صلى الله علية وسلم للاستغفار

110 ـ مُلازمة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم للاستغفار لقد كان إمامُ المرسَلين، وقدوةُ الموحِّدين، وقائدُ الغُرِّ المُحجَّلين الرسولُ الكريم صلى الله عليه وسلم كثيرَ الاستغفار والتوبةِ إلى الله، مع أنَّه صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، كما قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} 1، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنه قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى قام حتى تتفطَّر رجلاه، فقلت له يا رسول الله: أتصنَعُ هذا وقد غفر لك الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: يا عائشة، أفلا أكون عبداً شكوراً "2. قال ابن كثير رحمه الله: " هذا من خصائصه صلواتُ الله وسلامه عليه التي لا يشاركه فيها غيرُه، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، وهذا فيه تشريفٌ عظيمٌ للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو صلوات الله وسلامه عليه في جميع أموره على الطاعةِ والبِرِّ والاستقامة التي لَم ينلها بشرٌ سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو أكملُ البشر على الإطلاق، وسيِّدُهم في الدنيا والآخرة "3.

_ 1 سورة الفتح، الآيتان: (1، 2) . 2 صحيح البخاري (رقم:4837) ، وصحيح مسلم (رقم:2820) . 3 تفسير القرآن العظيم (7/310) .

ومع ذلك كلِّه فقد كان صلواتُ الله وسلامه عليه يُكثر في جميع أوقاته من الاستغفارِ، وكان الصحابةُ رضي الله عنهم يُحصون له في مجالسه الاستغفارَ الكثيرَ. روى مسلم في صحيحه عن الأغر المزنيّ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّه ليُغان على قلبي، وإنِّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرَّة "1. وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " والله إنِّي لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة "2. وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " كنَّا نعُدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلسِ الواحدِ مائةَ مرة: ربِّ اغفر لي، وتُب عليَّ، إنَّك أنت التواب الرحيم "3. وأخرج النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه: " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الناسَ فقال: يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإنِّي أتوب إليه في اليوم مائة مرة "4.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2702) . 2 صحيح البخاري (رقم:6308) . 3 سنن أبي داود (رقم:1516) ، وسنن الترمذي (رقم:3434) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:556) . 4 النسائي في الكبرى (10265) ، وهو عند مسلم من حديث الأغر (4/2076) بلفظ مقارب.

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الاستغفار صيغٌ عديدة، منها قوله: " أستغفر الله وأتوب إليه "، قال أبو هريرة رضي الله عنه: " ما رأيتُ أحداً أكثر من أن يقول: أستغفر الله وأتوب إليه مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم "1. ومنها قوله: " ربِّ اغفر لي، وتُب عليَّ إنَّك أنت التواب الرحيم "، وقد تقدَّم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ومنها ما ثبت في الصحيحين: أنَّ أبا بكر قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: " عَلِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي؟ قال: قل: اللَّهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلاَّ أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرحيم "2. ومنها ما في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يدعو بهذا الدعاء: " اللَّهمَّ اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به منِّي، اللَّهمَّ اغفر لي جدِّي وهزلِي، وخطأي وعمدي، وكلُّ ذلك عندي، اللَّهمَّ اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أنت أعلمُ به منِّي، أنتَ المقدِّم وأنت المُؤخِّر، وأنتَ على كلِّ شيء قدير "3. ومنها ما ثبت في صحيح مسلم أنَّه كان من آخر ما يقوله صلى الله عليه وسلم بين التشهد والتسليم: " اللَّهم اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أَسررتُ

_ 1 السنن الكبرى للنسائي (رقم:10288) ، وصحيح ابن حبان (رقم:928) . 2 صحيح البخاري (رقم:834) ، وصحيح مسلم (رقم:2705) . 3 صحيح مسلم (رقم:2719) .

وما أعلنتُ، وما أسرفتُ، وما أنتَ أعلم به منِّي، أنتَ المقدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلاَّ أنت " 1. ومنها، وهو أتَمُّها وأكملُها ما ثبت في صحيح البخاري عن شدَّاد ابن أوس رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " سيِّدُ الاستغفار أن يقول العبدُ: اللَّهمَّ أنت ربِّي لا إله إلاَّ أنت، خلقتني وأنا عبدُك، وأنا على عهدِك ووعدِكَ ما استطعتُ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمَتِك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنَّه لا يغفرُ الذنوبَ إلاَّ أنتَ "2. فهذا الحديث لَمَّا كان جامعاً لمعاني التوبة، مشتملاً على حقائقِ الإيمان، مُتضمِّناً لمحضِ العبودية، وتمام الذُّلِّ والافتقار فاق سائرَ صِيَغِ الاستغفار في الفضيلة وارتفع عليها. قال ابن القيم رحمه الله: " فتضمَّن هذا الاستغفار الاعترافَ من العبد بربوبيَّة الله وإلهيَّته وتوحيده، والاعتراف بأنَّه خالقُه، العالمُ به؛ إذ أنشأه نشأةً تستلزمُ عجزَه عن أداء حقِّه وتقصيره فيه، والاعتراف بأنَّه عبدُه الذي ناصيتُه بيده وفي قبضتِه، لا مهربَ له منه، ولا ولِيَّ له سواه، ثمَّ التزامُ الدخول تحت عهده ـ وهو أمره ونهيه ـ الذي عَهدَه إليه على لسان رسوله، وأنَّ ذلك بحسب استطاعتي، لا بحسب أداء حقِّك، فإنَّه غير مقدور للبشر، وإنَّما هو جهد المقلِّ، وقدر الطاقة، ومع ذلك فأنا مصدِّقٌ بوعدك الذي وعدته لأهل طاعتك بالثواب، ولأهلِ معصيتك بالعقاب، فأنا مقيمٌ على عهدِك مُصدِّقٌ بوعدِك، ثمَّ أفزع إلى الاستعاذة

_ 1 صحيح مسلم (رقم:771) . 2 صحيح البخاري (رقم:6306) .

والاعتصام بك من شرِّ ما فرطتُ فيه من أمركَ ونهيكَ، فإنَّك إن لَم تعِذْني من شرِّه، وإلاَّ أحاطت بي الهلكة، فإنَّ إضاعةَ حقِّك سببُ الهلاكِ، وأنا أُقرُّ لك وألتزم بنعمتك عليَّ، وأقِرُّ وألتزم وأنجع بذنبي، فمنك النعمةُ والإحسانُ والفضلُ، ومنِّي الذنبُ والإساءةُ، فأسألكَ أن تغفر لي بمحوِ ذنبي، وأن تُعفيني من شرِّه، إنَّه لا يغفر الذنوبَ إلاَّ أنتَ، فلهذا كان هذا الدعاءُ سيِّدَ الاستغفار "1. ومِن صِيَغ الاستغفار التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنه: أنَّها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصْغَت إليه قبل أن يموت وهو مسنِدٌ إليها ظهرَه يقول: اللَّهمَّ اغفر لي وارحمني وألحِقني بالرفيق الأعلى "2. وفي هذا إشارةٌ إلى ملازمتِه صلى الله عليه وسلم للاستغفار في كلِّ أوقاته وجميع أحيانه إلى آخر لحظات حياته الكريمة صلواتُ الله وسلامه عليه، وكما أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يختم أعماله الصالحة، كالصلاة والحج وقيام الليل وسائر مجالسِه بالاستغفار فقد ختم حياتَه كلَّها به، رزقنا الله حسنَ الاقتداء به والاتِّباع لنهجه، ونسأله سبحانه أن يرزقنا الخاتمة الحسنة، إنَّه سميع مُجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. ويليه القسم الثالث إن شاء الله، وهو في شرح الأذكار المتعلقة بعمل اليوم والليلة.

_ 1 مدارج السالكين (1/221 ـ 222) . 2 صحيح البخاري (رقم:4440) .

عَلَيْنَا} 1، وقد بيّن رحمه الله في سياق رده عليهم: أنَّ القبلةَ هي ما يستقبله الإنسان بوجهه، والاستقبال ضد الاستدبار، فالقبلةُ ما يستقبله الإنسان ولا يستدبره، فأما ما يرفع الإنسان إليه يده أو رأسه أو بصره فهذا باتّفاق الناس لا يسمّى قبلةً؛ لأنَّ الإنسان لَم يستقبله كما لا يستدبر الجهةَ التي تقابلُه، ومن استقبل شيئاً فقد استدبر ما يقابله كما أنَّ من استقبل الكعبة فقد استدبر ما يقابلها، ومعلومٌ أنَّ الداعي لا يكون مستقبلاً للسماء ومستدبراً للأرض، بل يكون مستقبلاً لبعض الجهات إمّا القبلة أو غيرها، مستدبراً لما يقابلُها كالمصلي، فظهر أنَّ جعل ذلك قبلةً باطلٌ في العقل واللغة والشرع بطلاناً ظاهراً لكلِّ أحد2. والمقصود أنَّ قبلةَ المسلمين في الدعاء هي قبلتهم في الصلاة، أمّا رفعهم لأيديهم عند الدعاء إلى السماء فلأنَّ ربَّهم الذي يدعونه ويسألونه ويرجونه ويطمعون في نيل ثوابه ورحمته ويخافونه في سمائه مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، يسمع دعاءَهم ويُجيب نداءَهم، كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِن تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} 3.

_ 1 سورة فصلت، الآية: (40) . 2 انظر: نقض التأسيس (2/462) . 3 سورة طه، الآيات: (5 ـ 8) .

المجلد الثالث

المجلد الثالث مقدمة ... فقه الأدعية والأذكار (عمل اليوم والليلة) بقلم: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبةُ للمتَّقين، والصلاةُ والسَّلام على إمام المرسلين نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أمَّا بعد: فهذا القسم الثالث من فقه الأدعية والأذكار، تناولتُ فيه بيانَ الأذكار والأدعية المتعلِّقة بعمل المسلم في يومه وليلته، كأذكار الصباح والمساء والنوم وأذكار الصلوات وأدبارها، وأذكار الدخول والخروج، والركوب والسفر، والطعام والشراب، إلى غير ذلك من الأذكار العظيمة والدعوات المباركة، التي تصحب المسلم في أيامه ولياليه مع بيان معانيها ودلالاتها. وما من شكٍّ أنَّ في المواظبةِ على هذه الأذكار والمحافظة عليها خيراتٍ متوالية ونعماً متتالية في الدنيا والآخرة، لا سيما إن وُفِّق المحافظ عليها إلى التأمُّل في دلالاتها، والتفكُّر في مقاصدها وغايتها، والتحقيق لأهدافها ومقتضياتها. وإنِّي لأُؤَمِّل أن يُحقِّق هذا الكتاب شيئاً من ذلك بتوفيق الله عزَّ وجلَّ، وقد أفدت فيه من كلام أهل العلم في شروحات كتب الحديث عموماً، وكتب الأذكار على وجه الخصوص، وكتب اللغة، وكتب غريب الحديث وغيرها، مع اعترافي بقصور باعي وضعف علمي وقلَّة اطِّلاعي وكثرة تقصيري، أسال اللهَ أن يعفوَ عنِّي ويغفر لي بِمَنِّه وفضله، إنَّه غفور رحيم.

وهو في الأصل حلقات إذاعيةٌ تَمَّ تقديمُها عبر الإذاعة المباركة إذاعة القرآن الكريم بالمملكة العربية السعودية تحت عنوان: "عمل اليوم والليلة". وهو يتكوَّن من خمس وستين حلقة متماثلة في الحجم، ولكلِّ حلقة عنوانٌ خاصٌّ يُرشد إلى مضمونها. ولا يفوتُنِي هنا أن أُسجِّل شكري وتقديري للقائمين على هذه الإذاعة على ما لقيتُه منهم من اهتمام وتعاون يُذكرُ فيُشكر، ومن لا يشكر الناسَ لا يشكر الله، فنسألُ الله أن يجزيهم خيرَ الجزاء، وأن يُبارك في جهودهم، وأن يُوفِّقهم لخدمة دين الله ونشره في أرجاء المعمورة بِمنِّه وكرَمه، كما أشكر كلَّ من قدَّم لي أيَّ نوع من أنواع المساعدة في هذا القسم أو في القسمين السابقين اللَّذين قبله؛ سواءً بحث وتشجيع، أو تصحيح ومراجعة، أو إبداء وجهة نظر أو ملحوظة، ومَن قام بصفِّه وتنضيده وعزو الآيات والأحاديث الواردة فيه، ومَن تبرَّع لطبعه وساهم في نشره، وأسأل الله أن يثيب الجميع أعظم الثواب، وأن يجزيهم خير الجزاء. وأسأله سبحانه أن يتقبَّل منِّي عملِي هذا وسائرَ أعمالِي، وأن يجعله لوجهه خالصاً، ولسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم موافقاً، ولعباده نافعاً، وأن لا يجعل لأحد فيه شيئاً، إنَّه سميعٌ مجيبٌ قريب، وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا وعلى آله وصحبه. وكتبه عبد الرزاق البدر غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين

فضل الأذكار المتعلقة بعمل اليوم والليلة

111 / فضل الأذكار المتعلِّقة بعمل اليوم والليلة إنَّ من الموضوعات الجليلة والأمور المهمة التي تَمسُّ إليها حاجةُ كلِّ مسلم ما يتعلَّق بعمل المسلم في يومه وليلته، في قيامه وقعوده، وحركته وسكونه، ودخوله وخروجه، وسائر شؤونه، بأن يُوظِّف ذلك كلَّه في طاعة الله ويستعمله فيما يرضيه، فيكون في ذلك كلِّه ذاكراً لربِّه، مستعيناً به وحده، مفوِّضاً أمورَه كلَّها إليه. وقد ثبت في صحيح مسلم أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كان يذكر ربَّه في كلِّ أحيانه1، أي أنَّه صلوات الله وسلامه عليه لا يدع ذكرَ الله عز وجل في أيِّ حالٍ من الأحوال، في ليله ونَهاره، وصباحه ومسائه، وسفره وحضره، وقيامه وقعوده وسائر أحواله، فلا يُباشر أيَّ عمل من الأعمال من نوم وقيام، ودخول وخروج، وركوب ونزول إلى غير ذلك إلاَّ وبدأه بذكر الله عز وجل ودعائه. ومَن يتأمَّل السُّنَّةَ المباركة والهديَ النبوي الكريم يجد أنَّ هناك أذكاراً للصباح والمساء، وأذكاراً للنوم والانتباه، وأذكاراً للصلوات وأعقابِها، وأذكاراً للطعام والشراب، وأذكاراً لركوب الدابة والسفر، وأذكاراً تتعلق بطَردِ الهمِّ والغم والحزن، وأذكاراً تقال عند رؤية المسلم لِمَا يحب أو لِمَا يكره إلى غير ذلك من الأذكار التي تتعلَّق تعلقاً مباشراً بأحوال المسلم في يومه وليلته. وفي تلك الأذكار العظيمة وتنوعها بحسب مناسباتها تجديدٌ لعهد الإيمان وتقوية للصِّلَة بالله عز وجل، واعترافٌ بنعمه المتوالية وآلائه المتتالية، وشكرٌ له على تفضله وإنعامه وجُوده وإحسانه، وفيها لُجوءٌ إليه وحده، واعتمادٌ

_ 1 صحيح مسلم (رقم:373) .

دون ما سواه بالتعوُّذ به سبحانه من نَزَغَات الشيطان وشرور النفس، وشرِّ كلِّ ذي شر من الخلق، ومن شر كلِّ نقمة أو بلاء أو مصيبة. وفيها تقريرٌ لتوحيد الله عز وجل، وبراءةٌ وخلوصٌ من الإشراك به، وإقرارٌ وإذعان بربوبيته وألوهيته، ومَن كان ذا عناية واهتمام بأدعية النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم المأثورة عنه فإنَّه يبوء ويعترف مرات كثيرةً بأنَّ الله عز وجل وحده هو الذي أمات وأحيا، وأطعم وأسقى، وأفقر وأغنى، وألبس وأكسى، وأضلَّ وهدى، وأنَّه وحده المستحق لأنْ يُؤْلَهَ ويُعبد، ويُخضع له ويُذل، وتُصرف له جميع أنواع العبادة. فالذِّكر كما يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: "شجرة تثمر المعارفَ والأحوال التي شَمَّر إليها السالكون، فلا سبيل إلى نيل ثمارها إلاَّ من شجرة الذِّكر، وكلَّما عظمت تلك الشجرةُ ورسخ أصلُها كان أعظمَ لثمرتها، فالذِّكر يُثمرُ المقاماتِ كلَّها من اليقظة إلى التوحيد، وهو أصل كلِّ مقام، وقاعدتُه التي يُبنَى ذلك المقامُ عليها، كما يُبنَى الحائط على أُسِّه، وكما يقوم السَّقفُ علىحائطه"1. إضافة إلى ذلك فهي مشتملةٌ على غاية المطالب الصحيحة، ونهاية المقاصد العليَّة، وفيها من الخير والنفع والبركة والفوائد الحميدة والنتائج العظيمة ما لا يمكن أن يحيط به إنسان أو يعبر عنه لسان. ولذلك فإنَّ مِن الحَرِيِّ بالمؤمن أن يكون محافظاً تَمام المحافظة على تلك الأذكار العظيمة، كلَّ ذكر في وقته المناسب له من يومه وليلته، بحسب وروده في السُّنَّة؛ لتَتحقق له تلك الأفضالُ العظيمة والمعاني الكريمة، وليكون مِمَّن

_ 1 الوابل الصيب (ص:132) .

أثنى الله عز وجل عليهم بقوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية أنه قال: "المراد يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدواً وعشياً، وفي المضاجع، وكلَّما استيقظ من نومه، وكلَّما غدا أو راح من مَنْزله ذكر الله تعالى". وعن مجاهد رحمه الله قال: "لا يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً"1. وقد سُئل الشيخ أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله - عن القَدْرِ الذي يصير به المسلم من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات فقال: "إذا واظب على الأذكار المأثورة المثبتة صباحاً ومساء في الأوقات والأحوال المختلفة ليلاً ونهاراً، وهي مبيَّنةٌ في كتاب عمل اليوم والليلة كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات"2. ولقد حظي هذا الموضوع الجليل باهتمام العلماء الفائق وعنايتهم الكبيرة، فألَّفوا فيه المؤلفاتِ الكثيرة، وبسطوا القول فيه في كتب عديدة نفع الله بها من شاء من عباده؛ ككتاب عمل اليوم والليلة للإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي صاحب السنن، وكتاب عمل اليوم والليلة لتلميذه أبي بكر أحمد بن محمد بن إسحاق المعروف بابن السُّني، وكتاب الدعاء الكبير للحافظ أبي بكر البيهقي، وكتاب الأذكار للإمام أبي زكريا النووي، وكتاب

_ 1 أوردهما النووي في الأذكار (ص:10) . 2 انظر: الأذكار للنووي (ص:10) .

الكلم الطيب لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكتاب الوابل الصيب لتلميذه العلامة ابن القيم، وكتاب تحفة الذاكرين للإمام الشوكاني، وكتاب تحفة الأخيار للإمام الشيخ عبد العزيز بن باز - رحم الله الجميع - إلى غير ذلك من الكتب القيمة والمؤلفات النافعة التي كتبها أهل العلم قديماً وحديثاً في هذا الباب العظيم1. ومؤلفاتهم في هذا الباب متفاوتةٌ، فمنهم الراوي الأخبار بالأسانيد، ومنهم الحاذف لها، ومنهم المطول المسهب، ومنهم المختصر والمتوسط والمهذب. ومن المعلوم أنَّ هذه الأذكار المتعلقة بعمل المسلم في يومه وليلته تحظى باهتمام المسلمين البالغ وعنايتهم الكبيرة، غير أنَّ الكثير منهم قد لا يميزون في ذلك بين الصحيح الثابت عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وبين الضعيف الذي لا يثبت عنه، وقد لا يعرفون أيضاً معاني هذه الأذكار العظيمة ولا مقاصدها الجليلة، فيفوتُهم بذلك نفعُها العظيم وتأثيرُها البالغ، قال ابن القيم رحمه الله: "وأفضلُ الذِّكر وأنفعُه ما واطأ القلبُ اللِّسان، وكان من الأذكار النبوية، وشهد الذاكر معانيه ومقاصده"2. اهـ كلامه رحمه الله. هذا وسوف أتناول - إن شاء الله - طائفةً عطرة، ونخبةً مباركة من تلك الأذكار المتعلقة بعمل المسلم في يومه وليلته مع بيان ما يتيسر من حِكَمها العظيمة ودلالتها القويمة ومعانيها الجليلة، مستمنحاً من الله وحده العونَ والتوفيق والسداد، وأسأله سبحانه أن يوفقنا وإياكم لكلِّ خير يحبه ويرضاه.

_ 1 ولي في هذا الباب رسالة أسميتها "الذِّكرُ والدعاء في ضوء الكتاب والسُّنَّة"، وهي مطبوعة في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، وقد مشيت في هذا الشرح على ترتيب تلك الرسالة، وأتيت فيه على عامة الأذكار الواردة فيها. 2 الفوائد لابن القيم (ص:247) .

أذكار طرفي النهار

112 / أَذْكَارُ طَرَفَيِ النَّهَارِ إنَّ من الأذكار والأدعية الراتبة التي وظَّفها الشرعُ الحكيم على المسلم في يومه وليلته أذكارَ طرفي النهار، بل هي أوسعُ الأذكار المقيَّدة وأكثرُها وروداً في النصوص، حثًّا عليها وترغيباً فيها وذكراً لأنواع كثيرة من الأذكار تُقَال في هذين الوقتين الفاضلين. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} 1 والأصيل ما بين العصر وغروب الشمس. ويقول تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} 2، والإبكار: أوَّلُ النهار، والعشيُّ: آخره. ويقول تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} 3، ويقول تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} 4، والآيات في هذا المعنى كثيرة. ومَحلُّ هذه الأوراد هو الصباحُ الباكرُ من بعد صلاة الصُّبحِ إلى قبل طلوع الشمس، والمساء ويقال العشي والآصال من بعد صلاة العصر إلى قبل الغروب، على أنَّ الأمر في ذلك واسعٌ إن شاء الله فيما لو نسي العبدُ ذلك في وقته أو عَرضَ له عارضٌ فلا بأس أن يأتي بأذكار الصباح بعد طلوع الشمس، وأذكار المساء بعد غروبها.

_ 1 سورة: الأحزاب الآية (42 - 43) . 2 سورة: غافر، الآية (55) . 3 سورة ق، الآية (39) . 4 سورة الروم، الآية (17) .

وأما عن الأذكار المشروعة والأدعية المأثورة التي تقال في هذين الوقتين الفاضلين فهي كثيرة ومتنوعة، وسيأتي - إن شاء الله - طائفةٌ طيِّبةٌ منها، مع بيان شيء من معانيها العظيمة ودلالتها القويمة. روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: بِسْمِ اللهِ الَّذِي لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ"1. فهذا من الأذكار العظيمة التي ينبغي أن يُحافظ عليها المسلمُ كلَّ صباح ومساء، ليكون بذلك محفوظاً - بإذن الله تعالى - من أن يصيبه فجأةُ بلاءٍ أو ضرُّ مصيبة أو نحو ذلك. قال القرطبي - رحمه الله - عن هذا الحديث: "هذا خبَرٌ صحيحٌ وقولٌ صادق علمناه دليلَه دليلاً وتجربة، فإنِّي منذ سمعته عملت به فلم يضرَّني شيءٌ إلى أن تركته، فلدغتني عقربٌ بالمدينة ليلاً، فتفكرتُ فإذا أنا قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات"2. وجاء في سنن الترمذي عن أبان بن عثمان - رحمه الله – وهو راوي الحديث عن عثمان - أنَّه قد أصابه طرف فالج - وهو شللٌ يصيب أحد شقي الجسم - فجعل رجلٌ منهم ينظر إليه فقال له أبان: "ما تَنظر؟ أمَا إنَّ الحديثَ كما حدَّثتُك، ولكنِّي لَم أَقُلْه يومئذ ليمضي اللهُ عليَّ قَدَرَه". والسُّنَّة في هذا الذِّكر أن يُقال ثلاثَ مرَّات كلَّ صباح ومساء، كما أرشدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك.

_ 1 أبو داود (رقم:5088) والترمذي (رقم:3388) ، وصحَّحه العلاَّمة الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:6426) . 2 انظر: الفتوحات الربانية لابن علان (3/100) .

وقوله في هذا الحديث "بسم الله" أي: بسم الله أستعيذ، فكلُّ فاعل يُقَدِّر فعلاً مناسباً لحاله عندما يُبَسمِل، فالآكِلُ يُقدِّر آكُلُ، أي: بسم الله آكُل، والذَّابحُ يُقَدِّرُ أَذبَحُ، والكاتبُ يُقَدِّرُ أكتُبُ، وهكذا. وقوله: "الَّذِي لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ" أي: مَن تعوَّذ باسم الله فإنَّه لا تَضرُّه مُصيبةٌ من جهة الأرض ولا من جهة السماء. وقوله: "وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ" أي: السَّميع لأقوال العباد، والعليمُ بأفعالِهم الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السَّماء. وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا لَقِيتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي البَارِحَةَ، قَالَ: أَمَا لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّكَ"1. وفي رواية للترمذي: "مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ حُمَةٌ تِلْكَ اللَّيْلَةِ"2. والحُمَةُ: لدغةُ كلِّ ذي سمٍّ كالعقرب ونحوها. وقد أورد الترمذي عقب الحديث عن سُهيل بن أبي صالح ـ أحد رواته ـ أنَّه قال: "كان أهلُنا تعلَّموها، فكانوا يقولونَها كلَّ ليلةٍ، فلُدغَت جارِيَةٌ منهم، فلَم تَجِدْ لَها وجَعاً". فالحديث فيه دلالةٌ على فضلِ هذا الدعاء، وأنَّ مَن قاله حين يُمسي يكون مَحفوظاً بإذن الله مِن أن يَضرَّه لَدْغُ حيَّةٍ أو عقرَبٍ أو نحوِ ذلك.

_ 1 صحيح مسلم (رقم 2709) . 2 سنن الترمذي (رقم 3604) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:6427) .

وقوله في الحديث: "أعوذ" أي: ألتجئ، فالاستعاذةُ الالتجاءُ والاعتصامُ، وحقيقتُها: الهرَبُ مِن شيءٍ تَخافُه إلى مَن يَعْصِمُك منه ويَحمِيكَ من شَرِّه، فالعائِذُ بالله قد هَرَب مِمَّا يؤذيه أو يُهلكُه إلى ربِّه ومالكِه، وفَرَّ إليه، وألقى نفسَه بين يديه، واعتصم به، واستجار به، والتجأَ إليه. والمراد بكلمات الله: قيل: هي القرآن الكريم، وقيل: هي كلماته الكونية القدرية، والمراد بالتامَّات أي: الكاملات التي لا يَلحقُها نَقصٌ ولا عيبٌ، كما يلحق كلامَ البشَر. وقوله: "مِن شرِّ ما خَلقَ" أي: مِن كلِّ شرٍّ، في أيِّ مخلوق قام به الشَّرُّ من حيوان أو غيره، إنسياً كان أو جِنياً، أو هامةً أو دابَّةً أو ريحاً أو صاعقة، أيَّ نوعٍ كان من أنواع البلاء في الدنيا والآخرة1. وثبت في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما عن عبد الله بن خُبيب رضي الله عنه قال: "خَرْجَنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ، نَطْلُبُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَيُصَلِيَ لَنَا، فَأَدْرَكْتُهُ، فَقَالَ: قُلْ. فَلَمْ أَقُلْ شَيْئاً، ثُمَّ قَالَ: قُلْ. فَلَمْ أَقُلْ شَيْئاً، ثُمَّ قَالَ: قُلْ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَالمُعَوِّذَتَيْنِ حَينِ تُمْسِي وَحِينَ تُصْبِحُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ"2. ففي هذا الحديث فضيلة قراءة هذه السور الثلاث: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثلاثَ مرَّات كلَّ صباح ومساء، وأنَّ مَن حافظ عليها كَفَتْه بإذن الله من كلِّ شيء، أي أنَّها تدفع عنه الشرورَ والآفات، وبالله وحده التوفيق لا شريك له.

_ 1 انظر: تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله (ص:213 - 214) . 2 سنن أبي داود (رقم:5082) وسنن الترمذي (رقم:3575) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:649) .

ومن أذكار طرفي النهار (1)

113 / ومن أَذْكَار طَرَفَيِ النَّهَارِ إنَّ مِن الأذكارِ العظيمة والدعواتِ المباركة التي ينبغي على المسلم أن يحافظ عليها كلَّ صباح ومساء ما ثبت في صحيح البخاري من حديث شداد ابن أوس رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " سَيِّدُ الاسْتِغَفَارِ أَنْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِناً بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ"1. فهذا دعاءٌ عظيمٌ جامعٌ لمعاني التوبةِ والتَّذَلُّلِ لله تبارك وتعالى والإنابة إليه، وَصَفَهُ صلى الله عليه وسلم بأنَّه سيِّدُ الاستغفار، وذلك لأنَّه قد فاق سائرَ صيغِ الاستغفار في الفضيلة، وعلا عليها في الرتبة، ومن معاني السيِّد، أي: الذي يفوق قومَه في الخير ويرتفع عليهم. ووجهُ أفضليةِ هذا الدعاء على غيره من صِيَغِ الاستغفار أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بدأه بالثَّناء على الله والاعتراف بأنَّه عبدٌ لله مربوبٌ مخلوق له عزَّ وجل، وأنه سبحانه المعبود بحقٍّ ولا معبود بحقٍّ سواه، وأنَّه مقيمٌ على الوعد، ثابتٌ على العهد من الإيمان به وبكتابه وبسائر أنبيائه ورسله، وأنَّه مقيمٌ على ذلك بحسب طوقه واستطاعته، ثم استعاذ به سبحانه من شَرِّ كلِّ ما صَنَع من التقصير في القيام بما يجب عليه مِن شُكر الإنعام وارتكاب الآثام، ثم أَقَرَّ بترادف نِعمِه سبحانه وتوالي عطاياه ومِنَنِه، واعترف

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6306) .

بما يصيبُ من الذنوب والمعاصي، ثم سأله سبحانه المغفرةَ مِن ذلك كلِّه، معترفاً بأنَّه لا يغفرُ الذنوبَ سواه سبحانه. وهذا أكملُ ما يكون في الدُّعاء، ولهذا كان أعظمَ صِيغ الاستغفار وأفضلَها وأجمعَها للمعاني الموجبة لغفران الذنوب. وقوله في أول هذا الدعاء "اللَّهمَّ" هي بمعنى يا الله، حذف منها ياءَ النداء وعوض عنها بالميم المشددة، ولهذا لا يجوز الجمع بينهما؛ لأنَّه لا يجمع بين العِوَض والمعوَّض عنه، ولا تستعمل هذه الكلمة إلاَّ في الطلب، فلا يقال: اللَّهم غفور رحيم، وإنَّما يقال: اللَّهم اغفر لي وارحمني ونحو ذلك. وقوله: "أنتَ ربِّي لا إلَه إلاَّ أنت خلقتَنِي وأنا عبدُك" فيه تذَلُّلٌ وخضوعٌ، وانكسارٌ بين يدي الله، وإيمان بوحدانيته سبحانه في ربوبيَّتِه وألوهيته، فقوله: "أنت ربِّي" أي: ليس لي ربٌّ ولا خالق سواك، والربُّ هو المالك الخالقُ الرازقُ المدبِّر لشؤون خلقه، فهذا إقرارٌ بتوحيد الربوبية، ولهذا أعقبه بقوله "خلقتنِي" أي: أنت ربِّي الذي خلقتنِي ليس لي خالقٌ سِواك. وقوله: "لا إله إلاَّ أنت" أي: لا معبود بحقٍّ سواك، فأنت وحدك المستحق للعبادة، وهذا تحقيقٌ لتوحيد الألوهية؛ ولهذا أعقَبَه بقوله "وأنا عبدك" أي: وأنا عابدٌ لك، فأنت المعبودُ بحقٍّ ولا معبودَ بحقٍّ سواك. وقوله: "وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت" أي: وأنا على ما عاهدتُك عليه وواعدتُك من الإيمان بك والقيام بطاعتك وامتثال أوامرك، "ما استطعت" أي: على قَدْر استطاعتِي، فإنَّه سبحانه لا يكلِّف نفساً إلاَّ وُسْعَها.

وقوله: "أعوذ بك من شرِّ ما صنعت" أي: ألتجئُ إليك يا الله، وأَعتَصِمُ بك من شَرِّ الذي صنعتُه مِن شَرِّ مَغَبَّتِه، وسوء عاقبته، وحلول عقوبته، وعدم مغفرته، أو من العَوْد إلى مثله من شر الأفعال، وقبيح الأعمال، ورديء الخصال. وقوله: "أبوء لك بنعمتك عليَّ" أي: أعترف بعظم إنعامك عليَّ وترادف فضلك وإحسانك، وفي ضِمن ذلك شكر المنعم سبحانه والتَّبَرِّي من كفران النِّعَم. وقوله: "وأبوء بذنبِي" أي: أقرُّ بذنبِي، وهو ما ارتكبتُه من إثم وخطيئة، من تقصير في واجب أو فعلٍ لمحظور، والاعترافُ بالذَّنب والتقصيرُ سبيلٌ إلى التوبة والإنابة، ومَن اعترف بذنبه وتاب منه تاب الله عليه. وقوله: "فاغفر لي" أي: يا الله، جميعَ الذنوب فإنَّ رحمتَك واسعةٌ، وصفحَك كريمٌ، ولا يتعاظمُك ذنبٌ أن تغفرَه، فأنت الغفورُ الرحيم، ولا يغفر الذنوب إلاَّ أنت، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} 1. ثم إنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قد ختم هذا الدعاءَ ببيان الأجر العظيم والثواب الجزيل الذي يناله من يحافظ عليه كلَّ صباح ومساء، فقال: "من قالها - أي: هؤلاء الكلمات - من النهار، موقناً بها - أي: مصدقاً بها ومعتقداً لها، لكونها من كلام المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلاَّ وحي يوحى، صلوات الله وسلامه عليه - فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة".

_ 1 سورة: آل عمران الآية (135) .

وإنَّما حاز المحافظُ على هذا الدعاء هذا الموعود الكريم والأجر العظيم والثواب الجزيل؛ لأنَّه افتتح نهارَه واختتمه بتوحيد الله في ربوبيته وألوهيته والاعترافِ بالعبودية ومشاهدة المنة والاعتراف بالنعمة، ومطالعة عيب النفس وتقصيرها، وطلب العفو والمغفرة من الغفار، مع القيام على قدم الذل والخضوع والانكسار، وهي معان جليلةٌ وصفاتٌ كريمة يفتتح بها النهار ويختتم، جدير صاحبها أو المحافظ عليها بالعفو والغفران، والعتق من النيران، والدخول للجنان1، نسأل الله الكريم من فضله.

_ 1 انظر: كتاب نتائج الأفكار في شرح حديث سيِّد الاستغفار للسفاريني كاملاً.

ومن أذكار طرفي النهار (2)

114 / ومن أَذْكَار طَرَفَيِ النَّهَارِ لا يزال الحديثُ موصولاً حول بيان الأذكار المتعلقة بطرفي النهار. روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كَانَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمْسَى قَالَ: "أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى المُلْكُ للهِ، وَالحَمْدُ للهِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، رَبِّ أَسْأَلُكَ خَيْرَ مَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَخَيْرَ مَا بَعْدَهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهَا، رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَلِ وَسُوءِ الكِبَرِ، رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ، وَعَذَابٍ فِي القَبْرِ"، وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ ذَلِكَ أَيْضاً: "أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ المُلْكُ للهِ"1. وهذا دعاءٌ نافع وذكرٌ عظيم ووِردٌ مبارَك، يَحسنُ بالمسلم أن يُحافِظَ عليه كلَّ صباح ومساء تأسياً بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم واقتداءً بهديه القويم. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم في أوَّل هذا الدعاء "أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله" أي: دخلنا في المساء، ودخل فيه المُلْك كائناً لله ومختصاً به، وهذا بيان لحال القائل: أي عرفنا وأقررنا بأنَّ المُلْكَ لله، والحمد له لا لغيره، فالتجأنا إليه وحده، واستعنَّا به، وخصصناه بالعبادة والثناء عليه والشكر له، ولهذا أعلن بعد ذلك إيمانه وتوحيده فقال: "لا إله إ لا الله وحده لا شريك له" أي: لا معبود بحقٍّ إلاَّ الله، وينبغي أن نلاحظ أنَّ كلمةَ التوحيد لا إله إلاَّ الله مشتملةٌ على رُكنَيْن، لا يتحقق التوحيدُ إلاَّ بهما، وهما النفي والإثبات، فـ " لا إله " نافيةٌ لجميع المعبودات، و" إلاَّ الله " مثبتةٌ العبادة لله سبحانه،

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2723) .

ولعِظَم هذا الأمر وجَلالة شأنه أكَّدَه بقوله "وحده لا شريك له"، فقوله "وحده" فيه تأكيد للإثبات، وقوله: "لا شريك له" فيه تأكيد للنفي، وهذا تأكيد من بعد تأكيد اهتماماً بمقام التوحيد وتعليةً لشأنه. ولَمَّا أَقَرَّ لله بالوحدانية أَتْبَعَ ذلك بالإقرار له بالملك والحمد والقُدرة على كلِّ شيء، فقال: "له الملك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيء قدير" فالمُلكُ كلُّه لله، وبيده سبحانه ملكوت كلِّ شيء، والحمد كلُّه له ملكاً واستحقاقاً، وهو سبحانه على كلِّ شيء قدير، فلا يخرج عن قدرته شيءٌ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} 1. وفي الإتيان بهذه الجملة المتقدِّمة بين يَدي الدعاء فائدةٌ عظيمة، فهو أبلغُ في الدعاء، وأرجى للإجابة، ثمَّ بدأ بعد ذلك بذكر مسألته وحاجاته، فقال: "ربِّ أسألك خير هذه الليلة وخير ما بعدها" أي: أسألك خير ما أردتَ وقوعه في هذه الليلة للصالحين من عبادك من الكمالات الظاهرة والباطنة، ومن المنافع الدينية والدنيوية، "وخير ما بعدها" أي: ما بعدها من اللَّيالي. "وأعوذ بك من شرِّ ما في هذه الليلة وشرِّ ما بعدها" أي: وأعتَصِمُ بك وألتجئُ إليك من شرِّ ما أردتَ وقوعه فيها من شرور ظاهرة أو باطنة. وقوله: "ربِّ أعوذ بك من الكَسَل وسوء الكبر"، والمراد بالكسل عدم انبعاث النفس للخير مع ظهور القدرة عليه، ومَن كان كذلك فإنَّه لا يكون معذوراً، بخلاف العاجز، فإنَّه معذورٌ لعدم قدرته، والمرادُ بسوء الكِبَر، أي: ما يورثه كبرُ السن من ذهاب العقل، واختلاطِ الرأي، وغير ذلك مِمَّا يسوء به الحال.

_ 1 سورة: فاطر الآية (44) .

وقوله: "ربِّ أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر" أي: أستَجير بك يا الله من أن ينالَنِي عذابُ النار وعذابُ القبر، وإنَّما خَصَّهما بالذِّكر مِِن بين سائر أعذبة يوم القيامة لشدتهما، وعظم شأنهما، فالقبرُ أوَّلُ منازل الآخرة، ومَن سَلِم فيه سلم فيما بعده، والنَّارُ أَلَمُها عظيمٌ وعذابُها شديد، حَمانا الله وإياكم ووقانا ووقاكم. ويُستَحبُّ للمسلم إذا أصبح أن يقول ذلك، إلاَّ أنَّه يقول: "أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله، لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلِّ شيء قدير، ربِّ أسألك خير ما في هذا اليوم وخير ما بعده، وأعوذ بك من شرِّ ما في هذا اليوم وشرِّ ما بعدها، ربِّ أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، ربِّ أعوذ بك من عذاب في النار، وعذاب في القبر". ومن أذكار طرفي النَّهار ما رواه ابن السنِّي عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "من قال في كلِّ يومٍ حين يصبح وحين يمسي: حسبي الله لا إله إلاَّ هو عليه توكّلت وهو ربُّ العرش العظيم سبع مرّات كفاه الله عزَّ وجلَّ ما همّه من أمر الدنيا والآخرة"1. فهذا الذكر المبارك له أثرٌ بالغٌ ونفعٌ عظيمٌ في كلِّ ما يهمّ المسلم من أمر الدنيا والآخرة، ومعنى حسبي الله؛ أي: كافيني. ومن الأذكار العظيمة المشروعة في الصباح والمساء أن يقول المسلم إذا أصبح وإذا أمسى: سبحان الله وبحمده، مائة مرة، لما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ

_ 1 عمل اليوم والليلة (رقم:71) ، وقد روي مرفوعاً وموقوفاً، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ الضعيفة (رقم:5286) عن أبي الدرداء موقوفاً، ومثله لا يُقال بالرأي.

وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلاَّ أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ "1. وفي هذا الذِّكرُ العظيمُ جَمْعٌ بين التسبيح والحمد، والتسبيح فيه تَنْزيهٌ لله عن النَّقائص والعيوب، والحمدُ فيه إثباتُ الكمال له سبحانه، وتعيين المائة لحكمة أرادها الشارعُ، وخفي وجهها علينا. والسُّنَّةُ أن يَعقِدَ هذه التسبيحات بيده تأسِّياً به صلى الله عليه وسلم، لا بالسُّبْحَة أو الآلة أو نحو ذلك مِمَّا يفعله كثيرٌ من الناس، ففي سنن أبي داود عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْقِدُ التَّسْبِيحَ بِيَمِينِهِ"2. ومن المعلوم لدى كلِّ مسلم أنَّ خيرَ الهدي هو هَديُه صلى الله عليه وسلم، رزقنا الله وإياكم التمسكَ بسنَّته، ولزومَ نَهجِه، واقتفاءَ آثاره صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2692) . 2 سنن أبي داود (رقم:1502) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:1330) .

ومن أذكار طرفي النهار (3)

115 / ومن أَذْكَار طَرَفَيِ النَّهَارِ إنَّ مِن الأذكار العظيمة والأوراد المباركة التي كان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَحُثُّ أصحابَه على تعلُّمِها والمحافظة عليها كلَّ صباح ومساء ما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المخرَّجِ في سنن الترمذي وسنن أبي داود وغيرهما أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كان يُعَلِّم أصحابه، يقول: "إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ النُّشُورُ، وَإِذَا أَمْسَى فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ المَصِيرُ"1. فهذا دعاءٌ نبَوِيٌّ عظيمٌ، وذِكرٌ مُبَارَكٌ، يَجدُرُ بالمسلم أن يُحافظَ عليه كلَّ صباح ومساء، ويتأمَّلَ في معانيه الجليلة ودلالاته العظيمة، وكيف أنَّه قد اشتمل على تَذكير المسلم بعظيم فَضلِ الله عليه وواسِعِ مَنِّه وإكرَامِه، فنَوْمُ الإنسانِ ويقظَتُه، وحركتُه وسكونُه، وقيامُه وقعودُه إنَّما هو بالله عز وجل، فما شاء الله كان، وما لَم يشأ لَم يكن، ولا حولَ ولا قوةَ إلاَّ بالله العظيم. وقوله في الحديث: "بك أصبحنا" أي: بنعمتك وإعانتك وإمدادِك أصبحنا أي أدركنا الصباح، وهكذا المعنى في قوله "وبك أمسينا". وقوله: "وبك نَحيا وبك نموت" أي حالُنا مُستَمرٌّ على هذا في جميع الأوقات وسائر الأحوال، في حركاتنا كلِّها وشؤوننا جَميعها، فإنَّما نحن بك، أنت المعين وحدَك، وأَزِمَّةُ الأمور كلّها بيدك، ولا غِنَى لنا عنك طَرْفَة عَيْن، وفي هذا من الاعتماد على الله واللُّجوء إليه والاعتراف بِمَنِّه وفَضله ما يُحقِّقُ للمرء إيمانَه ويُقوِّي يقينَه ويُعْظِمُ صِلتَه بربِّه سبحانه.

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3391) وسنن أبي داود (رقم:5068) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:353) .

وقوله في الحديث: "وإليك النشور" أي المَرجِع يوم القيامة، ببَعْثِ النَّاس من قبورهم، وإحيائهم بعد إماتَتِهم. وقوله: "وإليك المصير" أي المرْجِعُ والمآب، كما قال تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} 1. وقد جعل صلى الله عليه وسلم قوله "وإليك النشور" في الصباح، وقوله: "وإليك المصير" في المساء رعايةً للتَّناسب والتشاكل؛ لأنَّ الإصباحَ يُشبه النشرَ بعد الموت، والنوم موتةٌ صغرى، والقيامَ منه يشبه النشرَ من بعد الموت، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 2. والإمساءَ يُشبه الموتَ بعد الحياة؛ لأنَّ الإنسانَ يصير فيه إلى النَّوم الذي يشبه الموت والوفاة. فكانت بذلك خاتمةُ كلِّ ذِكرٍ متجانسةً غايةَ المجانسة مع المعنى الذي ذكر فيه. ومِمَّا يُوَضِّح هذا ما ثبت عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يقول عند قيامه من النوم: "الحمدُ لله الَّذي أَحْيَانا بعد ما أمَاتَنَا وإليه النُّشور"، فسُمِّيَ النوم موتاً والقيامُ منه حياةً من بعد الموت، وسيأتي الكلامُ على هذا الحديث وبيانُ معناه عند الكلام على أذكار النوم والانتباه منه إن شاء الله. ومِن أذكار الصباح والمساء ذلكمُ الذِّكرُ العظيمُ، والدعاءُ النافع الذي علَّمه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه عندما سأله أن يُرْشدَه إلى كلمات

_ 1 سورة: العلق، الآية (8) . 2 سورة: الزمر، الآية (42) .

يقولوها كلَّ صباح ومساء، فقد روى الترمذي وأبو داود وغيرُهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: "يَا رَسُولَ اللهِ! مُرْنِي بِكَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ. قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وشِرْكِهِ". وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: "وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءاً، أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ". قَالَ: "قُلْهَا إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيتَ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجِعَكَ"1. فهذا دعاءٌ عظيمٌ يُستحبُّ للمسلم أن يقولَه في الصباح والمساء وعند النوم، وهو مشْتَملٌ على التعوُّذ بالله والالتجاء إليه والاعتصام به سبحانه من الشرور كلِّها، من مصادرها وبداياتها ومن نتائجها ونهايتها، وقد بدأه بتَوَسُّلات عظيمة إلى الله جل وعلا، بذكرِ جُملةٍ من نُعوتِه العظيمة وصفاته الكريمة، الدَّالَة على عَظمته وجلاله وكماله، فتوسل إليه بأنَّه "فاطرُ السَّموات والأرض"، أي خالقُهُما ومُبْدعهما وموجدُهما على غير مثال سابق، وأنَّه "عالِمُ الغيب والشهادة"، أي لا يخفى عليه خافية، فهو عليمٌ بكلِّ ما غاب عن العباد وما ظهر لهم، فالغيبُ عنده شهادة، والسِّرُّ عنده علانية، وعِلمُه سبحانه مُحيطٌ بكلِّ شيء، وتوسَّل إليه بأنَّه "ربُّ كلِّ شيء ومليكُه" فلا يَخرج شيءٌ عن ربوبيَّته، وهو المالكُ لكلِّ شيء، فهو سبحانه ربُّ العالمين، وهو المالكُ للخَلق أجمعين، ثمَّ أعلن بعد ذلك توحيدَه وأَقَرَّ له بالعبودية، وأنَّه المعبودُ بحقٍّ ولا معبودَ بحقٍّ سواه فقال: "أشهد أن لا إله إلاَّ أنت"، وكلُّ ذلك جاء مقدِّمةٍ بين يدي الدعاءِ، مُظهراً فيه العبدُ فاقتَه وفَقرَه

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3392) (رقم:3529) ، وسنن أبي داود (رقم:5067) (رقم:5083) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترمذي (رقم:2701) .

واحتياجَه إلى ربِّه، معترفاً فيه بجلاله وعَظَمته، مُثبتاً لصفاته العظيمة ونعوته الكريمة، ثمَّ ذكر بعد ذلك حاجتَه وسؤالَه، وهو أن يُعيذَه اللهُ من الشرور كلِّها فقال: "أعوذ بك من شَرِّ نفسي وشَرِّ الشيطان وشِرْكِه، وأن أقْتَرفَ على نفسي سوءاً أو أجُرَّه إلى مسلم" وفي هذا جمعٌ بين التعوُّذ بالله من أصول الشَّرِّ ومنابعه، ومن نهاياته ونتائجه، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في التعليق على هذا الحديث: "فذَكَرَ ـ أي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ـ مَصْدَرَي الشَّرِّ وهما النفسُ والشيطان، وذَكَر مَوْرِدَيْه ونِهَايَتَيْه وهما عَوْدُه على النفس أو على أخيه المسلم، فجمع الحديثُ مصادرَ الشَّرِّ ومَوارِدَه في أوجز لفظه وأخصره وأجمعه وأبينه"1. فالحديثُ فيه تعوذ بالله عز وجل من أربعة أمور تتعلق بالشر: الأول: شَرُّ النفس، وشَرُّ النفس يُولِّد الأعمالَ السيِّئَةَ والذُّنوبَ والآثامَ. والثاني: شَرُّ الشيطان، وعداوةُ الشيطان للإنسان مَعلومةٌ بتحريكه لفِعل المعاصي والذُّنوب وتَهيِيجِ الباطل في نفسه وقَلْبِه. وقوله: "وشِرْكه" أي ما يدعو إليه من الشِّرك، ويُروَى بفتح الشين والراء "وشَرَكه" أي: حبائلُه. والثالث: اقترافُ الإنسان السوءَ على نفسه، وهذه نتيجةٌ من نتائج الشَّرِّ عائدةٌ إلى نفس الإنسان. والرابع: جرُّ السُّوء على المسلمين، وهذه نتيجةٌ أخرى من نتائج الشَّرِّ عائدةٌ إلى الآخرين. وقد جمع الحديثُ التعوذَ بالله من ذلك كلِّه، فما أجْمَعَه من حديث، وما أعظمَ دِلالته، وما أكملَ إحاطته بالتَّخَلُّص من الشَّرِّ كلِّه.

_ 1 بدائع الفوائد (2/209) .

ومن أذكار طرفي النهار (4)

116 / ومن أَذْكَارِ طَرَفَيِ النَّهَارِ إنَّ من الدعوات العظيمة التي كان يحافظ عليها النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كلَّ صباح ومساء، بل كان لا يَدَعُها كلَّ ما أصبح وأمسى، ما ثبت في سنن أبي داود وسنن ابن ماجه وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنَ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي"1. وقد بدأ صلى الله عليه وسلم هذا الدعاءَ العظيمَ بسُؤال الله العافية في الدنيا والآخرة، والعافيةُ لا يَعدِلُها شيءٌ، ومن أُعطي العافيةَ في الدنيا والآخرة فقد كَمُلَ نَصِيبُه من الخير، روى الترمذي في سننه عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عمِّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: " قلتُ يا رسول الله، علِّمنِي شيئاً أسألُه اللهَ عز وجل، قال: سَلِ اللهَ العافيةَ، فمَكثْتُ أياماً، ثمَّ جِئتُ فقلت: يا رسول الله علِّمْنِي شيئاً أسأله اللهَ، فقال لي: يا عبَّاسُ يا عمَّ رسولِ الله، سَلُوا اللهَ العافيةَ في الدُّنيا والآخرَة"2. وفي المسند وسنن الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

_ 1 سنن أبي داود (رقم:5074) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3871) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح ابن ماجه (رقم:3121) . 2 سنن الترمذي (رقم:3514) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترمذي (رقم:2790) .

قال: "سَلُوا الله العَفْوَ والعافيةَ، فإنَّ أحداً لَم يُعْطَ بعد اليَقين خَيراً من العافية"1. والعَفْوُ: مَحْوُ الذنوب وسترُها، والعافيةُ: هي تأمين الله لعبده مِن كلِّ نِقْمَةٍ ومِحنَة، بصرف السُّوء عنه ووقايته من البلايا والأسقام وحفظه من الشرور والآثام. وقد سأل صلى الله عليه وسلم العافيةَ في الدنيا والآخرة، والعافيةَ في الدِّين والدنيا والأهلِ والمال، وأمَّا سؤال العافية في الدِّين فهو طلبُ الوقاية من كلِّ أمرٍ يَشِينُ الدِّينَ أو يُخِلُّ به، وأمَّا في الدنيا فهو طَلَب الوقاية من كلِّ أمرٍ يَضُرُّ العبدَ في دنياه مِن مُصيبة أو بَلاء أو ضَرَّاء أو نحو ذلك، وأمَّا في الآخرة فهو طَلَبُ الوقاية من أَهوال الآخرة وشدائدها وما فيها من أنواع العقوبات، وأمَّا في الأهل فبِوِقَايَتِهم مِن الفتَن وحِمايَتِهم من البَلاَيَا والمحن، وأمَّا في المال فبِحفظِه مِمَّا يُتْلِفُه مِن غَرَقٍ أو حَرْقٍ أو سَرِقَةٍ أو نحو ذلك، فجَمَع في ذلك سؤالَ الله الحفظَ من جَميع العَوارِض المُؤْذِيَة والأخطار المُضِرَّة. وقوله: "اللَّهمَّ استر عوراتي" أي: عيوبِي وخَلَلِي وتقصيري وكلُّ ما يُسوءُنِي كشفه، ويدخل في ذلك الحفظ من انكشاف العورة، وهي في الرَّجل ما بين السُّرَّة إلى الرُّكبة، وفي المرأة جَميع بدنها، وحَريٌّ بالمرأة أن تُحافظ على هذا الدُّعاء، ولا سيما في هذا الزمان الذي كَثُرَ فيه في أنحاء العالم تَهَتُّك النساء وعدَمُ عنايتِهِنَّ بالسَّتْرِ والحجاب، فتلك تُبْدِي ساعدَها، والأخرى تَكشِف ساقَها، وثالثةٌ تُبْدِي صَدْرَها ونَحْرَها، وأخرياتٌ يَفعلنَ ما هو أشدُّ

_ 1 مسند أحمد (1/3) ، وسنن الترمذي (رقم:3558) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:3632) .

وأقبحُ من ذلك، بينما المسلمةُ الصيِّنَة العفيفة تتجَنَّب ذلك كلَّه، وهي تسأل اللهَ دائماً وأبداً أن يَحفظَها من الفتن، وأن يَمُنَّ عليها بسَتْرِ عوْرَتِها. وقوله: "وآمن رَوْعاتي" هو مِن الأمن ضدُّ الخوف، والرَّوْعَاتُ جَمع رَوْعَة، وهو الخوفُ والحزن، ففي هذا سؤالُ الله أن يُجَنِّبَه كلَّ أمر يُخيفُه، أو يُحزنُه، أو يُقْلقُه، وذِكْرُ الرَّوْعات بصيغة الجمع إشارةٌ إلى كثرتها وتعدُّدِها. وقوله: "اللَّهمَّ احفظني من بين يدي ومن خَلفي وعن يَمينِي وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أُغْتال من تحتي" فيه سؤالُ الله الحفظَ من المهالكِ والشُّرورِ التي تعرض للإنسان من الجهات السِّت، فقد يأتيه الشَّرُّ والبلايا من الأمام، أو من الخلف، أو من اليمين، أو من الشمال، أو من فوقه، أو من تحته، وهو لا يدري من أيِّ جهة قد يَفْجَأُه البلاءُ أو تَحُلُّ به المصيبة، فسأل ربَّه أن يَحفظَه من جميع جهاته، ثم إنَّ مِن الشَّرِّ العظيم الذي يحتاج الإنسانُ إلى الحفظ منه شرَّ الشيطان الذي يَتَرَبَّصُ بالانسان الدوائر، ويأتيه من أمامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله؛ ليُوقِعَه في المصائب، وليَجُرَّه إلى البلايا والمهالك، وليُبْعِدَه عن سبيل الخير وطريق الاستقامة، كما في دعواه في قوله: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} 1. فالعَبدُ بحاجة إلى حِصن مِن هذا العدوِّ، ووَاقٍ له من كَيْده وشَرِّه، وفي هذا الدعاء العظيم تَحصينٌ للعبد من أن يَصِلَ إليه شَرُّ الشَّيطان من أيِّ جهة من الجهات؛ لأنَّه في حفظ الله وكَنَفِه ورعايته. وقوله: "وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتِي" فيه إشارةٌ إلى عظم

_ 1 سورة: الأعراف، الآية (17) .

خُطورة البلاء الذي يَحلُّ بالإنسان من تحته، كأن تُخسَف به الأرض من تحته، وهو نوعٌ من العقوبة التي يُحِلُّها الله عز وجل ببعض مَن يَمشون على الأرض، دون قيام منهم بطاعة خالقها ومُبدعها، بل يَمشون عليها بالإثم والعدوان والشَّرِّ والعصيان، فيُعاقَبون بأن تُزَلْزَلَ من تحتهم أو أن تُخسَفَ بهم جزاءً على ذنوبهم، وعقوبةً لهم على عصيانهم كما قال الله تعالى: {فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 1. ومن الأذكار العظيمة التي يَجدُرُ بالمسلم أن يُحافظَ عليها كلَّ صباح ومساء ما ثبت في مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن قال لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شَريكَ له، له المُلْكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيء قديرٌ، مَن قالَها عشرَ مرَّات حين يُصبح كَتَبَ الله له مائةَ حسنة، ومَحَا عنه مائة سيِّئَة، وكانت له عدلُ رَقبة، وحُفظ بِها يومَئذ حتى يُمسي، ومَن قالَها مثلَ ذلك حين يُمسي كان له مثل ذلك"2. ومن الأذكار العظيمة التي يُشرع للمسلم أن يقولَها كلَّ صباح مائة مرَّة3، ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " مَن قال لا إله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له، له المُلكُ وله الحمدُ وهو

_ 1 سورة: العنكبوت، الآية (40) . 2 المسند (2/360) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (6/1/136، 137) . 3 وهو ليس مختصًّا بوقت الصباح، لكن الإتيان به في الصباح أفضل؛ لِمَا في ذلك من المبادرة بالخير، وليحصل أجره من أوَّلِ يومه، وليكون حرزاً له من الشيطان من بداية اليوم، ولهذا أورده العلماء في جملة أذكار الصباح.

على كلِّ شيء قديرٌ في يوم مائة مرَّة كانت له عدل عَشر رقاب، وكُتِبَت له مائةُ حسنة، ومُحيت عنه مائةُ سيِّئة، وكانت له حِرْزاً من الشيطان يومَه ذلك حتى يُمْسي، ولَم يَأت أحدٌ بأفضَلَ مِمَّا جاء به، إلاَّ رجلٌ عَمِلَ أكثرَ من ذلك، ومَن قال: سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرَّة، حُطَّت خطاياه ولو كانت مثلَ زَبَدِ البحر" 1. وفي هذا دلالةٌ على عِظم شَأن كلمة التوحيد لا إله إلاَّ الله، التي هي أَجَلُّ الكلمات على الإطلاق، وأفضل ما قاله النبيُّون، ولأجلها قامت الأرضُ والسموات، وخُلقت الخلاَئقُ والبَرِيَّات، وأهلُها هم أهلُ السعادة والفلاح، والفوزِ في الدنيا والآخرة، فكلمةٌ هذا شأنُها حَريٌّ بالمسلم أن تَعظُمَ عِنايتُه بها، والله وحده بيده التوفيقُ والسداد.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:3293) ، وصحيح مسلم (رقم:2691) .

ومن أذكار الصباح (1)

117 / ومن أذكار الصباح إنَّ من الأذكار العظيمة التي كان يقولها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كلَّ صباح، ما رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن أَبْزى رضي الله عنه قال: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلاَمِ، وَكَلِمَةِ الإِخْلاَصِ، وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ"1. وما أجْمَلَ أن يَفتَتِحَ المسلمُ يومَه بهذه الكلمات العظيمة، المشتملة على تجديد الإيمان، وإعلان التوحيد، وتأكيدِ الالتزامِ بدين محمد صلى الله عليه وسلم، والاتِّباع لِمِلَّّة إبراهيم الخليل عليه السلام، الحنيفية السمحة، والبُعدِ عن الشرك كلِّه صغيره وكبيره. فهي كلماتُ إيمانٍ وتوحيد، وصدقٍ وإخلاص، وخضوعٍ وإذعان، ومتابعةٍ وانقياد، جديرٌ بِمَن يُحافظ عليها أن يتأمَّل في دلالاتها العظيمة ومعانيها الجليلة. وقوله: "أصبحنا على فطرة الإسلام" أي: مَنَّ الله علينا بالإصباح ونحن على فطرة الإسلام مستمسكين بها، محافظين عليها، غير مُغيِّرين ولا مُبَدِّلين. وقوله: "فطرة الإسلام" أي: دين الإسلام الذي فطر الله الناس عليه، وذلك بأن يقيمَ المرءُ وجهَه لدين الله حنيفاً، بالتوجُّه بالقلب والقصد والبدن إلى الالتزام بشرائع الدين الظاهرة والباطنة، كما قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ

_ 1 مسند أحمد (3/407) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4674) .

ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1. قال ابن كثير - رحمه الله - في معنى الآية: "يقول تعالى فسَدِّد وجهك واستمر على الدِّين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملَّة إبراهيم الذي هداك الله لها وكمّلها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازمٌ فطرتَك السليمة التي فطر الخلقَ عليها، فإنَّه تعالى فطر خلقَه على معرفته وتوحيده، وأنَّه لا إله غيره"2 اهـ كلامه رحمه الله. فهذا الأصل في جميع الناس، ومن خرج عن هذا الأصل فلعارض عَرَضَ لفطرته فأفسدها، كما في حديث عياض المجاشعي رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه أنَّه قال: "إنَّي خَلقْتُ عبادي حُنفاء كلَّهم، وإنَّهم أَتَتْهُم الشياطينُ فاجْتَالَتْهم عن دينهم، وحرَّمَتْ عليهم ما أحْلَلْتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يُشركوا بي ما لَم أُنزِل به سلطاناً" رواه مسلم في صحيحه3. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا من مَولُود إلاَّ يُولَد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانه"4. ولا شكَّ أنَّ نعمة الله على عبده عظيمةٌ أن يُصبحَ حين يُصبحُ وهو على فطرة سليمة لَم يُصبها تَلَوُّثٌ أو تَغَيُّر أو انحرافٌ. وقوله: "وكلمة الإخلاص" أي: وأصبحنا على كلمة الإخلاص، وهي كلمة التوحيد لا إله إلاَّ الله، تلكم الكلمةُ العظيمة الجليلة التي هي أفضلُ

_ 1 سورة: الروم، الآية (30) . 2 تفسير ابن كثير (6/320) . 3 صحيح مسلم (رقم:2865) . 4 صحيح البخاري (رقم:1359) ، وصحيح مسلم (رقم:2658) .

الكلمات العظيمة وأجلُّها على الإطلاق، بل هي رأس الدِّين وأساسُه ورَأسُ أمره، لأجلها خُلقت الخليقة، وأُرْسِلَت الرُّسُل، وأنزِلت الكُتب، وبها افترق الناسُ إلى مؤمنين وكفار، وهي زُبدة دعوة المرسلين وخلاصة رسالاتِهم، وهي أعظم نعم الله على عباده، وفي هذا يقول سفيان بن عيينة رحمه الله: "ما أنعم الله على عبد من العباد نعمةً أعظم من أن عرَّفهم لا إله إلاَّ الله"1. وكلمة لا إله إلاَّ الله هي كلمةُ إخلاصٍ وتوحيد، ونبذٍ للشرك، وبراءةٍ منه ومن أهله، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2. وإذا أصبح العبدُ وهو على هذه الكلمة العظيمة لَم يُغيِّر ولَم يُبَدِّل فقد أصبح على خير حال، ولعِظَم شأن بدء اليوم بهذه الكلمة العظيمة جاء الحثُّ على الإكثار من قولها مرات عديدة كلَّ صباح، وقد سبق ذكرُ أجر مَن قالها حين يصبح عشر مرات، وأجرِ من قالها حين يصبح مائة مرة. وقوله: "وعلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم" أي: وأصبحنا على ذلكم الدين العظيم الذي رضيه الله لعباده ديناً، وبعث به نبيه الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم، وقال فيه سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 3، وقال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} 4،

_ 1 ذكره ابن رجب في كلمة الإخلاص (ص:53) . 2 سورة: الزخرف، الآية (26 - 28) . 3 سورة: المائدة، الآية (3) . 4 سورة: آل عمران، الآية (19) .

وقال سبحانه: {وََمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1. فهذا هو دين النَّبِيّ الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الاستسلامُ لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، وإنَّ نعمة الله جلَّ وعلا على عبده عظيمة أن يصبح على هذا الدين العظيم والصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. يقول الله تعالى مذكراً عباده الذين حباهم بهذه النعمة ومنَّ عليهم بها: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} 2، ويقول تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 3. فللَّه ما أعظَمَها من منَّة وما أجلَّها من نعمة. وقوله: "وعلى ملَّة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين" أي: وأصبحت على هذه الملة المباركة ملة إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، وهي الحنيفيةُ السمحة والتمسكُ بالإسلام والبعد عن الشرك، ولهذا قال "حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين"، وهي ملَّة مباركةٌ لا يتركها ولا يرغب عنها إلاَّ مَن حَكَمَ على نفسه بالغيِّ والسَّفَه، ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} 4.

_ 1 سورة: آل عمران، الآية (85) . 2 سورة: الحجرات، الآية (7) . 3 سورة: النور، الآية (21) . 4 سورة: البقرة، الآية (130) .

وقد أمر الله عز وجل نبيَّه صلى الله عليه وسلم باتِّباع هذه الملَّة وهداه إليها، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1، وقال تعالى مُمْتَنًّا على عباده بهذه النعمة: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} 2. وإذا أصبح العبدُ وهو على هذه الملَّة المباركة الحنيفية السَّمحة فقد أصبح على خير عظيم وفضل عميم. فكم هو جميلٌ وعظيمٌ أن يَفتَتِحَ المسلمُ يومَه بهذه الكلمات المباركة، ويومٌ يُفتَتَحُ بكلمات هذا شأنُها من قلب صادق أَكْرِمْ به من يوم.

_ 1 سورة: الأنعام، الآية (161) . 2 سورة: الحج، الآية (78) .

ومن أذكار الصباح (2)

118 / ومن أَذْكَار الصّباح إنَّ من الدعوات العظيمة النافعة التي كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُلازمُ المحافظةَ عليها كلَّ صباح ما ثَبت في مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه من حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ يُسَلِّمُ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ عِلْماً نَافِعاً، وَرِزْقاً طَيِّباً، وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً "1. ومن يتأمَّل هذا الدعاءَ العظيمَ يَجدُ أنَّ الإتيانَ به في هذا الوقت بعد صلاة الصبح في غاية المناسبة؛ لأنَّ الصبحَ هو بدايةُ اليوم ومُفتَتَحُه، والمسلمُ ليس له مَطمع في يومه إلاَّ تحصيل هذه الأهداف العظيمة والمقاصد الجليلة المذكورة في هذا الحديث، وهي العلمُ النافع، والرِّزق الطيِّب، والعمل المتقبَّل، وكأنَّه في افتتاحه ليومه بذكر هذه الأمور الثلاثة دون غيرها يُحدِّدُ أهدافَه ومقاصدَه في يومه، ولا ريب أنَّ هذا أجمعُ لقلب الإنسان وأضبط لسيره ومسلكه، بخلاف مَن يصبح دون أن يستشعر أهدافَه وغاياته ومقاصدَه التي يعزم على القيام بها في يومه، ونجد المُعتنين بالتربية والآداب يُوصُون بتحديد الأهداف في كلِّ عمل يقوم به الإنسان، وفي كلِّ سبيل يسلكه؛ ليكون ذلك أَدعَى لتحقيق أهدافه، وأسلمَ من التشتُّت والارتباك، وأضبطَ له في مساره وعمله، وما من شكٍّ أنَّ مَن يسيرُ وَفْقَ أهدافٍ محدَّدةٍ ومقاصدَ معيَّنةٍ أكملُ وأضبطُ وأسلمُ مِمَّن يسير دون تحديد أهداف ودون تعيين مقاصد. والمسلمُ ليس له في يومه بأجمعه، بل ليس في أيامه كلِّها إلاَّ الطمع في

_ 1 مسند أحمد (6/322) ، وسنن ابن ماجه (رقم:925) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح ابن ماجه (رقم:753) .

تحصيل هذه الأهداف الثلاثة وتكميلها، ونيلها من أقرب وجه وأحسن طريق. وعلى هذا فما أجملَ أن يُفتتح اليومُ بذكر هذه الأمور الثلاثة التي تحدد أهداف المسلم في يومه وتعيِّن غاياتِه ومقاصدَه. وليس المسلم في إتيانه بهذا الدعاء في مفتتح يومه يقصد تحديد أهدافه فحسب، بل هو يتضَرَّعُ إلى ربِّه، ويلجأ إلى سيِّده ومولاه، بأن يَمُنَّ عليه بتحصيل هذه المقاصد العظيمة والأهداف النبيلة؛ إذ لا حول له ولا قوة، ولا قدرة عنده على جَلب نفع أو دَفع ضُرٍّ إلاَّ بإذن ربِّه سبحانه، فهو إليه يلجأ، وبه يستعين، وعليه يعتمد ويتوكل. فقول المسلم في كلِّ صباح "اللَّهمَّ إني أسألك علماً نافعا ورزقاً طيِّباً، وعملاً متقبَّلاً" هو استعانةٌ منه في صباحه وأوَّل يومه بربِّه سبحانه بأن ييسر له العسير، ويذلِّل له الصِّعابَ، ويعينه على تحقيق غاياته المباركة الحميدة. وتأمَّل كيف بدأ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هذا الدعاءَ بسؤال الله العلم النافع، قبل سؤاله الرِّزق الطيب والعمل المتقبَّل، وفي هذا إشارة إلى أنَّ العلمَ النافع مقدَّمٌ وبه يبدأ، كما قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 1، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، وفي البدء بالعلم النافع حكمةٌ ظاهرة لا تخفى على المتأمل، ألا وهي أنَّ العلم النافع به يستطيع المرءُ أن يميز بين العمل الصالح وغير الصالح، ويستطيع أن يميز بين الرزق الطيب وغير الطيب، ومن لَم يكن على علم فإنَّ الأمور قد تختلط عليه فيقوم بالعمل يحسبه صالحاً نافعاً، وهو ليس كذلك، والله تعالى يقول: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

_ 1 سورة: محمد، الآية (19) .

وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 1، وقد يكتسب رزقاً ومالاً ويظنُّه طيِّباً مفيداً، وهو في حقيقته خبيثٌ ضارٌّ، وليس للإنسان سبيلٌ إلى التمييز بين النافع والضار والطيِّب والخبيث إلاَّ بالعلم النافع، ولهذا تكاثرت النصوصُ في الكتاب والسنَّة، وتضافرت الأدلَّة في الحثِّ على طلب العلم والترغيب في تحصيله وبيان فضل من سلك سبيله {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} 2. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "علماً نافعاً" فيه دلالةٌ على أنَّ العلمَ نوعان؛ علمٌ نافعٌ وعلم ليس بنافع، وأعظمُ العلم النافع ما ينال به المسلمُ القربَ من ربِّه والمعرفةَ بدينه والبصيرةَ بسبيل الحق الذي ينبغي أن يسير عليه، وتأمَّل في هذا قول الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3، فحَريٌّ بالمسلم في يومه أن يَعْتَنِيَ بالقرآن الكريم وبمذاكرته ومدارسته، وأن يَعتَنِي بسنة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم المبيِّنة له والشارحَة لدلالته ومقاصده. وقوله في الحديث "ورزقاً طيباً" فيه إشارةٌ إلى أنَّ الرزق نوعان طيِّبٌ وخبيث، والله تعالى طيب لا يقبل إلاَّ طيباً، وقد أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} 4،

_ 1 سورة: الكهف، الآيتان (103 ـ 104) . 2 سورة: الزمر، الآية (9) . 3 سورة: المائدة، الآيتان (15 ـ 16) . 4 سورة: المؤمنون، الآية (51) .

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} 1، وقد بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بتحليل الطيب وتحريم الخبيث كما قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 2، فحَريٌّ بالمسلم في يومه أن يتَحَرَّى المالَ الطيِّبَ الحلالَ، والرِّزقَ السليمَ النافعَ، ويَحذرَ أشدَّ الحذَر من الأموال الخبيثة والمكاسب المحرمة. وقوله في الحديث: "وعملاً متقبلاً" وفي رواية: "وعملاً صالحاً" فيه إشارةٌ إلى أنَّه ليس كلُّ عملٍ يَتَقرَّب العبدُ به إلى الله يكون مُتقبَّلاً، بل المُتقبَّل من العمل هو الصالحُ فقط، والصالحُ هو ما كان لله وحده وعلى هدي وسنَّة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 3، قال الفضيل بن عياض في معنى الآية: "أي: أخلَصُه وأصوَبُه، قيل: يا أبا علي وما أخلَصُهُ وأَصْوَبُه قال: إنَّ العملَ إذا كان خالصاً ولَم يكن صواباً لَم يُقبَل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لَم يُقبَل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالصُ ما كان لله، والصواب ما كان على السُّنَّة" 4. فهذا دعاءٌ عظيمُ النَّفع كبيرُ الفائدة، يَحسُنُ بالمسلم أن يُحافظَ عليه كلَّ صباح تأسياً بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ثمَّ يُتبِعُ الدعاءَ بالعمل، فيَجمع بين الدُّعاء وبَذلِ الأسباب، لينَالَ هذه الخيراتِ العظيمةَ والأفضالَ الكريمةَ، والله وحده الموفِّق، والمعين على كلِّ خير.

_ 1 سورة: البقرة، الآية (172) . 2 سورة: الأعراف، الآية (157) . 3 سورة: الملك، الآية (2) . 4 رواه ابن أبي الدنيا في كتابه الإخلاص والنية (ص:50 ـ 51) ، وأبو نعيم في الحلية (8/95) .

ومن أذكار الصباح (3)

119 / ومن أذكار الصباح إنَّ من الأذكار العظيمة الجامعة التي يُستحب للمسلم أن يواظبَ عليها كلَّ صباح أن يقول: "سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ"، وذلك لِما روى مسلم في صحيحه عن جُوَيرية رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا [أي موضع صلاتها] ، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: "مَا زِلْتِ عَلَى الحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ اليَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ"1. فهذا ذِكرٌ عظيمٌ مبارَك أرشد إليه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وبيَّن أنَّه ذِكرٌ مُضاعَفٌ، يزيد في الفضل والأجر على مجرَّد الذِّكر بسبحان الله أضعافاً مضاعفة؛ لأنَّ ما يقوم بقلب الذَّاكر حين يقوله من معرفة الله وتَنْزيهه وتعظيمه بهذا القدر المذكور من العدد أعظمُ مِمَّا يقوم بقلب مَن قال "سبحان الله" فقط. والمقصودُ أنَّ الله سبحانه يستحقُّ التسبيح بذلك القدر والعدد، كقوله صلى الله عليه وسلم: "ربَّنا ولك الحمد، ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئتَ من شيء بعد"، وليس المراد أنَّ العبدَ سبَّح تسبيحاً بذلك القدر؛ فإنَّ فعل العبد محصور، وإنَّما المراد ما يستحقُّه الرّبُّ من التسبيح فذاك الذي

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2726) .

يعظم قدرُه1، قال العلاَّمة ابن القيم - رحمه الله - في شرح هذا الحديث وبيان ما فيه من لطائف جليلةٍ ومعارف عظيمة: "وهذا يُسمَّى الذِّكرُ المضاعف، وهو أعظمُ ثناءً من الذِّكر المفرد، وهذا إنَّما يظهرُ في معرفة هذا الذِّكر وفهمه، فإنَّ قولَ المسبِّح: "سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ" تضمَّن إنشاءً وإخباراً: تضمَّن إخباراً عمّا يستحقُّه الرَّبُّ من التسبيح عددَ كلِّ مخلوق كان أو هو كائنٌ إلى ما لا نهايةَ له، فتضمَّن الإخبارَ عن تنزيههِ الرّبَّ وتعظيمه والثناءِ عليه هذا العددَ العظيمَ، الذي لا يبلغهُ العادُّون، ولا يُحصيه المُحصون. وتضمَّن إنشاءَ العبدِ لتسبيحٍ هذا شانُه، لا أنَّ ما أتى به العبدُ من التسبيح هذا قدرُه وعددُه، بل أخبر أنَّ ما يستحقُّه الرَّبُّ سبحانه وتعالى من التسبيح هو تسبيحٌ يبلغ العددَ الذي لو كان في عدد ما يزيد عليه لذَكره، فإنَّ تجدُّدَ المخلوقات لا ينتهي عدداً، ولا يُحصَى الحاضر. وكذلك قوله "ورضا نفسه"، وهو يتضمَّن أمرَين عظيمَين: أحدهما: أن يكون المرادُ تسبيحاً هو في العظمة والجلال مساوٍ لرضا نفسه، كما أنَّه في الأول مخبرٌ عن تسبيحٍ مساوٍ لعدد خلقه، ولا ريبَ أنَّ رضا نفس الرَّبِّ أمرٌ لا نهاية له في العظمة والوصف، والتسبيحُ ثناءٌ عليه سبحانه يتضمّن التعظيم والتنزيه، فإذا كانت أوصافُ كماله ونعوتُ جلاله لا نهايةَ لها ولا غاية، بل هي أعظمُ من ذلك وأجلُّ، كان الثناءُ عليه بها كذلك؛ إذ هو تابِعٌ لها إخباراً وإنشاءً، وهذا المعنى ينتظمُ المعنى الأول من غير عكس.

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى (33/12) .

وإذا كان إحسانُه سبحانه وثوابُه وبركتُه وخيرُه لا منتهى له، وهو من موجباتِ رضاه وثمرتهِ فكيف بصفة الرضا. وقوله: "وزِنَة عرشه" فيه إثباتُ العرش، وإضافته إلى الرَّبِّ سبحانه وتعالى، وأنَّه أثقلُ المخلوقات على الإطلاق؛ إذ لو كان شيءٌ أثقلَ منه لوُزن به التسبيح. فالتضعيفُ الأول للعدد والكميَّة، والثاني للصفةِ والكيفية، والثالث للعِظَم والثِّقَل وكِبَر المقدار. وقوله: "ومِدادَ كلماته" هذا يعمُّ الأقسام الثلاثة ويشملها؛ فإنَّ مدادَ كلماته سبحانه وتعالى لا نهايةَ لقدره، ولا لصفته، ولا لعدده، قال تعالى: {قُُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} 1، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 2، ومعنى هذا أنَّه لو فرض البحرُ مداداً، وجميعُ أشجار الأرض أقلاماً، والأقلامُ تستمدُّ بذلك المداد، فتفنى البحار والأقلام، وكلمات الرَّبِّ لا تفنى ولا تنفد. والمقصودُ أنَّ في هذا التسبيح من صفات الكمال ونعوت الجلالِ ما يوجب أن يكون أفضلَ من غيره ... ". اهـ كلامه رحمه الله3. هذا وقد نبَّه العلماء ـ رحمهم الله ـ إلى أهميَّة معرفة العبد بمعاني هذه

_ 1 سورة: الكهف، الآية (109) . 2 سورة: لقمان، الآية (27) . 3 المنار المنيف (ص:27 ـ 30) .

الكلمات واستحضاره لدلالتها، وأنَّه بحسب ما يقوم بقلب العبد من هذه المعرفة والاستحضار يكون له من المزيَّة والفضل ما ليس لغيره، ويكون تأثيرُ هذا الذِّكر فيه أبلغَ من تأثيره في غيره. ومن أتى بهذا الذِّكر أو بغيره من الأذكار المأثورة دون استحضار منه للمعنى ولا تعقُّل للدلالة فإنَّ تأثيرَ الذِّكر فيه يكون ضعيفاً. وعلى كلٍّ فالجدير بالمسلم أن يُواظبَ على هذا الذِّكر المبارك صباحَ كلِّ يوم، وأن يجتهدَ في استحضار معناه وتعقُّل دلالته، وبالله وحده التوفيق، وهو سبحانه المعينُ والهادي إلى سواء السبيل.

فضل الصباح وبركته

120 / فضلُ الصَّباح وبَرَكَتُه روى الإمام مسلمٌ في صحيحه عن أبي وائل شقيق بن سلمة الأسدي قال: "غَدَوْنا عَلَى عَبدِ الله بن مَسْعود رضي الله عنه يَوْماً بَعْدَ مَا صَلَّينَا الغَدَاةَ، فسلّمنا بالباب، فأُذِن لنا، قال: فَمَكَثْنَا بالباب هُنيَّةً [أي انتظرنا وتريَّثنا قليلاً] قال: فخرجت الجاريةُ فقالت: أَلاَ تَدْخُلُونَ فدخلنا، فإذا هو جالسٌ يُسبِّح، فقال: ما منعكم أن تدخلوا وقد أُذِن لكم فقلنا: لا، إلاَّ أنَّا ظنَنَّا أنَّ بعضَ أهل البيت نائمٌ، قال: ظَنَنْتُم بآل ابن أمِّ عَبدٍٍ غَفْلَةً [يعنِي نفسَه فإنَّ أمَّ عبدٍ الهذلية أمُّه، وهي صحابيَّةٌ رضي الله عنه وعنها] قال: ثمَّ أَقبل يُسبِّح حتى إذا ظنَّ أنَّ الشمسَ قد طلعت، قال: يا جارية: انظري هل طلعت قال: فنظرت فإذا هي لَم تَطلُع، فأقبل يُسبِّح، حتى إذا ظنَّ أنَّ الشمسَ قد طلعت قال: يا جارية: انظري هل طلعت قال: فنظرت فإذا هي قد طلعت، قال: الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا، ولم يُهلكنا بذنوبنا"1. إنَّ هذا الأثرَ يُعطي المتأمِّلَ صورةً واضحةً ودلالةً ناصعةً على تلك الحياة الجادَّة والهِمَّة العالية والاستثمار للوقت عند السلف الصالح رحمهم الله، ولا سيما الصحابةُ رضي الله عنهم وأرضاهم، مع فقهٍ منهم بالأوقات ومعرفةٍ لأقدارها والفاضلِ منها، وإعطاءِ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه. فهذا الوقتُ الذي دخل فيه أبو وائل - رحمه الله - ومَن معه على عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه وقتٌ مبارَكٌ وثمينٌ للغاية، وهو وقتُ ذِكرٍ لله وجدٍّ ونشاط وهمَّة في الخير، إلاَّ أنَّ كثيراً من الناس يُهملونه ويفرِّطون فيه ولا يعرفون له

_ 1 صحيح مسلم (1/564) .

مكانتَه وقدرَه، فهو ضائعٌ إمَّا في النّوم، أو في الكَسَل والفتور، أو بشغله في التوافه من الأمور، مع أنَّ أوَّلَ اليوم بمنْزلة شبابه، وآخرَه بمنزلة شيخوخته1، ومَن شبَّ على شيءٍ شاب عليه، ولهذا فإنَّ ما يكون من الإنسان في باكورة اليوم وأوَّله ينسحب على بقيَّة يومه، إن نشاطاً فنشاطٌ، وإن كسلاً فكسل، ومَن أمسك بزمام اليوم وهو أوَّلُه سلم له يومُه كلُّه بإذن الله وأُعين فيه على الخير، وبُورِك له فيه، وقد قيل: "يومُك مثل جملك إن أمسكتَ أوَّلَه تبِعَك آخرُه"، وهذا المعنى مستفادٌ من أثر ابن مسعود المتقدِّم، فإنَّه رضي الله عنه لَمَّا تحقَّق له حفظُ أوَّل اليوم بالذِّكر قال: "الحمدُ لله الذي أقالَنا يومَنا هذا ولم يهلكنا بذنوبنا". بل إنَّ المحافظةَ على الذِّكرِ في هذا الوقت يُعطي الذَّاكرَ هِمَّةً وقوَّةً ونشاطاً في يومِه كلِّه، يقول ابن القيم رحمه الله: "حضرتُ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية مرَّةً صلّى الفجرَ، ثم جلس يذكرُ اللهَ تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفتَ إليَّ وقال: هذه غدوتِي، ولو لَم أتغذَّ هذا الغِذاءَ سقطت قوَّتِي، أو كلاماً قريباً من هذا". اهـ2. وقد ثبت في السُّنّة أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دعا اللهَ أن يُبارك لأمَّتِه في هذا الوقت، فقد روى أبو داود والترمذي والدارمي وغيرُهم عن صخر بن وَداعة الغامديِّ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهمَّ بارِك لأمَّتِي في بكورِها "، وكان إذا بعث سريَّةً أو جيشاً بعثهم أوَّلَ النهار، وكان صخرٌ رضي الله عنه تاجراً، فكان يبعثُ تجارتَه من أوَّلِ النهار، فأثرى وكثُر مالُه3.

_ 1 مفتاح دار السعادة لابن القيم (2/216) . 2 الوابل الصيب (ص:85 ـ 86) . 3 سنن أبي داود (رقم:2606) ، وسنن الترمذي (رقم:1212) .

وقد روى هذا الحديث جمعٌ من الصحابة، منهم عليُّ بن أبي طالب، وابنُ عباس، وابن مسعود، وابنُ عمر، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وعبد الله ابن سلاَم، والنّواس بن سمعان، وعمران بن حُصين، وجابر بن عبد الله وغيرُهم رضي الله عنهم أجمعين1، وهو حديث ثابتٌ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. ونظراً لأهميَّة هذا الوقت وعِظَم بركتِه وكثرة ما فيه من خيرٍ، فإنَّ السلفَ رحمهم الله كانوا يكرهون النَّومَ فيه وإضاعتَه بالكسل والعجز، يقول ابن القيم رحمه الله ـ وهو العلاَّمة المُربِّي ـ في كتابه مدارج السالكين: "ومِن المكروه عندهم ـ أي السلفُ رحمهم الله ـ النَّومُ بين صلاة الصبح وطلوع الشمس؛ فإنَّه وقتُ غنيمَة، وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزيَّةٌ عظيمةٌ، حتى لو ساروا طول ليلِهم لَم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمسُ، فإنَّه أوَّلُ النهار ومفتاحُه، ووقتُ نزول الأرزاق، وحصولِ القَسْم، وحلول البركة، ومنه ينشأ النهار، وينسحبُ حكمُ جميعه على حكم تلك الحصَّة، فينبغي أن يكون نومُها كنوم المضطر" اهـ2. ومِن الآثار الواردة عن السلف ـ رحمهم الله ـ في هذا المعنى ما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنَّه رأى ابناً له نائماً نومةَ الصُّبحة، فقال له: "قُم، أتنامُ في الساعة التي تقسَّم فيه الأرزاق"3. وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّه قال: "النَّومُ على ثلاثة أوجه، نوم خُرْق، ونوم خُلْق، ونوم حُمْق؛ فأمَّا النوم

_ 1 انظر: صحيح الترغيب والترهيب (2/308) . 2 مدارج السالكين (1/459) .

الخُرْق فنومةُ الضُّحى يقضي الناسُ حوائجَهم وهو نائمٌ، وأمَّا النومُ الخلْق فنومُ القائلةِ نصف النهار، وأمَّا نوم الحمْق فنومٌ حين تحضر الصلاة"1. يقول العلاَّمة ابنُ القيم - رحمه الله - في كتابه زاد المعاد: "ونوم الصُّبحة يَمنع الرِّزقَ؛ لأنَّ ذلك وقتٌ تطلبُ فيه الخليقةُ أرزاقَها، وهو وقتُ قِسمةِ الأرزاق، فنومُه حرمانٌ إلاَّ لعارضٍ أو ضرورة، وهو مُضِرٌّ جدًّا بالبدن لإرخائه البدنَ، وإفسادِه للفضلاتِ التي ينبغي تحليلُها بالرياضة، فيُحدِثُ تكسُّراً وعيًّا وضعفاً، وإن كان قبل التبرُّز والحركة والرياضة وإشغالِ المعدة بشيء فذلك الدّاء العُضالُ المولِّدُ لأنواع من الأدواء" اهـ2.وقد ذكر نحواً من هذا العلاَّمةُ ابنُ مُفلح - رحمه الله - في كتابه الآدابُ الشرعية3. وبهذا يتبيَّن قيمةُ هذا الوقت المبارك وعِظمُ نفعه، وأنَّه وقتُ جدٍّ ونشاط، وذكرٍ لله عزَّ وجلَّ، وهو وقتُ نزولِ الأرزاق، وحصول القسْم، وحلول البركة، وقد كان للسلف ـ رحمهم الله ـ معه شأنٌ عظيم؛ إذ أدركوا أهميَّته وقيمَته، ولغيرهم معه شأن آخر. نسأل اللهَ أن يُلهمنا رشدَ أنفسنا، وأن يُوفِّقنا جميعاً لكلِّ خير، وأن يرزقنا اتِّباعَ نهجَ السلف الصالح وسلوكَ سبيلهم.

_ 1 رواه البيهقي في الشعب (4/182) ، وأورده ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/162) . 2 زاد المعاد (4/242) . (3/162) .

121 / أَذْكَارُ النَّوْمِ إنَّ من الأوراد المباركة التي كان يُحافظُ عليها النَّبِيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم كلَّما آوى في الليل إلى فراشه لينامَ ما ثبت في الصحيحين عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها " أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرَأَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ "1. فهذا تعوُّذٌ عظيمٌ، وحِرْزٌ للإنسان، وحافِظٌ له بإذن الله من أن يَمَسَّه في منامه مكروهٌ، أو ينالَه شَرٌّ أو أذى، أو يصيبَه شيءٌ من الهوَام المُؤْذِية أو الحشرات القاتلة، لا سيَما والإنسان عند نومه يكون غافلاً عن كلِّ ما يجيء إليه، وعن جميع ما يَحدُث له، فإذا اشتغل عندما يَأوي إلى فراشه بهذا الوِرْدِ العظيم والحِرْزِ المتين، حُفِظَ بإذن الله وكُفِيَ وَوُقِيَ، ولَم يَزَلْ عليه من الله حافظٌ إلى أن يُصبح، وهذا يُؤَكِّدُ أهميَّةَ محافظة المسلم على هذا الوِرْدِ كلَّ ليلة عند ما يأوي إلى فراشه؛ لينال هذا الحفظَ، ولتَتَحَقَّقَ له تلك العناية والرعاية. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحافظُ على هذا الوِرْدِ أشدَّ المحافظة، ولا يَترك قولَه في كلِّ ليلة، ومِمَّا يَدُلُّ على عظم عناية النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم به ما ثبت في بعض طرق الحديث أنَّ عائشةَ رضي الله عنها قالت: "فلمَّا اشْتَكَى صلى الله عليه وسلم كان يَأْمُرُ أن أفعَلَ ذلك به"2.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:5017) وصحيح مسلم (رقم:2192) . 2 صحيح البخاري (رقم:5747) .

وثبت في الصحيح عنها رضي الله عنها: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَنْفُثُ على نَفسه في مَرَضِه الَّذي قُبض فيه بالمعوِّذات، فلما ثَقُلَ كنتُ أنا أَنفُثُ عليه بِهنَّ، فأمْسَحُ بيد نفسِه لبَرَكَتِهَ ا"1. فكان صلى الله عليه وسلم يحافظُ على هذا التعوُّذ مع اشتداد المرض عليه فيقرأ صلى الله عليه وسلم هذه السُّوَر، ويَنفثُ في يده الشريفة، ويأمرُ عائشةَ رضي الله عنها أن تُمِرَّ يدَه على جسده لعدَم تَمَكُّنه من فعل ذلك بسبب المرض والوَجع. وقول عائشة رضي الله عنها في الحديث: "كان إذا آوى إلى فراشه" أي: إذا رجع إليه وضَمَّه فراشه ودخل فيه، ومنه المأوى وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان. وقولها "كلَّ ليلة" فيه دلالةٌ على محافظة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم على هذا التعوذ في جَميع لياليه. وقولها: "جَمع كفيه" أي: ضَمَّ يديه وأَلْصَق إحداهما بالأخرى، وهما مفتوحتان إلى جهة الوَجه؛ ليُباشر النفثَ فيهما. وقولها: "ثم نفث فيهما" أي: اليدين، والنَّفْثُ شَبيهُ النَّفخ، وهو ُّأقل من التفل، وهو خروج الهواء من الفم مع شيء يسير من الرِّيق. وقولها: "ثمَّ مسح بهما ما استطاع من جسده" فيه دليلٌ على أنَّ السُّنَّة أن يَمسحَ بيده ما استطاع مسحه من بدنه. ومِمَّّا ينبغي أن يُعلَم هنا أنَّ مسحَ الوجه والبدن خاصٌّ بهذا الموطن، ولا يَصحُّ أن يُعَمَّمَ في كلِّ ذِكرٍ أو دعاء، ولم يَثبت عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في ذلك حديثٌ؛

_ 1 صحيح البخاري (رقم:5751) .

ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأمَّا مسحُه وجهَه بيديه فليس عنه فيه إلاَّ حديثٌ أو حديثان لا تقوم بهما حجةٌ"1. وقولها: "يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده" فيه بيانٌ أنَّ السُّنَّةَ أن يبدأَ المسلمُ بأعالي بدنه، فيمسحَ على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، ثم ينتهي إلى ما أدبر منه. والسُّنَّة أن يفعلَ ذلك المسلمُ ثلاثَ مرَّات تأسياً بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم إنَّ السورةَ الأولى من هذه السور الثلاث قد اشتملت على ذكر صفة الرَّبِّ جلَّ شأنُه، بل أخلصت لبيان تلك الصفة، ولهذا سُمِّيت سورة الإخلاص؛ لأنَّها مشتملةٌ على إخلاص التوحيد العلمي لله تبارك وتعالى، ولو قيل لأحد مَن هو الله؟ فاكتفى في الجواب على هذا السؤال بتلاوة هذه السورة لكان الجوابُ وافياً كافياً، والأحدُ هو المتفرد بالكمال والجلال، الذي له الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا والأفعال المقدَّسة العظيمة الذي لا نظير له ولا مثيل، والصمدُ أي: المقصود في جميع الحوائج، فأهلُ العالَم العلوي والسُّفلي مفتقرون إليه غايةَ الافتقار، يسألونه حوائجَهم ويَرغبون إليه في مهماتهم؛ لأنَّه العظيمُ الكامل في جميع أوصافه ونعوته، ومن كماله سبحانه أنَّه {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} لكمال غناه، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} لا في أسمائه ولا في أوصافه ولا في أفعاله تبارك وتعالى. وأمَّا المعوِّذتان ففيهما التعوُّذُ بالله عز وجل من الشرور جميعها والآفات كلِّها، فسورة الفلق فيها التعوذ بالله العظيم {بِرَبِّ الْفَلَقِ} أي: فالق الحبِّ والنَّوى وفالق الإصباح، {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} وهذا يشمل جميعَ ما خلق الله

_ 1 الفتاوى (12/519) .

من الإنس والجن والحيوانات، فيستعيذ بخالقها من الشر الذي فيها، ثم خصَّص بعد هذا العموم فقال: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} أي: من شَرِّ ما يكون في الليل، حين يغشى الناس، وتنتشر فيه كثير من الأرواح الشريرة والحيوانات المؤذية، {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} أي: السَّواحر اللاَّتي يستعنَّ على سحرهن بالنفث في العُقَد، {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} والحاسد هو الذي يحبُّ زوالَ النعمة عن المحسود، ويدخل في ذلك العائنُ؛ لأنَّه لا تصدر العين إلاَّ عن نوع حَسَد، فتضمَّنت هذه السورة الكريمة التعوذ من جميع الشرور عموماً وخصوصاً. وسورة الناس فيها التعوُّذ بربِّ الناس ومالكهم وإلَههم من الشيطان الرجيم الذي هو أصل الشرور كلِّها ومادتها وأساس بُدوها وفشوُّها1. فحريٌ بالمسلم أن يُحافظَ على قراءة هذه السور الثلاثِ كلَّ ليلة عندما يأوي إلى فراشه، على الصِّفة التي كان يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لينالَ بذلك حفظَ الله ورعايتَه وكفايتَه، ولينام قريرَ العين، وبالله التوفيق.

_ 1 انظر: تفسير السعدي رحمه الله (ص:937 - 938) .

ومن أذكار النوم

122 / ومن أذكار النوم إنَّ من الأذكار العظيمة التي يُستَحبُّ للمسلم أن يحافظَ عليها كلَّ ليلة عندما يأوي إلى فراشه قراءةَ آية الكرسي، التي هي أعظم آية في القرآن الكريم، فقد جاء في السُّنَّة ما يدل على فضل ذلك، وأنَّ مَن قرأها إذا أوى إلى فراشه فإنَّه لَم يزل عليه من الله حافظ ولا يَقربه شيطان حتى يصبح. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "وَكَّلَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ: وَاللهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ، وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ سَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ ـ وَذَكَرَ الحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ ـ: فَأَخَذْتُهُ ـ يَعْنِي فِي الثَّالِثَةِ ـ فَقُلْتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا آخِرُ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ تَزْعُمُ أَنَّكَ لاَ تَعُودُ، ثُمَّ تَعُودُ، قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هُنَّ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 1 حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! زَعَمَ أَنَّهُ يُعلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللهُ بِهَا،

_ 1 سورة: البقرة، الآية (255) .

فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: مَا هِيَ قُلْتُ: قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ ـ وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الخَيْرِ ـ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: لاَ. قَالَ: ذَاكَ شَيْطَانٌ"1. فهذا الحديثُ فيه فضلُ هذه الآية الكريمة، وعظمُ نفعها، وشدَّةُ تأثيرها في التحرُّز من الشيطان والوقاية من شَرِّه، وأنَّ مَن قرأها عند نومه حُفظ وكُفِيَ ولَم يَقْرَبه شيطان حتى يصبح؛ ذلك أنَّ هذه الآية الكريمة فيها من توحيد الله وتمجيده وتعظيمه وبيان تفرده بالكمال والجلال ما يحقق لِمَن قرأها الحفظَ والكفايةَ، ففيها من أسماء الله الحسنى خمسة أسماء، وفيها من صفات الله ما يزيد على العشرين صفة، وقد بُدئت بذكر تفرد الله بالألوهية وبطلان ألوهية كلِّ من سواه، ثم ذِكْرِ حياة الله الكاملة التي لا يلحقها فناء، وذِكْرِ قيوميَّته سبحانه أي: قيامه بنفسه وقيامه بتدبير أمور خلقه، وذكر تَنَزُّهَه سبحانه عن صفات النقص كالسِّنَة والنوم، وبيان سعة ملكه سبحانه وأنَّ جميع من في السماوات والأرض عبيدٌ له داخلون تحت قهره وسلطانه، وذَكَرَ من أدلَّة عظمته أنَّه لا يمكن لأحد من الخلق أن يشفع عنده سبحانه إلاَّ من بعد إذنه، وفيها إثباتُ صفة العلم لله سبحانه، وأنَّ علمَه سبحانه محيطٌ بكلِّ معلوم، فهو يعلم ما كان وما سيكون وما لَم يكن لو كان كيف يكون، وفيها بيانُ

_ 1 صحيح البخاري (رقم:2311) .

عظمة الله سبحانه بذكر عظمة مخلوقاته، فإذا كان الكرسي وهو مخلوقٌ من مخلوقاته وسع السماوات والأرض فكيف بالخالق الجليل والرب العظيم، وفيها بيانُ عظمة اقتداره سبحانه، وأنَّه سبحانه من كمال قدرته لا يؤوده أي: لا يثقله حفظ السماوات والأرض، ثم ختمت الآية بذكر اسمين عظيمين لله وهما "العلي العظيم"، وفيهما إثباتُ علوِّ الله سبحانه ذاتاً وقدراً وقهراً، وإثباتُ عظمته سبحانه بالإيمان بأنَّ له جميع معاني العظمة والجلال، وأنَّه لا يستحق أحدٌ التعظيمَ والتكبير والإجلال سواه. فهي آيةٌ عظيمةٌ فيها من المعاني الجليلة والدلالات العميقة والمعارف الإيمانية ما يدلُّ على عظمها وجلالة شأنها، وقد ثبت عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّها أعظمُ آية في القرآن الكريم كما في الصحيح "أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال لأُبَيِّ بن كعب: يا أبا المنذر أَتَدْرِي أيَّ آية في كتاب الله أعظم؟ فقال: الله ورسوله أعلم، فردَّدَها مراراً ثم قال أُبَيٌّ: هي آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فقال: لِيَهْنِكَ العلمُ أبا المنذر"1، أي: ليكن العلم هنيئاً لك. ومِمَّا يُستحب للمسلم أن يحافظَ عليه عند ما يأوي إلى فراشه أن يقرأ سورةَ الكافرون، ويجعلها آخر ما يقرأ فإنها براءةٌ من الشرك. روى الإمام أحمد في مسنده عن فَروة بن نوفل الأشجعي عن أبيه رضي الله عنه قال: "دفع إليَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ابنة أم سلمة، وقال: إنَّما أنت ظئْري، قال: فمكثت ما شاء الله ثم أتيته، فقال: ما فعلت الجاريةُ أو الجويرية قال: قلت: عند أمِّها، قال: فمجيءُ ما جئتَ قال: قلت: تُعلِّمنِي ما أقول عند منامي،

_ 1 صحيح مسلم (رقم:810) .

فقال: اقرأ عند منامك {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (ثم نَمْ على خاتِمَتِها فإنها براءةٌ من الشرك"1. وقد دلَّ هذا الحديثُ على فضل هذه السورة، وفضل قراءتها عند النوم، والترغيب في أن ينامَ المسلمُ على خاتمتها، ليكون آخرَ ما نام عليه هو إعلانُ التوحيد والبراءةُ من الشرك، ولا ريب أنَّ مَن قرأها وفهم ما دلَّت عليه وعمل بما تقتضيه، فقد برئ من الشرك ظاهراً وباطناً، وقد كان بعض السَّلف يُسميها: المُقَشْقِشَة، يقال: قَشْقَشَ فلان، إذا برئ من مَرضه، فهي تبرئ صاحبها من الشرك. وتُسَمَّى هي وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بسورَتي الإخلاص؛ لأنَّ فيهما إخلاصُ التوحيد بنوعيه العلمي والعملي لله تبارك وتعالى. وقد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُواظب على قراءتهما في ركعتَي الفجر، فيفتَتِحُ بهما عملَ النهار، وكان يقرؤهما في سُنَّة المغرب فيختتمُ بهما عملَ النهار، وكان يوتر بهما فيكونان خاتمةَ عمل الليل، وسبق أن مرَّ معنا أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إذا آوى إلى فراشه، وفي حديث نوفل هذا الترغيبُ في قراءة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} عند النوم، فيكونان بذلك الخاتمةَ التي ينام عليها المسلم.

_ 1 المسند (5/456) وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:604) .

فضل قراءة الآيتين الآخيرتين من سور ة البقرة

123 / فضل قراءة الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة كلَّ ليلة لقد ثبت في السنة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الترغيب في قراءة الآيتين اللَّتين خُتمت بهما سورة البقرة في كلِّ ليلة، وذكر في ذلك صلى الله عليه وسلم فضلاً عظيماً، ففي الصحيحين عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ" 1. وقد دلَّ هذا الحديثُ على فضل قراءة هاتين الآيتين كلَّ ليلة {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} 2. وهما آيتان عظيمتان دلَّت الأولى منهما على إيمان الرسول والمؤمنين معه بالله وبكلِّ ما أمرهم سبحانه بالإيمان به، وانقيادهم وطاعتهم له سبحانه في جميع أوامره، حيث أخبَر فيها سبحانه أنَّهم آمنوا بالله وملائكته وكُتُبه ورسله، وهذا يتضمَّن الإيمان بجميع ما أخبر الله به عن نفسه وأَخبَرت به عنه رسُلُه

_ 1 صحيح البخاري (رقم:5009) ، وصحيح مسلم (رقم:808) . 2 سورة: البقرة، الآيتان (285 ـ 286) .

من صفات كماله ونعوت جلاله، وتَنْزيهه عن التمثيل والتعطيل وعن جميع صفات النَّقص، ويتضمَّن الإيمان بالملائكة الكرام، وبجميع ما ذكر عنهم في الوحي؛ من أسمائهم وأوصافهم وأعدادهم ووظائفهم، والإيمانُ بجميع الرُّسل عليهم السلام والكتب المنَزَّلة عليهم، وما تضمَّنته الكتبُ من الأخبار والأوامر والنواهي، وأنَّهم لا يفرِّقون بين أحد من رسل الله، بل يؤمنون بالجميع، ويقولون سمعنا ما أمرتنا به ونَهيتنا عنه، وأطعنا لك في ذلك، ويسألونه المغفرةَ على ما صدر منهم من تقصير أو إخلال، ويؤمنون بأنَّ مرجعَهم ومصيرَهم إليه سبحانه فيجازيهم بما عملوا من خير وشر، هذا خلاصةُ ما دلَّت عليه الآيةُ الأولى. والآيةُ الثانية فيها الإخبار بأنَّ الله لا يكلِّف الناسَ ما لا يطيقون أو يشق عليهم فعله، بل كلَّفهم بما فيه غذاءُ أرواحهم، ودواءُ أبدانهم، وصلاحُ قلوبهم، وزكاءُ نفوسهم، وفيها الإخبارُ بأنَّ لكلِّ نفس ما كسبت من الخير وعليها ما اكتسبت من الشَّرِّ، ولَمَّا أخبر تعالى عن إيمان الرَّسول والمؤمنين معه وأنَّهم قابلوا أمرَ الله بالسمع والطاعة، وأنَّ كلَّ عامل سيُجَازَى بعمله، وكان الإنسانُ عرضةً للتقصير والخطأ والنسيان أخبر أنَّه لا يكلِّف العبادَ إلاَّ ما يطيقون، وأخبر عن دعاء المؤمنين بذلك {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى آخر ما جاء في الآيات من دعوات مباركة، وقد أخبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الله قال: "قد فَعَلتُ" أي: أجبتُ لِمَن دعا بهذه الدعوات. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله: نعم"1.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:125) .

فتضمَّنت الآيتان إيمان المؤمنين بالله، ودخولهم تحت طاعته وعبوديته واعترافهم بربوبيته، واضطرارهم إلى مغفرته، واعترافهم بالتقصير في حقِّه، وإقرارهم برجوعهم إليه، واستشعارهم لمجازاته إياهم على أعمالهم، ودعائهم إيَّاه سبحانه، وسؤالهم العفو والمغفرة والرحمة والنصر على الأعداء، وهي بلا ريب معان عظيمة تدلُّ على كمال إيمانهم وتمام قبولهم وصدق انقيادهم لله رب العالمين. ولهذا أخبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم أنَّ من قرأهما في ليلة كفتاه، قال الشوكاني رحمه الله: "أي: أغنتاه عن قيام تلك الليلة بالقرآن، أو أجزأتاه عن قراءته القرآن، أو أجزأتاه فيما يتعلق بالاعتقاد لما اشتملت عليه من الإيمان والأعمال إجمالاً، أو وَقَتاه من كلِّ سوء ومكروه، أو كفتاه شر الشياطين، أو شر الثقلين أو شر الآفات كلِّها، أو كفتاه بما حصل له من ثواب غيرها، ولا مانع من إرادة هذه الأمور جميعها، ويؤيد ذلك ما تقرر في علم المعاني والبيان من أنَّ حذف المتعلق مشعرٌ بالتعميم، فكأنه قال: كفتاه من كل شر أو من كل ما يخاف، وفضل الله واسعٌ"1 اهـ كلامه رحمه الله. وقد اختار ابن القيم - رحمه الله - أنَّ معنى كفتاه أي: من شر ما يؤذيه فقال في كتابه الوابل الصيب: "الصحيح أنَّ معناها: كفتاه من شر ما يؤذيه، وقيل: كفتاه من قيام الليل، وليس بشيء"2 اهـ. فحريٌ بالمسلم أن يحافظَ على قراءة هاتين الآيتين كلَّ ليلة؛ لينال هذا الموعود الكريم بأن يُكْفَى من كلِّ شَرٍّ يؤذيه، وقد ورد عن علي بن أبي

_ 1 تحفة الذاكرين (ص:99) .

طالب رضي الله عنه أنَّه قال: " ما أرى أحداً يعقل بلغه الإسلامُ ينامُ حتَّى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة، فإنَّها من كنْز تحت العرش"1. وقوله صلى الله عليه وسلم "فإنَّها من كنْز تحت العرش " ثبت مرفوعاً إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث، منها ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعْطِيتُ خواتيم سورة البقرة مِن كَنْز تحت العرش"2. وفي المسند أيضاً عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة، فإنِّي أُعْطِيتُهما من تحت العرش"3. ومِمَّا ورد في فضل هاتين الآيتين ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "بينما جبريل قاعدٌ عند النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إذ سَمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه فقال: "هذا بابٌ فُتح اليوم لَم يُفتَح قَطُّ إلاَّ اليوم، فنَزَل منه مَلَكٌ فقال: هذا مَلَكٌ نزل إلى الأرض لَم يَنْزِل قَطُّ إلاَّ اليوم فسَلَّمَ، وقال: أَبْشِر بنُورَيْن أُوتِيتَهُما لَم يُؤْتَهُما نَبِيٌّ قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تَقرَأَ بِحرف منها إلاَّ أُعْطِيتَه"4. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اعلم أنَّ الله سبحانه أعطى نبيَّه محمداً ـ صلَّى الله عليه وسلم وبارك ـ خواتيم سورة البقرة من كَنْز تحت العرش، لَم يُؤْتَ منه نَبِيٌّ قبله، ومن تدَبَّر هذه الآيات وفهم ما تضمَّنته من

_ 1 أورده ابن كثير في تفسيره (1/507) ، وأورده النووي في الأذكار (ص:89) بلفظ آخر وقال: "إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم". 2 المسند (5/180) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:1060) . 3 المسند (4/147) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:1172) . 4 صحيح مسلم (رقم:806) .

حقائق الدِّين، وقواعد الإيمان الخمس، والرد على كلِّ مُبْطِل، وما تضمنته من كمال نِعَم الله تعالى على هذا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأمَّته، ومحبة الله سبحانه لهم وتفضيله إيَّاهم على من سواهم فلْيَهْنِه العلم"1، ثم ذكر - رحمه الله - كلاماً نفيساً في بيان معناها. وفي كلامه - رحمه الله - حثٌ على العناية بهاتين الآيتين حفظاً وقراءة وتَدَبُّراً وتحقيقاً، والله المرغوبُ أن يوفِّقَنا وإيَّاكم لذلك ولكلِّ خير.

_ 1 مجموع الفتاوى (14/129) .

من أذكار النوم

124 / من أذكار النّوم لقد أرشد النَّبِيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم المسلمَ عندما يَأوي إلى فراشه لينام إلى جُملةٍ من الآداب العظيمة والخصال الكريمة، والتي يترَتَّب على محافظته عليها وعنايتِه بها آثارٌ حميدةٌ عديدة، منها هدوؤُه في نومه وسكونُه وراحتُه، وسلامتُه من الشرور والآفات، وليصبح من ذلك النوم على نفس طيِّبة، وهِمَّة عالية، وخير ونشاط. ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَيْتَ مَضْجِعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَن ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ وَوَجَّهتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ مُتَّ وَأَنْتَ عَلَى الفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ مِنْ آخِرِ كَلاَمِكَ، قال: فَرَدَدْتُهُنَّ لأَسْتَذْكِرَهُنَّ فَقُلْتُ: آمَنْتُ بِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، قَالَ: لاَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ"1. فهذا الحديثُ العظيمُ يشتمل على بعضِ الآداب التي يَحسُنُ بالمسلم أن يُحافظَ عليها عند نومه، وقد أرشدَ صلى الله عليه وسلم أوَّلَ ما أرشد في هذا الحديث مَن أوَى إلى فراشه أن يتوضأ وضوءَه للصلاة، وذلك ليكون عند النوم على أكمل أحوالِه، وهي الطهارة، وليكون ذكرُه لله عز وجل عند نومه على حال الطهارة، وهي الحالُ الأكملُ للمسلم في ذكره لله عز وجل، ثم وجَّه صلى الله عليه وسلم إلى

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6311) ، وصحيح مسلم (رقم:2710) .

أن ينامَ المسلمُ على شِقِّه الأيمن، وهي أكملُ أحوال المسلم في نومه، ثمَّ أرشده صلى الله عليه وسلم وهو على هذه الحال الكاملة أن يبدأ في مناجاة ربِّه عز وجل بذلك الدعاء العظيم الذي أرشد إليه صلوات الله وسلامه عليه. وإنَّ مِمَّا ينبغي أن يعتَنِيَ به المسلمُ في مثلِ هذا المقام أن يتأمَّلَ معانِيَ الأدعية والأذكار المأثورة؛ ليكون ذلك أكملَ له في مناجاته لربِّه عز وجل ودعائه إياه. وعندما نتأمَّل هذا الدعاء العظيم الوارد في هذا الحديث نجدُ أنَّه اشتمل من المعاني الجليلة والمقاصد العظيمة على جانبٍ عظيم، يحسن بالمسلم أن يكون مستحضراً لها عند نومه. وقوله: "اللَّهمَّ إنِّي أسلمت نفسي إليك" أي: إنني - يا الله - قد رضيتُ تَمام الرِّضا أن تكون نفسي تحت مشيئتك، تَتَصرَّف فيها بما شئتَ وتقضي فيها بما أردتَ من إمساكها أو إرسالها، فأنت الذي بيده مقاليد السموات والأرض، ونواصي العباد جميعهم معقودةٌ بقضائك وقدرك تقضي فيهم بما أردتَ، وتحكم فيهم بما تشاء، لا رادَّ لقضائك ولا معقِّب لحكمك. وقوله: "وفوَّضتُ أمري إليك" أي: جعلتُ شأنِي كلَّه إليك، وفي هذا الاعتمادُ على الله عز وجل والتوكل التام عليه، إذ لا حول للعبد ولا قوَّة إلاَّ به سبحانه وتعالى. وقوله: "وألجأتُ ظهري إليك" أي: أسندتُه إلى حفظك ورعايتك لما علمتُ أنَّه لا سند يُتقوى به سواك، ولا ينفع أحداً إلاَّ حماك، وفي هذا إشارةٌ إلى افتقار العبد إلى الله جل وعلا في شأنه كلِّه في نومه ويقظته وحركته وسكونه وسائر أحواله.

وقوله: "رغبةً ورهبة إليك" أي: إنَّني أقول ما سبق كلَّه وأنا راغبٌ راهب، أي: راغبٌ تمام الرغبة في فضلك الواسع وإنعامك العظيم، وراهبٌ منك ومن كلِّ أمر يوقع في سخطك، وهذا هو شأن الأنبياء والصالحين من عباد الله يجمعون في دعائهم بين الرَّغَب والرَّهَب، كما قال الله تعالى: {إِِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} 1. ثم قال صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء: "لا ملجأ ولا منجى منك إلاَّ إليك" أي: لا ملاذ ولا مهرَبَ ولا مَخْلَصَ من عقوبتك إلاَّ بالفزع إليك والاعتماد عليك، كما قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} 2، وكما قال تعالى: {كَلاَّ لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} 3. ثم قال: "آمنتُ بكتابك الذي أنزلت وبنبيِّك الذي أرسلت" أي: آمنتُ بكتابك العظيم القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تَنْزيلٌ من حكيم حميد، آمنت وأقررتٌ أنَّه وحيك وتَنْزيلك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنَّه مشتملٌ على الحق والهدى والنور، وآمنت كذلك بنبيِّك الذي أرسلتَ وهو محمد صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه، المبعوث رحمةً للعالمين، آمنت به وبكلِّ ما جاء به، فهو صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلاَّ وحيٌ يوحى، فكلُّ ما جاء به فهو صدقٌ وحقٌّ.

_ 1 سورة: الأنبياء، الآية (90) . 2 سورة: الذاريات، الآية (50) . 3 سورة: القيامة، الآيتان (11 ـ 12) .

وقوله: "الذي أرسلت" أي: إلى كافة الخلق بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين. ثم قال صلى الله عليه وسلم مبيِّناً فضيلة هذا الدعاء وعظم الخير والفضل المترتب عليه "فإن مُتَّ مُتَّ على الفطرة" أي: على الإسلام، فالإسلام هو دين الفطرة، كما قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} 1 وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث أنَّه قال "وإن أصبحت أصبتَ خيراً" أي: إن لَم تَمُت من ليلتك تلك أصبت في الصباح خيراً، ثواباً لك على اهتمامك بهذا الأمر. وقد أرشد صلوات الله وسلامه عليه إلى أن يجعل المسلمُ هذا الدعاءَ في آخر الدعوات والأذكار التي يقولها المسلم عند نومه، لتكون هذه الكلمات آخر كلام المسلم عند نومه، ولهذا قال: "واجلعهنَّ آخرَ ما تقول". وفي قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم للبراء لَمَّا ردَّد الدعاءَ أمامه من أجل استذكاره: "لا، وبنبيِّك الذي أرسلت" دليلٌ على أهميَّة التقيُّد بهذه الأذكار حسب ألفاظها الواردة؛ لكمالها في مبناها ومعناها. فهذا دعاءٌ عظيم ينبغي على المسلم أن يحافظَ عليه عند نومه، ويتأمَّلَ في دلالاته العظيمة ومعانيه الجليلة؛ ليظفر بعظيم موعود الله لِمَن حافظ عليه واعتنى به، واللهَ الكريم نسأل أن يوفِّقنا وإياكم للمحافظة عليه والعناية به، وأن يوفِّقنا لكلِّ خير يحبه ويرضاه في الدنيا والآخرة.

_ 1 سورة: العنكبوت، الآية (30) .

ومن أذكار النوم (2)

125 / ومن أَذْكَار النَّوم إنَّ من الأذكار العظيمة التي كان يُواظبُ عليها النَّبِيُّ الكريمُ صلى الله عليه وسلم عند النَّوم وعند الانتباه منه ما رواه البخاري في صحيحه مِن حديثِ حُذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أَرَادَ أن يَنامَ قال: باسْمك اللَّهمَّ أموتُ وأحيَا، وإذا استَيْقَظَ من مَنَامِه قال: الحمدُ لله الذي أحيانَا بعد ما أمَاتَنَا وإليه النُّشُور "1. وفي لفظ: "كان إذا أوى إلى فراشه"2 أي: دخل فيه، وفي لفظٍ آخر: "كان إذا أخذ مَضْجِعَه"3، وكلُّها بمعنى واحد. وقولُه: باسمك اللَّهمَّ، أي: باسمك يا الله، والباء للاستعانة، والمعنى: أنام مستعيناً بك، طالباً حفظَك، راجياً الوقايةَ والسلامةَ والعافيةَ منك، وقوله: "أموتُ وأحيا" أي: أنا على هذه الحال ذاكراً لاسمك، فبذكر اسمكَ أحيا ما حييتُ وعليه أموتُ، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ المسلمَ لا غنى له عن ذكر ربِّه طرْفةَ عينٍ عند نومِه وفي يقظَته وفي جميع شؤونه، فها هو عند النَّوم يختمُ أعمالَه بذكر الله، وعند الانتباه يكون أوَّلُ أعماله ذكرَ الله، ثم هو في جميع أحايينه محافظاً على ذكر الله، فعلى ذكره سبحانه يحيى، وعليه يموت، وعليه يُبعثُ يومَ القيامة. وفي قوله: "باسمك اللَّهمَّ أموتُ" عند إرادة النَّوم دلالةٌ على أنَّ النَّومَ يُسمَّى موتاً ويُسمَّى وفاةً، وإن كانت الحياةُ موجودةً فيه، ومن ذلك قولُه

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6324) . 2 صحيح البخاري (رقم:6312) . 3 صحيح البخاري (رقم:6314) .

تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} 1، ولهذا قال في تمام هذا الحديث عند الاستيقاظ: "الحمدُ لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا" يشيرُ إلى النَّوم الذي كان عليه الإنسان. والنَّائم يُشبهُ الميِّتَ؛ لأنَّ الحركةَ فيه تتوقَّفُ، والتَّمييزَ يذهبُ، ولهذا كان التكليفُ عنه مرفوعاً حتى يستيقظَ من نومه. والنَّومُ آيةٌ من آيات الله العظيمة الدَّالَّة على كمال الخالق سبحانه وعظمته واستحقاقه وحده للعبادة، فهو سبحانه الحيُّ الذي لا يموتُ، الذي لا تأخذه سِنةٌ ولا نومٌ، قال الله عز وجل: {وََمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} 2، وهو أيضاً من رحمة الله تعالى بعباده حيثُ جعل لهم وقتاً يستريحون فيه ويستجمُّون كما قال سبحانه: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 3. ومن فوائدِ النَّومِ العظيمة أنَّه يذكِّرُ الإنسانَ بالموت الذي هو نهايةُ كلِّ إنسانٍ ومآلُ كلِّ حيٍّ إلاَّ الحيَّ الذي لا يموت، وفي الاستيقاظ منه دلالةٌ على قدرة الله سبحانه على بعث الأجساد بعد موتها وإحيائها بعد وفاتها ولهذا قال عند الاستيقاظ: "الحمدُ لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النُّشور" والنُّشورُ هو البعثُ يوم القيامة والإحياءُ بعد الإماتة، فنبَّهَ بإعادة اليقظَة بعد

_ 1 سورة: الزمر، الآية (42) . 2 سورة: العنكبوت، الآية (23) . 3 سورة: القصص، الآية (73) .

النَّوم ـ الذي هو موتٌ كما تقدَّم ـ على إثبات البعث بعد الموت يوم القيامة يوم يقوم الناسُ لربِّ العالمين. ولهذا ثبت في الأدب المفرد من حديث البراء ابن عازب قال: كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وضع يدَه تحت خدِّه الأيمن ويقول: "اللَّهمَّ قِنِي عذَابَكَ يومَ تبعثُ عبادَكَ"1. وقولُه: "الحمدُ لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا" فيه حمدُ الله على هذه النِّعمة العظيمة والمِنَّةِ الجسيمة وهي الإحياءُ بعد الإماتة أي: الاستيقاظُ بعد النَّوم، ومن المعلوم أنَّ الإنسانَ حالَ نومِه يتعطَّلُ عن الانتفاع بهذه الحياة والتمكُّنِ من أداء العبادات، فإذا استيقظ زال عنه ذلك المانعُ، فهو يحمدُ اللهَ جلَّ وعلا على هذا الإنعام ويشكرُه سبحانه على هذا العطاء والإكرام. ومن جميل ما يرتبطُ بهذا المعنى تمام الارتباط ويتَّفقُ معه تمامَ الاتِّفاق ما خرَّجه الشيخان البخاريُّ ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إذا أوى أحدُكُم إلى فراشِه فلْينفُضْ فراشَه بداخلة إزارِه، فإنَّه لا يدري ما خلَفَهُ عليه، ثمَّ يقول: باسمك ربِّي وضعتُ جنبي وبك أرْفعُه، إنْ أمْسكْتَ نفسي فارْحمْها، وإنْ أرْسلْتَها فاحفظها بما تَحفظُ به عبادَك الصالحين"2. ومثلُه كذلك ما رواه مسلمٌ في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أنَّه أمر رجلاً إنْ أخذ مضجِعَه قال: "اللَّهمَّ خلقتَ نفسي، وأنت توفَّاها، لك مماتُها ومحياها، إنْ أحييْتها فاحفظْها، وإنْ أمتَّها فاغفر لها، اللَّهمَّ

_ 1 الأدب المفرد (رقم:1215) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب المفرد (رقم:921) . 2 صحيح البخاري (رقم:6320) وصحيح مسلم (رقم:2714) .

أسألُك العافيةَ" فقال له الرجلُ: أسمعتَ هذا من عمر فقال: من خيرٍ من عمر، من رسول الله صلى الله عليه وسلم "1. وفي هذه الأحاديث دلالةٌ واضحةٌ على أنَّ روحَ الإنسان بيد الله سبحانه، فهو الذي أوجدها من العدم وخلقها بعد أن لَم تكن، وهو سبحانه الذي إن شاء أمسكها حالَ نوم الإنسان فيُصبحُ في عداد الأموات، وإن شاء أرسلها فيبقى الإنسانُ بذلك على قيد الحياة، ولهذا قال: "لك مماتُها ومحياها" أي: أنَّ ذلك بيدك وتحت تصرُّفك وتدبيرك، ولا يقدرُ عليه أحدٌ سواك، فأنت المحيي وأنت المميتُ، وأنت على كلِّ شيءٍ قديرٌ. ولهذا شُرع للمسلم في هذا المقام أن يسأل ربَّه الحفظَ إنْ كَتَبَ له البقاءَ والحياةَ، ويسأله الرحمةَ والمغفرةَ إنْ كَتب له الموتَ، ففي حديث أبي هريرة قال: "إنْ أمسكتَ نفسي فارحمها، وإنْ أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" وفي حديث ابن عمر قال: "إنْ أحييْتها فاحفظْها، وإنْ أمتَّها فاغفر لها". وكما ينبغي على المسلم أن يكون عندما يأوي إلى فراشِه متذكِّراً مآلَه ومصيرَه، فإنَّه كذلك ينبغي عليه أن يتذكَّر نعمةَ الله عليه فيما مضى من أيّامه بالطعام والشراب والمسكن والصحة والعافية، فيحمدُ اللهَ ويشكرُه على ذلك. ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: "الحمدُ لله الَّذي أَطْعَمَنَا وسَقَانَا، وكفَانَا وآوَانَا،

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2712) .

فكَمْ مِمَّنْ لا كَافِيَ لَهُ ولا مُؤْوِي"1. وعلى هذا فإنَّ المسلمَ عندما يأوي إلى فراشه ينبغي أن يكون متذكِّراً أمرين: ما مضى من أيّامه فيحمدُ اللهَ على ما أمدَّه فيها من الصحة والعافية والمطعم والمشرب والمسكن وغير ذلك، وأن يتذكّر ما يستقبل من أوقاته؛ وهو فيها بين أمرين: إمَّا أن تُقبضَ روحُه فهو يسألُ اللهَ إن كان ذلك المغفرةَ والرحمةَ أو أن يُفسح له في أجله فهو يسأل الله في هذه الحال أن يحفظه بما يحفظ به عبادَه الصالحين.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2715) .

ومن أذكار النوم (3)

126 / ومن أذكار النوم إنَّ من الدعوات العظيمة التي كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يحثُّ مَن أوى إلى فراشه على المحافظة عليها والعناية بها ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إِذَا أَخَذْنَا مَضْجِعَنَا أَنْ نَقُولَ: "اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ، وَرَبَّ الأَرْضِ، وَرَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرِاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الفَقْرِ"1. وهو دعاءٌ عظيم، يحسنُ بالمسلم أن يُحافظَ عليه كلَّ ليلةٍ عندما يأوي إلى فراشه، وهو مشتملٌ على توسُّلاتٍ عظيمة إلى الله تبارك وتعالى بربوبيِّته لكلِّ شيء، للسموات السبع والأرضين السبع والعرش العظيم، وبإنزاله لكلامه العظيم ووحيه المبين بأن يحيط الإنسانَ برعايتِه ويكلأه بعنايته، ويحفظَه من جميع الشرور، ومشتملٌ على توسُّل إلى الله جلَّ وعلا ببعض أسمائه العظيمة الدَّالَّة على كماله وجلاله وعظمته وإحاطته بكلِّ شيء، بأن يقضي عن الإنسان ديْنَه ويُغنيه من فقره. وقوله: "اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ، وَرَبَّ الأَرْضِ، وَرَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ" أي: يا خالقَ هذه الكائنات العظيمة ومبدعها وموجدها من العدم، وقد خصَّ هذه المخلوقات بالذِّكر لعظمها وكبرها ولكثرة ما فيها من الآيات

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2713) .

البيِّنات والدلالات الباهرات على كمال خالقها وعظمةِ مُبدِعها، وإلاَّ فإنَّ جميعَ المخلوقات صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها فيها آيةٌ بيّنةٌ على كمال الخالق سبحانه. وفي كلِّ شيء له آية تدل على أنَّه الواحد ولهذا عقَّب هذا الدعاء بقوله: "رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ" وهذا تعميمٌ بعد تخصيص؛ لئلاَّ يُظنَّ أنَّ الأمر مختصٌّ بما ذُكر. وقوله: "رَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ" فيه دلالة على عظمة العرش، وأنَّه أعظمُ المخلوقات، وقد جاء في الحديث عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "ما الكرسيُّ في العرش إلاَّ كحلقة من حديدٍ أُلقيت بين ظهري فلاةٍ من الأرض"1، وإذا كان هذا المخلوق بهذه العظمة والمجد والسَّعَة، فكيف بخالقه ومُبدِعه سبحانه. وقوله: "فَالِقَ الحَبِّ وَالنَّوَى" من الفلْق وهو الشَّقُّ، أي: الذي يشقُّ حبَّة الطعام ونوى التمر وغيره لتخرج الأشجار والزروع، فإنَّ النباتات إمَّا أشجارٌ أصلها النّوى، أو زروعٌ أصلها الحَبُّ، والله سبحانه لكمال قُدرته وبديع خلقه هو الذي يفتح هذا الحبَّ والنَّوى اليابس الذي كالحجر لا ينمو ولا يزيد، فينفرج وتخرج منه الزروعُ العظيمةُ والأشجارُ الكبيرة، وفي هذا آيةٌ باهرةٌ على كمال المًبدِع وعظمةِ الخالقِ سبحانه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 2) .

_ 1 رواه أبو نعيم في الحلية (1/166) وأبو الشيخ في العظمة (2/648 ـ 649) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/300 ـ 301) وغيرهم، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في السلسلة الصحيحة (رقم:109) بمجموع طرقه. 2 سورة: الأنعام، الآية (95) .

وقوله في هذا الدعاء: "وَمُنْزِلَ التَّوْرِاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالفُرْقَانِ" فيه توسُّلٌ إلى الله عزَّ وجلَّ بإنزاله لهذه الكتب العظيمة المشتملة على هداية الناسِ وفلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وقد خصَّ هذه الكتبَ الثلاثة؛ لأنَّها أعظمُ كتب أنزلها الله، وذكرها مرتّبةً ترتيباً زمنياًّ، فذكر أوَّلاً التوراةَ التي أُنزلت على موسى عليه السّلام، ثمَّ الإنجيل الذي أُنزل على عيسى عليه السّلام، ثمَّ الفرقان ـ وهو القرآن الكريم ـ الذي أُنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم. وفي هذا دلالةٌ على أنَّ هذه الكتب من كلام الله، وأنَّها منزَّلةٌ من عنده سبحانه، وأنَّها غيرُ مخلوقة، ولهذا فرَّق في هذا الدعاء بينها؛ ففي المخلوقاتِ قال: "ربَّ" و "فالقَ"، وفي كلامه ووحيِه قال: "منْزل"، وفي هذا ردٌّ على أهل البدع والأهواء الذين يقولون إنَّ كلامَ الله مخلوق، تعالى اللهُ عمَّا يقولون، وسبحان الله عمَّا يصفون. ثمَّ قال بعد ذكره لهذه الوسائل العظيمة: "أعوذ بك مِن شرِّ كلِّ دابَّةٍ أنت آخذٌ بناصيتها" وهذا شروعٌ في ذكر رغبة الإنسان وحاجته ومطلوبه من ربِّه سبحانه، وقوله: "أعوذ بك" أي: ألتجئُ وأعتصمُ بك وأحتمي بجنابك "من شرِّ كلِّ دابَّةٍ أنت آخذٌ بناصيتها" والدابَّة هي كلُّ ما يدبُّ على الأرض، وهو يشمل الذي يمشي على بطنه، أو على رجلين أو على أربع، قال الله تعالى: {وََاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1.

_ 1 سورة: النور، الآية (45) .

وقوله: "أنت آخذٌ بناصيتها" فيه دلالةٌ على أنَّ المخلوقات كلَّها داخلةٌ تحت قهره وسلطانه، فهو سبحانه آخذٌ بنواصيها، قادرٌ عليها، يتصرَّف فيها كيف يشاء ويحكم فيها بما يريد. قال اللهُ تعالى فيما ذكره عن هود عليه السلام: {إِِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. والنَّاصيةُ مقدَّم الرأس. ثمَّ قال متوسِّلاً إلى الله سبحانه ببعض أسمائه الحسنى وصفاته العظيمة "اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ"، وفي هذا دلالةٌ على أوَّليَّةِ الله سبحانه وأنَّه قبل كلِّ شيء، وأبديَّتِه سبحانه وبقائِه بعد كلّ شيء، وعلوِّه على خلقه واستوائِه على عرشه وفوقيَّتِه وأنَّه الظاهرُ الذي لا شيء فوقَه، وقُربِه سبحانه من خلقه وإحاطتِه بهم وأنَّه جلَّ وعلاَ الباطنُ الذي لا شيءَ دونه. ومدارُ هذه الأسماء الأربعة على بيان إحاطة الربِّ سبحانه، وهي إحاطتان: زمانية ومكانية؛ أمَّا الزمانية فقد دلَّ عليها اسمُه الأوّل والآخر، وأمَّا المكانيّة فقد دلَّ عليها اسمُه الظّاهر والباطن. هذا مقتضى تفسير النَّبِيِّ صلى اله عليه وسلم، ولا تفسير أكمل من تفسيره. وقوله: "اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الفَقْرِ" هو سؤال الله تبارك وتعالى وطلب منه سبحانه بعد تلك التوسُّلات. وقوله: "اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ"، أي: أَدِّ عنَّا حقوق الله وحقوق العباد من

_ 1 سورة: هود، الآية (56) .

جميع الأنواع، وفي هذا تبري الإنسان من الحَول والقوَّة، وأنَّه لا حول ولا قوة له إلاَّ بالله العظيم. وقوله: "وَأَغْنِنَا مِنَ الفَقْرِ" والغنى هو عدم الحاجة، والفقر: خلو ذات اليد، والفقير هو مَن وجد بعضَ كفايته، أو لَم يجد شيئاً أصلاً. ومن المعلوم أنَّ الدَّينَ والفقرَ كلاهما هَمٌّ عظيمٌ، قد يؤرق الإنسانَ ويمنعه من النوم، فإذا لَجأ العبدُ إلى الله وطلب منه سبحانه مدّه وعونه متوسِّلاً إليه بتلك التوسُّلات العظيمة، فإنَّ نفسَه عندئذٍ تسكن وتطمئن، وقلبَه يرتاح ويهدأ؛ لأنَّه وكل أمرَه إلى مَن بيده أزمَّة الأمور ومقاليد السموات والأرض، ولَجأ إلى مَن أمرُه إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وكيف لا يطمئنُّ القلبُ وقد تعلَّق بِمَن هذا شأنه.

ومن أذكار الصباح (4)

ومن أذكار الصباح (4) ... 127 / ومن أذكار النوم إنَّ من الدعوات المباركة التي كان يحافظ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يأوي إلى فراشِه لينام ما روى مسلمٌ في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لاَ كَافِيَ لَهُ وَلاَ مُؤْوِي "1. وهذا الدعاء فيه تذكُّرٌ من المسلم عندما يريد أن ينام لِمَاضي أيّامه وسالف أوقاته وما أمدَّه اللهُ فيها من المطعم والمشرب والكفاية والإيواء، في حالِ وجود عددٍ من الناس منهم مَن لا يجد طعاماً يُشبعه ويغذّيه، أو شراباً يسدُّ ظمأه ويُرويه، أو لباساً يسترُه ويواريه، أو مسكناً يستكنُّ فيه ويؤويه، بل منهم من أدركه حتفُه في مجاعاتٍ مهلكة وقحطٍ مفجع، فمن أكرمَه اللهُ بالطعام والشراب ومنَّ عليه بالكفاية والإيواء يجبُ أن يستشعرَ عِظم نعمة الله عليه وكبَرَ منَّته سبحانه بأن يسَّرَ له الغذاء والشراب وأكرمه بالكفاية والإيواء، وشكرُ النِّعمة مؤذنٌ بدوامها والمزيد، فاللهُ جلَّ وعلا يقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} 2، فالشُّكرُ معه المزيدُ دائماً وأبداً؛ ولذا قيل: "فمتى لَم ترَ حالَكَ في مزيدٍ فاستقبل الشكرَ"، أي: فإنَّك إذا استقبلته كان المزيدُ حليفك. وقولُه: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا ... " إلى آخره فيه الثناءُ على الله عزَّ وجلَّ وحمدُه سبحانه على سوابغ نعمائه وتوالي فضله وعطائه، وجزيل

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2715) . 2 سورة: إبراهيم، الآية (7) .

مواهبه، وسعة إحسانه، وكريم أياديه، وهو سبحانه أهلُ الحمد والثناء. وقوله: "وَكَفَانَا" من الكفاية أي: دفع عنّا شرَّ المؤذيات ووقانا أذى الغوائل والعاديات، وقيل: معناه كفانا مُهِمَّاتنا وقضى لنا حاجاتِنا، ولا مانع من أن يكون كلا المعنيين مراداً، إذ كلٌّ منهما داخلٌ في معنى الكفاية مندرجٌ تحت مدلولها. وقوله: "وآوَانَا" أي: هيَّأ لنا مأوى نأوي إليه، ورزقنا مسكناً نسكن فيه، وردَّنا إلى المنْزل لنستريح فيه، ولم يجعلنا منتشرين كالبهائم بلا مسكنٍ ولا مأوى، قال الله تعالى مُمْتَنًّا على عباده بهذه النِّعمة {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} 1 أي: تسكنون فيها، وتُكنُّكم من الحرِّ والبرد، وتستركم من الأعين، وتجتمعون فيها أنتم ومن تعولون، وفيها من المصالح والمنافع ما لا يمكن الإحاطةُ به، فالحمدُ لله الذي منَّ فأفضل وأعطى فأجزل، له الحمد حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه كما يحب سبحانه ويرضى. ومن الأوراد المأثورة عند النوم ما ثبت في الصحيحين عن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنَّ فاطمةَ رضي الله عنها أتت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً فقال: "ألا أخبركِ ما هو خيرٌ لك منه: تُسبِّحين اللهَ عند منامِك ثلاثاً وثلاثين، وتحمدين اللهَ ثلاثاً وثلاثين، وتكبِّرين اللهَ أربعاً وثلاثين" قال عليٌّ رضي الله عنه: "فما تركتُها بعدُ" قيل: ولا ليلةَ صفِّين؟ قال: "ولا ليلةَ صفِّين"2. فهذه فاطمةُ بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقاسيه من الطحن والسقي والخدمة، وتسألُه أن يعطيها خادماً (والخادم

_ 1 سورة: النحل، الآية (80) . 2 صحيح البخاري (رقم:5362) وصحيح مسلم (رقم:2727) .

يطلق على الذكر والأنثى) ليخفَّ عنها ما تجده من تعبٍ ومشقَّةٍ في تلك الأعمال وقد روي في سنن أبي داود عن عليّ رضي الله عنه في وصف ما كانت تجده رضي الله عنها من مشقَّة في أعمالها المنزليّة أنَّه قال: "إنَّها جرَّت بالرَّحى حتَّى أثَّرتْ في يدها، واستقت بالقربة حتَّى أثَّرت في نحرها، وكنست البيت حتّى اغبرّت ثيابُها"1. فأرشدها صلواتُ الله وسلامُه عليه إلى ما هو خيرٌ لها من خادم فقال: "ألا أخبركِ ما هو خيرٌ لك منه" أي: الخادم، وفي هذا من حسن النصح وتمام التشويق ما لا يخفى، فلمَّا تهيَّأتْ نفسُها وتحفَّزتْ لمعرفة هذا الأمر الذي هو خيرٌ لها من الشيء الذي جاءت تسألُه قال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "تُسبِّحين اللهَ عند منامِك ثلاثاً وثلاثين، وتحمدين اللهَ ثلاثاً وثلاثين، وتكبِّرين اللهَ أربعاً وثلاثين" أي: تقولين إذا أخذتِ مضجعكِ سبحان الله ثلاثاً وثلاثين مرَّة، والحمدُ لله ثلاثاً وثلاثين مرَّة، واللهُ أكبر أربعاً وثلاثين مرَّة، فيكون مجموعُ ذلك مائة. ففرحت رضي الله عنها بهذا الخير العظيم الذي دلَّها عليه الناصحُ الأمينُ صلواتُ الله وسلامُه عليه، وفرح به زوجُها عليٌّ رضي الله عنه، حتّى إنَّه قال: "فما تركتُه بعدُ" أي: بعد سماعه له، وفي روايةٍ قال: "فما تركتُهنَّ منذ سمعتهنَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقيل له: ولا ليلةَ صفِّين أي: ما تركت تلك الكلمات ولا في تلك الليلة. وليلة صفين هي ليلة الحرب المعروفة بصفين قريباً من الفرات، التي دارت بينه وبين أهل الشام، فقال رضي الله عنه: "ولا ليلةَ صفِّين" أي: لَم يترك هذه الكلمات ولا في تلك الليلة، ومن المعلوم أنَّ الإنسان عند بعض الشدائد

_ 1 سنن أبي داود (رقم:5063) لكن سنده ضعيف.

قد يذهلُ عن أمور اعتنى بها وألف المحافظة عليها، ومع ذلك لَم يدع رضي الله عنه هؤلاء الكلمات ولا في تلك الليلة، وفي هذا دلالةٌ على شدَّة المحافظة وحسن الاهتمام وتمام الحرص. ثمَّ إنَّ أهلَ العلم قد استدلُّوا بهذا الحديث على أنَّ من فضائل الذِّكر وفوائدِه العظيمة أنَّه يعطي الذَّاكرَ قوَّةً في بدنه وصحَّته ونشاطه وهمَّته، وفي هذا يقول ابنُ القيم رحمه الله: "الذِّكرُ يعطي الذَّاكرَ قوَّةً حتَّى إنَّه ليفعل مع الذِّكر ما لَم يطق فعلَه بدونه، وقد شاهدتُ من قوَّة شيخ الإسلام ابن تيمية في مشيتِه وكلامه وإقدامه وكتابته أمراً عجيباً " ثمَّ أورد حديثَ عليٍّ المتقدِّم وقال عقِبَه: "فقيل إنَّ من داوم على ذلك وجد قوَّةً في بدنِه مغنيةً عن خادم"1. ونقل رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنَّه قال: "بَلَغنا أنَّه مَن حافظ على هؤلاء الكلمات لَم يأخذه إعياءٌ فيما يعانيه من شغلٍ وغيره"2 اهـ. والله المسؤول أن يوفِّقنا جميعاً لهذا ولكلِّ خيرٍ إنَّه سميعٌ مجيبٌ.

_ 1 الوابل الصيِّب (ص:155 ـ 156) . 2 الوابل الصيِّب (ص:206) .

أذكار الانتباه من النوم

128 / أَذْكَارُ الانْتِبَاهِ مِنَ النَّوْمِ لقد ثبت عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أذكارٌ متنوِّعة يُشرع للمسلم أن يقولها عند الاستيقاظ من النوم، وهي في الجملة مشتملةٌ على إعلان التوحيد لله عزَّ وجلَّ، والاستعاذة من الشيطان الرجيم، وحمد الله سبحانه على حفظه للعبد وإعانته له على طاعته وذِكرِه. ومن هذه الأحاديث ما رواه البخاري في صحيحه عَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الحَمْدُ للهِ، وسُبْحَانَ اللهِ، ولاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، ولاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ دَعَا استُجِيبَ، فَإِنْ تَوَضَّأَ قُبِلَتْ صَلاَتُهُ" 1. وفي هذا الحديث فضلُ المبادرة إلى ذِكر الله عزَّ وجلَّ والثّناء عليه سبحانه عند الاستيقاظ من النَّوم، وأن يكون ذلك أوَّلَ شيءٍ يفعلُه المؤمنُ عند استيقاظه، وهذا إنَّما يتحقَّق لِمَن أَلِفَ الذِّكر وتعوَّد عليه واستأنسَ به، وغَلَبَ عليه حتى صار حديثَ نفسِه في نومِه ويَقظتِه، فإنَّه إذا كان شأنُه كذلك فإنّ أوَّلَ شيءٍ يفعله عند قيامه من نومه هو المبادرةُ إلى ذِكر ربِّه سبحانه وتمجيده وحَمده والثناء عليه بما هو أهله، ومَن كان على هذه الحال فهو حريٌّ بإذن الله أن يُعطى إذا سألَ وأن يُستجاب له إذا دعا. قال ابنُ بطَّال رحمه الله: "وعد اللهُ على لسان نبيِّه صلى الله عليه وسلم أنَّ مَن استيقظ من نومه لَهجاً لسانه بتوحيد ربِّه والإذعان له بالملك والاعتراف بنعمه

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1154) .

يحمده عليها، وينزِّهه عمَّا لايليق به بتسبيحه والخضوع له بالتكبير والتسليم له بالعَجز عن القدرة إلاَّ بعونه، أنَّه إذا دعاه أجابه، وإذا صلَّى قُبلت صلاتُه، ينبغي لِمَن بلغه هذا الحديث أن يغتنِم العملَ به ويُخلِصَ نيَّتَه لربِّه سبحانه"1. اهـ. وقوله في الحديث: "مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ" أي: استيقظ من نومه ليلاً. وقد بدأ صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات بكلمة التوحيد "لا إله إلاَّ الله" مؤكِّداً معناها وما دلَّت عليه بقوله: "وحده لا شريك له"؛ لأنَّ لا إله إلاَّ الله فيها ركنان عظيمان هما النَّفيُ والإثبات، النَّفيُ في قوله: "لا إله" وهو نفي للعبودية عن كلِّ مَن سوى الله، والإثبات في قوله: "إلاَّ الله"، وهو إثبات للعبودية بكلِّ معانيها لله عزَّ وجلَّ. وقد أكَّد هذين الأمرين بقوله: "وحده لا شريك له"، فقوله "وحده" فيه تأكيدٌ للإثبات، وقوله: "لا شريك له" فيه تأكيد للنَّفي. وفي هذا دلالةٌ على أهميَّة التوحيد والبدء به وتقديمه على ما سواه، والتأكيد على العناية بفهم معناه والقيام بمدلوله وتطبيق مقتضاه. ثم قال: "لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، وهذه براهين التوحيد ودلائله، فالذي له التوحيد الخالص هو المالكُ للملك، المستحقُّ للحمدِ، القديرُ على كلِّ شيء، ومَن سواه لا يستحقُّ من العبادة شيئاً {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 2.

_ 1 فتح الباري لابن حجر (3/41) . 2 سورة سبأ، الآية: (22) .

ثم قال: "الحَمْدُ للهِ، وسُبْحَانَ اللهِ، ولاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ"، فذكر الكلمات الأربع التي هي أحبُّ الكلام إلى الله عزَّ وجلَّ، كما في صحيح مسلم من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الكلامِ إِلَى الله تعالى أَرْبَعٌ، لا يَضُرُّك بأيِّهن بدأتَ: سبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إِلَه إِلاَّ الله، والله أكبر"1، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ أَقُولَ سُبْحَانَ اللهِ، وَالحَمْدُ للهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ"2. والتسبيحُ فيه تنْزيه الله عمَّا لا يليق بجلاله وكماله، والحمدُ فيه إثبات أنواع الكمال له سبحانه، والتهليل فيه توحيده وإخلاص الدِّين له، والتكبير فيه تعظيمه سبحانه وأنَّه لا شيء أكبر منه. ثم قال: "ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله" وهي كلمة استعانة، الإتيانُ بها في مثل هذا الوقت مناسبٌ غاية المناسبة؛ لأنَّ الإنسانَ عندما يقوم من النَّوم بحاجة إلى هِمَّة عالية ونشاط وجد واجتهاد، والمُعينُ على ذلك كلِّه هو الله وحده، وكلمة "لا حول ولا قوة إلاَّ بالله" فيها تفويض الأمر لله عزَّ وجلَّ وتبرؤ من الحول والقوَّة إلاَّ به، وأنَّ العبدَ لا يملك من أمرِه شيئاً، ولا حيلة له في دفع شرٍّ، ولا قوّة له في جلب خيرٍ إلاَّ بإرادته سبحانه. ثم قال: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ دَعَا استُجِيبَ" هكذا جاءت الرواية بالشكِّ، ويحتمل أن تكون للتَّنويع، أي: إن استغفَرَ غفر اللهُ له، وإن دعا أجاب اللهُ دعاءَه.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2137) . 2 صحيح مسلم (رقم:2695) .

ثم قال: "فَإِنْ تَوَضَّأَ قُبِلَتْ صَلاَتُهُ" أي: إن صلَّى، وقد جاء اللفظ في بعض الروايات لصحيح البخاري هكذا: "فَإِنْ تَوَضَّأَ وصَلَّى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ"، وفي هذا حثٌّ على الجدِّ في الطاعة والنشاط لأداء العبادة، وترك الخمول والتواني والكسل، وقد أخرج الإمام البخاري رحمه الله هذا الحديث في كتاب التهجد من صحيحه، باب: فضل مَن تعارَّ من الليل فصلَّى. أي أنَّ مَن صلَّى في ذلك الوقت، وبادر إلى الصلاة في تلك الحال فصلاتُه حريَّةٌ بالقبول، والقبول في هذا الموطن أرجى منه في غيره. وقد أورد الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه لهذا الحديث فائدةً لطيفةً حول العناية بهذا الذكر، عن أبي عبد الله الفِربري الراوي عن البخاري، قال: "أجريت هذا الذِّكر على لساني عند انتباهي، ثم نِمتُ فأتاني آتٍ [أي: في المنام] فقرأ: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} "1. وما من شك أنَّ المحافظة على هذا الذكر من الهداية إلى الطيِّب من القول ومن الهداية إلى الصراط الحميد، نسأل اللهَ الكريمَ من فضله.

_ 1 فتح الباري (3/41) .

أذكار الإستيقاظ من النوم

129 / أذكار الاستيقاظ من النوم إنَّ من الأذكار التي يُشرع للمسلم قولُها إذا استيقظ من نومه ما ثبت في سنن الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي، وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ"1. وفي هذا حمدُ الله عزَّ وجلَّ على المعافاة في الجسد والسلامة من الأمراض والأسقام، وحمده سبحانه على ردِّ الروح على العبد ليتمكّن من الزيادة في الطاعة والإكثار من العبادة والعناية بالذكر، ولهذا قال "وأذِن لي بذكره" أي: وفَّقني لذلك وأعانني عليه، والمرادُ بالإذن هنا أي: الإذن الكوني القدري؛ لأنَّ الإذنَ إذا ورد في النصوص تارةً يُرادُ به الإذنُ الكونيُّ القدريُّ، وتارةً يراد به الإذنُ الشرعيُّ الدينيُّ، ومن المعلوم أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أذن للعباد جميعِهم شرعاً وديناً بذكره ولزومِ طاعتِه، لكنَّه سبحانه لَم يأذن بذلك كوناً وقدراً إلاَّ لمن أنعم عليهم بالإيمان وهداهم للإسلام ووفّقهم للخير، وعليه فإنَّ مَن أذِن الله له بذكره كوناً وقدراً فقد أكرمه بأعظم كرامةٍ، وهداه بتوفيقه ومنِّه سبحانه إلى الخير، وهذا من أعظم ما يستوجب الحمدَ، ولهذا شُرع للمسلم أن يحمد اللهَ عزَّ وجلَّ على هذه النعمة العظيمة ويشكرَه سبحانه على هذا العطاء والفضل. وتأمّل أخي: الآذن بالذِّكر هو الله، والمستفيد من الذِّكر هو العبد، والمثيب على الذِّكر هو الله، فهو سبحانه من عظيم فضله وواسع إنعامه

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3401) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:329) .

يبتدئُ عبادَه بالنعم ويثيبُهم عليها أعظمَ الثواب فله الحمدُ شكراً، وله المنُّ فضلاً، وله سبحانه الحمدُ في الآخرة والأولى. وعموماً الذي ينبغي على المسلم عند قيامه من نومه هو المبادرة إلى ذكر الله والوضوء والصلاة ليبارك له في يومه، وليكون فيه نشيطاً ذا همَّةٍ عاليةٍ وحرصٍ على الخير، وليسلم بذلك من الكسل وخبث النفس، وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يعقدُ الشيطانُ على قَافية رأسِ أحدِِكم إذا هو نام ثلاثَ عُقَد، يضرِبُ على كلِّ عُقدةٍ مكانَها: عليك ليلٌ طويلٌ فارقُدْ، فإن اسْتَيقَظَ فذَكَرَ اللهَ انحلَّتْ عُقدةٌ، فإن تَوَضَّأَ انحلَّتْ عُقدةٌ، فإن صلَّى انحلَّتْ عُقدُه كلُّها، فأصبَحَ نشيطاً طيِّبَ النَّفس، وإلاَّ أصبحَ خبيثَ النفس كَسلان"1. وفي المسند للإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما مِن ذَكَر ولا أنثى إلاَّ وعلى رأسه جرير معقودٌ ثلاث عقد [أي: حبل معقود ثلاث عُقد] حين يرقد، فإن استيقظ فذَكَرَ اللهَ انحلَّتْ عُقدة، فإذا قام فتوضّأ انحلَّتْ عقدة، فإذا قام إلى الصلاة انحلَّتْ عُقَدُه كلُّها"2. وقد دلَّ هذان الحديثان على أنَّ الشيطانَ يعقد على مؤخر رأس الإنسان عندما ينام ثلاث عقد، ويضرب على كلِّ عقدةٍ مكانها: عليك ليلٌ طويلٌ فارقُد تخذيلاً للإنسان وتثبيطاً له ونقضاً لهمَّته وعزيمته، فإذا ذكر العبدُ ربَّه انحلَّتْ عقدةٌ من هذه العقد، فإذا قام وتوضّأ انحلَّتْ عقدة ثانية، فإذا صلّى انحلَّتْ عنهُ جميع العقد وذهب عنه الكسل، وارتفعت همَّتُه، وطابت نفسُه،

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1142) ، وصحيح مسلم (رقم:776) . 2 المسند للإمام أحمد (3/315) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:614) .

وأصبح نشيطاً حريصاً على الخير، مقبلاً عليه، وذلك لأنَّه تخلص من عقد الشيطان، وتخفف عنه أعباءُ الغفلة والنسيان، وحصل له الفوز برضا الرحمن. وجاء في نصٍّ آخر أنَّ الشيطانَ قد يعقد على مواضع الوضوء من المسلم فإذا قام وتوضأ انحلَّت عنه تلك العقد. فقد أخرج أحمد وابن حبان في صحيحه واللفظ له من حديث عُقبة ابن عامر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رجلٌ من أمَّتِي يقوم الليل يُعالج نفسَه إلى الطَّهور وعليه عُقدٌ، فإذا وضَّأ يديه انحلَّت عُقدة، فإذا وضَّأ وجهه انحلَّت عُقدة، وإذا مسح رأسَه انحلَّت عُقدة، وإذا وضَّأ رِجلَيه انحلَّت عُقدة، فيقول الله جلَّ وعلا للذي وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسَه ليسألَنِي، ما سألَنِي عبدي هذا فهو له، ما سألَنِي عبدي هذا فهو له"1. فهذه عُقدٌ أربع تنحلُّ عن المسلم بالوضوء، فبغسل اليدين تنحلُّ عُقدة، وبغسل الوجه تنحلُّ عُقدة، وبمسح الرأس تنحلُّ عُقدة، وبغسل الرِّجلَين تنحلُّ عُقدة. وهي عُقدٌ حقيقيَّة يعقدها الشيطان على الإنسان ليثبطه عن الخير، وليثنيه عن القيام إلى طاعة الله. وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدُكم من منامه فليتوضَّأ وليستنثر ثلاث مرَّات، فإنَّ الشيطانَ يبيتُ على خياشيمه"2.

_ 1 المسند للإمام أحمد (4/201) ، وصحيح ابن حبان (رقم:2555) . 2 صحيح البخاري (رقم:3295) ، وصحيح مسلم (رقم:238) .

وقد ذكر بعضُ أهل العلم أنَّ مَن ذَكَرَ اللهَ تعالى عند النَّومِ وأتى بالأذكار المشروعة والتعوُّذات المأثورة لا يدخل في هذه الأحاديث ويسلم من هذه العُقد؛ لأنَّه قد نُصَّ في بعض أذكار النوم أنَّ مَن أتى بها لا يزال عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطانٌ حتى يُصبح1. ثم إنَّ مَن استمرَّ في نومِه وتمادى في كسله إلى أن يُفوِّتَ على نفسه صلاةَ الصبح فإنَّ الشيطانَ يبول في أُذُنِه، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: ذُكِر رجلٌ عند النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نام حتى أصبح فقال: "ذاك رجلٌ بال الشيطان في أُذُنَيه أو قال في أُذنِه "، فيُصبح والعُقَدُ كلُّها كهيئتِها، وإضافة إلى ذلك يبول الشيطان في أذنه، وحسب مَن كان كذلك خيبةً وخسارة وشراًّ، وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال: "حسب الرَّجل من الخَيْبة والشرِّ أن ينام حتى يُصبح وقد بال الشيطان في أذنه، فلم يذكر الله ليله حتى يصبح"2، نسأل اللهَ العافيةَ والسلامة.

_ 1 انظر: الاستعاذة لابن مفلح المطبوع بعنوان: مصائب الإنسان من مكائد الشيطان (ص:75) . 2 رواه محمد بن نصر في قيام الليل (ص:103 ـ مختصر المقريزي) ، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (3/29) : "وهو موقوف صحيح الإسناد".

ما يقال عند الفزع من النوم

ما يقال عند الفزع من النوم ... 130 / مَا يُقالُ عِنْدَ الفَزَعِ فِي النَّوْمِ إنَّ من الأذكار العظيمة النافعة لِمَن يُروَّع في منامه أو يجد وحشة وقلقاً، أو يُصيبه الفزع في نومه أن يقول عند حصول شيء من ذلك له: "أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ". فقد روى أبو داود والترمذي وغيرُهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا فَزِعَ أَحَدُكُمْ فِي النَّوْمِ فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ، فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ"1. وروى الإمام أحمد في مسنده عن الوليد بن الوليد رضي الله عنه أنَّه قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنِّي أجدُ وحشةً، قال: "إِذَا أَخَذْتَ مَضْجِعَكَ فَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِن غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأن يَحْضُرُونِ، فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّكَ وبالحَرِيِّ أَنْ لاَ يَقْرَبك"2. وروى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد قال: بلغنِي أنَّ خالد بن الوليد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنِّي أُروَّعُ في منامي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ"3.

_ 1 سنن أَبي داود (رقم:3893) ، والترمذي (رقم:3528) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:701) . 2 المسند (4/57) ، وذكره الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الكلم الطيب (ص:41) . 3 الموطأ (رقم:2737) ، وقال ابن عبد البر: "وهذا حديث مشهور مسنداً وغير مسند"، ثم أسنده من طريق ابن عيينة وغيره. التمهيد (21/109) ، وانظر: الصحيحة (رقم:264) .

وروى ابن السني في عمل اليوم والليلة عن محمد بن المنكدر قال: جاء رجلٌ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فشكا إليه أهاويلَ يراها في المنام، فقال: "إذا أَوَيتَ إلى فراشك فقل: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَمِن شَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ"1. فهذا دعاءٌ عظيمٌ أرشَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَن يُصاب في نومه بشيء من الفزع والخوفِ، بسبب ما قد يرى في منامه من الأشياء المخوفة أن يقوله ليذهب عنه فزعُه، ولتطمئنَّ نفسُه، وليسكنَ ويهدأَ في نومه، ولينصرفَ عنه خوفُه وروعُه، وهو دعاءٌ عظيم مبارَك، يعلن فيه العبدُ التجاءَه إلى الله واحتماءَه به وفرارَه إليه من غضبه وعقابه سبحانه، ومن شرِّ عبادِه، ومن همزات الشياطين ومن أن يحضروا العبد، سواء في نومه أو في كلِّ أحواله. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ مَن قاله لا تضرُّه الشياطين، بل يكون في عافية وسلامة منها. وقوله: "أعوذ بكلمات الله التَّامَّة": أي: ألتجئُ، فالاستعاذةُ التجاءٌ إلى الله واعتصامٌ به، والعائذُ بالله فارٌّ من كلِّ ما يؤذيه إلى ربِّه سبحانه الذي بيده أزِمةُ الأمور وتدبيرُ الخلائق، وكلماتُ الله التَّامَّة أي: التي لا يلحقُها نقصٌ ولا عيبٌ كما يلحقُ كلامَ البشر. وقوله: "من غضبه وعقابه" الغضب صفةٌ فعليَّةٌ ثابتةٌ لله تبارك وتعالى، وَصَفَ بها نفسَه في كتابه، ووصَفَه بها رسولُه صلى الله عليه وسلم في سنَّته، وهو جلَّ وعلا يغضب ويرضى ويحبّ ويبغض، وله صفاتٌ فعليّةٌ كثيرةٌ وردت في الكتاب

_ 1 عمل اليوم والليلة لابن السني (رقم:742) ، وراجع السلسلة الصحيحة (رقم:264) .

والسُّنَّة، ومنهج أهل السنَّة وهو المنهجُ الحقُّ الذي ينبغي أن يكون عليه كلُّ مسلم تجاه هذه الصفات أنَّهم يُثبتونها لله كما أثبتها سبحانه لنفسه وكما أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم دون أن يخوضوا في شيء منها بتحريفٍ أو تعطيلٍ أو تكييف أو تمثيل، فهم يُؤمنون بأنَّ الرَّبَّ العظيم يغضبُ، ويتعوَّذون به سبحانه من غضبه ومن كلِّ شيءٍ يُغضِبه، ويُجاهدون أنفسَهم على البُعدِ عن كلِّ ما يُغضِبه سبحانه ويوجبُ عقابه. وإنَّ مِمَّا يُغضبُ الرَّبَّ ويوجبُ عقابه أن يلجأ العبدُ في مُلمَّاته وعند خوفه وفزعه إلى غيرِه سبحانه، وكيف يليقُ بالعبد الضَّعيف أن يلجأ إلى عبدٍ ضعيف مثلِه، وكيف يلجأ المخلوقُ إلى مخلوقٍ مثلِه ويَدَعُ ربَّ العالَمين وخالقَ الخلق أجمعين، وهنا ندرك ضَحالة عقولِ وتفاهةَ أفكارِ مَن يذهبون في مُلمَّاتِهم وعند فزَعهم إلى الكهنة والعرَّافين والدجاجلة والمشعوذين والسَّحرة والمنجِّمين وغيرِهم من إخوان الشياطين، يشكون إليهم حالَهم، ويُنزلون بأبوابهم حاجتَهم، ويطلبون منهم تخليصَهم من كربتِهم وإنجاءهم من فزعهم، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تُطلبُ إلاَّ من الله ولا يُلجأ فيها إلاَّ إليه وحده {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 1، فهل يجيب المضطَرَّ الذي أقلقته الكروبُ وتعسَّر عليه المطلوب، واضطر للخَلاص مِمَّا هو فيه إلاَّ الله وحده وهل يكشف السوءَ الذي يُصيب الإنسانَ ويَحِلُّ به إلاَّ الله وحده ولكنْ تذَكُّرُ الناسِ لهذا الأمر قليلٌ، وتدبُّرُهم له ضعيف، وإلاَّ لَمَا أقبلوا على غير الله، ولَمَا لجاءوا إلى أحدٍ سواه.

_ 1 سورة النمل، الآية: (62) .

وقوله: "من غضبه وعقابه" فيه جمعٌ بين الصفةِ وأثرها، فالصفةُ هي الغضب، وأثرُها هو حلولُ العقاب، نعوذ بالله من ذلك. وقوله: "وشرِّ عباده" أي: مِن كلِّ شرٍّ في أيِّ عبدٍ من عبادِك قام به الشرُّ، والعبوديةُ هنا المراد بها العبودية العامة؛ إذ المخلوقات كلُّها معبَّدةٌ مُذلَّلةٌ لله خاضعةٌ له سبحانه، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 1. وقوله: "ومن همزات الشياطين وأن يحضرون" الهمزات جمع همزة، والهمزة النخس، والمراد نزغاتُ الشياطين ووساوسُهم وجميعُ إصاباتهم وأذاهم لبَنِي آدم. وقوله: "وأن يحضرون" أي: أن يحضرَ الشياطين عندي في جميع أحوالي، وعلى هذا فالعبدُ يستعيذ بالله من همزات الشياطين وأن يحضروه أصلاً ويَحوموا حولَه، فتضمَّنت الاستعاذةُ ألاَّ يَمسُّوه ولا يقربوه. فما أعظَمه من دعاء، وما أعظَم أثره، وما أجمعه للتعوُّذ من كلِّ ما قد يكون سبباً لفزع الإنسان وقلقه، والله وحده وليُّ التوفيق.

_ 1 سورة: مريم، الآية (93) .

ما يقوله من رأى في منامه ما يحب أو يكره

131 / مَا يَقُولُهُ مَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يُحِبُّ أَوْ يَكْرَهُ ثبت في السُّنَّة أحاديثُ عديدةٌ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في بيان ما ينبغي أن يقولَه المسلمُ ويفعلَه عندما يرى في منامه ما يُحبُّ أو عندما يرى فيه ما يكره. ومن هذه الأحاديث ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّه سمع النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: " إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحبُّهَا فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ اللهِ، فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَيْهَا، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، وَلاَ يَذْكُرْهَا لأَحَدٍ، فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ"1. وفي الصحيحين عن أبي سلمة قال: "لَقَدْ كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا فَتُمْرِضُنِي حَتَّى سَمْعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: وَأَنَا كُنْتُ لأَرَى الرُّؤْيَا تُمْرِضُنِي، حَتَّى سَمْعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الرُّؤْيَا الحَسَنَةُ مِنَ اللهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلاَ يُحَدِّثْ بِهِ إِلاَّ مَنْ يُحِبُّ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ الشَّيْطَانِ، وَلْيَتْفُلْ ثَلاَثاً، وَلاَ يُحَدِّثْ بِهَا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ "2. وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلاَثاً، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثلاثاً، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ"3. وقد دلَّت هذه الأحاديث على جملة من الفوائد تتعلَّق بالرؤيا وما ينبغي أن يكون عليه المؤمن تجاه ما يراه في منامه من أمور يفرح برؤيتها ويسُرُّ، أو

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6985) . 2 صحيح البخاري (رقم:7044) ، وصحيح مسلم (رقم:2261) . 3 صحيح مسلم (رقم:2262) .

أمور يحزن لرؤيتها ويضجر، ومن فوائد هذه الأحاديث ما يلي: أوَّلاً: تعظيمُ شأن الرؤيا الصالحة يراها المسلم، وأنَّها من الله عزَّ وجلَّ، ساقها إلى عبده المؤمن في حياته بشارةً له بالخير، وتأنيساً لقلبه وطَمْأنةً لفؤاده، كما قال الله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} 1، قال غيرُ واحد من السلف: "هي الرؤيا الصالحة يراها الرّجلُ الصالح أو تُرى له". ثانياً: بيان أنَّ ما يراه المؤمن في منامه مِمَّا يكرهه إنَّما هو من الشيطان ليَحزُن الذين آمنوا، وليس بضارِّهم شيئاً إلاَّ بإذن الله، وما يراه الإنسانُ في منامه ينقسمُ إلى ثلاثة أقسام: الرؤيا الصالحة التي هي بُشرى من الله لِمَن رآها أو رؤيت له، والرؤيا التي هي من الشيطان وهي أهاويل يأتي بها الشيطان للإنسان في منامه وأمثالٌ مكروهة يضربُها بقصد التشويش على الإنسان وإدخال الحزن عليه والضَّجَر في قلبه، والقسم الثالث: هي الأحلام التي تجري على الإنسان في منامه مِمَّا يُحدِّث به الرَّجلُ نفسَه في اليقظة تجري عليه في المنام جريانها في اليقظة. ثالثاً: بيان ما ينبغي أن يفعلَه المسلمُ عندما يرى في منامه ما يُحبُّ ويتلخّصُ ذلك في عدَّة أمور. الأوّل: أنَّ المسلمَ ينبغي له أن يفرحَ ويستبشرَ بالرؤيا الصالحة يراها أو تُرى له، وأن لا يغترّ، فالرؤيا كما قال بعض السلف: "تسرّ المؤمن ولا تغرُّه". الثاني: أن يحمدَ اللهَ عزَّ وجلَّ على هذا الخير الذي ساقه إليه والفضلِ الذي منحه إيَّاه حيث أكرمَه بهذه الرؤيا المبشِّرة.

_ 1 سورة: يونس، الآية (64) .

الثالث: أن يُحدِّثَ بها مَن يُحبُّ من إخوانه وجُلسائه الذين شأنهم معه أنَّهم يتعاونون معه على الخير، ويتواصون معه على البرِّ والإحسان، فتكون الرؤيا التي رآها سبباً لزيادة الخير فيهم، وحافزاً للمُضيِّ في مجالاته. الرابع: أن لا يحدِّث بها من يكره درءاً لمفسدة حصول الأذى منه أو الحسد أو نحو ذلك. رابعاً: ومن الفوائد التي اشتملت عليها الأحاديث المتقدِّمة؛ بيان ما ينبغي أن يفعله المسلم إذا رأى في منامه ما يكره ويتلَّخص ذلك في الأمور التالية: الأول: أن يعلمَ أنَّ ذلك إنَّما هو من الشيطان يريد به تحزين المؤمن وإدخال الهمِّ والغمِّ والفزع عليه، فعليه أن لا يلتفت إلى مكر الشيطان وأن لا يشغل بالَه بذلك. الثاني: أن يتعوَّذ بالله من شرِّها وشرِّ الشيطان الرجيم، والتعوُّذ التجاءٌ إلى الله واعتصامٌ به سبحانه {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. الثالث: أن يبصُق عن يساره ثلاثاً، وقد قيل: لأنَّ الشيطانَ يأتي ابنَ آدم مِن قِبَل يساره؛ لأنَّه يريد أن يُوسوس في القلب، والقلبُ قريبٌ من جهة اليسار، فيأتي الشيطان من جهته القريبة، والله أعلم. الرابع: أن يتحوَّلَ عن جنبه الذي كان عليه، وقيل في الحكمة من هذا أنَّ في ذلك تفاؤلاً بالتحوُّل من هذه الحال المسيئة المحزنة إلى حالٍ مُسِرَّة مُفرحة. الخامس: ألاَّ يحدِّث أحداً بما رأى في منامه من أمورٍ يكرهها، وقد جاء في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول

_ 1 سورة آل عمران، الآية: (101) .

الله، رأيتُ في المنام كأنَّ رأسي قُطع، قال: فضحك النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وقال: "إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يُحدِّث به الناَّسَ "1، وفي رواية أخرى قال: جاء أعرابيٌّ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! رأيتُ في المنام كأنَّ رأسي ضُرب فتَدَحْرَجَ فاشتدَدتُ على أَثَره، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للأعرابيِّ: "لا تُحدِّث الناسَ بتلعُّب الشيطان بكَ في منامك"2. ثم إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنَّ من فعل ما تقدَّم لا تضرُّه رؤياه، بل يكون فعلُه لهذه الأمور سبباً واقياً بإذن الله من شرِّ الرؤيا وشرِّ الشياطين. وعلى العبد مع ذلك كلِّه أن يكون متَّقياً، لله محافظاً على طاعته، بعيداً عن معاصيه؛ ليكون بذلك محفوظاً بحفظ الله مُحاطاً برعايته وعنايته سبحانه. وقد قال ابن سيرين رحمه الله: "اتَّق اللهَ في اليَقظة، ولا تُبالِ ما رأيتَ في النوم". والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2268) . 2 صحيح مسلم (رقم:2268) .

أذكار الخروج من المنزل (1)

132 / أَذْكَارُ الخُرُوجِ مِنَ المَنْزِلِ لقد ثبت في السُّنَّة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أذكارٌ مباركةٌ وأدعيةٌ نافعةٌ يقولها المسلمُ إذا خرج من مَنْزله، فإذا قالها حُفظ بإذن الله، وكُفي ما أهمَّه، ووُقي من الشرور والآفات، وهُدي إلى طريق الحقِّ والصواب، روى الترمذي وأبو داود وغيرُهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ، فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، قَالَ: يُقَالُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ، فَيَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ، فَيَقُولُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيَفَ لَكَ بَرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ "1. وهذا الذِّكر المبارك نافعٌ للمسلمِ أن يقوله في كلِّ مرَّةٍ يخرج فيها من بيته لقضاء شيء من مصالِحه الدينية أو الدنيوية، وذلك ليكون محفوظاً في سيره، ومُعاناً في قضاء مصالحه، مسدَّداً في وجهته وحاجته، والعبدُ لا غِنى له عن ربِّه طرفة عين، بأن يكون له حافظاً ومؤيِّداً، ومُسدِّداً وهادياً، ولا ينال العبدُ ذلك إلاَّ بالتوجُّه إلى الله عزَّ وجلَّ في حصوله ونيله، فأرشد صلوات الله وسلامه عليه مَن خرج من مَنْزله إلى أن يقول هذا الذِّكرَ المبارك ليُهدى في طريقه، وليُكفى هَمَّه وحاجتَه، وليوقى الشرور والآفات. وقوله: "إذا خرج الرَّجلُ من بيته" أي: حال خروجه من بيته، ومثلُ البيت المنزل الذي يُسافر منه المسافر. وقوله: "بسم الله" أي: بسم الله أخرج، فكلُّ فاعل يقدر فعلاً مناسباً

_ 1 سنن أبي داود (رقم:5095) ، وسنن التّرمذي (رقم:3426) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:499) .

لحالِه عندما يبسمل، والباء في "بسم الله" للاستعانة، أي: أخرج طالباً من الله العون والحفظ والتسديد. وقوله: "توكَّلت على الله" أي: اعتمدتُ عليه، وفوَّضتُ جميعَ أموري إليه، فالتوكُّلُ هو الاعتمادُ والتفويض وهو من أعمال القلوب، ولا يجوز صرفُه لغير الله، بل يجب إخلاصُه لله وحده، قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1، أي: عليه وحده لا على غيره، فجعل ذلك شرطاً في الإيمان، والتوكلُ أجمعُ أنواع العبادة وأعلى مقامات التوحيد وأعظمُها؛ لِمَا ينشأ عنه من الأعمال الصالحة والطاعات المتنوِّعة، فإنَّه إذا اعتمد العبدُ على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية دون مَن سواه صحَّ إخلاصُه، وقويت صلتُه بالله، وزاد إقباله عليه، وكفاه اللهُ همَّه، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 2، أي: كافيه، ومَن كان الله كافيه فلا مطمع فيه لعدوٍّ، ولو كادت له السموات والأرض ومَن فيهنَّ لجعل الله له فرَجاً ومخرجاً ورزقه الله من حيث لا يحتسب، وفي هذا دلالةٌ على عِظَمِ فضل التوكل وأنَّه أعظمُ أسباب جلب المنافع ودفع المضار. وقوله: "لا حول ولا قوة إلاَّ بالله"، هي كلمة إسلامٍ واستسلامٍ وتفويضٍ إلى الله، وتبرؤ من الحول والقوَّة إلاَّ به، وأنَّ العبدَ لا يملك من أمره شيئاً، وليس له حيلةٌ في دفع شرٍّ، ولا قوَّةٌ في جلب خير لا بإرادته سبحانه، وقولُ لا حول ولا قوة إلاَّ بالله تُنال به الإعانة. ولو تأمَّل المسلم هذا الذِّكرَ لوجده من أوَّله إلى آخره مشتملاً على

_ 1 سورة: المائدة، الآية (23) . 2 سورة: الطلاق، الآية (3) .

الالتجاء إلى الله والاعتصام به والاعتماد عليه، وتفويض الأمور كلِّها إليه، ومَن كان كذلك حظي بحفظ الله له وعونِه وتوفيقِه وتسديدِه. وقوله: "يُقال حينئذ" وفي رواية: "يُقال له هُديتَ وكفيتَ ووُقيتَ" يجوز أن يكون القائلُ هو الله ويجوز أن يكون مَلَكاً من الملائكة. وقوله: "هُديتَ" أي: إلى طريق الحقِّ والصواب بسبب استعانتك بالله على سلوك ما أنت بصددِه، ومَن يهده الله فلا مُضِلَّ له. وقوله: "وكفيت" أي: كُفيت كلَّ همٍّ دنيوي أو أُخروي. وقوله: "ووُقيت" أي: حُفظتَ من شرِّ أعدائك من الشياطين وغيرهم. وقوله: "فيتنحّى عنه الشيطان" أي: يبتعد عنه الشيطان؛ لأنَّه مَن كان هذا شأنه فلا سبيل للشيطان عليه؛ لأنَّه قد أصبح في حِصنٍ حصين وحِرزٍ مكين يُحمى فيه من الشيطان الرجيم. وقوله: "فيقول شيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووُقي"، أي: يقول أحد الشياطين لهذا الشيطان الذي كان يريد إغواء هذا الشخص وإيذاءه: كيف لك برجلٍ قد هُدي وكُفي ووقي، أي: كيف لك السبيلُ إلى إغواء وإيذاء رجل نال هذه الخصال الهدايةَ والكفايةَ والوقايةَ. وهذا يدلُّنا على عِظَم شأن هذا الذِّكر المبارك وأهميَّةِ المحافظةِ عليه عند خروج المسلم من منْزله في كلِّ مرَّة يخرج فيها؛ لينال هذه الأوصافَ المباركةَ والثمارَ العظيمة المذكورة في هذا الحديث. ومن الأذكار العظيمةِ النافعةِ للمسلم عند خروجِه من منزلِه ما ثبت في سنن أبي داود وابن ماجه وغيرِهما عن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلاَّ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إنِّي

أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عليَّ"1. وهو حديثٌ عظيمٌ ودعاءٌ مبارَك يجدر بالمسلمِ أن يُحافظَ عليه عند خروجه من منزله تأسِّياً بالنَّّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الذي كان يحافظ عليه عند كلِّ خروجٍ من مَنْزله كما يدلُّ على ذلك قول أمِّ سلمة رضي الله عنها: "مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلاَّ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فقال"، ثم ذكرت هذا الدعاء. ولو تأمَّلتَ هذا الدعاء لوجدتَ أنَّه موافقٌ للحديث السابق في الغاية والمقصود، فقوله في الحديث السابق: "هديت" موافقٌ لقوله في هذا الحديث: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ"، وقوله: "كفيت" موافقٌ لقوله: "أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ"، وقوله: "ووُقيت" موافقٌ لقوله: "أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عليَّ"، فيكون العبدُ بذلك متعوِّذاً بالله مِمَّا يُبعده من الهداية والكفاية والوقاية، ولا بأس لو أنَّ العبدَ جمع بين هذين الدعاءين. ثم إنَّ في هذا الدعاء معانٍ جليلة ودلالاتٍ نافعة يأتي بيانها، وبالله وحده التوفيق.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:5094) ، وابن ماجه (رقم:3884) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح ابن ماجه (رقم:3134) .

من أذكار الخروج من المنزل (2)

133 / من أذكار الخروج من المنْزل لقد مرَّ معنا دعاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الذي كان يُواظبُ عليه صلى الله عليه وسلم كلَّ ما خرج من منزله، وذلك في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه وغيرُهما عن أمِّ المؤمنين أمِّ سلمة هند المخزومية زوج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها قالت: مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلاَّ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عليَّ"1. وكلامُها رضي الله عنها في أوَّل هذا الحديث فيه دلالةٌ ظاهرةٌ على مواظبة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم على قول هذا الدعاء في كلِّ مرَّة يخرج فيها صلوات الله وسلامه عليه من منْزله، وفي هذا دلالةٌ على أهميَّة مواظبة المسلم على هذا الدعاء في كلِّ مرَّة يخرج فيها من منزله تأسيًّا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك الخيرُ والبركةُ والسلامة والغنيمة. وقولها رضي الله عنها: "إِلاَّ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ" فيه دلالةٌ على علوِّ الله على خلقه، وأنَّ الرَّبَّ الذي ندعوه ونسأله ونرجوه مستوٍ على عرشه بائنٌ من خلقه، كما قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 2.

_ 1 سبق تخريجه. 2 سورة: الفرقان، الآيات: (58، 59) .

فَرَفْعُ الطرفِ إلى السماءِ فيه إيمانٌ بعلوِّ الله، كما أنَّ رَفعَ الأيدي إلى السماء فيه إيمانٌ بعلوِّ الله عزَّ وجلَّ، قال حافظُ المغرب أبو عمر بن عبد البر في كتابه التمهيد وهو بصدد ذكره الأدلَّةَ على علوِّ الله: "ومن الحُجَّةِ أيضاً في أنَّه عزَّ وجلَّ على العرش فوق السموات السبع أنَّ الموحِّدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمرٌ أو نزلت بهم شِدَّةٌ رفعوا وجوهَهم إلى السماء يستغيثون ربَّهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرفُ عند الخاصَّة والعامة من أن يُحتاج فيه إلى أكثر من حكايتِه؛ لأنَّه اضطرارٌ لَم يُؤنبهم عليه أحدٌ ولا أنكره عليهم مسلم"1 اهـ. كلامه رحمه الله. والأدلةُ على علوِّ الله على خلقه كثيرةٌ لا تُحصَى، وقد دلَّ على علوِّ الله الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماع والفطرةُ والعقولُ، ولا مجال هنا لبسط هذه الأدلَّة. وفي رفع الطرف إلى السماء دلالةٌ على أهميّة استشعار مراقبة الله تعالى وأنَّه سبحانه مطَّلعٌ على عباده، عليمٌ بهم لا تخفى عليه منهم خافية، وأنَّ أزمّة الأمور بيده، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ ... " إلى آخره الاستعاذة سبق بيانُ معناها وأنَّها اعتصامٌ بالله عزَّ وجلَّ والتجاءٌ إليه سبحانه، وفي هذا الدعاء التجاءٌ إلى الله عزَّ وجلَّ بأن يَحميَ العبدَ من أن يقع في شيء من هذه الأمور المذكورة، وهي أنْ يَضِلَّ أَوْ يُضَلَّ، أَوْ يَزِلَّ أَوْ يُزَلَّ، أَوْ يَظْلِمَ أَوْ يُظْلَمَ، أَوْ يَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عليه. ومن المعلوم أنَّ مَن يخرجُ من بيته لا بدَّ له في خروجه من مخالطةِ الناس ومعاشرتِهم، والنّاصِحُ لنفسه يخاف أن يبتلى بسبب هذه المخالطة والمعاشرة

_ 1 التمهيد (7/134) .

بالعدول عن الطريق القويم والمسلك المستقيم الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم، وذلك قد يكون متعلِّقاً بالدِّين بأن يَضِلَّ أو يُضلَّ، أو متعلِّقاً بأمر الدنيا بأن يَظلم أو يظلم، أو متعلِّقاً بشأن المخالَطين والمعاشَرين بأن يزِلَّ أو يُزَلَّ أو يَجهلَ أو يُجهَل عليه، فاستعاذ من جميع هذه الأحوال بهذه الألفاظ البليغة والكلمات الوافية الدقيقة. وقوله: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ" فيه تعوُّذٌ بالله من الضلال وهو ضِدُّ الهداية، وسؤاله تبارك وتعالى الإعاذة من الضلال متضمِّنٌ طلبَ التوفيق للهداية. وقوله: "أن أضلَّ" أي: أن أضلَّ في نفسي بأن أرتكب أمراً يُفضي بي إلى الضلال، أو أقترف ذنباً يجنح بي عن سبيل الهداية. وقوله: "أَوْ أُضَلَّ" أي: أن يضلنِي غيري من شياطين الإنس والجنِّ الذين لا همَّ لهم إلاَّ إضلالُ الناس وصدُّهم عن سواء السبيل. وقوله:: "أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ" من الزلَّة، وهي العَثرة، وذلك بأن يهويَ الإنسانُ عن طريق الاستقامة، ومن ذلك قولهم: زلَّت قدَم فلان، أي: وقع من علوٍّ إلى هبوط، ويُقال: طريقٌ مزلَّة أي: تزلُّ عليه الأقدامُ ولا تثبت، والمراد هنا الوقوعُ في الذنب من حيث لا يشعر تشبيهاً بزلّة الرِّجل. وقوله: "أَزِل" أي: من نفسي، وقوله: "أُزَلَّ" أي: أن يوقعنِي غيري في الزَّلَل. وقوله: "أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ" من الظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه. وقوله: "أو أَظلِمَ" أي: نفسي بإيقاعِها في الخطأ، وجرِّها إلى الإثم،

وغيري بأن أعتدي عليه أو أتصرَّف في ملكه بغير حقٍّ أو أناله بشيء من الأذى والسوء. وقوله: "أو أُظلَم" أي: أن يظلِمنِي أحدٌ من الناسِ في نفسي أو مالي أو عِرضي. وقوله: "أو أَجهل أو يُجهل عليَّ" من الجهل، وهو ضدُّ العلم. وقوله: "أجهل" أي: أفعلُ فِعل الجهلاء، أو أشتغل في شيء لا يعنِينِي، أو أجهلَ الحقَّ الواجب عليَّ. وقوله: "أو يُجهل عليَّ" أي: أن يجهل غيري عليَّ بأن يُقابِلَنِي مقابلة الجهلاء بالسفاهة والوقاحة والسِّباب ونحو ذلك. ومَن سلِم من الغلط مع غيره في شيء من هذه الخصال ومن أن يَغلطَ معه غيرُه في شيء منها فقد عوفِي وعوفي الناسُ منه، فالحديث فيه التعوُّذُ من هذه الأمور من الطرفين، من طرف المتعوِّذ نفسِه، ومن طرف الناس الذين يلقاهم ويحتكُّ بهم، وكان بعضُ السَّلف يقول في دعائه: "اللَّهمَّ سلِّمنِي وسلِّم منِّي"1، ومَن كان هذا شأنُه سالِماً من شرِّ الناس، والناسُ سالِمون من شرِّه فهو على خير عظيم. فهذا دعاءٌ عظيم ينبغي على المسلم أن يُحافظَ عليه كلَّما خرج من منزله؛ ليكون ملتجئاً إلى الله ومعتصماً به سبحانه من أن يناله شيءٌ من تلك الأمور، ثم عليه مع هذا الالتجاء أن يأخذَ بالأسبابِ فيحذرَ أشدَّ الحَذر من الضلال والزلل والظلم والجهل، فيكون بذلك جامعاً بين فعل الأسباب والاستعانة عليها بالله تبارك وتعالى.

_ 1 ذكره ابن رجب في كتابه: شرح حديث لبيك اللهمَّ لبيك (ص:102) .

أذكار دخول المنزل

134 / أَذْكَارُ دُخُولِ المَنْزِلِ لقد ورد في السُّنَّة أذكارٌ عظيمةٌ متعلِّقةٌ بما ينبغي للمسلم أن يقوله عند دخول المنْزل، وفي الجملة يستحبُّ للمسلم أن يقول عند دخول المنْزل: بسم الله، وأن يُكثر من ذكر الله، وأن يسلِّم سواء كان في البيت أحدٌ أم لا. روى الإمام مسلمٌ في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنَّه سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لاَ مَبِيتَ لَكُمْ وَلاَ عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ المَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ المَبِيتَ وَالعَشَاءَ"1. وقد دلَّ هذا الحديثُ على أنَّ ذِكرَ المسلم لربِّه عند دخوله منزلَه، وعند طعامه وشرابه سببُ ِحفظِه ووقايتِه من الشيطان؛ إذ إنَّ الشيطانَ يتبع المسلمَ في أحواله كلِّها، عند دخول البيت وعند الطعام والشراب وغيرِ ذلك، فإذا ذكر المسلمُ ربَّه خنس الشيطانُ وأَيِسَ منه ولَم يقربه، وكان في حفظٍ منه ومن مكره وكيدِه، وأمَّا إذا غفل المسلمُ عن الذِّكرِ فإنَّ الشيطانَ يُلازمُه ويُشاركه في طعامه وشرابه ومبيته، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 2، أي: يُقارِنه ويُلازمه ويَؤزُّه إلى المعاصي أَزًّا. وذِكر الله عزَّ وجلَّ طاردٌ للشيطان حافظٌ للإنسانِ، والذَّاكرُ لله محفوظٌ من

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2018) . 2 سورة: الزخرف، الآية (36) .

الشيطان بحفظ الله عزَّ وجلَّ، بل إنَّ الشيطانَ ييأسُ منه ويدرك أنَّه لا سبيل له عليه. ولهذا ورد في الحديث المتقدِّم أنَّ الشيطان عندما يسمع الإنسانَ يذكر اللهَ عند دخولِه منزله وعند طعامه يقول: لا مبيت لكم ولا عَشاء، أي: يقول ذلك لجنودِه وأعوانه، فييأس هو وأعوانُه من مشاركة هذا الذَّاكر لله في منزله وطعامه، وأمَّا الغافِلُ فإنَّه لا ينفكُّ عن هذه المشاركة ولا يسلم منها، كما قال الله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} 1، وهذا في حقِّ الغافلين، أمَّا الذَّاكرُون لله فأمرُهم كما قال الله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} 2. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآية: "ذكر كثيرٌ من المفسّرين أنَّه يدخل في مشاركة الشيطان في الأموال والأولاد تركُ التسمية عند الطعام والشراب والجِماع، وأنَّه إذا لَم يُسمِّ اللهَ في ذلك شارك فيه الشيطان كما ورد في الحديث". أي حديثنا المتقدِّم. ويُستحبُّ للمسلم عند دخول المنزل أن يسلِّم سواءٌ كان المنزلُ منزلَه أو منْزلَ غيره، وسواء كان فيه أحدٌ أم لا؛ لقول الله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} 3، قال ابنُ سعدي ـ رحمه الله ـ في تفسير هذه الآية: " {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً} نكرةٌ

_ 1 سورة: الإسراء، الآية (64) . 2 سورة: الإسراء، الآية (65) . 3 سورة: النور، الآية (61) .

في سياق الشرط، يشمل بيتَ الإنسان وبيتَ غيره، سواء كان في البيت ساكنٌ أم لا، فإذا دخلها الإنسانُ {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي: فليُسلِّم بعضُكم على بعض؛ لأنَّ المسلمين كأنَّهم شخصٌ واحد، من توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، فالسلام مشروعٌ لدخوله سائر البيوت من غير فرق بين بيتٍ وبيت، ثم مدح هذا السلامَ فقال: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} أي: سلام بقولكم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ إذ تدخلون البيوت {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي: قد شرعها لكم وجعلها تحيتكم، {مُبَارَكَةً} لاشتمالها على السلامة من النقص وحصول الرَّحمة والبركة والنَّماء والزيادة، {طَيِّبَةً} لأنَّها من الكلِم الطيِّب المحبوب عند الله، الذي فيه طيبُ نفس للمُحيَا، ومحبَّةٌ وجلبُ مودَّة". اهـ كلامه رحمه الله. وقوله: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين عند دخول المنْزل ولا سيما غير المسكون ورد فيه حديث، لكنَّه لَم يثبت عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بسندٍ صحيح، ففي الموطأ للإمام مالك رحمه الله أنَّه بلغه: "أنَّه يستحب إذا دخل بيتاً غير مسكون أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"1، وورد فيه كذلك بعضُ الآثار عن قتادة رحمه الله وغيره من السلف، لكنَّ الاقتصارَ على ما ثبتت به السُّنَّة وهو أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أسدُّ وأكملُ، سواء كان في البيت ساكن أم لا. وقول السلامُ عليكم عند دخول المنْزل فيه بركة على الإنسان وعلى أهل بيته كما دلَّت على هذا الآيةُ المتقدِّمة، وفي الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال لي

_ 1 الموطأ (2026 ـ رواية أبي مصعب) .

رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بُنَيَّ إذا دخلتَ على أهلِكَ فسلِّم، تكُن بركةً عليكَ وعلى أهلِ بَيتِك"1. ومن سلَّم إذا دخل بيتَه فهو ضامنٌ على الله تعالى أيْ صاحبُ ضمان، ففي سنن أبي داود عن أبي أمامة الباهلي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثةٌ كلُّهم ضامنٌ على الله عزَّ وجلَّ: رجلٌ خرج غازياً في سبيل الله، فهو ضامنٌ على الله عزَّ وجلَّ، حتى يتوفَّاه فيُدخلَه الجنَّة أو يَردَّه بما نال من أجرٍ وغنيمةٍ، ورجلٌ راح إلى المسجد فهو ضامنٌ على الله تعالى حتى يتوفَّاه فيدخلَه الجنَّة أو يَردَّه بما نال من أجرٍ وغنيمةٍ، ورجلٌ دخل بيتَه بسلامٍ فهو ضامنٌ على الله سبحانه وتعالى"2. ورواه ابن حبان في صحيحه ولفظُه: "ثلاثةٌ كلّهم ضامنٌ على الله، إن عاش رُزق وكُفي، وإن مات أدخله الله الجنَّة: مَن دخل بيتَه فسلَّم فهو ضامن على الله، ومَن خرَجَ إلى المسجد فهو ضامنٌ على الله، ومَن خَرَج في سبيل الله فهو ضامنٌ على الله"3. وقوله: "ضامنٌ على الله" أيْ صاحبُ ضمان، والضمانُ الرعايةُ للشيء، ومعناه أنَّه في حفظ الله ورعايته وتوفيقه، فما أجلَّها من عطيَّةٍ وما أعظمه من فضلٍ، نسأل الله الكريم من فضله.

_ 1 سنن الترمذي (رقم:2698) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:1608) . 2 سنن أبي داود (رقم:2494) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:1609) . 3 الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (رقم:499) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:321) .

آداب الخلاء أذكاره

آداب الخلاء أذكاره ... 135 / آداب الخلاء وأذكاره لقد جاء في السُّنّة الغَرَّاء بيانُ الأدب الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمُ عند دخولِه الخلاءَ وحال قضائه للحاجة وعند خروجه منه، وهي آدابٌ عديدة تدلُّ على كمال هذه الشريعة المباركة وتمامها، وما مِن ريبٍ في أنَّ المسلمَ يفرحُ غايةَ الفرح بتلك الآداب لِما فيها من كمال الحسن في التطهير والنظافة والتنقية والتزكية، بل إنَّها مفخرةٌ للمسلم وأكْرِم بها من مفخرة. روى الإمام مسلم في صحيحه عن سَلمان الفارسي رضي الله عنه قال: "قيل له: قد علَّمكم نبيّكم كلَّ شيءٍ حتى الخِراءَةَ [أي: حتى كيفية قضاء الحاجة] فقال: أجَل، لقد نهانا أن نستقبلَ القبلةَ لغائطٍ أو بول، أو أن نستَنجِيَ باليمين، أو أن نستنجِيَ بأقلَّ من ثلاثةِ أحجارٍ، أو أن نستَنجِيَ برَجيعٍ أو عظمٍ"1. وفي لفظ آخر للحديث عند مسلم عن سَلمان رضي الله عنه قال: "قال لنا المشركون: إنِّي أرى صاحبَكم يُعلّمكم حتى يُعلِّمكم الخراءةَ، فقال: أجل، إنَّه نهانا أن يستنجيَ أحدُنا بيمينه، أو يستقبلَ القبلةَ، ونهى عن الرَّوث والعَظم، وقال: لا يستنجي أحدُكم بدون ثلاثة أحجار"2. فهؤلاء المشركون أرادوا عيبَ الصحابة رضي الله عنهم بما اشتمل عليه دينهم من تعاليم متعلِّقة بكيفية قضاء الحاجة، فقالوا على وجه السُّخريَّة: قد علَّمكم نبيُّكم كلَّ شيء حتى الخِراءةَ، فانبرى لهم سلمان الفارسيُّ رضي الله عنه

_ 1 صحيح مسلم (رقم:262) . 2 صحيح مسلم (رقم:262) .

مُبطلاً انتقادَهم محطِّماً تهكُّمَهم، وقال بكلِّ افتخارٍ واعتزازٍ "أجل" أي: نعم، لقد علَّمنا هذا الأمرَ ونحن نفخر بذلك، ثم أخذ رضي الله عنه يُعدِّدُ لهم مفتخراً شيئاً من الآداب الكريمة والتعاليم المباركة التي جاءت بها السُّنَّةُ في هذا الشأن، وهي بحقٍّ تعاليم مباركة لا يعرفها هؤلاء ونظراؤهم من أشباه الأنعام، وإنَّما يعرفها مَن منحه الله التوفيق وهداه لهذا الدِّين الحنيف، فالحمد لله على ما هدانا والشكر له على ما أولانا. وفيما يلي وقفةٌ في بيان شيء من هذه الآداب. يُستحبُّ أوَّلاً للمسلم عند دخول الخلاء أن يقول: بسم الله اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ؛ لِما ثبت في الصحيحين عن أَنَسٍ بن مالك رضي الله عنه قال: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الخَلاَءَ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ"1. والخُبث جمع خبيث، والخبائث جمع خبيثة، وقد جاء في بعض طرق الحديث ذِكر البسملة في أوَّله، قال ابن حجر رحمه الله: "وقد روى العُمري هذا الحديثَ من طريق عبد العزيز بن المختار، عن عبد العزيز بن صُهيب بلفظ الأمر: إذا دخلتم الخلاءَ فقولوا بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث، وإسنادُه على شرط مسلم"2. ويشهد لهذا ما رواه ابنُ ماجه وغيرُه عن عليٍّ رضي الله عنه مرفوعاً: "سِترُ ما بين الجِنِّ وعورات بَنِي آدم إذا دخل الخلاءَ أن يقول: "بسم الله"، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه3.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:142) ، وصحيح مسلم (رقم:375) . 2 فتح الباري (1/244) . 3 سنن ابن ماجه (رقم:297) ، وانظر: إرواء الغليل للألباني (1/87 ـ 90) .

ومن الأدب إذا كان في سفرٍ وذهب لقضاء الحاجة أن ينطلق حتى يَتَوَارى عن أصحابه؛ لِما رواه أبو داود عن المغيرة بن شعبة: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البَرازَ انطلق حتى لا يراه أحد"1. ومن السُّنّة أن لا يرفع ثوبَه حتى يدنو من الأرض؛ لِما روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما: " أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد حاجة لا يرفعُ ثوبَه حتى يدنو من الأرض"2. ومن السُّنَّة أن يستترَ عن الناس؛ لِما في صحيح مسلم عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: "كان أحبَّ ما استَتَر به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لحاجَته هَدَفٌ أو حائِشُ نَخل"3. ومن الأدب ألاَّ يبول في طريق الناس، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتَّقوا اللَّعَّانَيْن، قالوا: وما اللَّعَّانان يا رسولَ الله؟ قال: الَّذي يَتَخَلَّى في طَريق النَّاس أو ظِلِّهم"4. وروى أبو داود في سننه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتَّقوا الملاعِنَ الثلاثة: البَرازَ في الموارد، وقارعةَ الطريق، والظِّلَّ"5. والمواردُ: طرقُ الماء.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:2) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:2) . 2 سنن أبي داود (رقم:14) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في السلسلة الصحيحة (رقم:1071) . 3 صحيح مسلم (رقم:342) . 4 صحيح مسلم (رقم:269) . 5 سنن أبي داود (رقم:26) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:21) .

ومن آداب قضاء الحاجة ألاَّ يستقبلَ المسلمُ القبلةَ بغائطٍ ولا بولٍ احتراماً لها، ولا يستَدْبِرْها، وألاَّ يستنجي بيده اليمنى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّما أنا لكم بِمَنْزلة الوالد أعلِّمكم، فإذا أتى أحدُكم الغائطَ فلاَ يستقبل القبلةَ ولا يستدبرها، ولا يستطِب بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الرَّوث"1. وتأمَّل ما في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما أنا لكم بِمنْزلة الوالد أعلِّمكم" من تَمام الرعاية وحسن العناية وكمال النصح. ومن الأدب إذا استجمر المسلمُ بعد قضائه الحاجة ألاَّ يستجمر بأقلَّ من ثلاث؛ لِما في ذلك من تمام الإنقاء، ولا بأس أن يستعمل ما يقوم مقام الأحجار كالمناديل ونحوها، وله أن يستنجي بالماء وهو أفضل، ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إدواةٌ من ماء، يعني يستنجي به"2. وعلى المسلم عند قضاء الحاجة أن يحذر من رَشاش البول أن يُصيب بدنَه أو ثيابَه؛ لِما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قَبْرَين، فقال: "أمَا إنَّهما ليُعذَّبان، وما يُعذَّبان في كَبير، أمَّا أحدُهما فكان يمشي بالنميمة، وأمَّا الآخر فكان لا يستترُ من بوله"، وفي رواية: "لا يَسْتَنْزه عن البول أو من البول"3. ولا يجوز للمسلم أن يتكلَّم وقت قضائه الحاجة، ولا يشتغل بشيء من

_ 1 سنن أبي داود (رقم:8) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:2346) . 2 صحيح البخاري (رقم:150) ، صحيح مسلم (رقم:271) . 3 صحيح البخاري (رقم:1361) ، صحيح مسلم (رقم:292) .

الذِّكر والدعاء، ففي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أنَّ رجلاً مرَّ ورسول الله يبول، فسلَّم عليه، فلَم يردَّ عليه" 1، وفي الحديث دلالةٌ على أنَّ المسلمَ لا ينبغي له أن يتكلَّم وقت قضاء الحاجة؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَم يردَّ عليه بشيء، ولا ينبغي له كذلك أن يشتغل بشيء من الذِّكر والدعاء، والسلامُ ذِكرٌ ودعاء، والنبيِّ صلى الله عليه وسلم لَم يردَّ السلام على هذا المسلِّم. فهذه جملةٌ من الآداب العظيمة لقضاء الحاجة ندب إليها الإسلامُ وحثَّت عليها الشريعة، وهي تدلَّ على كمال هذا الدِّين وحسنه وجماله. ثمَّ إنَّ المسلمَ يُستحبُّ له إذا خرج من الخلاء أن يقول: غفرانك؛ لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ مِنَ الخَلاَءِ قَالَ: غُفْرَانَكَ "2. وقوله: "غُفْرَانَكَ" في هذا المقام قيل في معناه: أي "خوفاً من تقصيره في أداء شكر هذه النعمة الجليلة أن أطعمه ثم هضمه ثم سهَّل خروجه، فرأى شكره قاصراً عن بلوغ حقِّ هذه النعمة، فتداركه بالاستغفار"3. اللَّهمَّ اغفر ذنوبنا وأعنَّا على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:370) . 2 المسند (6/155) ، سنن أبي داود (رقم:30) ، وسنن الترمذي (رقم:7) ، وسنن ابن ماجه (رقم:300) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4707) . 3 انظر: الفتوحات الربانية لابن علاَّن (1/401) .

أذكار الوضوء

136 / أذكار الوضوء روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرُهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ وُضُوءَ لَهُ، وَلاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ "1، وهو حديث حسن بشواهده، وقد حسَّنه غيرُ واحد من أهل العلم، وهو دالٌّ على مشروعية التسمية في أوَّل الوضوء. وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكمها، فذهب الجمهور إلى أنَّها مستحبَّة، وذهب بعضُ أهل العلم إلى القول بوجوبها، إذا كان عالماً بالحكم ذاكراً لها، فإن جهل حكمها أو نسيها فلا حرج عليه ولا يلزمُه إعادة الوضوء. وقد سئل الإمام الشيخُ عبد العزيز بنُ باز - رحمه الله - عن حكمِ مَن ترك التسمية في الوضوء ناسياً، فقال: "قد ذهب جمهورُ أهل العلم إلى صحَّة الوضوء بدون تسمية، وذهب بعضُ أهل العلم إلى وجوب التسمية مع العلم والذِّكر، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لا وضوء لمن لَم يذكر اسمَ الله عليه"، لكنْ مَن تركها ناسياً أو جاهلاً فوضوءه صحيح، وليس عليه إعادتُه ولو قلنا بوجوب التسمية؛ لأنَّه معذورٌ بالجهل والنسيان، والحُجَّة في ذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 2، وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الله سبحانه قد استجاب هذا الدعاءَ، وبذلك تعلم أنَّك إذا نسيتَ التسميةَ في أولِ الوضوء، ثم ذكرتها في أثنائه فإنَّك تُسَمِّي، وليس عليك أن تعيد

_ 1 المسند (2/418) ، سنن أبي داود (رقم:101) ، وابن ماجه (رقم:399) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في الإرواء (1/122) . 2 سورة: البقرة، الآية (286) .

أوَّلاً؛ لأنَّك معذورٌ بالنسيان"1، اهـ كلامه رحمه الله. وأمَّا الدعاء على أعضاء الوضوء في أثناء الوضوء، كلُّ عضوٍ بدعاء مخصوص بأن يجعلَ لغسل اليدِ دعاءً ولغسل الوجه دعاءً ولغسل القَدم دعاءً ونحو ذلك، فهذا لَم يثبت فيه شيءٌ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وليس للمسلم أن يعملَ بشيء من ذلك، ومن ذلك قول بعضِهم عند المضمضة: اللَّهمَّ اسقِنِي من حوض نبيِّك كأساً لا أظمأ بعده أبداً، وعند الاستنشاق: اللَّهمَّ لا تحرمنِي رائحةَ نعيمك وجنّاتك، وعند غسل الوجه: اللَّهمَّ بيِّض وجهي يوم تبيَّض وجوه وتسودُّ وجوه، وعند غسل اليدين: اللَّهمَّ أعطنِي كتابي بيميني، اللَّهمَّ لا تُعطنِي كتابي بشمالي، وعند مسح الرأس: اللَّهمَّ حرِّم شعري وبَشَرِي على النار، وعند مسح الأذن: اللَّهمَّ اجعلنِي من الذين يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه، وعند غسل الرِّجلين: اللَّهمَّ ثبّت قدمي على الصراط، فكلُّ ذلك مِمَّا لا أصل له عن النَّبِيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم. والواجبُ على المسلم الاقتصارُ على ما جاءت به السُّنَّة، والبُعدُ عمَّا أحدثه الناسُ بعد ذلك، قال ابن القيم رحمه الله: "وأمَّا الأذكار التي يقولها العامةُ على الوضوء عند كلِّ عُضوٍ فلا أصل لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ من الصحابة والتابعين ولا الأئمَّة الأربعة، وفيها حديث كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم" اهـ2. ويُستحبُّ للمسلمِ أن يقول عقب فراغه من الوضوء: أَشْهَدُ أن لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ؛ لِما ثبت في صحيح مسلم عن عُقْبَةَ بنِ

_ 1 مجموع فتاواه ومقالاته رحمه الله (7/100) . 2 الوابل الصيب (ص:316) .

عَامِرٍ رضي الله عنه قال: " كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الإِبِلِ، فَجَاءَتْ نَوْبَتِي، فَرَوَّحْتُهَا بَعَشِيٍّ، [أَيْ: رَدَدْتُهَا إِلَى مَكَان رَاحَتِهَا فِي آخِرِ النَّهَارِ] فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِماً يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلٌ عَلَيْهَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا أَجْوَدَ هَذِهِ! فَإِذَا قَائِلٌ بَيْنَ يَدَيَّ يَقُولُ: الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ رضي الله عنه قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُكَ حَينَ جِئْتَ آنِفاً، قَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُبْلِغُ أَوْ فَيُسْبِغُ الوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أن لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ"1. ورواه الترمذي وزاد: "اللَّهمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِين واجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَّهِّرين"2، وهي زيادةٌ ثابتةُ كما بيَّن أهل العلم. وفي هذا الحديث يذكر عُقبة بن عامر رضي الله عنه حِرصَ الصحابةِ رضي الله عنهم على أوقاتِهم وتعاونَهم بينهم التعاون الذي يُحقِّق الفائدةَ للجميع، ومِن ذلك أنَّهم كانوا يتناوبون رعيَ إبلِهم، فيجتمع الجماعةُ ويَضمُّون إبلَهم بعضَها إلى بعض، فيرعاها كلَّ يوم واحدٌ منهم، ليكون ذلك أرفقَ بهم، ولينصرفَ الباقون في مصالِحهم وحاجاتهم، وليتهيَّأ لهم فرصةٌ أكبرُ للاستفادة من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وحضور مجالِسه، ولَمَّا كانت نوبةُ عقبة رضي الله عنه، وعندما عاد بالإبل إلى مراحها في آخر النهار وفرغ من أمرها، جاء إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدرك شيئاً من فوائده ولينهل من معينه المبارك، فأدرك فائدة عظيمةً فرح

_ 1 صحيح مسلم (رقم:234) . 2 سنن الترمذي (رقم:55) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترمذي (رقم:48) .

بها، وهي قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلٌ عَلَيْهَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ"، فقال رضي الله عنه مُبدياً إعجابه بهذه الفائدة العظيمة: "ما أجودَ هذه"، فسمعه عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه وكان قد رآه حين دخل، فقال له: "الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ" يُشير إلى فائدة قالها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قبل دخول عقبة رضي الله عنه، وفي هذا دلالةٌ على ما كان عليه الصحابةُ رضي الله عنهم من الحِرصِ على الخير والتعاون في الدلالة على أبوابِ العلم وأمور الإيمان، فذكر له عمرُ رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُبْلِغُ أَوْ فَيُسْبِغُ الوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أن لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ". وفي هذا فضلُ إسباغ الوضوء بإكمالِه وإتمامه على الوجه المسنون، وفضل المحافظةِ على هذا الذِّكر العظيمِ عقِب الوضوء، وأنَّ مَن فعل ذلك فُتحت له أبواب الجنَّة الثمانية ليدخل من أيِّها شاء. ويُستحبُّ أن يضمَّ إليه: "اللَّهمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِين واجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَّهِّرين"؛ لثبوت هذه الزيادة عند الترمذي كما تقدَّم، وله أن يقول كذلك: "سُبْحَانَك اللَّهمَّ وبِحَمْدِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إليك"؛ لِما رواه النسائي في عمل اليوم والليلة والحاكم في مستدركه وغيرُهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن توضَّأ ثم قال: سُبْحَانَك اللَّهمَّ وبِحَمْدِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إليك، كُتب في رَقٍّ ثم طُبع بطَابَعٍ، فلَم يكسر إلى يوم القيامة"1، والطَابَع: الخاتم، يريد أنَّه يُختم عليه، ولا يُفتح إلى يوم القيامة.

_ 1 المستدرك (1/564) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في السلسلة الصحيحة (رقم:2333) .

فهذا جملةُ ما ثبت عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من الذِّكر المتعلَّقِ بالوضوء، قال ابن القيم رحمه الله: "ولم يُحفظ عنه [أي رسول الله صلى الله عليه وسلم] أنَّه كان يقول على وضوئه شيئاً غير التسمية، وكلُّ حديث في أذكار الوضوء الذي يُقال عليه فكذبٌ مختلق لَم يقلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً منه"1، ثم استثنى رحمه الله حديثَ التسمية وحديثَي عمر وأبي سعيد المتقدِّمين. والله وحده الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل.

_ 1 زاد المعاد (1/195) .

أذكار الخروج من الصلاة, والدخول الى المسجد والخروج منه

أذكار الخروج من الصلاة, والدخول الى المسجد والخروج منه ... 137 / أذكار الخروج إلى الصلاة، ودخول المسجد والخروج منه ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُوراً، وَفِي لِسَانِي نُوراً، وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُوراً، وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي نُوراً، وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُوراً، وَمِنْ أَمَامِي نُوراً، وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُوراً، وَمِنْ تَحْتِي نُوراً، اللَّهُمَّ اعْطِنِي نُوراً "1. وهذا الحديثُ يدلَّ على مشروعية قولِ هذا الدعاء عند التوجُّه إلى المسجد، وكلُّه سؤالٌ لله تبارك وتعالى بأن يجعلَ النورَ في كلِّ ذرَّاته الظاهرة والباطنة، وأن يجعله محيطاً به من جميع جهاته، وأن يجعلَ ذاتَه وجملته نوراً، وهذا مناسبٌ غاية المناسبة مع ما ثبت في صحيح مسلم أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "والصَّلاةُ نُورٌ" 2، فالصلاة نورٌ للمؤمن في دنياه وفي قبره وفي الآخرة، وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: "مَن حافظَ عليها كانت له نوراً وبُرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لَم يُحافظ عليها لَم يكن له نور ولا بُرهان ولا نجاةٌ يوم القيامة" رواه أحمد3، فكان في غاية المناسبة وتمام الحسن والمسلمُ متَّجهٌ إلى المسجد لأداء هذه الصلاة التي هي نور للمؤمن أن يسأل اللهَ أن يُعظِمَ حظَّه من النور في جسمه كلِّه، وأن يجعله محيطاً به من جميع جوانبه.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:763) . 2 صحيح مسلم (رقم:223) . 3 المسند (2/169) ، قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "بإسناد حسن". مجموع فتاواه (10/278) .

ثم إنَّ المسلمَ يُستحبُّ له إذا دخل المسجد أن يقول: بسم الله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ"، وأن يقول كذلك: "أَعُوذُ بِاللهِ العَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الكِرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ القَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ". وإذا خرج أن يقول: بسم الله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ، اللَّهمَّ اعْصِمْنِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وقد دلَّ على ذلك مجموع أحاديث: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجدَ قال: بسْمِ اللهِ، اللَّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد، وَإذا خَرَجَ قال: بسْمِ اللهِ، اللَّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ" رواه ابن السُّني في عمل اليوم والليلة1. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إِذا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فليُسلِّم على النَّبِيِّ وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ فليُسلِّم على النَّبِيِّ وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي مِنَ الشَّيْطَانِ" رواه النسائي وابن ماجه والحاكم2، وجاء في بعض ألفاظه: "اللَّهمَّ باعدني من الشيطان". وعن أَبِي حُمَيْدٍ أو عن أَبِي أُسَيْدٍ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا

_ 1 عمل اليوم والليلة (رقم:89) ، وسنده ضعيف، وقال الألباني رحمه الله: "لكن للحديث شاهد من حديث فاطمة عند ابن السني والترمذي، وقال: حديث حسن". تخريج الكلم الطيب (ص:51) . 2 السنن الكبرى (6/27) ، وسنن ابن ماجه (رقم:773) ، والمستدرك (1/207) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:514) .

خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ" رواه مسلم1. وعن عبد الله بن عَمروٍ بنِ العَاصِ رضي الله عنهما، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ المَسْجِدَ قَالَ: "أَعُوذُ بِاللهِ العَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الكِرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ القَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ اليَوْمِ ". رواه أبو داود2. وهذا مجموع ما ورد مِمَّا يُستحبُّ للمسلم أن يقولَه عند دخول المسجد وعند الخروج منه، وإن طال عليه ذلك اقتصر على ما في صحيح مسلم، وهو أن يقول عند الدخول: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وعند الخروج: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ. قوله: "إذا دخل المسجد" أي حال دخوله المسجد، وقوله: "إذا خرج" أي حال خروجه منه. قوله: "بسم الله" عند الدخول وعند الخروج، الباء للاستعانة، وكلُّ فاعل يقدر الفعل المناسب لحاله عند البسملة، والتقدير هنا بسم الله أدخل أي: طالباً عونَه سبحانه وتوفيقه، وهكذا الشأن في الخروج. قوله: "والصلاة والسلام على رسول الله" فيه فضل الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد وعند الخروج منه، وهو من المواطن التي يُستحبُّ الصلاةُ فيها والسلامُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فصَّلها ابن القيِّم رحمه الله في كتابه: جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:713) . 2 سنن أبي داود (رقم:466) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:1606) .

وفي قوله: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، عند الدخول، واللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ، عند الخروج حكمة، فقيل: لعلَّ ذلك لأنَّ الداخلَ طالبٌ للآخرة، والرَّحمةُ أخصُّ مطلوبٍ له، والخارجُ طالبٌ للمعاش في الدنيا وهو المراد بالفضل، وقد أشار إلى ذلك قولُه تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} 1، وقيل: لأنَّ مَن دخل المسجد فإنَّه ينشغل بما يقربه إلى الله ونيل ثوابه وجنَّته فناسبَ ذكرُ الرحمة، وإذا خرج من المسجد انتشر في الأرض ابتغاء فضل الله لرزقه الطيب والحلال فناسب ذكرُ الفضل2، والله أعلم. وقد دلَّت النصوصُ المتقدِّمة على أهميَّة التعوُّذ بالله من الشيطان الرجيم والالتجاء إلى الله عزَّ وجلَّ منه سواء عند دخول المسجد أو عند الخروج منه، وفي الدخول يقول كما في حديث عبد الله بن عَمرو المتقدّم: "أَعُوذُ بِاللهِ العَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الكِرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ القَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ"، وأنَّ العبدَ إذا قال ذلك قال الشيطان: حُفظ منِّي سائر اليوم، أي جميعه. وفي الخروج يقول كما في حديث أبي هريرة المتقدِّم: "اللَّهمَّ اعصمني من الشيطان". وما مِن شكٍّ أنَّ الشيطان حريصٌ على الإنسان غاية الحرص عند دخول المسجد ليَصدّه عن صلاته، وليفوت عليه خيرها، وليقلل حظّه ونصيبه من الرحمة التي تنال بها، وحريص غاية الحرص على الإنسان عند خروجه من المسجد ليسوقه إلى أماكن الحرام وليوقعه في مواطن الريب، وقد صحَّ في

_ 1 سورة: الجمعة، الآية (10) . 2 انظر: شرح الأذكار لابن علاَّن (2/42) .

الحديث أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ الشيطان قاعدٌ لابن آدم بأطرقه"1، أي: في كلِّ طريق يسلكه الإنسان سواء كان طريق خير أو طريق شرٍّ، فإن كان طريق خير قعد له فيه ليُثبطه عنه وليُثنه عن المُضِيِّ فيه، وإن كان بخلاف ذلك قعد له فيه ليشجعه على المضيِّ فيه، وليدفعه على الاستمرار والمواصلة، نسأل الله أن يعيذنا وإيَّاكم وجميع المسلمين منه. وقوله: "أَعُوذُ بِاللهِ العَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الكِرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ القَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" فيه تعوُّذٌ بالله وأسمائه وصفاته، ومن صفاته سبحانه وجهُهُ الموصوف بالكرم وهو الحسن والبهاء، ومن صفاته السلطانُ الموصوف بالقِدم وهو الأوليَّةُ التي ليس قبلها شيء، وفي هذا دلالة على عظمة الله سبحانه وجلاله وكماله، وكمال قدرته وكفايته لعبده المستعيذ به الملتجئ إليه سبحانه.

_ 1 سنن النسائي (6/21) ، والمسند (3/483) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:1652) .

ما يقوله من سمع الأذان

138 / ما يقوله مَن سمع الأذان لقد ورد في شأن الأذان وهو النِّداءُ إلى الصلاة والإعلام بدخول وقتِها بألفاظ مخصوصة نصوصٌ كثيرة في سنَّة النَّبِيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم تدلُّ على فضلِه وعظَم شأنه وكثرةِ منافعه وفوائده، سواء على المؤذن نفسِه أو على من يسمع نداءه. فمن فضائل الأذان ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ "1، ومدى صوتِه: أي غايتُه ومنتهاه. وفي الحديث دلالة على أنَّ كلَّ مَن سمع صوتَ المؤذِّن من الإنس أو الجنِّ أو الشجر أو الحجر أو الحيوانات يشهد له بذلك يوم القيامة، وفي هذا دلالة على استحباب رفع الصوت بالأذان لِيَكثُرَ مَن يشهد له، ما لَم يُجْهِدْه أو يتأذى به. ومن فضائل الأذان ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يَعلم الناسُ ما في النّداء والصَّف الأول ثم لَم يجدوا إلاَّ أن يستهموا عليه لاستَهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العَتمة والصبح لأتوهما ولو حَبْواً"2. والاستهامُ: الاقتراعُ، والتَّهجيرُ: التبكير إلى صلاة الظهر، وقيل: إلى كلِّ صلاة، والعتمة: صلاة العِشاء.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:609) . 2 صحيح البخاري (رقم:615) ، وصحيح مسلم (رقم:427) .

ومن فضائل الأذان ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نُوديَ للصلاة أدْبَرَ الشيطانُ له ضُراط، حتى لا يسمع التأذين، فإذا قُضي التأذين أَقْبَلَ، فإذا ثُوِّب بالصلاة أَدْبَر [أي: إذا أقيمت الصلاة] فإذا قُضي التَّثويبُ أَقْبَلَ، حتى يَخطرَ بين المَرء ونفسه، يقول: اذْكُر كذا، اذكُر كذا لِمَا لَم يكن يَذْكُر، حتى يَظلَّ الرَّجلُ لا يَدري كم صلَّى"1. وقد دلّ الحديث على أنَّ الأذان يطردُ الشيطان، وأنَّه إذا سمعه ولَّى هارباً حتى لا يسمع التأذين، فهو حينما يسمعه يهرب نفوراً عن سماعه، فإذا قضي يرجع موسوساً ليُفسد على المصلِّي صلاته. والنصوص في فضل الأذان كثيرة. ثم إنَّ المسلمَ إذا سمع النِّداء يُستحبُّ له أن يقول مثلَ ما يقول المؤذِّن؛ لِما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إِذَا سَمِعْتُم النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ المُؤَذِّنُ "2. وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا قَالَ المُؤَذِّنُ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ أَحَدُكُمْ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ، قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، ثُمَّ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ

_ 1 صحيح البخاري (رقم:608) ، وصحيح مسلم (رقم:389) . 2 صحيح البخاري (رقم:611) ، وصحيح مسلم (رقم:383) .

قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ مِنْ قَلْبِهِ، دَخَلَ الجَنَّةَ"1. وهذا فيه فضلُ سماع النِّداء وترديد كلماته مع المؤذن، بأن يقول مثلَ قوله في جميع الكلمات إلاَّ قوله: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، فيقول بدلهما: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله؛ لأنَّ قوله: حيَّ على الصلاة دعوةٌ للناس للمجيء لأداء الصلاة، وقوله: حيَّ على الفلاح دعوةٌ لهم للمجيء لتحصيل ثوابها، وفي قول المسلم عند سماع ذلك "لا حول ولا قوة إلاَّ بالله" طلب للعون من الله في تحقيق ذلك. ثم قوله صلى الله عليه وسلم: "من قلبِه" فيه دلالة على اشتراط الإخلاص؛ لأنَّه أصلٌ لا بدَّ منه في قبول الأعمال والأقوال. ومن السُّنَّة أن يقول المسلم عقِب سماعه للشهادتين: وأنا أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً؛ لِما روى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ المُؤَذِّنَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً، غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ"2. ورواه أبو عوانة في مستخرجه بلفظ: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ المُؤَذِّنَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، قال: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَضِيتُ بِاللهِ ... " الحديث، وهو صريحٌ في أنَّ السَّامعَ يقول ذلك بعد جواب المؤذِّن على الشهادتين، يقوله مرَّة واحدة3.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:385) . 2 صحيح مسلم (رقم:386) . 3 انظر: تصحيح الدعاء للشيخ بكر أبوزيد (ص:371) .

ويُستحبُّ للمسلم بعد انتهاء الأذان أن يُصلِّي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يسأل اللهَ له الوسيلة، ومن سأل له الوسيلة حلَّت له الشفاعة، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّه سمع النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذا سَمِعْتُمُ المُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ الوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الجَنَّةِ لاَ تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ"1. وأفضلُ صيغ الصلاة عليه هي الصلاةُ الإبراهيميَّة التي علّمها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّته بأن يقول: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ". وروى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّداً الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ"2. ثمَّ إنَّ للمسلم بعد ذلك أن يدعو اللَه لنفسه بما شاء من خيري الدنيا والآخرة، فإنَّ هذا الموطن من مواطن إجابة الدعاء، فقد روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّ رجلاً قال: يا

_ 1 صحيح مسلم (رقم:384) . 2 صحيح البخاري (رقم:614) .

رسول الله، إنَّ المؤذِّنين يفضلونَنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُلْ كما يَقولونَ، فإذا انتهيتَ فسَلْ تُعْطَه"1. وروى أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاَ يُرَدُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ"2. فهذا جملةُ ما ورد في هذا الباب، وليحذر المسلمُ أشدَّ الحذر مِمَّا أحدثه الناسُ مِمَّا لَم تثبت به سُنَّة ولم يقُم عليه دليل، والله تعالى أعلم.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:524) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4403) . 2 سنن أبي داود (رقم:521) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:3408) .

أذكار استفتاح الصلاة

139 / أذكار استفتاح الصلاة لقد ثبت عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنواعٌ من الأذكار والأدعيَّة يستفتحُ بها المسلمُ صلاتَه فرضَها ونفلَها، ولم يكن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُداومُ على استفتاحٍ واحد، بل كان يستفتحُ بأنواعٍ من الاستفتاحات، وهي في الجملة مشتملة على تعظيم الله وتمجيدِه وحُسن الثناء عليه تبارك وتعالى بما هو أهله، وسؤاله مغفرة الذنوب، ولا يلزم المسلمَ نوعٌ معيَّن من هذه الأنواع، بل بأيٍّ منها أخذ لا حرج عليه، والأوْلَى أن يفعل بعضَها تارة وبعضَها تارة؛ لأنَّ ذلك أكملُ في الاتِّباع. ومن هذه الاستفتاحات ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا اسْتَفْتَحَ الصَّلاَةَ سَكَتَ هُنَيَّةً قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ! بِأَبِي وَأُمِّي، أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالمَاءِ وَالبَرَدِ"1. وفي هذا الاستفتاح سؤالٌ لله تبارك وتعالى أن يُباعِدَ بين العبد وبين خطاياه وهي الذنوب كما باعد بين المشرق والمغرب، وذلك بمَحو الذنوب وعدم المؤاخذة عليها والتوفيق للبُعد عنها، وأن ينقيه من خطاياه أي: ينظفه منها كما ينظف الثوب الأبيض من الدَّنَس بحيث لا يبقى فيه أيُّ أثَر، وأن يغسلَه من خطاياه بالثلج والماء والبَرَد، وفي هذا إشارةٌ إلى شدِّة حاجة القلب والبَدن إلى ما يطهِّرهما ويبردهما ويقويهما.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:744) ، وصحيح مسلم (رقم:598) .

ومن استفتاحاته صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو داود وغيرُه عن عائشة وأبي سعيد رضي الله عنهما وغيرِهما: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان إِذا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ قَالَ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ"1. وهذا الاستفتاح أُخلِص للثناء على الله سبحانه وتنزيهه عن كلِّ ما لا يليق به، وأنَّه تبارك وتعالى منزَّهٌ عن كلِّ عيب، سالمٌ من كلِّ نقص، محمودٌ بكلِّ حمد. ومعنى قوله: "تَعَالَى جَدُّكَ" أي: ارتفعت وعلَت عظمتُك، وجلت فوق كلِّ عظمة، وعلا شأنُك على كلِّ شأن، وقهر سلطانُك على كلِّ سلطان، فتعالى جدُّه تبارك وتعالى أن يكون معه شريك في المُلك أو الربوبية أو الألوهية، أو في شيء من أسمائه وصفاته، كما قال مؤمنو الجنِّ: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} 2، أي: تعالت عظمتُه وتقدَّست أسماؤه من أن يكون له صاحبة أو ولد. وقوله: "ولا إله غيرك" أي: لا معبود بحقٍّ سواك. فاشتمل هذا الاستفتاح العظيم على أنواع التوحيد الثلاثة؛ توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. ومن الاستفتاحات الثابتة ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "بينما نحن نُصَلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال رجلٌ من القوم: الله أكبرُ كبيراً، والحمدُ لله كثيراً، وسبحان اللهِ بُكرةً وأصيلاً،

_ 1 سنن أبي داود (رقم:775) ، و (رقم:776) ، ورواه مسلم (رقم:399) عن عمر بن الخَطَّاب رضي الله عنه موقوفاً عليه. 2 سورة: الجن، الآية (3) .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن القائل كلمة كذا وكذا قال رجلٌ من القوم: أنا يا رسول الله، قال: عجبتُ لها، فُتحت لها أبواب السماء ". قال ابن عمر: فما تركتُهنَّ منذ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك1. وهذا كلُّه ذِكرٌ لله وثناءٌ عليه سبحانه بهذه الكلمات العظيمة: "الله أكبرُ كبيراً، والحمدُ لله كثيراً، وسبحان اللهِ بُكرةً وأصيلاً"، فكلُّه تكبيرٌ وتحميدٌ وتسبيحٌ لله، فهو مُخلصٌ في الثناء على الله عزَّ وجلَّ. ومن الاستفتاحات الواردة ما رواه مسلم في صحيحه عن عليٍّ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ كَانَ إِذا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعاً، إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، واهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ، لاَ يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ"2. وهذا كلُّه خبر من العبد عمّا ينبغي أن يكون عليه من ذُلٍّ وخضوع وانكسار بين يدي فاطر السموات والأرض. وقوله: "وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ" أي: أخلصتُ دينِي وعملي، وقصدتُك وحدك بعبادتِي وتوجُّهي، وقوله: "حنيفاً" أي مائلاً عن الشِّرك إلى التوحيد.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:601) . 2 صحيح مسلم (رقم:771) .

وقوله: "إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ" خصَّ هاتَين العبادَتَين الصلاة والنُّسُكَ ـ وهو الذبح ـ بالذِّكر؛ لشرفهما وعِظَم فضلهما، ومَن أخلص في صلاته ونُسُكِه استلزم إخلاصه لله في سائر أعمالِه، وقوله: "مَحْيَايَ وَمَمَاتِي" أي: ما آتيه في حياتِي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح كلُّه لله ربِّ العالمين، لا شريك له في شيء من ذلك. وقوله: "اللَّهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعاً، إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ" فيه التوسُّل إلى الله بملكه وألوهيته وربوبيته، واعترافُ العبد بأنَّه عبدٌ له ظالِمٌ لنفسه معترف بذنبه، وأنَّه سبحانه غافرُ الذنوب ولا يغفرها إلاَّ هو، وهو بهذا يطمع من ربِّه أن يغفر له ذنبَه. وقوله: "واهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ، لاَ يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ" فيه سؤال الله الهدايةَ إلى الخُلُق الحسن، واعترافه بأنّه لا يهدي إليه إلاَّ الله، وأن يصرف عنه الخُلُقَ السيِّئ الرديء، واعترافه بأنَّه لا يصرفه عنه إلاَّ الله. وقوله: "لبَّيْك" استجابة لنداء الله وامتثال أمره سبحانه، وقوله: "وسعديك" أي: إسعاداً بعد إسعاد، والمراد: طاعة بعد طاعة. وقوله: "والخيرُ كلُّه في يَدَيْك" أي: خزائنه عندك، وأنت المانُّ به المتفضِّل وحدك. وقوله: "والشَّرُّ ليس إليك" فيه تنزيه الله عن الشرِّ أن يُنسب إليه، فالشرُّ لا يُنسب إلى الله بوجه من الوجوه، لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، وإنَّما الشرُّ يدخل في مخلوقاته ومفعولاته، فالشرُّ في

المقضي لا في القضاء، فتبارك وتعالى عن نسبة الشرِّ إليه، بل كلُّ ما نُسب إليه فهو خير. وقوله: "وأنا بكَ وإليكَ" أي: بك أستجير وإليك ألتجئ، أو بك أحيا وأموت وإليك المرجع والمصير. وقوله: "تباركتَ وتعاليتَ" فيه إثبات استحقاقه سبحانه الثناء والتعظيم. ثم ختم هذا الاستفتاح بالاستغفار والتوبة، وللحديث صلة، والله تعالى أعلم.

أنواع استفتاحات الصلاة

140 / أنواع استفتاحات الصلاة سبق أن مرَّ معنا ذكرُ أنواع استفتاحات النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم للصلاة، وبيانُ شيء من معانيها ودلالتها، وسبق الإشارةُ إلى أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَم يكن يداومُ على نوعٍ من تلك الأنواع، بل يستفتح بهذا تارةً وبهذا تارة، ومَن يتأمَّل في هذه الاستفتاحات المأثورة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يجدُ أنَّها على ثلاثة أنواع: نوعٌ فيه الثناءُ على الله، ونوعٌ فيه إخبارٌ من العبد عن عبادة الله، ونوعٌ فيه دعاءٌ وطلب. وقد قرَّر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أصلاً عظيماً في هذا الباب وأطال في ذِكر شواهده ودلائله، ألا وهو أنَّ أعلى الذِّكر ما كان ثناءً على الله، ويليه ما كان خبراً من العبد عن عبادة الله، ويليه ما كان دعاءً من العبد، ثم قال رحمه الله عقب ذلك: "إذا تبيَّن هذا الأصل، فأفضلُ أنواع الاستفتاح ما كان ثناءً محضاً، مثل (سبحانك اللَّهمَّ وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك) ، وقوله: (الله أكبرُ كبيراً، والحمدُ لله كثيراً، وسبحان اللهِ بُكرةً وأصيلاً) ، ولكنْ ذاك فيه من الثناء ما ليس في هذا، فإنَّه تضمَّن ذِكرَ الباقيات الصالحات التي هي أفضلُ الكلام بعد القرآن، وتضمّن قوله: (تبارك اسمك وتعالى جدُّك) وهما من القرآن أيضاً، ولهذا كان أكثرُ السلف يستفتحون به، وكان عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه يجهر به يُعلِّمُه الناسَ. وبعده النوعُ الثاني وهو الخبر عن عبادة العبد، كقوله: (وجَّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض.. الخ) ، وهو يتضمَّن الدعاء، وإن استفتح العبدُ بهذا بعد ذلك فقد جمع بين الأنواع الثلاثة، وهو أفضلُ الاستفتاحات كما جاء ذلك في حديثٍ مُصرَّحاً به، وهو اختيار أبي يوسف وابن هُبيرة الوزير، ومن أصحاب أحمد صاحبِ الإفصاح، وهكذا أستفتحُ أنا.

وبعده النوعُ الثالث، كقوله: (اللَّهمَّ باعِد بينِي وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ... الخ) ... ". اهـ كلامه رحمه الله1. وكان رحمه الله قد قرَّر في مواضع من مؤلفاته قاعدةً نافعةً تتعلَّق بالعبادات التي جاءت في الشريعة على أنواع، وهي أنَّها تُفعل على جميع تلك الأنواع الواردة، قال رحمه الله: "قد تقدَّم القولُ في مواضعَ أنَّ العبادات التي فعلها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم على أنواعٍ يُشرَع فعلُها على جميع تلك الأنواع، لا يكره منها شيء، وذلك مثلُ أنواع التشهدات، وأنواع الاستفتاح، ومثل الوتر أول الليل وآخرَه، ومثلُ الجهر بالقراءة في قيام الليل والمخافتة، وأنواع القراءات التي أُنزل القرآن عليها، والتكبير في العيد، ومثلُ الترجيع في الأذان وتركه، ومثلُ إفراد الإقامة وتثنيتها ... "، ثم ذكر رحمه الله أنَّ الكلامَ في هذه المسألة من مقامَين: أحدهما: في جواز تلك الوجوه كلِّها بلا كراهة، والمقامُ الثاني: هو أنَّ ما فعله النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم من أنواعٍ متنوِّعة، وإنْ قيل إنَّ بعضَ تلك الأنواع أفضلُ، فالاقتداءُ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في أن يُفعل هذا تارةً وهذا تارة أفضلُ من لزوم أحد الأمرين وهجر الآخر، وذلك أنَّ أفضلَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يُداومُ على استفتاح واحد قطعاً"2. وقال رحمه الله: "ونحن إذا قلنا التنوُّعُ في هذه الأذكار أفضلُ، فهو أيضاً تفضيلٌ لجِنس التنوُّع، والمفضولُ قد يكون أنفعَ لبعض الناس لمناسبته له لأنَّ انتفاعَه به أتمُّ، وهذه حالُ أكثر الناس، قد ينتفعون بالمفضول لمناسبته

_ 1 مجموع الفتاوى (22/394 ـ 395) . 2 انظر: مجموع الفتاوى (22/336 ـ 343) .

لأحوالِهم الناقصة ما لا ينتفعون بالفاضل، فالعبادة التي ينتفعُ بها فيحضر لها قلبُه ويرغبُ فيها أفضلُ من عبادة يفعلها مع الغفلة وعدم الرغبة، وعلى هذا قد تكون مداومتُه على النوع المفضول أنفعَ لمحبَّته وشهودِ قلبه وفهمِه ذلك الذِّكر"1. ثم إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنواعٌ أخرى من الاستفتاح كان يستفتح بها صلاةَ الليل، منها ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ، لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ"2. وهذا الذِّكر تضمَّن الأنواعَ الثلاثة المتقدّمة: الثناءَ على الله، والإخبارَ من العبد عن عبادة الله، والسؤالَ والطلب، وقدَّم ما هو خبرٌ عن الله واليوم الآخر ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر ما هو خبرٌ عن توحيد العبد وإيمانه، ثم ختمه بالسؤال والطلب3.

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى (22/348) . 2 صحيح البخاري (رقم:1120) ، وصحيح مسلم (رقم:769) . 3 انظر: مجموع الفتاوى (22/390) .

وهو في الجملة ذكرٌ عظيمٌ ودعاءٌ مبارَكٌ مشتملٌ على أصول الإيمان وأُسُسِ الدِّين وحقائق الإسلام، وفيه التوسُّلُ إلى الله بحمده والثناء عليه والإقرار بعبوديته، ثم سؤالُه تبارك وتعالى مغفرةَ الذنوب. ومن استفتحاته صلى الله عليه وسلم لصلاة الليل ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ: اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"1. وهذا فيه التوسُّل إليه سبحانه بربوبيته العامة والخاصّة لهؤلاء الثلاثة من الملائكة الموكلين بالحياة؛ فجبريل موكَّلٌ بالوحي الذي به حياةُ القلوب والأرواح، وميكائيل موكَّلٌ بالقَطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل موكَّلٌ بالنفخ في الصُّور الذي به حياة الخلق بعد مماتِهم2، وتوسُّلٌ إليه سبحانه بكونه فاطر السموات والأرض، أي: خالقهما ومبدعهما، وبعلمه سبحانه الغيب والشهادة، أي: السِّرَّ والعلانيةَ، وبأنَّه سبحانه هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، أن يهديه لِما اختلف فيه من الحقِّ بإذنه، والهدايةُ هي العلمُ بالحقِّ مع قصده وإيثاره على غيره، والمهتدي هو العاملُ بالحقِّ المريد له، وهي أعظم نعمة لله على العبد، نسأل الله أن يهديَنا جميعاً إليه صراطاً مستقيماً، وأن يوفِّقنا لكلِّ خير.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:770) . 2 انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (2/172) .

أذكار الركوع والقيام منه والسجود والجلسة بين السجدتين

141 / أذكار الركوع والقيام منه والسجود والجلسة بين السجدتين ورد في هذا أنواع من الأذكار والأدعية، وفيما يلي عرض لجملة من النصوص الواردة في هذا الباب مع إيضاح شيء من معانيها ودلالتها. روى مسلم في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ البَقَرَةَ، فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ المِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً، إِذا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ العَظِيم، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْواً مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً قَرِيباً مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيباً مِنْ قِيَامِهِ"1. ففي هذا الحديث مشروعية أن يقولَ المسلمُ في ركوعه (سبحان ربي العظيم) وفي سجوده (سبحان ربي الأعلى) ، قال ابن القيم رحمه الله: "فشُرعَ للرَّاكع أن يَذكرَ عَظمة ربِّه في حال انخفاضه هو وتطامنه وخضوعه، وأنه سبحانه يوصف بوصف عظمته عما يضاد كبرياءه وجلاله وعظمته، فأفضل ما يقول الراكع على الإطلاق: (سبحان ربي العظيم) فإن الله سبحانه أمر العباد بذلك، وعين المبلغُ عنه السفيرُ بينه وبين عباده هذا المحل لهذا الذكر لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} 2 قال: "اجعلوها في ركوعكم" ... "3.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:772) . 2 سورة: الواقعة، الآية (74) . 3 كتاب الصلاة لابن القيم (ص:176) .

وقال عن السجود: "وشرع فيه من الثناء على الله ما يناسبه، وهو قول العبد (سبحان ربي الأعلى) ، فهذا أفضل ما يقال فيه، ولم يرد عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أمره في السجود بغيره حيث قال: "اجعلوها في سجودكم" وكان وصف الرب بالعلو في هذه الحال في غاية المناسبة لحال الساجد الذي قد انحط إلى السفل على وجهه، فذكر علو ربه في حال سقوطه، وهو كما ذكر عظمته في حال خضوعه في ركوعه، ونزه ربه عما لا يليق به مما يضاد عظمته وعلوه"1. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولُ فِي رُكُوعِه وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأَوَّلُ القُرْآنَ "2. والمراد بقولها رضي الله عنها يتأول القرآن؛ أي: يتأول قول الله عز وجل في سورة النصر: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} 3، فكان يُكثر أن يقولَ في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللَّهمَّ ربنا وبحمدك اللَّهمَّ اغفرلي". وروى مسلم في صحيحه عنها رضي الله عنها: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِه وَسُجُودِهِ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ "4. وقوله: "سُبُّوح قُدُّوس" هما اسمان لله دالان على تعظيم الله وتنْزيهه سبحانه عن كلِّ ما لا يليق به من النقائص والعيوب، وعن أن يشبههُ أحدٌ

_ 1 كتاب الصلاة لابن القيم (ص:181) . 2 صحيح البخاري (رقم:794) ، وصحيح مسلم (رقم:484) . 3 سورة: النصر، الآية (3) . 4 صحيح مسلم (رقم:487) .

من خلقه في شيء من خصائصه ونعوت كماله، وقوله: "ربُّ الملائكة والروح" فيه ذكر ربوبية الله للملائكة عموماً، ثم خَصَّ بالذِّكر جبريل عليه السلام الروح الأمين؛ لكونه أفضلَ الملائكة ومقدّمَهم، وهو الذي كان يَنْزل بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1، وقد سُمِّي جبريل عليه السلام روحاً؛ لأنَّه كان يَنْزل بالوحي الذي به حياة القلوب. وروى أبو داود والنسائي وغيرهما عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: "قُمْتُ مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَقَامَ فَقَرَأَ سُورَةَ البَقَرَةِ، لاَ يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إِلاَّ وَقَفَ فَسَأَلَ، وَلاَ يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إِلاَّ وَقَفَ فَتَعَوَّذَ، قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ ذِي الجَبَرُوتِ وَالمَلَكُوتِ وَالكِبْرِيَاءِ وَالعَظَمَةِ، ثُمَّ سَجَدَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي سُجُودِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ بِآلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَرَأَ سُورَةً سُورَةً"2. وقوله: "سبحان ذي الجبروت والملكوت" أي: تَنَزَّه وتقدَّس، "والجبروت والملكوت" فَعَلُوت من الجبر والملك، كالرَّحَموت والرَّغَبوت والرَّهَبوت فَعَلُوتٌ من الرحمة والرغبة والرهبة، والعرب تقول: "رهبوت خير من رحموت" أي: أن ترهب خير من أن ترحم، فالجبروت والملكوت يتضمن من معاني أسماء الله وصفاته ما دل عليه معنى الملك الجبار3، قال الله تعالى في

_ 1 سورة: الشعراء، الآيات (192 ـ 195) . 2 سنن أبي داود (رقم:873) ، وسنن النسائي (رقم:1120) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:776) . 3 انظر الرد على المنطقيين لابن تيمية (ص:196) .

آخر سورة يس {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1. وقوله: "والكبرياء والعظمة" أي: وذي الكبرياء والعظمة، وهما وصفان متقاربان خاصَّان بالله تعالى، لا يستحقهما أحدٌ سواه، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "قال الله عزَّ وجلَّ: "الكبْرياءُ ردَائِي، والعظَمةُ إزاري، فمَن نازعَنِي واحداً منهما قَذَفْته في النار"2. فجعل العظَمةَ بِمنْزلة الإزار، والكبرياء بمنْزلة الرداء، إشارة إلى اختصاص الرَّبِّ سبحانه بهما، وتنْزيهه سبحانه عن الشريك في شيء من ذلك. وروى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حديث طويل: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا رَكَعَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي، وَإِذَا رَفَعَ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ، وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ"3. قوله: "اللَّهمَّ لك ركعت" تأخيرُ الفعل يَدلُّ على الاختصاص؛ أي: لك ركوعي لا لسواك. وقوله: "وبك آمنت" أي: أقرَرْتُ وصدَّقت.

_ 1 سورة: يس، الآية (83) . 2 سنن أبي داود (رقم:4090) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (رقم:541) . 3 صحيح مسلم (رقم:771) .

وقوله: "ولك أسلمت" أي: انقدت وأطعت. وقوله: "خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي" أي: أن هذه الأشياء مني كلها خضعت لك وذلت بين يديك وانكسرت لجَنَابك. وقوله إذا رفع من الركوع: "سمع الله لمن حمده" أي: استجاب الله لمن حمده فالسمع هنا سمع إجابة. وقوله: "ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد"، سيأتي الكلام عن معناه إن شاء الله. وقوله: "سجد وجهي للذي خلَقَه وصوَّره وشَقَّ سمعَه وبصرَه، تبارك الله أحسن الخالقين" فيه استحضارُ العبد لعظمة الله سبحانه، وكمال خلقه للإنسان في أكمل صورة وأحسن تقويم، فتبارك الله أحسن الخالقين.

ومن أذكار الصلاة

142 / ومن أذكار الصلاة لا يزال الحديث عن الأذكار المتعلقة بالصلاة، لقد ثبت عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنواعٌ من الأذكار يُشرع للمسلم أن يَقولَها عند الرفع من الركوع، وهي في الجملة حمدٌ لله وثناءٌ عليه وتمجيد له سبحانه. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إِذا قَالَ الإِمَامُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهَ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" 1. وفي لفظ: "اللَّهُمَّ ربَّنا وَلَكَ الحَمْدُ" بزيادة "الواو" وهو في الصحيحين، قال ابن القيم رحمه الله: "ولا يُهمل أمرَ هذه الواو في قوله "ربنا ولك الحمد"، فإنَّه قد ندب الأمر بها في الصحيحين، وهي تجعل الكلامَ في تقدير جملتين قائمتين بأنفسهما، فإنَّ قوله: (ربَّنا) متضمن في المعنى أنت الرب والمَلِك القيُّوم الذي بيديه أزِمَّة الأمور وإليه مرجعها، فعطف على هذا المعنى المفهوم من قوله: "ربنا" قوله "ولك الحمد" فتضمَّن ذلك معنى قول الموحِّد: له الملك وله الحمد"2. وفي صحيح مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع من الركوع قال: اللَّهمَّ ربَّنا لكَ الحمدُ مِلءَ السموات، ومِلءَ الأرض، ومِلءَ ما بينهما، ومِلءَ ما شئتَ من شيء بعد"3.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:795، 796) ، وصحيح مسلم (رقم:409) . 2 كتاب الصلاة (ص:177) بتصرف يسير. 3 صحيح مسلم (رقم:477) .

وقوله: "ملء السماوات …" إلخ أي: حمداً وصفه وقدره أنَّه يملأ العالم العلوي والسفلي والفضاء الذي بينهما، فهذا الحمد بهذه الصفة يملأ جميع الخلق الموجود. وقوله: "وملء ما شئت من شيء بعد" أي: حمداً يَملأ ما يخلقُه الرَّبُّ تبارك وتعالى بعد ذلك وما يشاؤه سبحانه. وعلى هذا فحمده سبحانه مَلأَ كلَّ موجود، ومَلأَ ما سيوجد1. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ مِلَءَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ العَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ"2. قوله: "رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ مِلَءَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ" تقدم بيان معناه، وقوله: "أهل الثناء والمجد" أي أنت يا الله أهلٌ أن يُثنَى عليك وتُمَجَّد لعظمة صفاتك وكمال نعوتك وتوالي نعمك وكثرة آلائك. وقوله: "أحقُّ ما قال العبد": أي: إنَّ هذا الثناء عليك والتمجيد هو أحق شيء قاله العبد وتلفظ به، فقوله: "أحقُّ" خبَرٌ لمبتدأ محذوف تقديره هذا الثناء والتمجيد، وقد جاءت هذه الجملة تقريراً لحمده وتمجيده والثناء عليه، ولبيان أنَّ ذلك أحقُّ شيء نَطق به العبدُ، وأفضلُ أمر تكلَّم به.

_ 1 انظر: كتاب الصلاة لابن القيم (ص:177) . 2 صحيح مسلم (رقم:771) .

وقوله: "وكُلُّنا لك عبد" فيه اعتراف بالعبودية، وأنَّ ذلك حكم لجميع الناس، فكلُّهم معبدون مُذَلَّلُون لله سبحانه، هو ربُّهم وخالقُهم، لا ربَّ لهم ولا خالقَ سواه. وقوله: "لا مانع لِما أعطيت ولا معطي لما مَنعت" فيه الاعتراف بتفرُّد الله تعالى بالعَطاء والمنع، والقبض والبسط، والخفض والرفع، لا شريك له في شيء من ذلك، فما يكتبه سبحانه لعبده من خير ونعمة، أو بلاء ونقمة فلا رادَّ له ولا مانع لوقوعه، وما يَمنعه سبحانه عن عبده من الخير والنعمة أو البلاء والنقمة فلا سبيل لوقوعه، كما قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} 1، وكما قال سبحانه: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2، فهو سبحانه المتفرِّدُ بالعطاء والمنع، وإذا أعطى سبحانه لَم يطق أحد منع من أعطاه، وإذا منع لَم يطق أحد إعطاء من منعه. وقوله: "ولا ينفع ذا الجد منك الجد" أي: لا ينفع عنده، ولا يخلص من عذابه، ولا يدني من كرامته جدود بني آدم، أي: حظوظهم من الملك والرئاسة والغنى وطيب العيش وغير ذلك، وإنما ينفعهم عنده التقرب إليه بطاعته وإيثار مرضاته3. وروى البخاري في صحيحه عن رفاعة بن رافع الزُّرَقي رضي الله عنه قال: "كُنَّا

_ 1 سورة: يونس، الآية (107) . 2 سورة: فاطر، الآية (2) . 3 انظر: كتاب الصلاة لابن القيم (ص:177 ـ 187) .

يَوْماً نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: مَنِ المُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: أَنَا. قَالَ: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكاً يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ"1. قوله: "حمداً كثيراً طيِّباً مُباركاً فيه" أي: أحمده حمداً، "وحمداً" مفعول مطلق مؤكد لعامله، وقوله: "كثيراً طيباً مباركاً فيه" هذه صفات للحمد، أي: أحمدك حمداً موصوفاً بالكثرة والطيب والبركة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن المتكلِّم" أي من القائل لهذه الكلمة: "ربَّنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيِّباً مُباركاً فيه". قوله: "لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها" البضعة: قطعة من العدد، قيل: ما بين الثلاث إلى التسع، وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة، قوله: "يبتدرونها" من الابتدار، وهو السبق، أي يتسابقون إلى كتابتها في صحائف الحسنات. ومن فوائد هذا الحديث أنَّ على المأموم المبادرة إلى قول (ربنا ولك الحمد) عقيب تسميع الإمام، وهذا مستفادٌ من حرف الفاء من قوله: "فقال رجلٌ وراءه" فإنَّ الفاء تفيد التعقيب. ومن فوائد الحديث كثرةُ الملائكة الكاتبين، ومحبَّةُ الملائكة للخير وأهله، وتسابقُهم وتنافسُهم فيه. وفي الحديث خصوصية النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم برؤيته هؤلاء الملائكة: حيث رآهم صلوات الله وسلامه عليه، ولم يرهم من حوله من الصحابة.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:799) .

ثمَّ هل هؤلاء الملائكة الذين يبتدرون إلى كتابة هذه الكلمة من الحفظَة أو من غيرهم، قولان لأهل العلم، والأقرب والله تعالى أعلم أنَّهم غير الحفظة، ومِمَّا يؤيِّد هذا ما جاء في صحيح البخاري عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ لله ملائكةً يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذِّكر" إلى آخر الحديث، وفي لفظ: "فُضُلاً عن كتَّاب الناس"1، وقد استدل به أهلُ العلم على أنَّ بعض الطاعات قد يكتبها غير الحفظة، والله أعلم.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6408) ، والمسند (2/251) .

ومن الاذكار المتعلقة بالصلاة

143 / ومن الأذكار المتعلقة بالصلاة لا نزال في الحديث عن الأذكار المتعلقة بالصلاة، خرج الإمام مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: "كَشَفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم السِّتَارَةَ والنَّاسُ صفوفٌ خلفَ أبي بكر رضي الله عنه فقال: أيُّها الناس إنَّه لَم يَبْقَ من مُبَشِّرات النُّبُوَة إلاَّ الرؤيا الصالحَة يراها المسلمُ أو تُرَى له، ألاَ وإنِّي نُهيتُ أن أقرأَ القرآنَ راكعاً، فأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الرَّبَّ عز وجل، وأمَّا السُّجُود فاجْتَهدوا في الدُّعاء فقَمِنٌ أن يُستجابَ لَكم" 1. فقد أوضح النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ما يَختَصُّ به هذان الرُّكنان العظيمان؛ الركوع والسجود من ذكر يُناسب هيئتَهما بعد ذكره للنهي عن قراءة القرآن فيهما؛ لأنَّهما حالتَا ذلٍّ وخضوع وتطامن وانخفاض، فأمَّا الركوعُ وهو حال انخفاض وتطامن وخضوع، فيُشرع للمسلم فيه أن يَذكر عظمةَ ربِّه، وأنَّه سبحانه العظيم الذي له جميع معاني العظمة والجلال، كالقوَّة والعزَّة وكمال القدرة وسعة العلم وكمال المجد وغيرها من أوصاف العظمة والكبرياء، وأنَّه لا يَستحق أحدٌ التعظيمَ والتكبيرَ والإجلالَ والتمجيدَ غيره، فيَستحق على العباد أن يُعظِّموه بقلوبهم وألسنتِهم وأعمالهم. قال ابن القيم رحمه الله: "فأفضل ما يقول الراكع على الإطلاق سبحان ربي العظيم، فإن الله سبحانه أمر العباد بذلك وعين المبلغ عنه السفير بينه وبين عباده هذا المحل لهذا الذكر لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} 2، قال: "اجعلوها في ركوعكم" وبالجملة فسِرُّ الركوع تعظيمُ الرب جل

_ 1 صحيح مسلم (رقم:479) . 2 سورة: الواقعة، الآية (74) .

جلاله بالقلب والقالب والقول؛ ولهذا قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "أما الركوع فعظِّموا فيه الرب"1. اهـ كلامه رحمه الله. وأما السجود وهو حال قرب من الله، وخضوع له، وتذلل بين يديه، وانكسار له سبحانه فيُشرع للمسلم فيه أن يُكثرَ من الدعاء، والدعاءُ في هذا المحل أقربُ إلى الإجابة، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَقرَبُ ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجدٌ، فأكثروا الدُّعاء"، وفي الحديث المتقدم قال عليه الصلاة والسلام: "وأما السُّجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمِنٌ أن يُسْتجابَ لكم"، أي: حَريٌّ وجَدير أن يُستجاب لكم؛ لأنَّ العبدَ أقربُ ما يكون من ربِّه وهو ساجد، وأفضلُ الأحوال له حالٌ يكون فيها أقربَ إلى الله، ولهذا كان الدعاء في هذا المحلِّ أقربَ إلى الإجابة، ومن الأدعيةِ المأثورة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في السجود ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ الفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي المَسْجِدِ، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعُوذ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذ بِكَ مِنْكَ، لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ"2. وقد دلَّ هذا الحديثُ العظيمُ على أنَّه لا مَفَرَّ إلاَّ إلى الله، ولا مَلجَأَ منه إلاَّ إليه، فأزمَّةُ الأمور كلُّها بيده، ونواصي العباد معقودةٌ بقضائه وقدَره، الأمرُ كلُّه له، والحمدُ كلُّه له، والمُلك كلُّه له، والخيرُ كلُّه في يديه، فمنه تعالى

_ 1 كتاب الصلاة (ص:176) . 2 صحيح مسلم (رقم:486) .

المَنْجَى، وإليه المَلْجَأ، وبها الاستعاذة من شر ما هو كائن بمشيئته وقدرته، فالإعاذة فعله والمستعاذ منه فعله أو مفعوله الذي خلقه بمشيئته، وهذا كلُّه تحقيقٌ للتوحيد والقدر، وأنه لا ربَّ غيره، ولا خالق سواه، ولا يملك المخلوق لنفسه ولا لغيره ضرًّا ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، بل الأمر كلُّه لله، ليس لأحد سواه منه شيء. وقوله في ختام هذا الدعاء: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" فيه الاعترافُ بأنَّ شأنَ الله سبحانه وعظمتَه وكمالَ أسمائه وصفاته أعظمُ وأجَلُّ من أن يُحصيها أحدٌ من الخلق، أو يبلغ أحد حقيقةَ الثناء عليه غيره سبحانه. ومن أدعية السجود كذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، أَوَّلَهَ وَآخِرَهُ، وَعَلاَنِيَتَهُ وَسِرَّهُ" 1. وقوله: "ذنبي كله" أي: ذنوبي جميعَها، فإنَّ المُفرد إذا أضيف يَعُمُّ، ثم إنَّ هذا التعميم والشمولَ في هذا الدعاء ليأتي طلب الغفران على جميع ذنوب العبد ما علمه منها وما لَم يعلمه، لا سيما والمقامُ مقام دعاء وتضرع وإظهار العبودية والافتقار، فناسب ذكرَ الأنواع التي يتوب العبد منها تفصيلاً؛ ولهذا قال: "دقَّه وجلَّه، أوَّلَه وآخرَه، وعلانيتَه وسرَّه" وهذا أبلغُ وأحسنُ من الإيجاز والاختصار. ثمَّ إنَّ بين السَّجدَتين ركناً لا بدَّ منه في الصلاة، وهو الجلسة بين السجدتين، وقد شُرع فيه من الدعاء ما يليق به ويُناسبه، وهو سؤالُ العبد

_ 1 صحيح مسلم (رقم:483) .

المغفرةَ والرحمةَ والهدايةَ والعافيةَ والرِّزقَ؛ فإنَّ هذه الأمور تتضمَّن جلب خيري الدنيا والآخرة، ودفع الشرور فيهما. فعن حذيفة رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: " رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي" رواه أبو داود1. أي: أنَّه صلى الله عليه وسلم يُكرِّرُ هذا الدعاء بين السجدتين، لا أنَّه يقوله مرتين فقط. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كَانَ النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاجْبُرْنِي وَعَافِنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي " رواه أبو داود والترمذي2. وسؤالُ المغفرة فيه الوقاية من شَرِّ الذنوب، وسؤالُ الرَّحمة فيه تَحصيلُ الخير والبِرِّ والإحسان، وسؤال الله أن يَجْبُرَه فيه سدُّ حاجته، وجَبْرُ كسره، وأن يرد عليه ما ذهب من الخير وأن يعوضه، وسؤال العافية فيه السلامة من الآفات والفتن والنجاة من البلايا والمحن، وسؤال الهداية فيه التوصل إلى أبواب السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، وسؤال الرزق فيه نيل ما به قَوام البدن من الطعام والشراب، وما به قوام الروح من العلم والإيمان. فجاء هذا الدعاء العظيم المشروع في هذه الجلسة جامعاً لأصول السعادة محيطاً بأبواب الخير، مشتملاً على سُبُل الفلاح في الدنيا والآخرة، فما أعظمَه من دعاء، وما أحسنَ إحاطته وجمعه.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:874) ، وصحَّحه العلاَّمة الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:777) . 2 سنن أبي داود (رقم:850) ، وسنن الترمذي (رقم:284) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:756) .

أذكار التشهد

144 / أذكار التشهُّد إنَّ من الأذكار المتعلقة بالصلاة أذكار التشهد، وقد ثبت فيه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أحاديثُ عدّة فيها صيَغ متقاربة للتشهد، كلُّها جائزةٌ ومشروعة، منها: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمُنا التشهدَ كما يعلِّمنا السورة من القرآن، فكان يقول: التَّحِيَّاتُ المُبَارَكَاتُ الطيِّبات لله، السَّلامُ عليكَ أيُّها النَّبِيُّ ورحمة الله وبركاته، السَّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهَدُ أن لا إله إلاَّ الله، وأشهد أنَّ محمَّداً رسولُ الله "1. وثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كُنَّا إِذا صَلَّينَا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى اله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ السَّلاَمُ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَاتُ للهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّكُمْ إِذا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ"2. وثبت في هذا أحاديث أخرى. وأكملُ هذه الصيغ الصيغةُ الواردة في حديث ابن مسعود المتقدم، فهي أكملُ من الصيغة الواردة في حديث ابن عباس وغيره من الأحاديث الواردة في هذا الباب؛ وذلك كما يقول ابن القيم رحمه الله: "لأنَّ تشهد ابن مسعود

_ 1 صحيح مسلم (رقم:403) . 2 صحيح البخاري (رقم:831) ، وصحيح مسلم (رقم:402) .

يتضمَّن جُملاً متغايرة، وتشهُّد ابن عباس جملةٌ واحدة"1، فتكون كلُّ جملة في حديث ابن مسعود ثناءً مستقلاًّ لوجود الواو في قوله: "التحيَّات لله والصلوات والطيبات" بخلاف ما إذا حذفت فإنَّها تكون صفة لما قبلها، فتعدُّد الثناء في حديث ابن مسعود صريحٌ، فهو أولى وأكمل. ثم إنَّه هو المشهور بين كثير من أهل العلم، ومن حيث الإسناد هو أصحُّ ما ورد في هذا الباب، يقول الترمذي رحمه الله: "حديث ابن مسعود قد روي عنه من غير وجه، وهو أصح حديث روي عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في التشهد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ومَن بعدهم من التابعين"2. وعلى كلٍّ فإنَّ العمل به أو بغيره من التشهدات الواردة كلُّ ذلك حقٌّ وسائغ. قوله: "التحيات" جمع تحية والمراد التعظيمات بكافة صِيَغها وجميع هيئاتها من ركوع وسجود وذلِّ وخضوع، وخشوع وانكسار، كلُّ ذلك لله وحده لا شريك له، وهي له سبحانه ملكاً واستحقاقاً. وقوله: "والصلوات" قيل المراد به الصلاة الشرعية ذات الركوع والسجود، وقيل المراد الدعاء؛ فإنَّ معنى الصلاة لغة الدعاء، وكلُّ ذلك لله فالصلاة كلُّها لله، فلا يُصرف شيء منها لغيره، والدعاء لله فلا يصرف شيء منه لأحد سواه. وقوله: "والطيبات" جمع طيبة، والمراد الأقوال الطيبات والأعمال الطيبات كلها لله، يُتقرب بها إليه، ولا يُتقرَّب بشيء منها لأحد سواه، فهو

_ 1 كتاب الصلاة (ص:211) . 2 سنن الترمذي (2/82) .

سبحانه يُتَقرَّبُ إليه بكلِّ طيب من قول أو فعل. وقوله: "السلام عليك أيها النَّبِيّ ورحمة الله وبركاته" هذا دعاءٌ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بالسلام والرحمة والبركة، والذي يُدعى له لا يُدعى مع الله. وقوله: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" فيه دعاءٌ للنفس ولعموم المؤمنين بالسلامة من كلِّ آفة وعيب ونقص وسوء، وهو مِن جوامع كَلِمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قال بعض أهل العلم: "عَلَّمَهم أن يُفردوه صلى الله عليه وسلم بالذِّكر؛ لشَرَفِه ومزيد حقِّه عليهم، ثم علَّمهم أن يُخَصِّصوا أنفسَهم أوَّلاً؛ لأنَّ الاهتمامَ بها أهم، ثم أمرَهم بتعميم السَّلام على الصالحين إعلاماً منه بأنَّ الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملاً لهم"1. وقوله: "أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله" فيه الشهادة لله تبارك وتعالى بالوحدانية، ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالعبودية والرسالة، فهو صلوات الله وسلامه عليه عَبدٌ لا يُعبد؛ بل رسول يُطَاع ويُتَّبع. ثم إنَّ المسلمَ يُشرع له بعد التشهد أن يصلي على النَّبِيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم بالصلاة الإبراهيمية الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، وقد وَرَدَ فيها غيرُ حديث، منها: ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "لَقِيَنِي كَعْبُ بنُ عُجْرَةَ رضي الله عنه فَقَالَ: ألاَ أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: بَلَى، فَأَهْدِهَا لِي، فَقَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ

_ 1 فتح الباري لابن حجر (2/313) نقلاً عن البيضاوي.

حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ"1. وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه: "أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ فَقَالَصلى الله عليه وسلم: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذرِيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذرِيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ"2. وقول كعب رضي الله عنه: "ألاَ أُهدي لك هديَّةً سمعتُها من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم" فيه عظَمُ عناية السلف رحمهم الله بسُّنَّة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وشدَّة فرَحِهم بها، بل كانوا يعدُّونها من نفائس الأمور وثَمين الأشياء، وهي عندهم هدية ثمينة يَفرحون بها ويُسَرُّون بسمعاها، ويَهْنَأون بتهاديها. والصلاة على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هي من الله ثناؤُه عليه في الملأ الأعلى وتعظيمه، وصلاة الملائكة والمؤمنين عليه هي طلب ذلك له صلى الله عليه وسلم من الله تعالى، والمراد طلب الزيادة لا طلب أصل الصلاة. ومعنى قوله: "اللَّهمَّ بارك على محمد وعلى آل محمد" البركة النماء والزيادة، والتبريك الدعاء بذلك، يقول: باركه الله وبارك فيه وبارك عليه وبارك له، فهو دعاءٌ يتضمن إعطاءَه صلى الله عليه وسلم من الخير وإدامته له، ومضاعفته له وزيادته. ثم إنَّ المسلم له بعد ذلك أن يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به إلى أن يسلِّم، وقد ثبت عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع أنواعٌ من الأدعية سيكون الحديث الآتي عنها إن شاء الله تعالى.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:3370) ، وصحيح مسلم (رقم:406) . 2 صحيح البخاري (رقم:3369) ، وصحيح مسلم (رقم:407) .

الدعاء الوارد ما بين التشهد والتسليم

145 / الدعاء الوارد ما بين التشهد والتسليم إنَّ من المواطن التي يُستحب للمسلم أن يَتحرى فيها الدعاء في الصلاة ما بين التشهد والتسليم، فقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم علمه التشهد ثم قال في آخره: "ثم ليتَخيَّر من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو"1، وفي رواية لمسلم: "ثم ليتخير من المسألة ما شاء"2. والأولى بالمسلم في هذا المقام أن يأتي بالأدعية المأثورة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وإن دعا بأدعية غيرها لا محذور فيها فلا بأس بذلك. وفيما يلي ذكر لبعض الأدعية المأثورة في هذا المقام، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَجَّالِ" 3، وقد ذهب بعضُ أهل العلم إلى القول بوجوب هذه الاستعاذة قبيل السلام، وجمهور العلماء على أنَّها مستحبة وليست بواجبة. قوله: "من عذاب جهنم" قدَّم التعوذ من عذاب جهنم؛ لأنَّّه الغايةُ التي لا أعظم في الهلاك منها، وجهنَّم اسم للنار التي أعدها الله للكفار يوم القيامة. وقوله: "ومن عذاب القبر" فيه أنَّ عذاب القبر حق، وأنَّ المسلم ينبغي عليه أن يتعوذ بالله منه.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:835) ، وصحيح مسلم (رقم:402) . 2 صحيح مسلم (رقم:402) . 3 صحيح البخاري (رقم:1377) ، وصحيح مسلم (رقم:588) .

وقوله: "ومن فتنة المحيا والممات" أي الحياة والموت، والمراد التعوذ من جميع فتن الدارين؛ في الحياة من كلِّ ما يَضُرُّ بدين الإنسان أو بدنه أو دنياه، وفي الموت من شدائده وما يكون بعده من أهوال. وقوله: "ومن فتنة المسيح الدجال" المسيح الدجَّال هو منبع من منابع الكفر والضلال، ومصدر من مصادر الفتن والأوجال، يكون خروجه على الناس آخر الزمان، وهو شرط من أشراط الساعة، سُمِّي مسيحاً؛ لأنَّ إحدى عينيه مَمسوحة، فهو أعور عينه اليمنى، وسُمِّيَ دجَّالاً من الدَّجل وهو الكذب، وفتنة خروجه من أعظم الفتن، وما من نَبِيٍّ بعثه الله إلاَّ حذَّر منه قومه وأنذر. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَأَعُوذ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَجَّالِ، وَأَعُوذ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا، وَفِتْنَةِ المَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذ مِنَ المَغْرَمِ فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ "1. والمأثم: هو الأمر الذي يأثم به الإنسان من جميع المعاصي والذنوب، والمغرَم: ما يلزم الإنسان أداؤه بسبب جناية أو معاملة أو نحو ذلك، فالمأثم إشارة إلى حقِّ الله، والمغرم: إشارة إلى حق العباد. ومن الأدعية في هذا المقام ما رواه مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حديث طويل: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنْ آخَرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا

_ 1 صحيح البخاري (رقم:833) وصحيح مسلم (رقم:589) .

أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ"1. قوله: "ما قدَّمت" أي من خطأ وتقصير، "وما أخَّرت" أي ما سيقع منِّي من ذلك في الزمن المستقبل، "وما أسررت وما أعلنت" أي ما وقع مني منها في السِّرِّ أو العلانية، "وما أسرفت" أي على نفسي بارتكاب المعاصي القاصرة أو المظالم المتعدية. وقوله: "أنت المقدِّم" أي لمن تشاء بالمعونة والتوفيق والسداد، و"أنت المؤخِّر" أي لِمَن تشاء بالخذلان والحرمان وعدم المعونة. وقوله: "لا إله إلاَّ أنت" أي لا معبود بحقٍّ سواك. ومن الأدعية المأثورة في هذا المقام ما رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما عن أبي صالح، عن بعض أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لرجل: " كَيَفَ تَقُولُ فِي الصَّلاَةِ قَالَ: أَتَشَهَّدُ وَأَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الجَنَّةَ، وَأَعُوذ بِكَ مِنَ النَّارِ، أَمَا إِنِّي لاَ أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلاَ دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ. فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ "2، أي: حول طلب دخول الجنَّة والنجاة من النار نُدَنْدن، والدَّنْدَنَة أن يتكلَّم الرجلُ بالكلام، فتُسمَع نغمتُه ولا يُفهم كلامُه. وقد جاء في السُّنَّة أحاديث مشتملة على أدعية تُقال في الصلاة، ولم يُبَيَّن محلُّها، والأولى أن تكون في أحد موطنين؛ إما في السجود أو بعد التشهد؛ لأنَّ

_ 1 صحيح مسلم (رقم:771) . 2 سنن أبي داود (رقم:792) ، وسنن ابن ماجه (رقم:910) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح ابن ماجه (رقم:742) .

السُّنَّة جاءت بتحرِّي الدعاء فيهما، ومن هذه الأدعية ما رواه البخاري ومسلم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كَثِيراً، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ فاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ "1. ومنها ما رواه النسائيُّ عن عطاء بن السائب، عن أبيه رضي الله عنه قال: "صَلَّى بِنَا عَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ رضي الله عنه صَلاَةً فَأَوْجَزَ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ القَوْمِ: لَقْدْ خَفَّفْتَ أَوْ أَوْجَزْتَ الصَّلاَةَ فَقَالَ: أَمَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ دَعَوْتُ فِيهَا بِدَعَوَاتٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَامَ تَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ هُوَ أبِي غَيْرَ أَنَّهُ كَنَّى عَنْ نَفْسِهِ فَسَأَلَهُ عَن الدُّعَاءِ ثُمَّ جَاءَ فَأَخْبَرَ بِهِ القَوْمَ: اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الحَيَاةَ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذا عَلِمْتَ الوَفَاةَ خَيْراً لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ فِي الرِّضَا وَالغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ القَصْدَ فِي الفَقْرِ وَالغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيماً لاَ يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ القَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ العَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ"2.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:834) ، وصحيح مسلم (رقم:2705) . 2 سنن النسائي (رقم:1305) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:1301) .

وهو حديثٌ عظيمٌ ثابتٌ عن النَّبِيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم، مشتملٌ على فوائد عظيمة، ومقاصد كريمة، وغايات مباركة. وقد أفرد الحافظ ابن رجب رحمه الله رسالةً لطيفةً في شرح هذا الحديث وبيان معانيه، وهي رسالة نافعة، ولعلي أقف مع بعض دلالات هذا الحديث ومعانيه العظيمة، ليكون ذلك عوناً لنا بإذن الله على العناية به والمواظبة عليه، والله الموفِّق.

شرح حديث عمار في الذكر بين التشهد والتسليم

146 / شرح حديث عمار في الذِّكر بين التشهد والتسليم لقد مرَّ معنا حديثُ عمار بن ياسر رضي الله عنه المشتمل على ذلكم الدعاء العظيم الذي كان يدعو به النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في صلاته، وهو ما رواه النسائي وغيره عن عطاء بن السائب عن أبيه رضي الله عنه قال: "صَلَّى بِنَا عَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ رضي الله عنه صَلاَةً فَأَوْجَزَ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ القَوْمِ: لَقْدْ خَفَّفْتَ أَوْ أَوْجَزْتَ الصَّلاَةَ فَقَالَ: أَمَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ دَعَوْتُ فِيهَا بِدَعَوَاتٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَامَ تَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ هُوَ أبِي غَيْرَ أَنَّهُ كَنَّى عَنْ نَفْسِهِ فَسَأَلَهُ عَن الدُّعَاءِ ثُمَّ جَاءَ فَأَخْبَرَ بِهِ القَوْمَ: اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الحَيَاةَ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذا عَلِمْتَ الوَفَاةَ خَيْراً لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ فِي الرِّضَا وَالغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ القَصْدَ فِي الفَقْرِ وَالغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيماً لاَ يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ القَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ العَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ"1. وهو حديثٌ عظيمُ النفع كبيرُ الفائدة، مشتملٌ على معان عظيمة ودلالات نافعة متعلقة بالعقيدة والعبادة والأخلاق، وإنَّما تعظم فائدةُ المسلم من مثل هذه الدعوات المباركة بوقوفه على معانيها وفهمه لدلالاتها ومراميها ومجاهدته لنفسه على تحقيقها، وفيما يلي وقفةٌ في بيان بعض معاني هذه الحديث2.

_ 1 سبق تخريجه. 2 ينظر للاستزادة كتاب "شرح حديث عمار بن ياسررضي الله عنه) لابن رجب.

قوله: "اللَّهمَّ بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفَّنِي إذا علمت الوفاة خيراً لي" فيه تفويضُ العبد أموره إلى الله، وطلب الخيرة في أحواله منه سبحانه، متوسِّلاً إليه سبحانه بعلمه الذي أحاط بكلِّ شيء، وأنَّه سبحانه يعلم خفايا الأمور وبواطنَها، كما يعلم ظاهَرها وعَلَنَها، وبقدرته النافذة في جميع الخلق، فلا مُعَقِّب لحكمه ولا رادَّ لقضائه، ومن المعلوم أنَّ العبدَ لا يعلم عواقب الأمور ومآلاتها، وهو مع هذا عاجزٌ عن تحصيل مصالحه ودفع مضارِّه، إلاَّ بما أعانه الله عليه ويسَّرَه له، فتبقى حاجة العبد ماسة إلى العليم القدير سبحانه، بأن يصلحَ له شأنَه كلَّه، ويختار له الخير حيث كان، ولهذا قال: أحينِي ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، ولهذا جاء النهيُ في السُّنَّة عن تَمَنِّي الموت لضُرٍّ نزل بالعبد لجهل العبد بالعواقب، ففي البخاري عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لا يتمَنَّى أحدكم الموت، إمَّا مُحسناً فلعلَّه يزداد، وإما مُسيئاً فلعلَّه يستعتب" أي: يسترضى الله بالإقلاع عن الذنوب وطلب المغفرة. وقوله: "وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة" أي: أن أخشاك يا الله في السِّرِّ والعلانية، والظاهر والباطن، وفي حال كوني مع الناس أو غائباً عنهم، فإنَّ من الناس مَن يرى نفسه يَخشى الله في العلانية والشهادة، ولكن الشأن خشية الله في الغيب، إذا غاب عن أعين الناس وأنظارهم، وقد مدح الله من خافه بالغيب، قال تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} 1، وقال تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} 2

_ 1 سورة: الأنبياء، الآية (49) . 2 سورة: ق، الآية (33) .

وقوله: "وأسألُك كلمةَ الحقِّ في الرِّضَا والغضب"، فيه سؤالُ الله قولَ الحقِّ حال رضا الإنسان وحال غضبه، وقول الحق في الناس حال الغضب عزيز؛ لأنَّ الغضبَ يحمل صاحبه على أن يقول خلافَ الحق ويفعل غير العدل، وقد مدح الله من عباده من يغفر إذا غضب، دون أن يحمله غضبه على البغي والعدوان، قال تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} 1، ومَن كان لا يقول إلاَّ الحقَّ في الغضب والرضا، فهذا دليلٌ على شدة إيمانه وأنَّه يملك زمام نفسه، وفي الحديث: "ليس الشديد بالصرعة، إنَّما الشَّديد الذي يملك نفسه عند الغضب"2. وقوله: "وأسألك القصد في الفقر والغنى" أي أن يكون مقتصداً في حال فقره وغناه، والقصد هو التوسط والاعتدال، فإن كان فقيراً لَم يقتر خوفاً من نفاد الرِّزق ولم يُسرف بتحميل نفسه ما لا طاقة له به، كما قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} 3، وإن كان غنيًّا لَم يحمله غناه على السَّرف والطغيان، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} 4، والقوام: القصد والتوسط، وهو في كلِّ الأمور حسن. وقوله: "وأسألك نعيماً لا ينفد" النَّعيم الذي لا ينفد هو نعيم الآخرة، كما قال الله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} 5، وقال تعالى:

_ 1 سورة: الشورى، الآية (37) . 2 صحيح البخاري (رقم:6114) . 3 سورة: الإسراء، الآية (29) . 4 سورة: الفرقان، الآية (67) . 5 سورة: النحل، الآية (96) .

{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} 1) . وقوله: "وأسألك قرَّة عين لا تنقطع" قرة العين من جملة النعيم، والنعيم منه ما هو منقطع ومنه ما لا ينقطع، ومن قرَّت عينه بالدنيا فقرة عينه منقطعة وسروره فيها زائلٌ، وهو مع ذلك مَشُوبٌ بالخوف من الفواجع والمنغِّصات، ولهذا فإنَّ المؤمن لا تقرُّ عينُه في الدنيا إلاَّ بمحبة الله وذكره والمحافظة على طاعته، كما قال صلى الله عليه وسلم: "وجُعلَت قرَّةُ عينِي في الصلاة"2 ومَن حصلت له قرَّة العين بهذا فقد حصلت له قرَّةُ العين التي لا تنقطع في الدنيا ولا في البرزخ ولا في الآخرة. وقوله: "وأسألك الرِّضا بعد القضاء" سأل الرضا بعد القضاء؛ لأنَّه حينئذ تبيَّن حقيقة الرِّضا، وأما الرِّضا قبل القضاء فإنَّه عزمٌ من العبد على الرضا، وإنَّما يتحقَّق الرضا إذا وقع القضاء. وقوله: "وأسألك بَردَ العيش بعد الموت" وهذا يدلُّ على أنَّ العيشَ وطيبَه وبرده إنَّما يكون بعد الموت، فإنَّ العيش قبل الموت منغِّصٌ، ولو لَم يكن له منغِّصٌ غير الموت لكفى، فكيف وله منغِّصات كثيرة من الهموم والغموم والأسقام والهرم ومفارقة الأحبة وغير ذلك. وقوله: "وأسألك لذَّةَ النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضرَّاء مضرة ولا فتنة مضلة" وهذا قد جمع فيه بين أطيب شيء في الدنيا وهو الشوق إلى لقاء الله سبحانه، وأطيب شيء في الآخرة وهو النَّظر إلى

_ 1 سورة: ص، الآية (54) . 2 سنن النسائي (رقم:3879) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:3098) .

وجهه الكريم، ولَمَّا كان تَمامُ ذلك موقوفاً على عدم وجود ما يضُرُّه في الدنيا أو يفتنه في الدين، قال في غير ضراء مضرَّة ولا فتنة مضلة. ورؤية المؤمنين لربِّهم يوم القيامة أمر تظافرت فيه النصوص، وتكاثرت فيه الأدلة، ولا يُنكره إلاَّ مَن ضل عن سواء السبيل، بل إنَّه أعلى نعيم أهل الجنة وأعظمُ ملاذهم، يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهلُ الجنَّة الجنَّةَ، يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم فيقولون: ألَم تبيِّض وجوهَنا ألَم تدخلنا الجنَّة وتنْجنا من النار قال: فيكشف الحجاب، فما أُعْطُوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربِّهم عز وجل"، رواه مسلم1، نسأل الله الكريم من فضله. وقوله: "اللَّهمَّ زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين" زينة الإيمان تشمل زينة القلب بالاعتقاد الصحيح والأعمال القلبية الفاضلة، وزينة اللِّسان بالذِّكر وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك، وزينة الجوارح بالأعمال الصالحة والطاعات المقربة إلى الله. وقوله: "واجعلنا هداة مهتدين" أي بأن نَهدي أنفسنَا ونهديَ غيرَنا، وهذا أفضل الدرجات، أن يكون العبد عالماً بالحقِّ متَّبِعاً له، معلِّماً لغيره مرشداً له، فبهذا يكون هادياً مهدياً، نسأل الله أن يهدينا إليه جميعاً، وأن يجعلنا هُداةً مُهتدين.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:181) .

الأذكار بعد السلام

147 / الأَذْكَارُ بَعْدَ السَّلاَمِ الحديث هنا سيكون عن الأذكار التي يقولها المسلم إذا انصرف من صلاته بعد السلام، وقد جاء في هذا أحاديث عديدة. منها ما رواه مسلم في صحيحه عن ثوبان رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا انْصَرَفَ مِنَ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثاً، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ، تَبَارَكْتَ ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ". قَالَ الوَلِيدُ أحد رواة الحديث: فَقُلْتُ لِلأَوْزَاعِيِّ: كَيْفَ الاسْتِغْفَارُ قَالَ: تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ أَسْتَغْفِرُ اللهَ1. قوله: "اللَّهمَّ أنت السلام" السلام اسم من أسماء الله الحسنى التي أمرنا الله بدعائه بها في قوله: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 2، ومعناه: أي المنَزَّه عن كلِّ عيب وآفة ونقص، وهو سبحانه منَزَّهٌ عن كلِّ ما ينافي صفات كماله، ومنزه عن مماثلة أحد من خلقه، أو أن يكون له ند بوجه من الوجوه. وقوله: "ومنك السلام" أي: أنَّ السلامة من المهالك إنما ترجى وتستوهب منك وحدك، ولا ترجى من أحد سواك، وهذا مستفاد من أسلوب الحصر في قوله: "ومنك السلام" أي: وحدك دون غيرك. وقوله: "تباركت ذا الجلال والإكرام" تباركت: أي تعاليت وتعاظمت، وذا الجلال والإكرام، أي: يا صاحب الجلال والإكرام، وهما وصفان عظيمان للرب سبحانه دالان على كمال عظمته وكبريائه ومجده، وعلى كثرة

_ 1 صحيح مسلم (رقم:591) . 2 سورة: الأعراف، الآية (180) .

صفاته الجليلة وتعدد عطاياه الجميلة، مما يستوجب على العباد أن تمتلئ قلوبُهم محبة وتعظيماً وإجلالاً له. والحكمةُ من الإتيان بالاستغفار بعد الصلاةِ هي إظهارُ هَضْم النَّفس، وأنَّ العبدَ لَم يَقُم بحقِّ الصلاة، ولَم يأت بما ينبغي لها على التَّمام والكمال، بل لا بدَّ أن يكونَ قد وَقَعَ في شيء من النَّقص والتقصير، والمقصِّرُ يستغفرُ لعلَّه أن يُتجاوَزَ عن تقصيره، ويكونَ في استغفاره جَبْرٌ لِمَا فيه من نقص أو تقصير. ثم يشتغل المصلِّي بعد ذلك بالتهليل، فعن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال: كتب المغيرة إلى معاوية بن أبي سفيان: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا فَرَغَ مِنَ الصَلاَةِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ" رواه البخاري ومسلم1. وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ حِينَ يُسَلِّمُ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَلاَ نَعْبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الحَسَنُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ وَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ". رواه مسلم2. قوله: "ولا ينفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ" أي: لا ينفع صاحب الغنى منك

_ 1 صحيح البخاري (رقم:844) ، وصحيح مسلم (رقم:593) . 2 صحيح مسلم (رقم:594) .

غناه وإنَّما ينفعُه طاعته لك وإيمانه بك وامتثاله لأمرك. وقوله: "لا إله إلاَّ الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون" أي: نحن على هذا التوحيد والإخلاص ولو كره الكفار ذلك. ثمَّ يَشرَعُ المسلمُ بعد ذلك في التسبيحات الواردة التي كان يقولها صلى الله عليه وسلم أدبار الصلوات. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ سَبَّحَ اللهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتْسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ المِائَةِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرْتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبدِ البَحْرِ "1. وعنه رضي الله عنه قال: "جَاءَ الفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ العُلَى وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ؛ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ. قَالَ: ألاَ أُحَدِّثُكُمْ بِأَمْرٍ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ، إِلاَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ؛ تُسَبِّحُونَ، وَتَحْمَدُونَ، وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ "2. قال أبو صالح ـ راوي الحديث عن أبي هريرة: "يقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر حتى يكون منهنَّ كلُّهن ثلاثاً وثلاثاً" لكن هذا فهم منه للحديث، والأظهر أنَّ المجموعَ لكلِّ كلمة من هؤلاء الكلمات بأن يسبح

_ 1 صحيح مسلم (رقم:597) . 2 صحيح البخاري (رقم:843) ، وصحيح مسلم (رقم:595) .

ثلاثاً وثلاثين ويحمد ثلاثاً وثلاثين، ويكبر ثلاثاً وثلاثين كما في حديث أبي هريرة السابق1. وعن عبد الله عمرو رضي الله عنهما عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "خَصْلَتَانِ أَوْ خَلَّتَانِ لاَ يُحَافِظُ عَلَيْهِمَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ إِلاَّ دَخَلَ الجَنَّةَ، هُمَا يَسِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ؛ يُسَبِّحُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ عَشْراً، وَيَحْمَدُ عَشْراً، وَيُكَبِّرُ عَشْراً، فَذَلِكَ خَمْسُونَ وَمَائَةٍ بِاللِّسَانِ، وَأَلْفٌ وَخَمْسِمِائَةٍ فِي المِيزَانِ، وَيُكَبِّرُ أَرْبَعاً وَثَلاَثِينَ إِذا أَخَذَ مَضْجِعَهُ، وَيَحْمَدُ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، وَيُسَبِّحُ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، فَذَلِكَ مِائَةٌ بِاللِّسَانِ، وَأَلْفٌ فِي المِيزَانِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْقِدُهَا بِيَدِهِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ هُمَا يَسِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ؟ قَالَ: يَأْتِي أَحَدَكُمُ الشَّيْطَانُ فِي مَنَامِهِ فَيُنَوِّمُهُ قَبْلَ أَنْ يَقُولَهُ، وَيَأْتِيهِ فِي صَلاَتِهِ فَيُذَكِّرُهُ حَاجَةً قَبْلَ أَنْ يَقُولَهَا " رَواه أبو داود، والترمذي2. ويُستحب للمسلم أن يقرأ أدبار الصلوات {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْرَأ المُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ". رواه أبو داود، والنسائي3، والمراد بالمعوذات هذه السُّوَر الثلاث، وقد أطلق عليه المعوذات تغليباً4.

_ 1 انظر: فتح الباري لابن حجر (2/328) . 2 سنن أبي داود (رقم:565) ، وسنن الترمذي (رقم:3410) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:606) . 3 سنن أبي داود (رقم:1523) ، وسنن النسائي (رقم:1336) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:1348) . 4 انظر: فتح الباري لابن حجر (8/132) .

وأن يقرأ كذلك آية الكرسي لحديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الجَنَّةِ إِلاَّ أَنْ يَمُوتَ". رواه النسائي فِي عمل اليوم والليلة1. والمراد بقوله "لَم يمنعه من دخول الجنة إلاَّ أن يموت" أي: لَم يكن بينه وبين دخول الجنة إلاَّ الموت. قال ابن القيم رحمه الله: "بلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية قدس الله روحه أنه قال: ما تركتها عقيب كلِّ صلاة"2. ومن المشروع للمسلم أن يقول أدبار الصلوات ما أوصى به النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه، ففي سنن أبي داود والنسائي وغيرهما عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِهِ يَوْماً وَقَالَ: يَا مُعَاذٍ، وَاللهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ، أُوصِيكَ يَا مُعَاذٍ، لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ أَنْ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"3، وهذا الدعاء هل يقال قبل السلام أو بعده، قولان لأهل العلم واختار شيخ الإسلام أن يقال قبل السلام، والله تعالى أعلم.

_ 1 عمل اليوم والليلة (رقم:100) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:6464) . 2 زاد المعاد (1/304) . 3 سنن أبي داود (رقم:1522) ، وسنن النسائي (رقم:1303) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:1347) .

دعاء القنوت في صلاة الوتر

148 / دُعَاءُ القُنُوتِ فِي صَلاَةِ الوِتْرِ الحديث هنا عن دعاء القنوت في صلاة الوتر، ففي أبي داود والنسائي وغيرهما عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: " عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلاَ يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ" 1. وهذا دعاءٌ عظيمٌ مشتملٌ على مطالب جليلة ومقاصد عظيمة، ففيه سؤال الله الهدايةَ والعافيةَ، والتوَلِّي والبركة والوقاية، مع الإقرار بأنَّ الأمورَ كلَّها بيده وتحت تدبيره، فما شاء كان وما لَم يشأ لَم يكن2. وقوله في أوَّل هذا الدعاء: "اللَّهمَّ اهدني فيمن هديت" فيه سؤالُ الله الهداية التامَّة النافعة الجامعة لعلم العبد بالحقِّ وعمله به، فليست الهدايةُ أن يعلمَ العبدُ الحقَّ بلا عمل به، وليست كذلك أن يعمل بلا علمٍ نافعٍ يهتدي به، فالهدايةُ النافعةُ هي التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح. وقوله: "فيمَن هَدَيت" فيه فوائد: أحدها: أنَّه سؤال له أن يدخلَه في جملة المهديين وزُمرتِهم ورفقتهم وحسن أولئك رفيقاً.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:1425) ، وسنن النسائي (رقم:1745) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:1263) . 2 انظر في شرح هذا الدعاء: شفاء العليل لابن القيم (ص:111) ، ودروس وفتاوى في الحرم المكي للشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ (ص:131 ـ 137) .

الثانية: أنَّ فيه توسلاً إليه بإحسانه وإنعامه، أي: يا رب قد هَديتَ من عبادك بشراً كثيراً فضلاً منك وإحساناً فأحسن إليَّ كما أحسنتَ إليهم واهدني كما هَدَيتَهم. الثالثة: أنَّ ما حصل لأولئك من الهدى لَم يكن منهم ولا بأنفسهم وإنَّما كان منك فأنت الذي هَدَيتَهم. وقوله: "وعافنِي فيمَن عافيت" فيه سؤالُ الله العافية المطلقة وهي العافية من الكفر والفسوق والعصيان والغفلة والأمراض والأسقام والفتن، وفعل ما لا يحبُّه وترك ما يحبه، فهذه حقيقةُ العافية، ولهذا ما سُئل الرَّبُّ شيئاً أحبَّ إليه من العافية، لأنَّها كلمةٌ جامعةٌ للتخلُّص من الشَّرِّ كلِّه وأسبابه، ومِمَّا يدل على هذا ما رواه البخاري في الأدب المفرد وغيرُه عن شَكَل بن حُميد رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله! علِّمني دعاءً أنتفعُ به، قال: "قل اللَّهمَّ عافنِي من شَرِّ سَمعي وبصري ولساني وقلبِي وشَرِّ مَنِيِّي"1. فهي دعوةٌ جامعةٌ وشاملةٌ للوقاية من الشرور كلِّها في الدنيا والآخرة، وفي الأدب المفرد وغيره عن العباس عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: قلت يا رسول الله! علِّمنِي شيئاً أسأل الله به، فقال: "يا عباس! سلِ اللهَ العافيةَ، ثمَّ مكثتُ قليلاً ثم جئت فقلت: علِّمني شيئاً أسأل اللهَ به يا رسول الله! فقال: يا عباس! يا عمَّ رسول الله! سَلِ اللهَ العافيةَ في الدنيا والآخرة"2.

_ 1 الأدب المفرد (رقم:663) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب المفرد (رقم:515) . 2 الأدب المفرد (رقم:726) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب المفرد (رقم:558) .

وقوله: "وتولَّنِي فيمَن تولَّيتَ" فيه سؤالُ الله التَّوَلِّي الكامل الذي يقتضي التوفيقَ والإعانةَ والنصرَ والتسديدَ والإبعادَ عن كلِّ ما يغضب الله، ومنه قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 1، وقوله: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} 2، وقوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} 3، وقوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} 4، وهي ولايةٌ خاصة بهم تقتضي حفظهم ونصرهم وتأييدهم ومعونتهم ووقايتهم من الشرور، ويدلُّ على هذا قولُه في هذا الدعاء: "إنَّه لا يَذلُّ من واليت" أي أنَّه منصورٌ عزيزٌ غالب بسبب توليك له، وفي هذا تنبيه على أنَّ مَن حَصَل له ذلٌّ في الناس فهو بنقصان ما فاته من تولي الله، وإلاَّ فمع الولاية الكاملة ينتفي الذُّلُّ كلُّه، ولو سلط عليه من في أقطار الأرض فهو العزيز غير الذليل. وقوله: "وبارك لي فيما أعطيت" البركةُ هي الخير الكثير الثابت، ففي هذا سؤال الله البركة في كلِّ ما أعطاه من علم أو مال أو ولد أو مسكن أو غير ذلك؛ بأن يثبِّتَه له ويوسِّعَ له فيه، ويحفظه ويسلمَه من الآفات. وقوله: "وقني شر ما قضيت" أي شرَّ الذي قضيتَه، فإنَّ الله تعالى قد يقضي بالشر لحكمة بالغة، والشرُّ واقعٌ في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله، فإنَّ فعلَه وخلقَه خيرٌ كلُّه، وهذا الدعاء يتضمن سؤال الله الوقاية من الشرور والسلامة من الآفات والحفظ عن البلايا والفتن.

_ 1 سورة: البقرة، الآية (256) . 2 سورة: الأعراف، الآية (196) . 3 سورة: آل عمران، الآية (68) . 4 سورة: الجاثية، الآية (19) .

وقوله: "إنَّك تقضي ولا يقضى عليك" فيه التوسل إلى الله سبحانه بأنَّه يقضي على كلِّ شيء، لأنَّ له الحكمَ التامَّ والمشيئةَ النافذةَ والقدرة الشاملة، فهو سبحانه يقضي في عباده بما يشاء ويحكم فيهم بما يريد، لا رادَّ لحُكمه ولا معقب لقضائه، وقوله: "ولا يقضى عليك" أي: أنَّه سبحانه لا يقضي عليه أحدٌ من العباد بشيء، فالعباد لا يحكمون على الله، بل الله سبحانه هو الذي يحكم عليهم بما يشاء ويقضي فيهم بما يريد. وقوله: "إنَّه لا يذل من والَيت ولا يعز من عاديت" هذا كالتعليل لما سبق في قوله: "وتولَّني فيمن توليت"، فإنَّ الله سبحانه إذا تولَّى العبدَ فإنَّه لا يَذِلُّ، وإذا عادى العبدَ فإنَّه لا يَعِزُّ، ولا يُطلب نيلُ العز، والوقايةُ من الذل إلاَّ منه سبحانه، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1. وقوله: "تباركت ربنا وتعاليت" معنى تباركت أي تعاظمتَ يا الله، فلك العظمةُ الكاملة والكبرياء التام، وعظُمَت أوصافُك وكثرت خيراتُك وعمَّ إحسانُك. وقوله: "وتعالَيت" أي: أنَّ لك العلوِّ المطلق ذاتاً وقدراً وقهراً، فهو سبحانه العَليُّ بذاته، قد استوى على عرشه استواءً يليق بجلاله وكماله، والعليُّ بقَدْره، وهو علوُّ صفاته وعظمتُها، فإنَّ صفاته عظيمةٌ، لا يماثلها ولا يقاربها صفةُ أحد، والعليُّ بقهره حيث قَهَرَ كلَّ شيء، ودانت له الكائناتُ بأسرها، فجميع الخلق نواصيهم بيده فلا يتحرك منهم متحرِّك ولا يسكن ساكن إلاَّ بإذنه.

_ 1 سورة: آل عمران، الآية (26) .

وعلى كلٍّ فهذا دعاءٌ عظيم جامع لأبواب الخير وأصول السعادة في الدنيا والآخرة، فعلى المسلم أن يعتني به في هذه الصلاة صلاة الوتر التي يختم بها صلاة الليل، ولا بأس لو زاد المسلمُ على ذلك الدعاءَ لعموم المؤمنين بما استطاع من خير، والاستغفارَ لهم، والدعاءَ على أعدائهم والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الموفِّق.

دعاء الاستخارة

149 / دُعَاءُ الاسْتِخَارَةِ الحديثُ هنا عن دعاءِ الاستخارة الذي يُستحبُّ للمسلم أن يقولَه إذا هَمَّ بفعل أمر لا يدري عاقبتَه ولا يعرف مآله، ففي صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كلِّها كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ، يَقُولُ: إِذا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، واقْدُرْ لِيَ الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ. قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ" 1. وهذا الدعاءُ العظيمُ المباركُ الذي أرشد إليه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا المقام، مقام طلب الخيرة في الأمر الذي يَقدم عليه المسلمُ، وهو متردد في مآله هل هو إلى خير أو إلى شر، وهل هو إلى نفع أو إلى ضرٍّ، هو عِوضٌ لأمَّة الإسلام عما كان عليه أهل الجاهلية من زَجْر الطير والاستقسام بالأزلام إذا بَدَتْ للواحد منهم حاجةٌ من نكاح أو سفر أو بيع أو نحو ذلك، فيطلبون بذلك

_ 1 رواه البخاري (رقم:1162) ، وانظر حول هذا الحديث: "حديث صلاة الاستخارة رواية ودراية" للدكتور عاصم القريوتي.

علم ما قُسم لهم في الغيب، وهذا ضلالٌ وسَفَهٌ كان عليه أهل الجاهلية، وأمَّا أمَّةُ الإسلام فقد هداهم الله تعالى إلى مَراشد الأمور ومفاتيح الخير وسُبل السعادة في الدنيا والآخرة، ومن ذلكم هذا الدعاء العظيم الذي هُديت إليه أمة الإسلام. قال ابن القيم رحمه الله: "وعوَّضَهم بهذا الدعاء الذي هو توحيد وافتقارٌ وعبوديةٌ وتوكلٌّ، وسؤال لمن بيده الخيرُ كلُّه، الذي لا يأتي بالحسنات إلاَّ هو، ولا يصرف السيِّئات إلاَّ هو، الذي إذا فتح لعبده رحمة لَم يستطع أحدٌ حبسَها عنه، وإذا أمسكها لَم يستطع أحد إرسالَها إليه من التطير والتنجيم واختيار الطالع ونحوه، فهذا الدعاءُ هو الطالع الميمون السعيد، طالعُ أهل السعادة والتوفيق، الذين سبقت لهم من الله الحسنى، لا طالع أهل الشرك والشقاء والخذلان الذين يجعلون مع الله إلَهاً آخر فسوف يعلمون. فتضمَّن هذا الدعاءُ الإقرارَ بوجوده سبحانه، والإقرارَ بصفات كماله من كمال العلم والقدرة والإرادة، والإقرارَ بربوبيته، وتفويضَ الأمر إليه، والاستعانةَ به، والتوكُّلَ عليه، والخروجَ من عهدة نفسه والتَّبَرِّي من الحول والقوة إلاَّ به، واعترافَ العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه وقدرته عليها، وإرادته لها، وأنَّ ذلك كلَّه بيد وليِّه وفاطره وإلَهه الحقِّ ... إلى أن قال: والمقصود أنَّ الاستخارةَ توكلٌ على الله وتفويضٌ إليه واستقسامٌ بقُدرته وعلمه وحسن اختياره لعبده، وهي من لوازم الرِّضَى به ربًّا، الذي لا يذوق طَعم الإيمان من لَم يكن كذلك، وإن رَضِيَ بالمقدور بعدها فذلك علامة السعادة"1 اهـ.

_ 1 زاد المعاد لابن القيم (2/443 ـ 445) .

وما ندم مَن استخار ربَّه بعلمه المحيط بكلِّ شيء، واستقْدَرَه بقدرته الكاملة على كلِّ شيء، وسأله سبحانه من فضله العظيم. وقولُ جابر رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا الاستخارة في الأمور كلِّها كما يعلمنا السورة من القرآن" فيه دلالةٌ على شدَّة اهتمام النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء والمحافظة عليه والعناية به. وقوله: "يقول لنا إذا هَمَّ أحدكم بالأمر" أي من الأمور التي لا يدري ما عاقبتها مثل السفر أو الزواج أو نحو ذلك، ولا استخارة في فعل الواجب أو ترك المحرم. وقوله: "فليركع ركعتين من غير الفريضة" أي فليُصَلِّ ركعتين من غير الصلوات المفروضة، وذلك لتكون صلاتُه مفتاحاً له لنيل الخير، وسبباً لإجابة مطلوبه وتحقيق مرغوبه، ولم يأتِ في شيء من طرق الحديث تعيين قراءة معيَّنة من آي القرآن أو سورهِ لتقرأ في هذه الصلاة، ولذا يقرأُ المستخيرُ ما يسَّرَه الله له من القرآن دون التزام شيء معين. وقوله: "ثم ليَقل" ظاهره أنَّ الدعاء يكون بعد الفراغ من الصلاة، أي بعد أن يسلِّم، ويحتمل أنَّ ذلك قبل السلام أي بعد الفراغ من أذكار الصلاة ودعائها والأَوْلى الأول؛ أي: أن يكون الدعاء بعد السلام، والأفضلُ أن يرفع يديه عند الدعاء؛ لأنَّ رفعَهما من أسباب إجابة الدعاء. ومَن كان لا يحفظ الدعاءَ، وقرأ من كتاب فلا حرج عليه، وعليه أن يجتهد في إحضار قلبه والخشوع لله والصِّدق في الدعاء، والتأمل في معاني هذا الدعاء العظيم، ومن لم يكن حافظاً للدعاء وليس بحضرته كتابٌ واحتاج إلى الاستخارة فإنَّه يصلِّي ركعتين ويدعو بما تيسَّر له من معاني طلب الخيرة.

وقوله: "اللَّهمَّ إني أستخيرك بعلمك" أي: أطلب منك يا الله أن تختار لي الخيرَ من الأمور والأرشدَ منها بعلمك المحيط بكلِّ شيء، بما كان وبما سيكون وبما لَم يكن لو كان كيف يكون. وقوله: "وأستقدرك بقُدرتك" أي أطلب منك أن تقدرني عليه بقدرتك على كلِّ شيء. وقوله: "وأسألك من فضلك العظيم" أي أطلب منك يا الله أن تكرمَني بفضلك وتَمُنَّ عليَّ بعطائك، لأنَّك أنت المتفضِّلُ وحدَك والمنْعِمُ لا شريك لك. وقوله: "فإنَّك تقدِرُ ولا أقدر وتعلم ولا أعلم، وأنت علاَّم الغيوب" فيه الإيمانُ بقدرة الله على كلِّ شيء وبكلِّ شيء، وأنَّه لا يعزب عن علمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، والاعترافُ بضعف العبد وعجزه وافتقاره إلى سيِّده ومولاه. وقوله: "اللَّهمَّ إن كنت تعلم أنَّ هذا الأمر" ويُسَمِّيه بعينه إن كان زواجاً أو بيعاً أو سفراً أو غيرَ ذلك. وقوله: "إن كنت تعلم" يرجع إلى عدم علم العبد بعاقبة أمره، وأمَّا الرَّبُّ سبحانه فعلمُه محيطٌ بكلِّ شيء. وقوله: "خيرٌ لي في دينِي ومعاشي وعاقبة أمري" قدَّم الدِّين؛ لأنَّه الأهمُّ، فإذا سَلِمَ الدِّين فالخيرُ حاصلٌ، وإذا اختَلَّ فلا خير بعده. وقوله: "أو قال عاجل أمري وآجله" هذا شكٌّ من الراوي، وهما يؤدِّيان للمعنى السابق. وقوله: "فاقدُرْه لي ويَسِّره لي" أي اجعله لي مقدَّراً وميَسَّراً.

وقوله: "ثم بارك لي فيه" أي أَدِمْه عليَّ وضاعفه، فالبَركةُ تتضمن ثبوتَ النِّعمة ونُمُوَّها. وقوله: "وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي…" إلى آخر الدعاء، فيه سؤالُ الله أن يصرفَ هذا الأمرَ عن باله، وأن يباعدَ بينه وبينه، وأن يكتب له الخيرَ حيث كان، وأن يرزقَه الرِّضا بما قسم الله من وجود ذلك الأمر إن وجد أو عدمه إن عدم. والخيرُ فيما يختاره الله، والتوفيق بيده سبحانه، وهو الهادي وحده إلى سواء السبيل.

أذكار الكرب

150 / أَذْكَارُ الكَرْبِ لقد ثبت في السُّنَّة أحاديثُ عديدة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في علاج ما قد يصيب الإنسانَ من الكَرْب، وهو الشدَّة والألَم الذي قد يجده الإنسانُ في نفسه بسبب ما يَحلُّ به من مصائب ونوازل، تدهو الإنسان فتغمه وتحزنه وتؤرقه. ومن الأحاديث الواردة في علاج ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الكَرْبِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ"1. وروى أبو داود وابن ماجه وغيرُهما عن أسماء بنت عُمَيس رضي الله عنها قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألاَ أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الكَرْبِ أَوْ فِي الكَرْبِ: اللهُ اللهُ رَبِّي، لاَ أُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً" 2. وروى أبو داود في سننه عن أبي بكرة رضي الله عنه، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "دَعَوَاتُ المَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ"3. وروى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: لاَ إله إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6346) وصحيح مسلم (رقم:2703) . 2 سنن أبي داود (رقم:1525) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3882) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:1824) . 3 سنن أبي داود (رقم:5090) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:3388) .

كُنْتُ مِنَ الظَالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ"1. وجميعُ هذه الكلمات الواردة في هذه الأحاديث كلماتُ إيمان وتوحيد وإخلاص لله عز وجل، وبُعد عن الشِّرك كلِّه كبيره وصغيره، وفي هذا أبيَنُ دلالة على أنَّ أعظمَ علاج للكرب هو تجديدُ الإيمان وترديدُ كلمة التوحيد لا إله إلاَّ الله، فإنَّه ما زالَت عن العبد شدَّةٌ، ولا ارتفع عنه هَمٌّ وكَرْبٌ بمثل توحيد الله وإخلاص الدِّين له، وتحقيقِ العبادة التي خُلق العبدُ لأجلها وأُوجِدَ لتحقيقها؛ فإنَّ القلبَ عندما يُعمَرُ بالتوحيد والإخلاص، ويُشغَل بهذا الأمر العظيم الذي هو أعظم الأمور وأجلُّها على الإطلاق، تذهبُ عنه الكُرُبات، وتزولُ عنه الشدائدُ والغمومُ، ويَسعَدُ غايةَ السعادة. قال ابن القيم رحمه الله: "التوحيدُ مفزَعُ أعدائه وأوليائه، فأمَّا أعداؤه فيُنجيهم من كُرَب الدنيا وشدائدها: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 2، وأمَّا أولياؤه فيُنجيهم من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها، ولذلك فزع إليه يونس عليه السلام فنجّاه اللهُ من تلك الظلمات، وفزع إليه أتباعُ الرُّسل فنجوا به ممَّا عُذِّب به المشركون في الدنيا وما أُعدَّ لهم في الآخرة، ولمَّا فزع إليه فرعون عند مُعاينة الهلاك وإدراك الغرق لَم ينفعه؛ لأنَّ الإيمانَ عند المعاينة لا يُقبل، هذه سُنَّة الله في عباده، فما دُفعت شدائدُ الدنيا بمثل التوحيد، ولذلك كان دعاءُ

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3505) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:3383) . 2 سورة: العنكبوت، الآية (65) .

الكرب بالتوحيد، ودعوةُ ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلاَّ فَرَّجَ الله كُرَبَه بالتوحيد، فلا يُلقي في الكرب العظام إلاَّ الشِّركُ، ولا ينجي منها إلاَّ التوحيد، فهو مَفزَعُ الخليقة ومَلجَؤُها وحِصنُها وغايتُها، وبالله التوفيق"1 اهـ. وقد مر معنا أحاديثُ دالَّة على هذا المعنى، أوَّلُها: حديث ابن عباس رضي الله عنهما وكلُّه توحيدٌ وتمجيدٌ لله عز وجل، وترديدٌ لكلمة التوحيد لا إله إلاَّ الله، مقرونة بما يدلُّ على عظمة الله وجلاله وكماله وربوبيَّته للسَّموات والأرض وللعرش العظيم، فقد انتظمت هؤلاء الكلمات أنواعَ التوحيد الثلاثة: توحيد الربويبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، فإذا قالها المسلم مُتَأَمِّلاً لمعانيها متفَكِّراً في دلالاتها سكن قلبُه، واطمأنت نفسُه، وزال عنه كَرْبُه وشدَّتُه، وهُديَ إلى صراط مستقيم. وثانيها: حديث أسماء بنت عُميس رضي الله عنها، حيث أرشدها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أن تَفزَع في الكَرْب أو عند الكرب إلى التوحيد، الذي ما دُفعت عن العبد الشدائد ولا زالت عنه الكُرُبات بمثله، وقد شدَّ صلوات الله وسلامه عليه انتباهها لهذا الأمر وشَوَقَّها إلى معرفته، وهيَّأ نفسَها لتَلَقِّيه؛ بأن طَرَح عليها استفهاماً مُشَوِّقاً "ألاَ أعلِّمُكِ كلمات تقولينَهنَّ عند الكَرب أو في الكرب"، وما من ريب أنَّ نفسَها قد تاقت لمعرفة هؤلاء الكلمات، فأرشدها صلى الله عليه وسلم أن تقول: "اللهُ اللهُ ربِّي لا أُشرك به شيئاً"، وهي كلمةُ إخلاص وتوحيد. وقوله: "اللهُ اللهُ" هو بالرَّفع فيهما، على أنَّ الأوَّلَ مبتدأ والثاني تأكيد لفظي له، إشارةً إلى عِظَم المقام وأهمية الأمر، وخبر المبتدأ هو قوله: "ربِّي"،

_ 1 الفوائد (ص:95 ـ 96) .

والمعنى أنَّ إلَهي الذي أعبدُه وأخصُّه بجميع أنواع العبادة من خوف ورجاء وذلٍّ وخضوع وخشوع وانكسار وغير ذلك، هو ربِّي الذي ربَّانِي بنعمته، وأوجدنِي من العدَم، وتفضَّل علي بصنوف العطايا والمنَن. وقوله: "لا أشركُ به شيئاً" أي لا أتَّخذ معه شريكاً في العبادة كائناً مَن كان، فقوله: "شيئاً" نكرَةٌ في سياق النفي تفيدُ العموم. وعلى كلٍّ فهذه الكلمة العظيمة اشتملت على تحقيق التوحيد برُكنَيْه النفي والإثبات؛ نفيُ العبودية عن كلِّ مَن سوى الله، وإثباتها له وحده، وفي الحديث دليلٌ على أنَّ التوحيدَ هو المفزَع في الكرب، وأعظمُ أسباب زوال الهموم وذهاب الغُمُوم. وثالثها: حديث أبي بَكرة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم "دعواتُ المكروب اللَّهمَّ رحمتَك أرجو، فلا تَكلْنِي إلى نفسي طَرْفَة عَين، وأصلح لي شأني كلَّه لا إله إلاَّ أنت" وهو كلُّه توحيد لله، والتجاءٌ إليه واعتصامٌ به. وقوله: "اللَّهمَّ رحمتَك أرجو" في تأخير الفعل دَلالةٌ على الاختصاص، أي: نخصُّك برجاء الرحمة منك، فلا نرجوها من أحد سواك. وقوله: "فلا تَكلْنِي إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كلَّه" فيه شدَّةُ افتقار العبد إلى الله، وأنَّه لا غنى له عن ربِّه ومولاه طرفة عين في كلِّ شأن من شؤونه، ولهذا قال: "وأصلح لي شأني كلَّه" أي: في كلِّ جزئية من جزئياته وكلِّ جانب من جوانبه، ثم ختم هذ الدعاءَ المبارك بكلمة التوحيد لا إله إلاَّ الله. ورابعها: حديث سَعْد بن أبي وقاص، وفيه ذكرُ دعوة ذي النُّون عليه السلام وهو في بطن الحوت: "لا إله إلاَّ أنت سبحانك إنِّي كنت من الظالمين"

وعن هذه الدعوة يقول ابن القيم رحمه الله: "فإنَّ فيها من كمال التوحيد والتَّنْزيه للرَّبِّ تعالى واعتراف العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدوية الكرب والهمِّ والغمِّ، وأبلغِ الوسائل إلى الله سبحانه في قضاء الحوائج، فإنَّ التوحيدَ والتَّنْزيهَ يتضمَّنان إثباتَ كلِّ كمال لله، وسَلبَ كلِّ نقصٍ وعَيب وتمثيل عنه، والاعترافَ بالظلم يتضمَّن إيمانَ العبد بالشَّرع والثواب والعقاب، ويوجب انكسارَه ورجوعه إلى الله، واستقالته عثرته، والاعتراف بعبوديته وافتقاره إلى ربِّه، فها هنا أربعةُ أمور قد وقع التوسُّل بها: التوحيد والتَّنْزيه والعبوديةُ والاعتراف"1 اهـ.

_ 1 زاد المعاد (2/208) .

دعاء الغم والهم والحزن

151 / دعاءُ الغَمِّ وَالهَمِّ وَالحُزْنِ إنَّ العبدَ في هذه الحياة قد يُصاب بآلام متنوِّعَة، وقد يَرِدُ على قلبه واردَاتٌ متَعدِّدةُ تؤْرِق قلبَه وتُؤْلِمُ نفسَه، وتَجلبُ له الكدَرَ والضِّيقَ، فإن كان هذا الألَمُ الذي يُصيبُ القلبَ متعلِّقاً بأمور ماضية فهو حُزنٌ، وإن كان متعلِّقاً بأمور مستقبَلَة فهو هَمٌّ، وإن كان متعلِّقاً بواقع الإنسان وحاضره فهو غَمٌّ، وهذه الأمور الثلاثة الحزنُ والهمُّ والغَمُّ إنَّما تزول عن القلب وتَنْجَلي عن الفؤاد بالعودة الصادقة إلى الله، وتَمام الانكسار بين يديه، والتَّذَلُّل له سبحانه، والخضوع له والاستسلام لأمره والإيمان بقضائه وقدره ومعرفته سبحانه، ومعرفةِ أسمائه وصفاته، والإيمانِِ بكتابه، والعناية بقراءته وتدبره والعمل بما فيه، فبذلك لا بغيره تزولُ هذه الأمور، وينشرح الصَّدرُ، وتتحقَّق السَّعادة. جاء في المسند للإمام أحمد وصحيح ابن حبان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذا أَصَابَهُ هَمٌّ أَوْ حُزْنٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدُكَ وابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكِ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلاَءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلاَّ أَذْهَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحاً. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ. قَالَ: أَجَلْ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ "1.

_ 1 مسند أحمد (1/391) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في السلسلة الصحيحة (رقم:199) ، وانظر في شرح هذا الحديث الفوائد لابن القيم (ص:44) .

فهذه كلماتٌ عظيمةٌ ينبغي على المسلم أن يتعلَّمها، وأن يحرصَ على قولها عندما يُصاب بالحزن أو الهمِّ أو الغمِّ، وليعلم كذلك أنَّ هؤلاء الكلمات إنَّما تكون نافعةً له إذا فَهم مدلولَها وحقَّق مقصودَها وعمل بما دلَّت عليه، أمَّا الإتيانُ بالأدعية المأثورة والأذكار المشروعية دون فهم لمعانيها ودون تحقيق لمقاصدها فإنَّ هذا قليلُ التأثير عديمُ الفائدة. وإذا تأمَّلنا هذا الدعاءَ نجدُ أنَّه يتضمن أربعة أصول عظيمة، لا سبيل للعبد إلى نيل السعادة وزوال الهم والغم والحزن إلاَّ بالإتيان بها وتحقيقها. أمَّا الأصل الأول: فهو تحقيقُ العبادة لله وتَمام الانكسار بين يديه، والخضوع له واعترافه بأنَّه مخلوق لله مَملوكٌ له هو وآباؤه وأمهاتُه، ابتداء من أبويه القريبين وانتهاء إلى آدم وحواء، ولهذا قال: "اللَّهمَّ إنِّي عبدُك وابنُ عبدك وابنُ أَمَتِك" فالكلُّ مماليك لله، وهو خالقُهم وربُّهم وسيِّدُهم ومدَبِّر شؤونهم، الذي لا غنى لهم عنه طرفة عين، وليس لهم من يعوذون به ويلوذون به سواه، ومن تحقيق ذلك التزام العبد عبوديته سبحانه من الذُّلِّ والخضوع والانكسار والإنابة وامتثال الأوامر واجتناب النواهي ودوام الافتقار إليه واللَّجأ إليه والاستعانة به والتوكل عليه والاستعاذة به، وأن لا يتعلَّق القلبُ بغيره محبَّةً وخوفاً ورجاءً. وأمَّا الأصل الثاني: فهو أن يؤمن العبدُ بقضاء الله وقَدَره، وأنَّ ما شاء الله كان وما لَم يشأ لَم يكن، وأنَّه سبحانه لا مُعَقِّبَ لحُكمه ولا رادَّ لقضائه {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} 1، ولهذا قال في هذا الدعاء "ناصيَتِي بيدك، ماضٍ فِيَّ حُكمُك،

_ 1 سورة: فاطر، الآية (2) .

عَدلٌ فِيَّ قضاؤك"، فناصيةُ العبد وهي مُقدَّمَةُ رأسه بيد الله، يتصرَّف فيه كيف يشاء ويَحكم فيه بما يريد، لا مُعَقِّبَ لحُكمه ولا رادَّ لقضائه، فحياةُ العبد وموتُه وسعادتُه وشقاوتُه وعافيتُه وبلاؤه، كلُّ ذلك إليه سبحانه ليس إلى العبد منه شيء، وإذا آمن العبدُ بأنَّ ناصيتَه ونواصي العباد كلَّها بيد الله وحده يصرفهم كيف شاء، لَم يخف بعد ذلك منهم ولم يَرجُهم ولَم يُنْزلْهم مَنْزِلَة المالكين، ولم يعلِّق أملَه ورجاءَه بهم، وحينئذ يستقيمُ له توحيدُه وتوكُّلُه وعبوديتُه، ولهذا قال هود عليه السلام لقومه: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. وقوله: "ماض في حُكمك" يتناول الحكمين: الحكم الديني الشرعي، والحكم القدري الكوني، فكلاهما ماضيان في العبد شاء أم أبَى، لكن الحكم الكوني القدري لا يمكن مخالفتُه، وأمَّا الحكمَ الدينِيَّ الشرعي فقد يخالفُه العبدُ، ويكون متعرِّضاً للعقوبة بحسب ما وقع فيه من مخالفة. وقوله: "عَدلٌ فِيَّ قضاؤك" يتناول جميعَ أقضيته سبحانه في عبده من كلِّ الوجوه، من صحة وسُقم، وغنًى وفقر، ولَذَّة وألَم، وحياة وموت، وعقوبةٍ وتجاوز وغير ذلك، فكلُّ ما يقضي على العبد فهو عَدلٌ فيه {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} 2. والأصلُ الثالث: أن يؤمنَ العبدُ بأسماء الله الحسنى وصفاته العظيمة الواردة في الكتاب والسُّنَّة، ويتوسَّلَ إلى الله بها، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا

_ 1 سورة: هود، الآية (56) . 2 سورة: فصلت، الآية (46) .

يَعْمَلُونَ} 1، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 2، والعبدُ كلَّما كان عظيمَ المعرفة بالله وأسمائه وصفاته زادت خشيتُه له، وعَظُمت مراقبتُه له، وازدادَ بُعْداً عن معصيته والوقوع فيما يسخطه، كما قال بعض السلفُ: "من كان بالله أعرفَ كان منه أخوف"، ولهذا فإنَّ أعظمَ ما يَطرُدُ الهمَّ والحزنَ والغمَّ أن يعرفَ العبدُ ربَّه، وأن يَعمُرَ قلبَه بمعرفته سبحانه، وأن يتوسَّلَ إليه بأسمائه وصفاته، ولهذا قال: "أسألُك بكلِّ اسم هو لكَ سَمَّيتَ به نفسَك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علَّمته أحداً من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك"، فهذا توسُّلٌ إلى الله بأسمائه كلِّها ما عَلَمَ العبدُ منها وما لَم يعلم، وهذا أحبُّ الوسائل إلى الله سبحانه. والأصلُ الرابع: هو العنايةُ بالقرآن الكريم، كلام الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه، المشتمل على الهداية والشفاء والكفاية والعافية، والعبدُ كلَّما كان عظيمَ العناية بالقرآن تلاوةً وحفظاً ومذاكرةً وتدبُّراً، وعملاً وتطبيقاً نال من السعادة والطمأنينة وراحةِ الصَّدر وزوال الهمِّ والغَمِّ والحزن بحسب ذلك، ولهذا قال في هذا الدعاء: "أن تَجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي ونورَ صدري وجلاءَ حزني وذهاب هَمِّي". فهذه أربعةُ أصول عظيمة مستفادة من هذا الدعاء المبارك، ينبغي علينا أن نتأمَّلَها ونَسعَى في تحقيقها؛ لننالَ هذا الموعودَ الكريمَ والفضلَ العظيم وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إلاَّ أذهبَ اللهُ هَمَّه وأبدلَه مكان حزنه فرحاً" وفي رواية "فَرَجاً"، ومن الله وحده نطلب العونَ والتوفيق.

_ 1 سورة: الأعراف، الآية (180) . 2 سورة: الإسراء، الآية (110) .

ما يقال عند لقاء العدو

152 / مَا يُقَالُ عِنْدَ لِقَاءِ العَدُوِّ لقد جاء في السُّنَّة أذكارٌ وأدعيةٌ يقولُها المسلمُ عند لقائه العدو أو ذي السلطان الجائر، وهي في الجملة الْتجَاءٌ إلى الله واعتصامٌ به واعتمادٌ عليه سبحانه في أن يَقِيَه شرَّهم، ويُسلمَه منهم، ويَحفظه من كيدهم ومكرهم، والله عزَّ وجلَّ حافظٌ لِمَن لَجَأَ إليه وكافٍ مَن اعتصم به؛ إذ الأمورُ كلُّها بيده، وما من دابَّة إلاَّ هو آخذٌ بناصيتها. ومن الأذكار التي جاءت بها السُّنَّة عند لقاء العدوِّ ما رواه أبو داود والترمذي وغيرُهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا غَزَا قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ "1. وقولُه: "اللَّهمَّ أنت عَضُدي"أي: عونِي فلا مُعين لِي سواك ولا مَلجأَ لي غيرُك، بك وحدك أستعين، وإليك وحدك ألتجئ. وقوله: "ونصيري" أي لا ناصر لي سواك، ومن كان اللهُ ناصرَه فلا غالبَ له، كما قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 2. وقوله: "بك أَحُول" أي أحتال، ومنه قولك "لا حول ولا قوة إلاَّ بالله" أي لا حيلة في دفع سوء ولا قوة في درك خير إلاَّ بالله.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:2632) ، والترمذي (رقم:3584) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4757) . 2 سورة: آل عمران، الآية (160) .

وقوله: "وبك أصول" أي بك أحمل على العدو، من الصَّولة وهي الحَمْلَة. وقوله: "وبك أقاتل" أي بعونك أقاتل عدوِّي. ومن الأدعية في هذا المقام ما رواه أبو داود عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا خَافَ قَوْماً قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ"1. وقوله: "اللَّهمَّ إنَّا نجعلُك في نُحورهم" أي في نَحر العدوِّ بأن تكون حافظاً لنا، ومدافعاً عنَّا، وحائلاً بينهم وبيننا مِنْ أن يَصلوا إلينا بأيِّ نوع من الأذَى، وخَصَّ نحورَهم بالذِّكر؛ لأنَّ العدوَّ يستقبلُ بنحره عند القتال، ولعلَّ في ذِكر النَّحر تفاؤلاً بأنَّ المؤمنين يَنحَرونَهم عن آخرهم بِمَدٍّ من الله وعون. وقوله: "ونعوذ بك من شرورهم" أي من أن ينالونا بأيِّ نوع من الشَّرِّ، فأنت الذي تدفعُ شرورَهم وتكفينا أمرَهم وتحولُ بيننا وبينهم. ومِمَّا يُشرعُ للمسلم أن يقولَه في مثل هذا المقام "حسبنا الله ونِعم الوكيل" ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِىَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (2") 3.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:1537) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4706) . 2 سورة: آل عمران، الآية (173) . 3 صحيح البخاري (رقم:4563) .

ومعنى "حسبنا الله" أي: كافينا كلّ ما أهَمَّنا، فلا نتَوَكَّل إلاَّ عليه ولا نعتمد إلاَّ عليه كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 1 أي: كافيه كما قال: {لَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 2. وقوله: "ونِعم الوكيل" أي: نِعم المتوكَّلُ عليه في جلب النَّعماء ودفع الضَّرِّ والبلاء، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 3. وقد تضمَّنت هذه الكلمةُ العظيمةُ التوَكُّلَ على الله والاعتمادَ عليه والالتجاء إليه سبحانه، وأنَّ ذلك سبيلُ عِزِّ الإنسان ونَجاتِه وسلامته، قال ابنُ القيم رحمه الله: "وهو حَسْبُ من تَوَكَّل عليه، وكافي من لجأ إليه، وهو الذي يؤمِّنُ خوفَ الخائف، ويُجيرُ المستجير، وهو نِعم المولى ونعم النَّصير، فمَن تولاَّه واستنصرَ به وتوكَّلَ عليه وانقطعَ بكُلِّيَّته إليه تولاَّه وحفظَه وحَرَسَهُ وصانَه، ومَن خافه واتَّقاه أمَّنَه مِمَّا يخافُ ويَحذَر، وجَلَبَ إليه كلَّ ما يحتاج إليه من المنافع {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 4، فلا تَسْتَبْطِئْ نصرَه ورزقَه وعافيتَه، فإنَّ اللهَ بالغُ أمره، وقد جعل الله لكلِّ شيء قدْراً، لا يتقدَّم عنه ولا يتأخر"5. ثمَّ إنَّ فيما تقدَّم دلالةٌ على عظَم شأن هذه الكلمة وأنَّها قولُ إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام في الشدائد.

_ 1 سورة: الطلاق، الآية (3) . 2 سورة: الزمر، الآية (36) . 3 سورة: الأنفال، الآية (40) . 4 سورة: الطلاق، الآيتان (2 ـ 3) . 5 بدائع الفوائد (2/237 ـ 238) .

فإبراهيمُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا أَفْحَمَ قومَه وبيَّن لهم بالحُجَج القاطعة والبراهين الساطعة أنَّ المعبودَ بحقٍّ هو الله، وأنَّ ما يعبدونه من دونه إنَّما هي أوثانٌ لا تَملك لعابديها جلبَ نفع ولا دفعَ ضر، {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 1، فلمَّا أُفحم القوم ولم يكن لديهم أيُّ حجة يقاومونه بها لَجأوا إلى استعمال القوة و {قََالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} 2، وقد دلَّت كلمتُهم هذه على إفلاسهم من الحُجج والبراهين، وعلى شدَّة سفههم وحقارة عقولهم، إذ كيف يعبدون من أقرُّوا أنَّه يحتاج إلى نصرهم، ثم إنَّهم أجَجُّوا ناراً عظيمة وأَلْقَوا فيها نبيَّ الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام قاصدين قتلَه بأشنع القتلات، فقال عليه السلام حين ألقي في النار: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، فانتصر الله لخليله، وقال للنار: {كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 3، فكانت كذلك برداً وسلاماً عليه لَم ينله فيها أذى، ولَم يُصبه فيها مكروه. ومحمد صلى الله عليه وسلم قالها حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} 4، وذلك بعد ما كان من أمر أُحُدٍ ما كان، بلغ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه أنَّ أبا سفيان ومَن معه من المشركين قد أجمعوا الكرَّة عليهم، فخرج النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ومعه جَمعٌ من أصحابه حتى انتهى إلى حمراء الأس وهي تَبعُدُ عن المدينة قدر ثلاثة أميال فألقَى اللهُ الرُّعبَ في قلب أبي سفيان حين بلغه الخبَر،

_ 1 سورة: الأنبياء، الآيتان (66 ـ 67) . 2 سورة: الأنبياء، الآية (68) . 3 سورة: الأنبياء، الآية (69) . 4 سورة: آل عمران، الآية (173) .

فرجع إلى مكة، ومرَّ به ركبٌ من عبد قيس فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة، قال: فهل أنتم مبلغون عنِّي محمداً رسالةً أُرسلُكم بها إليه؟ قالوا: نعم، قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنَّا قد أجْمَعنا السيرَ إليه وإلى أصحابه؛ لنستأصل بَقيتَهم، يريد بذلك إرعابَهم وإخافتَهم، فمَرَّ الرَّكبُ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قاله أبو سفيان وأصحابُه فقال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 1، وازداد إيمانُهم بالله وثقتُهم به، ورجعوا إلى المدينة دون أن يُصابوا بسوء أو أذًى، بخلاف المشركين الذين رَجعوا وقلوبُهم مُمتلئةٌ خوفاً ورعباً. يقول الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ َانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} 2. وفي هذا أنَّ التوكُّلَ على الله أعظمُ الأسباب في حصول الخير ودفع الشَّرِّ في الدنيا والآخرة3.

_ 1 سورة: آل عمران، الآية (173) . 2 سورة: آل عمران، الآيات (172 ـ 174) . 3 انظر: تيسير العزيز الحميد (ص:502 ـ 505) .

مايقول إذا أصابته مصيبه

153 / ما يَقُولُ إِذا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ الحديثُ هنا عمَّا يُشرَعُ للمسلم أن يقوله عندما يُصاب بمصيبة في نفسه أو وَلَده أو ماله أو نحو ذلك، وليعلم أوَّلاً أنَّ سُنَّة الله ماضيةٌ في عباده بأن يَبتليَهم في هذه الحياة الدنيا بأنواعٍ من البلايا وألوانٍٍ من المحن والرَّزايا، فيبتليهم بالفقر تارةً وبالغني تارة أخرى، وبالصِّحة تارة وبالمرض تارة أخرى، وبالسَّرَّاء حيناً وبالضَّرَّاء حيناً آخر، وليس في النَّاس إلاَّ مَن هو مُبتَلى، إمَّا بفوات محبوب أو حصول مكروه أو زوال مرغوب، فسرور الدنيا أحلامُ نوم أو كظِلٍّ زائل، إن أَضحَكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سَرَّت يوماً أحزَنت دهراً، وإن مَتَّعت قليلاً مَنَعت طويلاً، وما مَلأت داراً حبرة إلاَّ مَلأتها عبرة، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لكلِّ فَرحة تَرحة، وما مُلئَ بيتٌ فَرَحاً إلاَّ مُلئَ تَرَحاً"، إلاَّ أنَّ عبدَ الله المسلم صائرٌ إلى خير في كلِّ أحواله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "عَجَباً لأمر المؤمن إنَّ أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذلك لأحد إلاَّ للمؤمن، إن أصابَته سَرَّاءُ شَكَرَ فكان خيراً له، وإن أصابته ضَرَّاءُ صَبَرَ فكان خيراً له" رواه مسلم1. وقد أرشد الله عبادَه إلى الحال التي ينبغي أن يكونوا عليها عند المصيبة، وإلى الذِّكر الذي ينبغي أن يقولَه المُصابُ، يقول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 2.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2999) . 2 سورة: البقرة، الآيات (155 ـ 157) .

فأخبر سبحانه في هذه الآية الكريمة أنَّه يبتلي عبادَه بالمحن؛ ليَتَبَيَّنَ الصادقُ من الكاذب، والجازع من الصابر، والموقنُ من المرتاب، وذَكَرَ أنواعاً مِمَّا يبتليهم به، فهو يبتليهم بشيء من الخوف، أي: من الأعداء، والجوع، أي: بنقص الطعام والغذاء، ونقصٍ من الأموال، وهو يشمَلُ جميعَ أنواع النقص المعتري للأموال، سواء بالجوائح السماوية أو الغرق أو الضَّيَاع أو السَّلب أو غير ذلك، ويبتليهم كذلك بنقص الأنفسِ بذهاب الأحباب من الأولاد والأقارب والأصحاب، ويَدخُلُ تحت هذا ما يُصيب البدن من أنواع الأمراض والأسقام، ويبتليهم كذلك بنقص الثَّمَرات من الحبوب وثمار النخيل والأشجار، وهي أمورٌ لا بدَّ وأن تقع؛ لأنَّ العليمَ الخبيرَ أخبَرَ بوقوعها، وحظُّ الإنسان من المصيبة هو ما تُحدث له من أثر، فمَن رضيَ فله الرِّضا، ومن سَخط فله السخط، ولهذا لا بدَّ أن يعلمَ المصابُ أنَّ الذي ابتلاه بمصيبته هو أحكمُ الحاكمين وأرحمُ الراحمين، وأنَّه سبحانه لَم يُرسل بلاءَه عليه ليهلكَه ولا ليعذِّبَه، وإنَّما ابتلاه ليمتحنَ صبرَه ورضاه وإيمانَه، وليسمع تَضرُّعَه وابتهالَه ودعاءَه، وليَرَهُ طريحاً ببابه، لائذاً بجَنَابه، مكسورَ القلب بين يديه، رافعاً يدي الضَّرَاعة إليه، يشكو بَثَّه وحُزنَه إليه؛ فينالَ بذلك عظيمَ موعود الله وجزيلَ عطائه ووافرَ آلائه ونعمائه، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 1، فما أوسَعَه من فضل وما أكرمَه من عطاء، يقول عمر بنُ الخطاب رضي الله عنه: "نعم العدلان ونعمت العلاوة".

_ 1 سورة: البقرة، الآيات (155 ـ 157) .

لقد جعل اللهُ هذه الكلمةَ كلمةَ الاسترجاع وهي قول المُصاب: "إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون" ملجأً وملاذاً لذوي المصائب، وعِِصمةً للممتَحَنين، فإذا لَجأَ المُصابُ إلى هذه الكلمة الجامعة لمعاني الخير والبركة سكن قلبُه، واطمأنت نفسُه، وهدأ بالُه، وعوَّضَه اللهُ في مصيبته خيراً. روى مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها أنَّها قالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولَ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْراً مِنْهَا، إِلاَّ آجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْراً مِنْهَا. قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِيَّ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْلَفَ اللهُ لِي خَيْراً مِنْهُ؛ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم"1. أي: أنَّ اللهَ أكرَمَها فتزوَّجت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. ومَن يتأمَّل هذه الكلمةَ العظيمةَ كلمةَ الاسترجاع، يجدُ أنَّها مشتملةٌ على علاج عظيم لذوي المصائب، بل فيها لهم أبلغ علاج وأنفعه في الحال والمآل، وكم لهذه الكلمة من الآثارِ الحميدة والعواقبِ الرشيدة والنتائج العظيمة في الدنيا والآخرة، ويكفي في هذا قول الله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 2، لكن مع قولها لا بدَّ من فهم مدلولها وتحقيق مقصودها؛ ليَحظَى العبدُ بهذا الموعود الكريم والثواب العظيم، وقد تضمَّنت هذه الكلمة أصلين عظيمين، إذا حقَّقَهما العبدُ علماً وعملاً تَسَلَّى عن مصيبته، ونال عظيمَ الثواب وجميل المآب. أمَّا الأصل الأول: فهو أن يتحقَّق العبدُ أنَّ نفسَه وأهلَه ومالَه وولَده

_ 1 صحيح مسلم (رقم:918) . 2 سورة: البقرة، الآية (157) .

مِلكٌ لله عز وجل، فهو الذي أوْجَدَهم من العدَم، ويتصرَّف فيهم بما شاء، ويحكم فيهم بما يريد، لا مُعقِّب لحُكمه، ولا رادَّ لقضائه، وهذا مستفادٌ من قوله "إنَّا لله" أي: نحن مماليك له، وتحت تصرفه وتدبيره، هو ربُّنا ونحن عبيدُه، وكلُّ شيء واقعٌ علينا فبقضائه وقدره، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 1. والأصل الثاني: أن يعلمَ العبدُ أنَّ مصيرَه ومرجعَه إلى الله، كما قال الله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} 2، وقال تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} 3، فلا بدَّ للعبد أن يخلفَ الدنيا وراءَ ظهره، ويأتي ربَّه يوم القيامة فرداً كما خلقَه أوَّلَ مرَّة، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، وإنَّما يأتيه بالحسنات والسيِّئات، وهذا مستفادٌ من قوله: "وإنَّا إليه راجعون"، وهو إقرارٌ من العبد بأنَّه راجعٌ إلى الله، وأنَّه سبحانه سيُجازيه على ما قدَّم في هذه الحياة، وعندئذ يتَّجه إلى شَغْلِ نفسه بما ينفعه عند لقاء الله، فإذا قالَها المصابُ على هذا الوصف مستحضِراً لمعناها محقِّقاً لمدلوها ومقتضاها هُدي إلى صراط مستقيم. روى أبو نعيم في الحلية عن الحسن بن علي العابد قال: "قال الفضيل ابن عياض لرجل: كم أتَت عليك قال ستُّون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسيرُ إلى ربِّك توشك أن تبلغ، فقال الرَّجل: يا أبا علي، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، قال له الفضيل: تعلمُ ما تقول فقال الرجل: قلت: إنَّا لله وإنَّا إليه

_ 1 سورة: الحديد، الآية (22) . 2 سورة: النجم، الآية (42) . 3 سورة: العلق، الآية (8) .

راجعون، قال الفضيل: تعلَمُ ما تفسيرُه؟ قال الرَّجل: فسِّره لنا يا أبا علي، قال: قولُك إنَّا لله، تقول: أنا لله عبدٌ وأنا إلى الله راجعٌ، فمَن عَلِمَ أنَّه عبد الله وأنَّه إليه راجع، فليعلَم بأنَّه موقوفٌ، ومَن عَلم بأنَّه موقوفٌ فليعلم بأنَّه مسئولٌ، ومَن علم أنَّه مسؤولٌ، فليُعِدَّ للسؤال جواباً، فقال الرجل: فما الحيلة قال: يسيرة، قال: ما هي قال: تُحسنُ فيما بقيَ، يُغفَر لك ما مضى، فإنَّك إن أسأتَ فيما بقي أُخِذتَ بما مضى وما بقي"1. وفي هذا دلالةٌ على عظم اهتمام السَّلف رحمهم الله بمعاني الأذكار ومعرفة دلالاتها وتحقيق مقاصدها وغاياتها، وتأكيدهم على هذا الأمر العظيم؛ لتتحقق للعبد ثمارُها، وتظهر فيه آثارُها، وتتوافر له خيراتُها وبركاتها.

_ 1 حلية الأولياء (8/113) .

ما يقوله من عليه دين

154 / مَا يَقُولُهُ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ الكلام هنا سيكون بإذن الله عن الدُّعاءِ الذي يستحب للمسلمِ أن يدعوَ به إذا كان عليه دَيْنٌ، روى الترمذي في سننه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " أَنَّ مُكَاتَباً جَاءَهُ فَقَالَ: إنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي، فَأَعِنِّي قَالَ: ألاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ ثَبِيرٍ دَيْناً أَدَّاهُ اللهُ عَنْكَ قَالَ: قُلْ اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلاَلِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ" 1. فهذا دعاءٌ عظيم يقولُه مَن عليه دينٌ وهو عاجزٌ عن أدائه، فإذا قالَه واعتنى به أدَّاه اللهُ عنه مهما كان حجمُ الدَّين، ولو كان مثلَ الجبل، كما مَرَّ في الحديث؛ لأنَّ التيسيرَ بيد الله، وخزائنه سبحانه ملأَى لا يَغيظها نفقة، فمَن التَجَأ إليه كفاه، ومَن طلب العونَ منه أعانه وهداه. وهذا المكاتَب جاء إلى علي رضي الله عنه يشكو عجزَه وعدم قُدرته على أداء ما تَحمَّلَه من مال لسيِّده ليعتقه، فأرشدَه رضي الله عنه إلى هذا الدعاء العظيم الذي سمعَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيَّن له عظمَ فائدته وكبر عائدته على قائله، وأنَّ الله يقضي عنه دينَه مهما كثُر، قال: "ألاَ أعلِّمُك كلمات عَلَّمَنِيهنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، لو كان عليك مثل جبل ثبير دَيْناً أدَّاه الله عنك"، وهذا فيه تشويقٌ عظيمٌ وترغيبٌ للسَّامع، وحثٌّ على المواظبة على هذا الدعاء المبارك؛ ليتخَلَّص العبد من الدَّين الذي تَحمَّله، ومن هَمِّه الذي كدَّر بالَه وأشغله.

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3563) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:1820) .

وقوله: "اللَّهمَّ اكفني بحلالك عن حرامك" يقال: كفاه الشيء كفاية، أي: استغنى به عن غيره، فهو يسأل اللهَ أن يجعلَه مكتفياً بالحلال مستغنياً به عن الحرام. وقوله: "وأغنِنِي بفضلك عمَّن سواك" أي: واجعل فضلَك وهو ما تَمُنُّ به عليَّ من نعمة وخير ورزق مغنياً لي عمَّن سواك، فلا أفتقر إلى غيرك، ولا ألتجئُ إلى أحد سواك. وهذا فيه أنَّ العبدَ ينبغي أن يكون مفوِّضاً أمرَه إلى الله، معتمداً عليه وحده، مستعيناً به سبحانه، متوكِّلاً في جميع أموره عليه، وكفى به سبحانه وكيلاً. ولا بدَّ مع الدعاء من بذل السَّبب، والسَّعي الجادِّ لسداد الدَّين، والعزمِ الصادق على الوفاء به، والمبادرةِ إلى ذلك في أقرب وقتٍ يَتَهَيَّأُ السَّدادُ، والحذر الشَّديد من المُماطلة والتَّسويف، فإنَّ مَن كان كذلك فحَرِيٌّ به ألاَّ يُعان، أمَّا مَن حَمَلَ في قلبه هَمَّ الدَّين وكانت له نيَّةٌ صادقةٌ في أدائِه أعانه اللهُ، وأدَّى عنه دَينَه. روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أخذ أموالَ النَّاس يريد أداءها أدَّى اللهُ عنه، ومن أخذها يريد إتلافَها أتلفه الله"1. وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِن عبدٍ كانت له نيَّةٌ في أداء دَيْنِه إلاَّ كان له مِن الله عَوْن"2.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:2387) . 2 المسند (6/72) ، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:1801) .

وروى النسائي عن ميمونة رضي الله عنها، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "ما من أحَدٍ يُدانُ دَيْناً فعلمَ اللهُ منه أنَّه يريدُ قضاءَه إلاَّ أدَّاه اللهُ عنه في الدنيا"1. فإن صَدَقَ العبدُ في عَزمِه وصَلحُت نيَّتُه تيَسَّرت أمورُه، وأتاه الله باليُسر والفَرَج من حيث لا يَحتَسب، ومَن صَحَّ توكُّلُه على الله تكَفَّلَ الله بعونه وسدَّدَ أمرَه وقَضَى دَينَه. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنَّه ذَكَرَ رجلاً من بني إسرائيل سألَ بعضَ بني إسرائيل أن يُسلفَه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أُشهدُهم، فقال: كفى بالله شهيداً، قال: فائتني بالكفيل، فقال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقتَ، فدفعها إليه على أَجَل مسمًّى، فخرج في البحر فقضى حاجتَه، ثمَّ التمس مركباً يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجَّلَه، فلم يَجد مركباً، فأخذ خشبَةً فنَقَرَها فأدخلَ فيها ألفَ دينار وصحيفةً منه إلى صاحبه، ثم زَجَّجَ موضعَها [أي: سوَّى موضعَ النقر وأصلحَه] ثم أتى بها إلى البحر فقال: اللَّهمَّ إنَّك تعلَمُ أنِّي كنت تسلَّفتُ فلاناً ألفَ دينار، فسألني كفيلاً فقلت كفى بالله كفيلاً، فرَضِيَ بك، وسألني شهيداً، فقلت كفى بالله شهيداً، فرَضِيَ بك، وإنِّي جَهَدتُ أن أجد مركباً أبعثُ إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستوْدِعُكَها، فرمَى بها في البحر حتى وَلَجَت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمسُ مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرَّجلُ الذي كان أسلَفَه ينظرُ لعلَّ مركباً قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، فلما نشَرَها [أي: قطعها بالمنشار] وجد المالَ

_ 1 سنن النسائي (7/315) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:5677) .

والصحيفةَ، ثم قدمَ الذي كان أسلَفَه فأتى بالألف دينار، فقال: والله ما زلتُ جاهداً في طَلَب مركبٍ لآتيكَ بمالك فما وجدتُ مركباً قبل الذي أتيتُ فيه، قال: هل كنتَ بعثتَ إليَّ بشيء قال: أُخبرُك أنِّي لَم أجد مركباً قبل الذي جئتُ فيه، قال: فإنَّ الله قد أدَّى عنكَ الذي بعثتَ في الخشبة، فانصرفْ بالألف الدينار راشداً"1. فهذه قصَّةٌ عجيبة ذكرَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الرَّجل من بني إسرائيل؛ لنَتَّعظَ بها ونعتَبِرَ، ولنعلمَ كمالَ قدرة الله، وتمامَ عونه، وحسنَ كفايته لعبده، إذا أحسن الالتجاءَ إليه، وصَدَقَ في الاعتماد عليه، وتأمَّل كمالَ التوفيق حيث لَم تقع هذه الخشبةُ المشتملةُ على المال إلاَّ في يد صاحبه، فتبارك الله العليمُ القدير. ولا ينبغي للمسلم أن يستهينَ بأمر الدَّين أو يُقلِّلَ من شأنه أو يتهاونَ في سداده، فقد ورد في السُّنَّة أحاديثُ عديدة تفيد خطورة ذلك، وتدلُّ على أنَّ نفسَ المؤمن معلقةٌ بالدَّين، وأنَّ الميتَ محبوسٌ بدَيْنِه حتى يُقْضَى عنه. روى الإمام أحمد عن سَعد بن الأطول رضي الله عنه قال: مات أخي وترك ثلاثَ مائة دينار، وترك فيه ولداً صغاراً، فأردتُ أن أنفقَ عليه، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أخاك محبوسٌ بدَيْنه فاذهب فاقضِ عنه" قال: فذهبتُ فقضيتُ عنه ثم جئتُ فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قضيتُ عنه، ولم يبقَ إلاَّ امرأة تَدَّعِي دينارين، وليست لها بيِّنة، قال: "أَعطِهَا، فإنَّها صادقة"2.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:2291) . 2 مسند أحمد (4/136) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:1550) .

وروى أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نفسُ المؤمن معلَّقَةٌ ما كان عليه دَين"1. ولهذا فإنَّ الواجبَ على المسلم إذا كان عليه دَينٌ أن يُبادرَ إلى سداده قبل أن يبْغَتَه الموتُ، فتُحبس نفسُه بدَيْنِه، ويكون مرتهناً به، وإذا لَم يكن عليه دَينٌ فليحمَد الله على العافية، وليتحاشَ الاستدانةَ ما لَم يكن لها حاجة داعيةً أو ضرورة مُلحَّةً؛ ليسلم مِن هَمِّ الدَّيْن، وليرح نفسه من عواقبه، وليكن في أَمَنَة من مغبَّته. ففي المسند من حديث عُقبة بن عامر: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُخيفوا أنفسَكم بعد أمْنِهَا" قالوا: وما ذلك يا رسول الله قال: "الدَّين"2. أي: لا تسارعوا إلى الدَّيْن فتُخيفوا أنفسَكم من توابعه وعواقِبه، ونسأل الله لنا ولكم العافيةَ والسلامةَ والهدايةَ إلى كل خير.

_ 1 مسند أحمد (2/440) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:1811) . 2 مسند أحمد (4/146) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في السلسلة الصحيحة (رقم:2420) .

الأذكار التي تطرد الشيطان

155 / الأَذْكَارُ الَّتِي تَطْرُدُ الشَّيْطَانَ لقد وردَ في نصوص الكتاب والسُّنَّة أذكارٌ مباركةٌ وأدعيةٌ نافعةٌ تطرُدُ الشيطانَ وتباعدُه عن العبد المؤمن، ويكون بمواظبَته ومحافظته عليها في حصنٍ حَصين وحرزٍ مَكين يقيه ـ بإذن الله ـ من الشيطان الرجيم، فلا يَخلُصُ إليه ولا يَجد سبيلاً إلى إيذائه أو إغوائه؛ إذ لا سبيل للشيطان على المواظِب على ذِكر الله، المقبلِ على طاعة الله، وإنَّما سبيله على الذين يتَوَلَّونه، وسلطانه على الذين يُصغون إلى إغوائه ووساوسه ويطيعونه، ولهذا فإنَّ الحريَّ بالمؤمن أن يواظبَ على ما جاءت به الشريعةُ من أذكار وأدعية تَحمِي العبد من الشيطان وتقيه من كيده وشرِّه. يقول الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} 1، ويقول تعالى: {وََإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 2. والاستعاذةُ هي طلب العوذ، يقال عُذت به واستعذت به أي: لَجأتُ إليه واستجرت به واعتصمتُ به، والاستعاذةُ بالله من الشيطان سؤالٌ لله وطلب منه سبحانه أن يعيذَ العبدَ من الشيطان، ويحميه منه ويقيه من شرِّه، ومَن استعاذ بالله أعاذه، ومَن اعتَصمَ به هُديَ إلى صراط مستقيم، وعليه فإنَّ الاستعاذةَ بالله تَطردُ الشيطانَ وتُحصنُ العبدَ. روى مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

_ 1 سورة: المؤمنون، الآيتان (97 ـ 98) . 2 سورة: فصلت، الآية (36) .

فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: أَعُوذ بِاللهِ مِنْكَ، ثُمَّ قَالَ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللهِ ثَلاَثاً، وَبَسَطَ يَدَهَ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئاً، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلاَةِ شَيْئاً لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ قَالَ: إِنَّ عَدُوَّ اللهِ إِبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي، فَقُلْتُ: أَعُوذ بِاللهِ مِنْكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللهِ التَّامَّةِ، فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ، وَاللهِ لَوْلاَ دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لأَصْبَحَ مُوثَقاً يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ المَدِينَةِ "1. وروى أيضاً عن عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه: "أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلاَتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ وَاتْفُلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلاَثاً. قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللهُ عَنِّي "2. وقوله: "يلبسُها عليَّ" أي: يَخلطها علي ويُشَكِّكُنِي فيها. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ وَلْيَنْتَهِ"3. فهذه النصوصُ ظاهرةُ الدلالة على عِظم شأن الاستعاذة، وأنها تطرُدُ الشيطانَ وتقي العبدَ منه، ويسلمُ بها من كيده ووساوسه وشرِّه. ومِمَّا يطردُ الشيطانَ الأذانُ، فإنَّ الشيطانَ إذا سمعَه ولَّى وأدْبَر، ففي

_ 1 صحيح مسلم (رقم:542) . 2 صحيح مسلم (رقم:2203) . 3 صحيح البخاري (رقم:3276) ، وصحيح مسلم (رقم:134) .

الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا نُودِيَ لِلْصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذا ثُوِّبَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ" 1. وفي صحيح مسلم عن سُهيل بن أبي صالح قال: أَرْسَلَنِي أَبِي إِلَى بَنِي حَارِثَةَ، قَالَ: وَمَعِي غُلاَمٌ لَنَا أَوْ صَاحِبٌ لَنَا، فَنَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ حَائِطٍ بِاسْمِهِ، قَالَ: وَأَشْرَفَ الَّذِي مَعِي عَلَى الحَائِطِ فَلَمْ يَرَ شَيْئاً فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لأَبِي، فَقَالَ: لَوْ شَعُرْتُ أَنَّكَ تَلْقَى هَذَا لَمْ أُرْسِلْكَ، وَلَكِنْ إِذا سَمِعْتَ صَوْتاً فَنَادِ بِالصَّلاَةِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذا نُودِيَ بِالصَّلاَةِ وَلَّى وَلَهُ حُصَاصٌ "2. والحُصاص أي: الضُّرَاط، وقيل شدة العدو. ومِمَّا يقي العبدَ من الشيطان ويطرُدُه عنه مواظبتُه على ذكر الله في كلِّ أحواله؛ عند الدخول وعند الخروج وعند الركوب وعند النوم وغير ذلك. يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} 3، ويقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 4. وفي سنن الترمذي والمسند بإسناد صحيح عن الحارث الأشعري، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ الله سبحانه أمَرَ يحيى بنَ زكريا بخمس كلمات أن

_ 1 صحيح البخاري (رقم:608) ، وصحيح مسلم (رقم:389) . 2 صحيح مسلم (رقم:389) . 3 سورة: الأعراف، الآية (201) . 4 سورة: الزخرف، الآية (36) .

يعملَ بها ويأمرَ بني إسرائيل أن يَعملوا بها، وإنَّه كاد أن يُبْطئَ بها فقال له عيسى عليه السلام: إنَّ الله أمرَكَ بخمس كلمات لتعملَ بها وتأمرَ بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإمَّا أن تأمرَهم وإمَّا أن آمرَهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني أن يُخسفَ بي أو أُعذَّب، فجمعَ الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وقعدوا على الشُّرَف، فقال: إنَّ الله أمرني بخمس كلمات أن أعملَ بهنَّ وآمرَكم أن تعملوا بهن …" فذكر أمرهم بالتوحيد، والصلاة، والصيام، والصدقة ثم ذكر الكلمة الخامسة، فقال: "وآمرُكم أن تذكروا الله، فإنَّ مثل ذلك كمثل رجل خرج العدوُّ في أثره سراعاً، حتى إذا أتى على حصن حصين، فأحرز نفسَه منهم، كذلك العبد لا يحرزُ نفسَه من الشيطان إلاَّ بذكر الله …"1. وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استجنَح الليلُ أو كان جُنح اللَّيل، فكُفُّوا صبيانكم، فإنَّ الشياطينَ تنتَشر حينئذ، فإذا ذهبَ ساعةٌ من العشاء فخَلُّوهم، وأغلقْ بابَك واذكر اسمَ الله، وأطفئْ مصباحَك واذكر اسمَ الله، وأَوْك سقاءَك واذكر اسم الله، وخَمِّر إناءَك واذكر اسمَ الله، ولو تَعْرُضُ عليه شيئاً" 2. فالمسلمُ إذا كان ذاكراً ربه في كلِّ أحايينه فإنَّه يَسلم من أذى الشيطان ومن أن يَحضرَه، فلا يخلصُ إليه لا وسوسةً ولا حضوراً للمكان الذي هو فيه، كما تقدَّم في قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ

_ 1 سنن الترمذي (رقم:2863) ، ومسند أحمد (4/130) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:1724) . 2 صحيح مسلم (رقم:2012) .

وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} 1. وقد سبق أن مَرَّ معنا أنواعٌ من الأذكار مَن قالَها حُفظ من الشيطان، كالتسمية عند دخول المنْزل، وعند تناول الطَّعام، وكقراءة آية الكرسي عندما يَأوي المسلمُ إلى فراشه، فإذا قرأها لَم يزل عليه من الله حافظٌ ولا يقربه شيطانٌ حتى يصبح، ومَن قال إذا أصبح: "لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمد وهو على كل شيء قدير" عشر مرَّات كان في حرز من الشيطان حتى يُمسي، ومَن قالها إذا أمسى كان في حرز من الشيطان حتى يُصبح، ومَن قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه، أي: من كلِّ شَرٍّ، ومن ذلك شَرّ الشيطان، وإذا قال المسلمُ عند خروجه من منْزله: "بسم الله توكَّلتُ على الله لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، تَنَحَّى عنه الشيطانُ" إلى غير ذلك من الأذكار المباركة المأثورة في سُنَّة النَّبِيِّ الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

_ 1 سورة: المؤمنون، الآيتان (97 ـ 98) .

ما يرقى به المريض

156 / مَا يُرْقَى بِهِ المَرِيضُ لقد جاء في السُّنَّة المطهرة أنواعٌ من الأذكار والأدعية يُشرعُ أن يرقى بها المريضُ، وقد جعلها اللهُ سبباً للشِّفاء والعافية، وسأتناول طائفةً مباركةً من هذه الأذكار والأدعية، وإنَّ أعظمَ ما يُرقى به المريضُ فاتحةُ الكتاب أمُّ القرآن، فإنَّها كافيةٌ شافيةٌ، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "أَنَّ رَهْطاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم انْطَلَقُوا فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطِ الَّذِينَ قَدْ نَزَلُوا بِكُمْ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ، فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ، إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، فَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ وَاللهِ، إِنِّي لَرَاقٍ، وَلَكِنْ وَاللهِ لَقَدْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فَانْطَلَقَ فَجَعَلَ يَتْفُلُ وَيَقْرَأُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، حَتَّى لَكَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي مَا بِهِ قَلَبَةٌ [أي: ألَمٌ وعلَّة] ، قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُم الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَذْكُرُ لَهُ الَّذِي كَانَ فَنَنْظُرُ مَا يَأَمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ "1. فدلَّ هذا الحديثُ على عِظم شأن هذه السورة، وأنَّ لها تأثيراً عظيماً في شفاء المريض وزوال علَّته بإذن الله.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:5749) ، وصحيح مسلم (رقم:2201) .

قال ابن القيم رحمه الله في التعليق على هذا الحديث: "فقد أثَّرَ هذا الدواءُ في هذا الداء وأزالَه، حتى كأنَّه لَم يكن، وهو أسهلُ دواء وأيسرُه، ولو أحسنَ العبدُ التداوي بالفاتحة لرأى لَها تأثيراً عجيباً في الشِّفاء، ومكثتُ بمكَّةَ مدة يعترينِي أدواءٌ ولا أجدُ طبيباً ولا دواءً، فكنتُ أعالج نفسي بالفاتحة، فأَرَى لها تأثيراً عجيباً، فكنتُ أصفُ ذلكَ لِمَن يشتكي ألَماً، فكان كثيرٌ منهم يبْرأُ سريعاً"1 اهـ. ومِمَّا يُرقَى به المريض المعوِّذات {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا" 2. وفي صحيح مسلم عنها رضي الله عنها قالت: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا مَرِض أحدٌ مِن أهله نفث عليه بالمعَوِّذات"3. وقولها: "بالمعَوِّذات" أي: الإخلاص والفلق والناس، ودخلتْ سورةُ الإخلاص معهما تغليباً لِمَا اشتملتْ عليه مِِن صفةِ الرَّبِّ وإن لَم يُصرّح فيها بلفظ التعويذ4. وقد دلَّ الحديثُ على عِظَم شأن هذه السُوَر الثلاثة وأنَّها رُقيةٌ وشفاءٌ للوجع بإذن الله، وقد ورد في شأن هذه السُوَر أحاديثُ كثيرةٌ تدلُّ على عِظم

_ 1 الجواب الكافي (ص:5) . 2 صحيح البخاري (رقم:5016) ، وصحيح مسلم (رقم:2192) . 3 صحيح مسلم (رقم:2192) . 4 انظر: فتح الباري لابن حجر (9/62) .

شأنها، وسُورَتَا المعوذتين لهما تأثيرٌ عظيمٌ لا سِيَما إن كان المرضُ ناشئاً عن سحرٍ أو عَيْنٍ أو نحو ذلك. قال ابنُ القيم رحمه الله في مقدمة تفسيره للمعوذتين: "والمقصودُ الكلامُ على هاتين السورتين وبيانُ عظيم منفعتهما وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما، وأنَّه لا يستغني عنهما أحدٌ قطُّ، وأنَّ لهما تأثيرًا خاصاًّ في دفع السِّحر والعيْن وسائرِ الشّرور وأنَّ حاجةَ العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظمُ مِن حاجته إلى النَّفَس والطّعام والشّراب واللِّباس"1، ثمَّ بسط الكلامَ عليهما بسطاً عظيمَ النفع والفائدة. وِممَّا يرقى به المريضُ ما ثبت في صحيح مسلم عن عثمان بن أبي العاص أنَّه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَجَعاً في جسده منذ أسلَم، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ بِاسْمِ اللهِ ثَلاَثاً، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذ بِاللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ"2. وقوله: "مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ" أي: مِن شرِّ ما أجدُ مِن وجَعٍ وألمَ، ٍ ومِن شرِّ ما أحاذرُ مِن ذلك، أي: ما أخافُ وأَحْذر. وهذا فيه التعوُّذ مِن الوجع الذي هو فيه، والتعوُّذ مِن الوجع الذي يَخاف حصولَه أو يتوقَّعُ حصولَه في المستقبل، ومِن ذلك تفاقمُ المرض الذي هو فيه وتزايُدُه، وهذا يحصل للإنسان كثيراً عند ما يصاب بمرضٍ فإنَّه قد ينتابُه شيءٌ مِن القلق تخوُّفاً مِن تزايُد المرضِ وتفاقمِه، وفي هذا الدعاء العظيم تعوُّذٌ بالله من ذلك.

_ 1 انظر: بدائع الفوائد لابن القيم (2/199) . 2 صحيح مسلم (رقم:2202) .

وثبت في صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه: "أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يا مُحَمَّد، اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ. اللهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ"1. وثبت في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَوِّذ بَعْضَ أَهْلِهِ، يَمْسَحُ بِيَدِه اليُمْنَى وَيَقُول: اللَّهمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبِ البَاسَ، وَاشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَماً"2، وفي رواية عنها قالت: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منَّا إنسانٌ مسحه بيمينه ثم قال: وذكرتِ الدعاءَ3، وفي روايةٍ قالت: "إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يَرقي بهذه الرُّقية وذكرته"4. وفي صحيح البخاري عن عبد العزيز بن صُهيب قال: "دخلتُ أنا وثابتٌ على أنس بن مالك فقال ثابتٌ: يا أبا حمزة اشتكيتُ، فقال أنس: ألا أَرقيك برُقية رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بلى، قال: اللَّهمَّ ربَّ النَّاس، مُذهبَ الباسَ، اشف أنتَ الشافي، لا شافِيَ إلاَّ أنتَ، شفاءً لا يُغادرُ سَقَماً"5. قوله: "اللَّهمَّ ربَّ النَّاس" فيه التوسُّلُ إلى الله بربوبيَّته للنَّاس أجمعين، بخلقِهم وتدبيرِ شؤونهم وتصريفِ أمورهم، فبيده سبحانه الحياةُ والموتُ، والصحة والسَّقم، والغنى والفقر، والقوَّة والضعف.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2186) . 2 صحيح البخاري (رقم:5743) ، وصحيح مسلم (رقم:2191) . 3 صحيح مسلم (رقم:2191) . 4 صحيح مسلم (رقم:2191) . 5 صحيح البخاري (رقم:5742) .

وقوله: "أَذْهِب الباسَ" والبأسُ هو التَّعبُ والشدَّةُ والمرضُ، وهو هنا بغير هَمزة مراعاة للازدواج والمؤاخاة. وجاء في حديث أنس: "اللَّهمَّ ربَّ الناسِ، مُذهب الباس" وفي هذا التوسُّلُ إلى الله سبحانه بأنَّه وحده المذهبُ للبأس، فلا ذهابَ للبأس عن العبد إلاَّ بإذنه ومشيئته سبحانه. وقوله: "واشفه وأنت الشافي" فيه سؤالُ الله الشفاء وهو العافيةُ والسلامةُ من المرض، وقوله: "وأنت الشافي" توسُّلٌ إلى الله سبحانه بأنَّه الشافي الذي بيده الشفاء، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} 1. وقوله: "لا شفاء إلاَّ شفاؤك" فيه تأكيدٌ لِمَا سبق، وإقرارٌ بأنَّ العلاجَ والتداوي إن لَم يوافق إذناً من الله بالعافية والشِّفاء، فإنَّه لا ينفع ولا يُجدي. وقوله: "شفاءً لا يغادر سَقَماً" أي: لا يتركُ مرَضاً ولا يخلف علَّةً، والفائدةُ من هذا أنَّ الشفاءَ من المرض قد يَحصل، ولكن قد يَخلُفُه مرضٌ آخرُ يَتَوَلَّد منه وينشأُ بسببه، فسأل اللهَ أن يكون شفاؤُه من المرض شفاءً تامًّا لا يبقى معه أثرٌ، ولا يخلف في المريض أيَّ علَّة، وهذا من تَمام الدعوات النبوية وكمالها ووفائها.

_ 1 سورة: الشعراء، الآية (80) .

التعوذ من السحر والعين والحسد

157 / التعوُّذ من السِّحر والعين والحسد إنَّ من الأدواء الفتَّاكة والشرِّ العظيم ما يكون في الإنسان من مرَضٍ بسبب السِّحر أو العين أو الحسَد، والسِّحرُ له تأثيرٌ بالغٌ في المسحور، فقد يُمرضُ وقد يَقتل، وهكذا الشأنُ في عين الحاسد إذا تكيَّفت نفسُه بالخبث، واستجمع في قلبه الشَّرُّ، فإنَّه يَضُرُّ بالمحسود، فربَّما أمرضَه وربَّما قتله، فالسِّحرُ له حقيقةٌ وتأثير، والحَسَدُ له حقيقةٌ وتأثير. وإنَّ من نعمة الله على عبده المؤمن أن هَيَّأَ له أسباباً مباركةً وأموراً نافعةً، يندفع بها عنه شَرُّ هؤلاء، ويزول بها عنه ضُرُّهم والبلاءُ النازلُ به بسببهم، وقد أجْمَلَ العلاَّمة ابنُ القيم رحمه الله ذلك في عشرة أسباب عظيمة إذا قام بها العبد وطبَّقَها زال عنه شَرُّ الحاسد والعائن والسَّاحر. السَّبب الأول: التعوُّذ بالله من شَرِّه والتَّحصُّنُ به واللَّجأ إليه، كما قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} والله تعالى سميعٌ لِمَن استعاذ به، عليمٌ بما يستعيذ منه، قادرٌ على كلِّ شيء، وهو وحده المستعاذ به، لا يُستعاذ بأحد من خلقه، ولا يُلجأُ إلى أحد سواه، بل هو الذي يعيذ المستعيذين ويَعصمُهم ويَحميهم مِن شَرِّ ما استعاذوا من شَرِّه. وحقيقةُ الاستعاذة الهروبُ من شيء تَخافُه إلى من يَعصمُك ويَحميك منه، ولا حافظَ للعبد ولا معيذَ له إلاَّ الله، وهو سبحانه حَسْبُ من توكَّلَ عليه، وكافي من لَجأَ إليه، وهو الذي يؤمِّنُ خوفَ الخائف ويُجيرُ المستجير، وهو نعم المولى ونعم النصير.

السبب الثاني: تقوى الله وحفظُه عند أمره ونَهيه، فمَن اتَّقى اللهَ توَلَّى حفظَه ولَم يَكلْه إلى غيره، قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} 1 وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "احفظِ اللهَ يَحفظْكَ، احفظ الله تَجده تجاهَك" فمَن حفظ اللهَ حفظه الله، ووجدَه أمامَه أينما توجَّه، ومَن كان اللهُ حافظَه وأمامَه فمِمَّن يخاف ومِمَّن يحذر السبب الثالث: الصَّبرُ على عدوِّه وأن لا يقاتلَه ولا يشكوه ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً، فما نُصرَ على حاسده وعدوِّه بمثل الصَّبر عليه، وكلَّما زاد بغيُ الحاسد كان بغيُه جنداً وقوةً للمبغي عليه، يقاتل بها الباغي نفسه وهو لا يشعر، فبغيُه سهمٌ يرميها من نفسه إلى نفسه {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} 2 فإذا صبَرَ المحسودُ ولم يستطل الأمرَ نال حُسنَ العاقبة بإذن الله. السبب الرابع: التوكُّل على الله، فمَن يتَوكَّل على الله فهو حَسبه، والتوكُّلُ من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبدُ ما لا يطيقُ من أذى الخَلْق وظُلمهم وعدوانهم، ومَن كان الله كافيه فلا مطمَعَ فيه لعدوٍّ، ولو توكَّل العبدُ على الله حقَّ توكُّله، وكادته السموات والأرضُ ومَن فيهنَّ لَجعلَ له مخرجاً من ذلك وكفاه ونَصرَه. السبب الخامس: فراغُ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصدَ أن يَمحوه من باله كلَّما خَطر له، فلا يلتفتُ إليه، ولا يخافُه، ولا يملأ قلبَه بالفكر فيه، وهذا من أنفع الأدوية وأقوى الأسباب المعِينة على اندفاع شرِّه، فإنَّ هذا

_ 1 سورة: آل عمران، الآية (120) . 2 سورة: فاطر، الآية (43) .

بمنْزلة من يَطلبه عدوُّه ليمسكَه ويؤذيه، فإذا لَم يتعرَّض له ولا تَماسَك هو وإياه، بل انعزل عنه لَم يقدر عليه، فإذا تَماسكَا وتعلَّق كلٌّ منهما بصاحبه حصل الشَّرُّ، وهكذا الأرواحُ سواء، فإذا تعلَّقت كلُّ روح منهما بالأخرى عُدِمَ القرارُ ودام الشَّرُّ حتى يهلك أحدُهما، فإذا جبذ روحَه عنه وصانَها عن الفكر فيه والتعلُّق به، وأخذ يشغل بالَه بما هو أنفعُ له بقي الحاسدُ الباغي يأكلُ بعضُه بعضاً، فإنَّ الحسدَ كالنار، إذا لَم تَجد ما تأكله أكلَ بعضُها بعضاً. السبب السادس: الإقبالُ على الله والإخلاصُ له وجعلُ محبته ونيلِ رضاه والإنابةِ إليه في كلِّ خواطر نفسه وأمانيها، تدب فيها دبيب تلك الخواطر شيئاً فشيئاً حتى يقهرَها ويغمرها ويذهبها بالكلية، فتبقى خواطرُه وهواجسه وأمانيه كلُّها في محابِّ الرَّب والتقرُّب إليه وذكره والثناء عليه، قال تعالى عن عدوه إبليس أنَّه قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} 1، فالمخلص بمثابة مَن آوى إلى حصن حصين، لا خوفَ على مَن تَحصَّن به، ولا ضَيعَة على مَن آوى إليه، ولا مَطمَعَ للعدوِّ في الدُّنُوِّ منه. السبب السابع: تَجريدُ التوبة إلى الله من الذنوب التِي سلطت عليه أعداءه، فإنَّ الله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 2) فما سُلِّطَ على العبد مَن يؤذيه إلاَّ بذنب، يَعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبدُ من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وما ينساه مِمَّا عَلِمَه وعَمله أضعاف ما يذكره، وفي الدعاء المشهور: "اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك أن

_ 1 سورة: ص، الآيتان (82 ـ 83) . 2 سورة: الشورى، الآية (30) .

أُشركَ بكَ وأنا أعْلَمُ وأستغفرِكُ لِمَا لا أعْلَم"1، فما يحتاج العبدُ إلى الاستغفار منه مِمَّا لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يَعلمه، فما سُلِّطَ عليه مُؤْذ إلاَّ بذنب، وليس في الوجود شَرٌّ إلاَّ الذنوب وموجباتها، فإذا عُوفِي من الذنوب عُوفِي من موجباتها، فليس للعبد إذا بُغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومُه شيءٌ أنفعَ له من التوبة النصوح من الذنوب التي كانت سبباً لتسلُّط عدوِّه عليه. السبب الثامن: الصَّدقة والإحسان ما أمكنه؛ فإنَّ لذلك تأثيراً عجيباً في دفع البلاء ودفع العين وشَرِّ الحاسد، فما يكاد العينُ والحسدُ والأذى يتسلَّط على محسن مُتصدِّق، وإن أصابه شيءٌ من ذلك كان معامَلاً فيه باللُّطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبةُ الحميدة، والصدقة والإحسانُ من شكر النعمة، والشُّكرُ حارسُ النعمة من كلِّ ما يكون سبباً لزوالها. السبب التاسع: أن يطفئَ نارَ الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلَّما ازداد أذى وشرًّا وبغياً وحسداً ازددتَ إليه إحساناً وله نصيحةً وعليه شفقةً، قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} 2، وتأمَّل في ذلك حالَ النَّبِيِّ عليه السلام الذي حكى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم أنَّه ضربه قومُه حتى أدموه فجعل يسلت الدَّم عنه ويقول: " اللَّهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعملون "3.

_ 1 رواه البخاري في الأدب المفرد (رقم:719) من حديث معقل بن يسار، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:551) . 2 سورة: فصلت، الآيتان (34 ـ 35) . 3 صحيح البخاري (رقم:3477) ، وصحيح مسلم (رقم:1792) .

السبب العاشر: تجريدُ التوحيد والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبِّب العزيز الحكيم، والعلم بأنَّ كلَّ شيء لا يَضُرُّ ولا ينفع إلاَّ بإذن الله، قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} 1، وقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: " واعْلم أنَّ الأمَّةَ لو اجتمعوا على أن ينفعوك لَم ينفعوك إلاَّ بشيء كتبه الله لَكَ، ولو اجتمعوا على أن يَضُرُّوك لَم يَضُرُّوك إلاَّ بشيء كتبه الله عليك" 2، فإذا جرَّد العبدُ التوحيدَ فقد خَرَجَ من قلبه خوفُ ما سواه، وكان عدوُّه أهونَ عليه من أن يَخافه مع الله، بل يُفرِدُ اللهَ بالمخافة، ويَرى أنَّ إعمالَه فكره في أمر عدوِّه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده، وإلا فلو جَرَّد توحيدَه لكان له فيه شغل شاغل، والله يتولَّى حفظَه والدفعَ عنه، فإنَّ الله يدافعُ عن الذين آمنوا، فإن كان مؤمناً فالله يدافع عنه ولا بدَّ، وبحسب إيمانه يكون دفاعُ الله عنه، فإن كمُلَ إيمانُه كان دفاعُ الله عنه أتَمَّ دفع، وإن مزج مزج له، وإن كان مرَّة ومرة فالله له مرَّة ومرَّة، كما قال بعض السلف: "مَن أقبلَ على الله بكليَّتِه أقبلَ الله عليه جُملة، ومَن أعرَضَ عن الله بكليَّته أعرض الله عنه جملة، ومن كان مرَّة ومرَّة فالله له مرَّة مرة". فالتوحيدُ حصنُ الله الأعظم الذي مَن دخلَه كان من الآمنين، قال بعض السلف: "مَن خاف اللهَ خافه كلُّ شيء، ومن لَم يَخَفِ الله أخافه اللهُ من كلِّ شيء". فهذه عشرةُ أسباب عظيمة يندفعُ بها شَرُّ الحاسد والعائن والسَّاحر3، ونسأل الله الكريم أن يقيَنا والمسلمين من الشُّرور كلِّها إنَّه سميع مجيب.

_ 1 سورة: يونس، الآية (107) . 2 سنن الترمذي (رقم:2516) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:7957) . 3 انظر بدائع الفوائد لابن القيم (2/238 ـ 246) .

مايقال عند المريض

مايقال عند المريض ... 158 / ما يُقال للمريض لقد جاء الإسلامُ بالحثِّ على مراعاة حقِّ المريض وتعاهدِه بالزيارة، والدعاء له بالشِّفاء والعافية، وبيان أنواع من الأدعية يَحسُن أن تُقال عند زيارةِ المريض، وكلُّ هذه الرعاية والتعاهد والدعاء ينطلقُ من كون المؤمنين حالُهم كالنفس الواحدة، فما يُفرِحُ الواحد منهم يُفرحُ الجميعَ، وما يُؤلِمُ الواحد يُؤلِمُ الجميعَ، ففي الصحيحين عن النُّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المؤمنين في تَوادِّهم وتَراحُمِهم وتعاطفِهم مَثَل الجسد، إذا اشتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائرُ الجسَد بالسَّهر والحُمَّى"1، وفي رواية لمسلم: "المسلمون كرجل واحدٍ، إن اشتَكى عينُه اشتكى كلُّه، وإن اشتَكى رأسُه اشتكى كلُّه "2. ولهذا شُرعت عيادةُ المرضى لمواساتِهم وتَهوين الأمر عليهم، وجُعِلَ ذلك حقًّا من حقوقهم، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "حَقُّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لَقيتَه فسَلِّم عليه، وإذا دعاك فأَجبْه، وإذا استَنْصَحَك فانصحْ له، وإذا عَطِسَ فحَمدَ اللهَ فشَمِّته، وإذا مَرضَ فعُدْه، وإذا مات فاتَّبِعْه "3، وجاء في نصوص كثيرة بيانُ فضل مَن يَزور المرضَى وعِظم ثوابه عند الله. روى مسلم في صحيحه عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عائِدُ المريض في مَخْرفَة الجنة حتى يَرجع"، وفي رواية قال: "مَن

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6011) ، وصحيح مسلم (رقم:2586) . 2 صحيح مسلم (رقم:2586) . 3 صحيح مسلم (رقم:2162) .

عاد مريضاً لَم يَزل في خُرْفَة الجنة. قيل يا رسول الله! وما خُرْفة الجنة قال: جناها "1، أي: أنَّه في بساتين الجنة يَختَرفُ منها ما يشاء ويَجْتَنِي منها ما يريد. وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن عادَ مريضاً أو زارَ أخاً له في الله ناداه مُنادٍ: أن طِبْتَ وطابَ مَمشَاك، وتَبَوَّأتَ من الجنة مَنْزلاً"2، والأحاديثُ في هذا الباب كثيرة. ويُستحَب للمسلم إذا عاد مريضاً أن يُطَمْئنَه ويُهوِّنَ الأمرَ عليه ويُذكِّرَه بثواب الله، وأنَّ في المرض تكفيراً له وتطهيراً. ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أَنَّ النَبيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ، قَالَ: وَكَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إِذا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ: لاَ بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللهُ، قَالَ: قُلْتَ: طَهُورٌ! كَلاَّ، بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبيرِ تُزِيرُهُ القُبُورَ. فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: فَنَعَمْ إِذًا "3. وقوله: "طَهور إن شاء الله" هو خبَر مبتدأ محذوف أي: هو طهور لك من ذنوبك أي مُطَهِّر لك منها. وفي السنن للإمام أبي داود عن أمِّ العلاء رضي الله عنها قالت: عادني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريضةٌ، فقال: "أَبْشري يا أمَّ العلاء، فإنَّ مرضَ المسلم يُذهبُ اللهُ به خطاياه كما تُذهبُ النَّارُ خَبَثَ الذَّهب والفضة"4.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2568) . 2 سنن الترمذي (رقم:1931) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:3474) . 3 صحيح البخاري (رقم:5656) . 4 سنن أبي داود (رقم:2688) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:3438) .

وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دخل على أمِّ السائب أو أمِّ المسيّب رضي الله عنها، فقال: "مالك يا أمَّ السَّائب أو أمَّ المسيب تُزَفْزِفِين (أي: تَرعدين) قالت: الحمَّى لا باركَ اللهُ فيها، فقال: لا تَسُبِّي الحُمَّى، فإنَّها تُذهبُ خطايَا بَنِي آدم كما يُذهبُ الكِيرُ خَبَثَ الحديد"1. وروى البخاري في الأدب المفرد عن سعيد بن وهب قال: "كنتُ مع سَلمان وعاد مريضاً في كِنْدَة فلمَّا دخل عليه قال: أَبشِر، فإنَّ مرضَ المؤمن يَجعلُه الله له كفارةً ومستعتبًا، وإنَّ مرضَ الفاجر كالبعير عَقله أهلُه ثمَّ أرسلوه، فلا يدري لَم عُقل ولِم أُرسِل"2. فبَشَّرَه، وذكَّره بأنَّ المصائبَ التي تُصيبُ المؤمنَ في بدنه كلَّها كفارات لخطاياه، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "ما يصيبُ المسلمَ من نَصب ولا وَصَب ولا هَمٍّ ولا حزن ولا أَذًى ولا غَمٍّ، حتى الشَّوكة يُشاكُها إلاَّ كَفَّرَ اللهُ بها من خطاياه "3. وقوله: "ومستعتباً" أي: أنَّه في مرضه يَتَهيَّأ له من استذكار ذنوبه ومعرفة خَطئه وتقصيره ما لا يتهيَّأ له حالَ صحَّته وعافيته، وحينئذ يكون مرضُه سبباً لمعاتبة نفسه على التقصير، ودافعاً للرجوع عن الإساءة وطلب الرضا، هذا بالنسبة للمؤمن، أمَّا الفاجر فشأنُه عند ما يَمرض كشأن البعير الذي قيَّده أهلُه بالعقال ثم أطلقوه، فهو لا يدري لِمَ قُيِّد ولِمَ أُطلِق، فهو

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2575) . 2 الأدب المفرد (رقم:493) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:379) . 3 صحيح البخاري (رقم:5642) ، وصحيح مسلم (رقم:2573) .

مستَمرٌّ في غيِّه متَمَادٍ في فُجوره، لا يكونُ له في مرضه عِبرةٌ، ولا يحصل له بسببه عظةٌ. وينبغي على مَن أراد عيادةَ مريض أن يَتخيَّر الوقتَ المناسبَ لعيادته؛ لأنَّ مقصودَ العيادة إراحةُ المريض وتطييبُ قلبه، لا إدخالُ المشقَّة عليه، ولهذا أيضاً عليه أن لا يُطيلَ المُكثَ والجلوسَ عنده، إلاَّ إن أحَبَّ المريضُ ذلك وكان في الجلوس فائدةٌ ومصلحة. ومن السُّنَّة للعائد أن يَجلسَ عند رأس المريض، ففي الأدب المفرد للبخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا عادَ المريضَ جَلَسَ عند رأسه، ثمَّ قال سَبعَ مرار: أسألُ اللهَ العظيمَ رَبَّ العرش العظيم أن يَشفيَك، فإن كان في أجله تأخيرٌ عُوفي من وَجَعه"1. ومن السُّنَّة أن يَضَعَ العائدُ يدَه على جسد المريض عند ما يريد الدعاء له، ففي الصحيحين لَمَّا عاد النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سعد بنَ أبي وقاص رضي الله عنه وَضَعَ يدَه على جَبهتِه، ثمَّ مَسَحَ يدَه على وجهه وبَطنه، ثم قال: "اللهمَّ اشْفِ سَعْداً" 2، وفي وَضْع اليد على المريض تأنيسٌ له، وتعرف على مرضه شدَّة وضعفاً، وتلطف به. ثمَّ ينبغي للعائد أن يَنصَحَ للمريض بالدعاء، وأن لا يقولَ عنده إلاَّ خيراً ففي صحيح مسلم عن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حَضرتُم المريضَ أو الميِّتَ فقولوا خيراً، فإنَّ الملائكةَ يُؤمِّنون على ما تقولون"3.

_ 1 الأدب المفرد (رقم:536) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:416) . 2 صحيح البخاري (رقم:5659) ، وصحيح مسلم (رقم:1628) . 3 صحيح مسلم (رقم:919) .

وعليه أن يتخيَّرَ من الدعاء أجمعَه، وأن يَحرصَ على الدعوات المأثورة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّها دعواتٌ مباركةٌ جامعةٌ للخير، معصومةٌ من الخطأ والزَّلَل كأن يقول: "اللَّهمَّ اشف فلاناً"، أو يقول: "طَهورٌ، إن شاء الله"، أو يقول: "أسألُ اللهَ العظيمَ رَبَّ العرش العظيم أن يَشفيَك"، أو يقول: "اللَّهمَّ رَبَّ الناس أذهب الباسَ، واشفه وأنت الشافي، لا شفاءَ إلاَّ شفاؤك، شفاءً لا يُغادر سَقَماً" وقد مَضت معنا الأحاديثُ في ذلك، أو أن يرقِيَهُ بفاتحة الكتاب والمعوِّذات، وقد مضى حديثُ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وحديث عائشة رضي الله عنها في ذلك، أو أن يرقيه بقوله: "باسم الله أَرْقيك مِن كلِّ شيء يُؤذِيكَ، مِن شَرِّ كلِّ نفس أو عَين حاسد اللهُ يشفيكَ، باسم الله أَرْقيك"، وهي الرُّقيةُ التي رَقَى بها جبريلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا اشتكى، أو أن يَقولَ ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ النَبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ: بِسْمِ اللهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا" 1. وعلى المعافَى عند رؤية المرضَى أن يَتَّعظَ ويعتَبِرَ، وأن يحمدَ اللهَ على نعمة الصِّحة والعافية، وأن يسأله سبحانه المعافاة. ونسأل الله الكريم أن يَشفيَ مرضَانا ومرضَى المسلمين, وأن يَكتبَ للجميع الصِّحةَ والسلامة والعافية، إنَّه سَميعٌ مجيب.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:5745) ، وصحيح مسلم (رقم:2194) .

ما يقال عند حضرة الموت

ما يقال عند حضرة الموت ... 159 / مَا يُقالُ عند مَنْ حَضَرَهُ المَوْتُ سبق الكلامُ على جملة من الآداب المتعلِّقة بعيادة المريض، والأدعية التي يَحسنُ أن تُقال عند عيادته، والحديثُ هنا سيكونُ عمَّا يُفعلُ ويُقال عند مَن حَضَرَته الوفاةُ، وكذلك ما يَقوله مَن حَضَرته الوفاةُ. وأهمُّ شيءٍ في ذلك الدعاءُ له وأن لا يَقولَ في حضوره إلاَّ خيراً، ففي صحيح مسلم عن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حَضَرتُم المريضَ أو الميِّتَ فقولُوا خيراً، فإنَّ الملائكةَ يُؤَمِّنونَ على ما تَقولُون"1. وأن يَحرصَ على تلقِينِه كلمةَ التوحيد لا إله إلاَّ الله؛ لتكونَ آخرَ كلامه من الدُّنيا، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لَقِّنُوا موتاكم لاَ إله إلاَّ الله " رواه مسلم2، والمرادُ بقوله: "موتاكم" أي: مَن حَضَرَه الموتُ منكم، لا مَن مات فعلاً. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ دَخَلَ الجَنَّةَ" رواه أبو داود3. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يَعلمُ أنَّه لا إله إلاَّ الله دخل الجنة" رواه مسلم4.

_ 1 سبق تخريجه. 2 صحيح مسلم (رقم:916) . 3 سنن أبي داود (رقم:3116) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:6479) . 4 صحيح مسلم (رقم:26) .

وثبت في المسند للإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنه: " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من الأنصار فقال: يا خال قل: لا إله إلاَّ لله، فقال: أَخَالٌ أم عَم فقال: بل خال، فقال: فخَيْرٌ لي أن أقولَ: لا إله إلاَّ الله؟ فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نعم"1. ومن لطيف ما روي في هذا الباب قصَّةُ الإمام المحدث أبي زرعة الرازي رحمه الله عندما حضرته الوفاةُ، وهي قصَّةٌ ثابتةٌ رواها غير واحد من أهل العلم عن أبي عبد الله محمد بن مسلم البادي قال: حضرت مع أبي حاتم محمد بن إدريس عند أبي زرعة عُبيد الله بن عبد الكريم الرازي وهو في النَّزْع، فقلت لأبي حاتم: تعال حتى نُلَقِّنَه الشهادةَ، فقال أبو حاتم: إنِّي لأستحيي من أبي زرعة أن أُلَقِّنَه الشهادةَ، ولكن تعال حتى نتذاكرَ الحديثَ، فلعلَّه إذا سمعَه يقول، قال محمد بن مسلم: فبدأتُ فقلتُ: حدثنا أبو عاصم النبيل، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، فارْتَجَّ عليَّ الحديثُ، حتى كأنِّي ما سمعتُه ولا قرأتُه، فبدأ أبو حاتم وقال: حدثنا محمد بنُ بشار، قال: حدَّثنا أبو عاصم النبيل، عن عبد الحميد بن جعفر، فارتَجَّ عليه حتى كأنَّه ما قرأه ولا سمعه، فبدأ أبو زُرعة: (أي: وهو في النَّزْع) وقال: حدَّثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم النبيل، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح ابن أبي عَريب، عن كثير بن مُرَّة، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن كانَ آخرَ كلامه مِن الدُّنيا لا إله إلاَّ الله" وخرجتْ روحُه مع الهاء، من قبل أن يَقولَ دخل الجنَّة"2.

_ 1 مسند أحمد (3/154) ، وقال الهيثمي في المجمع (5/305) : "ورجاله رجال الصحيح". 2 رواها ابن البنا في فضل التهليل وثوابه الجزيل (ص 80 ـ 81) ، وانظر القصة مختصرة برواية عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل (1/345 ـ 346) .

ومن الدعوات العظيمة التي يَحسن بالمحتضَر أن يدعوَ الله بها سؤالُه سبحانه المغفرةَ والرحمةَ، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أَنَّهَا سَمِعَت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْغَتْ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ مُسْنِدٌ إِلَيَّ ظَهْرَهُ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى "1. ومِمَّا يَحسنُ أن يُذكَّر به المحتضَر إحسانُ الظَّنِّ بربِّه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاث، يقول: " لا يَموتَنَّ أحدُكم إلاَّ وهو يُحسنُ بالله الظَّنَّ" رواه مسلم2. وروى ابنُ أبي الدنيا في كتابه حسن الظن بالله، عن إبراهيم النخعي أنَّه قال: "كانوا يَستَحِبُّون أن يُلَقِّنوا العبدَ مَحاسنَ عَمله عند موتِه؛ لكي يُحسنَ ظَنَّه بربِّه عز وجل"3. ولَم يثبت حديثٌ صحيحٌ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدلُّ على مشروعية قراءة شيءٍ من القرآن الكريم على المحتضَر، وحديث: " اقرؤوا ياسين على موتاكم " حديثٌ ضعيف لَم يثبت عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، كما نبَّه على ذلك غيرُ واحد من أهل العلم4. ثم إنَّ هناك أموراً ينبغي على المحتضَر مراعاتُها وملاحظتها: مِن ذلك أنَّ عليه أن يَرضَى بقضاء الله ويصبر على قدَرِه؛ لينالَ أجرَ الصابرين وثوابَ المحتسبين، ففي صحيح مسلم عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:

_ 1 صحيح البخاري (رقم:4440) ، وصحيح مسلم (رقم:2444) . 2 صحيح مسلم (رقم:2877) . 3 حسن الظن بالله (رقم:30) . 4 انظر: إرواء الغليل (3/150) .

"عَجَباً لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ"1. وعليه أن يَحذرَ من تَمَنِّي الموت، حتَّى وإن اشتدَّ به المرضُ وزاد عليه الألَمُ، لِمَا في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَتَمَنَّيَنَ أحدُكُم الموتَ لضُرٍّ أصابَه، فإن كان لا بدَّ فاعلاً فليقل: اللَّهمَّ أحْيِنِي ما كانت الحياةُ خيراً لي، وتوفَّنِي ما كانتُ الوفاةُ خيراً لي"2. وفي المسند للإمام أحمد عن أمِّ الفضل رضي الله عنها: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دخلَ عليهم وعبَّاسُ عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي، فتَمَنَّى عبَّاس الموتَ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عمّ لا تَتَمَنَّ الموتَ، فإنَّك إن كنتَ مُحسناً فأن تُؤَخَّر تَزْدَدْ إحساناً إلى إحسانك خيرٌ لك، وإن كنتَ مُسيئاً فأن تُؤَخَّرَ تَستعتِب من إساءَتِك خيرٌ لك، فلا تَتَمَنَّ الموتَ"3. وينبغي عليه أن يَجمع لنفسه بين الرَّجاء والخوف، رجاءِ رحمة الله والخوف من عقابه على ذنوبه، فقد روى الترمذي وابنُ ماجه عن أنس رضي الله عنه: " أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ على شاب وهو بالموتِ، فقال: كيف تَجدُك قال: والله يا رسولَ الله إنِّي أرجو اللهَ وإنِّي أخافُ ذنوبي، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لا يَجتَمعان في قَلب عَبدٍ في مثل هذا المَوطِن إلاَّ أعطاهُ الله ما يرجو وأمَّنَه مِمَّا يَخاف"4.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2999) . 2 صحيح البخاري (رقم:3651) ، وصحيح مسلم (رقم:2680) . 3 المسند (6/339) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:3368) . 4 سنن الترمذي (رقم:905) ، وسنن ابن ماجه (رقم:4351) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:3383) .

ويُستَحبُّ له أن يَكتب وَصيَّتَه، وإن كان عليه حقوقٌ فلْيَرُدَّها إلى أصحابها إن أمكنه ذلك، وإلاَّ أوصى بذلك، والوصيَّةُ واجبةٌ بماله وما عليه من الحقوق؛ لئلاَّ تضيعَ لِمَا في الصحيحين عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَا حَقُّ امرئ مُسلم يَبيتُ لَيْلَتَيْن، وله شيء يريد أن يوصي فيه إلاَّ وَصِيَّتُه مكتوبةٌ عند رأسه"1. وأمَّا الوصيَّةُ بشيء من ماله بأن تُصرف في سُبُل البِرِّ والإحسان؛ ليَصِلَ إليه ثوابُها بعد موته فهي مستحبةٌ، وقد أَذن له الشَّارعُ بالتصرف عند الموت بثُلُث المال فأقلّ. ويُستحَبُّ له كذلك أن يوصي أهلَه بتقوى الله عز وجل والمحافظة على أوامره والتَّمسُّك بسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وأن يُحذِّرَهم من الأهواء والبدع، وقد روى سعيد بن منصور في سننه وغيرُه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كانوا يَكتُبُونَ في صدور وصاياهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلانُ بن فلان، أوصى أنَّه يشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عبدُه ورسوله، وأنَّ الساعةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها، وأنَّ اللهَ يبعثُ مَن في القبور، وأوصَى مَن ترك من أهله أن يتَّقوا الله، ويُصلحوا ذاتَ بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2 ") 3.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:2738) ، وصحيح مسلم (رقم:1627) . 2 سورة: البقرة، الآية (132) . 3 سنن سعيد بن منصور (ص:126) ط. الدار السلفية.

وينبغي أن يوصيهم بأن يُجهَّزَ ويُدفنَ على السُّنَّة، وأن يحذِّرَهم من البدع لا سيما إن خشي وقوعَ شيء من ذلك، أو كان للبدع رواجٌ في مجتمعه، وقد أوصَى أبو موسى رضي الله عنه حين حَضَرَه الموتُ فقال: "إذا انطلقتُم بجنازتي فأسرعوا بي المشي، ولا تُتْبعونِي بمِجْمَر، ولا تَجعلنَّ على لَحدي شيئاً يحولُ بيني وبين التراب، ولا تجعلن على قبري بناءً، وأشهدُكم أنِّي بريءٌ مِن كلِّ حَالقَةٍ أو سالِقةٍ أو خارقة، قالوا سمعتَ فيه شيئاً قال: نَعم، مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه أحمد1. نسأل الله لنا جميعاً حسن الختام والوفاة على الإيمان بمَنِّه وكرمه.

_ 1 مسند أحمد (4/397) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في أحكام الجنائز (ص:18) .

ما يقال في الصلاة على الجنازة

160 / ما يُقال في الصلاة على الجنازة لقد ورد في السنَّة أحاديثُ عديدةٌ تتعلَّق بما يُقال في الصلاة على الجنازة، وفيما يلي بيانُها: ثبت في صحيح مسلم عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: " صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَاراً خَيْراً مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلاً خَيْراً مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجاً خَيْراً مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ المَيِّتُ"1. وهو دعاء عظيمٌ جامع، مُحضَ فيه الدعاء للميت بالعفو والغفران، والسلامة والنجاة، والإكرام والإحسان، يُؤتى به في هذا الموضع العظيم عند الصلاة عليه، وهو موضع يُستحبُّ فيه المبالغة في الترحُّم على الميت والدعاء له؛ لأنَّه قد أُتي به إلى إخوانه المسلمين ليدعوا له، وليسألوا الله مغفرةَ ذنوبه وستر عيوبه وإقالة عثراته، وهو دعاء ينفع الميت بإذن الله، وهو من جملة الأمور الدالة على التراحم والتعاطف بين أهل الإيمان، والسُّنَّة في هذا الدعاء أن يُؤتى به بعد التكبيرة الثالثة، أما التكبيرة الأولى فيقرأ بعدها الفاتحة، والتكبيرة الثانية يُصلِّي بعدها على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبعد التكبيرة الثالثة يُؤتى بهذا الدعاء أو غيره من الدعوات المأثورة.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:963) .

قوله: "اللهمَّ اغفر له وارحمه" المغفرة ستر الذنوب مع التجاوز عنها، والرحمة أبلغ؛ لأنَّ فيها حصول المرغوب بعد زوال المكروه. وقوله: "وعافه واعف عنه" أي: عافه من العذاب وسلِّمه منه، واعف عنه ما وقع فيه من زلل وتقصير. وقوله: "وأكرم نزله" النُزُل: ما يُقدَّم للضيف، أي: اجعل نزله وضيافته عندك كريمة. وقوله: "وأوسع مُدخلَه" أي: وسِّع له في قبره وافسح له فيه، ووسِّع له كذلك منازله عندك في الجنَّة؛ لأنَّ المدخلَ هنا مفردٌ مضاف فيَعُمُّ. وقوله: "واغسله بالماء والثلج والبرد" وهذه الأمور الثلاثة تُقابل حرارة الذنوب فتبردها وتُطفئُ لهيبَها. وقوله: "ونقِّه من الذنوب كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدَّنَس" من التنقية وهي بمعنِى التطهير، أي: طهِّره من ذنوبه وخطاياه كما يُطهَّر ويُنظَّف الثوب الأبيض من الدَّنَس الذي علق به، وخصَّ الأبيض بالذِّكر؛ لأنَّ إزالةَ الأوساخ فيه أظهر من غيره من الألوان. وقوله: "وأبدله داراً خيراً من داره" أي: أدخله الجنَّة دار كرامتك بدلاً عن دار الدنيا التي رحل عنها. وقوله: "وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه" أي: وأبدله خيراً منهم، وهذا شاملٌ للتبديل في الأعيان والأوصاف، أمَّا في الأعيان بأن يُعوِّضه الله عنهم خيراً منهم في دار كرامته، وأمَّا في الأوصاف بأن تعودَ العجوزُ شابةً وسيِّئةُ الخلق حسنةَ الخلق، وغيرُ الجميلة جميلةً. ثمَّ سأل الله له دخول الجنَّة والنجاة من النار، والسلامةَ من فتنة القبر بأن يُوقى شرُّها وأثرها.

ومِمَّا يُقال في الصلاة على الجنازة ما رواه أحمد وابن ماجه وغيرُهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِسْلاَمِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِيمَانِ، اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلاَ تُضِلَّنَا بَعْدَهُ"1. وهو دعاءٌ عظيمٌ شمل الميِّت المصلَّى عليه وغيرَه من المسلمين الأحياء منهم والأموات، والصغار والكبار، والذكور والإناث، والشاهد منهم والغائب؛ لأنَّ الجميعَ مشتركون في الحاجة بل الضرورة إلى مغفرة الله وعفوه ورحمته، ومن دعا بهذه الدعوة فله بكلِّ واحد من المسلمين والمسلمات المتقدِّمين منهم والمتأخرين حسنة، لِما ثبت في المعجم الكبير للطبراني بإسناد حسن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن استَغْفَرَ للمؤمنين والمؤمنات كَتَبَ اللهُ له بكلِّ مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ حَسَنَةً"2. وقوله: "اللَّهمَّ مَن أحييته منَّا فأحيه على الإسلام ومن توفَّيته فتوفَّه على الإيمان" فذكر الإسلام في الحياة والإيمان عند الممات، وذلك أنَّ الإسلام إذا قُرن بالإيمان يُراد به الشرائع العملية الظاهرة، ويُراد بالإيمان الاعتقاداتُ الباطنة، ولهذا ناسب في الحياة أن يذكر الإسلام؛ لأنَّ الإنسان ما دام حيًّا فلديه مجال وفسحة للعمل والتعبُّد، وأمَّا عند الممات فلا مجال لذلك، بل لا مجال إلاَّ للموت على الاعتقاد الصحيح والإيمان السليم بتوفيق من الله، ولهذا قال: "ومن توفيته فتوفه على الإيمان".

_ 1 مسند أحمد (2/368) ، وسنن ابن ماجه (رقم:1498) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح ابن ماجه (رقم:1217) . 2 مجمع الزوائد (10/210) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:6026) .

وقوله: "اللَّهمَّ لا تحرمنا أجره" أي: الأجر الذي نحصله من تجهيزه والصلاة عليه وتشييعه ودفنه، وكذلك الأجر الذي نحصله من صبرنا على مصيبتنا فيه، وأمَّا أجر عمله فهو له، وليس لنا منه شيء. وقوله: "ولا تُضلَّنا بعده" أي: أعذنا من الضلال وجنِّبنا الفتنة والزَّلل بعد فقدنا له. ومن الدعوات التي تُقال في الصلاة على الجنازة ما رواه الطبراني في المعجم الكبير والحاكم عن يزيد بن رُكانة بن المطلب رضي الله عنه قال: " كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا قَامَ إلى جَنازَةٍ ليُصَلِّيَ عليها قال: اللَّهمَّ عَبْدُكَ وابنُ أَمَتِكَ احتَاجَ إلى رَحْمَتِكَ، وأنتَ غَنِيٌّ عَن عَذابِه، إن كانَ مُحْسناً فَزِدْ في حَسَناتِه، وإن كان مُسيئاً فتَجَاوَزْ عنه"، وهو حديث ثابت1. وروى مالك في الموطأ عن سعيد المقبري أنَّه سأل أبا هريرة: كيف تُصَلِّي على الجنازة فقال أبو هريرة: "أنَا لَعَمْرُ الله أُخْبِرُك، أتَّبِعُهَا مِن أَهْلِهَا، فإذا وُضعَت كَبَّرْتُ وحَمِدتُ اللهَ وصلَّيت على نبيِّه، ثمَّ أقول: اللَّهمَّ إنَّه عَبْدُكَ وابنُ عَبْدكَ وابنُ أمَتِكَ، كان يَشهَدُ أن لاَ إلَه إلاَّ أنتَ، وأنَّ مُحمَّداً عبدُكَ ورَسولُك، وأنتَ أعلَمُ بِه، اللَّهمَّ إن كَانَ مُحسناً فَزِدْ في إِحْسانِه، وإن كانَ مُسيئاً فتَجَاوَزْ عَن سيِّئاته، اللَّهمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَه، ولا تَفْتِنَّا بَعدَه"2. نسأل الله أن يغفر لنا ولجميع موتى المسلمين، إنَّه هو الغفور الرحيم.

_ 1 المعجم الكبير (22/249) ، والمستدرك (1/359) ، وانظر أحكام الجنائز للألباني ـ رحمه الله ـ (ص:159) . 2 الموطأ (رقم:609) .

ما يقال عند دفن الميت وبعده ,وعند التعزية , وزيارة المقابر

161 / ما يُقال عند دفن الميت وبعده، وعند التعزية، وزيارة المقابر لقد مرَّ معنا الكلامُ على الأذكار التي تُقال في الصلاة على الجنازة، وسنتناول هنا بيانَ ما يُقال عند دفن الميت، وما يُقال بعد دفنه، وما يُقال لذويه عند تعزيتهم، وما يُقال عند زيارة المقابر. من السُّنَّة أن يقول الذي يضع الميتَ في لحدِه "بسم الله وعلى سنَّة رسول الله"، أو "وعلى ملِّة رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ لِمَا رواه أبو داود والترمذي وابنُ ماجه وغيرهم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذَا وَضَعَ الميِّتَ في القبر قال: "بسْمِ الله وعلى سُنَّة رسول الله"، وفي رواية "وعلى ملَّة رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم"، وجاء في رواية أنَّه قال: "إَذَا وَضَعْتُمْ مَوتَاكُم في القبور فَقُولُوا ... "، وذكره1. ثمَّ من السنَّة بعد الفراغ من دفنه الدعاءُ له بالمغفرة والتثبيت عند السؤال؛ لِما رواه أبو داود وغيرُه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ المَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ "2. ولا يُشرع قراءةُ شيءٍ من القرآن في هذا الموضع، ولا أن يُلقَّن الميتُ حجَّته كما يفعله بعضُ الناس؛ إذ لم يثبت بذلك حديث، وإنَّما المشروع في

_ 1 سنن أبي داود (رقم:3213) ، وسنن الترمذي (رقم:1046) ، وسنن ابن ماجه (رقم:1550) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في الإرواء (3/197) . 2 سنن أبي داود (رقم:3221) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4760) .

هذا المقام كما تقدَّم الاستغفارُ له وسؤال الله تثيبتَه. وأمَّا ما يُقال لذويه عند تعزيتِهم، فإنَّ المشروعَ للمسلم أن يعزيَ أخاه بما يظنُّ أنَّه يسليه ويُذهب حزنه ويعينه على الرِّضا بالقضاء والصبر على المصيبة مِمَّا ثبت عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه يقوله في هذا المقام إن كان يستحضر شيئاً من ذلك، وإلاَّ يقول ما تيسَّر له من الكلام الحسن والقول الطيِّب الذي يُحقِّق المقصودَ ولا يُخالف الشرعَ. والمسلم مأجورٌ على تعزيته لإخوانه ووقوفه معهم في محنتهم ومصابهم، ففي الحديث عن النَبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " مَا مِنْ مُؤْمن يُعَزِّي أخاه بمصيبة إلاَّ كَسَاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ من حُلَلِ الكَرَامَة يومَ القيامَة" رواه ابن ماجه وغيرُه1. ومِمَّا ورد في السنة في التعزية ما رواه البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: " أَرْسَلَتْ ابْنَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ: إِنَّ ابْناً لِي قُبِضَ فَائْتِنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرِيءُ السَّلاَمَ وَيَقُولُ: إِنَّ للهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمَّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ"2، قال النووي رحمه الله: "هذا الحديث أحد ما يُعزَّى به". وفي حديث أبي سلمة: لَمَّا مات شق بصره فأغمضه النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثم قال: " إنَّ الروحَ إذا قُبض تَبعَهُ البَصَرُ" فصاح ناسٌ من أهله فقال: "لا تَدْعُوا على أَنفُسِكُم إلاَّ بِخَيرٍ، فإنَّ الملائكةَ يُؤَمِّنونَ على ما تَقولُون"، ثم قال: "اللَّهمَّ اغْفرْ لأَبِي سَلَمَةَ، وارْفَعْ دَرَجَتَه في المَهْديِّين، واخْلُفْه في عَقِبِهِ في

_ 1 سنن ابن ماجه (رقم:1601) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:3508) . 2 صحيح البخاري (رقم:1284) ، وصحيح مسلم (رقم:923) .

الغَابِرِينَ، واغفرْ لَنَا وَلَهُ يا رَبَّ العَالَمِينَ، وافْسَحْ لَهُ في قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ " رواه مسلم1. أمَّا ما يُقال عند زيارة القبور، فإنَّ السُّنَّة قد جاءت بمشروعية زيارة القبور للاتِّعاظ وتذكُّر الآخرة، وللدعاء لأهلها بالرَّحمة والمغفرة، وقد مُنع الناسُ في بدء الأمر من زيارة القبور؛ لقُرب عهدهم من الجاهلية وخشية أن يتكلَّموا بشيء من كلام أهل الجاهلية عندها، فلمَّا استقرَّت قواعدُ الإسلام وتَمهَّدت أحكامُه واشتهرت معالِمُه أُبيحت لهم الزيارة مع البيان لمقاصدها والتحذير من قول الباطل عند زيارتها. فعن بُريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي كُنتُ نَهيتُكُم عن زيَارَةِ القُبُور فزُرُوهَا" رواه مسلم وأحمد والنسائي وغيرهم، وزاد أحمد: "فَإنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الآخرَةَ "، وزاد النسائي: "فمَن أَرَادَ أن يَزُورَ فَلْيَزُرْ، ولاَ تَقُولُوا هُجراً"2. والهُجْرُ الباطل من القول، كدعاء المقبورين والاستغاثة بهم من دون الله، أو التوسُّل بهم أو طلب البركة منهم ونحو ذلك من الباطل والضلال، ولقد جاء في سنة النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم بيانُ ما يُشرَع للمسلم أن يقولَه عند زيارة القبور، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ البَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ. قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: قُولِي: السَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا

_ 1 صحيح مسلم (رقم:920) . 2 صحيح مسلم (رقم:977) ، المسند (5/355) ، سنن النسائي (4/89) .

وَالمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلاَحِقُونَ"1. وروى مسلم أيضاً عن بُريدة رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُمْ إِذا خَرَجُوا إِلَى المَقَابِرِ، فَكَانَ قائلهم يَقُولُ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَلاَحِقُونَ، أَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ العَافِيَةَ"2. قال ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد في كلامه عن هدي النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور: "كان إذا زار قبور أصحابه يزورها للدعاء لهم، والترحُّم عليهم، والاستغفار لهم، وهذه هي الزيارة التي سنَّها لأمَّته، وشرعها لهم، وأمرهم أن يقولوا إذا زاروها: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية) ، وكان هديُه أن يقول ويفعل عند زيارتها من جنس ما يقوله عند الصلاة على الميِّت من الدعاء والترحُّم والاستغفار، فأبَى المشركون إلاَّ دعاءَ الميت والإشراك به، والإقسامَ على الله به وسؤاله الحوائج والاستعانة به والتوجُّهَ إليه، بعكس هديه صلى الله عليه وسلم، فإنَّه هدي توحيد وإحسان إلى الميت، وهديُ هؤلاء شركٌ وإساءةٌ إلى نفوسهم وإلى الميت، وهم ثلاثة أقسام: إمَّا أن يدعوا الميت، أو يدعوا به أو عنده، ويرون الدعاءَ عنده أوجبَ وأولى من الدعاء في المساجد، ومَن تأمَّل هديَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، تبيَّن له الفرقُ بين الأمرين، وبالله التوفيق"3. اهـ كلامه. وبما تقدَّم يتَّضح أنَّ أحوالَ الناس في زيارة القبور لا تخرج عن أربع حالات:

_ 1 صحيح مسلم (رقم:974) . 2 صحيح مسلم (رقم:975) . 3 زاد المعاد (1/526 ـ 527) .

الأولى: أن يزور القبور ليدعو للأموات، فيسأل الله لهم المغفرة والرحمة، وليعتبر بحال الموتى وما آلوا إليه، فيحدث له ذلك عبرةً وذكرى، وهذه هي الزيارة الشرعية. الثانية: أن يزورها ليدعو لنفسه ولِمَن أحبَّ عندها معتقداً أنَّ الدعاء في المقابر أو عند قبور الصالحين أفضلُ وأحرى بالقبول والإجابة، وهذا بدعةٌ منكرة. الثالثة: أن يزورها ليدعو الله متوسِّلاً بجاه الموتى أو حقِّهم، فيقول: أسألك يا ربِّي بجاه فلان أو بحقِّ فلان، فهذا بدعة محرَّمة ووسيلة إلى الشرك. الرابعة: أن يزورها ليدعو المقبورين ويستغيث بهم ويطلب منهم المَدَدَ والعونَ والشِّفاءَ وغيرَ ذلك، فهذا شركٌ أكبر ناقلٌ عن ملِّة الإسلام. نسأل الله أن يحفظنا وإيَّاكم، وأن يوفِّقنا لكلِّ خير، إنَّه سميع مجيب.

دعاء الإستسقاء

162 / دعاء الاستسقاء لقد شَرَعَ اللهُ لعباده إذا أجدَبت فيهم الدِّيارُ، وقلَّت الأمطارُ، وحصل القَحْطُ أن يفزَعوا إلى الصلاة والدعاء والاستغفار، وأخبَرَ أنَّه لا يخيب عبداً دعاه، ولا يردُّ مؤمناً ناداه، فمَن دعاه بصدق وأقبل عليه بإلحاح حقَّق رجاءَه، وأجاب دعاءه، وأعطاه سؤله، فهو القائل سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 1، وأرشد عباده سبحانه عند احتباس المطر عنهم أن يستغفروه من ذنوبهم التي بسببها حبس المطر ومنع القطر. وأخبر سبحانه عن أنبيائه ورسله عليهم السلام أنَّهم كانوا يرغِّبون أمَمَهم ويحثُّونهم على التوبة والاستغفار، ويبيِّنون لهم أنَّ ذلك سببٌ من أسباب إجابة الدعاء ونزولِ الأمطار وكثرة الخيرات وانتشار البركة في الأموال والأولاد، فذكر تعالى عن نوح عليه السلام أنَّه قال لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} 2، وذكر عن هود عليه السلام أنَّه قال: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} 3، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ

_ 1 سورة: البقرة، الآية (189) . 2 سورة: نوح، الآيات (10 ـ 12) . 3 سورة: هود، الآية (52) .

السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} 1، وقال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً} 2. وفي هذه النصوص دلالةٌ على أنَّ التوبةَ والاستغفار سببٌ لنُزول الخيرات وتوالي البركات وإجابة الدعوات. وليحذر المسلم في هذا المقام من أن يستولي على قلبه اليأس والقنوط، أو أن يتفوَّه بكلام يدلُّ على التَّضَجر والتسخُّط، فإنَّ المؤمنَ لا يزال يسأل ربَّه، ويطمع في فضله ويرجو رحمته، ولا يزال مفتقراً إليه في جلب المنافع ودفع المضار من جميع الوجوه، يعلم أنَّه لا ربَّ له غيره يقصده ويدعوه، ولا إله له سواه يؤمله ويرجوه، ليس له عن باب مولاه تحوُّل ولا انصراف، ولا لقلبه إلى غيره تعلق ولا التفات. وقد جاء في سُنَّة النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهديِه الكريم دعواتٌ مباركة يُشرع للمسلم أن يدعو بها في الاستسقاء، فيها تذلُّل لله وخضوعٌ بين يديه، واعتراف بعظمته وكماله وافتقار العباد إليه، وأنَّه سبحانه الغنيُّ الحميد. روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ وُجَاهَ المِنْبَرِ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِماً فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلَكَتِ المَوَاشِي، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُغِيثَنَا. قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، قَالَ أَنَسٌ: وَلاَ وَاللهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلاَ قَزَعَةٍ وَلاَ شَيْئاً، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ

_ 1 سورة: الأعراف، الآية (96) . 2 سورة: هود، الآية (3) .

سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ. قَالَ: وَاللهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتاً، ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ البَابِ فِي الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ ورَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِماً فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلَكَتِ الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُمْسِكَهَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ وَالأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. قَالَ: فَانْقَطَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ"1. وسَلْع المذكور في الحديث جبلٌ معروف بالمدينة. وقوله: "سحابة مثل الترس" أي: في الاستدارة والكثافة. وقوله: "اللهمَّ على الآكام والظراب" الآكام: التلال، والظراب: الجبال الصغيرة. وقول الرجل: "فادع الله أن يمسكها"، ودعاء النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "حوالينا ولا علينا ... " إلى آخر الدعاء فيه دلالة على مشروعية الاستصحاء حينما تطول الأمطار وتكثر، ويحصل بها الضَّرر. وروى أبو داود في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "شَكَى النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ المَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ فِي المُصَلَّى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْماً يَخْرُجُونَ فِيهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَى المِنْبَرِ فَكَبَّرَ، وَحَمِدَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ، وَاسْتِئْخَارَ المَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ، وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1013) ، وصحيح مسلم (رقم:897) .

الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ اللهُ لاَ إله إِلاَّ أَنْتَ الغَنِيُّ، وَنَحْنُ الفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الغَيْثَ وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنُا قُوَّةً وَبَلاَغاً إِلَى حِينٍ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ وَقَلَّبَ أَوْ حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَنَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ اللهُ سَحَابَةً فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ اللهِ، فَلَمْ يَأْتِ مَسْجِدَهُ حَتَّى سَالَتِ السُّيُولُ، فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتَهُمْ إِلَى الكِنِّ ضَحِكَ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذهُ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ"1. قحوط المطر، أي: انحباسه وانقطاعه. وقوله: "حين بدا حاجب الشمس" أي: حين ظهر ولاح طرف الشمس. وقوله: "عن إبان زمانه" أي: وقت نزوله. وقوله: "وبلاغاً إلى حين" أراد به المطر الكافي إلى وقت انقطاع الحاجة. وقوله: "فلمَّا رأى سرعتهم إلى الكنِّ" الكنُّ: ما يردُّ الحرَّ والبرد من الأبنية والمساكن. وروى أبو داود في سننه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَوَاكِي، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثاً مُغِيثاً مَرِيئاً مَرِيعاً نَافِعاً، غَيْرَ ضَارٍّ، عَاجِلاً غَيْرَ آجِلٍ. قَالَ: فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ" 2.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:1173) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:1040) . 2 سنن أبي داود (رقم:1169) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:1036) .

قوله: "أتت النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم بواكي" جمع باكية، وفي بعض النسخ: "رأيت النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم يواكي" ومعناه: التحامل على يديه إذا رفعهما ومدَّهما في الدعاء. وعلى المسلم إذا دعا الله في الاستسقاء أو غيره أن يَحْسُن ظنُّه بالله وأن يعظمَ رجاؤه فيه، وأن يلحَّ عليه في الدعاء، وأن لا يقنط من رحمته سبحانه، فخزائنه ملأى، وجوده عظيم، ورحمته وسعت كلَّ شيء.

163 / ما يُقال عند نزول الغيث لقد مرَّ معنا الأدعيةُ المتعلقةُ بالاستسقاء، والتي يُشرع للمسلم أن يقولها عند قحوط المطر واستئخاره عن إبان نزوله، وما يترتَّب على ذلك من جفاف في الزروع وهلاك في الماشية، وغير ذلك من الأضرار، وهي دعوات مباركة واستغاثات نافعة بربِّ العالمين وخالق الخلق أجمعين، الذي بيده أزمة الأمور ومقاليد السموات والأرض، الذي أمره لشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون، والدعاء ينبئ عن قوة الافتقار وتحقيق العبودية، ويوجب للعبد خضوعه وخشوعه وشدَّة انكساره لربِّ البريَّة، فكم من دعوة رفع الله بها المكاره وأنواع المضار، ونال بها العبدُ الخيرات العديدة والبركاتِ المتنوِّعة وأنواعَ المسار. والعبد يدعو الله في كلِّ أحيانه ويدعو الله في كلِّ شؤونه إذا تأخر المطر دعا الله، وإذا نزل المطر دعا الله، وإذا سمع الرَّعدَ ذكر الله، ففقره إلى الله ذاتِيٌّ، لا غنى له عن ربِّه وسيِّده ومولاه طرفة عين، والله عزَّ وجلَّ غنِيٌّ حميد. وقد تقدَّم فيما مضى ما يُقال في الاستسقاء والاستصحاء، وأمَّا إذا نزل الغيث فإنَّ من السنَّة أن يقول المسلم عند نزوله "اللهمَّ صيِّباً نافعاً" لِما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: "اللَّهمَّ صيِّباً نافِعاً"1. وقوله: "صيِّباً" منصوب بفعل مقدَّر، أي: اجعله، والصيِّب: المطر. وقوله: "نافعاً" وصفٌ للصيِّب، احترز به عن الصيِّب الضار، وفي هذا

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1032) .

دلالة على أنَّ المطر قد يكون نزولُه رحمةً ونعمةً، وهو النافع، وقد يكون نزوله عقوبةً ونقمةً وهو الضار. والمسلمُ يسأل الله عند نزول المطر أن يكون نافعاً غير ضار، وهذا الدعاء المذكور يُستحبُّ بعد نزول المطر للازدياد من الخير والبركة، مقيَّداً بدفع ما يُخشى ويُحْذَرُ من ضَرر. ومن الواجب على العبد في هذا المقام الكريم أن يعرف نعمة الله عليه، وينسبَ الفضلَ إليه، فهو سبحانه مولي النِّعم ومُسديها، بيده العطاءُ والمنع، والخفض والرفع، لا ربَّّ سواه ولا إله غيره. وقد ثبت في الصحيحين عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: "صَلَّى لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الصُّبح بالحُدَيْبِيَة على إثر سَماء كانت مِنَ اللَّيل [أي على إثر مطر] فلمَّا انصرفَ أَقْبَلَ على النَّاس، فقال: هَل تَدرُون ماذا قال رَبُّكم؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: أَصْبَحَ من عبَادِي مؤمنٌ بِي وكافِرٌ، فأمَّا مَن قال: مُطرنا بفضل الله ورَحْمَتِه، فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب، وأمَّا مَن قال: مُطرنا بنَوْءِ كذا وكذا، فذَلكَ كافرٌ بِي مُؤْمنُ بالكَوْكَب "1. فالقائل عند نزول المطر: مُطرنا بفضل الله ورحمته، قد نسب النعمةَ لمُعطيها، وأضاف المنَّة لموليها، واعتقد أنَّ نزول هذا الفضل والخير والرحمة إنَّما هو محضُ نعمة الله وآثارُ رحمته سبحانه. وأمَّا القائل عند نزول المطر: مُطرنا بنوء كذا وكذا فلا يخلو من أمرين: إمَّا أن يعتقد أنَّ المُنْزِلَ للمطر هو النجمُ، وهذا كفرٌ ظاهرٌ ناقلٌ من ملَّة

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1038) ، وصحيح مسلم (رقم:71) ، وقوله: "صلى لنا" أي: "صلَّى بنا" كما هو لفظ الحديث عند مسلم.

الإسلام، أو يعتقد أنَّ المُنْزِلَ للمطر هو الله، والنوءَ سبب، فيضيف النعمةَ إلى ما يراه سبباً في نزولها وهذا من كفر النّعمة وهو من الشرك الخفيِّ. والأنواء ليست من الأسباب لنُزول المطر، وإنَّما سبب نزول المطر حاجة العباد وافتقارهم إلى ربِّهم وسؤالهم إيَّاه، واستغفارهم وتوبتهم إليه، ودعاؤهم إيَّاه بلسان الحال ولسان المقال، فينزل عليهم الغيث بحكمته ورحمته بالوقت المناسب لحاجتهم وضرورتهم، ولا يتمُّ توحيد العبد حتى يعترف بنعم الله الظاهرة والباطنة عليه وعلى جميع الخلق، ويُضيفها إليه ويستعين بها على عبادته وذِكْره وشكره1. ومن السنَّة أن يقول المسلم عند اشتداد هبوب الرِّيح: "اللهمَّ إنِّي أسألك خيرها وخيرَ ما فيها وخيرَ ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرِّها وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أُرسلت به" لِمَا رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذا عَصَفَتِ الرِّيحُ [أي اشتدَّ هبوبها] قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ"2. ولا يجوز للمسلم أن يسبَّ الريحَ؛ فإنَّها مسخَّرةٌ بأمر الله مدبَّرَةٌ مأمورةٌ، روى البخاري في الأدب المفرد وأبو داود في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالعَذَابِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلاَ تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللهَ خَيْرَهَا، وَاسْتَعِيذوا بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا"3.

_ 1 انظر: القول السديد لابن سعدي (ص:108 ـ 109) . 2 صحيح مسلم (رقم:899) . 3 الأدب المفرد (رقم:906) ، وسنن أبي داود (رقم:5097) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:696) .

وقوله: "من روح الله" أي من الأرواح التي خلقها الله، فالإضافة هنا إضافة خلق وإيجاد. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يقول إذا اشتدَّت الرِّيح: "اللهمَّ لاقحاً لا عقيماً"، لِما رواه البخاري في الأدب المفرد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كان النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذا اشتدَّت الرِّيحُ يقول: "اللَّهمَّ لاقحاً لا عَقيماً" 1، ومعنى لاقحاً؛ أي: ملقحة للسحاب، ومنه قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} 2 أي: وسخَّرنا الرِّياح رياح الرحمة تلقح السحاب كما يلقح الذَّكر الأنثى فينشأ عن ذلك الماء بإذن الله، فيسقيه الله العباد والمواشي والزروع، ويبقى في الأرض مدَّخراً لحاجتهم وضروراتهم، فله الحمد والنعمة لا شريك له. وللمسلم أن يُسبِّح عند سماعه الرَّعد، ففي الأدب المفرد للبخاري عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: "أنَّهُ كَانَ إِذا سَمِعَ الرَّعْدَ تَرَكَ الحَدِيثَ، وَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ"3. وروى عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنَّه كان إذا سمع صوت الرعد قال: "سبحان الذي سبَّحت له"4. وفي التسبيح في هذا المقام تعظيم للربِّ سبحانه الذي الرَّعدُ أثرٌ من آثار كمال قوَّته وقدرته، وفيه تجاوب مع الرَّعد الذي يسبح بحمد الله، ولكن لا نفقه تسبيحه.

_ 1 الأدب المفرد (رقم:718) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:553) . 2 سورة: الحجر، الآية (22) . 3 الأدب المفرد (رقم:723) ، والموطأ (رقم:1822) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:556) . 4 الأدب المفرد (رقم:722) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:555) .

ما يقال عند كسوف الشمس أو خسوف القمر

164 / مَا يُقَالُ عِنْدَ كُسُوفِ الشَّمْسِ أَوْ خُسُوفِ القَمَرِ الحديث هنا عن كسوف الشمس وخسوف القمر، وما يُستحبُّ للمسلم أن يقوله عند حصول ذلك. إنَّ الله عزَّ وجلَّ سخَّر لابن آدم أنواعاً من المخلوقات إكراماً له وتفضُّلاً عليه؛ ليقوم بطاعة الله وليُحقِّق توحيد الله وليكون شاكراً لأنعم الله، فقد سخَّر جلَّ وعلاَ للإنسان السموات والأرض والليل والنهار، والشمس والقمر، ونعمُه سبحانه على الإنسان لا تُحصَى ولا تُعدُّ. قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 1. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 2. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} 3.

_ 1 سورة: الجاثية، الآية (12 ـ 13) . 2 سورة: لقمان، الآية (29) . 3 سورة: إبراهيم، الآيات (32 ـ 34) .

فالشمسُ والقمرُ هما من جملة النِّعم التي تفضَّل الله بها على عباده ومَنَّ بها عليهم، وجعلهما سبحانه دائِبَيْن أي: مُستمِرَّيْن لا يفتران يسعيان لمصالح الإنسان من حساب الأزمنة ومصلحة الأبدان والحيوان والزروع والثمار، وجعلهما سبحانه يجريان بحساب متقن وتقدير مقدَّر لا يتخلَّفان عنه علواً ولا نزولاً، ولا ينحرفان يميناً ولا شمالاً، ولا يتغيَّران تقدُّماً ولا تأخُّراً، كما قال سبحانه: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} 1، وقال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 2. ثمَّ إنَّ الشمسَ والقمرَ آيتان من آيات الله، ومخلوقان من مخلوقاته ينجليان بأمره وينكسفان بأمره، فإذا أراد الله تعالى أن يخوِّف عباده من عاقبة معاصيهم وذنوبِهم كسفهما باختفاء ضوئهما كلِّه أو بعضِه؛ إنذاراً للعباد وتذكيراً لهم لعلَّهم يرجعون ويتوبون ويُنيبون، فيقومون بما أمرهم به ربُّهم، ويتركون ما حرَّمه عليهم، كما قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} 3، وفي هذا دلالة على كمال قدرة الله سبحانه، حيث إنَّه سبحانه قادرٌ على تحويل الأشياء وتبديل الأمور وتصريف الخلائق كيف شاء، ومن ذلك تغيير حال الشمس والقمر من النور والوضاءة إلى السواد والظلمة، والله على كلِّ شيء قدير.

_ 1 سورة: الرحمن، الآية (5) . 2 سورة: يس، الآيات (38 ـ 40) . 3 سورة: الإسراء، الآية (59)

ولذا شُرع عند حصول الكسوف الفزعُ إلى الصلاة والدعاء والذِّكر والاستغفار والصدقة. روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لاَ يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا، وَتَصَدَّقُوا "1. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "خَسَفَتِ الشَّمْسُ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَزِعاً يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، فَأَتَى المَسْجِدَ فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ يَفْعَلُهُ، وَقَالَ: هَذِهِ الآيَاتُ الَّتِي يُرْسِلُ اللهُ لاَ تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللهُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ"2. لقد خسفت الشمس في عهد النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم مرَّة واحدة، وذلك في السنة العاشرة من الهجرة، حيث مات ابنُه إبراهيم رضي الله عنه، وقد كان الناسُ في الجاهلية يظنُّون أنَّ كسوفَ الشمس أو القمر إنَّما يكون لموتِ عظيم أو حياته، فبيَّن صلى الله عليه وسلم فسادَ هذا الظنِّ وخطأه، وقال كما في حديث عائشة المتقدِّم: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لاَ يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ". وقد فزع صلى الله عليه وسلم عند كسوفها إلى المسجد، وأمر منادياً ينادي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس في المسجد رجالاً ونساءاً، فقام فيهم النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم وصفُّوا خلفه، فكبَّر وقرأ الفاتحة وسورة

_ 1 صحيح البخاري (رقم:1044) ، وصحيح مسلم (رقم:901) . 2 صحيح البخاري (رقم:1059) ، وصحيح مسلم (رقم:912) .

طويلة يجهر بقراءته، ثم ركع ركوعاً طويلاًَ جدًّا، ثم رفع وقال: سمع الله لِمَن حمده ربَّنا ولك الحمد، ثمَّ قرأ الفاتحة وسورة طويلة لكنَّها أقصر من الأولى ثم ركع ركوعاً طويلاً دون الأول، ثم رفع وقال: سمع الله لِمَن حمده ربَّنا ولك الحمد، وقام قياماً طويلاً نحو ركوعه ثم سجد سجوداً طويلاً جدًّا نحواً من ركوعه، ثمَّ رفع وجلس جلوساً طويلاً، ثمَّ سجد سجوداً طويلاً، ثمَّ قام إلى الركعة الثانية فصنع مثل ما صنع في الأولى، لكنَّها دونها في القراءة والركوع والسجود والقيام، ثمَّ تشهد وسلَّم، وقد تجلَّت الشمس، ثم خطب صلى الله عليه وسلم خطبة عظيمة بليغة بيَّن فيها أنَّ الشمسَ والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وحثَّهم عند حصول ذلك إلى الفزع إلى الصلاة وذِكر الله ودعائه واستغفاره حتى يفرِّج الله وتنجلي، ومِمَّا قال في خطبته "يا أمَّة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمَته، يا أمَّة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً"، ومِمَّا قال في خطبته "ما من شيء كنت لَم أره إلاَّ رأيته في مقامي هذا حتى الجنَّة والنار، وأوحي إلَيَّ أنَّكم تفتنون في قبوركم مثل فتنة المسيح الدجَّال يقال: ما علمك بهذا الرَّجل فأمَّا المؤمن أو الموقن فيقول: هو محمد وهو رسول الله، جاءنا بالبيِّنات والهدى، فأجبنا واتَّبعنا، فيُقال: نَمْ صالحاً إن كنت لموقناً به، وأمَّا المنافق أو المرتاب، فيقول: لا أدري، سمعتُ الناسَ يقولون شيئاً فقلته". وقال له الصحابة: يا رسول الله، رأيناك تناولتَ شيئاً في مَقامك، ثمَّ رأيناك تَكَعٍْكَعْتَ [أي رَجعْتَ إلى الوراء] قال: إنِّي رَأيتُ الجنَّةَ، فتناولتُ عنقوداً ولو أصَبْتُه لأكَلْتُم منه ما بقيت الدنيا، ورأيتُ النَّارَ فلَمَ أَرَ مَنظراً كاليوم قطُّ أفْظَع، ورأيتُ أكثرَ أهلها النِّساء، قالوا: بِمَ يا رسول الله قال: بكُفْرهنَّ، قيل: يَكْفُرْنَ بالله قال: يَكْفُرْنَ العشير، ويَكْفُرْنَ الإحسانَ، لَو

أحسنتَ إلى إحداهنَّ الدَّهرَ كلَّه، ثمَّ رَأَتْ منكَ شيئاً قالت: ما رَأيتُ منك خيراً قطُّ"1. إنَّ فزعَ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم للكسوف وصلاتَه هذه الصلاة وعرضَ الجنَّة والنار عليه أثناء هذه الصلاة، ورؤيتَه لكلِّ ما نحن لاقوه من أمر الدنيا والآخرة، ورؤيتَه الأمَّةَ تُفتن في قبورها، وخطبتَه هذه الخطبة البليغة المؤثِّرة، وأمرَه أمَّته عند الكسوف أن يفزعوا إلى الصلاة والذِّكر والدعاء والاستغفار والتكبير والصَّدقة، ليدلُّ على عِظَم شأن الكسوف وأهميَّة الفزع فيه إلى الصلاة والدعاء والاستغفار. والحالُ أنَّ كثيراً من الناس في هذا الزمان تهاونوا بأمر الكسوف ولم يُقيموا له وزناً ولم يُحرِّك لهم ساكناً، وما ذاك إلاَّ لضعف الإيمان والجهل بالسُّنَّة والاعتماد على مَن يحيل أمر الكسوف إلى الأسباب الطبيعية، مع الغفلة عن أسبابه الشرعية والحكمة البالغة التي من أجلها يُحدث الله الكسوف، وفَّقنا الله لتعظيم آياته والخوف منه، ورزقنا الاعتبار بآياته والانتفاع بها، إنَّه جوادٌ كريم.

_ 1 هو في الصحيحين مفرَّق في عدة مواضع، انظر: صحيح البخاري (رقم:1044) ، وغيره، وصحيح مسلم (2/622 ـ 627) .

ما يقال عند رؤية الهلال

165 / مَا يُقَالُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الهِلاَلِ لقد ورد في السُّنَّة دعاءٌ يُستحبُّ للمسلم أن يقوله عند رؤية الهلال من كلِّ شهر، فيه سؤال الرَّبِّ سبحانه أن يجعل هذا الشهر الذي هلَّ هلالُه شهرَ يُمن وإيمان وسلامة وإسلام، وهي دعوةٌ مباركةٌ يحسن بالمسلم أن يدعو بها كلَّما رأى الهلال. روى الترمذي عن طلحة رضي الله عنه: "أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا رَأَى الهِلاَلَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِاليُمْنِ وَالإِيمَانِ، وَالسَّلاَمَةِ وَالإِسْلاَمِ، رَبِيَ وَرَبُّكَ اللهُ"1. وقبل الدخول في معاني هذه الدعوة المباركة، لنقف قليلاً نتأمَّل في هذه الآية الباهرة الدَّالَّة على عظمة الرَّبِّ سبحانه وكمال قُدرته، يقول ابن القيم رحمه الله: "وانظر إلى القمر وعجائب آياته، كيف يُبديه الله كالخيط الدَّقيق، ثم يتزايد نورُه ويتكامل شيئاً فشيئاً كلَّ ليلة حتى ينتهي إلى إبداره وكماله وتمامه، ثمَّ يأخذ في النقصان حتى يعود على حالته الأولى؛ ليظهر من ذلك مواقيتُ العباد في معاشهم وعباداتهم ومناسكهم، فتميَّزت به الأشهر والسنون، وقام به حسابُ العالم مع ما في ذلك من الحكَم والآيات والعبر التي لا يُحصيها إلاَّ الله"2. اهـ. وقد عدَّ الله في القرآن الكريم هذا ضمن آياته العظام وبراهينه الجسام، يقول الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3451) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4726) . 2 مفتاح دار السعادة (2/27) .

مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 1. وقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} أي: يَنْزِلُها، كلَّ ليلة ينْزل منها واحدة، إلى أن يصغر جدًّا فيكون كالعرجون القديم، أي: كعذقة النخل إذا قدم وجفَّ وصغر حجمه وانحنى، ثمَّ يُهلُّ في أول الشهر ويبدأ يزيد شيئاً فشيئاً حتَّى يتمَّ نورُه ويتسق ضياؤه، فما أعظمها من آية، وما أوضحها من دلالة على عظمة الخالق، وعظمة أوصافه سبحانه، ولا ريب أنَّ التَّأملَ في هذه الآية وغيرها مِمَّا دعا الله عباده في كتابه إلى التفكر فيها وتأمُّلها يهدي العبدَ إلى العلم بالربِّ سبحانه بوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله من عموم قدرته وسعة علمه وكمال حكمته، وتعدد برِّه وإحسانه، ومن ثمَّ يُخلص الدِّينَ له ويُفردُه وحده بالذُّلِّ والخضوعِ والحبِّ والإنابة والخوف والرجاء، فهي دلائلُ ظاهرة وبراهينُ واضحة على تفرُّد الله بالربوبية والألوهية والعظمة والكبرياء. ولِهذا كان صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلالَ كبَّر؛ لأنَّه آيةٌ عظيمة على عظمة الرَّبِّ وكبريائه، والتكبير تعظيم الله واعتقاد أنَّه أكبرُ من كلِّ شيء وأنَّه لا شيء أكبر منه، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث عديٍّ رضي الله عنه: "فهَل من شيءٍ أكبَرُ من الله" 2. بل إنَّ التكبيرَ مشروعٌ عند رؤية كلِّ كبير وعظيم ليبقى القلبُ ليس فيه اشتغال إلاَّ بتكبير الله وتعظيمه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "التكبيرُ

_ 1 سورة: يس، الآيات (37 ـ 40) . 2 المسند (4/378) ، وصحيح ابن حبان (الإحسان) (رقم:7206) .

مشروع في المواضع الكبار لكثرة الجمع، أو لعظمة الفعل، أو لقوة الحال أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة؛ ليُبيِّن أنَّ الله أكبرُ، وتستولي كبرياؤه في القلوب على كبرياء تلك الأمور الكبار، فيكون الدِّين كلُّه لله، ويكون العبادُ له مكبرون، فيحصل لهم مقصودان: مقصود العبادة بتكبير قلوبهم لله، ومقصود الاستعانة بانقياد سائر المطالب لكبريائه"1. أمَّا تكبير النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم عند رؤية الهلال فقد رواه الدارمي من حديث عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلالَ قال: اللهُ أكبَرُ، اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأَمْنِ وَالإِيمَانِ، وَالسَّلاَمَةِ وَالإِسْلاَمِ، والتَّوْفِيقِ لِمَا تُحبُّ وتَرْضَى، رَبِيَ وَرَبُّكَ اللهُ"2. ولنبدأ هنا في الكلام على معنى الحديث، قوله: "إذا رأى الهلال" الهلال هو غرَّة القمر لليلتين أو لثلاث، وفي غير ذلك يُقال له قمر. وقوله: "أهلَّه علينا" أي أطلعه علينا، وأرنا إيَّاه. وقوله: "بالأمن والإيمان" الأمنُ هو الطمأنينة والراحة والسكون والسلامة من الآفات والشرور، وفي حديث طلحة "باليُمن" واليُمن هو السعادة، والإيمان هو الإقرار والتصديق والخضوع لله. وقوله: "والسلامة والإسلام" السلامة هي الوقاية والنجاة من الآفات والمصائب، والإسلام هو الاستسلام لله والانقياد لشرعه. وقوله: "ربِّي وربُّك الله" فيه إثبات أنَّ الناس والقمر وجميع المخلوقات

_ 1 مجموع الفتاوى (24/226) . 2 سنن الدارمي (رقم:1687) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/139) : "فيه عثمان بن إبراهيم الحاطبي، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات".

كلّها مربوبةٌ لله مسخَّرة بأمره خاضعة لحكمه، وفي هذا ردٌّ على من عبدها من دون الله {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 1. ثمَّ إنَّ الحديثَ فيه فوائد كثيرة أشير إلى شيء منها. فمن فوائد الحديث أنَّ فيه بياناً للفرق بين الإيمان والإسلام وأنَّهما ليسا شيئاً واحداً عندما يجتمعان في الذِّكر، بل لكلِّ واحد منهما معنى خاص، فالإيمان يُراد به الاعتقادات الباطنة، والإسلام يُراد به الأعمال الظاهرة، أمَّا عند إفراد كلِّ واحد منهما بالذِّكر فإنَّه يكون متناولاً لمعنى الآخر. ومن فوائد الحديث أنَّ الأمنَ مرتبطٌ بالإيمان، والسلامةَ مرتبطةٌ بالإسلام، فالإيمان طريق الأمان، والإسلام طريق السلامة، ومن رام الأمن والسلامة بغيرهما ضلَّ، والله تعالى يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2. ومن فوائد الحديث أنَّ فيه لفتةً كريمةً إلى أنَّ أهمَّ ما تُشغل به الشهور وتُمضى فيه الأوقات هو الإيمانُ بالله وبما أمر عباده بالإيمان به، والاستسلامُ له سبحانه في كلِّ أحكامه وجميع أوامره. ومرور الشهور على العبد مع الانشغال عن هذا المقصد الجليل ضياعٌ للشهور وحرمان من الخير، فالشهور لَم تُخلق ولم توجد إلاَّ لتكون مستودعاً للإيمان والأعمال، وهذا إنَّما ينجلي أمره للناس عندما يقفون يوم القيامة بين

_ 1 سورة: فصلت، الآية (37) . 2 سورة: الأنعام، الآية (82) .

يدي الله ليروا نتائج أعمالهم وحصاد حياتهم وثمرة أوقاتهم. قال ابن القيم رحمه الله: "السَّنَةُ شجرة، والشهورُ فروعها، والأيامُ أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنَّما يكون الجَذَاذ يوم المعاد، فعند الجَذاذ يتبيَّن حلوُ الثمار من مُرِّها"1. اهـ. ونسأل الله أن يُصلح أوقاتنا جميعاً، ويعمرها بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحبه ويرضاه، هو ربُّنا لا ربَّ لنا سواه.

_ 1 الفوائد (ص:292) .

الدعاء ليلة القدر

166 / الدُّعَاءُ لَيْلَةَ القَدْرِ إنَّ في السَّنَة أياماً فاضلة وأوقاتاً شريفةً، الدعاءُ فيها أفضل، والإجابةُ فيها أحرى، والقبول فيها أرجى، وله سبحانه الحكمة البالغة {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} (1 فلكمال حكمته وقدرته وتمام علمه وإحاطته يختار من خلقه ما يشاء من الأوقات والأمكنة والأشخاص، فيخصُهم سبحانه بمزيد فضله وجزيل عنايته ووافر منَّته، وهذا من أكبر آيات ربوبيته وأعظم شواهد وحدانيته وتفرّده بصفات الكمال، وأنَّ الأمرَ له سبحانه من قبل ومن بعد، يقضي في خلقه بما يشاء، ويحكم فيهم بما يريد {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2. وإنَّ مِمَّا خصَّه الله عزَّ وجلَّ من الأوقات بمزيد تفضيله ووافر تكريمه شهرَ رمضان، حيث فضَّله على سائر الشهور، والعشرَ الأواخر من لياليه حيث فضَّلها على سائر الليالي، وليلةَ القدر حيث جعلهَا لمزيد فضلها عنده وعظيم مكانتها خيراً من ألف شهر، وفخم سبحانه أمرها، وأعلا شأنها، ورفع مكانتها عنده، أنزل فيها وحيَه المبين وكلامَه الكريم وتنزيله الحكيم، هدى للمتَّقين وفرقاناً للمؤمنين، وضياء ونوراً ورحمة. يقول الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ

_ 1 سورة: القصص، الآية (68) . 2 سورة: الجاثية، الآيتان (36 ـ 37) .

السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} 1. ويقول سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} 2. فلله ما أعظمها من ليلة، وما أجلَّ خيرَها، وما أوفر بركتها، ليلة واحدة خير من ألف شهر، أي ما يزيد على ثلاثة وثمانين عاماً عُمر رجل معمَّر، وهو عمرٌ طويل لو قضاه المسلم كلَّه في طاعة الله عزَّ وجلَّ، فليلة القدر وهي ليلة واحدة خير منه، هذا لمَن حصَّل فضلها ونال بركتها. قال مجاهد رحمه الله: "ليلةُ القدر خيرٌ من ألف شهر ليس في تلك الشهور ليلة القدر"، وكذا قال قتادة والشافعي وغيرُ واحد. وفي هذه الليلة المباركة يكثر تنَزّل الملائكة لكثرة بركتها؛ إذ الملائكة يتنَزَّلون مع تنَزُّل البركة، وهي سلامٌ حتى مَطلع الفجر، أي أنَّها خير كلّها ليس فيها شرٌّ إلى مطلع الفجر، وفي هذه الليلة يُفرق كلُّ أمر حكيم، أي: يُقدَّر فيها ما يكون في تلك السنة يإذن الله العزيز الحكيم، والمراد بالتقدير هنا التقدير السنوي، أما التقدير العام في اللوح المحفوظ فهو متقدِّمٌ على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما صحَّ بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنَّ ليلةً هذا شأنها ينبغي على المسلم أن يحرصَ على طلبها تمامَ الحرص

_ 1 سورة: الدخان، الآيات (3 ـ 8) . 2 سورة: القدر.

ليفوز بثوابها، وليغنم خيرها، وليحصِّل أجرها، ولينال بركتها، والمحروم من حُرم الثواب ومَن تَمرُّ عليه مواسمُ الخير وأيامُ البركة والفضل وهو مستمرٌّ في ذنوبه متماد في غيِّه، منهمكٌ في عصيانه، أتلفته الغفلةُ، وأهلكه الإعراضُ، وصدَّته الغواية، فما أعظم حسرته وما أشدَّ ندامته، ومن لَم يحرص على الرِّبح في هذه الليلة المباركة فمتى يكون الحرص، ومَن لم ينب إلى الله في هذا الوقت الشريف فمتى تكون الإنابة، ومن لَم يزل متقاعساً فيها عن الخيرات ففي أيِّ وقت يكون العمل. إنَّ الحرصَ على طلب هذه الليلة وتحرِّي الطاعة فيها والاجتهادَ في الدعاء من سِمات الأخيار وعلامات الأبرار، بل إنَّهم يُلحُّون على الله فيها أن يكتب لهم العفوَ والمعافاة؛ لأنَّها الليلةُ التي يُكتب فيها ما يكون من الإنسان في عامه كلِّه، ففي هذه الليلة يدعون ويُلحُّون، وفي عامهم كلِّه يَجدُّون ويجتهدون، ومن الله يطلبون العون ويسألون التوفيق. روى الترمذي وابن ماجه وغيرُهما عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت: يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ عَلِمْتُ أَيَّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي"1. وهذا الدعاءُ المبارك عظيمُ المعنى عميقُ الدلالة كبيرُ النفع والأثر، وهو مناسب لهذه الليلة غاية المناسبة، فهي كما تقدَّم الليلة التي يُفرق فيها كلُّ أمر حكيم، ويُقدَّر فيها أعمالُ العباد لسنة كاملة حتى ليلةَ القدر الأخرى، فمن رُزق في تلك الليلة العافية وعفا عنه ربُّه فقد أفلح وفاز وربح أعظم الرِّبح

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3513) ، وابن ماجه (رقم:3850) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح ابن ماجه (رقم:3105) .

ومن أوتي العافيةَ في الدنيا والآخرة فقد أوتي الخير بحذافيره، والعافيةُ لا يعدلها شيء. روى البخاري في الأدب المفرد والترمذي في السنن عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: "قلتُ يا رسول الله، علِّمنِي شيئاً أسألُه اللهَ عز وجل، قال: سَلِ اللهَ العافيةَ، فمَكثْتُ أياماً، ثمَّ جِئتُ فقلت: يا رسول الله علِّمْنِي شيئاً أسأله اللهَ، فقال لي: يا عبَّاسُ يا عمَّ رسولِ الله، سَلُوا اللهَ العافيةَ في الدُّنيا والآخرَة"1. وروى البخاري في الأدب والترمذي في السنن عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسولَ الله، أيُّ الدعاء أَفضَلُ قال: "سَلِ اللهَ العَفْوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرةَ"، ثم أتاه الغد فقال: يا نَبِيَّ الله، أيُّ الدعاء أَفْضَل قال: "سَلِ الله العفوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرةَ، فإذا أُعطيتَ العافية في الدنيا والآخرة فقد أَفْلَحْت"2. وروى البخاري في الأدب المفرد عن أوسط بن إسماعيل قال: سمعتُ أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله قال: "قام النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم عامَ أوَّل مقامي هذا ثم بكى أبو بكر، ثم قال: عليكم بالصِّدق، فإنَّه مع البِرِّ وهما في الجنة، وإيَّاكم والكذب، فإنَّه مع الفجور وهما في النَّار، وسلُوا الله المعافاة، فإنَّه لَم يؤت بعد اليقين خيرٌ من المعافاة، ولا تَقاطَعوا، ولا تدابَروا، ولا

_ 1 الأدب المفرد (رقم:726) ، سنن الترمذي (رقم:3514) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:558) . 2 الأدب المفرد (رقم:637) ، وسنن الترمذي (رقم:3512) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:495) .

تحاسدوا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخواناً" 1. ولهذا فإنَّ من الخير للمسلم أن يكثر من هذه الدعوة المباركة في كلِّ وقت وحين، ولا سيما في ليلة القدر التي فيها يُفرق كلُّ أمر حكيم، وليعلم المسلم أنَّ الله عزَّ وجلَّ عفوٌّ كريم يحب العفو {وََهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 2، ولم يزل سبحانه ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالصَّفح والغفران موصوفاً، وكلُّ أحد مضطرٌّ إلى عفوه محتاجٌ إلى مغفرته، لا غنى لأحدٍ عن عفوه ومغفرته، كما أنَّه لا غنى لأحد عن رحمته وكرمه، فنسأله سبحانه أن يشملنا بعفوه، وأن يدخلنا في رحمته، وأن يستعملنا في طاعته، وأن يهدينا إليه صراطاً مستقيماً.

_ 1 الأدب المفرد (رقم:724) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الأدب (رقم:557) . 2 سورة: الشورى، الآية (25) .

أذكار ركوب الدابة والسفر

167 / أَذْكَارُ رُكُوبِ الدَّابَّةِ وَالسَّفَرِ يقول الله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} 1. لقد أرشد سبحانه إلى أنَّ وسائل النقل من السُّفُن والأنعام وكذلك ما سخَّره للناس في هذا الزمان من وسائل حديثة للنقل منها ما يسير على الأرض، ومنها ما يطير في الهواء، ومنها ما يمشي في البحار، واستقرارَ الناس على ظهورها واستواءَهم على متونها وتنقلَهم عليها من مكان إلى مكان براحة واطمئنان كلُّ ذلك من لطف الله وتسخيره وإكرامه وإنعامه، فكيف يليق بمَن ركبها أن يغفل عن ذكر المنعمِ والمتفضِّل بها والثناء عليه بما هو أهله. وقد كان هديُ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم عند ركوب الدابَّة وفي السفر أكملَ الهدي وأتَمَّه، كيف لا وهو أكمل الناس طاعة، وأحسنهم عبادة، وأجملهم وأزكاهم سيرة، وفيما يلي عرضٌ لشيء من هديه صلوات الله وسلامه عليه في ذلك. ففي الترمذي وأبي داود وغيرهما عن علي بن ربيعة قال: " شَهِدْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه وَأُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ: الحَمْدُ للهِ، ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} ، ثُمَّ قَالَ: الحَمْدُ للهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ

_ 1 سورة: الزخرف، الآيات (12 ـ 14) .

الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ. فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذا قَالَ: اغْفِرْ لِي ذنُوبِي، يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي"1. وليتأمَّل المسلم هذا وما فيه من دلالة على كمال فضل الله وسعة مغفرته وتَمام برِّه وإحسانه، مع غناه الكامل عن توبة عباده واستغفارهم. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا ركب دابَّته مسافراً أن يسأل الله أن يكتب له البرَّ والتقوى في سفره، وأن يُيَسِّر له العمل الصالح الذي يرضيه، وأن يهوِّن عليه السفر، وأن يعيذه فيه من العواقب السيِّئة في نفسه أو ماله أو أهله. ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجاً إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلاَثاً، ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا البِرَّ وَالتَقْوَى، وَمِنَ العَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ المَنْظَرِ، وَسُوءِ المُنْقَلَبِ فِي المَالِ وَالأَهْلِ، وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ: آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ "2. وقوله: "اللَّهمَّ إنَّا نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتقوى" البرُّ فعل

_ 1 سنن أبي داود (رقم:2602) ، وسنن الترمذي (رقم:3446) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترمذي (رقم:2742) . 2 صحيح مسلم (رقم:1342) .

الطاعات والتقوى ترك المعاصي والذنوب، هذا عند اجتماعهما في الذِّكر كما في هذا النصِّ، وأمَّا إذا ذكر كلُّ واحد منهما منفرداً فإنَّه يتناول معنى الآخر. وقوله: "اللَّهمَّ هوِّن علينا سفرنا هذا واطْو عنا بُعده" أي: يسِّره لنا وقصِّر لنا مسافته. وقوله: "اللهمَّ أنت الصاحب في السفر" المراد بالصحبة المعيةُ الخاصة التي تقتضي الحفظ والعون والتأييد، ومن كان الله معه فمِمَّن يخاف. وقوله: "والخليفة في الأهل" الخليفة من يخلف من استخلفه فيما استخلف فيه، والمعنى أنِّي أعتمد عليك وحدك يا الله في حفظ أهلي. وقوله: "اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك من وعثاء السفر" أي: من مشقته وتعبه. وقوله: "وكآبة المنظر" أي: سوء الحال والانكسار بسبب الحزن والألم. وقوله: "وسوء المنقلب" أي: الانقلاب والقفول من السفر بما يُحزن ويسوء، سواء في نفسه أو في ماله وأهله. وقوله: "وإذا رجع قالهنَّ وزاد فيهنَّ: آيبون تائبون عابدون لربِّنا حامدون" من السُّنَّة أن يُقال هذا عند القفول، وأن يُقال كذلك عند الإشراف على بلده والقرب منه؛ لِما روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى المَدِينَةِ قَالَ: آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُهَا حَتَّى دَخَلَ المَدِينَةَ "1. وقوله: "آيبون" أي: نحن آيبون، من آب إذا رجع، والمراد راجعون بالسلامة والخير. وقوله: "تائبون" أي: إلى الله عزَّ وجلَّ من ذنوبنا وتفريطنا.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:3085) ، وصحيح مسلم (رقم:1345) .

وقوله: "لربِّنا حامدون" أي: لنعمه العظيمة وعطاياه الجسيمة وتسهيله وتيسيره. ومن السُّنَّة التكبيرُ عند صعود الأشراف والأماكن المرتفعة والتسبيح عند نزول الأودية والأمكنة المنخفضة، ففي البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كُنَّا إِذا صَعَدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا"1. وفي التكبير في الصعود شغلٌ للقلب واللسان بتعظيم الربِّ وإعلان كبريائه وعظمته، وفيه طرد للكبر والعجب والغرور، وفي التسبيح في الهبوط تَنْزيهٌ لله عن النقائص والعيوب وعن كلِّ ما يُنافي ويُضاد كماله وجلاله. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الدعاء لِمَن أراد السَّفر بالحفظ وحسن العاقبة وتيسير الأمر، مع الوصيَّة بتقوى الله عزَّ وجلَّ. ففي الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: " كَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذا أَرَادَ سَفَراً: ادْنُ مِنِّي أُوَدِّعُكَ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُوَدِّعُنَا، فَيَقُولُ: أَسْتَوْدِعُ اللهَ دِينَكَ، وَأَمَانَتَكَ، وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ"2. أي: أسأل الله أن يحفظها عليك. وفي الترمذي أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أَنَّ رَجُلاً قال: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسَافِرَ فَأَوْصِنِي. قَالَ: عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ، وَالتَّكْبِيرِ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ، فَلَمَّا أَنْ وَلَّى الرَّجُلُ قَالَ: اللَّهُمَّ اطْوِ لَهُ الأَرْضَ، وَهَوِّنْ عَلَيْهِ السَّفَرَ"3.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:2993) . 2 سنن الترمذي (رقم:3443) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترمذي (رقم:3738) . 3 سنن الترمذي (رقم:3445) ، وابن ماجه (رقم:2771) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترمذي (رقم:2739) .

وفي الترمذي أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي أُرِيدُ سَفَراً فَزَوِّدْنِي، قَالَ: زَوَّدَكَ اللهُ التَّقْوَى. قَالَ: زِدْنِي. قَالَ: وَغَفَرَ ذَنْبَكَ. قَالَ: زِدْنِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. قَالَ: وَيَسَّرَ لَكَ الخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ"1. وكان صلى الله عليه وسلم يوصي من أراد السفر أن يدعو لِمَن يُخلِّف بأن يكون في وداع الله وحفظه، ففي عمل اليوم والليلة لابن السني عن موسى بن وردان قال: "أتيتُ أبا هريرة أُودِّعه لسفر أردته، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: ألاَ أعلِّمُك يا ابن أخي شيئاً علَّمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوله عند الوداع؟ قال: قلت: بلَى، قال: قل: أَسْتَوْدِعُكُمُ اللهَ الَّذِي لاَ تَضِيعُ وَدَائِعُهُ"، ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة قال: ودَّعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال، وذكره2، أي: أنَّه سبحانه يحفظ ما استُودع. وفي المسند عن النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ لقمان الحكيم كان يقول: إنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا اسْتُودِع شيئاً حَفِظَه"3. فنسأل الله أن يحفظَ علينا ديننا، وأن يوفِّقَنا جميعاً لكلِّ خير.

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3444) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترمذي (رقم:2739) . 2 عمل اليوم والليلة (رقم:505) ، وسنن ابن ماجه (رقم:2825) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح ابن ماجه (رقم:2278) . 3 المسند (2/87) .

ما يقوله إذا نزل منزلا أو رأى قرية أو بلدة يريد دخولها

168 / مَا يَقُولُهُ إِذا نَزَلَ مَنْزِلاً أو رَأَى قَرْيَةً أَوْ بَلْدَةً يُرِيدُ دُخُولَهَا لقد كان الحديث عن الأذكار التي يُستحبُّ للمسلم أن يقولَها عند ركوب الدابَّة وعند السَّفر، وهي أذكارٌ مباركةٌ لها آثارها الحميدة على الرَّاكب والمسافر في سداد أمرِه وسلامته وحفظِه من الآفات والشرور. ثمَّ إنَّ المسلمَ يُستحبُّ له إذا نزل مَنْزلاً أن يقول: أَعُوذ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، فإنَّه إنْ قال ذلك حُفظَ ووُقِي بإذن الله، ولم يضرَّه شيءٌ حتى يرتحلَ من ذلك المكان الذي نزل فيه. ففي صحيح مسلم من حديث خَوْلة بنت حكيم رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً ثُمَّ قَالَ: أَعُوذ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ "1. وهو دعاءٌ عظيمٌ فيه التجاءٌ إلى الله عزَّ وجلَّ واعتصامٌ به وتعوُّذٌ بكلماته، خلافَ ما كان عليه أهل الجاهلية من التعوُّذ بالجنِّ والأحجار وغير ذلك مما لا يزيدهم إلاَّ رهقاً وضعفاً وذلَّةً كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 2، فنعى تبارك وتعالى عليهم هذه الاستعاذة وبيَّن عواقبها الوخيمة ومغبَّتَها الأليمة في الدنيا والآخرة، وشرع سبحانه لعباده المؤمنين الاستعاذة به وحده والالتجاءَ إليه دون سواه، إذ هو الذي بيده مقاليد الأمور ونواصي العباد، وأمَّا ما سواه

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2708) . 2 سورة: الجن، الآية (6) .

فإنَّه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرًّا فضلاً عن أن يملك شيئاً من ذلك لغيره. وقوله: "أعوذ بكلمات الله التامَّات" أي: ألْتجئُ وأعتصمُ، وكلماتُ الله قيل: هي القرآن، وقيل هي الكلمات الكونية القدرية، ومعنى "التامَّات" أي التي لا يلحقُها نقصٌ، ولا عيْبٌ كما يلحقُ كلامَ البشر. وفي الحديث دلالةٌ على مشروعية الاستعاذة بصفات الله، وأنَّ الاستعاذة عبادةٌ لا يجوز صرفُها لغير الله، وأنَّ كلامَ الله ومنه القرآن ليس بمخلوق، إذ لو كان مخلوقاً لَم يستعذ به؛ لأنَّ الاستعاذة بالمخلوق لا تجوز بل هي شركٌ بالله العظيم. وقولُه: "من شرِّ ما خلق" أي: من كلِّ شرٍّ في أيِّ مخلوقٍ قام به الشرُّ من حيوانٍ أو غيرِه، إنسياًّ كان أو جنياًّ، أو هامَّةً أو دابَّةً، أو ريحاً أو صاعقةً، أيَّ نوعٍ من أنواع البلاء. وقولُه: "لَم يضره شيٌ حتَّى يرتحل من مَنْزله ذلك" أيَّ شيءٍ كان؛ لأنَّه محفوظٌ بحفظ الله. لكن يُشترط في هذا الدعاء وغيره قابليَّةُ المحلِّ، وصحَّةُ النيَّة، وحسنُ الثقة بالله عزَّ وجلَّ، والحرصُ على المواظبة عليه في كلِّ منزلٍ ينزلُه الإنسانُ. يقول القرطبي رحمه الله: "هذا خبرٌ صحيحٌ وقولٌ صادقٌ، علِمنا صدقَه دليلاً وتجربةً، فإنِّي منذ سمعتُ هذا الخبر عملتُ عليه فلم يضرَّني شيءٌ إلى أن تركتُه فلدغتْني عقربٌ بالمهدية ليلاً، فتفكَّرتُ في نفسي فإذا بي قد نسيتُ أن أتعوَّذ بتلك الكلمات"1.

_ 1 ذكره الشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد (ص:214) .

ويُستحبُّ للمسلم إذا أراد دخولَ قريةٍ أو بلدةٍ أن يقول: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الأَرْضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ، فَإِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذْهِ القَرْيَةِ، وَخَيْرَ أَهْلِهَا، وخَيْرَ مَا فِيهَا، وَنَعُوذ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا"؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك كلَّما رأى قريةً يريد دخولَها. روى النسائي وغيرُه عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرَ قَرْيَةً يُرِيدُ دُخُولَهَا إِلاَّ قَالَ حِينَ يَرَاهَا: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الأَرْضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ، فَإِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذْهِ القَرْيَةِ، وَخَيْرَ أَهْلِهَا، وخَيْرَ مَا فِيهَا، وَنَعُوذ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا" 1. والقريةُ اسمٌ للموضع الذي يجتمع فيه الناسُ من المساكن والأبنية والضياع، وقد تُطلق على المدن كما في قوله تعالى {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} 2 فقد قيل إنَّها أنطاكية، ويقال لمكَّةَ أمُّ القرى. وعليه فإنَّ هذا الدعاءُ يقال عند دخول القرية أو المدينة. وقولُه: "اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ" فيه توسُّلٌ إلى الله عزَّ وجلَّ بربوبيته للسموات السبع وما أظلَّت تحتها من النُّجوم والشمس والقمر والأرض وما عليها، فقولُه "وما أظللن" من الإظلال: أي ما ارتفعت عليه وعلت وكانت له كالظلَّة.

_ 1 عمل اليوم والليلة للنسائي (رقم:547) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في السلسلة الصحيحة (رقم:2759) . 2 سورة: يس، الآية (13) .

وقوله: "وَرَبَّ الأَرْضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ" من الإقلال والمرادُ: ما حملته على ظهرها من الناس والدّوابِّ والأشجار وغير ذلك. وقوله: "وَرَبَّ الشَيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ" من الإضلال وهو الإغواءُ والصَّدُّ عن سبيل الله، قال الله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} 1. وإذا علم العبدُ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه، وأنَّه سبحانه بكلِّ شيءٍ محيطٌ، وأنَّ قدرتَه سبحانه شاملةٌ لكلِّ شيءٍ، ومشيئتَه سبحانه نافذةٌ في كلِّ شيءٍ، لا يُعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء لجأ إليه وحده واستعاذ به وحده، ولم يخف أحداً سواه. وقوله: "وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ" يقال ذرتْه الرِّياح وأذرَته وتَذروه، أي: أطارَته، ومنه قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} 2. وقوله: "فإنَّا نسألك خيرَ هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها" فيه سؤال الله عزَّ وجلَّ أن يجعلَ هذه القريةَ مباركةً عليه، وأن يَمنحَه من خيرها، وأن يُيَسِّرَ له السُكنى فيها بالسلامة والعافية، "وخير أهلها" أي: ما عندهم

_ 1 سورة: النساء، الآيات (117 ـ 120) . 2 سورة: الكهف، الآية (45) .

من الإيمان والصلاح والاستقامة والتعاون على الخير ونحو ذلك، "وخير ما فيها" أي: من الناس والمساكن والمطاعم وغير ذلك. وقوله: "ونعوذ بك من شرِّها وشرِّ أهلها، وشرِّ ما فيها" فيه تعوُّذٌ بالله عزَّ وجلَّ من جميع الشرور والمؤذيات، سواء في القرية نفسِها أو في الساكنين لها، أو فيما احتوت عليه. فهذه دعوةٌ جامعةٌ لسؤال الله الخيرَ والتعوُّذ به من الشرِّ بعد التوسُّل إليه سبحانه بربوبيَّته لكلِّ شيء. ثمَّ إنَّ المسافرَ يُستحبُّ له في سفره الإكثارُ من الدعاء لنفسه ووالديه وأهله وولده وجميع المسلمين، ويتخيَّر من الدعاء أجمَعَه، مع الإلحاح على الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ دعوةَ المسافر مستجابةٌ. ففي السنن الكبرى للبيهقي من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً: "ثلاثُ دعوات لا تُردُّ: دعوةُ الوالد، ودعوةُ الصائم، ودعوةُ المسافر"1. وروى الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثُ دعوات مستجابات لا شكَّ فيهنَّ: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده "2. هذا وأسأل الله أن يوفقنا جميعاً لطاعته، وأن يعيننا على ذِكره وشكره وحسن عبادته في سفرنا وإقامتنا وفي كلِّ شؤوننا، إنَّه سميع مجيب.

_ 1 السنن الكبرى للبيهقي (3/345) ، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (رقم:1797) . 2 سنن أبي داود (رقم:1536) ، وسنن الترمذي (رقم:1905) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3862) ، وحسَّنه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (رقم:596) .

أذكار الطعام والشراب

169 / أَذْكَارُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إنَّ من السُّنَّة للمسلم أن يقول عند بدء طعامه وشرابه "بسم الله" ليُحفَظَ ويُوقى، وليُبارَك له في طعامه وشرابه. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عمر بن أبي سلمة رضي الله رضي الله عنهما قال: "كُنْتُ غُلاَماً فِي حِجْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا غُلاَمُ، سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ"1. وفي التسمية على الطعام فوائدُ كثيرةٌ، منها أنَّه يُبارَك له في طعامه، ففي سنن أبي داود وابن ماجه وغيرهما عن وَحشي بن حرب بن وحشي، عن أبيه، عن جدِّه رضي الله عنه: " أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَأْكُلُ وَلاَ نَشْبَعُ قَالَ: فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ"2. ومن فوائد التسمية على الطعام طردُ الشيطان وإبعادُه، فلا يتمكَّن من مشاركة الإنسان في طعامه، ففي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: "كُنَّا إِذا حَضَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَاماً لَمْ نَضَعْ أَيْدِينَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَضَعَ يَدَهُ، وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ مَرَّةً طَعَاماً فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا تُدْفَعُ، فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهَا، ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لاَ

_ 1 صحيح البخاري (رقم:5376) ، وصحيح مسلم (رقم:2022) . 2 سنن أبي داود (رقم:3764) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3286) .

يُذْكَرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهَذَا الأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ يَدَهِ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا"1. وثبت في حديث آخر أنَّ الشيطانَ يقول عندما يترك المسلمُ التسمية عند دخول بيته وعند طعامه: "أدركتم المبيت والعَشاء"، وفي هذا أنَّ التسميةَ طاردةٌ للشيطان، مانعةٌ له من دخول المنْزل، ومن المشاركةِ في الطعام والشراب، ويكفي المسلمَ أن يقول في هذا الموضع "بسم الله" أمَّا زيادة "الرحمن الرحيم" فلَم يثبت بها حديثٌ عن النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم. ثمَّ إنَّ المسلمَ إن نسيَ التسميةَ في أوَّل طعامه يُشرَعُ له أن يقول في أثنائه إذا ذكر "بسم الله أوَّلَه وآخرَه"، فقد روى أبو داود وابن ماجه وغيرُهما عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ"2. وقد أفاد هذا الحديثُ أنَّ محلَّ التسمية قبل البدء بالطعام، فإنَّ نسيها المسلمُ في هذا الموضع أجزأه أن يأتي بالتسمية في أثنائه بهذه الصيغة المذكورة في الحديث. وقد جاء في حديث في إسناده ضعفٌ أنَّ الشيطان يستقيء ما في بطنه إذا أتى المسلمُ بهذه التسمية، وذلك فيما رواه أبو داود والنسائي عن أميَّة بن

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2017) . 2 سنن أبي داود (رقم:3767) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3264) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:380) .

مخْشيٍّ رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ورجلٌ يأكل، فلَم يُسمِّ حتى لَم يبقَ من طعامه إلاَّ لُقمةً، فلمَّا رفعها إلى فيه قال: بسم الله أوَّلَه وآخرَه، فضحك النَبِيّ، ثمَّ قال: ما زال الشيطانُ يأكلُ معه، فلمَّا ذكر اسمَ الله استقاءَ ما في بطنه"1، لكنَّ الحديثَ ضعيفٌ، ضعَّفه الحافظ ابن حجر وغيرُه، وأمَّا التسمية في أثناء الطعام في حقِّ مَن نسيَ بقول "بسم الله أوَّلَه وآخرَه" فهي ثابتةٌ كما في الحديث الذي قبله. ثمَّ على المسلم أن يَحمدَ الله عزَّ وجلَّ إذا فرغ من طعامه وشربه، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يرضى عن عبده إذا فعل ذلك، روى مسلمٌ في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا"2. وقد جاء في السُّنَّة صيَغٌ عديدة للحمد بعد الطعام، فإن تمكَّن المسلمُ من حفظها والإتيان بها هذا مرَّة وهذا مرَّة، فهو لا شكَّ أكملُ في حقِّه وأبلغُ في متابعته لنبيِّه صلى الله عليه وسلم، وإن لَم يتمكَّن من ذلك فلا يَدَع أن يقول عقِب طعامه: "الحمد لله"، فهي كلمةٌ عظيمةٌ مبارَكةٌ حبيبةٌ إلى الله عزَّ وجلَّ. ومن الصِيَغ الثابتة في الحمد بعد الطعام ما رواه أبو داود والترمذي عن معاذ بن أنس رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَكَلَ طَعَاماً ثُمَّ قَالَ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلاَ قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"3.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:3768) ، وانظر: إرواء الغليل (7/26) . 2 صحيح مسلم (رقم:2734) . 3 سنن أبي داود (رقم:4023) ، وسنن الترمذي (رقم:3458) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:6086) .

ومنها ما رواه البخاري عن أبي أمامة رضي الله عنه: "أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ: الحَمْدُ للهِ كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ، غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلاَ مُوَدَّعٍ وَلاَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا"1. ومعنى قوله: "غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلاَ مُوَدَّعٍ وَلاَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ" أي: الحمد، فكأنَّه قال: حمداً كثيراً غير مَكفيٍّ ولا مُودَّع، ولا مُستغنًى عن هذا الحمد. ومن الصِّيَغ الواردة في هذا ما رواه أحمد وغيرُه عن عبد الرحمن بن جُبير أنَّه حدَّثه رجلٌ خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، أنَّه كان سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قُرِّب إليه الطعامُ يقول: "بسم الله"، وإذا فرغ قال: "اللَّهمَّ أطعمتَ وأسقيتَ، وأغنيتَ وأقنيتَ، وهَديتَ وأحييتَ، فلكَ الحمد على ما أعطيتَ"2. ويُستحبُّ للمسلم إذا تناول طعامَ الإفطار من صيامه أن يقول: "ذهب الظمأُ وابتلَّت العروق وثبت الأجر إن شاء الله"؛ لِما رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا أَفْطَرَ قَالَ: ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتِ العُرُوقُ، وَثَبَتَ الأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللهُ"3. وقد جاءت السُّنَّة بأنواع من الأدعية يُدعى بها لأهل الطعام، فيُستحبُّ للمسلم أن يحفظَ ما تيسَّر له من ذلك، وأن يقوله لِمَن ضيَّفه أو قدَّم له طعاماً. ومن هذه الأدعية ما رواه مسلم في صحيحه عن المقداد رضي الله عنه قال:

_ 1 صحيح البخاري (رقم:5458) . 2 المسند (4/62) ، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4768) . 3 سنن أبي داود (رقم:2357) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4678) .

"أَقْبَلْتُ أَنَا وَصَاحِبَانِ لِي، وَقَدْ ذَهَبَتْ أَسْمَاعُنَا وَأَبْصَارُنَا مَنَ الجَهْدِ، فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ... "، فَذَكَرَ الحَدِيثَ بِطُولِهِ، وفيه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِي وَاسْقِ مَنْ سَقَانِي"1. ومنها ما رواه مسلم أيضاً عن عبد الله بن بُسر رضي الله عنه قال: "نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي، قَالَ: فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ طَعَاماً وَوَطْبَةً [أي حيساً، وهو مكوَّن من التمر والأَقِط والسَّمن] ، فَأَكَلَ مِنْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِتَمْرٍ فَكَانَ يَأْكُلُهُ وَيُلْقِي النَّوَى بَيْنَ إِصْبِعَيْهِ وَيَجْمَعُ السَّبَابَةَ وَالوُسْطَى، ثُمَّ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ، قَالَ: فَقَالَ أَبِي وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ: ادْعُ اللهَ لَنَا. فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مَا رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ"2. ومنها ما رواه أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ إِلَى سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ، فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ المَلاَئِكَةُ"3. وكم هو جميلٌ بالمسلم أن يراعي في الطعام آدابه وأذكاره؛ ليكون ذلك أبرَكَ له في طعامه وأهنأ وأمرأَ.

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2055) . 2 صحيح مسلم (رقم:2042) . 3 سنن أبي داود (رقم:3854) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:3263) .

ما ورد في السلام

170 / مَا وَرَدَ فِي السَّلاَمِ إنَّ من آداب الإسلام الحميدة وخصالِه الرشيدة إفشاءَ السلام، فإنَّ السلامَ تحيَّةُ المؤمنين، وشعارُ الموحِّدين، وداعيةُ الإخاء والأُلفة والمحبَّة بين المسلمين، وهو تحيَّةٌ مبارَكةٌ طيِّبةٌ، كما وصفه بذلك ربُّ العالمين، وذلك في قوله سبحانه {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} 1، وهو تحيَّة أهل الجنَّة يحيِّيهم بها الملائكة الكرام، وذلك عندما يُساق أهل الجنَّة إلى الجنَّة زُمَراً، وتفتح لهم أبوابها الثمانية، فيتلقَّاهم خزنتُها بهذه التحيَّة {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} 2، وهو تحيَّة أهل الجنَّة بينهم، كما قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} 3، وهو تحيَّة الملائكة، وتحيَّة آدم وذريته. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ؛ طُولُهُ سِتًّونَ ذِرَاعاً، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَفَرِ مِنَ المَلاَئِكَةِ جُلُوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذرِيَّتِكَ. فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ"4.

_ 1 سورة النور، الآية: (61) . 2 سورة الزمر، الآية: (73) . 3 سورة إبراهيم، الآية: (23) . 4 صحيح البخاري (رقم:6227) ، وصحيح مسلم (رقم:2841) .

رومن فضائل السلام أنَّه من خير الإسلام، ففي الصحيحين عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما: "أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ قَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ "1. وهو حقٌّ للمسلم على أخيه المسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "حقُّ المسلم على المسلم ست"، وذكر منها: "وإذا لقيتَه فسلِّم عليه"2. وهو سببٌ عظيمٌ للأُلفة بين المسلمين والمحبَّة بين المؤمنين، كما قال صلى الله عليه وسلم: " لاَ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؛ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ" رواه مسلم3. والمَحبَّة الحاصلةُ هنا سببُها أنَّ كلَّ واحد من المتلاقيَين يدعو للآخَر بالسلامة من الشرور، وبالرحمة الجالبة لكلِّ خير، ولهذا ثبت في المسند وغيره عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " أفشوا السلام تسلموا "4 أي: تسلموا من كلِّ موجِب للفُرقة والقطيعة، وكيف إذا انضمَّ إلى هذا بشاشةُ الوجه وحُسنُ الترحيب وجمالُ الأخلاق. وعلى المُسلَّمِ عليه ردُّ التحيَّة بأحسن منها أو مثلها؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} 5. وخيرُ الرَّجلَين مَن يبدأُ صاحبَه بالسَّلام، ففي سنن أبي داود عن أبي

_ 1 صحيح البخاري (رقم:28) ، وصحيح مسلم (رقم:39) . 2 سبق تخريجه. 3 صحيح مسلم (رقم:54) . 4 المسند (4/286) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (رقم:1087) . 5 سورة: النساء، الآية (86) .

أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلاَمِ" 1. وإذا لَم يُسلِّم مَن يُطلبُ منه ابتداءُ السلام فليُسلِّم الآخر ولا يتركوا السنَّة. ومن السُّنَّة أن يُسلِّم الصغيرُ على الكبير، والقليلُ على الكثير، والراكب على الماشي، والماشي على القاعد، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُسلِّمُ الرَّاكبُ على الماشِي، والماشي على القاعد، والقليلُ على الكثير"، وفي رواية للبخاري: "يُسلِّمُ الصغير على الكبير، والمارُّ على القاعد، والقليلُ على الكثير"2. وكان صلى الله عليه وسلم يُسلِّم على الصبيان ويبدأهم بالسَّلام، وهذا من كمال تواضعه، وهو دأبُ السَّلف الصالح رحمهم الله، روى مسلمٌ في صحيحه عن يسار قال: "كنتُ أمشِِي مع ثابت البُناني، فمرَّ بصبيان فسلَّم عليهم، وحدَّث ثابتٌ أنَّه كان يَمشي مع أنس رضي الله عنه، فمَرَّ بصبيان فسلَّم عليهم، وحدَّث أنسٌ أنَّه كان يَمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمَرَّ بصبيان فسلَّم عليهم"3. ثمَّ إنَّ ابتداءَ السلام سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ؛ فإن كان المسلِّمُ جماعةً كفى عنهم واحد، ولو سلَّموا جميعاً كان أفضلَ، ورفعُ الصوت بابتداء السَّلام سُنَّةٌ ليَسمعه المسلَّمُ عليهم كلُّهم سماعاً محقَّقاً لحديث "أفشوا السَّلام بينكم".

_ 1 سنن أبي داود (رقم:5197) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:2703) . 2 صحيح البخاري (رقم:6232، 6234) ، وصحيح مسلم (رقم:2160) . 3 صحيح مسلم (رقم:2168) .

وإن سلَّمَ على أيقاظ ونيام خفضَ صوتَه بحيث يُسمع الأيقاظَ ولا يوقظ النيامَ، وهذا أدبٌ إسلاميٌّ رفيعٌ، وقد كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يجئُ من اللَّيل فيُسلِّم تسليماً لا يُوقظ نائماً، ويسمع اليقظان. رواه مسلم في صحيحه ضمن حديث طويل1. ويُسَنُّ أن يَبدأ بالسَّلام قبل الكلام لحديث "مَن بدَأَ بالكَلام قَبل السَّلام فلا تُجيبوه" رواه ابن السنٍِي في عمل اليوم والليلة2. وكلما زاد المسلم من صيغ السلام المأثورة زاد أجرُه؛ بكلِّ واحدة عشرُ حسنات، روى أبو داود والترمذي عن عمران بن حصين رضي الله عنه: " أنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ: عَشْرٌ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ: عِشُرُونَ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ: ثَلاَثُونَ "3. ولا يزيد المسلمُ على هذا كأن يقول: "ومغفرته ومرضاته"؛ لأنَّ السَّلامَ المسنون انتهى إلى "وبركاته"، ولو كان في الزيادة خيرٌ لدلَّنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى مالك في الموطأ عن محمد بن عمرو بن عطاء أنَّه قال: "كنتُ جالساً عند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فدخل عليه رجلٌ من أهل اليمن، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم زاد شيئاً مع ذلك أيضاً،

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2055) . 2 عمل اليوم والليلة (رقم:210) ، وحسَّنه الألباني في الصحيحة (رقم:816) . 3 سنن أبي داود (رقم:5195) ، وسنن الترمذي (رقم:2689) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:2710) .

قال ابن عباس، وهو يومئذ قد ذهب بصرُه: من هذا قالوا: هذا اليمانيُّ الذي يغشاك، فعرَّفوه إيَّاه، فقال ابن عباس: إنَّ السَّلامَ انتهى إلى البَرَكَة"1. ومن أحكام السلام أن لا يُقْصَر على المعرفة، بل يُسلِّمُ المسلمُ على مَن عرف ومن لَم يعرف، وقد مرَّ معنا حديثُ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في هذا، وجاء في السُّنَّة أنَّ من أشراط الساعة قصْرَ السلام على المعرفة، ففي المسند بسند جيِّد عن الأسود بن يزيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من أشراطِ السَّاعة إذا كانت التَّحيَّةُ على المعرفة"2، وفي رواية: "أن يُسلِّمَ الرَّجل على الرَّجل لا يُسلِّمُ عليه إلاَّ للمعرفة". ومن أحكام السلام ألاَّ يُبدَأ اليهودُ والنصارى بالسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبدَؤُوا اليهود ولا النصارى بالسَّلام" 3، وإذا بدؤوا هم بالسلام فإنَّه يُكتفى بالردِّ عليهم بأن يُقال "وعليكم" لِمَا في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا سَلَّمَ عَليكم أهلُ الكتاب فإنَّما يقولُ أحدُهم السَّامُ عليكم، فقل: وعَلَيكم"4. وأمَّا أهلُ البدع والأهواء ففي حُكم السلام عليهم تفصيلٌ يُعلم بمطالعة الأدلة ومعرفة هدي سلف الأمَّة رحمهم الله، فإذا كان المبتدعُ كافراً ببدعته وحكم المحقِّقون من أهل العلم بخروجه من الملَّة، فإنَّه لا يُسلَّمُ عليه؛ إذ حكمُ السلام عليه كحكم السلام على الكفار سواء.

_ 1 موطأ مالك (رقم:2758) . 2 المسند (1/387) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (رقم:648) . 3 صحيح مسلم (رقم:2167) . 4 صحيح البخاري (رقم:6257) ، وصحيح مسلم (رقم:2164) .

أمَّا إذا لَم يبلغ ببدعته حدَّ الكفر، فالسلامُ عليه جائزٌ ابتداءً وردًّا ما دام أنَّ الإسلامَ وهو موجبُ استحقاقه للسلام موجودٌ فيه، وهكذا الشأن في العُصاة من أهل الإسلام. وإنَّما يُشرع تركُ السلام على هؤلاء في بعض الأحوال إذا كان في تركه تحصيلُ مصلحة راجحة أو دفع مفسدةٍ متحقَّقة، كأن يَترك السلام عليهم تأديباً لهم أو زَجراً لغيرهم، أو صيانة لنفسه من التأثُّر بهم أو غير ذلك من المقاصد الشرعية. وأمَّا التهاجرُ والتقاطعُ وتركُ السلام بلا سبب شرعيٍّ فهو أمر لا يُحبُّه الله من عباده، ونسأل الله أن يجمع المسلمين على الحقِّ والهدى، وأن يُؤلِّفَ بين قلوبهم على البِرِّ والتقوى، وأن يهدينا جميعاً سواءَ السبيل.

ما يقال عند العطاس , ومايفعل عند التثاؤب

171 / مَا يُقَالُ عِنْدَ العُطَاسِ، وما يُفعل عند التثاؤب الحديث هنا عِمَّا يُقال عند العُطاس وما يُفعل عند التثاؤب، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ العُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ، وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذا قَالَ: هَاء، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ"1. والحكمةُ في الحمد عند العُطاس أنَّ العاطس ـ كما يقول ابن القيِّم ـ: قد حصل له بالعطاس نعمةٌ ومنفعةٌ بخروج الأبخرة المحتقنة في دِماغه، التي لو بقيتْ فيه أحدثت له أدواءً عسيرةً، ولهذا شُرع له حمدُ الله على هذه النِّعمة مع بقاء أعضائه على التئامها وهيئتها بعد هذه الزلزلة التي حصلت للبدن، فلله الحمدُ كما ينبغي لكريم وجهه وعزّ جلالُه2. وقد تقدَّم في الحديث أنَّ اللهَ يُحبُّ العطاسَ وذلك لما فيه من النَّفع والخيرِ للإنسان ولِما يترتَّبُ عليه من حمدٍ وثناءٍ ودعاءٍ. وأمَّا التثاؤُبُ فإنَّ اللهَ لا يحبُّه لأنَّه من الشيطان ولأنَّه في الغالب لا يكون إلاَّ مع ثِقل البدن وامتلائه واسترخائه وميله إلى الكسل، والمسلمُ مأمورٌ بكظمه ما استطاع، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "التَّثاؤُب من الشَّيْطان، فإذا تَثَاءَبَ أحدُكم فلْيَرُدَّه ما استطَاعَ، فإنَّ أحدَكم إذا قال: ها، ضَحِكَ منه الشيطان" وفي لفظ لمسلم: "فإذا تَثاءَبَ

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6223) . 2 انظر: زاد المعاد (2/438 ـ 439) .

أحدُكم فَلْيَكْظِِمْ ما اسْتَطَاع"1. وقولُه: "فليكظِم ما استطاع" هذا يكون بمحاولة منع حصولُ التثاؤب، فإن لَم يتمكَّن من ذلك يحاول إغلاقَ فمه عند حصوله، فإن لَم يتمكَّن من ذلك وضع يده أو طرف لباسه على فمه. ولا يليقُ بالمسلم أن يتثاءب مفتوحَ الفم دون وضع يدِه أو شيءٍ من لباسِه على فيه، فإنَّ هذا إضافةٌ إلى ما فيه من قبحٍ في الهيئة والمنظر فإنَّه ذريعةٌ وسبيلٌ لدخول الشيطان. فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تَثَاءَبَ أحدُكم فليُمْسِك بيَده على فِيهِ، فإنَّ الشيطانَ يَدْخُلُ"2، والتعوُّذ بالله من الشيطان عند التثاؤُب لَم يثبت فيه دليلٌ، لكن إن تذكَّر المسلم عند التثاؤُب أنَّ ذلك من الشيطان وتعوَّذ بالله منه فلا حرج في ذلك ما لَم يتَّخذْه سنَّةً. وأمَّا فيما يتعلَّقُ بالعُطاس فقد جاءت السنَّةُ بجملةٍ من الآداب والأحكام العظيمة التي يحسُن بالمسلم مراعاتُها والعنايةُ بها وهي من جمال هذه الشريعة وكمالها، ووفائها بكلِّ شؤون الإنسان وجميع أحواله. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الحَمْدُ للهِ وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ"3، أَيْ: شَأْنُكُمْ.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:3289) ، وصحيح مسلم (رقم:2994) . 2 صحيح مسلم (رقم:2995) . 3 صحيح البخاري (رقم:6224) .

فانظر أخي المسلم رعاك الله إلى هذا الجمال والكمال الذي دعت إليه الشريعةُ عند العُطاس؛ حمدٌ وثناءٌ وتراحمٌ ودعاءٌ، العاطسُ يحمَد اللهَ، ومَن يسمعه يدعو له بالرحمة، ثم هو يُبادل الدعاءَ بالدعاء، فيدعو لِمَن شَمَّته بالهداية وصلاح الحال، فما أقواها من لُحمة، وما أجمله من ترابط ووصال. بل جعل الإسلامُ تشميتَ العاطس حقًّا من الحقوق المتبادلة بين المسلمين، ففي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لقيتَه فسَلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس وحمد اللهَ فشَمِّته، وإذا مرض فعُده، وإذا مات فاتَّبعه"1. والتشميتُ هو الدعاءُ بالخير، قيل: هو مشتقٌّ من الشوامت وهي القوائم، كأنَّه دعا له بالثبات والقيام بالطاعة، وقيل: معناه أبعدَك الله عن الشماتة، وجنَّبك ما يشمت عليك به. ثمَّ إنَّ هذا التشميت إنَّما يستحقُّه مَن يحمَد اللهَ عند العُطاس، وأمَّا من لَم يحمد فإنَّه لا يُشَمَّت، ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: "عَطَسَ عند النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رجلان، فشمَّت أحدَهما ولَم يُشمِّت الآخَر، فقال الذي لَم يُشمِّته: عَطسَ فلانٌ فشَمَّتَه، وعطستُ أنا فلَم تُشَمِّتْنِِي، فقال: إنَّ هذا حَمِِدَ اللهَ، وإنَّكَ لَم تَحْمَد الله"2. وروى مسلم عن أبي بُردة قال: دخلتُ على أبي موسى الأشعريِّ، وهو في بيت بنت الفضل بن عباس، فعطستُ فلم يُشَمِّتنِي، وعطستْ فشمتَّها، فرجعتُ

_ 1 سبق تخريجه. 2 صحيح البخاري (رقم:6225) ، وصحيح مسلم (رقم:2991) .

إلى أمِّي فأخبرتُها، فلمَّا جاءها قالت: عطس عندك ابنِي فلم تشمِّته، وعطستْ فشمَّتها، فقال: إنَّ ابنَك عطس، فلَم يحمد الله فلم أشمِّته، وعطستْ فحمدَت الله فشمَّتُها، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ فَلاَ تُشَمِّتُوهُ"1. والتشميتُ ثلاثُ مرَّات، وما زاد فهو زُكامٌ يُدعى لصاحبه بالشِّفاء والعافية، روى مسلمٌ في صحيحه عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنَّه سمع النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وعَطس رجلٌ عنده، فقال له: "يَرحَمُك الله"، ثمَّ عطس أخرى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرَّجلُ مزكومٌ"2، ورواه الترمذي وفيه: ثمَّ عطس الثانية والثالثةَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا رَجلٌ مزكومٌ"3. وروى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً وموقوفاً: "شَمٍِّت أخاك ثلاثاً ثلاثاً، فما زاد فهو زُكام" 4. قال ابن القيم رحمه الله: "وقوله في هذا الحديث: "الرَّجل مزكوم" تنبيهٌ على الدعاء له بالعافية؛ لأنَّ الزَّكْمَةَ علةٌ، وفيه اعتذارٌ من ترك تشميته بعد الثلاث، وفيه تنبيهٌ له على هذه العلَّة ليتداركها ولا يُهملها فيصعب أمرُها، فكلامه صلى الله عليه وسلم كلُّه حكمةٌ ورحمةٌ وعلمٌ وهُدى"5. ومن السُّنَّة خَفْضُ الصوتِ بالعطاس حتى لا يزعج الناسَ، روى أبو

_ 1 صحيح مسلم (رقم:2992) . 2 صحيح مسلم (رقم:2993) . 3 سنن الترمذي (رقم:2743) . 4 سنن أبي داود (رقم:5034) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في السلسلة الصحيحة (رقم:1330) . 5 زاد المعاد (2/441) .

داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس وَضَعَ يدَه أو ثوبَه على فيه، وخَفَضَ أو غَضَّ بِهَا صَوتَه"1. ثمَّ إنَّ العاطسَ والمشمِّتَ عليهم أن يلتزمَا في ذلك بما جاء في السنَّة، والسُّنَّة أن يقول العاطس "الحمد لله"، وله أن يقول: "الحمد لله على كلِّ حال"؛ لثبوت هذه الزيادة في سنن أبي داود، وأن يقول المشمِّت: "يرحمك الله"، وأن يقول له العاطسُ بعد تشميته: "يهديكم الله ويصلحُ بالَكم"، وقد تقدَّم حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه في هذا. وللعاطس أن يقول بدل هذا: "يرحمنا الله وإيَّاك ويغفر لنا ولكم"؛ لِمَا رواه مالك في موطئه عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: "كانَ إذا عطس فقيل: يَرحَمُك الله، قال: يَرْحَمُنا الله وإيَّاكم، ويغفرُ لنا ولكم"2. وقد أنكر السَّلفُ رحمهم الله مَن يزيد على هذا المأثور، فقد روى الترمذي في سننه أنَّ رجلاً عطس عند ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: الحمد لله والسلام على رسول الله، فقال ابن عمر: وأنا أقول: "الحمد لله، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هكذا علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن علَّمنا أن نقول: الحمد لله على كلِّ حال"3. وفي هذا حرصُ السلف رحمهم الله على لزوم السُّنَّة واقتفاء هدي وآثار خير الأمَّة، ألحقنا الله بهم ووفَّقنا لاتِّباعهم.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:5029) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4755) . 2 الموطأ (رقم:2770) . 3 سنن الترمذي (رقم:2738) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترمذي (رقم:2200) .

أذكار النكاح والتهنئه به والدخول بالزوجة , والذكر المتعلق با لأبناء

أذكار النكاح والتهنئه به والدخول بالزوجة , والذكر المتعلق با لأبناء ... 172 / ذِكْرُ النِّكَاحِ وَالتَّهْنِئَةِ بِهِ وَالدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ، والذِّكر المتعلِّق بالأبناء النكاحُ مِنَّةٌ من الله عظيمةٌ على عباده، يتحقَّق به من المنافع والمصالح والفوائد ما لا يُعدُّ ولا يُحصَى، وهو من سُنن الأنبياء والمرسلين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} 1. وقد ذكره الله تعالى في معرض التفضُّل والامتنان في آيات عديدة من القرآن، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} 2، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 3. والقرآن الكريمُ فيه آياتٌ عديدةٌ فيها الأمرُ بالنكاح، والترغيبُ فيه، وبيانُ آثاره وثماره، وبيانُ الحقوق المتعلِّقة به، كحُسن العشرة، والصُّحبةِ بالمعروف، وكفِّ الأذى، ونحوِ ذلك من الضوابط والحقوق، مِمَّا يُحقِّقُ للزوجَين حياةً طيِّبةً وعِشرةً صالِحة. وقد جاء في السُّنَّة النَّبوية أذكارٌ نافعةٌ تتعلَّق بعقد النكاح، وبالتهنئة به للزوجين، وعند الدخول بالزوجة، وعند الجماع؛ يترتَّبُ على المحافظة عليها والعناية بها فوائدُ عديدةٌ، وآثارٌ مباركةٌ تعود على الزوجين في حياتهما الزوجية بالخير والنَّفع والبركة.

_ 1 سورة: الرعد، الآية (38) . 2 سورة: النحل، الآية (72) . 3 سورة: الروم، الآية (21) .

فأمَّا الذِّكرُ عند عقد النكاح، فقد روى أبو داود والترمذي وغيرُهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةَ الحَاجَةِ؛ الحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، {يََا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} 1. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2. {َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (3") 4. وهي خطبةٌ عظيمةٌ وذكرٌ مبارَكٌ يُستحبُّ الإتيانُ به عند عقد النكاح، وهو مشتملٌ على معان عظيمةٍ ودلالاتٍ جليلة، ففيه حمدُ الله والاستعانةُ به وحده، وطلبُ مغفرته، والتعوُّذ به من شرور النفس وسيِّئات الأعمال، والإيمانُ بقضائه وقدَره، والشهادةُ له سبحانه بالوحدانية ولنبيِّه بالرسالة، مع الوصيَّة بتقوى الله عزَّ وجلَّ وتذكُّر فضله ونعمته ولزوم طاعته سبحانه، فهي من جوامع الكلم. قال شيخ الإٌسلام ابن تيمية رحمه الله: "فهذه الخطبةُ عقدُ نظام الإسلام والإيمان"5.

_ 1 سورة: النساء، الآية (1) . 2 سورة: آل عمران، الآية (102) . 3 سورة: الأحزاب، الآيتان (70 ـ 71) . 4 سنن أبي داود (رقم:2118) ، وسنن الترمذي (رقم:1105) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في كتابه: خطبة الحاجة. 5 مجموع الفتاوى (14/223) .

أي: أنَّها جمعت مع وَجازتِها ما ينتظمُ به أمرُ الإسلام والإيمان من الاعتقادات الصحيحة القويمة، والأعمال الصالحة المستقيمة. ومِمَّا يُنبَّه عليه في هذا المقام أنَّه لَم يرد دليلٌ على مشروعيَّة قراءة الفاتحة عند العقد، خلافاً لِمَا يفعله كثيرٌ من عوام المسلمين. وأمَّا التهنئةُ للزوجين بالنكاح، فقد جاءت السٌُّنَّة بأن يُدعى لهما بالبركة، وأن يجمع الله بينهما في خير. ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا قال: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: فَبَارَكَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ "1. وروى الترمذي وأبو داود وغيرُهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا رَفَّأَ الإِنْسَانَ إِذا تَزَوَّجَ قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ"2. وقوله: "إذا رفَّأ الإنسان إذا تزوَّج" أي: إذا هنَّأه ودعا له بمناسبة زواجه، وكان الناسُ في الجاهليَّة يقولون للمتزوِّج: "بالرَّفاء والبنين"، فنهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقولهم: "بالبنين" يتوافق مع ما جرت عليه عادتُهم من الكراهية للإناث والتنفير منهنَّ، وعدم الرَّغبة في مجيئهنَّ، وفي قولهم هذا تأكيدٌ لهذه الكراهة والبغضاء، فنهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأرشدَ إلى هذه الدعوة المباركة المشتملة على الدعاء لهما بالبركة، وأن يجمع الله بينهما في خير.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:5155) ، وصحيح مسلم (رقم:1427) . 2 سنن أبي داود (رقم:2130) ، وسنن الترمذي (رقم:1091) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4729) .

وأمَّا ما يقوله الزوجُ إذا دخل على زوجته ليلة الزَّفاف، فقد روى أبو داود وابن ماجه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً أَوْ اشْتَرَى خَادِماً فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوذ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا اشْتَرَى بَعِيراً فَلْيَأْخُذْ بِذِرْوَةِ سَنَامِهِ وَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ"1. وقوله: "اللَّهمَّ إنِّي أسألك خيرَها" أي: خيرَ هذه المرأة كحسن المعاشرة وحفظ الفراش والأمانة في المال ورعاية حقِّ الزوج، ونحو ذلك. وقوله: "وخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عليه" أي: خيرَ ما خلقتها عليه من الأخلاق الحسنة والطِّباع المرضيَّة والسجايا الكريمة. وقوله: "وأعوذ بك من شرِّها وشرِّ ما جبلتها عليه" فيه التعوُّذ بالله والالتجاء إليه، بأن يَقيَه ويسلمه مِمَّا فيها من شرِّ في خُلُقها وتعاملها ومعاشرتها وسجاياها. وهذا فيه دلالةٌ على أنَّ صلاحَ أمر الزوجين والتئامَ شملهما لا يتحقَّق إلاَّ بالالتجاء إلى الله، والاعتماد عليه، وسؤاله وحده العونَ والتوفيقَ والصلاحَ. وأمَّا ما يقوله إذا أراد أن يأتي أهلَه، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهَ قَالَ: بِاسِمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذلِكَ لَمْ

_ 1 سنن أبي داود (رقم:2160) ، وسنن ابن ماجه (رقم:1918) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح ابن ماجه (رقم:1557) .

يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَداً"1. والحكمةُ في ذلك أنَّ الشيطانَ له مشارَكةٌ في الأموال والأولاد، كما في قوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} 2، فإذا دعا المسلمُ بهذه الدعوة سلمَ من هذه المشاركة ووُقي من شرِّه. وقد جاء في السُّنَّة كذلك تعويذ الأبناء للحفظ من الشيطان، ففي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذ الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ وَيَقُولُ: إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ؛ أَعُوذ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ"3. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلَّق بالأبناء الدعاءُ لهم بالبركة، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أسماء رضي الله عنها: " أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنِهَا عَبْد اللهِ ابنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ حَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، ثُمَّ دَعَا لَهُ وَبَرَّك عَلَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الإِسْلاَمِ "4. أي: أَوَّل مَولُودٍ وُلِد بالمدينَة مِن المُهَاجِرِينَ.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:5165) ، وصحيح مسلم (رقم:1434) . 2 سورة: الإسراء، الآية (64) . 3 صحيح البخاري (رقم:3371) . 4 صحيح البخاري (رقم:3909) ، وصحيح مسلم (رقم:2146) .

ما يقال عند الغضب

173 / مَا يُقَالُ عِنْدَ الغَضَبِ الغضبُ من الخصال الذَّميمة والخلال المشينة التي نهى عنها الإسلامُ وحذَّر منها أشدَّ التحذير، وهو غَلَيانُ دم القلب وازدياد خفقانه، طلباً لدفع المؤذي عند خشية وقوعه، أو طلباً للانتقام مِمَّن يحصل منه الأذى بعد وقوعه، وينشأ عن ذلك كثيرٌ من الأفعال المحرَّمة كالقتل والضَّرب وأنواع الظلم والعُدوان، وكثيرٌ من الأقوال المحرَّمة كالقذف والسبِّ والفُحش والبذاء، وكالأَيْمان التي لا يجوز التزامها شرعاً، وكتطليق الزوجة، ونحو ذلك من الأمور التي لا تُعقِبُ إلاَّ النَّدم، مِمَّا يدلُّ أوضح دلالة على أنَّ الغضبَ جماعُ الشرِّ ومفتاحُ أبوابه. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: " أنَّ رجلاً قال للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أوصِنِي، قال: لا تَغْضَبْ، فردَّد مراراً قال: لا تَغْضَبْ"1. فهذا الرَّجل قد طلب من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أن يوصيَه بوصيَّة وَجيزة جامعة لخصال الخير ليَحفظها ويعملَ بها، فوصَّاه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أن لا يغضب، وردَّد السؤالَ مراراً والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يجيبُه بقوله: "لا تغضب"، وفي هذا دلالة على أنَّ الغضبَ جماعُ الشرِّ ومفتاحُه، وأنَّ التحرُّزَ منه جماعُ الخير. وفي المسند للإمام أحمد من حديث الزهري، عن حُميد بن عبد الرحمن، عن رجل من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يا رسول الله أوصِنِي. قال: "لا تَغْضَبْ"، قال الرَّجلُ: "ففكَّرتُ حين قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا

_ 1 صحيح البخاري (رقم:6116) .

الغضبُ يَجمعُ الشرَّ كلَّه"1. وقد جاء عن السلف رحمهم الله نقولٌ عديدةٌ في التحذير من الغضب وبيان نتائجه وعواقبه الوخيمة، يقول جعفر بن محمد رحمه الله: "الغضبُ مفتاحُ كلِّ شرٍّ". وقيل لعبد الله بن المبارك رحمه الله: اجمع لنا حسن الخُلق في كلمة، فقال: "تركُ الغضب". وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "قد أفلح من عُصِم من الهوى والغضب والطَّمَع". وكان يُقال: "أوَّلُ الغضب جُنونٌ وآخرُه ندمٌ"، ويُقال: "عدوُّ العقل الغضب"، ويُقال أيضاً: "كلُّ العَطَب في الغضب". ولَمَّا كان الغضبُ بهذا القدر من الخطورة كان متعيَّناً على كلِّ مسلم أن يَحذَرَ منه، وأن يُجاهدَ نفسَه على البُعد عنه؛ ليَسلَم من عواقبه ونتائجه. وقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدِّم: "لا تغضب" يتضمَّنُ أمرَين عظيمَين للسلامة من الغضب ونتائجه. أحدهما: الأمرُ بفعل الأسباب وتمرين النفس على حُسن الخلق والحِلْم والصَّبر واحتمال أذى الناس القولي والفعلي، فإذا وُفِّق العبدُ لذلك فإنَّه إذا ورد عليه واردُ الغضب احتمله بحسن خُلُقه، وتلقَّاه بحِلْمه وصبره. ومن القواعد المتقرَّرة أنَّ الأمرَ بالشيء أمرٌ به وبما لا يتمُّ إلاَّ به، والنَّهي عن الشيء أمرٌ بضدِّه، فنهيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عن الغضب يتضمَّن الأمرَ بالصَّبر والحِلم وحسن الخُلُق.

_ 1 المسند (5/573) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:2746) .

ثانياً: أنَّ أمرَه صلى الله عليه وسلم بعدم الغضب فيه أمرٌ بعدم تنفيذ الغضب؛ لأنَّ الغضبَ غالباً لا يتمكَّن الإنسانُ من دفعه وردِّه، ولكنَّه يتمكَّن من عدم تنفيذه، فعليه أن يَمنعَ نفسَه من الأقوال والأفعال المحرَّمة التي يجرُّ الغضبُ إليها، فمتى منع نفسَه من آثار الغضب الضارَّة، فكأنَّه في الحقيقة لَم يغضب، قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} 1، وفي الحديث: " ليس الشَّديد بالصرعة، إنَّما الشَّديد من يملك نفسه عند الغضب"2. ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوَجَّه ويأمرُ مَن غضب بفعل الأسباب التي تدفعُ الغضبَ وتسكنه، ويأمرُ بالتعوُّذ بالله من الشيطان الذي يُحرِّك الغضبَ في القلوب، ويُثير الفتنَ ويدعو إلى الشرِّ والفساد. روى البخاري ومسلم عن سُليمان بن صُرَد رضي الله عنه قال: "اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَباً قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: ألاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ"3. وفي الحديث دلالةٌ على أنَّ الغضبَ من نزغ الشيطان، وأنَّ مَن حصل له الغضبُ ينبغي له أن يستعيذ بالله منه، كما يدلُّ على ذلك قول الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 4.

_ 1 سورة: الشورى، الآية (37) . 2 صحيح البخاري (رقم:6114) ، وصحيح مسلم (رقم:2609) . 3 صحيح البخاري (رقم:6115) ، وصحيح مسلم (رقم:2610) . 4 سورة: الأعراف، الآية (200) .

ثمَّ إنَّ الشيطانَ أعاذنا الله منه يتمكَّنُ من الإنسان حالَ غضبه، فيدفعه إلى ارتكاب الآثام، ويأزُّه إلى السبِّ والأذى والإجرام، فإذا استعاذ المسلمُ بالله حُفظ منه ووُقي من شرِّه. ومِمَّا أرشد النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الغضبانَ إلى فعله التباعدَ عن كلِّ ما يستثيرُه ويُقربه من الانتقام، سواءً بالقول أم الفعل. فأمَّا القولُ فقد روى الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إذا غَضِبَ أحدُكم فليَسْكُت"، قالها ثلاثاً1. وذلك أنَّ الغضبانَ إن تكلَّم حالَ غضبه فإنَّ الغالبَ على كلامه التعدِّي والإساءة، فمن الخير له أن يَكفَّ عن الكلام حال الغضب حتى يسكن، فإذا سكن اتَّزن كلامُه وحسن حديثُه، وكان كلامُه في حال الغضب قريباً أو مساوياً لكلامه حال الرِّضا ليس فيه ظلم ولا عدوان. ومن الدعوات النبوية المباركة قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في دعائه: "وأسألك كلمة الحقِّ في الغضب والرِّضَا"2، وهذا عزيز أن لا يقول الإنسانُ إلاَّ الحقَّ سواء غضبَ أو رضيَ. وأمَّا الفعل فقد روى الإمام أحمد وأبو داود وغيرُهما من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " إذا غضب أحدُكم وهو قائمٌ فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلاَّ فليضطجع"3.

_ 1 المسند (1/239) . 2 جزء من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه، وقد تقدَّم. 3 سنن أبي داود (رقم:4782) ، والمسند (5/152) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:694) .

وذلك أنَّ الغضبانَ إن بقي قائماً حال غضبه فإنَّه سيكون قريباً مِِمَّن أغضبه، متهيِّئاً للانتقام منه، فربَّما ضربه أو لطمه أو اعتدى عليه، فإذا جلس تباعد منه، وإذا اضطجع كان أبعدَ وأبعد. وهذا فيه دلالةٌ على أنَّ الغضبانَ ينبغي عليه أن يحرصَ على أن يملكَ نفسَه حال الغضب في الأقوال والأفعال، فلا يُباشر شيئاً منها حتى يسكن ويطمئنَّ؛ ليكون قولُه حقًّا وفعلُه عدلاً، لا زلل فيه ولا شطَط. والله وحده المسؤول أن يُوفِّقنا وإيَّاكم إلى سديد القول وصالح العمل، وأن يهدينا جميعاً سواء السبيل.

أدعية مأثورة في أبواب متفرقة

174 / أدعية مأثورة في أبواب متفرِّقة سنتناول فيما يلي أنواعاً من الأدعية المأثورة في أبواب متفرِّقة، مع الإشارة إلى شيء من معانيها، وهي تدلُّ على كمال هدي النَّبِِيِّ صلى الله عليه وسلم وعِظم شأن أدعيته، وتناولها لجميع أبواب الخير في جميع شؤون الحياة. فمن السُّنَّة أن يقول مَن لبس ثوباً جديداً: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ، أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ، وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوذ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ، لِما رواه أبو داود والترمذي وغيرُهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اسْتَجَدَّ ثَوْباً سَمَّاهُ بِاسْمِه، عِمَامَةً أَوْ قَمِيصاً أَوْ رِدَاءً، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ، أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ، وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوذ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ"1. وقوله: "اسْتَجَدَّ ثَوْباً"، أَي: لبسَ ثَوْباً جَديداً. وقوله: "أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ، وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ" من أعظم خيره أنَّه يستُر عورةَ الإنسان، ويواري سوءَته، ويجمِّلُ هيأته، ويُحسِّنُ مظهرَه ومنظرَه. وقوله: "وَأَعُوذ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ" من أعظم شرِّه أن يُلبس على وجه الأَشَر والكِبْر والتعالي على الخلق، ومن لَم يزن باطنُهُ لَم تغن عنه زينتُه الظاهرة شيئاً {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} 2.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:4030) ، وسنن الترمذي (رقم:1767) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4664) . 2 سورة: الأعراف، الآية (26) .

ويُستحبُّ للمسلم إذا رأى على صاحبه ثوباً جديداً أن يقول: تُبْلِي وَيُخْلِفُ اللهُ تَعَالَى، فقد روى أبو داود عن أبي نضرة قال: "كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذا لَبِسَ أَحَدُهُمْ ثَوْباً جَدِيداً، قِيلَ لَهُ: تُبْلِي وَيُخْلِفُ اللهُ تَعَالَى"1. وقد جاء نحوُه مرفوعاً من حديث أمِّ خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنها، رواه البخاري في صحيحه2. وقولهم: "تبلي ويُخلف الله" فيه دعاءٌ له بأن يُبقيه الله ويبلَى الثوبُ ويُخلفه الله خيراً منه. ومن السُّنَّة أن يقول المسلم لِمَن صنع إليه معروفاً: جزاك اللهُ خيراً، فإنَّها دعوةٌ عظيمةٌ وثناءٌ بالغ، روى الترمذي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللهُ خَيْراً فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ"3. وكان من هدي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الدعاءُ بالبركة عند رؤية باكورة الثَّمَر، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: "كَانَ النَّاسُ إِذا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاؤُوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا،

_ 1 سنن أبي داود (رقم:4020) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:3393) . 2 صحيح البخاري (رقم:5824) . 3 سنن الترمذي (رقم:2036) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:6368) .

اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، قَالَ: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ لَهُ، فَيُعْطِيَهُ ذَلِكَ الثَّمَرِ"1. ومن السُّنَّة إذا كان عند الإنسان شيءٌ وخاف عليه من العَيْن ذِكرُ الله، والدعاءُ، والاستعاذة. قال الله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} 2. وعن سَهل بن حُنيف، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُعْجِبُهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ فَلْيُبَرِّكْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ العَيْنَ حَقٌّ" رواه أحمد3. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذ مِن الجَانِّ وَعَيْنِ الإِنْسَانِ، حَتَّى نَزَلَت المُعَوِّذَتَانِ، فَلَمَّا نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا" رواه الترمذي وابن ماجه4. وفي الحديث دلالةٌ على عظم شأن هاتين السورَتين، وعظم منفعتهما وشدَّة الحاجة بل الضرورة إليهما، وأنَّه لا يستغني عنهما أحد، وأنَّ لهما تأثيراً خاصًّا في دفع الجانِّ والسِّحر والعَين وسائر الشرور، وقد تضمَّنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلِّها بأوجَز لفظ وأجمعه وأدلِّه على

_ 1 صحيح مسلم (رقم:1373) . 2 سورة: الكهف، الآية (39) . 3 المسند (3/447) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:556) . 4 سنن الترمذي (رقم:2058) ، وسنن ابن ماجه (رقم:3511) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:4902) .

المراد وأعمِّه استعاذة، بحيث لَم يبق من الشرور شيءٌ إلاَّ دخل تحت الشرِّ المستعاذ منه فيهما. ومن السُّنَّة أن يقول المسلم إذا رأى أحداً من أهلِ البلاء: الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلاَكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً، وهي دعوةٌ عظيمةٌ نافعةٌ مَن قالَها حين يرى البلاءَ، لَم يُصبه ذلك البلاءًُ بإذن الله عزَّ وجلَّ، ففي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مُبْتَلًى فَقَالَ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلاَكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً، لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ البَلاَءُ"1. وليَحذر المسلمُ من الشماتة بأهل البلاء؛ فإنَّه لا يأمن أن يبتليه الله بما ابتلاهم فيه، يقول إبراهيم النَّخعي رحمه الله: "إنِّي لأرى الشيءَ أكرهه، فما يَمنعُنِي أن أتكلَّم فيه إلاَّ مخافة أن أُبتَلَى بمثله". ومن السُّنَّة أن يدعوَ المسلمُ لأخيه إذا قال له: إنِّي أحبُّك في الله، بأن يقول: أَحبَك الله الذي أحببتنِي فيه، ففي سنن أبي داود عنه أنس بن مالك رضي الله عنه: "أَنَّ رَجُلاً كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي لأُحِبُّ هَذَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَعْلَمْتَهُ قَالَ: لاَ. قَالَ: أَعْلِمْهُ. قَالَ: فَلَحِقَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللهِ، فَقَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ"2. ومن السُّنَّة أن يسألَ المسلمُ ربَّه من فضله عند سماع صياح الدِّيَكة، وأن يتعوَّذ بالله من الشيطان عند سماع نُباحَ الكلاب ونهيقَ الحُمُر، روى

_ 1 سنن الترمذي (رقم:3432) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:6248) . 2 سنن أبي داود (رقم:5125) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة (1/2/779) .

البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكاً، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الحِمَارِ فَتَعَوَّذوا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَاناً"1. وروى أحمد وأبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا سَمِعْتُمْ نُبَاحَ الكِلاَبِ وَنَهِيقَ الحُمُرِ بِاللَّيْلِ فَتَعَوَّذوا بِاللهِ، فَإِنَّهُنَّ يَرَيْنَ مَا لاَ تَرَوْنَ"2. ومن السُّنَّة أن يقولَ المسلمُ إذا دخل السُّوقَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ففي الترمذي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلَفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ"3. والله المسؤول أن يُعيننا جميعاً على كلِّ خير، وأن يهدينا جميعاً سواء السبيل.

_ 1 صحيح البخاري (رقم:3303) ، وصحيح مسلم (رقم:2729) . 2 سنن أبي داود (رقم:5103) ، ومسند أحمد (3/306) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:620) . 3 سنن الترمذي (رقم:3428) ، وسنن ابن ماجه (رقم:2235) ، وحسَّنه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:6231) .

كفارة المجلس

175 / كَفَّارَةُ المَجْلِسِ إنَّ الواجبَ على كلِّ مسلم أن يَحفظَ مجالسَه من أن تضيع في اللَّغَط والباطل وفيما يضرُّ الإنسانَ في الآخرة، وأن يحرصَ على ملئها بالنافع المفيد من أمر الدِّين والدنيا، وليعلم أنَّ ألفاظَه معدودةٌ عليه، مكتوبةٌ في صحائفه، مسطَّرةٌ في أعماله، وسوف يُحاسَب عليها عندما يلقى الله عزَّ وجلَّ، إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشرٌّ، والله تعالى يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} 1. فمن الخير للمسلم أن يحفظَ مجالسَه ويجتهدَ في عمارتها بذكر الله تعالى ونحو ذلك مِمَّا يسرُّه أن يلقى اللهَ به، وما جلس أحدٌ مجلساً ضيَّعه في غير ذكر الله إلاَّ ندم أشدَّ النَّدم. روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لاَ يَذْكُرُونَ اللهَ فِيهِ، إِلاَّ قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً" 2؛ لأنَّ الذين يقومون عن مجلس فيه جيفةُ حمار لا يحصل لهم في مجلسهم ذلك إلاَّ الروائح المنتنة، والمنظر الكريه، ولا يقومون إلاَّ وهم بندامة وحسرة، فكذلك مَن يقومون عن مجلس ليس فيه ذكر الله، لا يحصل لهم إلاَّ الخوضُ في الآثام والتنقُّل في أباطيل الكلام، إلى غير ذلك من الأمور التي تضرُّ في الآخرة، وتورثُ الحسرةَ والندامة.

_ 1 سورة: ق، الآية (18) . 2 سنن أبي داود (رقم:4855) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:5750) .

ثم إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قد أرشد إلى أن يُختم المجلس بذكر الله وطلب مغفرته؛ ليكون ذلك كفَّارةً لِمَا كان من الإنسان في مجلسه، ففي الترمذي وأبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلاَّ غُفر لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ"1. وروى أبو داود عن أبي بَرزَة الأسلمي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس: " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ"2. وروى النسائي عن عائشة رضي الله عنها: " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس مجلساً أو صلَّى تكلَّم بكلمات، فسألته عائشة عن الكلمات فقال: إن تكلَّم بخير كان طابعاً عليهنَّ إلى يوم القيامة، وإن تكلَّم بغير ذلك كان كفَّارةً له: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ"3. ورغم أهميَّة هذا الدعاء وعظم فضله، إلاَّ أنَّ كثيراً من الناس تضيعُ مجالسُهم في اللَّغَط واللَّهو وما لا فائدة فيه، وفي الوقت نفسه يَحرمون أنفسَهم من هذا الخير العظيم.

_ 1 سنن أبي داود (رقم:4858) ، وسنن الترمذي (رقم:3433) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:1516) . 2 سنن أبي داود (رقم:4859) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:1517) . 3 سنن النسائي (3/71) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:1518) .

وقد ذهب عددٌ من أهل العلم إلى أنَّ هذا الذِّكرَ هو المعنِيُّ بقول الله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} 1. قال ابن عبد البر رحمه الله: "وروي عن جماعة من أهل العلم بتأويل القرآن في قول الله عزَّ وجلَّ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} منهم مجاهد وأبو الأحوص ويحيى بن جعدة، قالوا: حين تقوم من كلِّ مجلس تقول: سبحانك اللهمَّ وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك، قالوا: ومن قالَها غُفر له ما كان منه في المجلس، وقال عطاء: إن كنتَ أحسنتَ ازددتَ إحساناً، وإن كان غير ذلك كان كفَّارةً"2. ومن الدعوات العظيمة التي كان يختم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً من مجالسه، ما رواه الترمذي وغيرُه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُو بِهَؤَلاَءِ الدَّعَوَاتِ لأَصْحَابِهِ: اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا"3.

_ 1 سورة: الطور، الآية (48) . 2 بهجة المجالس (1/53) . 3 سنن الترمذي (رقم:3502) ، وحسَّنه العلاَّمة الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:1268) .

وهي دعوةٌ جامعةٌ لأبواب الخير والسعادة في الدنيا والآخرة. وقوله: "اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ" أي: اجعل لنا حظًّا ونصيباً من خشيتك ـ وهي الخوف المقرون بالتعظيم لله ومعرفته سبحانه ـ ما يكون حاجزاً لنا ومانعاً من الوقوع في المعاصي والذنوب والآثام، وهذا فيه دلالةٌ على أنَّ خشيةَ الله أعظمُ رادع وحاجز للإنسان عن الوقوع في الذنوب، والله يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1، فكلَّما ازدادت معرفة العبد بالله ازداد خشيةً لله وإقبالاً على طاعته وبُعداً عن معاصيه. وقوله: "وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ" أي: ويسِّر لي من طاعتك ما يكون سبباً لنيل رضاك وبلوغ جنَّتك التي أعدَدتَها لعبادك المتَّقين. وقوله: "وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا" أي: اقسم لنا من اليقين وهو تمام العلم وكماله بأنَّ الأمرَ لله من قبل ومن بعد، وأنَّه سبحانه يُدبِّر أمورَ الخلائق كيف يشاء ويقضي فيهم ما يريد ما يكون سبباً لتهوين المصائب والنوازل التي قد تحلُّ بالإنسان في هذه الحياة، واليقين كلَّما قوي في الإنسان كان ذلك فيه أدعى إلى الصبر على البلاء؛ لعلم الموقن أنَّ كلَّ ما أصابه إنَّما هو من عند الله، فيرضى ويسلِّم. وقوله: "وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا" فيه سؤال الله أن يبقي له السمع والبصر وسائر القوى؛ ليَتمتَّع بها مدَّة حياته. وقوله: "واجعَلْه الوارثَ منَّا" أي: اجعل هذا التمتُّعَ بالحواس والقوى باقياً مستمرًّا بأن تبقى صحيحةً سليمةً إلى أن أموت.

_ 1 سورة: فاطر، الآية (28) .

وقوله: "واجعل ثأرنا على من ظلمنا" أي: وفِّقنا للأخذ بثأرنا مِمَّن ظلمنا، دون أن نتعدَّى فنأخذ بالثأر من غير الظالم. وقوله: "وانصرنا على من عادانا" أي: اكتب لنا النصر على الأعداء. وقوله: "ولا تجعل مصيبتنا في ديننا" أي: لا تُصبنا بما ينقص ديننا ويُذهبه من اعتقاد سيِّء أو تقصير في الطاعة أو فعل للحرام، وذلك لأنَّ المصيبةَ في الدِّين أعظمُ المصائب وليس عنها عِوَض، خلاف المصيبة في الدنيا. وقوله: "ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا" أي: لا تجعل أكبر قصدنا وحزننا لأجل الدنيا؛ لأنَّ مَن كان أكبرَ قصده الدنيا فهو بمعزل عن الآخرة، وفي هذا دلالة على أنَّ القليلَ من الهمِّ مِمَّا لا بدَّ منه في أمر المعاش مُرخَّصٌ فيه. وقوله: "ولا مبلغ علمنا" أي: لا تجعلنا بحيث لا نعلم ولا نفكِّر إلاَّ في أحوال الدنيا. وقوله: "ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا" أي: من الكفار والفجَّار والظلمة. وبهذا ينتهي الكلام على هذا الدعاء العظيم، وهو من جوامع كلم النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وبه مسكُ الختام، وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا وعلى آله وصحبه أجمعين. تمَّ الكتاب بحمد الله ويليه القسم الرابع إن شاء الله وهو في شرح جملة من الأدعية الجوامع المأثورة عن النَّبِيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم.

§1/1