فقه أشراط الساعة

محمد إسماعيل المقدم

فقه أشراطِ السَّاعَة تأليف محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدَّم عفا الله عنه الدار العالمية للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

فقه أشْراط السَّاعَة

فقه أشراط الساعة كُل الحقوق محفوظة الدار العالمية للنشر والتوزيع الطبعة السادسة 1429 هـ - 2008 م رقم الإيداع: 4721/ 2006

بسم الله الرحمن الرحيم عن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِيَّاكُمْ وَكثْرَةَ الحدِيثِ عَنِّي، مَنْ قَالَ عَلَيَّ فَلَا يَقُولَنَّ إِلَّا حَقًّا أَوْ صِدْقًا، فَمَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (*).

_ (*) أخرجه الإمام أحمد (5/ 297)، والدارمي (1/ 77)، وابن ماجه (35)، والحاكم (1/ 111)، وحسنه الألباني في "الصحيحة" رقم (1753).

المقدمة

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وليِّ المتقين والحمد لله رب العالمين، لا يهدي كيد الخائنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، قاصمُ ظهر الماكرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيدُ ولدِ آدمَ أجمعين. اللهم صَلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. في عالم الأفكار-كما في عالم الأزياء- "صيحات"، و"تقاليع" تُفْرَضُ -بفعل فاعل- لتستلفت أنظار الناس بعيدًا عن خطر حقيقي، وتستقطب اهتمام الطليعة الفعالة في الأمة بعيدًا عما ينبغي أن يشتغلوا به من واجب الوقت، أو تَفْرِضُ نفسها على الساحة الفكرية، التي صارت في كثير من البلدان خاوية إلا من الصحف المسمومة، أو المطبوعات التي لا تخضع لرقابة "فقهية شرعية"؛ فتفجر قضايا يتابعها الناس بنهم، وتشغل الحاضر والبادي، ومع غياب العلماء، أو تغييبهم يُفتقد الانضباط، ويكثر اللغط، ويُدلي كلٌّ بدلوه، وتُبْتَذَل القضايا الكبرى حين ينطق فيها الرويبضة (¬1)، ويتصدر للخوض فيها من ليس للكلام أهلًا، ويُكْثِر اللغطَ من كان يحبس لسانه في فمه وَجَلًا. ¬

_ (¬1) الرُّوَيبِضَة: فسره النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه "الرجل التافه ينطق في أمر العامة"، =

نُبِّئْتُ أنَّ النارَ بعدك أُوقِدتْ ... وأستبَّ بعدك يا كُلَيبُ المجلسُ وتحدثوا في أمرِ كلِّ عظيمةٍ ... لو كنتَ حاضِرَهُمْ بها لم ينبسوا ولعل أحدث هذه "الصيحات"، وآخر "التقاليع" ما نسميه "ظاهرة العبث بأشراط الساعة"، فقد قذفت المطابع -ولا تزال- بعشرات الكتب والمقالات -بَلْهَ الخطب والمحاضرات- تُفيض في الحديث عن أشراط الساعة، بمنهج مبتدَع دخيل، وأسلوب عجيب غريب، وتهافَتَ الناس على اقتنائها، والتعويل على ما فيها، الأمر الذي يشي بمدى تفشي "الأمية الدينية" بين عامة المثقفين فضلًا عمن دونهم. ولعل أبرز ما يميز "رءوس" هذه الظاهرة ومقلِّديهم فشو داء التعالم، والقول على الله بغير علم، والجرأة على الخوض بالظن في التوقعات المستقبلة، والاعتماد في الاستدلال على مرويات شاذة غريبة، وآثار مطمورة مهجورة، بَلْهَ الأحاديث الضعيفة والموضوعة، والإسرائيليات، وفيهم يصدق ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، يَأْتُونَكُمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ، وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ، لَا يُضِلُّونَكُمْ، وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ» (¬1). لقد صار الخوض في أشراط الساعة -وهي غيب- كلأً مباحًا يتناوله كل من هبَّ ودَبَّ، فأفرز مجازفات وشطحات تقشعر منها الجلود، وها ¬

_ = والتافه: الخسيس الحقير، والرويبضة: تصغير الرابضة، وهو العاجز الذي ربض عن معالي الأمور، وقعد عن طلبها، وزيادة التاء للمبالغة كما في "النهاية" (2/ 185). (¬1) رواه مسلم في "المقدمة" رقم (7)، والطحاوي في "المشكِل " (4/ 204).

هو ذا واقع الأحداث يأتي على بنيانها من القواعد، ويهدمها هدمًا، ويكشف زيفها للناظرين. وفي هذه الدراسة نسلِّطُ الضوء على ظاهرة "العبث بأشراط الساعة" وصفًا وتحليلًا، ونحاول أن نستخلص منها ضوابط التعامل مع نصوص أشراط الساعة، مع ربط ذلك بواقع الأمة في هذا العصر، والله تعالى من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. محمد بن أحمد إسماعيل المقدَّم الإسكندرية في السبت 10 ذي القعدة 1424 هـ الموافق 3 يناير 2004 م

الباب الأول

الباب الأول الفصل الأول في التحذير من التعالم الكاذب، والولع بالغرائب قال الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144]. إن التعالم الكاذب هو عتبة الدخول على جريمة القول على الله بغير علم، المحرمة لذاتها تحريمًا أبديًّا في جميع الشرائع، وهذا مما عُلِم من الدين بالضرورة، وهو مما حَذَّرَناه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أشد التحذير. عن عبد الله وأبي موسى -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا، يَنْزِلُ فِيهَا الجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا العِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرْجُ» وَالهَرْجُ: القَتْلُ (¬1) الحديث. وعن أنس -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ يَقِلَّ العِلْمُ، وَيَظْهَرَ الجَهْلُ، " (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري: (13/ 13 - فتح). (¬2) رواه البخاري: (1/ 178 - فتح).

وعن مالك قال: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ " أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَوَجَدَهُ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ وَارْتَاعَ لِبُكَائِهِ فَقَالَ لَهُ: أَمُصِيبَةٌ دَخَلَتْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِ اسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، قَالَ رَبِيعَةُ: وَلَبَعْضُ مَنْ يُفْتِي هَا هُنَا أَحَقُّ بِالسَّجْنِ مِنَ السُّرَّاقِ " (¬1). وقال القاسم بن محمد: "لَأن يعيش الرجل جاهلًا؛ خير من أن يقول على الله ما لايعلم". وأفضح ما يكون للمرء: دعواه بما لا يقوم به، وقد عاب العلماء ذلك قديمًا وحديثًا: قال الإمام ابن حزم -رحمه الله تعالى-: "لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها، وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون، ويظنون أنهم يعلمون، ويُفسِدون، ويُقَدِّرون أنهم يصلحون". وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "إذا تكلم المرء في غير فنه، أتى بهذه العجائب". خلق الله للحروب رجالًا ... ورجالًا لقصعةٍ وثريدِ قال بعض المصنفين: "والانفراد عن أهل العلم برأي في الشرع والقول بما لم يقل به أحد فيه، ينبئان عن خلل في العقل". قال زُفَرُ بن الهذيل: "إني لا أناظر أحدًا حتى يسكت، بل أناظره حتى يُجَنَّ"، قالوا: كيف ذلك؟ قال: "يقول بما لم يقل به أحد". ¬

_ (¬1) "جامع بيان العلم" رقم (2410) ص (1225).

وقال علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: "ليس ما لا يُعْرف من العلم، إنما العلم ما عُرِف، وتواطأت عليه الألسن". وقال إبراهيم بن أبي عبلة -رحمه الله تعالى-: "من حمل شاذَّ العلم حمل شرًّا كثيرًا". وقال الشاطبي -رحمه الله تعالى-: "قلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد غَلَطًا أو مغالطة". وقال الأمير شكيب أرسلان: "ومن أعظم أسباب تأخر المسلمين: العلم الناقص، والذي هو أشد خطرًا من الجهل البسيط؛ لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشدًا عالمًا أطاعه، ولم يتفلسف عليه، فأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري، ولا يقتنع بأنه لا يدري، وكما قيل: (ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف مجنون)، وأقول: ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلائكم بشبه عالم" (¬1). ¬

_ (¬1) "لماذا تأخر المسلمون؟ " ص (75).

فقه أشراط الساعة

الفصل الثاني من المجتهد الذي يؤجر على اجتهاده وإن أخطأ؟

الفصل الثاني مَن المُجتهد الذي يؤجر على اجتهاده وإن أخطأ؟ عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» (¬1). ورد هذا الحديث في شأن القاضي، إلا أن المفتيَ ملحق به، بجامع أن كلًّا منهما مأمور بأن يَصْدُرَ عن حكم شرعي، ولذا يُعذر كلاهما في الخطأ. والمفتي إن كان من أهل العلم، ممن اجتمعت فيه شرائط الفتيا، وبذل وُسْعَه للوصول إلى الحق، ثم أفتى بما غلب على ظنه. أنه الحق بمقتضى الأدلة؛ فأخطأ، فلا إثم عليه في الخطأ؛ لدخوله في القاعدة الذهبية التي دل عليها قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الاحزاب:5] , ولدخوله في هذا الحديث الشريف المشار إليه. وأجر اجتهاده باقٍ محفوظٌ لا يبطل بخطئه؛ لأن الشرع يأمره بأن يفتيَ لوجوب الإفتاء، وقد فعل ما أُمِرَ به، فاستحق بذلك الأجر "على العمل ¬

_ (¬1) رواه من حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه- البخاري (13/ 268)، ومسلم (1716).

الذي قام به، ولكن لا يكون أجره بقدر أجر المصيب، إذ إن المصيب دلَّ على الحق، وهذا -أي: المخطئ- لم يدل عليه. أما إذا أفتى مَن ليس بأهلٍ للفُتيا فأخطأ، أو كان أهلًا ولم يبذل جهده لإحقاق الحق فأخطأ؛ فإنه لا يكون معذورًا بذلك، بل يكون آثمًا؛ لأنه أضلَّ عن سبيل الله، وقد قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] (¬1). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» (¬2). قال ابن المنذر -رحمه الله تعالى-: "وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ إذا كان عالمًا بالاجتهاد فاجتهد، وأما إذا لم يكن عالمًا فلا". واستدل بحديث: "الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ"، وفيه: "وقَاضٍ قَضَى بِغَيرِ حَق، فَهوَ في النَّارِ، وقَاضٍ قَضَى وهو لا يَعْلمُ؛ فَهو في النَّارِ". وقال الخطابي -رحمه الله تعالى- في "معالم السنن": "إنما يؤجر المجتهد إذا كان جامعا لآلة الاجتهاد، فهو الذي نعذره بألخطأ، بخلاف المتكلِّفِ، فيُخاف عليه ". اهـ. ¬

_ (¬1) انظر: "الفتيا ومناهج الإفتاء" ص (134 - 136). (¬2) رواه البخاري: (1/ 173، 174)، ومسلم (2673).

وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "لا يلزم من رد حكمه أو فتواه إذا اجتهد فأخطأ أن يأثم بذلك، بل إذا بذل وُسْعَه أُجِر، فإن أصاب ضُوعف أجرُه، لكن لو أقدم فحكم أو أفتى بغير، علم لحقه الإثمُ" (¬1). وقال محيي السنة البغوي -رحمه الله تعالى-: (¬2) وقوله في الحديث: "وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ" لم يُرد به أنه يؤجر على الخطأ، بل يؤجر في اجتهاده في طلب الحق؛ لأن اجتهاده عبادة، والإثم في الخطأ عنه موضوع إذا لم يألُ جهدَه، وهذا فيمن كان جامعًا لآلة الاجتهاد، فأما من لم يكن محلًّا للاجتهاد، فهو متكلِّفٌ لا يُعْذَرُ بالخطأ في الحكم، بل يُخاف عليه أعظم الوزر، رُويَ عن بريدة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ " (¬3). ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (13/ 318، 319). (¬2) "شرح السنة" (10/ 117، 118). (¬3) أخرجه أبو داود (3573)، والترمذي (1322)، وابن ماجه (2315)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي (4/ 90).

فارغ

الفصل الثالث في معنى "أشراط الساعة"

الفصل الثالث في معنى "أشراط الساعة" الشَرَطُ -بفتحتين-: هو العلامة، جمعه: أشراط، وأشراط الشيء: أوائله، ومنه: شُرَط السلطان، وهم نُخْبَةُ أصحابه الذين يقدمهم على غيرهم من جنده، ومنه: الاشتراط الذي يشترطه الناس بعضهم على بعض، فالشرط علامة على المشروط (¬1). الساعة لغةً جزء من أجزاء الليل والنهار، جمعها: ساعات، وساع، والليل والنهار معًا أربع وعشرون ساعة. وأشراط الساعة: علاماتها (¬2)، قال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18]. قال الحافظ ابن حجر: "هي العلامات التي يعقبها قيام الساعة" (¬3). وقد أطلق بعض العلماء على "الأشراط" اسم "الآيات"؛ و"الآيات" هي الأمارات الدالة على الشيء، كالأمارات التي تُنصبُ في الصحراء؛ دالة على الطريق، أو توضع على الشاطئ؛ لتهديَ السفن، أو توضع في طريق المسافرين؛ لتدلهم على ما يقصدون من الأماكن. ¬

_ (¬1) انظر: "لسان العرب" (7/ 329)، و"النهاية لابن الأثير (2/ 460). (¬2) "مختار الصحاح" ص (324). (¬3) "فتح الباري" (13/ 79).

قال الطيبي: "الآيات: أماراتٌ للساعة، إما على قربها، وإما على حصولها؛ فمن الأول: الدجال، ونزول عيسى، ويأجوج ومأجوج، والخسف، ومن الثاني: الدخان، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والنار التي تحشر الناس" (¬1). معنى "الساعة" اصطلاحًا الوقت الذي تقوم فيه القيامة، وسُمّيَتْ بذلك لسرعة الحساب فيها، أو لأنها تفجأ الناس في ساعة، فيموت الخلق كلهم بصيحةٍ واحدة (¬2). وقال الراغب في "المفردات": [الساعة: جزء من أجزاء الزمان، وُيعبَّر به عن القيامة، قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1]، وقال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف: 187]، وقال -عز وجل-: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [الزخرف: 85]. تشبيهًا بذلك لسرعة حسابه، كما قال -عز وجل-: {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62]، أو لِما نبَّه عليه بقوله تبارك وتعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46]، وقوله سبحانه: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35]، وقوله -عز وجل-: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55]، فالأولى: هي القيامة، والثانية: الوقت القليل من الزمان. وقيل: الساعات -التي هي القيامة- ثلاث: ¬

_ (¬1) "المصدر نفسه" (13/ 352). (¬2) انظر: "لسان العرب" (8/ 169)، "النهاية" لابن الأثير (2/ 422).

الساعة الكبرى (¬1): هي بعث الناس للمحاسبة، وهي التي أشار إليها بقوله عليه السلام: "ولا تقوم الساعة حتِى يظهرَ الفُحش والتفاحُش" (¬2) إلى غير ذلك، وذكر أمورًا لم تحدث في زمانه ولا بعده. والساعة الوسطى: وهي موت أهل القرن الواحد، وذلك نحو ما رُويَ أنه رأى عبد الله بن أُنَيْس (¬3)، فقال: "إن يَطُلْ عُمرُ هَذَا الغُلَامِ لم يمُتْ حتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ" (¬4). والساعة الصغري: وهي موت الإنسان، فساعةُ كلِّ إنسانٍ موتُه، وهي المشارُ إليها بقوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [الأنعام:31]، ومعلوم أن هذه الحسرة تنال الإنسانَ عند موته، لقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ¬

_ (¬1) وإذا أطلقت الساعة في القرآن الكريم، فالمراد بها القيامة الكبرى: قال تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} [الأحزاب: 63]، أي: عن القيامة، وقال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1]، أي: اقتربت القيامة. (¬2) رواه الإمام أحمد (2/ 162) رقم (6514)، من رواية عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، بلفظ: "لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش، والتفاحش، وقطيعة الرحم، وسوء المجاورة" الحديث، وقال الشيخ أحمد شاكر: "إسناده صحيح " (10/ 20). (¬3) قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "إن ما ذكره عن عبد الله بن أُنَيس لم نقف عليه، ولا هو آخر من مات من الصحابة هَرِمًا" اهـ. من "فتح الباري" (1/ 364). (¬4) وعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألوه عن الساعة: متى الساعة؟ فنظر إلى أحدث إنسان منهم، فقال: "إن يعش هذا لم يدركه الهرم؛ قامت عليكم ساعتكم"، رواه البخاري (11/ 361 - الفتح)، ومسلم (18/ 90 - النووي). والمراد بساعتهم: موتهم، فهو ساعة المخاطبين، كما "في الفتح" (11/ 363)، وانظر: "تفسير المنار" (9/ 387).

الْمَوْتُ فَيَقُولَ} الآية [المنافقون: 10]، وعلى هذا قوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40]. وعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وَإِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ، تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ، سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: " لَعَلَّهُ، يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} (¬1) [الأحقاف: 24] اهـ (¬2) وقال القرطبي -رحمه الله تعالى-: "قال علماؤنا: واعلم أن كل ميت مات فقد قامت قيامته (¬3)، ولكنها قيامة صغرى وكبرى، فالصغرى: هي ما يقوم كل (¬4) إنسان في خاصته من خروج روحه، وفراق أهله، وانقطاع سعيه، وحصوله على عمله إن كان خيرًا فخير، وإن كان شرًّا فشر، والقيامة الكبرى هي التي تعم الناس وتأخذهم أخذة واحدة" (¬5). وقد ذكر الله تعالى القيامتين الصغرى والكبرى في القرآن الكريم، فتجده يذكر القيامتين في السورة الواحدة؛ كما في سورة الواقعة؛ فإنه ذكر في أولها القيامة الكبرى، فقال تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)} [الواقعة: 1 - 7]. ¬

_ (¬1) رواه مسلم: (14/ 899). (¬2) "المفردات" ص (434، 435) بتصرف. (¬3) أي: من مات فقد دخل في حكم الآخرة. (¬4) كذا، ولعلها: بكل. (¬5) "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة"، نقلًا عن "القيامة الصغرى"، للأشقر، ص (2).

ثم في آخرها ذكر القيامة الصغرى، وهي الموت، فقال: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)} [الواقعة: 83 - 85]. وذكر القيامتين - أيضًا- في سورة القيامة، فقال: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)} [القيامة: 1]، وهذه القيامة الكبرى. ثم ذكر الموت، فقال: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26)} [القيامة: 26]، وهو القيامة الصغرى.

فارغ

الفصل الرابع ثمرات الإيمان بأشراط الساعة

الْفَصْل الرَّابعُ ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ إن قيامَ الساعةِ الذي يعني نِهَايَةَ نِظَامِ هذا العالم، هو من أعظم الأحداث بعد خلق العالم، بل إن تغيير النظام الكوني وإيجاد نظامٍ آخر حَدَثٌ يَعْدِلُ خلق العالم أول مرة؛ ولذلك تسبقه أحداثٌ كبرى خارقةٌ للعادة، تكون كالمقدمة له. والإيمان بأشراط الساعة داخلٌ ضمن الإيمان باليوم الآخر؛ فهو من الإيمان بالغيب؛ ولهذا الإيمان ثمرات وفوائِدُ نحاول أن نُجْمِلَهَا فيما يلي: أولًا: تحقيق ركن من أركان الإيمان الستة، وهو الإيمان باليوم الآخر، باعتبار أن أشراط الساعة من مقدماته، كما أنه من الإيمان بالغيب الذي قال فيه -عز وجل-: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] , وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ» (¬1). وفي الصحيح أن جبريل عليه السلام سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الإسلام والإيمان والإحسان وأمارات الساعة، وأن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3/ 211)، ومسلم (21)، والترمذي (2610)، والنسائي (5/ 14)، وأبو داود (2640).

ثانيا: إشباع الرغبة الفطريه (2) في الإنسان

النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في آخره: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» (¬1) والشاهد أنه عدَّ ما يتعلق بأمارات الساعة من الدين. ثانيًا: إشباع الرغبة الفطريه (¬2) في الإنسان التي تتطلع لاستكشاف ما غاب عنه (¬3)، واستطلاع ما يحدث في المستقبل من وقائع وكائنات، وإذا ¬

_ (¬1) رواه مسلم، رقم (8) كتاب الإيمان. (¬2) وهذا ما يعبر عنه "علم النفس" بحب الاستطلاع Curiosity، ويقولون في تعريفه: "ميل يدفع الفرد إلى المعرفة، وخاصة معرفة الجديد من الأمور والأشياء، وإلى استطلاع كل غريب، ومعرفة المزيد عنه بالبحث والتقصي، واكتشاف المجهول، وفض غموضه". ويكمن حب الاستطلاع وراء ثراء المعرفة البشرية ونموها، وتقدم الاختراعات والصناعات، ويميل البعض إلى اعتبار حب الاستطلاع "غريزة" ودافعًا فطريًّا موروثًّا تستثيره المواقف والأشياء الغامضة أو المجهولة، انظر: "موسوعة علم النفس" د/ فرج طه، ص (297 - 298). (¬3) ونحن نرى الجهود الهائلة التي يبذلها العلماء المعاصرون؛ للكشف عن الغيب المجهول في الماضي البعيد، والغيب المجهول في الحادثات المقبلة، والغيب المجهول في الفضاء المحيط بنا؛ فيصنعون المناظر المكبرة، والمراصد الهائلة، ويطلقون سفن الفضاء، والأقمار الصناعية؛ كي يعلموا ما لا يعلمون؛ فلا شك أن الاطلاع على حقائق هذا الغيب من الجهة المعصومة التي لا تخطئ، ولا تكذب أبدًا، وهي الوحي الصادق، أولى وأحرى، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14]، إن الإنسان يتشوف دومًا إلى رؤية ما سمع عنه؛ فإن عجز، فربما أبدع خياله التصورات، حتى لو كان تخيله سخيفًا، لكنه يظن أن تخيلاته تسد جَوْعَة عقله، وتشبع فضوله؛ فعندما جهل الإنسان كيفية حدوث الزلازل زعم أن الأرض محمولة على قرن ثور عظيم؛ فإذا تعب من حملها، نقلها إلى قرنه الثاني؛ فتهتز وهو ينقلها، أما الذي يتنزه عن الخيالات،=

ثالثا: أن الإخبار عن الغيوب المستقبلة -باعتبار ما فيها من خرق للعادة- من أهم دلائل النبوة

كان الإسلام سَدَّ طُرُقَ الدجالين الذين يدَّعون الاطلاع عليها؛ كالمنجمين، والعرَّافين، والكُهَّان، ونحوهم، إلا أنه -استجابة لأشواق الفطرة- أطلعنا -من خلال نافذة الوحي- على كثير من هذه الأحداث (¬1). إن إخفاء وقت الساعة له أثر بليغ في إصلاح النفس البشرية، فالأمر العظيم الذي يستيقن المرء وقوعه، ولكنه لا يدري متى يفجؤه؛ يجعل المرء مترقبًا له، متشوفًا إليه؛ لأن المجهول عنصر أساسٌ في حياة البشر، وفي تكوينهم النفسي، فلا بد من مجهول في حياتهم يتطلعون إليه، ولو كان كل شيء مكشوفًا لهم -وهم بهذه الفطرة- لَوَقَفَ نشاطهم، وأسنت حياتهم. ثَالِثًا: أن الإخبار عن الغيوب المستقبلة -باعتبار ما فيها من خرقٍ للعادة- من أهم دلائل النبوة؛ حيث إنها تتضمن تَحَدِّيا لعقول البشر أجمعين، فهذه أمور غيبية لا تُدْرَكُ بالعقل، ولا يمكن معرفة كُنْهِها على الحقيقية إلا من خلال الوحي الصادق من الله تعالى إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقد صدرت منه لا على أنها توقعات تعتمد على مقدمات تؤدي إلى نتائجها، وإنما هي حديث دقيق قاطع عن تفاصيل المستقبل المجهولِ، حديث لا يَخْرِمُهُ المستقبل، ولا في جزء ¬

_ = والظنون؛ فإنه لا يَبْتَدِعُ التخيلات؛ كي لا يهدر طاقته العقلية فيما لا طائل من ورائه، ولكنه يتحمل عبء الغموض، ويصبر حتى يجعل الله له مخرجًا، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} الآايات [البقرة: 260]. (¬1) انظر: "المقدمة" لابن خلدون، ص (587، 588).

رابعا: تعلم الكيفية الصحيحة التي دلنا عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كي نتعامل بها مع بعض الأحداث المقبلة

من أجزائه، وحينئذٍ فلا شَكَّ أنها النبوة، وأن صاحبها مُتَّصلٌ بالله تعالى عالم الغيب والشهادة؛ كما قال -عز وجل-: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} الآيتان: [الجن: 26 - 27]. وقال -سبحانه وتعالي-: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)} [المؤمنون: 92]. ومن ثمرات وقوع تلك الْمغُيَّبَاتِ -على كثرتها- مُطَابِقَةً لخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- أن يثبت إيمان المؤمن، ويطمئن قلبه، ويزداد يقينه، ويقول كما قص الله عن المؤمنين: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)} [الأحزاب: 22]. ومن ثمرات ذلك أيضًا: إقامة الحجة على الكافرين، وإقناعهم بصدق نبوة ورسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى العالمين. رَابِعًا: تَعَلُّمُ الكيفية الصحيحة التي دَلَّنَا عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كي نتعامل بها مع بعض الأحداث المقبلة التي قد يلتبس علينا وجه الحق فيها. قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا منزلَّا ... " الحديث، وفيه: "إذ نادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: " إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ

لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ ... " الحديث (¬1). لقد نصح رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه الذين عاصروه نصائحَ انتفعوا بها كثيرًا: - فقد بَشَّرَ عثمان -رضي الله عنه- بالجنة، على بلوَى تصيبه. - وأخبر عمَّارًا -رضي الله عنه- أنه تقتله الفئة الباغية. - وأمر أبا ذزّ -رضي الله عنه- بأن يعتزلَ الفتنة، وأن لا يقاتل، ولو قُتِلَ. - وكان حذيفَةُ -رضي الله عنه- يسأله عن الشر؛ مخافَةَ أن يدرِكَهُ، ودلَّه -صلى الله عليه وسلم- كيف يفعل في الفتن. - ونهى المسلمين عن أخذ شيء من جبل الذهب الذي سوف ينحسر عنه الفرات. - وبصَّر أمته بفتنة الدجال، وأفاض في وصفها، وبَيَّنَ لهم ما يعصمهم منها؛ ومِن ثَمَّ قال عبد الرحمن المحاربي: "يَنْبَغِي أَنْ يُدْفَعَ هَذَا الْحَدِيثُ (¬2) إِلَى الْمُؤَدِّبِ، حَتَّى يُعَلِّمَهُ الصِّبْيَانَ فِي الْكُتَّابِ." (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1844)، وأبو داود (4248)، والنسائي (7/ 153). (¬2) يعني: حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- في شأن الدجال. (¬3) رواه ابن ماجه (2/ 516).

فائدة قوله -صلى الله عليه وسلم-: " ... واتركوا الترك ما تركوكم» وكيف أن المسلمين لما أضاعوا نصيحة رسول الله اجتاح التتار بلاد الإسلام

وقال السفاريني -رحمه الله تعالى-: "مما ينبغي لكل عالم: أن يبث أحاديث الدجَّال بين الأولاد، والنساء، والرجال، ولا سيما في زماننا هذا الذي اشرأبت فيه الفتن، وكثرت فيه المحن، واندرست فيه معالم السنن" (¬1). اهـ. وامتدت شفقته -صلى الله عليه وسلم- لتشمل إخوانه الذين يأتون من بعده، ولم يروه؛ فبذل لهم النصحَ، ودلَّهم على ما فيه نجاتهم، وحسنُ عاقبتهم (¬2). فمن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: " ... وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ» (¬3) الحديث. فمن ثم أمسك المسلمون عن استفزاز واستثارة الترك، فَسَلِمُوا من غائلتهم، إلى أن خالفوا التوجيه النبوي، قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "وقد قَتَلَ جنكيز خان من الخلائق ما لا يَعْلَمُ عددَهم إلا الذي خلقهم، ولكن كان البُداءة من خوارزم شاه، فإنه لما أرسل جنكيز خان تُجَّارًا من جهته معهم بضائعُ كثيرةٌ من بلاده، فانتهوا إلى إيرانَ، فقتلهم نائبها من جهة خوارزم شاه، وأخذ جميعَ ما كان معهم، فأرسل جنكيز خان إلى خوارزم شاه يستعلمه: هل وقع هذا الأمر عن رضًى ¬

_ (¬1) "لوامع الأنهار البهية" (2/ 106، 107). (¬2) انظر شيئًا من ذلك بهامش ص (37). (¬3) شَطْر حديثٍ رواه أبو داود، رقم (4302)، في كتاب الملاحم، باب في النهي عن تهييج الترك والحبشة، وحسَّنه الألباني في صحيح أبي داود (3615)، وانظر "السلسلة الصحيحة" (772).

منه، أو أنه لا يعلم به، فأنكره؟ وقال فيما أرسل إليه من المعهود من الملوك أن التجار لا يُقتلون؛ لأنهم عمارةُ الأقاليم، وهم الذين يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والأشياء النفيسة، ثم إن هؤلاء التُّجَّار كانوا على دينك، فقتلهم نائبك، فإن كان أمرًا أمرتَ به، طلبنا بدمائهم، وإلا فأنت تُنْكِرُهُ، وتقتصُّ من نائبك. فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيز خان، لم يكن له جواب سوى أنه أمر بضرب عُنُقِهِ، فأساء التدبيرَ، وقد كان خَرَّفَ وكَبُرَتْ سِنُه، وقد ورد الحديث: "اتْرُكُوا الترْكَ مَا تَرَكوكمْ ... "، فلما بلغ ذلك جنكيز خان، تجهز لقتاله، وأَخْذِ بِلادِهِ، فكان بِقَدَرِ الله تعالى ما كان من الأمور التي لم يُسْمَعْ بأغرَبَ منها، ولا أبشعَ" (¬1). فهنا نرى أن المسلمين لما خالفوا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بترك التُّرك؛ جاءت العاقبةُ عنيفةً مريرةً، حيث اجتاح التتار ديار الإسلام في كارثة لم يسبق لها مثيل في التاريخ (¬2). وفي أكثر من موضع ذكر الحافظ ابن كثير وقائع القتال بين المسلمين والتتار، وبيَّن أن المسلمين لم يكونوا يتعقبون التتار إذا فروا هاربين أمامهم، ولو كانت الرماحُ تنالهم؛ ومثال ذلك ما ذكره في حوادث سنة ثلاث وأربعين وستمائة: "وفي هذه السنة كانت وقعةٌ عظيمةٌ بين جيش الخليفة وبين التتار -لعنهم الله-؛ فكسرهم المسلمون كسرةً عظيمةً، ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" (13/ 119). (¬2) انظر تفصيل ذلك في "المصدر نفسه" (86/ 13 - 91)، وصدق عمرو بن العاص الذي قال لابنه عبد الله -رضي الله عنهما-: "الخَرَقُ: معاداةُ إمامك، ومناوأة من يقدر على ضررك"، كما في "الإحياء" (3/ 188).

خامسا: فتح باب الأمل، والاستبشار بحسن العاقبة لأهل الإيمان

وفَرَّقُوا شملهم، وهُزِمُوا من بين أيديهم، فلم يلحقوهم؛ ولم يتبعوهم، خوفًا من غائلة مكرهم، وعملًا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اتْرُكوا الترْكَ مَا تَرَكوكم ...... " (¬1). خامسًا: فتح باب الأمل، والاستبشار بحسن العاقبة لأهل الإيمان، إذا ادْلَهَمَّتِ الخطوب، وضاقت الصدور، مما يعطي المسلمين طاقة يصارعون بها ما يسميه المتخاذلون "الأمر الواقع"؛ ليصبح عزهم ومجدهم هو الأمر الواقع؛ وذلك بناءً على البشارات النبوية بالتمكين للدين، وظهوره على الدين كله، ولو كره الكافرون. سادسًا: قد تمرُّ بالمسلمين وقائع في مقبل الأيام تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي فيها، ولو تُرِكَ المسلمون إلى اجتهادهم؛ فإنهم قد يختلفون، وربما يكون بيان الحكم الشرعي في تلك الأحداث واجبًا لا بد منه، وعدم البيان يكون نقصًا تُنَزَّهُ الشريعة عنه. فمن ذلك: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن الدجَّال يمكث في الأرض أربعين يومًا؛ يوم من أيامه كسَنَة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وبقية أيامه كأيامنا، وقد سأل الصحابة -رضي الله عنهم- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن تلك الأيام الطويلة: أتكفي في الواحد منها صلاةُ يوم؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ"، ولو وُكِّل العباد إلى اجتهادهم؛ لاقتصروا على الصلوات الخمس عند الأوقات المعروفة في غير هذه الأيام. ¬

_ (¬1) "نفسه" (168/ 13).

لا يعلم متى الساعة إلا الله وحده

وأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن عيسى عليه السلام بعد نزوله لا يقبل الجزية من اليهود والنصارى، ولا يقبل منهم إلا الإيمان، وهذا البيان من الرسول -صلى الله عليه وسلم- ضروري؛ لأن عيسى يحكم بهذا الشرع، وهذا الشرع فيه قبولُ الجزية ممن بَذَلَها إلى حين نزول عيسى ابن مريم، وحين ذاك تُوضَعُ الجزية، ويُقتل كل من رفض الإيمان، ولو بَذَلَ الجزيةَ (¬1). كما أن نص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على صفاتٍ معينةٍ لأشخاصٍ معينين، كالمهدي مثلا، يمدنا بالمعيار اللازم للحكم على الدجَّالين المدعين المهديةَ؛ حتى لا نتورَّطَ في فِتَنِهِمْ. لاَ يَعْلَمُ مَتَى السَّاعَةُ إِلَّا الله وَحْدَهُ قال الله -عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]. وقال سبحانه: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)} [الأحزاب: 63]. وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)} [الأعراف: 187]. فقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي}، وقوله -عز وجل-: {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)} , (فيه إيذان بأن ما هو من شأن الرب لا يكون للعبد؛ فهو تعالى قد رباه ليكون منذرَا ومبشرًا، لا للإخبار عن الغيوب بأعيانها ¬

_ (¬1) انظر: "القيامة الصغرى" للدكتور عمر الأشقر -حفظه الله- ص (132).

لا يتحقق "الإنذار" إلا بإبهام وقت الساعة

وأوقاتها، والإنذارُ إنما يُنَاطُ بالإعلام بالساعة وأهوالها، والنار وسلاسلها وأغلالها، ولا تتم الفائدة منه إلا بإبهام وقتها؛ ليخشى أهل كل زمن إتيانَها فيه، والإعلامُ بوقت إتيانها، وتحديدُ تاريخها ينافي هذه الفائدة، بل فيه مفاسدُ أخرى؛ فلو قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- للناس: إن الساعة تأتي بعد ألفي سنة من يومنا هذا مثلًا -وألفا سنة في تاريخ العالم، وآلاف السنين تُعَدّ أجلًا قريبًا- لرَأَينا المكذبين يستهزئون بهذا الخبر، ويلحون في تكذيبه، والمرتابين يزدادون ارتيابًا، حتى إذا ما قَرُبَ الأجل وقع المؤمنون في رعب عظيم يُنَغّصُ عليهم حياتهم، ويوقع الشلل في أعضائهم، والتشنجَ في أعصابهم؛ حتى لا يستطيعون عملًا، ولا يسيغون طعامًا ولا شرابًا، ومنهم من يخْرجُ من ماله وما يملكه، في حين يكون الكافرون آمنين، ويسخرون من المؤمنين. فالحكمة البالغة -إذن- في إبهام أمر الساعة للعالم، وكذا الساعة الخاصة بأفراد الناس، أو بالأمم والأجيال، أو جعلها من الغيب الذي استأثر الله تعالى به) (¬1) اهـ. وقوله تعالى: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} معناه: لا يكشف حجابَ الخفاء عنها، ولا يظهرها في وقتها المحدد عند الرب تعالى إلا هو، فلا وساطة بينه وبين عباده في إظهارها ولا في الإعلام بميقاتها وإنما وساطة الرسل عليهم السلام في الإنذار بها (¬2)؛ فمِن ثَمَّ قال تعالى: ¬

_ (¬1) "تفسير المنار" (9/ 389، 390). (¬2) "نفسه" (9/ 390).

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} [النازعات: 42 - 45]. ونقل الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله تعالى- عن الألوسي -رحمه الله تعالى- قوله: "وإنما أخفى سبحانه أمر الساعة لاقتضاء الحكمة التشريعية ذلك؛ فإنه أدعى إلى الطاعة، وأزجر عن المعصية، كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك، ولو قيل بأن الحكمة التكوينية تقتضي ذلك -أيضًا- لم يبعد، وتدلُّ الآيات على أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يَعْلَمْ وقت قيامها، نَعَم علم -صلى الله عليه وسلم- قربها على الإجمال، وأخبر-صلى الله عليه وسلم- به" (¬1). وقال صاحب المنار -رحمه الله تعالى- أيضًا: "فيجب على المؤمنين أن يخافوا ذلك اليومَ، وأن يحملهم الخوف على مراقبة الله تعالى في أعمالهم؛ فيلتزموا فيها الحقَّ، ويتحروا الخيرَ، ويتقوا الشرور والمعاصي، ولا يجعلوا حظهم من أمر الساعة الجدالَ، والقيل والقالَ، وإننا نرى بعض المتأخرين قد شغلوا المسلمين عن ذلك ببحث افتجره بعض الغلاة، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يَبْقَ طولَ عمره لا يعلم متى تقوم الساعة؟ كما تدلُّ عليه آيات القرآن الكثيرة؛ بل أعلمه الله تعالى به، بل زعم أنه أطلعه على كل ما في علمه، فصار علمه كعلم ربِّه (¬2)، أي صار نِدًّا وشريكًا لله تعالى في صفة ¬

_ (¬1) "نفسه" (9/ 393) بتصرف. (¬2) راجع: "المهدي" للمؤلف ص (282، 283).

الحكمة في تقديم أشراط الساعة ودلالة الناس عليها

العلم المحيط بالغيوب التي لا نهاية لها، ومن أصول التوحيد أنه تعالى لا شريكَ له في ذاته ولا في صفة من صفاته، والرسول -صلى الله عليه وسلم- عبدُ الله، لا يعلم من الغيب إلا ما أوحاه الله تعالى إليه، لأداء وظيفة التبليغ. ولكن الغلاةَ يرون من التقصير في مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه أن تكون صفاته دون صفات ربه وإلهه، وخالق الخلق أجمعين، فكذَّبوا كلام الله تعالى، وشبَّهوا به بعض عبيده؛ إرضاءً لغلوهم، ومثل هذا الغلو لم يُعْرَفْ عن أحد من سلف هذه الأمة، ولو أراد الله تعالى أن يُعْلِمَ رسوله -صلى الله عليه وسلم- بوقت قيام الساعة، بعد كل ما أنزله عليه في إخفائها، واستئثاره بعلمه، لما أكَّده كلَّ هذا التأكيد في هذه السورة وغيرها؛ كقوله -عز وجل-: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} (¬1) ". اهـ. الْحِكْمَةُ في تَقْدِيمِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَدِلاَلَةِ النَّاسِ عَلَيهَا ثبت في حديث جبريلَ المشهورِ أنه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا المسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ"، قال: "فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا" (¬2)، وفي رواية قال: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِاَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا ... " الحديث (¬3). ¬

_ (¬1) "تفسير المنار" (9/ 391، 392). (¬2) روى هذا اللفظ مسلم في "صحيحه " (8). (¬3) رواه البخاري (50)، ومسلم (8).

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "والحكمة في تقدم الأشراط إيقاظُ الغافلين، وحثُّهم على التوبةِ والاستعداد" (¬1). ونقل القرطبي -رحمه الله تعالى- عن العلماء قولهم: "والحكمة في تقديم الأشراط ودلالة الناس عليها: تنبيهُ الناس عن رقدتهم، وحثُّهم على الاحتياط لأنفسهم بالتوبة والإنابة؛ كي لا يُباَغَتُوا بالْحَوْلِ بينهم وبين تدارك العوارض منهم، فينبغي للناس أن يكونوا بعد ظهور أشراط الساعة قد نظروا لأنفسهم، وانقطعوا عن الدنيا، واستعدوا للساعة الموعود بها، والله أعلم، وتلك الأشراط علامة لانتهاء الدنيا وانقضائها" (¬2). ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (11/ 350). (¬2) "التذكرة" ص (624).

فارغ

الفصل الخامس سوء فهم العوام لا يسوغ إنكار النصوص وتأويلها

الْفَصْل الخَامِس سُوءُ فَهْمِ الْعَوَامِّ لاَ يُسَوِّغُ إِنْكَارَ النصوص وتَأوِيلَهَا ذلك أن بعض الناس يجعلون تصديقهم بأمر المهدي مُسَوِّغَا لإعراضهم عن الدعوة إلى الإسلام، وإنكارِ المنكرات، ومنهم من يُسْقِطُ التكاليفَ ويهدرها مُدَّعين أنهم ينتظرون خروجَ المهدي؛ ليغير وجه العالم، نقول لهؤلاء: إن الأمور الكونية القدرية التي أخبر بها الوحي واقعة لا محالة، وغاية ما كلَّفنا الله به إزاءها التصديقُ بها قبل وقوعها (¬1)، والالتزام بما نصحنا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد وقوعها، ولم يأمرنا قطُّ بتكلُّف إيجادها، وهناك الكثير من العقائد الثابتة قد يسيء العوام فهمها؛ فيترتب على ذلك الانحرافُ عن الصراط المستقيم، وما مَثَلُ الاعتقاد في ظهور المهدي، ونزول عيسى عليه السلام، إلا كَمَثَلِ الاعتقاد في القضاء والقدر؛ فقد يسيء الكثيرون فَهم هذه العقيدةِ، وبدلَا من أن تكون حافزَا على الجد والاجتهاد، والتسابق إلى الطاعات، اتخذوها مَطِيَّةَ إلى التواكل، وإهدار التكاليف، بل منهم من استحلَّ بها المحرماتِ، فهل يُعالَج هذا بإنكار الاعتقاد في القضاء والقدر؟ كما زعمت القدرية؟ كيف وهو من أصول الإيمان الستة؟! ¬

_ (¬1) وذلك مثل أمره صلى الله عليه وآله وسلم مَن سمع بالدجال أن ينأى عنه، ومن أدركه أن يقرأ عليه فواتح سورة الكهف، وكذا أمره المؤمنين -من حضر منهم انحسار الفرات عن كنز من ذهب- ألا يأخذ منه شيئًا.

بل الصواب أن نؤمن بالقدر ونثبته؛ فلا يصح بحال أن نحتجَّ بالقدر في مخالفة الشرع الحنيف، وإبطال تكاليفه كما هو شأن المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية [الأنعام: 148]، والذين قال الله فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} الآية [يس: 47] وقد رد الله ذلك عليهم وأبطله، ولم يقبلْهُ منهم. والحاصلُ أن العدل هو الوسط؛ فنصدِّقُ بما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم على وجهه؛ فلا ننفي ما أثبته، ولا نثبت ما نفاه، ولا نفتري عليه الكذبَ بالأحاديث الموضوعة والأقوال المتهافتة، ولا نَعْرِض لسنته صلى الله عليه وآله وسلم بالشبهات المُغْرِضَةِ، ولا نحتج بأخباره على إبطال شرعه، ونقض أحكامه؛ فإن الله -عز وجل- لم يجعل لعمل المؤمن منذ كُلِّف أجلًا دون الموت: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 99]. يتضح مما تقدم أن الإيمان بأشراط الساعة يُحَفِّزُ على الاجتهاد في الأخذ بأسباب النجاة، واستفراغ الوُسْعِ في الاستعداد للقاء الله تعالى بالأعمال الصالحة، والسعي لتمكين دين الله في الأرض، وذلك بخلاف ما يحصل من بعض الناس الذين يتكئون على أشراط الساعة، ويتوقفون عن العمل والسعي؛ بحجة انتظار المهدي، ونزول عيسى مثلًا؛ تمامًا كما يحصل من الكسالى الذين يسيئون فهم قضية "القضاء والقدر"، ويتخذون منها وسيلة لتسويغ تواكلهم وتوانيهم وتقصيرهم.

الأدلة الواضحة على أن التصديق بأشراط الساعة ينبغي أن يكون حافزا للعمل والاجتهاد

ومن الأدلة الواضحة على أن التصديق بأشراط الساعة ينبغي أن يكون حافزًا للعمل والاجتهاد: ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوِ الدُّخَانَ، أَوِ الدَّجَّالَ، أَوِ الدَّابَّةَ، أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ " (¬1)، وفي رواية: " بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: الدَّجَّالَ، وَالدُّخَانَ، وَدَابَّةَ الْأَرْضِ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأَمْرَ الْعَامَّةِ، وَخُوَيْصَّةَ أَحَدِكُمْ ". وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "بَادِرُوا بِالْأعْمَالِ سِتًّا" أي: سابقوا ستَّ آيات دالة على وجود القيامة، وسارعوا بالأعمال الصالحة قبل وقوعها وحلولها؛ فإن العمل بعد وقوعها وحلولها لا يُقبل، ولا يُعتبر. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ "، وفي رواية: "خُويصَةَ" تصغير خاصة الإنسان؛ وهي ما يَخُصُّهُ دون غيره، وأراد به الموتَ الذي يخصّه، ويمنعه من العمل، إن لم يبادر به قبله (¬2). وصُغِّرت لاستصغارها في جنب سائر العظائم، من بعث وحساب، وغيرهما. قال القاضي: "أمرهم أن يبادروا بالأعمال قبل نزول هذه الآيات؛ فإنها إذا نزلت أدهشت، وأشغلت عن الأعمال، أو سُدَّ عليهم باب التوبة، وقبول العمل" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2947)، (4/ 2267). (¬2) "جامع الأصول" (10/ 412). (¬3) "فيض القدير" (3/ 194).

وقال العلائي: "مقصود هذه الأخبار الحث على البُداءة بالأعمال قبل حلول الآجال، واغتنام الأوقات قبل هجوم الآفات" (¬1). وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلمِ-، إِذْ بَصُرَ بِجَمَاعَةٍ فَقَالَ: عَلَامَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ؟ قِيلَ: عَلَى قَبْرٍ يَحْفِرُونهُ، قَالَ: فَفَزعَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَبَدَرَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ مُسْرِعًا، حَتَى انْتَهَى إِلَى الْقَبْر، فَجَثَا عَلَيْه، قَالَ: فَاسْتَقْبَلْتُهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ؛ لِأَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ، فَبَكَى حَتَى بَل الثَرَى مِنْ دُمُوعِهِ ثم أَقْبَلَ عَلَيْنَا، ثم قَالَ: أَيْ إخْوَانِي لِمِثْلِ الْيَوْمِ فَأَعِدُّوا" (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» (¬3). وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً، فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتْنَةِ، مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الخَزَائِنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ؟ يَا رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ» (¬4). ¬

_ (¬1) "نفسه" (3/ 195). (¬2) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 229)، وابن ماجه (4195)، وأحمد (4/ 294)، وحسنه الألباني في "الصحيحة" رقم (1751). (¬3) رواه مسلم (118)، في الإيمان. (¬4) رواه البخاري (1126)، (3/ 10 - الفتح).

فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحجُرَاتِ؟ ... " إلخ، يفهم منه إيقاظهن للصلاة والتهجد؛ لمدافعة الفتن، كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} الآية [البقرة: 45]. وبلغ حرصُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حث المسلمين على العمل المثمر ما أمكن العمل إلى حد قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنْ قَامَتِ السَّاعَة وَفي يَدِ أَحَدِكُم فَسِيلَةٌ (¬1) فَإِن اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ (¬2) حَتَّى يَغْرِسَهَا فَليَغْرِسْهَا" (¬3)، فإذا كان هذا والحياةُ تَلْفِظُ أنفاسها الأخيرة، فكيف إذا كان بيننا وبين الساعة آمادٌ مجهولةٌ لا يعلمها إلا الله تعالى؟ فالمسلمُ يَغْتَنِمُ لحظته الحاضرةَ بقطع النظر عن ماضٍ تولَّى، ومستقبلٍ هو غيبٌ، قال الشاعر: إِنَّمَا هذِهِ الحَيَاةُ مَتَاعٌ ... فالجهُولُ المغرُورُ مَنْ يَصْطَفِيهَا مَا مَضَى فَاتَ وَالؤُمَّلُ غَيبٌ ... وَلَكَ السَّاعَةُ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا وعن داود قال: قال لي عبد الله بن سلام: "إن سمعت بالدجَّال قد خرج وأنت على وَدِيَّةِ (¬4) تغرسها، فلا تعجل أن تصلحه؛ فإن للناس بعد ذلك عيشًا" (¬5). ¬

_ (¬1) الفسيلة: النخلة الصغيرة. (¬2) أي: من محله الذي هو جالس فيه. (¬3) رواه الإمام أحمد (3/ 183)، والطيالسي (2068)، والبخاري في "الأدب المفرد" (479)، وصححه الألباني على شرط مسلم في "الصحيحة" رقم (9). (¬4) الوَدِيَّة: الفسيلة الصغيرة. (¬5) قال الألباني: "سنده صحيح" اهـ، من "الصحيحة" (1/ 12).

وروى ابن جرير عن عُمارة بن خزيمة بن ثابت -رضي الله عنه- قال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول لأبي: "ما يمنعك أن تغرس أرضك؟ " فقال له أبي: "أنا شيخ كبير أموت غدًا"، فقال له عمر: "أَعزِمُ عَلَيْكَ لَتَغْرِسَنَّهَا"، فلقد رأيت عمرَ بن الخطاب- رضي الله عنه- يغرسها بيده مع أبي (¬1). وعن الحارث قال: كان الرجل منا تُنْتَجُ (¬2) فرسُه فينحرها، فيقول: أنا أعيش حتى أركب هذا؟! فجاءنا كتاب عمر -رضي الله عنه-: "أن أصلحوا ما رزقكم الله، فإن في الأمر تنفسًا" (¬3). ¬

_ (¬1) عزاه الألباني إلى "الجامع الكبير" للسيوطي (3/ 337/ 2). (¬2) أي: تَلِد. (¬3) "صحيح الأدب المفرد" (370)، ص (180).

تنبيه لا شك أنه كلما تقدم الزمن فإنا نصير أقرب إلى الأشراط التي لما تقع

تَنْبِيهٌ لا شك أنه كلما تقدم الزمن فإنا نصير أقربَ إلى الأشراط التي لَمَّا تقع، وهذا يستوجب مزيدًا من الحذر والاستعداد، ولعل أخطرَ هذه الأشراط طلوعُ الشمس من مغربها، وهو المقصود بقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 185]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ فَيَوْمَئِذٍ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} (¬1). وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَة مَا تقُبّلَتِ التَّوْبَةُ، وَلَا تَزَالُ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن المغْرِبِ، فَإِذَا طَلَعَتْ طُبعَ عَلَى كللّ قَلْبٍ بِمَا فِيهِ، وَكُفِيَ النَّاسُ الْعَمَلَ" (¬2). قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "إذا أنشأ الكافر إيمانًا يومئذٍ لا يُقْبَلُ منه، فأما من كان مؤمنًا قبل ذلك، فإن كان مصلحًا في عمله، فهو بخير عظيم، وإن كان مُخَلِّطًا فأحدث توبةً حينئذٍ، لم تُقبل منه توبة" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- البخاري (11/ 352 - الفتح)، ومسلم (2/ 194 - نووي). (¬2) رواه الإمام أحمد (3/ 133، 134)، رقم (1671)، وقال الشيخ أحمد شاكر: "إسناده صحيح". (¬3) "تفسير القرآن العظيم" (3/ 371).

على المؤمن أن يميز بين ما يعنيه، وما لا يعنيه

فهذا غاية أجل التوبة في حق عمر الدنيا، أما غايته في حق كل إنسان فَبَيَّنهُ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» (¬1)، أي: ما لم تبلغ رُوْحُهُ حُلْقُومَهُ. وعليه فإن الواجب على المؤمن أن يميز بين ما يَعْنيْه، وما لا يَعْنيْه، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» (¬2). ومن صور اشتغال المرء بما لا يعنيه أن يديمَ البحث: متى الساعة؟ مع أنه غيب استأثر الله بعلمه، وإنما اشتغالُهُ بما يعنيه في هذا الباب أن يجتهدَ في الإعداد للساعة والتهيؤ لها، وبخاصة الساعة الخاصة به (¬3)؛ وهي لحظة موته؛ ولذلك لما سأل رجل النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا نبي الله متى الساعة؟ " لم يلتفت إلى سؤاله، وأرشده إلى الاشتغال بما يعنيه، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ ... " (¬4) الحديث. ¬

_ (¬1) رواه الأمام أحمد (9/ 17 - 18)، (6160)، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر. (¬2) أخرجه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الترمذي (2318)، وابن ماجه (3976)، وحسنه النووي -رحمه الله تعالى-. (¬3) وهي التي قال فيها -صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال ستًا" ذكر منها: "وَخُوَيصَةَ أحَدِكُم" أي: ساعة موته الخاصة به، وعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، قالت: "كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألوه عن الساعة: متى الساعة؟ فنظر إلى أحدث إنسان منهم، فقال: إن يعش هذا، لم يدركه الهرم، قامت عليكم ساعتكم"، رواه مسلم (2952)، يعني يموت ذلك القرن، أو أولئك المخاطبون، وانظر: "فتح الباري" (10/ 556)، وراجع: بيان "الراغب" لمعاني الساعة، ص (18 - 20). (¬4) رواه البخاري (6167)، (10/ 553)، ومسلم (2639)، (163).

لقد قال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 99]، فلم يجعل الله تعالى لعمل المؤمن أجلًا دون الموت، فما دام في المؤمن عرقٌ ينبض بالحياة فهو مكلف بالعمل الصالح، بغض النظر عما يتوقعه من أشراط الساعة، والله تعالى أعلم.

فارغ

الفصل السادس أسباب ظاهرة العبث بأشراط الساعة

الْفَصْلُ السَّادِسُ أَسْبَابُ ظَاهِرَةِ الْعَبَثِ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ لقد شاع في السنوات الأخيرة ظاهرة الإلحاح في محاولة المطابقة بين النصوص الواردة في أحداث آخر الزمان وبين الوقائع المعاصرة والمتوقعة، وقذفت المطابع بعشرات الكتب، وعشرات النشرات، والمقالات، والأشرطة، فيها خَوضٌ في "أشراط الساعة"، مرة بحق ومرات بالظن، والقول على الله بغير علم، واختلط الحق بالباطل، والتبست الأمور على الجمهور حتى صار المناخ مهيًا لتفريخ مهدي موهوم، أو مسيحٍ كذاب، أو منقذ دجَّال، وفيما يلي نحاول رصد بعض أسباب تلك الظاهرة: السَّبَبُ الْأَوَّلُ: شيوعُ الفتن، وظهورُ المنكرات، وَتَحَقُّقُ كثير من أشراط الساعة الصغرى. السبب الثاني: ذَهاب العلماء، وقعود المتأهلين عن التحمل والبلاغ، وبالتالي غياب أو ضعف المرجعية الشرعية التي يفزع الناس إليها -لا إلى غيرها- في النوازل بحثًا عمن يضبط لهم الأمور، إعمالا، لقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

المتطفلون من أنصاف وأرباع المتعلمين يشكلون مركز قوى تفتئت على المرجعية الشرعية وتحجم دورها

في الوقت الذي نبغت فيه طوائف "متطفلة" من "أنصاف، وأرباع" المتعلمين، فضلا عن المبتدعة، والغوغاء الجاهلين الذين فرضوا أنفسهم فرضا على الساحة الفكرية، وشكلوا "مراكز قوى" تبادر من تلقاء نفسها إلى أن تدلي بدلوها في كل نازلة عبر وسائل الإعلام، وتفتئت على المرجعية الشرعية؛ إن لم تسفه أقوالها، وتَفْرِ أعراضها، وتضغط عليها. عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ضَافَ ضَيْفٌ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وفي دَارِهِ كَلْبَةٌ مُجِحّ (¬1)، فَقَالَتِ الْكَلْبَةُ: "وَاللهِ لَا أَنْبَحُ ضَيْفَ أَهْلِي"، قَالَ: فَعَوَى جِرَاؤُهَا (¬2) فِي بَطْنِهَا، قَالَ: قِيلَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: فَأَوْحَى اللهُ -عز وجل- إِلَى رَجُل مِنْهُمْ: "هَذَا مَثَلُ أُمَّة تكونُ مِنْ بَعْدِكُمْ يَقْهَرُ سُفَهَاؤُهَا أَحْلَامَهَا" (¬3) (¬4). وقال -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي الذي سأله: متى الساعة؟: "إذَا ضُيِّعَتِ إلأمَانةُ؛ فانْتَظِر السَّاعَةَ"، قال: كيف إضاعتها؟ قال: "إذَا وُسِّدَ الأمْرُ إلى غَيرِ أَهْلِهِ؛ فانْتَظِر السَّاعَةَ" (¬5). ¬

_ (¬1) مُجِحٌّ: حامل قَرُبَ وقت ولادتها. (¬2) الجرو: الصغير من ولد الكلب والأسد والسباع، وجمعه: جِراء، وأَجْراء. (¬3) أحلامها: عقلاءها. (¬4) رواه الإمام أحمد (2/ 170)، رقم (6588)، وقال الشيخ أحمد شاكر: "إسناده صحيح"، وقال في "مجمع الزوائد": (رواه أحمد والبزار والطبراني) اهـ. (7/ 280). (¬5) رواه البخاري (1/ 142 - فتح).

السبب الثالث

السبب الثَّالثُ الاضطهاد العالمي للإسلام وأهله، في مقابلة ضعف الأمة، وهذا واضح لكل ذي عينين، فقد دقَّ الغرب بقيادة أمريكا طبول الحرب ضد الإسلام حتى قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر بسنوات، وبدأ المفكرون والساسة -الغربيون- بمجرد انهيار وتفكك "الاتحاد السوفيتي" في البحث عن "عدو"، ورُشِّحَ الإسلام لذلك، وتعالت صيحاتُ مفكريهم؛ مثل "هنتنجتون" وغيره بحتمية الصراع بين الحضارات، وكتب منظروهم مثل: "نيكسون"، وغيره، مُحَذِّرِينَ من الخطر الإسلامي، وجزم بعضهم بأن "القرن القادم هو قرن الحروب الدينية"، وشاع في الغرب ما سمي ب "رُهاب الإسلام" Islamophobia، وكان لأحداث البلقان والمذابح الوحشية المتتالية للمسلمين هناك، وكذا انفجار الانتفاضة في فلسطين المباركة، وأحداث الجزائر، والشيشان، والخليج الإسلامي، وإندونيسيا، والسودان، ثم أفغانستان، والعراق، والصومال، وغيرها أثر عميق في نفوس المسلمين؛ إذ رأوا الانحياز الظالم للغرب ضدهم، وعاينوا نفاق الغرب المدعي حماية حقوق الإنسان، وكيف أن الغرب كان يأكل -تحت وطأة الشَّرَهِ الصليبي- "صنم العجوة" (¬1) الذي يعبده باسم الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، كل هذا وغيره ولَّد شعورًا بالمرارة، والظلم، والقهر، ضاعفه الحملاتُ القمعية الشرسة داخل بعض بلاد المسلمين ضد الدعاة إلى الله، ورموز الإسلام، ¬

_ (¬1) الإشارة إلى ما رُوي من أن بعض الناس في الجاهلية كان يصنع صنمًا من العجوة؛ ليعبده، فإذا جاع أكله.

السبب الرابع

وأطلقت يد وسائل الإعلام العالمانية التي عاثت في الأرض فسادًا، وصدَّت الناس عن سبيل الله بدعوى محاربة ما أسموه "التطرف، والإرهاب، والأصولية " ... إلخ. لقد تراكم الشعور بالظلم في النفوس المكبوتة، واقترن ذلك بتدهور حال الأمة، وتداعي الكفارِ عليها تداعِيَ الأكلة إلى القصعة، ففزع البعض إلى مواجهة هذه الأوضاع "بالفِرَار" إلى التطلع إلى ظهور المهدي، ونزول المسيح عليه السلام، وهذا -في الجملة- لا يُنكر، كما سنبين إن شاء الله تعالى (¬1). لكن المنكر أن بعضهم حاد عن الضوابط العلمية، وقفز فوق السنن الكونية، وتقوَّل على الله بغير علم، حين حَّدد بعض الشخصيات المعاصرة على أنها المقصودة في بعض الأحاديث، أو زعم أن المهدي موجود الآن في مكان كذا، أو رسم صورة تفصيلية لأحداث المستقبل -وهو غيب لا يعلمه إلا الله- بمجرد الظن والتخمين. ومن هنا نشأت ظاهرة "العبث بأشراط الساعة"، التي راجت في السنوات الأخيرة. السَّبَبُ الرَّابع: انفتاح المسلمين على "الإسرائيليات" القديمة والمعاصرة (¬2)، وتأثر البعض ب"هَوَسِ"، أو "حُمَّى" الألفية الجديدة الرائجة في العالم الغربي، ¬

_ (¬1) انظر: ص (254). (¬2) انظر: فصل "ظاهرة التطبيع مع الإسرائيليات" ص (196).

تنبيه ينبغي التفريق بين "تقبل" و"تصديق" هذه الإسرائيليات بنوعيها، وبين "رصد" أفكار الخصم من باب "اعرف عدوك"

والمسيطرة على صُنَّاع القرار هناك، وهذا ما نبينه في الباب التالي إن شاء الله. تنبيه ينبغي التفريق بين "تقبل" و"تصديق" هذه الإسرائيليات بنوعيها، وبين "رصد" أفكار الخصم من باب "اعرف عدوك"، {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55]، وليفهم أولو الرأي من المسلمين مقاصد الأعداء بهم، وكيف يفكرون؟ وماذا يخططون؟ على أن ينحصر الاشتغال بها في المختصين بذلك ما أمكن؛ حماية للعوام من الوقوع في حبائل تلك الإسرائيليات وتقبلها، والتسليم لها، والبناء عليها؛ كأنها وحي منزل.

فارغ

الباب الثَّاني مَجَالاتُ العَبَثِ باَشْرَاطِ الساعَةِ

فارغ

الباب الثاني مجالات العبث بأشراط الساعة

الباب الثّاني مَجَالَاتُ الْعَبَثِ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ نعرض في هذا الباب بعض المجالات التي كانت مَسْرَحًا لخوض الخائضين -بغير علم- في بعض أشراط الساعة، وإن مطالعة هذا الباب لتحتاج من القارئ أن يستجمع صبره على ما سوف نورده من مزاعم فجَّة، وأكاذيب مفضوحة. لقد أذاع ممثل سينمائي عالمي يدعى "أورسون ويلز" يوم أول أبريل قبل نحو خمسة وأربعين عامًا من محطة إذاعة "لندن" خبر تعرض الأرض لهجوم ساحق من سكان المريخ، وراح يصف الهجوم وأحداثه لحظة بلحظة، وكأنها تقع فعلًا، حتى أشاع الذعر والرعب والهلع بين الناس لمدة ساعتين قبل أن يعترف بأنها مجرد "كذبة أبريل" (¬1). وإن العابثين بأشراط الساعة مِن بني جلدتنا ليريدون أن يجعلوا كل أيامنا أول أبريل، ويجعلوا منا -إذا صدقناهم- حمقى ومغفلين (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الأطباق الطائرة ومثلث برمودا بين الحقيقة والخرافة" ص (62). (¬2) يطلق الإنكليز على أول أبريل يوم "جميع الحمقى" All Fools Day))، ولعل من أشهر ما وقع في أوربا في أول أبريل: (أن جريدة " Evening Star" أعلنت في 31 مارس 1846م أن غدًا -أول أبريل- سيقام معرض للحمير عام في غرفة =

وقد يتعجب القارئ المكرَّم لهذه المقدمة، ولكن سرعان ما سيزول العجب إذا عُرفَ السبب!!

_ = الزراعة لمدينة "اسلنجتون" من البلاد الإنكليزية، فهُرع الناس لمشاهدة تلك الحيوانات، واحتشدوا احتشادًا عظيمًا، وظلوا ينتظرون، فلما أعياهم الانتظار سألوا عن وقت عرض الحمير، فلم يجدوا شيئًا، فعلموا أنهم المقصودون) اهـ. بتصرف من "كذبة أبريل: أصلها التاريخي، وحكمها الشرعي" للدكتور عاصم القريوتي ص (15).

الفصل الأول عبثهم بعلامة خروج المهدي

الفَصلُ الْأَوّلُ عَبَثُهُم بِعَلَامَةِ خُرُوجِ المَهدِيِّ وهذه من أكثر الظواهر تكْرَارًا كما بيَّنتُه مفصلًا في كتاب "المهدي"، حتى اشتكى ابن خلدون -رحمه الله تعالى- من كثرة مُدَّعي المهدية، وتوقعاتِ الذين يَرْجُمُونَ بالغيب فقال: "إلى كلام من أمثال هذا، يُعَيِّنون فيه الوقتَ، والرجلَ، والمكانَ، بأدلة واهية، وتحكمات مختلفة، فينقضي الزمانُ، ولا أثرَ لشيء من ذلك، فيرجعون إلى تجديد رأي آخرَ مُنْتَحَلٍ كما تراه من مفهومات لغوية، وأشياء تخيلية، وأحكام نجومية، في هذا انقضت أعمار الأول منهم والآخِر" (¬1). اهـ. ومن ذلك قول "محمد عيسى داود" (¬2): إن المهدي "إسرائيلي الجسم"، ويشرحها بأن المقصود أنه ليس من البدو، ثم يضيف: "فهي لمسة لطيفة تعني: لا تلتفتوا لمن يدعي المهدية لنفسه، خاصة من البلاد التي ترتدي الجلباب والعقال" (¬3)!! بل تراه يحدد -بدقة- زي المهدي، فيقول: "المهدي يلبس الزيَّ الرومي؛ يعني لبسه الأساسي هو الزي المدني الحالي بجميع أشكاله الحضارية المدنية الحالية، فهو ليس غريبًا في ¬

_ (¬1) "تارلخ ابن خلدون" (1/ 582). (¬2) رائد العابثين بأشراط الساعة الملقب -لكثرة أسفاره- ب "السندباد المصري". (¬3) "المفاجأة" ص (88، 89).

هيئته عن الحضارة الغربية، وأحيانًا يرتدي العباءة والجلباب كما يرتديها أحدنا، وفي البرودة له "بالطو" مثل بالطو الإسكيندناف الروس، ولكن زَّيه الرسمي البدلة والكرافت" (¬1). ويقول "محمد عيسى داود" وهو يفتري ملابسات خروج المهدي، وما يعقبه: "يعلن تلفاز المهدي وإذاعاته على العالم كلِّه أن سلطات الأمن قبضت على جواسيس ومخربين من روما والفاتيكان، واعترفوا بأن "البابا" الجالس على عرش الفاتيكان يومئذٍ بدأ يجهز خطة سرية للقضاء على المهدي اغتيالًا، وأن الحكومة الإيطالية اشتركت معه بشبكات من المافيا (¬2)، ثم يعترف الجواسيس بالصوت والصورة على الهواء مباشرة، ثم تتحرك جيوش المهدي قاصدة روما والفاتيكان ... " وهكذا -على نفس المنوال- يسبح في بحر من الكذب والافتراء، وفي غيبوبة هذا الدجل لا يجد غضاضة من أن يتبجح بقوله: "هذه الأحداث نبوءات ليست من تأليفي، إنها واردة في المخطوطات العربية والإسلامية لدى شرق وغرب" (¬3). وفي موضع آخر يصف لحظة وقوف المهدي أمام الركن اليماني: "فإذا برجل يهجم عليه، ويصيح: "أنت المهدي المنتظر"، صرخ في الملأ بالحرم المكي الشريف: "إن خير البشر (؟) قد ظهر، إنه المهدي المنتظر"، وهنا يتقدم جمع من علماء المسلمين الذين يحجون البيت في ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (95). (¬2) "المهدي المنتظر على الأبواب" ص (238) وما بعدها. (¬3) "نفسه" ص (71) وما بعدها.

حتى المهدي "تايواني"

هذا العام المبارك، ومنهم من كان يرقب توقيته، أشجعهم عالم من مصر يواجهه بقوله: أنت بإذن الله هو المهدي" (¬1)! ومن غرائب الصفات المزعومة للمهدي قول بعضهم: "في لسانه ثِقَلٌ، إذا أبطأ عليه الكلام ضرب فخذه اليسرى بيده اليمنى فينطلق، هذا ما وردت به الآثار، وفي كثير من الأسفار، ولا داعي للإطالة بإيراد نصوصها، فإن الاختصار من صفات البيانات العاجله. أما عن سبب تلقيبه بالمهدي؛ فلأنه يهدي لأمر خفي، ويستخرج التوارة والإنجيل" (¬2). ولقد قرأت مقالا، في إحدى الساحات الحوارية (¬3) لكاتب أفاض في الأحداث التي خَمَّنَ وقوعها بين أمريكا والصين عمَّا قريب، والتي ستنتهي في زعمه بخروج المهدي من تايوان، إي والله ... حتى المهدي "تايواني" في نظر أولئك العابثين!! ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (65) وما بعدها. (¬2) "هرمجدون" ص (78). (¬3) "موقع القلعة العربي" بتاريخ (15/ 11/ 1421 هـ)، مقالة بقلم "نور الدين" بعنوان: "المهدي يخرج من تايوان".

فارغ

الفصل الثاني عبثهم بعلامة المسيح الدجال

الفَصلُ الثَّاني عَبَثُهم بِعَلَامةِ المْسِيح الدَّجَّالِ وإذ أتينا إلى ذكر الدجال فإنه يتحتم أن نقول مقدما: إن وجود العابثين اللاعبين بأشراط الساعة، وبالهيئة التي سنراها، هو في حد ذاته من أشراط الساعة التي أخبر بها الصادق المصدوق فيما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، يَأْتُونَكُمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ، وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ، لَا يُضِلُّونَكُمْ، وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ» (¬1). وأخص بالذكر منهم: الصحافي المتلبس بجريمة القول على الله بغير علم. وسأقتصر على ذكر كلام بعضهم دون تعليق؛ لأن مجرد سرده وثيقة إدانة تُوجبُ الحَجْرَ عليهم استصلاحا للديانة؛ ولأن فساد كلامهم يُغني عن إفساده، وبطلانه يغني عن إبطاله. ينقل "محمد عيسى داود" عن "دان شمرون" في خطبته أمام الخريجين الجدد اليهود لإحدى الكليات الحربية بتل أبيب قولَه: "إن سنة 2000 سوف تشهد نشوء قيادة جديدة"، ثم يقول -أي: محمد عيسى- "يقصد ¬

_ (¬1) رواه مسلم في "المقدمة" رقم (7)، والطحاوي في "المشكل " (4/ 204).

غلو الناس في "مثلث برمودا"

المسيخ الدجَّال" ثم يقول: "والحقيقة أن ما صرح به (دان شمرون) معتمدًا على معلومات أكيدة من رجال المسيخ بالكنيست الإسرائيلي، أو مستنبطًا من وثائق سرية لنبوءات حقيقية بالتوراة "المخبوءة"، وهو مطابق أو قريب جدًّا لحساباتي، وحَدْسي، واستبصاري الذي استلهمت فيه إيماني بالله، واستقرأت ما بين السطور في أحاديثَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نبي البشرية الأمين، ولو كره ذلك الأغبياء والضالون" (¬1). ويدعي أن كتابه المسمى "احذروا: المسيخ الدجَّال يغزو العالم من مثلث برمودا" (¬2) سيصدم المسيخ الدجَّال؛ فيقول: "والصدمة هنا ¬

_ (¬1) "احذروا: المسيخ الدجال يغزو العالم من مثلث برمودا"، ص (141، 142). (¬2) وإنما اختار "السندباد المصري" جزيرة "برمودا" استثمارًا لما يشيع من حوادث اختفاء الطائرات والسفن في مثلث "برمودا" الشهير، وما أُلّف حولها من عشرات الكتب، في حين [توضح الإحصائيات أن ما يحدث في مثلث برمودا من حوادث الموت والتدمير أقل مما يحدث في أماكن كثيرة مماثلة في العالم، مما ينفي تلك اللعنة التي أُلصقت بذلك المثلث البريء، والذي تشير الإحصائيات إلى أنه أكثر أمانًا من أية مساحة مماثلة فوق أرض الولايات المتحدة ذاتها. (وتظهر عدم دقة هؤلاء المؤلفين وتقديم معلومات خاطئة، أو ذكر عبارات مثيرة مضللة، أو أقوال ليس لها من أساس، يظهر هذا وغيره من التحقيقات الجادة التي تثار عادة بعد نشر هذه المعلومات الغريبة ..). وربما غرقت بعض السفن في أماكن بعيدة، ثم إذا بالمؤلفين الدجالين يدعون أنها كانت تبحر في مثلث برمودا، فالسفينة البريطانية (British York) غرقت قريبًا من (New Found Land) المقابلة لسواحل أيرلندا، والسفينة الألمانية "فريبا" غرقت في المحيط الهادي، لكن خيال المؤلفين ادعى غرقهما في مثلث برمودا]. اهـ. من (الأطباق الطائرة ومثلث برمودا بين الحقيقة والخرافة)، ص (56، 57).

"السندباد المصري" محمد عيسى داود فقد جعل من سيرة الدجال المطولة بالأكاذيب سيرة شعبية

للمسيخ (¬1)؛ لأن هذا الكتاب بلا شك -وإن شاء الله- هو أول كتاب يعرض المسيخ عاريًا في كل شيء؛ في فكره، في تصوراته، في تحركاته، في أماكنه الخفية وعلاقاته" (¬2). ويقول "سعيد أيوب" بعد ما ذكر بعض صفات والدَيْ الدجال: "وفي هذا إشارة إلى ضرورة رصد الدجَّال بالبحث وراءه في شهادة ميلاده، وشهادة توثيق زواج أمه من أبيه؛ لتحديد متى ولد بعد زواج أمه من أبيه" (¬3)! أما "السندباد المصري" محمد عيسى داود فقد جعل من سيرة الدجال المطولة بالأكاذيب سيرة شعبية مثل سيرة عنترة بن شداد، وسيرة تغريبة بني هلال، فهو يزعم أن ميلاد المسيح الدجَّال "تم منذ أربعة قرون تقريبًا، وهو ميلاد عجيب؛ لأن النطفة التي تخلَّق منها شارك فيها ¬

_ (¬1) وهو يصر على ترجيح تسميته بالمسيخ، كما في كتابه المذكور ص (12، 14)، مع كون هذا تصحيفا، انظر: "فتح الباري" (13/ 94)، حتى قال القاضي ابن العربي -رحمه الله تعالى-: "ضَلَّ قومٌ فرووه (المسيخ) بالخاء المعجمة، وشَدَّدَ بَعْضُهُم السين ليفرقوا بينه، وبين المسيح عيسى ابن مريم بزعمهم، وقد فرق النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما بقوله في الدجال: "مسيح الضلالة"؛ فدل على أن عيسى مسيح الهدى؛ فأراد هؤلاء تعظيم عيسى، فحرَّفوا الحديث ". اهـ. "فتح الباري" (13/ 94)، وأنظره أيضا: (2/ 318). (¬2) "احذروا"، ص (11). (¬3) وذلك بناء على رواية الترمذي، عن أبي بكرة مرفوعا: "يَمْكُثُ أَبُو الدَجَّالِ، وَأُمُّهُ ثَلَاثينَ عَاما لَا يُولَدُ لَهُمَا وَلَدٌ، ثُمَّ يُولَدُ لَهُمَا غُلَامٌ أَعْوَرُ، أَضَرُّ شَيء، وَأَقَلُّهُ مَنْفَعَةً"، والحديث في (ضعيف الترمذي)، (392) ص (253).

الشيطان، فهو مُهَجَّنٌ، أو خليط بين الإنس والشيطان، فهو من مواليد الحيض، أبوه أتى أمه في الحيض، وحدث الحمل الشيطاني، ويحتمل جدًّا أن يكون أباه (كذا!) ابن أمه، فهو في النهاية مولَّد عن زنًا خطير" (¬1). هـ. ويقول أيضًا: "والمسيخ صديق شخصي لإبليس، والعكس صحيح، وهما الآن ملكان يجلسان على عرش واحد أحدهما مرئي، والآخر لا مرئي إلا لجنسه من الأبالسة والجن" (¬2). وتأمل تخبطه في العبارة التالية: "وربما -والله أعلم- يكون عمره يزيد على 1500 سنة، فهو الشبيه البشري بإبليس، أو هو النسخة البشرية من إبليس، ولو شبهنا إبليس بمادة، فالمسيخ الدخال هو القنينة، فما هو إلا جسد يؤدي مهمة المسيخ، وإن كنت أرجِّح أنه من مواليد القرن السابع عشر الميلادي، وعلى أقصى تقدير السادس عشر، والله تعالى أعلم " (¬3). اهـ. نقول: {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} الآية، [الأنعام: 148]. وهو يجزم بأن المسيح الدجال "من مواليد اليمن، فهم أذكى أجناس اليهود" (¬4)، ثم يضيف: "وربما -والله أعلم- يكون من مواليد سوريا، ¬

_ (¬1) "احذروا" ص (16). (¬2) "ما قبل الدمار" ص (205، 206). (¬3) "احذروا" ص (21). (¬4) "نفسه".

لكنني أرجِّحُ أنه يمني المولد" (¬1)، غير أنه عاد في موضع آخر ليقول: "كذلك هداني الله -عز وجل- إلى أنه من مواليد الشام ... وبالذات من السامرة بفلسطين، وكنت أحسبه -مجتهدًا في هذا الحسبان- من مواليد اليمن، لظني أنهم أذكى اليهود" (¬2)، وقال: إنه أورد في كتابه "الخيوط الخفية" معلومات عن بداية نشأة الدجال من مخطوطات شديدة الندرة، ثم قال: "وعليه: فإن صح ما أتيت به من معلومات عن نشأة المسيخ الدجَّال؛ فهذا يُلغي ما ذكرته في كتابي "احذروا المسيخ" من أنه من مواليد اليمن -وإن كان عاش في اليمن، ونهل من معين بعض علمائها- وقد حدست من قبل أنه من مواليد سوريا، لكنه من مواليد السامرة، وعلى أي حال كلتاهما بالشام" (¬3). اهـ. ويستمر مسلسل الدجل والكذب، فيفتري قصة طويلة مملة عن نشأة الدجال وأسرته والقوم الذين نشأ فيهم، وكيف أن الله تعالى أمر جبريل الأمين أن يخسف بهم الأرض إلا طفلًا صغيرًا في قصر الحاكم -وهو الدجال- عليه أن يحمله إلى جزيرة في بحر كبير يسمى "بحر اليمن" (¬4). ويحلق بنا "السندباد المصري" في آفاق الدجل والدجالين، فيدعي أن الدجال رحل إلى مصر بعد سنوات من حياته في "السامرة"، حيث الفراعنة يحكمون، وبدأ يتقرب إلى أحد كهنة مصر الكبار، ويُغريه ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (23) وحذار أن تسأل عن دليل أو توثيق؛ فإنما هو الحَدْسُ، والتخمين! (¬2) "ما قبل الدمار" ص (194). (¬3) "الخيوط الخفية" ص (11). (¬4) "نفسه" ص (32).

بمعسول الكلام المهذب أنه سيكون الخادم الأمين له، والابن المطيع على أن يعلمه الحكمة والعلم، ويقربه إلى الفرعون الحاكم (¬1). ويدعي "السندباد المصري" أن الدجال هو السامري ذلك الرجل الكافر في عهد الرسول موسى -عليه السلام-، وطرده موسى -عليه السلام- من مصر فهو يخرج في آخر الزمن؛ لينتقم من شعب مصر لأنهم طردوه ... (¬2) ويدافع عن خيالاته في شأن السامري قائلًا: "إنني لم أجتهد في أصل تام من أصول الشريعة أو العقيدة، أو في معلوم من الدين بالضرورة، فهذه ثوابت لا نقاش فيها، إنما اجتهدت في مجال مفتوح، لا أؤاخذ به إن أخطأت، بل لي أجر، فما البال إن أصبت، وأجرى الله على يدي ما لم يسبقني فيه أحد؟ " (¬3). "والمسيخ الدجال رجل تعلم في "مصر الفراعنة"، وبرع في علوم الكهانة، والنجوم، والسحر، والهندسة بكل فروعها، والطب بكل فروعه، وحتى علوم النبات، والحيوان، والمعادن، والفيزياء، والكيمياء، والرسم .. وإن كان لم يظفر ببغيته من علوم الكهنة، فقد ضنُّوا عليه بها، وأعطوه القشور والفتات الذي نماه مع الزمن!! " (¬4). ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (45، 46). (¬2) "ما قبل الدمار" ص (66). (¬3) "نفسه" ص (134) وانظره: ص (130). (¬4) "نفسه" ص (199).

بيد أنه يقول في موضع آخر: "والمسيخ الدجال رجل تعلم في إنجلترا، وبرع في علوم الهندسة بكل فروعها، والطب بكل فروعه، وحتى علوم النبات، والحيوان، والمعا دن، والفيزياء، والكيمياء، والرسم" (¬1). ويدعي أنه مضى في رحلته إلى بلاد العرب، فنزل اليمن والشام والعراق، ثم أفريقيا الجنوبية، ثم إلى بلاد المغرب، ثم توجه إلى الأمريكتين (¬2). ويدعي أن الريح أخذته إلى بلاد الإنجليز والأيرلنديين والأسكتلنديين، ثم بلاد الفرنسيين، ولم يطب له المقام فيها، فعاد إلى أمريكا الجنوبية، ورسا هذه المرة على شاطئ "بورتريكو" (¬3). ويدعي أن المسيح الدجال طاف بلاد "الغال" (؟!)، ثم البلغار، ثم الأورال، ثم الغز، ثم جورجان، ثم عاد إلى جزيرته الخضراء ببحر اليمن، وادعى أنه: أحاط علمًا بعدة لغات من الهيروغليفية إلى لغات شعوب ما وراء النهرين (¬4)، ويدعي في موضع آخر أن الدجال رحل إلى بلاد الهند والبوذا، واليابان والصين (¬5). ويزعم أيضًا أن المسيح الدجال قد "تولاه أكثر من شخص بالتبني من اليهود ... إلى أن تبنته شخصية يهودية في إنجلترا، ونقلته من أرض ¬

_ (¬1) "احذروا" ص (29). (¬2) "الخيوط الخفية" ص (72). (¬3) "نفسه" ص (77). (¬4) "الخيوط الخفية" ص (59). (¬5) "نفسه" ص (63).

العرب إلى بلاد الغرب؛ لينشأ هناك، ويدرس كل العلوم الحديثة، ويحتل عقولا بالهيمنة، ويتفق معهم على بناء قلعة خارج العالم" (¬1). ويقول في موضع آخر: "وهيمن المسيخ على شخصيات يهودية في إنجلترا، وأقام شبكات على شتى الأنواع في بلاد الغرب، وبث فكره العلماني في كل العلوم الحديثة، ويحتل عقولا بالهيمنة، واتفق معهم على بناء قلعة خارج العالم" (¬2). - ويذكر أن به الآن "بعض الصلع في مقدم رأسه" (¬3). - أما عيناه فهو أعور العين اليسرى، وهي بشعة المنظر؛ لذا يداريها بدائرة سوداء، كما كان يفعل "موشي ديان" (¬4). - ويدعي أنه أحاط بأسرار ومفاتيح علوم عديدة؛ منها: الطب، وأنه استعان حتى بخبراء في طب أعصاب العيون من الجن والشياطين فعجزوا عن معالجته (¬5). - ويصفه بأنه حاكم "ديمقراطي"، بدليل أنه يمشي في الأسواق (¬6). - وهو رجل شاء الله له اشتعال غدته الصنوبرية (¬7). ¬

_ (¬1) "احذروا" ص (23، 24). (¬2) "ما قبل الدمار" ص (196). (¬3) "احذروا" ص (25). (¬4) "نفسه" ص (26). (¬5) "نفسه" ص (27). (¬6) "احذروا" ص (27). (¬7) "نفسه" ص (29).

ويدعي أن المسيح الدجال "رجل سيظهر في ثوب حاكم، أو رئيس دولة، وغالبًا ستكون الولايات المتحدة الأمريكية" (¬1)، ثم يقول: "ولا أستبعد أن يكون آدم وايزهاوبت (¬2) يهودي الأصل، بل لا أستبعد أن يكون هو نفسه المسيخ الدجال، لو كان أعور العينين، ولو كان معي صورة له لحددت ذلك الأمر (¬3)، وإن كنت أغلِّب أنه حلقة الوصل، أو الصديق المخلص جدًّا للمسيخ الدجَّال، أو ممثله الشخصي أمام الروتشيلديين الأثرياء اليهود، ثم من يختارهم لتكوين المنظمة السرية" (¬4) اهـ. ويدعي أنه "تحالف مع إبليس ووقَّعَا عقدًا كتابيًّا بينهما، واتفقا على إنشاء قصر مركزي لإبليس قرب برمودة، على أن يكون مقرًّا مؤقتًا للدجال، يدير منه شئون الكرة الأرضية ... " (¬5). ويقول: "كان المسيخ الدجَّال يحلم بتأسيس قلعة رهيبة؛ لتكون قاعدة لمدينة تعتبر في هذه الأرض، ولكنها خارجها أيضًا، وانتقى إبليس له ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (33). (¬2) (أستاذ قانون يسوعي في جامعة إنجولدشتات، ترك النصرانية، وتحالف مع المرابين الذين قاموا بتنظيم مؤسسة روتشيلد؛ لأجل تدمير الحكومات والأديان الموجودة، ثم نظم جماعة النورانيين؛ لوضع المؤامرة موضع التنفيذ)، باختصار من "احذروا" ص (43 - 46). (¬3) وبلغت قناعته بهذه الخيالات إلى حد أنه حاول الحصول على صورة له من مكتبات ألمانيا، أو مما سجل بأجهزة الكمبيوتر، كلما وجد. "احذروا" هامش ص (46). (¬4) "نفسه" ص (46). (¬5) "الخيوط الخفية" ص (89، 90).

المكان بالمحيط الأطلسي، حيث عرش إبليس، وذهب بمن اتفق معهم، وفعلوا ما فعلوا، وأسسوا ما أسسوا، قاعدة رهيبة، عبارة عن قلعة هائلة منيعة في مثلث برمودا، واستوحى التصميم المعماري لها من الهرم الأكبر، والنجمة السداسية الإسرائيلية. وهذه القلعة الرهيبة يتواصل اتساعها وتمددها وبناء جدرانها؛ أجزاء من الفولاذ؛ وأخرى من الزجاج غير قابل للكسر ولا للتحطيم" (¬1). "ومنظر القلعة المسيخية الخاصة بأسراره هو الشخصية فريد للغاية، وبها قطاعات على هيئة أهرامات متداخلة، بعضها يمكن تنقله في أي لحظة من اللحظات كأنها غواصة هائلة. وجزء من قلعته ظاهر للعيون فوق الماء، ولكن حوله مجال مغناطيسي قوي "شافطة" "خاطفة" يمكنها اقتناص أي شيء مهما كان حجمه، فهو يخشى دخول مركبة أو طائرة إلى مجال الرؤية فترى شيئًا ما بسهولة، ومن ثم كانت خطوطه الدفاعية الرهيبة، والقاعدة عنده: "من رأى لا يخرج". .. وفي هذه القلعة غرفة تحكم خاصة يمكنه من خلالها تدمير الأجزاء الأخرى من القلعة في حالة الاستيلاء عليها من قوى مجهولة ... " (¬2). "وقد نظم الدجال مع مجموعة علماء صوتيات لغة خاصة بشعبه بوحي اللغة السنسكريتية، كما أنها لغة شفرة، لو التقى رجلان لا يعرف ¬

_ (¬1) انظر: "احذروا" ص (48، 49). (¬2) "ما قبل الدمار" ص (475).

كلاهما الآخر من رجاله أو شعبه، فهي علامة امتياز خاصة ... وهنالك تُفتح الأبواب" (¬1). "وقد استغل الدجَّال وأعوانه وشعبه الذي يعيش في قلاعه ثروات ومعادن "أطلانطس"، القارة الغارقة تحت المحيط الأطلنطي" (¬2). ويدعي أن المسيح الدجَّال يربي جيشًا ضخمًا تحت الأرض، تحت المسجد الأقصى، وقريبًا منه، ثم يتمادى بمحاولة تعليل اختياره هذا الموقع الفريد .. ويصل به خياله الواسع إلى حد زعم أن مهندسي المسيح الدجَّال راحوا يصنعون مع الحفريات أنفاقًا مكيفة، ومجهزة للحياة تحت الأرض؛ لتجميع الأطفال بها، وعمل كتائب من الأطفال اليهود؛ كرؤساء وقوَّاد ... إلخ (¬3). ثم يدعي أن المسيح الدجَّال قد "تحكم في سرعة الرياح بأجهزة إشعاعية، وتحكم في الذبذبات، واخترع أجهزة إشعاعية تلون الهواء باللون الذي يريد، بل أجهزة أخرى تصنع حوائط هلامية في الهواء؛ كألواح من زجاج. واخترع طواحين هوائية ذات أجهزة شافطة وجاذبة، لدرجة إمكانية جذب عدة طائرات، أو سفن ضخمة للاستيلاء عليها (¬4). ¬

_ (¬1) "الخيوط الخفية" ص (177). (¬2) "احذروا" ص (49، 50). (¬3) "نفسه" ص (126). (¬4) وهو هنا يعلل الظواهر المزعومة حول مثلث "برمودا" بأن وراءها "المسيح الدجال"

وللرجل بقلعته الهائلة إدارات، ومعامل، ومصالح، حتى الجوازات، وعنده أجهزة إرسال، وتشويش، وبث، وشل، فلو أراد أن يوقف الإرسال في تلفزيونات الأرض كلها لأوقفها" (¬1). وقلاعه أو مدنه أماكن مترفة جدًّا، لدرجة أن من يعيش هناك قد لا يتمنى مغادرة المكان (¬2). ثم يفشي "السندباد المصري" سِرًّا خطيرًا فيقول: "وقد تكون مفاجأة لقرائي الأحباء أن أقول: إن الدجال كتب بعض مذكراته، وكتب بعض القصص التي تُحوَّل إلى أفلام هوليوودية، أما مذكراته السرية وقصص مغامراته وخططه الظلامية فهو يحفظها بقلعته الهائلة في مكتبة سرية، ويسجلها على جهاز كمبيوتر بعدما يكتبها بيده. وقد كتب هذا المتجبر المتألِّه المزوِّر حوالي (10 مجلدات) كل مجلد يقع في (2000 صفحة) من القطع الكبير، ووضع على كل مجلد (خاتمة) وعنونه بعنوان: - الخمس مجلدات الأولى عنوانها: "عندما أملك الدنيا"!! - والخمس الأخرى: "يوم يكون الكون في قبضتي والكرة الأرضية مكتبي " .. إن الرجل أسرف في أمانيه التي ناوشت الكون كله" (¬3). اهـ. ¬

_ (¬1) "نفسه"هامش ص (51). (¬2) "نفسه" ص (53). (¬3) "الخيوط الخفية" ص (94).

خرافة الأطباق الطائرة

خرافة الأطباق الطائرة ثم انتقل بعقليته "السندبادية" الطوَّافة إلى الحديث عن "الأطباق الطائرة" قائلًا: "وأقسم لكم بالله غير حانث أنهم من هذه الأرض، ومن أبنائها، ولكنهم رجال المسيخ الدجَّال، وتلك الأطباق من اختراعه الذي سبق به زماننا بقرون" (¬1). اهـ. أقول لهذا الظالم لنفسه: "حنثت يمينك يا سندبادُ فَكَفِّرِ! ". إن ما سُمِّي بظاهرة الأطباق الطائرة، وشغل الناس رَدَحًا من الزمان؛ قد بان لنا الآن أنه لا يخرج عن كونه "سرابًا" أو "تكلفًا" أو "دجلًا سياسيًّا". أما كونه "سرابًا": فما حكاه بعض الطيارين من أنهم رأوا تلك الأطباق الطائرة؛ لا يعدو أن يكون سرابًا خادعًا يظهر نتيجة لما يسمى "الانعكاس الحراري" Temperature Inversion حيث تؤثر حرارة الشمس في الكتل الهوائية الساكنة، فتجعل منها طبقات فوق طبقات، لكل منها حرارتها وكثافتها، فيحدث انكسار ضوئي أو انعكاس ضوئي خلال تلك الطبقات بصورة أشياء في الهواء أو على الأرض (¬2). ولما أطلقت روسيا سِرًّا صاروخ "سويوز" حاملًا قمر التجسس "كوزموس 955" من قاعدة سرية، ساعدت الأحوال الجوية السائدة في ¬

_ (¬1) "احذروا " ص (59). (¬2) "الأطباق الطائرة ومثلث برمودا بين الحقيقة والخرافة" ص (15، 16).

فجر 20 سبتمبر 1977 م على تشكيل صورة جسم غريب من عوادم الاحتراق الناشئة من النفاثات الخمس الضخمة للصاروخ، فبقيت معلقة ومنتشرة على هيئة قنديل البحر الهلامي الضخم، فحسبه الناس طبقًا طائرًا، وأطلقوا لخيالهم العِنان في تفسير ما رأوه (¬1). وأما كونه "تكلفًا وتلفيقًا": ففي عام 1968 م شهد ثلاثون أمريكيًّا في جنوب "دنفر" بأنهم رصدوا طبقًا طائرًا، وبعدما أثار هذا ضجَّة أوضحت "مسز ديتريش" أن هذا الشيء هو من صنع وَلَديْها "توم" (14 سنة)، و "جاك" (16 سنة) اللذين أحضرا كيسًا كبيرًا من البلاستيك الرقيق الشفاف، وعددًا قليلًا من الشموع الصغيرة، ووضعاها داخل الكيس بطريقة خاصة، فارتفع إلى أعلى بفعل الحرارة المنبعثة من الشموع. وهذا صبي يعلق جسمًا مستديرًا على أغصان شجرة، ثم يلتقط لها صورًا ويذيعها على أنه رأى هذا "الطبق" يطير متنقلًا بين الأشجار، بسرعة 20 ميلًا في الساعة. وهذا آخر يعلق عَصَّارة ليمون، وآخر يلتقط صورة لمصباح نيون مستدير، وآخر يلصق رأس ماكينة كهربائية على زجاج نافذة ثم يصورها، وينشر صورها على أنها "طبق طائر" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "نفسه" ص (25). (¬2) انظر: "نفس المصدر" ص (32 - 39).

زعم بعضهم أن الطبق الطائر هو حمار الدجال

وأما كونه "دجلًا" سياسيّا: فلأن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) اعترفت بعد انتهاء ما سُمِّي بالحرب الباردة أنها كانت وراء إشغال الناس بهذا الموضوع (¬1) لتحقيق مآرب سياسية. والذي يلفت النظر أن الموضوع الآن خمد، وهمد، ولا يكاد يذكره أحد، فهل انقرض أهل الفضاء الخارجي الذين كانوا - في زعمهم- يأتون لغزو الأرض واستكشافها، أم أنه حقًّا الدجل السياسي؟! أما "هشام كمال" صاحب كتاب "اقترب خروج المسيخ الدجال" فيدلي بدلوه في هذا الحديث تحت عنوان: "الأطباق الطائرة هي السلاح الجوي للمسيح الدجال". ثم يذهب إلى أن "الحمار الذي سيمتطيه الدجال ما هو إلا طبق طائر صنعته له الشياطين" (¬2). ولم يكتفِ بهذا حتى قال في موضع آخر: "تفاصيل ما كشفت عنه الشياطين في جلسات تحضير الأرواح عن مجيء المسيح الدجال على طبق طائر" (¬3)، فهل صارت جلسات "تحضير الأرواح" وما تلقيه فيها الشياطين بزعمكم مصدرًا معتمدًا لديكم للإطلاع على الغيب؟! ¬

_ (¬1) ولقد كُتب حتى سنة (1978م) أكثر من مائة ألف تقرير عما أسموه "الأطباق الطائرة" UFO, وروَّجت المطابع والصحافة لها، كعادتها في مثل هذه الغرائب. (¬2) "اقترب خروج المسيخ الدجال" ص (156) و"الحرب العالمية القادمة في الشرق الأوسط" ص (127). (¬3) "نفسه" ص (159).

عود إلى السندباد المصري وهذاءاته

عودٌ إلى السندباد المصري لقد أقسم "السندباد" بالله غير حانث على ما زعم بشأن علاقة المسيح الدجال بخرافة "الأطباق الطائرة"، وهو يفتخر بأنه رائد الفكرة التي أحدثها، حتى لتقول مؤسسة سويسرية مزعومة: (إننا نتحدى العالم كله في قضية أن أول إنسان على وجه الأرض يكشف هذا السر الكبير عن الأطباق الطائرة، وعن مثلث برمودة، وملكية المسيخ الدجال لهما (¬1)، هو مفكرنا المصري الكبير "أ/ محمد عيسى داود") (¬2). وتأمل حجم البلية وأنت تقرأ قواله: "وسبحان الله .. بعدما نُشر كتابي "احذروا المسيخ الدجال"، وتحدثت فيه عن علاقته بالأطباق الطائرة؛ قال لي أمير عربي كبير صديق: لا يُنكر ما أتيت به إلا شخصان: إما "جاهل جدًّا" وإما "عميل جدًّا" يعلم جيِّدًا الحقيقة التي أتيت بها، لكن رأسه غالية عليه!! " (¬3). وبعد تأليفه تلك القصص الطريفة من "الخيال العلمي" يتهدد من يكذِّبه قائلًا: "ومن لم يصدقني فسيكون حاله ومآله كشعب "زرقاء اليمامة"، حينما أبصرت ما لا يبصرون، فأنذرت وحذَّرت، وكُذِّبت، فكان ما كان مما يمكن أن يتكرر مع مطلع شمس يوم قادم، نسأل الله منه السلامة" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر (61) وما بعدها. (¬2) "ما قبل الدمار" ص (40). (¬3) "الخيوط الخفية" ص (159). (¬4) "احذروا" ص (98).

ويدَّعي أن أَغلب أتباع الدَّجَّال يعيشون في أمريكا، "وله قصر رهيب مهيب لا أدري موضعه بالتحديد، ولكنني بالحدس الإسلامي أقول: إنه في فلوريدا". ثم يعيِّن ممثلين من "هولي وود" يرى أنهم من رجال المسيح الدجال: "ولي حدسي في أن "برت لانكستر"، و"كلينت إيستوود" من رجاله"، ثم يشير إلى أن الأخير رشَّحَ نفسه لمنصب الرئاسة، ثم تراجع، ويتساءل: "تُرى ممن صدرت الأوامر؟ " (¬1). ثم يقول: "كذلك السيد (!) الماسوني "آلان ديلون" فكَّر في رئاسة فرنسا، لكن دوره كممثل أكثر إفادة وتأثيرا، فكان التراجع، تُرى ممن تصدر الأوامر بالتراجع؟ " (¬2). ويذهب إلى أن "جورج بوش" الأب أحد عملاء الدجال يتلقى منه التعليمات (¬3). ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (117). (¬2) "السابق" ص (117). (¬3) "ما قبل الدمار" ص (241).

"السندباد المصري" يتتبع خيوط المؤامرة

خيوط المؤامرة يحرص "السندباد المصري" على إضفاء نوع من الغموض على "قصصه" الخيالية، فهو يدعي أنه تتبع خيوط المؤامرة من خلال رحلاته المكوكية في أقطار الأرض: 1 - فيدعي أنه التقى في السويد بنبيل من الأسرة الحاكمة للمملكة السويدية، وأنه اعترف له فيه صراحة بأن الذي قتل الأمير "شيريب" هو "الملك المنتظر لليهود"، ثم أضاف: "فقط كل المطلوب مني أمام هذا الاعتراف الصريح والثمين جدا أن يكون هذا هو اللقاء الأخير معه شخصيًّا في السويد، وألا يذكر اسمه في كتاب ولا حتى في حديث لي، أما لقاؤنا فيما بعد ففي أماكن أخرى!! (¬1). 2 - ومن السويد أمسكت بخيط غير هذا الخيط، وفي ألمانيا تواصلت الخيوط، وفي فرنسا تأكدت الخيوط، وكلها مشدودة في النهاية إلى القلعة الرهيبة التي يقترب رأسها أو يشير -بالمعنى الأدق- إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لتؤكد الإشارة أن "المخ" "والعقل المدبر" من ها هنا!! (¬2). 3 - .. وصارحتني أسرة ألمانية أن دورًا معينة حكومية، وغير حكومية، وسراديب ودفائن في "السويد"، و"ألمانيا"، و"الأمريكتين"، و"مصر"، و"اليمن"، و"فلسطين"، و"المغرب"، و"الفاتيكان" تشير صراحة إلى كل ما يحدث في هذه الأيام، وما سيحدث بعدها، ومن بين ¬

_ (¬1) "الخيوط الخفية" ص (13). (¬2) "نفسه" ص (16).

ثنايا بعض الوثائق التي اطلع عليها رب هذه الأسرة، قال لي: إنكم أيها المسلمون مناط (!) بأعناقكم مسئولية كبرى وهي إنقاذ العالم من أكبر دجال عالمي (¬1) ... ". وَيفترض أن بعض الناس ادَّعوا أن الذي أمده بهذه المعلومات عن الدجال هو ذلك الجني الذي قابله وأجرى معه حوارًا، وسجَّله في كتابه "حوار مع الجني المسلم مصطفى كنجور"، غير أنه يرفض بشدة هذا الادعاء، ويقول: "إن حادث الحوار كان عرضًا، وعندما أخبرت الجني ببعض ما وصلت إليه عن الدجال، فزع وتظاهر بالنوم، ثم طلب تغيير الموضوع؛ وغيرته لأنني كنت قد بدأت أمسك بأغلب الخيوط في قضية الدجال، ولا حاجة لي أن أسأل جنيًّا ولا إنسيًّا" (¬2). ... أما "فهد سالم" فيجزم بأن الدجَّال يزعم أنه مسلم، وأنه يُعطَى الرئاسة في إيران قبل ظهور المهدي، بل يُلَمِّح ثم يصرح بأنه "محمد خاتمي"، ويسميه: "آية الله جورباتشوف" (¬3)، ثم يحدد بدقة موعد خروج المسيح الدجال فيقول: "في 15 شعبان، 1420، الموافق 23 نوفمبر 1999 يخرج المسيح الدجال بفتنته الكبرى؛ حيث يدعي الألوهية، ويظهر المعجزات لفتنة الناس" (¬4). ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (19). (¬2) "ما قبل الدمار" ص (39). (¬3) "أسرار الساعة" ص (39). (¬4) "نفسه" ص (146).

إدعاء بعضهم وجود الدجال في مثلث برمودا

وهذا مؤلف "العالم ينتظر ثلاثًا"، يرتضي الغرابَ له دليلًا، فيقول: "وأنقل بعض كلام العلماء الذي ورد في هذا الموضوع مع أدلة موضوعية تثبت هذا الحديث، أن المسيح الدجال موجود بيننا الآن، وأنه موجود ماديًّا في مثلث برمودا، أو مثلث الرعب والشيطان كما يقول الغرب"، ثم يسرد أدلته على دعواه؛ وهي: - أنه لا تستطيع غواصة أن تسير في هذا المكان، ولا طائرة. - وجود صورة المسيح الدجَّال على ظهر فئة الواحد دولار. - وجود الجن في بيوت المسلمين وإيذاؤهم. وهذه أدلة مادية تثبت اتحاد المسيح الدجَّال مع الشيطان وجنوده لإيذاء المسلمين، ثم يضيف إلى أدلته: - ما يحدث من مذابحَ للمسلمين في دول أوربية في البوسنة وغيرها، وكذلك معظم (!) الدول العربية (¬1) اهـ. ¬

_ (¬1) "العالم ينتظر ثلاثًا" ص (69، 70).

الفصل الثالث اضطرابهم بشأن "صدام حسين"

الفَصْلُ الثالِثُ اضْطرَابُهُمْ بِشَأْنِ "صَدَّام حُسَين" ومن الكتب التي أثارت ضجة كتاب "المسيح الدجال، قراءة سياسية في أصول الديانات الكبرى"، لمؤلفه "سعيد أيوب"، ضمَّنه خليطا من النصوص الإسلامية، والأحاديث الضعيفة والموضوعة، وَجفر الرافضة، والإسرائيليات، ثم مزجها بتخيلاته وأوهامه الشخصية التي وصفها بأنها تصوراته للأحداث "المنظورة والمقروءة"، و"المرآة التي ينعكس عليها الحدث الذي يتطابق مع دائرة الزمن، أو عالم المشاهدة المنظور الذي ينطبق مع مخزون دائرة الذهن"، أو "عالم المشاهدة المنظور الذي ينطبق مع أحاديث عالم الغيب المخبوء الذي أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم- " (¬1). والغريب -أيضًا- أنه لم يقتصر على استدلاله بالإسرائيليات، حتى أضاف إليها تفسيرات إسرائيلية حديثة؛ كتفسير دانيال لإيرنسايد، وتفسير أشعيا لناشد، حنا، وتفسير حزقيال لرشاد فكري. ويدعي "سعيد أيوب" أن المهدي المنتظر هو: الرئيس العراقي "صدام حسين"، وبني ذلك على تفسيراتٍ لكُتَّابٍ من النصارى المعاصرين ¬

_ (¬1) "المسيح الدجال: قراءة سياسية في أصول الديانات الكبرى" ص (12).

قالوا: "ستكون هناك قوتان متضاربتان متنافستان على مركز السيادة في العالم: دول غرب أوربا والآشوري"، وقالوا: "الفرات هو الحد الطبيعي بين اليهود والآشوري"، وقالوا: "يد الله هي التي ستضرب بواسطة الآشوري" (¬1)، أما الحِلْف الذي سيكونه فقد قالوا: "ستكون القوة داخل حلفه مكونة من إيران، وسوريا، وليبيا، والسودان، وصُور، وشعوب منطقة الشرق الأدنى، وقبائل دول بحر قزوين، والبحر الأسود، والإسماعيليين، والهاجريين". لقد حُقَّ لصدام حسين أن يقع في حَيرة، فتارة يقولون هو الآشوري، وتارة المهدي المنتظر، وتارة السفياني، وأحسب أن صَدَّامَا لو مات لانهارت كل هذه التخرصات (¬2)، ولقال المتشبثون بها يومئذ: أُمْنِيةٌ ظَفرَتْ نَفْسِي بِهَا زَمَنًا ... وَاليَوْمَ أَحْسَبُهَا أَضْغَاثَ اَحْلَامِ ¬

_ (¬1) ومن المحتمل أن يكون "الآشوري المزعوم"، أو "صدام حسين" قد اطَّلع على هذه النصوص، وحسب أنه المهدي المنتظر؛ وقد يشير إلى هذا الاحتمال إعلانه قبل غزو الكويت أنه من أهل البيت، وإلحاحه على استعمال عبارة: "ساحرق نصف إسرائيل"، فقد قال رشاد فكري في تفسير حزقيال: "وسيحتل الآشوري نصف إسرائيل في أول أيامه"، وقال ناشد حنا في تفسير دانيال: "وسيستخدم العصا على إسرائيل "، وقال فكري: "وسيغزو أورشليم في حرب النهاية". (¬2) وقد انتهى الآن أمر صَّدام باحتلال العراق، وإقصائه عن السلطة، واعتقاله، ثم إعدامه وموته على خاتمة يظهر أنها حسنة -والله تعالى أعلم- فهل يثوب العابثون إلى رشدهم، أم يبقون سادرين في ظلمات الأماني والأوهام؟، وراجع محاضرة المؤلف: "شيعة أهل البيت الأبيض".

مؤلف "هرمجدون" يقطع بأن صدام حسين هو "السفياني"

وهذا مؤلف "هرمجدون" يقطع بأن صَدَّام حسين هو "السفياني" (¬1)، وأن غزوه للكويت وما تلاه هو "فتنة السرَّاء"، وهو الجولة الأولى من الحرب العالمية الثالثة التي يسميها -موافقة لأهل الكتاب- بحرب "هرمجدون" (¬2). ثم يتابع صاحبُ "هرمجدون" "محمد عيسى داود" في ما ادعاه من نص في "مخطوطات نادرة" -عديمة الأصل والصورة- يقول: "وفي عراق الشام رجل متجبر ... و ... سفياني، في إحدى عينيه كسل ¬

_ (¬1) في حين زعم "فهد سالم" في كتابه "أسرار الساعة وهجوم الغرب"، "أن السفياني زعيم عربي معاصر يصنعه الغرب الآن؛ ليكون ملكا للعرب في آخر هذا القرن؛ كما فعلوا مع جده في بداية القرن" ص (78)، ثم صرح بما ورَّى به -هنا- في ص (113)، ص (130) فقال: "إنه ملك الأردن" وإنه "الملك حسين" ص (137). ثم يخترع تفاصيل عجيبة عن أن الملك حسينًا يَبُثُّ جيوشه -بعد موت صدام- إلى العراق، والى المدينة، ويتحول الشعب الأردني إلى عدو لَدود، يطالب بمسح العراق من خارطة الوجود". اهـ. ص (137، 138) وقد توفي "الملك حسين" منذ سنوات، وبقي صدام بعده سنوات حيًا يُرزَق. (¬2) "هرمجدون" ص (19). وقد سلك صاحب "هرمجدون" مسلكًا انتقائيًا في التوصل إلى أن "صدام حسين" هو "السفياني": فمع ضعف الآثار التي استند إليها؛ إلا أنه أثبت منها ما يوافق هواه، وغض الطرف عما يهدم مزاعمه، مثل وصف السفياني بأنه "يخرج من مدينة دمشق" وأن "أصبعه الوسطى شلاء" وأن اسمه "عبد الله أو عبد الإله"، وأنه يملك حمل امرأة "أي تسعة أشهر"، وأن "راياته حُمْر"، وأنه "أعور العين أو أخوصُها"، وأنه "مشوه"، وأنه "يهزم الجماعة مرتين" ... إلخ تلك الصفات التي لا تنطبق على "صدام حسين"، كما أن صدامًا لا يلقب بالسفياني، ولا يُعْرَف أنه من بني أمية، وانظر: ص (86).

قليل، واسمه من الصدام، وهو صدام لمن يعارضه"، ثم يقول أمين جمال الدين: "والسفياني صدَّإم هو السفياني الأول، وسيليه السفياني الثاني المشوَّه، وهو ابنه الذي يعمل برصيد أبيه"، "والسفياني صدَّام فيه خير وشر، فإذا ظهر المهدي ذهب عنه كل خير، وكان شرًّا كلَّه، وحارب المهدي؛ مما يجعل المهدي يأمر بقتله، وتخليص النالس من شره" (¬1). وممن تولي كِبْرَ هذه الدعوى الدكتور "فاروق الدسوقي" -عفا الله عنه- إذ يقول: "السفياني سينتصر على كلِّ يحاربه, ويملك بعد دخول فلسطين وتحرير القدس مثل مُلك بختنصر ملك بابل القديم، الذي حكم المنطقة كلَّها". ثم يقول: "فهل هذا هو مُلك الرئيس العراقي صدَّام حسين، جابر قلوب الأمة الإسلامية المنكسرة، الأزهر، سليل الفاتحين، محرر القدس في زمان الإفسادة الأخيرة؟ المبعوث من شاطئ دجلة (تكريت) ليطهر بمائه القُدْلسَ من رجاسات اليهود؟ " (¬2). ويقول أيضًا: "فهو -أي السفياني- من أعظم شخصيات التاريخ الإسلامي؛ إذ يأتي في زمن ضعف الأمة وذلها، فيعزها الله -تعالى- على يديه بتحرير الأقصى، وتطهيره من رجس اليهود، ومن ثم جاء وصفه بأنه "الجابر" الذي يجبر الله -تعالى- على يديه قلوب أمة الإسلام ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (22). (¬2) "البيان النبوي بانتصار العراقيين على، الروم والترك، وتدمير إسرائيل" ص (84).

المنكسرة، كما جاء وصفه بأنه "الأزهر" لعلو نجمه ... وهذا كله ينطبق على الرئيس العراقي صدَّام حسين" (¬1)، ومن ثم فهو يُهْدِي إليه كتابه مخاطبًا إياه: "إلى فخامة الرئيس العراقي صدَّام حسين، أيها الجابر، أيها الأزهر، قائد أولي اليأس الشديد" (¬2). ويذكر في موضع آخر أنه "اكتشف" أن السفياني هو الآشوري، ويقول: "ولما شعرت بخطر شخصية السفياني، وعِظَم الأحداث والفتن التي تعاصره، رجعت للكتاب المقدس (؟!!)؛ لكي أجمع كل النصوص التي تتحدث عنه أو جُلَّها، وتفسيرها في ضوء القرآن الكريم"، إلى أن يقول: "وإذا بجميع هذه النصوص والأخبار عن هذه الشخصية في الوحيين القديم (!!!) والخاتَم، تتطابق مع واقع الرئيس العراقي المعاصر من حيث الصفات والأحداث" (¬3). ¬

_ (¬1) "البيان النبوي" ص (20). (¬2) "نفسه" ص (5). (¬3) "القيامة الصغرى على الأبواب" ص (16).

تنبيهان

تنبيهان الأول: اعلم -رحمك الله تعالى- أنه لم يصح شيء في أحاديث السفياني سواء منها ما كان مرفوعًا أو موقوفًا (¬1) قال ابن قدامة -رحمه الله تعالى- تحت عنوان السفياني والمهدي: قال محمد بن جعفر: "وهي هذه الأحاديث التي نهى أحمدُ إسحاقَ بن داود عن التحديث بها"، وساق الأحاديث (¬2). وقد ذكر صاحب "البيان النبوي" أن الحافظ نعيم بن حماد "خصَّص في كتابه "الفتن" اثني عشر بابًا للسفياني، وعشرة أبواب للمهدي"، ثم علَّق قائلًا: أي أن الأحاديث عن السفياني كثيرة جدّا، ومتواترة المعنى (!!) تواترًا يقوي ضعفها (؟!) اهـ (¬3). وهذه مجازفة شنيعة منه -عفا الله عنه- حيث تضم الأبواب التي أشار إليها آثارًا، والمرفوع فيها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- سبعة أحاديث ليس فيها التصريح باسم السفياني إلَّا في حديثين فقط برقم (795) ورقم (842) وهما شديدا الضعف. نعم ورد في الكتاب أحاديث أخر في غير الأبواب الاثني عشر المشار إليها فيها النص على اسم السفياني لكنها كلها ضعيفة واهية. ¬

_ (¬1) "إتحاف الجماعة" للتويجري (1/ 49). (¬2) انظر "المنتخب من العلل للخلال" ص (303). (¬3) "البيان النبوي" ص (21)، وسيأتي بيان كلام العلماء في "نعيم بن حماد"، وكتابه، فانظره ص (158)، وما بعدها.

الثاني: حول شخصية "القحطاني"

والعجيب أن مؤلف "البيان النبوي" يكتفي بالعزو إلى كتاب "الفتن" لأبي نعيم، ويتجاهل تحقيقها، ثم يوردها على أنها صحيحة. وقد بيَّن الإمام الحافظ المزي أسباب وضع أحاديث السفياني وما وافقها من آثار، ونقل عن الزبير بن بكار أنه قال: كان خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سيفان يوصف بالعلم، ويقول الشعر، قال عمي مصعب بن عبد الله: "زعموا أنه هو الذي وضع ذِكْرَ السفياني وكثَّره، وأراد أن يكون للناس فيهم مطمع حين غلبه مروان بن الحكم على الملك، وتزوج أمه أم هاشم، وقد كانت أمه تكنى به" (¬1). الثاني: حول شخصية "القحطاني" اعلم -أصلحك الله- أنه لم يثبت في "القحطاني" المذكور سوى حديثٍ واحدٍ، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ» (¬2). ومع ذلك قام أحد هؤلاء العابثين بالنفخ في شخصية القحطاني، تارة بالاختراع والافتراء، وتارة بالتقاط مجموعة من الآثار الباطلة من هنا وهناك، حتى الإسرائيليات؛ ليضخم شخصية القحطاني، ويرسم له دورًا كبيرًا في أحداث آخر الزمان (¬3). ¬

_ (¬1) "تهذيب الكمال" (5/ 430/ 1647). (¬2) رواه البخاري (3517) ومسلم (2910) وغيرهما. (¬3) وكتابه المذكور: "الثمر الداني في ذكر المهدي والقحطاني".

فارغ

الفصل الرابع الراجمون بالغيب القائلون ما ليس لهم به علم

الْفَصْل الرَّابِعُ الرَّاجِمُونَ بِالْغَيبِ الْقَائِلُونَ مَا لَيسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} [النجم: 28] نورد فيما يلي نماذج من تنبؤات بعض العابثين بأشراط الساعة، وبدون تعليق غالبًا؛ لأنها في قسم كبير منها تَهَاوَتْ، وانهارت حين خَيَّبت الأيامُ ظنونَهم، وأخلفت وعودهم، وصدق الشاعر: كل مَنْ يَدَّعِي بما ليسَ فيه ... فَضَحَتْة شَواهِدُ الامتحان فهذا مؤلف كتاب "الحرب العالمية الثالثة بين الإسلام والغرب" (¬1) يزعم أن المهدي المنتظر سيخرج في صيف 1991 م (1411 - 1412 هـ) وأن بداية الحرب القادمة بين اليهود والعالم الإسلامي ستقوم في نهاية 1993 م، وفيها سيُباد ثلثا اليهود، وأن المسلمين سيحررون فلسطين قبل نهاية القرن القادم (2000 م)، وأن الدجال سيخرج سنة (2000 م)، وأن موعد قيام الساعة لن يتجاوز سنة 2030 م بحال من الأحوال. ولا يتحرج هذا المؤلف من أن يختم كتابه بقوله: "أرجو أخي القارئ ألا يقسو في الحكم عليَّ إذا حدثت في المستقبل أحداث مختلفة بعض الشيء زمانيَّا أو مكانيَّا مع ما رويت في هذا الكتاب، فكل ما رُوي من ¬

_ (¬1) وهو كتاب مجهول السند والنسب، طبع سنة (1990 م) منسوبًا إلى د. عبد الناصر مدبولي الخضري، وبدون اسم مطبعة ولا ناشر.

أحداث في هذا الكتاب قمت باستخراجها بأدلة وأسانيد من بطون الكتب، وليست من الخيال أو الوهم الشخصي" (¬1) اهـ. كلامه. وصدق الشاعر إذ يقول: وعلى المُريبِ شواهدُ لا تُدْفَعُ وهذا صاحب كتاب "أسرار الساعة" يقول تحت عنوان: السيناريو المحتمل لتسلسل حوادث الفتن، والله أعلم: - في عام 1998 يُشغَل الناس باللعب واللهو في أولمبياد باريس، ثم تفاجئهم علامات الساعة الكبرى، وهم في غفلتهم يلعبون ... - في 1/ 1/ 1999 وفي الساعات الأولى من صباح يوم الجمعة 15 رمضان 1419 هـ يتم ارتكاب العمل الكوني المفزع، وهو تفجير المسجد الأقصى، وفي نفس اليوم تصل طلائع القوات الغربية، وتنزل في الأردن، وتحاصر بيت المقدس (¬2). - بعد تفجير الأقصى مباشرة يتم دخول الجيوش الغربية الأردن وفلسطين، وتطوق القدس حماية لليهود، حتى يكملوا بناء الهيكل مكان المسجد (¬3). - ويزعم أن المهدي يظهر في يوم الثلاثاء الموافق 25 محرم 1420 هـ، ويحدد المدة بين ظهور المهدي ونزول عيسى عليه السلام بأنها ثمانية أشهر (¬4). ¬

_ (¬1) "الحرب العالمية الثالثة بين الإسلام والغرب" ص (59). (¬2) "أسرار الساعة" ص (141)، وما بعدها. (¬3) "نفسه" ص (136). (¬4) "نفسه" ص (84).

- في أول ربيع الثاني 1420 هـ، الموافق 14/ 7/ 1999 م ينطلق صاروخ نووي من الخليج إلى أوربا مستهدفًا الفاتيكَان حسب الخطة المرسومة (¬1). - في أول أغسطس 1999 م الموافق 19 ربيع الثاني 1420 هـ تبسط إيران سيطرتها على معظم دول الخليج، وبعد ذلك يتم إلقاء قنبلة نووية أمريكية تدمر إيران بعد أن دمرت الخليج (¬2). - في جمادى ورجب وشعبان (أي 1420 هـ) الموافق من شهر سبتمبر 1999 م حتى نوفمبر تبدأ الملحمة الكبرى من مقر قيادة المسلمين في دمشق تحت قيادة المهدي عليه السلام (¬3). - في 15 شعبان 1420 هـ الموافق 23 نوفمبر 1999 م يخرج المسيح الدَّجال بفتنته الكبرى؛ حيث يدعي الألوهية، ويظهر المعجزات لفتنة الناس (¬4). - في يوم الجمعة 1/ 1/ 2000 م الموافق 25 رمضان 1420 هـ تشرق الأرض بنور النبي والرسول العظيم عيسى عليه السلام، ينزل في القدس والمسلمون بقيادة المهدي، يحاصرهم الدَّجال هناك (¬5). - يدعي أن عيسى عليه السلام ينزل إلى الأرض سنة 2000 م، ثم يقول: "وهذه النتيجة تكاد تتفق تمامًا مع ما يعلنه ويبشر به أهل الكتاب ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (146). (¬2) "نفسه" ص (146). (¬3) "أسرار الساعة" ص (146). (¬4) "نفسه". (¬5) "نفسه" ص (147).

عن طريق الحساب الموجود في كتبهم، وهو ما يعتقده كثير من الرهبان والقادة الكبار في العالم الغربي، وقد توصلنا إلى ذلك -ولله الحمد- عن طريق الاعتماد على أحاديث رسولنا العظيم (¬1) -صلى الله عليه وسلم- " (¬2). - وعندما يراه الدَّجال يهرب من القدس متوجهًا إلى أكبر مطارات إسرائيل، وهو مطار اللد الدولي، ولكن عيسى يلحق به قبل أن يقلع بطائرته، ويقتله قرب باب اللد الشرقي (¬3). - ويدعي أن وفاة عيسى عليه السلام ستكون عام 2007 م، وأن نهاية عمر الدنيا ستكون بإذن الله عند طلوع الشمس من مغربها في عام 2010 (¬4). وأمام جرأته على تعيين شخصيات هذه الأحداث فأمر عجيب: فهو يرى أن "الأبقع" هو ياسر عرفات، وأن الرجل "المشوه" هو الشيخ أحمد ياسين -رحمه الله تعالى-، وأن "الأصهب" حافظ الأسد، وأن "السفياني" هو حسين ملك الأردن، الذي سيبعث جيوشه إلى العراق والمدينة، وأن "صدام حسين" سيقتل في الكوفة (¬5)، وأن "عمر ¬

_ (¬1) وهذا افتراء على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي هو بريء من هذه الأكاذيب؛ وأقوى دليل على ذَلِكَ أَنَّهَا لم تقع في المواعيد التي حددها هذا الظالم لنفسه. (¬2) "نفسه" ص (70) وما بعدها. (¬3) "السابق" ص (147). (¬4) "السابق" ص (70). (¬5) انظر: "أسرار الساعة" ص (131، 137، 140، 141).

البشير" حاكم السودان هو الحاكم العادل المقصود بقول أبي قبيل: "يكون بأفريقية أميرًا ثنتي عشرة سنة، ثم تكون بعده فتنة، ثم يملك رجل أسمر يملؤها عدلًا، ثم يسير إلى المهدي، فيؤدي إليه الطاعة، ويقاتل عنه "، رواه نعيم بن حماد في كتاب الفتن (¬1). أما مؤلف "هرمجدون": - فهو يرى أن "قنطرة مصر" هي قناة السويس، وهي المذكورة في رواية نعيم بن حماد عن الزهري قال: "إذا اختلفت الرايات السود فيما بينهم أتاهم الرايات الصفر، فيجتمعون في قنطرة أهل مصر، فيقتتل أهل المشرق وأهل المغرب سبعًا، ثم تكون الدَّبَرة على أهل المشرق" (¬2)، وهو يدعي أن الرايات السود المشار إليها في هذا الحديث (؟!) قوات طالبان، وقوات التحالف الشمالي، وأما الرايات الصفر فهي القوات الغربية (¬3). ويقول: (وقد ظهر "الطالبان" حوالي سنة 1996 م، وتخبرنا الآثار التي جاءت بشأنهم أنه بين بدء ظهورهم وبين ظهور المهدي اثنان وسبعون شهرًا؛ أي ست سنوات) (¬4). اهـ. ¬

_ (¬1) "الفتن" (1/ 312) رقم (903)، واسناده ضعيف جدّا. (¬2) رواه نُعيم في "الفتن" (1/ 270) رقم (772) بسند ضعيف عن الزهري. (¬3) "هرمجدون" ص (34، 35). (¬4) "نفسه" ص (31) ونحن الآن -وقت خروج هذه الطبعة- في شهر أبريل 2007 م، فالمفترض -وففا لمزاعمه- أن يكون المهدي قد ظهر منذ خمس سنوات.

ثم هو يستروح لما روى نُعَيْمُ بن حماد بسنده قال: حدثنا أبو يوسف، عن محمد بن عبيد الله بن يزيد السندي عن كعب قال: "علامة خروج المهدي ألوية تقبل من المغرب، عليها رجل أعرج من كِندة" (¬1). ويجزم بأن المقصود بهذا "الأعرج" الجنرال الأمريكي "ريتشارد مايرز" رئيس هيئة أركان القوات المشتركة في أفغانستان؛ بدليل أنه رآه "مقبلًا على عكازين؛ ليعلن للشعب الأمريكي بدء عمليات القوات المشتركة الجوية والبرية والبحرية ضد أفغانستان، فقلت: الله أكبر!! صدقتَ يا رسول الله" (¬2) 1هـ. وما أدراك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نطق بهذا الخبر أصلًا؟ (¬3) وأين رجل مقبل على عكازين من رجل "أعرج"؟ وأين "كِندة" (¬4) بكسر الكاف من أمريكا أو حتى كَنَدا؟ ¬

_ (¬1) رواه أبو نُعيم في "الفتن" (1/ 332)، رقم (952)، وهو من مفاريده التي لا يحتج بها. (¬2) "هرهجدون" ص (36). (¬3) فها أنت ترى أن وَلَعَه بمطابقة الآثار الواردة في أشراط الساعة -ولو كانت ضعيفة أو باطلة- عنى الأحداث المعاصرة؛ قد استولى على عقله، وسيطر على وجدانه، واستحوذ على حواسه، وأخذ منه كلَّ مأخذ، حتى ليصدق فيه قول أبي نواس: مضى بها ما مضى من عقل شاربها ... وفي الزجاجة باقٍ يطلب الباقي فكل شيء رآه ظنه قَدَحًا ... وكل شخص رآه ظنه الساقى (¬4) وهي قبيلة يمانية معروفة ينسب إليها الصحابي الجليل المقداد بن عمرو الكندي -رضي الله عنه-، والشاعر الجاهلي: امرؤ القيس، والفيلسوف الكندي.

ثم يرجح أن سنة (2012 م) هي النهاية، وليست بداية النهاية، ثم ادعى أن ظهور المهدي سيكون بعد سنتين أو ثلاث على الأكثر من اليوم (¬1). ويحكي "مبارك البرَّاك" عن علماء الكومبيوتر "أنه في 1/ 1/ 2000 سيقف الكومبيوتر، وهذا يصادف العشر الأواخر من رمضان، فلا طائرات، ولا أموال تستخرج من البنوك، ولا اتصالات حتى الثكنات العسكرية تشكل خطورة، والكهرباء والصرف الصحي يتعطل ... وعلى كل حال، وقع هذا، أم وجدوا له حلا، فإننا على يقين أن الحضارة ستنتهي" (¬2). ثم يدعي أن أنسب تفسير لحديث "فتنة الدهيماء" اضطراب أحوال العالم كله بسبب مشكلة "الصفر" في الكومبيوتر (¬3). ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (70). (¬2) "العقلانيون ومشكلتهم مع أحاديث الفتن" ص (7). (¬3) انظر: "السابق" وقد مر عام (2000) بدون ما توقعوه، واتضح أن "مشكلة الصفر" ضُخِّمت بدون مسوغ حقيقي لها.

فارغ

الفصل الخامس التطبيع مع التنجيم والمنجمين وزلزلة ثوابت العقيدة

الفصلُ الخامسُ التطبيع مَعَ التنجيم وَالمُنَجَمِينَ وَزَلْزَلَةُ ثَوَابِتِ الْعَقِيدَةِ لم يكتفِ العابثون بأشراط الساعة بالرجم بالغيب، وقَفْوِ ما ليس لهم به علم، حتى أضافوا إلى ذلك قاصمة أخرى، وهي "تطبيع العلاقات مع المنجِّمين"، والاحتجاج بقول بعضهم -بعد حكاية مدحه والثناء عليه- بأنه "أعظم فلكي في التاريخ" (¬1)! ¬

_ (¬1) بل منهم من تقبل حتى "حكايات عجائز اليهود"؛ فقد جاء في محاضرة لداعية فاضل بعنوان "النظام العالمي الجديد": "عندما أعلن عن قيام دولة إسرائيل عام 1948؛ دخلت عجوز يهودية على أم ذلك الداعية، وهي تبكي، فلما سألتها عن سبب بكائها، وقد فرح اليهود، قالت: "إن قيام هذه الدولة سيكون سببًا في ذبح اليهود"، ثم يقول الداعية: إنه سمعها تقول: إن هذه الدولة ستدومِ 76 سنة، وعندما كبر رأى أن الأمر قد يتعلق بدورة المُذَنَب "هالي"؛ إذ إن مُذنَّب "هالي" -كما يقول الداعية- مرتبط بعقائد اليهود". اهـ من "زوال إسرائيل" ص (56) وانظره ص (78) وهذا المذنَّب "هالي" هو الذي قال فيه أبو تمام في بائيته المشهورة: وَخَوفُوا الناسَ مِنْ دَهْيَاءَ مُظْلِمَةٍ ... إذَا بَدَا الْكَوْكَبُ الْغَرييُ ذُو الذُّنَبِ وهل التنجيم إلا الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية؟! وهذا المذنَّب يقترب من الأرض كل ستة وسبعين عاما، وكان آخر ظهور له عام 1986 م (1406 هـ)، ويسميه بعض الغربيين "عميل الشيطان" تشاؤمًا به، وزيادة في الكفر؛ لأنه ظهر في عام 1456 م، وهو عام فتح القسطنطينية واشراقها بنور الإسلام.

يقول صاحب "أسرار الساعة": "في نهاية السابع من عام 1999 م سيهبط مَلَك الفزع العظيم من السماء، وسيحكم المريخ -كوكب الحرب- لصاحب الحق، وسيكون دمارًا مروعًا وخرابًا هائلًا، تلك هي واحدة من أكثر نبوءات "نُوسْتراداموس" فزعًا ورعبًا كما يقول المحللون، وهي -طبقًا لمعظم التفسيرات- تعني أن كارثة ضخمة ستحيق بالكرة الأرضية في شهر يولية 1999 م، وقد حدد "نُوسْتراداموس"، والذي يعتبرونه أعظم فلكي في التاريخ، بأن شرارة الكارثة الأولى ستنطلق من الشرق الأوسط" (¬1)، إلى أن يقول: "وما بين نبوءات "نسْتراداموس" في عام (1555م)، ومخططات واينبرغر عام 1997 م، تمت جميع المؤامرات الساعية لتدمير العالم الإسلامي وغزوه في عام 1999 م ومثقفو هذا العالم لا يزالون يرددون ببلاهة عجيبة: "نحن ضد فكر المؤامرة"، أما قادة العالم الإسلامي فيكفيهم خدعة أن يرأسهم في طهران الدجَّال نفسه (¬2)، والمعروف أن الرقم (9) هو نهاية الأرقام التي تبدأ بالرقم (1) وهو حسب الفلسفة الفيثاغورثية يعني النهاية، وهو الرقم المقدس عند الطائفة البهائية التي خرجت في إيران، واستقرت في فلسطين. وحسب علوم الجيومترا المشتقة من الكابالاة اليهودية، فإن الرقم (9) هو رقم الملوك الغزاة. ¬

_ (¬1) "أسرار الساعة" ص (34). (¬2) يقصد رئيس إيران آنذاك "محمد خاتمي"، كما صرح بذلك ص (113، 114).

وفي اليهودية -أيضًا- فإن الرقم (9) هو رقم الخراب" (¬1) ويقول في موضع آخر: السفياني أو الهاشمي (¬2) هو المقصود ب "ملك الجنوب"، الذي يتعاون مع ملك الروم، كما في تنبؤات اليهودي الفلكي "نسْتراداموس" (¬3). يقول صاحب "هرمجدون" فيما يشبه الدعاية لهذا المنجِّم: "إن المنجّم الفلكي اليهودي الشهير "ميشيل نوسْتراداموس" الذي عاش في القرن السادس عشر الميلادي، وتوفي سنة 1559 م، والذي كتب رباعيات تنبؤية لأمور مستقبلية وقعت وفق ما أخبر به تمامًا (¬4). ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (35). (¬2) وهو يقصد هنا "الحسين" ملك الأردن الراحل. (¬3) "أسرار الساعة" ص (132) وتأمل كيف طوعت له نفسه أن يستدل بتنبؤات ذلك اليهودي المنجم بلا أدنى تحرج؟!! (¬4) حذار أن تسلم بهذا التهويش وهذا الهراء، واعتصم بدلالة النصوص القطعية المعصومة على أن الغيب لا يعلمه إلا الله -عز وجل-، فما ذكره "محامي نوسْتراداموس" لا يعدو أن لكون دعاية رخيصة يمهد بها لتمرير مجازفاته وتخرصاته، وهو هنا يسلك مسلك الطَّغام من العوام الذين يولعون بحكاية الغرائب دون إخضاعها لتمحيص وتفتيش، وما هو إلا صدى لأصوات الغربيين الذين يتشدقون بهذه المزاعم، بدليل أنه لم يقرأ رباعيات "نوسْتراداموس" في لغتها الأصلية بنفسه، تلك الرباعيات التي كتبت بلغة مراوغة تحتمل الشيء ونقيضه، كما هي عادة المنجمين والكهان والعرافين، ثم تأتي أهواء الشراح والمفسرين والمترجمين لتخضعها لرغباتهم، ثم يأتي دور العوام الذين يتداولونها بشغف ويزيدون عليها ما شاءوا حتى يصير الشبر ذراغا ثم أميالا، وفراسخ، ومع أن الواقع يكذب المنجمين، ويخلف وعودهم غالبا؛ إلا أن العوام لا يتناقلون ذلك، وإنما يعلق بذاكرتهم القليل النادر مما يقع وفق تنبؤاتهم إما اتفاقًا، وإما لأنه مما اختطفته الشياطين من أخبار السماء، والله تعالى أعلم، وانظر ص (105 - 111).

فقد أخبر في رباعياته عن الحرب العالمية الأولى والثانية، ووقعتا فعلًا في التاريخ الذي حدده، كما أخبر عن الثورة الفرنسية، وعن ظهور جبابرة سماهم بأسمائهم؟ منهم "هتلر"، و"نابليون"، وتنبأ بنشوب الحرب العالمية الثالثة، وأنها مدمرة، وستكون في أوائل هذا القرن، وأنها نووّيَة، وسيكون فيها حرب بيولوجية" (¬1). ¬

_ (¬1) "هرمجدون" ص (13) وانظر: ص (103).

تلك أمانيهم!

تلك أمانيهم! ولا يغني عن قائل هذا الكلام قوله: "هذا العرَّاف -وهو طبيب في الأصل- لم يأتِ بما أتى به من باب الكهانة أو العرافة، وإنما هو قد اطلع على مخطوطات إسلامية (¬1) حصل عليها وورثها من أجداده اليهود، كما ذكر في مقدمة "رباعياته"؛ لأن هذه دعوى لا دليل عليها أولا، ثم إن صح أنها مخطوطات إسلامية فأي نوع من المخطوطات هي؟ أهي أحاديث مرفوعة صحت عن المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، وهي لا تُتَلقَّى عن عرَّاف يهودي، أم هي مصنفات أدبية أو تاريخية أو حتى كتب بدع وتنجيم وكهانة وسحر صنفها أجداد "نوسْتراداموس" تحت تصنيف "مخطوطات إسلامية" لمجرد أنها كُتبت باللغة العربية؟!! ولقد زاد صاحب "هرمجدون" الطين بِلَّة حين زعم أن أجداد "نوسْتراداموس" "كانوا أمناء لمكتبة المسجد الأقصى، فأخذوا هذه الموروثات الإسلامية، فكانت مصدرا رئيسيا له في تنبؤاته بجانب موروثات اليهود والنصارى، والتي فيها بعض العلم الذي لم يُغير ولم يُبدَّل" (¬2). اهـ. ¬

_ (¬1) ويقول أيضا: "إن ما جاء به "نوستراداموس" هو من تراثنا المنهوب، وميراثنا المسلوب، الذي سقط منا فالتقطوه، وجهلناه وعلموه". اهـ. من "هرمجدون" ص (14) وهو هنا يمارس -بمهارة- هوايته المفضلة في "خداع النفس"، والاستخفاف بعقول الآخرين، ومكابرة الحقائق، على طريقة: "عنزة ولو طارت"؟ فانظر: كيف كذبوا على أنفسهم! (¬2) "هرمجدون" ص (14).

فيا لَلهول!! ويا لَلعار!! أتنسب إلى المسلمين في ذروة عزهم ومجدهم أنهم استأمنوا اليهود قتلة الأنبياء، ومحرفي الكلم من بعد مواضعه، وأشد الناس عداوة للذين آمنوا على تراثهم الذي هو لباب دينهم، ونتاج عقولهم، ونسل قلوبهم، وكنز علومهم، وعِرض أمتهم؟! وهل يجرؤ مسلم يعرف قدر هذه الأمة وقدر علمائها الربانيين، وولاتها الصادقين؛ على أن يجوِّز أن يفوت شيء من سنة الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- جميع علماء الأمة المحمدية، في حين يحتكره يهودي كاهن عراف منجم حتى إن الأمة لتحتاج إليه، وتتسول منه، وتتطفل عليه؟!! لقد تكفل الله -سبحانه وتعالى- بحفظ الذكر، فقال -عز وجل-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9] وحفظ الذكر يشمل حفظ السُّنَّة كما بيَّن العلماء، فلا يمكن أن يفوت جميعَ الأمة شيء من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى المخطوطات التي فقدت لا يترتب على فقدها ضياع ما فيها من سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كجامع سفيان الثوري، وموطأ ابن أبي ذئب، ومسند بقي بن مخلد؛ لأن أحاديث هؤلاء الأئمة مدونة في كتب السُّنَّة التي بأيدينا. إن علماءنا العاملين الربانيين هم فقط الذين يحتكرون حق القِوامة على تراثنا بحمله وتبليغه مَن بعدهم مصداقَ قولِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَحِمِلُ هَذَا العِلْمَ مِنْ كلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الغَالِينَ، وانْتِحَالَ المُبْطِلِينَ، وتَأوِيلَ الجَاهِلِينَ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه بنحوه البيهقي في "السنن" (10/ 209) مرسلًا، لكنه رُوي موصولا عن جماعة من الصحابة، وصحَّحَ بعضَ طرقه الحافظ العلائي، وانظر: "تحقيق المشكاة" (1/ 82) رقم (248).

نوستراداموس وأحداث سبتمبر 2001م

نوستراداموس وأحداث سبتمبر 2001م نشرت مجلة "أون لاين" في العدد (14) نصف أكتوبر 2001 م مقالًا أنحت فيه باللائمة على وكالة "رويتر" للأنباء؛ لأنها التي نشرت شائعة تنبؤ "نوستراداموس" بأحداث 11 سبتمبر، ونسبت إلى "جون هوج" أحد المتخصصين في دراسة نبوءات "نوستراداموس" قوله: "يبدو أن صحافيي وكالة رويتر نسوا أبسط قواعد الصحافة المحترمة، ألا وهي التأكد من الحقائق قبل نشرها، الأمر الذي لم يفعله أحد"، وقد دعا الوكالة الشهيرة إلى الاعتذار عن خطئها، وتكذيب ذلك الخبر فورًا. وذكرت المجلة أن طالبًا يُدعى "نيل مارشال" كان قد صمم موقعًا له على شبكة الإنترنت باسم "التحليل النقدي لنوستراداموس"، وقد نشر فيه عددًا من الرباعيات ونسبه إلى الفلكي الشهير، وحرص على أن يجعلها ذات لغة مراوغة ليسخر من فكرة التنبؤ بالمستقبل، ووصل إلى استنتاج أن نصوص "نوستراداموس" يمكنها أن تعني كل شيء، وقد لا تعني شيئًا على الإطلاق. ويقول محرر موقع "الأساطير الحضارية" urban Lagends: " إن لغة نوستراداموس تجعل نصوصه قابلة للتفسير على أي وجه، يمكنك أن ترى فيها الحروب أو المآسي، أو الانتصارات، أو أي شيء تريد أنت رؤيته" (¬1). ¬

_ (¬1) ومن أجل ذلك تكرر استغلالها دعائيا في الحرب النفسية: (ففي أوائل عام 1649 م قام خصوم الكاردينال "مازاران" بنشر طبعة من "قرون"؛ =

ثم تسخر مجلة Online من "نوستراداموس" وأشباهه، وتتساءل: لماذا يستخدم المنجمون دومًا تلك اللغة المراوغة؟ إذا كانوا بحق قادرين على كسر حاجز الزمن والإبحار عبر المستقبل؛ فلماذا لا يقولون لنا ما سيحدث بوضوح وصراحة دون أن "يوجعوا دماغنا"؟!

_ = وهو اسم كتاب "نوستراداموس" الذي ضمَّنه نبوءاته؟ بعد أن أضافوا إليها رباعيتين ضده، من أجل الحد سن نفوذه في البلاط الفرنسي. - وفي عصر "نابليون" تم إضافة رباعيات زائفة أطلق عليها "نبوءات أوليفارس"، تبعتها: "تنبؤات أورفال"، ونُسِب كلاهما إلى "نوستراداموس". - وخلال الحرب العالمية الثانية ظهر أكثر من خمس طبعات من كتاب "قرون", وكان كل طرف يقتصر على ذكر ما يفيده، ويتجاهل سائر الرباعيات. - بل استغل وزير الإعلام النازي "جوبلز" نبوءات "نوستراداموس" في الحرب الدعائية أثناء الحرب العالمية الثانية، إذ إنتقى منها بعض الرباعيات التي يمكن أن توحي بعظمة ألمانيا وحتمية انتصاراتها، وأثبتها في نشرة دعائية خاصة، ترجمت إلى الفرنسية، والإنكليزية، والهولندية، وكانت تلقيها الطائرات النازية على المدن الأوروبية التي كانت فزعة تترقب: ماذا سيفعل النازي بجيوشه الجرارة التي اجتاحت النمسا، وبدأت تتأهب لغزو سائر أوربا؟ قابلت المخابرات البريطانية الموقف بسخرية، سرعان ما تحولت إلى عكس ذلك حينما لاحظت التأثير السلبي لتلك المنشورات على الأوربيين، مصداق قول بعضهم: "إذا ما ضعفت النفس؟ استسلمت للخرافة"، وهنا حشدت المخابرات البريطانية كل ما يمكن جمعه من نبوءات "نوستراداموس" مما يمكن أن يفسر على أنه هزيمة لألمانيا في منشورات ترجمت إلى الألمانية لإحباط الشعب الألماني، ثم إلى الفرنسية والهولندية لرفع معنويات سائر الشعوب الأوروبية). اهـ. بتصرف من "روايات مصرية للجيب كوكتيل 2000" ص (73 - 114).

كشف حقيقة التنجيم والمنجمين

كشف حقيقة التنجيم والمنجمين لقد انبهر صاحب "هرمجدون" بتنبؤات اليهودي اللئيم، وراح يلتمس المعاذير والمسوِّغات؛ ليضفي عليها المصداقية كما رأيت، مع أن الغالب كذب المنجمين، والصدق فيهم نادر، ولا أدري كيف خاض هذا الإنسان في مستنقع "المنجم اليهودي"، وأهمل تفسير من لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم- لظاهرة صدقِ بعض أقوال الكُهَّان أحيانًا، وهو ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الحَقَّ، وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ - وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ فَحَرَفَهَا، وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ - فَيَسْمَعُ الكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الكَاهِنِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ، فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا، فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الكَلِمَةِ الَّتِي سَمِعَ مِنَ السَّمَاءِ " (¬1). وعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "سَأَلَ أُنَاسٌ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ الْكُهَّانِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُم لَيْسُوا بِشَئءٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّئءِ يَكُونُ حَقّا، قَالَ: فَقَالَ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4800)، (8/ 537).

بعض الأحاديث الشريفة في النهي عن إتيان المنجمين أو تصديقهم

النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «تِلْكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ يَخْطَفُهَا الجِنِّيُّ، فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ» (¬1). وعن معاوية بن الحكم -رضي الله عنه- أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ، قَالَ: «فَلَا تَأْتِهِمْ» (¬2). قال النووي -رحمه الله تعالى-: "قال العلماء: إنما نهى عن إتيان الكُهَّان؛ لأنهم يتكلمون في مُغَيّبَات قد يصادف بعضها الإصابة، فيخاف الفتنة على الإنسان بسبب ذلك؛ لأنهم يُلَبِّسُونَ على الناس كثيرًا من أمر الشرائع، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن إتيان الكهان وتصديقهم" (¬3) اهـ. وعن بعض أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» (¬4). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ " -صلى الله عليه وسلم-" (¬5). وعن عمران بن حصين -رضي الله عنهما-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (7561)، (13/ 535). (¬2) رواه مسلم (5/ 20 - نووي). (¬3) "شرح النووي" (5/ 22). (¬4) رواه مسلم (2230)، (4/ 1751). (¬5) البيهقي في السنن الكبرى (16496).

الخطيب البغدادي يفضح أحوال المنجمين

أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، وَمَنْ عَقَدَ عُقْدَةً - أَوْ قَالَ: مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً - وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (¬1). قال الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: "إنما يدخل الشبه على الناس في أمر المنجمين من قبيل أنهم يرون المنجمَ يُصيب في مسألة تقع بين أمرين؛ كالجنين الذي لا يخلو من أن يكون ذكرًا أو أنثى، أو المريض الذي لا يخلو من أن يصح أو يموت، والغائب الذي لا يخلو من أن يقيم بمكانٍ أو يئوب. ومن شأن الناس أن يحفظوا الصوابَ؛ للعُجْبِ به والشَّغَف، ويتناسوا الخطأ؛ لأنه الأصل الذي يعرفونه، والأمرُ الذي لا يُنكرونه، ومن ذا الذي يتحدث بأنه سأل المنجمَ فأخطأ؟! وإنما التحدث بأنه سأله فأصاب (¬2). والصواب في المسألة إذا كانت بين أمرين قد يقع أحيانًا للمعتوه والطفل، فضلًا عن المتلطف الرفيق، والقولُ في إصابة المنجِّم كقول الشاعر في الطيرة: تَعَلَّم أَنّهُ لَا طَيرَ إِلَّا ... عَلَى مُتَطَيرٍ وَهيَ الثُّبُورُ وَشَيءٌ قَدْ يُوَافِقُ بَعْضَ شَيءٍ ... أَحَايِينًا وَبَاطِلُهُ كَثِيرُ ¬

_ (¬1) أخرجه البزَّار؛ كما في "كشف الأستار عن زوائد البزار" (3044)، وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح، خلاف إسحاق بن الربيع، وهو ثقة" اهـ من "مجمع الزوائد" (5/ 117)، وصححه في "صحيح الجامع" رقم (5311). (¬2) وهذا ما فعله بعض العابثين بأشراط الساعة؛ فإنهم أهملوا ذكر ما خابت فيه ظنون "نوستراداموس" وما أكثره! واقتصروا على ذكر القسم الآخر، وراجع: ص (103 - 104).

وإن وُجِد لمن يَدَّعي الأحكامَ إصابه في شيء، فخطؤه أضعافُه، ولا تبلغُ إصابتهُ عُشْرَ مِعْشاره، وتكون الإصابة اتفاقًا كما يظن الظانّ المنافي للعلم المقارن للجهل الشيءَ، فيكونُ على ظنه، ويخطئ فيما هو معلومٌ أكثرَ عُمُره، ولا يُقَالُ: إن هذه إصابة يُعَوَّل عليها، ويُرْجَع إليها، بل إذا تكررت منه الإصابة في قوله، وكثر الصدقُ في لفظه، والصحة في حكمه، ولم يُخْرَمْ منه إلا الأقل، حينئذ سلمت له هذه الفضيلة، وشُهِدَ له بهذه المعجزة، ولا فرق بين المنجم والكاهن؛ إذ كلّ واحدٍ منهما يدَّعي الإخبارَ بالغيوب، وكيف يُسَلَّمُ للمنجمين ما يَدَّعونه، وأحدهم على التحقيق ما يعرف ما حدث في منزله، ولا ما يُصلح أهلَه وَوَلَدَهُ؟ بل لا يعرف ما يُصلحهُ في نفسه، ويؤثر عنه أن يخبر بالغيب الذي لم يُؤْتِهِ الله أحدًا، ولم يستودعه بشرًا، إلا لرسول يرتضيه، أو نبيِّ يصطفيه" (¬1). اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "ولما أراد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن يسافر لقتال الخوارج عرض له منجم، فقال: يا أمير المؤمنين! لا تسافر؛ فإن القمر في العقرب؛ فإنك إن سافرت والقمر في العقرب هُزِمَ أصحَابُك -أو كما قال- فقال عليّ: بل أسافر ثقة بالله، وتوكلًا على الله، وتكذيبًا لك؛ فسافر، فبورك له في ذلك السفر، حتى قتل عامَّة الخوارج، وكان ذلك من أعظم ما سُرَّ به؛ حيث كان قتاله لهم بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-" (¬2) ¬

_ (¬1) "القول في علم النجوم" ص (192 - 194). (¬2) "مجموع الفتاوى" (35/ 178 - 179).

إلى أن قال -رحمه الله تعالى-: "وكذلك أيضًا الاستدلال على الحوادث بما يستدلون به من الحركات العلوية، والاختيارات للأعمال: هذا كله يُعلم قطعًا أن نبيًّا من الأنبياء لم يؤمر قطّ بهذا؛ إذ فيه من الكذب والباطل ما ينزه عنه العقلاء الذين هم دون الأنبياء بكثير" اهـ (¬1). وقال الإمام محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي -رحمه الله تعالى- عند تفسيره قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} [الجن: 26، 27]: (قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدَّح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيبَ أحدٌ سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزةً لهم ودلالةً صادقةً على نبوتهم. وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى، وينظر في الكتب، ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه؛ بل هو كافر بالله، مفترٍ عليه بحَدْسِه وتخمينه وكذبه. قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان على اختلاف أحوالهم، وتباين رتبهم، فيهم الملك والسُّوقة، والعالم والجاهل، والغنيُّ والفقير، والكبير والصغير، مع اختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم؛ فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة؟ فإن قال المنجم قبحه الله: إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه ¬

_ (¬1) "السابق" (35/ 182)، وا نظره: (35/ 191 - 197).

المخصوص به، فلا فائدة أبدًا في عمل المواليد، ولا دلالة فيها على شقيٍّ ولا سعيد، ولم يبقَ إلَّا معاندة القرآن العظيم. وفيه استحلال دمه على هذا التنجيم، ولقد أحسن الشاعر حيث قال: حَكَمَ المنَجِّمُ أن طالعَ مولِدِي ... يقضِي عليَّ بِميتةِ الغَرقِ قُلْ لِلْمُنَجِّمِ صَبحَةَ الطّوفانِ هَل ... وُلِدَ الجمِيعُ بكوكَبِ الغَرَقِ وقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لما أراد لقاء الخوارج: "أتلقاهم والقمر في العقرب؟ "، فقال -رضي الله عنه-: "فأين قمرهم؟ "، وكان ذلك في آخر الشهر. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من المبالغة في الرد على مَن يقول بالتنجيم، والإفحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم. وقال له مسافر بن عوف: "يا أمير المؤمنين! لا تَسِرْ في هذه الساعة، وسِرْ في ثلاث ساعات يمضين من النهار"، فقال له علي -رضي الله عنه-: "ولمَ؟ "، قال: "إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت". فقال علي -رضي الله عنه-: "ما كان لمحمد -صلى الله عليه وسلم- مُنَجِّم، ولا لنا من بعده" -في كلام طويل يَحتجُّ فيه بآيات من التنزيل- "فمن صَدَّقَكَ في هذا القول لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله نِدًّا أو ضدًّا، اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلَّا خيرك". ثم قال للمتكلم: "نكذّبك، ونخالفك، ونسير في الساعة التي تنهانا عنها". ثم أقبل على الناس، فقال: "يأيها الناس، إياكم وتعلمَ النجوم إلَّا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر؛ وإنما المنجم كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم،

وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيتَ وبقيتُ، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان". ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها، ولقي القوم فقتلهم، وهي وقعة النَّهْرَوَان الثابتة في الصحيح لمسلم، ثم قال: "لو سِرْنا في الساعة التي أمرنا بها، وظفرنا، وظهرنا، لقال قائل: سار في الساعة التي أمر بها المنجم، ما كان لمحمد -صلى الله عليه وسلم- منجم ولا لنا مِن بعده، فتح الله علينا بلاد كِسرى وقيصر وسائر البُلدان"، ثم قال: "يأيها الناسُّ؛ توكلوا على الله وثقوا به؛ فإنه يكفي ممن سواه" (¬1) اهـ. قال الخليل بن أحمد -رحمه الله تعالى-: خَبِّرا عني المنجمَ أني ... كافرٌ بالذي قضته الكواكبْ عالمٌ أن ما يكون وما كان ... قضاءٌ من المهيمنِ واجبْ (¬2) وقال القاسم بن محمد الأنباري -رحمه الله تعالى-: إني بأحكام النجوم مُكذِّبٌ ... وَلمُدَّعيها لائمٌ ومؤنِّبُ الغيبُ يعلمُه الهيمنُ وحدَه ... وعن الخلائق أجمعين مُغَيَّبُ الله يُعطي وهْوَ يمنع قادرًا ... فمن المنجم وَيْحَهُ والكوكبُ (¬3) وقال المتنبي: فتبًّا لدينِ عبيدِ النجومِ ... ومن يدَّعي أنها تعقلُ (¬4) ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" (19/ 28، 29). (¬2) "بهجة المجالس" لابن عبد البر (3/ 115). (¬3) "معجم الأدباء" لياقوت الحموي (4/ 634). (¬4) "ديوان المتنبي" ص (256).

فارغ

الباب الثالث مظاهر العبث بأشراط الساعة

الباب الثالث مَظَاهِرُ العَبَثِ بأَشرَاطِ السَّاعَةِ

فارغ

الفصل الأول سرد مجمل لبعض مظاهر العبث بأشراط الساعة

الفصل الأول سرد مجمل لبعض مظاهر الْعَبَثِ بِأَشرَاطِ السَّاعَةِ - يتخذ العبث بأشراط الساعة مظاهرَ عدةً، ويتجلى في عدة مجالات: - أما أقبح مظاهر العبث بأشراط الساعة: فاختلاق الكذب، وافتراء القصص، وإطلاق العِنان للخيال الجامح كما فعل كبيرهم ودجالهم "محمد عيسى داود". - ومن ذلك: تكذيب النصوص الصحيحة، وزعم أنها كلها موضوعة. - ومنه: إبطال معاني الأحاديث الصحيحة بالتأويل الفاسد (¬1). - ومنه: الخوض بغير علم في قضية "تحديد عمر الأمة". - ومنه: الغلو في محاولة مطابقة ما ورد في النصوص على وقائع وأحداث معينة، أو على أشخاص معينين رجمًا بالغيب. - ومنه: محاولة توظيف النصوص لخدمة مآربهم، والتعسف في تفسيرها بما يتوافق مع أغراضهم. ¬

_ (¬1) وممن جمع رذيلتي التأويل الفاسد، والتكذيب: أتباعُ المهدي الجونبوري؛ ققد كانوا يحاولون جهدهم أن يطبقوا جميع الأحاديث الواردة في المهدي على مهديهم المزعوم؛ فإن تعذر ذلك: فإما أن يؤوِّلوا الحديث بما يوافق توجهاتهم تأويلًا سخيفًا باردًا، وإما أن يردوه بالكلية؛ فقد قال لهم "الجونبوري": "كثر الخلاف في الحديث، ويصعب تمييز الصحيح من السقيم؛ فالذي يوافق كتاب الله تعالى، ويوافق أحوالي؛ فاقبلوه"، انظر: "فرق الهند" ص (248).

كل من حاد عن "الوسطية" في هذه القضية إلى جفاء المنكرين، أو إلى غلو المثبتين؛ فقد تورط في جريمة القول على الله بغير علم، والعبث بأشراط الساعة.

- ومنه: الاستدلال بما لا يصلح دليلا؛ كالإسرائيليات القديمة والحديثة، والأحاديث الضعيفة والموضوعة، ومرويات الرافضة، وحساب الجُمَّل، وما يُسَمَّى علمَ الحروف (¬1). وبالجملة فكل من حادَ عن "الوسطية" في هذه القضية إلى جفاء المنكرين، أو إلى غلو المثبتين؛ فقد تورط في جريمة القول على الله بغير علم، والعبث بأشراط الساعة. - ومن العبث بأشراط الساعة: تكلف بعضهم اصطناع هذه الأشراط، وإيجادها في الواقع عَنْوة، حتى إن من مُدَّعِي المهدية مَن يغير اسمه واسم أبيه، أو يدعي الانتساب إلى آل البيت الشريف، متناسين أن "الْمُنْتَظَرَ" تصنعه المهدية؛ لكنه لا يصنعها، ولا يصطنعها. - ومن العبث بأشراط الساعة: الابتهاج بانتشار الفساد والظلم في الأرض، وتمني ذلك؛ بحجة أن هذا يعجل بخروج المهدي الموعود (¬2)، مع أنه تعالى قال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]. ¬

_ (¬1) بل من العابثين من ضم إلى مصادره في التلقي: "ما تقوله الشياطين في جلسات تحضير الأرواح" كما زعم صاحب كتاب "إقترب خروج المسيخ الدجال" ص (159). (¬2) كما يفعل الروافض -قبحهم الله-، بل عفَل البعض ما يجري على أيدي الرافضة من المذابح الوحشية لأهل السنة في العراق بأن هذا وسيلة لتعجيل خروج المهدي بناءً على هذا المفهوم الشيطاني، وانظر: "تبديد الظلام" للجبهان ص (365).

أيها العابثون: بشروا، ولا تنفروا

أَيُّهَا الْعَابِثُونَ: بَشِّروا، وَلَا تُنَفِّرُوا فإن تَوَقعَاتِكم تبعث أحيانَا على الإحباط، وتسوء المسلمين، وتؤذي مشاعرهم الإيمانية، وتُدخل الْحَزَنَ في قلوبهم، خاصة وأنها توقعات مبنية على شفا جرف هار من الظنون والخيالات، فأحرى بها أن تُنْبَذَ نَبْذَ النواة، ولا شك أن هذة الكتابات تُصَادِمُ سُنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعث الأمل في النفوس، فأين قوله -صلى الله عليه وسلم-: "بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا"، من ذلك الذي يدعي أن "الجفر" المزعوم؛ الذي يستمد منه كثيرا من دعاواه، يخبر بأن "الهيكل سَيُعَادُ بناؤه" (¬1). وذاك الذي يحدد بالسنة والشهر واليوم موعد تفجير اليهود للمسجد الأقصى -صانه الله من كل سوء-، وأن الهيكلَ يُبْنَى على أفقاضه (¬2)، وثالث يزعم أن الغربَ سيحتلُّ تركيا، ويسترجع القسطنطينية عام 1999 م لمدة أشهر، ورابع يخالفه، ويقول: "بل يحتمل أن يرتد جميع الأتراك عن الإسلام، ويتنصرون، مما سيتطلب فتح القسطنطينية مرة أخرى" (¬3)، وخامس يستدل بحديث منكر فيه: "أن الروم سيثبون على من بقي في بلادهم من العرب فيقتلونهم، حتى لا يبقى بأرض الروم عربي ولا عربية، ولا ولد عربي؛ إلا قُتل" (¬4)، وسادس يقول: "فحصار العراق قد أعقبه حصار الشام (فلسطين)، وقد يمتد الحصار قريبا إلى سوريا ولبنان، والله أعلم" (¬5). ¬

_ (¬1) "المفاجاة" ص (316). (¬2) "أسرار الساعة" ص (134 - 136)، وانظر: "خُدعة هرمجدون" ص (57 - 61). (¬3) انظر: "الحرب العالمية القادمة" ص (122). (¬4) "هرمجدون" ص (71). (¬5) "نفسه" ص (25)، وراجع ص (90).

من رواد منهج "المطابقة" المزعوم

- ومن العبث بأشراط الساعة: محاولة توظيف النصوص لخدمة مآربهم، والتعسف في تفسيرها بما يتوافق مع أغراضهم. - ومنه: الغلو في محاولة مطابقة ما ورد في النصوص على وقائع وأحداث معينة، أو على أشخاص معينين رجمًا بالغيب. ومن رواد هذا المنهج: "أبو الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الغماري" مؤلف كتاب "مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية"؛ الذي تكلف فيه عند تطبيقه بعض أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- على المخترعات الحديثة وتنزيلها على وقائع هذا الزمان، وإن كان وُفِّق في بعضها (¬1)، على أنه شحن الكتاب بالأحاديث الضعيفة دون تنبيه على ضعفها، لمجرد أن متنها يوافق ما يرمي إليه من المطابقة المزعومة. ومع أنه يُلقب بالمحدِّث (¬2) الحافظ؛ إلا أنه صوفي قبوري غالٍ، يبغي على الدعوة الوهابية السلفية التجديدية، وينبز أهلها "بالقَرْنيين" (¬3)، ويجازف في رميهم بالعظائم (¬4)، فالله طليبه، وهو حسيبه. ¬

_ (¬1) مثل: كثرة الأمراض التي لم تكن معروفة، وتبرج النساء، وتقليد الكفار، ونحو ذلك. (¬2) انظر: ص (164). (¬3) فهو ينسبهم ظلما وعدوانا إلى "قرن الشيطان"، المذكور في الحديث عن نجد: "هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان" رواه البخاري، والصواب أن المقصود بنجد هنا بادية العراق ونواحيها، وانظر: الجواب المفصل عن هذه الشبهة في "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان" ص (496 - 501)، و "دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" ص (185 - 192) و "العراق في أحاديث وآثار الفتن" للشيخ مشهور بن حسن (1/ 33 - 43)، وانظر: ص (279)، وما بعدها. (¬4) كقوله: "واحتل القرنيون الحجاز، وهم أعداء أهل المدينة الشريفة لمجاورتهم سيد الخلق وأفضل الرسل صلوات الله وسلامه عليه، فتراهم يضيقون عليهم، =

وقد ذكر الشيخ "مقبل بن هادي الوادعي" -رحمه الله تعالى- أن الشيخ حمودا التويجري -رحمه الله- رد على كتاب الغماري المذكور بكتاب أسماه: "إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة" (¬1). ومن تكلفه تفسيره حديث: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْدِّينِ ظَاهِرِينَ "الحديث، وفيه: "بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسٍ "؛ بأن هذا تحقق في المصريين مع الإنكليز والفرنسيين واليهود والأمريكان، وأن الحديث تحقق بالاتحاد بين مصر وسورية في (الجمهورية العربية المتحدة)، إلى أن قال: "وكل هذا آتٍ قريب، وهو يدل على قرب خروج الدجال اليهودي الأعور الكذاب، وعلى أن الأمة المصرية هي التي ستفوز بقتاله وقتال جنده اليهود لعنهم الله"، وذهب إلى أن الله تعالى "سيظهر لهم كرامة كلام الشجر والحجر، فيقول الشجر والحجر للمؤمن: يا عبد الله هذا كافر ورائي فتعال فاقتله، والمؤمن من جيش مصر والاتحاد العربي". اهـ (¬2) بتصرف. تنبيه: وممن سلك مسلك الغماري المذكور في تكلف تأويل بعض النصوص -ولو كانت ضعيفة ولا تثبت- وتنزيلها على المكتشفات الحديثة: ¬

_ = ويعاملونهم بما يحملهم على مفارقتها، والخروجِ منها مرة أخرى لتخرب" اهـ. من "مطابقة الاختراعات العصرية" ص (127). (¬1) "الصحيح المسند من دلائل النبوة" ص (11). (¬2) "مطابقة الاختراعات العصرية" ص (54. 55).

- فضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري -حفظه الله- في رسالَتَيْهِ: "اللقطات في بعض ما ظهر للساعة من علامات"، و"الأحاديث النبوية الشريفة في أعاجيب المخترعات الحديثة"، وتعقبه فيهما الشيخ "حمود التويجري" -رحمه الله تعالى- في رسالته: "تنبيهات على رسالتين للشيخ أبي بكر الجزائري"، وبيَّن فيها ضعف معظم أحاديث الرسالتين المذكورتين، وردَّ ما حَوَتاه من التأويل المتعسف. -وكذلك الدكتور "فاروق الدسوقي" الذي قال: "إن الذي أولجني (بهذا) الباب، ووضعني في مدينة هذا العلم هو فضيلة الشيخ العالم الحافظ أحمد بن الصديق الغماري ... وذلك بكتابه القيم الرائد السابق لعصره: "مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية" فهو الرائد الأول في عصرنا في مجال علم مطابقة النصوص على الأحداث" (¬1). ¬

_ (¬1) "القيامة الصغرى على الأبواب" (1/ 15)، وقد أثنى في نفس الموضع على "سعيد أيوب" صاحب كتاب "المسيح الدجال قراءة سياسية في أصول الديانات الكبرى"، و"محمد عيسى داود" صاحب كتابَي "احذروا المسيخ الدجال يغزو العالم من مثلث برمودا"، و"الخيوط الخفية" قائلًا: "فكل منهما رائد في مجاله، وبقية المكتوب عن المسيح الدجال حديثًا عالة عليهما، واقرارًا بالفضل لله تعالى، ثم لصاحبه أقول: إن المؤلفَيْنِ الفاضِلَيْنِ وبخاصة الثاني قد فتحا أمامي آفاقًا جديدة في علم أشراط الساعة بإزالة بعض علامات الاستفهام حول مطابقة بعض نصوص الوحي: قرآنا وسُنَة بالأحداث المعاصرة" اهـ (1/ 15)، وإن مما يؤسف له أن ينخدع هذا الفاضل صاحب "القضاء والقدر" رسالة الدكتوراة التي حصل بها على جائزة الملك فيصل، لمثل "محمد عيسى داود" الصائم عن علوم الشريعة، والذي يبرأ منه العلم الشرعي براءة الشمس من اللمس!

زعيم الخوارج الجدد "شكري مصطفى" وجماعة آخر الزمان

ومن رواد (الغلو) في المطابقة: -شكري أحمد مصطفى (1942 - 1978 م). زعيم الخوارج الجدد، وإمام ما أسماه "جماعة المسلمين". - كتب رسالة "التوسمات " وكان مما تضمنته: الكلام على واقع المسلمين، وواقع جماعة الحق -التي هي جماعتهم بزعمهم- وظهور المهدي. ومما جاء فيها: ["النصوص تؤكد أن جماعة الحق اليوم أصبحت وشيكة، من الدجال ونزول عيسى ابن مريم، ونرجو الله أن نكون خَلَفًا من حوارييه ... ". "وإشارات كبيرة تؤكد أننا سندرك عيسى ابن مريم، وأننا جماعة الحق التي تستحق الخلافة في الأرض على هدي النبوة، ونرجو الله أن يجد فينا خَلَفًا من حوارييه ". " .. ونحن جماعة الحق في آخر الزمان تشملنا الآيتان: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}، و {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} ". "فقد كلفهم الله -أي: جماعة آخر الزمان- سبحانه وتعالى- من الناحية القدرية التي يعلمها، والتي يريدها؛ بما لم يكلف به صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث سوف يتم على يد جماعة آخر الزمان ظهورُ الإسلام على كافة الأديان والملل، ويُعبد الله لا يُشْرَكُ به شيئًا (¬1)، ولا يبقى بيت من وبر أو مدر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز ¬

_ (¬1) الصواب: شيءٌ.

أو بِذُلّ ذليل، ويتم الله قدره ونعمته على عباده، وينتصر هو ورسله وحزبه على العالمين، ويمكّن لهم في الأرض كما وعد بذلك "] اهـ (¬1) "لهذا وغيره كان أعضاء هذه الجماعة يجزمون بأن قائدهم شكري هو مهدي هذه الأمة المنتظر، ولن تستطيع السلطة قتله، وسوف يذهب كل جهد تبذله في هذا السبيل أدراج الرياح؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- سوف يحفظه؛ ليجاهد اليهود والنصارى، ويرفع رايات النصر في كل صُقْع من أصقاع العالم الفسيح، ويُظهر الله به دينه على كافة الأديان والملل، ويمكِّن له في الأرض ما شاء أن يمكن. ... وكان أعضاء الجماعة يؤكدون أنه لو تم إعدام قائدهم؛ لوجب عليهم إعادة النظر بتصورات ومفاهيم الجماعة ... " (¬2). ¬

_ (¬1) "الحكم بغير ما أنزل الله وأهل الغلو"، لمؤلفه محمد سرور زين العابدين، ص (215، 216). (¬2) "نفسه" ص (216)، وانظر ما يأتي هامش ص (306 - 309).

تعليق واستطراد إن تعليق "وجوب إعادة النظر بتصورات ومفاهيم الجماعة" على "إعدام قائدهم" سوءة فكرية، وعورة منهجية خطيرة، ولماذا يأتي التصحيح دائمًا بعد فوات الأوان؟ ولا يتقون الشَرَّ حتى يصيبَهم ... ولا يعرفون الأمرَ إلا تدبرا ولماذا لا نُخْضِع الفكر والمناهج للفحص والتفتيش ونحن ما زلنا في دار "الامتحان"؛ حيث توجد فرصة، بل فرص للمراجعة والتصحيح واستدراك الخطإ قبل الانتقال إلى دار "ظهور النتائج"! وإلى متى ستظل الدعوة الإسلامية تدفع ثمن استبداد بعض فصائلها بالرأي في غيبة عن الرقابة العلمية الشرعية؟ إن هذا النمط العجيب من التفكير ليستدعي من الذاكرة قولَ إمام فتنةٍ من المتأولين: "إننا -والله- نعلم أن بين يدي الله موقفًا يسألنا فيه عن أعمالنا، ويحاسبنا عليها، ولكن نسأل الله -إن كان لنا هوى، أو مقصدنا لغير وجهه الكريم- أن يُخزيَنا، وُيبينَ باطلَنا على رءوس الأشهاد، وأن يفسد مساعينا، ولا يسددها". اهـ. سبحان الله! "لقد حجَّرتَ واسعًا"، أليس اللسان الذي تلفظ بهذه الدعوة العديمة الفقه، هو نفس اللسان الذي كان يمكن أن يدعو بالعفو والعافية من الهوى، ويسأل الله الذي لا يُخَيِّبُ راجيَه، ولا يَرُدُّ داعيَه؛ أن يُريَه الحق حقًّا، ويرزقه اتباعه، ويريه الباطل باطلًا، ويرزقه اجتنابه؟! ولماذا نتأسى بالذين قال الله -عز وجل- فيهم: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ

العجب والاغترار بالظنون

كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، وننسى هَدْيَ مَن هديُه خير الهدى -صلى الله عليه وسلم- الذي عَادَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟» قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سُبْحَانَ اللهِ لَا تُطِيقُهُ - أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ - أَفَلَا قُلْتَ: اللهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " قَالَ: فَدَعَا اللهَ لَهُ، فَشَفَاهُ. (¬1). الْعُجْبُ وَالاغتِرَارُ بالظُّنُونِ ومع عبث هؤلاء القوم بأِشراط الساعة، وقولهم على الله بغير علم، نجدهم موقنين بهذه الأفكار، جازمين بها، حتى يقولَ أحدهم: "أستطيع أن أحلف -ولا أستثني- أن ملاحم آخر الزمان؛ والتي تبدأ بالحرب العالمية الثالثة والأخيرة "هرمجدون" -قد كشرت عن أنيابها، وشَمَّرت ساعديها، وكَشَفَتْ عن ساقيها" (¬2)، ويشكو من أنه لم يسلم من ¬

_ (¬1) رواه مسلم رقم (2688) (4/ 2068). (¬2) "هرمجدون" ص (7)، وانظره: ص (119)؛ حيث قال: "أحلف، ولا أسيثني أن أولى جولاتها بدأت بالفعل"، وقد دافع عن هذا "القَسَم" مستدلا بقَسَم بعض الصحابة على أن ابن صياد هو الدجال، فانظر: الرد عليه في "فتح الباري" (13/ 325 - 327)، و"كشف المكنون في الرد على كتاب هرمجدون" ص (107) وما بعدها.

"شَغْبِ الصبية (¬1) "، أي: معارضيه؛ فهم يستقصرون أفهام مخالفيهم، ويسخرون ممن لا يتقبل خرافاتِهِمْ، ويَشُكُّ فيها. فهذا صاحب "أسرار الساعة" يصف المنكرين عليه بالمرجفين، والمتشككين، ويقول: "لقد كان الواقع المعاصر والمعاش شاهدَ إثباتٍ على صحة كل ما ورد في هذا الكتاب من روايات وأحاديث (¬2)؛ ولهذا تمكنتُ بتوفيق الله من إزاحة الستار عن أكثر الأسرار خطورةً؛ إنها أسرار النهاية وقيام الساعة؛ لقد تفككت أمامي -وبكل سهولة- أكثر الرموز المستعصية في روايات الفتن والملاحم وأشراط الساعة، لقد رأيت أمامي خيوط المؤامرة، وكشفتُ أبعادها السرية والعلنية؛ ولهذا سيجدُ القارئ في هذا الكتاب تحديدَ الزمان والمكان للملاحم، ويجد أسماء بعض قادة الفتن في آخر الزمان وزعماء آخرين، والجميع قادة سياسيون معاصرون، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد وصفهم لنا (¬3) " ... ! لخ. ثم يُطْرِي كتابه قائلًا: "ولا أريد أن أُطِيلَ، فهذا الكتاب بين أيديكم، وقد كفيتكم الرد عليه بأفصح لغة علمية، وهي لغة الأرقام، وبأقوى وأصدق المواعيد وهي التاريخ، وليس على المرجفين أو المتشككين إلا الانتظار لعدة شهور ¬

_ (¬1) "هرمجدون" ص (47). (¬2) مع أنها أحاديث، وروايات ضعيفة، أو موضوعة، أو لا أصل لها، أو إسرائيليات، أو شيعيات، أو كهانة، وتنجيم، واعتماد على حساب الحروف. (¬3) "أسرار الساعة" ص (15).

فقط (¬1)، وتظهر الحقيقة أمام الجميع، إما مع الكتاب أو ضده، فعليهم الصمت والترقب حتى لا يحرموا غيرهم من فائدة مرجوة قبل ظهور آية الدخان، أو يظهر الدَّجال في شخصيته المزعومة ... " (¬2) اهـ. ويحاول أحدهم أن يروج لأفكاره بالإشارة إلى "قرينة" وصفها بأنها "معتبرة عنده"، وهي أن رجلًا لا يعرفه أخبره أنه رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رؤيا يبتسم له، ويعطيه كتاب "عمر أمة الإسلام " (¬3)، وذلك قبل صدور الكتاب بتسعين يومًا (¬4). ومن نماذج الاغترار بالظنون والخيالات، ما حكاه الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان -حفظه الله- فقال: "في بلادنا واحد من هؤلاء، لا هَمَّ له في الآونة الأخيرة إلا تهيئة المُناخ لخروج (المهدي)، ويُقسِم في خُطَبه أيمانًا مغلَّظة أن خروجه سيكون قبل عشر سنوات، ثم نقصت المدة، وبدَّل اليمين بطلاق زوجته، ثم غيَّره إلى حلق شاربه، ولله في خلقه شئون" اهـ (¬5). ¬

_ (¬1) وقد انتظرنا أضعاف المدة التي استمهلنا إياها، وانكشف زيف أقواله، ولم يحدث من تنبؤاته شيء! (¬2) "نفسه" ص (16). (¬3) راجع: فصل "سلطان المنامات"، في كتابي "المهدي" ص (193 - 231)؟ لتقف على مدى حجية هذه القرينة، وانظر: "فتح الباري" (12/ 404). (¬4) "هرمجدون"، ص (56). (¬5) "العراق في أحاديث وآثار الفتن" هامش (1/ 763).

الفصل الثاني وقفة مع الدجال المصري.

الفصل الثاني وقفة مع الدجال المصري. إن هذا الصحَافِي يتيه ويفتخر بأنه أول من "تشرف" باختراع بعض الهذيان المتعلق بالمسيح الدجال، والأطباق الطائرة (¬1)، ويثبت لنفسه أن لديه "براءة اختراع" (¬2) هذه الأفكار، يقول "محمد عيسى داود" في جريدة "صوت آل البيت": "لم يعرف العالم كله -بفضل الله- كاتبًا أو مفكرًا قال بنظرية وجود المسيخ الدجَّال في مثلث برمودة، وأنه صاحب الأطباق الطائرة سوى الكاتب الصحفي محمد عيسى داود ... " إلى أن يقول: "ومعلوم للقاصي والداني أنني بصفتي الكاتب محمد عيسى داود عضو نقابة الصحفيين، والمستشار الإعلامي لمؤسسة أمل الإعلامية، الصاحب الأوحد لفكرة أن المسيخ الدجَّال هو مخترع الأطباق الطائرة، وأن له قلعة بمثلث برمودة، ولا يوجد كاتب في كل الدنيا قال بذلك غيري، وقد تعدى "فلان ... " بسرقة نتائج أبحاثي، وانتحلها لنفسه، وذلك ¬

_ (¬1) وقد تقدم بيان دعاواه مفصلة، ص (61 - 79)، وكلامه عن الأطباق الطائرة ص (73). (¬2) وقد انتقدت المؤسسة التي أسماها "المصرية السويسرية"، والتي تتبنى كتبه "قيام البعض بالسطو على فكرة مفكرنا الكبير دون إشارة إلى (الأولية)، أو (براءة الاختراع)، أو (الانفراد) اهـ. من "ما قبل الدمار" ص (38).

قل لي: من يصفق لك أقل لك: من انت!

ثابت بكتابين له تم إبلاع النيابة العامة عنهما، وهي التي قامت بتحريك الدعوى ضده بتهمة السرقة الفكرية ... " (¬1) إلخ. قل لي: من يصفق لكَ أقُلْ لك: من أنت! فمن صفق له (¬2) الدكتور فاروق الدسوقي، وتخبطُه في أشراط الساعة مما عُرف واشتهر. وممن صفق له صاحب "الثمر الداني في ذكر المهدي والقحطاني" (¬3) الذي لقبه "بالأستاذ البحاثة"، ثم قال: "وإني لأتقدم بالشكر للأستاذ محمد عيسى داود على ما تضمنته كتبه من نفائس المخطوطات وأعجبها، كما أشكر فيه تواضعه الجم وأمانته العلمية في النقل ... " (¬4). وإن تعجب فعجب قوله: "أورد الأستاذ محمد عيسى داود في ثنايا ما أورد من مخطوطات أسماء صريحة قد يستغربها البعض، ويظنها موضوعة -ولا أظن الرجل ممن يكذب على الله ورسوله، وهو من آل البيت المحمدي- بل ويرد عليهم ما أورده "نوستراداموس" الفلكي العراف الفرنسي المشهور من أسماء صريحة مثل: هتلر، ونابليون، وغيرهما الكثير ... " (¬5). ¬

_ (¬1) عدد النصف الأول من نوفمبر 2000 م، الموافق شعبان 1421 هـ، ص (5) وباستطلاع أعداد من الجريدة، يتضح أنها شيعية التوجه؟ حيث تنشر مقالات من مفهوم شيعي، بما في ذلك سب بعض الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-، والترويج لمفاهيم رافضية منحرفة، وقد أوقف إصدارها مؤخرًا. (¬2) انظر نص عبارته: ص (89). (¬3) راجع: ص (65). (¬4) "الثمر الداني"، ص (103). (¬5) "نفسه" ص (108).

وممن صفق له: آلاف المعجبين بشطحاته: يقول: "يكفيني فخرًا مئات بل آلاف القراء الذين يؤازرونني لعلمهم بالحقيقة، ويكفيني فخرًا شهادة الدكتور فاروق الدسوقي، الذي شهد لي بأني رائد هذا المجال، وصاحب الفكرة، ومن عداي عالة عليَّ من الهواة والمقلدين" (¬1) اهـ بتصرف. وهو هو الذي وصف من يرفضون "اختراعاته" بأنهم "الأغبياء والضالون" (¬2). وفي مقدمة كتابه "الخيوط الخفية" يقول بعد ما ذكر أن كتابه "احذروا المسيخ الدجال" أثار ضجة كبرى، وأنه استقبل مئات الخطابات: "وأحمد الله -عز وجل- أنه لم يأتني خطاب واحد فيه إنكار لما أوردت من معلومات إلَّا خطابان (!) من مئات الخطابات، وأعذر صاحبيهما لقصور الفكر والتفكير" (¬3). ووصف أحد منتقديه بأنه: "يتهجم بسوء أدبٍ على مفكر مرموق" (¬4). ويصف كتبه بأنها: "أعلى توزيع لكتب في الدنيا" (¬5). ويصف نفسه بأنه: "واحد من ندرة امتلكوا ملكة التحليل الدقيق هبة من الله وصقلًا لها بجهد" (¬6). ¬

_ (¬1) "صوت آل البيت" عدد شعبان 1421 هـ. (¬2) "احذروا" ص (142). (¬3) "الخيوط الخفية" ص (9). (¬4) "ما قبل الدمار" ص (129). (¬5) "نفسه" ص (137). (¬6) "نفسه" ص (138).

ويقول: "كان كتاباي "احذروا المسيخ الدجال"، و"الخيوط الخفية" هما أول بحثين على مستوى العالم يقدمان للبشرية جمعاء هذه الحقائق مدعومة بأدلتها العلمية والعقلية والمنطقية والدينية" (¬1) ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (46).

خدعوه فقالوا

خدعوه فقالوا سرد "السندباد المصري" قائمة من المعجبين بكتبه وأفكاره، وهاك بعضَ أقواله: - أما الأستاذ الدكتور عبد الخبير عطا أستاذ العلوم السياسية فاعتبرها "مراجع لطلبة الماجستير، والدكتوراة". - والصديق السفير الدكتور عبد المنعم جبريل يرى "أن العالم الإسلامي لم يرَ من مائة عام كتبًا بأهمية كتبي". - أما اللواء الطيار المقاتل أنور أبو خطوة، فقال: "إنني أبصم بأصابعي العشرة على دقة وخطورة ما جئت به في كتبك، ويا ليتنا نفهم". - أما الأستاذ المفكر حسن جميعي فقال: "كتاباك (احذروا)، و (الخيوط) يزنان أعظم ثقلًا (!) من مكتبتي العامرة التي جمعتها على مدى أربعين عامًا" (¬1). - كتاباي قال فيهما الناشر الأستاذ أحمد يحيى: "هما كتابا القرن". - وقال سفراء ووزراء وكبار ومثقفون: "حرام ألا تعطيك مصرُ -وَدَعْكَ من أمة النائمين- جائزتها التقديرية"، وكان ردي: "لم أكتب لجائزة، إنما كتبت حبُّا في ديني وأمتي الإسلامية، وبلدي مصر والمصريين، وتحذيرًا من خطر بصَّرَني الله به" (¬2). ¬

_ (¬1) "ما قبل الدمار" ص (76). (¬2) "نفسه" ص (129) وانما أوردت هذه النقول؛ لندرك حجم الكارثة، ومدى كثافة الأمية الدينية!.

انعدام التوثيق العلمي

وبعد أن ذكر جملة من المنبهرين بفكره، والمعجبين بكتبه؛ قال: "بعد هؤلاء الأعلام لا آبه بالحشرات والطَّغام بَلْهَ اللئام (¬1)، يقصد منتقديه. أما هؤلاء المعجبون به، الْمُثْنُونَ عليه، وعلى "فكره"؛ فمرحبًا بهم إذا تكلم كل في تخصصه، لكن أين هم من "أهل الذكر"؟ وهل فيهم فقيه، أو محدث، أو أصولي، أو مفسر؟! انْعِدَامُ التّوْثِيقِ الْعِلْمِيِّ ومن مظاهر ذلك: تلك الكتب التي صنفها "محمد عيسى داود" وملأها بالخرافات والهذاءات، وشحنها بالروايات المكذوبة، وجهر في صراحة يُحْسَد عليها بميوله الشيعية (¬2)، واعتماده على مصادر الشيعة المزعومة؛ ¬

_ (¬1) "أسرار الهاء في الجفر" ص (131). (¬2) انظر نماذج من غلوه في علي -رضي الله عنه-، وآل البيت -رضي الله عنهم- في: كتابه "المفاجأة"، ص (32 - 56)، وتأمل قوله تحت عنوان: (إهداء كبير جدا، لكبير جدا) في مقدمة كتابه "ما قبل الدمار" ص (8): "إلى رجل مصمر .. الملقب في النبوءات الكريمة ب (صاحب مصر) .. صاحب المعالي والفخامة (م/ ح ....). سليل المجد السامق ... ابن بيت النبوة ... العسكري، ذو (!) البأس الفولاذي .. الدبلوماسي الصدوق .. ". إلى أن قال: "وفي جفر الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه جدنا وجد المؤمنين: إن صاحب مصر مكتوب له النصر، وممنوع من الغدر" إلخ. ويبدو أن (م/ ح - العسكري) هو مهدي الرافضة الموهوم محمد بن الحسن العسكري، فإن صح هذا؟ فلست أدري لِمَ هذا (التلغيز) في إسمه؟!.

يا نعايا "البحث العلمي" أقيموا عليه ماتما وعويلا!

كالجفر، وغيره، ثم مارس الدجل "العلمي" - إن جاز التعبير- بإيهام القراء بأن هناك مخطوطات "بالجملة" هي مصدر معلوماته، ثم يحكي عن مصادره "الموثوقة"، -في زعمه، وهي أحوج شيء إلى التوثيق- أمورا يحتاج من يصدقها إلى أن يكون غبيَّا بدرجة كافية حتى تنطلي عليه. يا نعايا "البحث العلمي" أقيموا عليه ماتما وعويلا! يقول -مثلًا- تحت عنوان "نقطة على حرف" بعد أن أورد كثيرا من خيالاته (¬1) حول "المسيح الدجال": "قد يسأل القارئ الحبيب: وكيف اهتديت إلى كل هذه المعلومات بلا مصادر؟! وأقول: بل هناك مصادر، ولكن القاعدة الذهبية معروفة لكل خبير وسائل: لا يُسأل الكاتب وُالمفكرُ عن مصادره، فقد يكون الضر في ذكرها أبلغ من النفع، وسد الذرائع (؟!!) مقدم على جلب المنافع". ثم أخطر الأمور وأقوى المصادر-التي لا قبلها ولا بعدها- استفتاء الله -عز وجل-، والتضرع إليه جلَّ في علاه؛ للإجابة وبيان ما خفي من الأمور، ثم الأخذ بالأسباب كما أخذ ذو القرنين بسياحته في أرض الله، والأخذ بمفاتيح العلوم، وأعلاها أسماء الله -عز وجل- الحسنى، ¬

_ (¬1) انظرها: ص (61 - 72).

والاجتهاد في "القراءة الواعية"، ثم "استقراء الأحداث"، و"رفع درجات حدة الحدس والاستبصار"، ثم "التقدير"، وتحليل الأحداث تحليلًا دقيقًا، واستبطان المعلومات، ومحاولة سبر غورها "بالتأمل"، وفتح المغاليق بالمفتاح القرآني العظيم الذي أوصى به رب العزة -عز وجل-: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]. وحبذا بعض المغامرات بيقين التوفيق من الله -عز وجل-، وعقيدة أن الآجال لا يملكها أحد سوى الله -عز وجل-، وأن الأقلام رفعت، والأحبار جفت، والصحف طُويت، والمقادير تمت ... ثم ما أحلى الخلوة مع الفكرة!!. وهي ليست حالات من السلبية المطلقة كما يتوهم السذج!! إنها عناصر إيجابية جدًّا وخلَّاقة بالنسبة للمفكر ... إنها "فعل وحركة" و"انطلاقات إلى عوالم أخرى" يرد منها المرء بفكر وعلم ووعي جديد. وهي "جهاز استقبال لخواطر" يمكن أن يقف أمامها التحليل العلمي والفلسفة عاجِزَيْنِ .. وكثير من "فكري" "ومضات من البرق" و"استنارات وإلهامات فجائية" إن لم أتداركها بالتسجيل، أو التدوين تصبح بَدَدًا بلا بقاء!! (¬1) اهـ. ¬

_ (¬1) "ما قبل الدمار" ص (569 - 570)، "احذروا المسيخ الدجال يغزو العالم من مثلث برمودة "، ص (183).

ويقول في سياق التسويغ لمنهج "حاطب الليل": وأنا مع القاعدة التي تقول: "لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"، ومع هذا فإنني أيضًا مع أي أثر أو حكمة ليس لها إسناد، وروايتها هي عهدة على من نقلنا عنه، باعتبار أن "لنا فائدة الحكمة، وعليه تبعة الرواية أو الكتابة" (¬1) اهـ. ويتكلم "السندباد المصري" ناعيًا على الذين يقتصرون على الاستدلال بالأخبار المسندة، ويتحرون الصحة فيها، وكأن ما يفعلون "تحصيل حاصل"، أما هو فكأنه تمثل قول القائل: "ما للناس لا يتبعوني؟ .. ما هم بمتبعيَّ حتى أبتدع لهم غيره" (¬2)، فمن ثم قال: "ولو أني اعتمدت مبدأ ألا أكتب إلَّا ما له إسناد، وتم توثيقه من قبل؛ فظني أني أحرث في أرض محروثة، إلَّا أن يكشف الله -عز وجل- لي بعض أزهار أو ثمار لم يبصرها الراءون قبلي، فهنالك يكون تمام جدي وسعدي" (¬3) اهـ. وإني وإن كنت الأخيرَ زمانه ... لآتٍ بما لم تستطعه الأوائلُ ¬

_ (¬1) "الجفر" ص (128، 129)، وهذا تسطيح للقضية؟ حيث إن استدلاله بهذه "الحِكَم" والآثار يشمل -ولا شك- أخبار المستقبل الغيبية التي لا تتلقى إلا من الوحي المحفوظ، وانظر: ص (157 - 166). (¬2) اقتباس من أثر صحيح موقوت على معاذ -رضي الله عنه-، رواه أبو داود (4/ 202)، والآجري في "الشريعة" (47، 48)، والحاكم (4/ 466)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 232، 233)، والفريابي في "صفة النفاق" رقم (41). (¬3) "أسرار الهاء في الجفر" ص (129).

هوس المخطوطات

هوس المخطوطات يتشدق "محمد عيسى دا ود"، باستناده إلى مخطوطات نادرة (¬1)، انفرد بالاطلاع عليها دون سائر خلق الله، ولا يمكن لغيره أن يحصل عليها، أو يطالبه بإثبات وجودها في الحقيقة، وهاك بعضَ تصريحاته: 1 - وفي بقايا مخطوط نادر يحوزه أحد الأثرياء العرب المقيمون (؟!) دائمًا في ألمانيا -وقد طالعت بعض فقراته- لرسالة قصيرة اسمها "الشرر في خبر شر البشر" لعالم مسلم اسمه (الكامل بن ريح البر) من علماء القرن الخامس الهجري، كان يقطن ببغداد، وله مؤلفات عدة حازها التتار وملوك الغرب .. (¬2). ثم لا يفوته أن يؤكد: "أن صاحب هذا المخطوط يرفض حتى مجرد تصويره" (¬3). 2 - (هذه الرواية سمعتها من عالم من أرض "اليمن السعيد" اسمه حيدر بن عبد الله بن سلام بن شاري، يمتلك مخطوطات رهيبة، يقول: إنها تعود إلى مئات السنين، بل منها ما يعود في أصوله إلى (700) عام قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وهو لا يُطلع عليها أحدًا إلَّا خاصة ¬

_ (¬1) "المفاجأة" ص (305، 644)، وقد قال القاري في "المشرب الوردي في مذهب المهدي": "وقد صرح الإمام ابن الهمام بعدم جواز النقل من غير الكتب المتداولة؛ سواء العلوم الأصلية، والفرعية"، نقله عنه في "خواطر دينية" (2/ 19). (¬2) "الخيوط الخفية" ص (98). (¬3) "نفسه" ص (99).

[لخاصة، وهو من سكان (ريدة) المليئة بيهود اليمن، وهو لا يزال على ] قيد الحياة، ويبلغ المائة وعشر سنوات (¬1). وبعد ما ذكر أن أسرة الدجال كانت تعبد وثنا على صورة البقرة، وأن أم الدجال مولدة من زنا المحارم، من زوجها المولد من زنا المحارم، وأنه من مواليد الحيض، وأن الشيطان جامع أمه مع أبيه ... إلى آخر خيالاته، ثم يتبجح بقوله: 3 - "إن هذا الكلام لا أقوله من عنديات نفسي ... إنه مذكور- في نقوش ومخطوطات صخرية في بلدة "إربد" بالأردن، ومع الزمن سُرقت النقوش والصخور الأثرية التي عليها هذه المدونات وغيرها، ولا يعلم أحد أين اختفت أوذُهب بها!! لكن بقيت الرواية في أذهان بعض العلماء الذين تواتروها عن أجدادهم بالشام، وأنها كانت معروفة في أزمنة السابقين- حكايةُ ولدٍ جاء بعد ثلاثين سنة زواجا بلا إنجاب، وتواتروا أنه كان "معيب العينين" منذ الميلاد ... ... ولأن ولدها -أي: أم المسيح الدجال- لا يرضع منها أصيبت باحتباس اللبن مما سبب لها حالة من التسمم! ماتت على إثرها" (¬2). وتحت عنوان: "عندما تكلمت المخطوطات" يقول: 4 - ومن عدة مخطوطات من أثمن وأندر ما يكون على وجه الأرض يمتلكها أحد العلماء بالقدس الشريف يمكن أن نواصل الرحلة عبر الماضي حتى نصل إلى الحاضر. ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (32). (¬2) "الخيوط الخفية" ص (27).

ثم طفق يروي: "كيف كان جبريل يتردد على الطفل (الدجال) وهو في تلك الجزيرة ... " (¬1)، ثم قال: "كل ما كتبته في الفقرة الآنفة بعنوان: "عندما تكلمت المخطوطات" هو من خلاصة عدة مخطوطات أثرية وجدت بسرداب تحت أرض مزارعين فلسطينيين، مدونة باللغة الآرامية القديمة من قبل مبعث موسى عليه السلام، بحوالي أربعة قرون، وهي -والله أعلم- على ما يبدو أنها مما أملاه (إبراهيم) عليه السلام، في وادي القدس ... ودوَّنَ المخطوطات على ورق كورق البردي رجل ذُكِر أن اسمه "آزاد بن حارم بن صافور" حضر نبي الله إبراهيم عليه السلام، وسأله في فتنة "الرجل الدجال الخطير" (¬2). 5 - "وهذه المخطوطات توارثها أحفاد الرجل، وكانوا يعيدون كتابتها بالآرامية حتى زمان المسيح عليه السلام، فأخفاها أحفاد الأحفاد، وسألوا المسيح عليه السلام عما أخبر به إبراهيم عليه السلام، فأكد لهم الخبر. وشاء الله -عز وجل- أن يعثر مزارع فلسطيني على هذه المخطوطات والبرديات، فسلَّمها لعالم فلسطيني جليل بالقدس، أعلمنا بما فيها بعد ما فك طلاسمها وعباراتها؛ لأنه متخصص في النقوش الآرامية القديمة وعدة لغات ميتة، ولا يزال يحتفظ بها في سرداب بمنزله القديم ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (33). (¬2) "نفسه" ص (38).

بالقدس، وكنيته (أبو باسل عز الدين نور) للتوقي والتخفي، أما اسمه الحقيقي، وكنيته الحقيقية فالله وحده يعلم ذلك" (¬1). وفي كتابه "الجفر" يتحدث عن مخطوط عجيب، عبارة عن مجموعة وريقات بدار الوثائق بأنقرة بتركيا كان معنونا ب (3664/ تراث المدينة) لعالم مجهول يقال: إنه كان في القرن 3 هـ ... ويذكر أنه ائتمنه على النقل منه (أحد العلماء الذين عاهدتهم على كتمان اسمه) (¬2). ومن الواضح أنه -بعدم إثبات صورة واحدة الأي من مخطوطاته الموهومة، وقطعه الإسناد إليها- يريد أن يقول: "لا تسألوا شاهدًا على وجودها غيري"! وفي كتابه "المهدي المنتظر على الأبواب" أطلق لخياله العنان، وأخذ يختلق قصصًا خرافية مملَّة تتعلق بمخطوطاته الموهومة، ويحكي مغامراته أو مغامرات أبطال القصص أثناء محاولتهم الحصول عليها (¬3)، ولما شعر أنه أسرف في الكذب والدجل إذا به يردد مقولته التي لا يمل من تكرارها: "هذه الأحداث نبوءات ليست من تأليفي، إنها واردة في المخطوطات العربية والإسلامية لدى شرق وغرب" (¬4). ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (38، 39). (¬2) "أسرار الهاء في الجفر" ص (116). (¬3) انظر نماذج منها في: "المهدي المنتظر على الأبواب" ص (58، 77، 153, 183،206). (¬4) "المهدي المنتظر على الأبواب" ص (71).

ويتمادى في الحديث عن مخطوطاته النادرة: فهذا مخطوط "مخبأ بمكتبة بابا الفاتيكان" (¬1)، وهذا من طبيب تركي (د. ك. ع. ب) (¬2)، وذاك (مخطوط بإحدى الجامعات الكندية) (¬3). وهذا مخطوط ينسبه إلى الإمام أحمد: "رسالة آخر الزمان في خبر المهدي والدجال" (¬4)، أما مخطوط "الدنيا كلها للمهدي-بمكتبة طهران العامة" فينسبه إلى جعفر الصادق -رحمه الله تعالى- (¬5)، وينسب إلى "كاهن أرض الجزيرة" مخطوطًا بمكتبة أغادير العامة بالمغرب (¬6). ويدَّعي "السندباد المصري" أن مستشرقًا فرنسيا أطلعه على مخطوط لرجل يُسمَّى "ابن حرشل الرومي" اليهودي، ونقل عنه خماسيتين، ثم سداسية يصفها بأنها "قنبلة ومفاجأة" (¬7)، ويدَّعي فيها أن "ابن حرشل" نقل هذا الكلام عن "بارش بن حامس" حاضر موسى، وكليم الرب معه. (¬8) ويحاول "السندباد" تعجيز منتقديه، فيتحداهم أن يعرف واحد منهم مجرد أسماء الأعلام الذين لا يعرفهم غيره مثل: "ابن عقدة"، ¬

_ (¬1) "المفا جأة" ص (209). (¬2) "نفسه" ص (243). (¬3) "نفسه" ص (379). (¬4) "المهدي المنتظر على الأبواب" ص (70). (¬5) "نفسه" ص (274). (¬6) "نفسه" ص (62). (¬7) انظر: "الخيوط الخفية" ص (212 - 215). (¬8) "نفسه" ص (214، 215).

والجاهلون لأهل العلم أعداء

أو "الجوالبي"، أو "فستقة"، أو "البرهان السقا"، أو "الوولاتي"، أو "ابن أركماش"، أو "ابن كيكلدي"، أو "الرما دي" (¬1) ولا يدري صاحبنا أن إتيانه بالمزيد من الغرائب سوف يزيد وحشته، ويضاعف غربته بين العلماء. والجاهلون لأهل العلم أعداء لأنهم الذين يكشفون أهل البدع، ويفضحون أكاذيبهم، ويفندون دجلهم، ومن هنا تطاول "السندباد" على قمم سامقة، وجبال شامخة لحاجة في نفسه، فتراه يُعرِّض بوصف الشيخين (البخاري ومسلم) بالجبن؛ لأنهما في زعمه "أهملا الرواية عن آل البيت المحمدي الشريف" (¬2)، يقول -عامله الله بما يستحقه-: ¬

_ (¬1) "أسرار الهاء في الجفر" ص (135، 136)، ويطيب لي أن أسأله: وهل تعرف أنت "أبا لمعة المصري"؟! (¬2) بفرض صحة هذا الزعم؟ فإن عدم الرواية عن شخص لا يستلزم تجريحه أو انتقاصه، وكم من إمام جليل لم يرو له البخاري لا لشيء إلَّا لأنه ما قصد استيعاب الصحيح، ولعل تصنيف المستدركات أدل دليل على هذا، وكيف يزعم هذا الظالم لنفسه أن البخاري ومسلمًا أهملا الرواية عن أهل البيت؟ وكتاباهما حافلان بالرواية عن علي -رضي الله عنه-، وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهن، وكذا عن أناس من آل جعفر، وآل علي، وآل العباس، وآل عقيل، فإن أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- زوجاته، وقرابته الذين تحرم عليهم الصدقة من المذكورين آنفًا، أما الرافضة فقد حصروا أهل بيت النبوة في علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، -رضي الله عنهم-، وأضافوا لهم أئمتهم الثمانية، وأخرجوا منهم كل من سواهم، ثم أخرجوا أولاد عليِّ غير الحسنين من أهل البيت: كمحمد ابن الحنفية، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، والعباس، وجعفر، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = وعبد الله، وعبيد الله، ويحيى، وكذا أولادهم الذكور الاثني عشر، ومن البنات ثماني عشرة ابنة، كما أخرجوا من آل البيت بنات فاطمة -رضي الله عنها-: زينب، وأم كلثوم، وأولادهما من آل البيت، وأخرجوا أولاد الحسن بن علي منهم، وكذا أخرجوا من أولاد الحسين من لا ينهج منهجهم، وأخرجوا بنات النبي -صلى الله عليه وسلم- الثلاث غير فاطمة، وكذا أزواجهن، وأولادهن، وانظر: "الشيعة وأهل البيت" للشيخ إحسان إلهي ظهير -رحمه الله تعالى- ص (13 - 20). وما أحسن ما قال الدكتور ناصر بن عبد الله القفاري -حفظه الله- وهو يدحض دعوى الرافضة أن أهل السنة لا يتلقون عن أهل البيت: [مثلًا: "زيد بن علي بن الحسين" وهو من خيار أهل البيت: نجد في كتب الرجال عند أهل السنة توثيقه والثناء عليه وقبول ما صح عنه، وأخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجه (*). أما في كتب الشيعة ففي "الاستبصار" للطوسي (والطوسي شيخ الشيعة على الإطلاق، وصاحب كتابين من أُصولهم الأربعة، وكتابين من كتب "الرجال" الأربعة عندهم (في كتاب "الاستبصار" يصرح الطوسي برد مرويات زيد بن علي -مرارًا-. فمن يتلقى عن آل البيت حقيقة؟ هل هو مَن إذا روى عن بعض أهل البيت أحاديث لا توافق مذهبه ردَّها بدعوى التقية، في حين يقبل روايات الكليني والقمي وغيرهما في الطعن في كتاب الله وصحابة رسوله وأهل بيته؛ لأنها تتفق مع تعصبه وشذوذه؟! ومن هم أهل البيت عند الشيعة؟ إن لكل طائفة من طوائف الشيعة تفسيرًا خاصَّا لأهل البيت يختلف من طائفة لأُخرى حول عدد أهل البيت وأعيانهم. والرافضة تخالف أهل البيت في عامة أُصولهم، فليس في أَئمة أهل البيت مثل علي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق مَن يقول بالنص على علي، أو بعصمة الأئمة الاثني عشر، أو يسب أبا بكر وعمر، أو ينكر الرؤية، أو يقول بخلق القرآن، أو ينكر القدر، والمنقولات الثابتة المتواترة عن هؤلاء معروفة موجودة، وكانت مما يعتمد عليه أهل السنة (**). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = فهم مخالفون لأئمة أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصول دينهم، كما هم مخالفون لأصحابه، بل ولكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- (*). حقيقة أن أهل السنة لا يقبلون روايات الروافض المشهورين بالكذب عن أهل البيت (**). وهذا -كما هو حفظ للسنة وتوثيق لها- هو صون لأهل البيت مما ألصقه بهم أعداء الإسلام. وهذا "الرافضي" يريد بدعوة أهل السنة إلى الرجوع للأخذ من أهل البيت؛ لأنه لا يقنعه منهج أهل السنة في تلقي ما صح عن أئمة العلم والدين من أهل البيت -إنه يريد منهم أن يتعبدوا بحكايات الرقاع التي يزعمون أنها صدرت عن إمامهم المنتظر، والذي لم يولد أصلا، يريد منهم أن يستقوا دينهم من "الكافي" للكليني وهو يطعن في كتاب الله ويحرف آياته، ويكفر صحابة رسول الله -صلى الله علبه وسلم-؛ أي: يريد أن يتلقوا دينهم عمن يسعى في هدمه وتغييره. وهو يريد منهم أن يرجعوا لما يجمعه الروافض من "نصوص" ينسبونها كذبا لأهل البيت في الإمامة والعصمة والتقية والرجعة والغيبة والبداء، وإلا فإن أهل السنة عندهم يتحملون كبر الفرقة والتباعد. ولهذا رأينا بعض "آياتهم" وشيوخهم يجعلون من شرط التقارب أن يوافق أهل السنة على سب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم (...)، أي: يوافق أهل السنة على القدح في صحابته، وبالتالي يرجعون لمدونات الروافض. وقد لاحظنا أن معظم أئمة أهل البيت من غير الاثني عشر يتعرضون في كتب الشيعة للسب والطعن والتكفير، كما مر الإشارة لذلك. فمَن الذي يتولى أهل البيت؟ ومَن الذي لا يتولاهم؟ ومَن الذي يقبل مروياتهم؟ ومن الذي يُعرض عنها؟ ومن الذي يطعن فيهم بقبول مرويات الكذبة عليهم؟ ومن الذي =

"ولا أعذر البخاري ومسلمًا إلَّا ليقيني بأن الظروف السياسية القائمة آنئذٍ كان يمكن أن تطيح برأسيهما، فلا يصل شيء منهما أصلًا، وهو العذر الوحيد المقبول؛ لأنه يجوز أن يكون المؤمن جبانًا (¬1)، ولكن لا ¬

_ = يصونهم ويرد هاتيك المرويات؟ ومن الذي لا يعتبر من أهل البيت غير الاثني عشر ويطعن في غالب أهل البيت من غيرهم؟! ولا شك أن من تأمل ما نقلناه من نصوص الروافض يدرك أنهم أعداء لأهل البيت والصحابة، وإنما اتخذوا شعار التشيع لأهل البيت لترويج باطلهم] اهـ (*). (¬1) هذه "شِنْشنة نعرفها من أخزم" فإن رمي المحدثين بالجبن والخوف، ومداهنة الحكام ما هو إلَّا رَجْع صدى كلام المستشرقين، وبخاصة صنمهم اليهودي المتعصب الحاقد "جولد تسيهر" وأذنابهم من بني جلدتنا الذين يتكلمون بألسنتنا، ويقصدون بذلك التشكيك في حَمَلَةِ السنة للتوصل بذلك إلى هدم الشريعة الشريفة. إن الأمر لا يرجع إلى خوف أو شجاعة، وإنما إلى شروط التزمها المحدثون ولم يحيدوا عنها، فمنهم متشدد في شروطه كالشيخين، ومنهم دون ذلك، فمِن ثَمَّ رأينا الإمام أحمد قد خرَّج في فضائل بني أمية أكثر مما خرَّج الشيخان في "صحيحيهما". وقد أخرج الشيخان في فضائل علي -رضي الله عنه- وآل بيته أحاديث عدة أكثر مما أخرجاه في فضائل العباس وابنه عبد الله -رضي الله عنهما-، وخلفاء بني العباس كانوا يعتبرون العلويين مناوئين لهم، فلو كان مبنى الأمر على الخوف والمداهنة للعباسيين لما ذكرا في صحيحيهما شميئا من ذلك. وفي كتب أهل السنة مرويات عن أمير المؤمنين علي - ضي الله عنه- أكثر مما يروى عن أبي بكر وعثمان وبقية العشرة عدا عمر فإن مروياته قريبة من مرويات علي -رضي الله عنهم-، وعن سائر الصحابة أجمعين، ثم إن الخلفاء والأمراء عامتهم كانوا على دين، وخلق، وتعظيم للشرع الشريف، ولا يُظَن بهم أنهم كانوا يرضون الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأجل مداهنتهم، والحوادث في هذا كثيرة شهيرة، ولو قُدِّر أن أحدهم تورط في ذلك -معاذ الله- لتصدى له المسلمون علماؤهم وعامتهم، ووقفوا له بالمرصاد، وقد حفل التاريخ بكثير من المواقف المشرقة ذبَّا عن السنة، وإنكارًا على من حاد عنها من الأمراء والحكام.

تطاول "السندباد المصري" على البخاري، ومسلم، وابن تيمية، والرد عليه

يجوز أن يكون كذابًا) (¬1) اهـ. ويتمادى في عدوانه حتى ينالَ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، فيقول: "ابن تيمية الذي يحبه هؤلاء القوم الذين ألسنتهم أطول من أجسادهم، ومعلوم أن ابن تيمية أحد عشاق يزيد بن معاوية، وأحد مبغضي سيدنا الحسين (¬2)، يقول في تفسير سورة النور: "إنه وقف على ما شاء الله من الكتب الكبار والصغار، أكثر من مائة تفسير" (¬3)، وأنا ¬

_ (¬1) "أسرار الهاء في الجفر" ص (133). (¬2) وهذا كذب صراح، فإنه سئل رحمه الله: "ما تقولون في يزيد؟ " فقال رحمه الله: "لا نَسُبُّه، ولا نُحِبُّه، فإنه لم يكن رجلا صالحًا فنحبه، ونحن لا نسب أحدًا من المسلمين بعينه"، فقيل له: "أفلا تلعنونه؟ أما كان ظالمًا؟ أما قتل الحسين؟! " فقال شيخ الإسلام: "نحن إذا ذُكر الظالمون كالحجاج بن يوسف وأمثاله؛ نقول كما قال الله في القرآن: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، ولا نحب أن نلعن أحدًا بعينه؛ وقد لعنه قوم من العلماء؛ وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد، لكن ذلك القول أحبُّ إلينا وأحسن. وأما من قتل "الحسين" أو أعان على قتله، أو رضي بذلك: فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يقبل الله منه صرفًا ولا عَدلًا" اهـ. من "مجموع الفتاوى" (4/ 487، 488)، وانظره: (4/ 511, 512)، و "منهاج السنة النبوية" (1/ 321 - 330). (¬3) ومن المعلوم أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كان له اختصاص وتعلق بعلم التفسير، حتى قال وهو يحكي عن شغفه، واهتمامه بهذا الفن الشريف: "ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير، ثم أسأل الله الفهم، وأقول: (يا معلم آدم إبراهيم علمني)، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها، وأمرغ وجهي في التراب، وأقول: (يا معلم إبراهيم! فهِّمني) " اهـ. من "العقود الدرية" ص (62). وقال الحافظ الذهبي، وهو يترجم لشيخ الإسلام: "وأما التفسير فمُسَلَّم إليه ... ولفرط إمامته في التفسير، وعظمة اطلاعه، يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين، وُيوهي أقوالًا عديدة" اهـ، وقال فيه الإمام ابن سيد الناس اليعمري: "إن تكلم في التفسير؛ فهو حامل رايته" اهـ.

أرجو أن يُحْصُوا لي أسماء70 تفسيرًا، لا 100 كما قال ابن تيمية، فإما الرجل كذاب (¬1)، وإما هناك 100 تفسير، ولكن لم يصلنا الكثير" (¬2) اهـ. ¬

_ = ومِن ثَم لُقِّبَ ب "ترجمان القرآن" ونودي إثر وفاته من منابر جامع دمشق: "الصلاة على ترجمان القرآن"، وذكر الحافظ ابن رجب أنه صُلي عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإسلام القريبة والبعيدة، حتى في اليمن والصين، وأخبر المسافرون أنه نودي بأقصى الصين عليه يوم جمعة: "الصلاة على ترجمان القرآن" اهـ، انظر: "بحوث الندوة العالمية عن شيخ الإسلام ابن تيمية وأعماله الخالدة" ص (235 - 260). (¬1) ولا أجد تعليقا على هذا الباغي على أئمة الإسلام ورموزه سوى أن أتمثل قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ابن صياد: "اخسأ! فلن تعدو قدرك"، ولعله لو نهل من علم أبن تيمية لعرف قدره، وحفظ حرمته، وأشفق على نفسه أن يناله قولُ الله تعالى في الحديث القدسي: "من عادى لي وليًا، فقد آذنتُه بالحرب" الحديث، وما أصدق قول أمير البررة، وقتيل الفجرة، ذي النورين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-؟ "واحفظ لكلِّ منزلتَه، وأعطهم جميعَا بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس بها يُصاب العدل"، وقول الإمام الذهبي -رحمه الله نعالى-: "الكلام في الرجال لا يجوز إلا لتامِّ المعرفة، تامِّ الورع" اهـ. من "ميزان الاعتدال" أن (3/ 46)، ومثله قول الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "ولذلك يحتاج المسلم أن يكون عارفا بمقادير الناس وبأحوالهم ومنازلهم، فلا يرفع الوضيع، ولا يضع الرفيع"، نقله عنه السخاوي في "ذيل التبر المسبوك" ص (4)، وانظر: كتابي "حرمة أهل العلم" ص (353) وما بعدها. (¬2) "أسرار الهاء في الجفر" ص (127).

عود إلى خرافة المخطوطات

عَوْدٌ إلى خرافة المخطوطات لقد ادَّعى "السندباد المصري" اطلاعه على إحدى المخطوطات الإسلامية (¬1) الموجودة في دار الكتابخانة بتركيا تحت مسمى أو تصنيف (3664/ تراث المدينة المنورة) (¬2)، لعالم مدني كان يعيش بالمدينة المنورة في القرن الثالث الهجري، وهو "كلدة بن زيد بن بركة المدني" (¬3)، بعنوان "أسمى المسالك لأيام المهدي الملك لكل الدنيا بأمر الله المالك" (¬4)، ومما جاء في هذا المخطوط المزعوم: "وحرب في بلد أصغر من عَجْب الذَّنب، يجمع أهل الدنيا لها، كأنها أغنى بلد أولم عليها الوالمون (¬5)، وأمير فيها سلَّم رايته لزعيمة الشر ¬

_ (¬1) ولم يُثبت أي إسناد للمخطوطة المزعومة، ومخطوط بلا سند رجل بلا نسب، كما أنه لم يثبت صورة واحدة لأي جزء من أجزاء تلك المخطوطة كما هو ديدن المحققين الذين يحترمون علمهم وقُرَّاءهم. (¬2) هذا التهويش لا يغني عنه شيئًا؛ لأن المكان الذي ادعى وجود المخطوطة فيه مُمَوَّه، ولفظة (الكتابخانة) تعني دار الكتب، ودور الكتب في تركيا مختلفة من حيث الاسم والمكان، ويبلغ عدد مكتبات المخطوطات في تركيا اثنتين وخمسين ومائة مكتبة، فأيها حظي باحتضان تلك المخطوطة؟ وانظر: (تاريخ التراث العربي) لفؤاد سزكين (1/ 35 - 56)، (1/ 100، 101). (¬3) فهلا أقمت بينة على أن هذا الشخص قد خُلِقَ أصلا؟ فإن عرفنا من هو؛ فكيف هو؟ ومن ترجم له؟ (¬4) وإن ركاكة هذا العنوان، وما به من سجع متكلف بارد يُبعد انتسابه إلى القرن الثالث؛ حيث لم يكن قد شاع هذا الأسلوب في تسمية الكتب. (¬5) وهذا لحنٌ بغيض حيث إن اسم الفاعل من "أولم": "مولم" وليس والمًا، مما يشير إلى أن مؤلف هذه المخطوطة من القرن "الخامس عشر" وليس القرن الثالث!! =

الآتية من الشواطئ البعيدة الغربية بداية آخر الزمن، فتجمع له صريخها من كل الدنيا، وترد له عرش الملك، ويخرب عراق في ملاحم بداية آخر الزمن، ويحارب أمير الذنب الصغير جيوش المهدي (¬1). وفي نفس المرجع السابق في مخطوط آخر من القرن الثالث الهجري لتابعي شامي (¬2)، وجاء في ذلك المخطوط "النادر": "وفي عراق الشام رجل متجبر ... و ... سفياني، في إحدى عينيه كسلٌ قليل، واسمه من الصدام، وهو صدام لمن يعارضه، الدنيا جمعت له في (كوت) صغير، دخلها وهو مدهون، ولا خير في السفياني إلَّا بالإسلام، وهو خير وشر، والويل لخائن المهدي الأمين (¬3). ومما جاء في "المخطوط " المزعوم: "حربُ آخر الزمن حرب كونية، المرة الثالثة بعد اثنين (¬4) كبريين، يموت فيهما خلائق كثيرة، الأولى: أشعلها رجل كنيته السيد الكبير، وتنادي ¬

_ = ويتأكد هذا إذا لاحظنا ركاكة الألفاظ، وتفكك السياق، وسماجة الكلام، وكونه مما يُسخر منه، ويمجه السمع، ويسمُج معناه للفطِن. (¬1) "المهدي المنتظر على الأبواب" ص (132) ويلاحظ أنه لم يوضح مَن قائل هذه النبوءات، ولو افترضنا أنه أسندها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فلن يغني عنه السند شيئا؛ لأن هذه الأخبار استوفت علامات وضع الحديث بالنظر إلى متنه، فانظرها مفصَّلة في "المنار المنيف" للإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى-. (¬2) كيف يكون (تابعيُّا) ومن (القرن الثالث)؟! (¬3) "نفسه"، ص (216). (¬4) والصحيح: اثنتين!

الدنيا باسم (هِتْلَرْ) ... ، وهذا مما رواه أبو هريرة، وابن عباس، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- وفي رواية: خاف أن يحدث بها أبو هريرة، ولما أحس بالموت خاف أن يكتم علمًا، فقال لمن حوله: في نبأ علمته عما هو كائن في حروب آخر الزمن، فقالوا: أخبرنا ولا بأس -جزاك الله خيرًا- فقال: في عقود الهجرة بعد الألف وثلاثمائة -واعقدوا عقودًا- يرى ملك الروم أن حرب الدنيا كلها يجب أن تكون، فأراد الله له حربًا، ولم يذهب طويل زمن، عقد وعقد، فسلط رجل من بلاد اسمها (جِرْمِن)، له اسم الهِر، أراد أن يملك الدنيا، ويحارب الكل في بلاد ثلج وخير، فأمسى في غضب الله بعد سنوات نار، أرداه قتيلًا سِرُّ الروش أو الروس (¬1). وفي عقود الهجرة بعد الألف وثلاثمائة عُدَّ خمسًا أو ستًّا، يحكم مصر رجلٌ يُكْنى "ناصر"، يدعوه العرب "شجاع العرب"، وأذلَّه الله في حرب وحرب، وما كان منصورًا، ويريد الله لمصر نصرًا له حقًّا في أحب شهوره، وهو له، فأرضى مصرَ ربُّ البيت والعرب بأسمر سادا، أبوه أنور (¬2) منه، لكنه صالح لصوص المسجد الأقصى بالبلد الحزين، وفي عراق الشام رجل متجبر ... و ... سفياني ... (إلى أن يقول: "وفي عقود الهجرة الألف وأربعمائة، واعقد اثنين أو ثلاثًا ... يخرج المهدي الأمين، ويحارب كل الكون، يجمعون له الضالون والمغضوب عليهم، والذين مردوا على النفاق في بلاد الإسراء والمعراج، عند جبل ¬

_ (¬1) ولمزيد من التحقيق، والتوثيق، و"الإيهام، والدجل" قال في هذا الموضع: "الشك من الراوي، ومكان النقط مطموس متآكل في المخطوطة!! ". (¬2) أحسب أن اسم "محمد أنور" مركب؟ فليس "أنور" اسم أبيه.

هذا الشبل من ذاك الأسد

مَجِدُّون، وتخرج له ملكة الدنيا والمكر، زانية اسمها "أمريكا"، تُراود العالم يومئذ في الضلال والكفر، ويهود الدنيا يومئذ في أعلى عليين، يملكون كل القدس والمدينة المقدسة" ... إلخ (¬1). وقال أيضا: وقد وقعت على نص توراتي في سفر أشعياء الحقيقي، به تفاصيل أكثر، أورده بلا تعليق، ففي نسخة الفاتيكان يقول النص: "وجاءوا إلى سيناي، وحاربوا الملك المصري الذي كان خاسرًا في مواجهتهم، وكل الخيانة كان خدعة نصر لإسرائيل ... وجاء ملك أسمر اللون، رأسه حاسر من الشعر، له أسود ونسور (¬2)، فانتصر على إسرائيل، وكلمهم أن يكونوا أصدقاء، وسلام عَمَّ كل المصريين، ولكن ملكهم أسمر اللون أضحى شهيدًا ... " إلى أن قال: "وحراسه كانوا الذين اغتالوه، وكانوا شرارا وتجارًا" (¬3). هذا الشبل من ذاك الأسد وقد اغتر به "حاطب ليل"، فاتخذ الغراب دليلًا، ومارس -مثله- هواية التهويش بأن لديه مراجع "بالجملة"، ودون إحراج بطلب ذكر التفاصيل، فقال في مقدمة كتابه: "كما ينبغي التنبيه على أنَّ ثمة مخطوطات نادرة لم تُطبع، تحوي أضعاف الأحاديث المعروفة، سواء ¬

_ (¬1) "المهدي المنتظر على الأبواب"، ص (216). (¬2) وهو هنا (يغازل) الضربة الجوية الأولى في حرب العاشر من رمضان 1393 هـ (6 أكتوبر 1973 م)! (¬3) "نفسه" ص (122).

في الكتب المشهورة والغير مشهورة، محفوظة في المكتبات العالمية، كمخطوطات، منها ما هو موجود في المكتبة العراقية الكبرى ببغداد، ومنها في دار الكتبخانة باسطنبول بتركيا، وكذلك مكتبة التراث في "طنجة"، ومنها في مكتبة دار الكتب القديمة بالرباط، ومنها بمكتبة بحرة الشام؛ وهي دمشق في الجامع الأموي، هذا غير كثير من المخطوطات الإسلامية النادرة الموجودة في الفاتيكان، مكتبة البابا" (¬1). لقد سرت عدوى "هوس المخطوطات" إلى صاحبنا، فراح يهذي بنفس ضلالات "السندباد المصري"، ويردد صدى صوته: أثَّر البهتان فيه ... وانطلى الزورُ عَلَيهْ يا له من ببغاءٍ ... عقلُه في أذنيه تلمح ذلك واضحًا في قوله يحاكي مُقلَّدَه في الهروب من "المحاكمة" العلمية: "كما أن كثيرًا من أحداث الفتن وملاحم آخر الزمان وردت في أحاديث وآثار غير مشهورة، مثبتة في مخطوطات ¬

_ (¬1) "هرمجدون، آخر بيان يا أمة الإسلام" ص (11) ونقول تعليقا على هذا "التهويش": ما زِدتَ على أن قلت: "في المكتبات مخطوطات" فكان ماذا؟! وأين صور هذه المخطوطات، وأرقامها، وتوثيقها؟ خاصة، وأنها تتحدث عن أمور غيبية خطيرة؟ وننصح القارئ المكرم أن يطالع شيئا من المصنفات التي توضح الضوابط العلمية في التعامل مع المخطوطات، منها: "تحقيق النصوص ونشرها"، للعلامة عبد السلام هارون. "تحقيق التراث العربي: منهجه وتطوره" للدكتور عبد المجيد دياب. "مبادئ لفهم التراث" للشيخ محمد بن إبراهيم الشيبالي. "مناهج تحقيق التراث بين القدامى والمحدثين" للدكتور رمضان عبد التواب.

وكتب ليست سهلة المنال، فكذلك حال الآثار التي بها توجيهات نبوية، ونصائح غالية تستبين بها سبيل النجاة، ولذلك خَفيت على أكثر الناس قديما وحديثًا، إلَّا من اختصه الله تعالى بعلمها، حتى يبثها وينشرها إذا جاء وقتها وحان أوانها" (¬1). ثم ذكر أنه بعد أن يستدل بالأحاديث والآثار المشهورة يُثَنِّي "بتلك الآثار الخفية غير المشهورة، مع عدم التشديد في اعتبارات مدى صحة أو ضعف الأثر من ناحية السند؛ إذ إنها نصائح وإرشادات (¬2) من باب فضائل الأعمال التي يتساهل العلماء في قبول أحاديثها وآثارها، وإن كانت ضعيفة السند، مع الأخذ في الاعتبار أن ضعف سندها ليس شديدًا ولا موضوعا، ثم إنها قد جاءت من أكثر من طريق (¬3)؛ مما يجعلني مطمئنا، لإيرادها وذكرها" (¬4) اهـ. أقول: صدق الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- إذ قال: "من طلب غريب الحديث كَذَبَ". ¬

_ (¬1) "هرمجدون" ص (110). (¬2) وهل التزمتَ التوثيق، والتحقيق يا عبد الله فيما ليس من فضائل الأعمال؛ كالإخبار عن الغيوب المستقبلة؟ أم تردد مقولة مقلَّدك: "أقول للمرة الألف: حديث الفتن ليس من العقيدة، وليس من التشريع". اهـ، "من أسرار الهاء في الجفر" ص (18). (¬3) اعلم -رحمك الله- أن كثرة الطرق لا تقوي الحديث الضعيف بإطلاق، فليس كل ضعيف ينجبر بكثرة طرقه، وليس كل شاهد ومتابع يصلح لتقويته، بل ربما زادت كثرةُ الطرق الضعيف ضعفا، حين يتداوله ويحتكر روايته الوضاعون الكذابون، والضعفاء المتروكون، فأين كان الجهابذة المتقنون؟! (¬4) وهذا الكلام ظلمات بعضها فوق بعض، إذ يتعامل مع هذه الأخبار بالجملة، ويعمم الأحكام بصورة جائرة، عسى أن ينجو من المحاكمة العلمية.

من فمك ادينك

وقال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى-: "وينبغي للمنتخب أن يقصد تخير الأسانيد العالية، والطرق الواضحة، والأحاديث الصحيحة، والروايات المستقيمة، ولا يُذْهِب وقته في التّرَّهات، من تتبع الأباطيل والموضوعات، وتَطلّبِ الغرائب والمنكرات" (¬1) اهـ. وقال أيضًا -رحمه الله تعالى-: "أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب على إرادتهم كتبُ الغريب دون المشهور، وسماع المنكر دون المعروف، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من روايات المجروحين والضعفاء، حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنبًا، والثابت مصروفًا عنه مُطَّرَحًا، وذلك كله لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم، ونقصان علمهم بالتمييز، وزهدهم في تعلمه، وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين، والأعلام من أسلافنا الماضين" (¬2) اهـ. مِنْ فَمِكَ اُدينُكَ ومن مغالطات هذا المقلِّد قوله معلقًا على الأثر الذي ادعى أن أبا هريرة كان يكتمه ثم بثه: "وقد قلت في "قبل البيان" إنني سأورد بعض الآثار العجيبة معزوة إلى مصادرها، منسوبة إلى قائليها (¬3)، ¬

_ (¬1) "الجامع" (2/ 159). (¬2) "الكفاية" ص (141). (¬3) إنما يستقيم لك ذلك إذا كان مصنفوها قد اشترطوا الصحة فيما يروون من الأحاديث، أما الكتب التي اقتصر مؤلفوها على الجمع والتقميش فإنه يتعين على من ينقل عنها أن يثبت صحة الأحاديث إن كان يحتج بها.

فائدة: من أسند فقد أحالك

جاعلًا عهدتها على قائليها (¬1)، ولولا أنني أقبلها ما أوردتها" (¬2)، ثم ¬

_ (¬1) إنما يصح هذا إذا أوردتها مقرونة بأسانيدها، أما إذا حذفت الإسناد أو اختصرته، فالعهدة عليك. (¬2) وهذا ما يجعل عهدة هذه الأخبار عليك لا على من رَوَوْها مقرونة بأسانيدها، وانظر ص (163) وما بعدها. فائدة: "من أسند؛ فقد أحالَكَ": إن اشتغال الكثير من العلماء في عصر التدوين بجمع الأحاديث مسندة دون تفتيش في أسانيدها لا يصح فهمه على أنهم يحتجون بالأحاديث الضعيفة، وإنما كان جلُّ اهتمامهم بالجمع والتدوين مبادرة للعوارض التي قد تعرض للمحدِّث نفسه، واغتنامًا لفرصة لقيا الراوي الذي قد يعرض له سفر أو تغير أو موت، وهذا سر قولهم: "سيندم المنتخب"، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة التحقيق والتمحيص إعمالًا لقاعدة "قَمِّشْ ثم فتش"، وللعلامة المحدث ناصر الدين الألباني -قدس الله روحه، ونور ضريحه- كلام نفيس ذكره رحمه الله، في مقدمة تحقيقه لكتاب "اقتضاء العلم العمل". قال رحمه الله: "قد يقول قائل: إذا كان المؤلف بتلك المنزلة العالية في المعرفة بصحيح الحديث، ومطروحه؛ فما بالنا نرى كتابه هذا وغيره من كتبه قد شحنها بالأحاديث الواهية؟ والجواب: أن القاعدة عند علماء الحديث أن المحدث إذا ساق الحديث بسنده؛ فقد برئت عهدته منه، ولا مسئولية عليه في روايته ما دام أنه قد قرن معه الوسيلة التي تمكن العالم من معرفة ما إذا كان الحديث صحيحًا أو غير صحيح، ألا وهي الإسناد. نعم، كان الأولى بهم أن يُتبعوا كلَّ حديث ببيان درجته من الصحة أو الضعف، ولكن الواقع يشهد أن ذلك غير ممكن بالنسبة لكل واحد منهم، وفي جميع أحاديثه على كثرتها؛ لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها الآن، ولكن أذكر منها أهمها، وهي أن كثيرًا من الأحاديث لا تظهر صحتها أو ضعفها إلا بجمع الطرق والأسانيد، فإن ذلك مما يساعد على معرفة علل الحديث، وما يصح من أحاديث لغيره، ولو أن المحدثين كلهم انصرفوا إلى التحقيق وتمييز الصحيح من الضعيف لما استطاعوا -والله أعلم- أن يحفظوا لنا هذه الثروة الضخمة من الأحاديث والأسانيد، =

أضاف -إمعانًا في المغالطة-: أن أبا هريرة -رضي الله عنه- كان من أحفظ الصحابة لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... إلخ (¬1)، وتجاهل أن عليه أن يثبت ابتداءً صحة السند إلى أبي هريرة -رضي الله عنه-؛ لأننا لن نؤتى من صحابي قطُّ، فالصحابة -رضي الله عنهم-، كلهم عدول، وراوية الإسلام أبو هريرة -رضي الله عنه- من أحفظهم وأضبطهم. ¬

_ = ولذلك انصبت همم جمهورهم على مجرد الرواية إلَّا فيما شاء الله، وانصرف سائرهم إلى النقد والتحقيق مع الحفظ والرواية، وقليل ما هم، {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} " انتهى ص (4). ومثل الأئمة المحدثين في إيرادهم الأخبار الضعيفة كمثل رجال القضاء إذا أرادوا أن يبحثوا في قضية، فإنهم يجمعون كل ما تصل إليه أيديهم من الأدلة والشواهد المتصلة بها مع علمهم بضعف بعضها اعتمادًا منهم على أن كل شيء سيقدر بقدره، انظر: "تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة" د. محمد أمحزون (1/ 260 - 263). (¬1) "هرمجدون" ص (40).

فقه أشراط الساعة

الفصل الثالث استدلال العابثين بما لا يصلح دليلا

الفصل الثالث اسْتِدْلَالُ العابثين بِمَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا المطلب الأول الاسْتِدْلَالُ بِالأَحادِيثِ الضَّعيفَةِ وَالموضُوعَةِ وهذه الآفة "قاسم مشترك" بين الخائضين بالظن في أشراط الساعة، فهم يوردون الأحاديث الضعيفة والباطلة، ثم يؤسسون عليها توقعاتٍ وأحكامًا، متناسين أن التفسير فرع التصحيح، ولو أعملنا قول بعض السلف: "أثبت العرش ثم انقش"؛ لطرح ذلك عن كاهلنا عبئًا ثقيلًا من هذه المرويات الباطلة، ولأرحنا واسترحنا من عناء الجواب عما يطرأ بسببها من إشكالات وتوقعات (¬1). ¬

_ (¬1) وقد لمسنا أثر الأحاديث الضعيفة في رمضان (1422 هـ) حين كان بعض الشباب يجزم بأن "الفزعة سوف تحصل منتصف الشهر الكريم"؛ بناءً على الأحداث السياسية، والعسكرية الصاخبة في أفغانستان في ذلك الوقت، مع ضعف الحديث الذي اتَّكَئُوا عليه، وانظر: "المفاجاة"، ص (185).

الحافظ نعيم بن حماد، وكتابه "الفتن"

الحافظ نُعيم بن حماد، وكتابه "الفتن" يعد كتاب "الفتن" للحافظ نُعيم بن حماد المروزي -رحمه الله تعالى- المرجع الأساس الذي ينهل منه العابثون بأشراط الساعة، ولنضرب لذلك مثلًا صاحبَ "هرمجدون" الذي وصفه بأنه كتاب "بديع" (¬1)، وتارة: "السِّفْر الجليل" (¬2) ولا يفتأ يكرر وصف مؤلفه نُعيم بن حماد بأنه: "شيخ البخاري" (¬3)، وقال في موضع آخر: "جمع فيه كوكبة هائلة من أحاديث الفتن وملاحم آخر الزمان، يعزُّ وجودها في مكان آخر" (¬4)، فماذا عن الكتاب ومؤلفه؟ أما الكتاب: فقال فيه مسلمة بن قاسم: "له أحاديث منكرة في الملاحم، انفرد بها" (¬5). وقال الإمام الذهبي -رحمه الله تعالى-: "وقد صنف كتاب (الفتن) فأتى فيه بعجائب ومناكير" (¬6). وقال الدكتور عبد العليم عبد العظيم البستوي حفظه الله: "إن في صحة نسبة الكتاب إليه نظرًا، ولا نستطيع أن نحمله كل المسئولية"، إلى ¬

_ (¬1) "هرمجدون آخر بيان" ص (80). (¬2) "نفسه" ص (86). (¬3) "نفسه" ص (10، 80). (¬4) "نفسه" ص (10). (¬5) "تهذيب التهذيب" (10/ 462). (¬6) "سير أعلام النبلاء" (10/ 609).

أن قال: "وهكذا فجميع الروايات التي تفرد بها هذا الكتاب لم أحتج بها، وإنما هي تصلح للاعتبار" (¬1). وأما المولف: فهو الحافظ أبو عبد الله نُعيم بن حماد المروزي (ت228) -رحمه الله تعالى- (¬2). قال الحافظ في "هدي الساري": "لقيه البخاري، ولكنه لم يخرج عنه في الصحيح سوى موضع أو موضعين، وعلَّق له أشياء أُخر، وروى له مسلم في المقدمة موضعًا واحدًا". وقال في "التهذيب": "روى عنه البخاري مقرونًا" (¬3)، وقال أيضًا: "وأما نعيم فقد ثبتت عدالته وصدقه، ولكن في حديثه أوهام معروفة". وقال في "التقريب": "صدوق يخطئ كثيرًا". ¬

_ (¬1) "المهدي المنتظر" ص (121 - 122). (¬2) انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" (7/ 519)، "التاريخ الكبير" (8/ 100)، "الجرح والتعديل " (8/ 462)، "تاريخ بغداد" (13/ 306، 314)، "تذهيب التهذيب" (4/ 101/2)، "تذكرة الحفاظ " (2/ 418)، "ميزان الاعتدال" (4/ 267 - 270)، "تهذيب التهذيب" (10/ 458)، "مقدمة فتح الباري" (447)، "طبقات الحفاظ" (180، 181)، "شذرات الذهب" (2/ 67)، "سير أعلام النبلاء" (10/ 595). (¬3) اعلم أن الرواة عند البخاري نوعان: الأول: من روى له البخاري احتجاجا. والثاني: من لم يحتج به البخاري، وإنما روى له أستشهادا. ونعيم من النوع الثاني، ولذلك قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: "روى عنه البخاري مقرونا" اهـ.

وقال الذهبي: "نعيم من كبار أوعية العلم، لكنه لا تركن النفس إلى رواياته"، وقال في "تذكرة الحفاظ": "وهو مع إمامته منكر الحديث"، وقال أيضًا: "كان من أوعية العلم ولا يحتج به". وقال في "سير أعلام النبلاء": "لا يجوز لأحدٍ أن يحتج به" وتتبع كثيرًا من أوهامه. وقال في "ميزان الاعتدال": "أحد الأئمة الأعلام، على لين في حديثه". وقال في "تلخيص المستدرك": "وفي قوة روايته نزاع"، وقال: "ونعيم منكر الحديث إلى الغاية". وقال يوسف بن عبد الله الخوارزمي: "سألت أحمد بن حنبل عن نعيم بن حماد، فقال: "لقد كان من الثقات". وقال أحمد العجلي: "نعيم بن حماد ثقة مروزي". وقال أبو حاتم: "محله الصدق". وعن أحمد بن ثابت أبي يحيى قال: "سمعت أحمد بن حنبل ويحيى بن معين يقولان: "نعيم بن حماد معروف بالطلب"، ثم ذمه يحيى، وقال: "يروي عن غير الثقات". وقال أبو علي صالح بن محمد الأسدي: "وكان نعيم يحدث من حفظه، وعنده مناكير كثيرة، لا يتابع عليها". وقال أبو زرعة الدمشقي: "يصل أحاديث يوقفها الناس"، يعني أنه يرفع الموقوفات.

وساق له الخطيب في "تاريخه" حديثًا في ذم أهل الرأي، ثم قال: "وبهذا الحديث سقط نعيم بن حماد عند كثير من أهل العلم بالحديث، إلَّا أن يحيى بن معين لم يكن ينسبه إلى الكذب، بل كان ينسبه إلى الوهم". وقال الأزدي: "كان نعيم ممن يضع الحديث في تقوية السنة، وحكايات مزورة في ثلب النعمان: كلها كذب" وقال الآجري، عن أبي داود: "عند نعيم بن حماد نحو عشرين حديثًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس لها أصل". وقال النسائي: "ليس بثقة"، وقال مرة: "ضعيف". وقال أبو علي النيسابوري: "سمعت النسائي يذكر فضل نعيم بن حماد وتقدمه في العلم والمعرفة والسنن، ثم قيل له في قبول حديثه، فقال: قد كثر تفرده عن الأئمة المعروفين، بأحاديث كثيرة؛ فصار في حدِّ من لا يُحتج به ". وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: "ربما أخطأ ووهِم". وقال أبو سعيد بن يونس: "وكان يفهم الحديث، وروى أحاديث مناكير عن الثقات". وقال مسلمة بن قاسم: "كان صدوقًا، وهو كثير الخطأ (¬1)، وله أحاديث منكرة في الملاحم، انفرد بها". ¬

_ (¬1) قال الحافظ العراقي في "فتح المغيث" ص (7): "من كثر الخطأ في حديثه، وفَحُش؛ استحق الترك، وإن كان عدلا" اهـ.

وقال الدارقطني: "إمامٌ في السُّنَة، كثير الوهم". وقال أبو أحمد الحاكم: "ربما يخالف في بعض أحاديثه". وقال ابن الجوزي في "التحقيق": "نعيم بن حماد مجروح". وقال صالح بن محمد الأسدي الحافظ: "وكان نعيم يحدِّث من حفظه، وعنده مناكير كثيرة، لا يُتابَع عليها" قال: وسمعت يحيى بن معين سُئل عنه فقال: "ليس في الحديث بشيء، ولكنه صاحب سُنَّة". فها أنت ترى إطباق النقاد على وصفه بالوهم، والخطأ الكثير، وكثرة المناكير، ورواية ما لا أصل (¬1) له، أما من أثنوا عليه خيرًا ووثقوه؛ فذلك بالنظر إلى دينه وصلابته في السُّنَّة، وكونه عدلًا صدوقًا، لا يتعمد الكذب. ¬

_ (¬1) ولو قلنا للعابثين: حدثونا عن أشراط الساعة والفتن، ولكن لا تحدثونا عن كتاب "الفتن" لأبي نعيم -رحمه الله تعالى- ولا عمَّن نقل عنه؛ لصارت كتبهم خاوية على عروشها.

ذكر نصوص بعض أهل العلم في حكم رواية الأحاديث الضعيفة والموضوعة

ذِكرُ نُصوصِ بَعضِ أهْلِ الْعِلْمِ في حُكْمِ رِوايَةِ الأحَاديثِ الضّعيفَةِ والموضُوعةِ قال العلماء: لا يحل رواية الحديث الموضوع في أي باب من الأبواب إلَّا مقترنًا ببيان أنه موضوع مكذوب، سواء في ذلك ما يتعلق بالحلال والحرام، أو الفضائل، أو الترغيب والترهيب، أو القصص والتواريخ (¬1). ومن رواه من غير بيان وضعه فقد باء بالإثم العظيم، وَحَشَرَ نفسه في عِداد الكذابين؛ وذلك لما رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى (¬2) أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» (¬3). وعن أبي قتادة -رضي الله عنه-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ: «إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَدِيثِ عَنِّي، فَمَنْ قَالَ عَلَيَّ، فَلْيَقُلْ حَقًّا أَوْ صِدْقًا، وَمَنْ تَقَوَّلَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "علوم الحديث"، لابن الصلاح، ص (109) و"تدريب الرا وي"، ص (98)، و"شرح علل الترمذي" (1/ 397). (¬2) ولم يقل: "يتيقن أنه كذب"، فكل شاكٍّ فيما يروي أنه صحيح أو غير صحيح، داخل في ظاهر خطاب هذا الخبر، أفاده ابن حبان في "المجروحين" (1/ 17). (¬3) رواه مسلم (4) في المقدمة. (¬4) رواه الإمام أحمد (5/ 297)، وابن ماجه في "المقدمة" رقم (35).

لا أنه يدخل به في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "نضر الله امرأ" المحدثون بأسرهم، بل لا يدخل في ظاهر هذا الخطاب إلا من أدى صحيح حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون سقيمه

وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيةً، وَحَدِّثوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" (¬1). قال ابن حبان -رحمه الله تعالى-: "في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته بالتبليغ عنه مَنْ بَعدهم -مع ذكره إيجابَ النار للكاذب عليه- دليل على أنه إنما أُمِر بالتبليغ عنه ما قاله عليه السلام، وما كان من سنته فعلًا أو سكوتًا عند المشاهدة، لا أنه يدخل به في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً" المحدثون بأسرهم، بل لا يدخل في ظاهر هذا الخطاب إلا من أدى صحيح حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون سقيمه، وإني خائف على من روى ما سمع من الصحيح والسقيم أن يدخل في جملة الكذبة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان عالمًا بما يروى" (¬2) اهـ. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» (¬3). وعن عبد الله بن وهب قال: قال لي مالك: «اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ، وَلَا يَكُونُ إِمَامًا (¬4) أَبَدًا وَهُوَ يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» (¬5). ¬

_ (¬1) انظر تخريجه ص (178). (¬2) "كتاب المجروحين " ص (6). (¬3) رواه مسلم في مقدمة "صحيحه " (5). (¬4) رواه مسلم في "السابق" (4). (¬5) قال النووي -رحمه الله تعالى- في شرحه: "معناه أنه إذا حدَّث بكل ما سمع كثُر الخطأ في روايته، فتُرك الاعتماد عليه، والأخذ عنه" اهـ. من "شرح النووي" (1/ 75).

قال عمرو بن ميمون -رحمه الله تعالى-: " مَا أَخْطَأَنِي ابْنُ مَسْعُودٍ عَشِيَّةَ خَمِيسٍ إِلَّا أَتَيْتُهُ فِيهِ، قَالَ: فَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ لِشَيْءٍ قَطُّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ عَشِيَّةٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَنَكَسَ " قَالَ: «فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَهُوَ قَائِمٌ مُحَلَّلَةً، أَزْرَارُ قَمِيصِهِ، قَدْ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ» قَالَ: أَوْ دُونَ ذَلِكَ، أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، أَوْ شَبِيهًا بِذَلِكَ" (¬1). وقال إياس بن معاوية لسفيان بن حسين: "احفظ عليَّ ما أقول لك: «إِيَّاكَ وَالشَّنَاعَةَ فِي الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ قَلَّمَا حَمَلَهَا أَحَدٌ إِلَّا ذَلَّ فِي نَفْسِهِ، وَكُذِّبَ فِي حَدِيثِهِ» (¬2). قال النووي -رحمه الله تعالى-: "معنى كلامه أنه حذره أن يُحدِّث بالأحاديث المنكرة التي يُشَنَّع على صاحبها، ويُنكر، ويُقبح حَال صاحبها فيُكَذَّب أو يُستراب في روياته، فتسقط منزلته، ويذل في نفسه" (¬3) اهـ. وحَكَمَ كثير من العلماء على من روى حديثًا موضوعًا -دون تنبيه إلى وضعه وتحذير الناس منه- بالتعزير والتأديب؛ فقد قال البخاري في حق أحد هؤلاء: "من حَدَّثَ بهذا؛ استوجب الضرب الشديد، والحبس الطويل"، بل قال يحيى بن معين -لما ذُكِرَ له حديث سويد الأنباري-: ¬

_ (¬1) "صحيح سنن ابن ماجه" رقم (21). (¬2) رواه مسلم في "المقدمة" (1/ 75 - نووي). (¬3) "شرح النووي" (1/ 76).

"من عشق، وعف، وكتم، ثم مات؛ مات شهيدًا"، قال: "هو حلال الدم" (¬1). وقال ابن قدامة -رحمه الله تعالى-: "أما الأحاديث الموضوعة التي وضعتها الزنادقة؛ ليلبِّسوا بها على أهل الإسلام، أو الأحاديث الضعيفة -إمَّا لضعف رواتها، أو جهالتهم، أو لعلة فيها- فلا يجوز أن يُقال بها، ولا اعتقاد ما فيها، بل وجودها كعدمها" (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "فالواجب أن يُفرَّقَ بين الحديث الصحيح والحديث الكَذبِ؛ فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة، فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عمومًا، ولمن يدعي السنة خصوصًا" (¬3). وقال أيضًا: "الاستدلال بما لا تُعلم صحته لا يجوز بالاتفاق؛ فإنه قولٌ بلا علم، وهو حرام بالكتاب والسنة، والإجماع" (¬4). وقال الشوكاني -رحمه الله تعالى-: "إن الأحكام الشرعية متساوية الأقدام، لا فرق بينها، فلا يحلُّ إذاعة شيء منها إلَّا بما يقوم به الحجة، وإلا كان من التقوُّل على الله ما لم يَقُلْ، وفيه من العقوبة ما هو معروف" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الإسرائيليات، والموضوعات في كتب التفسير"، ص (29). (¬2) "ذم التأويل"، ص (47). (¬3) "مجموع الفتاوى" (3/ 380). (¬4) "منهاج السنة النبوية" (7/ 67، 68). (¬5) "الفوائد المجموعة"، ص (100).

المطلب الثاني الاعتماد على مرويات الرافضة، وغلاة الصوفية

المطلب الثاني الاعتمادُ على مَرويَّات الرَّافضةِ، وغُلاةِ الصّوفيَّةِ أولًا: مرويات الرافضة (¬1): "أكذب من رافضي" عبارة سارت مثلًا، وأصلها: اتفاق علماء الجرح والتعديل على أن الكذب في الرافضة الشيعة أظهر منه في سائر الطوائف، فمن قرأ كتب الجرح والتعديل المصنفة في أسماء الرواة وأحوالهم مثل كتب البخاري، وابن معين، وابن عدي، والدارقطني، وغيرهم من جهابذة النقاد وأهل المعرفة بأحوال الإسناد، سوف يجد أن الرأي المجمع عليه: أن الكذب في الشيعة أكثر منه في جميع طوائف أهل القبلة. نصوص أئمة الحديث على أن الكذب شعار الرافضة قال أبو معاوية: سمعت الأعمش يقول: "أدركت الناس وما يسمونهم إلَّا الكذَّابين" (¬2). وروى الخطيب البغدادي بسنده إلى ابن المبارك قال: "سأل أبو عصمة أبا حنيفة: ممن تأمرني أن أسمع؟ قال: "مِن كل عَدْلٍ في هواه إلَّا الشيعة، فإن أصلَّ عقدهم تضليلُ أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة" للدكتور محمد أمحزون ص (3 - 76). (¬2) "منهاج السنة" (1/ 16). (¬3) "الكفاية في علم الرواية" ص (203).

وقال حماد بن سلمة: حدثني شيخ لهم -يعني الرافضة-: قال: "كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيئًا، جعلناه حديثا" (¬1). وقال محمد بن سعيد الأصفهاني: سمعت شريكًا يقول: "احمل العلم عن كل من لقيته إلَّا الرافضة، فإنهم يضعون الحديث، ويتخذونه دينًا" (¬2). وقال يونس بن عبد الأعلى: قال أشهب: سئل مالك -رضي الله عنه- عن الرافضة فقال: "لا تكلمهم، ولا ترو عنهم، فإنهم يكذبون" (¬3). وقال عبد الله بن المبارك: "الدين لأهل الحديث، والكلام والحيل لأهل الرأي، والكذب للرافضة" (¬4). وقال حرملة: سمعت الشافعي -رضي الله عنه- يقول: "لم أر أحدًا أشهد بالزور من الرافضة" (¬5). وقال مؤمِّل بن إهاب: سمعت يزيد بن هارون يقول: "يكتب عن كل مبتدع إذا لم يكن داعية -أي إلى بدعته- إلا الرافضة فإنهم يكذبون" (¬6). والشيعة جعلوا الكذب شعارًا لهم، وصبغوه صبغةً دينيةً باسم التقية، حيث قالوا: "لا إيمان لمن لا تقية له"، ونسبوا هذه الرواية إلى محمد الباقر زورا وبهتانا (¬7). ¬

_ (¬1) "منهاج السنة" (1/ 16). (¬2) "المنتقى" للذهبي ص (22). (¬3) "المصدر نفسه" ص (21). (¬4) "المصدر نفسه"، ص (480). (¬5) "الكفاية" للخطيب ص (202). (¬6) "منهاج السنة" (1/ 16). (¬7) "الكافي في الأصول" (2/ 19).

هذا وقد اشتكى منهم ومن أكاذيبهم الكثيرة عليٌّ -رضي الله عنه- وأهل بيته، إذ لا يتورعون في افتراء الكذب على لسانهم. فقد ذكر أبو عمرو الكشي في "الرجال": "قال أبو عبد الله -جعفر الصادق-: إنا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا، فيسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس. كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصدق البرية لهجة، وكان مسيلمة يكذب عليه، وكان أمير المؤمنين -علي بن أبي طالب- أصدق من برأ الله من بعد رسول الله، وكان الذي يكذب عليه عبد الله بن سبأ -لعنه الله-، وكان أبو عبد الله الحسين بن علي قد ابتلي بالمختار -الثقفي- ثم ذكر علي بن الحسين فقال: كان يكذب عليه أبو عبد الله الحارث الشامي وبنان، ثم ذكر المغيرة بن سعيد والسري، وأبا الخطاب ... فقال: "لعنهم الله، إنا لا نخلو من كذاب يكذب علينا، كفانا الله مؤنة كل كذَّاب، وأذاقهم الله حرَّ الحديد" (¬1). وقد أسرفت الرافضة في وضع الأحاديث والأخبار بما يتفق مع أهوائها، فكما وضعوا الأحاديث في فضل علي وآل البيت (¬2)، فقد وضعوا أيضا الأحاديث في ذم الصحابة وخاصة الشيخين أبي بكر وعمر، حتى قال ابن أبي الحديد (¬3): "فالأمور المستبشعة التي تذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة وأنه ضربها بالسوط، فصار في عَضُدها كالدُّمْلُج، وأن عمر ضغطها بين الباب والجدار، فصاحت: ¬

_ (¬1) "الرجال" للكشي، ص (257). (¬2) نقل أبو الحسن علي بن محمد بن عراق عن صاحب (الإرشاد) قولَه: قال بعض الحفاظ: تأملت ما وضعه أهل الكوفة في فضائل علي وأهل البيت؛ فزاد على ثلاثمائة ألف" اهـ. (¬3) شيعي معتزلي أديب، من مصنفاته: "شرح نهج البلاغة"، وهو هنا "شاهد من أهلها".

من نصوص شيخ الإسلام في كشف كذب الرافضة

يا أبتاه، وجعل في عنق علي حبلًا يقاد به، وفاطمة خلفه تصرخ، وابناه الحسن والحسين يبكيان -وأخذ ابن أبي الحديد في ذكر كثير من المثالب، ثم قال-: فكل ذلك لا أصل له عند أصحابنا، ولا يثبته أحد منهم، ولا رواه أهل الحديث ولا يعرفونه، وإنما هو شيء تنفرد الشيعة بنقله" (¬1). وكذلك وضعوا الأحاديث في ذم معاوية -رضي الله عنه- ومثال ذلك الحديث المنسوب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رأيتم معاوية على منبري، فاقتلوه" (¬2) كما رووا أحاديث كثيرة موضوعة في غيره من الصحابة مع العلم أن من يكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من باب أولى أن يكذب على غيره. من نصوص شيخ الإسلام في كشف كذب الرافضة تعتبر كتابات ابن تيمية من أجلِّ ما صنف في فضح مخططات الرافضة والكشف عن افتراءاتهم في مجال العقائد والحديث والفقه والتاريخ، حيث امتلأت كتبه وفتاويه بدفاع مجيد عن مختلف هذه القضايا من وجهة نظر إسلامية خالصة، مع بيان دور الشيعة الفعال في الدس وتلفيق الأخبار تحت ستار التشيع لآل البيت. يقول -رحمه الله تعالى- في هذا الشأن: "وقد اتفق أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف، والكذب فيهم قديم، ولهذا كان أئمة الإسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب" (¬3). ¬

_ (¬1) "شرح نهج البلاغة" (1/ 135). (¬2) انظر: "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" للسيوطي (1/ 323). (¬3) "منهاج السنة" (1/ 16).

وقال في موطن آخر: "والقوم من أكذب الناس في النقليات (¬1) وأجهل الناس في العقليات، ولهذا كانوا عند العلماء أجهل الطوائف .... وإنما عمدتهم على تواريخ منقطعة الإسناد، وكثير منها من وضع المعروفين بالكذب، فيعتمدون على نقل أبي مخنف لوط بن يحيى، وهشام بن الكلبي .... والخوارج -مع مروقهم من الدين- فهم من أصدق الناس، حتى قيل: إن حديثهم من أصح الحديث. والرافضة يقرون بالكذب حيث يقولون: ديننا التقية، وهذا هو النفاق، ثم يزعمون أنهم المؤمنون، ويصفون السابقين الأولين بالردة والنفاق، فهو كما قيل "رمتني بدائها وانسلت" ... بل هذه صفة الرافضة، فشعارهم الذل، ودثارهم النفاق والتقية، ورأس مالهم الكذب والأيمان الفاجرة إن لم يقعوا في الغلو والزندقة، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ... " (¬2). ¬

_ (¬1) فالشيعة لا يعبئون في الحديث وروايته بشيء من أمر الأمانة والعدالة والحفظ، ويروون في "الكافي" وأمثاله من كتبهم المعتبرة عندهم عن أكذب الناس، لأن مدار التوثيق عندهم على التعصب والهوى والحقد على أئمة المسلمين وعلمائهم، إذ لا يقبلون إلَّا رواية من كان على مذهبهم، أي أن يكون الراوي إماميا سواء حفظ أم غلط، صدق أم كذب، فهم لا يخضعون الحديث لمنهج علمي من ناحية سنده ومتنه كما هو الحال عند علماء أهل السنة، فيتبين بذلك صحة الحديث من ضعفه، وإنما اعتمدوا رواية الآحاد، وجعلوا العصمة التي ادعوها لأئمتهم تغني بزعمهم عن إخضاع الحديث للنقد والنظر، فإذا سُئلوا عن سند حديث، قالوا: رواه الحسين أو محمد الباقر، أو موسى الكاظم، مرددين قول شاعرهم: فشايع أناسًا قولهم وحديثهم ... روى جدنا عن جبرئيل عن الباري "الشيعة في عقائدهم وأحكامهم" لأمير محمد الكاظمي القزويني، ص (6) نقلا عن: "وجاء دور المجوس" للدكتور عبد الله الغريب، ص (121). (¬2) "المنتقى" للذهبي، ص (19، 21، 23، 68).

شيخ الإسلام يقارن بين أهل السنة والشيعة في نقد الرجال

وحين ادعى ابن المطهر الحلِيُّ أن "رجال الشيعة ثقات" انبرى له شيخ الإسلام قائلًا: "نحن ننتقد رجالنا من أهل السنة والحديث نقدًا لا مزيد عليه، ولنا مصنفات كثيرة جدًّا في تعديلهم وضعفهم وصدقهم وغلطهم وكذبهم ووهمهم، لا نحابيهم أصلًا -مع صلاحهم وعبادتهم- ونُسْقِط الاحتجاجَ بالرجل منهم لكثرة غلطه وسوء حفظه، ولو كان من أولياء الله. وأنتم حد الثقة عندكم أن يكون إماميًّا سواء غلط أو حفظ، أو كذب أو صدق ... وغالب ما في أيديكم صحف وأخبار على ألسنتكم مكذوبة، أو لم تعلم صحتها، كدأب أهل الكتابين سواء -اليهود والنصارى- وكذب الرافضة مما يُضرب به المثل، ونحن نعلم أن الخوارج شر منكم، ومع هذا فما نقدر أن نرميهم بالكذب، لأننا جربناهم فوجدناهم يتحرون الصدق، لهم وعليهم، وأنتم الصادق فيكم شامة! .. فأهل السنة والحديث لا يرضون بالكذب ولو وافق أهواءهم، فكم قد روي من فضائل أبي بكر وعمر وعثمان، بل ومعاوية وغيرهم أحاديث بالأسانيد يرويها مثل النقاش، والقَطِيعي، والثعلبي، والأهوازي، وأبي نعيم، والخطيب، وابن عساكر، وأضعافهم، ولم يقبل علماء الحديث شيئًا يتبينون الكذب منه، بل إذا كان في إسناد الحديث واحد مجهول الحال توقفوا في الحديث. وأنتم شرط الحديث عندكم أن يوافق أهواءكم غثًّا كان أو سمينًا" (¬1). ¬

_ (¬1) "المنتقى" للذهبي، ص (480).

ابن القيم يوضح أن الرافضة أفسدوا كثيرا من علم علي رضي الله عنه بكذبهم عليه

وقال أيضًا في "مجموع الفتاوى": "إن الرافضة أمة ليس لها عقل صريح، ولا نقل صحيح، ولا دين مقبول، ولا دنيا منصورة، بل هم من أعظم الطوائف كذبًا وجهلًا. ودينهم يُدخل على المسلمين كل زنديقٍ مرتد، كما دخل فيهم النّصيرية والإسماعيلية وغيرهم، فإنهم يعمدون إلى خيار الأئمة يعادونهم، ويعمدون إلى الصدق الظاهر المتواتر يدفعونه، وإلى الكذب المختلق الذي يُعْلَم فساده يقيمونه ... ولهذا كانوا أبهت الناس وأشدهم فرية مثلما يذكرون عن معاوية ... والشيعة لا يكاد يوثق برواية أحد منهم من شيوخهم؛ لكثرة الكذب فيهم، ولهذا أعرض عنهم أهل الصحيح، فلا يروي البخاري ومسلم أحاديث عليّ إلَّا من أهل بيته كأولاده مثل الحسن والحسين، ومثل محمد بن الحنفية، وكاتبه عبيد الله بن رافع، والحارث التيمي، وقيس بن عبَّاد، وأمثالهم، إذ هؤلاء صادقون فيما يروون في علي " (¬1). وحين ذكرهم ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى- قال: "وأما علي بن أبي طالب فانتشرت أحكامه وفتاويه، ولكن قاتل الله الشيعة فإنهم أفسدوا كثيرًا من علمه بالكذب عليه، ولهذا تجد أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه وفتواه إلَّا ما كان من طريق أهل بيته، وأصحاب عبد الله بن مسعود" (¬2). وتجب الإشارة إلى أن أكثر الرواة الذين ذكروا تلك التهم والمطاعن عن خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، هم من الشيعة. ولم ينقلوا ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (4/ 471) (13/ 31). (¬2) "إعلام الموقعين " (1/ 21).

ثانيا: اعتماد العابثين بأشراط الساعة على مرويات الرافضة، وغلاة الصوفية

هذه الوقائع عمن شاهدوها، بل كانت سمعًا على سمع، وكذبًا على كذب، فكثيرًا ما يروي الراوي الحادثة والواقعة وبينه وبينها عشرات السنين. وهؤلاء الرواة مع كذبهم، وكونهم دعاةً إلى مذهبهم هم طرف في تلك الوقائع والحوادث؛ حيث يتبعون تلك الشلَّة أو الطائفة التي سَعَّرت نار الفتنة. فهم على شاكلتهم يعملون نفس العمل بالقلم واللسان الذي سعى به أسلافهم السبئية بالجسد والروح. ثانيًا: اعتماد العابثين بأشراط الساعة على مرويات الرافضة، وغلاة الصوفية كاعتماد بعضهم على كتاب "عنقاء مُغرِب" لابن عربي الصوفي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهُ الله: "وابن عربي في كتاب "عنقاء مُغرِب" وغيره أخبر بمستقبلات كثيرة، عامتها كذب" (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه، ونوَّر ضريحه-: "ومن أمثلة ذلك: أنك تجد عند الرافضة والمتشيعة ومن أخذ عنهم من دعوى علوم الأسرار والحقائق التي يدَّعون أخذها عن أهل البيت، إمَّا من العلوم الدينية، وإما من علم الحوادث الكائنة، ما هو عندهم من أجَلِّ الأمور التي يجب التواصي بكتمانها، والإيمان بما لا يعلم حقيقته من ذلك، وجميعها كذبٌ مختلق، وإفكٌ مفترى، فإن هذه الطائفة "الرافضة" من أكثر الطوائف كذبًا، وادّعاءً للعلم المكتوم، ولهذا انتسبت إليهم الباطنية والقرامطة. وهؤلاء خرج أولهم في زمن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وصاروا يدَّعون أنه خُصَّ بأسرار من العلوم والوصية، حتى ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى"، (4/ 81).

دعوى "محمد عيسى داود" أن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه اختص بأسرار عيبية، وأنه قام بتلغيزها بالرموز والحروف المقطعة، وأنه لا يطلع عليها إلا ورثته من آل البيت الشريف

كان يسأله عن ذلك خواص أصحابه، فيخبرهم بانتفاء ذلك، ولما بلغه أن ذلك قد قيل؛ كان يخطب الناس، وينفي ذلك عن نفسه" (¬1) اهـ. وقال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: "وأما ما يرويه أهل الكذب والجهل من اختصاص عليّ بعلم انفرد به عن الصحابة؛ فكله باطل ... وكذلك ما يذكر أنه كان عنده علم باطن امتاز به عن أبي بكر وعمر وغيرهما، فهذا من مقالات الملاحدة الباطنية" (¬2). وقد ادَّعى "محمد عيسى داود" أن عليّا -رضي الله عنه- تلقى العلوم الظاهرة والباطنة من النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬3)، وكذا الأسرارَ الغيبيةَ المتعلقةَ بكل ما يحدث في العالم حتى يوم القيامة، ثم إن عليّا لغَّزَ (¬4) هذه العلوم بالرموز، والحروف المقطعة، والأشكال الخاصة، وادَّعى أن ذلك لا يطلع عليه إلَّا ورثة علم سيدنا علي من آل البيت الشريف (¬5). ¬

_ (¬1) "نفسه" (4/ 77). (¬2) "نفسه" (4/ 412، 413)، وانظره (35/ 186). (¬3) وهذا أحد مظاهر التزاوج بين الشيعة، والصوفية، انظر: "قطر الولي"، ص (80، 81). (¬4) وتساءل: "هل يمكن أن تكون هذه القوانين مصاغة (!) في صورة كلمات، وجمل، هي رموز، و"شفرات"؟ وسمَّى هذا الفعل الْمُفتَرى على أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- "التلغيز الكريم" و "التشفير العظيم"، وزعم أنه كان بتوجيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، انظر كتابه "المفاجأة"، ص (61). (¬5) "المفاجأة"، ص (58، 59)، وقد نشر بداخل الكتاب دائرة فيها رموز، وطلاسم، ورسوم غريبة، أشبه ما تكون بما يرسمه الدجالون، وصناع الأحجبة!

"محمد عيسى داود" يدعي حجية "الجامعة" و "الجفر"

وزعم أيضًا أن أهل البيت توارثوا كتاب "الجامعة"، وادَّعى أنه إملاءٌ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخط علي -رضي الله عنه- (¬1). وادَّعى أيضًا حجية "الجفر" المزعوم (¬2)، وذكر استدلالات منه على إعادة بناء الهيكل اليهودي (¬3). وقال في شأن "الجفر": (وفي الجفر الكبير "الأحمر" علوم صريحة واضحة الأحداث والمعالم، و"الجفر الصغير" مجموعات علوم، وتنبؤات ملغزة بقواعد علم الحرف، تلك العلوم الشديدة الخصوصية، والتي لا يعرفها إلَّا ندرة من أهل العلم (¬4). اهـ. فيا أسفا على مصنفين من أهل السنة، يُخدعون بمثل هذا الإنسان، ويرتضونه لهم قائدًا: أَعمَى يَقُودُ بَصيرًا لَا أَبَا لَكُمُ ... قدْ ضَلَّ مَنْ كانَتِ الْعُميَانُ تَهْدِيه ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (56). (¬2) "نفسه"، ص (57) وراجع: "المهدي" هامش (4)، ص (389، 390)، وانظر فيما يأتي ص (209 - 212)، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "وأما الكذب والأسرار التي يدَّعونها عن جعفر الصادق فمن أكبر الأشياء كذبًا، حتى يقال: ما كُذِب على أحدٍ ما كُذبَ علي جعفر -رضي الله عنه-". "ومن هذه الأمور المضافة: كتاب "الجفر" الذي يدعون أنه كتب فيه الحوادث" اهـ. من "مجموع الفتاوى" (4/ 77، 78)، وانظره أيضًا: (35/ 183 - 184). (¬3) "نفسه" ص (316) وما بعدها. (¬4) "المفاجأة" ص (61) وقد أفرد "السندباد المصري" الجفر بمصنف أسماه "أسرار الهاء في الجفر" في ست وثلاثين وخمسمائة صفحة، أتي فيه بطامَّات تستوجب تعزيره، والحجر عليه استصلاحًا للديانة، وحماية للمسلمين من دجله.

المطلب الثالث الغلو في تقبل الإسرائيليات

المطلب الثالث الغُلُوُّ في تَقبُّلِ الإِسْرائيليَّاتِ (¬1) تمتلئ كتب "العابثين بأشراط الساعة" بعشرات الأخبار الإسرائيلية المنقولة عن كتب اليهود والنصارى، وقد فصَّل العلماء الموقف من هذه الإسرائيليات، وبينوا أنها على ثلاثة أقسام (¬2): الْقِسمُ الْأَوَّلُ ما علمنا صحته مما بأيدينا من القرآن والسنة، والقرآن هو الكتاب المهيمن، والشاهد على الكتب السماوية قبله، فما وافقه فهو حقٌّ وصدق، وما خالفه فهو باطل وكذب، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48]. ¬

_ (¬1) الإسرائيليات: جمع إسرائيلية، نسبة إلى بني إسرائيل؛ والنسبة في مثل هذا تكون لِعَجُزِ المركب الإضافي، لا لصدره، وإسرائيل هو يعقوب -عليه السلام- أي: عبد الله؛ وبنو إسرائيل هم: أبناء يعقوب، ومن تناسلوا منهم فيما بعد إلى عهد موسى، ومن جاء بعده من الأنبياء، حتى عهد عيسى -عليه السلام- وحتى عهد نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وانظر: "الإسرائيليات، والموضوعات في كتب التفسير"، ص (21). (¬2) انظر: "التفسير والمفسرون"، (1/ 165 - 183)، و"الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير"، ص (150 - 156).

وهذا القسم صحيح وفيما عندنا غُنْيَة عنه، ولكن يَجوز ذكره، وروايته للاستشهاد به، ولإقامة الحجة عليهم من كتبهم؛ وذلك مثل ما ذُكر في صاحب موسى -عليه السلام- وأنه الْخَضِرُ، فقد ورد في الحديث الصحيح، ومثل ما يتعلق بالبشارة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وبرسالته، وأن التوحيد هو دين جميع الأنبياء، مما غفلوا عن تحريفه، أو حرفوه، ولكن بقي شعاع منه يدل على الحق. وفي هذا القسم: ورد قوله -صلى الله عليه وسلم-: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (¬1)، قال الحافظ في "الفتح": "أي: لا ضيق عليكم في الحديث عنهم؛ لأنه كان تقدَّم منه -صلى الله عليه وسلم- الزجر من الأخذ عنهم، والنظر في كتبهم، ثم حصل التوسع في ذلك، وكان النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدينية؛ خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك؛ لما في سماع الأخبار التي كانت في زمنهم من الاعتبار" (¬2). الْقِسمُ الثَّانِي ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه؛ وذلك مثل ما ذكروه في قصص الأنبياء، من أخبار تطعن في عصمة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كقصة يوسف، وداود، وسليمان، ومثل ما ذكروه في توراتهم: من أن الذبيح إسحاق، لا إسماعيل، فهذا لا تجوز روايته وذكره، إلَّا مقترنًا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3461)، (6/ 496 - فتح). (¬2) "فتح الباري "، (6/ 498).

ببيان كذبه، وأنه مما حرفوه وبدلوه، قال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41]. وفي هذا القسم: ورد النهي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- للصحابة عن روايته، والزجر عن أخذه عنهم، وسؤالهم عنه، قال الإمام مالك -رحمه الله تعالى- في حديث "حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ": المرادُ جوازُ التحدث عنهم بما كان من أمر حَسَنٍ، أَما ما عُلِمَ كذِبُهُ فلا (¬1). ولعل هذا هو المراد من قول ابن عباس -رضي الله عنهما-: " يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُ (¬2) الأَخْبَارِ بِاللَّهِ، مَحْضًا لَمْ يُشَبْ (¬3)، وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ: أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ بَدَّلُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَغَيَّرُوا، فَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الكُتُبَ، قَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِذَلِكَ ثَمَنًا قَلِيلًا، أَوَلاَ يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ العِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ؟ فَلاَ وَاللَّهِ، مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ " (¬4). ¬

_ (¬1) "نفسه" (6/ 498,499). (¬2) أحدث: آخر الكتب السماوية نزولًا من عند الله -تعالى- وفي رواية: "أحدث الأخبار بالله". (¬3) لم يُشَب: لم يُخْلَط بغيره قط؛ لأنه محفوظٌ من التبديل والزيادة. (¬4) رواه البخاري في صحيحه (2685) (5/ 291 - فتح)، (7523)، (13/ 334,333)

الْقِسْمُ الثَّالِثُ ما هو مسكوت عنه: لا من هذا، ولا من ذاك، فلا نؤمن به، ولا نُكَذِّبُهُ؛ لاحتمال أن يكون حقّا فنكذبه، أو باطلًا فنصدقه، ويجوز حكايته لما تقدم من الإذن في الرواية عنهم (¬1). ولعل هذا القسم هو المراد بما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ» وَقُولُوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] (¬2)، ومع هذا فالأولى عدم ذكره، وأن لا نضيع الوقت في الاشتغال به (¬3)، قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: (وَرَدَ حديث أخرجه الإمام أحمد، وابن أَبي شيبة والبزار، من حديث جابر: أن عمر أَتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكتاب أَصابه من بعض أَهل الكتاب، فقرأَه عليه، فغضب، وقال: "لقد جِئْتكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لا تَسْأَلُوهُم عَنْ شَيءٍ فيُخْبِرُوكُم بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِباطِلٍ، فَتُصَدِّقُوا به، والذي نَفْسِي بِيَده، لَوْ أن مُوسَى كَانَ حَيُّا مَا وَسِعَهُ الَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي"، ورجاله موثقون: إلَّا أن في مجالدٍ -أحدِ رواته- ضَعْفًا، وأخرج البزَّارُ أيضًا من طريق عبد الله بن ثابت الأَنصاري: أَن عُمَرَ نسخ ¬

_ (¬1) انظر: "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" للإمام المفسر برهان الدين البقاعي، (1/ 272 - 277). (¬2) رواه البخاري (7362)، (13/ 333 - فتح). (¬3) وهذا القسم غالبه مما ليس فيه فائدة تعود إلى أمر ديني مما أبهمه الله تعالى في القرآن، ولا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دينهم، أو دنياهم.

تشديد أمير الموميين عمر -رضي الله عنه- على من كان يكتب شيئا من كتب اليهود

صحيفة من التوراة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَئءٍ" وفي سنده جابر الجعفي، وهو ضعيف، واستعمله -يعني البخاري- فى الترجمة لورود ما يشهد بصحته من الحديث الصحيح " (¬1). قال ابن بَطَّال عن المهلب: "هذا النهي في سؤالهم عما لا نصَّ فيه؛ لأَن شرعنا مُكْتَفٍ بنفسه، فإذا لم يوجَدْ فيه نصّ؛ ففي النظر والاستدلال غِنًى عن سُؤَالِهِم، ولا يدخل في النهي سؤالهم عن الأَخبار المصدقة لشرعنا، والأَخبار عن الأُمم السالفة" (¬2). تَشْدِيدُ أَمِير الْمُومِيين عُمَرَ -رضي الله عنه- عَلَى مَنْ كَانَ يَكْتُبُ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ: وقد كانت مَقَالة النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمرَ -رضي الله عنه-، وغضبه لكتابته شيئًا من التوراة درسًا تعلم منه سيدنا عمر، ومنهجًا أخذ الناسَ به؛ فقد روى الحافظ أَبو يعلى، بسنده عن خالد بن عرفطة قال: كنت جالسًا عند عمرَ، إذ أُتي برجل من عبد القيس، مسكنه بالسوس، فقال له عمر، أنت فلان بن فلان العبدي؟ قال: نعم، قال: وأَنت النازل بالسوس؟ قال: نعم، فضربه بقناة معه، فقال الرجل: ما لي يا أَمير المؤْمنين؟! فقال له عُمَرُ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ، فقرأ عليه: بسم الله الرحمن الرحيم {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (13/ 334)، وانظره (13/ 525). (¬2) "السابق".

هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} [يوسف:1 - 3]، فقرأها عليه ثلاثًا، وضربه ثلاثًا، فقال له الرجل: مالي يا أميرَ المؤمنين؟! قال: أنت الذي نسخت كتاب دانيال (¬1)، قال: مُرْنِي بأَمرِك أَتَّبِعْهُ، قال: انطلق فامحه بالحميم (¬2)، والصوف الأَبيض، ثم لا تقرَأهُ، ولا تُقْرِئهُ أَحَدًا من الناس، فلئن بلغني عنك أنك قرأته، أو أَقرأته أَحدًا من الناس لأُنهكنك عقوبة، ثم قال: اجلس، فجلس بين يديه، فقال: انطلقتُ أَنا فانتسختُ كتابًا من أَهل الكتاب، ثم جئت به في أَديم (¬3)، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا هَذَا فِي يَدِكَ يَا عُمَرُ؟ " قلت: يا رسولَ الله، كتاب نسختُهُ لنزداد به علمًا إلى علمنا، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى احمرت وجنتاه، ثم نُوديَ ب (الصَّلاةُ جَامِعَة)، فقالت الأَنصار: أَغَضِب نبِيكُّم؟ السلاحَ السلاحَ، فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ أُؤييتُ جَوَامِعَ الْكَلِم، وَخَوَاتِيمَهُ، وَاخْتُصِرَ لِيَ اخْتِصَارًا، وَلَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نقِيَّةً، فَلَا تَهَوَّكُوا، وَلَا يَغُرَّنَكُمُ الْمُتَهَوِّكُونَ" (¬4). قال عمر: فقمتُ، فقُلتُ: "رضِيتُ بالله ربَّا، والإسلام دينَا، وبك رسولًا، ثم نَزَلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وروى الحافظ أَبو بكر الإسماعيلي بسنده عن جبير بن نفير: أَن رجلين كانا بحمص في خلافة عُمَرَ -رضي الله عنه- فأرسل إِليهما فيمن ¬

_ (¬1) أحد أنبياء بني إسرائيل (¬2) الحميم: الماء الحار. (¬3) الأديم: الجلد. (¬4) المتهوك: المتحير الشاكُّ.

أَرسل من أَهل حمص، وكانا قد اكتتبا من اليهود شيئًا في صحيفة، فأَخذاها معهما يستفتيان فيها أَمير المؤمنين عمر، فلما قدما عليه قالا: إِنا بأَرض أَهل الكتاب، وإِنا نسمع منهم كلامًا تقشعرُّ منه جلودنا، أَفنَأخُذُ منه ونترك؟ فقال: سأحدثكما ... ثم ذكر قصته لما كتب شيئًا أعجبه من كلام اليهود، وقرأه عليه، فغضب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وصار يمحوه بريقه، ويقول: "لَا تتَبِعُوا هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّهُمْ قَد هَوَّكُوا، وَتَهَوَّكُوا" (¬1)، حتى محا آخِرَهُ، حَرْفًا حَرْفًا، ثم قال عمر: "فلو علمت أنكما كتبتما منه شيئًا جعلتكما نكَالًا لهذه الأمة" قالا: "والله ما نكتبُ منه شيئًا"، ثم خرجا بصحيفتيهما، فَحَفَرَا لها، وَعَمَّقَا في الحفر، ودفناها، فكان آخر العهد منها (¬2). ونقل الحافظ في "الفتح" عن الإمام الشافعي -رحمه الله ئعالى- قوله في حديث: "حدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ": "من المعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يُجِيزُ التحدث بالكذب؛ فالمعنى: حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كَذِبَهُ، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم، وهو نظير قوله: "إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ، وَلَا تكَذِّبُوهُمْ"، ولم يرد الإذن (¬3) ولا المنع من التحدث بما يُقطع بصدقه" (¬4). ¬

_ (¬1) أي: شَكُّوا، وشككوا غيرهم. (¬2) "تفسير القرآن العظيم" للحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- (4/ 412 - 413)، ط. المنار. (¬3) أي: "فِيمَا عُلِمَ كَذِبُهُ"؛ لتستقيم العبارة. (¬4) "فتح الباري"، (6/ 499).

كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الموقف من الإسرائيليات

وقال الحافظ في "الفتح" في حديث: "لَا تُصَدّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلَا تُكَذّبُوهُمْ": "أي: إذا كان ما يخبرونكم به مُحْتَمَلًا؛ لئلا يكون في نفس الأَمر صدقًا فتكذبوه، أَو كذِبًا فتصدقوه، فتقعوا في الحرج، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعُنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعُنا بوفاقه، نَبَّه على ذلك الشافعي -رحمه الله تعالى-، ويؤخذ من هذا الحديث: التوقف عن الخوض في المشكلات، والجزم فيها بما يقع في الظن، وعلى هذا: يُحْمَلُ ما جاءَ عن السلف من ذلك" (¬1). اهـ. وبهذا البيان والتوفيق بين المرويات في هذا الباب ظهر أَن لا تعارض بينها، ولا يخالف بعضُها بعضًا، وأَنَّ لكل حالة حكمها. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "الاختلاف في التفسير على نوعين: منه ما مستنده النقل فقط، ومنه ما يُعْلَمُ بغير ذلك، إذ العلم: إِمَّا نقل مُصَدَّقٌ، وإِمَا استدلالٌ مُحَقَّقٌ. والمنقول: إما عن المعصوم، وإما عن غير المعصوم، والمقصود بأن جنس المنقول سواء كان عن المعصوم أو غير المعصوم -وهذا هو النوع الأول- منه ما يمكن معرفة الصحيح منه والضعيف؛ ومنه ما لا يمكن معرفة ذلك فيه، وهذا القسم الثاني من المنقول؛ وهو: ما لا طريقَ إلى الجزم بالصدق منه، فالبحث عنه مما لا فائدة فيه، والكلام فيه من فضول الكلام، وأَمَّا ما يحتاج المسلمون إلى معرفته؛ فإن الله نصب على الحق فيه دليلًا. ¬

_ (¬1) "نفسه" (8/ 170).

فمثال ما لا يفيد، ولا دليل على الصحيح منه: اختلافهم في أَحوال "أصحاب الكهف" وفي "البعض" الذي ضَرَبَ به موسى من البقرة، وفي مقدار "سفينة نوح"، وما كان خَشَبُها، وفي اسم "الغلام" الذي قتله الْخَضِرُ، ونحو ذلك، فهذه الأُمور طريق العلم بها: النقل، فما كان من هذا منقولًا نقلًا صحيحًا عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- كاسم صاحب موسى أنه الخَضرُ- فهذا معلوم، وما لم يكن كذلك، بل كان مما يُؤْخَذُ عن أَهل الكتاب؛ كالمنقول عن كعب، ووهب، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم؟ ممن يأخذ عن أهل الكتاب، فهذا لا يجوز تصديقه، ولا تكذيبه إلا بحجة (¬1)، كما ثبت في الصحيح عن النبى -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ، وَلَا تكَذِّبُوهُمْ، فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكمْ بِحَق فَتُكذِّبُوهُ، وَاِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكمْ بِبَاطِل فَتُصَدِّقُوهُ". وكذلك: ما نُقِلَ عن بعض التابعين، وإن لم يَذْكُرْ أَنَهُ أَخَذَهُ عن أَهل الكتاب، فمتى اختلف التابعون لم يكن بعضُ أقوالهم حجةً على بعض، وما نُقِلَ في ذلك عن بعض الصحابة نقلا صحيحًا، فالنفس إليه أسكَنُ مما نُقِلَ عن بعض التابعين؛ لأَنَّ احتمال أن يكون سمعه من النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَو من بعض من سمعه منه أَقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصاحب فيما يقوله، كيف يُقَالُ: إنه أَخَذه عن أَهل الكتاب وقد نُهوا عن تصديقهم (¬2)؟! والمقصود أَن الاختلاف الذي لا يُعْلَمُ صحيحه، ولا ¬

_ (¬1) انظر: "الرد على البكري"، ص (6). (¬2) والجواب عن ذلك: أنهم أخذوا عنهم لما فهموا من الإذن والإباحة من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "حَدثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا حَرَج"، ما دام لم يدل دليل على كذبه.

تفيد حكايةُ الأَقوال فيه: هو كالمعرفة؛ لما يُرْوَى من الحديث الذي لا دليل على صحته، وأمثَالُ ذلك. وأَمَّا القسم الأول الذي يمكن معرفة الصحيح منه، فهذا موجود فيما يُحْتَاجُ إليه، ولله الحمد" (¬1). اهـ. وقال، في موضعٍ آخر: "وغالب ذلك -يعني: المسكوت عنه- مما لا فائدة فيه يعود إلى أَمر ديني؛ ولهذا يختلف علماء أَهل الكتاب في مثل هذا كثيرًا، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك كما يذكرون في مثل هذا أسماءَ أَصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعِدَّتهم، وعصا موسى، من أي الشجر كانت؟، وأَسْماءَ الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضُرِبَ به المقتول من البقرة، ونوع الشجرة التي كلَّم الله منها موسى، إلى غير ذلك؟ مما أبهمه الله في القرآن؛ مما لا فائدة في تعيينه تعود على الْمُكَلَّفِين في دنياهم، ولا دينهم، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز؛ كما قال -تعالى-: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)} [الكهف: 22]. فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأَدب في هذا المقام، وتعليم ما ينبغي في مثل هذا؛ فإنه -تعالى- أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضَعَّفَ القولين الأولين، وسكت عن الثالث، فدلَّ على صحته؛ إذ لو كان باطلًا لرَدَّه كما رَدَّهُما، ثم أَرْشَدَ إِلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، ¬

_ (¬1) "مقدمة في أصول التفسير"، ص (17 - 20).

موقف الحافظ ابن كثير من القسم الثالث من الإسرائيليات

فَيُقَالُ في مثل هذا: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس، ممن أَطلعه الله عليه؛ فلهذا قال: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا}؛ أي: لا تُجْهِدْ نفسك فيما لا طائِلَ تحته، ولا وتسأَلهم عن ذلك؛ فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب، فهذا أَحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أَن تُستَوعَبَ الأقوال في ذلك المقام، وأن يُنبَهَ على الصحيح منها، ويُبْطَلَ الباطل، وتُذْكَرَ فَائِدَةُ الخلاف، وثَمَرَتُهُ؛ لئلا يطول النزاع، والخلاف فيما لا فائدة تحته، فَيُشْتَغَلَ به عن الأَهَم. فأَمَّا من حكى خلافا في مسألة، ولم يستوعب أَقْوَالَ الناس فيها فهو ناقص؛ إذ قد يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكى الخلاف ويطلقه، ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص -أيضا- فإن صحح غير الصحيح عامدًا، فقد تعمد الكذبَ، أو جاهلا فقد أخطأَ، كذلك من نصب الخلافَ فيما لا فائدةَ تحته، أو حكى أَقوالًا متعددة لفظًا، ويرجع حاصلها إلى قول، أو قولين معنى، فقد ضَيَّعَ الزمان، وتكَثَّر مما ليس بصحيح، فهو كلابس ثَوْبَي زور، والله الموفق للصواب" (¬1). مَوْقِفُ الْحَافظ ابْنِ كَثِيرٍ مِن الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِن الإِسْرَائيليَّاتِ قال -رحمه الله تعالى- في مقدمة "البداية والنهاية": "ولسنا نَذْكُرُ من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله مما لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ وهو القسمُ ¬

_ (¬1) "نفسه" (46، 47).

الذي لا يُصَدَّق ولا يُكَذَّب؛ مما فيه بسط لمختَصَر عندنا، أو تسمية لمبهم وَرَدَ به شرعُنا، مما لا فائدة في تعيينه لنا، فنذكره على سبيل التحلي به، لا على سبيل الاحتياج إليه، والاعتماد عليه. وإنما الاعتماد والاستناد على كتاب الله وسنةِ رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ما صحَّ نقله أو حَسُنَ، وما كان فيه ضعف نُبَيِّنُهُ، والله المستعانُ، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، العلي العظيم" (¬1). وقال -رحمه الله تعالى- مبينًا المقصودَ من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائيلَ وَلَا حَرَجَ": إنه "محمول على الإسرائيليات المسكوت عنها عندنا، فليس عندنا ما يصدقها ولا ما يكذبها، فيجوز روايتها للاعتبار، وهذا هو الذي نستعمله في كتابنا هذا، فأما ما شهد له شرعنا بالصدق، فلا حاجة بنا إليه؛ استغناءً بما عندنا، وما شَهِدَ له شرعنا منها بالبطلان فذاك مردود لا يجوز حكايته، إلا على سبيل الإنكار والإبطال. فإذا كان الله -سبحانه وله الحمد- قد أغنانا برسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- عن سائر الشرائع، وبكتابه عن سائر الكتب، فلسنا نترامى على ما بأيديهم مما وقع فيه خبط وخلط، وكَذِب ووضع، وتحريفٌ وتبديل، وبعد ذلك كله نسخ وتغيير" (¬2). ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" (1/ 6). (¬2) "نفسه" (1/ 7،6).

تعليق العلامة أحمد شاكر على كلام الحافظ ابن كثير ومن وافقه

تعْليقُ الْعَلَّامَةِ أحْمَد شَاكِر عَلَى كَلام الحافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ وَمَنْ وافَقَهُ قال -رحمه الله- في مقدمة "عمدة التفسير": "إن إباحة التحدث عنهم -فيما ليس عندنا دليل على صدقه ولا كذبه- شَيء، وَذِكْرُ ذلك في تفسير القراَن -وَجَعْلُهُ قَوْلًا أو رواية في معنى الآيات، أو في تعيين ما لم يُعَيَّن فيها، أو في تفصيلِ ما أُجْمِل فيها- شيءٌ آخر!! لأن في إثبات مثل ذلك بجوار كلام الله ما يُوهم أن هذا الذي لا نعرف صدقه ولا كذبه مُبَيِّن لمعنى قول الله -سبحانه- ومُفَصِّل لما أُجْمِلَ فيه، وحاشا لله وكتابه من ذلك. وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- -إذ أذن بالتحدث عنهم- أَمَرَنَا أن لا نُصَدِّقَهُمْ ولا نكَذِّبَهُم، فأيُّ تصديقِ لرواياتهم وأقاويلهم أقوى من أن نقرنها بكتاب الله، ونضعها منه موضع التفسير أو البيان؟! اللهم غفرًا". ثم نقل عن الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- قوله: " ... وفي القرآن غُنْيَة عن كل ما عَدَاهُ من الأخبار المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وُضِعَ فيها أشياء كثيرة، وليس لهم من الْحُفَّاظِ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين؛ كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء، والسادة والأتقياء، والبررة والنجباء، من الجهابذة النقاد، والْحُفَّاظ الجياد، الذين دَوَّنوا الحديث وحرَّروه، وبيَّنوا صحيحه من حسنه من ضعيفه، من منكَره

وموضوعه، ومتروكه ومكذوبه، وعزَفوا الوضَّاعين، والكذَّابين، والمجهولين، وغير ذلك من أصناف الرجال؛ كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي، خاتَم الرُّسُل، وسيد البشر -صلى الله عليه وسلم- أن يُنْسَبَ إليه كَذِبٌ، أَو يُحَدَّثَ عنه بما ليس منه، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل". وقال ابن كثير -رحمه الله تعالى- عند تفسير الآيات (51 - 56) من سورة الأنبياء، بعد إشارته إلى حال إبراهيم -عليه السلام- مع أبيه، ونظره إلى الكواكب والمخلوقات: "وما قَصَّهُ كثيرٌ من المفسرين وغيرِهم فعَامَّتُها أحاديثُ بني إسرائيل، فما وافقَ منها الحقَّ مما بأيدينا عن المعصوم قَبِلْنَاهُ؛ لموافقته الصحيح، وما خالف منها شيئا من ذلك رددناه، وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة، لا نصدِّقهُ ولا نكذِّبه، بل نجعله وَقْفًا، وما كان من هذا الضَّرْب منها فقد رخَّص كثير من السلف في روايته، وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه، ولا حاصل له مما يُنْتَفَعُ به في الدِّين، ولو كانت فائدتُهُ تعود على المكلَّفين في دينهم لبينَتْهُ هذه الشريعةُ الكاملةُ الشاملةُ، والذي نَسْلُكُه في هذا التفسير الإعراضَ عن كثير من الأَحاديث الإسرائيلية؛ لما فيها من تضييع الزمان، ولما اشتَمل عليه كثير منها من الكذب الْمُرَوَّج عليهم؛ فإنهم لا تَفْرِقَةَ عندهم بين صحيحها وسقيمها، كما حَرَّره الأئمة الحُفَّاظُ المتْقِنُون من هذه الأمة". وقال -أي: ابن كثير- عند تفسير الآية (102) من سورة البقرة: "وقد رُوي في قصة هاروتَ وماروتَ عن جماعة من التَّابعين؛ كمجاهد، والسُّدي، والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، والزهري، والرَّبيع بن أنس، ومقاتل بن حيَّان، وغيرهم، وقصَّها خلق من المفسرين؛ من المتقدِّمين

والمتأَخرين، وحاصلُها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل؛ إذ ليس فيها حديثٌ مرفوعٌ صحيح متَّصلُ الإسنادِ إلى الصادقِ المصدوقِ المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهرُ سياق القرآن إجمالُ القصة من غير بَسْطٍ ولا إطنابٍ فيها، فنحن نُؤْمِنُ بما ورد في القرآن على ما أراده الله -تعالى- والله أعلم بحقيقة الحال". وقال -ابن كثير- في أول سورة (ق): "وقد رُوي عن بعض السلف أنهم قالوا: ق جبلٌ مُحيط بجميع الأرض، يقال له جبل قاف!! وكأنَّ هذا -والله أعلم- من خرافاتِ بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعضُ الناس؛ لِمَا رأَى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدَق ولا يكذَّب، وعندي أن هذا وأمثالَهُ وأشباهَهُ من اختلاقِ بعض زنادقتهم، يُلَبِّسُونَ به على الناس أمرَ دينهم؛ كما افْتُرِي في هذه الأمة -مع جلالة قدر علمائها، وحُفَّاظها، وأئمتها- أحاديثُ على النبي -صلى الله عليه وسلم- وما بالعَهْدِ من قِدَمٍ؛ فكيف بأمةِ بني إسرائيلَ، مع طول المدَى، وقلةِ الحُفَّاظ النُقَّاد فيهم، وشُرْبِهِمُ الخمورَ، وتحريف علمائهم الكلمَ عن مَوَاضِعِه، وتبديلِ كُتُبِ الله وآياتِه، وإنما أباح الشارعُ الروايةَ عنهم في قوله: "وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائيلَ وَلَا حَرَجَ " فِيمَا قد يُجَوِّزُهُ العقل، فأما فيما تُحِيلُه العقول، ويُحْكَمُ فيه بالبُطلان، ويَغْلُبُ على الظنون كذبُهُ، فليس من هذا القبيل". وقال أيضًا عند تفسير الآيات (41 - 44) من سورة النمل، وقد ذكر في قصة ملكة سبأ أثرًا طويلا عن ابن عباس، وَصَفَه بأنه "منكر غريبٌ جدًّا"، ثم قال: "والأقربُ في مثل هذه السياقات أنَّها مُتَلقَّاة عن أهل الكتاب، مما وُجِدَ في صُحُفِهِم، كروايات كَعْب، وَوَهْب، سامحهما الله فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل، من الأوابد، والغرائب،

والعجائب، مما كان، وما لم يكن، ومما حُرِّف، وبُدِّل، ونُسِخَ، وقد أغنانا الله -سبحانه- عن ذلك بما هو أصحُّ منه، وأنفعُ، وأوضحُ، وأبلغُ، ولله الحمْدُ والمنَّة". وقال عند تفسير الآية (46) من سورة العنكبوت، بعد أن رَوَى الحديث: "إذَا حَدَّثَكُم أَهْلُ الكِتَاب فَلا تُصَدِّقُوهُم، ولا يكَذّبُوهُم "، قال: " ثُمَّ ليُعْلَم أنَّ أكثرَ ما يتحدَّثون به غالبُهُ كذبٌ وبهتانٌ؛ لأنه قد دخله تحريفٌ، وتبديلٌ، وتغييرٌ، وتاويلٌ، وما أقلَّ الصدق فيه! ثم ما أقلَّ فائدتَه لو كان صحيحًا! " وقال عند تفسير الآية (190) من سورة الأعراف: "ثم أخبارُهم على ثلاثة أقسام: فمنها ما علمنا صحتَهُ، بما دلَّ عليه الدليلُ من كتاب الله أو سنة رسوله، ومنها ما علمنا كذبَه، بما دلَّ على خلافه من الكتاب والسنة -أيضًا-، ومنها ما هو مسكوتٌ عنه، فهو المأذون في روايته، بقوله -عليه السلام-: "حَدّثُوا عَنْ بَنِي اِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ "، وهو الذي لا يُصدَّقُ ولا يُكذَّب؛ لقوله: "فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ، وَلَا تكَذِّبُوهُم ". وهناك قصةٌ طويلةٌ جدًّا، رواها النسائي في باب التفسير من السنن الكبرى، التي لم نَرَها، وابن أبي حاتم في تفسيره، عن ابن عباس، ويسميها الحافظُ ابن كثير "حديث الفُتُون" ساقه بِطُوله عند تفسير قوله -تعالى-: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا}، من الآية (40) من سورة طه، ثم قال: "وهو موقوفٌ من كلام ابن عبَّاس، وليس فيه مرفوعٌ إلَّا قليلٌ منه، وكأنَّهُ تلقَّاه ابن عباس مما أُبيح نقله من الإسرائيليات، عن كعب الأحبار، أو غيره، والله أعلم، وسمعتُ شيخنا أبا الحجاج المِزِّيَّ يقول ذلك أيضا".

الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- يشترط فيمن يجوز له النظر في كتب أهل الكتاب أن يكون متمكنا راسخا في الإيمان

وهذا الحديث -حديث الفُتُون- يشيرُ إليه الحافظ ابن كثير، في مواضعَ متعددةٍ من تفسيره، وقد نفيتُه عن كتابي هذا نَفْيًا، ولم أُشر إليه إلَّا مرةً واحدةً، عند أول مرة أشار إليه ابنُ كثير فيها، عند تفسير الآية (49) من سورة البقرة، ثم أعرضتُ عن الإشارة إليه -إن شاء الله- فلا أُشِيرُ إليه إِلَّا أنْ أُضطَرَّ إلى ذلك اضطرارًا، وأسأل الله التوفيق والتيسير، والهدى والسداد. ومن أعظَمِ الكَلِمِ في الدلالة على تنزيه القرآن العظيم عن هذه الأخبار الإسرائيلية؛ كلمةٌ لابن عباس، رواها البخاري في "صحيحه"، ونقلها عنه الحافظُ ابنُ كثير، عند تفسير الآية (79) من سورة البقرة، فقال ابن عباس: "يا معشَرَ المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابُكم الذي أنزل الله على نبيّهِ أحْدَثُ أخبارِ الله، تقرءونه مَحْضًا لم يُشَبْ! وقد حدَّثكم الله أنَّ أهل الكتابِ قد بَدَّلُوا كتابَ اللهِ وغَيَّرُوه، وكتموا بِأيديهم الكتابَ، وقالوا: هو من عند الله؛ ليشتروا به ثمنًا قليلًا، أفَلَا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مُسَاءَلَتِهِم؟ ولا والله ما رأينا منهم أحدًا قَطُّ سألكم عن الذي أُنزل إليكم ". وهذه الموعظةُ القويةُ الرائعةُ رواها البخاري في ثلاثة مواضِعَ من "صحِيحِه ": [5: 215، 13: 282، 414 من فتح الباري] (¬1). اهـ. وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- وهو يناقش حكم النظر في كتب أهل الكتاب: "والذي يظهر أن كراهية ذلك للتنزيه لا للتحريم، والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويَصِرْ من الراسخين ¬

_ (¬1) "عمدة التفاسير"، (1/ 13 - 17)

وقال علامة الشام "محمد جمال الدين القاسمي" -رحمه الله تعالى-

في الإيمان؛ فلا يجوز له النظر في شيءٍ من ذلك، بخلاف الراسخ؛ فيجوز له ولا سيما عند الاحتياج إلى الرد على المخالف، ويدل على ذلك نقلُ الأئمة قديمًا وحديثًا من التوراة، وإلزامُهُمُ اليهودَ بالتصديق بمحمد -صلى الله عليه وسلم- بما يستخرجونه من كتابهم، ولولا اعتقادهم جوازَ النظر فيه لما فعلوه، وتواردوا عليه" (¬1). وقال علَّامة الشام "محمد جمال الدين القاسمي" -رحمه الله تعالى- بعد بحث طويل عن وقوع التبديل في كتب أهل الكتاب: "وبالجملة فكتب الكتابيِّين كأقوالهم، لا يُعتمد عليها كلَّها؛ لظهور الكذب والتناقض فيها إلى اليوم، ولظهور تلفيقها؛ فهي ككتب القصص عندنا، فيها شيء من القرآن والسنة، ولكنه ممزوج بالأكاذيب والآراء المقتبسة من الأمم، ثم إن موافقة القرآن الكريم، أو الحديث الصحيح، لبعض ما في كتبهم دون بعض، تدل على أن الله -تعالى- بَين له حقَّ كلامهم من باطله، وصِدقَه من كَذِبِهِ، وهذا معنى قوله -تعالى-: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. قال بعضهم: "لا شيءَ يُعَوَّلُ عليه في صِحَّةِ بعضِ أقوالِ كُتُبِ اليهود دون بعض بعدما طَرَأَ عليها من الضياع، والتحريف، والخلط، إلا الوحي، وقد ثبتت نبوةُ محمد -صلى الله عليه وسلم- بالدلائل الساطعة، والآثار النافعة". انتهى؛ أي: فَعَلَى وحيه الْمُعَوَّل، فالحمد لله الذي وفقنا لاتباعه " (¬2). اهـ. ¬

_ (¬1) "فتح الباري"، (13/ 525، 526). (¬2) "محاسن التاويل"، (1/ 50).

بيان أن العابثين بأشراط الساعة لم يلتزموا بضوابط جواز حكاية الإسرائيليات

وبعدُ: فهذه أقسام الإسرائيليات، والموقف الصحيح من كل قسم منها، وعلينا الآن أن نتساءل: هل المنهج الذي سَلَكَهُ العابثون بأشراط الساعة يعكس التزامهم بالضوابط التي وضعها العلماء في حكاية الإسرائيليات؟ والجواب بالنفي: أولًا: لأن مِن القوم مَن يروون كل ما يقفون عليه منها بغض النظر عن هذا التقسيم. ثانيًا: ولأن من يقتصرون على حكاية "القسم الثالث" منها (¬1) لا يذكرون ذلك استشهادًا وتحلية -على حد تعبير ابن كثير-، وإنما اعتقادا واستدلالًا واحتجاجًا، بل منهم من يُقْسِمُ على صحة ما فيه، ومنهم من يُعَبِّرُ عن هذه "الإسرائيلياتِ" بالوحي القديمِ (¬2). وثالثًا: لأنهم عامَّتهم -كما يتضح من كتاباتهم- ليسوا من الراسخين الذين يجوز لهم النظر في كتب أهل الكتاب، كما قال الحافظ ابن حجر (¬3) -رحمه الله تعالى-؛ ولذلك تأتي أقوالهم -بل أقوال الواحد منهم- متعارضة متضاربة، يكذب بعضها بعضا، وينقض آخرها أولها. ورابعًا: أن منهم من يتجاوز الاستشهاد بالإسرائيليات إلى الاستدلال بها، ثم يزيد الطينَ بِلَّة حين يُضِيفُ إلى ذلك الاستدلالَ بتفسيرات ¬

_ (¬1) راجع ص (180). (¬2) راجع ص (85). (¬3) تقدم نقله عنه آنفا (193 - 194).

ظاهرة (التطبيع) مع الإسرائيليات

علمائهم ومفكريهم لها، فإذا كانت هذه الإسرائيليات نفسها محل توقف في كونها وحيًا معصومًا أو لا، فهل هناك توقف أو تردد في أن علماءهم وأحبارهم ومفكريهم غارقون في التيه، والحيرة، والضلال المبين؟ ظَاهِرَة (التَّطْبِيعِ) مَعَ الإِسْرَائِيليَّاتِ إن النقل عن أهل الكتاب لم يقف عند الحد المسموح به، وإنما خرج الأمر عن كونه استشهادًا مشروطًا بشروط إلى كونه "ظاهرةً ملحةً متكررةً"، أكسبت الإسرائيليات في نفوس العوام صفة المرجعية، ولأول مرة ترتقي الإسرائيليات -على يد هذه الكوكبة من رواد "التطبيع الفكري مع الإسرائيليات"- إلى مستوى الحجية والمصداقية، وإذا بالقوم يفخرون "بالتهوك" (¬1)، ويمعنون فيه حتى إنه لتؤلف كتب ممحضة للنقل من الإسرائيليات فحسب (¬2)، مع نبذهم المصادرَ الإسلاميةَ وراءهم ظهريًّا؛ عن أبي عبيدة قال: "من شغل نفسه بغير المهم، أضرَّ بالمهم"، وقال الإمام أحمد: "الاشتغال بهذه الأخبار القديمة يقطع عن العلم الذي فُرضَ علينا طلبُه" (¬3). وإذا بالمناظرات الإسلامية النصرانية التي تجرى تحت ظل الهيمنة الثقافية الغربية في ديار الغرب تجوس أشرطتها السمعية والمرئية خلال ¬

_ (¬1) راجع حديث جابر بن عبد الله، وحديث خالد بن عرفطة، ص (180، 181). (¬2) كما فعل صاحبا "تاريخ اليهود" في جزأين، "موسى في الأساطير الإسرائيلية"، في ثلاثمائة صفحة، ليس فيها آية قرآنية واحدة، ولا حديث عن المعصوم صلى الله عليه وسلم بل محض نقل من توراة اليهود، وإسرائيلياتهم، فالله المستعان. (¬3) "الجامع" للخطيب (2/ 160).

نقد ظاهرة ترجمة المناظرات الإسلامية النصرانية وترويجها في العوام

بيوت المسلمين؛ لتمرن قلوبهم على سماع سب الله -عز وجل-، وشتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والطعن في كتاب الله -تعالى- والتطاول على دين الحق على لسان شياطينهم، ويُغَضُّ الطرف عن هذه الجرائم بحجة لزوم الإنصاف والعدل بين المتناظرين، مع أن غالب استدلالات المناظر المسلم تحوم حول الإسرائيليات، وقلما يستدلّ بشيء من القرآن الكريم، أو السنة النبوية (¬1). واذا أنكرت عليهم هذا "الإغراق" في إشاعة الإسرائيليات بادروا بذكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَحَدِّثُوا عَنْ بَي اِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ"، وبأن العلماء أجازوا حكاية "القسم الثالث" من الإسرائيليات. ¬

_ (¬1) وإن مما يؤسف له أشد الأسف استمراء هذا الوضع، وعدم إنكاره، لقد قال تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} الآية: [آل عمران:186]، وها نحن -الآن- نسمع الأذى من "بعض المسلمين" الذين يترجمون هذه المحاضرات السمعية البصرية بما فيها من طعن، وسب لدين الإسلام، ويذيعونها في أوساط العوام بغير فقه، ونحن لا ننكر مناظرة أهل الكتاب؟ فإن هذا أحد أساليب الدعوة إلى الله، وإقامة الحجة، ولكن للمناظرة ضوابط، وكلما كانت في دائرة محدودة، كلما كانت أعون على الإقناع؛ كي لا تأخذ المجادلَ العزةُ بالإثم أمام جمهور الحاضرين؟ فيستكبر عن الانصياع للحق، ولا بد أن يتولى المناظرة عن الجانب الإسلامي عالم فقيه بصير يحسن الاستدلال- أولًا، وقبل كل شيء- بأدلة القرآن، والسنة الصحيحة، وأن يكون مؤهلًا ذا خبرة بشبهات القوم؛ لأنه إذا رد ردًّا ضعيفًا زادهم فتنة بكفرهم، ثم ينبغي أن تحجب شبهات وطعون المناظر الكافر عن عوام المسلمين؛ خشية أن تفتن قلوبهم بشبهات أعداء الله الذين يجهرون بالسوء من القول، ويحترفون التشويه، والتضليل للصد عن سبيل الله -تعالى-.

أحاديث تدل -بمجموعها- على شدة إنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم على من اشتغل بكتب أهل الكتاب

نقول: نعم يجوز ذلك، لكن البياضَ إذا اشتد صار بَرَصًا، فلماذا نبدأ من حيث انتهى بنا الشرع؟ ونجعل نقطة النهاية نقطة انطلاق إلى الإفراط في الاستدلال بالإسرائيليات، "والتمحور" حول كتبهم الْمُحَرَّفَةِ، الأمر الذي ينعكس سلبًا على ارتباط الناس بالقرآن الكريم، وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- والاعتماد عليهما في المحاججة. إن من أسلحة "الصهيونية النصرانية" في حربها ضد الإسلام الترويجَ للتأويلات الباطلة لما لديهم من نبوءات، ومن خلال ذلك تمارس حربًا نفسية لتخذيل المسلمين، وتثبيط هممهم (¬1). فأين ما نحن فيه الآن من "التطبيع مع الإسرائيليات"، وموقفنا "البارد" تجاهه من سلفنا الصالح الذين كانت الدماء تغلي في عروقِهِم إذا رأوا من ينشغل بهذه الكتب عن القرآن الكريم، كتابِ الله المعجزِ المهيمن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ وما غَرَسَ في قلوبهم تلك الغيرةَ الأيمانيةَ على كتاب الله -عز وجل- إلا هَدْيُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الذي وَرَدَ عنه أنه كان يغضب أشدَّ الغضب إذا وجد مِن أصحابه مَن يشتغل بكتب أهل الكتاب عن القرآن الكريم؛ فقد روى الإمام أحمد من طريق مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فغضب، فقال: "أَمُتَهَوِّكُون فِيهَا يَا بْنَ الخطَّابِ؟ والَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا نَقِيَّةً، ¬

_ (¬1) انظر: "خُدعة هرمجدون" للمؤلف، نشر دار بلنسية، الرياض.

لا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَئءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَق فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى -صلى الله عليه وسلم- كانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي". قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: "رواه أحمد، وابن أبي شيبة، والبزار، ورجاله موثقُون، إلا أن في مجالدٍ ضعفًا" (¬1). اهـ. قال الألباني -رحمه الله تعالى-: "لكنَّ الحديثَ قَوِيٌّ؛ فإن له شواهدَ كثيرة"، ثم ذكر بعضها، ومنها: ما رُوي عن عقبةَ بنِ عامرٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ كانَ فِيكُم مُوسَى واتبعْتُمُوه وَعَصَيتُمُوني؛ لَدَخَلْتُمُ النَّارَ". ومنها: ما رُوِيَ عن خالد بن عرفطةَ قال: "كنت جالسا عند عمرَ -رضي الله عنه-؛ إذ أُتِيَ برجل من عبد القيس سَكَنُهُ بالسوس، فقال له عمر: أنت فُلان بن فلان العبدي؟ قال: نعم، قال: وأنت النازلُ بالسوس؟ قال: نعم، فضربَهُ بعصَاة معه، فقال: ما لي يا أمير المؤمنين؟! فقال له عمر: اجلس، فجلس، فقرأ عليه: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ...} [يوسف] الآية، فقرأها عليه ثلاثا، وضربه ثلاثًا، فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟! فقال: أنت الذي نسخت كتاب "دانيال"؟! فقال: مُرْنِي بأمرك أَتَّبِعْهُ، قال: انطلق فامْحُهُ بالحميم، والصوف الأبيض، ثم لا تقرأه، ولا تُقْرِئْهُ ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (13/ 334).

أحدًا من الناس، فلئن بلغني عنك أنك قرأته، أو أقرأته أحدًا من النَّاس، لَأُنْهِكَنكَ عقوبةً، ثم قال له: اجلس، فجلس بين يديه، فقال: انطلقتُ أَنا فانتسختُ كتابًا من أَهل الكتاب، ثم جئت به في أَديمٍ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا هَذَا فِي يَدِكَ يَا عُمَرُ؟ " قال: قلت: يا رسولَ الله، كتاب نسختُهُ لِنَزْدَادَ به علمًا إلى علمنا، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى احمرت وجنتاه، ثم نُوديَ ب (الصَّلاةُ جَامِعَةٌ)، فقالت الأَنصار: أَغَضِب نبِيّكُم؟ هَلُمَّ السلاحَ السلاحَ، فجاءوا حتى أحدقوا بِمِنْبَرِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال -صلى الله عليه وسلم-: "يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنّي أُوتيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَخَوَاتِيمَهُ، وَاخْتُصِرَ لِيَ اخْتِصَارًا، وَلَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، وَلَا تتَهَوَّكُوا، وَلَا يَغُرَّنَّكُمُ الْمُتَهَوِّكُونَ"، قال عمرُ: فقمتُ، فقُلتُ: رضِيتُ بالله ربّا، وبالإسلام دينًا، وبك رسولًا، ثم نَزَلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ". ومنها: ما رُوِيَ عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: "جاء عمرُ بجوامِعَ من التوراةِ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " ... الحديثَ، نحوَ روايةِ جابر باختصارٍ، وفيه: "والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيده لَو كَانَ مُوسَى بَينَ أَظْهُركُم، ثمَّ اتَبعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُوني، لَضَلَلْتُمُ ضلَالًا بَعِيدًا، أَنْتُمُ حَظّي مِنَ الأمَمِ، وَأَنَا حَظكُمُ مِنَ النَّبِيينَ". ومنها: ما رُوِيَ عن حفصةَ -رضي الله عنها- أنها: "جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكتاب من قصَص يوسفَ في كِنْفٍ (¬1)، فجعلت ¬

_ (¬1) الكِنْفُ: كل وعاءِ مثل العَيْبَة لحفظ الشيء، وكِنْفُ الراعي والصانع والتاجر: ما يحفظ فيه متاعه وأَسْقَاطَه.

ذم السلف من انكب على كتب "أخبار الأوائل" ككتاب "دانيال"

تقرأ عليه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يتلون وجهه، فقال: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، لَو أَتَاكُم يُوسُفُ وَأَنَا مَعَكُم، فَاتَبعْتُمُوهُ وَتَرَكتُمُوني؛ ضَلَلْتُمُ ". ثم قال الألباني -عليه رحمة الله- بعد أن بَيَّنَ ضعفَ عامَّةِ هذه الشواهِد: "وجملة القول: إن مجيء الحديث في هذه الطرق المتباينة، والألفاظ المتقاربة، لَمِمَّا يدل على أن مجالد بن سعيد قد حَفِظَ الحديث، فهو على أقل تقدير حديثٌ حسنٌ، والله أعلم " (¬1). ذَمُّ السَّلَفِ مَنِ انْكَبَّ عَلَى كتُبِ "أَخْبَارِ الْأَوَائِلِ" روى الخطيب بسنده عن ابن أبي أُويس قال: سمعت خالي مالكَ بن أنس، وسأَلَهُ رجلٌ عَنْ زَبُورِ داودَ، فقال له مالكٌ: "ما أَجْهَلَكَ! مَا أَفْرَغَكَ! أما لنَا في نافع، عن ابن عُمَرَ عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- ما شَغلنا بصحيحه عما بيننا وبين داود -عليه السلام-؟ " (¬2). وعن صدقة بن يسار سمع عمرو بن ميمون يقول: "كنا جلوسًا في مسجد الكوفة، وذاك أولَ ما نُزِلَ (¬3)، فأقبل مِنْ نحو الجسر رجلٌ معه كتاب، قلنا: ما هذا؟ قال: هذا كتاب، قلنا: وما كتاب؟ قال: كتابُ "دانيال"، فلولا أن القوم تحاجزوا لقتلوه، وقالوا: كتاب سوى القرآن؟ أكتاب سوى القرآن؟ " (¬4). ¬

_ (¬1) "إرواء الغليل"، (6/ 34 - 38). (¬2) "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع "، (2/ 161). (¬3) أي: أول ما افتُتح المسجد للصلاة، والوعظ، وما أشبه ذلك. (¬4) "الجامع"، (2/ 162).

اللهُ أكبرُ إنَّ دينَ محمدٍ ... وكتابَه أقوى وأقومُ قِيلا لا تذكروا الكتبَ السوالفَ عنده ... طلع الصباحُ فأطفأ القِنديلا وصدق القائل: نور الصباح يُغني عن المصباح. وقال الخطيبُ البغدادي -رحمه الله تعالى-: "ويترك المنْتَخِب -أيضًا- الاشتغالَ بأخبار الأوائلِ؛ مثل كتاب "المبتدأ" ونحوه؛ فإنَّ الشُغْلَ بذلك غيرُ نافعٍ، وهو عن التَّوَفُّرِ على ما هو أولى قاطع" (¬1)، ثم أُسنِدَ عن الإمام أحمد قوله: "الاشتغال بهذه الأخبار القديمة يقطع عن العلم الذي فُرِضَ علينا طلبه" (¬2)، ثم قال: "ونَظِيرُ ما ذكرناهُ آنفًا أحاديثُ الملاحِمِ، وما يكون من الحوادِثِ؛ فإِنَّ أَكثرها موضوع، وجُلَّها مصنوع، كالكتاب المنسوب إلى "دانيال"، والخُطب المروية عن علي بن أبي طالب" (¬3). وأخرج الخطيب في "الجامع": "أن عُمَرَ -رضي الله عنه- بلغه أن رجلًا كتب "كتاب دانيال"، قال: فكتب إليه يرتفع إليه، قال: فلما قدم عليه جعل عُمَرُ يضرب بَطنَ كفِّه بيده، ويقول: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} فقال عمر: أَقَصَصُ أحسن من كتاب ربنا؟! فقال: يا أمير المؤمنين، أَعْفِنِي؛ فوالله لأمْحُوَنَّهُ" (¬4). ¬

_ (¬1) "نفسه"، (2/ 160). (¬2) "نفسه"، (2/ 161). (¬3) "نفسه"، (2/ 161). (¬4) "نفسه"، (2/ 161 - 162).

وقال الإمام مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري -رحمه الله تعالى-: (وفي حديث ابن عمرٍو: "من أشراط الساعة أن يُقرأ فيما بينهم بالَمْثناة، ليس أحد يُغَيرها"، قيل: وما المَثْناة؟ قال: "ما استُكْتِبَ من غير كتاب الله تعالى" (¬1)، وقيل: إن المثناة هي أن أحبار بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام وضعوا كتابًا فيما بينهم على ما أرادوا من غير كتاب الله، فهو المثناة، فكأن ابن عمرٍو كره الأخذ عن أهل الكتاب، وقد كانت عنده كُتُب وقعت إليه يوم اليرموك منهم، فقال هذا لمعرفته بما فيها) اهـ (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ما معناه: (وقد انتفع عُمَرُ -رضي الله عنه- في هذا بما وقع منه حين رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده شيئًا من التوراة، فقال: "لَوْ كَانَ مُوسَى حَيا ثُمًّ تَبعْتُمُوه وَتَرَكْتُمُوني لَضَلَلْتُمُ"، وفي رواية: "مَا وَسِعَه إِلا اتباعِي"، وفي لفظ: "فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا عَرَضَ عليه عمر ذلك، فقال له بعضُ الأنصارِ: يا بنَ الخطَّابِ، ألا ترى إلى وجه رسول الله -صلى الله ص عليه وسلم-؟ فقال عمر: رَضِيْنَا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيُّا"؛ ولهذا كان الصحابَةُ يَنهون عن اتباع كتبٍ غيرِ القرآن) (¬3). ¬

_ (¬1) عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من اقتراب -وفي رواية: أشراط- الساعة أن ترفع الأشرار، وتوضعَ الأخيار، وُيفتح القول، وُيخزن العمل، ويُقرأ بالقوم المّثْناةُ، ليس فيهم أحد ينكرها، قيل: وما المثناة؟ قال ما اسْتُكتب سوى كتاب الله -عز وجل-" رواه الحاكم (4/ 554)، وقال الهيثميْ "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح" اهـ. من "المجمع" (7/ 326)، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (2821). (¬2) "النهاية في غريب الحديث والأثر" (1/ 225 - 226). (¬3) "مجموع الفتاوى"، (17/ 41).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أيضًا: " ... ولما كان القرآن أحسن الكلام؛ نُهُوا عن اتباع ما سواه؛ قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51]، إلى أن قال -رحمه الله تعالى-: "وروى ابن أبي حاتم، حَدَثَّنَا أبي، حَدَثَّنَا إسماعيلُ بْنُ خليلٍ، حَدًثنَا عَلى بن مسهر، حَدَّثنَا عبد الرحمن بن إسحاق، عن خليفة بن قيس، عن خالد بن عرفطةَ، قال: كنت عند عمرَ بن الخظَاب -رضي الله عنه- إذ أُتِيَ برجلٍ من عبد القيس مَسْكَنُهُ بالسوس، فقال له عمر: "أنت فلانُ بن فلانٍ العبدي؟ " قال: نعم، قال: "وأنت النازلُ بالسوسِ؟ "قال: نعم، فَضَرَبَهُ بقناة معه، فقال له: ما ذنبي؟ قال: فَقَرَأَ عليه: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} فقرأها عليه ثلاث مرات، وضربه ثلاث ضربات، ثم قال له عمر: "أنت الذي انتسخت كتاب دانيال؟ " قال: نعم، قال: "اذهب فامحُهُ بالحميم، والصوف الأبيض، ولا تقرأه، ولا تُقْرِئْهُ أَحَدًا من الناس". فقرأ عليه عُمَرُ هذه الآية ليبين له أن القرآن أحسن القصص؛ فلا يُحتاج معه إلى غيره، وهذا يدل على أن القصصَ عَامٌّ لا يختصُّ بسورة يوسف، ويدل على أنهم كانوا يعلمون أن القرآنَ أفضل من كتاب "دانيال"، ونحوه من كتب الأنبياء، وكذلك مثل هذه القصة مأثورة عن ابن مسعود -رضي الله عنه- لَمَّا أُتِيَ بما كُتِبَ من الكُتُبِ مَحَاهُ، وذَكَرَ فضيلةَ القرآنِ كما فعل عُمَرُ -رضي الله عنه-، ثم شَرَعَ -رحمه الله تعالى- في بيان معنى كون القرآن المجيد مهيمنًا على الكتب السابقة إلى أن قال:

"ولهذا لم تَحْتَجِ الأمة مع رسولها وكتابها إلى نبي آخر، وكتاب آخر، فضلًا عن أن تحتاج إلى شيء لا يستقل بنفسه عن غيره، سواء كان من علم المحدَّثين والملهمين، أو من علم أرباب النظر والقياس الذين لا يعتصمون مع ذلك بكتابٍ مُنَزَّلٍ من السماء" (¬1). ونقل القرطبيُّ في "التذكرة" عن الحافظ أبي الْخَطَّاب بن دحية أنه قال عن "دانيال": "نبيّ من أنبياء بني إسرائيل، كَلَامه عبراني، وهو على شريعة موسى بن عمران، وكان قبل عيسى ابن مريم بزمان، ومن أسند مثل هذا إلى نبي عن غير ثقة أو توقيف من نبينا -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد سقطت عدالته، إلى أن يُبين وضعه، لتصح أمانته، وقد ذكر في هذا الكتاب من الملاحم، وما كان من الحوادث، وسيكون، وجمع فيه التنافي والتناقض بين الضب والنون، وأغرب فيما أعرب في روايته عن ضرب من الهوس والجنون، وفيه من الموضوعات ما يُكَذِّبُ آخِرُهَا أَوَّلَهَا، ويتعذر على المتأول لها تأويلُها، وما يتعلق به جماعة الزنادقة، من تكذيب الصادق المصدوق محمد -صلى الله عليه وسلم- أن في سنة ثلاثمائة يظهر الدجَّال من يهودية أصبهان، وقد طعنَّا في أوائل سبعمائة في هذا الزمان، وذلك شيء ما وقع ولا كان، ومن الموضوع فيه المصنوع، والتهافت الموضوع، الحديث الطويل الذي استفتح به كِتَابَهُ، فهلا اتقى الله! وَخَافَ عِقَابَهُ! وإِنَّ من أفضح فضيحة في الدين نقلَ مثل هذه الإسرائيليات عن المتهودين؛ فإنه لا طريق فيما ذُكِرَ عن دانيال إلا عنهم، ولا رواية تُؤْخَذُ في ذلك إلا منهم " (¬2). ¬

_ (¬1) "نفسه"، (17/ 41 - 46) باختصار. (¬2) "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة"، (716 - 717).

أحمد بن حنبل قوله: "ثلاثة كتب ليس لها أصول: (4) المغازي، والملاحم، والتفسير"

وروى الخطيب بسنده إلى يحيى بن معين، قال: "كان أبو اليمان يقول لنا: "الحقوا ألواحًا، فإنه يَجيءُ هاهنا الآن خليفة بسَلَمْيَةَ (¬1)، فيتزوج ابنة هذا القرشي الذي عندنا، ويُفْتَحُ بَابٌ هاهنا، وتكونُ فتنةٌ عظيمة، قال أبو زكريا: فما كان من هذا شيء، وكان كله باطل (¬2)، قال أبو زكريا: وهذه الأحاديث كلها التي يحدثون بها في الفتن وفي الخلفاء، تكون كلها كذب (¬3) وريح، لا يعلم هذا أحد إلا بوحي من السماء". ثم أسند إلى أحمد بن حنبل قوله: "ثلاثةُ كتب ليس لها أصول: (¬4) المغازي، والملاحم، والتفسير" (¬5). ثم قال: "وهذا الكلام محمولٌ على وجه، وهو أن المرادَ به كتبٌ مخصوصةٌ في هذه المعاني الثلاثة غير مُعْتَمَدٍ عليها، ولا مَوْثُوقٍ ¬

_ (¬1) سَلَمْية: بلد بالشام، شرقي مدينة حماة. (¬2) كذا بالأصل، والصواب النصب. (¬3) كذا بالأصل، والصواب النصب. (¬4) أي: أسانيد؛ لأن الغالب عليها المراسيل، وانظر: "مقدمة في أصول التفسير"، ص (20 - 22). (¬5) انظر: "الرد على البكري"، لشيخ الإسلام، ص (17، 18)، وقال الحافظ ابن حجر معلِّقًا على العبارة المذكورة: "قلتُ: وينبغي أن يضاف إليها الفضائل، فهذه أودية الأحاديث الضعيفة والموضوعة، إذ كانت العمدة في المغازي، على مثل الواقدي، وفي التفسير على مثل مقاتل والكلبي، وفي الملاحم على الإسرائيليات، وأما الفضائل؛ فلا يُحصى كم وضع الرافضة في فضل أهل البيت، وعارضهم جهلة أهل السنة بفضائل معاوية، بل وبفضائل الشيخين، وقد أغناهما الله وأعلى مرتبتهما عنها". اهـ. من "لسان الميزان" (1/ 92).

بصحتها؛ لسوء أحوال مصنفيها، وعدم عدالة ناقليها، وزيادات الْقُصَّاصِ فيها". ثم قال: "فأما كتب الملاحم، فجميعها بهذه الصفة، وليس يصح في ذكر الملاحم المرتقبة والفتن المنتظرة غير أحاديث يسيرة اتَّصلت أسانيدها إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- من وجوه مرضيَّة، وطرق واضحة جليَّة" (¬1). ¬

_ (¬1) "الجامع"، (1/ 162، 163).

المطلب الرابع حروف أبي جاد، والاستدلال بها على المغيبات

المطلب الرابع حُرُوفُ أَبِي جَادٍ، وُالاستِدْلَالُ بِهَا عَلَى الُمُغَيَّبَاتِ (¬1) أربابُ هذه الطريقة يزعمون أن لهذه الحروف علاقةً ورابطةً قويَّةً بحياة الإنسان ومستقبله، وبالكون وما يحدث فيه من الحوادث؛ ويزعمون أنهم يعرفون حوادث هذا العالم من هذه الحروف، وطريقتهم في ذلك أنهم يكتبون حروف أبي جاد، ويجعلون لكل حرف منها قدرًا من العدد معلومًا عندهم، ويُجرون على ذلك أسماء الآدميين، والأزمنة، والأمكنة، وغيرها، ثم يُجرون على هذه الأعداد عملية حسابية من جمع وطرح بطريقة ما، وينسب العدد الباقي من هذه العملية إلى الأبراج الاثني عشر، ثم يقضون بالسعود والنحوس، وبأوقات الحوادث والملاحم، وبمدد الملك وأعمار الناس، إلى آخر ذلك من أمور الغيب، على وفق ما أصَّله لهم أسلافُهم، وأملاه عليهم شيطانُهم، ومن ذلك ما فعله يعقوب بن إسحاق الكندي، الذي عمل تسييرًا لهذه الأمة، وزعم أنها تنقضي عام ثلاثة وتسعين وسبعمائة، وزعم بعض أتباعه أنه استخرج ذلك من حساب الْجُمَّل الذي للحروف التي في أوائل السور (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: كتاب "التنجيم والمنجمون "، للدكتور/ عبد المجيد بن سالم المشعبي، ص (311 - 318). (¬2) انظر: "الفتاوى الكبرى"، (1/ 336).

إبطال شيخ الإسلام ابن تيمية منهج الاستدلال على المغيبات بحروف أبي جاد

قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: "فلهذا تجد عامة مَن في دينه فساد يدخل في الأكاذيب الكونية، مثل أهل الاتحاد، فإن ابن عربي -في كتاب "عنقاء مُغْرِب" وغيرِه- أخبر بمستقبلات كثيرة عامتها كذب، وكذلك ابن سبعين، وكذلك الذين استخرجوا مدة بقاء هذه الأمة من حساب الجُمَّل من حروف المعجم الذي ورثوه من اليهود، ومن حركات الكواكب الذي ورثوه من الكصابئة، كما فعل أبو نصر الكندي، وغيُره من الفلاسفة، وكما فعل بعضُ من تكلم في تفسير القرآن من أصحاب الرازي، ومن تكلم في تأويل وقائع النساك من المائلين إلى التشيع. وقد رأيت من أتباع هؤلاء طوائفَ يدَّعون أن هذه الأمور من الأسرار المخزونة والعلوم المصونة، وخاطبت في ذلك طوائف منهم، وكنت أحلف لهم أن هذا كذب مفترى، وأنه لا يجري من هذه الأمور شيءٌ، وطلبت مباهلة بعضهم؛ لأن ذلك كان متعلقًا بأصول الدين" (¬1). اهـ. ويدخل ضمن هذه الصناعة ما يسميه الرافضة بعلم أسرار الحروف، وأهم مؤلف فيه عندهم كتاب الجفر، المنسوب كذبًا وبهتانًا إلى جعفر الصادق -رحمه الله تعالى-، ونسبته إليه كَذِبٌ عليه باتفاق أهل العلم به (¬2)، ¬

_ (¬1) "نفس المرجع" (4/ 81، 82). (¬2) وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "ونحن نعلم من أحوال أمتنا أنه قد أضيف إلى جعفر الصادق -وليس هو بنبي من الأنبياء- من جنس هذه الأمور -أي علم النجوم- ما يعلم كل عالم بحال جعفر -رضي الله عنه- أن ذلك كذب عليه؛ فإن الكذب عليه من أعظم الكذب، حتى أنهم قد نسبوا إليه أحكام الحركات السفلية، =

إذ إن واضع هذا الكتاب هو هارون بن سعيد العجلي (¬1)، وهو رأس الزيدية، وكان له كتاب يزعم أنه يرويه عن جعفر الصادق، وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم، ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص، وقع ذلك لجعفر الصادق ونظائره عن طريق الكشف والكرامة كما يزعمون، ويزعمون أنه كان مكتوبًا عند جعفر في جلد جفر صغير، فرواه عنه هارون العجلي وكتبه، وسماه الجفر، باسم الجلد الذي كُتِبَ فيه، وصار هذا الاسم علمًا على هذا الكتاب عندهم. وهذا الكتاب لم تتحمل روايته، ولا عُرِفَ عينه، وإنما تَظْهَرُ منه شواذُّ من الكلمات التي لا يصحبها دليل (¬2)، ويزعمون أن هذا الكتاب مشتمل على حوادث الأزمان على مر العصور، عُرِفَتْ عن طريق علم الحروف المتعلق بآثار النجوم (¬3). ¬

_ = والعلماء يعلمون أنه برئ من ذلك كله". اهـ. من "الفتاوى الكبرى"، (1/ 332)، بل قد أورد بعضهم عنه -أي: جعفر الصادق- أنه سُئل عن النجوم؛ فقال: "هو علم قلَّتْ منافعه، وكثرت مضراته؛ لأنه لا يدفع به المقدور، ولا يُتقى به المحذور، وإن أخبر المنجم بالبلاء، لم ينجه التحرز من القضاء، وإن أخبرهم بخبر لم يستطع تعجيله، وإن حدث به سوء لم يمكنه صرفه، والمنجم ينازع الله في علمه بزعمه أنه يرد قضاء الله عن خلقه ". اهـ. من "مرآة العقول" (4/ 462). (¬1) هو هارون بن سعيد العجلي، ويقال: الجعفي، الكوفي الأعور، كان من غلاة الرافضة، توفي سنة خمس وأربعين ومائة. انظر: "الجرح والتعديل"، (9/ 90)، و"ميزان الاعتدال"، (4/ 284)، و"تهذيب التهذيب"، (11/ 6) (¬2) انظر: "مقدمة ابن خلدون"، ص (334). (¬3) انظر: "نفس المصدر".

ومما يتشبثون به لتعضيد هذا المعتقد عندهم ما رواه الكليني عن أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال: "وإن عندنا الجفرَ، وما يدريهم ما الجفرُ؟ فقيل له: ما الجفرُ؟ قال: وِعَاءٌ من أَدَمٍ فيه علم النبيين والوَصِيِّينَ، وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل" (¬1). وما رواه -أيضًا- أن أبا عبد الله سُئِلَ عن الجفر، فقال: "هو جلد ثور (¬2) مملوء علمًا" (¬3)، وتارة يذكرون أن هذا العلم مأثور عن آدم -عليه السلام-؛ فقد نقل عن اليزيدي الحائري عن كتاب الينابيع: "أما آدمُ -عليه السلام- فهو نبيٌّ مرسل خلقه الله -تعالى- بيده، ونفخ فيه من روحه، فأنزل عليه عَشْرَ صحائفَ، وهو أول من تكلم في علم الحروف، وله كتاب سفر الخفايا، وهو أول كتاب كان في الدنيا في علم الحروف، ثم ذكر أن آدم -عليه السلام- وَرَّثَهُ لأبنائه من بعده، وأبناؤه وَرَّثوهُ لمن بعدهم"، وهكذا إلى أن قال: "ثم وَرِثَ هذا العلمَ عن أبيه جعفر الصادقُ، وهو الذي حَلَّ مَعَاقِدَ رموزه، وفك طلاسم كنوزه". ثم ذكر أن له كتابَ الجفرِ الأكبر، والجفر الأصغر، وأن الجفرَ الأكبرَ إشارة إلى المصادر الوفقية التي هي من أ، ب، ت، ث، ... إلى آخرها، وأنها أَلفُ وفق، وأن الجفر الأصغر إشارة إلى المصادر الوفقية التي هي مركبة من أبجد إلى قرشت، وهي سبعمائة وفق (¬4). ¬

_ (¬1) "الأصول من الكافي"، (1/ 186). (¬2) هذا مخالف لأصل التسمية؛ إذ إن الجفر ولد الماعز، لا الثور، انظر: "الصحاح"، (2/ 615). (¬3) "الأصول من الكافي"، (1/ 187). (¬4) انظر "إلزام الناصب"، (1/ 232 - 235)، "رسالة شريفة" للصنعاني ص (20 - 28).

وهذا كلُّهُ من أكاذيب الرافضةِ على ال بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الكتابُ كما ذكرتُ آنفًا نُسبَ كَذبا إلى جعفَر الصادق -رحمه الله تعالى- وليس لهم برهان على إثباته سوى القول المجرد عن الدليل، بل قد نفى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن يكون هو وذريته مخصوصين بشيء من الوحي دون الناس، وذلك فيما رواه البخاري -رحمه الله تعالى-: "أنه قيل لعلي -رضي الله عنه- هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: " لاَ، إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ: قُلْتُ: فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ (¬2)، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ " (¬3) أما نسبة هذا العلم إلى آدَمَ -عليه السلام- فليست صحيحة، إذ إن كل ما رُوي في ذلك عن آدَمَ -عليه السلام- من أنه كان عالمًا بحروف أبي جاد، وأن الله أنزلها عليه، فقد نُقِلَتْ عن أخبار إسرائيلية، لا يُوثَقُ بها، وقد أجمع المسلمون على أن ما روي عن بني إسرائيل في الأنبياء المتقدمين لا يُجْعَلُ عُمدَةً في ديننا، ولا يجوز التصديقُ بصحتها إلا بحجة صحيحة واضحة (¬4)، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة: "لَا تُصَدّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلَا تكَذِّبُوهُمْ، و {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} ... " (¬5). ¬

_ (¬2) العقل: الدية، "النهاية في غريب الحديث"، (3/ 278). (¬3) أخرجه البخاري، (1604)، كتاب الجهاد والسير. (¬4) انظر: "مجموع الرسائل والمسائل" (1/ 383). (¬5) أخرجه البخاري، (9/ 280)، كتاب التوحيد.

ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحث على تعلم أبي جاد، وتعلم تفسيرها، لا يصح

وما رواه البخاري أيضًا -عن ابن عَبَّاس- رضي الله عنهما- قال: "يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عن شيء، وَكِتَابُكُم الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَحْدَثُ الْأخْبَارِ بِاللهِ؟! تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا، لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا كتابَ اللَّهُ، وَغَيَّرُوه، وكتبوا بِأَيْدِيهِم الْكِتَابَ، وَقَالُوا: هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ليَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، أَفَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِن العِلمِ عَن مُسَاءَلَتِهِمْ؟ وَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَن الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ" (¬1). وبهذا يتبين أن ما ذُكِرَ عن آدمَ عليه السلام من ذلك لا يجوز تصديقه، وكذلك ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحث على تعلم أبي جاد، وتعلم تفسيرها، لا يصح أيضًا؛ وذلك لأن هذا الحديثَ رُوِيَ من طريقين كلاهما لا يَصِحُّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أولهما: ما ذكره ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أن أبا بكر النَّقَّاش (¬2) رواه في تفسيره، وغيره من المفسرين، كما ذكره ابن جرير الطبري في آخر تفسيره، ورد عليه، فذكر أن أبا بكر النقَّاش روى بسنده من طريق ¬

_ (¬1) انظر تخريجه ص (179). (¬2) هو محمد بن الحسين بن محمد بن زياد بن هارون، أبو بكر النقاش، عالم بالقرآن وتفسيره، توفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، قال الخطيب البغدادي: "في أحاديثه مناكير بأسانيد مشهورة"، وقال أبو القاسم اللالكائي: "تفسير النقاش إشقاء الصدور، وليس بشفاء الصدور"، وقال البرقاني: "كل حديث النقاش منكر"، وقال الذهبي: "فيه ضعف". انظر: "تاريخ بغداد"، (2/ 201)، و"ميزان الاعتدال"، (3/ 520)، و"لسان الميزان"، (5/ 132).

محمد بن زياد الجزري (¬1)، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعلموا أبا جاد وتفسيرها، ويل لعالم جهل تفسير أبي جاد ... ". وذكر ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أن ابن جرير الطبري -رحمه الله تعالى- قال بعد إيراد هذا الحديث: "لو كانت الأخبار التي رُوِيَتْ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك صِحَاحَ الأسانيد، لم يُعدل عن القول بها إلى غيرها، ولكنها واهية الأسانيد، غير جائز الاحتجاج بمثلها، وذلك أن محمد بن زياد الجزري غير موثوق بنقله". وقال ابن تيمية -رحمه الله تعالى- بعد ذلك: "الحديث فيه فرات بن السائب، وهو ضعيف لا يُحْتَجّ به، وهو فُرَاتُ بن أبي الفرات (¬2)، ومحمد بن زياد الجزري ضعيف أيضًا" (¬3). أما الطريق الثاني: فقد رواه الصدوق القمي الرافضي بسنده عن الأصبغ بن نُبَاتَةَ (¬4)، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعلموا تفسير أبجد؛ فإن فيه الأعاجيبَ كلها، ويل لعالم جهل تفسيره ... " (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "كتاب الضعفاء الصغير"، رقم (317)، و"الضعفاء"، لأبي زُرعة، (2/ 447)، و"تهذيب التهذيب"، (9/ 170)، و"التقريب"، (5890). (¬2) انظر: "الجرح والتعديل"، (7/ 80)، و"ميزان الاعتدال"، (3/ 343)، و"لسان الميزان"، (4/ 432). (¬3) انظر: "مجموعة الرسائل والمسائل"، (1/ 384 - 386). (¬4) هو الأصبغ بن نبَاتَةَ الحنظلي المجاشعي الكوفي، قال النسائيْ "متروك الحديث "، وقال ابن معين: "ليس بشيء"، وقال عنه -أيضَا-: "ليس بثقة"، وقال ابن حمدان: "متروك"، وقال أبو بكر بن عياش: "كذاب"، وقال ابن عدي: "بيِّنُ الضعف"، وقال ابن سعد: "كان شيعيُّا، وكان يضعف في روايته". انظر: "الضعفاء والمتروكين"، للنسائي، ص 156، و "الجرح والتعديل"، (2/ 319)، و"ميزان الاعتدال"، (1/ 271)، و"تهذيب التهذيب"، (1/ 362). (¬5) "التوحيد"، لابن بابويه القمي، ص (237).

حساب الجمل صناعة الوثنيين وفلاسفة اليونان الصابئة

والأصبغ بن نُباتة لا يُحتَجُّ بروايته. وقد ورد أن هذه الصناعةَ مأثورةٌ عن فلاسفة اليونان الصابئة الذين يعبدون الأوثان، فقد جعل أرسطو في آخر كتاب "السياسة" فصلا في حساب الجُمَّل، وادعى أنه يعرف بها الغالب من المغلوب، ونحو ذلك من أمور الغيب (¬1). والذي ينبغي أن يُعْلَمَ في هذا الموضع أن هذه الحروفَ ليست أسماء لمسميات، ولا علاقةَ لها بمستقبل الإنسان ولا بحياته، وإنما أُلِّفَتْ ليُعْرَفَ تأليف الأسماء من حروف المعجم، بعد معرفة حروف المعجم، ثم إن كثيرا من أهل الحساب صاروا يجعلونها علامات على مراتب العدد، فيجعلون الألِف واحدًا، والباء اثنين، والجيم ثلاثة ... وهكذا، ثم أخذ هؤلاء هذا الاصطلاح، ولفقوا عليه الأباطيل وادَّعوا أَنَّهُ علم، وأن به تُعْرَفُ الأمورُ الغيبية، وربطوه بالتنجيم؛ لخفاء بطلان التنجيم على كثير من الناسِ، والعلم لا يُؤْخَذُ عن مثل هذه النظريات الفاسدة، ولا من هذه العقليات الجاهلية الباطلة، بل لابد فيه من عقل مُصَدَّق، ونقل مُحَقَّقٍ (¬2)، وهذا الذي يزعمون ما هو إلا ادعاء علم استأثر الله به، وهذا بلا شك من أعظم الشرك في الربوبية، ومن صَدَّقَ به، واعتقد فيه كفر -والعياذ بالله (¬3) -؛ كما قال ابن عباس -رضي الله ¬

_ (¬1) انظر: "مقدمة ابن خلدون"، ص (114). (¬2) انظر: "مجموعة المسائل"، (1/ 386 - 387). (¬3) انظر: "معارج القبول"، (1/ 326)، و"كفر من ادعى علم الغيب" لمؤلفة أبي هارون عيسى بن يحيى، نشر مكتبة الصحابة -جدة- 1415هـ.

عنهما- مُنْكِرًا على الذين يتخذون هذه الصناعة: "إن قومًا يحسبون أبا جاد، وينظرون في النجوم، ولا أرى لمن فعل ذلك من خلاق" (¬1). قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "وقد ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- الزجر عن عدِّ أبي جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد؛ فإنه لا أصل له في الشريعة" (¬2). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن مُحَمَّد بن عبد الوهاب -رحمهما الله تعالى-: "وكتابة أبي جاد، وتعلمها لمن يدعي بها علم الغيب، هو الذي يسمى علم الحرف، وهو الذي فيه الوعيد، فأما تعلمها للتهجي وحساب الجُمل، فلا بأس به" (¬3). اهـ. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرازق في "المصنف"، (11/ 26)، وابن أبي شيبة في "المصنف "، (5/ 240)، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق"، ص (309)، رقم (774)، والبيهقي في "السنن الكبرى"، (8/ 139)، ورواه الطبراني في "المعجم الكبير"، (10980) مرفوعا، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" "وفيه خالد بن يزيد العمري، وهو كذاب"، (5/ 117). (¬2) "فتح الباري" (11/ 351). (¬3) "فتح المجيد"، (2/ 497)، وانظر: "الدين الخالص"، (2/ 340). وقول الشيخ رحمه الله: "فأما تعلمها للتهجي وحساب الجُمَّل، فلا بأس به"؛ يقصد به استعماله في التأريخ للمعارك والوفيات والأبنية ونحو ذلك كما شاع عند بعض المسلمين، حيث إن لكل حرف قيمة عددية وفق الترتيب الأبجدي هكذا: أ1 ب2 ج3 د4 هـ5 و6 ز7 ح8 ط9 ي10 ك20 ل30 م40 ن50 =

وقال الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله تعالى-: "وزعم بعضهم أن الساعة تقوم سنة 1407 هـ؛ بناء على أن عدد حروف "بغتة" في قوله تعالى: {لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} 1407" (¬1)، وبيَّن -رحمه الله تعالى- أن ¬

_ = س60 ع70 ف80 ص90 ق100 ر200 ش300 ت400 ث500 خ600 ذ700 ض800 ظ900 غ1000 ومن أمثلة تطبيقه في التأريخ للوفاة: - عندما توفى السلطان "برقوق" وهو من سلاطين المماليك، قاموا بصياغة عبارة طريفة تحدد تاريخ وفاته، وهي: "في المشمش" وقيمته العددية طبقًا لحساب الجمل = (801) هـ. وقال الشاعر يرثي الشاعر الدلنجاوي: سألت الشعْرَ هل لك من صديق ... وقد سكن الدلنجاوي لحْدَهْ فصاح وخَر مغشيا عليه ... وأصبح راقدًا في القبر عنده فقلت لمن يقول الشعر: أقصِر ... لقد أرَّختُ: مات الشِّعْرُ بعده فعبارة: "مات الشعر بعده" تشير إلى تاريخ وفاة الشاعر الدلنجاوي: فمجموع م40 ا1 ت400 ا1 ل30 ش300 ع70 ر200 ب2 ع70 د4 هـ5 يساوي: 1123 هـ. وكثيرًا ما يستعمل في التأريخ للفراغ من نظم المتون وتصنيف الكتب، ومثاله: قول ناظم "تحفة الأطفال": (تاريخها بُشْرى لمن يتقنها)، أي: 1198 هـ. ومن اللطائف قول الشيخ إبراهيم بن عبد الرحمن السرائي: "كان أول خروج (تِمرلنك) فِي سنة (عذاب) يشير إلى أن ظهوره سنة (773)، كما فِي "شذرات الذهب" (4/ 13). (¬1) "تفسير المنار" (9/ 401).

أصل طريقة "حساب الجمل"

بعض الناس حاول تحديد عمر هذه الأمة عن طريق "عدد أبي جاد"، ثم قال: "وقد ثبت عن ابن عباس الزجر عن عَدِّ أبي جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد؛ فإنه لا أصلَ له في الشريعة" (¬1)، وقال -أيضًا-: "وأما عَدَدُ أبي جاد فليس بِلُغَوِيٍّ، ولا شرعي، بل هو اصطلاح يهودي" (¬2). أَصْلُ طَرِيقَةِ "حِسَابِ الْجُمَّلِ" التي اعتمد عليها البعض في تحديد عمر الدنيا، وبعض أشراط الساعة، وبيان بدعية اعتمادها في تفسير فواتح السور: رُوِيَ أن أول من أدخل حساب الجُمَّل في تأويل حروف المعجم التي وردت في أوائل السور هم اليهود -لعنهم الله- كيدًا للإسلام وأهله، وأن حُييَّ بن أخطبَ عَدَّ جملة السنين التي تدل عليها هذه الحروف، وحسب عمر الأمة المحمدية؛ طبقًا لحساب الجُمَّل، غير أن هذا الحديث ضعيف (¬3)، ولو صح؛ فكيف يكون لنا في هذا اليهودي أسوةٌ؟ ¬

_ (¬1) "نفسه" (9/ 396). (¬2) "نفسه" (9/ 397). (¬3) رواه -مختصرا- البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 2/ 208)، والطبري في "التفسير" (1/ 216) رقم (246) من طريق ابن إسحاق بأسانيد ضعيفة مضطربة، وقال ابن كثير: "وهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي؟ وهو ممن لا يُحتج بما انفرد به، بل قد رُمي بالكذب"، وقال الإمام الطبري -رحمه الله تعالى- عند ذكره الخلاف في تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور: "وقال بعضهم: هي حروف من حساب الجُمَّل، كرهنا ذكر الذي حُكي ذلك عنه؛ إذ كان الذي رواه ممن لا يُعتمد على روايته ونقله". اهـ من تفسير الطبري (1/ 208).

نقد إقحام حساب الجمل في تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور

ولقد ذهب البعض إلى أن "المتشابهات" الواردة في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الآية [آل عمران:7]، يُرَادُ بِهَا "الحروف المقطعة في أوائل السور"، وحكى الإمام ابن جرير الطبري -رحمه الله تعالى- قَوْلَ من ذهب إلى أن الحروف المقطعة في أوائل السور من "المتشابه" وقولهم في تعليل ذلك: "لأنهن متشابهات في الألفاظ، وموافقات حروف حساب الجُمَّل"، ثم قال -رحمه الله تعالى-: "وكان قوم من اليهود على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طَمِعوا أن يدركوا مِن قِبَلها معرفة مدة الإسلام وأهله، ويعلموا نهاية أُكْلِ (¬1) محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمته؛ فأكذب الله أحدوثتهم بذلك، وأعلمهم أن ما ابتغوا علمه من ذلك من قِبَل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه، ولا من قبل غيرها، وأن ذلك لا يعلمه إلا الله". ثم قال الإمام الطبري -رحمه الله تعالى-: "وهذا القول أشبه بتأويل الآية" (¬2). وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في شرح قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِذَا رَأَيْتِ (¬3) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ؛ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ؛ فَاحْذَرُوهُمْ": ¬

_ (¬1) الأُكْل: مدة العُمُر. (¬2) "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" (6/ 179، 180). (¬3) بكسر التاء؛ لأنه كان يخاطب أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-.

"والمراد التحذير من الإصغاء إلى الذين يَتَّبِعُونَ المُتَشَابِهَ من القرآن، وأول ما ظهر ذلك من اليهود؛ كما ذكره ابن إسحاق في تأويلهم الحروف المقطعة، وأن عددها بالجُمَّل مقدار مدة هذه الأمة" (¬1). وإن مما يُؤْسَفُ له أن فكرة "حساب الجمَّل" هذه انتقلت إلى بعض كتب التفسير التي تَقَبَّلَتْهَا دون رَوَّية؛ ولهذا استخرج بعض أئمة المغرب من: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} [الروم: 1، 2] فتح بيت المقدس، واستنقاذه من يد العدو في سنة معينة (¬2). وقال العز بن عبد السلام عند تفسيره {الم (1)} [البقرة:1]: "هي حروف من حساب الجُمَّل"، ثم ذكر حكاية حُييِّ بن أخطب مع النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقال السهيلي: "لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر؛ للإشارة إلى بقاء هذه الأمة" (¬3). ونقل السيوطي عن أبي الفضل المرسي قوله في الحروف المقطعة: "وإن فيها ذكر مدد، وأعوام لتواريخ أمم سالفة، وإن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة، وتاريخ مدة أيام الدنيا، وما مضى وما بقي مَضْرُوبٌ بعضها في بعض" (¬4). ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (8/ 211). (¬2) "الحروف المتقطعة" ص (56)، نقلَا عن "البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن" ص (60). (¬3) "الإتقان في علوم القرآن" (2/ 10). (¬4) "نفسه" (2/ 128).

ويقول السهيلي (¬1) كذلك تعليقًا على الحساب اليهودي: "وهذا القول من أحبار يهود، وما تأولوه من معاني هذه الحروف محتمل- حتى الآن- أن يكون من بعض ما دلت عليه الحروف المُقَطَّعَة ... ". ولقد أدى تَسَربُ هذه الفكرة إلى أن توقع بعض العلماء انقضاء هذه الأمة المحمدية بعد الخمس مائة سنة الأولى، وها نحن الآن في عام 1428هـ، والأمة باقية بحمد الله -تعالى-، ومَنِّه، وكرامته، وهي تزيد عددًا، ويكثر أتباع دين الحق. يَقُولُ الدُّكتُورُ مُحَمَّدُ أَبُو فراخ مُعَلِّقًا عَلَى هَذَا المسْلَكِ: "وإني لأعجب أشد العجب من قوم يَعْلَمُون أن الله -تعالى- قد استأثر بعلم الغيوب، ورأوا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يثبت عنه أنه قال في شيء من ذلك كلامًا صريحًا؛ كيف يشقون على أنفسهم، ويتحملون العناء؛ ليذكروا من هذا ما لا يقبله العقل، ولا يطمئن إليه، ثم إنهم إذا أرأدوا أن يجعلوا الحروف التي وقعت في أوائل السور تدل -فيما تدل عليه- على ذلك المعنى، لماذا اقتصروا على بعضها دون بعض؟ وَهَلَّا جمعوها كلها؛ سواءٌ أتكَررت، أم لم تتكرر، ثم ذهبوا إلى أن مجموع جميعها هو المقصود" إلى أن قال: "وبعد؛ فإنَّا لا نسيغ لأنفسنا، ولا نرضى لأحدٍ سوانا أن يخوض في هذا، وفيما أشبه هذا؛ فإن علم ذلك كله عند الله وحده" (¬2). ¬

_ (¬1) وعلَّق الحافظ ابن حجر على موقف السهيلي هنا بقوله: "ولم أذكر ذلك -أي تطبيق حساب الجمَّل على الحروف المقطعة- ليُعتمد عليه؟ إلا لأبين أن الذي جنح إليه السهيلي لا ينبغي الاعتماد عليه لشدة التخالف فيه". اهـ من الفتح (11/ 352). (¬2) "الحروف المتقطعة" ص (59).

ثم قا ل: "قال الخويبي: وقد استخرج بعضهم من {الم (1)} [الروم:1] فتح بيت المقدس؛ يفتحه المسلمون في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، ووقع كما قاله"، ويوضح ابن عربي الكيفية التي تَمَّ بها ذلك الحساب الغريب، فَارْجِعْ إلى "روح المعاني" في ذلك إن شئت". وذكر بعضهم أن "طه" معناه: يا بدر؛ لأن الطاء بتسعة، والهاء بخمسة؛ فذلك أربع عشرة؛ إشارةً إلى البدر؛ لأنه يتم فيها، وقريب من هذا ما عُنِيَ به بعض الشيعة من حذف المكرر من هذه الحروف، وصياغة جمل مما بقي منها في علي -رضي الله عنه-، أو تفضيله، وترجيح خلافته؛ كقولهم: "صراط علي حق نمسكة"، ولكنهم قوبلوا بجمل أخرى مثلها من بعض السنيين تنقض ما قالوه؛ كقولهم: "صح طريقك مع السنة" (¬1)، إلى غير ذلك من الأقوال الغريبة الأخرى، ليس هذا موضع بسطها (¬2). ولقد نهى ابن عباس -رضي الله عنهما- عن مثل هذا المسلك، الذي اعتبره من جملة السحر، واعتبر أصحابه من الذين يتبعون المتشابه؛ لما في قلوبهم من الزيغ، والفتنة، والضلال، وذكر ابن حجر أن حساب الجمل: "باطلٌ لا يُعْتَمدُ عليه، ولا أصل له في الشريعة" (¬3). وقال ابن كثير: "وأما من زعم أنها دَالَّةٌ على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث، والفتن الملاحم؛ فقد ادَّعى ما ليس ¬

_ (¬1) وقال بعضهم: "نص حكيمٌ قاطعٌ له سِرٌّ"، وما صح معناه من ذلك فإنما هو من "المُلَح"، وليس من "صُلْب" العلم. (¬2) انظرها في "الإتقان" (2/ 8 - 13)، "روح المعاني" (1/ 104)، "المنار" (1/ 123)، "سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-" لابن هشام (172/ 2). (¬3) "فتح الباري" (8/ 211)، وانظر: "الإتقان" (2/ 11).

له، وطار في غير مطاره" (¬1)، وفي "تفسير المنار": "أضعف ما قيل في هذه الحروف وأسخفه: إن المراد بها الإشارة بأعدادها في حساب الجملة إلى مدة هذه الأمة، أو ما شابه ذلك". وقال القاضي أبو بكر: "ومن الباطل علم الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد تحصل لي فيها عشرون قولًا وَأَزْيَدُ، ولا أعرف أحدًا يحكم عليها بعلم، ولا يصل منها إلى فَهْمٍ، والذي أقوله: إنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولا، متداولًا عندهم؛ لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ تلا عليهم {حم (1)} [فصلت:1]، {ص} وغيرها، فلم ينكروا ذلك، بل صرحوا بالتسليم له في بالبلاغة، والفصاحة مع تشوقهم إلى عثرة، وحرصهم على زلة؛ فدل على أنه كان أمرًا معروفًا بينهم لا إنكار فيه" (¬2). إنه لم يُعْرَفْ عن هؤلاء العرب مثل هذه الحسابات العددية لتلك الحروف المقطعة في أوائل السور القرآنية؛ فوجب رد هذه التأويلات التي لم يقصد بها وجه الحق، {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء] (¬3). وممن استروح لمنهج حساب الجمل الشيخ "طنطاوي جوهري" الذي زَعَمَ إمكانية الرمز، والإشارة بالحروف إلى حساب الجمل، وقد نزل القرآن بذلك؛ ليأخذ الناس في فَهْمهَا؛ "حيث كان اليهود والنصارى ¬

_ (¬1) "تفسير القرآن العظيم" (38/ 1). (¬2) انظر "الإتقان" (2/ 11). (¬3) "الحروف المتقطعة" ص (65 - 62).

يتخذون رموزًا، وإشاراتٍ مشهورةً في دينهم، فنزل القرآن بهذه الرموز؛ ليكون مفهومًا لجميع الطوائف؛ لأنه نزل للعرب، والعجم جميعًا". قال الشيخ في ذلك: "اعلم أن القران كتابٌ سماويٌّ، والكتب السماوية تصَرِّحُ تارَةً، وترمز أخرى، والرمز والإشارة من المقاصد السامية، والمعاني والمغازي الشريفة، وقديمًا كان ذلك في أهل الديانات؛ ألم ترَ إلى اليهود الذين كانوا منتشرين في المدينة، وفي بلاد الشرق أيام النبوة، كيف كانوا يصطلحون فيما بينهم على أعداد الجُمَّل المعروفة اليوم في الحروف العربية؛ فيجعلون الألف بواحدٍ، والباء باثنين، والجيم بثلاثة، والدال بأربعة، وهكذا مارِّين على الحروف الأبجدية إلى الياء بعشرة، والكاف بعشرين، وهكذا إلى القاف بمائة، والراء بمائتين، وهكذا إلى الغين بألف، كما ستراه في هذا المقام؛ كذلك ترى أن النصارى في إسكندرية، ومصر، وبلاد الروم، وفي سوريا قد اتخذوا الحروف رموزًا دينية معروفة فيما بينهم أيام نزول القرآن، وكانت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية في مصر، وكانوا يرمزون بلفظ "اكسيس" لهذه الجملة: "يسوع المسيح ابن الله المخلص" فالألف من "اكسيس" هي الحرف الأول من لفظ "ايسوس" يسوع، والكاف منها هي الحرف الأول من "كرستوس" المسيح، والسين منها هي حرف الثاء التي تبدل منها في النطق في لفظ "ثيو" الله، والياء منها تدل على "ايوث" ابن، والسين الثانية منها تشير إلى "ثوتير" المخلص، ومجموع هذه الكلمات "يسوع المسيح ابن الله المخلص" (¬1)، ولفظ "اكسيس" اتفق أنه يدل على معنى سمكة؛ فأصبحت السمكة عند هؤلاء رمزًا لإلههم. ¬

_ (¬1) تعالى الله عما يقول الظالمون علوُّا كبيرًا.

فانظر، كيف انتقلوا من الأسماء إلى الرمز بالحرف، ومن الرمز بالحرف إلى الرمز بحيوان دلت عليه الحروف، قال الحَبْرُ الإنجليزي "صموئيل مونتج": "إنه كان يوجد كثيرا في قبور رومة صور أسماك صغيرة مصنوعة من الخشب، والعظم، وكان كل مسيحي يحمل سمكة؛ إشارةً للتعارف فيما بينهم " (¬1). وجنح الشيخ "محمد عبد العظيم الزرقاني" صاحب "مناهل العرفان" إلى تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور بالرموز التي تعارفت عليها الطوائف اليهودية من حساب الجمل، وأن القرآن قد جاء بها؛ لتتفق مع مذاهبهم، قال الشيخ: "إذا كان من طبائع الأمم التي أحاطت بالبلاد العربية، وتغلغلت فيها، ونزل القرآن لجميع الناس من عرب، وعجم، كان لابد أن يكون على منهج تَلَذُّهُ الأمم، ويكون فيه ما يألفون". ثم ذكر الشيخ حكاية حييِّ بن أخطب اليهودي؛ الذي عَدّ فيها عُمر الأمة الإسلامية (¬2)، وانتهى الشيخ بعد أن ذكر هذه الرواية -دون أن ينبه على ضعفها- إلى أن حساب الجمل كان للتعارف عند اليهود، وهو نوع من الرموز الحرفية؛ فكانت هذه الحروف لابد من نزولها في القرآن (¬3). ويعلق الدكتور "محمد محمد أبو فراخ" -حفظه الله- قائلًا: "إن هذه الحروف لم تأتِ على منهج يَلُذُّهُ اليهود، أو غيرهم؛ وإنما جاءت على منهج القرآن العظيم المتلائم المتناسب، فيما قدمه من حروف وكلمات، ¬

_ (¬1) "الجواهر في تفسير القرآن الكريم " (2/ 5). (¬2) تقدم تضعيفها ص (218). (¬3) "مناهل العرفان" (1/ 224، 225).

ومع المعاني المرادة منها، والمقاصد التي أتى بها؛ لإثبات الحق، ونفي الباطل بأعظم وجه، وأتم بيان" (¬1) اهـ. ¬

_ (¬1) "الحروف المتقطعة" ص (66).

الفصل الرابع تحديد عمر الدنيا

الفصل الرابع تحديد عُمُر الدنيا بادئ ذي بَدْءٍ نُقَرّرُ أن الخوض في هذه القضية مما لا يترتب عليه عمل؛ إذ يشبه السؤال عنها قول السائل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَتَى السَّاعَةُ؟ "، فأجابه -صلى الله عليه وسلم- جوابَ الحكيم، بخلاف ما يترقب (¬1) فقال: "وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ " (¬2)، فلكلِّ إنسانٍ ساعته، وقيامته (¬3) , والذي يعنيه: أن يستعد للقاء الله إذا حضر أجله بالعمل الصالح. قال الإمام العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني الأمير -رحمه الله تعالى-: "اعلم أن مقدار الدنيا لا يعلمه إلَّا الله، ولم يرد نص من كتاب ولا سنة في بيان ذلك، ووردت أحاديث وآثار ما يحصل بها جزم بأنه مقدار معين" (¬4) اهـ. ومع هذا، فقد خاض البعض في هذا الأمر وغلطوا؛ كما فعل الحافظ السيوطي -رحمه الله تعالى- في كتابه "الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف" (¬5) احتج فيه بأحاديث لم تصح؛ منها ما رواه الضحاك بن زمل ¬

_ (¬1) ووجهه أنه سأله عن الساعة بالمعنى الأول، وهي الساعة الكبرى، فأجابهم بالساعة الوسطى إشارة إلى أن الأهم هو ذلك، وإعلامًا بأن الساعة الكبرى قد طوى الله سبحانه عن عباده تعيينها، وأنه لا يعلمها إلَّا هو، ولا يُجَليها لوقتها إلَّا هو سبحانه. (¬2) انظر تخريجه، ص (44)، هامش رقم (4). (¬3) انظر: "تفسير المنار" (9/ 387)، وانظر: هنا ص (19 - 21). (¬4) "رسالة شريفة" ص (30). (¬5) ضمن "الحاوي" (2/ 86).

الجهني (¬1)، قال: رأيت رؤيا، قصصتها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر الحديث، وفيه: إذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات، وأنت في أعلاها درجة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَّا المِنْبَرُ الَّذِي رَأَيْتَ سَبْعِ دَرَجَاتٍ، وَأَنَا أَعْلَاهَا دَرَجَة؛ فَالدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَة، وَأَنَا في آخِرِهَا ألفًا" (¬2). وذكر الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى- في "المنار المنيف" أمورًا كلية، يُعْرَفُ بها كونُ الحديث موضوعا؛ منها: "مخالفته صريحَ القرآن؛ كحديث مقدار الدنيا، وأنها سبعة آلاف سنة، ونحن الآن في الألف السابعة، وهذا من أبين الكذب؛ لأنه لو كان صحيحًا، لكان كل واحد عالمًا أنه بقي للقيامة من وقتنا هذا مائة وإحدى وخمسون سنة" (¬3) اهـ. علمًا بأن ابن القيم عاش في القرن الثامن الهجري. وقال ابن كثير في "النهاية في الفتن والملاحم": حديث (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يُؤَلِّفُ تحت الأرض) لا أصل له (¬4)، وحديث "الدُّنيَا جُمُعَةٌ مِنْ جُمَعِ الآخِرَةِ، سبعة آلاف سنة" (¬5) لا يصح إسناده، وكذا كل حديث ورد فيه تحديد وقت القيامة على التعيين، لا يثبت إسناده (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" (11/ 351). (¬2) وهذا حديث موضوع، انظر: "ضعيف الجامع الصغير" (3/ 160) رقم (3013) (¬3) "المنار المنيف" ص (80). (¬4) "نهاية البداية والنهاية" (1/ 19)، ومعنى يؤلف هنا: يُكَمِّل ألف سنة. (¬5) أخرجه ابن جرير في "التاريخ" (8/ 1) بسنده، وفيه يحيى بن يعقوب بن مدرك بن سعيد الأنصاري، قال البخاري: "منكر الحديث" كما في "التاريخ الكبير" (4/ قسم2/ ص 313)، وشيخه حماد بن أبي سليمان فيه مقال، وشيخ ابن جرير محمد بن حميد الرازي كذبه أبو زرعة كما في "ميزان الاعتدال" (3/ 530). (¬6) "نهاية البداية والنهاية" (1/ 22)، بتصرف.

تعليق العلماء على كلام السيوطي رحمه الله

واحتج السيوطي -رحمه الله تعالى- بآثار فيها تحديد عمر الدنيا، وأغلبها إسرائيليات، وقال -رحمه الله تعالى-: "الذي دَلَّت عليه الآثار أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف سنة، ولا تبلغ الزيادة عليها خمسمائة سنة". تَعليقُ الْعُلَمَاءِ عَلَى كَلامِ السُّيُوطِيِّ رَحِمَهُ اللهُ قال الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني الأمير -رحمه الله تعالى-: "إذا أحطت علمًا بجميع ما سقناه؛ علمت بأن القول بتعيين مدة الدنيا من أولها إلى آخرها بأنه سبعة آلاف سنة لم يثبت فيه نصٌّ يُعْتَمَدُ عليه؛ وغاية ما فيه آثار عن السلف، وإن كانت لا تقال إلا عن توقيف؛ فلعلها مأخوذة عن أهل الكتاب، وفي أسانيدها مقال، وقد عُلم تغييرهم لما لديهم عن الله تعالى، وعن رسله -عليهم السلام-" (¬1) اهـ. وممن تعقب السيوطي -رحمه الله تعالى- الشيخ مرعي الكرمي في "بهجة الناظرين" قائلًا: "وهذا مردود؛ لأنَّ كل من يتكلَّم بشيء من ذلك؛ فهو ظنّ، وحسبانٌ، لا يقوم عليه برهان" (¬2). وقد بين الصنعاني -رحمه الله تعالى- أن السيوطي أقام رسالته "الكشف" على آثار بواطيل، وجمع ما تضمنته من تواريخ، وحسابات؛ فبلغت معه مائتي سنة وثلاثًا وستين سنة، ثم قال الصنعاني: "ونحن الآن في القرن الثاني عشر، ويضاف إليه مائتان وثلاث وستون سنة؛ فيكون الجميع ¬

_ (¬1) "رسالة شريفة" ص (50). (¬2) نقله عنه في "السابق" ص (189).

أربعة عشرة مائة وثلاثة وستين"، ثم قال متعقبًا السيوطي: "وعلى قوله: إنه لا يبلغ خمسمائة سنة بعد الألف، يكون منتهى بقاء الأمة بعد الألف أربعمائة سنة وثلاثًا وستين سنةً، ويتخرَّج منه أن خروج الدَّجَّال -أعاذنا اللهُ من فتنته- قبل انخرامِ هذه المائة التي نحن فيها؛ وهي المائة الثانية عشرة من الهجرة النبوية" (¬1). وعًقَّبَ عَلَى قَوْلِ الصَّنْعَانِي هَذَا القَنَّوجي؛ فَقَالَ: "وقد مضى إلى الآن على الألف نحوٌ من ثلاثمائة سنة، ولم يظهر المهدي! ولم ينزل عيسى! ولم يخرج الدَّجَّال!! فدلَّ على أن هذا الحساب ليس بصحيح" (¬2). وممن انتقد رسالة السيوطي -رحمه الله تعالى- الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله تعالى-؛ إذ قال في "المنار": "فكأن رسالته كلها مستنبطة من الخبرين الموضوعين، أي: المكذوبَيْن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتأمل -هداك الله تعالى- ما يفعل الغرور بظاهر الروايات حتى في أنفس المشتغلين بالحديث؛ كالسيوطي الذي عُدَّ من الحفاظ، وأنكر ذلك زميله السخاوي، وكلاهما من تلاميذ الحافظ ابن حجر" (¬3). وكان قد انتقد الآثار التي أوردها السيوطي، والتي فيها أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، فقال: "وقد اغتر بها من لا ينظرون في نقد الروايات إلا من جهة أسانيدها؛ حتى استنبط بعضهم منها ما بقي من عمر الدنيا، ¬

_ (¬1) "رسالة شريفة" ص (45)، وتاريخ كتابتها سنة (1167 هـ) كما صرح بذلك الصنعاني نفسه ص (40). (¬2) "الإذاعة" ص (184). (¬3) "تفسير المنار" (398/ 9).

ذكر نصوص عن العلماء المتقدمين على السيوطي في قضية "تحديد عمر الدنيا"

وللجلال السيوطي في هذا رسالة قد هدمها عليه الزمان؛ كما هدم أمثالها من التخرصات، والأوهام، وما بُث في الإسرائيليات من الكيد للإسلام" (¬1). وقال الشيخ يوسف بن عبد الله الوابل -حفظه الله-: "وكما أنه لا يعلم أحد متى تقوم الساعة، فكذلك لا يعلم أحد متى تظهر أشراط الساعة، وما ورد أنه في سنة كذا يكون كذا، وفي سنة كذا يحصل كذا فهو ليس بصحيح؛ فإن التاريخ لم يوضع في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما وضعه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؛ اجتهادًا منه، وجعل بدايته هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة" (¬2). ذِكْرُ نُصُوص عنِ الْعُلمَاءِ الْمُتَقَدِّمينَ عَلَى السُّيُوطِيِّ في قَضِيَّةِ "تَحْدِيْدِ عُمرِ الدُّنْيَا" أَوَّلًا: الإمام أبو محمد علي بن حزم (ت 456) -رحمه الله تعالى-: لم يعبأ بشيء من تلك الروايات المأثورة في هذه المسألة على طول باعه، وسَعة حفظه للآثار، وقد سبق القاضي عياضًا، والقاضي أبا بكر بن العربي، وابن خلدون في رفضه لما قيل في عمر الدنيا، والعجب أن الحافظ فاته إيرادُ ما قاله ابن حزم في هذه المسألة على سعة اطلاعه. ¬

_ (¬1) "نفسه" (9/ 393). (¬2) "أشراط الساعة" ص (65).

قال -رحمه الله تعالى- في "الفِصَل": مطلب بيان كذب من ادَّعى لمدة الدنيا عددًا معلومًا قال (أبو محمد): "وأما اختلاف الناس في التاريخ فإن اليهود يقولون: للدنيا أربعة آلاف سنة ونيف، والنصارى يقولون: للدنيا خمسة آلاف سنة، وأما نحن فلا نقطع على عدد معروف عندنا، وأما من ادَّعَى في ذلك سبعة آلاف سنة، أو أكثر، أو أقل؛ فقد كذب، وقال ما لم يأتِ قط عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه لفظة تصح، بل صح عنه -صلى الله عليه وسلم- خلافُه، بل نقطع على أن للدنيا أمدًا لا يعلمه إلا الله تعالى، قال الله -سبحانه-: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَنْتُم فِي الأمَمِ قَبْلَكُم إِلَّا كالشَّعْرَةِ البيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأسْوَدِ أَوْ الشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ"، هذا عنه عليه السلام ثابت، وهو عليه السلام لا يقول إلا عين الحق، ولا يسامح بشيء من الباطل، وهذه نسبة مَن تدبرها، وعرف مقدار أعداد أهل الإسلام، ونسبة ما بأيديهم من معمور الأرض، وأنه الأكثر؛ علم أن للدنيا عددًا لا يحصيه إلا الله الخالق تعالى، وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ" وضم أصبعيه المقدستين السبابة، والوسطى، وقد جاء النص بأن الساعة لا يعلم متى تكون إلا الله -تعالى- لا أحد سواه؛ فصح أنه -صلى الله عليه وسلم- إنما عنى شدة القرب، وله -صلى الله عليه وسلم- منذ بُعث أربعمائة عام ونيف، والله -تعالى- أعلم بمقدار ما بقي من عمر الدنيا؛ فإذا كان هذا العدد العظيم لا نسبة له عندما

ثانيا: القاضي عياض -رحمه الله تعالى-

سلف؛ لقلته وتفاهته، بالإضافة إلى ما مضى، فهذا الذي قاله -صلى الله عليه وسلم- من أننا فيما مضى كالشعرة في الثور، أو الرقمة في ذراع الحمار" اهـ. كلام ابن حزم -رحمه الله تعالى- (¬1). ثَانيًا: الْقَاضِي عِيَاضٌ -رحمه الله تعالى-: فقد نقل عنه الحافظ ابن حجر أثناء شرحه لحديث: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَة كلهَاتَينِ" قوله: حاول بعضهم في تأويله أن نسبة ما بين الأصبعين؛ كنسبة ما بقي من الدنيا بالنسبة إلى ما مضى، وأن جملتها سبعة آلاف سنة، واستند إلى أخبار لا تَصِحُّ، وذكر ما أخرجه أبو داود في تأخير هذه الأمة نصف يوم، وفسَّره بخمسمائة سنة؛ فيؤخذ من ذلك أن الذي بقي نصفُ سُبع، وهو قريب مما بين السبابة، والوسطى في الطول. قال: وقد ظهر عدم صحة ذلك؛ لوقوع خلافه، ومجاوزة هذا المقدار، ولو كان ذلك ثابتًا؛ لم يقع خلافه. ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -رحمه الله تعالى-: "قلت: وقد انضاف إلى ذلك منذ عهد عياض إلى هذا الحين ثلاثمائة سنة، وقال ابن العربي: قيل: الوُسْطَى تزيد على السبابة نصف سبعها، وكذلك الباقي من الدنيا من البعثة إلى قيام الساعة، قال: وهذا بعيدٌ، ولا يُعلَم مقدار الدنيا؛ فكيف يتحصل لنا نصف سبع أمدٍ مجهول؟ فالصواب الإعراض عن ذلك" (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) "الفِصَل في الملل والأهواء والنحل" (2/ 84، 85). (¬2) "فتح الباري" (11/ 350).

ثالثا: الإمام القرطبي

ثَالِثًا: الإِمَامُ القُرْطُبِي: قال -رحمه الله تعالى-: "إن ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- من الفتن، والكوائن أن ذلك يكون، وتعيين الزمان في ذلك من سنة كذا، يحتاج إلى طريق صحيح يقطع العذر، وإنما ذلك كوقت قيام الساعة؛ فلا يعلم أحدٌ أيَّ سنة هي؟ ولا أيَّ شهر؟ أما أنها تكون في يوم الجمعة في آخر ساعة منه، وهي الساعة التي خلق الله فيها آدم عليه السلام، ولكن أي جمعة؟ لا يعلم تعيين ذلك اليوم إلا الله وحده لا شريك له، وكذلك ما يكون من الأشراط تعيين الزمان لها لا يُعْلم، والله أعلم " (¬1). رَابِعًا: شيخ الإسلام ابن تيمية: قال -رحمه الله تعالى-: " ... ومن تكلم في وقتها المعين، مثل الذي صنف كتابًا سمَّاه "الدر المنظم في معرفة الأعظم" وذكر فيه عشر دلالات بين فيها وقتها، والذين تكلموا على ذلك من "حروف المعجم"، والذي تكلم في "عنقاء مغرب"، وأمثال هؤلاء، فإنهم -وان كان لهم صورة عظيمة عند أتباعهم- فغالبهم كاذبون مفترون، وقد تبين لديهم من وجوه كثيرة أنهم يتكلمون بغير علم؛ وإن ادَّعَوْا في ذلك الكشف ومعرفة الأسرار، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف] " (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) "التذكرة" للقوطبي، ص (628). (¬2) "مجموع الفتاوى" (4/ 342).

خامسا: الإمام الحافظ ابن كثير

خَامِسًا: الإِمَامُ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: قال -رحمه الله تعالى-: "والذي في كتب الإسرائيليين، وأهل الكتاب؛ من تحديد ما سلف بألوفٍ، ومِئين من السنين، قد نص غير واحد من العلماء على تخطئتهم فيه، وتغليطهم، وهم جديرون بذلك، حقيقون به، وقد ورد في حديث: "الذُنيَا جُمُعَةٌ مِنْ جُمَعِ الآخِرَةِ"، ولا يصح إسناده أيضًا، وكذا كل حديث ورد فيه تحديد لوقت يوم القيامة على التعيين لا يثبت إسناده" (¬1). سَادِسًا: الحافظ ابن رجب الحنبلي: قال -رحمه الله تعالى- بعدما سرد جملة من النصوص التي استدل بها من يحددون ما تبقى من عمر الدنيا: "وأخذُ بقاء ما بقي من الدنيا على التَّحديد من هذه النصوص لا يصح، فإن الله استأثر بعلم الساعة، ولم يُطْلِع عليه أحدًا من خلقه، وهو من مفاتح الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما المَسْئُولُ عَنْهَا بأَعْلمَ مِنَ السَّائِلِ"، وإنما خرج هذا من النبي -صلى الله عليه وسلم- على وجه التقريب للساعة بغير تحديد لوقتها. وقد قدمنا أن المراد بهذا الحديث مدة أمةِ محمد -صلى الله عليه وسلم- مع مدة أمةِ موسى وعيسى عليهما السلام. ¬

_ (¬1) "نهاية البداية والنهاية" (1/ 22).

فمدة هذه الأمم الثلاثِ كيوم تام، ومدة ما مضى من الأمم في أول الدنيا كليلة هذا اليوم، فإن الليل سابق للنهار، وقد خُلِقَ قبلَه -على أصح القولين- وتلك الليلة السابقة كان فيها نجوم تضيء، ويُهتدى بها، وهم الأنبياء المبعوثون فيها، وقد كان -أيضًا- فيهم قمرٌ منيرٌ وهو إبراهيم الخليل عليه السلام، إمام الحنفاء، ووالد الأنبياء، وكان بين آدم ونوح ألف سنة، وبين نوح وابراهيم ألف سنة، وبين إبراهيم وموسى عليه السلام ألف سنة، قال ذلك غير واحد من المتقدمين، حكاه عنهم الواقدي ... وأما ابتداء رسالة موسى عليه السلام فكانت كابتداء النهار، فإن موسى وعيسى ومحمدًا -صلى الله عليه وسلم- هم أصحاب الشرائع، والكتب المتبعة، والأمم العظيمة. وقد أقسم الله بمواضع رسالاتهم في قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)} [التين]، وفي التوراة: "جاء الله من طور سيناءَ، وأشرقَ مِنْ سَاعير، واستعلنَ من جبال فاران" ولهذا سَمَّى محمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- سِرَاجًا منيرًا؛ لأنَّ نوره للدنيا كنورِ الشَّمس، وأعمُّ، وأعظَمُ، وأنفَعُ، فكانتْ مدةُ عمل بني إسرائيلَ إلى ظهور عيسى كنصف النَّهارِ الأولِ، ومدةُ عملِ أُمَّةِ عيسى كما بينَ الظُّهرِ والعصر، ومُدَّةُ عملِ المسلمينَ كما بينَ العصرِ إلى غروب الشمسِ، وهذا أفضلُ أوقات النَّهار، ولهذا كانت الصَّلاةُ الوسطى العصَرَ على الصحيح، وأفضل ساعاتِ الجمعةِ، ويومٍ عرفةَ مِنَ العصر إلى غروب الشمسِ؛ فلهذا كان خيرُ قرونِ بني آدم القرن الذي بُعِثَ فيه محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وقد خرَّجَ البخاريُّ ذلك من حديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا" (¬1). اهـ ¬

_ (¬1) "فتح الباري" لابن وجب (4/ 338 - 340).

سابعا: الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى-

وقال أيضًا -رحمه الله تعالى- مشيرًا إلى حديث: "إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ مِن الْأُمَمِ قبلكم؛ كَمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُوتيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا، حَتَّى إذا انْتَصَفَ النَّهَارُ؛ عَجَزُوا" الحديث-: "وهذا الحديث إنما ساقه النبي -صلى الله عليه وسلم- مساق ضرب الأمثال، والأمثال مظنة التوسع فيها" (¬1). اهـ وقال أيضًا -رحمه الله تعالى-: "مدة الماضي من الدنيا إلى بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومدة الباقي منها إلى يوم القيامة؛ لا يعلمه على الحقيقة إلا الله -عز وجل-، وما يُذكر في ذلك فإنما هو ظنون لا تفيد علمًا" (¬2). سَابِعًا: الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ -رحمه الله تعالى-: قال في شرح حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا: "ما أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ إلَّا مِن صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ". قال الحافظ: "وله محملان: أحدهما: أن المراد بالتشبيه التقريب، ولا يُرَادُ حقيقة المقدار. وَالثَّانِي: أن يحمل على ظاهره، ويكون فيه دلالة على أن مدة هذه الأمة قدر خمسِ النهار تقريبًا" (¬3). ¬

_ (¬1) "نفسه" (341/ 4). (¬2) "نفسه"، (344/ 4). (¬3) انظر "فتح الباري" (11/ 351).

ثامنا: العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني

وقال -رحمه الله تعالى- في شرح حديث: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَة كَهَاتَيْنِ"، مُبَيّنًا وجه الشبه: "هل المراد به قرب إحداهما من الأخرى، أم التفاوت الذي بينهما في الطول؟ وما المراد به؟ والأرجح المختار عندنا من هذه الأقوال أنه ليس بينه -صلى الله عليه وسلم-، وبين الساعة نبي آخر؛ فهي تليه" (¬1) اهـ. ثامنًا: العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني: قال -رحمه الله تعالى-: (والإخبار عن قربها من مبعثه -صلى الله عليه وسلم- يحتمل أنه إخبار عن قربها عند الله -تعالى- وان كانت بعيدة في المدة ردًّا لقول المشركين بأنه لا قيام لها، وإليه أشار قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} فإنه أخرج عبد بن حميد عن الأعمش: {يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} قال: "الساعة". وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6)} قال: تكذيبهم، {وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} قال: "صدقًا كائنًا"، ويحتمل أن المراد: قرب أشراطها من بعثته -صلى الله عليه وسلم-) ... إلى أن قال: (وما وقع من الأشراط وغيره من الأحاديث مما يدل على أن المراد أنه صلى الله عليه وآله وسلم بُعثَ وقد قربت أشراط الساعة، وتقدير المضاف للقرائن ثابت لغة كتابًا وسنةً لا نكير فيه ... ثم إنه يدل لتقدير المضاف أمر آخر، وهو أنه قد مضى بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- قريب من اثنتي عشرة مائة، ولم تقم الساعة، فلا قرب لقيامها ببعثته؛ بل بأشراطها، والله أعلم) (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) نقله عنه في "المنار" (9/ 394). (¬2) "رسالة شريفة" ص (53. 55).

والحاصل أن تحديد عمر الدنيا بشيء؛ لم يثبت فيه نص في حكم المرفوع (¬1) أبدًا، وكيف يُعقل أن يحدد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر الدنيا، وقد أوحى الله تعالى إليه: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187]، وقال -عز وجل-: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)} [الزخرف: 85]، والصادق المصدوق الذي تنسب إليه الروايات الواهية في تحديد عمر الدنيا وهو -صلى الله عليه وسلم- منها براء، هو هو القائل لجبريل عليه السلام لما سأله: "متى الساعة؟ ": "ما المسئول عنها بأعلم من السائل"، وقد قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها لا الله .. ولا يعلم متى تقوم الساعة إلَّا الله" متفق عليه. ¬

_ (¬1) أما الآثار المروية في ذلك عن بعض السلف فإنها -مع معارضتها القرآن الكريم- قد دخلت على بعض التابعين أو بعض الصحابة من قِبل مسلمي أهل الكتاب ككعب الأحبار ووهب بن منبه.

فصل: نقد استدلال صاحب كتاب "عمر أمة الإسلام"

فَصْلٌ وممن خاض في هذا البحث "أمين محمد جمال الدين" في كتابه "عمر أمة الإسلام" وانتهى إلى أننا نعيش حقبة ما قبل النهاية، وهي مرحلة الاستعداد للفتن، والملاحم الأخيرة التي تسبق ظهور العلامات الكبرى. ومما استدل به: ما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّما بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِن الْأمَم (¬1) كَمَا بَيْنَ ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: وقوله- صلى الله عليه وسلم-: "إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم "إنما أراد به -والله أعلم- أتباع موسى وعيسى عليهما السلام، وقد سمى الله بني إسرائيل بانفرادهم أُمما فقال: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا} [الأعراف: 168]، ولهذا فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك بعمل أهل التوراة بها إلى انتصاف النهار، وعملِ أهل الإنجيل إلى العصر، وعمل المسلمين بالقرآن إلى غروب الشمس. ويدل على ذلك -أيضَا- حديثُ أبي موسى الذي خرَّجَه البخاريُ بعد هذا، ولفظُه: "مثلُ المسلمينَ، واليهود، والنصارى كمثلِ رجل استأجرَ قوما يعملون له إلى الليل"، وذكرَ الحديثَ كما سيأتي إن شاءَ اللهُ تعالى، وإنما قلنا: إنَّ هذا هو المرادُ من الحديث؛ لأنَّ مدة هذه الأمة بالنسبة إلى مدة الدنيا من أولها إلى آخرها لا يبلغُ قدرَ ما ببَن العصر إلى غروب الشمسِ بالنسبة إلى ما مضى من النَهار؛ بل هو أقلُّ من ذلكَ بكثيرِ. ويدلُّ عليه صريحًا: ما خرَّجه الإمام أحمدُ، والترمذيُّ من حديث أبي سعيد أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلى بهم صلاة العصر يومًا بنهارٍ، ثم قامَ خطيبًا، فلم يدع شيئًا يكونُ إلى قيام الساعة إلا أخبرنَا به، فذكرَ الحديثَ بطولِهِ، وقال في آخره: قال: وجعلنا نلتفتُ إلى الشَّمسِ هل بقي منها شيء؟ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = فقالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إنَّه لم يبقَ من الدنيا فيما مَضَى إلا كما بَقِي من يومِكم هذا فيما مضى منه". وقالَ الترمذيُّ: حديثٌ حسنٌ. وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ من حديِث ابنِ عُمَرَ قال: كُنَا جلوسَا عندَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- والشَّمسُ على قُعَيقِعانَ بعد العصر، فقالَ: "ما أعمارُكم في أعمارِ مَن مَضَى إلا كَمَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ فيما مَضَى منه". ومن حديث ابنِ عُمَرَ أَنه كَانَ واقِفًا بعرفاتٍ ينظرُ إلى الشَّمسِ حينَ تَدَلَّتْ مِثلَ التُّرسِ للغروبِ، فبكى، وقالَ: ذَكَرتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وهو واقف بمَكاني هذا، فقالَ: "أيها الناس لم يبقَ من دنياكم فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه". ويشهدُ لذلك من الأحاديثِ الصحيحةِ: قولُ النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "بعثتُ أنا والساعة كهاتينِ"، وقرنَ بين أصبعيه: السبَّابةِ والوسطى. خرَّجَاهُ في الصحيحين من حديثِ أنسٍ. وخرَجَاه -أيضًا- بمعناه من حديثِ أبي هريرةَ، وسهلِ بنِ سعدٍ. وخرَّجَه مسلمٌ بمعناه من حديثِ جابرٍ. وخرَجَ الترمذيُ من حديث المستورد بنِ شدَّادٍ عن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بُعِثْتُ في نَفَسِ الساعةِ فسبقتُهَا كما سبقت هذه هذه "لأصبعيه: السبَابةِ والوسطى. وفي "مسند الإمامِ أحمدَ" عن بُرَيدةَ، عن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بعثتُ أنا والساعةُ جميعًا إن كادت لَتَسبقُني". ورَوىَ الإمامُ أحمدُ -أيضًا- حَدَّثنا أبو حمزةَ: حَدَثني أبو حازم: لا أعلمُه إلا عن سهلِ بنِ سعدٍ، عن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "مَثلي وَمَثَلُ السَّاعةِ كهاتين"، وفرَقَ كذا بينَ أصبعيهِ الوسطى والتي تلي الإبهامَ، ثم قال: "مَثلي وَمَثَلُ السَّاعةِ كمثلِ فَرسي رِهَانٍ"، ثُم قالَ: "مَثلي وَمَثَلُ الساعةِ كمثلِ رَجُلٍ بَعَثَه قوم طليعةَ، فلمَا خَشِي أن يُسْبَقَ ألاحَ بثوبه: أُتيتم أُتيتم"، ثُم يقولُ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَا ذَاكَ". =

صَلَاةِ الْعَصْرِ اِلىَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا، حَتَّى اذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الْإِنْجِيلٍ الْإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا إلى صَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُم أُوتينَا الْقُرْآنَ، فَعَمِلْنَا الى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَأُعْطِينا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فقَالَ أَهْلُ الكِتَابِ: أَيْ رَبّنا أَعْطَيتَ هَوُلَاءِ قِيرَاطَينِ قِيرَاطَينِ، وَأَعطَيتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ونَحْنُ أكثَر عَمَلًا؟ قَالَ: قَالَ الله -عز وجل-: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالُوا: لَا، قًالَ: فهو فَضْلِي أُؤتيهِ مَنْ أَشَاءُ". وفي رواية "إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِيمَا خَلَا مِن الْأُمَمِ، كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ اِلَى مَغَارِبِ الشَّمْسِ، وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى،

_ = وكلُّ هذه النصوص تدلُّ على شدَّة اِقتراب الساعةِ كما دل عليه قولُهُ تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} [القمر]، وقولُهُ تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1]، وقد فُسِّرَ قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "بُعثْتُ أنا والساعةَ كهاتينِ"، وقَرنَ بين السبابةِ والوسطى، فَقربُ زمانِهِ من الساعةِ كقربِ السبابةِ من الوسطى، وكأن زمنَ بعثتِه يعقُبُه الساعةُ من غير نبي آخرَ بينه وبين الساعة، كما قال في الحديث الصحيح: "أَنَا الحاشرُ يُحشرُ الناسُ عَلَى قَدَمِي، وأنا العاقبُ". فالحاشر: الذي يَحشرُ الناسَ لبعثِهِم يومَ القيامةِ على قدمِهِ، يعني أن بعثَهم وحَشرَهم، يكونُ عَقِيب رسالتِهِ فهو مبعوثٌ بالرسالةِ، وعقيبه يُجمعُ الناسُ لحشرِهم. والعاقب: الذي جاء عَقيبَ الأنبياء كلهم، وليس بعدَه نبي، فكان إرسالُه من علاماتِ الساعةِ. وفي "المسند" عن ابن عمرَ، عن النَبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بعثتُ بالسيفِ بينَ يدي الساعة، حَتَى يُعبَدَ اللهُ وحدهُ لا شريكَ له". اهـ من "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب (4/ 334 - 366).

كمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ من غُدوةٍ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ، ثم قال: مَنْ يَعْمَلُ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ اِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ مِنْ العَصْرِ إِلى أَنْ تَغِيبَ الشمسُ عَلَى قِيرَاطَين قِيرَاطَين؟ فَأَنْتُم هُمْ، فَغَضِبتِ اليَهُودُ والنَّصَارَى، وَقَالُوا: مَا لَنا أَكْثَر عَمَلًا، وَأَقَل عَطَاءً؟ قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُم مِنْ حَقِّكُم شَيئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَذَلكَ فَضِلي أُؤتيْه مَنْ أَشَاءُ" (¬1). وعن أبي موسى -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَثَلُ المسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا اِلَى اللَّيْلِ، فَعَمِلُوا إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لنَا إِلَى أَجْرِكَ؛ فَاسْتَأْجَرَ آخَرِينَ، فَقَالَ: اَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ، وَلَكُمْ الَّذِي شَرَطْتُ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَالُوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا، فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا، فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ، وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ " (¬2). قال الحافظ في "الفتح": "واستُدِلَّ به على أن بقاء هذه الأمة يزيد على الألف؛ لأنه يقتضي أن مدة اليهود نظير مدتي النصارى والمسلمين، وقد اتفق أهل النقل على أن مدة اليهود إلى بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- ¬

_ (¬1) رواه البخاري (557)، (2/ 38 - فتح)، (2268)، (2269)، (3459)، (5021)، (7467)، والترمذي (2875). (¬2) رواه البخاري (558)، (2/ 38 - الفتح).

كانت أكثر من ألفي سنة (¬1)، ومدة النصارى من ذلك ستمائة- وقيل: أقل- فتكون مدة المسلمين أكثر من ألفٍ قطعًا" (¬2). ثم إن صاحب كتاب "عمر أمة الإسلام" يقول: "إن مدة عمر اليهود تساوي مدتي عمر النصارى والمسلمين مجتمعتين، ومدة عمر النصارى هي ¬

_ (¬1) ينبغي التنبه إلى أن هذا لا يعني أن مدة اليهود أكثر من ألفي سنة؛ لأن عمر أي أمة يكون منذ بعثة نبيها إلى بعثة النبي الذي بعده، فعمر أمة اليهود من بعثة موسى إلى بعثة عيسى عليهما السلام، وعليه فإن عمر أمة اليهود= 2000 - 600= 1400سنة. وبما أن عمر اليهود= عمر النصارى والمسلمين معًا؛ إذًا: عمر المسلمين= عمر اليهود- عمر النصارى. أي: 1400 - 600= 800 عامَا فقط. وهذه النتيجة تتناقض مع زعم أن مدة المسلمين أكثر من ألف عام كما ادعى المستدل المجهول الذي نقل عنه الحافظ، وكذا مقلدُه أمين جمال الدين، الذي وقع في ورطة، وإزاء إصراره على أن الأمة في النزع الأخير، وأننا الآن في حقبة ما قبل النهاية، وجد مخرجًا يسمح له بزيادة خمسمائة سنة، وذلك في حديث: "إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم"، فاتكأ على الزيادة الضعيفة، واستنتج أن عمر الأمة 800 مضافَا إليها خمسة مائة سنة، فيكون المجموع 800 مضافَا إليها 500= 1300 سنة. وكان قد ظفر بقول نُسب إلى أهل النقل أنهم اتففوا على أن مدة اليهود إلى بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- (أكثر) من ألفي سنة، فالتقط كلمة (أكثر)، وزعم أنها تقدر بحوالي مائة سنة. وبهذا صار عمر أمة الإسلام 1300 سنة مضافًا إليها 100 سنة= 1400 سنة. وبهذا يتضح افتقار "بحثه" إلى الموضوعية والمصداقية؟ لأنه خاضع لهوى النفس، مُنقاد لرغبة جامحة تلح عليه في كل سطر بأن تكون النتيجة -وبكل سبيل- أن الأمة الان تلفظ أنفاسها الأخيرة!! (¬2) "فتح الباري" (4/ 449).

ستمائة سنة (¬1)؛ فإذا طرحنا مدة عمر النصارى 600 سنة من ألفين- وهي مدة أهل الكتاب إلى بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- كان الناتج عمر أمة اليهود. 2000 - 600= 1400 سنة، وتزيد قليلًا. وذكر أهل النقل والتاريخ (¬2) أن هذه الزيادة تزيد عن المائة قليلًا، إذًا وبالتقريب؛ فإن عمر أمة اليهود يساوي 1500 سنة. وحيث إن عمر أمة الإسلام يساوي عمر أمة اليهود مطروحًا منه عمر أمة النصارى؛ فيكون عمر أمة الإسلام 1500 - 600= 900 سنة، وتزيد قليلًا. وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا تَعْجِزَ أُمَّتِي عِنْدَ رَبِّهَا أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ نِصْفَ يَوْم»، قِيلَ لِسَعْدٍ: وَكَمْ نِصْفُ ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ قَالَ: «خَمْسُ مِائَةِ سَنَةٍ» (¬3). فعمر أمة الإسلام= 900 مضافًا إليها 500= 1400 سنة، وتزيد قليلًا. ¬

_ (¬1) بناء على قول سلمان -رضى الله عنه-: "فترة بين عيسى ومحمد -صلى الله عليه وسلم- ستمائة سنة" عزاه في "الفتح" (2/ 40) إلى صحيح البخاري. (¬2) ولم يذكر مَنْ هؤلاء؟ ولا: أين قالوا ذلك؟ (¬3) أخرجه الإمام أحمد (1/ 70)، وأبو داود "صحيح أبي داود" (3/ 821)، وصححه الألباني أيضا في "الصحيحة" رقم (1643)، دون زيادة: "قيل لسعد: كم نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة"، فإن في إسنادها انقطاعًا، كما قال الحافظ في الفتح (351/ 11).

ثم يستند إلى قول الإمام السيوطي في رسالته المسماة "الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف" في بيان خروج المهدي: "الذي دلت عليه الآثار أن مدة هذه الأمة تزيد على الألف، ولا تبلغ الزيادة خمسمائة سنة أصلًا". ثم يقول: "ونحن الآن في سنة 1418 من الهجرة، ولكننا في سنة 1430 من البعثة، فنحن نعيش حقبة ما قبل النهاية، وفي مرحلة الاستعداد للفتن، والملاحم الأخيرة التي تسبق ظهور العلامات الكبرى" (¬1). وَالجوَابُ عَنْ هَذَا: أن الأحاديث التي استدل بها مجرد مثال، وقد قال إمام الحرمين: "إن الأحكام لا تُؤْخَذُ من الأحاديث التي تأتي لضرب الأمثال" (¬2)، وقال الحافظ ابن رجب: "وهذا الحديث إنما ساقه النبي -صلى الله عليه وسلم- مساق ضرب الأمثال، والأمثال مظنة التوسع فيها" (¬3) اهـ. ولا يلزم من التمثيل والتشبيه التسويةُ من كل جهة، قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: "لا يلزمهم من كونهم أكثر عملًا أن يكونوا أكثر زمانًا؛ لاحتمال كون العمل في زمنهم كان أشق؛ ويؤيده قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]. ¬

_ (¬1) "عمر أمة الإسلام" ص (43، 45، 48). (¬2) نقله عنه الحافظ في "الفتح" (39/ 2). (¬3) "فتح الباري" للحافظ ابن رجب (4/ 341).

ومما يؤيد كون المراد كثرة العمل وقلته، لا بالنسبة إلى طول الزمان، وقصره: كونُ أهل الأخبار متفقين على أن المدة التي بين عيسى ونبينا -صلى الله عليه وسلم- دون المدة التي بين نبينا -صلى الله عليه وسلم- وقيام الساعة؛ لأن جمهور أهل المعرفة بالأخبار قالوا: إن مدة الفترة بين عيسى ونبينا -صلى الله عليه وسلم- ستمائة سنة، وثبت ذلك في صحيح البخاري عن سلمان، وقيل: إنها دون ذلك؛ حتى جاء عن بعضهم أنها مائة وخمس وعشرون سنة، وهذه مدة المسلمين بالمشاهدة أكثر من ذلك، فلو تمسكنا بأن المراد التمثيل بطول الزمانين وقصَرهما؛ للزم أن يكون وقت العصر أطول من وقت الظهر، ولا قائل به؛ فَدَلَّ على أن المراد كثرة العمل وقلته، والله -سبحانه وتعالى- أعلم " (¬1) اهـ. وخلاصة القول في هذا: أن هذه الأحاديث إنما تدل على أنه ما بقي بالنسبة لما مضى شيء يسير، لكن لا يعلم مقدار ما مضى وما بقي إلا الله تعالى، ولم يَجِئْ فيه تحديد يصح سنده. قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "مدةُ الماضي من الدنيا إلى بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومدةُ الباقي منها إلى يوم القيامة لا يعلمُهُ على الحقيقةِ إلاَّ اللهُ -عز وجل-، وما يُذْكَرُ في ذلكَ؛ فإنَّما هو ظنون لا تفيدُ علمَا" (¬2). اهـ ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (2/ 40). (¬2) "فتح الباري" لابن رجب (4/ 344).

قال بعض العلماء: المرادُ تشبيه من تقدم بأول النهار إلى الظهر والعصر، في كثرة العمل الشَّاقِ والتكليف، وتشبيه هذه الأمة بما بين العصر والليل في قلة ذلك وتخفيفه، وليس المراد طول الزمن وقصره؛ إذ مدة هذه الأمة أطول من مدة أهل الإنجيل. وكان لهذه الأمة قيراطان من الأجر؛ لإيمانهم بموسى وعيسى مع إيمانهم بمحمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن التصديقَ عَمَلٌ. ويدل على ذلك قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)} [المائدة: 59]. ونختم هذا المبحث بما قالهُ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في سياق ذم الفلاسفة والمنجّمين، إذ قال -رحمه الله تعالى-: "ولهذا لا تزال أحكامهم كاذبة متهافتة، حتى إن كبير الفلاسفة الذي يسمونه "فيلسوف الإسلام" يعقوب بن إسحاق الكندي عملَ تسييرًا لهذه الملة: زعم أنها تنقضي عام ثلاث وتسعين وستمائة، وأَخَذَ ذلك منه مَن أخرج "مخرج الاستخراج" من حروف كلام ظهر في الكشف لبعض من أعاده، ووافقهم على ذلك مَن زعم أنه استخرج بقاء هذه الملة من حساب الجمل، الذي للحروف التي في أوائل السور" إلى أن قال -رحمه الله تعالى-: "فهذه الأمور التي توجد في ضُلَّال اليهود والنصارى وضُلَّال المشركين والصابئين من المتفلسفة والمنجمين: مشتملة من هذا الباطل على ما لا يعلمه إلا الله تعالى.

وهذه الأمور وأشباهها خارجة عن دين الإسلام، مُحَرَّمَة فيه، فيجب إنكارها، والنهي عنها على المسلمين، على كل قادر: بالعلم والبيان، واليد واللسان، فإن ذلك من أعظم ما أوجبه الله من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهؤلاء وأشباههم أعداء الرسل، وسُوسُ الملل " (¬1). اهـ ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (35/ 189 - 190).

فارغ

الباب الرابع ضوابط التعامل مع نصوص الفتن وأشراط الساعة

الباب الرابع ضوابط التعامل مع نصوص الفتن وأشراط الساعة

فارغ

أهمية المنهجية في البحث العلمي

ضوابط التعامل مع نصوص الفتن وأشراط الساعة "المنهجية" شرط لقيام العلم على ساقه، ومعناها أن تكون هناك طريقة صحيحة يلتئم تحتها شتات الوقائع والمفردات المبعثرة هنا وهناك؛ بغية تفسير ما بينها من روابط أو علاقات تنظمها قوانين محددة. و"المنهجية" تحفظ للعلم نظامه واتساقه، وتضبط العقل البشري، والوظائف الذهنية بقواعد ثابتة تعينه على الوصول إلى الحقيقة، وفهمها على ما هي عليه. إن "المنهج" السلفي قد امتاز بخصائص فائقة، أهمها: وحدة مصدر التلقي وهو مشكاة النبوة، لا غير، ثم إنه منهج توقيفي يقوم على التسليم لنصوص الوحيين الشريفين دون منازعتها بما يخالفها، بل يقف حيث تقف النصوص، بجانب أنه لا يهدر وظيفة العقل، بل يضعه موضعه اللائق به. وفي هذا الفصل محاولة لاستخراج ضوابط كلية تضبط تعاملنا مع نصوص الكتاب والسُّنَّة الصحيحة الواردة في الفتن وأشراط الساعة عسى أن تبصرنا بالطريق الأمثل لفهمها أو تطبيقها في الواقع دون إفراط ولا تفريط.

الضابط الأول: لا يستنكر توقع حصول شيء من أشراط الساعة بشروط

الضَّابِطُ الأول: لاَ يُسْتَنْكَرُ تَوَقعُ حُصُولِ شَيْءٍ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ بشُرُوط إن ترقُّبَ حصول أشراط الساعة التي تقع بإرادة الله -عز وجل- الكونية القدرية ليس بدعة ولا خطأ؛ خاصَّةً إذا تعاقبت الإرهاصات، والمقدمات التي جاءت بها الأخبار؛ ودليل ذلك أن الصحابة -رضي الله عنهم- لما سمعوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يُحَدّثُهُمْ عن الدَجال فَخَفَّضَ فيه ورفَّع؛ ظنوا أنه في طائفة النخل (¬1)، وشَكُوا في ابن صيَّادٍ أنه المسيحُ الدجال، بل منهم من أقسم لرسول الله -صلى الله عليه واله وسلم- على ذلك؛ كما في الأحاديث الصحيحة عن عمر وجابر -رضي الله عنهما- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمِ ينكر على عُمَرَ، بل قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فيكم؛ فَأنَا حَجِيجُه دُونَكُم"، وكذلك شَكَّت فيه حفصة وابن عمر، وغيرهما من الصحابة -رضي الله عنهم- (¬2). ويُرْوَى عن أبي ذز الغِفاري -رضي الله عنه-، قال: "ما تؤيسني رقة عظمي، ولا بياض شعري أن ألقى عيسى ابن مريم " (¬3). ولا يزال العلماء في كل عصر ومَصرٍ يتكلمون بذلك، ويتوقعون قربَ حصولِ بعضِ الأشراط، قال القرطبي -رحمه الله تعالى-: "كل ما وقع في حديث معاوية هذا فقد شاهدناه بتلك البلاد، وعاينَّا معظمَه إلا خروج المهدي" (¬4). اهـ ¬

_ (¬1) رواه مسلم رقم (2937)، وأبو داود رقم (4321)، (4322)، والترمذي رقم (2241). (¬2) انظر "جامع الأصول" (10/ 362 - 375). (¬3) "طبقات ابن سعد" (23/ 4). (¬4) "التذكرة" ص (725).

شروط هذا الضابط

وقال محمد صديق حسن خان -رحمه الله تعالى-: " ... وهذه الجملة من الأشراط موجودة تحت أديم السماء؛ وهي في التزايد يومًا فيومًا، وقد كادت أن تبلغ الغاية، أو قد بلغت، ولم يبقَ إلا الأشراط الكبرى التي أوَّلُها ظهورُ المهديِّ عليه السلام " (¬1). ولا شك أننا الآن أقرب إلى هذه العلامة من أي وقتٍ مضى. أَمَّا شُرُوطُ هَذَا الضَّابِطِ: فَأَوَّلُهَا: أن تبقى هذه الأشراط في دائرة التوقع المظنون دون أن نتكلف إيجادها بإجراءاتٍ من عند أنفسنا؛ لأنها أمور كونية قدرية واقعة لا محالة، ولم نخاطَب باستخراجها من عالَم الغيب إلى عالم الشهادة. وَثَانيهَا: أن يُراعَى الترتيبُ الزمني لتسلسل الأشراط؛ طبقًا لما دلت عليه نصوص الوحي الشريف، وعدم القطع بزمان أو ترتيب ما لا دليل على زمنه وترتيبه إلا الظن والتخمين (¬2). ¬

_ (¬1) "الإذاعة" ص (110، 111). (¬2) فمن أشراط الساعة ما قطعت النصوص بتعيين ترتيبها؟ مثل: الدجال، يليه نزول المسيح، يليه يأجوج ومأجوج. ومثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال "، رواه أبو داود رقم (4294)، وحسَّنه الألباني في "صحيح إبي داود" رقم (3609). ومنها: مقدمات إجمالية ذُكِرَتْ دون تعيين ترتيبها بالنسبة لما يتوقع من الأشراط؟ كانحسار الفرات عن جبل من ذهب، وعودة أرض العرب مروجا وأنهارا، ونحو ذلك. =

سر الإختلاف في عدد وترتيب أشراط الساعة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = فَائِدَة: أَشْرَاطُ الساعَةِ قِسْمَانِ: صغرى تُوذِنُ بقرب الساعة، وكبرى تُؤْذِنُ بوقوع الساعة. وقد اختلف العلماء في عددها وترتيبها، واختلافهم في العدد يعود إلى سببين: الأوَّل: اختلافهم في صحة سند الحديث؟ فمَن تساهل، زاد في عددها، ومن تشدد ودقق، وجدها أقل. والثَّانِي: اختلافهم في تصنيف بعض الأشراط بين الصغرى والكبرى، فظهور المهدي -مثلاَ- عدَّه بعضهم من الصغرى، ورآه آخرون من الكبرى؛ كما ذهب قوم إلى أن طلوع الشمس من مغربها أول الأمارات الكبرى، ورأى آخرون أن أولها الدجال. وكثيرَا ما يحدث لدى الكلام عن الساعة وأشراطها، وعما يكون بعدها؛ أن يطويَ بعضُ الرواة بعضَ المشاهد، أو يَفهم بعضُهم عمن حدَّثه فَهمًا خاصُّا، فيصوغه بعبارته؛ فيحدث لبس أو وهم. أما اختلافهم في تسلسل وقوع بعضها -أحيانًا- فسببه عدم وجود نص صريح يبين ترتيبها حسب وقوعها، ولا سيما الكبرى، وقد جاء ذكرها في الأحاديث مجتمعة بدون ترتيب غالبًا، فقد عطفت بالواو، أو ب "أو"؟ وكلاهما لا يفيد الترتيب، بل إن الحديث الواحد ليختلف ترتيبه بين رواية ورواية؟ فحديث حذيفة بنِ أسِيد الغفاري- رضي الله عنه - وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنها -أي: الساعة- لن تقوم حتى تروْنَ قبلها عَشْرَ آياتٍ، فذكر الدخانَ، والدجالَ، والدابة" الحديث رواه مسلم عنه بلفظين مختلفين في الترتيب، رقم (2901) (2225/ 4)، وكذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- "بادروا بالأعمال ستَّا" الحديث رواه مسلم (2947) (2267/ 4)، وإحدى الروايتين بالواو، والأخرى ب "أو"، وهما لا يدلان على الترتيب، إلا أن تسلسل بعضها يقيني؟ فقد ذكرَتْ بعضُ الروايات الأشراطَ مرتبةً حسب وقوعها؟ كما في حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه- رواه مسلم رقم (2937)، (4/ 2250)، ومن ناحية أخرى فإن بعض الروايات ذكرت أن أول الآيات كذا، وبعضها ذكر أن أول الآيات غير ذلك، وقد حاول العلماء الجمع والتوفيق بين الروايات؟ بأن الأولية بينها نسبية، أو من ناحية مخصوصة؛ ففي حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: "إن أول الآيات خروجًا طلوع =

تنبيه: اعلم -رحمك الله تعالى- أن كون الشيء من أشراط الساعة لا يستلزم الحكم عليه بحكم تكليفي؛

تنبيه: اعلم -رحمك الله تعالى- أن كون الشيء من أشراط الساعة لا يستلزم الحكم عليه بحكم تكليفي؛ فإن أشراط الساعة تشتمل على: المحرم، والواجب، والمباح، والخير، والشر، فالحكم التكليفي يؤخذ من دليل آخر؛ لأن النصوص الواردة في الفتن وأشراط الساعة قد تخبر بأمور واقعة لا محالة كونًا وقدرًا، لكنها محظورة شرعًا؛ كسفر المرأة بغير محرم -مثلًا- ممنوع شرعا، لكنه واقع قدرًا، كما في الحديث: "عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الفَاقَةَ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ، فَقَالَ: «يَا عَدِيُّ، هَلْ رَأَيْتَ الحِيرَةَ؟» قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا، وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا، قَالَ «فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ (¬1) تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ، حَتَّى تَطُوفَ بِالكَعْبَةِ لاَ تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ، - قُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا البِلاَدَ؟ " الحديث (¬2). ¬

_ = الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى" الحديث؟ أي: أول الآيات التي ليست مألوفة، وهي مخالفة للعادات المستقرة، فطلوع الشمس من مغربها أول الآيات السماوية، وخروج الدابة أول الآيات الأرضية، وهما العلامة الأولى لتغيير أحوال الكون، وقرب قيام الساعة. وأكثر الخلاف إنما هو في الأشراط الكبرى، أما الصغرى؟ فأكثرها يُعرف ترتيبه من خلال حدوث بعضها إثر بعض. وانظر: "المسيح المنتظر ونهاية العالم" ص (8، 9). (¬1) الظعينة -هنا-: المرأة، انظر "النهاية" (3/ 157). (¬2) رواه البخاري (6/ 450 - فتح)، والإمام أحمد (4/ 257).

وثالثها: أن لا يؤثر هذا الترقب سلبا على أداء واجب الوقت، وتكاليف الشرع.

وعليه فلا يصح الاستدلال بمثل هذا النص على إباحة سفر المرأة بدون محرم، الذي دلت الأحاديث الصحيحة على تحريمه. وَثَالِثُهَا: أن لا يُؤَثِّرَ هذا الترقبُ سلبًا على أداء واجب الوقت، وتكاليف الشرع. والدليل على ذلك أن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين -، قد صدَّقوا بهذه الأشراط، وكانوا أول المؤمنين بها، ولم يهدروا التكاليف الشرعية كالدعوة، وطلب العلم، والجهاد انتظارًا لوقوعها؛ بل كان تصديقهم بها أكبر حافز لهم على التنافس في القربات، والاجتهاد في الطاعات؛ امتثالًا منهم لأمر نبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم-: " بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوِ الدُّخَانَ، أَوِ الدَّجَّالَ، أَوِ الدَّابَّةَ، أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ " (¬1). ونزل بين ظهرانيهم قولُ الله -عز وجل-: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} [القمر: 1]، وقوله سبحانه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)} [الأنبياء: 1]، وقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، وقوله -عز وجل-: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} الآية [الشورى: 17، 18]. ¬

_ (¬1) رواه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مسلم، رقم (2947) في الفتن، باب في بقية من أحاديث الدجال، وفي بعض الروايات: "خُويْصة" تصغير خاصة الإنسان، وهي ما يخصه دون غيره، وأراد به الموت؛ الذي يخصه، ويمنعه من العمل، إن لم يبادر به قبله؛ كما في "جامع الأصول" (10/ 412).

فائدة

وقوله عز وجل: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)} [الأحزاب: 63] (¬1)، وقد أثنى الله -عز وجل- على الصحابة- رضي الله عنهم-، وامتدح من اتَّبَعَهُمْ بإحسانٍ؛ فمن خالف هديهم؛ فقد ضَلَّ ضلالًا بعيدًا، واتَّبع غير سبيل المؤمنين (¬2). فَائِدَة عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِعًا، يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، فَأَتَى المَسْجِدَ، فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ رَأَيْتُهُ قَطُّ يَفْعَلُهُ، وَقَالَ: «هَذِهِ الآيَاتُ الَّتِي يُرْسِلُ اللَّهُ، لاَ تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ» (¬3). قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "يُشْكِل هذا الحديث مِن حيث إن للساعة مقدماتٍ كثيرةً لم تكن وقعت؛ كفتح البلاد، واستخلاف الخلفاء، وخروج الخوارج، ثم الأشراط؛ كطلوع الشمس من مغربها، والدابة، والدجال، والدخان، وغير ذلك. وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: -باحتمال أن تكون قصة الكسوف وقعت قبل إعلام النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه العلامات. -أو لعله خشي أن يكون ذلك بعض المقدمات. ¬

_ (¬1) ولا يَستبعدُ وقوعَ الساعة، واقترابَ أشراطِها إلا الغارقون في الشهوات؛ فمِن ثَمَّ جاءت هذه الآياتُ واعظة لهم ومخوفة. (¬2) وانظر تفصيل هذا الشرط الثالث ص (297 - 305). (¬3) رواه البخاري (2/ 545).

- أو أن الراويَ ظن أن الخشية لذلك، وكانت لغيره؛ كعقوبة تحدث؛ كما كان يخشى عند هبوب الريح (¬1)؛ هذا حاصل ما ذكره النووي تبعًا لغيره، وزاد بعضهم: - أن المراد بالساعة غير يوم القيامة؛ أي: الساعة التي جُعلت علامة على أمرٍ من الأمور؛ كموته -صلى الله عليه وسلم- أو غير ذلك"، ثم طفق الحافظ -رحمه الله تعالى- يُعَلِّقُ على هذه الأقوال، فقال: "وفي الأول نظر؛ لأن قصة الكسوف متأخرة جدًّا؛ فقد تقدم أن موت إبراهيم كان في العاشرة؛ كما اتَّفَقَ عليه أهل الأخبار، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكثير من الأشراط، والحوادث قبل ذلك. - وأما الثَّالِثُ؛ فتحسين الظن بالصحابي يقتضي أنه لا يجزم بذلك إلا بتوقيف. - وأما الرابع، فلا يخفى بُعْدُه. ¬

_ (¬1) وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى غيمًا -أو ريحًا- عُرِف ذلك في وجهه، قالت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفتُ في وجهك الكراهية؟ فقال: "يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عُذِّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا" رواه البخا ري (8/ 441) ومسلم (2/ 16) ص (616). وعنها -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا عصفت الريح، قال: "اللهم، إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أُرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به"، قالت: وإذا تخيَّلت السماء تغيَّر لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سُرِّي عنه، فعرفت ذلك عائشة، فسألته، فقال: "لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} " أخرجه مسلم (2/ 15/ ص 616)، تخيلت السماء: تغيَّمت، وتهيأت للمطر.

- وأقربها الثاني، فلعله خشي أن يكون الكسوف مقدمة لبعض الأشراط؛ كطلوع الشمس من مغربها، ولا يستحيل أن يتخلل بين الكسوف والطلوع المذكور أشياء مما ذكر، وتقع متتالية بعضها إثر بعض، مع استحضار قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77]. - وقيل: لعله قدَّر وقوع الممكن، لولا ما أعلمه الله تعالى بأنه لا يقع قبل الأشراط؛ تعظيمًا منه لأمر الكسوف؛ ليتبين لمن يقع له من أمته ذلك كيف يخشى ويفزع، لا سيما إذا وقع لهم ذلك بعد حصول الأشراط، أو أكثرها. - وقيل: لعل حالة استحضار إمكان القدرة غلبت على استحضار ما تقدم من الشروط؛ لاحتمال أن تكون تلك الأشراط كانت مشروطة بشرط لم يتقدم ذكره؛ فيقع المخوف بغير أشراطٍ؛ لفقد الشرط، والله سبحانه وتعالى أعلم" (¬1). اهـ. كلامه رحمه الله تعالى. وعن جابر -رضي الله عنه- قال: هَاجَتْ رِيحٌ حَمْرَاءُ بِالْكُوفَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ لَيْسَ لَهُ هِجِّيرَى إِلَّا: يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ جَاءَتِ السَّاعَةُ، قَالَ: فَقَعَدَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: إِنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ، حَتَّى لَا يُقْسَمَ مِيرَاثٌ، وَلَا يُفْرَحَ بِغَنِيمَةٍ، ثُمَّ قَالَ: بِيَدِهِ هَكَذَا - وَنَحَّاهَا نَحْوَ الشَّأْمِ - فَقَالَ: عَدُوٌّ يَجْمَعُونَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَيَجْمَعُ لَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ، قُلْتُ: الرُّومَ تَعْنِي؟ قَالَ: نَعَمْ،" ... الحديث (¬2). فتأمل كيف أنكر ابن مسعود -رضي الله عنه- غلُوَّه في توقع قيام الساعة إلى حدِّ الْقَطْعِ بأنها "جاءت" بالفعل، دون اعتبار لما قبلها من الأشراط. ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (2/ 546). (¬2) رواه مسلم في "صحيحه"، (18/ 23، 24 - نووي).

الضابط الثاني: الانتباه إلى النسبية الزمانية عند الكلام على اقتراب الساعة

الضَّابِطُ الثَّانِي: الانْتِبَاهُ إِلىَ النِّسْبِيَّةِ الزَّمَانيَّةِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى اقْتِرَاب السَّاعَةِ إن ما ورد في نصوص الوحيين من قرب قيام الساعة، وظهور أماراتها لا يعني أنها على الأبواب؛ فإن القرب والبعد كلاهما أمر نسبي، ومن يدري لعل بيننا وبينها آلافًا من السنين لا يعلمها إلا الله، ولعلها أقرب مما نتصور؟! قال تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)} [الشورى: 17]، وقال- عز وجل-: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)} [الأحزاب: 63]، وفي معناهما قوله تعالى في سياق الرد على منكري البعث والإعادة: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)} [الإسراء: 51]، وفي التعبير عن قربه ب "لعل"، و"عسى" ما يناسب عدم إطلاع اللهِ رسولَه -صلى الله عليه وسلم- على وقته، ولا شك أن قرب ذلك اليوم الذي مقداره من مبدئه إلى غايته خمسون ألف سنة مناسب له، ولما تقدم من عمر الدنيا، وبقي منه؛ فالقرب والبعد من الأمور النسبية، والمراد: قربها بالنسبة إلى ما مضى من عمر الدنيا، ولا يعلمه إلا الله تعالى (¬1). قال الله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [القتال: 18]، وعن سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بِإِصْبَعَيْهِ هَكَذَا، بِالوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ «بُعِثْتُ وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير المنار" (9/ 393). (¬2) رواه البخاري (6503)، (11/ 347 - فتح)، ومسلم (2950)، والمعنى: أننا لو قدرنا عمر الزمن بالأصبع الوسطى؛ فإن ما بقي منه عند مبعث رسول الله =

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بُعِثْتُ أَنَا والسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ؛ كَفَضْلِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى، وَضَمَّ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى" (¬1). إن بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من أشراط الساعة، وكذلك موته -صلى الله عليه وسلم-، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- لعوف بن مالك -رضي الله عنه-: "اُعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ: مَوْتي" (¬2) الحديث. وقال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} [القمر]، وقد تواترت الأحاديث بوقوع انشقاق القمر (¬3)، وعن خالد بن عمير -رضي الله عنه-، قال: خطبنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فحمِد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصَرْمٍ (¬4)، ¬

_ = -صلى الله عليه وسلم- يكون بمقدار ما تزيد الوسطى عن السبابة، وما مضى منه بمقدار السبابة من الأصبع الوسطى، قد يكون الباقي في حسَّ البشر طويلا؛ لأن إدراكهم محدود، ولكنه في ميزان الله سبحانه قريب وقصير؛ قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، وقال -عز وجل-: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77]. (¬1) رواه البخاري (6504)، (11/ 347 - فتح)، ومسلم، (2951)، والترمذي (2214، 2215). (¬2) رواه البخاري (3176)، (6/ 277). (¬3) انظر: "شرح النووي" (17/ 143)، "تفسير القرآن العظيم" (477/ 7) ط. دار الحديث- القاهرة- 1423 هـ. (¬4) صَرْم: انقطاع وانقضاء وذَهاب. حَذَّاء: خفيفة سريعة. الصُّبابة: البقية اليسيرة من الشراب، تبقى في أسفل الإناء.

وَوَلَّتْ حَذاءَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلا صُبَابَةٌ؛ كَصِّبَابَةِ الإِناَءِ؛ يَتَصَابُّهَا صَاحِبهَا" الحديث (¬1)، فإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قال هذا قبل أكثر من أربعةَ عشرَ قرنًا؛ فهمنا من هذه النصوص وغيرها أن قرب الساعة قُرْبٌ نِسْبِي؛ أي: هي قريبة بالنسبة إلى عُمر الدنيا كلها، وقد رَوَى المطلب بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه كلان واقفًا بعرفات، فنظر إلى الشمس حين تدلت مثل التُّرْس للغروب، فبكَى واشتد بكاؤه، فقال له رجلٌ عنده: يا أبا عبدِ الرحمن، قد وقفتَ معي مرارًا لم تصنع هذا، فقال: ذكرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو واقفٌ بمكاني هذا، فقال: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ دُنْيَاكُمْ فِيمَا مَضَى مِنْهَا إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ" (¬2). وقال الله -تعالى- في شأن الساعة: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف: 178]. وهذا يُفَسرُة قولُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في اقتراب الساعة، وقرب وقوعها: إِنَّهَا "كَالحَامِلِ الْمُتِمِّ الَّتي لَا يَدْرِي أَهْلُهَا مَتَى تَفْجَوُهُمْ بِوِلَادِهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا" (¬3). "والقول الجامع للآية، والحديث: إن الثِّقَلَ هو الاقتراب بصورةٍ ثابتةٍ للحق على الرغم من تغير مراحل هذا الاقتراب؛ تمامًا مثل الجنين الذي ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد رقم (17575) (29/ 114)، ومسلم رقم (2967) (14). (¬2) رواه الإمام أحمد، (6173)، (9/ 27)، وقال الشيخ أحمد شاكر: "إسناده صحيح". (¬3) عَجُز حديثٍ رواه الإمام أحمد (3556)، (5/ 189)، وقال الشيخ أحمد شاكر: "إسناده صحيح".

كل ما هو آت قريب والبعيد: ما ليس بآت

يَتَغَيَّرُ كل يوم من حالٍ إلى حال، ولكنه مُتَّجِهٌ نحو الولادة؛ فلا يخرج التغير اليومي على التوجه للولادة، وكما لا تنفصل الولادة عن لحظة الجماع الأولى؛ لا تنفصل الساعة عن بدء الخلق" (¬1). كل ما هو آتِ قريب والبعيد: ما ليس بآتِ قال العلَّامة محمد بن إسماعيل الصنعاني -رحمه الله تعالى-: "والإخبار عن قربها -أي: الساعة- من مبعثه صلى الله عليه وسلم يحتمل أنه إخبار عن قربها عند الله تعالى، وإن كانت بعيدة في المدة، ردَّا لقول المشركين بأنه لا قيام لها، وإليه أشار قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} [المعارج: 6، 7]، فإنه أخرج عبد بن حميد عن الأعمش: "يرونه بعيدًا، قال: الساعة". وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6)} قال: "تكذيبهم"، {وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} قال: "صدقًا كائنًا". ويحتمل أن المراد قربُ أشراطها من بعثته صلى الله عليه وسلم" (¬2). اهـ ثم ذكر بعض ما وقع من الأشراط، وبيَّن أن المراد من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "بُعثت أنا والساعة كهاتين" أي: "أنا وأشراط ¬

_ (¬1) "علامات الساعة" ص (29). (¬2) "رسالة شريفة" ص (53).

الساعة"، وقال: "وتقدير المضاف للقرائن ثابت لغة كتابًا وسُنَّةً لا نكير فيه" إلى أن قال -رحمه الله تعالى-: "ثم إنه يدل لتقدير المضاف أمر آخر، وهو أنه قد مضى بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- قريب من اثنتي عشرة مائة، ولم تقم الساعة، فلا قرب لقيامها ببعثته بل بأشراطها، والله أعلم" (¬1). اهـ. إن القرون -التي يستطيلها الإنسان الذي خُلق مِن عَجَل- ما هي في عمر الدنيا إلَّا لحظات، وقيام الساعة قريبٌ في علم الله تعالى، وتقديره، وإن كانت المقاييس البشرية -لو اطلعت عليه- تراه بعيدا، قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} [المعارج: 6، 7]؛ فكل ما هو آتٍ قريب، والبعيد ما ليس بآت (¬2)، وإن عامة نصوص الوحيين التي تدل على اقتراب الساعة، وأشراطها الكبرى - يجب أن تُفْهَمَ في ضوء هذه "النسبية" بين ما مضى من عمر الدنيا، وبين ما بقي منه؛ وَلَمَّا كنا لا ندري كم عمر الدنيا؛ صِرْنَا لا نستطيع الجزمَ بموعد انتهائه؛ لكننا نستطيع فقط أن نستنتج من تلك النصوص أن ما بقي بالنسبة إلى ما مضى شيء يسير، لكن -لا يَعْلَمُ مقدارَ ما مضى، وما بقي إلَّا علَّامُ الغيوب، الذي وسع كل شيء علمًا- سبحانه وتعالى-. ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (55،54). (¬2) ولو أنك أجَّلتَ مَن استدان منك أجلًا طويلًا- كأن تؤجله خمسين سنة مثلًا- فعند انقضاء خمس وأربعين سنة، تقول: إن موعد السداد قد اقترب؛ أي: بالنسبة لما مضى من الموعد المضروب.

وقد كَثُرَ ضرب الأمثال لهذه "النسبية" في الأحاديث النبوية الشريفة؛ ومن المعلوم أن الأحكام لا تؤخذ من الأحاديث التي تَرِدُ لضرب الأمثال؛ كما قال إمام الحرمين -رحمه الله تعالى- (¬1). قال الأستاذ سعيد حوى -رحمه الله تعالى- في معرض حديثه عن علامات الساعة: "وبعض الناس تَغْلِبُ عليهم أغلاط في فَهْمِ بعض هذه العلامات، أو في تقدير وقتها؛ إذ إن: - منها ما يكون قرب الساعة بقليل جدًا قبل المسيح بسنوات أو معه، ومنها ما يكون قبل ذلك بكثير جدَّا؛ فيغلطون بالجمع بينهما. - ومنها ما لا تدل عليه المقدمات الحاضرة، فيغلطون في تأويلها. - ومنها ما جعلهم عصرنا الحاضر، ومخترعاته يفهمونها فَهْمَا عاديا وهي خوارق. - ومنها ما هو دليلٌ على الخيرية يظنونه مذمومًا. فمثلًا: يَظُنُّ الناس أن الدين إلى انحسارٍ حتى خروج المهدي، مع أن المهدي قبل عيسى بقليل، وقبل ذلك يعم الإسلام العالم، وتفتح روما (¬2)، ¬

_ (¬1) نقله عنه المناوي في "الفيض" (566/ 2). (¬2) يشير إلى ما رواه الإمام أحمد (2/ 176)، والدرامي (1/ 126)، والحاكم (3/ 422)، (508/ 4)، وصححه، ووافقه الذهبي عن أبي قبيل، قال: "كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وسئل: "أي المدينتين تفتح أوَلَا: القسطنطينية أو رومية؟ "، فدعا عبد الله بصندوق له حِلَق، قال: فأخرج منه كتابَا، قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- نكتب؛ إذ سُئِلَ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "أي المدينتين تُفتح أولًا: أقسطنطينية أو رومية؟ "، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَدِينَة هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا"؛ يعني "قسطنطينية". و"رومية": هي "روما" عا صمة إيطاليا، و"قسطنطينية" هي "بيزنطة" و"إسطنبول". والحديث صححه الألبإني في "الصحيحة" رقم (4).

الفتح الثاني للقسطنطينية

والقسطنطينية اليوم مسلمة، وكانت كافرة، ففتحت (¬1)، وقد أخبر الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلم- بالفتح الأول، ولكن يبدو أن القسطنطينية سترجع كافرةً مَرَةً ثانية (¬2)، وتفتح من جديد (¬3)، وفتحها الثاني يكون قُبيل المسيح بقليل، والناس لا يفرقون بين فتحَيْها الأول والثاني. ¬

_ (¬1) وذلك بعد أكثر من ثمانمائة سنة من إخبار النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلم- بالفتح؛ أي في سنة (857هـ)، (1453م)، على يد السلطان محمد الفاتح العثماني -رحمه الله تعالى-. (¬2) قال الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله تعالى-: "وورد أن من أشراط الساعة فتحَ القسطنطينية، وهو في الصحاح، قال شيخ شيوخنا العلَّامة الشيخ محمود نشابة: (معناه: أن العرب يفتحونها من أشقياء الترك)، ولم يكن الشيخ من أهل السياسة، ولا كان في زمنه شيءٌ من التعادي بينهم وبين العرب، دع ما فعلته الحكومة التركية في هذا الزمان، من ترك شريعة الإسلام، وكان مسلمو الترك يحملون الأحاديث على فتح السلطان محمد لها، ولكنها صريحة في أن فتحها يتلوه في عهده ظهور الدجال". اهـ. من "تفسير المنار" (9/ 406). وقال العلَّامة أحمد شاكر -رحمه الله تعالى-: "فتح القسطنطينية المبشر به في الحديث سيكون في مستقبل قريب أو بعيد، يعلمه الله -عزَّ وجلَّ- وهو الفتح الصحيح لها؛ حين يعود المسلمون إلى دينهم الذي أعرضوا عنه، وأما فتح الترك الذي كان قبل عصرنا هذا؛ فإنه كان تمهيدًا للفتح الأعظم، ثم هي قد خرجت بعد ذلك من أيدي المسلمين، منذ أعلنت حكومتهم هناك أنها حكومة غير إسلامية وغير دينية، وعاهدَت الكفارَ أعداءَ الإسلام، وحُكمت أمتها بأحكام القوانين الوثنية الكافرة، وسيعود الفتح الإسلامي لها -إن شاء الله- كما بشر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". اهـ. من حاشية "عمدة التفسير" (256/ 2) (¬3) كأن الشيخ -رحمه الله تعالى- يقصد الإشارة إلي، ما ورد في صحيح مسلم؛ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- (18/ 21، 22 - نووي)، وفيه التصريح بفتح "القسطنطينية" من جديد، وقد يكون قد قصد -رحمه الله ثعالى- الإشارة إلى حديثه -رضي الله عنه- الذي قد رواه مسلم أيضًا (2920)، عنه قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم-: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = "سَمِعْتُمْ بِمَدِينَة؛ جَانِبْ مِنْهَا في البرِّ، وَجَانِب مِنْهَا في الْبَحْرِ؟ "، قالوا: نعم، يا رسول الله، قال: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَني إِسْحَاقَ، فَإِذَا جَاءُوهَا نَزَلُوا، فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ، وَلم يَرْمُوا بِسَهْم، قَالُوا: لَاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا"، الحديث، وعلق الأستاذ عادل زكي على هذا الحديث، فقال: "ومعنى ذلك: أن هذه المدينة -وهي القسطنطينية على الأرجح- ستفتح رعبَا، والنصر بالرعب مما أكرم الله تعالى به نبي هذه الأمة، ففي الحديث: "نُصِرتُ بالرعب مسيرة شهر" متفق عليه، وإلقاء الرعب في قلوب أعداء المسلمين مما يكرم الله تعالى به هذه الأمة، فالله تعالى يقول: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12] ". اهـ. وقال -وفقه الله تعالى-: (المعروف أن القسطنطينية أو استانبول حاليا ترتبط بالبحرين الأسود ومرمرة، وتطل في الوقت نفسه على البحر المتوسط، كما أن خليج البوسفور يقسمها إلى قسمين أوروبي وآسيوي، والوصف الموجود في الحديث للمدينة قد ينطبق على غير القسطنطينية، بل إنه قد يكون أشد انطباقا على مدن أخرى، فالوصف الذي وصفه القزويني لروما قديمًا كما لو كان مصمَّمًا ليدل على الوصف الموجود في الحديث .. فهو يقول في "آثار البلاد وأخبار العباد" ص (591): "روما هي مدينة لها ثلاثة جوانب في البحر والرابع في البرد" وأستطيع أن أفهم أن القزويني ربما عني بروما إيطاليا كلها الآن فهي على هذه الصفة، وربما كانت روما قديمًا على البحر بهذه الصفة وذلك لأنها الآن ليست على البحر، وربما عني مدينة البندقية الإيطالية التي ينتقل الناس بين شوارعها بالقوارب). اهـ. من "المهدي: دولة الإسلام القادمة" ص (172، 173). وقال الدكتور عمر الأشقر -حفظه الله تعالى-: "ذهب العلماء إلى أن هذه المدينة هي (القسطنطينية)، وإن لم يسمها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم- وقد خطر ببالي أن هذه المدينة قد تكون "البندقية" في إيطاليا؛ فإن جزءًا كبيرا من بيوتها مبنيٌّ في داخل البحر، وجزء في البر، وقد نظرت إلى المدينتين خلال زيارتي لكل واحدةٍ منهما؛ فرأيت "البندقية" أقربَ إلى المراد بالحديث، والله أعلم". اهـ. من "القيامة الصغرى" ص (230)، وعلي أي حال فلا يمكن الجزم في مثل هذا، والعلم عند الله تعالى.

والظاهر كما أن مدنيات قديمة كثيرة قد اندرست على مر العصور؛ فإن مدنيتنا الحاضرة لن تستمر؛ إذ إن النصُوص الكثيرة تفيد أن الناس قبل قيام الساعة لن يكونوا على شيء من العلم (¬1)، وهذا يؤكد أن بيننا، وبين القيامة شيئا من الفترة الزمنية الله أعلم به، ولكن أشراطًا كثيرة وردت في السنة الثابتة لم تقع، ويبدو أن وقوعها يحتاج إلى زمان طويل، والمسألة -بعد ذلك كله- هكذا: - ما ورد من علامات الساعة؛ إن كان وقع، فهو معجزة، وقد رأينا نماذجه في النبوءات. - وما ورد من علاماتها مما لم يقع؛ فالإيمان به واجب، والله أعلم بزمانه، وظروفه، وكيفية وقوعه. - ولن تقوم الساعة حتى تستنفد علاماتها، وأشراطها التي وردت في الكتاب، والسُّنَّة. وشيء ننبه إليه هو: أن لا يدفعنا واقع عصرنا إلى تأويل شيء من علامات الساعة التي لم تقع؛ لأن واقع عصرنا، وما فيه قد ينتهي بحرب ذرية تعود الإنسانية فيها إلى بدايتها الأولى، ولا يبقى فيها إلَّا الجاهلون" (¬2). اهـ. ¬

_ (¬1) انظر: "القيامة الصغرى" للدكتور/ عمر الأشقر -حفظه الله تعالى- (ص 274، 275). (¬2) "الإسلام" (4/ 85).

الضابط الثالث: لا يمكن إسقاط النصوص التي يطرقها الاحتمال على واقع معين إلا بعد وقوعها وانقضائها

الضَّابِطُ الثَّالث: لا يمكِنُ إِسْقَاطُ النُّصُوصِ الَّتي يَطْرُقُهَا الِاحْتِمَالُ عَلَى وَاقع مُعَيَّن إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِهَا وَاَنْقِضَائِهَا إن تنزيل النصوص الشرعية المتعلقة بالفتن والملاحم على ما يقع من النوازل مع القطع بذلك دون شك ولا تردد؛ من الرجم بالغيب، ومن القول على الله بغير علم، وقد قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وعن جُنْدَب -رضي الله عنه- قال: جِئْتُ يَوْمَ الْجَرَعَةِ (¬1)، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، فَقُلْتُ: لَيُهْرَاقَنَّ الْيَوْمَ هَاهُنَا دِمَاءٌ، فَقَالَ ذَاكَ الرَّجُلُ: «كَلَّا، وَاللهِ» قُلْتُ: بَلَى، وَاللهِ قَالَ: «كَلَّا، وَاللهِ» قُلْتُ: بَلَى، وَاللهِ قَالَ: «كَلَّا، وَاللهِ إِنَّهُ لَحَدِيثُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنِيهِ»، قُلْتُ: بِئْسَ الْجَلِيسُ لِي أَنْتَ مُنْذُ الْيَوْمِ، تَسْمَعُنِي أُخَالِفُكَ (¬2) وَقَدْ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَنْهَانِي، ثُمَّ قُلْتُ: مَا هَذَا الْغَضَبُ؟ فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ وَأَسْأَلُهُ، فَإِذَا الرَّجُلُ حُذَيْفَةُ" (¬3). فتأمل! كيف خطَّأَ حذيفة جندبًا؟ لما جزم جندب بوقوع الأمر، وكيف سارع جندب إلى الرجوع عن قوله عندما تبين له أنه جزم بالأمر بدون علم (¬4). ¬

_ (¬1) الجَرَعَةُ: موضع بقرب الكوفة على طريق الحِيرة، ويوم الجرعة يوم خرج فيه أهلُ الكوفة يتلقون واليًا ولاه عليهم عثمان -رضي الله عنه-، فردوه، وسألوا عثمان أن يولي عليهم أبا موسى الأشعري -رضي الله عنه- فولَّاه. قاله النووي في "شرح صحيح مسلم " (18/ 18). (¬2) ورُوي: أحالفك بالحاء المهملة من الحَلِف الذي هو اليمين،. وكلاهما صحيح، لكن المهملة أظهر لتكرر الأيمان بينهما. (¬3) رواه مسلم في "صحيحه" رقم (2893) (2219/ 4). (¬4) انظر: "معالم في أوقات الفتن والنوازل "للشيخ عبدى العزيز السدحان ص (55).

وعن يُسَيْر بن جابر قال: هاجت ريح حمراء بالكوفة، فجاء رجل ليس له هِجِّيرَى إلا: "يا عبد الله بن مسعود! جاءت الساعة، قال: فقعد، وكان متكئا، فقال: إن الساعةَ لا تقوم حتى لا يُقْسَمَ ميراث، ولا يُفرحَ بغنيمة، ثم قال بيده هكذا- ونحَّاها نحو الشام- فقال: عدو يجمعون لأهل الإسلام، ويجمع لهم أهل الإسلام " (¬1) الحديث. قال القرطبي- رحمه الله تعالى-: "والذي ينبغي أن يُقال به في هذا الباب أنما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن والكوائن أن ذلك يكون، وتعيين الزمان في ذلك من سنة كذا يحتاج إلى طريق صحيح يقطع العذر" (¬2). اهـ. لقد كان من هدي السلف -رحمهم الله تعالى- أنهم لا يُنَزِّلون أحاديث الفتن على واقع حاضر؛ وإنما يَرَوْنَ أصدق تفسير لها، وقوعها مطابقة لخبر النبي (¬3) - صلى الله عليه وسلم-؛ ولذلك نلاحظ أن عامَّة ¬

_ (¬1) تقدم ص (261). (¬2) "التذكرة" ص (736). (¬3) ومما يستأنس به في هذا المقام ما رواه مسلم رقم (2452)، بسنده إلى أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أسرعُكنَّ لِحاقًا بي: أطولكن يدًا"، قالتْ "فكُنَّ يتطاولْنَ أيتهن أطول يدًا"، قالت: "فكانت أطولنا يدًا زينب؛ لأنها كانت تعملُ بيدها وتَصَدَّقُ ". فقولها -رضي الله عنها-: "فكانت أطولنا يدًا زينب " معناه: أنهن ظنن أن المراد بطول اليد طول اليد الحقيقية، وهي الجارحة، فكن يذرعن أيديهن بقصبة، فكانت سودة أطولهن جارحة، وكانت زينب أطولهن يدًا في الصدقة وفعل الخير، فماتت زينب أولهن، فعلموا أن المراد طول اليد في الصدقة والجود. قال أهل اللغة: "فلان طويل اليد، وطويل الباع "، إذا كان سَمْحًا جوادًا، وضده: قصير اليد والباع، وجَعْدُ الأنامل، أي: البخيل اللئيم.

شارحي الأحاديث الشريفة كانوا يُفيضون في شرحها، واستنباط الأحكام منها، حتى إذا أتوا على أبواب الفتن، وأشراط الساعة، أمسكوا أو اقتصدوا في شرحها للغاية، وربما اقتصروا على تحقيق الحديث، واكتفوا بشرح غريبه؛ بخلاف ما يحصل من بعض المتعجلين المتكلفين اليوم؛ فإنه بمجرد ظهور بوادرَ لأحداث معينة؛ سياسية كانت، أو عسكرية، محلية، أو عالمية تستخفهم البُداءات (¬1)، وتستفزهم الانفعالات، فيُسقطون الأحاديث على أشخاص معينين، أو وقائع معينة، ثم لا تلبث الحقيقة أن تبيت، ويكتشفوا أنهم تهوروا، وتعجلوا. وربما كان دافعهم نبيلًا؛ فهم يحسبون أن إسقاط النبوءات على الواقع مما يزيد يقين المسلمين، ويقوي إيمانهم، ويمكنهم من إقامة الحجة على المكذبين بنبوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي هذا تأييدٌ لدين الحق. نقول: نعم، ولكن بالشرط المذكور آنفًا؛ لأن العجلة في مثل ذلك قد تأتي بعكس ما يشتهون؛ إذ لو خيبت الأحداث -إذا اكتملت- ظنهم، فربما جاءت النتيجة عكسية عند الكفار، وعند ضعاف المسلمين. ولا بد من أن تكون النصوص التي يطبق عليها هذا الضابط مما يطرق دلالتَه الاحتمالُ، بخلاف النصوص المحكمة التي دلَّ الدليل على المراد منها؛ بحيث لا تلتبس على أحد؛ فإنها لا تخضع لهذا الضابط؛ ¬

_ (¬1) انظر: "مفتاح دار السعادة" لابن القيم ص (169, 170) ط. دار الحديث- القاهرة- 1414 اهـ

مثل نزول المسيح -عليه السلام- من السماء عند المنارة البيضاء بدمشق، وصلاته الصبح خلف المهدي، ومثل خروج الدجال بصفته التي أخبر بها النبي -صلى الله عليه وسلم-. استطراد: قال الشيخ فيصل بن حيان آل صبحان -وفقه الله تعالى-: [اعلم أن تنزيل ما ورد من أحاديث الفتن على الأزمان المعينة أو الأشخاص المعينين على قسمين: القسم الأول: تنزيل تام: بأن يقول: إن المقصود بالحديث الفلاني هو هذا الزمان بالذات، أو إن المقصود بالشخص الفلاني المذكور في حديث كذا هو: فلان بن فلان، ونحو ذلك. وهذا النوع من التنزيل لا يجوز؛ لما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة والآثار الجسيمة، ولو لم يكن في ذلك إلا حصول فتن جديدة ليست هي المقصود بالنص لكفى، ... (¬1). القسم. الثاني: تنزيل جزئي، وإن شئت فقل: "تنزيل معنى"، بأن يُقال: إن معنى ما ورد في النص الفلاني قد وقع شيء منه في زماننا هذا؛ كحديث: "يُرفع العلم، وينزل الجهل، ويلقى الشح"، فإن قائلًا لو ¬

_ (¬1) وقد رأينا كيف أن محاولات مطابقة الأحاديث الواردة في "المهدي" على أشخاص بعينهم بدون التزام الضوابط في هذا، قد أدَّى إلى حدوث فتن جسيمة على يد مدعي المهدية، وانظر تفصيل ذلك في "المهدي" للمؤلف، وانظر فيه -أيضًا-: "فصل ضوابط الحكم على مدعي المهدية".

قال: إن زماننا هذا قد وقع فيه شيء مما ذكر فيه لما أنكر عليه أحد، ولكان قوله مقبولًا لا يرد، ومن نظر في كلام الأئمة عند شرحهم لمثل هذه الأحاديث؛ لرأى ذلك واضحًا جليًّا ... والحمد لله. فإن قال قائل: فإنه قد وُجِد في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَنْ نَزل بعضَ الأحاديث على بعض الأشخاص تنزيلًا تامًا، كما ورد عن عمر -رضي الله عنه- أنه كان يحلف أن الدجال هو ابن صياد، وتبعه على ذلك جابر -رضي الله عنه- كما في "صحيح مسلم "، وابنه عبد الله كما عند أبي داود، ولو كان الأمر كما ذكرت لما جاز لهم ذلك؟ فالجواب: أن ذلك لم يكن من عمر -رضي الله عنه- ومن معه من الصحابة اجتهادًا مِن عند أنفسهم، بل كان اعتمادًا على إقرار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في نفس الحديث المذكور، فإن جابرًا -رضي الله عنه- لما سُئل عن يمينه قال: "سمعت عمر يحلف بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا ينكره". فالذي يريد أن ينزل الأحاديث على الزمن وأهله، يحتاج إلى مثل ذلك الإقرار، وأنَّى له ذلك؟! ثم على فرض التسليم بعدم الإقرار منه -صلى الله عليه وسلم- لعمر، وأن ذلك كان منه اجتهادًا؛ فأي الناس كعمر الذي وصفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمحدَّث الملهم، والذي وافق ربَّه في مسائلَ كثيرةٍ، هذا مما لا يكون بحال.

فإن قيل: فهل يعني ذلك أن الأحاديث الواردة في وصف الفتن ليس لها معنى معين (خاص) وانما هي أمور عامة مشتركة بين الأزمنة والأمكنة والأشخاص؟ فالجواب. لا .. فإن كل ما صحَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في فتنة من الفتن لا بدَّ واقع لا محالة كما أخبر؛ فإن كان المخبَرَ عنه أشخاصٌ يكونون في الأمة: ظهر أولئك الأشخاص بأعيانهم كما أخبر؛ وعندها يعرفهم الناس بالعلامات الدالَّة عليهم الواردة في النصوص في وصفهم؛ كذي الثديَّة المذكور في قتال الخوارج (¬1)، والدجال وغيرهما. وإن كان المذكور في النص أحوالٌ وأوصافٌ للناس عامة أو لبعضهم خاصة، أو للأزمنة أو الأمكنة: وقعت تلك الأوصاف، واستحكمت، وغلبت حتى تكون مطابقة لما ورد، فيعرفها الناس حينئذٍ، كما في "الصحيحين" من حديث حذيفة -رضي الله عنه- قال: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ ¬

_ (¬1) وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر أصحابه -رضي الله عنهم- عن صفات الخوارج، فقال: "لا والذي نفسي بيده! ليخرجن قوم من أمتي تحقرون أعمالكم مع أعمالهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية"، قالوا: فهل من علامة يُعرفون بها؟ قال: "فيهم رجلٌ ذو يُدَيَّة أو: ذو ثُدَيَّة محلقي رءوسهم"، ولما قاتلهم أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- بالنهروان التمس هذا الرجل الذي نعته النبي -صلى الله عليه وسلم- فوجده في حفرة مما يلي الأرض في أربعين أو خمسين قتيلًا، فلما وجده وفق نعت النبي -صلى الله عليه وسلم- كَبَّر، وقال: "صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم". وانظر: "البداية والنهاية" (7/ 290 - 305).

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامًا، مَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، إِلَّا حَدَّثَ بِهِ»، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ قَدْ نَسِيتُهُ فَأَرَاهُ فَأَذْكُرُهُ، كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ،" (¬1). فإن قيل: فإذا كان الأمر كلما ذكرتَ فما وجه هذا التقسيم كله؟ فالجواب: أن في ذلك سدًا للذريعة على كلِّ متقوِّل ومتخرص وراجم بالغيب، حتى لا يقع الاختلاف، وتعمَّ الفتن، ويُكذَّبَ الشرعُ .. والله أعلى وأعلم] (¬2). اهـ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري رقم (6604)، ومسلم (23/ 2891) في "الفتن"، واللفظ له. (¬2) "مسائل في الفتن" ص (53 - 55) بتصرف.

الضابط الرابع: "يتعين على من يتكلم على الأحاديث: أن يحمع طرقها، ثم يجمع ألفاظ المتون إذا صحت الطرق، وبشرحها على أنه حديث واحد

الضَّابِطُ الرَّابع: "يتعين على من يتكلم على الأحاديث: أن يحمع طرقها، ثم يجمع ألفاظ المتون إذا صحَّت الطرق، وبشرحَها على أنه حديث واحد، فإن الحديث أولى ما فُسِّرَ بالحديث" (¬1) فلا بد -للوقوف على المراد من الحديث- من جمع الروايات الواردة في الموضوع الواحد: - لأن ما أُجمل في رواية قد يُفَسَّر في أخرى، وما أُبهم هنا قد يُبين هناك، وما أُطلق في موضع قد يقيد في موضع آخر. -قال الإمام أحمد- رحمه الله تعالى-: "الحديث إذا لم تجتمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضًا" (¬2). وقال الأمام ابن حزم -رحمه الله تعالى-: "تأليف كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وضم بعضه إلى بعض، والأخذ بجميعه؛ فرضٌ لا يحل سواه" (¬3). وقال الإمام ابن دقيق العيد -رحمه الله تعالى-: "الحديث إذا اجتمعت طرقه؛ فسَّر بعضُها بعضًا" (¬4). وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "الأحاديث إذا ثبتت وجب ضم بعضها إلى بعض؛ فإنها في حكم الحديث الواحد، فيُحمل ¬

_ (¬1) قاله الحافظ بنصِّه في "الفتحِ" (475/ 6). (¬2) "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع "للخطيب البغدادي (2/ 212). (¬3) "المحلى" (3/ 240). (¬4) "إحكام الأحكام" (1/ 117).

أمثلة التطبيقية لهذا الضابط

مطلقها على مقيدها، ليحصل العمل بجميع ما في مضمونها، وبالله التوفيق" (¬1). ومن الأمثلة التطبيقية لهذا الضابط: ما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَفِي نَجْدِنَا؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَفِي نَجْدِنَا؟ فَأَظُنُّهُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «هُنَاكَ الزَّلاَزِلُ وَالفِتَنُ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ» (¬2). فقد رأينا من لم يُحكم هذه القاعدة يفسر الحديث بأن نجدًا هنا هي نجد اليمامة، ثم يفسر طلوع "قرن الشيطان" بدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب التوحيدية التجديدية، ويصف أتباعه بالقرنيين، ولو خلُصت منهم النية، واحترموا القواعد العلمية، لعلموا أن "النجد" ليس اسمًا لبلد خاص، ولا لبلدة بعينها، بل يُقال لكل قطعة من الأرض مرتفعة عما حواليها: نجد، ونجود العرب عديدة. قال الكرماني -رحمه الله تعالى-: "ومن كان بالمدينة الطيبة -صلى الله على ساكنها- كان نجده بادية العراق ونواحيها، وهي مشرق أهلها" (¬3). ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (11/ 270). (¬2) البخاري (13/ 49 - فتح)، والترمذي (5/ 733)، رقم (3953). (¬3) "صحيح البخاري بشرح الكرماني" (168/ 24).

وإليه ذهب الخطابي، وابن حجر، والقسطلاني، والعيني، والمباركفوري، وقد ادعى البعض أن نجد اليمامة هي المقصودة بالحديث، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا لنجد اليمامة - وهي من اليمن؛ لأنها واقعة بينها وبين مكة- بالبركة حين قال: "اللهم بارك لنا في يَمننا"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "الإِيمَانُ يَمَانٍ وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ" (¬1). وفي بعض الروايات تفسير (نجدنا) بالعراق: حيث قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَفِي عِرَاقِنَا قَالَ: «إِنَّ بِهَا الزَّلَازِلَ، وَالْفِتَنَ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ» (¬2). وفي حديث سالم عن ابن عمر مرفوعا بلفظ: فقال رجل: يا رسولَ اللهِ وفي عِراقِنا، فأَعرضَ عنه، فردَّدها ثلاثاً، كلُّ ذلكَ يقولُ الرجلُ: وفي عِراقِنا، فيُعرضُ عنه، فقالَ: «بِها الزلازلُ والفِتنُ، وفيها يطلعُ قرنُ الشيطانِ» (¬3). وعن سالم بن عبد الله بن عمر قال: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ مَا أَسْأَلَكُمْ عَنِ الصَّغِيرَةِ، وَأَرْكَبَكُمْ لِلْكَبِيرَةِ سَمِعْتُ أَبِي عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الْفِتْنَةَ تَجِيءُ مِنْ هَاهُنَا» وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ «مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ» (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4/ 217)، (5/ 219)، ومسلم رقم (52)، والترمذي رقم (2244). (¬2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (12/ 384) رقم (13422)، وانظر: "فتح الباري" (13/ 47). (¬3) أخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/ 746، 747)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 133)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 130، 131). (¬4) رواه مسلم (2905).

أضف إلى هذا كله أدلة الواقع التاريخي؛ حيث هبَّت من العراق رياح فتن كثيرة: - منها: الجماعة الذين تألَّبوا على قتل ذي النورين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وقد استتبع ذلك حرب الجمل وصفين. - ومنها: قتل الحسين -رضي الله عنه- شهيدًا بكربلاء بعد أن خذله الشيعة، وتخلوا عنه. - ومنها: تحزُّب الخوارج، والحرورية. - ومنها: ظهور القدرية، والجهمية، والمعتزلة. - ومنها: فتنة ابن الأشعث، وثورة الزنج. - ومنها: فتنة المختار الذي ادعى النبوة. - ومنها: ما جرى في ولاية الحجاج من القتال وسفك الدماء. - ومنها: خروج التشيع والإرجاء من الكوفة، وخروج القدر، والاعتزال، والنسك الفاسد، وحركة القرامطة من البصرة. - ومنها: غزو التتار للمسلمين في القرن السابع بقيادة هولاكو. أما الفتن التي تخرج في المستقبل -ان شاء الله تعالى-: - فمنها: المقتلة التي تقع عندما يُحسر الفرات عن جبل من ذهب. - ومنها: خروج الدجال ويأجوج ومأجوج.

تنبيه خطير

أما فتن العصر الحديث: - فمنها قتال العراق وإيران الذي دام ثماني سنوات. - ومنها: غزو "صدام حسين" الكويت، وما جرَّه من بلايا ومحن على المسلمين. - ومنها: تسلط الرافضة على أهل السُّنَّة في العراق، وإراقة دمائهم. تنبيه خطير ليس يعني ما تقدم أن أهل الشرق لا خير فيهم، فإن الواقع أيضًا يشهد -في الجهة المقابلة- أن الله سبحانه وتعالى- أخرج من تلك البلاد جهابذة وفحولًا من العلماء الراسخين، والأئمة المجتهدين، والنساك الصالحين، ويكفي أن كثيرًا من كبار الصحابة -رضي الله عنهم- رحلوا إليها واستوطنوها، ومنها خرج كبار أئمة التابعين من الكوفة والبصرة وبغداد، وانتقل الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- من مكة إلى العراق؛ لنشر الكتاب وخدمة السنة، حتى لُقِّب هناك بناصر السنة، وفي العراق وُلد إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وكبار مشايخ العلم وأئمة الزهد كالجنيد، وغيره، وأكثر أئمة الجرح والتعديل من العراق. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله تعالى-: "الذم إنما يقع في الحقيقة على الحالِّ لا على المحل، ... ويكون في حال دون حال، ووقت دون وقت، بحسب حال الساكن؛ لأن الذم إنما يكون للحالِّ دون المحل، وإن كانت الأماكن تتفاضل، وقد تقع المداولة فيها، فإن الله يداول بين خلقه، حتى في البقاع، فمحل المعصية في زمن قد يكون محل طاعة في زمن آخر، وبالعكس".

ثم قال -رحمه الله تعالى-: "فلو ذُمَّ نجدٌ بمسيلمة بعد زواله، وزوال من يصدقه، لذُمَّ اليمن بخروج الأسود العنسي ودعواه النبوة ... ، وما ضرَّ المدينةَ سكنى اليهود بها، وقد صارت مهاجَرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم-، ومعقل الإسلام، وما ذُمَّت مكة بتكذيب أهلها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشدة عداوتهم، بل هي أحب أرض الله إليه" (¬1). اهـ. ¬

_ (¬1) "مجموعة الرسائل والمسائل" (4/ 264، 265) بتصرف.

الضابط الخامس: حصر مصادر التلقي فيما هو حجة شرعية، وإهدار ما عداه

الضَّابِطُ الخامِسُ: حصرُ مصادرِ التَّلقي فيما هو حجة شرعية، وإهدار ما عداه كالأحاديث الضعيفة، والموضوعة، والإسرائيليات التي تعارض ما عندنا، أو التي أُمِرْنا بالتوقف فيها، وحساب الجُمَّل المسمى بعلم الحروف، ومرويات الرافضة، وجَفْرِهم المزعوم، والمناماتِ، والتحليلات السياسية الظنية، ونحوها؛ وذلك أن الأشراط التي لما تقع غيب، ولكنه غيب صادق، ولا يكون كذلك إلا إذا كان مصدره الكتاب والسُّنَّة الصحيحة. وفي حديث جبريل المشهور أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإسلام والإيمان والإحسان وأشراط الساعة، وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"، فعدَّ أمارات الساعة من جملة الدين، وأمور الدين توقيفية لا سبيل إلى معرفتها إلا عن طريق الوحي الشريف. ومما يلاحظ انتشار القصص والروايات الواهية الضعيفة وقت الفتن، فيكثر القصاص الذين يوردون الحكايات الباطلة، والقصص التي لا أصل لها، روى ابن حبَّان عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «لَمْ يُقَصَّ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَبِي بَكْرٍ، وَلَا عُمَرَ، وَلَا عُثْمَانَ، إِنَّمَا كَانَ الْقَصَصُ زَمَنَ الْفِتْنَةِ» (¬1). ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" رقم (6261) (14/ 156)، وابن أبي شيبة (8/ 745،746)، وابن ماجه (3754)، وقال محقق "الإحسان": "إسناده صحيح".

تنبيهان: الأول. إذا صحَّ الحديث فينبغي التفريق بين قول المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، وبين اجتهاد العالم، أو الباحث في تفسيره، أو إسقاطه على الواقع؛ فقد يخطئ العالم في تحديد وقت حدوث شيء من الأشراط، أو يخطئ في ترتيبه الأحداث، أو يخطئ في فهم الحديث وتفسيره. الثاني: قد ترد بعض الآثار الصحيحةِ أسانيدُها إلى أحد الصحابة أو التابعين، مع أنها تعارض القرآن الكريم وتناقضه، فينبغي أن يُعلم أنها دخلت عليهم مِن قِبل مُسلِمةِ أهل الكتاب الذين كانوا يحدِّثون بالإسرائيليات.

الضابط السادس: ما أشكل عليك؛ فكله إلى عالمه

الضابِطُ السَّادِسُ: ما أُشْكِلَ عَلَيْكَ؛ فَكِلْهُ إلى عَالِمِهِ قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} الآية: [النساء: 83] وفي الخبر: "إنَّمَا شِفَاءُ العِي السؤالُ"، وقال أبو حامد الغزالي -رحمه الله تعالى-: "لو سكت مَن لا يعرف؛ قلَّ الاختلاف، ومن قصر باعه، وضاق نظره عن كلام علماء الأمة والاطلاع؛ فما له وللتكلم فيما لا يدريه، والدخول فيما لا يعنيه؟! وحَقُّ مثلِ هذا أن يلزم السكوت" (¬1). قال بعض السلف: "الأمور ثلاثة: أمر استبان رُشْدُه فاتبعْه، وأمر استبان غيُّه فاجتنبه، وأمر أُشكِلَ عليك، فَكِلْهُ إلى عالمه". وقال الحسن عند قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121]: "يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويَكِلون ما أشكل عليهم إلى عالمه " (¬2)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "ما يجيء في الحديث نعمل بمحكمه، ونؤمن بمتشابهه" (¬3). والمتشابه من الحديث: ما يفتقر -للوصول إلى معناه المرادِ منه- إلى غيره، والمحكم: هو الذي لا يُحتاج -للوقوف على معناه المرادِ منه- إلى غيره. ¬

_ (¬1) انظر: "الحاوي" (2/ 116). (¬2) "مجموع الفتاوى" (17/ 386). (¬3) "الرسالة التدمرية" ص (96).

وحكم المتشابه أن يردَّ إلى المحكم ليبينه، ويزيل اشتباهه. مثال الحديث المتشابه (¬1): ما رواه ابن مسعود -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» (¬2). فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن" من المتشابه، إذ ظاهره غيرُ مراد، والنصوص الآمرة بالصبر على جور الأئمة، وترك الخروج عليهم كثيرة محكمة، فيرد المتشابه إليها، فإن ابن مسعود -رضي الله عنه- نفسه قد روى مرفوعًا: "اصبروا حتى تلقوني"، ولهذا بيَّن ابن رجب -رحمه الله تعالى- أن قوله: "فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن" لا يُراد به القتال، وانما تغيير المنكرات التي فعلوها، أو المظالم التي يأمرون بها، لمن كان له قدرة على ذلك، وأَمِن تعديَ الأذى إلى غيره من أهل أو جيران، ونقل نصَّ الإمام أحمد على ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "منهج أهل السُنَّة في التعامل مع نصوص الفتن والملاحم" للشيخ محمد بن عمر بازمول ص (31 - 37). (¬2) أخرجه مسلم رقم (50). (¬3) انظر: "جامع العلوم والحكم" (2/ 248، 249).

الوضوح والإشكال في النصوص الشرعية أمر نسبي

تنبيه: اعلم -رحمك الله- أنه ليس في نصوص الوحيين الشريفين ما هو مشكِل من حيث الواقع، بحيث لا يمكن أحدَا من الأمة أن يعرف معناه، وإنما الوضوح والإشكال في النصوص الشرعية أمر نسبي، يختلف فيه الناس بحسب ما عندهم من العلم والفهم، فما يكون مشكلًا عند شخص قد لا يكون كذلك عند آخر، بل يكون عنده واضحًا جليَّا (¬1). وَهَاكَ أَمْثِلَةً لِمَا يُشْكِلُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ في بَابِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَجَوَابِ الْعُلَمَاءِ عَنْهَا: 1 - ذكر فتح القسطنطينية عقب الملحمة، وقبيل خروج الدجال؛ مع أنها فُتِحتْ على يد محمدِ الفاتح العثماني؛ والجواب: أنه فتح آخر غير الفتح الأول؛ كما تقدم قريبَا (¬2). 2 - جفاف بحيرة طبرية الذي ذُكر في حديث الجساسة على أنه أحد مقدمات خروج الدجال، وقد جفت بحيرة طبرية الآن (¬3)، أو كادت، وهذا لا يعني بالضرورة تحقق تلك العلامة؛ لأن من المحتمل أن تمتلئ البحيرة من جديد، ثم تجف قبل ظهور الدجال، أو قد تبقى جافَّةً مُدَّةَ ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (17/ 307). (¬2) راجع ص (267 - 269). (¬3) وقد نشر في السبعينيات بجريدة الأخبار (28/ 9/ 73) صورة فتاة تقف على أرض البحيرة الجافة وقد تشققت، وكتب عليها: "وجفت المياه في بحيرة طبرية".

يعلمها الله إلى ظهور الدجال، وعليه؛ فلا يشكل قول الدجال: "أما إن ماءها يوشك أن يذهب" (¬1)؛ لأن القرب هنا نِسْبِيّ؛ كما تقدم (¬2). بل قد ثبت في الحديث أن يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً ¬

_ (¬1) جزء من حديث الجساسة، الذي رواه مسلم (2942). (¬2) ومما يناسب إيراده في هذا المقام ما حكاه بعض الأفاضل؛ وأَقَرَّهُ بلهجة الاستحسان، عن شيخ صالح من الأردن يُدْعَى "الدباغ"، قال: "كان هذا الشيخ يقول للناس، ويقسم أن بريطانيا وحلفاءها سينتصرون في الحرب العالمية الثانية على ألمانيا! وكان الناس يعجبون من ذلك! بل لقد أسرَّ إليه بعض المقربين أن الشكوك بدأت تحوم حوله؛ بانه يقوم بالدعاية لبريطانيا، وفد بيَّن الشيخ -رحمه الله- الأساس الذي بنى عليه يقينه؛ وهو أنه ربط بين حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي بَيَّن أن المسلمين سيقاتلون اليهود قبل قيام الساعة، وبين أحداث عصره؛ فبريطانيا الدولة المنتدبة على فلسطين هي التي رعت فكرة قيام الدولة اليهودية منذ وعد بلفور، وما تلا ذلك من أحداث، ولن تقوم لليهود دولة إلَّا إذا انتصرت بريطانيا! ولو انتصرت ألمانيا؛ لتبدد الحلم اليهودي في الدولة! وقد كان ما فهمه الشيخ من حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وفسر به أحداث عصره، بل تنبأ بالشيء قبل أن يكون". اهـ. من مجلة "البيان" عدد (33)، (1411) هـ، ص (17)، وهذا الذي فهمه الشيخ الدباغ محتمل، ولم يكن مؤكدًا؛ لأنه يمكن -عقلًا- أن تتحول ألمانيا النازية عن عداء اليهود، وقد كان، بل صارت ألمانيا ما بعد النازية من أشد حلفاء الدولة اللقيطة، التي ابتزت أموالها بحجة التكفير عما سمي بمحارق النازية، وكان يمكن -عقلًا- أن تنتصر ألمانيا في هذه الحرب، ثم يشاء الله هزيمتها بعد ذلك، وإنما أوردتُ هذا الأنموذج التطبيقي؛ لندرك أهمية التمييز -في مثل هذه الكائنات- بين ما هو يقين يحلف الإنسان عليه، وبين ما هو ظن محتمل نقول فيه: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)} [الجاثية].

3 - ورد وصف الأسلحة التي تستعمل في حروب آخر الزمان

مَاءٌ" (¬1)، ومعلوم أن خروجهم إنما يكون بعد نزول عيسى -عليه السلام- وقًتْلِهِ الدَّجَّالَ. 3 - ورد وصف الأسلحة التي تستعمل في حروب آخر الزمان؛ ففي الملحمة الكبرى خيولٌ وفوارسُ (¬2)، وفي فتح القسطنطينية "الثاني": "قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُم بِالزَّيتُون" (¬3)، وبعد هلاك يأجوج ومأجوج: "سَيُوقِدُ المُسْلِمُونَ مِنْ قِسِيِّهِم، وَنُشَّابِهم (¬4)، وَأَترِسَتهم سَبعَ سنينَ" (¬5). وقد حاول بعض العلماء الإجابة عن هذا؛ فقالوا: "إن هذه الأحاديث، وأحاديث مشابهة كثيرة تدل على أن هذه الحضارة الهائلة التي اخترعت هذه القوة الهائلة من القنابل، والصواريخ؛ ستتلاشى، وتزول، وأغلب الظن أنها ستدمر نفسها بنفسها، وأن البشرية ستعود مرة أخرى إلى القتال على الخيول، واستعمال الرماح، والقسي، ونحو ذلك، والله أعلم " (¬6). في حين يرى البعض الآخر أن هذا لا يعني أن الحرب ستدور بالخيول والسيوف؛ لأن الخيول رمز المعدات الحربية أيّا كان نوعها؛ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخاطب أهل زمانه على قدر عقولهم وعلمهم. ¬

_ (¬1) جزء من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، رواه مسلم (2937)، وأبو داود (4321)، (4322)، والترمذي (2241). (¬2) كما في "صحيح مسلم " (2899)، (2223/ 4). (¬3) كما في "صحيح مسلم " (2897)، (4/ 2221). (¬4) النُشَّاب: النَّبْل، واحدته: نُشَّابة. (¬5) رواه ابن ماجه رقم (4078)، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (1940)، (4/ 579). (¬6) انظر: "القيامة الصغرى" ص (275)، و"الأيام الأخيرة من عمر الزمن" ص (49 - 60).

4 - عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، قالت: كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة: متى الساعة؟ فنظر إلى أحدث إنسان منهم، فقال: «إن يعش هـ

وقد يُستدل لهذا بحديث "أَسْرَعُكُنَّ لِحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا" (¬1)، إذ فُهم المرادُ منه بعد حصوله، والله تعالى أعلم. 4 - عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، قَالَتْ: كَانَ الْأَعْرَابُ إِذَا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَنَظَرَ إِلَى أَحْدَثِ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ، فَقَالَ: «إِنْ يَعِشْ هَذَا، لَمْ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ، قَامَتْ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ»، قال هشام: "يعني: موتهم" (¬2). وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَيْهَةً، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى غُلَامٍ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، فَقَالَ: «إِنْ عُمِّرَ هَذَا، لَمْ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: ذَاكَ الْغُلَامُ مِنْ أَتْرَابِي يَوْمَئِذٍ (¬3). والمراد بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الساعة" في هذين الحديثين "ساعة المخاطبين"؛ لأن ساعة كل إنسان موته، وهذا الجواب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرف بأسلوب الحكيم، فإنه أجابهم بخلاف ما يترقبون، وأرشدهم إلى الاستعداد للموت، والتأهب للقاء الله؛ فإنه قريب قريب. ¬

_ (¬1) انظر: ص (272)، هامش رقم (3). (¬2) رواه البخاري (6511)، ومسلم (2952). (¬3) رواه مسلم (2953)، والأتراب: جمع تِرْب، وهو المماثل في السن.

وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- قال: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، صَلَاةَ الْعِشَاءِ، فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؟ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ» (¬1)، وإنما أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- انقضاء القرن الذي هو فيه (¬2)؛ أي: إنه بعد مائة عام يموت كل من كان حيا عندما نطق النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الحديث. ومما يدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يُرِدْ قيامَ الساعة: ما رواه جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ: «تَسْأَلُونِي عَنِ السَّاعَةِ؟، وَإِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ، وَأُقْسِمُ بِاللهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ» (¬3). قال ابن الأثير -رحمه الله تعالى-: "والمعنى في الحديث: أن كل من هو موجود الآن -يعني ذلك الوقت إلى انقضاء ذلك الأمد المعين- يكونون ¬

_ (¬1) رواه البخاري (116)، ومسلم (2537)،- واللفظ له- والترمذي (2252)، وتتمته: قال ابن عمر: فَوَهَلَ الناس في مقالة رسول الله تلك، فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة، وإنما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد"، يريد بذلك أن ينخرم القرن؛ أي: ينقطع وينقضي، والقرن من الزمان: أهل زمان مخصوص، ووَهَلَ: غَلِط وذهب وَهْمُه إلى غير الصواب. (¬2) وهذا ما يُطلق عليه بعضهم "الساعة الوسطى"، كما في "المفردات" للراغب ص (434، 435) قال: "والساعة الوسطى، وهي موت أهل القرن الواحد". (¬3) رواه مسلم (2538)، والترمذي (2251).

قد ماتوا، ولا يبقى منهم على الأرض أحد؛ لأن الغالب على أعمارهم لا يتجاوز ذلك الأمد الذي أشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتكون قيامة أهل ذلك العصر قد قامت" (¬1). ¬

_ (¬1) "جامع الأصول" (10/ 388).

فارغ

الباب الخامس: [المهدي]

الباب الخامس الفصل الأول: مهدينا ليس مُنْتَظَرًا الفَصْلُ الثاني: في وُجُوبِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَعَدَمِ مُنَافَاةِ ذَلِكَ لِلتَّوَكُّلِ الفصل الثالث: هل تعود الخلافة قبل ظهور المهدي؟

فارغ

لا نعطل السنن، والأسباب بحجة انتظار المهدي

لا نُعَطِّلُ السننَ، وَالْأسْبَابَ بِحُجَّةِ انْتِظَارِ المَهْدِيّ فمن الناس من يُعَطّلُ العمل اكتفاء بالأمل، ويهرب من إصلاح الواقع المرير للأمة بحجة أنه تسبب فيه مَن قبلنا، وسيصلحه من بعدنا، ويتوقف عن السعي للتمكين لدين الله؛ بحجة أن المهدي هو الذي سيفعل؛ مما حدا ببعض الأدباء إلى أن يتهكم بهم، وبمتابعتهم الرافضة في هذا النمط السلبي من التفكير؛ قائلا: فَلْندَعِ الأرضَ لمن غَصَبُوا ولمن ظَلَمُوا في كل مكان وَلْنَذْهَبْ نبتاعُ لنا فَرَسا ولنبحثْ أَيْضًا (¬1) عن سِرداب وَلْنَضَعِ الْفَرَسَ المذكور وجوالًا من فولٍ عند السرداب ونَظَل وُقُوفا وعكوفا كالفرسِ على رأسِ السرداب فسيخرجُ يومًا مَهْدِينا ... لكن من سامراء! ¬

_ (¬1) يُعَرِّض الشاعر هنا باعتقاد الرافضة في مهديهم المعدوم الذي لم يُخْلَق أصلَا، والذي يقول فيه ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وهم ينتظرونه كل يوم، يقفون بالخيل على باب السرداب، ويصيحون به أن يخرج إليهم: "إخرج يا مولانا! "، ثم يرجعون بالخيبة والحرمان، فهذا دأبهم ودأبه"، ثم قال -رحمه الله تعالى-: "ولقد أصبح هؤلاء عارًا على بني آدم، وضحكة يسخر منهم كل عاقل". اهـ. من "المنار المنيف" ص (153،152). =

إنه هروب إلى الأماني، مع تعطيل الأسباب الشرعية، والله تعالى يقول: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء]. أَمَانِيُ إِنْ تَكُ حَقا تَكُنْ أَحْسَنَ المنى ... وَإلَّا فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَنًا رَغَدا إن هذا الإغراق في ترقب ظهور المهدي مظهر سلبي يعكس الانحراف في فَهم العَلاقة بين الأمور الكونية القدرية، وبين الأمور الشرعية الإرادية؛ أما الأمور الكونية، والأحكام القدرية -والتي يقع ضمنَها الغُيوبُ المستقبلية- فهي واقعة لا محالة، وواجبنا حيالها التصديق بها قبل وقوعها، ثم امتثال الأحكام الشرعية المتعلقة بها إذا حضر وقتها. وأما الأحكام الشرعيةُ الإراديةُ الطلبية فنحن متعبدون في كل وقت بامتثالها. وما أصدق ما نُسِبَ إلى جعفر الصادق -رحمه الله تعالى- من قوله- لمن خاض في الأحكام القدرية، وانشغل بها عن واجب الوقت-: "إن الله أراد بنا أشياء، وأراد منا أشياء، فما أراده بنا أخفاه عنا، وما أراده منا بينه لنا، فما بالنا ننشغل بما أراده بنا عما أراده منا؟! ".

_ = ويقول الشاعر متهكما بهم: مأ آنَ للسردابِ أن يَلِدَ الذي ... كَلمتموه بحهلِكم ما آنا فعلى عقولِكُمُ العَفاءُ فإنكم ... ثَلَّثتُمُ العنقاءَ والغِيلانا ولقد ضاق الرافضة بهذه السخرية ذرعا، حتى قالوا في مناشدتهم مهديِّهم الخرافي: "اخرج يا مولانا! فقد طال الانتظار، وشمت بنا الفجار" كما في "أصول مذهب الشيعة" للقفاري (2/ 1030).

مهدينا ليس منتظرا

مَهْدِيُّنا لَيس منْتَظَرًا إذا كان مفهوم "الانتظار" في وصف المهدي بأنه "منتظر" يعني تأجيلَ كلِّ جَهْدٍ، وتعطيلَ كلِّ سعيٍ من شأنه التمكينُ للإسلام، ورفعُ رايته، وإعلاءُ كلمته- ترقبًا لميلاد المهدي، أو انتظارًا لخروجه- فإن مهدِينا -أهلَ السنة- ليس منتظرًا. أما إذا كان "الانتظار" يعني مجرد ترقب ظهوره كشرط من أشراط الساعة، والاستبشار بذلك كما روي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أبشركم بالمهدي" (¬1)، ذلك الاستبشار الذي يزرع الأمل في صحراء اليأس (¬2)؛ فلا حرج في ذلك بشرط عدم تعليق الأعمال الشرعية ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 37)، (3/ 52)، وإسناده ضعيف، كما في "الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة" ص (71 - 73). (¬2) وقد كان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- تبشير المؤمنين بالنصر والتمكين وحسن العاقبة في وقت المحن، كما في حديث خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ». أخرجه البخاري (6/ 456 - فتح)، وانظر: "تفسير الطبري" (21/ 133، 134).

مفهوم "انتظار المهدي" عند الرافضة وآثاره

على خروجه (¬1)، فيكون حالنا كحال الجيش الذي يقاتل العدو، لكنه يتوقع رحمة الله بمجيء المدد {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)} [الشورى:28]. هذا هو المقصود من وصف بعض علمائنا المهديَّ بأنه "منتظر"، عكس حال إخواننا الذين انتقلت إليهم عدوى "الانتظار" بالمفهوم الشيعي الرافضي (¬2). ¬

_ (¬1) كما مر آنفًا ص (297). (¬2) يرى علماء الرافضة عدم شرعية أية راية ترفع قبل ظهور مهديهم الخرافة؛ فقد جاء في "الكافي" لشيخهم "المفيد": "كل راية ترفع قبل راية القائم؛ فصاحبها طاغوت"، وقال المازندراني في شرح النص الآنف الذكر: "وإن كان رافعها يدعو إلى الحق". اهـ. من "شرح الكافي" (12/ 371). وفي "الكافي" عن أبي عبد الله، قال: "القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير". اهـ. من "فروع الكافي" (1/ 334). والإمام المفترض الطاعة على المسلمين -في زعمهم- أختفى منذ (1168) سنة، وقبل سنة (260 هـ) هم بقية أئمتهم الاثنى عشر؛ وعليه فالجهاد مع أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- وبقية خلفاء المسلمين إلى اليوم هو حرام كحرمة الميتة والدم، ومجاهدو الصدر الأول عند الرافضة قتلة، وجهادهم باطل، لا أجر لهم فيه ولا ثواب، روى شيخهم الطوسي في "التهذيب": عن عبد الله بن سنان، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جُعِلتُ فداك، ما تقول في هؤلاء الذين يُقتلون في الثغور؟ قال: فقال: "الويلَ يتعجلون، قتلة في الدنيا، وقتلة في الآخرة، والله ما الشهيد إلا شيعتنا، ولو ماتوا على فراشهم". اهـ. من "تهذيب الأحكام" (2/ 42).

الفصل الثاني في وجوب الأخذ بالأسباب، وعدم منافاة ذلك للتوكل

الفَصْلُ الثاني في وُجُوبِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَعَدَمِ مُنَافَاةِ ذَلِكَ لِلتَّوَكُّلِ (¬1) قال الله -عز وجل-: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا} [النساء: 71]، وقال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، وقال -عزَّ وجلَّ-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} [الملك: 15]، وقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين]، وقال سبحانه: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} [الصافات: 61]، وقال -جلَّ وعلا-: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)} [الإسراء: 19]، وقال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159]. وأمر الله مريم -عليها السلام- أن تأخذ بالأسباب، وهي في أشد ضعفها، فقال -عزَّ وجلَّ-: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)} [مريم: 25]. ¬

_ (¬1) التوكل شرعًا: هو الثقة بالله، والإيقان بأن قضاءه ماضٍ، واتباع سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- في السعي فيما لابد منه من الأسباب، انظر "تفسير القرطبي" (4/ 189). ومن التوكل على الله: أن يراعيَ الإنسانُ الأسبابَ الظاهرة، ولكن لا يُعَوِّل بقلبه عليها، بل يعول على الله تعالى.

ألم تر أن الله قال لمريم ... وهُزِّي إليكِ الجِذْعَ يَسَّاقَطِ الرُّطَبُ ولو شاء أن تجنيه مِن غيرِ هَزِّهِ ... جَنَتْهُ ولكنْ كلُّ شيءٍ له سببُ وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعِدُّ لكل أَمْرٍ عُدَّتَهُ، ويرسم له خُطَّتَهُ، كما حدث في رحلة الهجرة؛ فقد أَعَدَّ الرواحِلَ والدليلَ، واختارَ الرَّفِيقَ، وَحَدَّدَ مكانَ الاختفاء إلى أن يهدأ الطلب، وأحاط ذلك كله بسياجٍ من الكتمان، وكذلك كانت سيرته في غزواته كُلِّهَا، وعليه رَبَّى أصحابه الكرام، فكانوا يَلْقَوْنَ عدوهم متحصنين بأنواع السلاح، ودخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة، والبيضة على رأسه، مع أن الله -سبحانه وتعالى- قال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، وكان إذا سافر في جهاد، أو حج، أو عمرة، حمل الزاد والمزاد. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "فحال النبي صلى الله عليه وسلم، وحال أصحابه، مَحَكُّ الأحوال، وميزانها، بها يُعْلَمُ صحيحُها من سقيمها، فإن هِمَمَهُمْ كانت في التوكل أعلى من همم مَن بعدهم" (¬1). وقال سهل: "من قال: التوكل يكون بترك العمل، فقد طعن في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" (¬2). فقد بيَّن -صلى الله عليه وسلم- أن الأخذ بالأسباب لا يُنافي التوكل على الله سبحانه وحده؛ فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» (¬3). ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (2/ 135). (¬2) "تفسير القرطبي" (4/ 189). (¬3) رواه الترمذي رقم (537)، (4/ 668)، وابن حبان في "صحيحه" رقم (2549)، "موارد" ص (633)، وقال العراقي في "المغني عن حمل الأسفار": "إسناده جيد" (4/ 279)، بهامش "الإحياء".

وعن أمير المؤمنين عمر-رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» (¬1)، وهو ظاهر في أن التوكل يكون مع السعي، لأنه ذكر للطير عملًا، وهو الذهاب صباحًا في طلب الرزق، وهي فارغة البطون، والرجوع وهي ممتلئتها. قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "ليس في الحديث دلالة على القعود عن الكسب، بل فيه ما يدل على طلب الرزق؛ لأن الطير إذا غدت فإنما تغدو لطلب الرزق" (¬2). وقيل للإمام أحمد -أيضًا-: ما تقول فيمن جلس في بيته ومسجده، وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتي رزقي؟ فقال أحمد: هذا رجلُ جَهِل العلم، أما سمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي" (¬3)؟! وقال -صلى الله عليه وسلم-: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (1/ 30، 52)، والترمذي رقم (2344) (4/ 573)، وقال: "حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وابن ماجه رقم (4164) (2/ 1394)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 381)، وصححه، ووافقه الذهبي، ورواه أبو نعيم في "الحلية" (10/ 69). (¬2) "شعب الإيمان" (2/ 66، 67). (¬3) رواه البخاري رقم (4/ 40). (¬4) أخرجه البخاري (3/ 335 - سلفية)، ومسلم (2/ 721).

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ" (¬1) الحديث. وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ: لَمَّا أَدْبَرَ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ، فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» (¬2). ونَدَّدَ عمر -رضي الله عنه- بالكسالى القاعدين عن طلب الرزق، فقال: "لا يَقْعُدَنَّ أحدُكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تُمْطِرُ ذهبًا، ولا فِضَةً، وإن الله تعالى يقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10]. قالوا جُدودٌ (¬3) وأقسامٌ فقلتُ لهم ... بلى ولكن علينا السعيُ والطلبُ وللمطالبِ أسبابٌ فقدَّرةٌ ... وبعض سعيِكَ في مطلوبك السببُ لقد كانوا يُدْرِكُونَ أن لله تعالى سُنَنًا في هذا الكون، وفي حياة البشر، غير قابلة للتغيير، ومع أن لله سبحانه سننًا خارقةً لا يعجزها شيء، إلَّا ¬

_ (¬1) رواه مسلم رقم (2664)، (4/ 2052)، وابن ماجه في "المقدمة" رقم (79)، (1/ 31)، والإمام أحمد (2/ 366، 370). (¬2) رواه الإمام أحمد (6/ 24، 25)، وأبو داود رقم (3610)، وضَعَّفَهُ النووي في "الأذكار"، وقال المنذري: "في إسناده بقية بن الوليد، وفيه مقال"، وضَعَّفَهُ الألباني في "تحقيق الكلم الطيب" ص (79). (¬3) الجُدود: جمع جَدٍّ، وهو الحظ والبخت.

أن الله -عز وجل- قضى أن تكون سنته الجارية هي الأصل الثابت في الحياة الدنيا، وأن تكون سُنَّته الخارقة استثناءً من هذا الأصل، وكلتا السُّنَّتين مرتبطة بمشيئته جل وعلا؛ ولذلك كان الصحابة -رضي الله عنهم- يحترمون السنن، ويأخذون بالأسباب دون تعليق القلوب بها، أو التوكل عليها؛ لأن الله -عز وجل- أمرهم بها، وعَلَّمهم أن الوصول إلى نتيجة معينة في واقع حياتهم مَنُوطٌ بالأخذ بالأسباب المؤدية إليها، وعلى ذلك جرت سُنَّة الله سبحانه في خلقه. قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "واعلم أن تحقيق التَّوَكُّلِ لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه وتعالى المقدورات بها، وجرت سُنَّته في خلقه بذلك؛ فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعةٌ له، والتوكل بالقلب عليه إيمانٌ به" (¬1). ولنا أن نتخيل الحال التي كان يمكن أن يئول إليها مصير الدعوة والأمة؛ لو أن الأجيال السابقة أصغوا إلى نداءات الاستسلام، وأحلام الانتظار حتى يخرج المهدي، هل كانوا سيهزمون التتار والصليبيين، ويفتحون القسطنطينية؟! ¬

_ (¬1) "جامع العلوم والحكم" ص (409).

الإفراط في الإحساس بالعجز ينشا عنه التفريط في إزاله العجز

الإفرَاطُ في الإِحسَاسِ بالعَجزِ يَنشَاُ عَنهُ التَّفرِيط في إزَالهِ العَجزِ حينما يحاول الناس ملء الفجوة بين الواقع المشهود، وبين الأمل المنشود، يختلف موقفهم تبعًا لنوعية مفاهيمهم، والذي نقصده هنا ذلك الفريق الذي إذا فكر في حل هذه المعضلة، وملء هذه الفجوة، وكان هناك اتجاهان: أحدهما: إيجابي يَطْلُبُ منه مواجهة الواقع، ومجابهة الباطل، والمثابرة على الأخذ بأسباب نهوض الأمة. والثاني: سلبيٌّ يَؤُزُّهُ على التخلي عن المسئولية الحاضرة، والفرار إلى الأماني المستقبلية، فإنه ينحاز بلا تردد، إلى الاتجاه السلبي (¬1). قال الشاعر: من عادة الإسلام يَنْصُرُ عالماً ... ويُسَوِّدُ المِقدامَ والفَعَّالا ظَلَمَتْهُ ألسنةٌ تؤاخِذه بكم ... وظلمتموه مقصِّرينَ كُسالى ¬

_ (¬1) ولعل أوضح أنموذج لهذا الاتجاه "جماعة شكري مصطفى" المعتنقين لمذهب الخوارج، والذين كانوا يرسمون خططهم المستقبلية وكأنهم يعيشون في الدنيا وحدهم، وأن ما سوف يقررونه بتفكيرهم "الذاتي" ومن تلقاء أنفسهم، هو حتمَا سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير، وكأنما يمسكون بأيديهم عجلة قيادة الأقدار، (إذ ترى جماعة شكري أن دورهم يبدأ بعد تدمير الكافرين؛ أي: بعد حرب لا تُبقي ولا تذر بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، ومن المستحيل -عندهم- قيام الخلافة الإسلامية قبل نشوب هذه الحرب، ويؤكدون أنه من سنن الله تعالى أن يكون القتال بالسلاح القديم؛ أي: بالسيوف، والحراب، والرماح، والخيول، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ ولا يكون هذا إلا بعد انقراض الأسلحة الحديثة؛ كالصواريخ، والقنابل الذرية، والطائرات الحربية، وغيرها. جاء في رسالتهم "التوسمات": "لا بد أن تُدمَر الأرض بمن عليها، وتبقى القوة المؤمنة، ويبقى السلاح الفطري". وجاء في الرسالة نفسها تحت عنوان: كيف تقوم دولة الإسلام؟ "إقامة دولة الإسلام على أنقاض دولة الكفر، ومن سننه تعالى الصراعات بين القوتين العظميين المختلفتين فكريًا، وهذا قائم بين الروس والأمريكان، كما كان قائما بين الفرس والرومان، ومن سُنَّة الله في نشوء الدعوات أن تصطرع هاتان القوتان العظيمتان في حروب طاحنة تهلك بعضها بعضًا، والجماعة المسلمة ليست على مستوى هاتين القوتين؛ فتفكير الجماعات التي تزعم الانتساب للإسلام بالانقلابات العسكرية هو سذاجة وانحراف: أن نتصور أننا سنتفوق ماديًا وعسكريًا على الجاهلية، والنصر الجاد للجماعة المسلمة هو أن تعبد الله؛ وبعد هذا يُمكن الله تعالى لها بِقَدَرِه، وبأن تقضي القوتان المتصارعتان على بعضهما تمهيدًا لنصر المؤمنين، وهذا له صلة بأسلوب القتال وسلاحه، فتدمير الكافرين بتدمير سلاحهم، وأصول قتال المسلمين هو قتال رجل لرجل، وليس قتال الجاهلية في تدمير الأرض بمن فيها بالصواريخ والقنابل الذرية، ومن سنة الله أن يكون القتال بالسلاح القديم للجماعة المؤمنة: "الجنة تحت ظلال السيوف"، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} , و"يُحرِق أحدهم وَتَر قوسِه فيأكله" رواه أحمد (4/ 217). ومن سنة الله تعالى أن يدمر الأرض بالكافرين يوم يملكون الأرض ويتبجحون فيها، {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} ". اهـ. وفي كتابهم "الخلافة" تحدثوا عن الجهد البشري والإعداد وسنن الله في أرضه، فكان مما قالوه: "وأنا لا أقول ذلك لأثبت وجوب التسابق مع الشرق والغرب في عمل قنبلة أو صاروخ، وإنما على العكس من ذلك تماما؛ فلا يمكن أن يكون ذلك التسابق هو الحل؛ حيث إن العدو قد سبق في هذا المجال، مما لا يدرك حتى لو سرنا على درب السنن الذي قد سار هو عليها، وحتى لو سمح لنا بذلك، ولن يسمح". وفي أقوال هذه الجماعة مغالطات كثيرة، من أهمها ما يلي: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ 1 - لو قرءوا التاريخ الإسلامي جيدًا وسبروا أغواره، لعلموا أن الجماعة المسلمة الأولى لم تقعد عن الجهاد بعد أن أوجبه الله عليها، وتسوغ لنفسها الأعذار، وتنتظر هلاك الفرس والرومان، وإنما خاضت حربا ضروسًا مع الدولتين، استخدمت فيها كل ما تمكنت من الحصول عليه من أسلحة عصرية حديثة، وقدمت قوافل الشهداء قافلة تلو الأخرى، وأكرمها الله بالنصر رغم أنها كانت أقل عددًا وعدة من عدوها، ورغم أن المسلمين كانوا يخوضون حربًا هجومية؛ ولهذا كان قياس جماعة شكري فاسدًا، وجميع النتائج التي انتهوا إليها ليست صحيحة. 2 - زعموا أن الجهاد الإسلامي لا يكون إلَّا بالسلاح القديم؛ كالسيف والقوس؛ ومن ثَمَّ فلا يصح أن يكون الجهاد الإسلامي المشروع -على حد زعمهم- إلَّا قتال رجل لرجل. ومن أدلتهم على ذلك قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]. وهذا الدليل حجة عليهم، وليس لهم؛ فقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا} الإعداد: تهيئة الشيء للمستقبل. {مَا اسْتَطَعْتُمْ}: {مَا} من ألفاظ العموم والاستغراق؛ أي: كل ما تقدرون عليه من أسباب القوة المادية والمعنوية. روى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر- يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي". وهذا كما قال بعض المفسرين من قبيل حديث "الحج عرفة" بمعنى: أن كلا منهما أعظم الأركان في بابه، وذلك أن رمي العدو عن بُعْدٍ بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربة، وإطلاق الرمي في الحديث يشمل كل ما يُرمى به العدو من سهم أو قذيفة منجنيق أو طيارة أو بندقية أو مدفع وغير ذلك، وإن لم يكن هذا معروفًا في عصره صلى الله عليه وسلم، فإن اللفظ يشمله، والمراد منه يقتضيه، ومن قواعد الأصول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالواجب على المسلمين في هذا العصر بنص القرآن صنع المدافع بأنواعها، والبنادق، والدبابات، والطيارات، والمناطيد، والصواريخ، والسفن الحربية، والغواصات، ويجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء وغيرها من قوى الحرب، بدليل: =

هروب بعض الجماعات _تحت وطأة الواقع_ إلى السنن الاستثنائية، وإهمال السنن العادية

فمنهم من يقول: فلننتظر على أمل أن تخرب الدنيا، وتقع حرب نووية شاملة تدمر معظم البشرية، وتقضي على كل أنواع الأسلحة المتطورة، وعندها يشير إلينا التاريخ برأسه: "أن هلموا! قد جاء دوركم"، إن هذا ليس رجاءً محمودًا، ولكنه "اليأس" الْمُقَنَّعُ. ومن هؤلاء من يستبشر بانهيار المذاهب الملحدة؛ كالشيوعية، وإفلاس الرأسمالية، وتهافت الأديان الوثنية والْمُحَرَّفَة، ويحسب أن هذا وحده يعني انتصار الإسلام، كلا؛ إن هذا لا يعني التمكين للإسلام، حتى يعود المسلمون إلى دينهم، ويثوبوا إلى ربهم، ويؤدوا واجبهم في إبلاغ الإسلام إلى البشرية، ويبذلوا الجهد في النهوض من كبوتهم. ومنهم من يترقب حصول خوارق عادات يترتب عليها التمكين لدين الله في الأرض، وهؤلاء يتناسون سُنة الله في الذين خلوا من قبلُ، وأن الابتلاء حتمي قبل التمكين؛ كما قال تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4]، وقال -عزَّ وجلَّ-: {الم (1)

_ = ما لا يتم الواجب المطلق إلا به، فهو واجب. وقد ورد أن الصحابة استعملوا المنجنيق مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة خيبر وغيرها. وكل الصناعات التي عليها مدار المعيشة من فروض الكفاية؛ كصناعات آلات القتال. وقوله تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} رباط الخيل: حبسها واقتناؤها. ورَابَطَ الجيشُ: أقام في الثغر. والغرض من هذه المرابطة يُبَيِّنه قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، ولن نرهب أعداء الله بالخيل إذا كانوا يواجهوننا بالطائرات والصواربخ والمدرعات. وجملة القول: إن قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا ان القوة الرمي" ينسف أباطيلهم كلها، ولا يُبقي لها أثرًا). اهـ. بطوله من "الحكم بما أنزل الله وأهل الغلو" (ص 265 - 268). وتجدر الإشارة إلى أن المؤلف دَوَّنَ في هذا الكتاب -بأمانة وموضوعية- ما كاد يندثر من وثائق تلك الجماعة وأخبارها.

السنن لا تحابي أحدا

{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2]، وقال سبحانه: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} الآية [آل عمران: 140]، وقال -عز من قائل-: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. لقد اقترن ميلاد الدعوة الإسلامية في غار حِرَاء بالإخبار عن حتمية جريان سُنَّة الابتلاء؛ إذ قال ورقة بن نوفل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "لم يَأتِ رجلٌ قطُّ بمثل ما جئتَ به إلَّا عُودِيَ". وقال الراهب للغلام: "أيْ بُنَيَّ، إنك خيرٌ مني، وإنك سَتُبْتَلَى". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الأنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأمْثَلُ، فَالأمثَلُ"، ولما سُئِلَ الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: أَيُّهُمَا خيرٌ للرجل: أن يُمَكَّنَ أو يُبْتَلَى؟ قال: "لا تُمَكَّنُ حتى تُبْتَلَى". فمع أن الله -عزَّ وجلَّ- قادر على أن يجعل البشر جميعًا على أتقى قلب رجل واحد منهم بكلمة من حرفين: "كن"، فيكون؛ إلَّا أن حِكْمَتَهُ -جل وعلا- اقتضت أن يُبْتَلَى الناس بعضهم ببعض؛ لتكون العاقبة للتقوى. واقتضت حكمته تعالى -أيضًا- أن تُربط المسبَّباتُ بأسبابها، والنتائج بمقدماتها، وقد أودع الله سبحانه في هذا الوجود قوانين وسننًا تحكمه، وهذه السنن تحترم من يحترمها، ولو كان كافرًا، ولا تحابي أحدًا إذا أهملها، ولو كان مؤمنًا. ولو تصور مسلم أنه إذا ألقى نفسه من مبنى شاهق فإن سنَّة أو ما يسمى "قانون الجاذبية" سوف تحابيه لإيمانه، أو تجامله ليهبط بسلام؛ فهو واهم، لأن الأصل هو إعمال تلك السنن التي لا تتبدل ولا تتحول إلَّا أن يشاء الله تعالى أن يخرق العادة، وهذا استثناء، وليس الأصل.

مقالات لبعض الناصحين للأمة يحذرون فيها من المثبطين

إن كثيرًا من الجماعات الدعوية تبني خططها على أساس ترقب حصول هذا الاستثناء، وتهمل قانون السنن الإلهية الثابتة العادلة. إن خرق العادة في كلّ موقفِ محنةٍ للمسلمين -ينافي كون الدنيا دار عمل وامتحان، والإيمان الذي ينشأ نتيجة الاضطرار لا اعتداد به؛ كإيمان الكافر عند حضور ملك الموت، واليقين الذي ينشأ اضطرارًا لا عبرة به {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة 12]. لقد أزعج هذا النمط العجيب من التفكير كثيرًا من الناصحين؛ فكتبوا يُصَحِّحُونَ المفاهيم، ويُحَذِّرُونَ الأمةَ من الذين {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} , وهاك مقالات بعضهم: أولًا: قال العلَّامَةُ المجدِّد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى-: "لا يجوز للمسلمين اليوم أن يتركوا العمل للإسلام، وإقامة دولته على وجه الأرض انتظارًا منهم لخروج المهدي، ونزول عيسى -عليهما السلام- يأسًا منهم أو توهمًا أن ذلك غير ممكن قبلهما، فإن هذا تَوَهُّم باطل، ويأسٌ عاطل؛ فإن الله تعالى أو رسوله -صلى الله عليه وسلم- لم يخبرنا أن لا عودة للإسلام، ولا سلطان له على وجه الأرض إلَّا في زمانهما؛ فمن الجائز أن يتحقق ذلك قبلهما إذا أخذ المسلمون بالأسباب الموجبة لذلك؛ لقوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقوله": {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]. ولقد كان هذا التوهم من أقوى الأسباب التي حملت بعض الأساتذة المرشدين، والكتاب المعاصرين، على إنكار أحاديث المهدي وعيسى عليهما السلام، على كثرتها وتواترها؛ لما رأوا أنها عند المتوهمين

مَدْعَاة للتواكل عليها، وترك العمل لعز الإسلام من أجلها؛ فأخطئوا في ذلك أشد الخطأ من وجهين: الأول: أنهم أقرُّوهم على هذا التوهم؛ على اعتبار أن مصدره تلك الأحاديث المشار إليها؛ وإلا لم يبادروا إلى إنكارها. والآخر: أنهم لم يعرفوا كيف ينبغي عليهم أن يعالجوا التوهم المذكور؟ وذلك بإثبات الأحاديث، وإبطال المفاهيم الخاطئة مِن حولها، وما مَثَلُهُمْ في ذلك إلا كَمَثَلِ من أنكر عقيدة الإيمان بالقدر خيرِهِ وشرّهِ؛ لأن بعض المؤمنين به فَهِمُوا منه أن لازمه الجبر، وأنَّ المكلَّف لا كسب له، ولا اختيار، ولما كان هذا الفَهْمُ باطلا بَدَاهةً سارعوا إلى إنكاره، ولكنهم أنكروا معه القدر أيضا؛ لتوهمهم -أيضا- مع المتوهمين أنه يعني الجبرَ، فوافقوهم في خطئهم في التوهم المذكور، ثم زادوا عليهم خطأً آخرَ -فِرَارا من الأول- وهو إنكارهم للقدر نفسه؛ فلولا أنهم شاركوهم في فَهْمِهِمْ منه الجبرَ لما أنكروه. وهذا عين ما صنعه البعض المشارُ إليه من الأساتذة والكُتَّاب؛ فإنهم لما رأوا تواكل المسلمين، إلا قليلًا منهم، على أحاديث المهدي وعيسى، بادروا إلى إنكارها لتخليصهم -بزعمهم- من التواكل المذكور، فلم يصنعوا شيئًا؛ لأنهم لم يستطيعوا تخليصهم بذلك من جهة؛ ولا هم كانوا على هُدًى في إنكارهم للأحاديث الصحيحة من جهة أخرى. والحقيقة: أن هؤلاء المنكرين الذين يفهمون من هذه الأحاديث ما لا تدلُّ عليه من التواكل المزعوم؛ ولذلك يبادرون إلى إنكارها تَخلُّصًا منه، قد جمعوا بين المصيبتين: الضلال في الفَهم، والكفر بالنص، ولكنهم عَرَفُوا أن الفَهْمَ المذكورَ ضلال في نفسه؛ فأنكروه بإنكار النص الذي فهموا ذلك منه.

وعَكَسَ ذلك العامَّةُ، فآمنوا بالنص مع الفَهْم المذكور، فمع كلِّ مِن الفريقين هدًى وضلال. والحق: الأخذ بهُدَى كل منهما، ونبذ الضلال الذي عندهما؛ وذلك بالإيمان بالنص دون الفهم الخاطئ. وما مثل هؤلاء وهؤلاء إلا كمثل المعتزلة من جهة، والمشبّهة من جهةٍ أخرى؛ فإن الأولين تأوَّلوا آياتِ وأحاديثَ الصفات بتاَويلَ باطلةٍ، أودت بهم إلى إنكار الصفات الإلهية، وما حملهم على ذلك إلا فِرَارُهُمْ من التشبيه الذي وقع فيه المشبِّهة. والحقيقة: أن المعتزِلَة أنفسهم شاركوا المشبّهة في فَهْم التشبيه من آيات الصفات، ولكنهم افترقوا عنهم بإنكار التشبيه بطريق التأويل الذي هو باطل -أيضًا- كالتشبيه؛ لِمَا لزم منه من إنكار الصفات الإلهية، وأما المشبّهة فلم يقعوا في هذا الباطل، ولكنهم ثبتوا على التشبيه. والحق: الجمعُ بين صواب هؤلاء وهؤلاء، وردُّ باطل هؤلاء وهؤلاء؛ وذلك بالإثبات والتنزيه؛ كما قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. وكذلك أقول في أحاديث نزول عيسى عليه السلام، وغيرها؛ فإن الواجب فيها إنما هو الإيمان بها، وردُ ما توهمه المتوهمون منها؛ من ترك العمل، والاستعداد الذي يجب القيامُ به في كل زمان ومكان، وبذلك نكون قد جمعنا بين صواب هؤلاء وهؤلاء، ورددنا باطل هؤلاء وهؤلاء، والله المستعان" (¬1). اهـ. ¬

_ (¬1) "قصة المسيح الدجال"، للألباني -رحمه الله تعالى- ص (36 - 38).

ثانيا: الأستاذ الشيخ أبو الأعلى المودودي -رحمه الله تعالى-

ثانيًا: الأستاذ الشيخ أبو الأعلى المودودي -رحمه الله تعالى-: بعد أن أنكر على من ينكرون ظهور المهدي، أنحى فضيلته باللائمة على الذين يؤمنون بظهور المهدي لكنهم يتخذون ذلك ذريعة إلى السلبية والتواكل والاستكانة بحجة انتظار المهدي، فقال -رحمه الله تعالى-: بهم "يتصورون أن الإمام المهدي سيكون رجلًا من نمط قدماء المشايخ الصوفية الذين يُفَضِّلون أورادَهم وأذكارَهم على أوراد وأذكار المصطفى صلى الله عليه وسلم، والذين يزيدون في الدين نوعًا من تزكية النفس كما يدَّعون، لأن الذي نزلت عليه الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} قصَّر بهذا، فأتت أمتُه -بدون خزعبلاتهم- قاسيةَ القلوب، رققوها وهذبوها بما استوردوه من ديانات الهند والسند، ومن رقصات السامبا والتويست، وغاب عن ذهنهم أن تزكية النفوس بالجهاد والحركة المستمرة الدءوب، فلا يسمع به الناس إلا وقد ظهر من معهد قديم، أو خرج من زاوية اعتكاف يُصَرِّف السُّبْحة بيده، ويتلو الأوراد بلسانه، ويعلن على الخلق: "أنا المهدي أيها الناس! "، وإذا العلماء والمشايخ يُهَرْوِلون إليه حاملين بأيديهم الكتبَ والأسفار، يقابلون هيئته وهندامه بما ورد فيها من سماته وعلاماته فيعرفونه، ثم تكون البيعة العامة، ويتبعها إعلان الجهاد، وهنالك يبادر جميع الدراويش المعتكفين في خلواتهم، وأما إذا قام الجهاد ووقع القتال، فلا يستعمل فيه السيف إلا تَحِلَّة القسم (¬1)، وانما تعمل البركة والتصرفاتُ الروحية عملَها في ¬

_ (¬1) تحلة القسم: أن يباشر من الفعل الذي أقسم عليه المقدار الذي يبر به قسمه، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فتمسَّه النارُ إلا تحلةَ القَسَم" رواه البخاري =

المعارك، ويُحاز الظفر والانتصار بفضل النفثات والأوراد، حيث لا يرمي المجاهدون بنظرهم إلى كافر إلا ويخِرّ مغشيًّا عليه، ولا يرفعون أيديهم بالدعاء على الأعداء إلا وتخور هممهم، وتنخر الديدان في طائراتهم ودباباتهم ... فهذا مثل تصورات عامة المسلمين في ظهور الإمام المهدي، ولكن الذي أفهمه في أمره هو أن الحقيقة على عكس ذلك كلّه؛ فالذي أقدِّره وأتصوره أن الإمام المنتظر سيكون زعيمًا من الطراز الأحدث في زمانه، بصيرًا بالعلوم الجديدة بصر المجتهد المُطَّلِع، ويكون جيد الفهم لمسائل الحياة، ويبرهن للعالمين رجاحة عقله وفكره، وبراعة تفكيره السياسي، وكمال حذقه لفنون الحرب، ويبز كلَّ أبناء زمانه الجدد في تقدمه وارتقائه، وإني لأخشى أن حضرات المشايخ ورجال الدين هؤلاء هم يكونون أول من يرفع النكير على رجحانه إلى الوسائل العصرية وعلى طرقه المحدثة للإصلاح، ثم لا أراه (أي: المهدي) سيكون مختلفًا في بيئته وهيئته عن عامة البشر، بحيث يعرفه الناس بعلاماته الخاصة وسماته المعلومة، كما لا أتوقع أنه يعلن

_ = (11/ 472 - فتح)، ومسلم رقم (2632). قيل: إن المقصود بالقسم قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} والأقرب أنه معطوف على قوله -عز وجل-: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ}. أو يقال: ليس في الآية ولا في الحديث قسم؛ لأن من أساليب العرب التعبير بتحلة القسم عن القلة الشديدة، وإن لم يكن هناك قسم أصلًا؛ يقولون: "ما فعلت كذا إلا تحلة الفسم" يعنون: إلا فعلًا قليلًا جدًّا ما يحلل به الحالف قسمه، ومنه قول كعب بن زهير في وصف ناقته: تخْدِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهْيَ لاحِقةً ... ذوابل وَقْعُهُن الأرضَ تَحلِيلُ أي: أن قوائم ناقته لا تمس الأرض لشدة خفتها إلا بقدر تحليل القسم، وانظر: "أضواء البيان" (4/ 354).

ثالثا: الشيخ عبد الفتاح أبو غدة -رحمه الله تعالى-

بكونه المهدي المعلوم، وإنما يتبين خلقُ اللهِ بعد موته (¬1) أنه هو المقيم للخلافة على منهاج النبوة المبشر به، فليس لأحد غير النبي إعلان بدء عمله، ولا أحد غير النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم علم اليقين أيَّ وظيفة عهدها إليه الله في هذه الدنيا ... والذي أتصوره من نوعية عمل الإمام يختلف كل الاختلاف عما يتصوره الناس؛ وذلك أني لا أرى في عمله مجالًا للكرامات والخوارق والكشف والإلهام وأعمال الرياضة الروحية ومجاهدة النفس، وأعتقد أن المهدي لن تكون له مندوحة عن أن يجتاز مراحل الجهد والكفاح والسعي الشديد، ما يضطر إلى اجتيازه كل زعيم انقلابي (¬2). والمهدي سيسير على أساس الإسلام الخالص، ويقلب عقلية الناس، ويبعث حركة قوة تكون ثقافية وسياسية، وستهب في وجهه الجاهلية بجميع قواها تعارض دعوته، وتقاوم حركته، ولكنه سيوفق آخر الأمر للقضاء على سلطتها، ويشيد دولة إسلامية موطدة الدعائم، تجري في هيكلها روح الإسلام الخالصة, ويبلغ رقيها في العلوم التجريبية والطبيعية ذروة الكمال". اهـ (¬3) ثالثًا: الشيخ عبد الفتاح أبو غدة -رحمه الله تعالى-: تعرض في تعليقه على كتاب "التصريح بما تواتر في نزول المسيح" للرد على القاعدين المتخاذلين عن نصرة الإسلام بحجة انتظار المهدي ونزول المسيح عليه السلام، فقال: ¬

_ (¬1) هذا صحيح، لولا أن الأحاديث الصحيحة دلت على أن المهدي ينزل في عهده المسيحُ -عليه السلام- من السماء، ويصلي خلفه عند نزوله. وانظر: "المهدي" للمؤلف ص (574. 575). (¬2) أي: كل زعيم يصبو إلى تغيير أوضاع الأمة إلى الأفضل. (¬3) "تجديد الدين واحياؤه" ص (37 - 40).

"ولو كانت هذه الفكرة صحيحة سليمة ثابتة لما كان الجهد والجهاد من السلف في دفع كل زيغ وانحراف من أي مبطل كان: أجنبيًّا أو عربيًّا، مسلمًا في الصورة أو كافرًا؛ لأننا إذا مشينا في ظل هذا الفكر الزائغ لزمنا أن نستسلم لكل ما يواجهنا من صعوبات وتحديات في مختلف الشئون والمستويات! وهذا أمر لا يقول به عاقل فضلًا عن أن يكون الشرع الإسلامي أراده منا، وحاشا شرع الله من أن يضاف إليه ذلك. فلماذا يسعى هؤلاء الجاهلون المصابون بهذه الفكرة المريضة في تنمية أموالهم وأحوالهم وتحسين عيشهم ومسكنهم وما إلى ذلك من أمور الدنيا ومرافق الحياة؟ فإذا جاءوا إلى أمور الدين والجهاد لبستهم هذه الفكرة الشيطانية، فضلوا، وتخاذلوا عن نصرة دينهم، فأين عقلهم وفهمهم من صريح قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة" (¬1)، وأمثاله من الأحاديث الصحيحة الكثيرة، وقد علم العالمون البصراء أن سنة الله في عباده: الجهد والجهاد والأخذ بالأسباب، كما هو بديهي عند كل مسلم فاقهٍ لدينه وإسلامه. ¬

_ (¬1) قطعة من حديث رواه أنس -رضي الله عنه- ولفظها: "والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله الى أن يقاتل آخرُ أمتي الدجالَ، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل "رواه أبو داود رقم (2532)، وفيه يزيد بن أبي نشبة، قال المنذري في "مختصره": "في معنى المجهول". اهـ. وقال الألباني في "تحقيق المشكاة": "إسناده ضعيف، فيه مجهول، وإن كان معناه صحيحًا". اهـ (1/ 25)، وانظر: "نصب الراية" (3/ 377)، "مجمع الزوائد" (1/ 106).

رابعا: قال الدكتور/ عبد العزيز مصطفى -وفقه الله تعالى-: "جهاد الكفار -أيا كانوا، وأينما كانوا، وفي أي زمان كانوا- واجب بالشرع المحكم غير المنسوخ

فترك الجهد والعمل في نصرة الدين والإسلام جريمة، وترك دفع المبطلين والظالمين والكافرين الصائلين على المسلمين -بسبب هذا الاعتقاد الباطل- جريمة فوق جريمة ومصيبة عظيمة أصيب بها عقل المرضى بهذا الاعتقاد، ويجب الإسراع بعلاجهم وإنقاذهم من هذا الداء الوبيل" (¬1). اهـ. رابعًا: قال الدكتور/ عبد العزيز مصطفى -وفقه الله تعالى-: "جهاد الكفار -أيًّا كانوا، وأينما كانوا، وفي أي زمان كانوا- واجبٌ بالشرع المحكم غير المنسوخ, وهذه حقيقة إسلامية ثابتة، وهذا الجهاد واجب بشروطه، وضوابطه، وأحكامه، وليس من هذه الشروط، أو الضوابط، أو الأحكام، أن يُؤَخَّرَ الجهادُ انتظارَا لتحول الغيب إلى شهادة، ما هكذا فَهِمَ المسلمون الأوائل، وما هكذا فعلوا، بل إنهم لما أُخْبِرُوا بأن الله -تعالى- سيكسر مُلك كسرى بسيوفهم؛ ما قبعوا في البيوت ينتظرون تحقق الخبر، ووقوع الأمر بلا مقدمات يبذلونها، وجهود يقدمونها، لا؛ بل أعدوا للأمر عُدَّتَهُ، وأخذوا للشأن أُهْبَتَهُ، حتى وقع النصر، وتطابق أمر الشرع مع أمر القدر. وإن المسلمين الأوائل لما أُنْبِئُوا بأن اللهَ سيكسر مُلك قَيْصَرَ على أيديهم لم يناموا على الأسِرَّة منتظرين تحقق النبوءة، ووقوع المعجزة؛ بل شمَّروا عن ساعد الجد، وجردوا الحسام من الغِمْد، وانطلقوا في أرض الله يقاتلون باسم الله مَن كفر بالله، حتى سقطت مملكةُ قيصرَ، وتطابق المشروع مع المقدور، وهكذا كان الشأن في النبوءات الأخرى عن فتح مصر، والشام، والعراق، وحتى القسطنطينية، لم يقل السلطان ¬

_ (¬1) مقدمة "التصريح بما تواتر في نزول المسيح" ص (ذ، ر).

محمد الفاتح: "إن فتحها ليس وقته الآن"، بل قامت موجبات الجهاد الشرعية في عهده، فامتثل، وجاهد، وفتح، وانتصر، أما بعض مسلمي اليوم، فيقولون: "لا، إن جهاد اليهود لن يكون حتى يخرج الدجَّال"، ولعله هذا من جملة فِتَنِ الدجَّال في هذه الدنيا. وانطلى هذا الكلام السخيفُ على قطاعات من الشباب المسلم، فألقوا عن كواهلهم تحمل أية مسئولية تجاه المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله؛ تماما كما انطلى على كثير منهم مِن قبلُ كلامٌ أسخفُ منه؛ مُؤَدَاهُ أن الدولةَ الإسلاميةَ والخلافةَ لن تقومَ حتى يخرجَ المهدي! وعجبا لمروجي هذا الكلام، ومردديه، كأنهم يقولون بلسان حالهم لليهود: "اشتدوا في عدائكم"، وللنصارى: "استمروا في طغيانكم"، وللمسلمين: "استمروا في تَشَتُّتِكُمْ، وتفرقكم، وتنازعكم، وغُثَائِيَّتِكُمْ، حتى يخرج المهدي إليكم"، ولا أدري: بأيَّة حُجَجِ وأدلة يقعون في هذه الزَّلة، متوهمين أن المهدي سيخرج إلى قوم قاعدين، أو سينصره أُناسٌ خاملون؟ " (¬1). "لقد تبين لنا أن اليهودَ والنصارى ينطلقون من خلال نبوءاتهم التي دخلها كثير من التحريف إلى وضع تصورات عملية لما يمكن أن تدار على أساسه الصراعاتُ، وإلى بذل الوُسْعِ من أجل الوصول إلى أهدافٍ دينية تسَلُّطِيَّةٍ على العالم، ولم يمنعهم الاقتناع ذهنيًّا بهذه الأمور من الانصراف -أيضًا- إلى بناء الحضارة، وتوسيع العمران، وزيادة الإعداد والاستعداد للمستقبل، فماذا أقول؟! أأقول: إنهم يفهمون الروح المقصودة من التدين أكثر منا وهم على غير دين صحيح؟! أأقول: إنهم إلى ¬

_ (¬1) "قبل أن يهدم الأقصى"، ص (276، 277).

أهل الضلال يخرجون من "شرنقة" الانتظار السلبي ويطورون مفاهيمهم

جانب فهمهم للدنيا، وكيفية التعامل معها، يَفْهَمُونَ -وهم على ضلال- أن ما يجيء به الدين هو قضايا من صُلْبِ الحياة، وصميم الواقع؟! إن اليهود والنصارى بين أيديهم أخبارٌ غير موثوقة، وتفسيرات غير مأمونة، وعقائدُ مضطربةٌ تزيدها التأويلات اضطرابًا، واختلافاتٌ فيما بينهم في الأصول والفروع، يستحيلُ معها الجمع بين الأقوال، ومع كل ذلك فهم جعلوا هذه الأخبارَ، وتلك النبوءاتِ، منارًا يسيرون على ضوئه خلال أحقاب طويلة؛ ففي مسيرة اليهود خلال الألفي سنة الخالية لم تكن تدفعهم إلا نبوءاتُ العهدِ القديم، ولم تستحثَّ آمالَهم إلا أخبارُ الأنبياء السابقين، ولم تستنهض هممهم إلا أمانيُّ بعيدةٌ في العودة، والعلو، والسيطرة. وفي المقابل نرى مِن بعض قومنا مَنْ إذا أخذ بأخبارٍ من الدين عن المستقبل فإنه يجعلها سدَّا أمام الحركة، وعائقًا في وجه التقدم، ويتخذ منها وسادة وثيرة ينام عليها، أو أريكة وطيئة يقتعدها" (¬1). اهـ. إن مما يؤسف له أشد الأسف شيوع هذه "السلبية" بحجة انتظار خروج المهدي، مع أن أشد الناس سلبية -فيما مضى- طوَّروا مفاهيمهم تحت وطأة العقل والمصلحة والخوف من خطر الانقراض، وتحرروا من أسر السلبية والتخاذل، وترقب ما يمليه الأمر الواقع، فرأينا الرافضة يطورون مفهوم "الانتظار السلبي" لمهديهم المزعوم، ويخترع لهم الخميني مفهوم "ولاية الفقيه" ليُخرج الرافضة من "شرنقة" الانتظار السلبي لمهديهم الموهوم إلى التحرك الإيجابي وإقامة دولة قبل أن يخرج المهدي من السرداب، الأمر الذي كان مرفوضًا من قبل، ومن بعد أن ¬

_ (¬1) السابق، ص (247، 248).

هل آن لنا أن نقوم بدور "المطرقة"، ونودع دور "السندان"؟

مرت قرون كانوا خلالها السَّندانَ، حولتهم "وِلاية الفقيه" (¬1) إلى مِطرقة مؤثرة فعالة، وَوَدعوا الانتظارَ السلبي المُمِلَّ. وكذلك فعلت "الصِّهْيَوْنيَّةُ السياسية" التي طورت مفهوم الانتظار السلبي عند اليهود، بل تمردت عليه، وقفزت منه إلى العمل الإيجابي (¬2). أما نحن -معشرَ المسلمينَ- فلسنا في حاجة إلى ابتداع منهج: ولا تعطوير مفهوم؛ لأن ديننا هو دين الحق، دين يُبغِض السلبية والسلبيين، ويكره القاعدين المتخاذلين، ويحث على الأخذ بالأسباب مع التوكل علىَ الملك الوهَّاب، ونحن في الحقيقة متخلفون عن ذروته السامية، وقمته السامقة، قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)} [الأنبياء: 10]. وإذا كانت "الانتصارات" قد أسكرت أعداءنا، وفَتَنَتْهم بباطلهم؛ فإن "الانكسارات" ينبغي أن توقظنا من سباتنا، وتفعلَ بنا ما تافعله الأحجار إذا ألقيت في الماء الراكد. إن الإيمان بالغيب هو أقوى حافز ودافع للعمل في عالم الشهادة، وقد رأينا ذلك ماثلًا في واقع خير أجيال البشرية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَن تبعهم بإحسان؛ حيث لم يتخذوا من إيمانهم بأشراط الساعة تُكَأَةً يقعدون عليها بحجة انتظار تحققها في المستقبل، أفلم يَأنِ لنا أن نقوم بدور "المطرقة"، ونودِّعَ دور "السَّنْدانِ"؟ سؤال ينتظر الإجابة في زمن "الانتظار". ¬

_ (¬1) انظر: نقد فكرة "ولاية الفقيه" في "أصول مذهب الشيعة" للدكتور ناصر القفاري، (3/ 1405 - 1420)، و"نقد ولاية الفقيه" للشيخ محمد مال الله. (¬2) انظر: "خدعة هرمجدون" للمؤلف، نشر دار بلنسية -الرياض- 1424 هـ.

المقال الخامس: فارس أحلام الدعوة للأستاذ/ عبد السلام البسيوني -وفقه الله تعالى-

المَقالُ الخامس: فَارِسُ أَحْلاَمِ الدَّعْوَةِ للأستاذ/ عبد السلام البسيوني -وفقه الله تعالى-: "في إطار العمل الإسلامي، تحت وطأة المعاناة، وأثقال التقصير، يتطلع الحالمون إلى "فارس أحلام" في صورة مهديٍّ يصوغه خيالهم، وتُشَكِّلُهُ أحلامُهُمْ ورَغَائِبُهُم، يؤمنون به رغم أن كل القرائن تؤكد أن المهدي الذي وردت الإشارات إليه في بعض كتب السنة لَمَّا يُظِلَّنَا زمانُه، بل كثيرًا ما خرج هنا وهناك من يزعم أنه المهدي بشحمه، ولحمه، ومواهبه، ثم يتمخض الجبل فَيَلِدُ بِدَعًا، ومنكراتٍ، وتنكبًا للسنة، بل ربما ولد كفرًا، وضلالًا، وزندقة. وواقع المسلمين لا يحتاج علاجًا سحريا، ولا يحتمل الآن متمهدين، بل يحتاج إلى قادة رعاةٍ يملكون من الوعي القيادي ما يستطيعون من خلاله أن يقودوا الأمة نحو مرافئ السلامة، وشاطئ الرشاد، دنيا وأخرى". ثم يتحدث عن حاجة الدعوة إلى: "رمز يُشْبعُ في الأذهان فكرةَ (فارس الأحلام)، ويكون رجلًا تقيَّاَ واعيًا، وأَبًا رفيعًا حانيًا، وعالمًا ربانيًّا فوق الطعن واللمز، فإن فكرة الارتباط مهمة، وفكرة توفر الرمز كذلك مهمة؛ فإننا نرى المسلمين صغارًا وكبارًا لا يزالون يستنجدون برموز الأمة الموتى؛ كصلاح الدين الذي أرَّقناه في مضجعه من كثرة ندائنا له، وكعماد الدين زنكي، وقطز، وابن تيمية ... حتى ضاق -من ظاهرة الاستنجاد بصلاح الدين- الشاعر "أحمد مطر"، الذي استنكر على الناس كثرةَ استنجادهم بمن يستحيل أن ينجدَهم، أو يغيثَهم، فهتف:

كم مَرَّةٍ في الْعامِ توقِظُونَهْ كم مرةٍ تحت سِيًاطِ الجُبنِ تَجْلِدونَهْ وَغَايَةُ الْخُشُونَة: أَن تَهتِفُوا: قُمْ يَا صَلَاحَ الدين قُمْ حَتَّى اشْتَكَى مَرقَدُهُ مِنْ حَوْلِهِ الْعُفُونَهْ دَعُوا صَلَاحَ الدِّينِ في تُرَابِهِ، وَاحْتَرِمُوا سُكُونَهْ فإِنَهُ لَو قامَ حَيًا بَينَكُم فَسَوفَ تقتلونَهْ!! ". اهـ. (¬1) ¬

_ (¬1) "فقه الواقع" ص (91 - 93) باختصار.

المقال السادس: من سنن الأنبياء الأخذ بالأسباب المادية قال الأستاذ/ محمد العبدة -حفظه الله تعالى-

الْمقَالُ السادس: مِنْ سنَن الأنْبِياءٍ الأخْذُ بالأسبَاب المادِيةِ قال الأستاذ/ محمد العبدة -حفظه الله تعالى-: "في غمرة الاندفاع العاطفي، وزحمة الأحداث السطحية، يتناسى المسلمون، أو قد يجهلون سننَ التغيير التي أودعها الله -سبحانه وتعالى- في كتابه، أو أجراها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وبعض هذه السنن يعرفها الناس بالتجرِبَةِ الطويلة، والخبرات المتراكمة المتأملة. ومن هذه السنن أن الدعواتِ الصادقةَ إذا أُرِيدَ لها النجاحُ؛ لابد لها من قُوًى تؤيدها، وتنصرها؛ قوى من التكتل الجماهيري الذي يلتف حول هدف واضح محدد، أو بمصطلح ابن خلدون: لابد من "العصبية" التي تعني الالتحام، والتعاضد، والتنافر؛ لتحقيق هدف معين، وليس المعنى المذموم لكلمة "عصبية". وإذا كان التكتل سابقًا يَعْتَمِدُ على القبائل، والعشائر، فإنه في العصر الحديث يعتمد على جميع شرائح المجتمع، الذين يلتفون حول علماء فقهاء؛ يُعمِلون بفقههم، وتفكيرهم سننَ التغيير، وتحويل المجتمعات، والتأثير فيها، وخاصةً ما نحن فيه من تعقيدات هذا العصر. هذه القوة والمنعة هي التي افتقدها نبي الله لوط -عليه السلام- حين قال: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)} [هود: 80]، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رَحِمَ اللهُ لُوطًا كانَ يَأوِي إِلى رُكنٍ شَدِيدٍ، وَمَا بَعَثَ الله بَعدَهُ نَبِيًّا إِلا وَهوَ في ثَرْوَةٍ مِنْ قَومِهِ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الإمام أحمد، (2/ 232)، والحاكم، (5/ 561)، وقال: "صحيح على شرط مسلم"، وأقره الذهبي، وأورده الألباني في "الصحيحة"، رقم (1867).

تعليق على عبارة "نعمل والنتائج على الله"

ويقول الإمام الجويني: "ما ابتعث الله نبيَّا في الأمم السالفة حتى أيَّده، وعضَّده بسلطان ذي عدة ونجدة، ومن الرسل -عليهم السلام- مَن اجتمعت له النبوة، والأيد، والقوة؛ كداود، وموسى، وسليمان -صلوات الله عليهم أجمعين-" (¬1). فإذا كان الأنبياء يؤيَّدون "بثروة من قومهم"؛ وهي القوة والمنعة في العدد والعدة، وهم مع ذلك مُؤَيَّدونَ بالمعجزات وخوارق العادات، فكيف بغيرهم الذين يرومون التغيير بالعشرات أو المئات (¬2)، ويقولون نحن نتوكل على الله؟! لا شك أن المسلم يطلب العون من الله، ويتوكل عليه، والله -سبحانه- وعد المسلمين بالنصر، ولكن لا بد من الأخذ بالأسباب الشرعية، ومن أهمها تجميع القوى التي تناصر وتعاضد. هل درسنا هذا الموضوع بعمق وأناة، أم أن مقولة: "نعمل والنتائج على الله"، لا تزال هي الشائعة، والأكثر قبولًا ورواجًا، مع أنها ظاهريًّا صحيحة؛ فهي كلمة حق تُسْتَخْدَمُ في غير محلِّها؛ فالقول بأننا نعمل يجب أن يُمَحَّصَ؛ إذ ما يدريك أن عملك صواب، قد أَخَذْتَ فيه بالأسباب؟ نعم، إذا بُذِلَ الجهد الصحيح؛ فالنتائج على الله، أما أن يُعمل أيُّ عمل، ثم يقالَ: "النتائج على الله"؛ فهذا ضرب من حب ¬

_ (¬1) "غياث الأمم"، ص (182). (¬2) وقد نعت ابن خلدون هذا الصنف من المغامرين بقوله: "أخذوا أنفسهم بإقامة الحق، ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته". اهـ. من "مقدمة ابن خلدون" ص (159)، ط. دار القلم 1981م.

التمييز بين "التفاؤل المرضي" والتفاؤل الإيجابي

السهولة (¬1)، وهروب من النقد، وحتى نستريحَ نفسيًّا من اللوم والتقريع، وحتى مع توفر عنصر الإخلاص في هذا العمل، فهذا لا يكفي؛ فلا بد من معرفة سنن الله في التغيير" (¬2). اهـ. ¬

_ (¬1) بل يمكن أن نسميه "التفاؤل الْمَرَضيَّ"، والذي نراه في تصرفات بعض المضطربين وجدانيا؛ كحالات الزَّهْو، ونوبات النشوة والاغتباط (mania) أو (hybomania) التي يكون كل شيء أثناءها ممكنًا، فترى صاحبها "يتفاءل" بلا حدود، وبدون أي إدراك لحدود إمكاناته المادية، فتجده يشتري سيارة باهظة الثمن في الوقت الذي لا يجد له مأوى، فكل شيء بالنسبة إليه كان ممكنًا، وينتهي الأمر بالتورط في أقساط والتزامات ومديونيات ... وكوارث! والمطلوب هو "التفاؤل الإيجابي" الذي يُنَشِّط الدافعية للإنجاز في إطار عملي واقعي. (¬2) "خواطر في الدعوة"، ص (69، 70).

الفصل الثالث هل تعود الخلافة قبل ظهور المهدي؟

الفصل الثالث هل تعود الخلافة قبل ظهور المهدي؟ ربط بعض الناس بين الأحاديث الواردة في أحوال آخر الزمان، وأشراط الساعة، وبين حال العالم في زماننا هذا، ورتبوا بعضَها على بعض، ليس هذا فحسب، بل بَنَوْا على ذلك أمورًا نتج عنها فتن جسيمة، وانتهاك للحرمات، والمخرج من ذلك كله أن نتركَ الواقع نفسَه يُفَسِّرُ لنا هذه الأحاديثَ، حتى لا نَرْجُمَ بالغيبِ، أو نَقْفُوَ ما ليس لنا به علم؛ اقتداءً بعلماء السلف الصالح الذين أدَّوْا إلينا هذه النصوص بكل صدق وأمانة، ولم يُقْحِمُوا الظنونَ في تعيينها، وترتيب بعضها على بعض بمجرد الرأي. ولئن وقع منا تردد في: هل زماننا هو زمان ظهور المهدي؟ فلا ينبغي أن نتردد في الجزم بأننا -سواء كان هذا زمان ظهوره أو لا- مُلْزَمُونَ بكافة التكاليف الشرعية: من طاعةِ الله، والجهادِ في سبيله، وطلبِ العلمِ، والدعوة إلى دينه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في ذلك كله، وغير ذلك من الواجبات، فما يتوهمه بعض الكسالى -من أن ظهور المهدي سيكون بداية عصر الاسترخاء والدعة- باطلٌ باطل، بل النصوص تُشِيرُ إلى أنه سيكون بدايةً للفتوح، والجهاد، والبذل في سبيل إعلاء كلمة الله -عزَّ وجلَّ-. والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: كيف سيكون حال الأمة قبل ظهور المهدي؟ وهل سَتَقُومُ الخلافة الإسلامية من جديد قبل المهدي؟

مسلكان للعلماء في العلامة بين حال الأمة، وخروج المهدي

وبما أن هذا المستقبل غيب، فلا يصح محاولة استطلاعه إلا مِن قِبَلِ وحي الله -عزَّ وجلَّ- إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذا الفصل نعرض اتجاهين سلكهما بعض العلماء جوابًا عن هذا السؤال؛ استنادًا إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. المسلَكُ الأَوَّلُ: ستزداد غُربَةُ الإسلام حتى يظهرَ المهدي، إن شاء الله 1 - قال الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي -رحمه الله تعالى-: "وأما بعد قرن أتباع التابعين، فقد تغيرت الأحوال تَغَيُّرًا فاحشًا، وغلبت البدع، وصارت السنة غريبة، واتخذ الناس البدعة سنة، والسنة بدعة، ولا تزال السنة في المستقبل غريبة إلا ما استُثْني في زمان المهدي -رضي الله عنه-، وعيسى -عليه السلام-، إلى أن تقوم الساعة على شرار الناس" (¬1). اهـ. 2 - وسئل الشيخ عبد الله بن الصِّدِّيق سؤالًا نصه: إذا كانت القيامة تقوم على المهدي وعيسى، ودين الإسلام حسب ما ذكرنا، فما معنى قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "الإِسْلَامُ غَرِيب، وَكمَا بَدَأَ يَعُودُ"؟ فأجاب: "تواتر عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا (¬2)، وهو يشير إلى وقتنا ¬

_ (¬1) "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان"، ص (329). (¬2) رواه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مسلمٌ (145)، في الإيمان: باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا، وتتمته: "فطوبى للغرباء".

هذا؛ فإن الإسلام فيه غريب بمعنى الكلمة، وسيظل كذلك، بل ستزداد غربته إلى أن يأتي المهدي، فيُظهر الإسلام، ويحيي العدل، وتَزُولُ الفتن والإحن بين المسلمين، ويبقى الحال كذلك مدة المهدي، ومدة عيسى عليه السلام (¬1)، ثم بعد ذلك تأتي ريحٌ طيبة تأخُذ نَفْسَ كل مؤمن (3)، ¬

_ (¬1) ومما يدل على أن زمن المهدي سيعم فيه الخير بكل أنواعه: ما رواه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم، لطوَّل الله ذلك اليوم، حتى يُبعث فيه رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا" رواه أبو داود (4282)، والترمذي (2231)، وقال: "حسن صحيح "، وانظر: "المهدي" للمؤلف ص (41). وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يخرج في آخر أمتي المهدي، يَسقيه الله الغيث، وتُخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحًا، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعًا أو ثمانيًا -يعني: حِجَّةَ" رواه الحاكم في "المستدرك" (4/ 557)، وقال: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: "هذا سند صحيح، رجاله ثقات" كما في "الصحيحة" رقم (711). لكن هذا الخير ستشوبه أخطر فتنة في تاريخ البشرية، وهي فتنة الدجال، كما أن الخير في عهد المسيح -عليه السلام- سيزاحمه شر يأجوج ومأجوج. (كما ثبت عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " ... ثم يبعث الله ريحًا طيبة فَتَوَفَّى كلً من في قلبه مثقال حبةِ خردلٍ من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم" رواه مسلم رقم (2907). وفي "المسند" عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى يأخذ الله شَريطته من أهل الأرض، فيبقى فيها عَجاج، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا" رواه الإمام أحمد رقم (6964)، والحاكم في "المستدرك" رقم (8341)، وقال: "صحيح على شرط الشيخين، إن كان الحسن سمعه من عبد الله بن عمرو، وقال الهيثمي في "المجمع" (8/ 1): "رواه أحمد مرفوعَا وموقوفًا، ورجالهما رجال الصحيح ". اهـ. =

فلا يبقى على الأرض من يعرف الله أو يذكره (¬1)، وإنما يبقى أقوام يتهارجون كما تتهارج الْحُمُرُ، فعليهم تقوم الساعة كما جاء في صحيح مسلم، وغيره والله أعلم " (¬2). اهـ. وقد يُستدل لهذا الْمَنْحَى بما رواه الطبراني عن ابن مسعود -رضي الله عنه- موقوفًا: "ليس عام إلا والذي بعده شر منه"، قال الحافظ في "الفتح": "أخرجه الطبراني بسند جيد (¬3) ". وعن ابن مسعود رضي الله عنه -موقوفًا أيضًا- بسند صححه الحافظ في "الفتح" (¬4): "أَمْسِ خَيْرٌ مِنَ الْيَوْمِ، وَالْيَوْمُ خَيْرٌ مِنْ غَدٍ، وَكَذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» (¬5). ¬

_ = والشريطة هنا: الخيار من الناس، انظر: "النهاية" (2/ 460). والعَجاج: الغوغاء، والأراذل، ومن لا خير فيه، واحدهم: عَجاجة، كما في "النهاية" (3/ 184). (¬1) فما من زمان خير إلا يشوبه بعض الشر، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]، ولن يكون هناك زمان شر محض إلا الزمان الذي تقوم فيه الساعة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" رواه مسلم (2949)، وابن حبان (6850)، وأحمد رقم (3735). وفي رواية لمسلم: "فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفًا ولا بنكرون منكرًا، فيتمثل لهم الشيطان فيأمرهم بعبادة الأوثان، ثم يُنفخ في الصور" (2940). (¬2) "المهدي المنتظر"، ص (51، 52). (¬3) "فتح الباري" (13/ 20)، والحديث وراه الطبراني في "الكبير" (9/ 105/8550). (¬4) "الموضع السابق" نفسه. (¬5) رواه الطبراني في "الكبير" (9/ 154/8773) , وقال الهيثمي في "المجمع" (7/ 286): "رواه الطبراني، ورجاله وجال الصحيح".

وعن الزبير بن عدي قال: أتينا أنس بن مالك -رضي الله عنه-، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الحَجَّاجِ، فَقَالَ: «اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ» سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (3/ 132، 177، 179)، والبخاري، (7068)، (13/ 19، 20)، والترمذي، (3357)، وانظر: "فتح الباري"، (13/ 20 - 22).

ذكر أجوبة العلماء عن حديث انس -رضي الله عنه- وما في معناه

ذكر أجوبة العلماء عن حديث انس -رضي الله عنه- وما في معناه أولًا: جواب الإمام ابن حبان -رحمه الله تعالى-: ترجم الإمام ابن حِبَّان -رحمه الله تعالى- لحديث أنس -رضي الله عنه-: "ذِكْرُ خبرٍ أَوْهَمَ مَنْ لم يُحْكِم صناعةَ الحديثِ أن آخرَ الزمان على العمومِ يكون شرَّا من أوَّلِهِ" (¬1)، ثم أَتْبَعَهُ بترجمة تَدْفَعُ هذا الإيهام، فقال: "ذِكْرُ الخبرِ المصرِّح بأن خبر أنس بن مالك لم يُرَدْ بعموم خطابه على الأحوال كلها" (¬2). ثُمَّ أَسْنَدَ إلى أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا لَيْلَةٌ، لَمَلَكَ فِيهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النبي صلى الله عليه وسلم" (¬3). إذن حديث أنس -رضي الله عنه- الآنف الذكر ليس على عمومه أو إطلاقه؛ لثبوت أدلة تخصص عمومه، وتقيد مطلقه؛ ولذلك ينبغي حمله على الأغلب من الزمان، أو يحمل معناه على أن كل زمان بجملة ¬

_ (¬1) "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان"، (282/ 13). (¬2) "نفسه"، (13/ 283) (¬3) رواه ابن حبان، (13/ 283)، وابن ماجه (2779)، والترمذي، (2231)، وقال: "حسن صحيح".

ثانيا: جواب الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى-

ما فيه من خير أفضلُ من الزمان الذي يليه، وهذا لا ينفي أن يكون في كل زمان خير -كما أكدت ذلك الأحاديث- ولمجيء بعض الخير في أزمان أعقبت زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ كزمن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- وغيره من الأزمان. ثانيًا: جواب الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى-: قال -رحمه الله تعالى-: "وقد استُشْكِل هذا الإطلاقُ مع أن بعض الأزمنة تكون في الشر دون التىِ قبلها، ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبد العزيز، وهو بعد زمن الحجاج بيسير، وقد اشتهر الخير الذي كان في زمن عمر بن عبد العزيز؛ بل لو قيل: (إن الشر اضمحل في زمانه)؛ لما كان بعيدًا، فضلًا عن أن يكون شرًّا من الزمن الذي قبله، وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب، فسئل عن وجود عمر بن العزيز بعد الحجاج، فقال: (لا بد للناس من تنفيس). وأجاب بعضهم: أن المراد بالتفضيل تفضيلُ مجموعِ العصر على مجموع العصر؛ فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء، وفي عصر عمر بن عبد العزيز انقرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي" وهو في الصحيحين (¬1)، وقوله: "وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ» (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري رقم (2652) بلفظ: "خير الناس قرني"، ومسلم رقم (2535)، وانظر: "موسوعة الأحاديث الواردة في فضائل الصحابة" للدكتور سعود الصاعدي (1/ 347 - 384). (¬2) رواه مسلم رقم (2531)، وانظر: "الموسوعة" الآنفة الذكر (1/ 385 - 399).

ثالثا: جواب العلامة ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى-

وقال: "ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة المذكورة أزمنة الصحابة بناء على أنهم هم المخاطَبون بذلك فيختص بهم، فأما من بعدهم فلم يُقصد في الخبر المذكور، لكن الصحابي فهم التعميم، فلذلك أجاب من شكا إليه الحجاج بذلك، وأمرهم بالصبر، وهم أو جلهم من التابعين، واستدل ابن حبان في (صحيحه) بأن حديث أنس ليس على عمومه بالأحاديث الواردة في المهدي، وأنه يملأ الأرض عدلًا بعد أن ملئت جورًا (¬1). ثالثًا: جواب العلامة ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى-: قال -رحمه الله تعالى- معلقًا على حديث أنس -رضي الله عنه-: "هذا الحديثُ ينبغي أن يُفْهَمَ على ضوء الأحاديث التي تُبَشِّرُ بأن المستقبلَ للإسلام، وغيرها، مثل أحاديث المهدي، ونزول عيسى عليه السلام؛ فإنها تدل على أن هذا الحديثَ ليس على عمومه، بل هو من العام المخصوص؛ فلا يجوز إفهام الناس أنه على عمومه، فيقعوا في اليأس الذي لا يصح أن يتصف به المؤمن: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)} [يوسف: 87] ". اهـ (¬2). ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (13/ 21)، وانظره أيضًا: (7/ 6، 7). (¬2) "سلسلة الأحاديث الصحيحة"، المجلد الأول، ص (10).

المسلك الثانى: ستقوم -بإذن الله- خلافة على منهاج النبوة قبل ظهور المهدي، أو على الأقل ستنهض الأمة نهضة شاملة، ولا يبقى إلا ظهور القائد

الْمَسلَكُ الثانى: ستقوم -بإذن الله- خلافَةٍ على مِنهاج النبوة قبل ظهور المهدي، أو على الأقل ستنهض الأمة نهضةً شاملةً، ولا يبقى إلا ظهور القائد 1 - سمعت العلَّامَةَ ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى- يقول (¬1) في معرض مناقشته للذين ادَّعَوْا اقتراب ظهور المهدي: "ما أظُنُّ هذا أوانَ ظهورِه، فهذا مُقْتَضَى السنة الكونية، وما أحسب المهدي يَقْدِرُ -خلال سبع سنين- على أن يحدث ممن التغيير في العالم أكثر مما أحدثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلال ثلاث وعشرين سنة، وظني أن المهديَّ سيكون رجلًا فريدًا في كل باب: فَرِيدًا في علمه، فريدًا في ورعه، فريدًا في عبادته، فريدًا في خُلُقه، وأنه سيظهر، وقد تهيأ للعالم الإسلامي وضعٌ صَلُحَ فيه أمر الأمة، وتَمَّت فيه مرحلتا "التصفية والتربية"، ولم يَبْقَ إلا ظهور الزعيم الْمُصْلِح الذي يقوده، وهو المهدي". اهـ. ¬

_ (¬1) وذلك بخيمته في منى في موسم الحج عام (1399هـ) قبيل فتنة "المهدي القحطاني" بأسبوعين، وكان قد شاع وقتها أن المهدي يوشك أن يخرج، لكن العلامة الألباني -رحمه الله تعالى- ببصيرته النافذة اتخذ موقفًا صارمًا، وقطع بأنه لا يمكن أن يصح للقحطاني دعوى المهدية، وأن هذا ليس زمان خروج المهدي، وذكر الكلام المذكور هنا، والذي حُفِرَ في ذاكرتي لشدة الحاجة إليه وقتها، وكنت أُرِيتُ رؤيا في تلك الأيام أن هناك رجلًا يشير إلى منبرٍ هزيل من أعواد ضعيفة في جمع من الناس يدعي أنه منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فوقفت في الناس أفند دعواه، وأذكر الفروق بين منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذاك المنبر الركيك المتهاوي، ومنها: أن منبره -صلى الله عليه وسلم- كان ثلاث لث درجات، وهذا أكثر ... إلخ، فإن كانت رؤيا حق؛ فلعل تأويلها تصنيفي كتاب "المهدي" الذي صدرت طبعته الأولى بالأسكندرية في العشرين من المحرم 1400هـ.

ثم حمل فضيلته على الجُهَّال الذين يسيئون فَهْم عقائد الإسلام، ثم ينحرفون، ويتخبطون؛ نتيجةَ قلة علمهم، وسوء فهمهم. وكتب -أيضًا- مُفصِّلًا ما يَعْنِيهِ بمرحلتي "التصفية والتربية": "لا بد اليوم من أجل استئناف الحياة الإسلامية من القيام بهذين الواجبين: التصفية والتربية". وأردتُ بالأول منهما أمورًا: الأول: تصفية العقيدة الإسلامية مما هو غريب عنها؛ كالشرك، وجحد الصفات الإلهية، وتأويلها، ورد الأحاديث الصحيحة؛ لتعلقها بالعقيدة ونحوها. الثاني: تصفية الفقه الإسلامي من الاجتهادات الخاطئة المخالفة للكتاب والسنة. الثالث: تصفية كتب التفسير، والفقه، والرقائق، وغيرها، من الأحاديث الضعيفة، والموضوعة، والإسرائيليات المنكرة ... إلى أن قال -رحمه الله تعالى-: "وأما الواجِبُ الآخَرُ فأريد به تربية الجيل الناشئ على هذا الإسلام الْمُصَفَّى من كل ما ذكرنا تربية إسلامية صحيحة منذ نعومة أظفاره، ودون أي تأثر بالتربية الغربية الكافرة. ومما لا رَيْبَ فيه أن تحقيق هذين الواجبين يتطلب جهودًا جبارة متعاونة من الجماعات الإسلامية المخلصة، التي يهمها حقًّا إقامة المجتمع الإسلامي المنشود، كُل في مَجَالِهِ، واختصاصه، وأما بقاؤنا راضين عن أوضاعنا، متفاخرين بكثرة عددنا، متوكلين على فضل ربنا،

أو خروج المهدي، ونزول عيسى، صائحين بأن الإسلام دستورنا، جازمين بأنا سنقيم دولتنا، فذلك محال، بل وضلال؛ لمخالفته لسنَّة الله الكونية والشرعية معًا، قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» (¬1). من أجل ذلك قال أحد الدعاة الإسلاميين اليوم: "أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تَقُمْ لكم في أرضكم"، وهذا كلام جميل جدًّا، ولكن أجمل منه العمل به {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} (¬2) [التوبة]. وقال -رحمه الله تعالى- في سياق رده على من زعم أن دولة الخلافة الإسلامية لن تعود قبل ظهور المهدي: "واعلم يا أخي المسلم أن كثيرًا من المسلمين اليوم قد انحرفوا عن الصواب في هذا الموضوع؛ فمنهم من استقر في نفسه أن دولة الإسلام لن تقوم إلا بخروج المهدي، وهَذِهِ خُرَافَةٌ وضلالة ألقاها الشيطان في قلوب كثير من العامَّة، وبخاصة الصوفية منهم، وليس في شيء من ¬

_ (¬1) رواه أبو داود، (3462) في البيوع، باب "النهي عن العينة". والعينة: أن يبيع شيئا من غيره بثمن مؤجل، ويسلمه إلى المشتري، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن أقل من ذلك القدر، يدفعه نقدا، وانظر: "السلسلة الصحيحة"، رقم (11). (¬2) "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة"، (2/ 2).

أحاديث المهدي ما يُشعِر بذلك مطلقًا، بل هي كلها لا تَخرُجُ عن أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بَشَّرَ المسلمين بِرَجلٍ من أهل بَيتِهِ، ووصفه بصفات، أبرزها: أنه يحكم بالإسلام، وَينْشُرُ العدل بين الأنام، فهو في الحقيقة من المجدّدِينَ الذين يبعثهم الله في رأس كل مائة سنة، كما صح عنه -صلى الله غليه وآله وسلم- فكما أن ذلك لا يستلزم ترك السعي وراء طلب العلم، والعمل به لتجديد الدين، فكذلك خروج المهدي لا يستلزم التواكُلَ عليه، وتركَ الاستعدادِ والعملِ لإقامة حكم الله في الأرض، بل العكس هو الصَّواب؛ فإن المهدي لن يكون أعظم سعيًا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي ظل ثلالة وَعشرين عامًا وهو يعمل لتوطيد دعائم الإسلام، وإقامة دولته، فماذا عسى أن يفعل المهدي لو خرج اليوم، فوجد المسلمين شيعًا وأحزابًا، وعلماءهم -إلا القليل منهم- اتخذهم الناس رءوسًا، لما استطاع أن يقيم دولة الإسلام إلا بعد أن يُوَحِّدَ كلمتهم، ويجمعهم في صف واحد، وتحت راية واحدة، وهذا -بلا شك- يحتاج إلى زمن مديدٍ اللهُ أعلم به، فالشرع والعقل معًا يقضيان أن يقوم بهذا الواجب المخْلصُونَ من المسلمين، حتى إذا خَرَجَ المهدي، لم يكن بحاجة إلا أن يقودهم إلى النصر، وإن لم يخرج (¬1)، فقد قاموا بواجبهم، والله يقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (¬2). اهـ. وفي كتابهما "الجماعات الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة" يُفَصِّلُ المؤلفان هذا المسلك، ويقولان ما ملخصه -بتصرف وإضافات-: ¬

_ (¬1) أي: في زمانهم. (¬2) "سلسلة الأحاديث الصحيحة"، (4/ 24,34).

لا بد من عودة الخلافة الراشدة واستعادة القدس قبل ظهور المهدي

لا بُدَّ من عودة الخلافة الراشدة واستعادة القدس قبل ظهور المهدي (أ) تشير بعض الأحاديث الصَحيحة إلى أن حالة الناس الدينية في تراجع مستمر مع الزمن، ولكنة تَرَاجُعٌ بشكل عام لا بِشَكْلٍ فردي؛ أي هو من العام المخصوص، والمخصِّصُ قوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ المَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ» (¬1). وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» (¬2)، وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة». (¬3). ولا يَرِدُ عليه انعدامُ الدولةِ والصَّوْلةِ؛ لأنه لا يمتنع عقلًا أن تنطلق هذه الأمة انطلاقًا جديدًا؛ حتى يتم قولُه -عز وجل-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ ¬

_ (¬1) رواه الترمذي رقم (2873) في الأمثال: باب "مثل أمتي مثل المطر"، ورواه الإمام أحمد في "المسند"، (3/ 130، 143) في حديث أنس، و (4/ 319) من حديث عمار بن ياسر، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، ونقل المناوي عن الحافظ ابن حجر قوله: "هو حديث حسن له طرق، قد يرتقي بها إلى الصحة". اهـ. من "فيض القدير" (5/ 517). (¬2) أخرجه من حديث ثوبان -رضي الله عنه- مسلمٌ رقم (1920)، وأبو داود رقم (4252)، والترمذي رقم (2229)، وابن ماجه (2/ 464) رقم (4016)، وأحمد (5/ 278، 279)، والحاكم، (4/ 449،450). (¬3) رواه من حديث أبي عنبة الخولاني ابن ماجة رقم (8) وابن حبان، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (6/ 231)، رقم (7569).

بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 33]. قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: "لَيُظهِرن الله دينَه على الأديان حتى لا يُدانَ اللهُ إلا به، وذلك متى شاء الله تعالى" (¬1). والظهور بهذا المعنى الذي أورده الشافعي -وهو الظهور الحقيقي- هو وجه من عدة أوجه فسره بها العلماء -ومنهم الشافعي-، ويقوِّيه عدد من الأحاديث التي سنوردها -إن شاء الله- فيما يأتي. والقولُ بأنه -أي: الظهور المذكور في الآية- قد تحقق في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- أو بعض خلفاء بني أمية أو بني العباس أو غيرهم قولٌ بعيدٌ، فما تحقق إنما هو جزء منه فقط -كما هو معروف من التاريخ- وسوف يتحقق كاملًا في المستقبل إن شاء الله تعالى. ومما يؤيد ذلك قولُه -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا" الحديث (¬2). ¬

_ (¬1) "أحكام القرآن للشافعي (2/ 50) دار الكتب العلمية- بيروت (1400هـ). (¬2) صدر حديث، رواه من حديث ثوبان -رضي الله عنه- مسلم رقم (2889) في الفتن، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، والترمذي رقم (2177) في الفتن، باب ما جاء في سؤال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ثلاثًا في أمته، وأبو داود رقم (4252) في الفتن، باب ذكر الفتن ودلالتها، وانظر: جامع الأصول (11/ 317، 318).

ومعلوم أن الإسلام لم يُغَطِّ الكرةَ الأرضية بهذا الوصف الموجود في الحديث الشريف، وسيغطيها كما أخبر المعصوم -صلى الله عليه وسلم- حين يشاء الله تعالى. وعن تميمٍ الداري -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يبقى بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلّا يُذِلُّ بِهِ الْكُفْرَ" (¬1). وهذا الحديث يؤكد الحديث السابق ويوضحه، ويفيد قولُه: "ما بلغ الليلُ والنهارُ" أن الإسلام سينتشر، ويُمَكَّن له في جميع الكرة الأرضية؛ لأن الليل والنهار يبلغان جميعها، وهو ما لم يتحقق حتى الآن، وسيتحقق في المستقبل إن شاء الله. وعن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- وسئل: أيُّ المدينتين تُفتح أولًا: القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حِلق، قال: فأخرَج منه كتابًا، قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نكتب، إذ سئل ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد، والطبراني في "المعجم الكبير"، وابن منده في "كتاب الإيمان"، والحافظ عبد الغني المقدسي في "ذكر الإسلام"، وقال: "حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ"، والحاكم، وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، وكذا أخرجه ابن حبان، وابن عروبة. اهـ، ملخصًا من "تحذير الساجد" للألباني، ص (173، 174)، و"السلسلة الصحيحة"، حديث رقم (2)، وقد صححه على شرط مسلم.

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ المدينتين تُفتح أولًا أقسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مدينة هِرَقلَ تُفْتَحُ أولًا" (¬1). وقد فتحت القسطنطينية على يد محمد الفاتح -رحمه الله تعالى- بعد هذه البِشارة الموجودة في الحديث بثمانية قرون ونصف تقريبًا، وستفتح مرة أخرى بعد ملحمة تكون بين المسلمين والروم، ينتصر فيها المسلمون نصرًا مؤزرًا، لا يجدون بعده من يحول بينهم وبين فتحها، وقد أشارت إلى ذلك روايات كثيرة عند البخاري ومسلم وغيرهما. أما "رومية" فهي كما يفهم من "معجم البلدان " (¬2) "روما" عاصمة "إيطاليا" الآن، ومعلوم أنها لم تفتح من قبل، والحديث يؤكد أنها ستفتح، فسيكون ذلك إن شاء الله تعالى. وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: كنا جلوسًا في المسجد، وكان بشير رجلًا يكف حديثه، فجاء أبو ثعلبة الخشني، فقال: يا بشير بن سعد، أتحفظ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأمراء؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته، فجلس أبو ثعلبة الخشني، فقال حذيفة -رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا شَاءَ، ثُمَّ تَكُونُ الْخِلَافَةُ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص (267) هامش رقم (2). (¬2) "معجم البلدان" لياقوت الحموي (3/ 100).

تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا (¬1) فَتَكُونُ مُلْكًا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَرْفَعُهُ إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً (¬2)، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ سَكَتَ» (¬3). وهذه المراحل أو الأطوار التي ذكرها الحديث الشريف للخلافة -بمعنى سياسة الناس ورياستهم- قد مر منها طَوْرُ النبوة، ثم الخلافة الراشدة، ثم الملك العاض، ونحن الآن نعيش مرحلة الملك الجبري، وننتظر الخلافة الراشدة الأخيرة إن شاء الله تعالى. "وفي سنة 1924 م أعلن المجلس الوطني في تركيا خنق ذلك الطور من الترتيب النبوي، وبهذا الإعلان الذي انتهت بموجبه الخلافة العثمانية وَدَّعَت الأمةُ الإسلامية طورَ الملك العاض لتبدأ في طور الملك الجبري، وهو الطور الذي تعايشه الأمة هذه الأيام في صورة الانقلابات العسكرية وغيرها" (¬4). ¬

_ (¬1) الملك العاض أو العضوض: هو الذي يصيب الرعيةَ فيه جور وظلم؛ كأنهم يُعَضُّون عَضًّا، أو الذي يعضهم فيه الفقر؛ كما قال الشاعر: وعض زمان يابن مروان لم يدع ... من المال إلا مُسْحِتًا أو مُجلفا وقد يكون الملك العاض بمعنى المعضوض عليه؛ بأن يُورَّثَ من حاكم لآخر؛ وذلك كقوله تعالى {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)} أي: مرضية، والله أعلم. (¬2) الملك الجبري أو الجبرية: هو الذي يتم جبرًا ورغمًا عن الرعية، وهو أقرب إلى الحكم الذي يتم بطريق الانقلابات في عصرنا. (¬3) انظر تخريجه ص (359) هامش رقم (1). (¬4) "الطريق إلى جماعة المسلمين" ص (97)، وانظر تفصيل الأطوار المذكورة في الحديث في "فتح الباري" (13/ 214)، وانظر أيضًا: "الاتجاهات الوطنية" للدكتور محمد محمد حسين -رحمه الله تعالى- (2/ 37 - 47).

وعَنْ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ فَقَالَ: يُوشِكُ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَنْ لَا يُجْبَى إِلَيْهِمْ قَفِيزٌ (¬1) وَلَا دِرْهَمٌ، قُلْنَا: مِنْ أَيْنَ ذَاكَ؟ قَالَ: مِنْ قِبَلِ الْعَجَمِ، يَمْنَعُونَ ذَاكَ، ثُمَّ قَالَ: يُوشِكُ أَهْلُ الشَّأْمِ أَنْ لَا يُجْبَى إِلَيْهِمْ دِينَارٌ وَلَا مُدْيٌ (¬2)، قُلْنَا: مِنْ أَيْنَ ذَاكَ؟ قَالَ: مِنْ قِبَلِ الرُّومِ، ثُمَّ سَكَتَ هُنَيَّةً، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ حَثْيًا، لَا يَعُدُّهُ عَدَدًا» قَالَ قُلْتُ لِأَبِي نَضْرَةَ وَأَبِي الْعَلَاءِ: أَتَرَيَانِ أَنَّهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَا: لَا. (¬3) " (¬4). قال النووي -رحمه الله تعالى- في شرحه هذا الحديث في "صحيح مسلم": "والحثو هو الحفن باليدين، وهذا الحثو الذي يفعله هذا الخليفة يكون لكثرة الأموال والغنائم والفتوحات مع سخاء نفسه" (¬5). اهـ. ¬

_ (¬1) القَفيز: مكيال لأهل العراق، ثمانية مكاكيك، يقدر بخمسة أوسق. (¬2) المُدْيُ: مكيال لأهل الشام يسع خمسة وأربعين رِطلَا، قيل: يسع تسعة عشر صاعًا. (¬3) يبعد أن تحمل الخلافة الراشدة الأخيرة المذكورة في حديث حذيفة -رضي الله عنه- الآنف الذكر، على خلافة عمر بن عبد العزيز؛ لقربها من الخلافة الراشدة، حتى يقال: إنه خامس الخلفاء الراشدين، ولعل أبا نضرة وأبا العلاء نظرا إلى قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: "في آخر أمتي"، فإن عمر بن عبد العزيز من أولها وليس من آخرها، كما أن خلافته لم تكن بعد ملكين: ملكٍ عاض، ثم ملك جبري. (¬4) أخرجه مسلم رقم (2913)، (2914)، والإمام أحمد (3/ 38، 317، 333)، وانظر: "مجمع الزوائد" (7/ 316). (¬5) "شرح النووي" (18/ 40).

أدلة من قال أن الخلافة الراشدة ستقوم قبل ظهور المهدي

خلافة راشدة قبل المهدي (ب) وقد وردت أحاديث يُفْهَمُ منها قيام خلافة راشدة قبل خروج المهدي: 1 - منها ما رواه عبد الله بنُ حَوَالَة الأزديّ -رضي الله عنه- قال: بَعَثَنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حول المدينة على أقدامنا لنغنم، فرجَعنا ولم نغنم شيئًا، وعَرَفَ الجَهْدَ في وجوهنا، فقام فينا فقال: "اللهم لا تكِلهُم إليَّ فأضعُفَ، ولا تكِلهُم إلى أنفسهم فيعجِزوا عنها، ولا تكِلهُم إلى الناس فيستأثِروا عليهم"، ثم قال: "ليُفْتَحَنَّ لكم الشَّامُ والرُّوم وفارس -أو الروم وفارس- حتى يكون لأحدكم من الإبل كذا وكذا، ومن البقر كذا وكذا، ومن الغنم، حتى يُعْطى أَحَدُهُم مئةَ دينارٍ فيَسْخَطُها". ثم وضع يده على رأسي -أو هامتي- فقال: "يَا بْنَ حَوَالَةَ، إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ قَدْ نَزَلَت الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ فَقَدْ دَنَتِ الزَّلَازِلُ وَالْبَلَايَا وَالْأمُورُ الْعِظَامُ، وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ إلى النَّاسِ مِنْ يَدِي هَذه مِنْ رَأْسِكَ" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد رقم (22487) (37/ 151)، والبخاري في "تاريخه" (8/ 436، 437)، وأبو داود (2535)، والحاكم (4/ 425) , وأبو يعلى (6867)، والطحاوي في "مشكِل الاثار" (1114)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 4,3) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" رقم (2210).

فأخبر أن الخلافة في آخر الزمان تكون في القدس (¬1)، وبعد ذلك تظهر الأشراط الكبرى للساعة بما تحمله من زلازل وفتن. 2 - ومنها ما رواه مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ، وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ، وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ»، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِ الَّذِي حَدَّثَهُ، - أَوْ مَنْكِبِهِ - ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذَا لَحَقٌّ كَمَا أَنَّكَ هَاهُنَا»، أَوْ «كَمَا أَنَّكَ قَاعِدٌ» (¬2)، وفتح القسطنطينية سيتم في زمن المهدي الذي هو في زمن عيسى عليه السلام. قالوا: وعمران بيت المقدس سيكون بالخلافة النازلة فيه؛ وهذا يستلزم تحرير القدس؛ وتحريرها يستلزم قيام الجهاد الشرعي الإسلامي ضد اليهود هناك. 3 - ومنها ما رواه المقداد بن الأسود رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بَيْتُ ¬

_ (¬1) علق الشيخ سعيد حوى -رحمه الله تعالى- على لفظة: "فإذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة ... ": الظاهر أن الحديث في خلافة تكون عاصمتها القدس، وإلى القدس يذهب المسيح -عليه السلام- بعد نزوله في دمشق، وهذا يشير إلى أن فلسطين وقتذاك بيد المسلمين، وأن دولة اليهود الحالية ذاهبة منتهية". اهـ. من "الأساس في السنة" (2/ 1025). (¬2) رواه أبو داود (4294) في الملاحم، باب في أمارات الملاحم، وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود" (3609).

مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ بِعِزّ عَزيزٍ أَوْ ذُلّ ذَليلٍ، إِمَّا يُعِزُّهُم اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ يُذِلّهُم فَيَدِينُونَ لَهَا" (¬1). قالوا: وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فيدينون لها" فيه إشارة إلى الجزية، وإشارة أخرى إلى أن هذا إنما يكون قبل نزول المسيح عليه السلام؛ لأنه لا يقبل الجزية من أحد، لما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ (¬2)، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ (¬3)، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ (¬4)، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (6/ 4)، والحاكم (4/ 430) وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، والبيهقي في "السنن" (9/ 181)، وصححه الألباني في "تحقيق المشكاة" (1/ 25)، والمَدَر: القُرى والأمصار، والوَبَر: صوف الإبل، والأرانب، ونحوها، يعني: أهل البادية، لأنهم يتخذون بوتهم من الوَبَر. (¬2) يكسر الصليب: أي يبطل دين النصرانية، بأن يكسر الصليب حقيقة، ويبطل ما تزعمه النصارى من تعظيمه، والصليب رمز لعقيدة صلب المسيح عند النصارى، والتي يزعمون بمقتضاها أن الرب قد ضحى بابنه المسيح، فمكَّن اليهودَ من صلبه؛ وذلك ليخلص البشرية من الخطيئة، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا. (¬3) قال الحافظ في "الفتح" (343/ 4): "أي: يأمر بإعدام الخنزير مبالغة في تحريم أكله. وفيه توبيخ عظيم للنصارى الذين يدَّعون أنهم على طريقة عيسى -عليه السلام- ثم يستحلون أكل الخنزير، ويبالغون في محبته". (¬4) ويضع الجزية-: أي يتركها ويُسقطها؛ لأنه لن يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ودخل في الإسلام بعد نزول عيسى -عليه السلام- فلا يبقى أحد من أهل الذمة ليؤدي الجزية. قال الحافظ في "الفتح" (6/ 356): "ويؤيده أن عند الإمام أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة: (وتكون الدعوى -أي: الملة- واحدة) ".

من المؤهلون لإعادة الخلافة على منهاج النبوة؟

تَكُونَ السَّجْدَةُ الوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: " وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159] (¬1) (جـ) وهذا يؤكد حتمية عودة الخلافة الإسلامية، وسيادتها على العالم كله، والخلافة لن تسقط على المسلمين في قرطاس من السماء، ولكن للنصر أسبابه المتعددة، وقد بشر -صلى الله عليه وآله وسلم- بفتح رومية (¬2)؛ وهذا الفتح لن يتم إلا بالجهاد في سبيل الله عز وجل، والصبر عليه، وبذل الأموال والأنفس، والخلافة التي يُقيمها هذا الجهاد خلافة راشدةٌ على منهاج النبوة؛ كما أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ ولذلك، فلا بد أن تكون هذه الفئة سالكة طريق النجاة في الدارين؛ حتى لا يطول بها السرى في صحراء الخلافات، والفتن، وطريق السلامة من فتنة الفرقة التي تنبأ بها -صلى الله عليه وآله وسلم- في قوله: "فَإِنَّه مَنْ يَعِشْ بَعْدِي فَسَيَرَي اخْتِلَافًا كثِيرًا" إنما يتلخص في أمرين بَيَّنَهُمَا -صلى الله عليه وسلم-: "فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، ثم قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ" الحديث (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2109)، (2344)، (3264)، ومسلم (155)، (243)، وابن حبان (15/ 227)، (6816)، وغيرهم. (¬2) انظر: هامش رقم (2)، ص (267). (¬3) أخرجه الإمام أحمد (4/ 126)، وأبو داود (4/ 200)، (4607)، والترمذي (5/ 44)، (2676)، وا بن ماجه (1/ 16)، والدارمي (1/ 45)، وقال الترمذي: "حسن صحيح "، وصححه الضياء المقدسي، وغيره.

نهاية الدولة اللقيطة، وقدوم اليهود مع الدجال

فالطائفة المنصورة لا بد أن يكون منهجها موافقًا لمنهاج النبوة؛ الذي هو منهج السلف الصالح، والرعيل الأول القائم على الاتِّبَاعِ، وتَرك الابتداع؛ لأنه هو المنهج الوحيد الصحيح القادر على إعادة الخلافة في الأرض، وهي مع ذلك تحتاج رجالًا أولي عزم وتقى، يقوم على أكتافهم هذا البعث الجديد، فلا بد من تربيتهم على الكتاب والسنة، ولا بد من علاج هذا الواقع الأليم الذي يعاني منه المسلمون في كل مجال في ضوء شريعة الله المصفاة من كل دخيل من الآراء، والأهواء، والبدع فعاد الأمر إلى كلمتين: "التصفية، والتربية". (د) والزمان هو السِّفر المنظور الشارح لكتاب الله المسطور؛ آيات سورة الإسراء تُبَيِّن أنه لا بد من جولة قادمة بين المسلمين واليهود، وقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمِ- قال: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: (¬1): ¬

_ (¬1) القاعدة عند أهل السنة والجماعة أنهم يُجرون نصوص الكتاب والسنة على ظاهرها -أي: معناها الذي يتبادر إلى الذهن منها- معتقدين أنه هو الحق الذي يوافق مراد الله تعالى، ومرادَ رسوله صلى الله عليه وسلم، لا سيما فيما ليس للرأي فيه مجال؛ كنصوص الصفات، والمعاد، وغيرها من أمور الغيب. قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: "آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ". اهـ. من "مجموع الفتاوى" (354/ 6). فنُطق الحجر والشجر هنا حقيقة لا مجاز، ولهذا نظائر في السنة، انظرها في: "عبودية الكائنات" للشيخ فريد بن إسماعيل التوني، ط. دار الضياء- (1413 هـ-1992 م)، فقد أبدع فيه، وأجاد.

يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ " (¬1). قال الإمام النووي تعليقًا على الحديث: "الغرقد نوع من شجر الشوك معروف ببلاد ييت المقدس، وهناك يكون "قتل الدجال واليهود" (¬2). وفي رواية للحديث عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «تُقَاتِلُكُمُ اليَهُودُ فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَقُولُ الحَجَرُ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي، فَاقْتُلْهُ» (¬3). وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبية -رضي الله عنه- مرفوعًا: "ينزل الدجال في هذه السَّبَخَة (¬4) بمَرِّ قناة (¬5) " الحديث، وفيه: "ثم يسلِّط اللهُ المسلمين عليه، فيقتلونه، ويقتلون شيعته، حتى إن اليهوديَّ ليختبِئ تحت الشجرة أو الحجرِ، فيقول الحجرُ أو الشجرةُ للمسلم: هذا يهودي تحتي، فاقتُله" (¬6). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6/ 103 - فتح)، مسلم رقم (2922). (¬2) شرح اننووي (18/ 44، 45)، ومن الجدير بالذكر أن يهود الدولة اللقيطة يكثرون الآن من زراعة هذا الشجر في المستوطنات والحدائق وغيرها، وانظر: "واقعنا المعاصر" ص (543). (¬3) رواه البخاري (6 - / 699)، (61)، كتاب المناقب (25)، باب علامات النبوة رقم (3593) (ورواه مسلم،) (2239)، (52)، كتاب الفتن (18)، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل ... ، حديث رقم (81). (¬4) السَّبَخة: أرض تعلوها الملوحهّ، ولا تكاد تُنْبِتُ إلا بعضَ الشجر. (¬5) مَرُّ قناة: وادٍ بالمدينة. (¬6) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (9/ 255) رقم (5353)، وفيه محمد بن إسحاق، وهّو مدلس، وقد عنعنه.

وعليه فالمراد بقتال اليهود هنا وقوع ذلك إذا خرج الدجال، ونزل عيسى- عليه السلام. (¬1) وروى الإمام أحمد عن جابر -رضي الله عنه- مرفوعًا: " ... حتى أن الشجرة والحجر ينادي: يا رُوحَ الله، هذا يهودي، فلا يترك ممن كان يتبعه أحدًا إلا قتله " (¬2). ويتضح من الأحاديث -أيضا- أن المسلمين وقيادتهم سيكونون ببيت المقدس، وأن الدجال ومن معه -وغالبُ مَن معه مِن اليهود- سيقدمون إلى فِلَسطينَ من خارجها، ولن يكونوا فيها، وسيحاصرون المهدي ومن معه حتى ينزل عليهم عيسى ابن مريم، وأنه -عليه السلام- ومعه المؤمنون سيتعقبون الدجال ومن معه، فيقتله المسيح عيسى ابن مريم عند باب لُدٍّ، ويقتل أتباعه حتى إن الحجر والشجر ليدلان المسلمين عليهم. وهذا كله يعني لنا شيئًا واحدا ومهمًا هو أن دولة الكيان اليهودي المغتصب في فلسطين الآن لن تبقى حتى ذلك الوقت، وإنما هي في سبيلها إلى الزوال. قال الأستاذ سعيد حوى -رحمه الله تعالى- " ... إن دولة اليهود الخالية على كل الاتجاهات في الفهم للنصوص ستنتهي، وليست نهايتها معلقة بنزول المسيح عيسى ابن مريم -عليه السلام-، وإن النصوص ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" (6/ 610). (¬2) رواه الإمام أحمد رقم (14954) (23/ 212)، وقال المحقق: "إسناده على شرط مسلم ".

الواردة في أن الحجر والشجر يدلان المسلم على اليهودي ليقتله ليست واردة في هؤلاء اليهود، بل في يهود يقدمون مع الدجال" (¬1). ولئن وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولئك المجاهدين -في هذا الحديث- بوصف عام هو الإسلام؛ فلقد وصفهم بوصفٍ أخصَّ؛ وهو كونهم "أهلَ السنة والجماعة"، و"الطائفة المنصورة"؛ وذلك فيما رواه عمران بن حصين -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ، حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ» (¬2)، وهذا الحديث يشير إلى أن من ضمن قتالهم قتال المسيح الدجال وأعوانه؛ وأعوانه أكثرهم اليهود، وقد رُوي عن عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أكثر أتباع الدجال اليهودُ والنساء" (¬3). -وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدين ظَاهِرِينَ، لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهمْ مَنْ جابههم إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأوَاءَ، حَتَّى يَأْتيَهمْ ¬

_ (¬1) "الأساس في السنة وفقهها" (2/ 1025). (¬2) رواه الإمام أحمد (4/ 429)، وأبو داود (2484)، والحاكم (2/ 71)، (4/ 450)، وقال: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" رقم (2170). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 216، 217)، وفيه علي بن زيد بن جدعان، ضعيف.

أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ، قَالُوا أَيْنَ هم يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأكنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ" (¬1). -وهذا الحديث واضح الدلالة على أن القوم المقاتلين الذائدين عن بيت المقدس هم من نفس الطائفة المنصورة؛ أهل السنة والجماعة. وفيه تحديد لأماكن وجودهم في آخر الزمان. -وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَبْوَابِ دِمَشْقَ، وَمَا حَوْلَهُ وَعَلَى أَبْوَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَا حَوْلَهُ، لَا يَضُرُّهُمْ خُذْلَانُ مَنْ خَذَلَهُمْ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ» (¬2). قالوا: إن الأحاديث الشريفة تدل على حدوث قتال بين المسلمين واليهود، وانتصارهم على اليهود قبل زمن الدجال، وليس شرطًا أن تكون المعركة بين المسلمين، وبين صنف من أعدائهم واحدة فقط؛ فقد تتعدد المعارك، وتتكرر الفتوحات، فالقسطنطينية (¬3) -مثلًا- فتحها السلطان محمد الأول [857هـ-1453م]، وهذا الفتح غير الفتح الأخير الذي أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل خروج الدجال مباشرة، ¬

_ (¬1) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في المسند (5/ 269)، عن أبيه وِجَادَةً، ورواه الطبراني، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 291): "رجاله ثقات". (¬2) رواه أبو يعلى، قال الهيثمي: "ورجاله ثقات"، انظر: "مجمع الزوائد" (10/ 63، 64). (¬3) مدينة بناها الملك قسطنطين، وهي مثلثة الشكل؛ جَانِبَان منها في البحر، وجانب فى البر.

وفتح بيت المقدس تم في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ثم احتله النصارى الصليبيون، ثم فتح في عهد صلاح الدين الأيوبي، ثم احتل في عهد التتار ثم فتح، ثم احتله النصارى الإنجليز، ثم احتله اليهود، وسيتم عمرانه، وفتحه مرة أخرى قبل فتح القسطنطينية. يقول الأستاذ عبد الوهاب عبد السلام طويلة: "لقد فُتحت القسطنطينية لأول مرة في زمن السلطان العثماني محمد الثاني، المعروف بالفاتح -رحمه الله-؛ فحاز بذلك مع جيشه بشارة النبي صلى الله عليه وسلم، ومديحه كما سلف، غير أن الضعف حَلَّ بالمسلمين بعد الحرب العالمية الأولى، وتداعت عليهم الأمم؛ بسبب ابتعادهم عن دينهم الذي أعزهم الله به، فأصبحت القسطنطينية تحت حكم الملحد مصطفى كمال، صنيعة الصهيونية والاستعمار، ولا زالت الأمور في تركيا تسير من سيئ إلى أسوأ؛ حتى إنهم حالفوا اليهود، وفتحوا لهم بلادهم، وتوددوا إليهم، وهم -أيضًا- يخطبون وُدَّ الأوربيين بتضييق الخناق على المسلمين، ومحو كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، والأوربيون لا يَعْبَئُون بهم، بل يحتقرونهم، وربما يطرأ تغيير على الوضع الدولي قبل ظهور المهدي، وخروج الدجال؛ فتصبح القسطنطينية تحت حوزة النصارى، أو حلفائهم. والفتح الأخير لها لن يكون بقتال؛ وإنما بالتكبير، والتهليل تسقط المدينة؛ مكافأة للمسلمين الذين أبلوا بلاء حسنًا لدى قتال الروم في الملحمة الكبرى. -عن أبي هريرة- رضي الله عنه- في حديثه السابق: " ... وَيَفْتَتِحُ

الثّلثُ لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا، فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينيَّةَ، فبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ، قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُون؛ إِذْ صَاحَ فِيهِم الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهالِيكُمْ؛ فَيَخْرُجُونَ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ... " الحديث. -وعنه- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «سَمِعْتُمْ بِمَدِينَةٍ جَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَرِّ وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ؟» قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَاقَ، فَإِذَا جَاءُوهَا نَزَلُوا، فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ وَلَمْ يَرْمُوا بِسَهْمٍ، قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا - قَالَ ثَوْرٌ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ - الَّذِي فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّانِيَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الْآخَرُ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّالِثَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، فَيُفَرَّجُ لَهُمْ، فَيَدْخُلُوهَا فَيَغْنَمُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْمَغَانِمَ، إِذْ جَاءَهُمُ الصَّرِيخُ، فَقَالَ: إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ، فَيَتْرُكُونَ كُلَّ شَيْءٍ وَيَرْجِعُونَ "، (¬1). اهـ (¬2). ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم" رقم (2920). (¬2) "المسيح المنتظر ونهاية العالم" ص (81، 82).

وعد الله -تعالى-

وَعْدُ اللهِ -تَعَالى- لقد سقطت دولة الخلافة، وابتعد أكثر المسلمين عن القرآن رويدًا رويدًا؛ فتناولتهم السبل، ومخروا عُبابَ بحرِ الفُرقةِ اللَّجَب، وابتعدوا عن شاطئ النجاة؛ فاستوت بهم سفينة الحيرة على صخرة الاختلاف، وبلغ بهم الأمر إلى أنهم نبذوا كتاب ربهم وراء ظهورهم، وذابوا في غيرهم؛ حتى صار من بين المسلمين من لا تستطيع أن تميزه من الكافر لا في المظهر فحسب، بل حتى في الصميم من الأخلاق والأفكار والعادات. وعلى حين غفلة من هذا المارد النائم، لملمت فلول الشرذمة المغضوب عليها قواها المبعثرة، وأعادوا الكرة على الذين نبذوا كتاب ربهم وراء ظهورهم؛ فأذلوهم، وأذاقوهم ألوان الخزي والعار، وانهالت الإمدادات على أمة القردة، والخنازير من أمة الضالين، وعَبَدة الطاغوت؛ فأصبح اليهود أكثر نفيرًا من المسلمين، {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6]، وها هم رعاة الأمة -إلا من رحم الله- قد نسوا الله فأنساهم أنفسهم؛ حاربوا أولياء الله الداعين إلى طريق النجاة،؟ تبرءوا من الإسلام، وتنكروا له، وأرادوا أن يُحَلِّقُوأ في الدنيا بجناح المادة، فخذلهم جناح الإيمان، فكُبكبوا على وجوههم، وتولى الله تأديبهم على يد مَن لا يرقبون فيهم إلًّا ولا ذمة؛ فتراهم متخبطين في كل قطر، أذلة في كل وجه، يسومهم أعداء الله سوء العذاب، ويفرضون عليهم الخزي والعار، ويتخذونهم مطية رخيصة؛ ليصلوا عليها إلى مآربهم التوراتية، والتلمودية، ولكن لن يتم لهم ذلك، ولن يجنوا ثماره بإذن الله؛ لأن الله -عز وجل- قضى -وهو أحكم الحاكمين-، ووعد -وهو سبحانه الذي

لا يخلف الميعاد-: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)} [الإسراء: 7, 8] أي: إن عدتم للإفساد، والعلو في الأرض؛ عاد الله عليكم بتسليط أعدائكم عليكم؛ كما فعل في الإفساد الأول (¬1)؛ إذ قال -سبحانه-: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)} [الإسراء: 5]، وفي المرة التالية قال -تعالى-: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) [الإسراء: 7]؛ حتى تعود فلسطين المسلمة بعد أن يستيقظ المارد النائم ليصب على الأمة الغضبية جام غضب الله عليهم، ويحرر الأقصى الأسير (¬2)، ويفتحه خليفة المسلمين من جديد؛ كما فتحه من قبلُ عمرُ الفاروق، وصلاحُ الدين. ويقتضي هذا كله أن القتال في فلسطين سيعود إسلاميا خالصًا في سبيل الله وحده، لا قوميًّا رغم أنف العالَمانيين (¬3) والقوميين وأذنابهم، ¬

_ (¬1) والثاني، بناءً على أن المرتين مضتا، وعليه فالشاهد هنا عموم قوله تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}. (¬2) انظر: "مجموعة الرسائل الكبرى"، لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 57، 58). (¬3) "العِلْمانية" ترجمة غير صحيحة لكلمة (Secularism) في الإنكليزية، زيد فيها ألف ونون في الاسم المنسوب على غير القياس، لأن الكلمة بكسر العين توهِم أن لهذا المذهب علاقةَ بالعلم، مع أنه لا صلة له بالعلم من قريب ولا من بعيد، لأن العلم هو (Science) النسبة إليه: عِلميٌ (Scientific). والترجمة الصحيحة لهذه الكلمة هي (الدنيوية) أو (اللادينية) لا بمعنى ما يقابل (الأخروية) فحسب، بل بمعنى أخص، وهو: ما لا صلة له بالدين (Non-Religious)، أو: ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد (Anti-Religious). =

ولا يقدر على ردع الشيطان اليهودي سوى نور القرآن؛ يحرقه ويبيده، ولن يَهْزِمَ شِرْكَهُمْ إلا توحيدُنا، ولعل تعقيب الآيات بقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، فيه إشارة لطيفة إلى أن سلاح العودة إلى بيت المقدس، وقبلتنا الأولى هو كتاب ربِّنا لا غير، ويقتضي هذا -أيضًا- أن قضية فلسطين لن تُحل سلميًّا، ولن ينعم اليهود أبدًا بالسلام الأبدي الذي يحلمون به، وإن استمرت موجات هجرتهم إلى الأرض المقدسة: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 4]؛ فإنهم سيجتمعون لفيفًا فيما يُسَمُّونه أرضَ (الميعاد) من كل حَدَبٍ، وصوبٍ، ومن كل فَج عميقِ يلبون نداء القدر الذي قضى الله به عليهم منذ الأزل، وإن استمر الإمداد المادي من عبَّاد الصليب، وغيرهم؛ فهذا ما أخبر به -عز وجل- في قوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6]. والحاصل: أنه لن يهدأ للمغضوب عليهم بَالٌ، ولن يقر لهم قرار -إن شاء الله-؛ لأن الله -عز وجل- قضى بمنع ذلك، أما الخريطة التي نقشوها على باب (الكنيست) (¬1)؛ فلن يكون لها وجود إلا في عقولهم ¬

_ = وعليه، فإن كان ولابد -فلنقل: (عالَمانية) نسبة إلى هذا العالَم الدنيوي (مع تجاهل أو إنكار العالم الأخروي بفصل الدين عن الحياة)، حتى نفوت على المدلسين والمغرضين محاولتهم تجميل هذا المذهب والترويج له بين المسلمين بإيهام أنه (عِلْمي)، وانظر: "الإسلام والعلمانية وجهًا لوجه" للدكتور القرضاوي ص (48 - 50)، و"العلمانيهَ" للدكتور سفر الحوالي ص (21 - 24). (¬1) بل التي يرمز إليها عُمْلَتُهُمْ، وعَلَمُ دولتهم اللقيطة، الذي يحتوي خطين أزرقين أفقيين متوازيين أحدهما يشير إلى النيل، والآخر يشير إلى الفرات، بينهما أرضية تحمل "نجمة داود"، والتي ترمز إلى امتداد سلطان دولتهم من النيل إلى الفرات، والتي يشير تطابق مثلثيها إلى تعانق السلطة الدينية مع السلطة المدنية كما كان شأن الدولة في عهد داود وسليمان عليهما السلام.

المحنَّطة، وقلوبهم الصلبة القاسية؛ كحجارة (الكنيست) التي نقشوها عليها، أو أشد قسوة. وعودة الأقصى للمسلمين بالمثابة التي ذكرنا تستلزم قيام خلافة راشدة على منهاج النبوة؛ فقد قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا شَاءَ، ثُمَّ تَكُونُ الْخِلَافَةُ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا (أي: وراثيًّا)؛ فَتَكُونُ مُلْكًا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَرْفَعُهُ إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً (أي: قهريًّا)،ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ سَكَتَ» (¬1). يقول مؤلفا "الجماعات الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة": "وأحاديث المهدي الصحيحة تخبر بظهور مصلح في آخر الزمان؛ يحكم بالكتاب والسنة، يملأ الأرض عدلًا بعد ما ملئت جورًا وظلمًا، يبايَع وهو مكره (¬2)، يحكم ثماني أو سبع حجج، يكثر المال في زمانه، ويحثوه، ولا ¬

_ (¬1) رواه من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- الإمام أحمد (273/ 4)، والطيالسي رقم (438) (58/ 1)، في "مسنديهما"، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 189): (رواه أحمد، والبزار في "مسنده" (7/ 223) رقم (2796) أتم منه، والطبراني في "الأوسط" ورجاله ثقات)، وقال الحافظ العراقي: "هذا حديث صحيح" كلما نقله عنه الألباني في "الصحيحة" الحديث الرابع ص (9). (¬2) وردت أحاديث كثيرة بشأن مبايعة المهدي، وهو كاره، لكن لا يصح منها شيء، وانظر: "الفتن" لأبي نعيم (1/ 341 - 344)، و"سنن أبي داود" (108/ 4)، "والمسند" للإمام أحمد (6/ 316). و"الموسوعة في أحاديث المهدي" ص (149 - 161) (330 - 338).

يعده؛ اسمه محمد بن عبد الله، من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ولد فاطمة -رضي الله عنها-، وهو إمام عادل تقي، وحاكم منصف، وليكن معلوما لدى الجميع أن الخلافة الراشدة تعود قبل ظهور المهدي؛ وليس كما يعتقد الناس، وتزعم بعض الجماعات الإسلامية؛ مثل جماعة التبليغ أن الخلافة يرجعها المهدي، وهم ينتظرونه؛ فإن هذا ما لا دليل عليه، بل هو وهمٌ، وخرص، وتخمين. وأخيرًا يقول الأستاذ سعيد حوى -رحمه الله تعالى، وعفا عنا وعنه-: "وبعض المسلمين علقوا فكرة العمل للخلافة على ظهور المهدي، مع أن العمل لإيجاد خليفة للمسلمين فريضة شرعية، فلا يصح أن يُعَلَّقَ العملُ لها حتى يظهرشخص ما" (¬1). ثم يقول: "وأغلب الذين ينتظرون خروج المهدي يعتبرونه كائنا بين يدي نزول المسيح عليه السلام، ويتوقعون -مع هذا- أن ظهوره أصبح قريبًا، مع أن ظواهر النصوص تشير إلى أن بيننا وبين نزول المسيح -عليه السلام- أمدًا، ففلسطين لا تكون وقتذاك مقرًّا لليهود، بل اليهود الذين يأتون إليها وقتذاك يأتون مع المسيح الدجال، وتكون فلسطين وقتذاك مقرًّا للخلافة الراشدة، وهذا يدل على أن دولة اليهود الحالية ستنتهي، وإذَن فمع إيماننا بظهور المهدي بالصفات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يصح لنا أن نعلق الفرائض المطلوبة منا شرعًا سواء كانت فروضا عينية أو كفائية على ظهوره، ولكننا ننوي إذا ظهر وعرفناه بصفاته أن نكون من جنده وأنصاره بإذن الله". ¬

_ (¬1) "الأساس في السنة" ص (1022).

المهدي والمسيح -عليه السلام- سيتعاصران

وذكر الأستاذ سعيد حوى -رحمه الله تعالى- أنه يستفاد من أن المهدي والمسيح -عليه السلام- سيتعاصران: أن خلافة راشدة ستسبقهما، قال: "وقد نقل كثير من العلماء نصوصًا وسكتوا عنها (¬1) تفيد أن نزول المسيح في زمن المهدي، وهذا الذي جعل هذا الأمر ينطبع في أذهان كثير من العلماء: أن المهدي مرتبط زمانُه بزمانِ المسيح عليه السلام، فإن صح (¬2) هذا الاتجاه فهذا يفيد أنه سيكون قبل ذلك خلافةٌ على منهاج النبوة تكتسح الأرضَ كلَّها، وستفتح الأمةُ الإسلامية العالم، ولا يبقى بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرِ إلا دخلته كلمةُ الإسلام بعِز عزيزِ وذُلِّ ذليلٍ، ومظهر الذلَّةِ دفعُ الجزية، بينما المسيح -عليه السلام- لا يقبلها" (¬3). فخلاصة ما ورد في المهدي ما تقدم ذكره، ومن الأدلة الدامغة على أن الخلافة ترجع قبل هذا الخليفة الصالح أن المسلمين يسترجعون بيت المقدس من اليهود؛ كما سبق ذكره، وتبيانه، بينما المهدي يكون عند ظهوره في بيت المقدس (¬4)؛ أي أن بيت المقدس يكون في أيدي المسلمين، وبيت المقدس الآن يرزح تحت قهر الاحتلال الصِّهْيَوْنِي ¬

_ (¬1) بل صححها جمع من العلماء كما في كتابي "المهدي" ص (38 - 40). (¬2) وقد صح كما أسلفنا، وذهب إليه جمع من العلماء، كما في "المهدي" ص (51 - 56). (¬3) "الأساس في السنة" ص (1022). (¬4) ولعل هذا مأخوذ من قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي أمامة الطويل في الدجال: "وكلهم -أي: المسلمون- ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح قد تقدم ليصلي بهم، إذ نزل عيسى" الحديث، انظر: "فتح الباري" (6/ 493)، واعلم أنه لا يوجد نص صريح يجزم بتحديد مكانِ أولِ ظهورِ للمهدي، البعض يرى أنه سيظهر في الشام بناء على الحديث الآنف الذكر، وكذا حديث -أبي هريرة- رضي الله عنه- =

لا بد من قيام الخلافة قبل المهدي

اليهودي البغيض، فلا بد من قيام الخلافة قبل المهدي؛ لأنها هي السبيل الوحيد لاسترجاع مجد الإسلام التليد" (¬1). اهـ. ¬

_ = مرفوعًا: "لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة" الحديث، وفيه: "فإذا جاءوا الشام خرج -أي: الدجال- فبينما هم يُعِدُّون للقتال، يُسَوُّون الصفوف؛ إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم "الحديث رواه مسلم (18/ 21، 22 - نووي). ويرى البعض أنه يخرج من المشرق، واستدلوا: - بما يُروى عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعا: "إذا أقبلت الرايات السود من خراسان؛ فأتُوها، فإن فيها خليفةَ اللهِ المهدي" وهو ضعيف كما في "المهدي المنتظر" للبستوي ص (158 - 162). - وبما يُروى عن ثوبان -رضي الله عنه- مرفوعا: "يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة، ثم لا يصير إلى واحد منهم، ثم تطلع الرايات السود من قِبَلِ المشرق، فيقتلونكم قتلًا لم يُقْتَله قوم، ثم ذكر شيئا لا أحفظه، فقال: فإذا رأيتموه، فبايعوه، ولو حبوًا على الثلج؛ فإنه خليفة الله المهدي" قال الألباني: "منكر"، "السلسلة الضغيفة" رقم (85)، وإن صح؛ فإنه لا يحدد مكان خروج المهدي، وليس فيه ربط بين المهدي وبين أصحاب الرايات السود. ويرى البعض أن أول ظهوره يكون في مكة والمدينة، قال القاري في "شرح الفقه الأكبر": "ترتيب القضية أن المهدي -عليه السلام- يظهر أولا في الحرمين الشريفين، ثم يأتي بيت المقدس، فيأتي الدجال، ويحصره في ذلك الحال، فينزل عيسى -عليه السلام- من المنارة الشرقية في دمشق الشام، ويجيء إلى قتال الدجال، فيقتله بضربة في الحال ... ، فيجتمع عيسى -عليه السلام- بالمهدي -رضي الله عنه- وقد أقيمت الصلاة ... ، ويقتدي به ليظهر متابعته لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم". اهـ. ملخصا ص (112). وأغرب بعضهم، فادعى خروجه من المغرب، وأشار القرطبي إلى ضعفه، كما في "التذكرة" ص (723 - 725). (¬1) بتصرف من: "الجماعات الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة" ص (41 - 58) لمؤلِّفَيْهِ: سليم الهلالي، وزياد الدبيح.

هذا حاصل اجتهاد هذا الفريق، والله تعالى أعلم، ونسبة العلم إليه -عز وجل- أسلم وأحكم. ... وهذا آخر ما قصدت جمعه في هذا الباب، تذكرةً لأولي الألباب، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله، وسلَّم، وبارك على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

§1/1