ففروا إلى الله - القلموني

أبو ذر القلموني

بسم الله الرحمن الرحيم • التوبة - ثمرة الاستغفار النافع تصحيح التوبة - كتابة الحسنات والسيئات. • توبة المرأة (الحجاب). • الدنيا - وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. (الموت. • الصلاة - حكم قضاء الصلاة الفائتة. • الذكر - منزلة الذكر وأقسامه. • الدعاء - أدعية الكرب - ختامه مسك. • حكم الإسلام في الغناء. • داء العشق ودواؤه. • آداب وأحكام من سورة النور - الحمو الموت - آداب الهاتف من آداب دخول البيوت. • حكم تغطية وجه المرأة، خصوصًا الشابة - أحكام العورة بين المحارم. • حكم عمل المرأة خارج البيت. • كيفية تعليم المرأة. • علاج الصرع وعلاج السحر وفك الربط وعلاج الحسد. • الدين النصيحة. هذا الكتاب من أراد أن يطبعه فليطبعه دون إذن وليتق اللَّه فيه * * *

{لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} [التوبة: 118]

رجاء

رجاء أرجو اللَّه الالتزام بنهج كتبى كلها، والدقة عند طباعتها. فقد أضاف البعض إلى عنوان الكتاب «ففروا إلى اللَّه» أضاف {إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌّ} [الذاريات: 50]. وأضاف البعض الآخر إلى قوله تعالى: {إِنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى اللَّهِ} [هود: 29]، أضاف جملة أخرى ليست من كتاب اللَّه ولا من سنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ونقل البعض الهدف من الكتاب، ووضعه في أول صفحة وأدخل عبارة (من أراد أن يطبعه فليطبعه دون إذن وليتق اللَّه فيه) أدخلها داخل الكتاب في الهامش. وكتب البعض على الكتاب: (حقوق الطبع محفوظة)، والكتاب مكتوب عليه العبارة السابقة (من أراد أن يطبعه ... ). وقام البعض بجمعه مرة أخرى - جزاه اللَّه خيرًا - ولكن مع وقوع أخطاء كثيرة. وجزى اللَّه خيرًا كل تاجر يسر على الناس وصول الكتب الشرعية إليهم ورفق بهم. بشرى لكل ناسخ وناشر قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا: «إذا ماتَ الإِنْسانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثلاث؛ صَدَقَةٍ جارِيَةٍ، أوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أوْ وَلَدٍ صالحٍ يَدْعُو لهُ» [رواه مسلم] قال المنذري: وناسخ العلم النافع: له أجره وأجر من قرأه أو كتبه أو عمل به ما بقي خطه، وناسخ ما فيه إثم: عليه وزره ووزر ما عمل به ما بقي خطه. * * *

المقدمة

المقدمة إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامُنَواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا - يُصْلِحَ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب اللَّه تعالى، وخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250]، {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ... ربنا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286]، {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]، {رَبَّنَا إِنَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 16]، {رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَا أَنزلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53]، {ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147]، {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ - رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ - رَّبَّنَا إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ - رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 192 - 194]، {رَبَّنَآ آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83]، {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 47]، {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89]، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126]، {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس: 85، 86]، {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}

[إبراهيم: 41]، {رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10]، {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 109]، {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65]، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ - رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7 - 9]، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10]، {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ - رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة: 4، 5]، {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8]. يا رب: أدعوك وأنا العبد الذليل، وأنت الرب العزيز، يا رب: أسألك من فضلك ورحمتك لي ولكل المسلمين، فإنه لا يملكها إلا أنت. اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيرًا لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيرًا لنا، اللهم ونسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الإخلاص في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بالقضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا وارزقنا. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم إنا نسألك من الخير ما سألك منه عبدك ونبيك، ونعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، ونسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لنا خيرًا. آمين، وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد للَّه رب العالمين. قال اللَّه تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].

جاء في «مختصر تفسير ابن كثير» - رحمه اللَّه - ما مختصره: أي وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد اللَّه {وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي: لا تفهمون تسبيحهم؛ لأنها بخلاف لغاتكم، وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات، كما في «صحيح البخاري» عن ابن مسعود أنه قال: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. وفي حديث أبي ذر: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ في يده حصيات، فسُمِعَ لهن تسبيحٌ كحنين النحل، وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان رضي اللَّه عنهم (¬1). وقال الإمام أحمد عن أنس رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه دخل على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل، فقال لهم: «اركبوها سالمة ودعوها سالمة، ولا تتخذها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق (¬2)، فرب مركوبة خير من راكبها، وأكثر ذكرًا للَّه منه». قال بعض السلف: صرير الباب تسبيحه، وخرير الماء تسبيحه. وقال آخرون: إنما يسبح من كان فيه روح من حيوان ونبات. وقوله: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} أي: لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، بل يؤجله وينظره، فإن استمر على كفره وعناده أخذه أخذ عزيز مقتدر (¬3). انتهى. * * * ¬

(¬1) قال ابن كثير: وهو حديث مشهور في المسانيد. (¬2) الحديث إلى قوله: «والأسواق» صححه الألباني في «صحيح الجامع» بلفظ: «وتدعوها». (قل). (¬3) «مختصر تفسير ابن كثير» للصابوني أثابه اللَّه تعالى (ج2 ص379: 380). (قل).

آثار ترك الذنوب والمعاصي

آثار ترك الذنوب والمعاصي قال ابن القيم رحمه اللَّه: سبحان اللَّه رب العالمين! لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة (¬1)، وصون العرض، وحفظ الجاه، وصيانة المال - الذي جعله اللَّه قوامًا لمصالح الدنيا والآخرة - ومحبة الخلق، وجواز القول بينهم، وصلاح المعاش، وراحة البدن، وقوة القلب، وطيب النفس، ونعيم القلب، وانشراح الصدر، والأمن من مخاوف الفساق والفجار، وقلة الهم والغم والحزن، وعز النفس عن احتمال الذل، وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية، وحصول المخرج له مما ضاق على الفساق والفجار، وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسب، وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي، وتسهيل الطاعات عليه، وتيسير العلم، والثناء الحسن في الناس، وكثرة الدعاء له، والحلاوة التي يكتسبها وجهه، والمهابة التي تلقى له في قلوب الناس، وانتصارهم له وحميتهم له إذا أوذي أو ظلم، وذبهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب، وسرعة إجابة دعائه، وزوال الوحشة التي بينه وبين اللَّه، وقرب الملائكة منه، وبعد شياطين الإنس والجن منه، وتنافس الناس على خدمته، وخطبتهم لمودته وصحبته، وعدم خوفه من الموت، بل يفرح به لقدومه على ربه، ولقائه له ومصيره إليه، وصغر الدنيا في قلبه، وكبر الآخرة عنده، وحرصه على الملك الكبير والفوز العظيم فيها، وذوق حلاوة الطاعة، ووجدان حلاوة الإيمان، ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له، وفرح الكرام الكاتبين له، ودعاؤهم له كل وقت، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته، وحصول محبة اللَّه له، وإقباله عليه وفرحه بتوبته. فهذا بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا، فإذا مات تلقته الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة وبأنه لا خوف عليه ولا حزن، وينتقل من سجن الدنيا وضيقها إلى روضة من رياض الجنة ينعم فيها إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحر والعرق وهو في ظل العرش، فإذا انصرفوا بين يدي اللَّه أُخذ به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم (¬2). انتهى. ¬

(¬1) جواب لم يذكره المصنف لظهوره. (¬2) كتاب «الفوائد» لابن القيم رحمه اللَّه (ص 151: 152). (قل).

تنبيهات

فسبحانك يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك! سبحانك أنت الأحد الصمد الذي لم يَلد ولم يُولد ولم يكن له كفوًا أحد. قال تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ - فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (¬1) [الذاريات: 49: 50]. قال ابن كثير رحمه اللَّه: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} أي: جميع المخلوقات أزواج: سماء وأرض، وليل ونهار، وشمس وقمر، وبر وبحر، وضياء وظلام، وإيمان وكفر، وموت وحياة، وشقاء وسعادة، وجنة ونار، حتى الحيوانات والنباتات، ولهذا قال اللَّه تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} أي: لتعلموا أن الخالق واحد لا شريك له {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} أي: الجئوا إليه واعتمدوا عليه في أموركم {إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ - وَلاَ تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي: لا تشركوا به شيئًا {إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}. تنبيهات: 1 - نظرًا لتداخل الهوامش رمزت للعبد الذليل لربه (أبي ذر القلموني) بكلمة (قل)، وهي تعني عند وضعها في نهاية الهامش أن ما في هذا الهامش من كلامي، سواء كان تعليقًا على ما هو مكتوب في الأصل أو كان الكلام لي ابتداء، وإتمامًا للفائدة رمزت لكتاب ترتيب ¬

(¬1) راجع «مختصر تفسير ابن كثير» للصابوني أثابه اللَّه تعالى (ج3 ص386: 387). (قل). • تنبيه: ظهرت طبعة منذ أربع سنوات بتحقيق أحد الإخوة في اللَّه وأحسبه مخلصًا مؤدبًا ولا أزكي على اللَّه أحدًا، وقد استفدت منه تحقيق حوالي تسعة أحاديث ضعيفة حذفتها من جملة الأحاديث التي حذفتها في هذه الطبعة - والتي كنت قد أشرت إلى ضعف غالبها - ولكن الأخ بنية حسنة قام بتحقيق النسخة القديمة، وغالب الظن أنه لم تقع في يديه الطبعة المحققة للمرة الأولى، والتي صدرت من حوالي تسع سنوات، وشاء اللَّه تعالى أن تقوم «دار الحرمين» بارك اللَّه فيها وفي أصحابها وفيمن يعملون بها، وكذا يا رب سائر المكتبات الإسلامية - بجمع الكتاب جمعًا طيبًا يليق بالقرآن والسنة، محتسبة أجر ذلك عند اللَّه تعالى، مراعية الوصية الخاصة بكتبي، وهي: (من أراد أن يطبعه فليطبعه دون إذن وليتق اللَّه فيه)، فاللهم اجز عنا خيرًا كل من ساهم في نشر دينك، مَن يُعْلمون ومن لا يُعْلمون. (قل). …وقد قامت مكتبة السنة - رحم اللَّه مؤسسها - وبارك فيها وفيمن يعملون بها بجمع الكتاب جمعًا جديدًا قيّمًا في قرابة ثلاثمائة صفحة، تيسيرًا على القارئ، محتسبة أجر ذلك عند اللَّه تعالى، مراعية الوصية السابقة، فاللهم علينا الأذان وعليك البلاغ. (قل).

موضوعات الكتاب:

أحاديث صحيح الجامع الصغير وزيادته على الأبواب الفقهية بـ (ب - ف) .. 2 - وضع هاتين العلامتين [] في وسط الشرح: تعني إيضاحًا مني لما هو مكتوب في الأصل. 3 - كلمة أولاً أو ثانيًا ... إلخ: تعني في غالب الأحوال ابتداء نقطة جديدة. 4 - كلمة انتهى: تعني أن الكلام قد انتهى من الكتاب المشار إليه، وبعدها أبدأ في التعليق على هذا الكلام أو في الانتقال إلى نقطة أخرى. 5 - كلمة مختصر: تعني أنني قمت بالاختصار لهذا الموضوع، وذلك في كل المواضيع التي أذكر فيها مختصر، إلا كتابيْ «مختصر تفسير ابن كثير» و «مختصر منهاج القاصدين» فكنت إذا أردت اختصار أحدهما كتبت جاء في مختصر .. ما مختصره. الهدف من وراء هذا الكتاب: أن يتقبله اللَّه صدقة جارية لكل مسلم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، وأن يهديني اللَّه به والحيارى من المسلمين إلى الطريق المستقيم، وأن يتم اللَّه به إيمان المسلمات التائهات، اللاتي يكمن الإيمان في قلوبهن كما يكمن نور الشمس حين يولي النهار، ولكنهن معذورات لا يعرفن الطريق. موضوعات الكتاب: 1 - التوبة - ثمرة الاستغفار النافع تصحيح التوبة - كتابة الحسنات والسيئات. 2 - توبة المرأة (الحجاب). 3 - الدنيا - وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. 4 - الموت. 5 - الصلاة - حكم قضاء الصلاة الفائتة. 6 - الذكر - منزلة الذكر وأقسامه. 7 - الدعاء - أدعية الكرب - ختامه مسك. 8 - حكم الإسلام في الغناء. 9 - داء العشق ودواؤه. 10 - آداب وأحكام من سورة النور - الحمو الموت - آداب الهاتف من آداب دخول البيوت. 11 - حكم تغطية وجه المرأة، خصوصًا الشابة - أحكام العورة بين المحارم. 12 - حكم عمل المرأة خارج البيت. 13 - كيفية تعليم المرأة.

14 - علاج الصرع وعلاج السحر وفك الربط وعلاج الحسد. 15 - الدين النصيحة. وفي النهاية أقول: إن الكمال للَّه وحده، ويأبى اللَّه إلا أن يتم نوره، وإنه لو كانت الذنوب تعمي البصر ما استطعت أن تنظر في كلامي، وإنني لا أطمع إلا في رحمته سبحانه، التي لا يملكها إلا هو، وإني أطلب منك الدعاء بظهر الغيب، خصوصًا أن: يجعلني اللَّه وإياك وسائر المسلمين من عتقائه من النار، ويا حظ من زحزح عن النار وأدخل الجنة: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]. ففروا إلى اللَّه ... ففروا إلى اللَّه ... ففروا إلى اللَّه والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته (¬1). ¬

(¬1) قال العلماء: رد التحية في الرسائل وغيرها، كرد التحية عند سماعها، فيقول القارئ هنا (وعليكم السلام ورحمة اللَّه وبركاته). (قل).

الباب الأول: التوبة

الباب الأول: التوبة قال اللَّه تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ - وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ - أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ - أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ - أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ - بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 52 - 59]. قال ابن كثير رحمه اللَّه تعالى في تفسيره العظيم: هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن اللَّه تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حمل هذه على غير توبة؛ لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه. عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، فأتوا محمدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ} [الفرقان: 68]، ونزل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} (¬1) ... فهذه الأحاديث كلها: دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة، ولا يقنطن عبد من رحمة اللَّه، وإن عظمت ذنوبه وكثرت، فإن باب الرحمة والتوبة واسع، قال اللَّه تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة: 104]، وقال عزّ وجلّ: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 110]، وقال جل وعلا في حق المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا - إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ} [النساء: 145، 146]، وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج: 10]. قال الحسن البصري رحمه اللَّه: انظروا إلى هذا الكرم والجود: قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة! والآيات في هذا كثيرة جدًّا، وفي «الصحيحين» عن أبي ¬

(¬1) أخرجه البخاري ورواه مسلم وأبو داود والنسائي.

سعيد الخدري رضي اللَّه عنه أن نبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله، فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالِم، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، مَن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون اللَّه فاعبد اللَّه معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى اللَّه تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة». وفي رواية: «فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها». وفي رواية: «فأوحى اللَّه إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي، وقال: قيسوا بينهما، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له». وفي رواية: قال قتادة: قال الحسن: «ذكر لنا أنه لما أتاه ملك الموت نأى بصدره نحوها». وقال ابن عباس في قوله عزّ وجلّ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} الآية، قال: قد دعا اللَّه تعالى إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو اللَّه، ومن زعم أن المسيح هو ابن اللَّه، ومن زعم أن عزيرًا ابن اللَّه، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول اللَّه تعالى لهؤلاء: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 74]. ثم دعا إلى التوبة من هو أعظم قولاً من هؤلاء؛ من قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إلهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]. قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: من آيس عباد اللَّه من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب اللَّه عليه. وروى الطبراني عن ابن مسعود قال: إن أعظم آية في كتاب اللَّه: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90]، وإن أكثر آية في القرآن فرحًا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}، وإن أشد آية في كتاب اللَّه تفويضًا: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} (¬1) [الطلاق: 2، 3]، ¬

(¬1) رواه الطبراني عن ابن مسعود موقوفًا.

ذكر أحاديث فيها نفي القنوط:

ومرَّ عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه على قاص وهو يذكر الناس، فقال: يا مذكر، لِمَ تقنط الناس من رحمة اللَّه؟ ثم قرأ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} (¬1). ذكر أحاديث فيها نفي القنوط: عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم اللَّه تعالى لغفر لكم، والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء اللَّه عزّ وجلّ بقوم يخطئون ثم يستغفرون اللَّه فيغفر لهم» (¬2). عن أبي أيوب الأنصاري رضي اللَّه عنه أنه قال حين حضرته الوفاة: قد كنت كتمت منكم شيئًا سمعته من رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لولا أنكم تذنبون لخلق اللَّه عزّ وجلّ قومًا يذنبون فيغفر لهم» (¬3). وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو لم تذنبوا لجاء اللَّه تعالى بقوم يذنبون فيغفر لهم» (¬4)، ثم استحث تبارك وتعالى عباده إلى المسارعة إلى التوبة، فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} إلخ، أي: ارجعوا إلى اللَّه واستسلموا له، {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} أي: بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة، {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} وهو القرآن العظيم، {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} أي: من حيث لا تعلمون ولا تشعرون، ثم قال تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} أي: يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة، ويود ¬

(¬1) رواه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أيضًا. (¬2) تفرد به الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك. (¬3) أخرجه أحمد ورواه مسلم والترمذي. اهـ. جاء في «تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي» للمباركفوري رحمه اللَّه تعالى (ج9 ص417) ما يلي: («لولا أنكم تذنبون» أي أيها المؤمنون «لخلق اللَّه خلقًا» أي قومًا آخرين من جنسكم أو من غيركم «يذنبون فيغفر لهم». وفي رواية مسلم: «لجاء بقوم يذنبون فيستغفرون اللَّه فيغفر لهم». قال الطيبي: ليس في الحديث تسلية للمنهمكين في الذنوب كما يتوهمه أهل الغرة باللَّه تعالى، فإن الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم إنما بعثوا ليردعوا الناس من غشيان الذنوب، بل بيان لعفو اللَّه تعالى وتجاوزه عن المذنبين ليرغبوا في التوبة، والمعنى المراد من الحديث هو أن اللَّه كما أحب أن يعطي المحسنين، أحب أن يتجاوز عن المسيئين، وقد دل على ذلك غير واحد من أسمائه الغفار الحليم التواب العفو، أو لم يكن ليجعل العباد شأنًا واحدًا كالملائكة مجبولين على التنزه من الذنوب، بل يخلق فيهم من يكون بطبعه ميالاً إلى الهوى متلبسًا بما يقتضيه، ثم يكلفه التوقي عنه ويحذره عن مداناته ويعرفه التوبة بعد الابتلاء، فإن وفى فأجره على اللَّه، وإن أخطأ الطريق فالتوبة بين يديه، كذا في المرقاة). اهـ. (قل). (¬4) تفرد به أحمد. اهـ. صحيح. انظر «صحيح الجامع». (قل).

لو كان من المحسنين المخلصين المطيعين للَّه عز وجل، وقوله تبارك وتعالى: {وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} أي: إنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزئ غير موقن مصدق، {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ - أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي: تود لو أعيدت إلى الدنيا لتحسن العمل. قال ابن عباس: أخبر اللَّه سبحانه وتعالى ما العباد قائلون قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه، وقال تعالى: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ - أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ - أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، فأخبر اللَّه عزّ وجلّ أن لو ردوا لما قدروا على الهدى، فقال: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]، وفي الحديث: «كل أهل النار يرى مقعده من الجنة، فيقول: لو أن اللَّه هداني فتكون عليه حسرة، قال: وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار، فيقول: لولا أن هداني قال: فيكون له الشكر» (¬1). ولما تمنى أهل الجرائم العود إلى الدنيا، وتحسروا على تصديق آيات اللَّه واتباع رسله، قال اللَّه سبحانه وتعالى: {بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أي: قد جاءتك أيها العبد النادم آياتي في الدار الدنيا وقامت حججي عليك، فكذبت بها واستكبرت عن اتباعها وكنت من الكافرين بها الجاحدين لها (¬2). انتهى. فائدة: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له». حسن، رواه ابن ماجه. انظر «صحيح الجامع». جاء في «مختصر منهاج القاصدين»: (فأما من ارتكب كبيرة، أو أهمل أركان الإسلام، فإنه إن تاب توبة نصوحًا قبل قرب الأجل، التحق بمن لم يرتكب؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والثوب المغسول كالذي لم يتسخ أصلاً). ¬

(¬1) أخرجه أحمد والنسائي عن أبي هريرة مرفوعًا. اهـ. حسن. انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬2) «مختصر تفسير ابن كثير» للصابوني (ج2/ 225 - 227) الآيات (53 - 59) من سورة الزمر. (قل).

أولا: شروط التوبة

أولاً: شروط التوبة: جاء في «مختصر منهاج القاصدين»: «واعلم أن التوبة عبارة عن ندم يورث عزمًا وقصدًا، وذلك الندم يورث العلم بأن تكون المعاصي حائلاً بين الإنسان وبين محبوبه. والندم: هو توجع القلب عند شعوره بفراق المحبوب، وعلامته طول الحزن والبكاء، فإن من استشعر عقوبة نازلة بولده أو من يعزُّ عليه، طال بكاؤه، واشتدت مصيبته، وأي عزيز أعز عليه من نفسه؟ وأي عقوبة أشد من النار؟ وأي سبب أدل على نزول العقوبة من المعاصي؟ وأي مخبر أصدق من رسول اللَّه؟ ولو أخبره طبيب أن ولده لا يبرأ من مرضه لاشتد في الحال حزنه، وليس ولده بأعز من نفسه، ولا الطبيب أعلم من اللَّه ورسوله، ولا الموت بأشد من النار، ولا المرض أدل على الموت من المعاصي على سخط اللَّه، والتعرض بها للنار» (¬1). انتهى. قال النووي رحمه اللَّه: «قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين اللَّه تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية. والثاني: أن يندم على فعلها. والثالث: أن يعزم ألا يعود إليها أبدًا. فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته. وإذا كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه رده إليه ... » (¬2). انتهى. فائدة: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الندم توبة». صحيح. رواه أحمد وغيره. انظر «صحيح الجامع». جاء في «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» لابن حجر العسقلاني رحمه اللَّه تعالى (ج 11 ص107): (المعنى: الحض عليه [أي الندم]، وأنه الركن الأعظم في التوبة لا أنه التوبة نفسها). اهـ. قال المناوي رحمه اللَّه تعالى: (وهذا من قبيل: الحج عرفة، وإنما كان أعظم أركانها؛ لأن الندم شيء متعلق بالقلب، والجوارح تبع له، فإذا ندم القلب انقطع عن المعاصي، فرجعت برجوعه الجوارح). ¬

(¬1) «مختصر منهاج القاصدين» لابن قدامة (ص: 259، 260). (قل). (¬2) «رياض الصالحين» بتحقيق الأرناؤوط (ص: 10، 11). (قل).

من آيات القرآن الكريم الدالة على التوبة: (قال اللَّه تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286]. قال ابن كثير رحمه اللَّه تعالى: (وقوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا} أي: فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا، {وَاغْفِرْ لَنَا} أي: فيما بيننا وبين عبادك، فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة، {وَارْحَمْنَا} أي: فيما يستقبل، فلا توقعنا - بتوفيقك - في ذنب آخر، ولهذا قالوا: إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو اللَّه عنه بينه وبينه، وأن يستره عن عباده، فلا يفضحه به بينهم، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره). (قال اللَّه تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ - أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135، 136]. قال ابن كثير رحمه اللَّه تعالى: (وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} أي: إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار. قال الإمام أحمد (¬1). عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن رجلاً أذنب ذنبًا فقال: رب إني أذنبت ذنبًا فاغفر لي، فقال اللَّه عزّ وجلّ: عبدي عمل ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به (¬2) قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنبًا آخر، فقال: رب عملت ذنبًا فاغفره، فقال تبارك وتعالى: عَلِم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنبًا آخر، فقال: رب إني عملت ذنبًا فاغفره لي، فقال عزَّ وجلَّ: عَلِم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنبًا آخر، فقال: رب إني عملت ذنبًا فاغفره، فقال اللَّه عزَّ وجل: عَلِم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء» (¬3). ¬

(¬1) والحديث في «الصحيحين». انظر «اللؤلؤ والمرجان». (قل). (¬2) يأخذ به: أي يعاقب به. انظر ترتيب أحاديث «صحيح الجامع الصغير» وزيادته على الأبواب الفقهية. (ب - ف) للشيخين: عوني نعيم الشريف، وعلي حسن علي عبد الحميد. (قل). (¬3) قال النووي رحمه اللَّه تعالى في «شرح مسلم»: (ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك). (قل).

وعن علي رضي اللَّه عنه قال: كنت إذا سمعت من رسول اللَّه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديثًا نفعني اللَّه بما شاء منه. وإذا حدثني عنه غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدقته؛ وإن أبا بكر رضي اللَّه عنه حدثني، وصدق أبو بكر، أنه سمع رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من رجل يذنب ذنبًا فيتوضأ ويحسن الوضوء، ثم يصلي ركعتين فيستغفر اللَّه عزَّ وجلَّ، إلا غفر له» (¬1). ومما يشهد لصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في «صحيحه» عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ - الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إلاَّ فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء». عن أنس رضي اللَّه عنه قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} بكى. وروى الإمام أحمد في «مسنده» عن أبي سعيد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال إبليس: يا رب، وعزتك لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، قال اللَّه تعالى: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني» (¬2). وقوله تعالى: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللَّهُ} أي: لا يغفرها أحد سواه، وقوله: {وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: تابوا عن ذنوبهم ورجعوا إلى اللَّه عزّ وجلّ عن قريب، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا منه. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن من تاب تَاب اللَّه عليه، وهذا كقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}، وكقوله: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا}، ونظائر هذا كثيرة جدًّا. ثم قال تعالى بعد وصفهم بما وصفهم به: {أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} أي: جزاؤهم على هذه الصفات، {وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي: من أنواع المشروبات، {خَالِدِينَ فِيهَا} أي: ماكثين فيها، {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} يمدح تعالى الجنة. (قال اللَّه تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 110]. قال ابن كثير رحمه اللَّه تعالى: (يخبر تعالى عن كرمه وجوده، أن كل من تاب إليه تَاب عليه من أي ذنب كان، ¬

(¬1) رواه أحمد وأهل السنن وابن حبان. اهـ. والحديث حسن. انظر «صحيح سنن الترمذي». (قل). (¬2) حسن. انظر «صحيح الجامع». (قل).

{وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا}. قال ابن عباس: أخبر اللَّه عباده بعفوه وحلمه وكرمه، وسعة رحمته، ومغفرته، فمن أذنب ذنبًا صغيرًا كان أو كبيرًا {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا}، ولو كانت ذنوبه أعظم من السماوات والأرض والجبال (¬1). وقال ابن جرير: قال عبد اللَّه: كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبًا أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه، وإذا أصاب البول منه شيئًا قرضه بالمقراض، فقال رجل: لقد آتى اللَّه بني إسرائيل خيرًا، فقال عبد اللَّه رضي اللَّه عنه: ما آتاكم اللَّه خيرًا مما آتاهم، جعل الماء لكم طهورًا). قال اللَّه تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا - وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 70، 71]. قال ابن كثير رحمه اللَّه تعالى: (وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا} أي: جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر {إلاَّ مَن تَابَ} أي: في الدنيا إلى اللَّه عزَّ وجلَّ من جميع ذلك، فإن اللَّه يتوب عليه، وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل، ولا تعارض بين هذه وبين آية النساء: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا} الآية، فإن هذه وإن كانت مدنية، إلا أنها مطلقة، فتحمل على من لم يتب. وقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}. في معنى قوله: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قولان: أحدهما: أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال ابن عباس: هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات فرغب اللَّه بهم عن السيئات فحولهم إلى الحسنات فأبدلهم مكان السيئات الحسنات. وقال سعيد بن جبير: أبدلهم اللَّه بعبادة الأوثان عبادة الرحمن، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات. وقال الحسن البصري: أبدلهم اللَّه بالعمل السيئ العمل الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصًا، وأبدلهم بالفجور إحصانًا، وبالكفر إسلامًا. والقول الثاني: أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات، كما ثبتت ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس.

السنة بذلك وصحت به الآثار المروية عن السلف رضي اللَّه عنهم. فعن أبي ذر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني لأعرف آخر أهل النار خروجًا من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة، يؤتى برجل فيقول: نحُّوا عنه كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها، قال: فيقال له: عملت يوم كذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا، كذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئًا، فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة، فيقول: يا رب، عملت أشياء لا أراها هاهنا». قال: فضحك رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت نواجذه (¬1). وقال علي بن الحسين زين العابدين: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}. قال: في الآخرة. وقال مكحول: يغفرها لهم فيجعلها حسنات. ثم قال تعالى مخبرًا عن عموم رحمته بعباده، وأنه من تاب إليه منهم تاب عليه من أي ذنب كان جليلاً أو حقيرًا، كبيرًا أو صغيرًا، فقال تعالى: {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} أي: فإن اللَّه يقبل توبته، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} الآية، وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} الآية، أي: لمن تاب إليه). قال اللَّه تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25]. قال ابن كثير رحمه اللَّه تعالى: (يقول تعالى ممتنًا على عباده بقبول توبتهم إذا تابوا ورجعوا إليه، أنه من كرمه وحلمه يعفو ويصفح، ويستر ويغفر، كقوله عزّ وجلّ: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا}، وقد ثبت في «صحيح مسلم» عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «للَّه تعالى أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كانت راحلته بأرض فلاة (¬2)، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس (¬3) منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها (¬4)، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح». وقوله عزَّ وجلَّ: {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} أي: يقبل التوبة في المستقبل ويعفو عن ¬

(¬1) أخرجه مسلم في «صحيحه». (¬2) بأرض فلاة: هي الواسعة الخالية من الناس والماء والنبات (ب - ف). (قل). (¬3) فأيس: انقطع أمله (ب - ف). (قل). (¬4) بخطامها: هو الرباط يوضع على أنف الجمل ليقاد به (ب - ف). (قل).

السيئات في الماضي، {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} أي: هو عالم بجميع ما فعلتم وصنعتم وقلتم، ومع هذا يتوب على من تاب إليه). قال اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التحريم: 8]. قال ابن كثير رحمه اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} أي: توبة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السيئات، وتلم شعث التائب وتجمعه وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات. قال عمر (التوبة النصوح): أن يتوب من الذنب، ثم لا يعود فيه أو لا يريد أن يعود فيه. وقال أبو الأحوص: سُئل عمر عن التوبة النصوح، فقال: أن يتوب الرجل من العمل السيئ، ثم لا يعود إليه أبدًا. وقال ابن مسعود: {تَوْبَةً نَّصُوحًا} قال: يتوب ثم لا يعود، ولهذا قال العلماء: التوبة النصوح هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم على أن لا يفعل في المستقبل، ثم إن كان الحق لآدمي رده إليه بطريقه، وفي الحديث الصحيح: «الندم توبة» (¬1). وقال الحسن: «التوبة النصوح أن تبغض الذنب كما أحببته، وتستغفر منه إذا ذكرته». فأما إذا جزم بالتوبة وصمم عليها فإنها تجب ما قبلها من الخطيئات، كما ثبت في الصحيح: «الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها». وهل من شرط التوبة النصوح الاستمرار على ذلك إلى الممات - كما تقدم في الحديث وفي الأثر - ثم لا يعود فيه أبدًا، أو يكفي العزم على أن لا يعود في تكفير الماضي بحيث لو وقع منه ذلك الذنب بعد ذلك لا يكون ذلك ضارًا في تكفير ما تقدم لعموم قوله - عليه السلام -: «التوبة تجب ما قبلها»؟ وللأول أن يحتج بما ثبت في الصحيح أيضًا: «من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر». فإذا كان هذا في الإسلام الذي هو أقوى من التوبة، فالتوبة بطريق الأولى. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، وعسى من اللَّه موجبة. * * * ¬

(¬1) أخرجه أحمد وابن ماجه عن عبد اللَّه بن مسعود مرفوعًا. اهـ. صحيح. انظر «صحيح الجامع» (قل).

ثمرة الاستغفار النافع تصحيح التوبة

ثمرة الاستغفار النافع تصحيح التوبة عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه، قال: سمعت رسول اللَّه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «قال اللَّه تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة» (¬1). رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. جاء في «جامع العلوم والحكم» لابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى بتحقيق الأرنؤوط وباجس أثابهما اللَّه تعالى ما مختصره: فقد تضمن حديث أنس المبدوء بذكره أن هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها المغفرة: أحدها: الدعاء مع الرجاء، فإن الدعاء مأمور به، وموعود عليه بالإجابة، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] (¬2). ومن أهم ما يسأل العبد ربه مغفرة ذنوبه، أو ما يستلزم ذلك كالنجاة من النار، ودخول الجنة، وقد قال النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حولها ندندن» (¬3). يعني: حول سؤال الجنة والنجاة من النار. قال أبو مسلم الخولاني: ما عرضت لي دعوة فذكرت النار إلا صرفتها إلى الاستعاذة منها. فمن أعظم أسباب المغفرة: أن العبد إذا أذنب ذنبًا لم يرج مغفرته من غير ربه، ويعلم أنه لا يغفر الذنوب ويأخذ بها غيره، وقد سبق ذكر ذلك في شرح حديث أبي ذر: «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي». الحديث. اهـ. * * * ¬

(¬1) رواه الترمذي (3540). اهـ. حسن. انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬2) سيأتي الكلام عن الدعاء بالتفصيل في فصل مستقل إن شاء اللَّه تعالى. (قل). (¬3) قطعة من حديث رواه عن أبي هريرة ابن ماجه (910) و (3847)، وصححه ابن حبان (868).

يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم إتمامًا للفائدة إليك نص الحديث مع شرح يسير لبعض فقرات الحديث: عن أبي ذر رضي اللَّه عنه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يروي عن ربه عزَّ وجلَّ أنه قال: «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللَّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه». رواه مسلم. قال ابن رجب رحمه اللَّه تعالى (¬1): وأما الاستغفار من الذنوب، فهو طلب المغفرة، والعبد أحوج شيء إليه؛ لأنه يخطئ بالليل والنهار، وقد تكرر في القرآن ذكر التوبة والاستغفار، والأمر بهما، والحث عليهما، وخرَّج الترمذي وابن ماجه من حديث أنس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» (¬2). ¬

(¬1) الكلام هنا أيضًا من كتاب «جامع العلوم والحكم» لابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى بتحقيق الأرنوؤط وباجس أثابهما اللَّه تعالى. (قل). (¬2) رواه الترمذي (2499)، وابن ماجه (4251)، وأحمد (3/ 198)، والحاكم (4/ 244)، وابن عدي في «الكامل» (5/ 1850) من طريق علي بن مسعدة عن قتادة، عن أنس، وسنده قابل للتحسين. اهـ. وحسنه الألباني في «صحيح الجامع»، جاء في «تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي» للمباركفوري رحمه اللَّه تعالى (ج7 ص213، 214) ما يلي: قوله: (كل ابن آدم خطاء) أي: كثير الخطأ ... وأما الأنبياء صلوات اللَّه عليهم فإما مخصوصون عن ذلك، وإما أنهم أصحاب صغائر. والأول أولى فإن ما صدر عنهم من باب ترك الأولى، أو يقال: الزلات المنقولة عن بعضهم محمولة على الخطأ والنسيان من غير أن يكون لهم قصد إلى العصيان. قاله القاري، (وخير الخطائين التوابون) أي: الراجعون إلى اللَّه بالتوبة من المعصية إلى الطاعة). اهـ. من «تحفة الأحوذي» (قل).

وخرج البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «واللَّه إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة». وخرجه النسائي وابن ماجه، ولفظهما: «إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه كل يوم مائة مرة». قال اللَّه عز وجل: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131]، وقال حاكيًا عن موسى: {وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8]، وقال: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وقال: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج: 37]. المعنى: أنه تعالى يحب من عباده أن يتقوه ويطيعوه، كما أنه يكره منهم أن يعصوه، ولهذا يفرح بتوبة التائبين أشد من فرح من ضلت راحلته التي عليها طعامه وشرابه بفلاة من الأرض، وطلبها حتى أعيى وأيس منها، واستسلم للموت، وأيس من الحياة، ثم غلبته عينه فنام، فاستيقظ وهي قائمة عنده، وهذا أعلى ما يتصوره المخلوق من الفرح، هذا كله مع غناه عن طاعات عباده وتوباتهم، وإنه إنما يعود نفعها إليهم دونه، ولكن هذا من كمال جوده وإحسانه إلى عباده، ومحبته لنفعهم، ودفع الضرر عنهم، فهو يحب من عباده أن يعرفوه ويحبوه ويخافوه ويتقوه ويطيعوه ويتقربوا إليه، ويحب أن يعلموا أنه لا يغفر الذنوب غيره، وأنه قادر على مغفرة ذنوب عباده، كما في رواية عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر لهذا الحديث: «من علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة، ثم استغفرني، غفرت له ولا أبالي» (¬1). وفي الصحيح عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «واللَّه للَّه أرحم بعباده من الوالدة بولدها» (¬2). وتفكروا في قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران: 135]، فإن فيه إشارة إلى أن المذنبين ليس لهم من يلجئون إليه، ويُعوِّلون عليه في مغفرة ذنوبهم غيره، وكذلك قوله في حق الثلاثة الذين خُلِّفوا: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118]، فرتب عليهم على ظنهم أن لا ملجأ من اللَّه إلا إليه، فإن العبد إذا خاف من مخلوق، هرب منه، وفر إلى غيره، وأما من خاف من اللَّه، فما له من ملجأ يلجأ إليه، ولا مهرب يهرب إليه إلا ¬

(¬1) حسن. رواه الطبراني والحاكم عن ابن عباس. انظر «صحيح الجامع». ومعنى: (ولا أبالي) أي: ولا أهتم، كما في (ب - ف). (قل). (¬2) متفق عليه.

هو، فيهرب منه إليه، كما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في دعائه: «لا ملجأ، ولا منجا منك إلا إليك» (¬1)، وكان يقول: «أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك» (¬2). قال الفضيل بن عياض رحمه اللَّه: ما من ليلة اختلط ظلامها، وأرخى الليل سربال سترها، إلا نادى الجليل جل جلاله: من أعظم مني جودًا، والخلائق لي عاصون، وأنا لهم مراقب، أكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني، وأتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا فيما بيني وبينهم، أجود بالفضل على العاصي، وأتفضل على المسيئ، من ذا الذي دعاني فلم ألبه؟ أم من ذا الذي سألني فلم أعطه؟ أم من الذي أناخ ببابي فنحيته؟ أنا الفضل، ومني الفضل، أنا الجواد، ومني الجود، أنا الكريم، ومني الكرم، ومن كرمي أن أغفر للعاصين بعد المعاصي، ومن كرمي أن أعطي العبد ما سألني، وأعطيه ما لم يسألني، ومن كرمي أن أعطي التائب كأنه لم يعصني، فأين عني يهرب الخلائق؟ وأين عن بابي يتنحى العاصون؟ خرجه أبو نعيم (¬3). ولبعضهم في المعنى: أسأت ولم أحسن وجئتك تائبًا ... وأنَّى لعبدٍ عن مواليه مهربُ يُؤمّل غفرانًا فإن خاب ظنُه ... فما أحدٌ منه على الأرض أخيبُ فقوله بعد هذا: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، ولو كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا» هو إشارة إلى أن ملكه لا يزيد بطاعة الخلق، ولو كانوا كلهم بررة أتقياء، قلوبهم على قلب أتقى رجل منهم، ولا ينقص ملكه بمعصية العاصين، ولو كان الجن والإنس كلهم عصاة فجرة قلوبهم على قلب أفجر رجل منهم، فإنه سبحانه الغني بذاته عمن سواه، وله الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، فملكه ملك كامل لا نقص فيه بوجه من الوجوه على أي وجهٍ كان. وفي بعض الآثار الإسرائيلية: يقول اللَّه عز وجل: أيؤمل غيري للشدائد والشدائد ¬

(¬1) رواه من حديث البراء بن عازب أحمد (4/ 285)، والبخاري (247)، ومسلم (2711)، وصححه ابن حبان (5527) و (5536) و (5542)، وانظر تمام تخريجه فيه. (¬2) رواه من حديث عائشة أحمد (6/ 58 و201)، ومسلم (486)، وأبو داود (879)، والنسائي (1/ 102)، وصححه ابن حبان (1932) و (1933). (¬3) في «الحلية» (8/ 92 - 93).

بيدي وأنا الحي القيوم؟ ويرجى غيري، ويطرق بابه بالبكرات، وبيدي مفاتيح الخزائن، وبابي مفتوح لمن دعاني؟ من ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به؟ أو من الذي رجاني لعظيم، فقطعت رجاءه؟ أو من ذا الذي طرق بابي، فلم أفتحه له؟ أنا غاية الآمال، فكيف تنقطع الآمال دوني؟ أبخيل أنا فيبخِّلنُي عبدي؟ أليس الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي؟ فما يمنع المؤملين أن يؤملوني؟ لو جمعت أهل السماوات والأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع، وبلغت كل واحدٍ منهم أمله، لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة، كيف ينقص ملك أنا قَيِّمهُ؟ فيا بؤسًا للقانطين من رحمتي، ويا بؤسًا لمن عصاني وتوثب على محارمي). اهـ. ونعود إلى تكملة شرح الحديث السابق - من نفس الكتاب أيضًا - قال ابن رجب رحمه اللَّه: وقوله: «إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي». يعني: على كثرة ذنوبك وخطاياك، ولا يتعاظمني ذلك، ولا أستكثره. وفي «الصحيح» عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة، فإن اللَّه لا يتعاظمه شيء» (¬1). فذنوب العباد وإن عظمت، فإن عفو اللَّه ومغفرته أعظم منها وأعظم، فهي صغيرة في جنب عفو اللَّه ومغفرته. وقال بعضهم (¬2): يا رب إنْ عظمت ذنوبي كثرةً ... فلقد علمت بأن عفوك أعظمُ إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ ... فمن الذي يرجو ويدعو المجرمُ ما لي إليك وسيلةٌ إلا الرجا ... وجميلُ عفوك ثم أني مسلِمُ السبب الثاني للمغفرة: الاستغفار، ولو عظمت الذنوب، وبلغت الكثرة عنان السماء، وهو السحاب. وقيل: ما انتهى إليه البصر منها. والاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة: هي وقاية شر الذنوب مع سترها. وقد كثر في القرآن ذكر الاستغفار، فتارةً يؤمر به، كقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 199]، وقوله: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} [هود: 3]. وتارة يمدح أهله، كقوله: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]، وقوله: ¬

(¬1) رواه من حديث أبي هريرة أحمد (2/ 457)، والبخاري في «الأدب المفرد» (607)، ومسلم (2679)، وصححه ابن حبان (896). (¬2) هو أبو نواس الحسن بن هانئ، والأبيات في «ديوانه» (ص 218).

{وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18]، وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران: 135]. وتارة يذكر أن اللَّه يغفر لمن استغفره، كقوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 110]. وكثيرًا ما يُقرن الاستغفارُ بذكر التوبة، فيكون الاستغفارُ حينئذٍ عبارة عن طلب المغفرة باللسان، والتوبة عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلوب والجوارح. وتارة يفرد الاستغفار، ويُرتب عليه المغفرة، كما ذكر في هذا الحديث وما أشبهه، فقد قيل: إنه أريد به الاستغفارُ المقترن بالتوبة، وقيل: إن نصوص الاستغفار المفردة كلها مطلقة تقيدُ بما يذكر في آية «آل عمران» من عدم الإصرار؛ فإن اللَّه وعد فيها المغفرة لمن استغفره من ذنوبه ولم يُصر على فعله، فتحملُ النصوص المطلقة في الاستغفار كلها على هذا المقيد (¬1)، ومجرد قول القائل: اللهم اغفر لي، طلب منه للمغفرة ودعاء بها، فيكون حكمه حكم سائر الدعاء، فإن شاء اللَّه أجابه وغفر لصاحبه، لا سيما إذا خرج عن قلبٍ منكسرٍ بالذنب أو صادف ساعةً من ساعات الإجابة كالأسحار وأدبار الصلوات. ويُروى عن لُقمان أنه قال لابنه: يا بنيَّ، عود لسانك: اللهمَّ اغفر لي، فإن للَّه ساعاتٍ لا يرد فيها سائلاً. وقال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم أينما كنتم، فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة. وعن مورِّق قال: كان رجل يعملُ السيئات، فخرج إلى البرية، فجمع ترابًا، فاضطجع عليه مستلقيًا، فقال: ربِّ اغفر لي ذنوبي، فقال: إنَّ هذا ليعرفُ أنَّ له ربًا يغفرُ ويُعذب، فغفر له. وأما استغفارُ اللسان مع إصرار القلب على الذنب، فهو دُعاء مجرَّد إن شاء اللَّه أجابه، وإن شاء ردَّه. وقد يكون الإصرار مانعًا من الإجابة. وفي «المسند» (¬2) من حديث عبد اللَّه بن عمرو ¬

(¬1) أي: أن الاستغفار المفرد الذي يرتب اللَّه عليه المغفرة يكون توبة في حالتين: الأولى: أن يقول العبد: أستغفر اللَّه، وينوي بذلك التوبة؛ لأن العبرة هنا بالمعاني لا بالألفاظ والمباني. الثانية: أن يقول العبد: أستغفر اللَّه، ومقصوده بذلك عدم الإصرار على المعصية. (قل). (¬2) 2/ 165، 219)، ورواه أيضًا البخاري في «الأدب المفرد» (380)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (8/ 265، 266)، وجود إسناده الحافظ المنذري في «الترغيب والترهيب» (3/ 202)، وحسنه الحافظ ابن حجر في «الفتح» (1/ 112).

مرفوعًا: «ويلٌ للذين يصرُّون على ما فعلوا وهم يعملون». قال الضحاك: ثلاثةٌ لا يستجاب لهم، فذكر منهم: رجل مقيم على امرأة زنى كلما قضى شهوته، قال: ربِّ اغفر لي ما أصبتُ من فلانة، فيقول الربُّ: تحول عنها وأغفر لك، فأما ما دمت مقيمًا عليها، فإنِّي لا أغفر لك، ورجلٌ عنده مالُ قوم يرى أهله، فيقول: ربِّ اغفر لي ما آكل من مال فلان، فيقول تعالى: ردَّ إليهم مالهم وأغفر لك، وأما ما لم تردَّ إليهم فلا أغفر لك. وقول القائل: أستغفر اللَّه، معناه: أطلبُ مغفرته، فهو كقوله: اللهمَّ اغفر لي، فالاستغفار التامُّ الموجبُ للمغفرة: هو ما قارن عدمَ الإصرار، كما مدح اللَّه أهله، ووعدهم المغفرة. قال بعض العارفين: من لم يكن ثمرةُ استغفاره تصحيح توبته، فهو كاذب في استغفاره. وكان بعضُهم يقول: استغفارُنا هذا يحتاج إلى استغفارٍ كثير. وفي ذلك يقولُ بعضهم: أستغفرُ اللَّه مِنْ «أستغفرُ اللَّه» ... من لفظةٍ بدرت خالفتُ معناها وكيفَ أرجو إجاباتِ الدعاء وقد ... سَدَدتُّ بالذَّنب عند اللَّه مجراها فأفضل الاستغفار ما اقترن به تركُ الإصرار، وهو حينئذ توبةٌ نصوح، وإن قال بلسانه: أستغفر اللَّه وهو غيرُ مقلع بقلبه، فهو داعٍ للَّه بالمغفرة، كما يقول: اللهمَّ اغفر لي، وهو حسن وقد يُرجى له الإجابة. وأفضل أنواع الاستغفار: أن يبدأ العبد بالثَّناء على ربِّه، ثم يثني بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل اللَّه المغفرة كما في حديث شدَّاد بن أوس عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «سيِّدُ الاستغفار أن يقول العبدُ: اللهمَّ أنت ربِّي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفرُ الذُّنوبَ إلا أنت». خرَّجه البخاري. وفي «الصحيحين» عن عبد اللَّه بن عمرو أنَّ أبا بكر الصديق رضي اللَّه عنه قال: يا رسول اللَّه، علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: «قل: اللهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظُلمًا كثيرًا، ولا يغفرُ الذنوب إلاَّ أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنَّك أنت الغفورُ الرحيم». وبالجملة فدواءُ الذنوبِ الاستغفارُ. قال قتادة: إن هذا القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم: فالذُّنوب، وأما دواؤكم: فالاستغفار. قال بعضهم: إنَّما مُعوَّلُ المذنبين البكاء والاستغفار، فمَن أهمته ذنوبه، أكثر لها من

الاستغفار. قال رياح القيسي: لي نيِّفٌ وأربعون ذنبًا، قد استغفرتُ اللَّه لكلِّ ذنب مائة ألف مرَّة. [نيف وأربعون أي من واحد إلى ثلاثة وأربعين]. وحاسب بعضهم نفسه من وقت بلوغه، فإذا زلاتُه لا تُجاوز ستًا وثلاثين زلةً، فاستغفر اللَّه لكل زلةٍ مائة ألف مرَّة، وصلَّى لكلِّ زلَّة ألف ركعة، ختم في كلِّ ركعة منها ختمة (¬1)، قال: ومع ذلك، فإنِّي غير آمن سطوة ربي أن يأخذني بها، وأنا على خطر من قبول التوبة. ومن زاد اهتمامُه بذنوبه، فربما تعلَّق بأذيالِ مَن قَلَّتْ ذنوبه، فالتمس منه الاستغفار، وكان عمر يطلب من الصبيان الاستغفار، ويقول: إنكم لم تُذنبوا، وكان أبو هريرة يقول لغلمان الكُتاب: قولوا: اللهمَّ اغفر لأبي هُريرة، فيؤمن على دعائهم. قال بكرٌ المزني: لو كان رجلٌ يطوف على الأبواب كما يطوف المسكين يقول: استغفروا لي، فكان نوله أن يفعل. ومن كثرت ذنوبه وسيئاته حتى فاتت العدَّ والإحصاء، فليستغفر اللَّه مما علم اللَّه، فإن اللَّه قد علم كل شيءٍ وأحصاه، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]، وفي حديث شداد بن أوس، عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب» (¬2). وفي هذا يقول بعضهم: أستغفرُ اللَّهَ مما يعلمُ اللَّهُ ... إن الشَّقيَّ لَمن لا يرحمُ اللَّهُ ما أحلمَ اللَّهَ عمن لا يراقبه ... كلٌّ مسيءٌ ولكن يحلمُ اللَّهُ فاسُتغفِر اللَّهَ مما كان من زَلل ... طوبى لمن كفَّ عما يكره اللَّهُ طوبى لمن حسنت فيه سريرتُه ... طوبى لمن ينتهي عما نهى اللَّهُ السبب الثالث من أسباب المغفرة: التوحيدُ، وهو السببُ الأعظم، فمن فقده، فقد المغفرة، ومن جاء به، فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48]، فمن جاء مع التوحيد بُقرابِ الأرض - وهو ملؤها أو ما يُقارب ملأها - خطايا، لقيه اللَّه بُقرابها مغفرة، لكن هذا ¬

(¬1) قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث». صحيح. (د، ت، هـ) عن ابن عمر. انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬2) رواه أحمد (1/ 125)، والترمذي (3407)، وصححه ابن حبان (1974)، والحاكم (1/ 508)، ووافقه الذهبي.

من الأحاديث الدالة على التوبة:

مع مشيئة اللَّه عز وجل، فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يُخلَّد في النار، بل يخرج منها، ثم يدخل الجنة. قال بعضُهم: الموحِّد لا يُلقى في النار كما يُلقى الكفار، ولا يلقى فيها ما يَلْقَى الكفار، ولا يبقى فيها كما يبقى الكفارُ، فإن كمُلَ توحيدُ العبد وإخلاصُه للَّه فيه، وقام بشروطه كلِّها بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عندَ الموت، أوجبَ ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلِّها، ومنعه من دخول النَّار بالكلية. اهـ. من «جامع العلوم والحكم». من الأحاديث الدالة على التوبة: عن ابن عمر عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: «إن اللَّه يقبلُ توبة العبد ما لم يُغرغر». حديث حسن رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي في «شعب الإيمان». كذا في «صحيح الجامع». جاء في «تحفة الأحوذي» للمباركفوري رحمه اللَّه تعالى (ج9 ص415): (قوله: «إن اللَّه يقبل توبة العبد» ظاهره الإطلاق وقيده بعض الحنفية بالكافر. قاله القاري. قُلْتُ: الظاهر المعول عليه هو الأول «ما لم يغرغر» من الغرغرة أي ما لم تبلغ الروح إلى الحلقوم، يعني: ما لم يتيقن بالموت، فإن التوبة بعد التيقن بالموت لم يعتد بها؛ لقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18]. (عن أبي هريرة أن رسول اللَّه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خلق اللَّه مائة رحمة فوضع رحمة واحدة بين خلقه يتراحمون بها وعند اللَّه تسعةٌ وتسعون رحمة». رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، قال المباركفوري: وأخرجه أحمد والشيخان. جاء في «تحفة الأحوذي» (ج9 ص 418، 419): (قوله: «خلق اللَّه» أي: يوم خلق السماوات والأرض، كما في حديث سلمان عند مسلم. قال القرطبي: يجوز أن يكون معنى خلق اخترع وأوجد، ويجوز أن يكون بمعنى قدر، وقد ورد خلق بمعنى قدر في لغة العرب، فيكون المعنى: أن اللَّه أظهر تقديره لذلك يوم أظهر تقديره السماوات والأرض «فوضع رحمة واحدة بين خلقه» أي: من جملة المائة، وفي رواية لمسلم: «إن للَّه مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن

والإنس والبهائم والهوام (¬1) فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها، وعند اللَّه تسعة وتسعون رحمة»، وفي رواية لمسلم: «وأخَّر اللَّه تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة». قال الطيبي: رحمة اللَّه تعالى لا نهاية لها، فلم يرد بما ذكره تحديدًا، بل تصويرًا للتفاوت بين قسط أهل الإيمان منها في الآخرة وقسط كافة المربوبين في الدنيا). اهـ. (وعن أبي موسى رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن اللَّه تعالى يبسطُ يدهُ بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيءُ الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها». رواه أحمد ومسلم، كذا في «صحيح الجامع»، قوله: حتى تطلع الشمس من مغربها: هي: كبرى علامات الساعة، وذلك يوم الوقت المعلوم. كذا في (ب - ف). وعن صفوان بن عسال رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: «إن للتوبة بابًا عرضُ ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب لا يُغلقُ حتى تطلع الشمسُ من مغربها». حسن. رواه الطبراني عن صفوان بن عسال «الترغيب» (4/ 73). لفظ ابن ماجه وغيره: «عرضه سبعون سنة مفتوحًا». انظر «صحيح الجامع». قال رسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ رجلاً قال: واللَّهِ لا يغفرُ اللَّهُ لفلانٍ، قال اللَّه: مَن ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلانٍ؟ ‍فإني قد غفرتُ لفلانٍ، وأحبطت عملكَ». صحيح. رواه مسلم عن جندب البجلي «الصحيحة» (1685) هب - «مختصر مسلم» (1788). كذا في «صحيح الجامع». جاء في (ب - ف) (يتألَّى: يحكم. وأحبطت عملك: أبطلته فلم أجعل له ثوابًا). اهـ. ورواه الطبراني عن جندب أيضًا قال عنه الألباني في «صحيح الجامع» «: صحيح، بلفظ: قال رجلُ: لا يغفرُ اللَّه لفلانٍ! فأوحى اللَّه تعالى إلى نبي من الأنبياء: إنها خطيئةٌ فليستقبلِ العملَ». قوله: فليستقبل العمل: جاء في (ب - ف) (يبدأ من جديد في فعل الطاعات، ¬

(¬1) الهوام: دواب الأرض. الحشرات. كذا في (ب - ف). (قل).

ثانيا: آثار المعاصي:

فما سبق قد أحبط لحكمه على اللَّه بأنه لا يغفر لفلان). قال رسول اللَّه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو تعلمون قدْرَ رحمة اللَّه لاتَّكلتم عليها». (صحيح). رواه البزار عن أبي سعيد «الصحيحة» (2167)، ابن أبي الدنيا كما في «صحيح الجامع». جاء في «فيض القدير» للمُناوي رحمه اللَّه تعالى: (قال حجة الإسلام: حدث عن سعة رحمة اللَّه ولا حرج، ومن ذا الذي يعرف غايتها أو يحسن وصفها، فإنه الذي يهب كفر سبعين سنة بإيمان ساعة، ألا ترى إلى سحرة فرعون الذين جاءوا لحربه وحلفوا بعزة عدوه كيف قبلهم حين آمنوا، ووهب لهم جميع ما سلف ثم جعلهم رءوس الشهداء في الجنة؟ فهذا مع من وحَّده ساعة بعد كل ذلك الكفر والضلال والفساد، فكيف حال من أفنى في توحيده عمره؟ أما ترى أن أصحاب الكهف وما كانوا عليه من الكفر طول أعمارهم، إلى أن قالوا: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} كيف قبلهم وكرَّمهم وأعظم لهم الحرمة؟ وألبسهم المهابة والخشية، حيث يقول: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}، بل كيف أكرم كلبًا تبعهم حتى ذكره في كتابه مرات، هذا فضله مع كلب خطا خطوات مع قوم عرفوه ووحدوه أيامًا من غير عبادة، فكيف مع عبده المؤمن الذي وحدَّه وعبده سبعين سنة؟). ثانيًا: آثار المعاصي: جاء في كتاب «الجواب الكافي» لابن القيم رحمه اللَّه ما مختصره (¬1): وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة، المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا اللَّه. 1 - فمنها: حرمان العلم، فإن العلم نور يقذفه اللَّه في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور، ولما جلس الإمام الشافعي بين يدي الإمام مالك، وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته، وتوقد ذكائه، وكمال فهمه، فقال: إني أرى اللَّه قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بظلمة المعصية، وقال الشافعي: شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وقال: اعلم بأن العلم فضل ... وفضل اللَّه لا يؤتاه عاصي 2 - ومنها: وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين اللَّه لا يوازنها ولا يقارنها لذة ¬

(¬1) راجع كتاب «الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي» لابن القيم رحمه اللَّه تعالى من (54 - 107). (قل).

أصلاً، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة، وما لجرح بميت إيلام، فلو لم يكن ترك الذنوب إلا حذرًا من وقوع تلك الوحشة، لكان العاقل حريًّا بتركها، وشكا رجل إلى بعض العارفين وحشة يجدها في نفسه، فقال له: إذا كنت قد أوحشتك الذنوب، فدعها إذا شئت واستأنس. وليس على القلب أمرّ من وحشة الذنب على الذنب، فاللَّه المستعان. 3 - ومنها: الوحشة التي تحصل بينه وبين الناس، ولا سيما أهل الخير منهم، فإنه يجد وحشة بينه وبينهم، وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم ومن مجالستهم، وحرم بركة الانتفاع بهم، وقرب من حزب الشيطان بقدر ما بعد من حزب الرحمن، وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه وبينه وبين نفسه، فتراه مستوحشًا من نفسه. وقال بعض السلف: إني لأعصي اللَّه فأرى ذلك في خُلُق دابتي وامرأتي. 4 - ومنها: تعسير أموره، فلا يتوجه إلى أمر إلا ويجده مغلقًا دونه، أو متعسرًا عليه، وهذا كما أن من اتقى اللَّه جعل له من أمره يسرًا، فمن عطل التقوى جعل اللَّه له من أمره عسرًا، ويا للعجب؟ كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودة عنه متعسرة عليه وهو لا يعلم من أين أُتي؟ 5 - ومنها: ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهمّ، فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره، فإن الطاعة نور، والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته، حتى يقع في البدع والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر، كأعمى خرج في ظلمة الليل يمشي وحده، وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تقوى حتى تعلو الوجه، وتصير سوادًا حتى يراه كل أحد. 6 - ومنها: أن المعاصي توهن القلب والبدن: أما وهنها للقلب: فأمر ظاهر، بل لا تزال توهنه حتى تزيل حياته بالكلية. وأما وهنها للبدن: فإن المؤمن قوته من قلبه، وكلما قوي قلبه قوي بدنه، وأما الفاجر فإنه - وإن كان قوي البدن - فهو أضعف شيء عند الحاجة، فتخونه قوته أحوج ما يكون إلى نفسه، فتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم؟ 7 - ومنها: حرمان الطاعة: فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أنه يصد عن طاعة تكون بدله، ويقطع طريق طاعة أخرى فينقطع عليه طريق ثالثة، ثم رابعة وهلم جرا، فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة، كل واحدة منها خير له من الدنيا وما عليها، وهذا كرجل أكل

أكلة أوجبت له مرضة طويلة منعته من عدة أكلات أطيب منها، واللَّه المستعان. 8 - أن المعاصي تقصر العمر، وتمحق بركته ولا بد، فإن البر كما يزيد في العمر فالفجور ينقصه، وسر المسألة: أن عمر الإنسان مدة حياته، ولا حياة له إلا بإقباله على ربه، والتنعم بحبه وذكره، وإيثار مرضاته. 9 - ومنها: أن المعاصي تزرع أمثالها، ويولد بعضُها بعضًا، حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها، كما قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة: السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة: الحسنة بعدها. 10 - ومنها: وهو من أخوفها على العبد، أنها تضعف القلب عن إرادته فتقوى فيه إرادة المعصية، وتضعف إرادة التوبة شيئًا فشيئًا، إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية، فلو مات نصفه لما تاب إلى اللَّه، فيأتي بالاستغفار وتوبة الكاذبين باللسان بشيء كثير، وقلبه معقود بالمعصية مصر عليها، عازم على مواقعتها متى أمكنه، وهذا من أعظم الأمراض وأقربها إلى الهلاك. 11 - ومنها: أنه ينسلخ من القلب استقباحها، فتصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه، وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التفكه وتمام اللذة حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدث بها من لم يكن يعلم أنه عملها، فيقول: يا فلان، عملت كذا وكذا، وهذا الضرب من الناس لا يُعافون، وتسد عليهم طريق التوبة، وتغلق عنهم أبوابها في الغالب، كما قال النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من الإجهار: أن يستر اللَّه على العبد، ثم يصبح يفضح نفسه، ويقول: يا فلان، عملت يوم كذا كذا وكذا فيهتك نفسه، وقد بات يستره ربه». 12 - ومنها: أن كل معصية من المعاصي هي ميراث عن أمة من الأمم التي أهلكها اللَّه عز وجل، فاللوطية: ميراث عن قوم لوط، وأخذ الحق بالزائد ودفعه بالناقص: ميراث عن قوم شعيب، والعلو في الأرض والفساد: ميراث عن فرعون وقوم فرعون، والتكبر والتجبر: ميراث عن قوم هود، فالعاصي لابس ثياب بعض هذه الأمم وهم أعداء اللَّه. وقد روى عبد اللَّه بن أحمد في كتاب «الزهد» لأبيه عن مالك بن دينار قال: أوحى اللَّه إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك: لا تدخلوا مداخل أعدائي، ولا تلبسوا ملابس أعدائي، ولا تركبوا مراكب أعدائي، ولا تطعموا مطاعم أعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي. 13 - ومنها: أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه.

قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصوه، ولو عزُّوا عليه لعصمهم، وإذا هان العبد على اللَّه لم يكرمه أحد، كما قال تعالى: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} [الحج: 18]، وإن عظمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفًا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه. 14 - ومنها: أن العبد لا يزال يرتكب الذنوب حتى تهون عليه وتصغر في قلبه، وذلك علامة الهلاك، فإن الذنب كلما صغر في عين العبد، عظم عند اللَّه، وقد ذكر البخاري في «صحيحه» عن ابن مسعود قال: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنها في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار». 15 - ومنها: أن غيره من الناس والدواب يعود عليه شؤم ذنبه، فيحترق هو وغيره بشؤم الذنوب والظلم. قال أبو هريرة: إن الحبارى (¬1) لتموت في وكرها من ظلم الظالم. وقال مجاهد: إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السَّنَةُ وأمسك المطر، وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم. وقال عكرمة: دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب يقولون: منعنا القطر بذنوب بني آدم. فلا يكفيه عقاب ذنبه حتى يبوء بلعنة من لا ذنب له. 16 - ومنها: أن المعصية تورث الذل ولا بد، فإن العز كل العز في طاعة اللَّه تعالى، قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]، أي: فليطلبها بطاعة اللَّه فإنه لا يجدها إلا في طاعة اللَّه، وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك. 17 - ومنها: أن المعاصي تفسد العقل، فإن للعقل نورًا، والمعصية تطفئ نور العقل ولا بد، وإذا أطفئ نوره ضعف ونقص. وقال بعض السلف: ما عصى اللَّهَ أحدٌ حتى يغيب عقله، فإنه لو حضره عقله لحجزه عن المعصية وهو في قبضة الرب تعالى، وتحت قهره، وهو مطلع عليه، وفي داره على بساطه، وملائكته شهود عليه ناظرون إليه وواعظ القرآن ينهاه، وواعظ الإيمان ينهاه، وواعظ النار ينهاه، والذي يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ما يحصل له من السرور واللذة بها، فهل يقدم على الاستهانة بذلك كله والاستخفاف به ذو عقل سليم؟! 18 - ومنها: أن الذنوب إذا تكاثرت طُبِعَ على قلب صاحبها، فكان من الغافلين، كما ¬

(¬1) طائر أكبر من الدجاج الأهلي.

قال بعض السلف في قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، قال: هو الذنب بعد الذنب. 19 - ومنها: أن الذنوب تُدْخِلُ العبد تحت لعنة رسول اللَّه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 20 - ومنها: حرمان دعوة رسول اللَّه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ودعوة الملائكة، فإن اللَّه سبحانه أمر نبيه بأن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ - رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر: 7 - 9]. 21 - ومنها: أنها تحدث في الأرض أنواعًا من الفساد في المياه والهواء والزرع والثمار والمساكن، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]. 22 - ومن عقوباتها أنها تطفئ من القلب نار الغيرة ... والمقصود: أنه كلما اشتدت ملابسته للذنوب أخرجت من قلبه الغيرة على نفسه وأهله وعموم الناس، وقد تضعف في القلب جدًّا، حتى لا يستقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيره، وإذا وصل إلى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك، وكثير من هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح، بل يحسن الفواحش والظلم لغيره ويزينه له، ويدعوه إليه ويحثه عليه، ويسعى له في تحصيله، ولهذا كان الدَّيُوث أخبث خلق اللَّه، والجنة عليه حرام، وكذلك محلل الظلم والبغي لغيره ومزينه لغيره، فانظر ما الذي حملت عليه قلة الغيرة. وهذا يدلك على أن أصل الدين الغيرة ومن لا غيرة له، فلا دين له. 23 - ومن عقوباتها: ذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب، وهو أصل كل خير، وذهابه ذهاب كل خير بأجمعه، وفي «الصحيحين» عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الحياء خير كله». وقال: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم يستح فاصنع ما شئت». رواه البخاري. والمقصود: أن الذنوب تضعف الحياء من العبد حتى ربما انسلخ منه بالكلية، حتى ربما أنه لا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله ولا باطلاعهم عليه، بل كثير منهم يخبر هو عن حاله وقبح ما يفعله، والحامل له على ذلك انسلاخه من الحياء، وإذا وصل العبد إلى هذه الحالة لم يبق في صلاحه مطمع.

24 - ومن عقوباتها: أنها تضعف في القلب تعظيم الرب جلَّ جلاله، وتضعف وقاره في قلب العبد ولا بد، شاء أم أبى، ولو تمكن وقار اللَّه وعظمته في قلب العبد لما تجرأ على معاصيه. ومن بعض عقوبة هذا: أنه يرفع اللَّه عز وجل مهابته من قلوب الخلق، فيهون عليهم، ويستخفون به كما هان عليه أمره واستخف به، فعلى قدر محبة العبد للَّه يحبه الناس، وعلى قدر خوفه من اللَّه يخافه الناس، وعلى قدر تعظيمه للَّه وحرماته يعظم الناس حرماته، وكيف ينتهك عبد حرمات اللَّه، ويطمع ألا ينتهك الناس حرماته؟ أم كيف يهون عليه حق اللَّه ولا يهونه اللَّه على الناس؟ أو كيف يستخف بمعاصي اللَّه ولا يستخف به الخلق؟ 25 - ومن عقوباتها: أنها تستدعي نسيان اللَّه لعبده، وتركه، وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه، وهنالك الهلاك الذي لا يرجى معه نجاة، قال اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ - وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 18، 19]، فأخبر أنه عاقب من ترك التقوى بأن أنساه نفسه (¬1)، أي أنساه مصالحها، وما ينجيه من عذابه، وما يوجب له الحياة الأبدية. فاللَّه سبحانه وتعالى يعوض عن كل شيء سواه ولا يعوض منه شيء، ويغني عن كل شيء، ولا يغني عنه شيء، ويمنع من كل شيء، ولا يمنع منه شيء،، ويجير من كل شيء ولا يجير منه شيء، وكيف يستغني العبد عن طاعة من هذا شأنه طرفة عين؟ وكيف ينسى ذكره ويضيع أمره حتى ينسيه نفسه. فيخسرها ويظلمها أعظم ظلم، فما ظلم العبد ربه ولكن ظلم نفسه، وما ظلمه ربه ولكن هو الذي ظلم نفسه. 26 - ومن عقوباتها: أنها تخرج العبد من دائرة الإحسان وتمنعه من ثواب المحسنين .. والمقصود: أن الإيمان سبب جالب لكل خير، وكل خير في الدنيا والآخرة فسببه الإيمان، فكيف يهون على العبد أن يرتكب شيئًا يخرجه من دائرة الإيمان ويحول بينه وبينه، ولكن لا يخرج من دائرة عموم المسلمين، فإن استمر على الذنوب وأصر عليها خيف عليه أن يرين على قلبه، فيخرجه عن الإسلام بالكلية، ومن هنا اشتد خوف السلف، كما قال بعضهم: أنتم تخافون الذنوب وأنا أخاف الكفر. 27 - ومن عقوباتها: أنها تضعف سير القلب إلى اللَّه والدار الآخرة، وتعوقه وتوقفه ¬

(¬1) وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء اللَّه تعالى عند الكلام عن نسيان العبد لنفسه برقم 42. (قل).

وتعطفه عن السير، فلا تدعه يخطو إلى اللَّه خطوة، هذا إن لم ترده عن وجهته إلى ورائه. فالذنب إما أن يميت القلب، أو يمرضه مرضًا مخوفًا، أو يضعف قوته ولا بد، حتى ينتهي ضعفه إلى الأشياء الثمانية التي استعاذ النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها وهي: «الهم، والحزن، والعجز، والكسل، والجبن، والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال». والمقصود: أن الذنوب هي أقوى الأشياء الجالبة لهذه الثمانية، كما أنها من أقوى الأسباب الجالبة «لجهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء»، ومن أقوى الأسباب الجالبة لزوال نعم اللَّه تعالى وتقدس، وتحول عافيته إلى نقمته وتجلب جميع سخطه. 28 - ومن عقوبات الذنوب: أنها تزيل النعم وتحل النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بسبب ذنب، كما قال علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: «ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع بلاء إلا بتوبة». وقد قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]. 29 - ومن عقوباتها: ما يلقيه «اللَّه» سبحانه وتعالى من الرعب والخوف في قلب العاصي، فلا تراه إلا خائفًا مرعوبًا، فإن الطاعة حصن اللَّه الأعظم، الذي مَن دخله كان من الآمنين من عقوبات الدنيا والآخرة، ومَن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب. 30 - ومن عقوباتها: أنها توقع الوحشة العظيمة في القلب، فيجد المذنب نفسه مستوحشًا، وقد وقعت الوحشة بينه وبين ربه، وبينه وبين الخلق، وبينه وبين نفسه، وكلما كثرت الذنوب اشتدت الوحشة، وأمرُّ العيش عيش المستوحشين الخائفين، وأطيب العيش عيش المستأنسين. 31 - ومن عقوباتها: أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه، فلا يزال مريضًا معلولاً لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه، فإن تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان. 32 - ومن عقوباتها: أنها تعمي بصر القلب، وتطمس نوره، وتسد طرق العلم، وتحجب مواد الهداية. 33 - ومن عقوباتها: أنها تصغر النفس، وتقمعها وتدسيها وتحقرها حتى تصير أصغر من كل شيء وأحقره، كما أن الطاعة تنميها وتزكيها وتكبرها. قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا - وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10] والمعنى: قد أفلح من أعلاها وكبرها بطاعة اللَّه وأظهرها، وقد خسر من أخفاها وحقرها وصغرها بمعصية اللَّه.

34 - ومن عقوباتها: أن العاصي دائمًا في أسر شيطانه، وسجن شهواته، وقيود هواه، فهو أسير مسجون مقيد، ولا أسير أسوأ حالاً من أسير أسره أعدى عدو له، ولا سجن أضيق من سجن الهوى، ولا قيد أصعب من قيد الشهوة، فكيف يسير إلى اللَّه والدار الآخرة قلب مأسور مسجون مقيد؟ وكيف يخطو خطوة واحدة؟ وإذا تقيد القلب طرقته الآفات من كل جانب بحسب قيوده، ومثل القلب مثل الطائر، كلما علا بعد عن الآفات، وكلما نزل استوحشته. وأصل هذا كله: أن القلب كلما كان أبعد من اللَّه كانت الآفات إليه أسرع، وكلما كان أقرب إلى اللَّه بعدت عنه الآفات، والبعد من اللَّه مراتب، بعضها أشد من بعض، فالغفلة تبعد العبد عن اللَّه، وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة، وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية، وبعد النفاق والشرك أعظم من ذلك كله. 35 - ومن عقوباتها: سقوط الجاه والمنزلة والكرامة عند اللَّه وعند خلقه. 36 - ومن عقوباتها: أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذم والصغار، فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن والتقي والمطيع والمنيب والولي والورع والمصلح والعابد والخائف والأوَّاب والطيب والمرضى ونحوها، وتكسوه اسم الفاجر والعاصي والمخالف والمسيئ والمفسد والخبيث والمسخوط والزاني والسارق والقاتل والكاذب والخائن واللوطي والغادر وقاطع الرحم وأمثالها، فهذه أسماء الفسوق و {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ} [الحجرات: 11] التي توجب غضب الديان، ودخول النيران، وعيش الخزي والهوان، وتلك أسماء توجب رضاء الرحمن، ودخول الجنان، وتوجب شرف المسمى بها على سائر أنواع الإنسان. 37 - ومن عقوباتها: أنها تؤثر بالخاصة في نقصان العقل، فلا تجد عاقلين أحدهما مطيع للَّه والآخر عاص إلا وعقل المطيع منهما أوفر وأكمل، وفكره أصح، ورأيه أسدّ، والصواب قرينه، ولهذا تجد خطاب القرآن إنما هو مع أولي الألباب والعقول، كقوله: {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197]. 38 - ومن عقوباتها: أن تجعل صاحبها من السفلة بعد أن كان مهيَّأ لأن يكون من العلية، فإن اللَّه خلق خلقه قسمين: علية، وسفلة، وجعل عليين مستقر العلية، وأسفل سافلين مستقر السفلة، وجعل أهل طاعته الأعلين في الدنيا والآخرة، وأهل معصيته الأسفلين في الدنيا والآخرة. 39 - ومن عقوباتها: أنها تجرئ على العبد ما لم يكن يجترئ عليه من أصناف المخلوقات، فتجرئ

عليه الشياطين [الإنس والجن] وتجرئ عليه أهله وخدمه وأولاده وجيرانه حتى الحيوان البهيم. 40 - ومن عقوباتها: أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه ... والمقصود: أن العبد العاصي إذا وقع في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له، فلا ينجذب قلبه للتوكل على اللَّه تعالى والإنابة إليه، والحمية عليه، والتضرع والتذلل والانكسار بين يديه، ولا يطاوعه لسانه لذكره، وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه، فلا ينحبس القلب على اللسان بحيث يؤثر فيه الذكر، ولا ينحبس اللسان والقلب على المذكور، بل إن ذكر أو دعا بقلب غافل لاه ساه، ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقد له، ولم تطاوعه، وهذا كله أثر الذنوب والمعاصي، كما له جند يدفع عنه الأعداء، فأهمل جنده وضيعهم وأضعفهم، وقطع أقواتهم، ثم أراد منهم عند هجوم العدو عليه أن يستفرغوا وسعهم في الدفع عنه بغير قوة. هذا، وثَمَّ أمر أخوف من ذلك وأدهى وأمر، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى اللَّه تعالى، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة، كما شاهد الناس كثيرًا من المحتضرين من أصابهم ذلك، حتى قيل لبعضهم: قل «لا إله إلا اللَّه»، فقال: شاه ورخ (¬1) غلبك ثم قضى. 41 - ومن عقوباتها: أنها مدد من الإنسان يمد به عدوه (¬2) عليه، وجيش يقويه به على حربه. 42 - ومن عقوباتها: أنها تنسي العبد نفسه، فإذا نسي نفسه أهملها وأفسدها وأهلكها، فإن قيل: كيف ينسى العبد نفسه؟ وإذا نسي نفسه، فأي شيء يذكر؟ وما معنى نسيانه نفسه؟ قيل: نعم ينسى نفسه أعظم نسيان، قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19]، فلما نسوا ربهم سبحانه نسيهم وأنساهم أنفسهم، كما قال تعالى: {نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، فعاقب سبحانه من نسيه عقوبتين: إحداهما: أنه سبحانه نسيه. والثانية: أنه أنساه نفسه. ونسيانه سبحانه للعبد إهماله وتركه وتخليه عنه وإضاعته، فالهلاك أدنى إليه من اليد إلى الفم. وأما إنساؤه نفسه فهو إنساؤه لحظوظها العالية، وأسباب سعادتها وفلاحها وإصلاحها وما يكملها، ينسيه ¬

(¬1) شاه ورخ قطعتان من قطع الشطرنج. والمحتضر يذكرهما لأنهما أخذا عليه لبه وعقله من كثرة اللعب. (¬2) أي: إبليس لعنه اللَّه]، والمقصود كما قال ابن القيم رحمه اللَّه - بعد إسهاب في الشرح -: أن الذنوب والمعاصي سلاح ومدد يمد بها العبد أعداءه، ويعينهم بها على نفسه، فيقاتلونه بسلاحه، والجاهل يكون معهم على نفسه، وهذا غاية الجهل والسفه. (قل).

ذلك جميعه، فلا يخطره بباله، ولا يجعله على ذكره، ولا يصرف إليه همته فيرغب فيه، فإنه لا يمر بباله حتى يقصده ويؤثره. وأيضًا ينسيه عيوب نفسه ونقصها وآفاتها، فلا يخطر بباله إزالتها وإصلاحها. 43 - ومنها: المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]، وقد فسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر، ولا ريب أنه من المعيشة الضنك، والآيات تتناول ما هو أعم منه، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات، فإن عمومها من حيث المعنى، فإنه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره، فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعم في الدنيا بأصناف النعم، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه، وإنما تتوارى عند سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة، إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر، فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر، فإنه يفيق صاحبه ويصحو، وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا سكر في الأموات، فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر اللَّه الذي أنزله على رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دنياه، وفي البرزخ، ويوم معاده، ولا تقر العين ولا يهدأ القلب، ولا تطمئن النفس إلا بإلاهها ومعبودها الذي هو حق، وكل معبود سواه باطل، فمن قرت عينه باللَّه قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه باللَّه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. ... إلى أن قال رحمه اللَّه تعالى في نهاية الكلام عن آثار المعاصي: فانظر إلى الآخرة كأنها رأي العين، وتأمل حكمة اللَّه سبحانه في الدارين، تعلم حينئذ علمًا يقينًا لا شك فيه، أن الدنيا مزرعة الآخرة وعنوانها وأنموذجها، وأن منازل الناس فيها من السعادة والشقاوة على حسب منازلهم في هذه الدار من الإيمان والعمل الصالح وضدها، فمن أعظم الذنوب الخروج عن الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة، وباللَّه التوفيق. انتهى كلام ابن القيم رحمه اللَّه تعالى، وأحيطك علمًا بأن تلك النقاط السابقة مجرد عناوين وقليل من الشرح لما في كتاب «الجواب الكافي»، هذا الكتاب القيم لابن القيم. فائدة: قال عبد اللَّه بن عباس: «إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورًا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق».

ثالثا: جاء في مختصر منهاج القاصدين ما مختصره

ثالثًا: جاء في مختصر منهاج القاصدين ما مختصره: 1 - تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر: اعلم: أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقد كثر الاختلاف فيها، واختلفت الأحاديث في عدد الكبائر. والأحاديث الصحاح في ذكرها خمسة (نذكر منها): حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول اللَّه: وما هنّ؟ قال: الشرك باللَّه، والسحر، وقتل النفس التي حَرَّمَ اللَّه إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات». وقد اختلف العلماء فيها على أقوال كثيرة، والأحاديث في الكبائر لا تدل على حصرها فيها، ولعل الشارع قصد الإبهام ليكون الناس على وجل من الذنوب، لكن يعرف من الأحاديث أجناس الكبائر، ويعرف أيضًا أكبر الكبائر. فأما أصغر الصغائر، فلا سبيل إلى معرفته، وقد تكلم العلماء في عدد الكبائر، فروي عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه أنه قال: هي أربع. وروي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه قال: هي سبع. وكان ابن عباس رضي اللَّه عنهما إذا بلغه قول ابن عمر: إنها سبع، قال: هي إلى سبعين أقرب منها إلى سبع. وقال أبو صالح عن ابن عباس: هي ما أوجبت الحد في الدنيا. وعن ابن مسعود أن الكبائر من فاتحة النساء إلى قوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31]. وقال سعيد بن جبير وغيره: هي كل ذنب أوعد اللَّه عليه النار. 2 - فصل في بيان ما تعظم به الصغائر من الذنوب. اعلم: أن الصغيرة تكبر بأسباب: منها الإصرار والمواظبة. واعلم: أن العفو عن كبيرة قد انقضت ولم يتبعها مثلها، أرجى من العفو عن صغيرة يواظب عليها العبد. ومثال ذلك قطرات من الماء تقع على حجر متواليات، فإنها تؤثر فيه، ولو جمعت تلك

القطرات في مرة وصبت عليه لم تؤثر، ولهذا قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل» (¬1). ومن الأسباب التي تعظم بها الصغائر أن يستصغر الذنب، فإن الذنب كلما استعظمه العبد، صغر عند اللَّه تعالى، وكلما استصغره العبد، كبر عند اللَّه تعالى، فإن استعظامه يصدر عن نفور القلب منه وكراهيته له. قال ابن مسعود رضي اللَّه عنه: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا. أخرجاه في «الصحيحين». وإنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال اللَّه تعالى، فإذا نظر إلى عظمة من عصى، رأى الصغيرة كبيرة. وفي البخاري من حديث أنس رضي اللَّه عنه: «إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم من الموبقات». وقال بلال بن سعد رحمه اللَّه: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت. ومن الأسباب أن يفرح بالصغيرة ويتمدح بها، كما يقول: أما رأيتني كيف مزَّقت عرض فلان، وذكرت مساويه حتى خجلته، أو يقول التاجر: أما رأيت كيف روجت عليه الزائف، وكيف خدعته وغبنته، فهذا وأمثاله تكبر به الصغائر. ومنها أن يتهاون بستر اللَّه تعالى وحلمه عنه وإمهاله إياه، ولا يدري أن ذلك قد يكون مقتًا ليزداد بالإمهال إثمًا. ومنها أن يأتي الذنب ثم يذكره بمحضر من غيره، وفي «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه، أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: «كل أمتي معافًى إلا المجاهرون، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل، ثم يصبح وقد ستره اللَّه عليه، فيقول: يا فلان: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره اللَّه عليه، ويصبح يكشف ستر اللَّه عنه». ¬

(¬1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وانظر «جامع الأصول» لابن الأثير رحمه اللَّه تعالى، بتحقيق الأرنؤوط أثابه اللَّه تعالى (جـ 1 ص 303: 306) لمعرفة روايات الحديث. (قل).

ومنها أن يكون المذنب عالمًا يُقتدى به، فإذا علم منه الذنب، كبر ذنبه (¬1). 3 - فإن قيل: ما بال الإنسان يقع في الذنب مع علمه بقبح عواقبه؟ فمن ذلك أجوبة، منها: أن العقاب الموعود ليس بحاضر. ومنها: أن المؤمن إذا أذنب لا بد أن يعزم على التوبة، وقد وعد أن التوبة تجبر ما فعل، وطول الأمل غالب على الطباع، فلا يزال يسوف بالتوبة، فلما رجا التوبة أقبل على الذنب. ومنها: أنه يرجو عفو اللَّه عنه، وعلاج هذه الأسباب أن يفكر في نفسه أن كل ما هو آت قريب، وأنه لا يأمن هجوم الموت، ويعالج التسويف بالفكر في أن أكثر صياح أهل النار من التسويف، والمسوف يبني الأمر على ما ليس إليه، وهو البقاء، فلعله لا يبقى، وإن بقي فربما لم يقدر على الترك غدًا كما يقدر عليه اليوم، وهل عجز عن الحال إلا لغلبة الشهوة وهي غير مفارقة له غدًا؟ بل يتأكد بالاعتياد، من هذا هلك المسوفون؛ لأنهم يظنون الفرق بين المتماثلين، وما مثال المسوف إلا مثال من احتاج إلى قلع شجرة، فرآها قوية لا تنقلع إلا بمشقة شديدة، فقال: أؤخرها سنة ثم أعود إليها، وهو لا يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازداد رسوخها، وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه، فالعجب من عجزه مع قوته عن مقاومتها في حال ضعفها، كيف ينتظر الغلبة إذا ضعف وقويت. وأما انتظار عفو اللَّه تعالى: فعفو اللَّه سبحانه ممكن، إلا أن الإنسان ينبغي له الأخذ بالحزم، وما مثال ذلك إلا كمثل رجل أنفق أمواله كلها، وترك نفسه وعياله فقراء ينتظر من اللَّه تعالى أن يرزقه العثور على كنز في خربة، وهذا ممكن إلا أن صاحبه ملقب بالأحمق، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم (¬2). انتهى من كتاب «مختصر منهاج القاصدين». 4 - صلاة التوبة: عن أبي بكر رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ما من رجل يذنب ذنبًا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي [أي ركعتين] (¬3) ثم يستغفر اللَّه إلا غفر اللَّه له، ثم قرأ هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ - أُولئكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ¬

(¬1) «مختصر منهاج القاصدين» (ص 251: 258). (قل). (¬2) راجع كتاب «مختصر منهاج القاصدين» لابن قدامة المقدسي (ص: 251: 267). (قل). (¬3) لرواية ابن حبان والبيهقي وابن خزيمة. راجع «فقه السنة» لفضيلة الشيخ سيد سابق (ج 2 ص 72).

رابعا: اتهام التوبة

وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [آل عمران: 135، 136]» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي والترمذي وقال: حديث حسن. [وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي]. فائدة: هل الأفضل للتائب أن يتذكر ذنبه أم ينساه؟ الرأي الأول: الأفضل له أن يتذكره. الرأي الثاني: الأفضل له أن ينساه. الرأي الثالث: قال ابن القيم ما معناه: إذا أحس العبد من نفسه العجب فالأفضل أن يتذكر الذنب. وإن كان في حالة منَّة اللَّه عليه والفرح به والشوق إلى لقائه فنسيان الذنب أولى به وأنفع (¬1). رابعًا: اتهام التوبة: قال ابن القيم رحمه اللَّه تعالى (¬2): وأما اتهام التوبة: فلأنها حق عليه. لا يتيقن أنه أدى هذا الحق على الوجه المطلوب منه، الذي ينبغي له أن يؤديه عليه، فيخاف أنه ما وفاها حقها، وأنها لم تقبل منه، وأنه لم يبذل جهده في صحتها، وأنها توبة عِلّة وهو لا يشعر بها، كتوبة أرباب الحوائج والإفلاس، والمحافظين على حاجاتهم ومنازلهم بين الناس، أو أنه تاب محافظة على حاله، فتاب للحال، لا خوفًا من ذي الجلال. أو أنه تاب طلبًا للراحة من الكد في تحصيل الذنب، أو اتقاء ما يخافه على عرضه وماله ومنصبه، أو بضعف داعي المعصية في قلبه، وخمود نار شهوته، أو لمنافاة المعصية لما يطلبه من العلم والرزق، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في كون التوبة خوفًا من اللَّه، وتعظيمًا له ولحرماته، وإجلالاً له، وخشية من سقوط المنزلة عنده، وعن البعد والطرد عنه، والحجاب عن رؤية وجهه في الدار الآخرة. فهذه التوبة لون، وتوبة أصحاب العلل لون. ومن اتهام التوبة أيضًا: ضعف العزيمة، والتفات القلب إلى الذنب الفيْنة بعد الفيْنة، وتذكر حلاوة مواقعته. فربما تنفس. وربما هاج هائجه. ومن اتهام التوبة: طمأنينته ووثوقه من نفسه بأنه قد تاب، حتى كأنه قد أعطي منشورًا بالأمان. فهذا من علامات التهمة. ¬

(¬1) «مدارج السالكين» لابن القيم رحمه اللَّه (جـ 1 ص 202). (قل). (¬2) كتاب «مدارج السالكين» لابن القيم رحمه اللَّه (ج 1 ص 185: 187). (قل).

خامسا: علامات قبول التوبة

ومن علامتها: جمود العين، واستمرار الغفلة، وألا يستحدث بعد التوبة أعمالاً صالحة لم تكن له قبل الخطيئة. خامسًا: علامات قبول التوبة: وقال أيضًا رحمه اللَّه: فالتوبة المقبولة الصحيحة لها علامات: منها: أن يكون العبد بعد التوبة خيرًا مما كان قبلها. ومنها: أنه لا يزال الخوف مصاحبًا له لا يأمن مكر اللَّه طرفة عين فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه {أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] فهناك يزول الخوف. ومنها: انخلاع قلبه، وتقطعه ندمًا وخوفًا، وهذا على قدر عظم الجناية وصغرها. وهذا تأويل ابن عيينة لقوله تعالى: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 110] قال: تقطعها بالتوبة. ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يوجب انصداع القلب وانخلاعه. وهذا هو تقطعه. وهذا حقيقة التوبة؛ لأنه يتقطع قلبه حسرة على ما فرط منه، وخوفًا من سوء عاقبته، فمن لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرّط حسرة وخوفًا، تقطع في الآخرة إذا حَقّت الحقائق، وعاين ثواب المطيعين، وعقاب العاصين. فلا بد من تقطع القلب إما في الدنيا وإما في الآخرة. ومن موجبات التوبة الصحيحة أيضًا: كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء، ولا تكون لغير المذنب ... إلى أن قال رحمه اللَّه: فللَّه ما أحلى قوله في هذه الحال: «أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك عني وفقري إليك. هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك. لا ملجأ ولا منجَى منك إلا إليك. أسألك مسألة المسكين. وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل. وأدعوك دعاء الخائف الضّرير، سؤال مَن خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذلّ لك قلبه». يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناسُ عظمًا أنت كاسره ... ولا يهيضون عظمًا أنت جابره فائدة: قال أبو الجلد: أوحى اللَّه تعالى إلى نبي من الأنبياء: قل لقومك: ما لكم تسترون الذنوب من خلقي، وتظهرونها لي! إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون بي، وإن

سادسا: سؤال هام

كنتم ترون أني أراكم فلم تجعلوني أهون الناظرين إليكم! سادسًا: سؤال هام: ما هو حكم المال «العوض» المتحصل من الزنا والغناء والخمر ... بعد التوبة؟ أي: إذا تاب والعوض بيده (¬1)؟ الرأي الأول: يرده إلى مالكه. الرأي الثاني: قال ابن القيم رحمه اللَّه ما مختصره: بل توبته بالتصدق به (¬2). ولا يدفعه إلى من أخذ منه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أصوب القولين ... إلى أن قال رحمه اللَّه: وهكذا توبة من اختلط ماله الحلال بالحرام، وتعذر عليه تمييزه: أن يتصدق بقدر الحرام، ويطيِّب باقي ماله. واللَّه أعلم. فائدة مشهد الرحمة في المعصية: قال ابن القيم رحمه اللَّه: فإن العبد إذا وقع في الذنب خرج من قلبه تلك الغلظة والقسوة، والكيفية الغضبية التي كانت عنده لمن صدر منه ذنب، حتى لو قدر عليه لأهلكه، وربما دعا اللَّه عليه أن يهلكه ويأخذه، غضبًا منه لله، وحرصًا على ألا يعصى. فلا يجد في قلبه رحمة للمذنبين الخاطئين، ولا يراهم إلا بعين الاحتقار والازدراء، ولا يذكرهم إلا بلسان الطعن فيهم، والعيب لهم والذم. فإذا جرت عليه المقادير وخُلي ونفسه واستغاث اللَّه والتجأ إليه، وتململ بين يديه تململ السليم، ودعاه دعاء المضطر، فتبدلت تلك الغلظة على المذنبين رقة، وتلك القساوة على الخاطئين رحمة ولينًا، مع قيامه بحدود اللَّه، وتبدَّل دعاؤه عليهم دعاءً لهم، وجعل لهم وظيفة من عمره، يسأل اللَّه أن يغفر لهم. فما أنفعه من مشهد! وما أعظم جدواه عليه (¬3)، واللَّه أعلم. ¬

(¬1) «مدارج السالكين» لابن القيم رحمه اللَّه (ج 1 ص: 390: 391). (قل). (¬2) ما حكم الصدقة بالمال الحرام؟ راجع الإجابة عن هذا السؤال في كتاب «جامع العلوم والحكم» لابن رجب الحنبلي (الحديث العاشر: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن اللَّه طيب لا يقبل إلا طيبًا» (ص: 87 ص: 90) وهو حديث صحيح رواه مسلم. وراجع كتابنا «الطيبات من الرزق». (قل). (¬3) «مدارج السالكين» لابن القيم رحمه اللَّه (ج 1 ص 426). (قل).

كتابة الحسنات والسيئات

كتابة الحسنات والسيئات عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: «إن اللَّه عز وجل كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها اللَّه عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها، كتبها اللَّه عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئةٍ فلم يعملها، كتبها اللَّه عنده حسنةً كاملةً، وإن هم بها فعملها كتبها اللَّه سيئةً واحدةً». رواه البخاري ومسلم (¬1). جاء في «جامع العلوم والحكم» لابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى بتحقيق: شعيب الأرنؤوط وإبراهيم باجس - أثابهما اللَّه تعالى - ما مختصره: وفي رواية لمسلم زيادةٌ في آخر الحديث، وهي: «أو محاها اللَّه، ولا يهلك على اللَّه إلا هالكٌ». فتضمنت هذه النصوص كتابة الحسنات والسيئات، والهمّ بالحسنة والسيئة، فهذه أربعة أنواع: النوع الأول: عمل الحسنات، فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرةٍ، فمضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازم لكل الحسنات، وقد دل عليه قوله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]. وأما زيادة المضاعفة على العشر لمن شاء اللَّه أن يُضاعف له، فدل عليه قوله تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، فدلت هذه الآية على أن النفقة في سبيل اللَّه تضاعف بسبع مئة ضعف. وفي «صحيح مسلم» عن أبي مسعود، قال: جاء رجل بناقةٍ مخطومةٍ، فقال: يا رسول اللَّه، هذه في سبيل اللَّه، فقال: «لك بها يوم القيامة سبع مئة ناقة». النوع الثاني: عمل السيئات، فتكتب السيئةُ بمثلها من غير مضاعفةٍ، كما قال تعالى: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160]. وقوله: «كتبت له سيئة واحدة» إشارة إلى أنها غير مضاعفة، ما صرح به في حديث آخر، لكن السيئة تعظم أحيانًا بشرف الزمان، أو المكان (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (6491)، ومسلم (131)، وأحمد (1/ 310، 361). (¬2) شرف الزمان كأن تكون المعصية في رمضان، وشرف المكان كأن تكون المعصية في الحرم، وانظر تفصيل ذلك في «جامع العلوم والحكم»، و «لطائف المعارف» لابن رجب رحمه اللَّه تعالى. (قل).

وقد تضاعف السيئات بشرف فاعلها، وقوة معرفته باللَّه، وقربه منه، فإن من عصى السلطان على بساطه أعظم جرمًا ممن عصاه على بعد، ولهذا توعد اللَّه خاصة عباده على المعصية بمضاعفة الجزاء، وإن كان قد عصمهم منها، ليبين لهم فضله عليهم بعصمتهم من ذلك، كما قال تعالى: {ولَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً - إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء: 74، 75]. وقال تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا - وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 30، 31] وكان علىُّ بن الحسين يتأول في آل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بني هاشم مثل ذلك لقربهم من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. النوع الثالث: الهمُّ بالحسنات، فتكتب حسنة كاملة وإن لم يعملها، كما في حديث ابن عباس وغيره، وفي حديث أبي هريرة الذي خرجه مسلم: «إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنةً، فأنا أكتبها له حسنةً»، والظاهر أن المراد بالتحدث: حديث النفس، وهو الهم، وفي حديث خريم بن فاتك: «من همَّ بحسنةٍ فلم يعملها، فعلم اللَّه أنه قد أشعرها قلبَه، وحرص عليها، كتبت له حسنة»، وهذا يدل على أن المراد بالهم هنا: هو العزم المصمم الذي يوجد معه الحرص على العمل، لا مجرد الخطرة التي تخطر، ثم تنفسخ من غير عزم ولا تصميم (¬1). ومتى اقترن بالنية قول أو سعي، تأكد الجزاء، والتحق صاحبه بالعامل، كما روى أبو كبشة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه اللَّه مالاً وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويصل به رحمه، ويعلم لله فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رزقه اللَّه علمًا، ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً، لعملت بعمل فلانٍ، فهو بنيته، فأجرهما سواءٌ، وعبد رزقه اللَّه مالاً، ولم يرزقه علمًا يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأخبث المنازل، وعبدٍ لم يرزقه اللَّه مالاً ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالاً، لعملت فيه بعمل فلانٍ فهو بنيته فوزرهما سواءٌ». ¬

(¬1) عوضًا عن ما جاء في «جامع العلوم والحكم» هنا، وتيسيرًا على القارئ - خاصة جانب التحقيق - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من امرئ يكونُ له صلاة بالليل، فيغلبه عليها النومُ، إلا كتب اللَّه تعالى له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة». (صحيح، رواه أبو داود والنسائي، انظر «صحيح الجامع») قال المُناوي رحمه اللَّه تعالى في «فيض القدير»: (وكان نومه عليه صدقة) مكافأة له على نيته، قالوا: وهذا فيمن تعود ذلك الورد، ووقع له عليه النوم أحيانًا). (قل).

خرَّجه الإمام أحمد والترمذي وهذا لفظه، وابن ماجه (¬1). وقد حمل قوله: «فهما في الأجر سواءٌ» على استوائهما في أصل أجر العمل، دون مضاعفته، فالمضاعفة يختص بها من عمل العمل دون من نواه فلم يعمله، فإنهما لو استويا من كل وجه، لكتب لمن همَّ بحسنةٍ ولم يعملها عشر حسنات، وهو خلاف النصوص كلها، ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا - دَرَجَاتٍ مِّنْهُ} [النساء: 95 - 96]. قال ابن عباس وغيره: القاعدون المفضل عليهم المجاهدون درجة هم القاعدون من أهل الأعذار، والقاعدون المفضل عليهم المجاهدون درجاتٍ هم القاعدون من غير أهل الأعذار (¬2). النوع الرابع: الهمُّ بالسيئة من غير عمل لها، ففي حديث ابن عباس: أنها تكتب له حسنةً كاملة، وكذلك في حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما: أنها تكتب حسنةً، وفي حديث أبي هريرة قال: «إنما تركها من جرَّاي» يعني: من أجلي. وهذا يدل على أن المراد من قَدِرَ على ما هَمَّ به من المعصية، فتركه لله تعالى، وهذا لا ريب في أنه يكتب له بذلك حسنة؛ لأن تركه للمعصية بهذا القصد عملٌ صالحٌ. فأما إن هم بمعصية، ثم ترك عملها خوفًا من المخلوقين، أو مراءاةً لهم، فقد قيل: إنه يعاقب على تركها بهذه النية؛ لأن تقديم خوف المخلوقين على خوف اللَّه محرم. وكذلك قصد الرياء للمخلوقين محرم، فإذا اقترن به ترك المعصية لأجله، عوقب على هذا الترك. وقد خَرَّج أبو نعيم (¬3) بإسنادٍ ضعيف عن ابن عباس، قال: يا صاحب الذنب، لا تأمنن سوء عاقبته، ولما يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته، وذكر كلامًا، وقال: وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب، ولا يضطرب فؤادك من نظر اللَّه إليك، أعظم من الذنب إذا عملته. وقال الفضيلُ بن عياض: كانوا يقولون: ترك العمل للناس رياء، والعمل لهم شرك. وأما إن سعى في حصولها بما أمكنه، ثم حال بينه وبينها القدر، فقد ذكر جماعة أنه يعاقب عليها حينئذ لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن اللَّه تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم ¬

(¬1) بل هو لفظ الترمذي (2325)، ورواه أحمد (4/ 230 , 231)، وابن ماجه (4228)، والطبراني في «الكبير» (22/ 868)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وهو كما قال. (¬2) رواه الترمذي (3032)، والطبري في «جامع البيان» (10242). (¬3) في «الحلية» (1/ 324).

تكلم به أو تعمل» (¬1) ومن سعى في حصول المعصية جهده، ثم عجز عنها، فقد عمل، وكذلك قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار»، قالوا: يا رسول اللَّه، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ ‍! قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» (¬2). وقوله: «ما لم تكلَّم به، أو تعمل» يدل على أن الهامَّ بالمعصية إذا تكلم بما هم به بلسانه أنه يعاقب على الهَمِّ حينئذ؛ لأنه قد عمل بجوارحه معصية، وهو التكلم باللسان، ويدل على ذلك حديث الذي قال: «لو أن لي مالاً، لعملت فيه ما عمل فلان» يعني: الذي يعصي اللَّه في ماله، قال: «فهما في الوزر سواء». ومن المتأخرين من قال: لا يعاقب على التكلم بما همَّ به ما لم تكن المعصية التي هم بها قولاً محرمًا، كالقذف والغيبة والكذب؛ فأمَّا ما كان متعلقها العمل بالجوارح، فلا يأثم بمجرد التكلم بما هم به، وهذا قد يستدل به على حديث أبي هريرة المتقدم: «وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئة، فأنا أغفرها له ما لم يعملها». ولكن المراد بالحديث هنا حديث النفس، جمعًا بينه وبين قوله: «ما لم تكلَّم به أو تعمل»، وحديث أبي كبشة يدل على ذلك صريحًا، فإن قول القائل بلسانه: «لو أن لي مالاً، لعملتُ فيه بالمعاصي، كما عمل فلان»، ليس هو العمل بالمعصية التي هم بها، وإنما أخبر عما همّ به فقط مما متعلّقه إنفاق المال في المعاصي، وليس له مال بالكلية، وأيضًا فكلامه بذلك محرم، فكيف يكون معفوًّا عنه، غير معاقبٍ عليه؟ وبكل حال، فالمعصية إنما تكتب بمثلها من غير مضاعفةٍ، فتكون العقوبة على المعصية، ولا ينضم إليها الهمُّ بها، إذ لو ضم إلى المعصية الهم بها، لعوقب على عمل المعصية عقوبتين، ولا يقال: فهذا يلزم مثلُه في عمل الحسنة، فإنه إذا عملها بعد الهَمِّ بها، أثيب على الحسنة دون الهم بها، لأنا نقول: هذا ممنوع، فإن من عمل حسنة، كتبت له عشر أمثالها، فيجوز أن يكون بعض هذه الأمثال جزاء للهم بالحسنة، واللَّه أعلم. وقوله في حديث ابن عباس في رواية مسلم: «أو محاها اللَّه» يعني: أن عمل السيئة: إما أن تكتب لعاملها سيئة واحدةٌ، أو يمحوها اللَّه بما شاء من الأسباب، كالتوبة والاستغفار، وعمل الحسنات. ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه.

وقوله بعد ذلك: «ولا يهلك على اللَّه إلا هالك»: يعني بعد هذا الفضل العظيم من اللَّه، والرحمة الواسعة منه بمضاعفة الحسنات، والتجاوز عن السيئات، لا يهلك على اللَّه إلا من هلك، وألقى بيديه إلى التهلكة وتجرأ على السيئات، ورغب عن الحسنات، وأعرض عنها. ولهذا قال ابن مسعود: ويل لمن غلب وحدانه (¬1) عشراته. ا. هـ من «جامع العلوم والحكم». * * * ¬

(¬1) وحدانه: أي: السيئة تكتب سيئة واحدة، (عشراته) أي: الحسنة تكتب بعشر أمثالها. (قل).

سابعا: توبة المرأة

سابعًا: توبة المرأة: أولاً: مقدمة: 1 - قبل الكلام عن دعوة المرأة المسلمة إلى اللَّه أود أن أقول: إن الإسلام هو الاستسلام والإذعان والانقياد لأمر اللَّه تعالى، وطالما أن الأمر كذلك، فإن المسألة ليست مسألة إقناع بقدر ما هي مسألة إيمان وامتثال، فلا يحتاج المسلم في كل تكليف إلى إقناع وبرهان، ولكن طالما أن المسلم قد رضي باللَّه ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبيًّا ورسولاً- طالما أنه قد رضي بذلك - فلا يكون أمامه إلا سؤال واحد عند تكليفه بأمر اللَّه تعالى، وهو: هل ورد هذا التكليف في كتاب اللَّه عز وجل؟ فإن كان واردًا فيه فسمعًا وطاعة، وإن كان هذا التكليف حديثًا للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيكون السؤال هو التأكد من صحة هذا الحديث، فإن ثبت صحة ذلك - وهذا من اختصاص العلماء - فعليه أن يقول سمعًا وطاعة أيضًا، إذن يكون موضع البحث، هو التأكد من أن هذا التكليف قد ورد في كتاب اللَّه، أو في سنة رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع مراعاة مصادر التشريع الأخرى - لا البحث عن الإقناع أو عن أي شيء آخر مما نراه في معظم المسائل بين المسلمين الآن إلا ما رحم ربي من أنك تسمع دائمًا هذا القول: اقنعني أولاً! سبحان اللَّه! إن دين اللَّه تعالى كلٌّ لا يتجزأ، لا يأتيك كله، إلا إذا أعطيته كلك. لو أن الرفيق «أي الطبيب» (¬1) وصف العلاج للمريض، لوجدته أخذ الدواء دون مناقشة، أيًّا كان طعم هذا الدواء، أما عندما يأمر اللَّه بأمر، فنجد التقاعس والتراخي، وطلب الإقناع، أيهما تمتثل لأمره بقوة .. الخالق أم المخلوق؟! أو ما قرأت قول اللَّه تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا} [الأحزاب: 36]. يقول الإمام ابن كثير رحمه اللَّه (¬2) في تفسير هذه الآية: «فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم اللَّه ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد هنا، ولا رأي، ولا قول». انتهى. 2 - قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ ¬

(¬1) أقول رفيق، لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن ادعى أنه طبيب: «أنت رجل رفيق وطبيبها الذي خلقها» رواه أبو داود وأحمد في «المسند» وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح. راجع «زاد المعاد» لابن القيم (ج 2 ص: 353) «أشير دائمًا إلى زاد المعاد بتحقيق الأرنؤوط». (قل). (¬2) «مختصر تفسير ابن كثير» للصابوني (ج 3 ص: 97). (قل).

يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65] انتهى. يقول ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية: «يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة، أنه لا يؤمن أحد حتى يُحكِّم الرسولَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جميع الأمور، فما حَكَمَ به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهرًا وباطنًا، ولهذا قال: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلمون لذلك تسليمًا كليًا، من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، ثم يقول اللَّه تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66]. قال ابن كثير رحمه اللَّه: يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبوه من المناهي لما فعلوه؛ لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر، وهذا من علمه تبارك وتعالى بما لم يكن أو كان فكيف كان يكون، ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ..... }». انتهى من ابن كثير. 3 - قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51] فقد علق اللَّه سبحانه وتعالى الفلاح في الدنيا والآخرة على طاعته سبحانه. تنبيه: من آيات الحجاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب: 59]. ثانيًا: إلى كل فتاة تؤمن باللَّه: جاء في كتاب «إلى كل فتاة تؤمن باللَّه» لفضيلة الشيخ محمد سعيد البوطي ما مختصره: وإنما أعني (¬1) بالفتاة التي تؤمن باللَّه، تلك التي أيقنت بوجوده إلهًا واحدًا لا شريك له في ذاته وصفاته، وأيقنت أنه النافع الضار، إليه مرجع الناس كلهم في يوم عظيم لا ريب فيه، يكشف فيه الحجاب عن كل غيب مستور، وحقيقة خافية، يوم الحسرة والندامة لمن كان قد اغتر بدنياه وفرط في جنب اللَّه، ويوم الغبطة والسعادة لمن كان قد فهم الدنيا على ¬

(¬1) راجع كتاب «إلى كل فتاة تؤمن باللَّه» لفضيلة الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي من ص (14: 21). (قل).

حقيقتها، فاتخذ منها عونًا لسلوك السبيل إلى مرضاة اللَّه. فلا جرم أنني لا أعني بها تلك التي سمعت باللَّه ولم تفهم عنه شيئًا، وورثت كلمة الإيمان شعارًا على اللسان ولم تستيقن مضمونها عقيدة في الجنان، قد يتكرر اسم اللَّه على لسانها في اليوم أكثر من عشرين مرة، ولكنها لا تنتبه لسلطانه وبالغ سطوته في الشهر أو العام مرة واحدة. مثل هذا الإيمان، لا يورث القلب أي خشية، ولا يقود صاحبه إلى أي اتجاه، ولا شأن له بتقويم شيء من مظاهر الحياة والسلوك. فأنا إنما أتجه بحديثي في هذه الرسالة إلى كل فتاة آمنت باللَّه إيمانًا إراديًّا حرًّا منبثقًا عن رضاها القلبي وشعورها النفسي، ويقيني أن [أمتنا تفيض] بكثير ممن يتمتعن بهذا الإيمان. أتجه إلى كل فتاة تؤمن في قرارة قلبها باللَّه هذا الإيمان لأقول لها: إن أمر وجودنا في هذه الحياة جد وأخطر من الجد! .. فلا يحجبنك عن تصور عاقبتها أي لون من ألوان مغرياتها، ولا ينسيك هوانهَا كثرةُ ما ترين من المتعلقين بها. ولا تنسي أن الناس إنما يجتازون إلى اللَّه في هذه الدنيا بساعة امتحان سواء علموا ذلك أم جهلوا، وربما طالت هذه الساعة أو قصرت، ولكنها على كل حال ليست أكثر من ساعة امتحان. وإذا كان الاجتياز بهذه الساعة الامتحانية قدرًا مشتركًا بين الرجال والنساء على السواء، فإن المرأة تمتاز عن الرجل بحمل عبء آخر شديد الخطورة في الدنيا وعظيم الأثر في العقبى! فالمرأة بالإضافة إلى كونها تشترك مع الرجل في اجتياز هذه الساعة الامتحانية، تعتبر مادة من أهم موادها الامتحانية ذاتها! ذلك لأن الشهوات على اختلافها، هي المنزلق الامتحاني الذي بسط اللَّه به وجه هذه الدنيا، وإنما المرأة - بتقرير اللَّه تعالى وصريح بيانه - أول نوع من هذه الشهوات. أوَليس هو القائل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 13]، فقد عدّ اللَّه النساء في أول مراتب الشهوات التي وضعها زينة وابتلاء في طريق الناس. ولولا أنها تفوق سائرها في الخطورة والأهمية، ما جعل مرتبتها في الذكر قبلهن جميعًا.

وإذًا، فالمرأة في حياة الإنسان أخطر ابتلاء دنيوي على الإطلاق. وسر ذلك، أن جميع الآثام التي حظرها اللَّه تعالى على عباده ليس بينها وبين الإنسان أي انسجام فطري. فالظلم بأنواعه المختلفة محرم ويعين الإنسان على تجنبه أن الفطرة الإنسانية تشمئز منه. وشرب الخمر محرم، ويهون من أمر تحريمه أن الفطرة الإنسانية الأصيلة تعفها، وكذلك السرقة، والغش، والغيبة، والنميمة، وبقية المحرمات الأخرى، كلها لا تتفق مع مقتضيات الفطرة الإنسانية السليمة، ولا يجنح إلى شيء منها إلا من ابتلي بشذوذ أو انحراف في طبيعته وفطرته لسبب من الأسباب التي قد تطرأ في حياة الإنسان. وإنما يستثنى من هذا العموم شيء واحد فقط، هو الغريزة الجنسية في كل من الرجل والمرأة، فهي على الرغم من كونها تدفع إلى ارتكاب محظور يعد في ذروة المحاظير الشرعية - ما لم ينضبط بحدود وقيود معينة - تعتبر من أخص مستلزمات الفطرة الإنسانية وأهم متطلباتها، ولا سبيل لأي إنسان ما دام إنسانًا طبيعيًّا لا شذوذ فيه إلى أن ينفك عنها أو يسمو فوقها. ومن خلال هذه المقارنة تستطيعين أن تدركي بأن الشهوة الجنسية في الإنسان أخطر ابتلاء ديني في حياته. إذ في الوقت الذي تقف الفطرة الإنسانية فيه عونًا على تطبيق حكم اللَّه بالنسبة للمعاصي والمنكرات، فإنها تقف بالنسبة للشهوة الجنسية مثيرة لها أو عاجزة - في أحسن الأحوال - عن أن تكبح (¬1) لجامها أو تقلل شيئًا من هياجها. وبناء على ذلك فإن العلاج الإسلامي بالنسبة لسائر المعاصي يكمن في مزيد من الابتعاد عنها والاستعلاء فوقها. أما بالنسبة لأمر الجنس خاصة، فقد كان العلاج هو الارتواء منه، وإمتاع الغريزة به، ولكن ضمن حدود مرسومة معينة لا يتجاوزها. فهذا معنى قولنا إن المرأة أخطر مادة امتحانية في حياة الرجل على الإطلاق. وربما تقولين: ولِمَ لا يعتبر الرجل أيضًا أخطر مادة امتحانية في حياة المرأة، ما دام الشعور الجنسي شائعًا بينهما، وبذلك يتساوى عبء كل من الرجل والمرأة وتتكافأ مهامهما؟! والجواب: إن الفاطر الحكيم جل جلاله أقام فطرة المرأة على أسس نفسية جعلت منها ¬

(¬1) كبح الدابة كبْحًا: جذب رأسها إليه باللجام وهو راكب كي تقف ولا تجر. واللجام: الحديدة في فم الفرس، ثم سموها مع ما يتصل من سُيور وآلة لجامًا. كذا في «المعجم الوسيط». والمعنى واللَّه أعلم عدم قدرة الفطرة الإنسانية على السيطرة على الشهوة إلا ما رحم ربي. (قل).

مطلوبة أكثر من أن تكون طالبة، فهي مهما استشعرت إلحاحًا غريزيًّا في كيانها تظل ميالة - بدافع من عوامل نفسية أصيلة لديها - إلى أن تتحصن بمركز الانتظار والاستعلاء، وأن تفرض على الرجل ظروفًا وأسبابًا تجعله يلح في طلبها والسعي وراءها، وبذلك تكون المرأة فتنة للرجل أكثر من أن يكون الرجل فتنة للمرأة. وقد قرر رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلك الحقيقة باختصار في قوله: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء». متفق عليه. وإذ قد فرغنا من إيضاح هذه الحقيقة، فلتعلمي أن أمر هذه الفتنة التي ابتلي بها الرجل - تشديدًا وتهوينًا - عائد عليك. فالمرأة تستطيع إذا شاءت أن تجعل من شأن نفسها بلاء صاعقًا للرجل، لا يكاد يجد سبيلاً للنجاة منه. وتستطيع أن تجعل من شأن نفسها عونًا على السير في طريق السلامة والنجاة. ومن هنا كان أخطر الوظائف الإسلامية التي كلف اللَّه بها المرأة، أن تغمد سلاح فتنتها أمام الرجال ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، حتى لا يقعوا في رهق من أمر هذا البلاء أو الامتحان. وقد تم الإجماع على أن المرأة لا تحرز رضا اللَّه تعالى عنها بعمل من الأعمال الصالحة، كما تحرزه بالسعي في سبيل يعين الرجل على الاستقامة الخلقية وضبط نوازعه الشهوانية، ولا تتسبب لغضب اللَّه تعالى عليها بعمل من الأعمال المحرمة كما تتسبب إلى ذلك بالسعي في سبيل أن تثير في الرجل نوازعه الشهوانية وتقصيه عن أسباب الاستقامة والعفة الخلقية. وما كان أكثر أهل النار النساء - بإخبار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح، إلا جملة عوامل، من أهمها: أنهن لا يتقين اللَّه تعالى في هذه الوظيفة الخطيرة التي ناطها اللَّه تعالى بهن ... انتهى. ثالثًا: أقوال لا رصيد لها: ثم ذكر فضيلة الشيخ محمد سعيد البوطي في كتابه - السالف ذكره - «إلى كل فتاة تؤمن باللَّه» شبهًا يحتج بها الشيطان بنوعيه، وزخرف القول غرورًا أمام المرأة المؤمنة، حتى يصدها عن سبيل اللَّه، ويمنعها من ارتداء ما أمرها اللَّه به، فقال أثابه اللَّه تحت عنوان: أقوال لا رصيد لها (¬1) ما مختصره (¬2): ¬

(¬1) اكتفيت فقط باختصار جانب الرد على تلك الشبه. (قل). (¬2) لم أختصر كثيرًا في هذه النقطة. (قل).

ومهما يكن من أمر هذه الشبه الباطلة، فإن لأعداء هذا الدين حججًا وأقوالاًً أخرى، يأملون أن يدعموا بها باطلهم! ولكنها أقوال لا رصيد لها من المعنى الذي يمكن أن يتقبله العقل السليم. وما أكثر ما ضلت فتيات مؤمنات، عن رشد العقل، بهذه الأقوال المرصوفة الخادعة، وما أكثر ما تبين لهن أنها أباطيل خادعة، ولكن ذلك لم يتبين لهن إلا بعد أن تجاوز الأمر بهن إلى نهاية لا طاقة لهن إلى الرجوع عنها، بل إلى أودية سحيقة لا سبيل لهن إلى التسامي فوقها! وإنني - أيتها الأخت المؤمنة - سأعرض لك جميع هذه الأقوال بزخرفها الخادع، ثم أجردها أمامك من زيفها اللصيق لترى عظيم ما فيها من الخداع والتضليل، حتى إذا تبين لك ذلك كنت أقدر على الصمود في وجه الباطل الذي تتعرضين له، وأكثر ثباتًا وصلابة على الحق الذي تعتزين به. 1 - يقولون لك: إن عفة الفتاة حقيقة كامنة في ذاتها، وليست غطاء يلقى ويسدل على جسمها، وكم من فتاة محتجبة عن الرجال في ظاهرها، وهي تمارس معهم البغي والفجور في سلوكها، وكم من فتاة حاسرة الرأس سافرة الوجه لا يعرف السوء سبيلاً إلى نفسها أو سلوكها. وأقول لك: إن هذا صحيح. فما كان للثياب أن تنسج لصاحبها عفة مفقودة، ولا أن تخلق له استقامة معدومة، ورب فاجرة سترت فجورها بمظهر سترها. ولكن من هذا الذي زعم أن اللَّه إنما شرع الحجاب لجسم المرأة ليخلق الطهارة في نفسها أو العفة في أخلاقها؟ ومن هذا الذي زعم أن الحجاب إنما شرعه اللَّه ليكون إعلانًا بأن كل من لم تلتزمه فهي فاجرة تنحط في وادي الغواية مع الرجال؟ إن اللَّه جل جلاله إنما فرض الحجاب على المرأة محافظة على عفة الرجال الذين تقع أبصارهم عليها، لا حفاظًا على عفتها من الأعين التي تراها! .. ولئن كانت تشترك معهم هي الأخرى في هذه الفائدة في كثير من الأحيان، فإن فائدتهم من ذلك أعظم وأخطر. وإلا فهل يقول عاقل - تحت سلطان هذه الحجة المقلوبة - إن للفتاة أن تبرز عارية أمام الرجال كلهم ما دامت ليست في شك من قوة أخلاقها وصدق استقامتها؟! إن بلاء الرجال بما يقع عليه أبصارهم من مغريات النساء وفتنتهن، هو المشكلة التي أحوجت [الأمة] إلى حل، فكان في فضل اللَّه ما تكفل به على أفضل وجه. وبلاء الرجال، إذا لم يجد في سبيله هذا الحل الإلهي، ما من ريب أنه سيتجاوز بالسوء إلى النساء أيضًا. ولا يغني عن الأمر شيئًا أن تعتصم المرأة المتبرجة عندئذ باستقامة في سلوكها أو عفة في

نفسها. فإن في ضرام ذلك البلاء الهائج في نفوس الرجال، ما قد يتغلب على كل استقامة أو عفة تتمتع بها المرأة إذ تعرض من فنون إثارتها وفتنتها أمامهم. 2 - ويقولون لك: إنه إذا شاع الاختلاط بين الرجل والمرأة، تهذبت طباع كل منهما، وقامت بينهما بسبب ذلك صداقات بريئة لا تتجه إلى جنس ولا تنحرف نحو سوء! أما إذا ضرب بينهما بسور من الاحتجاب، فإن نوازع الجنس تلتهب بينهما وتغري كلا منهما بصاحبه فيشيع من ذلك الكبت في النفوس والسوء في الطباع. وأقول لك: صحيح، إن مظاهر الإغراء قد تفقد بعض تأثيراتها بسبب طول الاعتياد وكثرة الشيوع. ولكنها إنما تفقد ذلك عند أولئك الذين خاضوا غمارها وجنوا من ثمارها، خلال مرحلة طويلة من الزمن، فعادوا بعد ذلك وهم لا يحفلون بها. وبدهي أن ذلك ليس لأنهم قد تساموا فوقها، ولكن لأنهم قد بشموا بها ولأنهم يشبعون (¬1) كل يوم منها. إن رؤية المناظر والمواقف الجنسية في بلدة كالسويد مثلاً، تعتبر أمرًا عاديًّا لا يثير استغرابًا ولا استهجانًا بالنسبة لأولئك الذين نشئوا أو عاشوا في تلك الأجواء، فهل يعني ذلك أنهم قد تجاوزوا طبيعة التأثير بدواعي الانحراف وأسبابه، فهم لا ينحطون إليها ولا يتأثرون بها؟! .. أي مجنون من الناس يقول هذا؟!. كلنا يعلم أن هذا الذي يمر بالمشاهد الجنسية المكشوفة هناك، غير عابئ بها، ولا ملتفت إليها، قد نجده بعد ساعة يمارس العملية نفسها في مكان آخر. وهكذا فإن عدم الاكتراث والتأثير بمظاهر الإغراء، إنما هو نتيجة انتشار اللذة رخيصة في كل مكان، وليس نتيجة فهم معين أو جديد لما قد تبصره عيناه. والذي يتصور تحقق الزهد في الجنس، دون أن يكون نتيجة لانتشاره وإباحته، إنما هو كمن يتصور إمكان زهد الجائع في الطعام بمجرد أن تتناثر أطباقه الشهية أمام عينيه في واجهات المحلات عن يمين الشارع ويساره. وإنما (الصداقة) كلمة يطلقها هؤلاء الناس على تلك الفترات التي يلتقط فيها الأصدقاء أنفاسهم بعد انجراف طويل في أدغال الحيوانية والإباحية المطلقة. وإنها لحقيقة ثابتة يعرفها (الأصدقاء) قبل أن يعرفها الآخرون! .. والكبت .. أيهما يورث الكبت؟ أن يخرج الشاب إلى شأنه من وظيفة أو عمل أو دراسة، فلا تقع عينه على ما يثير شيئًا ¬

(¬1) أقول: لأنهم - عافانا اللَّه وإياكم - يملون منها، اللهم لا تشبع فروج المسلمين إلا من حلال. (قل).

من كوامن غريزته، فيعود إلى بيته، هادئ النفس، مستريح البال، نشط الفكر، أم أن يخرج من بيته فتستقبله مغريات الجنس من كل جانب وصوب، وبكل أسلوب وفن، فتهتاج نفسه وتثور غرائزه، حتى إذا دنا ليمتع نفسه وتثور غريزته اصطدم بحواجز القانون، ورقابة [الشرطة]، وشهامة الزوج أو القريب (¬1)؟ 3 - ويقولون لك: إن حجاب المرأة عائق عن مشاركتها الرجل في نهضته الفكرية والثقافية والاجتماعية، وإنما أولى الخطوات إلى أي نشاط فكري أو اجتماعي، أن تسفر الفتاة عن وجهها، وتحطم ما بينها وبين الرجل من حواجز واعتبارات. كما أن أول السبيل للقضاء على ملكتها واستعداداتها الفكرية والاجتماعية المختلفة، أن تحبس نفسها في قفص الحجاب، وتضع بينها وبين الرجل حاجزًا مما تسميه الستر والآداب! وما يتحدث أحدهم عن جهل المرأة، وتخلفها، إلا ويجعل من صورة المرأة المحتجبة مظهرًا لذلك! وما يتحدث عن ثقافة المرأة، وتقدمها، ونشاطها الفكري والاجتماعي ـ إلا ويجعل من صورة المرأة العارية أو السافرة مظهرًا لذلك. وأقول لك: إنني أجزم بأن هذا التلازم المختلق، إن هو إلا بهتان كبير لا أساس له ولا دليل عليه! .. وإن كل مطلع على التاريخ، يعلم أن تاريخنا الإسلامي مليء بالنساء المسلمات اللاتي جمعن بين الإسلام أدبًا واحتشامًا وسترًا، وعلمًا وثقافة وفكرًا. وذلك بدءًا من عصر الصحابة فما دون ذلك، إلى عصرنا الذي نعيش فيه. 4 - ويقولون لك: إن الفتاة التي تحبس نفسها عن الناس من وراء الحجاب، إنما تحرم بذلك شبابها بل حياتها من سعادة الزواج، فالشاب إنما يقبل على الفتاة التي يعجب بها، وإنما يعجبه منها - قبل كل شيء - جمالها وما يتصل به من مظاهر شخصيتها. وأنَّى له أن يطمئن إلى ذلك منها إذا لم يتهيأ له أن يراها وأن يخلط نفسه بطرف من شأنها وطباعها؟ .. وكيف يتهيأ له ذلك إذا كانت تأبى إلا أن تحبس نفسها، وراء سور البرقع والحجاب؟. ¬

(¬1) إن أكبر هذه الحواجز: حاجز الخوف من اللَّه تعالى. وفي «تفسير ابن كثير»: عن مجاهد قال: كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين: رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها أفضل، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضي اللَّه عنه إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3] «مختصر ابن كثير» (ج 3 ص: 359). (قل).

تلك هي حجة الأمهات لبناتهن، تحسب الواحدة منهن أنها تجلب الخير بذلك لابنتها، وتقرب السبيل لها إلى اختيار فتى أحلامها. ويزيد في ذلك اندفاعًا إغراءات جنود الشيطان من حولها، يستغلون لديها هذه الرغبة، فيزيدون من مخاوفها إن تزيت ابنتها بلباس الإسلام، ويدعمون آمالها إن هي تحررت منه وانساحت بين صفوف الشباب، تعرض من زينتها عليهم، وتخلط نفسها بهم! .. وأقول لك: إنها لخدعة باطلة توحي بعكس الواقع والحقيقة! .. خدعة يصوغها دعاة الباطل على علم، وتنطلي على أفكار الفتيات وأمهاتهن جهلاً وخداعًا!! ولو تأملت الواقع الذي تعيشين فيه، لرأيت نسبة الإقبال على الأسر والفتيات المحافظات للزواج منهن أكثر بما يقارب الضعف، من الإقبال على الأسر المتحررة اللاتي يطبقن الوصفة الخادعة التي اغتررن بها، بل إن الزواج - عمومًا - يشيع بين الأسر المحافظة المتدينة أكثر مما يشيع بين الأسر الأخرى، بنسبة تزيد على الضعف، يعلم تفصيل ذلك كل من يرجع إلى الإحصائيات المفصلة في هذا الشأن. ولأوضح لك الأسباب القريبة والبعيدة لهذا الشأن، حتى تزدادي يقينًا بحكمة الخالق جل جلاله وبأن الإنسان لن يجد مصلحته مكلوءة بعناية وحفظ إلا في تطبيق شرع اللَّه عز وجل. إن الشباب في مجتمعنا لا يعدو أن ينتمي إلى أحد صنفين: الصنف الأول: متدين في الجملة، فهو متقيد بآداب الإسلام ومعظم أحكامه ولا سيما الاجتماعية منها والبارزة. فالشاب من هذا الصنف لا بد أن يتزوج فيما بين العشرين والثلاثين من عمره، لا يستثنى من ذلك إلا أصحاب الظروف الاستثنائية الخاصة. والزواج في اعتبار مثل هذا الشاب بمثابة ساعة الإفطار للصائم فيحشد له جميع آماله الدنيوية في الحياة، ويجعل منه ركيزة سعادته كلها!. والشاب من هذا الصنف يبحث عن الفتاة كما يحبها، ولكن ضمن دائرة الستر والصيانة التي آمن بها ونشأ في داخلها. وحتى لو بعدت به الظروف عن هذه الدائرة في بعض الأحيان لأسباب مما قد يمتحن به الشاب، فإنه لا يطمئن لفتاة ستصبح أُمًا لأولاده إلا إذا رأى طابع الدين والستر جليًّا وأصيلاً في حياتها. وهذا الشاب لن يصطدم بمشكلة الجهل أو عدم الاطمئنان إلى خلقها، فإن شريعة اللَّه عز وجل قد حلت له المشكلة عندما شرعت له، بل أمرته أمر إرشاد وندب أن ينظر إليها

ويكلمها (¬1)، حتى إذا شعر من نفسه أنه لم ينل حظًّا كافيًا في المرة الأولى لمعرفتها، وتبين ما ينبغي أن يطمئن إليه منها، كان له أن يعاود النظر ثانية وثالثة. الصنف الثاني: متفلت عن سلطان الدين وأحكامه، فهو لا يبالي أن يمتع نفسه بحظوظها كلما تسنى له ذلك، لا فرق بين أن ينالها من حلال أو حرام!. فالشاب من هذا الصنف إن تزوج فهو إنما يدخر زواجه إلى أواسط عهد الكهولة أو آخرها. ولن تجد واحدًا من هؤلاء تزوج قبل سن الخامسة والثلاثين! .. إلا أن يكون ذلك لظروف استثنائية نادرة. والزواج في اعتبار مثل هذا الإنسان، كرجوع السائح إلى داره بعد نزهة استنفدت المتعة فيها كل نشاطه وطاقاته، حتى إذا أدركه الملل والجهد عاد إلى داره يبغي فيها الراحة والهدوء؟ .. فهو - وقد نال من صنوف اللذات مغنمًا بدون مغرم - إنما يريد من الزوجة الآن أن تعينه على راحة ينشدها أو قرار يتطلبه، أكثر من أن يريد بالزواج متعة يشترك مع الزوجة فيها وسعادة يلتقي مع الزوجة على ارتشافها!. وأكثر ما تظاهر بالرغبة في الزواج من قبل، فانجذبت الفتيات إليه من هنا وهناك، كل تعرض له ما عندها من زينة ورقة وجمال، على مذهب هؤلاء المخدوعات اللائي يحسبن أن الفتاة لا يمكن أن تعثر على الزوج الذي تبغيه إلا في الشارع الذي تتعرى فيه، فتذوق من هذه وتلك وتيك .. ونال ما يبغيه منهن - كما قلنا - غنيمة بدون مغرم. إذ تنتهي بكل منهن خليلة اليوم، ثم نبذها وراء ظهره حليلة الغد!. وبين الرجل والمرأة فارق في التسابق إلى حظوظ النفس - قلما يتبينه الناس - تكون المرأة هي الخاسرة فيه دائمًا! إذ المرأة مهما تحللت من قيود الدين والآداب، فإنها لا تصل إلى قمة سعادتها إلا في ظلال بيت تصبح أُمًّا سعيدة فيه. والرجل مهما كان شأنه، إنما تهفو نفسه إلى نعيم تصفو فيه لذته عن كدور الغرامة أو المسئولية أو الجهد، ولا يفطم نفسه عن التعلق بذلك إلا دين يتحكم بمجامع قلبه، فإذا فقد الدين فإن الرجل والمرأة يلتقيان على مائدة تكون المرأة دائمًا هي الطرف المغلوب فيها!. وحصيلة هذا الكلام كله، واقع مشاهد ملموس لا يحتاج لرؤيته إلا إلى تأمل وانتباه. وهو أن نسبة الذين يقبلون على الزواج من الشبان المتدينين تزيد على ضعف نسبة من يقبلون عليه من المتحللين أو المتحررين. والمتدينون لا يتزوجون إلا في الحجر الصالح، ¬

(¬1) هذا كله مع مراعاة أحكام الخطبة خاصة وجود المحرم. (قل).

ولا يتعلقون إلا بجمال زانه خلق وستر ودين. ونتيجة لذلك فإن العنوسة لا تشيع - في أعم الأحوال - إلا في الأسر التي شاءت أن تنفلت عن منهج الدين وحكمه وتربيته. يا أختي المؤمنة: إن فيما أوضحته لك ما يكفي لإقناعك - بالمنطق السليم الذي لا التواء فيه - بأن اتباع شريعة اللَّه تعالى لا يضمن لك بلوغ مرضاة اللَّه فحسب، بل هو يضمن لك إلى جانب ذلك تحقيق أسباب سعادتك الدنيوية كلها. والسعادة ليست في تحقيق الخيال الذي تتصورين وإنما هي في واقع الذي يورثك الطمأنينة ويشيع في حياتك الارتياح والرضا. أما وقد تبين لك كل ذلك، فقد آن لك أن تنهضي لاستجابة حكم مولاك العظيم، وأن تصطلحي مع اللَّه عز وجل بعد طول نسيان وتنكر له، فتتخذي من صراطه سبيلاً، ومن حبه شفيعًا بين يديه. دعي انتقاد الناس وحسابهم، فإن حساب اللَّه غدًا أشد وأعظم! .. ترفعي عن السعي إلى مرضاتهم وتحقيق أهوائهم، فإن التسامي إلى مرضاة اللَّه أسعد لك وأسلم. ولسوف - تجدين - وأنت تعزمين على الرجوع إلى صراط اللَّه - من يحاول أن يرهق مشاعرك تخديرًا تحت وطأة هذه «التقاليع» التي أحاطت بك كما تحيطك خيوط العنكبوت بضحيتها الحبيسة، وأن يذكرك بفلانة التي كانت تبرز مفاتنها أمام الرجال، وفلانة التي كان لها [مكانها] الأدبي البارز بين الناس! .. وأما أنا (¬1) فأذكرك بالحكم الإلهي الواضح، الذي نقلته لك بأمانة، وبهذا الحديث الثابت عن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ يقول: «صنفان من أمتي لم أرهما قط: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة [أي كسنام الجمل] لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا». رواه مسلم والإمام أحمد. ولسوف تجدين أيضًا من يذكرك بجمال هذه الدنيا ومغريات الارتواء من لذائذها وزينتها! ولكني أذكرك بخطورة عقابها، وجسامة ما ينتظرك من آثارها ونتائجها .. أذكرك بيوم الدين، إن كنت قد آمنت بوجوده ... أذكرك باليوم الذي يصدق فيه قول اللَّه تعالى وهو يخاطب طائفة كبيرة من الناس: ¬

(¬1) ما زال الكلام لفضيلة الشيخ البوطي أثابه اللَّه تعالى. (قل).

{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20]، أذكرك بذلك كله، فإن ذلك أدعى إلى أن تتلمسي لنفسك سعادة الدنيا والآخرة معًا (¬1). انتهى كلام فضيلة الشيخ البوطي. رابعًا: وارباه يا أختاه .. 1 - من يعيب عليك أنك تتحجبين من أجل الزواج، كمن يعيب عليك أنك تجمعين المال من أجل الحج مع محرم. 2 - لا تظني أن التبرج سبيل إلى الزواج، فإن ما عند اللَّه تعالى لا ينال إلا بطاعته. 3 - بقدر ما تبتعدين عن مخالطة الرجال (¬2) ومزمار الشيطان (¬3) بقدر ما تقتربين من اللَّه وفرج الرحمن. تنبيه: من النادر أن توجد امرأة مؤمنة ترتدي زي الإسلام قد جاوزت سن الخامسة والعشرين دون زواج. وأكرر ما قلته في المقدمة: إن المسألة ليست مسألة إقناع بقدر ما هي مسألة إيمان وامتثال. فالأمر إذن أمر إيمان بالغيب قبل الصلاة والزكاة والحجاب، فإن اللَّه تعالى يقول في وصف المؤمنين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة: 3] فكلما زاد الإيمان زاد الامتثال، وكلما ضعف الإيمان ضعف الامتثال، وأيضًا كلما زاد الامتثال زاد الإيمان، وكلما ضعف الامتثال ضعف الإيمان. وما وصل أبو بكر إلى ما هو عليه، وحب اللَّه ورسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له إلا بقوة الإيمان والامتثال، انظر إلى كلامه المأثور عندما أخبر بإسراء الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن كان قد قال فقد صدق». خامسًا كلمة أخيرة للشيخ البوطي: كلمة أخيرة، يجب أن أتجه بها إلى اللواتي استيقنت أفئدتهن الحق الذي بينته، غير أن الواحدة منهن تشعر ببعد النقلة بين الواقع الذي تعيش فيه والحق الذي آمنت به، فتركن آسفة إلى الوضع الذي تعيش فيه، وتعتذر إلى اللَّه أو إلى الناس، بأنها عاجزة عن مثل هذا القفز البعيد. وهكذا، فإن في الناس طائفة كبيرة من المنحرفين والمنحرفات، لا يمسكهم على انحرافهم ويمنعهم من السعي إلى إصلاح حالهم إلا ما يرونه من بعد الفجوة وعمقها بين ¬

(¬1) كتاب «إلى كل فتاة تؤمن باللَّه» للشيخ البوطي (ص: 81: 95). (¬2) مع مراعاة أحكام المحارم. (قل). (¬3) مزمار الشيطان: اسم من أسماء الغناء كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى. (قل).

الكمال الذي يسمعون عنه والواقع الذي يعيشون فيه. ولكن هذا التصور خاطئ .. فإن الفاصل الذي بين الحق والباطل، إنما يتمثل في الفرق بين أدنى طرف من الباطل وأول درجة من درجات الحق، وفرق ما بينهما لفتة صغيرة وحركة بسيطة. إن الحق الذي أوضحناه في الصفحات الماضية، ليس نهاية مستقلة تقبع في قمة السمو والكمال، ولكنه سلم ذو درجات متقاربة، تبدأ أولاها عند طرف الباطل الذي تعيشين فيه، وتقف الأخيرة عند نهاية الكمال الذي يشدك إليه تشريع اللَّه وحكمه. وإنما المطلوب منك - بعد أن تنبهت إلى الحق وآمنت به - أن تتحركي صاعدة في درجاته، لا أن تقفزي قفزة واحدة إلى نهايته! .. إذا كنت لا تملكين من الطاقة والإرادة أو الظروف المساعدة ما تفرضين به على نفسك حجابًا سابغًا للجسم والوجه، فلتفرضي على نفسك ما دون ذلك مما تساعدك عليه الظروف والأحوال، وإذا كنت لا تجدين طاقة كافية لتغيير أي شيء من لباسك وهيئتك، مهما كانت منحرفة وبعيدة عن اللَّه عز وجل فلتفرضي على نفسك ما دون ذلك أيضًا، من أداء العبادات المفروضة، وتلاوة شيء من كتاب اللَّه بتدبر خلال كل صباح ومساء، وإذا كنت عاجزة عن الارتباط حتى بهذا القدر في سبيل الإصلاح فلتفرضي على نفسك ما دون ذلك، من استشعار خطورة الحال التي أنت فيها والالتجاء إلى اللَّه تعالى بقلب صادق واجف، تسألينه العون والقوة، فإن صدق الالتجاء إلى اللَّه ينبوع النصر والتوفيق. وما سار إنسان إلى الحق بادئًا بخطوة من هذه الخطا متجهًا إلى اللَّه بصدق وعزم، إلا وفقه اللَّه تعالى في السير إلى نهاية الطريق والوصول إلى مجامع ذلك الحق. وإنما المصيبة كل المصيبة أن تعلمي الحق، وتؤمني به، ثم لا تتجهي إليه بخطوة ولا بعزم، كأن الأمر ليس مما يعنيك في شيء، أو كأن الذي شرع هذا الحق وأمر به لن تطولك يده، ولن يبلغ إليك بطشه وسلطانه. أو كأن الآخرة وما فيها أهون من أن يتخلى الإنسان في سبيلها عن شيء من أمانيه وأهوائه!. مثل هذا الحال، يعتبر أعظم سبب لاستمطار غضب اللَّه تعالى والتعجيل بعقوبته. وعقوبة الدنيا هنا لا تتمثل في بلاء عاجل يحيق بالإنسان، وإنما تتمثل في انغلاق العقل، وقسوة القلب، فلا يؤثر في أحدهما تذكير ولا تخويف ولا تنبيه، مهما كانت الأدلة واضحة والنذر قريبة، حتى إذا جاءه الموت تخطفه وهو على هذا الحال، فينقلب إلى اللَّه تعالى، وقد تحول انغلاق عقله وقسوة قلبه إلى ندم يحرق الكبد في وقت لا ينفع فيه الندم ولا رجوع فيه إلى الوراء.

وقد عَبَّرَ اللَّه تعالى عن هذه العقوبة وسببها بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57] فإذا كنت تؤمنين باللَّه فلا ريب أنك تؤمنين بشريعته وباليوم الآخر الذي هو يوم الحساب والجزاء. وإن من مستلزمات هذا الإيمان، أن تضعي الكلام الذي سردته عليك في هذه الرسالة موضع الجد والاهتمام من تفكيرك. حتى إذا أيقنت أنني لم أخدعك بباطل من القول، ولم أضع بين يديك إلا الحقيقة الصافية التي يتمثل فيها حكم اللَّه عز وجل - كان عليك أن تنهضي إلى تطبيق هذا الحكم بالسير في مراحله المتدرجة. فإن رأيت أن حبال الدنيا وأهواءها، وتقاليد الصديقات والقريبات، تشدك إلى الخلف، وتصدك عن النهوض بأمر اللَّه، فلا أقل من أن تفيض الحسرة في قلبك من ذلك فيسوقك الألم إلى باب اللَّه تعالى وأعتاب رحمته، لتعرضي له ضعفك وتجأري إليه بالشكوى، أن يهبك من لدنه قوة وتوفيقًا، وأن يمنحك العون لتتحرري عن سلطان نفسك، وسلطان التقاليد والعادات، وسلطان الأقارب والصديقات. أما إن لم ينهض بك الإيمان إلى هذا ولا إلى ذلك، ولم يتحرك القلب الذي وراء ضلوعك بأي تأثر واهتمام لكل هذا الذي حدثتك به - فلتكوني في شك من إيمانك بوجود اللَّه تعالى، ولتعلمي أنك تسيرين - إن استمر بك الحال - إلى نهاية رهيبة وليس منها مخلص ولا مفر! ولتعلمي أن سكر الدنيا مهما كان لذيذًا فيوشك أن تفجأك منها ساعة صحوة وانتباه، وإنها واللَّه لقريبة منك. ولتعلمي أن مذاقها مهما كان طيبًا فإن في نهايتها غصة ستأخذ منك بالحق، وإنها واللَّه لمقبلة إليك، ثم اعلمي أنه ما من شاب يبتلى منك اليوم بفتنة تغريه، أو تشغل له باله، وكان بوسعك أن تجعليه في مأمن منها إلا أعقبك منها غدًا نكال من اللَّه عظيم. فاذكري في آخر هذه الرسالة ما قد نبهت إليه في أولها، من أن المرأة في حياة الرجل أخطر ابتلاء دنيوي له على الإطلاق، فاجعلي من تقوى اللَّه تعالى في سلوكك عونًا للرجل على السعي في سبيل مرضاة اللَّه، ولا تجعلي من الإمعان في معصية اللَّه عونًا له على السير في طريق الشيطان. واللَّه المستعان في الهداية والتوفيق (¬1) ... انتهي كلام فضيلة الشيخ البوطي أكرمه اللَّه تعالى. ¬

(¬1) «كتاب إلى كل فتاة تؤمن باللَّه» (ص 96: 101). (قل).

تنبيه وكلمة:

تنبيه وكلمة: الكلام عن شروط الحجاب، وحكم تغطية الوجه، سيأتي إن شاء اللَّه تعالى في فصل مستقل، ولقد شاء اللَّه تعالى أن أطلق على هذا الجزء الخاص بالمرأة «توبة المرأة» لأن توبة المرأة لا تتحقق بالصلاة والزكاة والصيام فحسب، وإنما مع ذلك كله بالالتزام بالحجاب الشرعي الذي أمرها اللَّه به، فظاهر المرأة بالنسبة للتوبة جزء من باطنها، فكأن النقاط السابقة التي تتحدث عن التوبة تشترك فيها المرأة مع الرجل، أما النقطة الأخيرة فهي نقطة خاصة بالمرأة، ويمكنني بعد ذلك كله أن أقول: وبفضل اللَّه تعالى؛ إن توبة المرأة الظاهرة لا تقل عن توبتها الباطنة، فالتوبة الباطنة من صلاة .... ، ... ، ... علاقة بينها وبين ربها، أما التوبة الظاهرة فعلاقة بينها وبين ربها من ناحية، وعلاقة بينها وبين العباد من ناحية أخرى، وذلك لأنها بتبرجها فتنة للمسلمين فتعدى ذنبها من نفسها إلى العباد، فهي بذلك ظالمة لنفسها من ناحية، عاصية لربها من ناحية ثانية، وظالمة للعباد من ناحية ثالثة. إن خروج المرأة من بيتها بدون حجاب يعني أن هناك عدَّادًا من السيئات كعدَّاد الكهرباء لا يتوقف إلا بدخولها في بيتها أو في مكان شرعي تتوارى فيه عن أعين العباد ... فيا أمة الجبار، أفيقي من غفلتك، وسارعي إلى مغفرة من ربك وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، واقتحمي حصن الشيطان الرجيم، وانسفيه بالذكر الحكيم، وارتدي حجاب رب العالمين من قبل أن يأتي يوم .... يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللَّه بقلب سليم.

الباب الثاني: الدنيا

الباب الثاني: الدنيا أولاً: قال اللَّه تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ - حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ - كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ - ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ - كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ - لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ - ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ - ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 1 - 8]. جاء في «مختصر ابن كثير» ما مختصره: يقول تعالى: أشغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها، وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر، وصرتم من أهلها، عن زيد بن أسلم قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} عن الطاعة، {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} حتى يأتيكم الموت (¬1). وقال الحسن البصري: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} في الأموال والأولاد، وعن أبيّ بن كعب قال: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} يعني: «لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب» (¬2). وروى الإمام أحمد عن عبد اللَّه بن الشخير قال: انتهيت إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقول: «{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟» (¬3). وروى مسلم في «صحيحه» عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث، ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدّق فأمضى، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» (¬4). وروى البخاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يتبع الميت ثلاث فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله» (¬5). وعن أنس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يهرم ابن آدم وتبقى معه اثنتان: الحرص، والأمل» (¬6). وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة الأحنف بن قيس أنه رأى في يد رجل درهمًا فقال: لمن هذا الدرهم؟ فقل الرجل: لي، فقال: إنما هو لك إذا أنفقته في أجر، ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم. (¬2) رواه البخاري في الرقاق. (¬3) أخرجه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي. (¬4) تفرد به مسلم. (¬5) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي. (¬6) أخرجاه في «الصحيحين».

أو ابتغاء شكر، ثم أنشد الأحنف متمثلاً قول الشاعر: أنت للمال إذا أمسكته فإذا أنفقته فالمال لك وقوله تعالى: {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ - ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} قال الحسن البصري: هذا وعيد بعد وعيد، وقال الضحاك: {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} يعني: أيها الكفار، {ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} يعني: أيها المؤمنون، وقوله تعالى: {كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} أي: لو علمتم حق العلم لما ألهاكم التكاثر عن طلب الدار الآخرة حتى صرتم إلى المقابر ثم قال: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ - ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} هذا تفسير الوعيد المتقدم، وهو قوله: {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ - ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} توعدهم بهذا الحال وهو رؤية أهل النار، التي إذا زفرت زفرة واحدة، خرّ كل ملك مقرب ونبي مرسل على ركبتيه، من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال، على ما جاء به الأثر المروي في ذلك. وقوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} أي: ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم اللَّه به عليكم، من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك، ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته (¬1). انتهى. ثانيًا: قال اللَّه تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى - وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 131، 132]. قال ابن كثير رحمه اللَّه تعالى: يقول تعالى لنبيه محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تنظر إلى هؤلاء المترفين وأشباههم ونظرائهم وما فيه من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة لنختبرهم بذلك وقليل من عبادي الشكور، وقال مجاهد: {أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ} يعني: الأغنياء، فقد آتاك خيرًا مما آتاهم. ولهذا قال: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}. وفي «الصحيح» أن عمر بن الخطاب لما دخل على رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن، فرآه متوسدًا مضطجعًا على رمال حصير، وليس في البيت إلا صبرة من قرظ (¬2) واهية معلقة، فابتدرت عينا عمر ¬

(¬1) «مختصر تفسير ابن كثير للصابوني» (ج 3 ص: 671: 673). (قل). (¬2) صبرة: مجموعة، قرظ: ورق السلم، وهو شجر شائك يستعمل ورقه في دبغ الجلود.

وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور:

بالبكاء، فقال له رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما يبكيك يا عمر؟» فقال: يا رسول اللَّه، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة اللَّه من خلقه! فقال: «أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عُجِّلَت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا». فكان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا في عباد اللَّه، ولم يدخر لنفسه شيئًا لغد. عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح اللَّه لكم من زهرة الدنيا»، قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول اللَّه؟ قال: «بركات الأرض» (¬1). وقال قتادة والسدي: {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ} يعني: زينة الحياة الدنيا. وقال قتادة: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لنبتليهم، وقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} أي: استنقذهم من عذاب اللَّه بإقام الصلاة واصبر أنت على فعلها، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]. وقوله: {لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} يعني: إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]،. ولهذا قال: {لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ}، وقال الثوري: لا نسألك رزقا: أي: لا نكلفك الطلب. وقال ابن أبي حاتم، عن ثابت قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أصابه خصاصة نادى أهله يا أهلاه صلوا، صلوا، قال ثابت: وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة. وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقول اللَّه تعالى يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك» (¬2). وعن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من كانت الدنيا همه فرق اللَّه عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة» (¬3)، وقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} أي: وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة وهي الجنة لمن اتقى اللَّه (¬4) .. انتهى. ثالثًا: يقول رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو كانت الدنيا تعدل عند اللَّه تعالى جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء». رواه الترمذي وصححه. وصححه الألباني. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور: جاء في «مختصر منهاج القاصدين» ما مختصره: الآيات الواردة في القرآن العزيز بعيب الدنيا، والتزهيد فيها، وضرب الأمثال لها ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا. (¬2) الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة. اهـ. وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه. (قل). (¬3) حديث صحيح رواه ابن ماجه والترمذي وابن حبان. اهـ. (انظر صحيح الجامع) للألباني أثابه اللَّه. (قل). (¬4) 131 - 132 طه، وراجع «مختصر تفسير ابن كثير» (ج2 ص: 499). (قل).

كثيرة، كقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ - قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ} [آل عمران: 14 - 15]، وقوله: {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور} [آل عمران: 185].، وقوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء} [يونس: 24]، وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} [الحديد: 20]، وقوله: {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35]، وقوله: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} [النجم:29 - 30]. وأما الأحاديث، ففي «الصحيحين» من رواية المسور بن شداد، قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع؟». وفي حديث آخر: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» رواه مسلم. وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز في ذم الدنيا كتابًا طويلاً فيه: أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار مقام، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فاحذر هذه الدار الغِرارة الخيالة الخداعة، وكن أسرَّ ما تكون فيها، احذر ما تكون لها، سرورها مشوب بالحزن، وصفوها مشوب بالكدر، فلو كان الخالق لم يخبر عنها خيرًا، ولم يضرب لها مثلاً لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من اللَّه عز وجل عنها زاجر، وفيها واعظ، فما لها عند اللَّه سبحانه قدر ولا وزن. ولقد عرضت على نبينا محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم مفاتيحها وخزائنها، لا ينقصه عند اللَّه جناح بعوضة، فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه، زواها اللَّه عن الصالحين اختيارًا، وبسطها لأعدائه اغترارًا، أفيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرمَ بها؟ ونسي ما صنع اللَّه بمحمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم حين شد على بطنه الحجر، واللَّه ما أحد من الناس بسط له في الدنيا، فلم يخف أن يكون قد مكر به، إلا كان قد نقص عقله، وعجز رأيه، وما أمسك عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها، إلا كان قد نقص عقله وعجز رأيه. وقال مالك بن دينار: اتقوا السحارة، فإنها تسحر قلوب العلماء - يعني الدنيا. ومن أمثلة الدنيا: قال يونس بن عبيد: شبهت الدنيا كرجل نائم، فرأى في منامه ما

يكرهه وما يحب، فبينما هو كذلك انتبه. ومثل هذا قولهم: الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا. والمعنى أنهم ينتبهون بالموت وليس في أيديهم شيء مما ركنوا إليه وفرحوا به. قيل: إن عيسى - عليه السلام - رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء (¬1) عليها من كل زينة. فقال لها: كم تزوجت؟ قالت: لا أحصيهم. قال: فكلهم مات عنك أو كلهم طلقك؟ قالت: بل كلهم قتلتُ، فقال عيسى - عليه السلام -: بؤسًا لأزواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين، كيف تهلكينهم واحدًا بعد واحد، ولا يكونون منك على حذر. وروي عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء (¬2) زرقاء أنيابها بادية، مشوه خلقها، فتشرف على الخلق، فيقال: هل تعرفون هذه؟ فيقولون: نعوذ باللَّه من معرفة هذه. فيقال: هذه الدنيا التي تشاجرتم عليها، وبها تقاطعتم الأرحام، وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم، ثم تقذف في جهنم؛ فتنادي: يا رب، أين أتباعي وأشياعي؟ فيقول: ألحقوا بها أتباعها وأشياعها. وعن أبي العلاء، قال: رأيت في النوم عجوزًا كبيرة عليها من كل زينة، والناس عكوف عليها متعجبون، ينظرون إليها، فقلت: من أنت ويلك؟ قالت: أما تعرفني؟ قلت: لا، قالت: أنا الدنيا. فقلت: أعوذ باللَّه من شرك. قالت: إن أحببت أن تعاذ من شري فأبغض الدرهم. وقال بعضهم: رأيت الدنيا في النوم عجوزًا مشوهة الخلقة حدباء. مثال آخر: واعلم أن أحوالك ثلاث: حال لم تكن فيها شيئًا، وهي قبل أن توجد. وحال أخرى، وهي من ساعة موتك إلى ما لا نهاية له في البقاء السرمدي، فإن لنفسك وجودًا بعد خروجها من بدنك، إما في الجنة أو النار، وهو الخلود الدائم. وبين هاتين الحالتين حالة متوسطة، وهي أيام حياتك في الدنيا، فانظر إلى مقدار ذلك، وانسبه إلى الحالتين، تعلم أنه أقل من طرفة عين في مقدار عمر الدنيا. ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن إليها، ولم يبال كيف انقضت أيامه بها في ضرر وضيق، أو سعة ورفاهية، ولهذا لم يضع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لبنة على ¬

(¬1) ليس لها أسنان، وفي نسخة: صماء، وهى الداهية. (¬2) الشمط في الشعر: اختلاطه بلونين من سواد وبياض، أو بياض شعر الرأس يخالط سواده.

فصل في بيان حقيقة الدنيا والمذموم منها والمحمود

لبنة، ولا قصبة على قصبة. وقال: «ما لي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب، قال (¬1) تحت شجرة، ثم راح وتركها» (¬2). وقال عيسى - عليه السلام -: الدنيا قنطرة، فاعبروها ولا تعمروها. هذا مثل واضح، فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة، والمهد هو الركن الأول على أول القنطرة، واللحد هو الركن الثاني على آخر القنطرة. ومن الناس من قطع نصف القنطرة، ومن الناس من قطع ثلثيها، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها، وكيفما كان فلابد من العبور، فمن وقف يبني على القنطرة ويزينها وهو يستحث للعبور عليها، فهو في غاية الجهل والحمق. وقيل: مثل طالب الدنيا، مثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شربًا، ازداد عطشًا حتى يقتله. وكان بعض السلف يقول لأصحابه: انطلقوا حتى أريكم الدنيا، فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول: انظروا إلى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم. فصل في بيان حقيقة الدنيا والمذموم منها والمحمود قد سمع خلق كثير ذم الدنيا مطلقًا، فاعتقدوا أن الإشارة إلى هذه الموجودات التي خلقت للمنافع، فأعرضوا عما يصلحهم من المطاعم والمشارب. وقد وضع اللَّه في الطباع توقان النفس إلى ما يصلحها، فكلما تاقت منعوها، ظنًا منهم أن هذا هو الزهد المراد، وجهلاً بحقوق النفس، وعلى هذا أكثر المتزهدين، وإنما فعلوا ذلك لقلة العلم، ونحن نصدع بالحق من غير محاباة فنقول: اعلم: أن الدنيا عبارة عن أعيان موجودة للإنسان، فيها حظ، وهي الأرض وما عليها، فإن الأرض مسكن الآدمي، وما عليها ملبس ومطعم ومشرب ومنكح، وكل ذلك علف لراحلة بدنه السائر إلى اللَّه عز وجل، فإنه لا يبقى إلا بهذه المصالح، كما لا تبقى الناقة في طريق الحج إلا بما يصلحها، فمن تناول منها ما يصلحه على الوجه المأمور به مدح، ومن أخذ منها فوق الحاجة يكتنف الشره وقع في الذم، فإنه ليس للشره في تناول الدنيا ¬

(¬1) من القيلولة، وهو النوم في الظهيرة. (¬2) صحيح رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والضياء - انظر «صحيح الجامع». (قل).

وجه؛ لأنه يخرج عن النفع إلى الأذى، ويشغل عن طلب الآخرة فيفوت المقصود، ويصير بمثابة من أقبل يعلف الناقة، ويرد لها الماء، ويغير عليها ألوان الثياب، وينسى أن الرفقة قد سارت، فإنه يبقى في البادية فريسة للسباع هو وناقته. ولا وجه أيضًا للتقصير في تناول الحاجة، لأن الناقة لا تقوى على السير إلا بتناول ما يصلحها، فالطريق السليم هي الوسطى، وهي أن يأخذ من الدنيا قدر ما يحتاج إليه من الزاد للسلوك، وإن كان مشتهى، فإن إعطاء النفس ما تشتهيه عون لها وقضاء لحقها. وقد كان سفيان الثوري يأكل في أوقات من طيب الطعام، ويحمل معه في السفر الفالوذج. وكان إبراهيم بن أدهم يأكل من الطيبات في بعض الأوقات، ويقول: إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا فقدنا صبرنا صبر الرجال. ولينظر في سيرة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وصحابته، فإنهم ما كان لهم إفراط في تناول الدنيا، ولا تفريط في حقوق النفس. وينبغي أن يتلمح حظ النفس في المشتهى، فإن كان في حظها حفظها وما يقيمها ويصلحها وينشطها للخير، فلا يمنعها منه، وإن كان حظها مجرد شهوة ليست متعلقة بمصالحها المذكورة فذلك حظ مذموم، والزهد فيه يكون. اهـ من «مختصر منهاج القاصدين». فائدة: قال ابن السماك الواعظ: هب الدنيا في يديك، ومثلها ضُم إليك، والمشرق والمغرب جاءا إليك، فجاءك الموت ماذا في يديك؟! خاتمة: عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعذر اللَّه إلى امرئ أخّر أجله حتى بلغ ستين سنة». رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في «الفتح» (ج11 ص 244): قوله: «أعذر اللَّه»: الإعذار إزالة العذر، والمعنى أنه لم يبق له اعتذار كأن يقول: لو مُدّ لي في الأجل لفعلت ما أُمرت به، يقال أعذر إليه إذا بلغه أقصى الغاية في العذر ومكنه منه. وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية، والمعنى أن اللَّه لم يترك للعبد سببًا في الاعتذار يتمسك به. والحاصل أنه لا يعاقب إلا بعد حجة.

قوله (أخر أجله): يعني أطاله (حتى بلغه ستين سنة) وفي رواية معمر: «لقد أعذر اللَّه إلى عبد أحياه حتى يبلغ ستين سنة أو سبعين سنة، لقد أعذر اللَّه إليه، لقد أعذر اللَّه إليه». قال ابن بطال: إنما كانت الستون حدًا لهذا لأنها قريبة من المعترك، وهي سن الإنابة والخشوع وترقب المنية، فهذا إعذار بعد إعذار لطفًا من اللَّه بعباده حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، ثم أعذر إليهم فلم يعاقبهم إلا بعد الحجج الواضحة، وإن كانوا فُطروا على حب الدنيا وطول الأمل، لكنهم أمروا بمجاهدة النفس في ذلك ليمتثلوا ما أمروا به من الطاعة، وينزجروا عما نهوا عنه من المعصية. وفي الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة لانقضاء الأجل. وأصرح من ذلك ما أخرجه الترمذي بسند حسن إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رفعه: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك». قال بعض الحكماء: الأسنان أربعة سن الطفولية، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة وهي آخر الأسنان، وغالب ما يكون ما بين الستين والسبعين فحينئذ يظهر ضعف القوة بالنقص والانحطاط، فينبغي له الإقبال على الآخرة بالكلية لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة. وقد استنبط منه بعض الشافعية أن من استكمل ستين فلم يحج مع القدرة فإنه يكون مقصرًا ويأثم إن مات قبل أن يحج، بخلاف ما دون ذلك. اهـ. * * *

الباب الثالث: الموت

الباب الثالث: الموت قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ - وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]. جاء في «مختصر منهاج القاصدين» (¬1) ما مختصره: اعلم: أن المنهمك في الدنيا المكب في غرورها يغفل قلبه لا محالة عن ذكر الموت فلا يذكره، وإن ذكره كرهه ونفر منه ... وعلى كل حال، ففي ذكر الموت ثواب وفضل، فإن المنهمك في الدنيا قد يستفيد بذكر الموت التجافي عن الدنيا؛ لأن ذكره ينغص عليه نعيمه ويكدره. فضل ذكر الموت: قال اللَّه تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]. وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت»، رواه الترمذي وقال: حديث حسن (¬2). واعلم: أن خطر الموت عظيم، وإنما غفل الناس عنه لقلة فكرهم وذكرهم له، ومن يذكره منهم إنما يذكره بقلب غافل، فلهذا لا ينجع فيه ذكر الموت، والطريق في ذلك أن يفرغ العبد قلبه لذكر الموت الذي هو بين يديه، كالذي يريد أن يسافر إلى مفازة مخطرة، أو يركب البحر، فإنه لا يتفكر إلا في ذلك. وأنفع طريق في ذلك ذكر أشكاله وأقرانه الذين مضوا قبله، فيذكر موتهم ومصارعهم تحت الثرى. قال ابن مسعود رضي اللَّه عنه: السعيد من وعظ بغيره. وقال أبو الدرداء رضي اللَّه عنه: إذا ذكر الموت، فعد نفسك كأحدهم. وينبغي أن يكثر دخول المقابر، ومتى سكنت نفسه إلى شيء في الدنيا، فليتفكر في الحال أنه لا بد من مفارقته، ويقصر أمله. وقد روى عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قال: أخذ رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. وعن أبي زكريا التيمي قال: بينما سليمان بن عبد الملك في المسجد الحرام، إذ أتي ¬

(¬1) «مختصر منهاج القاصدين» (ص: 382: 389). (قل). (¬2) وحسنه الألباني في «صحيح الجامع». (قل).

بحجر منقوش، فطلب من يقرأه، فإذا فيه: ابن آدم! لو رأيت قرب ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك، ولقصرت من حرصك وحيلك، وإنما يلقاك ندمك لو قد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، فبان منك الولد والنسب، فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة، يوم الحسرة والندامة. واعلم أن السبب في طول الأمل شيئان: أحدهما: حب الدنيا. والثاني: الجهل. أما حب الدنيا فإن الإنسان إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها وعلائقها، ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، وكل من كره شيئًا دفعه عن نفسه، والإنسان مشغول بالأماني الباطلة، فيمني نفسه أبدًا بما يوافق مراده من البقاء في الدنيا، وما يحتاج إليه من مال وأهل ومسكن وأصدقاء وسائر أسباب الدنيا، فيصير قلبه عاكفًا على هذا الفكر، فيلهو عن ذكر الموت، ولا يقدر قربه. فإن خطر له الموت في بعض الأحوال والحاجة إلى الاستعداد له، سوَّف بذلك ووعد نفسه، وقال: الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب. وإذا كبر قال: إلى أن يصير شيخًا، وإن صار شيخًا، قال: إلى أن يفرغ من بناء هذا الدار، وعمارة هذه الضيعة، أو يرجع من هذه السفرة، فلا يزال يسوَّف ويؤخر، ولا يحرص في إتمام شغل إلا ويتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال، وهكذا على التدريج يؤخر يومًا بعد يوم، ويشتغل بشغل بعد شغل، إلى أن تخطفه المنية في وقت لا يحتسبه، فتطول عند ذلك حسرته. وأكثر صياح أهل النار من «سوف» يقولون: واحسرتاه! من «سوف». وأصل هذه الأماني كلها حبُّ الدنيا والأنس بها، والغفلة عن قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحبب ما شئت فإنك مفارقه» (¬1). السبب الثاني: الجهل، وهو أن الإنسان يعول على شبابه، ويستبعد قرب الموت مع الشباب، أو ليس يتفكر المسكين في أن مشايخ بلده لو عدوا كانوا أقل من العشر؟ وإنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر، وإلى أن يموت شيخ قد يموت ألف صبي وشاب، وقد يغتر بصحته، ولا يدري أن الموت يأتي فجأة، وإن استبعد ذلك، فإن المرض يأتي فجأة، وإذا مرض لم يكن الموت بعيدًا، ولو تفكر وعلم أن الموت ليس له وقت مخصوص، من صيف ¬

(¬1) حسن - الشيرازي في الألقاب، والحاكم، والبيهقي في «شعب الإيمان» و «الحلية» انظر «صحيح الجامع». (قل).

وشتاء وربيع وخريف وليل ونهار، ولا هو مقيد بسن مخصوص، من شاب وشيخ أو كهل أو غيره، لعظم ذلك عنده واستعد للموت. فصل: في تفاوت الناس في طول الأمل والناس متفاوتون في طول الأمل تفاوتًا كثيرًا، منهم من يأمل البقاء إلى زمان الهرم، ومنهم من لا ينقطع أمله بحال، ومنهم من هو قصير الأمل، فروي عن أبي عثمان النهدي أنه قال: بلغت ثلاثين ومائة سنة، وما من شيء إلا قد عرفت فيه النقصان إلا أملي فإنه كما هو. وحكي في قصر الأمل أن امرأة حبيب أبي محمد قالت: كان يقول لي - يعني أبا محمد: إن مت اليوم فأرسلي إلى فلان يغسلني ويفعل كذا وكذا، واصنعي كذا وكذا، فقيل لها: أرأى رؤيا؟ قالت: هكذا يقول كل يوم. وعن محمد بن أبي توبة قال: أقام معروف الصلاة ثم قال لي: تقدم، فقلت: إني إن صليت بكم هذه الصلاة لم أصل بكم غيرها، فقال معروف: أنت تحدث نفسك أنك تصلي صلاة أخرى؟ نعوذ باللَّه من طول الأمل فإنه يمنع خير العمل. فهذه أحوال الزهاد في قصر الأمل، وكلما قصر الأمل، جاد العمل، لأنه يقدر أن يموت اليوم، فيستعد استعداد ميت، فإذا أمسى شكر اللَّه تعالى على السلامة، وقدر أنه يموت تلك الليلة فيبادر إلى العمل. وقد ورد الشرع بالحث على العمل والمبادرة إليه: ففي «صحيح البخاري» عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ» (¬1). وعنه: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك ¬

(¬1) جاء في «تحفة الأحوذي» (ج 7 ص 3، 4) ما مختصره: (أي: صحة البدن وفراغ الخاطر بحصول الأمن ووصول كفاية الأمنية، والمعنى لا يعرف قدر هاتين النعمتين كثير من الناس، حيث لا يكسبون فيهما من الأعمال كفاية ما يحتاجون إليه في معادهم فيندمون على تضييع أعمارهم عند زوالها، ولا ينفعهم الندم. قال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9]، وفي حاشية السيوطي رحمه اللَّه قال العلماء: معناه أن الإنسان لا يتفرغ للطاعة إلا إذا كان مكفيا صحيح البدن فقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا، وقد يكون صحيحًا ولا يكون مستغنيًا، فلا يكون متفرغًا للعلم والعمل لشغله بالكسب، فمن حصل له الأمران وكسل عن الطاعة فهو المغبون أي الخاسر في التجارة مأخوذ من الغبن في البيع) اهـ (قل).

ذكر شدة الموت

قبل موتك» (¬1). وقال عمر رضي اللَّه عنه: التؤدة في كل شيء خير، إلا ما كان من أمر الآخرة. وكان الحسن يقول: عجبًا لقوم أمروا بالزاد، ونودي فيهم بالرحيل، حبس أولهم على آخرهم، وهم قعود يلعبون. وقال سحيم مولى بني تميم: جلست إلى عبد اللَّه بن عبد اللَّه، فأوجز في صلاته، ثم أقبل عليَّ وقال: أرحني بحاجتك، فإني أبادر. فقلت: وما تبادر؟ قال: ملك الموت. وكان يصلي كل يوم ألف ركعة. وكانوا يبادرون بالأعمال غاية ما يمكن، فكان ابن عمر يقوم في الليل فيتوضأ ويصلي، ثم يغفي إغفاء الطير، ثم يقوم فيتوضأ يصلي، ثم يغفي إغفاء الطير، ثم يقوم يصلي، يفعل ذلك مرارًا. وكان عمير بن هانئ يُسَبِّحُ كل يوم ألف تسبيحة، وقال أبو بكر بن عياش: ختمت القرآن في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة. * * * ذكر شدة الموت اعلم: أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب، ولا هول سوى الموت، لكان جديرًا أن يتنغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره، وتطول فيه فكرته. والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات، فانتظر أن يدخل عليه جندي يضربه خمس ضربات، لكدرت عليه عيشه ولذته، وهو في كل نفس بصدد أن يدخل عليه ملك الموت بسكرات النزع، وهو غافل عن ذكر ذلك، وليس لهذا سبب إلا الجهل والغرور. اعلم: أن الموت أشد من ضرب السيف، وإنما يصيح المضروب، ويستغيث لبقاء قوته، وأما الميت عند موته، فإنه ينقطع صوته من شدة ألمه؛ لأن الكرب قد بالغ فيه، وغلب على قلبه وعلى كل موضع منه، وضعفت كل جارحة فيه، فلم يبق فيه قوة الاستعانة، ويود لو قدر على الاستراحة بالأنين والصياح والاستغاثة. وتجذب الروح من جميع العروق، ويموت كل عضو من أعضائه تدريجًا، فتبرد أولاً قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، حتى تبلغ الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره إلى الدنيا وأهلها، ويغلق دونه باب التوبة، ¬

(¬1) قال الألباني في «صحيح الجامع» (صحيح) ك، هب عن ابن عباس، حم في الزهد، ص، هب عن عمر ابن ميمون مرسلاً. (قل).

حسن الظن بالله تعالى:

قال رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن اللَّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر». [رواه أحمد، وحسنه الألباني في صحيح الجامع]. حسن الظن باللَّه تعالى: وفي الحديث الصحيح: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن باللَّه». والرجاء عند الموت أفضل، لأن الخوف سوط يساق به، وعند الموت يقف البصر، فينبغي أن يتلطف به، ولأن الشيطان يأتي حينئذ بسخط العبد على اللَّه فيما يجري عليه، ويخوفه فيما بين يديه، فحسن الظن أقوى سلاح يدفع به العدو. وقال سليمان لابنه عند الموت: يا بني، حدثني بالرخص، لعلي ألقى اللَّه تعالى، وأنا أحسن الظن به. انتهى. فائدة: يكفي في ذكر الموت قول اللَّه تعالى لنبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ - ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 30، 31]. ذكر ابن كثير رحمه اللَّه: وقد روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه قال: يختصم الناس يوم القيامة حتى تختصم الروح مع الجسد، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت، ويقول الجسد للروح، أنت أمرت، وأنت سولت، فيبعث اللَّه ملكًا يفصل بينهما، فيقول لهما، إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير، والآخر ضرير، دخلا بستانًا، فقال المقعد للضرير: إني أرى هاهنا ثمارًا، ولكن لا أصل إليها، فقال له الضرير: اركبني فتناولها، فركبه فتناولها، فأيهما المعتدي؟ فيقولان: كلاهما، فيقول لهما الملك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما، يعني أن الجسد للروح كالمطية وهي راكبة (¬1). من أقوال الشعراء في الإسلام: تزود من التقوى فإنك لا تدري ... إذا جنَّ ليلٌ هل تعيش إلى الفجرِ فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكًا ... وقد نُسِجَتْ أكفانُه وهو لا يدري وكم من عروس زينوها لزوجها ... وقد قبضت أرواحُهم ليلة القدرِ وكم من صغارٍ يُرتجى طول عمرهم ... وقد أُدخلت أجسادُهم ظلمة القبرِ وكم من صحيح مات من غير علةٍ ... وكم من سقيم عاش حينًا من الدهر ¬

(¬1) قال الصابوني: رواه ابن منده في كتاب «الروح» ولم يشر له ابن كثير بضعف. (قل).

الباب الرابع: الصلاة

الباب الرابع: الصلاة قال اللَّه تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]. ومن أفضل ما جاء في فضل الصلاة والمحافظة عليها الأحاديث التالية: 1 - عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟» قالوا: لا يبقى من درنه (¬1) شيء. قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو اللَّه بهن الخطايا». متفق عليه. 2 - عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره فأنزل اللَّه تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فقال الرجل: ألي هذا؟ قال: «لجميع أمتي كلهم». متفق عليه. والمعنى كما جاء في تفسير ابن كثير: «إن فعل الخيرات يكفر الذنوب السالفة». 3 - عن عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله» رواه مسلم. 4 - وعن جابر رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة». رواه مسلم. 5 - وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح، وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل منها ما انتقص من الفريضة؟ ثم يكون سائر أعماله على هذا». رواه الترمذي وقال: حديث حسن (¬2). 6 - عن أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي اللَّه عنها قالت: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير الفريضة إلا بنى له بيتًا في الجنة، أو: إلا بني له بيت في الجنة». رواه مسلم. وفي رواية الترمذي «أربعًا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد ¬

(¬1) الدرن: الوسخ - انظر «جامع الأصول». (قل). (¬2) صحيح - ابن ماجه (1425 و1426) انظر «صحيح سنن الترمذي». (قل).

المعاني التي تتم بها حياة الصلاة كثيرة

المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر». رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح [وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي]. 7 - عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة». متفق عليه. الفذ: يعنى الواحد. 8 - عن علي رضي اللَّه عنه قال: الوتر ليس بحتم كصلاة المكتوبة ولكن سن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن اللَّه وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن». رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن، وهو كما قال. انظر «صحيح الجامع». أولاً: جاء في «مختصر منهاج القاصدين» ما مختصره: واعلم: أن للصلاة أركانًا وواجبات وسننًا، وروحها النية والإخلاص والخشوع وحضور القلب، فإن الصلاة تشتمل على أذكار ومناجاة وأفعال، ومع عدم حضور القلب لا يحصل المقصود بالأذكار والمناجاة؛ لأن النطق إذا لم يعرب عمَّا في الضمير كان بمنزلة الهذيان، وكذلك لا يحصل المقصود من الأفعال، لأنه إذا كان المقصود من القيام الخدمة، ومن الركوع والسجود الذل والتعظيم، ولم يكن القلب حاضرًا، لم يحصل المقصود؛ فإن الفعل متى خرج عن مقصوده بقي صورة لا اعتبار بها، وقال اللَّه تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج: 37]. والمقصود أن الواصل إلى اللَّه سبحانه وتعالى هو الوصف الذي استولى على القلب حتى حمل على امتثال الأوامر المطلوبة، فلا بد من حضور القلب في الصلاة، ولكن سامح الشارع في غفلة تطرأ؛ لأن حضور القلب في أولها ينسحب حكمه على باقيها. والمعاني التي تتم بها حياة الصلاة كثيرة: المعنى الأول: حضور القلب كما ذكرنا، ومعناه أن يفرغ القلب من غير ما هو ملابس له، وسبب ذلك الهمة، فإنه متى أهمَّك أمر حضر قلبك ضرورة، فلا علاج لإحضاره إلا صرف الهمة إلى الصلاة، وانصراف الهمة يقوى ويضعف بحسب قوة الإيمان بالآخرة واحتقار الدنيا، فمتى رأيت قلبك لا يحضر في الصلاة، فاعلم أن سببه ضعف الإيمان، فاجتهد في تقويته. والمعنى الثاني: التفهم لمعنى الكلام فإنه أمر وراء حضور القلب، لأنه ربما كان القلب حاضرًا مع اللفظ دون المعنى، فينبغي صرف الذهن إلى إدراك المعنى بدفع الخواطر الشاغلة وقطع موادها، فإن المواد إذا لم تنقطع لم تنصرف الخواطر عنها. المعنى الثالث: التعظيم لله والهيبة، وذلك يتولد من شيئين: معرفة جلال اللَّه

تعالى وعظمته، ومعرفة حقارة النفس وأنها مستعبدة، فيتولد من المعرفتين الاستكانة، والخشوع. ومن ذلك الرجاء: فإنه زائد على الخوف، فكم من معظم مَلكًا يهابه لخوف سطوته كما يرجو بره. والمصلي ينبغي أن يكون راجيًا بصلاته الثواب، كما يخاف من تقصيره العقاب. وينبغي للمصلي أن يحضر قلبه عند كل شيء من الصلاة، فإذا سمع نداء المؤذن فليمثل النداء للقيامة ويشمر للإجابة، ولينظر ماذا يجيب، وبأي بدن يحضر. وإذا ستر عورته فليعلم أن المراد من ذلك تغطية فضائح بدنه عن الخلق، فليذكر عورات باطنه وفضائح سره التي لا يطلع عليها إلا الخالق، وليس لها عنه ساتر، وأنها يكفرها الندم، والحياء، والخوف. وإذا استقبل القبلة فقد صرف وجهه عن الجهات إلى جهة بيت اللَّه تعالى، فصرف قلبه إلى اللَّه تعالى أولى من ذلك، فكما أنه لا يتوجه إلى جهة البيت إلا بالانصراف عن غيرها، كذلك القلب لا ينصرف إلى اللَّه تعالى إلا بالانصراف عما سواه. وإذا كبّرت أيها المصلي، فلا يُكَذّبَنَّ قلبك لسانك، لأنه إذا كان في قلبك شيء أكبر من اللَّه تعالى فقد كذبت، فاحذر أن يكون الهوى عندك أكبر بدليل إيثارك موافقته على طاعة اللَّه تعالى. فإذا استعذت، فاعلم أن الاستعاذة هي ملجأ إلى اللَّه سبحانه، فإذا لم تلجأ بقلبك كان كلامك لغوًا، وتفهم معنى ما تتلو، وأحضر التفهم بقلبك عند قولك: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، واستحضر لطفه عند قولك: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، وعظمته عند قولك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، وكذلك في جميع ما تتلو. وقد روينا عن زرارة بن أبي أوفى رضي اللَّه عنه أنه قرأ في صلاته: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8] فخر ميتًا، وما ذاك إلا لأنه صور تلك الحال فأثّرت عنده التلف. واستشعر في ركوعك التواضع، وفي سجودك زيادة الذل، لأنك وضعت النفس موضعها، ورددت الفرع إلى أصله بالسجود على التراب الذي خُلقت منه وتفهم معنى الأذكار بالذوق. واعلم: أن أداء الصلاة بهذه الشروط الباطنة سبب لجلاء القلب من الصدأ، وحصول الأنوار فيه التي بها تتلمح عظمة المعبود، وتطلع على أسراره وما يعقلها إلا العالمون. فأما من هو قائم بصورة الصلاة دون معانيها، فإنه لا يطلع على شيء من ذلك بل ينكر

تساؤلات

وجوده، انتهى من «مختصر منهاج القاصدين» (¬1). فائدة: قال الإمام أحمد (¬2) في رواية مهنا بن يحيى: «إنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم من الصلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة، فاعرف نفسك يا عبد اللَّه واحذر أن تلقى اللَّه عز وجل ولا قدر للإسلام عندك، فإن قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك». ثانيًا: تساؤلات: هناك تساؤلات بعضها يوحيها الشيطان إلى المسلم حتى يصده عن ذكر اللَّه وعن الصلاة، كما قال اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90، 91]. فما هي هذه التساؤلات: س1: قد يقول قائل: طالما أن القلب سليم فغير مهم الصلاة، المهم القلب، ثم يشير بيده إلى قلبه ويقول: التقوى ها هنا؟ وقد يحتج أيضًا ويقول: يا أخي، إنما الأعمال بالنيات؟ وفي الواقع أن هذا غير صحيح لعدة أوجه: 1 - أن اللَّه تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [البروج: 11] وهذا دليل على أن الإيمان قول وعمل. 2 - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي قال: إن التقوى ها هنا، هو نفس النبي الذي أمرك بالصلاة. 3 - أن الذي يتأمل قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحيح: «إنما الأعمال بالنيات»: يتضح له من منطوق الحديث أن هناك عملاً ونية فلا يقبل أي عمل إلا بشرطين: الأول: أن يكون هذا العمل في ظاهره على موافقة السنة «كصلاة الظهر مثلاً يجب أن تكون أربع ركعات لا أكثر ولا أقل» (¬3). الثاني: أن يكون هذا العمل في باطنه يقصد به وجه اللَّه عز وجل «أن تكون الصلاة - في مثالنا السابق - خالصة لوجه اللَّه تعالى لا بقصد الرياء .... ». قال الفضيل في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2] قال: أخلصه ¬

(¬1) «مختصر منهاج القاصدين» (29: 32). (قل). (¬2) راجع كتاب «الصلاة» لابن القيم رحمه اللَّه (ص: 95) لذا قال العلماء العاملون: «إن من بركة العلم أن ينسب لقائله». (قل). (¬3) ضرب بعض العلماء مثلاً لذلك بصلاة الصبح. (قل).

: قد يقول قائل: يا أخي العمل عبادة؟

وأصوبه. وقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا وصوابًا. قال: والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السنة. وصدق اللَّه العظيم إذ يقول: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. إذن هل يستطيع الإنسان الذي لا يصلي أن يقول: إنما الأكل بالنيات ولا يأكل كقوله: إنما الأعمال بالنيات ولا يصلي!؟ فائدة: روي عن ابن مسعود قال: «لا ينفع قول إلا بعمل، ولا ينفع قول ولا عمل إلا بنية، ولا ينفع قول ولا عمل ولا نية إلا بما وافق السنة». س2: قد يقول قائل: يا أخي العمل عبادة؟ والوقع أن الإنسان لا يثاب على أي عمل إلا بعد الصلاة، حتى ولو بنى مسجدًا في كل مكان، وأعطى كل مسلم آلاف الدنانير، فلا يثاب على ذلك إلا بعد الصلاة، لحديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر» الحديث أخرجه الترمذي، وقد تقدم. واعلم أن المسلم يثاب بعد صلاته على كل شيء يريد به وجه اللَّه تعالى حتى جماع زوجته، لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الذي رواه مسلم: « .... وفي بضع أحدكم صدقة». قالوا: يا رسول اللَّه، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر». وقد يؤذن المؤذن وتقول للرجل: حي على الصلاة فيقول لك كما قال أولاً: العمل عبادة، ثم يأتي بعد ذلك ويقول - عن غير علم - إن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل المسجد فوجد رجلاً جالسًا فقال له: من الذي يصرف عليك؟ قال: أخي فقال: أخوك أفضل منك. والواقع أن هذا الحديث موضوع، فالرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب، بل قد جاء في باب «اليقين والتوكل» في «رياض الصالحين» ما رواه الترمذي بإسناد صحيح على شرط مسلم وصححه الأرنؤوط، عن أنس قال: كان أخوان على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان أحدهما يأتي النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والآخر يحترف - أي: يكتسب ويتسبب - فشكا المحترف أخاه للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «لعلك تُرزق به».

: قد يقول قائل: إن فلانا رجل يصلي ولكن معاملته غير طيبة؟

فيا عبد اللَّه: لا تتأخر لحظة عن الصلاة، فهذه الدنيا زائلة، والإنسان غنيٌ بالطاعة، فقير بالمعصية. وكما يقولون: ما افتقد شيئًا من وجد اللَّه، وما وجد شيئًا من افتقد اللَّه، فلو أن الإنسان مع اللَّه، فهو أغنى الناس، وإن كان لا يملك إلا الخبز، ولو أنه بعيد عن اللَّه وحيزت له الدنيا بأكملها، فهو أفقر الناس ... يا عبد اللَّه: تذكر نداء القبر لك: يا بن آدم، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الظلمة، أنا بيت الدود، أنا بيت الانفراد، أنا الذي من دخلني طائعًا كنت اليوم عليه رحمة، أنا الذي من دخلني عاصيًا كنت اليوم عليه نقمة. فإذا كنت يا أخي ممن لم يسبق لهم الصلاة، فاستبق الخيرات واسجد لرب الأرض والسماوات. ويمكنك أن تصلي بالفاتحة فقط إذا لم تكن حافظًا لآيات أخرى من القرآن، وفي البداية لا يشترط أن يكون حافظًا للتشهد «أي: التحيات» ويمكنك أن تصلي الفرض وبعد فترة تصلي السنن. وإذا كنت لا تتذكر عدد ركعات الصلاة في كل فرض، فالمسألة يسيرة، وهي أن تتذكر ما يلي: قبل أن تطلع الشمس ركعتان «صلاة الصبح» وعندما تغيب الشمس ثلاث ركعات «صلاة المغرب» وباقي الأوقات الظهر، العصر، العشاء، كل فرض منها أربع ركعات. س3: قد يقول قائل: إن فلانًا رجل يصلي ولكن معاملته غير طيبة؟ والواقع أنه ليس هناك أحد يعتبر حجة على الإسلام إلا الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن اللَّه تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]. أضف إلى ذلك، أن هذا الشخص يسيء بمعاملته غير الطيبة إلى الإسلام، فأنت تصلي وتعامل معاملة حسنة حتى تحسِّن تلك السمعة. أضف إلى ذلك، أن هذا الرجل صلاته ستنهاه يومًا ما، جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن فلانًا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه سينهاه ما تقول» رواه أحمد والبيهقي وصححه الألباني في «مشكاة المصابيح». س4: قد يقول قائل: إن فلانًا رجل يصلي، ولكن اللَّه تعالى قد ضيق عليه الحال، فليس عنده مال، ولا سيارات، ولا عقارات .... على العكس من فلان، فإنه لا يصلي ولكن اللَّه يعطيه؟ والواقع أن عطاء اللَّه تعالى

احذر إبليس

لإنسان ليس دليلاً على محبته، كما أن منع اللَّه تعالى له ليس دليلاً على بغضه. قال ابن القيم رحمه اللَّه: «فهو سبحانه أعلم بمواقع الفضل، ومحال التخصيص، ومحال الحرمان، فبحمده وحكمته أعطى، وبحمده وحكمته حرم، فمن ردَّه المنع إلى الافتقار إليه، والتذلل له، وتملُّقِه، انقلب المنع في حقه عطاءً. فكل ما شغل العبد عن اللَّه فهو مشئوم عليه، وكل ما رده إليه فهو رحمة به» (¬1) انتهى. ويقول اللَّه سبحانه وتعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ - نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَ يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 56، 57]. س 5: احذر إبليس: قد يحدث إن الإنسان إذا بدأ في الاتجاه إلى اللَّه خاصة الصلاة، قد يحدث أن اللَّه تعالى يبتليه بمصيبة، فيأتيه الشيطان ويقول له: عندما بدأت الصلاة، نزلت عليك المصائب من كل جانب، ثم يزين له ترك الصلاة، حتى يبتعد عن المصائب حسب ظنه، فعليك أن تعلم أنها هدايا في صورة بلايا. وكما جاء في الأثر: «أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب». ¬

(¬1) «زاد المعاد» لابن القيم (ج2 ص: 361). (قل).

وأيضًا: «من عبادي من أحب دعاءهم وأنا أبتليهم ليقولوا: يا رب». س 6: قد يقول قائل: واللَّه أنا مستعد للصلاة، ونفسي أصلي، ولكني أستحي أن أسأل عن كيفية الصلاة؟ وهنا عليك أن تعلم أن الدين يضيع بين الحياء والكبر. أضف إلى ذلك، هل أنت أفضل من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقد كان جبريل عليه السلام يعلمه الصلاة في بداية فرضيتها. س7: قد يقول قائل: أنا أعرف الصلاة بمفردي، ولكني لا أعرف كيف أصلي جماعة، وأخشى أن يضحك الناس عليَّ؟ والواقع أن الناس سوف لا يضحكون عليك بإذن اللَّه تعالى، وإن ضحك بعضهم فإن هذا لا يساوي ضحك الخلائق أجمعين على العبد يوم القيامة، إذا كان العبد - والعياذ باللَّه - من أهل الحسرات، وأشد من ذلك أن تكون الفضيحة أمام رب العالمين. س8: قد يقول قائل: أنا أريد الصلاة، ولكن صاحب العمل يمنعني منها، بحجة أن ذلك يضيع وقت العمل؟ قال اللَّه تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]. وقال اللَّه تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طاعة لأحد في معصية اللَّه تعالى إنما الطاعة في المعروف». رواه البيهقي بسند صحيح كذا في «صحيح الجامع». س9: قد تقول امرأة: إنها لا تصلي، لأن عندها رضيعًا، ويتبول عليها، فما حكم بول الرضيع؟ جاء في «فقه السنة» للشيخ الجليل سيد سابق ما يلي: (عن علي رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بول الغلام ينضح عليه، وبول الجارية يغسل» ينضح: «أي: يرش»). قال قتادة: وهذا ما لم يطعما فإن طعما غسل بولهما. رواه أحمد وهذا لفظه - وأصحاب السنن إلا النسائي. قال الحافظ في «الفتح»: وإسناده صحيح، ثم إن النضح إنما يجزئ ما دام الصبي يقتصر على الرضاع، أما إذا أكل الطعام على جهة التغذية فإنه يجب

الغسل بلا خلاف (¬1). انتهى. س10: ما حكم كل من المستحاضة، ومن به سلس بول، أو انفلات ريح، أو غير ذلك من الأعذار؟ جاء في «فقه السنة» (¬2) ما يلي: «المستحاضة، ومن به سلس، أو بول أو انفلات ريح، أو غير ذلك من الأعذار: يتوضئون لكل صلاة، إذا كان العذر يستغرق جميع الوقت، أو كان لا يمكن ضبطه وتعتبر صلاتهم صحيحة مع قيام العذر». انتهى. تنبيه: «الاستحاضة: هي استمرار نزول الدم وجريانه في غير أوانه» (¬3). كذا في «فقه السنة». س11: ما حكم كل من المني، والمذي، والودي؟ جاء في «فقه السنة» ما مختصره: 1 - المني: ويستحب غسله إذا كان رطبًا، وفركه إذا كان يابسًا، قالت عائشة رضي اللَّه عنها: كنت أفرك المني من ثوب رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان يابسًا وأغسله إذا كان رطبًا (¬4) «أي: الموضع الذي أصابه المني» [هذا من ناحية الثوب أما من ناحية الغسل] فيجب الغسل لخروج المني بشهوة في النوم أو اليقظة من ذكر أو أنثى (¬5)، وهو قول عامة الفقهاء، لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء من الماء» رواه مسلم. أي: الاغتسال من الإنزال. [ويراعى ما يلي]: أ- إذا خرج المني من غير شهوة، بل لمرض أو برد فلا يجب الغسل. ب- إذا احتلم، ولم يجد منيًا، فلا غسل عليه، لكن إذا خرج بعد الاستيقاظ وجب عليه الغسل. جـ- إذا انتبه من النوم فوجد بللاً ولم يذكر احتلامًا، فإن تيقن أنه مني، فعليه الغسل، لأن الظاهر أن خروجه كان لاحتلام نسيه، فإن شك ولم يعلم، هل هو مني أو ¬

(¬1) «فقه السنة» (ج1 ص: 36، 37). (قل). (¬2) «فقه السنة» (ج1 ص: 100). (قل). (¬3) «فقه السنة» (ج1 ص: 148) مع التنبيه إلى أن المستحاضة تختلف عن الحائض. (قل). (¬4) رواه الدارقطني وأبو عوانة والبزار. (¬5) ويجب الغسل أيضًا - نقلاً عن «فقه السنة» - في الحالات الآتية عند التقاء الختانين، وعند انقطاع الحيض والنفاس، وعند الموت، والكافر إذا أسلم. (قل).

قيام الليل

غيره، فعليه الغسل احتياطًا، وقال مجاهد وقتادة: لا غسل عليه حتى يوقن بالماء الدافق، لأن اليقين بقاء الطهارة فلا يزول بالشك. د- إذا أحس بانتقال المني عند الشهوة، فأمسك ذكره، فلم يخرج، فلا غسل عليه. لكن إذا مشى فخرج منه المني فعليه الغسل. هـ- إذا رأى في ثوبه منيًا لا يعلم وقت حصوله، وكان قد صلى، يلزمه إعادة الصلاة من آخر نومة له، إلا أن يرى ما يدل على أنه قبلها فيعيد من أدنى نومة يحتمل أنه منها. 2 - الودي: وهو ماء أبيض ثخين يخرج بعد البول، وهو نجس من غير خلاف. قالت عائشة: أما الودي فإنه يكون بعد البول فيغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ ولا يغتسل. 3 - المذي: وهو ماء أبيض لزج يخرج عند التفكير في الجماع أو عند الملاعبة وقد لا يشعر الإنسان بخروجه، ويكون من الرجل والمرأة، إلا أنه من المرأة أكثر، وهو نجس باتفاق العلماء، إلا أنه إذا أصاب البدن وجب غسله، وإذا أصاب الثوب اكتفي فيه بالرش بالماء؛ لأن هذه النجاسة يشق الاحتراز عنها، لكثرة ما يصيب الشاب العزب، فهي أولى بالتخفيف من بول الغلام (¬1). انتهى. ثالثًا: قيام الليل: قال اللَّه تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ - وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17، 18]. وعن عبد اللَّه بن سلام رضي اللَّه عنه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا جنة ربكم بسلام» رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح (¬2). وفي «مختصر منهاج القاصدين»: قال اللَّه تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]. ويقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، ومغفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم» (¬3). وفي فضله أحاديث كثيرة. وقال الحسن البصري رحمه اللَّه: لم أجد من العبادة شيئًا أشد من الصلاة في جوف ¬

(¬1) «فقه السنة» (ج1 ص: 37: 39/ 107: 110). (قل). (¬2) صحيح - ابن ماجه (1334 و3251) - انظر «صحيح سنن الترمذي». (قل). (¬3) حسن، رواه الحاكم وصححه - انظر «الإرواء» (ج2 ص 199: 202)، «تمام المنة» (ص244، 245). (قل).

فصل: في الأسباب الميسرة لقيام الليل

الليل، فقيل له: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهًا؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره. [قال بعض علماء الحديث: من طال قيامه بالليل حسن وجهه بالنهار]. * * * فصل: في الأسباب الميسرة لقيام الليل اعلم أن قيام الليل صعب إلا من وفق للقيام بشروطه الميسرة له. فمن الأسباب ظاهر، ومنها باطن. فأما الظاهر: فأن لا يكثر الأكل، كان بعضهم يقول: يا معشر المريدين، لا تأكلوا كثيرًا فتشربوا كثيرًا فتناموا كثيرًا فتخسروا كثيرًا. ومنها: أن لا يتعب نفسه بالنهار بالأعمال الشاقة. ومنها: أن لا يترك القيلولة بالنهار، فإنها تعين على قيام الليل (¬1). ومنها: أن يجتنب الأوزار. قال الثوري: حُرمتُ قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته. وأما الميسرات الباطنة: فمنها: سلامة القلب للمسلمين، وخلوه من البدع، وإعراضه عن فضول الدنيا. ومنها: خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل. ومنها: أن يعرف فضل قيام الليل. ومن أشرف البواعث على ذلك الحب لله تعالى، وقوة الإيمان بأنه إذا قام ناجى ربه، وأنه حاضره ومشاهده، فتحمله المناجاة على طول القيام. قال أبو سليمان رحمه اللَّه: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا. وفي «صحيح مسلم» عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل اللَّه فيها خيرًا إلا آتاه إياه، وذلك كل ليلة». انتهى. من «مختصر منهاج القاصدين». ¬

(¬1) ويمكن القول واللَّه أعلم: (القيلولة للقيام، كالسحور للصيام) والمقصود بالقيلولة النوم وقت الظهيرة. (قل).

فائدة: في «الصحيحين» أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد اللَّه بن عمرو: «لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل». ومن أعظم ما يعين على قيام الليل: النوم على طهارة والمواظبة على أذكار النوم خاصة التسبيح وقراءة آية الكرسي - كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى في باب الذكر - فمن كان آخر كلامه قبل النوم ذكر اللَّه تعالى سهل عليه القيام، وإن انتبهت من النوم وكسلت عن القيام فأذن أذانًا يسمع اليقظان ولا يوقظ النائم، فالأذان يطرد الشيطان. روى مسلم في «صحيحه» عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة ذهب حتى يكون مكان الروحاء». قال الراوي: و (الروحاء) من المدينة على بعد ستة وثلاثين ميلاً. ولقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في «الصحيحين»: «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، حتى لا يسمع التأذين». وهو أيضًا - أي: الأذان - ذكر، والذكر يحل من عقد الشيطان، فعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد! فإن استيقظ فذكر اللَّه تعالى انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان». متفق عليه. قافية (الرأس) مؤخره. ومن فوائد هذا الحديث كون المرء يفتتح قيامه بالليل بركعتين خفيفتين ثم يصلي بعدهما ما شاء، فإن ذلك هو هدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمره، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: (كان رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام من الليل يصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين». رواه مسلم. لأنه إذا صلى - كما في الحديث - انحلت عقده كلها. ويكون عنده عون على باقي القيام، وإن نوى القيام قبل نومه فغلبته عينه حتى أصبح كتب له ما نوى، فعن أبي الدرداء رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم فيصلي من الليل فغلبته عينه حتى يصبح كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه». رواه النسائي وغيره وحسنه الألباني في «صحيح الجامع». تنبيه: قيام الليل يبدأ من بعد صلاة العشاء والأفضل أن يكون عقب نوم - كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى.

ما حكم قضاء الصلاة الفائتة

فائدة: عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» رواه الجماعة. أي: ينزل سبحانه وتعالى نزولاً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه. قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قال ابن كثير رحمه اللَّه: المسلك الأسلم طريقة السلف، وهو إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف، ولا تحريف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل. وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11] فلا نشبه مثل المشبهين الذين يقولون: له سمع كأسماعنا، وله بصر كأبصارنا، ولا نعطل مثل المعطلين الذين يقولون: ليس له سمع ولا بصر، وإنما نقول: له سمع وبصر يليقان بجلال وجهه وعظيم سلطانه. ولما سئل الإمام مالك عن الاستواء قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة أخرجوا هذا المبتدع. تنبيه: سأل رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجارية - وكانت مع سَيدها - كما في «صحيح مسلم»: «أين اللَّه؟» قالت: في السماء. قال: «من أنا؟» قالت: أنت رسول اللَّه. قال: «أعتقها فإنها مؤمنة». فائدة: ما حكم قضاء الصلاة الفائتة؟ جاء في «فقه السنة» (ج2 ص 231: 234) ما مختصره: اتفق العلماء على أن قضاء الصلاة واجب على الناسي والنائم لما تقدم من قول رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسى أحدٌ صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها» (¬1). والمُغْمَى عليه لا قضاء عليه إلا إذا أفاق في وقت يدرك فيه الطهارة والدخول في الصلاة. فقد روى عبد الرزاق عن نافع: أن ابن عمر اشتكى مرة غُلِبَ فيها على عقله حتى ترك الصلاة ثم أفاق فلم يصلِّ ما ترك من الصلاة. وأما التارك للصلاة عمدًا: فمذهب الجمهور أنه يأثم وأن القضاء عليه واجب. ¬

(¬1) صحيح - رواه أصحاب السنن الأربعة انظر «صحيح الجامع». (قل).

خاتمة

وقال ابن تيمية: تارك الصلاة عمدًا لا يشرع له قضاؤها، ولا تصح منه، بل يكثر من التطوع، وأجمعت الأمة وبه وردت النصوص كلها على أن للتطوع جزءًا من الخير اللَّه أعلم بقدره، وللفريضة أيضًا جزء من الخير اللَّه أعلم بقدره. فلا بد ضرورة من أن يجتمع من جزء التطوع إذا كثر ما يوازي جزء الفريضة ويزيد عليه، وقد أخبر اللَّه تعالى أنه لا يضيع عمل عامل وأن الحسنات يذهبن السيئات. اهـ من «فقه السنة». وعلى ذلك فمن فاتته صلاة مائة يوم، فعلى رأى الجمهور يأتي بمائة صلاة صبح ومائة صلاة ظهر ... إلخ، وعلى الرأي الثاني يتطوع على الأقل بما يوازي عدد ركعات تلك الأيام، كالآتي: مجموع عدد ركعات الأوقات الخمس في اليوم سبع عشرة ركعة × مائة يوم. 17 × 100 = 1700 ركعة. وفائدة ذلك قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما تقدم: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي، فيكمل منها ما انتقص من الفريضة .... ». خاتمة: الصلاة من أكبر العون على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة: جاء في «زاد المعاد» لابن القيم رحمه اللَّه تعالى (جـ 4 ص 209): (وأما الصلاة، فشأنها في تفريج القلب وتقويته، وشرحه وابتهاجه ولذته أكبرُ شأن، وفيها من اتصال القلب والروح باللَّه، وقربه والتنعم بذكره، والابتهاج بمناجاته، والوقوف بين يديه، واستعمال جميع البدن وقواه وآلاته في عبوديته، وإعطاء كل عضو حظه منها، واشتغاله عن التعلق بالخلق وملابستهم ومحاوراتهم، وانجذاب قوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره، وراحته من عدوه حالة الصلاة ما صارت به من أكبر الأدوية والمفرحات والأغذية التي لا تُلائم إلا القلوب الصحيحة. وأما القلوب العليلة، فهي كالأبدان لا تناسبها إلا الأغذية الفاضلة). فالصلاة من أكبر العون على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة، وهي منهاةٌ عن الإثم، ودافعةٌ لأدواء القلوب، ومطردةٌ للداء عن الجسد، ومنورة للقلب، ومبيضة للوجه، ومنشطة للجوارح والنفس، وجالبة للرزق، ودافعة للظلم، وناصرة للمظلوم، وقامعة لأخلاط الشهوات، وحافظة للنعمة، ودافعة للنقمة، ومنزلة للرحمة، وكاشفة للغمة، ونافعة من كثير من أوجاع البطن). اهـ. * * *

الباب الخامس: الذكر

الباب الخامس: الذكر الذكر كما عرفه العلماء: هو ما يجري على اللسان والقلب، من تسبيح اللَّه تعالى وتنزيهه والثناء عليه ووصفه بصفات الكمال ونعوت الجلال والجمال (¬1). قال اللَّه تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]. وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت» رواه البخاري. وكان بعض العارفين يقول: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها، وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة اللَّه تعالى ومعرفته وذكره. وأخرج البخاري تعليقًا عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشيطان جاثم على قلب ابن آدم إذا ذكر اللَّه خنس وإذا غفل وسوس له». أولاً: فوائد الذكر: جاء في «الوابل الصيب» لابن القيم رحمه اللَّه ما مختصره (¬2): 1 - أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره. 2 - أنه يرضي الرحمن عز وجل. 3 - أنه يزيل الهم والغم عن القلب. 4 - أنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط. 5 - أنه يقوي القلب والبدن. 6 - أنه ينور الوجه والقلب. 7 - أنه يجلب الرزق. 8 - أنه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة. 9 - أنه يورثه المحبة التي هي روح الإسلام وقطب رحى الدين ومدار السعادة والنجاة. 10 - أنه يورثه المراقبة حتى يدخل في باب الإحسان، فيعبد اللَّه كأنه يراه. 11 - أنه يورثه الإنابة، وهي الرجوع إلى اللَّه عز وجل. 12 - أنه يورثه القرب منه سبحانه. ¬

(¬1) يقصد بالذكر في كل ما ذكر وسيذكر إن شاء اللَّه تعالى الذكر الشرعي. (قل). (¬2) راجع كتاب «الوابل الصيب من الكلم الطيب» (ص: 38: 88) خاصة شرح معظم هذه النقاط بالأدلة والبرهان والبيان (مع مراعاة أنني لم أشر إلى النقاط 74، 75، 76). (قل).

13 - أنه يفتح له بابًا عظيمًا من أبواب المعرفة، وكلما أكثر من الذكر ازداد من المعرفة. 14 - أنه يورث الهيبة لربه عز وجل، وإجلاله لشدة استيلائه على قلبه، وحضوره مع اللَّه تعالى. 15 - أنه يورث ذكر اللَّه تعالى له، كما قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]. 16 - أنه يورث حياة القلب (¬1). 17 - أنه قوت القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته. 18 - أنه يورث جلاء القلب من صدئه، وصدأ القلب بأمرين بالغفلة والذنب. وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر. 19 - أنه يحط الخطايا ويذهبها، فإنه من أعظم الحسنات، والحسنات يذهبن السيئات. 20 - أنه يزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى. 21 - أن ما يذكر به العبد ربه عز وجل من جلاله وتسبيحه وتحميده يذكر بصاحبه عند الشدة. 22 - أن العبد إذا تعرف إلى اللَّه تعالى بذكره في الرخاء عرفه في الشدة. 23 - أنه ينجي من عذاب اللَّه تعالى. 24 - أنه سبب لتنزيل السكينة وغشيان الرحمة وحفوف الملائكة بالذاكر. 25 - أنه سبب اشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والباطل واللغو. 26 - أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين. 27 - أنه يسعد الذاكر بذكره ويسعد به جليسه. 28 - أنه يؤمن العبد من الحسرة يوم القيامة. 29 - أنه مع البكاء في الخلوة سبب لإظلال اللَّه تعالى يوم الحر الأكبر في ظل عرشه. 30، 31 - أنه أيسر العبادات، وهو من أجلها وأفضلها. 32 - أن العطاء والفضل الذي رتب عليه ما لم يرتب على غيره من الأعمال. 33 - أن دوام ذكر الرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من نسيانه، الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده. قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ ¬

(¬1) قال ابن تيمية قدس اللَّه روحه: الذكر للقلب مثل الماء للسمك فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟

هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19]. 34 - أن الذكر يسير العبد وهو في فراشه وفي سوقه، وفي حالتي صحته وسقمه، وفي حالتي نعيمه ولذته. 35 - أن الذكر نور للذاكر في الدنيا، ونور في قبره، ونور له في معاده، يسعى بين يديه على الصراط. 36 - أن الذكر رأس الأصول، وطريق عامة الطائفة، ومنشور الولاية، فمن فتح له فيه فقد فتح له باب الدخول على اللَّه عز وجل. 37 - أن في القلب خلة وفاقة لا يسدها شيء البتة إلا ذكر اللَّه عز وجل. 38 - أن الذكر يجمع المتفرق (من القلب والإرادة، والهموم) ويفرق المجتمع (من الذنوب وجند الشيطان). 39 - أن الذكر ينبه القلب من نومه ويوقظه من سنته، وهو أيضًا يقرب البعيد (الآخرة) (¬1) ويبعد القريب (الدنيا). 40 - أن الذكر شجرة تثمر المعارف والأحوال التي شمر إليها السالكون فالذكر يثمر المقامات كلها من اليقظة إلى التوحيد. 41 - أن الذاكر قريب من مذكوره، ومذكوره معه، فهي معية بالقرب والولاية والتوفيق. 42 - أن الذكر يعدل عتق الرقاب ونفقة الأموال والحمل على الخيل في سبيل اللَّه عز وجل ويعدل الضرب بالسيف في سبيل اللَّه عز وجل. 43 - أن الذكر رأس الشكر فما شكر اللَّه من لم يذكره. 44 - أن أكرم الخلق على اللَّه تعالى من المتقين من لا يزال لسانه رطبًا بذكره. 45 - أن في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر اللَّه تعالى. 46 - أن الذكر شفاء القلب ودواؤه، والغفلة مرضه , 47 - أن الذكر أصل موالاته عز وجل ورأسها، والغفلة أصل معاداته ورأسها. 48 - أنه ما استجلبت نعم اللَّه تعالى واستدفعت نقمه بمثل ذكر اللَّه تعالى. 49 - أن الذكر يوجب صلاة اللَّه تعالى وملائكته على الذاكر {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب: 43]. ¬

(¬1) يقربها إلى قلبه وأما كون الذكر يبعد الدنيا أي بالزهد فيها. (قل).

50 - أن من شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا فليستوطن مجالس الذكر. 51 - أن مجالس الذكر مجالس الملائكة. 52 - أن اللَّه عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكته. 53 - أن مدمن الذكر يدخل الجنة وهو يضحك. 54 - أن جميع الأعمال إنما شرعت إقامة لذكر اللَّه تعالى. 55 - أن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكرًا لله عز وجل، فأفضل الصوام أكثرهم ذكرًا لله تعالى في صومه. 56 - أن إدامته تنوب عن التطوعات، وتقوم مقامها، سواء كانت بدنية أو مالية أو بدنية مالية كحج التطوع. 57 - أن ذكر اللَّه عز وجل من أكبر العون على طاعته، فإنه يحببها إلى العبد ويسهلها عليه، ويلذذها، ويجعل قرة عينه فيها، ونعيمه وسروره بها، بحيث لا يجد لها من الكلفة والمشقة والثقل ما يجد الغافل. 58 - أن ذكر اللَّه عز وجل يسهل الصعب وييسر العسير ويخفف المشاق. 59 - أن ذكر اللَّه عز وجل يذهب عن القلب مخاوفه كلها، وله تأثير عجيب في حصول الأمن. 60 - أن عمال الآخرة في مضمار السباق، والذاكرين هم أسبقهم في ذلك المضمار. 61 - أن الذكر يعطي للذاكرة قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه. 62 - أن الذكر سبب لتصديق الرب عز وجل عبده. 63 - أن دور الجنة تبنى بالذكر، فإذا أمسك الذاكر عن الذكر أمسكت الملائكة عن البناء. 64 - أن الذكر سدّ بين العبد وبين جهنم. 65 - أن الملائكة تستغفر للذاكر كما تستغفر للتائب. 66 - أن الجبال والقفار تتباهى وتستبشر بمن يذكر اللَّه عز وجل عليها، قال مجاهد: إن الجبل ينادي الجبل باسمه: يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر للَّه عز وجل؟ فمن قائل: لا، ومن قائل: نعم.

منزلة الذكر وأقسامه

67 - أن كثرة ذكر اللَّه عز وجل أمان من النفاق، قال عز وجل في المنافقين: {وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 142]. 68 - أن للذكر من بين الأعمال لذة لا يشبهها شيء، ولهذا سميت مجالس الذكر: رياض الجنة. 69 - أنه يكسو الوجه نضرة في الدنيا ونورًا في الآخرة. 70 - أن في دوام الذكر في الطريق والبيت والحضر والسفر والبقاع تكثيرًا لشهود العبد يوم القيامة، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4]. 71 - الذكر ثناء على اللَّه، والدعاء سؤال حاجة، فالذكر أفضل من الدعاء. 72 - الذكر والثناء يجعل الدعاء مستجابًا. 73 - قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، هذا من حيث النظر لكل منهما مجردًا، وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل بل يعينه فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهي عنها نهي تحريم أو كراهة. انتهى من «الوابل الصيب». منزلة الذكر وأقسامه جاء في «مدارج السالكين» لابن القيم أيضًا رحمه اللَّه ما مختصره: (ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} منزلة «الذكر». وهي منزلة القوم الكبرى، التي منها يتزودون. وفيها يتجرون. وإليها دائمًا يترددون. و «الذكر» منشور الولاية، الذي من أعطيه اتصل، ومن منعه عزل، وهو قوت قلوب القوم، الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورًا، وعمارة ديارهم، التي إذا تعطلت عنه صارت بورًا، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب [الحريق]، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، والسبب الواصل، والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب. إذا مرضنا تداوينا بذكركم ... فنترك الذكر أحيانًا فننتكس

به يستدفعون الآفات، ويستكشفون الكربات، وتهون عليهم به المصيبات، إذا أظلهم البلاء، فإليه ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل، فإليه مفزعهم، فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون، يدع القلب الحزين ضاحكًا مسرورًا، ويوصل الذاكر إلى المذكور بل يدع الذاكر مذكورًا. وفي كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة. و «الذكر» عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقتة. بل هم [مأمورون] بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حال: قيامًا، وقعودًا، وعلى جنوبهم، فكما أن الجنة قيعان، وهو غراسها، فكذلك القلوب بور خراب، وهو عمارتها، وأساسها. وهو جلاء القلوب وصقالها، ودواؤها إذا غشيها اعتلالها، وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقًا: ازداد المذكور محبة إلى لقائه واشتياقه، وإذا واطأ في ذكره قلبه للسانه: نسي في جنب ذكره كل شيء، وحفظ اللَّه عليه كل شيء، وكان له عوضًا من كل شيء. به يزول الوقر عن الأسماع، والبكم عن الألسن، وتنقشع الظلمة عن الأبصار، زين اللَّه به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين، فاللسان الغافل: كالعين العمياء، والأذن الصماء، واليد الشلاء. وهو باب اللَّه الأعظم المفتوح بينه وبين عبده، ما لم يغلقه العبد بغفلته. قال الحسن البصري رحمه اللَّه: تفقدوا الحلاوة في ثلاث أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم ... وإلا فاعلموا أن الباب مغلق. وبالذكر: يصرع العبد الشيطان، كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان. قال بعض السلف: إذا تمكن الذكر من القلب، فإن دنا منه الشيطان صرعه كما يُصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين، فيقولون: ما لهذا؟! فيقال: قد مسه الإنسي. وهو روح الأعمال الصالحة، فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه. واللَّه أعلم. فصل وهو في القرآن على عشرة أوجه: الأول: الأمر به مطلقًا ومقيدًا. الثاني: النهي عن ضده من الغفلة والنسيان. الثالث: تعليق الفلاح باستدامته وكثرته. الرابع: الثناء على أهله، والإخبار بما أعد اللَّه لهم من الجنة والمغفرة. الخامس: الإخبار عن خسران من لهى عنه بغيره.

السادس: أنه سبحانه جعل ذكره لهم جزاء لذكرهم له. السابع: الإخبار أنه أكبر من كل شيء. الثامن: أنه جعله خاتمة الأعمال الصالحة، كما كان مفتاحها. التاسع: الإخبار عن أهله بأنهم هم أهل الانتفاع بآياته، وأنهم أولو الألباب دون غيرهم. العاشر: أنه جعله قرين جميع الأعمال الصالحة وروحها، فمتى عدمته كانت كالجسد بلا روح. فصل في تفصيل ذلك 1 - أما الأول: فكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا - وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً - هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 41 - 44]، وقوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 204]. وفيه قولان: أحدهما: في سرك وقلبك. والثاني: بلسانك بحيث تسمع نفسك. 2 - وأما النهي عن ضده: فكقوله: {وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 204]، وقوله: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر: 19]. 3 - وأما تعليق الفلاح بالإكثار منه: كقوله: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45، والجمعة: 10]. 4 - وأما الثناء على أهله، وحسن جزائهم: فكقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ- إلى قوله - وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]. 5 - وأما خسران من لهى عنه، فكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]. 6 - وأما جعل ذكره لهم جزاء لذكرهم له، فكقوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]. 7 - وأما الإخبار عنه بأنه أكبر من كل شيء، فكقوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]. وفيها أربعة أقوال.

(أحدها: أن ذكر اللَّه أكبر من كل شيء، فهو أفضل الطاعات؛ لأن المقصود بالطاعات كلها: إقامة ذكره، فهو سر الطاعات وروحها. (الثاني: أن المعنى: أنكم إذا ذكرتموه ذكركم، فكان ذكره لكم أكبر من ذكركم له، فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل، وعلى الأول: مضاف إلى المذكور. (الثالث: أن المعنى: ولذكر اللَّه أكبر من أن يبقى معه فاحشة ومنكر، بل إذا تم الذكر: محق كل خطيئة ومعصية، هذا ما ذكره المفسرون. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه - يقول: معنى الآية: أن في الصلاة فائدتين عظيمتين: إحداهما: نهيها عن الفحشاء والمنكر. والثانية: اشتمالها على ذكر اللَّه وتضمنها له، ولما تضمنته من ذكر اللَّه أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر. 8 - وأما ختم الأعمال الصالحة به: فكما ختم به عمل الصيام بقوله: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. وختم به الحج في قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]. وختم به الصلاة كقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103]. وختم به الجمعة كقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]. ولهذا كان خاتمة الحياة الدنيا، وإذا كان آخر كلام العبد أدخله اللَّه الجنة. 9 - وأما اختصاص الذاكرين بالانتفاع بآياته، وهم أولو الألباب والعقول. فكقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ - الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 190، 191]. 10 - وأما مصاحبته لجميع الأعمال، واقترانه بها، وأنه روحها: فإنه سبحانه قرنه بالصلاة، كقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وقرنه بالصيام وبالحج ومناسكه. بل هو روح الحج، ولُبُّه ومقصوده، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار: لإقامة ذكر اللَّه» (¬1). ¬

(¬1) رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الأرنؤوط - انظر «جامع الأصول» (جـ 3) (ص 217، 218). (قل).

وقرنه بالجهاد. وأمر بذكره عند ملاقاة الأقران، ومكافحة الأعداء، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]. ... (¬1) وفي «المسند» - مرفوعًا - من حديث أبي الدرداء رضي اللَّه عنه: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والفضة، وأن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما ذاك يا رسول اللَّه؟ قال: ذكر اللَّه عز وجل» (¬2). وروى شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت الأغر قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد رضي اللَّه عنهما، أنهما شهدا على رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقعد قوم يذكرون اللَّه إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم اللَّه فيمن عنده» وهو في «صحيح مسلم». ويكفي في شرف الذكر: أن اللَّه يباهي ملائكته بأهله، كما في «صحيح مسلم» عن معاوية رضي اللَّه عنه: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج على حلقة من أصحابه، فقال: «ما أجلسكم؟» قالوا: جلسنا نذكر اللَّه، ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا، قال: «آاللَّه ما أجلسكم إلا ذلك؟» قالوا: آاللَّه ما أجلسنا إلا ذلك، قال: «أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن أتاني جبريل، فأخبرني: أن اللَّه يباهي بكم الملائكة». وقال له رجل: إن شعائر الإسلام قد كثرت عليَّ، فمرني بأمر أتشبث به. فقال: «لا يزال لسانك رطبًا من ذكر اللَّه» (¬3). وفي «الصحيحين» من حديث أبي موسى رضي اللَّه عنه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره: مثل الحي والميت» وقد تقدم، ولفظ مسلم: «مثل البيت الذي يذكر اللَّه فيه، والبيت الذي لا يذكر اللَّه فيه: مثل الحي والميت». فجعل بيت الذاكر بمنزلة بيت الحي، وبيت الغافل بمنزلة بيت الميت، وهو القبر. وفي اللفظ الأول: جعل الذاكر بمنزلة الحي، والغافل بمنزلة الميت. فتضمن اللفظان: أن القلب الذاكر كالحي في بيوت الأحياء، والغافل كالميت في بيوت الأموات، ولا ريب أن أبدان الغافلين قبور لقلوبهم، وقلوبهم فيها كالأموات في ¬

(¬1) بدأت الاختصار من هنا. (قل). (¬2) صحيح -رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم - انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬3) صحيح - رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم - انظر «صحيح الجامع». (قل).

القبور، كما قيل: فنسيان ذكر اللَّه موت قلوبهم ... وأجسامهم قبل القبور قبور وأرواحهم في وحشة من جسومهم ... وليس لهم حتى النشور نشور وفي «الصحيح»: في الأثر الذي يرويه رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ربه تبارك وتعالى: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم». وذكرنا في الذكر نحو مائة فائدة (¬1) في كتابنا «الوابل الصيب من الكلم الطيب»، وذكرنا هناك أسرار الذكر، وعظم نفعه، وطيب ثمرته، وذكرنا فيه: أن الذكر ثلاثة أنواع: 1 - ذكر الأسماء والصفات ومعانيها، والثناء على اللَّه بها، وتوحيد اللَّه بها. 2 - وذكر الأمر والنهي، والحلال والحرام. 3 - وذكر الآلاء والنعماء والإحسان والأيادي وأنه ثلاثة أنواع أيضًا: ذكر يتوطأ عليه القلب واللسان وهو أعلاها، وذكر بالقلب وحده وهو في الدرجة الثانية، وذكر باللسان المجرد، وهو في الدرجة الثالثة. وذكر العبد لربه محفوف بذكرين من ربه له: ذكر قبله، به صار العبد ذاكرًا له، وذكر بعده، به صار العبد مذكورًا، كما قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وقال - فيما يروي عنه نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم». والذكر الذي ذكره اللَّه به، بعد ذكره له: نوع غير الذكر الذي ذكره به قبل ذكره له. «والذكر: هو التخلّص من الغفلة والنسيان». والفرق بين الغفلة والنسيان: أن «الغفلة» ترك باختيار الغافل، و «النسيان» ترك بغير اختياره، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205] ولم يقل: ولا تكن مع الناسيين، فإن النسيان لا يدخل تحت التكليف فلا ينهى عنه. وهو على ثلاث درجات: ثناء أو دعاء أو رعاية: 1 - فأما ذكر الثناء: فنحو «سبحان اللَّه، والحمد لله، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر». 2 - وأما ذكر الدعاء: فنحو {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ¬

(¬1) وهي التي تقدم ذكرها باختصار. (قل).

الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] و «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» (¬1) ونحو ذلك. 3 - وأما ذكر الرعاية: فمثل قول الذاكر: اللَّه معي، اللَّه ناظر إلي، اللَّه شاهدي ونحو ذلك مما يستعمل لتقوية الحضور مع اللَّه، وفيه رعاية لمصلحة القلب، ولحفظ الأدب مع اللَّه، والتحرز من الغفلة، والاعتصام من الشيطان والنفس. والأذكار النبوية تجمع الأنواع الثلاثة. فإنها متضمنة للثناء على اللَّه، والتعرض للدعاء والسؤال، والتصريح به، [وهي] متضمنة أيضًا لكمال الرعاية، ومصلحة القلب، والتحرز من الغفلات، والاعتصام من الوساوس والشيطان. واللَّه أعلم) (¬2). انتهى من «مدارج السالكين». ثانيًا: آداب الذكر كما وردت في «تحفة الذاكرين»: ينبغي للذاكر ما يلي: أن يكون المكان الذي يذكر اللَّه فيه نظيفًا خاليًا، والذاكر على أكمل الصفات الآتية: أن يكون فمه نظيفًا، وأن يزيل تغيره بالسواك، وأن يستقبل القبلة، وأن يتدبر ما يقول، ويتعقل معناه. وإن جهل شيئًا تبينه ... وأفضل الذكر القرآن إلا فيما شرع بغيره، [وقد تقدم معنى ذلك]، والمواظب على الأذكار المأثورة صباحًا ومساءً، وفي الأحوال المختلفة، هو من الذاكرين اللَّه كثيرًا والذاكرات، ومن كان له ورد معروف ففاته فليتداركه إذا أمكنه ليعتاد الملازمة عليه (¬3). انتهى من «تحفة الذاكرين». ثالثًا: جاء في الأذكار النووية ما مختصره: 1 - أجمع العلماء على جواز الذكر بالقلب واللسان للمُحدث، والجنب، والحائض، والنفساء، وذلك في التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والصلاة على رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والدعاء، وغير ذلك (¬4). انتهى. تنبيه: قراءة القرآن لمثل هؤلاء لا تدخل تحت هذا الإجماع. 2 - فصل في أحوال تعرض للذاكر يستحب له قطع الذكر بسببها ثم يعود إليه بعد زوالها. ¬

(¬1) سيأتي تخريجه إن شاء اللَّه تعالى في باب الدعاء. (قل). (¬2) «مدارج السالكين» لابن القيم رحمه اللَّه تعالى (جـ2 ص 423: 435). (قل). (¬3) «تحفة الذاكرين»: (32). (قل). (¬4) «الأذكار النووية» (ص: 8). (قل).

منها: إذا سُلم عليه ردَّ السلام ثم عاد إلى الذكر، وكذا إذا عطس عنده عاطس شمَّته ثم عاد إلى الذكر، وكذا إذا سمع الخطيب، وكذا إذا سمع المؤذن أجابه في كلمات الأذان والإقامة ثم عاد إلى الذكر، وكذا إذا رأى منكرًا أزاله، أو معروفًا أرشد إليه، أو مسترشدا أجابه ثم عاد إلى الذكر، وكذا إذا غلبه النعاس أو نحوه وما أشبه هذا كله. رابعًا: أذكار الصباح والمساء: قال ابن القيم رحمه اللَّه: وهما ما بين الصبح وطلوع الشمس، وما بين العصر والغروب إلى أن قال رحمه اللَّه: وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ} [غافر: 55] فالإبكار: أول النهار والعشي: آخره (¬1). انتهى. أذكار الصباح والمساء مجموعة من «تحفة الذاكرين» للشوكاني (¬2)، و «الأذكار النووية» (¬3)، و «الوابل الصيب من الكلم الطيب»: 1 - عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان اللَّه وبحمده مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا رجل قال مثل ما قال أو زاد عليه». رواه مسلم. 2 - وفي «صحيح مسلم» عن ابن مسعود قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أمسى قال: «أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله، لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكِبَر، رب أعوذ بك من عذاب في النار، وعذاب في القبر» وإذا أصبح قال أيضًا: «أصبحنا وأصبح الملك للَّه». 3 - عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعلم أصحابه يقول: «إذا أصبح أحدكم فليقل: اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور، وإذا أمسى فليقل: اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا، وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير» قال الترمذي: حديث حسن صحيح (¬4). 4 - وفي «السنن» عن عبد اللَّه بن حبيب قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قل» قلت: يا ¬

(¬1) «الوابل الصيب» لابن القيم رحمه اللَّه (ص: 88: 91). (قل). (¬2) راجع «تحفة الذاكرين» للشوكاني (ص: 59: 80) خاصة شرح هذه الأذكار. (قل). (¬3) «الأذكار النووية» (بتحقيق الأرنؤوط) (ص: 66: 70). (قل). (¬4) وهو كما قال، انظر «صحيح الجامع». (قل).

رسول اللَّه ما أقول؟ قال: «قل هو اللَّه أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء». قال الترمذي: حديث حسن صحيح. [وصححه الألباني]. 5 - عن شداد بن أوس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها حين يمسي فمات من ليلته دخل الجنة ومن قالها حين يصبح فمات من يومه دخل الجنة» رواه البخاري. 6 - وفي الترمذي عن أبي هريرة أن أبا بكر الصديق قال لرسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مرني بشيء أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت قال: قل: «اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السماوات والأرض رب كل شيء ومليكه أشهد ألا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه، وأن نقترف سوءًا على أنفسنا أو نجره إلى مسلم، قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك» قال الترمذي: حديث حسن صحيح (¬1). وشركه: قال الخطابي: روي على وجهين: أحدهما بكسر الشين وسكون الراء، ومعناه ما يدعو إليه الشيطان ويوسوس به، من الإشراك باللَّه تعالى، والثاني بفتح الشين والراء، يريد حبائل الشيطان ومصائده - كذا في «تحفة الذاكرين». 7 - وفي السنن و «صحيح الحاكم» (¬2) عن عبد اللَّه بن عمر قال: لم يكن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي وحين يصبح: «اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي» قال وكيع: يعني الخسف. 8 - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم اللَّه الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات فلا يضره» (¬3) وكان أبان بن عثمان قد أصابه طرف فالج (¬4)، فجعل الرجل الذي سمع منه ¬

(¬1) وصححه الألباني في «الكلم الطيب». (قل). (¬2) وهو كما قال - انظر «صحيح الترغيب والترهيب» للألباني أثابه اللَّه تعالى. (قل). (¬3) وفي لفظ: فيضره شيء. (قل). (¬4) جاء في «تحفة الأحوذي» (جـ 9 ص 269): (طرف فالج: أي نوع منه، وهو بفتح اللام: استرخاء لأحد شقى البدن لانصباب خلط بلغمي تنسد منه مسالك الروح). (قل).

الحديث ينظر إليه، فقال له أبان: ما تنظر، أما إن الحديث كما حدثتك، ولكني لم أقله يومئذ ليمضي اللَّه على قدره. الحديث أخرجه أهل السنن الأربعة وقال الترمذي بعد إخراجه: حديث حسن صحيح. [وصححه الألباني]. 9 - الحديث لفظ رواية الإمام أحمد وصححه النووي وقال الأرنؤوط في «زاد المعاد»: إسناد صحيح، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أصبح وإذا أمسى قال: «أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وعلى دين نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى ملة إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين» ... 10 - وفي الترمذي وأبي داود بسند جوده (¬1) النووي قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال حين يمسي وحين يصبح: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت اللَّه لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدًا عبدك ورسولك؛ أعتق اللَّه ربعه من النار، ومن قالها مرتين أعتق اللَّه نصفه من النار، ومن قالها ثلاثًا أعتق اللَّه ثلاثة أرباعه من النار، ومن قالها أربعًا أعتقه اللَّه من النار». 11 - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة: «ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به؟ تقولين إذا أصبحتِ وإذا أمسيتِ: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين» أخرجه النسائي والحاكم بسند صحيح. [صحيح - انظر «صحيح الترغيب والترهيب»]. 12 - جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول اللَّه لقيت عقربًا لدغتني البارحة، وفي رواية: ما لقيت، فقال: «أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات اللَّه (¬2) التامات (¬3) من شر ما خلق لم تضرك» رواه مسلم. ولفظ الترمذي: «من قال حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات، لم تضره حمة تلك الليلة» وقال: حديث حسن. 13 - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى عليَّ حين يصبح عشرًا وحين يمسي عشرًا أدركته شفاعتي يوم القيامة» أخرجه الطبراني في الكبير. [وحسنه الألباني في «صحيح الجامع»]. ¬

(¬1) وضعفه الألباني - انظر «ضعيف الجامع والكلم الطيب»، لكن قال أثابه اللَّه في الكلم الطيب: (ثم رأيت هذا الدعاء في «المستدرك» عن أبي هريرة غير مقيد بالصباح والمساء وسنده جيد)، وقال الأرنؤوط في «الأذكار النووية» بعد أن حسنه: قال الحافظ في تخريج الأذكار: في وصف هذا الإسناد بأنه جيد نظر، ولعل أبا داود إنما سكت عنه لمجيئه من وجه آخر عن أنس، ومن أجله قلت إنه حسن. (قل). (¬2) يعني: القرآن. (¬3) الكاملات.

14 - عن جويرية أم المؤمنين رضي اللَّه عنها أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: «ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟» قالت: نعم. فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان اللَّه عدد خلقه، سبحان اللَّه رضا نفسه، سبحان اللَّه زنة عرشه، سبحان اللَّه مداد كلماته» أخرجه مسلم. 15 - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال: غدوة لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات كتب اللَّه له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، وكان له قدر عشر رقاب، وأجاره اللَّه من الشيطان، ومن قالها عشية مثل ذلك» أخرجه النسائي وابن ماجه، وأخرجه أحمد والحاكم غير مقيد بوقت. [وصححه الألباني]. 16 - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك» رواه البخاري. 17 - وروينا في سنن أبي داود بإسناد لم يضعفه (¬1) عن أبي مالك الأشعري رضي اللَّه عنه: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أصبح أحدكم فليقل: أصبحنا وأصبح الملك لله رب العالمين، اللهم إني أسألك خير هذا اليوم فتحه ونصره ونوره وبركته وهُداه، وأعوذ بك من شر ما فيه وشر ما بعده، ثم إذا أمسى فليقل مثل ذلك». 18 - عن أم سلمة رضي اللَّه عنها، أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أصبح قال: «اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا طيبًا، وعملاً متقبلاً». رواه ابن ماجه، وحسنه الأرنؤوط في «الأذكار النووية». انتهى (¬2). فائدة: قال ذو النون: ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنة إلا برؤيته. ¬

(¬1) يعني في «سننه» وقد ضعفه خارجها كما قال الحافظ، والحديث حسن بشواهده. اهـ. وحسنه الألباني في «صحيح الجامع». (قل). (¬2) تنبيه: انشغل بالذكر وأنت في الطريق، وأيضًا في المواصلات، ولا تنظر إلى الإعلانات عن ... ، ... إلخ. (قل).

فصل في أذكار النوم واليقظة

فصل في أذكار النوم واليقظة جاء في كتاب «الوابل الصيب من الكلم الطيب»، و «الأذكار النووية»، و «تحفة الذاكرين» ما يلي (¬1): 1 - في «الصحيحين» عن حذيفة قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن ينام قال: «باسمك اللهم أموت وأحيا» وإذا استيقظ من منامه قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور». 2 - وفي «الصحيحين» عن عائشة رضي اللَّه عنها أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما يقرأ فيهما {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات. 3 - وفي «صحيح البخاري» عن أبي هريرة أنه أتاه آت يحثو من الصدقة، وكان قد جعله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها ليلة بعد ليلة، فلما كان في الليلة الثالثة قال: لأرفعنك إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: دعني أعلمك كلمات، ينفعك اللَّه بهن - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى ختمها، فإنه لا يزال عليك من اللَّه حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقك وهو كذوب». وقد روى الإمام أحمد نحو هذه القصة في «مسنده» أنها جرت لأبي الدرداء، ورواه الطبراني في «معجمه» أنها جرت لأُبيّ بن كعب. 4 - وفي «الصحيحين» عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه»، الصحيح أن معناه كفتاه من شر ما يؤذيه، وقيل: كفتاه من قيام الليل وليس بشيء، قال عليّ بن أبي طالب: ما كنت أرى أحدًا يعقل ينام قبل أن يقرأ الآيات الأواخر من سورة البقرة، وسيأتي الكلام عنها إن شاء اللَّه تعالى بالتفصيل في نهاية باب الصرع. 5 - أخرج البخاري ومسلم من حديث عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: إن فاطمة رضي اللَّه عنها أتت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسأله خادمًا فقال: «ألا أخبرك بما هو خير لك منه؟ تسبحين اللَّه عند منامك ثلاثًا وثلاثين، وتحمدين اللَّه ثلاثًا وثلاثين، وتكبرين اللَّه ¬

(¬1) «الوابل الصيب من الكلم الطيب» لابن القيم (ص: 91: 93)، و «الأذكار النووية» (ص: 74: 80). (قل).

أربعًا وثلاثين». قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس اللَّه روحه: بلغني أن من حافظ على هذه الكلمات، لم يأخذه إعياء فيما يعانيه من شغل وغيره. 6 - وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قام أحدكم عن فراشه ثم رجع إليه فلينفضه بصنفة إزاره (¬1) ثلاث مرات، فإنه لا يدري ما خلفه عليه بعده، وإذا اضطجع فليقل: باسمك اللهم ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين». 7 - وفي «سنن» أبي داود عن حفصة أم المؤمنين أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمني تحت خده، ثم يقول: «اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك» ثلاث مرات، قال الترمذي: حديث حسن (¬2). 8 - وفي «صحيح مسلم» عن أنس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أوى إلى فراشه قال: «الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي». 9 - وفي «صحيحه» أيضًا عن ابن عمر أنه أمر رجلاً إذا أخذ مضجعه أن يقول: «اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها، وإن أمتها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية» قال ابن عمر: سمعتهن من رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 10 - وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أوى إلى فراشه قال: «اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر». 11 - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإن مت مت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول»، في «الصحيحين» عن البراء بن عازب. ¬

(¬1) صنفة الإزار: طرفه. (¬2) صحيح - انظر «صحيح الجامع» للألباني. (قل).

فصل في أذكار الانتباه من النوم

12 - قال النووي: وروينا في «سنن» أبي داود، والنسائي، وغيرهما بالإسناد الصحيح (¬1)، عن علي رضي اللَّه عنه، عن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول إذا أخذ مضجعه: «اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وبكلماتك التامة من شر ما أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم، اللهم لا يُهزم جندك، ولا يُخلف وعدك، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وبحمدك». 13 - وقال النووي أيضًا رحمه اللَّه: وروينا في «سنن» أبي داود والترمذي عن نوفل الأشجعي رضي اللَّه عنه، قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك». قال الأرنؤوط: وهو حديث حسن، حسنه الحافظ في تخريج الأذكار. فائدة: جاء في «هامش تحفة الذاكرين»: أخرج الخرائطي في «مكارم الأخلاق»: عن أبي أمامة قال: إن الشيطان ليأتي إلى فراش الرجل بعد ما يفرشه أهله، فيلقي عليه العود والحجر ليغضبه على أهله فإذا وجد أحدكم ذلك فلا يغضب فإنه عمل الشيطان. فصل في أذكار الانتباه من النوم روى البخاري في «صحيحه» عن عبادة بن الصامت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من تعار من الليل فقال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان اللَّه ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللَّه، ثم قال: اللهم اغفر لي أو دعا، استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته» تعار: استيقظ من النوم مع كلام. بعض الأذكار الأخرى الواردة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: 1 - الخروج من المنزل: في السنن (¬2) عن أنس قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال - يعني إذا خرج من بيته -: بسم اللَّه توكلت على اللَّه ولا حول ولا قوة إلا باللَّه، يقال له: كفيت ووقيت وهديت وتنحى عنك الشيطان فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي». ¬

(¬1) قال الأرنؤوط في «الأذكار النووية» (أذكار الصباح والمساء): بل هو حديث حسن، فإن في سنده علتين تحطه عن مرتبة الصحيح، كما قال الحافظ في تخريجه. (قل). (¬2) صحيح - انظر «الكلم الطيب» بتحقيق الألباني. (قل).

2 - دخول المنزل: وفي «سنن» أبي داود عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ولج الرجل بيته فليقل: اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج بسم اللَّه ولجنا وبسم اللَّه خرجنا وعلى ربنا توكلنا ثم ليسلم على أهله». [قال الأرنؤوط في «زاد المعاد»: سنده صحيح]. 3 - دخول المسجد والخروج منه: وفي «صحيح مسلم» وفي أبي داود والنسائي - واللفظ لهما عدا مسلم -: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك». 4 - ذكر الأذان: جاء في «زاد المعاد» (¬1) لابن القيم بتحقيق الأرنؤوط أن هناك خمس سنن تتبع عند سماع الأذان (¬2): أ- أن يقول السامع كما يقول المؤذن إلا في لفظ «حي على الصلاة، حي على الفلاح» فإنه صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إبدالهما بـ «لا حول ولا قوة إلا باللَّه»، ولم يجئ عنه الجمع بيهنما وبين «حي على الصلاة، حي على الفلاح» ولا الاقتصار على الحيعلة. ب- أن يقول: وأنا أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيت باللَّه ربًّا، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام دينًا. ونص الحديث في «صحيح مسلم»: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا اللَّه ... غفر له». جـ- أن يصلي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد فراغه من إجابة المؤذن، وأكمل ما يصلي عليه به ويصل إليه: هي الصلاة الإبراهيمية [أي: كما في التشهد]. د- أن يقول بعد صلاته عليه: «اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته» [الزيادة يقول: «إنك لا تخلف الميعاد» بدعة كما ورد ذلك في كتاب «السنن والمبتدعات»، وكما أشار الأرنؤوط أثابه اللَّه تعالى في «هامش زاد المعاد» إلى أنها رواية تفرد بها البيهقي وهي ضعيفة]. ¬

(¬1) «زاد المعاد» (ج2 ص: 391: 392) خصوصًا الهامش. (قل). (¬2) هذه الأذكار الواردة بعد الأذان لا تنطبق على المؤذن، جاء في «تمام المنة» للألباني أثابه اللَّه تعالى (ص 158): (إن الخطاب فيه للسامعين المأمورين بإجابة المؤذن، ولا يدخل فيه المؤذن نفسه، وإلا لزم القول بأنه يجيب أيضًا نفسه بنفسه، وهذا لا قائل به، والقول به بدعة في الدين). (قل).

هـ- أن يدعو لنفسه بعد ذلك ويسأل اللَّه من فضله فإنه يستجاب له. انتهى. 5 - وجوب الاستعاذة من أربع في التشهد الأخير: عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ باللَّه من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال» رواه مسلم. 6 - ذكر الدين: «اللهم اكفني بحلالك عن حرامك واغنني بفضلك عن من سواك». وسيأتي تخريجه - إن شاء اللَّه تعالى - في باب الدعاء. 7 - ذكر الخوف: في «سنن» أبي داود والنسائي عن أبي موسى أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خاف قومًا قال: «اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم». 8 - ما يقال عند المصيبة: قالت أم سلمة: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيرًا منها، إلا آجره اللَّه تعالى في مصيبته، وأخلفه خيرًا منها». قالت: فلما تُوفي أبو سلمة، قلت كما أمرني رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخلف اللَّه لي خيرًا منه، رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه مسلم (¬1). فائدة: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعًا إلا جدَّد اللَّه له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب» قال ابن كثير: رواه أحمد وابن ماجه. وصححه نسيب الرفاعي في «تيسير العلي القدير في اختصار ابن كثير». 9 - دخول المقابر: وفي «صحيح مسلم» عن بريدة كان رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعظهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون نسأل اللَّه لنا ولكم العافية». 10 - ما يقال بعد الوضوء: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما منكم أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ - الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء». رواه مسلم. 11 - ذكر النزول بمنزل يريد نزوله: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات اللَّه التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك» رواه مسلم. 12 - العطاس: قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا عطس أحدكم: فليقل: الحمد لله وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك اللَّه، فإذا قال له: يرحمك اللَّه فليقل: يهديكم اللَّه ويصلح بالكم». ¬

(¬1) فإذا ذهبتَ إلى الحانوت - الدكان - ووجدته مغلقًا فلك أن تقول هذا الدعاء، وأيضًا إذا أوقفت السيارة بالأجرة فلم تقف، بل إذا استيقظت من النوم على أذان الفجر ولم تصل ركعتين قبل الأذان فلك أن تقول هذا الدعاء أيضًا. واللَّه أعلم. (قل).

رواه البخاري. 13 - الزواج: عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رفأ الإنسان (¬1) إذا تزوج قال: «بارك اللَّه لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير» قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في «صحيح الجامع». 14 - كفارة المجلس: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من جلس مجلسًا فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا كفر اللَّه له ما كان في مجلسه ذلك» قال الترمذي: حديث حسن صحيح (¬2). 15 - رؤية أهل البلاء: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا، لم يصبه ذلك البلاء». قال الترمذي: حديث حسن (¬3). 16 - ذكر السوق: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من دخل السوق فقال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير؛ كتب اللَّه له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة، وبني له بيتًا في الجنة». رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم - والحديث حسن - انظر «صحيح سنن الترمذي» و «صحيح الجامع». 17 - في الشيء يراه ويخاف عليه العين: قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [الكهف: 39]. 18 - عند دخول الخلاء: جاء في «الصحيحين»: كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» (¬4)، وإذا خرج قال: «غفرانك». رواه الإمام أحمد وأهل السنن، والحديث حسن - انظر «صحيح الجامع». 19 - روى البخاري ومسلم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف منكم فقال في حلفه: ¬

(¬1) في «تحفة الذاكرين»: الرفاء: الالتئام والاتفاق، فهو دعاء للمتزوج بأن يحصل الالتئام والاتفاق بينهما. (قل). (¬2) وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي». (قل). (¬3) وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي». (قل). (¬4) الخبث: ذكور الشياطين، والخبائث: إناثها وتستحب إضافة (بسم اللَّه) لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول بسم اللَّه». أي: قبل الدخول. رواه أحمد وغيره وصححه الألباني في «صحيح الجامع». (قل).

واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا اللَّه، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق»، فكل من حلف بغير اللَّه فقد أشرك (ويقاس على اللات والعزى: الحلف بالنبي والكعبة والذمة وحياتك). 20 - دعاء الضالة: كان ابن عمر يقول للرجل إذا أضل شيئًا (ضاع منه): قل: اللهم رب الضالة، هادي الضالة، تهدي من الضلالة، ردَّ عليَّ ضالتي بقدرتك وسلطانك، فإنها من عطائك وفضلك. 21 - ذكر مجامعة الزوجة: وفي «الصحيحين» عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم اللَّه اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدًا». 22 - عقد التسبيح بالأصابع أفضل من السبحة: جاء في «الوابل الصيب» لابن القيم: روى الأعمش عن عطاء بن السايب عن أبيه عن عبد اللَّه بن عمر قال: رأيت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعقد التسبيح بيمينه. رواه أبو داود (¬1)، وروت يسيرة إحدى المهاجرات رضي اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس، ولا تغفلن فتنسين الرحمة، واعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات ومستنطقات». رواه الترمذي والحاكم بسند صحيح [وحسنة الألباني]. جاء في «تحفة الأحوذي» (ج 9 ص 366، 367) ما يلي: (قوله: (يعقد التسبيح بيده)، وفي رواية أبي داود قال ابن قدامة «بيمينه»، وابن قدامة هذا هو شيخ أبي داود، واسمه محمد. وفي الحديث مشروعية عقد التسبيح بالأنامل وعلل ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث يسيرة الذي أشار إليه الترمذي بأن الأنامل مسئولات مستنطقات يعني أنهن يشهدن بذلك، فكان عقدهن بالتسبيح من هذه الحيثية أولى من السُبحة والحصى، ويدل على جواز عد التسبيح بالنوى والحصى حديث سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على امرأته وبين يديها نوى أو حصى تسبح به - الحديث، وحديث صفية قالت: دخل علىَّ رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بها الحديث. أخرجهما الترمذي فيما بعد. قال الشوكاني في «النيل» (ص 211 ج 2) هذان الحديثان يدلان على جواز عد التسبيح بالنوى والحصى وكذا بالسبحة لعدم الفارق لتقريره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرأتين على ذلك، وعدم إنكاره إلى ما هو أفضل لا ينافي الجواز، وقد وردت بذلك آثار ففي جزء ¬

(¬1) وصححه الألباني - انظر «صحيح الجامع». (قل).

هلال الحفار من طريق معتمر بن سليمان عن أبي صفية مولى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يوضع له نطع ويجاء بزنبيل فيه حصى فيسبح به إلى نصف النهار ثم يرفع، فإذا صلى أتي به فيسبح حتى يمسي. وأخرجه الإمام أحمد في «الزهد». وأخرج ابن سعد عن حكيم الديلمي أن سعد بن أبي وقاص كان يسبح بالحصى. وقال ابن سعد في «الطبقات»: أخبرنا عبد اللَّه بن موسى أخبرنا إسماعيل عن جابر عن امرأة خدمته عن فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب أنها كانت تسبح بخيط معقود فيها. وأخرج عبد اللَّه ابن الإمام أحمد في «زوائد الزهد» عن أبي هريرة أنه كان له خيط فيه ألف عقدة فلا ينام حتى يُسبح. وأخرج أحمد في «الزهد» عن القاسم بن عبد الرحمن قال: كان لأبي الدرداء نوى من العجوة في كيس فكان إذا صلى الغداة أخرجها واحدة يسبح بهن حتى ينفذهن. وأخرج ابن سعد عن أبي هريرة أنه كان يسبح بالنوى المجموع ... وقد ساق السيوطي آثارًا في الجزء الذي سماه «المنحة في السبحة» وهو من جملة كتاب المجموع في «الفتاوى» وقال في آخره ولم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عد الذكر بالسبحة بل كان أكثرهم يعدونه بها ولا يرون ذلك مكروها انتهى). اهـ. من «تحفة الأحوذي» وقد أوردت هذا الشرح لبيان أقوال العلماء، وإن كنت أستحب لي ولك التسبيح على الأنامل، فخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 23 - في صياح الديكة والنهيق والنباح: وفي «الصحيحين» قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا باللَّه من الشيطان فإنها رأت شيطانًا، وإذا سمعتم صياح الديكة فسلوا اللَّه من فضله فإنها رأت ملكًا». 24 - ذكر الطعام والشراب: عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أكل أحدكم فليذكر اسم اللَّه تعالى في أوله، فإذا نسي أن يذكر اسم اللَّه تعالى في أوله فليقل: بسم اللَّه أوله وآخره» رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي: حديث حسن صحيح (¬1). وعن معاذ رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أكل أو شرب فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه» رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي: حديث حسن (¬2). ¬

(¬1) صحيح - انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬2) هو في «صحيح سنن الترمذي» «من أكل طعامًا فقال ....... » قال الألباني: حديث حسن. (قل).

25 - ذكر الضيف للمضيف: وعن أنس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء إلى سعد بن عبادة فجاء بخبز وزيت فأكل، ثم قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة» رواه أبو داود وصححه الألباني في «الكلم الطيب». فائدة: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحب الكلام إلى اللَّه تعالى أربع لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان اللَّه، والحمد لله، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر» رواه مسلم. * * *

الباب السادس: الدعاء

الباب السادس: الدعاء قال اللَّه تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]. الفصل الأول: فضل الدعاء جاء في «تحفة الذاكرين» ما مختصره: 1 - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدعاء هو العبادة» ثم تلا قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ...... } [غافر: 60] رواه ابن حبان في «صحيحه» (¬1) [قال الشوكاني رحمه اللَّه]: فالدعاء هو أعلى أنواع العبادة وأرفعها وأشرفها، والآية الكريمة قد دلت على أن الدعاء من العبادة، فإنه سبحانه وتعالى أمر عباده أن يدعوه، ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} فأفاد بذلك أن الدعاء عبادة وأن ترك دعاء الرب سبحانه استكبار، ولا أقبح من هذا الاستكبار، وكيف يستكبر العبد عن دعاء مَن هو خالق له ورازقه وموجده من العدم وخالق العالم كله ورازقه ومحييه ومميته ومثيبه ومعاقبه؟! فلا شك أن هذا الاستكبار طرف من الجنون وشعبة من كفران النعم. 2 - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة». رواه الحاكم في «المستدرك» والبزار [وحسنه الألباني]. (قوله: (لا يغني حذر من قدر) فيه دليل على أن الحذر لا يغني عن صاحبه شيئًا من القدر المكتوب، ولكنه ينفع من ذلك الدعاء، ولذلك عقبه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: «والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل» وأكد ذلك بقوله: «إن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة»، ومعنى يعتلجان: يتصارعان ويتدافعان. والحاصل: أن الدعاء من قدر اللَّه عز وجل فقد يقضي الشيء على عبده قضاء مقيدًا بألا يدعوه فإن دعاه اندفع عنه. 3 - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يسأل اللَّه يغضب عليه» رواه الترمذي. [وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي». وسيأتي شرحه إن شاء اللَّه تعالى]. قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يدع اللَّه غضب عليه» مصنف ابن أبي شيبة. ¬

(¬1) وصححه الألباني. وجاء في «مدارج السالكين». قالوا أتشكوا إليه ما ليس يخفي عليه؟ ... فقلت ربي يرضى ذل العبيد لديه (قل).

قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سره أن يستجيب اللَّه له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء». رواه الترمذي [وحسنه الألباني]. (قوله: الكرب) بضم الكاف وفتح الراء جمع كربة، وهي ما يأخذ النفس من الغم. (قوله: فليكثر الدعاء في الرخاء) أي في حال الصحة والرفاهية والأمن من المخاوف. والسلامة من المحن: قال الحلبي: المراد بهذا الدعاء في الرخاء هو دعاء الشفاء والشكر والاعتراف بالمنن، وسؤال التوفيق والمعونة، والتأييد والاستغفار لعوارض التقصير. 5 - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من مسلم يدعو اللَّه بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه اللَّه بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يرفع عنه من السوء مثلها». أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلى بأسانيد جيدة، وأخرجه أيضًا الحاكم وقال: صحيح الإسناد. اهـ من «تحفة الذاكرين». أحاديث أخرى في فضل الدعاء: 6 - وقريبًا من الحديث السابق رقم (5) ما رواه الترمذي عن عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما على الأرض مسلم يدعو اللَّه تعالى بدعوة إلا آتاه اللَّه إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بمأثم أو قطيعة رحم». فقال رجل من القوم: إذًا نكثر؟ قال: اللَّه أكثر. (حسن صحيح) انظر «صحيح سنن الترمذي». جاء في «تحفة الأحوذي» للمباركفوري رحمه اللَّه تعالى (جـ 10 ص 20): قوله: «إلا آتاه اللَّه إياها» أي: تلك الدعوة، وفي حديث جابر: «ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه اللَّه ما سأل» «أو صرف» أي دفع «عنه» أي عن الداعي «من السوء» أي البلاء النازل أو غيره في أمر دينه أو دنياه أو بدنه «مثلها» أي مثل تلك الدعوة كمية وكيفية إن لم يقدَّر له وقوعه في الدنيا «ما لم يدع بمأثم» المأثم الأمر الذي يأثم به الإنسان أو هو الإثم نفسه ووقع في بعض النسخ بإثم «أو قطيعة رحم» تخصيص بعد تعميم والقطيعة أي: الهجران والصد أي: ترك البر إلى الأهل والأقارب (إذًا) أي: إذا كان الدعاء لم يرد منه شيء ولا يخيب الداعي في شيء منه (نكثر) أي: من الدعاء لعظيم فوائده (قال) أي: رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّه أكثر» قال الطيبي: أي الله أكثر إجابة من دعائكم، وقيل: إن معناه فضل اللَّه أكثر أي: ما يعطيه من فضله وسعة كرمه أكثر ممن يعطيكم في مقابلة دعائكم، وقيل اللَّه أغلب في الكثرة فلا تعجزونه في الاستكثار فإن خزائنه لا تنفد وعطاياه لا تفنى، وقيل اللَّه أكثر ثوابًا وعطاء مما في نفوسكم فأكثروا ما شئتم فإنه تعالى

يقابل أدعيتكم بما هو أكثر منها وأجل. وأخرج أحمد عن أبي سعيد مرفوعًا: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه اللَّه بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها» وصححه الحاكم). اهـ، وقد سبقت الإشارة إليه. أحاديث انتخبتها من كتاب «ترتيب أحاديث صحيح الجامع على الأبواب الفقهية»: ونقلت تخرجيها وتحقيقها من «صحيح الجامع»، ونقلت شرحها من المصدر المناسب لها: 7 - عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام». (صحيح). رواه الطبراني في «الأوسط»، والبيهقي في «شعب الإيمان» «الصحيحة» (601). جاء في «فيض القدير» للمناوي رحمه اللَّه تعالى: («أعجز الناس» أي: من أضعفهم رأيًا وأعماهم بصيرة «من عجز عن الدعاء» أي: الطلب من اللَّه تعالى لا سيما عند الشدائد لتركه ما أمره اللَّه به، وتعرضه لغضبه بإهماله ما لا مشقة عليه فيه، وفيه قيل: لا تسألن بُنيَّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجبُ اللَّه يغضب إن تركت سؤاله وبنيُّ آدم حين يُسألُ يغضبُ وفيه ردّ على من زعم أن الأولى عدم الدعاء، «وأبخل الناس» أي: أمنعهم للفضل وأشحهم بالبذل «من بخل بالسلام» على من لقيه من المؤمنين ممن يعرفهم ومن لا يعرفهم، فإنه خفيف المؤنة عظيم المثوبة فلا يهمله إلا من بخل بالقربات وشح بالمثوبات وتهاون بمراسم الشريعة، أطلق عليه اسم البخل لكونه منع ما أمر به الشارع من بذل السلام، وجعله أبخل لكونه من بخل بالمال معذور في الجملة لأنه محبوب للنفوس عديل للروح بحسب الطبع والغريزة، ففي بذله قهر للنفس؛ وأما السلام فليس فيه بذل مال، فمخالف الأمر في بذله لمن لقيه قد بخل بمجرد النطق فهو أبخل من كل بخيل). اهـ. 8 - عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس شيء أكرم على اللَّه من الدعاء». (حسن). رواه أحمد والبخاري في «الأدب المفرد»، والترمذي والحاكم - «المشكاة»

(2232) - «الترغيب» (2/ 270). جاء في «تحفة الأحوذي» (ج9 ص 252). (قوله: «ليس شيء» أي: من الأذكار والعبادات فلا ينافيه قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. «أكرم» بالنصب خبر ليس أي أفضل «على اللَّه» أي: عند اللَّه «من الدعاء» لأن فيه إظهار الفقر والعجز والتذلل والاعتراف بقوة اللَّه وقدرته). اهـ. 9 - عن سلمان الفارسي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن اللَّه حييٌ كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صِفرًا خائبتين». (صحيح) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم - «الترغيب» (2/ 272). جاء في «تحفة الأحوذي» (جـ9 ص 432): (قوله: «إن اللَّه حييٌ» فعيل من الحياء أي كثير من الحياء ووصفه تعالى بالحياء يحمل على ما يليق له كسائر صفاته نؤمن بها ولا نكيفها «كريم» هو الذي يعطي من غير سؤال فكيف بعده. «صفرًا» بكسر الصاد المهملة وسكون الفاء أي خاليتين، قال الطيبي: يستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع «خائبتين» من الخيبة وهو الحرمان. وفي الحديث دلالة على استحباب رفع اليدين في الدعاء والأحاديث فيه كثيرة، وأما حديث أنس لم يكن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء فالمراد به المبالغة في الرفع). اهـ. 10 - عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم! اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، فإن اللَّه لا يتعاظمه شيء أعطاه». (صحيح). رواه البخاري في «الأدب المفرد» عن أبي سعيد - ورواه مسلم عن أبي هريرة. جاء في «شرح مسلم» للنووي رحمه اللَّه تعالى (ج 17 ص 10، 11 رقم 2679): (وليعزم الرغبة، فإن اللَّه لا يتعاظمه شيء أعطاه) قال العلماء: عزم المسألة: الشدة في طلبها، والجزم من غير ضعف في الطلب، ولا تعليق على مشيئة ونحوها، وقيل: هو حسن الظن باللَّه تعالى في الإجابة. ومعنى الحديث استحباب الجزم في الطلب، وكراهة التعليق على المشيئة، قال العلماء: سبب كراهته أنه لا يتحقق استعمال المشيئة إلا في حق من يتوجه عليه الإكراه؛ واللَّه تعالى منزه عن ذلك، وهو معنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في آخر الحديث: «فإنه لا مستكره له وقيل سبب الكراهة أن في هذا اللفظ صورة الاستغفار على المطلوب، والمطلوب منه». اهـ.

وجاء في (ب - ف): (وليعزم المسألة: أي يجتهد في الطلب، وليعظم الرغبة: أي يكثر في دعائه من طلب ما يشتهيه). 11 - عن أنس رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني، فإنه لا مستكره له». رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي. جاء في «فتح الباري» لابن حجر رحمه اللَّه تعالى (جـ 11 ص 144، 145): قوله: (باب ليعزم المسألة فإنه لا مكره له) المراد بالمسألة الدعاء، والضميران لله تعالى، أو الأول ضمير الشأن والثاني لله تعالى جزمًا. ومكره بضم أوله وكسر ثالثه .. قوله: (فليعزم المسألة) في رواية أحمد عن إسماعيل المذكور «الدعاء» ومعنى الأمر بالعزم الجد فيه، وأن يجزم بوقوع مطلوبه ولا يعلق ذلك بمشيئة اللَّه تعالى، وإن كان مأمورًا في جميع ما يريد فعله أن يعلقه بمشيئة اللَّه تعالى. وقيل: معنى العزم أن يحسن الظن باللَّه في الإجابة. قوله: (ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني) في حديث أبي هريرة المذكور بعده «اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت». وزاد في رواية همام عن أبي هريرة الآتية في التوحيد «اللهم ارزقني إن شئت». وهذه كلها أمثلة، ورواية العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم تتناول جميع ما يدعى به. ولمسلم من طريق عطاء بن ميناء عن أبي هريرة: «ليعزم في الدعاء» وله من رواية العلاء «ليعزم وليعظم الرغبة» ومعنى قوله: «ليعظم الرغبة» أي يبالغ في ذلك بتكرار الدعاء والإلحاح فيه، ويحتمل أن يراد به الأمر بطلب الشيء العظيم الكثير، ويؤيده ما في آخر هذه الرواية «فإن اللَّه لا يتعاظمه شيء». قوله: (فإنه لا مستكره له) في حديث أبي هريرة: «فإنه لا مكره له» وهما بمعنى، والمراد أن الذي يحتاج إلى التعليق بالمشيئة ما إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلم بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه، وأما اللَّه سبحانه فهو منزه عن ذلك فليس للتعليق فائدة. وقيل: المعنى أن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه، والأول أولى. وقد وقع في رواية عطاء بن ميناء «فإن اللَّه صانع ما شاء» وفي رواية العلاء «فإن اللَّه لا يتعاظمه شيء أعطاه» قال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له

لأنه لا يفعل إلا ما شاء، وظاهره أنه حمل النهي على التحريم، وهو الظاهر، وحمل النووي النهي في ذلك على كراهة التنزيه وهو أولى، ويؤيده ما سيأتي في حديث الاستخارة. قال ابن بطال: في الحديث ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريمًا. وقد قال ابن عيينة: لا يمنعن أحدًا الدعاء ما يعلم في نفسه - يعني من التقصير - فإن اللَّه قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال: رب أنظرني إلى يوم يبعثون، وقال الداودي: معنى قوله: «ليعزم المسألة» أن يجتهد ويلح ولا يقل إن شئت كالمسثنى، ولكن دعاء البائس الفقير، قلت: وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا يكره وهو جيد. 12 - عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي». (رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه). جاء في «فتح الباري» (جـ 11 ص 145، 146): (قوله: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل» أي: يجاب دعاؤه ... قوله: «يقول دعوت فلم يستجب لي» في رواية غير أبي ذر «فيقول» بزيادة فاء واللام منصوبة، قال ابن بطال: المعنى أنه يسأم فيترك الدعاء فيكون كالمان بدعائه، أو أنه أتى من الدعاء ما يستحق به الإجابة فيصير كالمبخل للرب الكريم الذي لا تعجزه الإجابة ولا ينقصه العطاء ... وقد وقع في رواية أبي إدريس الخولاني عن أبي هريرة عند مسلم والترمذي: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، وما لم يستعجل، قيل وما الاستعجال؟ قال: يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء» ومعنى قوله يستحسر - وهو بمهملات - ينقطع. وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أنه يلازم الطلب ولا ييأس من الإجابة لما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار، حتى قال بعض السلف: لأنا أشد خشية أن أُحرم الدعاء من أن أُحرم الإجابة، وكأنه أشار إلى حديث ابن عمر رفعه: «من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة» الحديث أخرجه الترمذي بسند لين وصححه الحاكم فوهم، قال الداودي: يخشى على من خالف وقال قد دعوت فلم يستجب لي أن يحرم الإجابة وما قام مقامها من الادخار والتكفير. انتهى. وقد قدمت في أول كتاب الدعاء الأحاديث الدالة على أن دعوة المؤمن لا ترد، وأنها

إما أن تعجل له الإجابة، وإما أن تدفع عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخر له في الآخرة خير مما سأل. فأشار الداودي إلى ذلك، وإلى ذلك أشار ابن الجوزي بقوله: اعلم أن دعاء المؤمن لا يرد، غير أنه قد يكون الأولى له تأخير الإجابة أو يعوض بما هو أولى له عاجلاً أو آجلاً فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه فإنه متعبد بالدعاء كما هو متعبد بالتسليم والتفويض .... وقال الكرماني ما ملخصه: الذي يتصور في الإجابة وعدمها أربع صور: الأولى: عدم العجلة وعدم القول المذكور، الثانية: وجودهما، الثالثة والرابعة: عدم أحدهما ووجود الآخر، فدل الخبر على أن الإجابة تختص بالصورة الأولى دون ثلاث، قال: ودل الحديث على أن مطلق قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} مقيد بما دل عليه الحديث. قلت: وقد أول الحديث المشار إليه قبل على أن المراد بالإجابة ما هو أعم من تحصيل المطلوب بعينه أو ما يقوم مقامه ويزيد عليه، واللَّه أعلم). اهـ بتصرف. من هدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدعاء: (تابع الأحاديث المنتخبة المشار إليها): 13 - عن أبي أيوب رضي اللَّه عنه قال: (كان رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دعا بدأ بنفسه) (صحيح) رواه الطبراني [وأولى من الطبراني رواه أبو داود كما أشار المناوي (¬1)]. جاء في «فيض القدير» للمناوي رحمه اللَّه: («كان إذا دعا بدأ بنفسه». زاد أبو داود في روايته: وقال: رحمة اللَّه علينا وعلى موسى. اهـ. ومن ثم ندبوا للداعي أن يبدأ بالدعاء لنفسه قبل دعائه لغيره فإنه أقرب إلى الإجابة إذ هو أخلص في الاضطرار وأدخل في العبودية وأبلغ في الافتقار وأبعد عن الزهو والإعجاب وذلك سنة الأنبياء والرسل قال نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28]، وقال الخليل: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]. وقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40]، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. تنبيه: قال ابن حجر ابتداؤه بنفسه في الدعاء غير مطرد فقد دعا لبعض الأنبياء فلم ¬

(¬1) لعل الألباني أثابه اللَّه تعالى قصد رواية أبي أيوب فحسب. (قل).

يبدأ بنفسه فقال: (رحم اللَّه لوطًا) (¬1) (رحم اللَّه يوسف) (¬2) ودعا لابن عباس بقوله: (اللهم فقهه في الدين) (¬3)، ودعا لحسان بقوله: «اللهم أيده بروح القدس» (¬4). وعدول المصنف للعزو للطبراني واقتصاره عليه غير جيد لإبهامه أنه لا يوجد مخرجًا لأحد من الستة، وقد عرفت أن أبا داود خرّجه فهو بالعزو إليه أحق. اهـ. من «فيض القدير». ورواية أبي داود كما في «صحيح سنن أبي داود» للألباني أثابه اللَّه تعالى: (عن أبي بن كعب، قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دعا بدأ بنفسه). وقال: «رحمة اللَّه علينا وعلى موسى لو صبر لرأى من صاحبه العجب» صحيح - متفق عليه). اهـ. وجاء في «تحفة الأحوذي» (جـ 9 ص 266، 267) تعليقًا على رواية أبي بن كعب: (أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه). (صحيح) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم. (قلت: فظهر أن بداءته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنفسه عند ذكر أحد والدعاء لم يكن من عادته اللازمة). 14 - عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا تمنى أحدكم فليكثر؛ فإنما يسأل ربه». (صحيح). رواه الطبراني في «الأوسط» - «الصحيحة» (1266). جاء في «فيض القدير» للمُناوي رحمه اللَّه تعالى: («إذا تمنى أحدكم» على ربه خيرًا من خير الدارين «فليكثر» الأماني «فإنما يسأل ربه» الذي رباه وأنعم عليه وأحسن إليه «عز وجل» فيعظم الرغبة ويوسع المسألة ويسأله الكثير والقليل حتى شسع النعل فإنه إن لم ييسره لا يتيسر؛ فينبغي للسائل إكثار المسألة ولا يختصر ولا يقتصر فإن خزائن الجود سحاء الليل والنهار أي دائمةً لا ينقصها شيء ولا يفنيها عطاء وإن جل وعظم لأن عطاءه بين الكاف والنون {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [النحل: 40] قال الزمخشري: وليس ذا بمناقض لقوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32]، فإن ¬

(¬1) (رحم اللَّه لوطًا فكان يأوي إلى ركن شديد .... ) حسن - رواه أحمد والترمذي والحاكم - انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬2) رحم اللَّه أخي يوسف لو أنا أتاني الرسول بعد طول الحبس لأسرعت الإجابة حين قال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ}. (صحيح) رواه أحمد في «الزهد»، وابن المنذر عن الحسن مرسلاً «الصحيحة» (1867) - انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬3) رواه البخاري. (قل). (¬4) متفق عليه. (قل).

ذلك نهي عن تمني ما لأخيه بغيًا وحسدًا، وهذا تمني على اللَّه عز اسمه خيرًا في دينه ودنياه وطلب من خزائنه فهو نظير {وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32]. اهـ. 15 - عن سلمان قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر». (حسن). رواه الترمذي والحاكم «الصحيحة» (154). جاء في «تحفة الأحوذي» للمباركفوري رحمه اللَّه تعالى (جـ 6 ص 288، 289): (قوله: «لا يرد القضاء إلا الدعاء» القضاء هو الأمر المقدر، وتأويل الحديث أنه إن أراد بالقضاء ما يخافه العبد من نزول المكروه به ويتوقاه فإذا وفق للدعاء دفعه اللَّه عنه فتسميته قضاء مجاز على حسب ما يعتقده المتوقى عنه، يوضحه قول الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الرقى: «هو من قدر اللَّه». وقد أمر بالتداوي والدعاء مع أن المقدور كائن لخفائه على الناس وجودًا وعدمًا، ولما بلغ عمر الشام وقيل له إن بها طاعونًا رجع، فقال أبو عبيدة: أتفر من القضاء يا أمير المؤمنين؟ فقال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!! نعم نفر من قضاء اللَّه إلى قضاء اللَّه. أو أراد برد القضاء إن كان المراد حقيقته تهوينه وتيسير الأمر حتى كأنه لم ينزل، يؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر: أن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل. وقيل: الدعاء كالترس والبلاء كالسهم والقضاء أمر مبهم مقدر في الأزل «ولا يزيد في العمر» بضم الميم وتسكن «إلا البر» بكسر الباء وهو الإحسان والطاعة. قيل يزاد حقيقة. قال تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11]، وقال: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، وذكر في الكشاف أنه لا يطول عمر الإنسان ولا يقصر إلا في كتاب وصورته أن يكتب في اللوح إن لم يحج فلانٌ أو يغز فعمره أربعون سنة، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة؛ فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمَّر، وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعين فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون وذكر نحوه في معالم التنزيل. وقيل معناه: إنه إذا بر لا يضيع عمره فكأنه زاد. وقيل: قدر أعمال البر سببًا لطول العمر كما قدر الدعاء سببًا لرد البلاء. فالدعاء للوالدين وبقية الأرحام يزيد في العمر إما بمعنى أنه يبارك له في عمره فييسر له في الزمن القليل من الأعمال الصالحة ما لا يتيسر لغيره من العمل الكثير فالزيادة مجازية لأنه يستحيل في الآجال الزيادة الحقيقية. قال الطيبي: اعلم أن اللَّه تعالى إذا علم أن زيدًا يموت

سنة خمسمائة، استحال أن يموت قبلها أو بعدها، فاستحال أن تكون الآجال التي عليها علم اللَّه تزيد أو تنقص، فتعين تأويل الزيادة أنها بالنسبة إلى ملك الموت أو غيره ممن وكل بقبض الأرواح وأمره بالقبض بعد آجال محدودة، فإنه تعالى بعد أن يأمره بذلك أو يثبت في اللوح المحفوظ ينقص منه أو يزيد على ما سبق علمه في كل شيء، وهو بمعنى قوله تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} [الأنعام: 2] فالإشارة بالأجل الأول إلى ما في اللوح المحفوظ وما عند ملك الموت وأعوانه، وبالأجل الثاني إلى ما في قوله تعالى: {وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}، وقوله تعالى: {إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49]. والحاصل أن القضاء المعلق يتغير، وأما القضاء المبرم فلا يبدل ولا يغيره، انتهى). اهـ من «تحفة الأحوذي». الدعاء يدفع المكروه: جاء في «الجواب الكافي» لابن القيم رحمه اللَّه ما مختصره: وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب ولكن قد يتخلف عنه أثره، إما لضعفه في نفسه، بأن يكون دعاء لا يحبه اللَّه لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على اللَّه وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدًّا، فإن السهم يخرج منه خروجًا ضعيفًا. وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام ورين الذنوب على القلوب واستيلاء الغفلة والسهو واللهو وغلبتها عليه، كما في «مستدرك الحاكم» من حديث أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ادعوا اللَّه وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن اللَّه لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه» (¬1) فهذا (الدعاء) دواء نافع مزيل للداء، ولكن غفلة القلب عن اللَّه تبطل قوته، وكذلك أكل الحرام يبطل قوته ويضعفها، كما في «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا أيها الناس، إن اللَّه طيب، لا يقبل إلا طيبًا، وإن اللَّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟» وذكر عبد اللَّه ¬

(¬1) حسن - رواه الترمذي والحاكم. انظر «صحيح الجامع». (قل).

بن أحمد في كتاب «الزهد» لأبيه: «أصاب بني إسرائيل بلاء، فخرجوا مخرجًا، فأوحى اللَّه عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم: إنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة، وترفعون إليَّ أكفًّا قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن حين اشتد غضبي عليكم، لن تزدادوا مني إلا بعدًا». وقال أبو ذر: يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح. والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه أو يخففه إذا نزل. وله مع البلاء ثلاث مقامات: أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه. الثاني: أن يكون أضعف من البلاء، فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه، وإن كان ضعيفًا. الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل منهما صاحبه. والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه، لا بحده فقط، فمتى كان السلاح سلاحًا تامًا لا آفة به، والساعد ساعدًا قويًّا، والمانع مفقودًا، حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير، فإن كان في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثَمّ مانع من الإجابة، لم يحصل الأثر. سؤال هام مشهور: وهاهنا سؤال مشهور وهو: أن المدعو به إن كان قد قدر، لم يكن بُدّ من وقوعه دعا به العبد أو لم يدع، وإن لم يكن قد قدر، لم يقع، سواء سأله العبد أو لم يسأله (¬1) فظنت طائفة صحة هذا السؤال. فتركت الدعاء وقالت: لا فائدة فيه. وهؤلاء - مع فرط جهلهم وضلالهم - متناقضون، فلو اطرد مذهبهم لوجب تعطيل جميع الأسباب. فيقال لأحدهم: إن كان الشبع والري قد قدرا لك، فلا بد من وقوعهما، أكلت أو لم تأكل. وإن لم يقدرا لك لم يقعا، أكلت أو لم تأكل، وإن كان الولد قد قدر لك، فلا بد منه، وطئت الزوجة أو الأمة أو لم تطأها، وإن لم يقدر لم يكن، فلا حاجة إلى التزوج والتسري، وهلم جرا، فهل يقول هذا عاقل أو آدمي؟ بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها ¬

(¬1) أي: كما يقال مثلاً: طالما أن اللَّه تعالى قد كتب عليّ هذه البلوى، فلا فائدة من الدعاء. (قل).

قوامه وحياته، فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام، بل هم أضل ... والصواب: أن هاهنا قسمًا ثالثًا - غير ما ذكره السائل: وهو أن هذا المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه: الدعاء، فلم يقدر مجردًا عن سببه، ولكن قدر بسببه فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال، وهذا القسم هو الحق، وهذا الذي حُرِمَه السائل ولم يوفق له، وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء، ولا أبلغ في حصول المطلوب. ولما كان الصحابة رضي اللَّه عنهم أعلم الأمة باللَّه ورسوله، وأفقههم في دينه، كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم، وكان عمر رضي اللَّه عنه يستنصر به على عدوه، وكان أعظم جنده، وكان يقول للصحابة: «لستم تنصرون بكثرة، ولكن تنصرون من السماء» وكان يقول: «إني لا أحمل هَمَّ الإجابة، ولكن أحمل هَمَّ الدعاء، فإن ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه». وأخذ الشاعر هذا المعنى فنظمه، فقال: لو لم تُرد نيلَ ما أرجو وأطلبه ... من جود كفيك ما علَّمتني الطلبا بل الفقيه كل الفقه الذي يرد القدر بالقدر، ويدفع القدر بالقدر، ويعارض القدر بالقدر، بل لا يمكّن الإنسان أن يعيش إلا بذلك. فإن الجوع والعطش والبرد، وأنواع المخاوف والمحاذير هما من القدر، والخلق كلهم ساعون في دفع هذا القدر بالقدر، وهكذا من وفقه اللَّه وألهمه رشده يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة، فهذا هو القدر المخوف في الدنيا وما يضاده، فرب الدارين واحد، وحكمته واحدة، لا تناقض بعضها بعضًا، ولا يبطل بعضها بعضًا، فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها، ورعاها حق رعايتها، واللَّه المستعان (¬1). انتهى. ¬

(¬1) «الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي» لابن القيم رحمه اللَّه (ص: 7: 18). (قل).

الفصل الثاني: آداب الدعاء

فائدة: قال كعب الأحبار: أعطيت هذه الأمة ثلاثًا لم تعطهن أمة قبلها إلا نبي: كان إذا أرسل اللَّه نبيًّا قال له: أنت شاهد على أمتك، وجعلكم شهداء على الناس {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وكان يقال له: ليس عليك في الدين من حرج، وقال لهذه الأمة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وكان يقال له: ادعني استجب لك، وقال لهذه الأمة: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬1). * * * الفصل الثاني: آداب الدعاء جاء في «تحفة الذاكرين» ما مختصره (¬2): 1 - آكدها تجنب الحرام مأكلاً ومشربًا وملبسًا، [وقد تقدم الكلام عن هذه النقطة لابن القيم رحمه اللَّه فأغنى عن أن آتي بها من «تحفة الذاكرين»]. 2 - الإخلاص لله تعالى: لقوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14]. 3 - تقديم عمل صالح: يدل على ذلك حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، كما في «الصحيحين» وغيرهما، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكى عنهم: أنهم توسل كل واحد منهم بأعظم أعماله التي عملها لله عز وجل، فاستجاب اللَّه دعاءهم، وارتفعت عنهم الصخرة، وكان ذلك بحكايته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمته سنة، [معنى ذلك أنك إذا قمت مرة بعمل تظن أنه مقبول عند اللَّه تعالى، فيمكنك أن تقول: اللَّهم إن كنت تعلم أن هذا العمل «كبكاء مرة من خشية اللَّه، أو إعانة محتاج أو تفريج كربة .... » خالصًا لوجهك ففرج عني ما أنا فيه]. 4 - الوضوء: وقد صح أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سلم عليه بعض الصحابة تيمم من جدار الحائط ثم رد عليه، وإذا كان هذا في مجرد رد السلام، فكيف بذكر اللَّه سبحانه، فإنه أولى بذلك، وأخرج أبو داود من حديث ابن عباس عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كرهت أن أذكر اللَّه إلا على طهر» وصححه ابن خزيمة، والدعاء ذكر. 5 - استقبال القبلة: وقد استقبلها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دعائه في غير موطن، كما في يوم بدر، أخرجه مسلم وغيره (¬3). ¬

(¬1) «مختصر تفسير ابن كثير» (ج3 ص: 249). (قل). (¬2) راجع «تحفة الذاكرين» للشوكاني (ص: 34: 39). (قل). (¬3) هذا دليل الاستحباب، أما دليل الجواز - كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى في فصل التوسل بالأنبياء والصالحين 0 في حديث الاستسقاء، وفيه أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه - وهو قائم يخطب يوم الجمعة، أي على المنبر، مستقبل المصلين - ثم قال: «اللهم أغثنا .... » والحديث في «صحيح البخاري»، قال ابن حجر في «الفتح» (جـ 11 ص 148) باب الدعاء غير مستقبل القبلة (ووجه أخذه من الترجمة من جهة أن الخطيب من شأنه أن يستدبر القبلة، وأنه لم ينقل أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دعا في المرتين استدار). (قل).

6 - الصلاة: [كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى عند الكلام عن صلاة الحاجة]. 7 - الثناء (¬1) على اللَّه تعالى. 8 - الصلاة على نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2): «وليصل على النبي» [وقد تقدم]. 9 - بسط يديه ورفعها حذو منكبيه لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن اللَّه حييٌ كريم يستحي إذا رفع الرجل يديه إليه أن يردهما خائبتين». أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين. [وصححه الألباني]- وقد تقدم. 10 - التأدب والخشوع والمسكنة: فأما ما يدل على التأدب: ما رواه مسلم من حديث علي رضي اللَّه عنه وفيه: «أنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي» وأما ما يدل على الخشوع: ما رواه ابن أبي شيبة من قول مسلم بن يسار قال: «لو كنت بين يدي ملك تطلب حاجة لسرك أن تخشع له» وأما ما يدل على المسكنة: ما ورد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أحاديث الاستسقاء. 11 - أن يسأل بأسماء اللَّه تعالى العظام الحسنى: ويدل على ذلك قول اللَّه عز وجل: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]. [وقد ذكر المؤلف أن العلماء قد اختلفوا في تعيين اسم اللَّه الأعظم على نحو أربعين قولاً، ولكن أرجح ما ورد في تعيين الاسم الأعظم، ثلاثة أحاديث ذكر منها مؤلف المتن اثنين وذكر الشارح (أي: الشوكاني) الاسم الثالث]: 1 - «اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت اللَّه لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد». أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان وصححه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما من حديث عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلاً يقول: «اللهم إني أسألك .... » فقال: «لقد سألت اللَّه تعالى باسمه الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى وإذا دُعي به أجاب» (¬3). ¬

(¬1) و (¬2) عن فضالة بن عبيد رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد اللَّه تعالى، ولم يصل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: عجل هذا، ثم دعاه فقال له، أو لغيره: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد اللَّه، والثناء عليه، ثم ليصل على النبي، ثم ليدع بعد بما شاء». (صحيح) (د، ت، حب، ك، هق) عن فضالة بن عبيد «صفة الصلاة» (72)، «صحيح أبي داود» (1331): (حم، ن) انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬3) وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي». (قل).

2 - «اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم» الحديث أخرجه أهل السنن الأربعة وابن حبان وصححه ولفظ ابن ماجه عن أنس بن مالك قال: سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد ... فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقد دعا اللَّه باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى». [حسن صحيح - انظر «صحيح سنن ابن ماجه»]. 3 - «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين». الحديث أخرجه الترمذي (¬1)، والحاكم في «المستدرك»، وأحمد في «المسند»، ولفظ الترمذي: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دعوة ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب اللَّه له». وزاد الحاكم في طريق عنده: فقال رجل: يا رسول اللَّه، هل كانت ليونس خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا تسمع قول اللَّه عز وجل: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} [أي: يونس] {وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88]» (¬2). 12 - الأدعية المأثورة [مثال ذلك: من كان عليه دين، فلو أنه قال: اللهم اقضِ ديني، فهذا خير، ولكن الدعاء المأثور عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هنا: ما رواه الترمذي عن علي رضي اللَّه عنه أن مكاتبًا له جاءه فقال: إني عجزت عن كتابتي، فأعني، فقال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو كان عليك مثل جبل أحد دينًا إلا أداه اللَّه عنك، قل: «اللهم اكفني بحلالك عن حرامك واغنني بفضلك عمن سواك» (¬3)]. 13 - ويخفض صوته: لحديث «أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا». وهو في الصحيحين. 14 - ويعترف بذنبه: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث علي رضي اللَّه عنه عند مسلم: «ظلمت ¬

(¬1) وصححه الألباني في «صحيح سنن النسائي». (قل). (¬2) جاء في «زاد المعاد» لابن القيم رحمه اللَّه تعالى (جـ4 ص 208): (وأما دعوة ذي النون: فإن فيها من كمال التوحيد والتنزيه للرب تعالى، واعتراف العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدوية الكرب والهم والغم، وأبلغ الوسائل إلى اللَّه سبحانه في قضاء الحوائج، فإن التوحيد والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال للَّه، وسلب كل نقص وعيب وتمثيل عنه، والاعتراف بالظلم يتضمن إيمان العبد بالشرع والثواب والعقاب. ويوجب انكساره ورجوعه إلى اللَّه، واستقالته عثرته، والاعتراف بعبوديته، وافتقاره إلى ربه، فها هنا أربعة أمور قد وقع التوسل بها: التوحيد، والتنزيه، والعبودية، والاعتراف). اهـ. فهذه الآية تشتمل على التوحيد والتسبيح والاستغفار، وهي أيضًا من أدعية الكرب. (قل). (¬3) وحسنه الألباني في «صحيح سنن الترمذي». (قل).

نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعًا». 15 - ويبدأ بنفسه: لقول ابن عمر رضي اللَّه عنهما: «كان رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه». أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب (¬1). [قال اللَّه تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 151]. 16 - ولا يخص نفسه إن كان إمامًا: لحديث «لا يؤم رجل قومًا فيخص نفسه بالدعاء دونهم فقد خانهم». أخرجه الترمذي وحسنه (¬2) [جاء في الهامش]: قال المصنف في «مفتاح الحصن»: وذلك فيما يؤمن المأمومون عليه من دعاء كالقنوت فهو خيانة لهم، أما إذا دعا لنفسه في السجود مثلاً، وهو إمام فليس بخيانة. اهـ. 17 - ويسأل بعزم ورغبة وجد واجتهاد: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعا أحدكم فلا يقول: اللهم اغفر لي إن شئت وارحمني إن شئت وليعزم مسألته إنه يفعل ما يشاء ولا مكره له» رواه البخاري. [وقد تقدم]. 18 - ويحضر قلبه ويحسن رجاءه (¬3). 19 - ويكرر الدعاء، أخرج مسلم في «صحيحه»: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا دعا كرر ثلاثًا». 20 - ولا يدعو بإثم ولا قطيعة رحم: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم» أخرجه مسلم. [وقد تقدم]. 21 - ولا بأمر قد فرغ منه: وقد روى مسلم والنسائي ما يدل على ذلك من حديث أم حبيبة رضي اللَّه عنها لما سمعها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تدعو له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأبيها ولأخيها أن يمتعها اللَّه بهم فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن يعجل اللَّه شيئًا قد أجله». 22 - ولا بمستحيل: ووجه ذلك أن الدعاء بالمستحيل من الاعتداء في الدعاء، وقد ثبت النهي القرآني عنه فقال اللَّه تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]. انتهى من «تحفة الذاكرين». ¬

(¬1) صحيح كما في «صحيح الجامع». وقد تقدم. (قل). (¬2) والحديث ضعيف وفي آخره جملة صحيحة وهي [ولا يقوم إلى الصلاة وهو حاقن (انظر صحيح سنن الترمذي للألباني)]. (قل). (¬3) لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادعوا اللَّه وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن اللَّه لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» (حسن) رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة - «الصحيحة» (564) - انظر «صحيح الجامع»، وللأرنؤوط وباجس أثابهما اللَّه تعالى كلام حول هذا الحديث في «جامع العلوم والحكم» (جـ 2 ص 403)، ومعنى «من قلب غافل» - كما في «تحفة الأحوذي» (ج 9 ص 360): أي معرض عن اللَّه أو عما سأله «لاه» «من اللهو أي لاعب بما سأله أو مشتغل بغير اللَّه تعالى». (قل).

وعن أبي نعامة أن عبد اللَّه بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. قال: يا بني سل اللَّه الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء». (صحيح) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم - انظر «صحيح الجامع». جاء في «عون المعبود شرح سنن أبي داود» لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي رحمه اللَّه تعالى (جـ1 ص 169، 170) ما مختصره: (باب الإسراف في الوضوء) الزيادة على الثلاث في غسل أعضاء الوضوء، أو إسراف في الماء للوضوء على قدر الحاجة. (القصر الأبيض) القصر: هو الدار الكبيرة المشيدة؛ لأنه يقصر فيه الحرم. كذا في التوسط (إذا دخلتها) أي الجنة (قال) عبد اللَّه لابنه حين سمعه يدعو بهذه الكلمات. قال بعض الشراح: إنما أنكر عبد اللَّه على ابنه في هذا الدعاء لأن ابنه طمع ما لا يبلغه عملاً حيث سأل منازل الأنبياء، وجعله من الاعتداء في الدعاء لما فيها من التجاوز عن حد الأدب، وقيل: لأنه سأل شيئًا معينًا واللَّه أعلم (إنه) الضمير للشأن (يعتدون) يتجاوزون عن الحد (في الطهور) بضم الطاء وفتحها، فالاعتداء في الطهور بالزيادة على الثلاث، وإسراف الماء، وبالمبالغة في الغسل إلى حد الوسواس ... وحديث ابن مغفل هذا يتناول الغسل والوضوء وإزالة النجاسة (الدعاء) عطف على الطهور، والمراد بالاعتداء فيه المجاوزة للحدّ، وقيل الدعاء بما لا يجوز ورفع الصوت به والصياح، وقيل سؤال منازل الأنبياء عليهم السلام. حكاها النووي في شرحه. وذكر الغزالي في الإحياء أن المراد به أن يتكلف السجع في الدعاء. قال المنذري: وأخرجه ابن ماجه مقتصرًا منه على الدعاء). انتهى من «عون المعبود»، ونكمل الكلام من «تحفة الذاكرين». 23 - ولا يتحجر: ووجه ذلك أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سمع الأعرابي يقول: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا، قال له: «لقد تحجرت واسعًا». وهو ثابت في «الصحيح». 24 - ويسأل حاجته كلها (¬1). 25 - ويؤمن الداعي والمستمع: أقول: وجهه أن التأمين بمعنى طلب الإجابة من الرب ¬

(¬1) لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما في «صحيح الجامع» برقم (591 - 270): «إذا سأل أحدكم فليكثر؛ فإنما يسأل ربه». (صحيح) ابن حبان عن عائشة «الصحيحة» (1325)، والحديث يشمل سؤال الشيء اليسير من باب أولى. (قل).

الفصل الثالث: ما هي أوقات الإجابة؟

سبحانه، واستنجازها، فهو تأكيد لما تقدم من الدعاء وتكرير له، وقد ورد في «الصحيح» ما يرشد إلى ذلك. 26 - ولا يستعجل أو يقول: دعوت فلم يستجب لي؛ لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في «الصحيحين»: «يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي». [وقد تقدم]. 27 - ويتوسل إليه تعالى بأنبيائه والصالحين: أما التوسل بالصالحين: فمنه ما ثبت عن الصحابة في «الصحيح» أنهم استسقوا بالعباس رضي اللَّه عنه عم رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال عمر رضي اللَّه عنه: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا، فالآن نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا، ثم طلب من العباس أن يدعو اللَّه، فقام العباس فدعا اللَّه تعالى، فسقاهم اللَّه. تنبيه: سيأتي الكلام إن شاء اللَّه تعالى عن حكم التوسل بالأنبياء بعد موتهم، وما أنقله من كلام ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى في هذه المسألة كرد على كلام الشوكاني]. * * * الفصل الثالث: ما هي أوقات الإجابة؟ جاء في «تحفة الذاكرين» ما مختصره: 1 - ليلة القدر: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه». رواه الشيخان. 2 - يوم عرفة: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير الدعاء يوم عرفة». رواه الترمذي وحسنه. [وهو كما قال - انظر «صحيح الجامع»]. 3 - شهر رمضان (¬1). 4 - يوم الجمعة وساعة الجمعة: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفيه - أي يوم الجمعة - ساعة لا يسأل العبد فيها شيئًا إلا آتاه اللَّه تعالى إياه ما لم يسأل حرامًا». [رواه أحمد وابن ماجه، قال العراقي: ¬

(¬1) لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث دعوات مستجابات» «دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر». صحيح - «الضعفاء» للعقيلي، و «شعب الإيمان» للبيهقي عن أبي هريرة، «الصحيحة» (1797): ابن ماسي، ابن عساكر - انظر «صحيح الجامع». (قل). ولقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر». (حسن) أبو الحسن بن مهرويه في «الثلاثيات»، و «الضياء» عن أنس، «الصحيحة» (1797) - انظر «صحيح الجامع». (قل).

إسناده حسن]. 5 - جوف الليل: لحديث أبي أمامة رضي اللَّه عنه قال: قيل: يا رسول اللَّه، أي الدعاء يسمع؟ قال: «جوف الليل ودبر الصلاة». أخرجه الترمذي وحسنه. [وحسنه الألباني في «صحيح سنن الترمذي»]. 6 - ونصفه الثاني «أي الليل» وثلثه الأول وثلثه الأخير: أخرج مسلم عن جابر قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل اللَّه خيرًا من أمور الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك في كل ليلة». وفي «الصحيحين»: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له». 7 - وقت السحر: وهذا جزء من أجزاء ثلث الليل الآخر، وقد تقدم في «الصحيحين» ما يدل على قبول الدعاء فيه. 8 - عند النداء بالصلاة: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثنتان لا يردان: الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضًا». أخرجه مالك وأبو داود، وزاد أبو داود: «وتحت المطر». وأخرجه ابن حبان والحاكم وصححاه [وهو كما قالا، انظر «صحيح الجامع»]. 9 - بين الأذان والإقامة: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة». قيل: ماذا نقول يا رسول اللَّه؟ قال: «سلوا اللَّه العافية في الدنيا والآخرة». أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وأخرجه غيرهما (¬1). 10 - عند الإقامة: ولعل الوجه في ذلك أن الإقامة هي نداء إلى الصلاة كالأذان، وقد تقدم مشروعية الدعاء مطلقًا عند النداء. 11 - عند التحام الحرب: للحديث المتقدم: «وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضًا». 12 - دبر الصلوات المكتوبات [وقد تقدم حديث الترمذي عن أبي أمامة]. 13 - وفي السجود: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء». أخرجه مسلم وغيره. 14 - عند تلاوة القرآن، لا سيما الختم: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قرأ القرآن فليسأل اللَّه فإنه ¬

(¬1) قال الألباني في «تمام المنة في التعليق على فقه السنة»: (الحديث صحيح كما قال الترمذي، وأما الزيادة فضعيفة منكرة). (قل).

سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به الناس» (¬1). أخرجه الترمذي وحسنه، وأخرجه ابن أبي شيبة عن مجاهد: «إذا ختم القرآن نزلت الرحمة». 15 - عند قول الإمام: {وَلاَ الضَّالِّينَ}: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمَّن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه» في «الصحيحين». 16 - عند شرب ماء زمزم: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ماء زمزم لما شرب له» (¬2) [ينطبق هذا الحديث - واللَّه أعلم - على ما يحمل من ماء زمزم إلى البلاد]. 17 - عند صياح الديِّكَة: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا اللَّه من فضله، فإنها رأت ملكًا». في «الصحيحين» وغيرهما. 18 - واجتماع المسلمين وفي مجلس الذكر: المراد باجتماع المسلمين في مجالس الذكر: لما رواه مسلم: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقعد قوم يذكرون اللَّه تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم اللَّه فيمن عنده». ولقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خروج النساء يوم العيد: «وليشهدن الخير ودعوة المسلمين» كما في «الصحيحين». 19 - عند تغميض الميت: لحديث أم سلمة قالت: دخل رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه، فقال: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فضج ناس من أهله، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون». ثم قال: «اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه (¬3) في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونور له فيه». أخرجه مسلم وأهل السنن. 20 - الحضور عند الميت: ولعل وجهه ما أخرجه النسائي قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حضر المؤمن أتت ملائكة الرحمة» (¬4) فيكون الدعاء عند حضور هؤلاء الملائكة مقبولاً. 21 - عند نزول الغيث: [وقد تقدم]. * * * ¬

(¬1) حسن. انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬2) صحيح. رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما. انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬3) جاء في «عون المعبود» (ج8 ص388): (في عقبه: بكسر القاف: أي من يعقبه ويتأخر عنه من ولد وغيره (في الغابرين) أي الباقين في الأحياء من الناس. أي أوقع خلافتك في عقبه كائنين في جملة الناس. (قاله القاري). اهـ. بتصرف. (قل). (¬4) وصححه الألباني في «صحيح سنن النسائي». (قل).

الفصل الرابع: الذين يستجيب الله تعالى دعاءهم

الفصل الرابع: الذين يستجيب اللَّه تعالى دعاءهم جاء في «تحفة الذاكرين» ما مختصره: 1 - المضطر: قال اللَّه تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62]. 2 - المظلوم مطلقًا ولو كان فاجرًا أو كافرًا: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث دعوات لا شك في إجابتها: دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده». أخرجه الترمذي وحسنه (¬1)، وفي «الصحيحين» يقول رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين اللَّه حجاب». 3 - الوالد على ولده والإمام العادل: [وقد تقدم]. 4، 5 - الرجل الصالح، والمسلم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحمه [وقد تقدم في فصل فضل الدعاء: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم أو قطيعة رحم ... »]. لفظ المسلم يتناول لفظ الصالح تناولاً أوليًّا. 6 - الولد البار بوالديه: ويدل على ذلك حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فدعوا اللَّه بصالح أعمالهم، وكان أحدهم بارًّا بوالديه فتوسل إلى اللَّه تعالى بذلك فأجاب دعاءه، وهذا الحديث في «الصحيحين» مطولاً. 7، 8 - المسافر والصائم: [وقد تقدم]. 9 - المسلم لأخيه بظهر الغيب: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك مثل ذلك». أخرجه مسلم وغيره. 10 - التائب: [لم يذكر المؤلف الحديث لضعفه]. * * * ¬

(¬1) وهو كما قال. انظر «صحيح الجامع» وجاء في «عون المعبود» (جـ4 ص359): (ثلاث دعوات) مبتدأ خبره (مستجابات لا شك فيهن) أي في استجابتهن ... لا لتجاء هؤلاء الثلاثة إلى اللَّه تعالى بصدق الطلب ورقة القلب وانكسار الخاطر (دعوة الوالد) أي لولده أو عليه ولم يذكر الوالدة لأن حقها أكثر فدعاؤها أولى بالإجابة (ودعوة المسافر) يحتمل أن تكون دعوته لمن أحسن إليه وبالشر لمن أذاه وأساء إليه لأن دعاءه لا يخلو عن الرقة (ودعوة المظلوم) أي لمن يعينه وينصره أو يسليه ويهون عليه أو على من ظلمه بأي نوع من أنواع الظلم كذا في «المرقاة». اهـ. (قل).

الفصل الخامس: بم يستجاب الدعاء؟

الفصل الخامس: بم يستجاب الدعاء؟ جاء في «تحفة الذاكرين» ما مختصره: أولاً: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من تعار من الليل» أي: استيقظ من النوم «فقال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان اللَّه ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللَّه، ثم قال: اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته» رواه البخاري في «صحيحه». ثانيًا: أخرج الطبراني من حديث معاوية في «الكبير» قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من دعا بهؤلاء الخمس لم يسأل اللَّه شيئًا إلا أعطاه: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا اللَّه، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه». قال المنذري في «الترغيب والترهيب»: رواه الطبراني في «الكبير» و «الأوسط» بإسناد حسن، وهذه الكلمات الخمس: الأولى منهن قوله: «لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له»، والثانية: «له الملك وله الحمد»، والثالثة: «وهو على كل شيء قدير»، والرابعة: «لا إله إلا اللَّه»، والخامسة: «ولا حول ولا قوة إلا باللَّه» انتهى من تحفة الذاكرين. ثالثًا: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألِظُّوا بياذا الجلال والإكرام». (صحيح) (ت) عن أنس، (حم، ن، ك) عن ربيعة بن عامر، «الصحيحة» (1536): ابن أبي شيبة - أنس. تخ، ابن منده، ابن عساكر - ربيعة. ك - أبي هريرة، انظر «صحيح الجامع». وجاء في «تحفة الأحوذي» (جـ9 ص 404): («ألظوا بياذا الجلال والإكرام»: أي الزموه واثبتوا عليه وأكثروا من قوله والتلفظ به في دعائكم، يقال: ألظ بالشيء يلظ إلظاظًا إذا لزمه وثابر عليه. كذا في «النهاية»). اهـ. رابعًا: جاء في «جامع العلوم والحكم» (¬1): قال يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعًا: ما من عبد يقول: يا رب، يا رب، يا رب، إلا قال له ربه: لبيك لبيك. وعن عطاء قال: ما قال عبد: يا رب ثلاث مرات إلا نظر اللَّه إليه، فذكر ذلك للحسن فقال: أما تقرءون القرآن، ثم تلا قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ - رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ - رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ - رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 191: 194]. انتهى من «جامع العلوم والحكم». ¬

(¬1) «جامع العلوم والحكم» لابن رجب الحنبلي (1/ 273 - 274). (قل).

خامسًا: أدعية الكرب: وهي مختصرة من «زاد المعاد» لابن القيم رحمه اللَّه تعالى (جـ4 ص 196: 209) مع تقديم وتأخير في الشرح: 1، 2 - أخرجا في «الصحيحين» من حديث ابن عباس أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا اللَّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللَّه رب العرش العظيم، لا إله إلا اللَّه رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم» (¬1). خلق اللَّه سبحانه ابن آدم وأعضاءه، وجعل لكل عضو منها كمالاً إذا فقده أحس بالألم، وجعل لملكها وهو القلب كمالاً، إذا فقده، حضرته أسقامه وآلامه من الهموم والغموم والأحزان. فإذا فقدت العين ما خلقت له من قوة الإبصار، وفقدت الأذن ما خلقت له من قوة السمع، واللسان ما خلق له من قوة الكلام، فقدت كمالها. والقلب: خلق لمعرفة فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به، والابتهاج بحبه، والرضى عنه، والتوكل عليه، والحب فيه، والبغض فيه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، ودوام ذكره، وأن يكون أحب إليه من كل ما سواه، ولا نعيم له ولا سرور ولا لذة، بل ولا حياة إلا بذلك، وهذا له بمنزلة الغذاء والصحة والحياة، فإذا فقد غذاءه وصحته وحياته، فالهموم والغموم والأحزان مسارعة من كل صوب إليه، ورهنٌ مقيم عليه. ومن أعظم أدوائه: الشرك والذنوب والغفلة والاستهانة بمحابه ومراضيه، وترك التفويض إليه، وقلة الاعتماد عليه، والركون إلى ما سواه، والسخط بمقدوره، والشك في وعده ووعيده. وإذا تأملت أمراض القلب، وجدت هذه الأمور وأمثالها هي أسبابها لا سبب لها سواها، فدواؤه الذي لا دواء له سواه ما تضمنته هذه العلاجات النبوية من الأمور المضادة لهذه الأدواء، فإن المرض يزال بالضد، والصحة تحفظ بالمثل، فصحته تحفظ بهذه الأمور النبوية، وأمراضه بأضدادها. فالتوحيد: يفتح للعبد باب الخير والسرور واللذة والفرح والابتهاج، والتوبة استفراغ للأخلاط والمواد الفاسدة التي هي سبب أسقامه، وحمية له من التخليط، فهي تغلق عنه باب الشرور، فيفتح له باب السعادة والخير بالتوحيد، ويغلق باب الشرور بالتوبة والاستغفار. قال بعض المتقدمين من أئمة الطب: من أراد عافية الجسم، فليقلل من الطعام والشراب، ومن أراد عافية القلب، فليترك الآثام. وقال ثابت بن قرة: راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة الروح في قلة الآثام، وراحة اللسان في قلة الكلام. والذنوب للقلب بمنزلة السموم، إن لم تهلكه أضعفته، ولا بد وإذا ضعفت قوته لم يقدر على مقاومة الأمراض. قال طبيب القلوب عبد اللَّه بن المبارك: رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذلَّ إدمانُها وترك الذنوبِ حياةُ القلوبِ وخير لنفسك عصيانُها فالهوى أكبر أدوائها، ومخالفته أعظم أدويتها، والنفس في الأصل خلقت جاهلة ظالمة، فهي لجهلها تظن شفاءها في اتباع هواها، وإنما فيه تلفها وعطبها، ولظلمها لا تقبل من الطبيب الناصح، بل تضع الداء موضع الدواء فتعتمده، وتضع الدواء موضع الداء فتجتنبه، فيتولد من بين إيثارها للداء واجتنابها للدواء أنواع من الأسقام والعلل التي تعيي الأطباء، ويتعذر معها الشفاء، والمصيبة العظمى، أنها تركب ذلك على القدر، فتبرئ نفسها، وتلوم ربها بلسان الحال دائمًا، ويقوى اللوم حتى يصرح به اللسان. وإذا وصل العليل إلى هذه الحال، فلا يطمع في برئه إلا أن تتداركه رحمة من ربه، فيحييه حياة جديدة، ويرزقه طريقة حميدة، فلهذا كان حديث ابن عباس في دعاء الكرب مشتملاً على توحيد الإلهية والربوبية، ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم، وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القدرة والرحمة، والإحسان والتجاوز، ووصفه بكمال ربوبيته للعالم العلوي والسفلي، والعرش الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها. والربوبية التامة تستلزم توحيده، وأنه الذي لا تنبغي العبادة والحب والخوف والرجاء والإجلال والطاعة إلا له. وعظمته المطلقة تستلزم إثبات كل كمال له، وسلب كل نقص وتمثيل عنه. وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه. فعلم القلب ومعرفته بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيده، فيحصل له من الابتهاج واللذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم، وأنت تجد المريض إذا ورد عليه ما يسره ويفرحه، ويقوى نفسه، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسي، فحصول هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى. ثم إذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التي تضمنها دعاء الكرب، وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخروج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور، وهذه الأمور إنما يصدق بها من أشرقت فيه أنوارها، وباشر قلبه حقائقها). اهـ من «زاد المعاد». قال الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في «الفتح» (ج11 ص 151، 152). قال الطبري: معنى قول ابن عباس «يدعو» وإنما هو تهليل وتعظيم يحتمل أمرين: أحدهما: أن المراد تقديم ذلك قبيل الدعاء كما ورد في طريق يوسف بن عبد اللَّه بن ¬

(¬1) هذه الرواية غير التي أوردها ابن القيم في «زاد المعاد» وإنما هي متفق عليها نقلاً عن «الفتح» (جـ11 ص416) و «شرح مسلم» (جـ17 ص 73)، وفي رواية أخرى للبخاري كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو عند الكرب يقول: «لا إله إلا اللَّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللَّه رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم» وانظر «جامع الأصول» (جـ4 ص 294) لابن الأثير رحمه اللَّه تعالى حيث ذكر تفصيلاً آخر. (قل).

الحارث المذكورة وفي آخره «ثم يدعو». قلت: وكذا هو عند أبي عوانة في مستخرجه من هذا الوجه، وعند عبد بن حميد من هذا الوجه «كان إذا حزبه أمر قال». فذكر الذكر المأثور وزاد «ثم دعا»، وفي «الأدب المفرد» من طريق عبد اللَّه بن الحارث «سمعت ابن عباس» فذكره وزاد في آخره: «اللهم اصرف عني شره». قال الطبري: ويؤيد هذا ما روى الأعمش عن إبراهيم قال: كان يقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استجيب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء. ثانيهما: ما أجاب به ابن عيينة فيما حدثنا حسين بن حسن المروزي قال: «سألت ابن عيينة عن الحديث الذي فيه أكثر ما كان يدعو به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له» الحديث فقال سفيان: هو ذكر، وليس فيه دعاء، ولكن قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ربه عز وجل: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» (¬1) قال وقال أمية بن أبي الصلت في مدح عبد اللَّه بن جدعان: أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يومًا كفاه من تعرضك الثناء قال سفيان: فهذا مخلوق حين نسب إلى الكرم اكتفى بالثناء عن السؤال فكيف بالخالق؟ قلت: ويؤيد الاحتمال الثاني حديث سعد بن أبي وقاص رفعه: «دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين (¬2)، فإنه لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب اللَّه تعالى له» أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم، وفي لفظ للحاكم: فقال رجل: أكانت ليونس خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا تسمع إلى قول اللَّه تعالى: {وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}». وقال ابن بطال: حدثني أبو بكر الرازي قال: كنت بأصبهان عند أبي نعيم أكتب الحديث، وهناك شيخ يقال له أبو بكر بن عليّ عليه مدار الفتيا فَسُعِي به عند السلطان فسجن، فرأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنام وجبريل عن يمينه يحرك شفتيه بالتسبيح لا يفتر، فقال لي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قل لأبي بكر بن عليّ يدعو بدعاء الكرب الذي في «صحيح البخاري» حتى يفرج اللَّه عنه. قال فأصبحت فأخبرته فدعا به فلم يكن إلا قليل حتى أخرج. انتهى. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب «الفرج بعد الشدة» له من طريق عبد الملك بن عمير قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عثمان بن حيان انظر الحسن بن الحسن فاجلده مائة ¬

(¬1) أثر إسرائيلي ضعيف، لكن الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى يقصد الاستئناس به. (قل). (¬2) هذا هو الدعاء الثاني من أدعية الكرب، وقد تقدم الكلام عليه. (قل).

جلدة وأوقفه للناس، قال فبعث إليه فجيء به فقام إليه علي بن الحسين فقال: يا ابن عم تكلم بكلمات الفرج يفرج اللَّه عنك، فذكر حديث عليّ باللفظ الثاني، فقالها فرفع إليه عثمان رأسه فقال: أرى وجه رجل كذب عليه، خلوا سبيله، فسأكتب إلى أمير المؤمنين بعذره فأطلق. وأخرج النسائي والطبري من طريق الحسن بن الحسن بن علي قال: لما زوج عبد اللَّه بن جعفر ابنته قال لها: إن نزل بك أمر فاستقبليه بأن تقولي: لا إله إلا اللَّه الحليم الكريم، سبحان اللَّه رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين. قال الحسن: فأرسل إليّ الحجاج فقلتهن فقال: واللَّه لقد أرسلت إليك وأنا أريد أن أقتلك، فلأنت اليوم أحب إليَّ من كذا وكذا. وزاد في لفظ: فسل حاجتك). اهـ من «الفتح». تكملة أدعية الكرب من «زاد المعاد»: 3 - وفي «جامع الترمذي» عن أنس أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا حزبه أمر، قال: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» (¬1). وفي تأثير قوله: «يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث» في دفع هذا الداء مناسبة بديعة، فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال، مستلزمة لها، وصفة القيُّومِيَّة متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا كان اسم اللَّه الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أجاب، وإذا سُئل به أعطى: هو اسم الحي القيوم، والحياة التامة تضاد جميع الأسقام والآلام، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم هم ولا غم ولا حزن ولا شيء من الآفات. ونقصان الحياة تضر بالأفعال، وتنافي القيومية، فكمال القيومية لكمال الحياة، فالحيُّ المطلق التام الحياة لا تفوته صفة الكمال البتة، والقيُّوم لا يتعذر عليه فعل ممكن البتة، فالتوسل بصفة الحياة والقيومية له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة، ويضر بالأفعال. ونظير هذا توسل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ربه بربوبيته لجبريل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فإن حياة القلب بالهداية، وقد وكَّل اللَّه سبحانه هؤلاء الأملاك الثلاثة بالحياة، فجبريل موكَّل بالوحي الذي هو حياة القلوب، وميكائيل بالقطر الذي هو حياة الأبدان والحيوان، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إلى أجسادها، فالتوسل إليه سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة، له تأثير في حصول المطلوب. والمقصود: أن لاسم الحي القيوم تأثيرًا خاصًا في إجابة الدعوات، وكشف الكربات، وفي «السنن» و «صحيح أبي حاتم» مرفوعًا: «اسم اللَّه الأعظم في هاتين الآيتين» {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]، وفاتحة آل عمران: {الم - اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، قال الترمذي: حديث صحيح (¬2). 4 - وفي «سنن أبي داود» عن أبي بكرة، أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (3522) في الدعوات، وفي سنده يزيد بن أبان الرقاشي، وهو ضعيف. اهـ. لكن حسنه الألباني في «صحيح سنن الترمذي» برقم (2796 - 3773). (قل). (¬2) أخرجه الترمذي وابن ماجه وأبو داود وأحمد والدارمي من حديث عبيد اللَّه بن أبي زياد، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد، وعبيد اللَّه ليس بالقوي، وشهر بن حوشب تكلم فيه غير واحد، لكن له شاهد يتقوى به من حديث أبي أمامة مرفوعًا بلفظه: «اسم اللَّه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في سور ثلاث: البقرة وآل عمران وطه»، أخرجه ابن ماجه (3856)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (1/ 63)، والحاكم (1 - 506)، وسنده حسن. اهـ. وقد حسن الألباني الحديث الأول من الهامش، وصحح الثاني - انظر «صحيح الجامع» قال المناوي رحمه اللَّه تعالى في «فيض القدير»: (قال أبو شامة، فالتمستها فوجدت في البقرة في آية الكرسي: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ .... } [الآية: 255]، وفي آل عمران: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [الآية: 2]، وفي طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [الآية: 111]. (قل).

إله إلا أنت» (¬1). وفي قوله: «اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت» من تحقيق الرجاء لمن الخير كله بيديه والاعتماد عليه وحده، وتفويض الأمر إليه، والتضرع إليه، أن يتولى إصلاح شأنه، ولا يكله إلى نفسه، والتوسل إليه بتوحيده مما له تأثير قوي في دفع هذا الداء، وكذلك قوله: «اللَّه ربي لا أشرك به شيئًا». 5 - وعن أسماء بنت عميس قالت: قال لي رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب، أو في الكرب: اللَّه ربي لا أشرك به شيئًا» (¬2). وفي «مسند الإمام أحمد» عن ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أصاب عبدًا هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همِّي، إلا أذهب اللَّه حزنه وهمه، وأبدله مكانه فرحًا» (¬3). وأما حديث ابن مسعود: «اللهم إني عبدك ابن عبدك» ففيه من المعارف الإلهية، وأسرار العبودية ما لا يتسع له كتاب، فإنه يتضمن الاعتراف بعبوديته وعبودية آبائه وأمهاته، وأن ناصيته بيده يصرفها كيف يشاء، فلا يملك العبد دونه لنفسه نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا، لأن من ناصيته بيد غيره، فليس إليه شيء من أمره، بل هو عانٍ في قبضته (¬4)، ذليل تحت سلطان قهره. وقوله: «ماضٍ فيَّ حكمك عدل فيَّ قضاؤك»: ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (5090): باب ما يقول إذا أصبح، وأحمد (5/ 42)، والبخاري في «الأدب المفرد» (701)، وسنده حسن، وصححه ابن حبان (2370)، وقد وهم المصنف رحمه اللَّه، فجعل الحديث من «مسند أبي بكر الصديق». (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وسنده حسن - انظر «صحيح الجامع» -. (قل). (¬3) أخرجه أحمد في «المسند» (1/ 394 و452)، وسنده صحيح، وصححه ابن حبان (2372). اهـ. وفي آخره كما في «المسند» (قال: فقيل: يا رسول اللَّه، ألا نتعلمها؟ قال: بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها). (قل). (¬4) عان في قبضته - أي: أسيرًا - معنى ذلك في «المعجم الوسيط». (قل).

متضمن لأصلين عظيمين عليهما مدار التوحيد: أحدهما: إثبات القدر، وأن أحكام الرب تعالى نافذة في عبده ماضية فيه، لا انفكاك له عنها، ولا حيلة له في دفعها. والثاني: أنه سبحانه عدل في هذه الأحكام، غير ظالم لعبده، بل لا يخرج فيها عن موجب العدل والإحسان، فإن الظلم سببه حاجة الظالم، أو جهله، أو سفهه، فيستحيل صدوره ممن هو بكل شيء عليم، ومن هو غني عن كل شيء، وكل شيء فقير إليه، ومن هو أحكم الحاكمين، فلا تخرج ذرة من مقدوراته عن حكمته وحمده، كما لم تخرج عن قدرته ومشيئته، فحكمته نافذة حيث نفذت مشيئته وقدرته، ولهذا قال نبي اللَّه هود صلى اللَّه على نبينا وعليه وسلم، وقد خوفه قومه بآلهتهم: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ - مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ - إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 54 - 56]. أي: مع كونه سبحانه آخذًا بنواصي خلقه وتصريفهم كما يشاء، فهو على صراطٍ مستقيم لا يتصرف فيهم إلا بالعدل والحكمة، والإحسان والرحمة. فقوله: «ماض في حكمك» مطابق لقوله: {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}، وقوله: «عدل فيَّ قضاؤك» مطابق لقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، ثم توسل إلى ربه بأسمائه التي سَمَّى بها نفسه ما علم العباد منها وما لم يعلموا، ومنها: ما استأثره في علم الغيب عنده، فلم يُطلِع عليه ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلاً، وهذه الوسيلةُ أعظم الوسائل، وأحبها إلى اللَّه، وأقربها تحصيلاً للمطلوب. ثم سأله أن يجعل القرآن لقلبه كالربيع الذي يرتع فيه الحيوان، وكذلك القرآن ربيع القلوب، وأن يجعله شفاء همِّه وغمِّه، فيكون له بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء، ويعيد البدن إلى صحته واعتداله، وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذي يجلو الطُبوع والأصدية وغيرها، فأحرى بهذا العلاج إذا صدق العليل في استعماله أن يزيل عنه داءه، ويعقبه شفاء تامًّا، وصحة وعافية، واللَّه الموفق). اهـ من «زاد المعاد». * * *

الفصل السادس: علامة استجابة الدعاء

الفصل السادس: علامة استجابة الدعاء جاء في «تحفة الذاكرين» (¬1) ما مختصره: علامة استجابة الدعاء: (الخشية، والبكاء، والقشعريرة، وربما تحصل الرعدة، والغشى، والغيبة، ويكون عقيبه سكون القلب، وبرد الجأش، وظهور النشاط باطنًا، والحق ظاهرًا، حتى يظن الداعي أنه كان على كتفه حملة ثقيلة فوضعها عنه، حينئذ لا يغفل عن التوجه والإقبال والصدقة والإفضال والحمد والابتهال وأن يقول: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات). انتهى من «تحفة الذاكرين». جاء في «صحيح الجامع» برقم (4640): «كان إذا أتاه الأمر يسرّه قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: الحمد لله على كل حال». (صحيح) ابن السني في «عمل يوم وليلة» ك) عن عائشة، «الكلم الطيب» (139)، «الصحيحة» (265) ك، حل - أبي هريرة. خط - ابن عباس. * * * الفصل السابع: التوسل بالأنبياء والصالحين من آداب الدعاء كما سبق: [ويتوسل إلى اللَّه سبحانه بأنبيائه والصالحين] قال الشوكاني في «تحفة الذاكرين»: «أقول: ومن التوسل بالأنبياء ما أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب، والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة في «صحيحه» والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم من حديث عثمان بن حنيف رضي اللَّه عنه أن أعمى أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول اللَّه ادعو اللَّه أن يكشف لي عن بصري. قال: أو أدَعُك. فقال: يا رسول اللَّه، إني قد شق عليَّ ذهاب بصري، قال: «فانطلق فتوضأ فصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي اللهم فشفعه في» (¬2). انتهى من «تحفة الذاكرين». ¬

(¬1) «تحفة الذاكرين» (ص: 58، 59). (قل). (¬2) صحيح. انظر «صحيح الجامع» قال الألباني: (وزاد أحمد وابن خزيمة والحاكم «وشفعني فيه» وهو من الأدلة الكثيرة على أن التوسل والتوجه المذكور في الحديث إنما هو بدعائه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأن معناها: اقبل شفاعتي، أي: في دعائه، وكذلك قوله: (فشفعه في) أي: اقبل شفاعته أي: دعاءه في. وهذه الزيادة من الكنوز من عرفها استطاع بها أن يطيح بشبهات المخالفين) انتهى. ومن التوسل غير المشروع سؤال اللَّه تعالى بجاه فلان أو بحق فلان، كقول القائل: أسألك بجاه نبيك أو بجاه فلان، وأسألك بحق نبيك أو بحق فلان إذ لا حق لأحد على اللَّه، إنما اللَّه (ذو فضل على العالمين). وقد ذكر المنذري هذا الحديث - نقلاً عن «صحيح الترغيب والترهيب» - تحت عنوان: باب الترغيب في صلاة الحاجة ودعائها. الشاهد من ذلك أن أصل صلاة الحاجة موجود، لكن الكيفية - خاصة في مغيب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأيضًا بعد موته - هي التي تحتاج إلى فقه كما سيأتي بعد قليل إن شاء اللَّه تعالى، وقد أشرت في كتابنا «عون الرحمن في حفظ القرآن بزيادة فتح المنان في حمل الفرقان» إلى شيء من ذلك ثم أحلت التفصيل في ذلك على هنا. (قل).

ابن تيمية: لا يجوز التوسل بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مغيبه ولا بعد موته ... جاء في كتاب «الزيارة» لابن تيمية تحت عنوان السؤال بالجاه ونحوه من البدع ما مختصره: وقالت طائفة: ليس في هذا (¬1) جواز التوسل به بعد مماته، وفي مغيبه، بل إنما فيه التوسل في حياته بحضوره، كما في «صحيح البخاري» أن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه استسقى بالعباس، فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا، فيسقون. وقد بين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون. وذلك التوسل به أنهم كانوا يسألونه أنه يدعوا اللَّه لهم، فيدعو لهم، ويدعون معه، ويتوسلون بشفاعته ودعائه. كما في «الصحيح» (عن أنس بن مالك أن رجلاً دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو باب دار القضاء - ورسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائمٌ يخطب - فاستقبل رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائمًا ثم قال: يا رسول اللَّه هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع اللَّه يغيثنا. فرفع رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه، ثم قال: «اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا». قال أنس: ولا واللَّه ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سَلع من بيت ولا دار. قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء، انتشرت، ثم أمطرت، فلا واللَّه ما رأينا الشمس سِتًّا. ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة - ورسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائم يخطب - فاستقبله قائمًا فقال: يا رسول اللَّه هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع اللَّه يمسكها عنا. قال: فرفع رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه، ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر». فال فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس) (¬2). في هذا أنه قال: ادع اللَّه لنا أن ¬

(¬1) أي: ليس في حديث الأعمى السابق. (قل). (¬2) الحديث رقم (1014) في «صحيح البخاري»، وإنما أشرت إلى ذلك لتعدد الروايات. وجاء في «جامع الأصول» لابن الأثير رحمه اللَّه تعالى (جـ6 ص 202)، و «الفتح» لابن حجر رحمه اللَّه تعالى (جـ2 ص 586، 587): السُبل: جمع سبيل، وهي الطريق، أغثنا: الإغاثة، الإعانة: والمراد إعانتهم بإنزال المطر وليس هو من الغيث، فإن فعل الغيث ثلاثي، تقول غاث الغيثُ الأرض: إذا أصابها، وغاث اللَّه البلاد يغيثها غيثًا ... قَزَعَة:: القزعة - بالتحريك - القطعة من الغيم، والجمع: قزع: سلع: بفتح المهملة وسكون اللام جبل معروف بالمدينة، وقد حكي أنه بفتح اللام. من بيت ولا دار: يحجبنا عن رؤيته. مثل الترس: أي مستديرة، ولم يرد أنها مثله في القدر. سِتًّا: أي ستة أيام تامة. [وفي رواية: سبتًّا]: أي من السبت إلى السبت، أي الجمعة، [فأقلعت: أي فأمسكت السحابة الماطرة]. الآكام: جمع أَكَمَة: وهي الرابية المرتفعة من الأرض. الظِراب: جمع ظَرب، وهي صغار الجبال والتلال. بطون الأودية: والمراد بها ما يتحصل فيه الماء لينتفع به). (قل).

الفصل الثامن: فوائد

يمسكها عنا. فهذا كان توسلهم في الاستسقاء ونحوه، ولما مات توسلوا بالعباس رضي اللَّه عنه، كما كانوا يتوسلون به ويستسقون، وما كانوا يستسقون به في موته، ولا في مغيبه، ولا عند قبره، ولا عند قبر غيره (¬1). انتهى كلام ابن تيمية. فلو كان التوسل بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد موته جائزًا، فلِمَ ترك الصحابة رضوان اللَّه عليهم التوسل به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم توسلوا بالعباس (¬2)، فقالوا: وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا؟!. سبحان اللَّه! لو كان خيرًا لسبقونا إليه. تنبيه: قال بعض العلماء: والصواب في هذه النقطة أن يقول المتوسل: اللهم إني أدعوك وأتوسل إليك بإيماني بنبيك - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومحبتي واتباعي لسنته عليه الصلاة والسلام، لأن الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام ومحبته واتباع سنته من أعظم الأعمال وأجلها وأنفعها عند اللَّه، ومن توسل إلى اللَّه ودعا بهذه الأعمال فقد توسل إليه بأحب الأعمال وأعظمها عند اللَّه تعالى. انتهى. * * * الفصل الثامن: فوائد إليك هذه الفوائد، واللَّه تعالى أعلم: الأولى: قال العلماء: إن من بين آداب الدعاء: أن يتخير الداعي الاسم الذي يوافق مسألته، فإذا كنت أدعو اللَّه تعالى بالمغفرة أقول: يا غفور اغفر لي، وإذا كنت أدعوه سبحانه بالرزق أقول: يا رزاق ارزقني: وإذا كنت أدعوه بالستر أقول: يا ستير استرني. الثانية: لو تأملت في بيان اسم اللَّه الأعظم لوجدت أن هناك روايتين أو ثلاثًا في بيان اسم اللَّه الأعظم، فلو أنك جمعت هذه الروايات الثلاث أثناء الدعاء لضمنت أنك ¬

(¬1) راجع هذا الموضوع بالتفصيل في كتاب «الزيارة» لابن تيمية (ص 56: 59). (قل). (¬2) في حياته وحضوره. (قل).

دعوت اللَّه تعالى باسمه الأعظم، ومثال ذلك: هب إنسانًا قال لك: إن هناك ثلاثة بيوت في أحدها كنز، فلو أنك دخلت البيت الأول فلم تجده فيه، ففي هذه الحالة أَمَا يكون لك أن تدخل البيتين الآخرين، حتى تعثر على الكنز، وكذلك الدعاء باسم اللَّه الأعظم يضم الروايات الثلاث ولله المثل الأعلى. الثالثة: بيان كيفية الدعاء بعد الفوائد السابقة: 1 - الحمد لله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد. 2 - اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت اللَّه لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. 3 - يا ذا الجلال والإكرام. 4 - لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا اللَّه، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه. 5 - تخير ما شئت من أدعية الكرب المتقدمة، حبذا كلها. 6 - يا رب يا رب يا رب. 7 - موضوع الدعاء: فتتخير له من أسماء اللَّه الحسنى ما يوافقه، مثل: يا غفور اغفر لي .. 8 - ثم بعد ذلك تقول: اللهم إني أسألك أن تجيب ... 9 - آمين وصل اللَّهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين. الرابعة: يمكنك عند الاستعجال: حيث لا يكون عندك وقت تدعو فيه بكل ما تقدم، أن تدعو بما شئت مما تيسر لك، ويمكنك أن تقول بصيغة مختصرة. واللَّه أعلم: الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، يا رب: اللهم إني أسألك بأسمائك وصفاتك وباسمك اللَّه الأعظم أن تفعل لي كذا .. وصل اللَّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين. الخامسة: من أعظم القربات إلى اللَّه تعالى الدعاء بظهر الغيب، فإن كانت عندك مسألة تشغلك، فادع لكل المسلمين بهذه المسألة، فترد عليك الملائكة وتقول لك: ولك مثل ما قلت.

السادسة: يستحب أن تدعو بهذا الدعاء (¬1) الجامع المأثور عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم إني أسألك الخير كله عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، اللهم إني أسألك من خير ما سألك به عبدك ونبيك، وأعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك، اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليه من قول أوعمل، وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرًا، لي ولكل المسلمين». فتكون بهذا الدعاء العظيم قد دعوت لكل المسلمين، بكل خير دعا به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتكون أيضًا قد استعذت باللَّه من كل شر استعاذ منه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتكون أيضًا قد ضمنت لنفسك أن الملائكة تقول لك في الحالتين: ولك مثل ما قلت وأي عدد من الملائكة؟! بعدد المسلمين الذين دعوت لهم. السابعة: صلاة الحاجة. روى أحمد بسند صحيح عن أبي الدرداء أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين يتمهما أعطاه اللَّه ما سأل معجلاً أو مؤخرًا» ومن أقوى الأدلة - واللَّه أعلم - على صلاة الحاجة ما رواه أبو داود وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (كان رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة) أي: حزبته حاجة ومن المعلوم أنه لم يصح فيها دعاء معين، وانظر الهامش الأول المتقدم تحت التوسل بالأنبياء والصالحين. ويستحب أن تطبق آداب الدعاء السالف ذكرها دبر هذه الصلاة، وأهمها تحري الحلال في المأكل والمشرب والملبس (¬2)، والإخلاص واجتناب المعاصي، قال أبو عبد اللَّه الباجي الزاهد رحمه اللَّه: خمس خصال بها تمام العمل: الإيمان بمعرفة اللَّه عز وجل، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة لم ¬

(¬1) والحديث بتمامه من أدعية المقدمة في هذا الكتاب، وهو حديث صحيح رواه أحمد وغيره - انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬2) من الأقوال المأثورة: (كسب الحلال أثقل من نقل جبل إلى جبل). (قل).

يرتفع العمل، وذلك إذا عرفت اللَّه عز وجل ولم تعرف الحق لم تنتفع، وإذا عرفت الحق ولم تعرف اللَّه لم تنتفع، وإن عرفت اللَّه وعرفت الحق ولم تخلص العمل لم تنتفع، وإن عرفت اللَّه وعرفت الحق وأخلصت العمل ولم يكن على السنة لم تنتفع، وإن تمت الأربع ولم يكن الأكل من حلال لم تنتفع. وقال الشاعر: نحن ندعو الإله في كل كرب ثم ننساه عند كشف الكروب كيف نرجو إجابة لدعاء قد سددنا طريقها بالذنوب صلاة الحاجة والتوكل: قال اللَّه تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نزل به حاجة فأنزلها الناس كان قمنًا ألا تسهل حاجته، ومن أنزلها باللَّه تعالى آتاه اللَّه برزق عاجل أو بموت آجل» (¬1). وقال المروزي: قيل لأبي عبد اللَّه: أي شيء صدق التوكل على اللَّه؟ قال: أن يتوكل على اللَّه ولا يكون في قلبه أحد من الآدميين يطمع أن يجيبه بشيء، فإذا كان كذلك، كان اللَّه يرزقه، وكان متوكلاً على اللَّه. انتهى. ومعنى هذا القول هنا - واللَّه أعلم - خاصة أثناء الدعاء، ألا يكون في قلبك أنه بعد انتهاء الدعاء (كصلاة الحاجة) الذهاب إلى فلان كي يقضي لك حاجتك، وإنما تدعو دعاء عبد لا يعرف إلا مولاه سبحانه، وأن ما في خزائن مولاه تعالى أقرب إليه مما في جيبه، وكأنه يقول بقلبه قبل لسانه: يا رب انقطعت كل السبل إلا سبيلك. الثامنة: جاء في كتاب «زاد المعاد» لابن القيم رحمه اللَّه عند الكلام عن السجود ما يلي: وأمر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالاجتهاد في الدعاء في السجود وقال: «إنه قمنٌ أن يستجاب لكم» (¬2) وهل هذا أمر بأن يكثر الدعاء في السجود، أو أن الداعي إذا دعا في محل، فليكن في السجود؟ وفرق بين الأمرين، وأحسن ما يحمل عليه الحديث أن الدعاء نوعان: دعاء ثناء، ودعاء مسألة، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكثر في سجوده من النوعين، والدعاء الذي أمر به في السجود يتناول النوعين، والاستجابة أيضًا نوعان: استجابة دعاء الطالب بإعطائه سؤاله، واستجابة دعاء المثني بالثواب، وبكل واحد من النوعين فسر قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 187] والصحيح أنه يَعُمُّ النوعين (¬3). انتهى من «زاد المعاد». ¬

(¬1) صحيح - انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬2) رواه مسلم. اهـ. جاء في «النهاية» لابن الأثير رحمه اللَّه تعالى (يقال: قَمَنٌ وقَمِنٌ وقَمينٌ: أي خليق وجدير). (قل). (¬3) «زاد المعاد» لابن القيم رحمه اللَّه (ج1 ص 234: 235). (قل).

مثال ذلك: الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي» فالقسم الأول من هذا الدعاء، دعاء ثناء، والقسم الثاني فيه دعاء مسألة. التاسعة: جاء في كتاب «الجواب الكافي» لابن القيم وفي كتاب «الزهد» للإمام أحمد عن قتادة قال مورق: ما وجدت للمؤمن مثلاً إلا رجلاً في البحر على خشبة، فهو يدعو: يا رب، يا رب، لعل اللَّه عز وجل أن ينجيه. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك .. آمين

الفصل التاسع: صلاة الاستخارة

الفصل التاسع: صلاة الاستخارة لا تدبِرْ لك أمرا فأولوا التدبير هلكى سلِّم الأمرَ إلينا تجدْنا أولى بك منك من «مدارج السالكين» في «صحيح البخاري» عن جابر رضي اللَّه عنه قال: كان رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: «إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر [ويسمى حاجته مثل: سفري إلى كذا، أو ذهابي إلى فلان، أو زواجي من فلانة .... ] خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: «عاجل أمري وآجله» - فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر [ويسمي حاجته أيضًا] شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: «عاجل أمري وآجله» - فاصرفه عني، واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به». قال: ويسمى حاجته. أولاً: جاء في «تحفة الأحوذي» للمباركفوري رحمه اللَّه تعالى (جـ2 ص 506: 508) ما مختصره: قوله: «يعلمنا الاستخارة» أي: صلاة الاستخارة ودعاءها في «في الأمور» زاد في رواية البخاري كلها: «كما يعلمنا السورة من القرآن» فيه دليل على الاهتمام بأمر الاستخارة وأنه متأكد مرغب فيه «إذا هم» أي قصد «بالأمر» أي: من نكاح أو سفر أو غيرهما مما يريد فعله أو تركه «فليركع ركعتين» أي: فليصل ركعتين «من غير الفريضة» فيه دليل على أنه لا تحصل سنة صلاة الاستخارة بوقوع الدعاء بعد صلاة الفريضة «ثم ليقل» أي: بعد الصلاة (¬1) «اللهم إن أستخيرك» أي: أطلب منك الخير أو الخيرة. قال صاحب «المحكم» استخار اللَّه طلب منه الخير، وقال صاحب «النهاية»: خار اللَّه لك، أي أعطاك اللَّه ما هو خير لك. قال: والخيرة بسكون الياء الاسم منه. قال: فأما ¬

(¬1) وهل يجوز قبل التسليم؟ سيأتي بيان ذلك إن شاء اللَّه تعالى. (قل).

بالفتح فهي الاسم من قوله اختاره اللَّه كذا في النيل «بعلمك» الباء فيه وفي قوله بقدرتك للتعليل أي بأنك أعلم وأقدر، قاله زين الدين العراقي. وقال الكرماني: يحتمل أن تكون للاستعانة وأن تكون للاستعطاف كما في قوله: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص: 17] أي: بحق علمك وقدرتك الشاملين، كذا في «عمدة القاري». وقال القاري في «المرقاة»: أي: بسبب علمك، والمعنى أطلب منك أن تشرح صدري (¬1) لخير الأمرين بسبب علمك بكيفيات الأمور وجزئياتها وكلياتها، إذ لا يحيط بخير الأمرين على الحقيقة إلا من هو كذلك كما قال تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]. قال الطيبي: الباء فيهما إما للاستعانة أي أطلب خيرك مستعينًا بعلمك، فإني لا أعلم فيهم خيرك وأطلب منك القدرة، فإنه لا حول ولا قوة إلا بك، وإما للاستعطاف. انتهى مختصرًا. «وأستقدرك» أي: أطلب منك أن تجعل لي قدرة عليه «وأسألك من فضلك العظيم» أي: تعيين الخير وتبيينه وتقديره وتيسيره وإعطاء القدرة لي عليه «اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر» (¬2) أي: الذي يريده. قال الطيبي: معناه اللهم إنك تعلم، فأوقع الكلام موقع الشك على معنى التفويض إليه والرضا بعلمه فيه، وهذا النوع يسميه أهل البلاغة تجاهل العارف ومزج الشك باليقين، يحتمل أن الشك في أن العلم متعلق بالخير أو الشر لا في أصل العلم انتهى. قال القاري: والقول الآخر هو الظاهر وتوقف في جواز الأول بالنسبة إلى اللَّه تعالى «في ديني» أي: فيما يتعلق بديني «ومعيشتي» وقع في رواية البخاري ومعاشي. قال العيني: المعاش والمعيشة واحد يستعملان مصدرًا واسمًا، وفي المحكم العيش الحياة عاش عيشًا وعيشة ومعيشًا ومعاشًا ثم قال: المعيش والمعاش والمعيشة ما يعاش به. انتهى. قال الحافظ: زاد أبو داود ومعادي وهو يؤيد أن المراد بالمعاش الحياة، ويحتمل أن يريد بالمعاش ما يعاش فيه، ولذلك وقع في حديث ابن مسعود عن الطبراني في «الأوسط» ¬

(¬1) سيأتي إن شاء اللَّه تعالى التعليق على انشراح الصدر. (قل). (¬2) في «عون المعبود»: «اللهم إن كنت تعلم: أي: إن كان في علمك». (قل).

في ديني ودنياي، وفي حديث أبي أيوب عند الطبراني في دنياي وآخرتي. انتهى. «وعاقبة أمري أو قال: في عاجل أمري وآجله» هو شك من الراوي، واقتصر في حديث أبي سعيد على عاقبة أمري، وكذا في حديث ابن مسعود وهو يؤيد أحد الاحتمالين: وأن العاجل والآجل مذكوران بدل الألفاظ الثلاثة أو بدل الأخيرين فقط. انتهى. «فيسره لي» وفي رواية البزار عن ابن مسعود فوفقه وسهله «واقدر لي الخير» بضم الدال وكسرها أي يسره عليّ واجعله مقدورًا لفعلي «حيث كان» أي: الخير «ثم أرضني به» بهمزة قطع. وفي رواية: رضني به، كما تقدم. أي اجعلني راضيًا به «يسمى حاجته» «أي: أثناء الدعاء عند ذكرها بالكناية عنها في قوله إن كان هذا الأمر ... ». انتهى من «تحفة الأحوذي». وجاء في «عون المعبود شرح سنن أبي داود» لأبي الطيب شمس الحق العظيم أبادي رحمه اللَّه تعالى (جـ4 ص 398، 399) ما يلي: «قوله: فاقدره لي» أي: اجعله مقدورًا لي أو هيئه ونجزه لي. قال في «النهاية»: القدر عبارة عما قضاه اللَّه وحكم به من الأمر وهو مصدر يقدُر قدرًا، وقد تسكن داله ومنه ليلة القدر التي تقدر فيها الأرزاق وتقضى، ومنه حديث الاستخارة: فاقدره لي. قال ميرك: روي بضم الدال وكسرها ومعناه أدخله تحت قدرتي ويكون قوله: «ويسره لي» طلب التيسير بعد التقدير. وقيل: المراد من التقدير التيسير فيكون ويسره عطفًا تفسيريًا «وبارك لي فيه» أي: أكثر الخير والبركة فيما أقدرتني عليه ويسرته لي «مثل الأول» أي: يقول ما قال في الأول من قوله في ديني ومعاشي ومعادي وعاقبة أمري «فاصرفني عنه» أي: اصرف خاطري عنه حتى لا يكون سبب اشتغال البال. «واصرفه عني» أي: لا تقدر بي عليه «واقدر لي الخير» أي: يسره عليَّ واجعله مقدورًا لفعلي «حيث كان» أي: الخير من زمان أو مكان. وفي رواية النسائي «حيث كنت» وفي رواية البزار: «وإن كان غير ذلك خيرًا فوفقني للخير حيث كان» وفي رواية ابن حبان: «وإن كان غير ذلك خيرًا لي فاقدر لي الخير حيثما كان» وفي رواية له: «أينما كان لا حول ولا قوة إلا باللَّه» «ثم رضني» من الترضية وهو جعل الشخص راضيًا وأرضيت ورضيت بالتشديد بمعنى «به» أي: بالخير، وفي رواية النسائي: «بقضائك»؛ قال ابن الملك: أي اجعلني راضيًا بخيرك المقدور لأنه ربما قدر له ما هو خير له فرآه شرًّا «أو قال في عاجل أمري وآجله».

قال في «المرقاة»: الظاهر أنه بدل من قوله في ديني إلخ. وقال الجزري في «مفتاح الحصن» أو في الموضعين للتخيير أي أنت مخير إن شئت قلت: «عاجل أمري وآجله» أو قلت: «معاشي وعاقبة أمري». قال الطيبي: الظاهر أنه شك في أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في عاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله، وإليه ذهب القوم حيث قالوا: هي على أربعة أقسام خير في دينه دون دنياه، وخير في دنياه فقط، وخير في العاجل دون الآجل وبالعكس وهو أولى والجمع أفضل ويحتمل أن يكون الشك في أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال بدل الألفاظ الثلاثة في عاجل أمري وآجله، ولفظ «في» المعادة في قوله: «في عاجل أمري» ربما يؤكد هذا وعاجل الأمر يشمل الديني والدنيوي والآجل يشملهما والعاقبة. انتهى. قال المنذري: وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه. اهـ من «عون المعبود». ثانيًا: جاء في كتاب «فقه السنة» للشيخ سيد سابق ما يلي: 1 - يُسَنُّ لمن أراد أمرًا من الأمور المباحة، والتبس عليه وجه الخير فيه، أن يصلي ركعتين من غير الفريضة، ولو كانتا من السنن الراتبة أو تحية المسجد، في أي وقت من الليل أو النهار، يقرأ فيهما بما شاء بعد الفاتحة، ثم يحمد اللَّه ويصلي على نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يدعو بالدعاء [السابق ذكره: اللهم إني أستخيرك بعلمك]. 2 - ولم يصح في القراءة فيها شيء مخصوص، كما لم يصح شيء في استحباب تكرارها. 3 - قال النووي: ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح (¬1) له صدره، فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان فيه هوى قبل الاستخارة، بل ينبغي للمستخير ترك اختياره رأسًا، وإلا فلا يكون مستخيرًا لله، بل يكون غير صادق في طلب الخيرة، وفي التبري من العلم والقدرة وإثباتهما لله تعالى، فإذا صدق في ذلك تَبرَّأ من الحول والقوة ومن اختياره لنفسه. 4 - الواجب والمندوب مطلوب الفعل، والمحرم والمكروه مطلوب الترك، ولهذا لا تجري الاستخارة إلا في أمر مباح (¬2). انتهى من «فقه السنة». وجاء في «عون المعبود»: («يعلمنا الاستخارة» أي: طلب تيسر الخير في الأمرين، من الفعل أو الترك، من ¬

(¬1) سيأتي إن شاء اللَّه تعالى في البند ثالثًا التعليق على انشراح الصدر بعد الاستخارة وهل هذا صحيح؟ (قل). (¬2) «فقه السنة» (ج2 ص 67: 69). (قل).

الخير وهو ضد الشر، في الأمور التي نريد الإقدام عليها مباحة كانت أو عبادة، لكن بالنسبة إلى إيقاع العبادة في وقتها وكيفيتها لا بالنسبة إلى أصل فعلها). اهـ. كالحج مثلاً، فإن العبد لا يصلي صلاة الاستخارة في كونه يحج أو لا، لكنه يصلي صلاة الاستخارة في كونه يحج هذا العام أو غيره - عند من يرى وجوب الحج على التراخي لا على الفور - أو أنه يحج عن طريق البر أو البحر أو الجو. ثالثًا: حديث: «إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك فإن الخير فيه». رواه ابن السني، وهو حديث ضعيف، قال النووي: إسناده غريب فيه من لا أعرفهم، وضعفه كل من الألباني في «الكلم الطيب» والأرنؤوط في «الأذكار النووية» وقال الأرنؤوط في «هامش الأذكار النووية» (ص: 102) نقلاً عن ابن حجر عن شيخه: وما ذكره قبل، أنه يمضي لما ينشرح له صدره، كأنه اعتمد فيه على هذا الحديث [أي: حديث السبع مرات السابق] (¬1). وليس بعمدة قد أفتى ابن عبد السلام بخلافه، فلا تتقيد ببعد الاستخارة، بل مهما فعله فالخير فيه. اهـ. رابعًا: لو تعقل المسلمون ما في صلاة الاستخارة لوسعتهم، إذ إ ن الاستخارة هي رأس التوكل على اللَّه سبحانه وتعالى، لذا - واللَّه أعلم - كلما استخار العبد ربه في دقائق الأمور (المباحة) كان العبد أكثر إيمانًا، إذ إن الاستخارة لا ترتبط بالأمور المباحة الكبرى فقط، كالزواج والسفر ونحوه - كما يفعل البعض - بل هي أيضًا تكون في أقل الأمور. جاء في «نيل الأوطار» للشوكاني: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الأمور كلها». دليل على العموم وأن المرء لا يحتقر أمرًا لصغره وعدم الاهتمام به فيترك الاستخارة فيه، فرب أمر يستخف بأمره فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم أو في تركه ... (¬2). انتهى. خامسًا: لم يرد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء في كون المستخير يصلي صلاة الاستخارة ثم ينام حتى يرى رؤيا تكون نتيجة لصلاة الاستخارة، وهناك أمر آخر وهو أن بعض الناس قد يقعون في البدع وهم لا يدرون، فنجد أحدهم إذا أراد أن يعرف الخير، في أمر ما يمسك بالمصحف ويقول: افتح سورة كذا آية كذا أو افتح الصفحة رقم كذا ويختار لنفسه آية، ثم يقول: إن كانت تتكلم عن الجنة أو الخير، فهذا الأمر خير، وإن كانت تتكلم عن النار أو الشر، ¬

(¬1) والذي تبين أنه ضعيف. (قل). (¬2) «نيل الأوطار» (ج / 3) (ص: 352: 356). (قل).

فهذا الأمر شر، وكل هذا من البدع التي لم ترد في الشرع الحنيف. سادسًا: جاء في الأذكار النووية (¬1): وروينا في كتاب الترمذي بإسناد ضعيف ضعفه الترمذي وغيره عن أبي بكر رضي اللَّه عنه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد الأمر قال: «اللهم خر لي واختر لي». انتهى من الأذكار النووية. وهذا - واللَّه أعلم - يمكن الاعتداد به كقول في الأشياء التي يضيق وقتها عن صلاة الاستخارة، كأن تخير بين قبول هديتين في الحال، أو أن تكون أمام دارين لمسلمين، وكل منهما يدعوك للطعام، أو أن تمر من هذا الطريق أو ذاك. سابعًا: ذكر النووي في الأذكار: أنه (يستحب الثناء على اللَّه تعالى والصلاة على نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أول دعاء الاستخارة وفي آخره) وقد ذكرت ذلك إتمامًا للفائدة. ثامنًا: سئل الإمام ابن تيمية رحمه اللَّه عن دعاء الاستخارة، هل يدعو به في الصلاة، أم بعد الصلاة؟ فأجاب: يجوز الدعاء في صلاة الاستخارة وغيرها: قبل السلام، وبعده، والدعاء قبل السلام أفضل، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أكثر دعائه قبل السلام قبل أن ينصرف، وهذا أحسن، واللَّه أعلم (¬2). انتهى. والمقصود بقبل السلام أي بعد التشهد. تنبيه: قال علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: إنما العطية بقدر النية. وعلى هذا فبقدر تجردك لله وتوكلك عليه في صلاة الاستخارة، بقدر ما يكفيك سبحانه وتعالى، ولا يظلم ربك أحدًا. تاسعًا: جاء في «زاد المعاد» لابن القيم تعليقًا على صلاة (دعاء) الاستخارة ما يلي: فتضمن هذا الدعاء الإقرار بوجوده سبحانه وتعالى، والإقرار بصفات كماله من كمال العلم والقدرة والإرادة، والإقرار بربوبيته، وتفويض الأمر إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه والخروج من عُهدة نفسه، والتَّبرِّي من الحول والقوة إلا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه وقدرته عليها وإرادته لها، وأن ذلك كله بيد وليه وفاطره وإلهه الحق. وفي «مسند» أحمد يقول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سعادة ابن آدم استخارة اللَّه ورضاه بما قضى اللَّه، ومن ¬

(¬1) «الأذكار النووية» بتحقيق الأرنؤوط (ص 101). (قل). (¬2) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (ج23 ص: 177). ويمكنك - واللَّه أعلم - أن تدعو بدعاء الاستخارة قبل السلام إذا علمت أن هناك من يشغلك كأولادك، .... ، ..... (قل).

شقاوة ابن آدم ترك استخارة اللَّه وسخطه بما قضى اللَّه» (¬1). فتأمل كيف وقع المقدور مكتنفًا بأمرين: التوكل الذي هو مضمون الاستخارة قبله، والرضا بما يقضي اللَّه له بعده، وهما عنوان السعادة وعنوان الشقاء، فإذا أبرم القضاء وتم انتقلت العبودية إلى الرضا بعده، كما في «المسند» عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وأسألك الرضا بعد القضاء» (¬2) هذا أبلغ من الرضا بالقضاء، فإنه قد يكون عزمًا فإذا وقع القضاء، تنحل العزيمة، فإذا حصل الرضا بعد القضاء، كان حالاً أو مقامًا. والمقصود: أن الاستخارة توكل على اللَّه وتفويض إليه، واستقسام بقدرته وعلمه، وحسن اختياره لعبده، وهي من لوازم الرضا به ربًّا، الذي لا يذوق طعم الإيمان من لم يكن كذلك، وإن رضي بالمقدور بعدها، فذلك علامة سعادته (¬3). انتهى. فائدة: ذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي رحمه اللَّه تعالى قال: قال موسى عليه السلام: يا رب أي خلقك أكرم عليك؟ قال: الذي لا يزال لسانه رطبًا بذكري، قال: يا رب، فأي خلقك أعلم؟ قال: الذي يلتمس إلى علمه علم غيره، قال: يا رب، أي: خلقك أعدل؟ قال: الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس، قال: يا رب: أي: خلقك أعظم ذنبًا؟ قال: الذي يتهمني. قال: يا رب، وهل يتهمك أحد؟ قال: الذي يستخيرني ولا يرضى بقضائي. * * * ¬

(¬1) قال الأرنؤوط: ... ومع ذلك فقد حسنه الحافظ في «الفتح». (قل). (¬2) صحيح - وأخرجه النسائي والحاكم وانظر «صحيح الجامع». (قل). (¬3) «زاد المعاد» لابن القيم رحمه اللَّه (ج2 ص: 444: 445).

الفصل العاشر: بحث خاص برفع اليدين في الدعاء

الفصل العاشر: بحث خاص برفع اليدين في الدعاء عن أنس بن مالك قال: «كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، وإنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه» رواه البخاري. جاء في «فتح الباري» (جـ2 ص 602): (قوله: «إلا في الاستسقاء» ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء، وهو معارض بالأحاديث الثابتة بالرفع في غير الاستسقاء وقد تقدم أنها كثيرة، وقد أفردها المصنف بترجمة قي كتاب «الدعوات» وساق فيها عدة أحاديث، فذهب بعضهم إلى أن العمل بها أولى، وحمل حديث أنس على نفي رؤيته، وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره. وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس المذكور لأجل الجمع بأن يحمل النفي على صفة مخصوصة أمَّا الرفع البليغ فيدل عليه قوله: «حتى يرى بياض إبطيه» ويؤيده أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد به مد اليدين وبسطهما عند الدعاء، وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعهما إلى جهة وجهة حتى حاذتاه وبه حينئذ يرى بياض إبطيه، وأما صفة اليدين في ذلك فلما رواه مسلم من رواية ثابت عن أنس «أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء» ولأبي داود من حديث أنس أيضًا: «كان يستسقى هكذا ومد يديه - وجعل بطونهما مما يلي الأرض - حتى رأيت بياض إبطيه». قال النووي: قال العلماء: السنة في كل دعاء لرفع البلاء أن يرفع يديه جاعلاً ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله أن يجعل كفيه إلى السماء. انتهى. وقال غيره: الحكمة في الإشارة بظهور الكفين في الاستسقاء دون غيره للتفاؤل بتقلب الحال ظهرًا لبطن كما قيل في تحويل الرداء، أو هو إشارة إلى صفة المسئول وهو نزول السحاب إلى الأرض). اهـ. وجاء في «الفتح» (جـ 11 ص 146، 147): باب رفع الأيدي في الدعاء: وقال أبو موسى الأشعري: دعا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم رفع يديه ورأيت بياض إبطيه. وقال ابن عمر: رفع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد». قال أبو عبد اللَّه: وقال الأُويسي حدثني محمد بن جعفر عن يحيي بن سعيد وشريك سمعا أنسًا «عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه».

قوله: (باب رفع الأيدي في الدعاء) أي: على صفة خاصة. وفي الحديث الأول رد من قال لا يرفع كذا إلا في الاستسقاء، بل فيه وفي الذي بعده رد على من قال لا يرفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء أصلاً، وتمسك بحديث أنس: «لم يكن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء» وهو صحيح، لكن جمع بينه وبين أحاديث الباب وما في معناها بأن المنفي صفة خاصة لا أصل الرفع وقد أشرت إلى ذلك في أبواب الاستسقاء (¬1)، وحاصله أن الرفع في الاستسقاء يخالف غيره إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في حذو الوجه مثلاً وفي الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يعكر على ذلك أنه ثبت في كل منهما «حتى يرى بياض إبطيه» بل يجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره، وإما أن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض وفي الدعاء يليان السماء. قال المنذري: وبتقدير تعذر الجمع فجانب الإثبات أرجح. قلت: ولا سيما مع كثرة الأحاديث الواردة في ذلك، فإن فيه أحاديث كثيرة أفردها المنذري في جزء سرد منها النووي في «الأذكار» وفي «شرح المهذب» جملة. وعقد لها البخاري أيضًا في «الأدب المفرد» بابًا ذكر فيه حديث أبي هريرة: «قدم الطفيل بن عمرو على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن دوسًا عصت فادع اللَّه عليها، فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال: اللهم اهد دوسًا» وهو في «الصحيحين» دون قوله «ورفع يديه»، وحديث جابر: «أن الطفيل بن عمرو هاجر»، فذكر قصة الرجل الذي هاجر معه، وفيه: «فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم وليديه فاغفر ورفع يديه». وسنده صحيح، وأخرجه مسلم. وحديث عائشة أنها: «رأت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو رافعًا يديه يقول: اللهم إنما أنا بشر» الحديث، وهو صحيح الإسناد. ومن الأحاديث الصحيحة في ذلك ما أخرجه المصنف في «جزء رفع اليدين»: «رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رافعًا يديه يدعو لعثمان»، ولمسلم من حديث عبد الرحمن بن سمرة في قصة الكسوف «فانتهيت إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو رافع يديه يدعو»، وعنده في حديث عائشة في الكسوف أيضًا «ثم رفع يديه يدعو»، وفي حديثها عنده في دعائه لأهل البقيع «فرفع يديه ثلاث مرات» الحديث، ومن حديث أبي هريرة الطويل في فتح مكة «فرفع يديه وجعل يدعو»، وفي «الصحيحين» من حديث أبي حميد في قصة ابن اللتبية: «ثم رفع يديه حتى رأيت عفرة إبطيه يقول: اللهم هل بلغت»، ومن حديث عبد اللَّه بن عمرو «أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر قول إبراهيم وعيسى فرفع يديه وقال: اللهم أمتي»، وفي حديث عمر «كان رسول اللَّه ¬

(¬1) أي ما تقدم في شرح الحديث السابق. (قل).

- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل، فأنزل اللَّه عليه يومًا، ثم سرى عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه ودعا». الحديث أخرجه الترمذي، واللفظ له، والنسائي والحاكم، وفي حديث أسامة «كنت ردف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته فسقط خطامها، فتناوله بيده وهو رافع اليد الأخرى». أخرجه النسائي بسند جيد، وفي حديث قيس بن سعد عند أبي داود «ثم رفع رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وهو يقول: اللهم صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة» الحديث وسنده جيد. والأحاديث في ذلك كثيرة: وأما ما أخرجه مسلم من حديث عمارة بن رو يبة - براء وموحدة مصغر - أنه «رأى بشر بن مروان يرفع يديه، فأنكر ذلك وقال: لقد رأيت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما يزيد على هذا يشير بالسبابة» فقد حكى الطبري عن بعض السلف أنه أخذ بظاهره وقال: السنة أن الداعي يشير بإصبع واحدة، ورده بأنه إنما ورد في الخطيب حال الخطبة، وهو ظاهر في سياق الحديث فلا معنى للتمسك به في منع رفع اليدين في الدعاء مع ثبوت الأخبار بمشروعيتها، وقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه وغيرهما من حديث سلمان رفعه «إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صِفْرًا» بكسر المهملة وسكون الفاء أي خالية، وسنده جيد. قال الطبري: وكره رفع اليدين في الدعاء ابن عمر وجبير بن مطعم. وأما ما نقله الطبري عن ابن عمر فإنما أنكر رفعهما إلى حذو المنكبين، وقال: ليجعلهما حذو صدره، كذلك أسنده الطبري عنه أيضًا. وعن ابن عباس أن هذا صفة الدعاء. وأخرج أبو داود والحاكم عنه من وجه آخر قال: المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمد يديك جميعًا. وأخرج الطبري من وجه آخر عنه قال: يرفع يديه حتى يجاوز بهما رأسه. وقد صح عن ابن عمر خلاف ما تقدم أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» من طريق القاسم بن محمد «رأيت ابن عمر يدعو عند القاص يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه باطنهما مما يليه وظاهرهما مما يلي وجهه»). انتهى من «الفتح».

قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا سألتم اللَّه تعالى فاسألوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها». صحيح (د) عن مالك بن يسار السكوني. (هـ، طب، ك) عن ابن عباس وزاد: «وامسحوا بها وجوهكم». «الصحيحة» (595)، «صحيح أبي داود» (1335). قال الألباني - أثابه اللَّه تعالى - بعد ذكر الحديث، كما في «صحيح الجامع» تعليقًا على الزيادة الضعيفة: «وامسحوا بها وجوهكم»: قلت: هذه الزيادة واهية جدًّا، ولذلك قال العز بن عبد السلام: (لا يمسح وجهه إلا جاهل). وبيان ذلك في «الصحيحة». اهـ. وجاء في «فيض القدير» للمناوي رحمه اللَّه تعالى: («إذا سألتم اللَّه تعالى» جلب نعمة «فاسألوه ببطون» قال الطيبي: الباء للآلة ويجوز كونها للمصاحبة كما مر «أكفكم» لا بظهورها فإنه غير لائق بالأدب ولذلك زاد الأمر تأكيدًا بتصريحه بالنهي عن ضده، فقال: «ولا تسألوه بظهورها» وذلك لأن من عادة من طلب شيئًا من غيره أن يمد بطن كفيه إليه ليضع النائل فيها كما مر ولأن أصل شرعية الدعاء إظهار الانكسار بين يدي الجبار والثناء عليه بمحامده والاعتراف بغاية الذلة والمسكنة وذلك ابتهال قولي ولا بد في كمال إظهار الانكسار والافتقار من ضم الابتهال الفعلي إليه، وذلك بمد بطن الكف على سبيل الضراعة إليه ليصير كالسائل المتكفف لأن يملأ كفه بما يسد به حاجته ولا ينافيه خبر أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقي وأشار بظهر كفه إلى السماء لأن معناه رفعها رفعًا تامًّا حتى ظهر بياض إبطيه وصارت كفاه محاذيتين لرأسه ملتمسًا إلى أن يغمره برحمته وذلك لمساس الحاجة إلى الغيث عن الجدب {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28] أما لو دعى بدفع نقمة فبظهورها كما في أخبار كثيرة). اهـ. عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: «المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك والاستغفار أن تشير بأصبع واحد، والابتهال أن تمد يديك جميعًا». صحيح رواه أبو داود - «صحيح أبي داود» (1338 - 1340)، الضياء كذا في «صحيح الجامع». جاء في «عون المعبود» (جـ4 ص 360، 361): («قال المسألة» مصدر بمعنى السؤال والمضاف مقدر ليصح الحمل أي آدابها «أن

ترفع يديك حذو منكبيك» أي: قريبًا منهما لكن إلى ما فوق «والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة». قال الطيبي: أدب الاستغفار الإشارة بالسبابة سبًا للنفس الأمَّارة والشيطان والتعوذ منهما، وقيده بواحدة لأنه يكره الإشارة بإصبعين لما روي أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يشير بهما فقال له: أحِّد أحد (¬1) «والابتهال» أي: التضرع والمبالغة في الدعاء في دفع المكروه عن النفس أدبه «أن تمد يديك جميعًا» أي: حتى يرى بياض إبطيك. قال الطيبي: ولعله أراد بالابتهال دفع ما يتصوره من مقابلة العذاب ليجعل يديه الترس ليستره عن المكروه). اهـ من «عون المعبود». وجاء في (ب - ف): «حذو منكبيك: أي: أمامه وإزاءه. والابتهال: أي: التضرع والمبالغة في السؤال». فائدة: في الدعاء رضا رب الأرض والسماء: قال المناوي رحمه اللَّه تعالى تعليقًا على الحديث المتقدم: «من لم يسأل اللَّه تعالى يغضب عليه»: (قوله: «من لم يسأل اللَّه تعالى» أي: يطلب من فضله «يغضب عليه» لأنه إما قانط، وإما متكبر، وكل واحد من الأمرين موجب الغضب، قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60] أي: عن دعائي فهو سبحانه يحب أن يسأل وأن يلح عليه، ومن لم يسأله يبغضه والمبغوض مغضوب عليه، قال ابن القيم: هذا يدل على أن رضاه في مسألته وطاعته (¬2)، وإذا رضي الرب تعالى فكل خير في رضاه، كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه، والدعاء عبادة، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، فهو تعالى يغضب على من لم يسأله كما أن الآدمي يغضب على من يسأله. فشتان ما بين هذين، وسحقًا لمن علق بالأثر وأبعد عن العين، قال الحليمي: وإذا كان هكذا فما ينبغي لأحد أن يخلي يومًا وليلة من الدعاء، لأن الزمن يوم وليلة وما وراءهما تكرار، فإذا كان ترك الدعاء أصلاً يوجب الغضب فأدنى ما في تركه يوم وليلة أن يكون مكروهًا). اهـ. * * * ¬

(¬1) قاله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسعد - صحيح - رواه أحمد عن أنس - انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬2) وسخطه في الاستغناء عنه ومعصيته. (قل).

الفصل الحادي عشر: ختامه مسك

الفصل الحادي عشر: ختامه مسك عن أُبي بن كعب قال: «كان رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا ذهب ربع الليل؛ قام فقال: يا أيها الناس! اذكروا اللَّه (اذكروا اللَّه)، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه - قال أُبي بن كعب - قلت: يا رسول اللَّه، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت، قلت: الربع؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير، قلت النصف؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير، قلت: الثلثين؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير، قلت: أجعل لك صلاتي كلها، قال: إذًا تُكْفَى همَّك، ويغفر لك ذنبُك». [أخرجه الترمذي (2457)، وأحمد في «المسند»، وإسناده حسن، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي - كذا قال الأرنؤوط]. جاء في «تحفة الأحوذي» (جـ7 ص 170، 171): (قوله: «يا أيها الناس» أراد به النائمين من أصحابه الغافلين عن ذكر اللَّه ينبههم عن النوم ليشتغلوا بذكر اللَّه تعالى والتهجد «جاءت الراجفة تتبعها الردافة» قال في «النهاية»: الراجفة النفخة الأولى التي يموت لها الخلائق، والرادفة النفخة الثانية التي يحيون لها يوم القيامة، وأصل الرجف الحركة والاضطراب انتهى. وفيه إشارة إلى قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} [النازعات: 6]، وعبر بصيغة الماضي لتحقق وقوعها فكأنها جاءت، والمراد أنه قارب وقوعها فاستعدوا لتهويل أمرها «جاء الموت بما فيه» أي: ما فيه من الشدائد الكائنة في حالة النزع والقبر وما بعده «جاء الموت بما فيه» التكرار للتأكيد، «إني أكثر الصلاة عليك» أي: بدل دعائي الذي أدعو به لنفسي قاله القاري. وقال المنذري في «الترغيب»: معناه أكثر الدعاء فكم أجعل لك من دعائي صلاة عليك «قال ما شئت» أي: أجعل مقدار مشيئتك «قلت: الربع» بضم الباء وتسكن أي: أجعل ربع أوقات دعائي لنفسي مصروفًا للصلاة عليك، «فقلت: ثلثي» هكذا في بعض النسخ بحذف النون، وفي بعضها فالثلثين وهو الظاهر، «قلت: أجعل لك صلاتي كلها» أي: أصرف بصلاتي عليك جميع الزمن الذي كنت أدعو فيه لنفسي «قال: إذًا» بالتنوين «تكفى» مخاطب

مبني للمفعول «همك» مصدر بمعنى المفعول وهو منصوب على أنه مفعول ثان تكفى؛ فإنه يتعدى إلى مفعولين، والمفعول الأول المرفوع بما لم يسم فاعله وهو أنت، والهم ما يقصده الإنسان من أمر الدنيا والآخرة، يعني إذا صرفت جميع أزمان دعائك في الصلاة عليَّ أُعْطِيْتَ مرام الدنيا والآخرة. قال القاري: وللحديث روايات كثيرة. وفي رواية قال: إني أصلي من الليل بدل أكثر الصلاة عليك فعلى هذا قوله فكم أجعل لك من صلاتي أي بدل صلاتي من الليل انتهى). انتهى من «تحفة الأحوذي». قلت: فإذا صلى المصلي عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الليل فقد جمع بين الروايتين [مع مراعاة أن صلاة الليل تبدأ بعد صلاة العشاء] حبذا بعد النوم. قال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} [الإسراء: 79]: (فإذن التهجد ما كان بعد نوم، وهو المعروف في لغة العرب، وكذلك ثبتت الأحاديث عن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يتهجد بعد نومه. وقال الحسن البصري: هو ما كان بعد العشاء، ويحمل على ما كان بعد نوم) (¬1). اهـ. وبصفة عامة فالصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستحبة في كل وقت، في الليل والنهار، فإن كانت داخل الصلاة عوضًا عن الدعاء ولا يكون هذا إلا في السجود، وبعد التشهد الأخير خاصة عند من يرى أن دبر الصلاة قبل التسليم، فهذان من مواطن الدعاء بصفة عامة في الصلاة - فإن ذلك {نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء} [النور: 35] مع مراعاة أن الأدعية المخصوصة في الصلاة - المخصوصة كدعاء الاستخارة في صلاة الاستخارة - لا تكون في السجود، وإنما تكون في نهاية الصلاة سواء كان ذلك قبل التسليم أو بعد التسليم، أما صلاة الحاجة فليس لها دعاء مخصوص، لكن موطن الدعاء فيها قبل التسليم أو بعده أيضًا. قال ابن القيم رحمه اللَّه تعالى: وسئل شيخنا أبو العباس ابن تيمية - رضي اللَّه عنه - عن تفسير هذا الحديث، فقال: كان لأُبي بن كعب دعاء يدعو به لنفسه، فسأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هل يجعل له منه ربعه صلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟» فقال: إن زدت فهو خير لك، فقال له: النصف؟ فقال: إن زدت فهو خير لك، إلى أن قال: أجعل لك صلاتي، أي أجعل ¬

(¬1) قاله علقمة والأسود وإبراهيم النخعي وغير واحد. اهـ. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك. (قل).

دعائي كله صلاة عليك، قال: إذًا تكفى همك، ويغفر لك ذنبك؛ لأن من صلى على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة صلى اللَّه عليه بها عشرًا، ومن صلى الله عليه كفاه همه، وغفر له ذنبه، هذا معنى كلامه - رضي اللَّه عنه - ... ). اهـ.

فوائد: قلتُ - واللَّه أعلم: 1 - فرق بين الصلاة على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا عند ذكر اسمه، والصلاة عليه صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا عوضًا عن الدعاء، ربعه أو نصفه، أدنى من ذلك أو أكثر، حتى يكون عوضًا عن الدعاء كله. 2 - الدعاء قسمان: داخل الصلاة وخارج الصلاة، والصلاة على النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم تسليمًا أيضًا قسمان: داخل الصلاة وخارج الصلاة، ففي صلاة التوبة وصلاة الحاجة مثلاً تقوم الصلاة على النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم تسليمًا مقام الدعاء، ولا تقوم نفس المقام في صلاة الاستخارة، أعني دعاء الاستخارة؛ لأنه دعاء مأثور مخصوص، لكن تستحب الصلاة على النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم تسليمًا في

أول الدعاء وآخره، فمن صلى على النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم تسليمًا خارج الصلاة كأنه دعا اللَّه تعالى خارج الصلاة، ومن صلى على النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم تسليمًا داخل الصلاة كأنه دعا اللَّه تعالى داخل الصلاة. 3 - مراتب الدعاء والصلاة والسلام على خير الأنبياء صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم تسليمًا: الترتيب من الأدنى للأعلى: أ- دعاء بغير وضوء. ب- دعاء بوضوء. جـ- دعاء في الصلاة. أ- صلاة عليه صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا [بغير وضوء]. ب- صلاة عليه صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا [بوضوء] جـ- صلاة عليه صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا [في صلاة]. 4 - الصلاة على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا لا تقوم مقام الأدعية المأثورة المخصوصة، كدعاء الاستفتاح، والتسبيح في الركوع والسجود، والدعاء بين السجدتين، ودعاء التعوذ من أربع في التشهد الأخير، ودعاء القنوت، لكنها تستحب بعد أذكار السجود عوضًا عن الدعاء، وآخر القنوت في نهاية الدعاء على نحو ما مر في آداب الدعاء. 5 - خير القصص القصص المأثورة، لكني أضرب بعض الأمثلة الحاضرة دفعًا للهمم وتثبيتًا للقلوب: الأولى: أعطى رجل مركبته (سيارته) - وهي من أغلى المركبات في هذا العصر - لصاحبه فسرقت، فلما علم بذلك حمد اللَّه تعالى واسترجع، وأعطى مالاً كثيرًا في كثير من الجهات من أجل العثور عليها فلم ينجح، فسألني (¬1): ماذا يفعل؟ فدللته على حديث أبيّ، خاصة آخر مرحلة فيه «أجعل لك صلاتي كلها» أي: كما تقدم: أصرف بصلاتي عليك جميع الزمن الذي كنت أدعو فيه لنفسي، وبمعنى آخر أجعل دعائي كله صلاة عليك كما قال شيخ الإسلام، فأخبرني الرجل بعد أسبوع قائلاً: مكثت ليلة كاملة أصلي على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا، وفي صبيحة تلك الليلة في الساعة السادسة صباحًا أرسل اللَّه إليّ المركبة بحوله وقوته سبحانه، ثم قال: إن السارقين قاموا بفك أجزاء تسع وتسعين مركبة سرقوها، إلا هذه المركبة، فإنهم لم يقتربوا منها، بل تركوها بعد أيام في الطريق وأخذوا واحدة غيرها كما صرحوا بذلك هم أنفسهم بعد أن فضح اللَّه أمرهم. وهنا أنبه إلى أنه لا تشترط ليلة كاملة أو ساعات كثيرة من ليل أو نهار حتى تؤتي ¬

(¬1) لأنه كان يبحث هنا وهناك، عن من يدله على مخرج شرعي، بعيدًا عن الظلمات. (قل).

الصلاةُ عليه صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا أكُلَها، وإنما المعوّل عليه: صدق الالتجاء إلى اللَّه تعالى، وحسن الظن به، والثقة التامة في قوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا: «إذًا تكفى همك، ويغفر لك ذنبُك» مع كثرةٍ لا تشغلك عن العلم إن كنت من العلماء، وكأن لسان حالك يقول في نهاية الصلاة عليه صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا: اللهم إني أجتزئُ بذلك - أي أرى ذلك كافيًا - غير مستبدل بالصلاة على نبيك صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا ولا راغب عنها، وليكن هذا المعنى راسخًا عندك دائمًا في نهاية كل عبادة تقوم بها. الثانية: أخبرني نفس الرجل السابق - بعد أن ذاق حلاوة تلك العبادة، وبالتالي وجد حلاوتها في المرة الثانية - أنه أراد القيام بتجارة مع صاحبين له، ولم يكن معه ما يكفي لإتمام حصته من هذه التجارة فقال: (كنت مع صاحب لي منذ أربع سنوات في بلد أجنبي دللته - كصاحب لي - على شركة يبيع لها بعض السلع لوجه اللَّه تعالى، حيث أتمنى لصاحبي ما أتمناه لنفسي، فلما ضاقت بي السبل من أجل إتمام هذه التجارة، مكثت أصلي على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا حيث أراني اللَّه تعالى حلاوة هذه العبادة، وكان صاحبي هذا معي دائمًا قلما يمر أسبوع لا أراه فيه، فلما انتهيت من تلك العبادة المباركة التي كنت قد رأيت أثرها في المرة الأولي؛ بإعادة اللَّه تعالى المركبة إليّ - اتصل بي صاحبي هذا وقال لي: تذكر يوم كذا وكذا، يوم أن دللتني على شركة أبيع لها بعض السلع؟ إن لك عندي مكافأة على ذلك لا تنقص من محبتي لك، وأرسل لي خمسين ألفًا من الجنيهات. وقد بدأت بهاتين القصتين لأنهما كانتا أولاً، وكان لهما أثر في القصص التي تأتي بعدهما، مع مراعاة أنه ينبغي لمن يدعو إلى اللَّه تعالى ألا يفرق بين الغني والفقير، كما قيل: (من تواضع لغني من أجل غناه فقد ذهب ثلثا دينه)، فلا تلبي دعوة الغني وتترك دعوة الفقير، ولا تحسن الإصغاء لكلام الغني، وتهمل كلام الفقير، ولا ترقِ طفل الغني بإقبال وخشوع، وتعرض بقلبك عن طفل الفقير، فكلنا من آدم عليه السلام، وآدم من تراب. الثالثة: رجل عامي استمع لتلكما القصتين السابقتين، أتاه رجل في حانوته الذي يبيع فيه يشكو إليه، بعد حمد اللَّه تعالى - غياب ولده الصغير عن البيت منذ عشرين يومًا، وقد أعيته الحيلة، حتى إنه أعلن عن غياب ولده في الجهاز الذي - يا حسرةً على العباد - قد غزا كثيرًا من البيوت، قال صاحب الحانوت: فقلت له - أي بالعامية - أتعرف آخر جزء في التشهد - أي الصلاة الإبراهيمية - اللهم صلِّ على محمد .... ؟ عليك بها، وعاد الرجل في آخر اليوم ضاحكًا مستبشرًا وهو يقول لي: بعد أن تركتك، مكثت ساعة

كاملة أصلي على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا، فأرسل اللَّه لي ولدي بعد ثلاث ساعات. رابعًا: كنت أخطب الجمعة، وكان موضوع الخطبة (أدعية الكرب في الكتاب والسنة)، وذكرت أدعية الهم والكرب الواردة في الجزء الرابع من «زاد المعاد» بشيء من التفصيل (¬1)، مع ما فتح اللَّه عليّ به، وفي نهايتها تكلمت عن فضل الصلاة على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا، وأنها تدخل في هذا الباب، وذكرت القصص الثلاثة السابقة بعد بيان كيفية الصلاة عليه صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا، مرت خطبة أخرى، ثم بعد صلاة الجمعة من الخطبة التي تليها قال لي رجل: (إنه وأخته منذ عشر سنوات، لا يتم لهما زواج، بل كلما هبت رياح زواج كل واحد منهما توقفت؛ قال: فلما استمعت إلى خطبة الجمعة، ظللت أصلي على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا من المسجد إلى البيت، وأخبرت أختي، ومكثت أنا وأختي ثلاثة أيام نصلي على النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا - أي: يكثران من ذلك، كلٌّ في الوقت الذي يريده، ولا عبرة بتحديد العدد هنا، فتحديد العدد في أية عبادة لا يكون إلا بنص - ثم قال لي: إن أخته تزوجت منذ ثلاثة أيام، وهو قد يسر له أمر الزواج، ورأى امرأة صالحة من بيت صالح، وسيتم الزواج قريبًا إن شاء اللَّه تعالى. الخامسة: إني لأعرف من يقول: وقعت لي أمور، لا أستطيع أن أفصح عنها، جزء منها خاص بجلب نفع، والآخر خاص بدفع ضر، فكنت أجمع بين تلاوة القرآن، والصلاة على خير الأنام صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا، فأصلي صلاة التوبة مع طول القيام، وفي دبرها - قبل التسليم أو بعده - أكثر من الصلاة والسلام على خير الأنام صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا، ثم أصلي صلاة الحاجة - مراعيًا قوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا: «أفضل الصلاة طول القنوت» أي: القيام (رواه مسلم) وفي دبرها، أكثر من الصلاة والسلام على خير الأنام صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا، فببركة القرآن، والصلاة والسلام على خير الأنام صلى اللَّه عليه وآله وسلم تسليمًا، وجعلهما في صلاة، رأيت التيسير من اللَّه تعالى، وما لم يتحقق منها أرى نفسي بين يدي رب الأرض والسماء، كالميت بين يدي الغسال يقلبه كيف يشاء، وكأن قلبي يردد دعاء عمر بن عبد العزيز: أحبُه إليه - أي سبحانه - أحبه إليّ ¬

(¬1) وقد تقدم كثير منها. (قل).

خاتمة:

وما أعظم قول القائل: إذا كنت في ضيق وهم وفاقةٍ ... وأمسيت مكروبًا وأصبحت في حرج فصل على المختار من آل هاشم ... كثيرًا فإن اللَّه يأتيك بالفرج اللهم صلِّ عليه وعلى آله وسلم تسليمًا. خاتمة: وهنا نقطة أنبه عليها: وهي أن القرآن عون على أمور الآخرة والأولى، فإنك ترى بركة القرآن في حفظ الوقت والتسديد، أما من ناحية حفظ الوقت، فقد غفل كثير من الناس عن معرفة أن الوقت رزق، يسوقه اللَّه تعالى كالغيث حيث شاء، ولا يعطيه إلا لمن يشاء، وكما في الأثر: «ما من مسلم يضن - أي يبخل - بنفقة في سبيل اللَّه، إلا جعله اللَّه تعالى ينفق أضعاف أضعافها فيما يسخط اللَّه» ولقد جربنا نحن وغيرنا أن الإنسان إذا ضن بوقت القرآن شُغل من حيث لا يدري بزائر صحبته كوجع الضرس، أو بغيره من الأمور الصارفة، وأما من ناحية التسديد، فالعلوم الشرعية كسائر العلوم تحتاج إلى بحث وتنقيب، فقد تجد ما تبحث عنه - بفضل اللَّه تعالى - في دقائق، وقد لا تصل إلى ذلك إلا في ساعات طوال، كمسألة الحساب عند مفكري الحساب، قد تصل إلى حلها في خمس دقائق، وقد تمكث ليلة دون أن تصل إلى شيء {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. وهنا تظهر نعمتا حفظ القرآن، واغتنام الأوقات، فقد يحفظ الإنسان القرآن، ولكنه لا يغتنم الأوقات، فيمكنك أن تقرأ وردك في الطريق إلى المسجد وغيره، وعند صعود السلم والنزول منه، وأثناء ركوب الدابة - خاصة من يقودها - وعند قيامك بعمل يدوي لا يحتاج إلى تدبر، وعندما ينطفئ المصباح، فهذه الأوقات قد تكون ميتة لغير حافظ القرآن، خاصة عند المشتغلين بدراسة العلوم الشرعية، نَعم قد تشغل هذا الوقت بالذكر كالتسبيح وغيره، أو بالاستماع لشريطٍ نافعٍ أثناء ركوب الدابة، لكن وردك من القرآن ظل باقيًا كما هو لم يتزحزح. * * *

الباب السابع: حكم الإسلام في الغناء

الباب السابع: حكم الإسلام في الغناء قال اللَّه تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 6، 7]. جاء في كتاب «إغاثة اللهفان» (¬1) لابن القيم رحمه اللَّه ما مختصره: قال ابن القيم رحمه اللَّه: ومن مكايد عدو اللَّه (إبليس) ومصايده، التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصدية (¬2) والغناء بالآلات المحرمة، الذي يصدُّ القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان. فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنى، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها مكرًا منه وغرورًا، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجورًا. قال الإمام أبو بكر الطرطوشي في خطبة كتابه، في تحريم السماع: الحمد لله رب العالمين ... 1 - أما مالك: فإنه نهى عن الغناء، عن استماعه، وقال: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية! كان لها أن يردها بالعيب. وسئل مالك رحمه اللَّه عمَّا يرخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: إنما يفعله عندنا الفساق. 2 - قال: وأما أبو حنيفة: فإنه يكره الغناء، ويجعله من الذنوب. وكذلك مذهب أهل الكوفة: سفيان، وحماد، وإبراهيم، والشعبي وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك، ولا نعلم خلافًا أيضًا بين أهل البصرة في المنع منه. قلت: مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال، وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار، والدف، حتى الضرب بالقضيب وصرحوا بأنه معصية، يوجب الفسق، وترد به الشهادة، وأبلغ من ذلك أنهم قالوا: إن ¬

(¬1) «إغاثة اللهفان» (ص: 224: 267) وأيضًا تحقيق هذه الصفحات في كتيب مستقل «حكم الإسلام في الغناء» مع مراعاة أن ما قمت بحذفه لا يتصل بالأحكام الفقهية. (قل). (¬2) المكاء: الصغير بالفم أو تشبيك الأصابع والنفخ فيها. التصدية: التصفيق.

السماع فسق، والتلذذ به كفر، هذا لفظهم ورووا حديثًا لا يصح رفعه. قالوا: ويجب عليه أن يجتهد في ألا يسمعه إذا مر به، أو كان في جواره. وقال أبو يوسف: في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي: أدخل عليهم بغير إذنهم، لأن النهي عن المنكر فرض، فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض. قالوا: ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره، فإن أصرَّ حبسه أو ضربه سياطًا، وإن شاء أزعجه عن داره (¬1). 3 - وأما الشافعي: فقال في كتاب «أدب القضاء»: إن الغناء لهو مكروه، يشبه الباطل والمحال، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته. وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا على من نسب إليه حله، كالقاضي أبي الطيب الطبري، والشيخ أبي إسحاق والصباغ. قال الشيخ أبو إسحاق في «التنبيه»: ولا تصح - يعني الإجارة (¬2) - على منفعة محرمة، كالغناء والزَّمر، وحمل الخمر، ولم يذكر فيه خلافًا. وقال في «المهذب»: ولا يجوز على المنافع المحرمة، لأنه محرم، فلا يجوز أخذ العوض عنه كالميتة والدم. فقد تضمن كلام الشيخ أمورًا: أحدها: أن منفعة الغناء بمجرده محرمة. الثاني: أن الاستئجار عليها باطل. الثالث: أن أكل المال به أكل مال بالباطل، بمنزلة أكله عوضًا عن الميتة والدم. الرابع: ألا يجوز للرجل بذل ماله للمغني، ويحرم عليه ذلك، فإنه بذل مال في مقابلة محرم، وإن بذله في ذلك كبذله في مقابلة الدم والميتة. الخامس: أن الزَّمر حرام، وإذا كان الزمر - الذي هو أخف آلات اللهو - حرامًا فكيف بما هو أشد منه؟ كالعود، والطنبور، واليراع. ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك، فأقل ما فيه: أنه شعار الفساق وشاربي الخمور. وكذلك قال أبو زكريا النووي في روضته: القسم الثاني: أن يغني ببعض آلات الغناء، بما هو من شعار شاربي الخمر، وهو ¬

(¬1) أي: طرده منها. (¬2) الإجارة: الجزاء على العمل.

مطرب كالطنبور (¬1) والعود، والصنج (¬2) وسائر المعازف، والأوتار. يحرم استعماله واستماعه. قال: وفي اليراع وجهان: صحح البغوي التحريم. ثم ذكر عن الغزالي الجواز، قال: والصحيح تحريم اليراع وهو الشَّبَّابة. وقد صنف أبو القاسم الدولعي كتابًا في تحريم اليراع. وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع، الذي جمع الدف والشبابة، والغناء، فقال في «فتاويه»: وأما إباحة هذا السماع وتحليله، فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت، فاستماع ذلك حرام، عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين. ولم يثبت عن أحد - ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف - أنه أباح هذا السماع، والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل في الشبابة منفردة، والدف منفردًا، فمن لا يحصِّل، ولا يتأمل، ربما اعتقد خلافًا بين الشافعيين في هذا السماع الجامع هذه الملاهي، وذلك وهم بيِّن من الصائر إليه تنادي عليه أدلة الشرع والعقل، مع أنه ليس كل خلاف يُستروح إليه، ويعتمد عليه، ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء، وأخذ بالرخص من أقاويلهم، تزندق أو كاد. قال: وقولهم في السماع المذكور: إنه من القربات والطاعات قول مخالف لإجماع المسلمين، ومن خالف إجماعهم فعليه ما في قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. وأطال الكلام في الرد على هاتين الطائفتين اللتين هما بلاء الإسلام منهما، المحللون لما حرم اللَّه، والمتقربون إلى اللَّه بما يباعدهم عنه. والشافعي وقدماء أصحابه، والعارفون بمذهبه: من أغلظ الناس قولاً في ذلك. وقد تواتر عن الشافعي أنه قال: خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير - يعني الضرب بالقضيب على المخدة من الجلود حتى يطير الغبار، وكان الصوفية يفعلون ذلك مع إنشادهم الأشعار الملحنة -، يصدون به الناس عن القرآن. فإذا كان هذا قوله في التغبير وتعليله: أنه يصد عن القرآن، وهو شعر يزهد في الدنيا، يغني به مغن، فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع - يعني بساط من الأديم ¬

(¬1) الطنبور: ذكر أهل العلم أن معنى الطنبور آلة الحمل لأنه يشبهها، فعلى هذا فهو العود الإفرنجي، واللَّه أعلم. (¬2) الصنج: آلة بأوتار يضرب عليها.

أي الجلد - أو مخدة على توقيع غناه، فليت شعري ما يقول في سماع التغبير عنده كتفلة في بحر، قد اشتمل على كل مفسدة، وجمع كل محرم، فاللَّه بين دينه وبين كل متعلم مفتون، وعابد جاهل. قال سفيان بن عيينة: كان يقال: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون. ومن تأمل الفساد الداخل على الأمة وجده من هذين المفتونين. فصل 4 - وأما مذهب الإمام أحمد، فقال عبد اللَّه ابنه: سألت أبي عن الغناء؟ فقال: الغناء ينبت النفاق في القلب ولا يعجبني. ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق. قال أحمد: وقال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم، أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله. ونص على كسر آلات اللهو كالطنبور وغيره، إذا رآها مكشوفة، وأمكنه كسرها. وعنه في كسرها إذا كانت مغطاة تحت ثيابه وعلم بها روايتان منصوصتان، ونص في أيتام ورثوا جارية مغنية، وأرادوا بيعها، فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة، فقالوا: إذا بيعت مغنية ساوت عشرين ألفًا أو نحوها، وإذا بيعت ساذجة لا تساوي ألفين، فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة. ولو كانت منفعة الغناء مباحة لما فوت هذا المال على الأيتام. فصل: وأما سماعه من المرأة الأجنبية، أو الأمرد: فمن أعظم المحرمات وأشدها فسادًا للدين: قال الشافعي رحمه اللَّه: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته، وأغلظ القول فيه، وقال: هو دياثة، فمن فعل ذلك كان دَيُّوثًا. قال القاضي أبو الطيب: وإنما جعل صاحبها سفيهًا؛ لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيهًا فاسقًا. قال: وكان الشافعي يكره التغبير، وهو الطقطقة بالقضيب، ويقول: وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن. قال: وأما العود والطنبور وسائر الملاهي فحرام ومستمعه فاسق.

أسماء الغناء في القرآن والسنة: هذا السماع الشيطاني المضاد للسماع الرحماني. له في الشرع بضعة عشر اسمًا: اللهو، واللغو، والباطل، والزور، والمكاء، والتصدية، ورقية الزنى، وقرآن الشيطان، ومنبت النفاق، والصوت الأحمق، والصوت الفاجر، وصوت الشيطان، ومزمور الشيطان، والسمود. * * * فصل فالاسم الأول: اللهو. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 6، 7]. قال الواحدي وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث: الغناء. وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قال: هو الرجل يشتري الجارية تغنيه ليلاً ونهارًا. قال الواحدي: وهذه الآية على هذا التفسير تحرم الغناء، ثم ذكر كلام الشافعي في رد الشهادة بإعلان الغناء. قال: وأما غناء القينات (يعني: الإماء والمغنيات) فذلك أشد ما في الباب، وذلك لكثرة الوعيد الوارد فيه وهو ما روي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنك يوم القيامة» (¬1) الآنك: الرصاص المذاب. إذا عرفت هذا، فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم، بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن، وإن لم ينالوا جميعه، فإن الآيات ذمت من استبدل لهو الحديث بالقرآن ليضل عن سبيل اللَّه بغير علم ويتخذها هزوا، وإذا تتلى عليه آيات القرآن ولى مستكبرًا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرًا وهو الثقل والصمم، وإذا علم من آياتنا شيئًا استهزأ بها، فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرًا، وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم، فلهم حصة ونصيب من هذا الذم. يوضحه أنك لا تجد أحدًا عُنِيَ بالغناء وسماع آلاته، إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى، علمًا وعملاً، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن عدل عن هذا إلى ذلك، وثقل عليه سماع القرآن، وربما حمله ¬

(¬1) قال السيوطي في «الجامع الصغير»: رواه ابن عساكر عن أنس وهو ضعيف.

الحال على أن يُسكت القارئ ويستطيل قراءته، ويستزيد المغني ويستقصر نوبته، وأقل ما في هذا: أن يناله نصيب وافر من هذا الذم، إن لم يحظ به جميعه. والكلام في هذا مع من في قلبه بعض حياة يُحس بها، فأما من مات قلبه وعظمت فتنته، فقد سد على نفسه طريق النصيحة {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41]. * * * فصل الاسم الثاني والثالث: الزور، اللغو. قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]. قال محمد ابن الحنفية: الزور هاهنا: الغناء. وقاله ليث عن مجاهد. وقال الكلبي: لا يحضرون مجالس الباطل. واللغو في اللغة: كل ما يلغى ويطرح، والمعنى: لا يحضرون مجالس الباطل، وإذا مروا بكل ما يُلغى من قول وعمل، أكرموا أنفسهم أن يقفوا عليه، أو يميلوا إليه، ويدخل في هذا: أعياد المشركين، كما فسرها به السلف، والغناء وأنواع الباطل كلها. قال الزجاج: لا يجالسون أهل المعاصي، ولا يمالئونهم - أي يساعدونهم ويعينونهم - عليها ومروا مر الكرام الذين لا يرضون باللغو، لأنهم يكرمون أنفسهم عن الدخول فيه والاختلاط بأهله. وقد روى أن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه مر بلهو فأعرض عنه، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أصبح ابن مسعود لكريمًا» (¬1). وقد أثنى اللَّه سبحانه على من أعرض عن اللغو إذا سمعه بقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55]. وهذه الآية وإن كان سبب نزولها خاصًا، فمعناها عام، متناول لكل من سمع لغوًا فأعرض عنه، وقال بلسانه أو بقلبه لأصحابه: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} وتأمل كيف قال سبحانه: {لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ولم يقل: بالزور، لأن {يَشْهَدُونَ} بمعنى: يحضرون، فمدحهم على ترك حضور مجالس الزور فكيف بالتكلم به وفعله؟ والغناء من ¬

(¬1) بهامش الأصل: قوله: «إن أصبح» يعني «قد» لأن إن المكسورة من فوائدها أن تأتي بمعنى «قد» قاله ابن هشام في مغني اللبيب اهـ. والحديث ذكره ابن كثير في تفسيره الآية من طريق ابن أبي حاتم وفيه: «لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريمًا».

أعظم الزور، والزور: يقال على الكلام الباطل وعلى العمل الباطل، وعلى العين نفسها. * * * فصل الاسم الرابع: الباطل. والباطل: ضد الحق، يراد به المعدوم الذي لا وجود له، والموجود الذي مضرة وجوده أكثر من منفعته، فمن الأول: قول الموحد: كل إله سوى اللَّه باطل، ومن الثاني قوله: السحر باطل، والكفر باطل، قال تعالى: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]. فالباطل إما معدوم لا وجود له، وإما موجود لا نفع له. فالكفر والفسوق والعصيان، والسحر والغناء واستماع الملاهي، كلها من النوع الثاني. وقال رجل لابن عباس رضي اللَّه عنهما: ما تقول في الغناء أحلال هو أم حرام؟ فقال: لا أقول حرامًا إلا ما في كتاب اللَّه، فقال: أفحلال هو؟ فقال: ولا أقول ذلك، ثم قال له: أرأيت الحق والباطل، إذا جاءا يوم القيامة، فأين يكون الغناء؟ فقال الرجل: يكون مع الباطل، فقال له ابن عباس: اذهب، فقد أفتيت نفسك. فهذا جواب ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن غناء الأعراب الذي ليس فيه مدح الخمر والزنى واللواط والتشبيب - يعني إظهار المفاتن ووصف الجمال - بالأجنبيات، وأصوات المعازف، والآلات المطربات. فإن غناء القوم لم يكن فيه شيء من ذلك، ولو شاهدوا هذا الغناء لقالوا فيه أعظم قول، فإن مضرته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير وأعظم من فتنته. * * * فصل الخامس: وأما اسم المكاء والتصدية. فقال تعالى عن الكفار: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]. قال ابن عباس وابن عمر وعطية ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة: المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق. قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة، ويصفرون ويصفقون. والمقصود: أن المصفقين والمصفرين في يراع أو مزمار ونحوه فيهم شبه من هؤلاء، ولو أنه مجرد الشبه الظاهر. فلهم قسط من الذم، بحسب تشبههم بهم، وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم، واللَّه سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في

الصلاة إذا نابهم أمر، بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح؛ لئلا يتشبهوا بالنساء، فكيف إذا فعلوه لا لحاجة، وقرنوا به أنواعًا من المعاصي قولاً وفعلاً؟ * * * فصل السادس: وأما تسميته رقية الزنى. فهو موافق لمسماه، ولفظ مطابق لمعناه، فليس في رقية الزنى أنجع منه، وهذه التسمية معروفة عن الفضيل بن عياض. قال ابن أبي الدنيا: أخبرني محمد بن الفضل الأزدي قال: نزل الحُطيئة برجل من العرب، ومعه ابنته مُليكة، فلما جنه الليل سمع غناء، فقال لصاحب المنزل: كف هذا عني، فقال: وما تكره من ذلك؟ فقال: إن الغناء رائد من رادة الفجور ولا أحب أن تسمعه هذه - يعني ابنته - فإن كففته وإلا خرجت عنك. ولا ريب أن كل غيور يجنب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الريب ومن طرق أهله إلى سماع رقية الزنى فهو أعلم بالإثم الذي يستحقه. ومن الأمر المعلوم عند القوم: أن المرأة إذا استصعبت على الرجل، اجتهد أن يسمعها صوت الغناء، فحينئذ تعطي الليان. وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدًّا، فإذا كان الصوت بالغناء، صار انفعالها من وجهين: من جهة الصوت، ومن جهة معناه، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنجشة حاديه (¬1): «يا أنجشة، رويدك، رفقًا بالقوارير» (¬2) يعني: النساء. فأما إذا اجتمع إلى هذه الرقية، والشبابة والرقص بالتخنث والتكسر، فلو حبلت المرأة من غناء لحبلت من هذا الغناء. * * * فصل السابع: وأما تسميته منبت النفاق. فعن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع. خواص الغناء: اعلم أن للغناء خواصًا لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء. فمن خواصه: أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدًا، لما بينهما من التضاد، فإن القرآن ينهى عن ¬

(¬1) الحادي: الذي ينشد الإبل حتى تسرع في السير. (¬2) كان أنجشة عبدًا أسودًا، وحسن الصوت، يحدو بأمهات المؤمنين. رواه البخاري ومسلم.

اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفس، وأسباب الغيِّ، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله، ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي، فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح، فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل، وبهجة الإيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن، فإذا سمع الغناء ومال إليه نقص عقله، وقل حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى اللَّه تعالى إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد، فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، وأبدى من سره ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والزهزهة (¬1)، والفرقعة بالأصابع. فيميل برأسه، ويهز منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه، ويثب وثبات الذباب، ويخور خوران الوجد ولا كخوار الثيران، وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعقات المجانين. وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق في قوم، والعناد في قوم، والكذب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم، وأكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش، وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويكرّه إلى سماعه بالخاصية وإن لم يكن هذا نفاقًا فما للنفاق حقيقة. وسر المسألة: أنه قرآن الشيطان - كما سيأتي - فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدًا. وأيضًا فإن أساس النفاق: أن يخالف الظاهر الباطن، وصاحب الغناء بين أمرين، إما أن يتهتك - أي لم يبال أن يهتك سره حين يرتكب خطأ. فيكون فاجرًا، أو يظهر النسك فيكون منافقًا، فإنه يظهر الرغبة في اللَّه والدار الآخرة وقلبه يغلي بالشهوات، ومحبة ما يكرهه اللَّه ورسوله من أصوات المعازف وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه، فقلبه بذلك معمور، وهو من محبة اللَّه ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر - أي: خال - وهذا محض النفاق. وأيضًا فإن الإيمان قول وعمل، قول بالحق، وعمل بالطاعة، وهذا ينبت على الذكر، وتلاوة القرآن، والنفاق قول الباطل، وعمل البغي، وهذا ينبت على الغناء. ¬

(¬1) الخيلاء.

وأيضًا فمن علامات النفاق: قلة ذكر اللَّه، والكسل عند القيام إلى الصلاة، ونقر الصلاة، وقل أن تجد مفتونًا بالغناء إلا وهذا وصفه. وأيضًا فإن النفاق مؤسس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، فإنه يحسن القبيح ويزينه، ويأمر به، ويقبح الحسن ويزهد فيه، وذلك عين النفاق. * * * فصل الثامن: وأما تسميته قرآن الشيطان. فمأثور عن التابعين - وقد روي في حديث مرفوع - قال قتادة: «لما أهبط إبليسُ قال: يا رب، لعنتني فما عملي؟ قال: السحر، قال: فما قرآني؟ قال: الشعر، قال: فما كتابي؟ قال: الوشم (¬1)، قال: فما طعامي؟ قال: كل ميتة، وما لم يذكر اسم اللَّه عليه، قال، فما شرابي؟ قال: كل مسكر، قال: فأين مسكني؟ قال: الأسواق، قال: فما صوتي؟ قال: المزامير، قال: فما مصايدي؟ قال: النساء». هذا، والمعروف في هذه وقفه. والمقصود: أن الغناء المحرم قرآن الشيطان. ولما أراد عدو اللَّه أن يجمع عليه نفوس المبطلين قرنه بما يزينه من الألحان المطربة، وآلات الملاهي والمعازف، وأن يكون من امرأة جميلة أو صبي جميل؛ ليكون ذلك أدعى إلى قبول النفوس لقرآنه، وتعوضها به عن القرآن المجيد. * * * فصل التاسع والعاشر: وأما تسميته بالصوت الأحمق والصوت الفاجر. فهي تسمية الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى. فروى الترمذي من حديث ابن أبي ليلى عن عطاء عن جابر رضي اللَّه عنه قال: خرج رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع عبد الرحمن بن عوف إلى النخل، فإذا ابنه إبراهيم يجود بنفسه - أي يحتضر - فوضعه في حجره، ففاضت عيناه، فقال عبد الرحمن: أتبكي، وأنت تنهى الناس؟ قال: إني لم أنه عن البكاء، وإنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوتٌ عند نغمة: لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة: خمش وجوه - أي: لطم الوجوه ¬

(¬1) الوشم: أي ما يكون في غرز الإبرة في البدن وذر النيلج عليه حتى يزرق أثره أو يخضر.

وضربها - وشق جيوب - أي: القمصان - ورنة - أي: صياح - وهذا هو رحمة، ومن لا يرحم لا يُرحم «لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق أولنا، لحزنا عليك حزنًا هو أشد من هذا، وإنا بك لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب». قال الترمذي: هذا حديث حسن (¬1). فانظر إلى هذا النهي المؤكد، بتسميته صوت الغناء صوتًا أحمق ولم يقتصر على ذلك، حتى وصفه بالفجور، ولم يقتصر على ذلك حتى سماه من مزامير الشيطان، وقد أقر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر الصديق على تسمية الغناء مزمور الشيطان في الحديث الصحيح، كما سيأتي، فإن لم يُستفد التحريم من هذا لم نستفده من نهي أبدًا. * * * فصل الحادي عشر: وأما تسميته صوت الشيطان. فقد قال تعالى للشيطان وحزبه: {اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا - وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا} [الإسراء: 63، 64]. قال ابن أبي حاتم في «تفسيره»: عن ابن عباس {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ} قال: كل داع إلى معصية. ومن المعلوم أن الغناء من أعظم الدواعي إلى المعصية ولهذا فسر صوت الشيطان به. قال ابن أبي حاتم عن ليث: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ} قال: استزل منهم من استطعت. قال: وصوته: الغناء والباطل. وبهذا الإسناد عن منصور عن مجاهد قال: صوته هو المزمار، ثم روى بإسناده عن الحسن البصري قال: صوته هو الدف. وهذه الإضافة إضافة تخصيص، كما أن إضافة الخيل والرجل إليه كذلك، فكل متكلم بغير طاعة اللَّه، ومصوت بيراع أو مزمار، أو دف حرام، أو طبل، فذلك صوت الشيطان وكل ساع في معصية اللَّه على قدميه فهو من رجله، وكل راكب في معصية اللَّه فهو من خيالته، كذلك قال السلف، كما ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: رجله ¬

(¬1) وحسنه الألباني أيضًا في «صحيح سنن الترمذي». (قل).

كل رجل مشت في معصية اللَّه. * * * فصل الثاني عشر: وأما تسميته مزمور الشيطان. ففي الصحيحين عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: دخل عليَّ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث (¬1)، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، ودخل أبو بكر رضي اللَّه عنه، فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فأقبل عليه رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «دعهما» فلما غفل غمزتهما، فخرجتا. فلم ينكر رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أبي بكر تسمية الغناء مزمار الشيطان، وأقرهما، لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بغناء الأعراب الذي قيل في يوم حرب بعاث من الشجاعة والحرب، وكان اليوم يوم عيد، فتوسع حزب الشيطان في ذلك إلى صوت امرأة جميلة أجنبية أو صبي أمرد صوته فتنة، وصورته فتنة، يغني بما يدعو إلى الزنى والفجور، وشرب الخمور، مع آلات اللهو التي حرمها رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عدة أحاديث - كما سيأتي - مع التصفيق والرقص، وتلك الهيئة المنكرة التي لا يستحلها أحد من أهل الأديان، فضلاً عن أهل العلم والإيمان، ويحتجون بغناء جويريتين غير مكلفتين بنشيد الأعراب ونحوه، في الشجاعة ونحوها، في يوم عيد بغير شبابة ولا دف ولا رقص ولا تصفيق، ويدعون المحكم الصريح لهذا المتشابه، وهذا شأن كل مبطل. نعم .. نحن لا نحرم ولا نكره مثل ما كان في بيت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك الوجه، وإنما نحرم نحن وسائر أهل العلم والإيمان السماع المخالف لذلك، وباللَّه التوفيق. * * * فصل الثالث عشر: وأما تسميته بالسمود. فقد قال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ - وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ - وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 59 - 61]. قال عكرمة عن ابن عباس: السمود: الغناء في لغة حمير. يقال: اسمدي لنا أي: غَنِّ لنا، [ثم ذكر رحمه اللَّه عدة تفسيرات أخرى للسمود]. ¬

(¬1) بعاث: بضم الموحد، وبعدها عين مهملة وآخرها ثاء مثلثة، وهو حصن للأوس يقال: كان في دار بني قريظة على ليلتين من المدينة، كان يوم بعاث آخر العداء والقتال بين الأوس والخزرج، وكان ذلك قبل الهجرة بثلاث سنين على الأصح، فلما هاجر رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طهر اللَّه به قلوبهم من هذه الإحن، وأنعم عليهم بأخوة الإسلام، فألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانًا.

فائدة: قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، كما أن القبلة بريد الجماع، والغناء بريد الزنى، والنظر بريد العشق، والمرض بريد الموت. * * * فصل في بيان تحريم رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لآلات اللهو والمعازف (الموسيقى) وسياق الأحاديث في ذلك عن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري رضي اللَّه عنهما أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر - أي: الزنى - والحرير والخمر والمعازف». هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في «صحيحه» محتجًّا به. وأخرج ابن أبي الدنيا عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ» (¬1). قيل: يا رسول اللَّه، متى؟ قال: «إذا ظهرت المعازف والقينات واستحلت الخمر». وفي «المسند»: عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن اللَّه حرم الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر حرام» (¬2) والكوبة: الطبل. قاله سفيان (¬3)، وقيل: البربط (¬4) «، والقنين هو الطنبور بالحبشية، والتقنين: الضرب به، قاله ابن الأعرابي. وقد تظاهرت الأخبار بوقوع المسخ في هذه الأمة، وهو مقيد في أكثر الأحاديث بأصحاب الغناء، وشاربي الخمر، وفي بعضها مطلق، قال سالم بن أبي الجعد: ليأتين على الناس زمان يجتمعون فيه على باب رجل ينتظرون أن يخرج إليهم، فيطلبون إليه حاجة، فيخرج إليهم وقد مسخ قردًا أو خنزيرًا، وليمرن الرجل على الرجل في حانوته يبيع، فيرجع إليه وقد مسخ قردًا أو خنزيرًا». وقال أبو هريرة رضي اللَّه عنه: لا تقوم الساعة حتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه فيمسخ أحدهما قردًا أو خنزيرًا، فلا يمنع الذي نجا منهما ما فعل بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ¬

(¬1) الجزء الأول من الحديث صحيح - انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬2) صحيح - انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬3) في «القاموس»: الكوبة، بضم الكاف: النرد، والشطرنج، والطبل الصغير المخصر والفهر والبربط. (¬4) البربط: العود.

خاتمة

ذلك حتي يقضي شهوته، وحتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيخسف بأحدهما، فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمشي لشأنه ذلك، حتى يقضي شهوته منه. فالظاهر مرتبط بالباطن أتم ارتباط، فإذا استحكمت الصفات المذمومة في النفس قويت على قلب الصورة الظاهرة، ولهذا خوف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من سابق الإمام في الصلاة بأن يجعل اللَّه صورته صورة حمار لمشابهته للحمار في الباطن، فإنه لم يستفد من مسابقة الإمام إلا فساد صلاته، وبطلان أجره، فإنه لا يسلم قبله، فإنه شبيه بالحمار في البلادة، وعدم الفطنة. إذا عرف هذا فأحق الناس بالمسخ هؤلاء الذين ذكروا في هذه الأحاديث، فهم أسرع الناس مسخًا قردة وخنازير فمشابهتهم لهم في الباطن، وعقوبات الرب تعالى - نعوذ باللَّه منها - جارية على وفق حكمته وعدله. انتهى كلام ابن القيم رحمه اللَّه ونفعنا اللَّه بعلمه ... آمين. خاتمة: يا رب، لو أدركت القلوب عظمتك، لكان شهيقها القرآن، وزفيرها الذكر، ونبضها الدعاء. * * *

الباب الثامن: داء العشق ودواؤه

الباب الثامن: داء العشق ودواؤه أولاً: جاء في كتاب «الجواب الكافي» (¬1) لابن القيم رحمه اللَّه ما مختصره: واللَّه سبحانه وتعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس (¬2)، وهم قوم لوط والنساء، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف وما راودته وكادته به، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبَّره اللَّه عليه، فإن موافقة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع، وكان الداعي ها هنا في غاية القوة، ومع هذه الدواعي كلها فقد آثر مرضاة اللَّه وخوفه، وحمله حبه لله على أن يختار السجن على الزنى فقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33]. وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه وأن ر به تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن، صبا إليهن بطبعه وكان من الجاهلين، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه (¬3). وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة. * * * فصل والطائفة الثانية، الذين حكى اللَّه عنهم العشق، هم اللوطية كما قال تعالى: {وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ - قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ - وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ - قَالُوا أَوَلَمْ ¬

(¬1) «الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي» لابن القيم رحمه اللَّه (ص: 219: 230). (قل). (¬2) جاء في «مدارج السالكين» (ج2 ص: 156) قال ابن القيم رحمه اللَّه: (وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس اللَّه روحه - يقول: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها: أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب، وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره لا كسب لها فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عن المعصية: فصبر اختيار ورضا ومحاربة للنفس ... ). (قل). (¬3) تنبيه: لم أختصر كثيرًا من كتاب «الجواب الكافي». (قل).

نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ - قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ - لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 67 - 72]، فهذا من العشق. فحكاه سبحانه عن طائفتين: عشق كل منهما ما حرم عليه من الصورة، ولم يبال بما في عشقه من الضرر. وهذا داء أعيا الأطباء دواءه، وعز عليهم شفاءه، وهو واللَّه الداء العُضال والسم القتال الذي ما علق بقلب إلا وعز على الورى استنقاذه من إساره، ولا اشتعلت ناره في مهجة إلا وصعب على الخلق تخليصها من ناره، وهو أقسام: تارة يكون كفرًا، كمن اتخذ معشوقه ندًّا، يحبه كما يحب اللَّه، فكيف إذا كان محبته أعظم من محبة اللَّه في قلبه؟ فهذا عشق لا يغفره اللَّه لصاحبه، فإنه من أعظم الشرك، واللَّه لا يغفر أن يشرك به، وإنما يغفر بالتوبة الماحية ما دون ذلك، وعلامة هذا العشق الشركي الكفري، أن يقدم العاشق رضاء معشوقه على رضاء ربه، وإذا تعارض عنده حق معشوقه وحق ربه، وطاعة ربه، وطاعته قدم حق معشوقه على حق ربه وآثر رضاه على رضاه، وبذل لمعشوقه أنفس ما يقدر عليه، وبذل لربه - إن بذل - أردأ ما عنده، واستفرغ وسعه في مرضاة معشوقه وطاعته والتقرب إليه وجعل لربه - إن أطاعه - الفضلة التي تفضل عن معشوقه من ساعاته. فتأمل حال أكثر عشاق الصور، هل تجدها إلا مطابقة لذلك؟ ثم ضع حالهم في كفة وتوحيدهم وإيمانهم في كفة، ثم زن وزنًا يرضي اللَّه ورسوله ويطابق العدل، وربما صرح العاشق منهم بأن وصل معشوقه أحب إليه من توحيد ربه. ولا ريب أن هذا العشق من أعظم الشرك، وكثير من العشاق يصرح بأنه لم يبق في قلبه موضع لغير معشوقه ألبتة، بل قد ملك معشوقه عليه قلبه كله؛ فصار عبدًا مخلصًا من كل وجه لمعشوقه، فقد رضي هذا من عبودية الخالق جل جلاله بعبوديته لمخلوق مثله، فإن العبودية هي كمال الحب والخضوع، وهذا قد استغرق قوة حبه وخضوعه وذله لمعشوقه، فقد أعطاه حقيقة العبودية. ولا نسبة بين مفسدة هذا الأمر العظيم ومفسدة الفاحشة، فإن تلك ذنب كبير لفاعله حكم أمثاله، ومفسدة هذا العشق مفسدة الشرك. وكان بعض الشيوخ من العارفين يقول: لأن أبتلي بالفاحشة مع تلك الصورة أحب إليَّ من أن أبتلي فيها بعشق يتعبد لها قلبي ويشغله عن اللَّه. * * *

فصل: في علاج العشق ودواء هذا الداء القتال: أن يعرف أن ما ابتلي به من هذا الداء المضاد للتوحيد إنما هو من جهله وغفلة قلبه عن اللَّه، فعليه أن يعرف توحيد ربه من سننه وآياته أولاً، ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بما يشغل قلبه عن دوام الفكر فيه، ويكثر اللجأ والتضرع إلى اللَّه سبحانه في صرف ذلك عنه، وأن يرجع بقلبه إليه، وليس له دواء أنفع من الإخلاص لله، وهو الدواء الذي ذكره اللَّه في كتابه حيث قال: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (¬1) [يوسف: 24]، فأخبر سبحانه أنه صرف عن يوسف السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه، فإن القلب إذا أخلص عمله لله لم يتمكن منه عشق الصور، فإنه إنما يتمكن من القلب الفارغ، كما قال: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا انتهى. فوائد: قال الإمام أحمد: من دعاك إلى غير التزوج فقد دعاك إلى غير الإسلام. ولقد تزوج رحمه اللَّه في اليوم الثاني من وفاة امرأته وقال: «أكره أن أبيت عزبًا». وكان ابن مسعود يقول: لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام أحببت أن أتزوج حتى لا ألقي اللَّه عزبًا. ومن أقواله رضي اللَّه عنه: التمسوا الغنى في النكاح، يقول اللَّه تعالى: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور: 32] وقال عمر رضي اللَّه عنه: إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج اللَّه نسمة تسبحه وتذكره. وأعود إلى كلام ابن القيم رحمه اللَّه: آفات العشق: الأولى: الاشتغال بذكر المخلوق وحبه عن حب الرب تعالى وذكره، فلا يجتمع في القلب هذا وهذا إلا ويقهر أحدهما صاحبه، ويكون السلطان والغلبة له. الثانية: عذاب قلبه بمعشوقه، فإن من أحب شيئًا غير اللَّه عُذب به ولا بد كما قيل: فما في الأرض أشقى من محب ... وإن وجد الهوى حلو المذاق تراه باكيًا في كل حين ... مخافة فرقة أو لاشتياق فيبكي إن نأوا شوقًا إليهم ... ويبكي إن دنوا خوف الفراق فتسخن عينه عند الفراق ... وتسخن عينه عند التلاق والعشق وإن استلذ به صاحبه، فهو من أعظم عذاب القلب. الثالثة: أن العاشق قلبه أسير في قبضة معشوقه يسومه الهوان، ولكنه لسكرة العشق لا يشعر بمصابه، فقلبه كالعصفور في كف الطفل يورده حياض الردى، والطفل يلهو ويلعب، فيعيش العاشق عيش الأسير الموثق، ويعيش الخلي عيش المسيب المطلق، والعاشق كما قيل: ¬

(¬1) أرى - واللَّه أعلم - أن من أعظم الأدعية الجالية للإخلاص قوله تعالى: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، فمن ابتلي بهذا الداء - أي العشق - فعليه الإكثار من هذا الدعاء فإنه خير دواء، وكذا سائر أدعية الكرب المتقدمة. (قل).

طليق برأي العين وهو أسير ... عليل على قطب الهلاك يدور وميت يرى في صورة الحي غاديًا ... وليس له حتى النشور نشور أخو غمرات ضاع فيهن قلبه ... فليس له حتى الممات حضور الرابعة: أنه يشتغل عن مصالح دينه ودنياه، فليس شيء أضيع لمصالح الدين والدنيا من عشق الصور، أما مصالح الدين فإنها منوطة بلم شعث القلب وإقباله على اللَّه، وعشق الصور أعظم شيء تشعيبًا وتشتيتًا له، وأما مصالح الدنيا فهي تابعة في الحقيقة لمصالح الدين، فمن انفرطت عليه مصالح دينه وضاعت عليه، فمصالح دنياه أضيع وأضيع. الخامسة: أن آفات الدنيا والآخرة أسرع إلى عشاق الصور من النار في يابس الحطب، وسبب ذلك، أن القلب كلما قرب من العشق وقوي اتصاله به بعد من اللَّه، فأبعد القلوب من اللَّه قلوب عشاق الصور، وإذا بعد القلب من اللَّه طرقته الآفات من كل ناحية، فإن الشيطان يتولاه، ومن تولاه عدوه واستولى عليه لم يأله وبالاً، ولم يدع أذى يمكنه إيصاله إليه إلا أوصله، فما الظن بقلب تمكن منه عدوه، وأحرص الخلق على غيه وفساده وبعد منه وليه، ومن لا سعادة له ولا فلاح ولا سرور إلا بقلبه وولايته؟ السادسة: أنه إذا تمكن من القلب واستحكم وقوي سلطانه أفسد الذهن وحدث الوساوس، وربما التحق صاحبه بالمجانين الذين فسدت عقولهم فلا ينتفعون بها، وأخبار العشاق في ذلك موجودة في مواضعها، بل بعضها يشاهد بالعيان، وأشرف ما في الإنسان عقله، وبه يتميز عن سائر الحيوانات، فإذا عدم عقله التحق بالبهائم، بل ربما كان حال الحيوان أصلح من حاله، وهل أذهب عقل مجنون ليلى وأضر به إلا العشق؟ وربما زاد جنونه على جنون غيره، كما قيل: قالوا جننت بمن تهوى، فقلت لهم ... العشق أعظم مما بالمجانين العشق لا يستفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون بالحين السابعة: أنه ربما أفسد الحواس أو أنقصها، إما إفسادًا معنويًا أو صوريًا، أما الفساد المعنوي فهو تابع لفساد القلب، فإن القلب إذا فسد فسدت العين والأذن واللسان، فيرى القبيح حسنًا منه، ومن معشوقه كما في «المسند» مرفوعًا: «حبك الشيء يعمي ويصم» (¬1)، فهو يعمي عين القلب عن رؤية مساوئ المحبوب وعيوبه فلا ترى العين ذلك، ويصم أذنه عن الإصغاء إلى العدل فيه، فلا تسمع الأذن ذلك. والرغبات تستر ¬

(¬1) ضعيف - انظر «ضعيف الجامع». (قل).

العيوب، فإن الراغب في شيء لا يرى عيوبه حتى إذا زالت رغبته فيه أبصر عيوبه، فشدة الرغبة غشاوة على العين تمنع من رؤية الشيء على ما هو عليه. والداخل في الشيء لا يرى عيوبه، والخارج منه الذي لم يدخل فيه لا يرى عيوبه، ولا يرى عيوبه إلا من دخل فيه ثم خرج منه، ولهذا كان الصحابة الذين دخلوا في الإسلام بعد الكفر خيرًا من الذين ولدوا في الإسلام، قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: «إنما تنقض عُرى الإسلام عروة عروة إذا ولد في الإسلام من لا يعرف الجاهلية». وأما إفساده للحواس ظاهرًا فإنه يمرض البدن وينهكه، وربما أدى إلى تلفه، كما هو معروف في أخبار من قتله العشق. وقد رفع إلى ابن عباس وهو بعرفة شاب قد نحل حتى عاد جلدًا على عظم، فقال: ما شأن هذا؟ قالوا: به العشق، فجعل ابن عباس يتعوذ باللَّه من العشق عامة يومه. الثامنة: أن العشق كما تقدم هو الإفراط في المحبة، بحيث يستولي المعشوق على القلب من العاشق، حتى لا يخلو من تخيله وذكره والتفكر فيه، بحيث لا يغيب عن خاطره وذهنه، فعند ذلك تشتغل النفس بالخواطر النفسانية فتتعطل تلك القوى، فيحدث بتعطيلها من الآفات على البدن والروح ما يعسر دواؤه ويتعذر، فتتغير أفعاله وصفاته ومقاصده، ويختل جميع ذلك فيعجز البشر عن صلاحه، كما قيل: الحب أول ما يكون لجاجة ... يأتي بها وتسوقه الأقدار حتى إذا خاض الفتى لجج الهوى ... جاءت أمور لا تطاق كبار والعشق مبادئه سهلة حلوة، وأوسطه هم وشغل قلب وسقم، وآخره عطب وقتل إن لم تتداركه عناية من اللَّه. والعاشق له ثلاث مقامات: مقام ابتداء، ومقام توسط، ومقام انتهاء. فأما مقام ابتدائه: فالواجب عليه مدافعته بكل ما يقدر عليه إذا كان الوصول إلى معشوقه متعذرًا قدرًا وشرعًا، فإن عجز من ذلك وأبى قلبه إلا السفر إلى محبوبه، وهذا مقام التوسط والانتهاء - فعليه كتمان ذلك وألا يفشيه إلى الخلق، ولا يشمت بمحبوبه ولا يهتكه بين الناس، فيجمع بين الظلم والشرك. فإن الظلم في هذا الباب من أعظم أنواع الظلم. وربما كان أعظم ضررًا على المعشوق وأهله من ظلمه في ماله، فإنه يعرض المعشوق بهتكه في عشقه إلى وقوع الناس فيه وانقسامه إلى مصدق ومكذب، وأكثر الناس يصدق في هذا الباب بأدنى شبهة.

وإذا قيل: فلان فعل بفلان أو بفلانة، كذبه واحد، وصدقه تسعمائة وتسعة وتسعون، وخبر العاشق المتهتك عن غير المتهتك عند الناس في هذا الباب يفيد القطع واليقين، بل إذا أخبرهم المفعول به عن نفسه كذبًا وافتراء على غيره جزموا بصدقه جزمًا لا يحتمل النقيض. بل لو جمعهما مكان واحد اتفاقًا، جزموا أن ذلك عن وعد واتفاق بينهما، وجزمهم في هذا الباب على الظنون والتخييل والشبهة والأوهام والأخبار الكاذبة كجزمهم بالحسيات المشاهدة، وبذلك وقع أهل الإفك في الطيبة المطيبة، حبيبة رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، المبرأة من فوق سماوات، بشبهة مجيء صفوان بن المعطل بها وحده خلف العسكر، حتى هلك من هلك، ولولا أن تولى اللَّه سبحانه براءتها والذب عنها وتكذيب قاذفها لكان أمرًا آخر. والمقصود: أن في إظهار المبتلى عشق من لا يحل له الاتصال به من ظلمه وأذاه ما هو عدوان عليه وعلى أهله (¬1)، وتعريض لتصديق كثير من الناس ظنونهم فيه، فإن استعان عليه بمن يستميله إليه، إما برغبة أو رهبة تعدى الظلم وانتشر، وصار ذلك الواسطة ديوثًا ظالمًا، وإذا كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد لعن الرائش - وهو الواسطة بين الراشي والمرتشي لإيصال الرشوة - فما الظن بالديوث الواسطة بين العاشق والمعشوق في الوصلة المحرمة؟ فيساعد العاشق على ظلم المعشوق مع غيره ممن يتوقف حصول غرضهما على ظلمه في نفس أو مال أو عرض، فإن كثيرًا ما يتوقف حصول غرضه المطلوب على قتل نفس يكون حياتها مانعة من غرضه، وكم قتيل طل (¬2) دمه بهذا السبب من زوج وسيد وقريب، وكم خببت امرأة على بعلها وجارية وعبد على سيدهما، وقد لعن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فعل ذلك وتبرأ منه، وهو من أكبر الكبائر، وإذا كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، وأن يسوم على سومه (¬3) فكيف بمن يسعى بالتفريق بينه وبين امرأته وأمته حتى يتصل بهما؟ وعشاق الصور ومساعدوهم من الديثة لا يرون ذلك ذنبًا، فإن في طلب العاشق وصل معشوقه مشاركة الزوج والسيد، ففي ذلك من إثم ظلم الغير ما لعله لا يقصر عن إثم الفاحشة، إن لم يَرْبُ عليها، ولا يسقط حق الغير بالتوبة من الفاحشة، فإن ¬

(¬1) جاء في «زاد المعاد» لابن القيم رحمه اللَّه (ج4 ص: 275) ما يلي: ولا يغتر بالحديث الموضوع على رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي رواه سويد ... «من عشق فعف فمات فهو شهيد» وفي رواية: «من عشق وكتم وعف وصبر غفر اللَّه له وأدخله الجنة» انتهى. وانظر «ضعيف الجامع». (قل). (¬2) طل: أي: أهدر - كما قال العلماء (قل). (¬3) رواه مسلم ولفظه «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يسوم على سوم أخيه .... » ومعنى يسوم - كما في (ب - ف): (هو أن يزيد رجل على ما تراضى به البائع والمشتري، ليأخذها هو). (قل).

التوبة وإن أسقطت حق اللَّه فحق العبد باق له المطالبة به يوم القيامة، فإن من ظلم الوالد بإفساد ولده وفلذة كبده ومن هو أعز عليه من نفسه، وظلم الزوج بإفساد حبيبته والجناية على فراشه - أعظم ممن ظلمه بأخذ ماله كله، ولهذا يؤذيه ذلك أعظم مما يؤذيه أخذ ماله ولا يعدل ذلك عنده إلا سفك دمه، فيا له من ظلم أعظم إثمًا من فعل الفاحشة، فإن كان ذلك حقًّا لغاز في سبيل اللَّه أوقف له الجاني الفاعل يوم القيامة، وقيل له: «خذ من حسناته ما شئت» كما أخبر بذلك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فما ظنكم؟» (¬1) أي: فما تظنون يبقي له من حسناته؟ فإن انضاف إلى ذلك أن يكون المظلوم جارًا، أو ذا رحم محرم، تعدد الظلم وصار ظلمًا مؤكدًا لقطيعة الرحم وأذى الجار، (ولا يدخل الجنة قاطع) (¬2) رحم (ولا من لا يأمن جاره بؤائقه) (¬3). فإن استعان العاشق على وصال معشوقه بشياطين الجن، إما بسحر أو استخدام أو نحو ذلك ضم إلى الشرك والظلم كفر السحر، فإن لم يفعله هو ورضي به كان راضيًا بالكفر غير كاره له لحصول مقصوده، وهذا ليس ببعيد من الكفر. والمقصود: أن التعاون في هذا الباب تعاون على الإثم والعدوان. وأما ما يقترن بحصول غرض العاشق من الظلم المنتشر المتعدي ضرره، فأمر لا يخفى إذا حصل له مقصوده من المعشوق، فللمعشوق أمور أخرى يريد من العاشق إعانته عليها فلا يجد من إعانته بدًّا، فيبقى كل منهما يعين الآخر على الظلم والعدوان، فالمعشوق يُعين العاشق على ظلم من اتصل به من أهله وأقاربه وسيده وزوجه، والعاشق يعين المعشوق على ظلم من يكون غرض المعشوق متوقفًا على ظلمه، فكل منهما يعين الآخر على أغراضه التي يكون فيها ظلم الناس، فيحصل العدوان والظلم للناس بسبب اشتراكهما في القبح لتعاونهما بذلك على الظلم، وكما جرت به العادة بين العاشق والمعشوق؛ من إعانة العاشق لمعشوقه على ما فيه ظلم وعدوان وبغي، حتى ربما يسعى له في منصب لا يليق به ¬

(¬1) عن بريدة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله، فيخونه فيهم إلا وقف له يوم القيامة فقيل له: قد خلفك في أهلك فخذ من حسناته ما شئت، فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم؟» (صحيح) (حم، م، د، ن) عن بريدة [مختصر مسلم عن = = بريدة عن أبيه 1094]- انظر «صحيح الجامع». جاء في «عون المعبود» (جـ7 ص: 173): (فما ظنكم: أي ما تظنون في رغبته في أخذ حسناته والاستكثار منها في ذلك المقام، أي لا يُبقي منها شيئًا إن أمكنه واللَّه أعلم - ذكره النووي) وانظر «شرح مسلم» (جـ13 ص: 63). (قل). (¬2) متفق عليه - انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬3) رواه مسلم. ومعنى بوائقه - كما في «شرح مسلم» البوائق: جمع بائقة، وهي الغائلة والداهية والفتك. (قل).

ولا يصلح لمثله، وفي تحصيل مال من غير حله، وفي استطالته على غيره، فإذا اختصم معشوقه وغيره أو تشاكيا لم يكن إلا من جانب المعشوق ظالمًا كان أو مظلومًا، هذا إلى ما ينضم إلى ذلك من ظلم العاشق للناس بالتحايل على أخذ أموالهم، والتوصل إلى معشوقه بسرقة أو غصب أو خيانة أو يمين كاذبة أو قطع طريق ونحو ذلك، وربما أدى ذلك إلى قتل النفس التي حرم اللَّه ليأخذ ماله ليتوصل به إلى معشوقه (¬1). فكل هذه الآفات وأضعافها وأضعاف أضعافها تنشأ عن عشق الصور، وربما حمله، على الكفر الصريح، وقد تنصر جماعة ممن نشئوا في الإسلام بسبب العشق، كما جرى لبعض المؤذنين حين أبصر - وهو على سطح مسجد - امرأة جميلة، ففتن بها ونزل ودخل عليها وسألها نفسها فقالت: هي نصرانية، فإن دخلت في ديني تزوجت بك ففعل فرقي في ذلك اليوم على درجة عندهم، فسقط منها، فمات، ذكر هذا عبد الحق في كتاب «العاقبة» له. وإذا أراد النصارى أن ينصِّروا الأسير أروه امرأة جميلة وأمروها أن تطمعه في نفسها حتى إذا تمكن حبها من قلبه بذلت له نفسها إن دخل في دينها، فهنالك {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء} [إبراهيم: 27]. انتهى من «الجواب الكافي». ثانيًا: وجاء في «زاد المعاد» لابن القيم أيضًا رحمه اللَّه ما مختصره: والمقصود (¬2): ¬

(¬1) ومما قاله رحمه اللَّه عن العشق: وكم أفسد من أهل الرجل وولده، فإن المرأة إذا رأت بعلها عاشقًا لغيرها اتخذت هي معشوقًا لنفسها، فيصير الرجل مترددًا بين خراب بيته بالطلاق وبين القوادة، فمن الناس من يؤثر هذا، ومنهم من يؤثر هذا (قل). (¬2) «زاد المعاد» لابن القيم رحمه اللَّه (ج4 ص: 272: 274). (قل).

أن العشق لما كان مرضًا من الأمراض، كان قابلاً للعلاج، وله أنواع من العلاج، فإن كان مما للعاشق سبيل إلى وصل محبوبه شرعًا وقدرًا، فهو علاجه، كما ثبت في «الصحيحين» من حديث ابن مسعود رضي اللَّه عنه، قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» فدل المحبَّ على علاجين: أصلي، وبدلي. وأمره بالأصلي، وهو العلاج الذي وضع لهذا الداء، فلا ينبغي العدول عنه إلى غيره ما وجد إليه سبيلاً. وروى ابن ماجه في «سننه» عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لم نر للمتحابين مثل النكاح» (¬1)، وهذا هو المعنى الذي أشار إليه سبحانه عقيب إحلال النساء حرائرهن وإمائهن عند الحاجة بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] فذكرُ تخفيفه في هذا الموضع، وإخباره عن ضعف الإنسان يدل على ضعفه عن احتمال هذه الشهوة، وأنه سبحانه خفف عنه أمرها بما أباحه له من أطايب النساء مثنى وثلاث ورباع، وأباح له ما شاء مما ملكت يمينه، ثم أباح له أن يتزوج بالإماء إن احتاج إلى ذلك علاجًا لهذه الشهوة، وتخفيفًا عن هذا الخلق الضعيف، ورحمة به. ومن وسائل العلاج التي ذكرها رحمه اللَّه: فليتذكر قبائح المحبوب، وما يدعوه إلى النفرة عنه، فإنه إن طلبها وتأملها وجدها أضعاف ¬

(¬1) قال الأرنؤوط في غير هذا الموضع (وفي نفس الموضوع): أخرجه ابن ماجه والحاكم والبيهقي وسنده حسن. (قل).

محاسنه التي تدعوه إلى حبه. فإن عجزت عنه هذه الأدوية كلها لم يبق له إلا صدق اللجأ إلى من يجيب المضطر إذا دعاه، وليطرح نفسه بين يديه على بابه، مستغيثًا به متضرعًا، متذللاً، مستكينًا فمتى وفق لذلك، فقد قرع باب التوفيق. انتهى من «زاد المعاد». ثالثًا: بعد هذا الكلام النفيس لابن القيم رحمه اللَّه، يمكنني أن أقول بفضل اللَّه تعالى: تفكير ساعة في المعشوق يُبعد ميلاً عن المعبود.

فائدة: شرح حديث: «يا معشر الشباب» الوارد في «الصحيحين»، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي. ورواية الترمذي: عن عبد اللَّه بن مسعود قال: خرجنا مع رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن شباب لا نقدر على شيء. فقال: «يا معشر الشباب! عليكم بالباءة، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يستطع منكم الباءة فعليه بالصوم، فإن الصوم له وجاء». جاء في «تحفة الأحوذي» (جـ 4، ص144، 145): قوله: «ونحن شباب» على وزن سحاب جمع شاب، قال الأزهري: لم يجمع فاعل على فعال غيره «لا نقدر على شيء» أي: من المال، وفي رواية البخاري: لا نجد شيئًا «يا معشر الشباب» المعشر جماعة يشملهم وصف وخصهم بالخطاب لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم إلى النكاح «وعليكم بالباءة» بالهمزة وتاء التأنيث ممدودًا. قال النووي فيها أربع لغات: الفصيحة المشهورة البآءة بالمد والهاء. والثانية: الباءة بلا مد. والثالثة: الباء بالمد بلا هاء. والرابعة: الباهة بهائين بلا مد. وأصلها في اللغة الجماع مشتقة من المباءة وهي المنزل. ومنه مباءة الإبل وهي مواطنها. ثم قيل لعقد النكاح باءة لأن من تزوج امرأة بوأها منزلاً. قال واختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد: أصحهما أن المراد معناه اللغوي وهو الجماع. فتقديره من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه، وهي مؤن النكاح فليتزوج. ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه الصوم ليدفع شهوته. والقول الثاني: أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح سميت باسم ما يلازمها. والذي حمل القائلين بهذا قوله: ومن لم يستطع فعليه بالصوم. قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة فوجب تأويل الباءة على المؤن انتهى

كلام النووي ملخصًا. «فإنه» أي: التزوج «أغض للبصر» أي: أخفض وأدفع لعين المتزوج عن الأجنبية من غض طرفه أي خفضه وكفه «وأحصن» أي: أحفظ «للفرج» أي: عن الوقوع في الحرام «فإن الصوم له وجاء» «بكسر الواو وبالمد أي كسر لشهوته، وهو في الأصل رض الخصيتين ودقهما لتضعف الفحولة. فالمعنى أن الصوم يقطع الشهوة ويدفع شر المني كالوجاء». انتهى من «تحفة الأحوذي». وقال المناوي رحمه اللَّه تعالى: (لا يقطعها من أصلها وإن ديم عليه). * * * خاتمة قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق اللَّه في النصف الباقي». حسن. رواه البيهقي في «شعب الإيمان» عن أنس «الصحيحة» (625) - كذا في «صحيح الجامع». قال المناوي رحمه اللَّه في «فيض القدير»: (فليتق اللَّه في النصف الآخر: جعل التقوى نصفين: نصفًا تزوجًا ونصفًا غيره، قال أبو حاتم: المقيم لدين المرء في الأغلب، فرجه وبطنه، وقد كفي بالتزوج أحدهما). * * *

الباب التاسع: آداب من سورة النور

الباب التاسع: آداب من سورة النور أولاً: آداب دخول البيوت وغض البصر وحفظ الفرج: أ- قال اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ - فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ - لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور: 27 - 29]. يُستفاد من تفسير هذه الآيات، ومن أحاديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الواردة في هذا الباب ما يلي: 1 - على المؤمن أن يستأذن عند دخول بيت غيره (¬1). 2 - ينبغي للمؤمن أن يستأذن ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا رجع، والرجوع هنا للوجوب. 3 - هدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاستئذان أنه كان يقول: «السلام عليكم» ثلاث مرات. 4 - ينبغي للمؤمن عند الاستئذان ألا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليكن الباب عن يمينه أو عن يساره. 5 - على المستأذن أن يفصح عن اسمه أو كنيته التي هو مشهور بها ولا يقل: «أنا». 6 - على المؤمن أن يستأذن على أمه أو أخته لأنه - كما جاء في التفسير - لا يحب أن يراها عريانة. 7 - لا يجب على الرجل أن يستأذن على امرأته، ولكن يستحب له ذلك، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها. 8 - حرمة الدخول إذا لم يكن في البيت أحد. (كذا في روائع البيان). 9 - عدم الإذن بالدخول قد يكون صريحًا، وقد يكون ضمنيًا كالسكوت، وينبغي للمؤمن أن لا يغضب من ذلك. 10 - البيوت غير المسكونة التي لا حرج من دخولها مثل الفنادق والخانات ومنازل الأسفار. ¬

(¬1) أباح العلماء دخول البيوت بدون إذن في حالات الضرورة كوجود حريق. (قل).

11 - آيات سورة النور - واللَّه أعلم - خاصة قوله تعالى: {وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} بيان عظيم لقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. ب- قال اللَّه تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30]. قال ابن كثير رحمه اللَّه تعالى: هذا أمر من اللَّه تعالى لعباده المؤمنين، أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا لما أباح لهم النظر إليه، وأن يغمضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع النظر على محرم من غير قصد فليصرف بصره عنه سريعًا، كما روي عن جرير بن عبد اللَّه البجلي رضي اللَّه عنه قال: «سألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري» (¬1). وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن الأولى لك وليس لك الآخرة» (¬2). وفي «الصحيح» عن أبى سعيد قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياكم والجلوس في الطرقات» , قالوا: يا رسول اللَّه، لا بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه». قالوا: وما حق الطريق يا رسول اللَّه؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر»، ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب، لذلك أمر اللَّه بحفظ الفروج، كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك، فقال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} وحفظ الفرج يكون تارة بمنعه من الزنا كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} الآية [المؤمنون: 5]، وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك» (¬3) {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} أي: أطهر لقلوبهم وأنقى لدينهم. كما قيل: من حفظ بصره أورثه اللَّه نورًا في بصيرته. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}، كما قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]. وفي «الصحيح» عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كتب ¬

(¬1) أخرجه مسلم ورواه أبو داود والترمذي والنسائي أيضًا. (¬2) أخرجه أبو داود والترمذي. اهـ. [وحسنه الألباني في «صحيح سنن الترمذي»]. (قل). (¬3) أخرجه أحمد وأصحاب السنن. اهـ. وحسنه الألباني في «صحيح الجامع» و «صحيح سنن الترمذي». (قل).

على ابن آدم حظه من الزنا أدركه لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، وزنا الأذنين الاستماع، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين الخطى، والنفس تمنّى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه». وقد قال كثير من السلف: إنهم كانوا ينهون أن يحدّ الرجل نظره إلى الأمرد، وقد شدّد كثير من أئمة الصوفية في ذلك، وحرمه طائفة من أهل العلم، لما فيه من الافتتان، وشدد آخرون في ذلك كثيرًا جدًّا (¬1). فائدة: سُئل الجنيد: بما يستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر اللَّه إليك أسبق إلى ما تنظره. جـ- قال تعالى: {وقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. قال ابن كثير رحمه اللَّه تعالى: هذا أمر من اللَّه تعالى للنساء المؤمنات وغيرة منه لأزواجهن المؤمنين، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركات، وكان سبب نزول هذه الآية ما ذكره (مقاتل بن حيان) قال: بلغنا أن أسماء بنت مرثد كانت في محل لها في بني حارثة، فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات (¬2)، فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن (¬3)، فقالت أسماء: ما أقبح هذا، فأنزل اللَّه تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الآية، فقوله تعالى {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} أي: عما حرم اللَّه عليهن من النظر إلى غير أزواجهن (¬4)، ولهذا ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة النظر إلى الرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلاً، واحتج كثير منهم بما روي عن ¬

(¬1) تنطبق أحكام غض البصر على الخيالة خاصة التي - للأسف - في بيوت كثير من المسلمين «التليفزيون». (قل). (¬2) الإزار: ثوب يحيط بالنصف الأسفل من البدن - «المعجم الوسيط» (قل). (¬3) الذوائب: جمع ذؤَابة: وهي الشعر المضفور من شعر الرأس - «النهاية» لابن الأثير رحمه اللَّه تعالى. (قل). (¬4) أخرجه ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة مرفوعًا.

أم سلمة أنها كانت عند رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وميمونة، قالت: فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعدما أمرنا بالحجاب، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «احتجبا منه» فقلت: يا رسول اللَّه، أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أوعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه» (¬1). وذهب آخرون من العلماء إلى جواز نظرهن إلى الأجانب بغير شهوة، كما ثبت في «الصحيح» أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد، وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه وهو يسترها منهم حتى ملت ورجعت، وقوله: {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} قال سعيد بن جبير: عن الفواحش، وقال قتادة: عما لا يحل لهن. وقال مقاتل: عن الزنا، وقال أبو العالية: كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج فهو من الزنا، إلا هذه الآية {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} ألا يراها أحد، وقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي: لا يظهرن شيئًا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه، قال ابن مسعود: كالرداء والثياب، يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها وما يبدو من أسافل الثياب، فلا حرج عليها فيه، لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه، وقال ابن عباس: وجهها وكفيها والخاتم، وهذا يحتمل أن يكون تفسيرًا للزينة التي نهين عن إبادائها، كما قال عبد اللَّه بن مسعود: الزينة زينتان، فزينة لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار، وزينة يراها الأجانب، وهي الظاهر من الثياب. وقال مالك: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (¬2): الخاتم والخلخال، ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود عن عائشة رضي اللَّه عنها أن (أسماء بنت أبي بكر) دخلت على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا، وأشار إلى وجهه وكفيه» (¬3). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود والترمذي وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. اهـ. [وضعفه الألباني في «ضعيف سنن الترمذي»]، وجاء في «جامع الأصول» (جـ6 ص 664) بتصرف: ( ... قال الحافظ في «الفتح»: إسناده قوي، وأكثر ما علل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان وليست بعلة قادحة ...... ). (قل). (¬2) إن شاء اللَّه تعالى سيأتي تفصيل هذه المسألة عند الكلام عن تغطية وجه المرأة، وقد جاء في تفسير صفوة التفاسير للصابوني، ردًّا على من قال: إن الوجه والكفين ليسا بعورة ما يلي: (قال البيضاوي: والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة لا يجب لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة) (ج2 ص: 335، 336). (قل). (¬3) رواه أبو داود وهو حديث مرسل لأن خالد بن دريك لم يسمع من عائشة. اهـ. وانظر تضعيف الحديث بالتفصيل لابن عثيمين في «رسالة الحجاب» ومما قاله أثابه اللَّه تعالى فوق ذلك: وأيضًا فإن أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه عنها كان لها حين هجرة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبع وعشرون سنة، فهي كبيرة السن، فيبعد أن تدخل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثياب رقاق تصف منها ما سوى الوجه والكفين، واللَّه أعلم، ثم على تقدير الصحة يحمل على ما قبل الحجاب، لأن نصوص الحجاب ناقلة عن الأصل فتقدم عليه. (قل).

وقوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} يعني: المقانع يعمل لها صفات ضاربات على صدورهن لتواري ما تحتها من صدرها وترائبها، ليخالفن شعار نساء أهل الجاهلية، فإنهن لم يكن يفعلن ذلك، بل كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها، فأمر اللَّه المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن، كما قال تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]، وقال في هذه الآية الكريمة: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} والخمر جمع خمار: وهو ما يخمر به أي: يغطى به الرأس، وهي التي تسميها الناس المقانع، قال سعيد بن جبير: {وَلْيَضْرِبْنَ} وليشددن {بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} يعني: على النحر والصدر فلا يرى منه شيء، وروى البخاري عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: يرحم اللَّه نساء المهاجرات الأول لما أنزل اللَّه {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن فاختمرن بها. وقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} أي: أزواجهن {أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} كل هؤلاء محارم للمرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها، ولكن من غير تبرج، فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله، فتتصنع له بما لا يكون بحضرة غيره، وقوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} يعني: تظهر بزينتها أيضًا للنساء المسلمات، دون نساء أهل الذمة، لئلا تصفهن لرجالهن، فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع، فأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه، وقد قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها» (¬1). وروي أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة: أما بعد، فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، فإنه من قبلك فلا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها، وقال مجاهد في قوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} قال: نساؤهن المسلمات، ليس المشركات من نسائهن، وليس للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة، وروي عن ابن عباس {أَوْ نِسَائِهِنَّ} قال: هن المسلمات لا تبديه ¬

(¬1) أخرجاه في «الصحيحين» عن ابن مسعود مرفوعًا.

ليهودية ولا نصرانية، وهو النحر والقرط (¬1) والوشاح وما لا يحل أن يراه إلا محرم، وروى سعيد عن مجاهد قال: لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة لأن اللَّه تعالى يقول: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} فليست من نسائهن، وعن مكحول وعبادة بن نسي: أنهما كرها أن تقبل النصرانية واليهودية والمجوسية المسلمة. وقوله تعالى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} قال ابن جرير: يعني: من نساء المشركين، فيجوز لها أن تظهر زينتها لها وإن كانت مشركة لأنها أمتها، وإليها ذهب سعيد بن المسيب، وقال الأكثرون: بل يجوز أن تظهر على رقيقها من الرجال والنساء، واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود عن أنس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، قال: وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما تلقى قال: «إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك» (¬2). وقوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} يعني: كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء، وهم مع ذلك في عقولهم وله ولا همة لهم إلى النساء ولا يشتهونهن. قال ابن عباس: هو المغفل الذي لا شهوة له. وقال مجاهد: هو الأبله. وقال عكرمة: هو المخنث الذي لا يقوم ذكره، وكذلك قال غير واحد من السلف، وفي «الصحيح» عن عائشة أن مخنثًا كان يدخل على أهل رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ينعت امرأة يقول: إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أرى هذا يعلم ما ههنا لا يدخلن عليكم» فأخرجه. وقوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء} يعني: لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم، وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن، فإذا كان الطفل صغيرًا لا يفهم ذلك فلا بأس بدخوله على النساء، فأما إن كان مراهقًا أو قريبًا منه بحيث يعرف ذلك ويدريه ويفرق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكّن من الدخول على النساء (¬3)، وقد ثبت في «الصحيحين» عن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إياكم والدخول على النساء» قيل: يا رسول اللَّه، أفرأيت الحمو. قال: «الحمو الموت» وقوله ¬

(¬1) القُرْط: ما يعلق في شحمة الأذن من دُرّ أو ذهب أو فضة أو نحوها. والوشاح: خيطان من لؤلؤ وجوهر منظومان يخالف بينهما، معطوف أحدهما على الآخر. ونسيج عريض يرصع بالجوهر وتشده المرأة بين عاتقيها وكشحيها. (والكشح ما بين الخاصرة والضلوع). كذا في «المعجم الوسيط». (قل). (¬2) صحيح - انظر «صحيح أبي داود». (قل). (¬3) سيأتي الكلام عن أحكام الصغير الأجنبي إن شاء اللَّه تعالى عند الكلام عن أحكام العورة بين المحارم. (قل).

تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} الآية، كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوتها ضربت برجلها الأرض، فيسمع الرجال طنينه، فنهى اللَّه المؤمنات عن مثل ذلك، وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستورًا فتحركت لتظهر ما هو خفي دخل في هذا النهي لقوله تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} إلى آخره، ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها، فيشم الرجال طيبها، فقد قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي

ثانيا: تساؤلات:

كذا وكذا» يعني: زانية (¬1). وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أنه لقي امرأة شم منها ريح الطيب ولذيلها إعصار، فقال: يا أمة الجبار جئت من المسجد؟ قالت: نعم، قال لها: تطيبت؟ قالت نعم، قال: إني سمعت أبا القاسم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يقبل اللَّه صلاة امرأة طيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة» (¬2)، ومن ذلك أيضًا أنهن ينهين عن المشي في وسط الطريق لما فيه من التبرج، فقد روي عن حمزة بن أسيد الأنصاري عن أبيه أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو خارج من المسجد، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للنساء: «استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق، عليكن بحافات الطريق»، فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به (¬3)، وقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: افعلوا ما أمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة، فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر اللَّه به رسوله، وترك ما نهى عنه واللَّه تعالى المستعان (¬4). انتهى من ابن كثير. ثانيًا: تساؤلات: سؤال 1 - هل يجوز للرجل أن يشيع (يوصل) ابنة عمه، أو ابنة عمته، أو ابنة خاله، أو ابنة خالته ... إلى البيت خوفًا عليها من مساوئ الطريق؟! الجواب: كيف يكون الذئب حارسًا للغنم! «الحمو الموت» وقد تقدم. سؤال 2، 3 - هل جعل اللَّه الزميل محرمًا؟! هل جعل اللَّه المدرس الخصوصي محرمًا؟! حتى يخلو كل منهما بالمرأة دون محرم؟! ¬

(¬1) أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح، ورواه أيضًا أبو داود والنسائي. اهـ. [وحسنه الألباني]. (قل). (¬2) أخرجه أبو داود وابن ماجه. اهـ. صحيح - انظر «صحيح سنن أبي داود». (قل). (¬3) أخرجه الترمذي في «السنن». اهـ. [وحسنه الألباني في «صحيح سنن الترمذي»]. (قل). (¬4) الفقرتان (ب، جـ) من «مختصر تفسير ابن كثير» (ج2 ص: 598: 602).

الجواب: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة: 156] وفي الأثر: «لا تخلون بامرأة ولو كنت تحفظها كتاب اللَّه» (¬1). ثالثًا: سؤال هام: هل صوت المرأة عورة؟ جاء في «روائع البيان» ما يلي: «حرم الإسلام كل ما يدعو إلى الفتنة والإغراء، فنهى المرأة أن تضرب برجلها الأرض حتى لا يسمع صوت الخلخال فتتحرك الشهوة في قلوب بعض الرجال {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}. وقد استدل الأحناف بهذا النهي على أن صوت المرأة عورة فإذا منعت عن صوت الخلخال فإن المنع عن رفع صوتها أبلغ في النهي. قال الجصاص في «تفسيره»: وفي الآية دلال على أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب إذا كان صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها، ولذلك كره أصحابنا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت، والمرأة منهية عن ذلك، وهو يدل على حظر النظر إلى وجهها للشهوة إذا كان ذلك أقرب إلى الريبة وأولى بالفتنة (¬2). ونقل بعض الأحناف أن نغمة المرأة عورة واستدلوا بحديث «التسبيح للرجال والتصفيق للنساء» (¬3)، فلا يحسن أن يسمعها الرجل. وذهب الشافعية وغيرهم إلى أن صوت المرأة ليس بعورة لأن المرأة لها أن تبيع وتشتري وتدلي بشهادتها أمام الحكام، ولا بد في مثل هذه الأمور من رفع الصوت بالكلام. قال الألوسي: «والمذكور في معتبرات كتب الشافعية - وإليه أميل - أن صوتهن ليس بعورة فلا يحرم سماعه إلا أن خشي منه فتنة» (¬4). والظاهر أنه إذا أمنت الفتنة لم يكن صوتهن عورة فإن نساء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُنَّ يروين الأخبار، ويحدِّثن الرجال، وفيهم الأجانب من غير نكير ولا تأثيم. وذهب ابن كثير رحمه اللَّه أن المرأة منهية عن كل شيء يلفت النظر إليها، أو يحرك شهوة الرجال نحوها، ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها فيشم الرجال طيبها لقوله عليه السلام: «كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا» (¬5). يعني: زانية ومثل ذلك أن تحرك يديها لإظهار أساورها وحليها. أقول: ينبغي على الرجال أن يمنعوا النساء من كل ما يؤدي إلى الفتنة والإغراء ... » (¬6). انتهى من «روائع البيان». فائدة: شرح الحديث المتقدم في التفسير «الحمو الموت»: ثبت في «الصحيحين» عن عقبة بن عامر، أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إياكم والدخول على النساء». فقال رجل من الأنصار: يا رسول اللَّه، أفرأيت الحمو؟ قال: «الحمو الموت». جاء في «تحفة الأحوذي» (جـ4 ص 264، 265): قوله: «إياكم والدخول» بالنصب على التحذير وهو تنبيه للمخاطب على محذور ليحترز عنه كما قيل إياك والأسد، وقوله: إياكم مفعول بفعل مضمر تقديره: اتقوا وتقدير الكلام: اتقوا أنفسكم أن تدخلوا على النساء، والنساء أن يدخلن عليكم. وفي رواية عند مسلم: لا تدخلوا على النساء. وتضمن منع الدخول منع الخلوة بها بالطريق الأولى «أفرأيت الحمو». اهـ. قال النووي رحمه اللَّه تعالى في «شرح مسلم» (جـ 14 ص 220، 221): (وقال الليث بن سعد: الحمو أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج، ابن العم ونحوه، اتفق أهل اللغة على أن الأحماء أقارب زوج المرأة كأبيه وعمه وأخيه وابن أخيه وابن عمه ونحوهم، والأختان أقارب زوجة الرجل، والأصهار يقع على النوعين. وأما قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحمو الموت» فمعناه أن الخوف منه أكثر من غيره، والشر يتوقع منه والفتنة أكثر لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير أن ينكر عليه، بخلاف الأجنبي. والمراد بالحمو هنا أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه، فأما الآباء والأبناء فمحارم لزوجته تجوز لهم الخلوة بها ولا يوصفون بالموت وإنما المراد الأخ وابن الأخ والعم وابنه ونحوهم، ممن ليس بمحرم، وعادة الناس المساهلة فيه. ويخلو بامرأة أخيه فهذا هو الموت، وهو أولى بالمنع من الأجنبي لما ذكرناه، فهذا الذي ذكرته هو صواب معنى الحديث، وأما ما ذكره المازري وحكاه أن المراد بالحمو أبو الزوج. وقال: إذا نهى عن أبي الزوج وهو محرم فكيف بالغريب، فهذا كلام فاسد مردود، ولا يجوز حمل الحديث عليه، ¬

(¬1) الأصل قيام الرجل بالتدريس للرجال، والنساء بالتدريس للنساء، فإن كانت هناك حاجة في قيام الرجال بالتدريس للنساء فليكن ذلك من وراء حجاب. (قل). (¬2) «أحكام القرآن» للجصاص (ج3 ص: 393). (¬3) سيأتي إن شاء اللَّه تعالى. (قل). (¬4) «روح المعاني» للألوسي (ج18 ص: 146). (¬5) رواه أبو داود النسائي. وانظر «تفسير ابن كثير». اهـ. وقد تقدم. (قل). (¬6) «روائع البيان» للشيخ الصابوني، (ج2 ص: 166، 167). (قل).

فكذا ما نقله القاضي عن أبى عبيد أن معنى الحمو الموت فليمت ولا يفعل هذا هو أيضًا كلام فاسد، بل الصواب ما قدمناه. وقال ابن الأعرابي: هي كلمة تقولها العرب كما يقال: الأسد الموت أي لقاؤه مثل الموت وقال القاضي: معناه الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الفتنة والهلاك في الدين، فجعله كهلاك الموت فورد الكلام مورد التغليظ). اهـ. وفي «تحفة الأحوذي»: «الحمو الموت» قال القرطبي في المفهم: المعنى أن دخول قريب الزوج على امرأة الزوج يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة أي فهو محرم معلوم التحريم. وإنما بالغ في الزجر عنه وشبهه بالموت لتسامح الناس به من جهة الزوج والزوجة لإلفهم بذلك حتى كأنه ليس بأجنبي من المرأة. فخرج هذا مخرج قول العرب الأسد الموت، والحرب الموت، أي لقاؤه يفضي إلى الموت، وكذلك دخوله على المرأة قد يفضي إلى موت الدين، أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزوج، أو إلى الرجم إن وقعت الفاحشة. قال أبو عيسى الترمذي: وإنما معنى كراهية الدخول على النساء على نحو [الحديث المتقدم الذي رواه الترمذي والنسائي وصححه الألباني] عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يخلون رجل بامرأة، إلا كان ثالثهما الشيطان» (إلا كان ثالثهما الشيطان) برفع الأول ونصب الثاني ويجوز العكس والاستثناء مفرغ. والمعنى يكون الشيطان معهما يهيج شهوة كل منهما حتى يلقيا في الزنا). اهـ. * * *

آداب الهاتف من آداب دخول البيوت

آداب الهاتف من آداب دخول البيوت لا تقل آداب الهاتف عن آداب دخول البيت، بل تزداد أهمية آداب الهاتف، لأن الرؤية العينية لمن تحدثه تكون غالبًا مقرونة بالحياء، بينما يقل ذلك عن طريق الهاتف، من أجل ذلك رأيت بعد بضعة عشر عامًا من إصدار الكتاب أن ألحق به - بعد استخارة اللَّه تعالى - رسالة أدب الهاتف لأخينا في اللَّه الشيخ: بكر بن عبد اللَّه أبي زيد مع اختصار وتصرف يسيرين (¬1) قال أثابه اللَّه تعالى مشيرًا إلى تلك الآداب: صحة الرقم أولاً: تأكد أولاً من صحة الرقم قبل الاتصال حتى لا تقع في غلط، فتوقظ نائمًا، أو تزعج مريضًا، أو تُشغل غيرك عبثًا، فلا تتصل إلا بعد توفر أمرين: رقم مكتوب أمام بصرك، أو متأكدًا منه في ذاكرتك، ولا تضع إصبعك على رقم الهاتف إلا وتُتبعه البصر، فإن حصل خطأ، فتلطف بالاعتذار، وقل: «معذرة». ويا أيها المتصل عليك لا [تغضب] حينما يحصل شيء من ذلك فتحمله، ولا تعنف، وإن قلت له: «فضلاً: الرقم غلط» فإنه إن كان غالطًا حقيقة، فهو غير آثم، وقد أدخلت عليه السرور ولا سبيل لك عليه شرعًا. وإن كان متعمدًا الإيذاء، فقد نفذه سهم اللطف، ولك الأجر، وعليه الوزر. وقت الاتصال: إذا كان لك حاجة في الاتصال فاذكر أن للناس أشغالاً وحاجات، ولهم أوقات طعام، وأوقات نوم وراحة، فهم والحال ما ذكر، أولى بالعذر منك لضرورة أو حاجة. ولهذا منحت الشريعة الشخص المُزَار، ومثله المتَّصل عليه: حق الاعتذار، دون اللجوء إلى الكذب: فلان ليس في الدار، وهو فيها. قال اللَّه تعالى: {وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28]. وانظر كيف أمرت الشريعة، الأرقاء، والصغار بالاستئذان في ثلاثة أوقات: قبل صلاة الفجر، ووقت الظهيرة، وبعد صلاة العشاء، أما الأحرار البالغون فيجب عليهم الاستئذان في كل الأوقات، كما في سورة النور (¬2) [58 - 59]. ¬

(¬1) مع مراعاة ما أشرتُ إليه في المقدمة، أنني إذا أردت عمل شيء داخل الأصل، وضعته بين هاتين العلامتين هكذا []. (قل). (¬2) سيأتي إن شاء اللَّه تعالى بيان ذلك بالتفصيل عند الكلام عن (استئذان الأقارب بعضهم على بعض). (قل).

والخلاصة: وظِّف حسن التعامل، مراعيًا الوقت المناسب، وإذا اعتذر منك إلى وقت آخر فاقبل بانشراح صدر. وإذا قيل: انتظر، فانتظر، وأنت مُنعم البال، غير متبرم. وحكم مراعاة وقت الاتصال هذا، هو في غير الأماكن العامة المفتوحة على مدار ساعات الليل والنهار، كالفنادق ودور التأجير للمسافرين، ومن في حكمهم. دقات الاتصال: التزم الاعتدال والوسط، بما يغلب على الظن سماع منبه الهاتف، ولا تُحَدُّ دقات الاتصال هنا بثلاث للحديث المتفق عليه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فلينصرف»؛ للحديث الآخر المبين لحكمة الاستئذان، أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» (¬1) رواه البخاري ومسلم، وهذه غير واردة في المهاتفة [أي المكالمة عن طريق الهاتف]. لكن احذر الإفراط والمبالغة دفعًا لإيذاء المُهَاتَف ومن حوله، وانظر إلى أدب الصحابة - رضي اللَّه عنهم - مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ كانوا يقرعون أبواب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأظافر. رواه البخاري في «الأدب المفرد»، والخطيب في «جامعه»، وعنه القرطبي في «تفسيره» (12/ 217). ومثله في عصرنا: المنبه الكهربائي على أبواب البيوت، فلتستعمل بلطف لا بعنف وإطالة. مدة الاتصال: ومقياسها: لكل مقام مقال، ولكل مقام مقدار، فاحذر الثرثرة والإملال، والإطالة، والإثقال. السلام من المتصل بداية ونهاية: المتصل هو القادم، فإذا رفعت سماعة الهاتف فبادر بالتحية الإسلامية «السلام عليكم» فهي شعار الإسلام، ومفتاح الأمان والسلام، وهي شرف لأمة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ويجب الجواب على سامعه. ¬

(¬1) قال النووي رحمه اللَّه في «شرح مسلم» (جـ 14 ص: 194): (إنما جعل الإذن من أجل البصر: معناه أن الاستئذان مشروع ومأمور به، وإنما جعل لئلا يقع البصر على الحرام، فلا يحل لأحد أن ينظر في جحر باب ولا غيره، مما هو متعرض فيه لوقوع بصره على امرأة أجنبية) وانظر «تحفة الأحوذي» (جـ7 ص: 453، 454). (قل).

وبهذا وردت السنة الشريفة، فعن ربعي - رضي اللَّه عنه - قال: أخبرنا رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في بيت فقال: أألج؟ فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لخادمه: «اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل؟» فسمعه الرجل، فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدخل (¬1). رواه أبو داود. فدل على تقديم السلام، فليقدم المهاتف السلام على الكلام، ولا يسقط حتى يكلمه المتصل عليه، ومما ينهى عنه هنا: هجر هذه التحية الإسلامية المباركة والعدول عنها إلى نحو: «صباح الخير، صباح النور». ومما ينهى عنه هنا: المبادرة من المتهاتفين (¬2) بلفظ: «ألو» ولو أفتاك الناس وأفتوك، فهي لفظه مولدة، فرنسية المولد، يأباها اللسان العربي؛ إذ تقلص ظلها. ومما ينهى عنه هنا: سكوت المتصل إذا رفعت «السماعة» حتى يتكلم المتصل عليه، وهذا فيه إخلال بالأدب من عدة جهات لا تخفى. منها: مخالفة السنة في بدء المستأذن، والقادم بالسلام. ومنها: أن المتصل هو الطالب فعليه المبادرة بالسلام، فالكلام طلبًا أو استقبالاً. ومنها: أن بعض من ضعف أدبهم، وضمر إحساسهم ولطفهم، يقصد الفحص والتعرف، هل أنت موجود، أم لا؟ فإذا رفعت السماعة، وقلت: نعم، عرف المراد فوضعها. وهذا التفحص من التخون المرذول. قبح اللَّه هذه الفعلة، وقبح فاعلها وحسابهم على اللَّه عز وجل. (إذا أجابك صاحب الهاتف، وقال: من المتكلم؟ فقل: فلان الفلاني، أو بما يعرف شخصك عنده. واحذر الجواب بما فيه تعمية، مثل: أنا. أنا صديقه. أنا جاره. وهكذا. عن جابر - رضي اللَّه عنه - قال: استأذنت على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «من هذا؟» فقلت: أنا، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنا أنا». رواه مسلم، وأبو داود، وزاد: كأنه كرهه. رواه البخاري ومسلم. واحذر أن تقع في طبع من يحجم عن الإخبار باسمه، إذا لم يجد الشخص المراد، ففي هذا نقص في الأدب، واستصغار للآخرين، وإشغال لبال أهل الدار. ¬

(¬1) صحيح - انظر «صحيح أبي داود». (قل). (¬2) المتحدثين عن طريق الهاتف. (قل).

ختم المهاتفة بالسلام: كما بدأت المهاتفة بتحية الإسلام، فاختمها كذلك بشعار الإسلام: «السلام» فعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم، فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة» (¬1). خفض الصوت: الزم الأدب العام في المحادثة والكلام: «خفض الصوت» فليكن صوتك في الهاتف منخفضًا، مسموعًا، متوسط الأداء، لا مزعجًا ولا مخافتًا. وفي هذا أدب جم مع والديك، ومن في درجتهما في القدر والمكانة، ومع ذي الشأن، ومع من هو دونك في السن أو القدر، تدخل عليه السرور، وأن له عندك منزلة، فتكسب الأصدقاء والمحبين. ولذا فاحذر رفع الصوت عن مقدار الحاجة، واحذر المخافتة، فكل منهما إخلال بما أدّبك اللَّه سبحانه به، في قوله تعالى في وصية لقمان لابنه: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} [لقمان: 19]، وكم فيه من دلالة على ما ينبغي، ومنه قلة احترامك لمن تتحدث إليه، وكم كانت طريقة بعضهم في المكالمات سببًا للحرمان من المطلوب أو من خير كثير. واحذر طريقة النفاخين الهزلاء، الذين يثبتون شخصياتهم من خلال الهاتف بنغمات بغيضة هم يعرفونها. الهاتف والمرأة: وإن كان أحد المهاتفين امرأة، فلتحذر الخضوع بالقول؛ فإن اللَّه سبحانه نهى نساء نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمهات المؤمنين - رضي اللَّه عنهن - اللاتي لا يطمع فيهن طامع، وهن في عهد النبوة، وحياة الصحابة - رضي اللَّه عنهم - نهاهن أن يخضعن بالقول، فقال تعالى: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]. فكيف بمن سواهن، إن نهيهن عن الخضوع في القول من باب أولى. فاتقين اللَّه يا نساء المؤمنين، لا تخضعن بالقول، وقلن قولاً معروفًا في الخير، أي: بلا ترخيم ولا تمطيط، فلا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها. ¬

(¬1) حسن صحيح - الترمذي (2861) انظر «صحيح سنن أبي داود». (قل).

ولتحذر المرأة الاسترسال في الكلام مع الرجال الأجانب (¬1) عنها، بل ومع محارمها، بما تنكره الشريعة، وتأباه النفوس، ويُحدث في نفس السامع علاقة. ولتحذر رفع الصوت عن المعتاد، وتمطيط الكلام، وتحسينه وتليينه، وترخيمه، وترقيقه، وتنغيمه، بالنبرة اللينة، واللهجة الخاضعة. وإذا كان يحرم عليها ذلك فليحرم على الرجل سماع صوتها بتلذذ، ولو كان صوتها بقراءة القرآن، وإذا شعرت المرأة بذلك حرم عليها الاستمرار في الكلام معه؛ لما يدعو إليه من الفتنة. وهنا يتعين على «الرجل» الراعي لأهل بيته، أن [يربي أهله] على الستر والتصون، وحفظ المحارم، فلا تكون المرأة هي أول من يبادر إلى إجابة الهاتف مع وجود أحد من الرجال، ولا تجيب في حال غيابهم في كل حال من الأحوال، بل حسبما يوجهها به ولي أمرها بما يراه حسب الأحوال، والمقتضيات، وعليها السمع والطاعة في المعروف، ورعاية الأصلح، وترك المشاقة. إنزال الناس منازلهم: راع الأدب في المهاتفة حسب مقام المتكلم معك، ومنزلته، في السن، والقدر، والقرابة، وذي الشأن، لا سيما العالم العامل. وعن عبادة بن الصامت - رضي اللَّه عنه - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه». رواه أحمد (¬2). ورأس الأمر: «الإسلام» والناس فيه رتب ومنازل، حسب الطاعة، والمعصية، والبدعة المغلظة، والخفيفة. أما الكفار فلهم معاملة تخصهم، بالتحية، ومقدار الكلام [وغير ذلك من الأحكام]. وبالجملة، فلتصاحبك عزة المسلم من غير كبرياء أو تنفير أو هضم حق شرعي معتبر. إذا كلمك صاحبك، فوجدت حفاوته أقل من المعتاد، فلا يؤثر ذلك عليك فتجفوه، والتمس له في نفسك العذر، فلعل لديه اهتمامات أخرى هي أهم، أو ما غير مزاجه، ¬

(¬1) يمكن للمتصل، إذا سمع صوت امرأة أجنبية في الهاتف أن يقول: أنا فلان، هل فلان - أي من يريده موجود؟ فلا يسمع إلا نعم أو لا. (قل). (¬2) حسن - انظر «صحيح الجامع». (قل).

وكدَّرَ صفو حياته، فعليك بحسن الظن - رعاك اللَّه - وإن تكوَّن لديك بالقرائن لا بالوساوس، أنها جفوة لأجلك، فكن خفيف الظل - رعاك اللَّه - ثانية. من الأدب أن لا تتصل بشخص وأنت في دارك في وسط من اختلاط الأصوات، وضجيج الأولاد، فعليك بالتصون، وحفظ العورات، وإظهار المكرمات، ولا تحملك الألفة على التبذل. ولا تحملك الألفة - أيضًا - ومتانة الصحبة، على القهقهة، والإسفاف، والتبذل، فإنه يجرك إلى استمرائه مع الآخرين، فيصير طبعًا لك تعرف به. شغل الانتظار: صار الناس في هذا على طرفي نقيض: فمنهم من يشغله باللهو، من غناء، أو موسيقى ونحوهما، فهذا حرام لا نزاع فيه معتبرًا. ومنهم من يشغل لحظات الانتظار بقرآن، أو ذكر، ونحو ذلك. وإن نبل الهدف في هذا لا يُسَوِّغه؛ لأن التحكم في الوقوف على رءوس آيات القرآن الكريم، أو على المقطع المناسب من الحديث غير ممكن، فيقع وقوف غير مرضي شرعًا، ولذا فلا هذا ولا ذاك، وليبق المنتظر مع السماعة ساكتًا حتى يستأنف الحديث، وأي ضير من هذا؟! ولا داعي للترف، والإيغال، والتعمق في مراعاة الشعور الذي يعود بما لا يجوز. من رعاية المصالح وحفظ الأمانة، أن تجعل لكل هاتف وظيفته، فلا تشغل هاتف المكتب - الذي تعمل فيه موظفًا - بشئونك الخاصة، وتدبير أمورك، هذا هو الأصل، وللناس في ذلك أحوال، ضابطها: رعاية الأصلح. استعمال هاتف غيرك: اجتهد ما استطعت في ترك الاستعمال لهاتف غيرك، فإن ألجأتك حاجة، فاحذر من استعمال هاتفه إلا بعد التلطف باستئذانه، ولا تطلب الإذن من قليل ذات اليد، ولا من ضيق نفس؛ يأذن وهو متبرم. الهاتف وأهل الدار: وإذا تأملت البقاع رأيتها تشقى كما تشقى الرجال وتسعدُ سعيد، ذلك البيت الذي تحت قوامة راع، عاقل، بصير، غير فظ ولا غليظ، ولا صخاب، موفق بحسن التدبير، وضبط الأهل من زوجة، وولد، ومن تحت رعايته، في

ظل الشرع المطهر. وكان من تدبيره في الهاتف: أن المرأة لا ترفع يد الهاتف، وفي الدار رجل من أهلها. وأن الأهل محجوبون عن فضول الاتصال. وقد لقنهم آداب الهاتف، ونشَّأ أولاده على ذلك، فأصبح لديهم من الأدب الموروث. ومسكين صاحب البيت «المسبوه» (¬1) هاتفه في الدار مبثوث، واقع في كف كل لاقط من بنين، وبنات، وكبار، وصغار، إذا دق جرس الهاتف لقطه أكثر من واحد. وإذا كلمت المرأة المهاتف استرسلت معه كأنما تهاتف والدها بعد غيبة طويلة، فياللَّه كم يقع في الدار من شرار فاللهم لطفك وسترك يا كريم يا رحمن يا رحيم. والموفق من إذا ذكر تذكر، وإذا بصر تبصر ... الهاتف والمستفتي: جميلة طريقة ذلك المستفتي الذي يتصل على المفتي قائلاً: «السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته، لدي - أحسن اللَّه إليك - سؤال، هو .... » وبعد نهاية المكالمة، يقول: «جزاكم اللَّه خيرًا، وأثابكم، السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته». طريقة، مؤدبة، مختصرة، خالية من تطويل التحايا بلا طائل، وتعطي الفرصة لسائل آخر. لكن ماذا هنا من المحاذير، وماذا هنا مما يقع من الأذايا: الأسئلة المفتعلة لاختبار فقه المفتي، فقد يكون المستفتي، بحث المسألة، وحضَّر الجواب، ثم يأخذ في التعنت، والمحاجة؛ ليظهر عجز المفتي، وهذا يفعله بعض الذين شبعت روحهم بالتنفير من العلماء، والوقوع فيهم (¬2). ومن طريقتهم أيضًا: الأسئلة المفتعلة لمعرفة انتماء المفتي، فيُعَمِّدون بعض الشباب المتدين المُغَرَّرِ بهم لسؤال المفتي عن موضوع كذا؛ ليثبتوا له أنه صاحب بدعة، على مشربهم الموغِل في الغلو، وإيجاد الفجوة السحيقة بين العلماء وشباب الأمة. ¬

(¬1) السبه: ذهاب العقل. (¬2) وليحذر العالم من ضياع وقته في الهاتف، فإن وقته للكتاب، ولا يكون اتصاله بالهاتف إلا لضرورة، وكذا استقباله للمكالمات، وأنصح نفسي وإياك بقراءة رسالة «قيمة الزمن عند العلماء» لأبي غدة رحمه اللَّه تعالى. (قل).

ومن طريقتهم: إثبات اضطراب المفتي. ومن المهاتفة المؤذية من بعض المستفتين: سؤال أكثر من واحد، طلبًا للترخص. والإزعاج في أوقات غير مناسبة للاتصال، وتطويل السؤال بلا طائل. والاتصال على المفتي، على غير هاتف الفتوى المخصص لها. وتسجيل المهاتفة، ونشرها بدون إذن المفتي فيهما، وهذا التصرف خيانة، يأتي بيانها. تغريب لغة الهاتف: اللغة العربية من شعائر الإسلام، والتكلم بها حفظ لشعار الإسلام، فيجب حفظ هذه الشعيرة، وكف الدخولات عليها، ولذلك فاحذر تلك الألفاظ المولدة، التي يأباها اللسان العربي أشد الإباء، والشريعة ناهية عما يفسد لسان العرب وعن التعلق بلغة الكافرين، والأعجميين، وخلطها بلغة الضاد، لسان المسلمين، وإليك بضعة ألفاظ في حضارة العرب، وفيها غناء عما يقابلها في حضارة الغرب، والعجم. اللفظ العربي ــ اللفظ الأعجمي الهاتف ... التلفون النداء ... البيجر فقس (¬1) ... فاكس جهاز التنصت ... جهاز التصنت ابدأ بلفظ: السلام عليكم ... لا بلفظ: ألو، هلو الهاتف [الرَّطب]: هو الذي تصل فيه الرحم، لا سيما من قطعك، وتسقي به شجرة الإخاء بينك وبين من شاء اللَّه ممن تعرفه من المسلمين، في التهاني الشرعية، والبشارة بالخير، وقضاء حوائج إخوانك. وفي السلام على المريض، والدعاء له، والسؤال عن حاله بلا إملال، واحذر سؤال المريض مفصلاً عن مرضه. ¬

(¬1) تعريب مجمع اللغة، وهو من مادة: فقس، يقال، فقست البيضة، إذا خرج منها الفرخ.

وفي مواساة مصاب بقريب، أو مال، أو نحوه، فكم في المواساة من تسلية المصاب. ولا تحجبك المهاتفة عن سُنَّةِ نقل الخُطَى إلى هذه الفضائل، ولكن حيث تقصر بك الحال عن الزيارة. وإذا كانت زيارة المريض والمصاب خفيفة، مقدرة بجلسة الخطيب بين الخطبتين، فلتكن المكالمة الهاتفية كذلك. هذا هو الأصل، ومن يأنس بك فله حال لا تخفى. المهاتفة المؤذية: أذية المسلم حرام، وتخوّنه حرام، وهتك حرماته حرام. ومن هذه الأذايا ما يقع في المهاتفة، ومنها: أ- الخيانة المضاعفة: لا يجوز لمسلم يرعى الأمانة ويبغض الخيانة، أن يسجل كلام المتكلم دون إذنه، وعلمه، مهما يكن نوع الكلام: دينيًا، أو دنيويًا، كفتوى، أو مباحثة علمية، أو مالية، وما جرى مجرى ذلك. وقد ثبت من حديث جابر بن عبد اللَّه الأنصاري - رضي اللَّه عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حدث الرجل الرجل فالتفت فهي أمانة» (¬1) رواه أحمد وأبو داود، والترمذي. (ومعنى: «التفت» أي؛ ظهر من حال المتكلم بالقرائن: حذره بالتفاته يمينًا وشمالاً، أن لا يسمع حديثه أحد (¬2) فتكون الكلمة التي حدثك صاحبك بها أمانة عند المحدَّث أودعه إياها، فإن حدث بها غيره، فقد خالف أمر اللَّه، حيث أدى الأمانة إلى غير أهلها، فيكون من الظالمين، فيجب عليه كتمها؛ إذ التفاته بمنزلة استكتامه بالنطق، قالوا: وهذا من جوامع الكلم). انتهى. فإذا سجلت مكالمته دون إذنه وعلمه، فهذا مكر وخديعة، وخيانة للأمانة. وإن نشرت هذه المكالمة للآخرين، فهي زيادة في التخون، وهتك الأمانة. وإن فعلت فعلتك الثالثة: التصرف في نص المكالمة بتقطيع، وتقديم وتأخير، ونحو ذلك إدخالاً أو إخراجًا - فالآن ترتدي الخيانة مضاعفة، وتسقط على أم رأسك في: «أم الخبائث» غيرَ مأسوف على خائن. ب - جهاز التنصت: ¬

(¬1) حسن - انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬2) «فيض القدير» للمناوي (1/ 339).

بلغت التقنية الحديثة ومخترعاتها مبلغًا، وصل في بعضها حد اللعب بكرامة الإنسان أو استغلاله في إهدارها. ومنه: ما يقوم به فرد من الناس باستعمال جهاز التنصت، ونقل المكالمات، لا سيما غير المغطاة، ويقضي ساعات ليله ونهاره في الفرجة على أحاديث الناس، وما يجري بينهم دون علم منهم، وهذا محرم لا يجوز، سواء عرف المتهاتفين، أم أحدهما، أم لم يعرفهما. وقد ثبت من حديث ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة». رواه البخاري في «صحيحه»، ونحوه في: «الأدب المفرد». جـ- المعاكسة: ومن [الناس] من يتصل على البيوت مستغلاً غيبة الراعي؛ ليتخذها فرصة عَلَّه يجد من يستدرجه إلى سفالته. وهذا نوع من الخلوة، أو سبيل إليها، وقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رواه البخاري ومسلم: «إياكم والدخول على النساء» أي: الأجنبيات عنكم. فهذا وأيم اللَّه، حرام، حرام، وإثم، وجناح، وفاعله حري بالعقوبة، فيخشى عليه أن تنزل به عقوبة تلوث وجه كرامته. ومما ينسب للإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى: إن الزنى دَيْنٌ فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم نعوذ باللَّه من العار، ومن خزي أهل النار. وعلى رب الدار، أن يبذل الأسباب، ويوفر الضمانات لحماية محارمه من العابثين، والسفهاء، ومن هذه الأسباب: أن يكون «الهاتف» في مكان لا تغاب عنه الرقابة البيتية، مع منع تعدد أجهزة الهاتف في الدار، خاصة في غرف البنات، وأن ينظم الراعي مع أهل بيته، من يتولى الرد على الهاتف، وآداب الرد، وعدم الاسترسال مع المتصل، وهكذا مما لا يخفى على محبي العفة والكرامة. د- سعار الاتصال: احذر فضول المهاتفة، حتى لا يصيبك سعار الاتصال، فكم من مصاب به، فمن حين يرفع رأسه من نومته، يدني [مذكرة الهواتف] ولا كالطفل يلتقم ثدي أمه، فيشغل نفسه، وغيره، عبر الهاتف، من دار إلى دار، من مكتب إلى آخر، يروح عن نفسه [في ظنه] ويلقي بالأذى على غيره.

وليس لنا مع هؤلاء حديث إلا الدعاء بالعافية، وننصحهم بمعالجة وضعهم من هذا الفضول. هـ- هاتف [الترويع]: ثبت في السنة الترهيب من ترويع المسلم، وإخافته، وأن ترويعه، وإخافته، من كبائر الذنوب، والظلم العظيم، فعن رجال من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا» (¬1). رواه أحمد، وأبو داود. ونحوه عند الطبراني من حديث النعمان بن بشير - رضي اللَّه عنهما ونحوه - أيضًا - لدى البزار، من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما. ومنه مسلك الإخافة [والترويع] الهاتفي، فيتصل الفاجر، من هاتف مجهول متقمصًا صوتًا مستنكرًا، فيذكر له من أنواع الترويع، والإخافة، ما عسى أن يقض مضجعه، ويؤثر عليه بأي سالب. ونصيحتي لك أيها المبتلى بهذا الفاجر، أن تكون رابط الجأش، ثابت الجنان، فلا تلقي لهذا الاتصال [الترويعي] المفتعل أي بال، وأنه كالأحلام الرديئة والحلم من الشيطان، يخيف به العبد، وهذا من شياطين الإنس، فاستعذ باللَّه من شره [وادعُ اللَّه له بالهداية]. هذه جملة من آداب استعمال الهاتف، على المسلم التحلي بها. ومجموعة من المناهي، والمحاذير التي يجب اجتنابها، وهي تدل على غيرها مما لم يذكر. والحمد لله رب العالمين. اهـ من رسالة «أدب الهاتف». فائدة: بمناسبة الهاتف الرطب، قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُلُّو أرحامكمْ ولوْ بالسَّلامِ». (حسن) البزار عن ابن عباس، (طب) عن أبي الطفيل، (هب) عن أنس وسويد بن عمرو [وقيل ابن عامر الأنصاري] (¬2). ¬

(¬1) صحيح - انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬2) زيادة من «الجامع الكبير». …تنبيه: لأخينا في اللَّه الشيخ بكر بن عبد اللَّه أبو زيد، رسالة قيمة بعنوان: «مرويات دعاء ختم القرآن» أستحب لكل إمام في صلاة التراويح قراءتها، وأشير إلى أن إحدى دور التسجيلات الصوتية قامت بنشر شريط لي قديم، به دعاء ختم القرآن في صلاة التراويح، لم يكن متداولاً في السوق قط، وبعد علمها أنني انتهيت عن ذلك منذ فترة طويلة، فاللهم إني من ذلك بريء. (قل).

«الصحيحة» (1777)، وكيع في «الزهد»، حب في «الثقات»، القضاعي، ابن عساكر - سويد القطيعي - ابن عباس - انظر «صحيح الجامع». قال المناوي رحمه اللَّه تعالى في «فيض القدير»: «بلو أرحامكم» أي: اندوها بما يجب أن تندى به، وواصلوها بما ينبغي أن توصل به. «ولو بالسلام» يقال الوصل بلل يوجب الالتصاق والاتصال والهجر يفضي إلى التفتت والانفصال. قال الزمخشري: استعار البلل للوصل كما يستعار اليبس للقطيعة، لأن الأشياء تختلط بالنداوة وتتفرق باليبس، وقال الطيبي: شبه الرحم بالأرض الذي إذا وقع الماء عليها وسقاها حق سقيها أزهرت ورُؤيت فيها النضارة فأثمرت المحبة والصفاء، وإذا تركت بغير سقي يبست وبطل نفعها فلا تثمر إلا البغض والجفاء، ومنه قولهم: سنة جماد أي لا مطر فيها، وناقة جماد أي لا لبن فيها. وقال الزين العراقي: بين به أن الصلة والقطيعة درجات، فأدنى الصلة ترك الهجر، وصلتها بالكلام ولو بالسلام، ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة، فمنها واجب، ومنها مندوب). اهـ. وسيأتي الكلام عن صلة الرحم إن شاء اللَّه تعالى في باب الدين النصيحة. * * *

الباب العاشر: حكم تغطية وجه المرأة

الباب العاشر: حكم تغطية وجه المرأة مقدمة: أسأل اللَّه تعالى أن يجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهه خالصة، ولا يجعل لأحد فيها شيئًا .... آمين. حرصًا مني أمام اللَّه سبحانه وتعالى على أن يكون هذا الكتاب ليس محل خلاف، وإنما هو فقط مجرد عرض لآراء العلماء دون تدخل مني، وفي نفس الوقت يكون هذا العرض لأكثر من مرجع - من أجل ذلك كله - رأيت أن أعرض حكم الإسلام في تغطية الوجه من خلال هذه الكتب التالية: 1 - كتاب «إلى كل فتاة تؤمن باللَّه» لفضيلة الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي. 2 - كتاب «المرأة المسلمة» لفضيلة الشيخ وهبي سليمان غاوجي. 3 - كتاب «روائع البيان في تفسير آيات الأحكام» لفضيلة الشيخ الصابوني. ولقد أفادنا فضيلة الشيخ البوطي، حينما أتى بالخلاصة، فأردت أن أبدأ بها أولاً، أما فضيلة الشيخ وهبي سليمان غاوجي فقد أسهب في الموضوع فأردت أن آتي برأيه كاملاً وإني إذ آتي برأي فضيلة الشيخ وهبي غاوجي كاملاً، لا أكون بذلك قد تحيزت لرأي معين في طريقة العرض، وإنما أردت بذلك المرأة التي تريد أن تحتاط لدينها أكثر، بتغطية وجهها، حتى إذا قرأت الأدلة، يكون عندها من كتاب ربها وسنة نبيها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يقوي إيمانها بأمر ربها والامتثال له. تنبيه: قد ترى أن هناك فرقًا بين الشيخين البوطي وغاوجي من ناحية تعميم رأي كل منهما بالنسبة لمذهب المالكية. أولاً الخلاصة: كما يراها فضيلة الشيخ البوطي: محل الإجماع ونتيجة الخلاف: فقد تحصل من هذا الكلام، أن أئمة المسلمين كلهم، قد أجمعوا على ما يلي: 1 - لا يجوز أن تكشف المرأة أمام غير الذين استثناهم اللَّه عز وجل شيئًا أكثر من وجهها وكفيها. 2 - لا يجوز لها أن تكشف الوجه والكفين أيضًا إذا علمت أن حولها من قد ينظر إليها

النظر المحرم الذي نهى اللَّه تعالى عنه، بأن يتبع النظرة النظرة، ولا تستطيع أن تزيل هذا المنكر إلا بحجب وجهها عنه. وعلى هذه الحالة يحمل ما نقله الخطيب الشربيني عن إمام الحرمين من اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجه (¬1). وقد صرح بهذا القيد القرطبي، فيما نقله عن ابن خويز منداد من أئمة المالكية: أن المرأة إذا كانت جميلة، وخيف من وجهها وكفيها الفتنة، فعليها ستر ذلك (¬2). وقال صاحب «الدر المختار» من الحنفية: وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين الرجال، لا لأنه عورة، بل لخوف الفتنة، ولا يجوز النظر إليه بشهوة (¬3). وهكذا، فقد ثبت الإجماع عند جميع الأئمة (سواء من يرى منهم أن وجه المرأة عورة كالحنابلة والشافعية، ومن يرى منهم أنه ليس بعورة كالحنفية والمالكية) (¬4): أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها عند خوف الفتنة بأن كان من حولها من ينظر إليها بشهوة، ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم أن الفتنة مأمونة اليوم! وأنه لا يوجد في الشوارع من ينظر إلى وجوه النساء بشهوة؟! واتفقوا على جواز كشف المرأة وجهها، ترخصًا لضرورة (¬5) تعلم أو تطبب أو عند أداء شهادة أو تعامل من شأنه أن يستوجب الشهادة. فهذه النقاط الثلاث محل إجماع لدى الأئمة وعامة الفقهاء. ثم إنهم اختلفوا فيما وراء هذه الأحوال، وهو أن تكون المرأة بادية الوجه في مجتمع عام وليس ثمة من يتعمد النظر إليها بريبة - وهذا فرض وهمي اليوم - فقد ذهب البعض كما رأينا إلى أنه لا حرج عليها في ذلك، وذهب آخرون إلى أنه يجب عليها أن تستر وجهها مطلقًا. هذا هو حكم الإسلام في لباس المرأة. اتفقت عليه كلمة علماء المسلمين كلهم، معتمدين في ذلك على نصوص واضحة صريحة في كتاب اللَّه تعالى، وأحاديث ثابتة من سنة رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام، فإذا عثرنا بعد ذلك على وقائع وتصرفات فردية لبعض نساء الصحابة أو التابعين أو غيرهم، تخالف هذا الذي أجمع عليه الأئمة، مما دل عليه صريح ¬

(¬1) كتاب «إلى كل فتاة تؤمن باللَّه» السالف ذكره (ص: 44: 46). (قل). (¬2) «مغني المحتاج» (3/ 121). (¬3) «تفسير القرطبي» (12/ 238). (¬4) «الدر المختار على هامش ابن عابدين» (1/ 284). (¬5) ليس هناك علم شرعي أو غير شرعي يبيح للمرأة أن تكشف وجهها من أجله، فالعلوم الشرعية منزهة عن ذلك، وأما العلوم الأخرى فوجه المرأة في الإسلام أسمى من شهادات الدنيا بأسرها. (قل).

ثانيا: حكم تغطية الوجه بقلم فضيلة الشيخ وهبي غاوجي:

الكتاب والسنة، فإنها وقائع محجوبة بالحكم المبرم الذي دل عليه إجماع الأئمة وصريح الكتاب والسنة، وحاشا أن يكون حكم اللَّه هو المحجوب بها. انتهى من كتاب «إلى كل فتاة تؤمن باللَّه». ثانيًا: حكم تغطية الوجه بقلم فضيلة الشيخ وهبي غاوجي: آيات الحجاب: الآية الأولى: قال اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53]. قال عمر رضي اللَّه تعالى عنه: وافقت ربي عز وجل في ثلاث: قلت: يا رسول اللَّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل اللَّه تعالى: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، وقلت: يا رسول اللَّه، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن، فأنزل اللَّه آية الحجاب - وهي المكتوبة قبل أسطر - وقلت لأزواج النبي لما تمالأن عليه في الغيرة: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5] فأنزلت كذلك. رواه البخاري ومسلم. وذكر أنس رضي اللَّه تعالى عنه ما كان من وليمة رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بزينب، وفيه: وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وزوج الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط فأطالوا الحديث، فشقوا على رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان أشد الناس حياء (¬1). وكان زواجه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بزينب بنت جحش في ذي القعدة في السنة الخامسة من الهجرة، وفي صبيحة عرسه بها نزلت آية الحجاب، فاحتجبت المرأة المسلمة، وما تزال. وقبل ذلك كانت المسلمة تستر رأسها وصدرها، ويبدو ما قد يبدو من شعر رأسها وعنقها وبعض صدرها. وفي الجاهلية كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، وكانت لها مشية تكسر وتغنج، تلقي فيه الخمار على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ¬

(¬1) رواه ابن أبي حاتم.

ذلك كله منها (¬1)، فأين خروج المرأة اليوم من خروج أختها في الجاهلية الأولى؟! قال ابن كثير: فقوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} حظر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير إذن كما كانوا قبل يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام، حتى غار اللَّه تعالى لهذه الأمة فأمرهم بذلك، وذلك إكرام من اللَّه لهذه الأمة، ولهذا قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياكم والدخول على النساء» (¬2) الحديث. يشير ابن كثير بكلامه هذا إلى ما صرح به علماء الأصول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أي: لئن كانت الآيات نزلت في نسائه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحجابهن، فإنها تعم بأحكامها سائر نساء المسلمين. ومما يؤكد هذا الحكم: أ- قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} فدخول الضيف في البيت بدون إذن،، وكذا مع الإذن قبل نضج الطعام والجلوس بعد الطعام استرسالاً في الحديث، وإن الإيذاء كما لا يحل في جنب رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يحل في حق أحد المسلمين. ب- يؤكد قوله تعالى في الحجاب: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} فطهارة القلوب عن الخواطر الشيطانية مطلوبة في حق أزواجه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسائر المسلمين، بل الطهارة من هذه الخواطر المفضية إلى المعاصي المطلوبة في حق كل مؤمن ومؤمنة، بل أمره في غير أمهات المؤمنين آكد وأشد لمظنة الريبة في سائر نساء المسلمين لما أن نساء رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبعد الناس عن ظن السوء، ولأنهن لقبن بأمهات المؤمنين، ولأنهن نساء رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الآية الثانية: قوله تعالى لنساء رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (¬3) يقصد به تعميم الحكم على نساء المسلمين عامة، فإن قرار النساء في البيوت وعدم خروجهن لغير حاجة أمر مقرر في الإسلام، وكذا النهي عن التبرج بالتكسر في المشي وإظهار بعض الرأس والصدر أمر مقرر في النساء عامة. قال الأستاذ المودودي - رحمه اللَّه تعالى - عند قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}: قد ذهب بعض الناس - يريد بعض المعاصرين - إلى أن هذا الأمر خاص لأزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

(¬1) «تفسير ابن كثير» (ج3 ص: 482). (¬2) متفق عليه - انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬3) قال الزمخشري: كانت - أي نساء أهل الجاهلية الأولى - جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، ولكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى - أي: أعناقهن وصدورهن - مكشوفة، فأمرن أن يُسدلنها من قدامهن حتى يغطينها (2 - 90).

لابتداء الآية بخطاب - (يا نساء النبي) - ولكنا نسأل: أي وصية من الوصايا الواردة في هذه الآية مخصوصة بأمهات المؤمنين دون سائر النساء؟ فقد قيل فيها: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا - وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 32، 33]. فتأمل هذه الوصايا والأوامر وقل لي: أي أمر منها لا يتصل بعامة النساء المسلمات؟ وهل النساء المسلمات لا يجب عليهن أن يتقين اللَّه تعالى، أو قد أبيح لهن أن يخضعن بالقول ويكلمن الرجال كلامًا يغريهم ويشوقهم؟ أو يجوز لهن أن يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى؟ ثم هل ينبغي لهن أن يتركن الصلاة والزكاة ويعرضن عن طاعة اللَّه ورسوله؟ وهل يريد اللَّه أن يتركهن في الرجس؟ فإذا كانت هذه الأوامر والإرشادات عامة لجميع المسلمات فما المبرر لتخصيص كلمة {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} وحدها بأزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ إن مصدر الفهم الخاطئ في الحقيقة هو مبتدأ الآية: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء}، ولكن هذا الأسلوب لا يختلف - مثلاً - عن قولك لولد نجيب: يا بني لست كأحد من عامة الأولاد حتى تطوف في الشوارع وتأتي بما لا يليق من الحركات، فعليك بالأدب واللياقة. فقولك هذا لا يعني أن سائر الأولاد يحمد فيهم طواف الشوارع وإتيان الحركات السيئة، ولا يطلب منهم الأدب واللياقة، بل المراد بمثل قولك هذا تحديد معيار لمحاسن الأخلاق وفضائلها، لكي يصبوا إليها كل ولد يريد أن يعيش كنجباء الأولاد فيسعى في بلوغه. وقد اختار القرآن الكريم هذه الطريقة لتوجيه النساء لأن نساء العرب في الجاهلية كن على مثل الحرية التي توجد في نساء العرب في هذا الزمان، وكان العمل جاريًا على تعويدهن الحضارة الإسلامية بشيء من التدريج، ويعلمهن حدود الأخلاق وقيود الضابط الاجتماعي على يد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ففي تلك الأحوال عنى الإسلام بضبط أمهات المؤمنين بضابطة على وجه خاص حتى يكنَّ أسوة لسائر النساء، وتتبع طريقتهن وعاداتهن في بيوت عامة المسلمين. هذا الرأي نفسه - وهو تعميم نساء المسلمين بالخطاب - أبداه العلامة أبو بكر الجصاص في كتابه «أحكام القرآن» فقال: وهذا الحكم وإن نزل خاصًا في النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأزواجه فالمعنى فيه عام، فيه وفي غيره، إذ كنا مأمورين باتباعه والاقتداء به، إلا مما خصه اللَّه به دون أمته. اهـ. «الجزء الثالث ص: 455».

الآية الثالثة: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب: 59]. الجلباب: قال ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنه فيه: هو الذي يستر من فوق إلى أسفل. وقال سعيد بن جبير: هو المقنعة (الملاءة). وقيل: كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها، والثوب الذي تشتمل به المرأة فوق الدرع والخمار. الإدناء: هو التقريب. يقال: أدنى الشيء إذا قربه وضُمِّن معنى الإرخاء والسدل، ولذا عُدي بعلى. قال سعيد بن جبير: يدنين: يسدلن عليهن. والظاهر أن المراد بـ {عَلَيْهِنَّ} على جميع أجسادهن، وقيل: على رءوسهن أو على وجوههن لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه، قالت أم سلمة رضي اللَّه عنها: لما نزلت هذه الآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ} خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها. اهـ (¬1). الحجاب الشرعي: الحجاب الشرعي المأمور به ثلاث درجات بعضها فوق بعض في الاحتجاب والاستتار، دل عليها الكتاب والسنة (¬2). الدرجة الأولى: حجاب الأشخاص في البيوت بالجدر والخدر وأمثالها، بحيث لا يرى الرجال شيئًا من أشخاصهن ولا لباسهن ولا زينتهن الظاهرة ولا الباطنة، ولا شيئًا من جسدهن من الوجه والكفين وسائر البدن. 1 - وقد أمر اللَّه تعالى بهذه الدرجة من الحجاب فقال: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} إذ إن هذا يدل على أن سؤال أي شيء منهن يكون من خلف ستر يستر الرجال عن النساء والنساء عن الرجال، وما ذكر من سبب نزول الآية يقرر هذا الأمر ويؤكده. 2 - وأمر بها في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} قال محمد بن سيرين: ثبت أنه قيل لسودة بنت زمعة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مالك لا تحجين ولا تعتمرين كما تفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني اللَّه تعالى أن أقر في بيتي، فواللَّه لا أخرج من بيتي حتى أموت. قال: فواللَّه ما خرجت من باب حجرتها حتى خرجت جنازتها (¬3). ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق وغيره، «روح المعاني» (22 - 68 وما بعد). (¬2) انظر «جوهر القرآن» لمفتي عموم باكستان العلاّمة محمد شفيع، أثابه اللَّه. (¬3) كذا في «السراج المنير» للخطيب الشربيني (3 - 343).

وهذا الحكم العام قد استثني بالخروج للحاجة، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أذن لكن في الخروج لحاجتكن». رواه البخاري. 3 - ويرشح هذه الدرجة أحاديث تحبب إلى المرأة القرار في البيت وعدم الخروج حتى إلى صلاة الجماعة مع رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن قرارها في بيتها أرجى لها في الأجر عند اللَّه تعالى. جاءت أم حميد الساعدي إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول اللَّه، إني أحب الصلاة معك، قال: «قد علمتُ أنك تحبين الصلاة معي؟ وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي». قال: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت اللَّه عز وجل. رواه أحمد (¬1). نعم للنساء الكبار الخروج إلى المساجد بالليل كصلاة المغرب والعشاء والفجر، فإن الليل أستر وأخفى وأبعد عن الفتنة. قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تمنعوا إماء اللَّه مساجد اللَّه، ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد». رواه الترمذي. ويشترط لخروجهن إلى الصلاة أمور: 1 - أن يكون ذلك في صلوات الليل لما ذكرنا من حديث الترمذي. 2 - أن يبادرن بالانصراف من المسجد فور سلام الإمام من صلاته. قالت عائشة رضي اللَّه عنها: «كان رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي الصبح فينصرف النساء متلففات بمروطهن ما يعرفن من الغلس». رواه الترمذي (¬2). 3 - ألا تختلط النساء بالرجال في الجماعة، ولا يسبقنهم إلى الصفوف الأمامية، بل عليهن أن يقمن خلف صفوف الرجال. قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها». رواه مسلم. 4 - ألا يكون خروجهن إلى المسجد متزينات. قالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: «يا أيها الناس انهوا نساءكم عن الزينة والتبختر في المسجد، فإن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى ¬

(¬1) حسن. ورواه الطبراني في «الكبير» والبيهقي في «السنن» انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬2) صحيح - انظر «صحيح سنن الترمذي». (قل).

لبس نساؤهم الزينة وتبخترن في المساجد». رواه ابن ماجه. [والحديث ضعيف - انظر ضعيف الجامع]. ولما رأت السيدة عائشة رضي اللَّه تعالى عنها خروج النساء في زمانها على شيء من الزينة إلى المساجد قالت: لو أدرك رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أحدثت النساء لمنعهن - المساجد - كما منعت نساء بني إسرائيل. رواه مسلم. 5 - أن يسكنَّ في الصلاة ولو للاستدراك على الإمام في خطئه. إلا أن يكون التصفيق بباطن اليد اليمنى على ظاهر اليد اليسرى دون كلام. قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التسبيح للرجال والتصفيق للنساء» (¬1). الدرجة الثانية من الحجاب: خروجهن من البيوت مستورات: 1 - قال اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}. سئل ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} فقال: أن تغطي وجهها من فوق رأسها بالجلباب وتبدي عينًا واحدة، ومثله روي عن السُّدي وعبيدة السلماني. 2 - وقال اللَّه تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ .... وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} تدل هاتان الآيتان على خروج المرأة من بيتها، وإلا لم يكن الأمر موجهًا إلى الرجال والنساء بغض البصر على حد سواء. 3 - وقال اللَّه تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60]. المراد بالثياب هو الجلباب والرداء وغيرها من الثياب الظاهرة التي لا يفضي وصفها إلى كشف العورة. كذا نقل عن ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه. 4 - وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس للنساء وسط الطريق» (¬2)، فقد أذن اللَّه تعالى للنساء بالخروج من بيوتهن خروجًا مقيدًا بالحاجة. 5 - وقد عقد الإمام البخاري في كتاب «النكاح» من صحيحه بابًا قال فيه: «باب استئذان المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد وغيره» عن سالم عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ¬

(¬1) رواه البخاري وانظر كتاب «الحجاب» للمودودي رحمه اللَّه تعالى. (¬2) رواه البيهقي. [وحسنه الألباني]. (قل).

«إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها» قال الحافظ ابن حجر: قاس - البخاري - غير المسجد على المسجد والجامع بينهما ظاهر، ويشترط في الجميع: الأمن من الفتنة (¬1). الدرجة الثالثة: أي: خروجهن مستورات الأبدان من الرأس إلى القدم، مع كشف الوجه واليدين عند أمن الفتنة على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي اللَّه تعالى عنه. والعلماء في هذا الأمر على قولين: أباح بعضهم كشف الوجه واليدين عند أمن الفتنة، ولم يبح ذلك آخرون إلا عند الاضطرار. وعلى القول الأول أبو حنيفة، وعلى القول الثاني: مالك والشافعي وأحمد. 1 - مذهب المالكية: أنه لا يجوز النظر إلى شيء من بدن المرأة لا إلى الوجه ولا إلى الكفين ولا إلى غيرهما، ولا يجوز للمرأة إبداء الوجه والكفين للأجانب، وقد صرح ابن المنير المالكي بذلك فقال: إن كل بدن الحرة لا يحل لغير الزوج، والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة (¬2). وقال القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه «أحكام القرآن» (¬3) عند قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ}: وهذا يدل على أن اللَّه تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب: في حاجة تعرض أو مسألة يستفتى فيها. والمرأة كلها عورة: بدنها وصوتها فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة، أو لحاجة كالشهادة أو داء يكون ببدنها (¬4). 2 - مذهب الشافعية: أنه لا يجوز النظر إلى شيء من بدن المرأة لا الوجه ولا الكفين ولا يجوز للمرأة إبداء شيء من بدنها للأجانب إلا لضرورة. قال الإمام النووي: ويحرم نظر فحل بالغ إلى عورة حرة أجنبية، وكذا إلى وجهها وكفيها عند خوف الفتنة، وكذا عند الأمن على الصحيح (¬5). 3 - مذهب الحنابلة: أنه لا يجوز النظر إلى شيء من بدن المرأة لا الوجه، ولا الكفين، ولا يجوز للمرأة إبداء شيء من بدنها للأجانب إلا لضرورة. قال الشيخ يوسف مرعي: وحرم في غير ما مر - والذي مر هو نظر الخاطب - ونظر ¬

(¬1) «فتح الباري» (9 - 328). (¬2) «روح المعاني». (¬3) «أحكام القرآن» (2/ 18). (¬4) اعتبر الشيخ الصابوني أثابه اللَّه - في «روائع البيان» (ج2 ص: 154) - رأي المالكية كرأي الحنفية. (قل). (¬5) «نيل الأوطار» (2 - 18).

الزوج إلى زوجته، وغير ذلك: قصد نظر أجنبية حتى شعر متصل لا بائن. قال أحمد: ظفرها عورة، فإذا خرجت فلا تبين شيئًا، ولا خفيها فإنه يصف القدم، وأحب أن تجعل لكمها زرًّا عند يدها (¬1). 4 - مذهب الحنفية: أنه يجوز للمرأة كشف وجهها وكفيها عند أمن الفتنة. قال الكاساني: فلا يجوز النظر من الأجنبي إلى الأجنبية الحرة إلى سائر بدنها إلا الوجه والكفين لقوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} إلا أن النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة وهي - الوجه والكفين - رخص بقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}. والمراد من الزينة: مواضعها، ومواضع الزينة الظاهرة: الوجه والكفان، ولأنها تحتاج إلى البيع والشراء والأخذ والعطاء، ولا يمكنها ذلك عادة إلا بكشف الوجه والكفين، فيحل لها الكشف. وهذا قول أبي حنيفة رضي اللَّه عنه. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يحل النظر إلى القدمين أيضًا، ثم قال: إنه يحل النظر إلى مواضع الزينة منها من غير شهوة، وأما عن شهوة فلا، لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العينان تزنيان» (¬2)، وليس زنى العينين إلا النظر عن شهوة. ثم قال: والأفضل للشاب غض البصر عن وجه الأجنبية وكذا الشابة، لما فيه من خوف حدوث الشهوة والوقوع في الفتنة، ويؤيده المروي عن ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}: أنه الرداء والثياب. فكان غض البصر وترك النظر أزكى وأطهر (¬3). وجاء في «الدر المختار»: يعزر المولى عبده والزوج زوجته على تركها الزينة، أو كلمة ليسمعها أجنبي، أو كشف وجهها لغير محرم (¬4). وجاء فيه كذلك: وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين الرجال، لا لأنه عورة بل لخوف الفتنة كمسه، وإن أمن الفتنة لأنه أغلظ ولذا ثبتت به حرمة المصاهرة. قال ابن عابدين في شرحه عليه: المعنى تمنع من الكشف لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع الفتنة، لأنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة. قوله: كمسه: أي: كما يمنع الرجل من مس وجهها وكفيها وإن أمن الشهوة. وقال أبو بكر الجصاص: - وهو حنفي - عند قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن ¬

(¬1) «غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى» (3 - 7). (¬2) صحيح - رواه أحمد والطبراني في «الكبير» - انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬3) «بدائع الصنائع» (5 - 123). (¬4) «هامش در المختار شرح الدر» لابن عابدين (3 - 16).

جَلاَبِيبِهِنَّ}: في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها من الأجنبي وإظهار الستر والعفاف عند الخروج، لئلا يطمع أهل الريب فيهن (¬1). فأصل مذهب الإمام أبي حنيفة جواز كشف المرأة وجهها في الحالات العامة، على وجود [الأمة المسلمة العفيفة في رجالها ونسائها]. أما إذ تغيرت الحالة العامة ولم يؤمن فيها من الفتنة فيجب على المرأة أن تستر جميع بدنها ووجهها وكفيها، سدًّا لذرائع الفساد وعوارض الفتن. فحكم وجه المرأة وكفيها في المذهب الحنفي في مثل أيامنا هذه كحكمه في باقي المذاهب الأربعة وهو: حرمة كشف المرأة وجهها لغير ضرورة، واللَّه أعلم. وبالجملة فقد اتفقت مذاهب الفقهاء وجمهور الأئمة على أنه: لا يجوز للنساء الشواب كشف الوجوه والأكف بين الأجانب، ويستثنى فيه العجائز (¬2) لقوله: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء}، والضرورات مستثناة من الجميع بالإجماع. فلم يبق للحجاب المشروع إلا الدرجتان الأوليان: القرار في البيوت وحجاب الأشخاص وهو الأصل. والثانية خروجهن لحوائجهن مستترات بالبراقع والجلابيب وهو الرخصة للحاجة، ولا شك أن كلتا الدرجتين منه مشروعتان، غير أن الغرض من الحجاب لما كان سد الذرائع، وفي خروجهن من البيوت ولو للحوائج والضرورات مظنة فتنة، شرط اللَّه تعالى ورسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شروطًا يجب عليهن التزامها عند الخروج (¬3). ما يدل على وجوب ستر الوجه مطلقًا: 1 - قال القرطبي عند قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}: الزينة على قسمين: خِلقية ومكتسبة، فالخلقية: وجهها، فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة، ومعنى الحيوانية لما فيه من المنافع وطرق العلوم، وأما الزينة المكتسبة: فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها كالثياب والحلي والكحل والخضاب، ومنه قوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31]. وقال الشاعر: يأخذن زينتهن أحسن ما ترى وإذا عطلن فهن خير عواطل وقال: ومن الزينة ظاهر وباطن. ¬

(¬1) «أحكام القرآن» (3 - 458). (¬2) ومع ذلك قال اللَّه تعالى: {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، وبشرط عدم رغبتهن في النكاح، كما هو واضح من نص الآية. (قل). (¬3) إن شاء اللَّه تعالى سيأتي ذكر هذه الشروط عند الكلام عن حكم عمل المرأة خارج البيت. (قل).

فما ظهر فمباح أبدًا لكل الناس من المحارم والأجانب. وقد ذكرنا ما للعلماء فيه، وأما ما بطن فلا يحل إبداؤه إلا لمن سماهم اللَّه تعالى في هذه الآية أو حل محلهم (¬1). 2 - وقال القاضي البيضاوي: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}: كالحلي والثياب والأصباغ فضلاً عن مواضعها لمن لا يحل أن تبدي له {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم، فإن في سترها حرجًا. وقيل: المراد بالزينة مواقعها على حذف المضاف أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزينية، لا في النظر فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة (¬2). 3 - وقال عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه: الزينة زينتان: زينة ظاهرة وزينة باطنة لا يراها إلا الزوج، فأما الزينة الظاهرة فالثياب وأما الزينة الباطنة السوار والخاتم (¬3). 4 - وقال عبد اللَّه بن عباس: أمر اللَّه نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينًا واحدة. «من رواية علي بن أبي طلحة وهي رواية البخاري لتفسير ابن عباس في الصحيح». 5 - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتنقب المحرمة ولا تلبس القفازين» (¬4). رواه البخاري. وهذا يعني أن غير المحرمة تنتقب، بأن تستر الوجه، وتستر اليدين بأن تلبس القفازين. ومع ذلك فإن المرأة المحرمة إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبًا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها. روي ذلك عن عثمان وعائشة وبه قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وغيرهم. قالت عائشة رضي اللَّه عنها: كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزوا كشفنا. رواه أبو داود. قالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: يرحم اللَّه نساء المهاجرات الأول، لما أنزل اللَّه تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن (¬5) فاختمرن بها. رواه ¬

(¬1) «الجامع لأحكام القرآن» (ص: 12 - 229). (¬2) البيضاوي مهمشًا بالجلالين (2 - 138) [وقد سبقت الإشارة إلى ذلك من صفوة التفاسير]. (قل). (¬3) رواه ابن أبي شيبة وابن جرير وفي «الدر المنثور» نقول عديدة في هذا المعنى من اعتبار الوجه عورة مستورة. (¬4) ولكنها تدخل يديها في كميها كما دلت على ذلك الآثار الصحيحة. (قل). (¬5) المرط: كساء من صوف ونحوه يؤتزر به.

ثالثا: 1 - ما جاء في ((روائع البيان)) تحت عنوان: ((طائفة من أقول المفسرين في وجوب ستر الوجه)).

البخاري (¬1). انتهى من كتاب «المرأة المسلمة». ثالثًا: 1 - ما جاء في «روائع البيان» تحت عنوان: «طائفة من أقول المفسرين في وجوب ستر الوجه». أولاً: قال ابن الجوزي في قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} أي: يغطين رءوسهن ووجوههن ليعلم أنهن حرائر، والمراد بالجلابيب: الأردية - قاله ابن قتيبة. ثانيًا: وقال أبو حيّان في «البحر المحيط»: وقوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} شامل لجميع أجسادهن، أو المراد بقوله: {عَلَيْهِنَّ} أي: على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه (¬2). ثالثًا: وقال أبو السعود: الجلباب: ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء، تلويه المرأة على رأسها وتبقي منه ما ترسله على صدرها، ومعنى الآية: أي: يغطين بها وجوههن وأبدانهن إذا برزن لداعية من الدواعي. وعن السّدي: تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين (¬3). رابعًا: وقال أبو بكر الرازي (¬4): وفي هذه الآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها على الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع فيهن أهل الريب (¬5). خامسًا: وفي «تفسير الجلالين»: الجلابيب جمع جلباب، وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة، قال ابن عباس: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رءوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عينًا واحدة ليعلم أنهن حرائر (¬6). سادسًا: وفي تفسير الطبري: عن ابن سيرين أنه قال: سألت عبيدة السلماني عن قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} فرفع ملحفة كانت عليه فتقنّع بها وغطى بها رأسه كله حتى بلغ الحاجبين، وغطى وجهه وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر، وروي مثل ذلك عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما (¬7). انتهى من «روائع البيان» للصابوني أثابه ¬

(¬1) كتاب «المرأة المسلمة» لفضيلة الشيخ وهبي سليمان غاوجي (ص: 191 - 212). (قل). (¬2) «البحر المحيط» لأبي حيان (ج7 ص: 250). (¬3) «تفسير أبي السعود على هامش الرازي» (ج6 ص: 801). (¬4) أبو بكر الرازي هو المشهور بالجصاص. (¬5) «أحكام القرآن» للجصاص (ج3 ص: 372). (¬6) «تفسير الجلالين الجزء الثاني». (¬7) «تفسير الطبري الجزء الثاني والعشرون».

اللَّه (¬1). ب- ما هي شروط الحجاب الشرعي: جاء في «روائع البيان» ما يلي: يشترط في الحجاب الشرعي بعض الشروط الضرورية وهي كالآتي: أولاً: أن يكون الحجاب ساترًا لجميع البدن لقوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ}. ثانيًا: أن يكون كثيفًا غير رقيق، لأن الغرض من الحجاب الستر، فإذا لم يكن ساترًا لا يسمّى حجابًا، لأنه لا يمنع الرؤية ولا يحجب النظر، وفي حديث عائشة أن (أسماء بنت أبى بكر) دخلت على رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... الحديث (¬2). ثالثًا: ألاّ يكون زينة في نفسه، أو مبهرجًا ذا ألوان جذابة يلفت الأنظار لقوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} الآية، ومعنى: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي: بدون قصد ولا تعمد، فإذا كان في ذاته زينة فلا يجوز ارتداؤه، ولا يسمى (حجابًا) لأن الحجاب هو الذي يمنع ظهور الزينة للأجانب. رابعًا: أن يكون فضفاضًا غير ضيق، لا يشف عن البدن، ولا يجسم العورة، ولا يظهر أماكن الفتنة في الجسم، وفي «صحيح مسلم» عن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «صنفان من أهل النار لم أرهما: قومٌ معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساءٌ كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا». وفي رواية أخرى: «وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام» (¬3). رواه مسلم. ¬

(¬1) «روائع البيان» للصابوني (ج2 ص: 382، 383) وذلك في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}. (قل) (¬2) رواه أبو داود بسند مرسل وقد تقدم في سورة النور. (¬3) جاء في «شرح مسلم» للنووي رحمه اللَّه تعالى (جـ17 ص 277): (أما «الكاسيات» ففيه أوجه: أحدهما: معناه كاسيات من نعمة اللَّه عاريات من شكرها، والثاني: كاسيات من الثياب عاريات من فعل الخير والاهتمام لآخرتهن والاعتناء بالطاعات، والثالث: تكشف شيئًا من بدنها إظهارًا لجمالها فهن كاسيات عاريات، والرابع: يلبسن ثيابًا رقاقًا تصف ما تحتها كاسيات عاريات في المعنى). اهـ. وزاد الحافظ ابن حجر وجهًا خامسًا نقلاً عن «تحفة الأحوذي» (جـ6 ص 371): (كاسية من خلعة التزوج بالرجل الصالح، عارية في الآخرة من العمل). اهـ. ثم قال النووي رحمه اللَّه تعالى: (وأما «مائلات مميلات» فقيل: زائغات عن طاعة اللَّه تعالى وما يلزمهن من حفظ الفروج وغيرها ومميلات يعلمن غيرهن مثل فعلهن، وقيل: مائلات متبخترات في مشيتهن مميلات أكتافهن، وقيل: مائلات يتمشطن المشطة الميلاء وهي مشطة البغايا معروفة لهن مميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة، وقيل: مائلات إلى الرجال مميلات لهم بما يبدين من زينتهن وغيرها، وأما «رءوسهن كأسنمة البخت» فمعناه يعظمن رؤوسهن بالخُمر والعمائم وغيرها مما يلف على الرأس حتى تشبه أسنمة الإبل البخت هذا هو المشهور في تفسيره. قال المازري: ويجوز أن يكون معناه يطمحن إلى الرجال ولا يغضضن عنهم ولا يسكن رؤوسهن، واختار القاضي أن المائلات تمشطن المشطة الميلاء قال: وهي ضفر الغدائر وشدها إلى = = فوق وجمعها في وسط الرأس فتصير كأسنمة البخت قال: وهذا يدل على أن المراد بالتشبيه بأسنمة البخت إنما هو لارتفاع الغدائر فوق رؤوسهن وجمع عقائصها هناك وتكثرها بما يضفرنه حتى تميل إلى ناحية من جوانب الرأس كما يميل السنام، قال ابن دريد: يقال: ناقة ميلاء إذا كان سنامها يميل إلى أحد شقيها واللَّه أعلم. قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يدخلن الجنة» يتأول التأويلين السابقين في نظائره أحدهما: أنه محمول على من استحلت حرامًا من ذلك مع علمها بتحريمه فتكون كافرة مخلدة في النار لا تدخل الجنة أبدًا، والثاني: يحمل على أنها لا تدخلها أول الأمر مع الفائزين واللَّه تعالى أعلم). اهـ من «شرح مسلم» قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا يجدن ريحها» قال المناوي في «فيض القدير» أي الجنة. «وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا» أي: يوجد من مسيرة خمسمائة عام كما جاء مفسرًا في رواية أخرى). اهـ بتصرف يسير. (قل).

ومعنى قوله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -]: «كاسيات عاريات» أي كاسيات في الصورة عاريات في الحقيقة، لأنهن يلبسن ملابس لا تستر جسدًا، ولا تخفي عورة. والغرض من اللباس السترُ، فإذا لم يستر اللباس كان صاحبه عاريًا. خامسًا: ألا يكون الثوب معطرًا فيه إثارة للرجال لقوله عليه الصلاة والسلام [قد تقدم شرح هذه النقطة]. سادسًا: ألا يكون الثوب فيه تشبه بالرجال، أو مما يلبسه الرجال، لحديث أبي هريرة: «لعن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل» (¬1). وفي الحديث: «لعن اللَّه المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء» (¬2) أي: المتشبهات بالرجال في أزيائهن وأشكالهن كبعض نساء هذا الزمان. نسأل اللَّه السلامة والحفظ (¬3) انتهى من «روائع البيان». جـ - شرطان آخران للحجاب الشرعي: اشترط بعض العلماء فوق ما تقدم: 1 - ألا يشبه لباس الكافرات. 2 - ألا يكون لبس شهرة، لقول الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه اللَّه ثوب مذلة يوم القيامة ثم ألهب فيه نارًا». أخرجه أبو داود وابن ماجه وإسناده حسن كما قال المنذري. ¬

(¬1) رواه أبو داود والنسائي كذا في «تخريج السنن» (ج6 ص: 57). (¬2) رواه الترمذي وصححه الألباني. (قل). (¬3) «روائع البيان» للشيخ الصابوني أثابه اللَّه (ج2 ص: 384: 386). (قل).

قال الشوكاني: والحديث يدل على تحريم لبس ثوب الشهرة، وليس هذا الحديث مختصًّا بنفس الثياب، بل قد يحصل ذلك لمن يلبس ثوبًا يخالف ملبوس الناس من الفقراء ليراه الناس فيتعجبوا من لباسه ويعتقدوه. قاله ابن رسلان. وإذا كان اللبس لقصد الاشتهار في الناس فلا فرق بين رفيع الثياب ووضيعها، والموافق لملبوس الناس والمخالف، لأن التحريم يدور مع الاشتهار، والمعتبر القصد وإن لم يطابق الواقع. اهـ. فائدة: جاء في «روائع البيان» يطلب من المسلم أن يُعَوِّد بناته منذ سن العاشرة على ارتداء الحجاب الشرعي حتى لا يصعب عليهن بعدُ ارتداؤه، وإن لم يكن الأمر على وجه (التكليف) وإنما هو على وجه (التأديب) قياسًا على أمر الصلاة «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» (¬1) انتهى من «روائع البيان». وفي كتاب «المرأة المسلمة» السالف ذكره من قبل: ويؤمران - أي الوالدان - بستر ابنتهما إذا بلغت أن تشتهى لما سبق، وقدر حد الشهوة في التاسعة عادة، وقدر حد المراهقة من الثانية عشرة عادة - وقد تقدم - وخاصة في المجتمعات المثيرة للشهوات. انتهى من «المرأة المسلمة». ويا حبذا لو عوَّد المسلم ابنته على الحجاب من صغرها حتى يكون من فطرتها. شبهتان والرد عليهما: 1 - روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما (أن أخاه الفضل كان رديفًا للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر) قد يقال: إن في هذا دليلاً على كشف الوجه: أجاب ابن عثيمين رحمه اللَّه (وعن حديث ابن عباس بأنه لا دليل فيه على جواز النظر إلى الأجنبية، لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُقر الفضل على ذلك، بل حرف وجهه إلى الشق الآخر، ولذلك ذكر النووي في «شرح صحيح مسلم» من فوائد هذا الحديث تحريم نظر الأجنبية. وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» وفيه منع النظر إلى الأجنبيات وغض البصر، قال عياض: وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة قال: وعندي أن فعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ غطى وجه الفضل كما في الرواية: فإن قيل: فلماذا لم يأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المرأة ¬

(¬1) حسن - رواه أحمد وأبو داود والحاكم - انظر «صحيح الجامع». (قل).

بتغطية وجهها؟ فالجواب: أن الظاهر أنها كانت محرمة والمشروع في حقها ألا تغطي وجهها إذا لم يكن أحد ينظر إليها من الأجانب، أو يقال: لعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها بعد ذلك، فإن عدم نقل أمره بذلك لا يدل على عدم الأمر، إذ عدم النقل ليس نقلاً للعدم، وروى مسلم وأبو داود عن جرير عبد اللَّه البجلي رضي اللَّه عنه قال: سألت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نظر الفجأة فقال: «اصرف بصرك» أو قال: فأمرني أن أصرف بصري اهـ. 2 - ما أخرجه البخاري وغيره من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالناس صلاة العيد: ثم وعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى إذا أتى النساء فوعظهن وذكرهن وقال: يا معشر النساء تصدقن فإنكن أكثر حطب جهنم، فقامت امرأة سَفْعَاء (¬1) الخدين ... الحديث. قال ابن عثيمين أثابه اللَّه تعالى ردًّا على من يقول: ولولا أن وجهها مكشوف ما عرف أنها سَفْعَاء الخدين. قال: (وعن حديث جابر بأن لم يذكر متى كان ذلك، فإما أن تكون هذه المرأة من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحًا فكشف وجهها مباح، ولا يمنع وجوب الحجاب على غيرها، أو أن يكون قبل نزول آية الحجاب فإنها كانت في سورة الأحزاب سنة خمس أو ست من الهجرة. وصلاة العيد شرعت في السنة الثانية من الهجرة) اهـ. ¬

(¬1) سَفْعَاء: الشُّفْعَة: سواد في اللون، انظر «جامع الأصول». (قل).

من أقوال الشعراء في الإسلام:

من أقوال الشعراء في الإسلام: 1 - يا أخت سابغة البرا ... قع في الأباطح والوعور قرى فديتك حيث لا ... تؤذيك لافحة الهجير ودعي الجنوح إلى السفور ... وخففي ألم العشير النمر لو لزم الشرى ... من كان يطمع في النمور والطير تأخذها شباك ... الصيد في ترك الوكور 2 - قالوا ارفعى عنك الحجابا ... أو ما كفاك به احتجابا؟ واستقبلي عهد السفور ... اليوم واطرحي النقابا عهد الحجاب لقد تبا ... عد يومه عنا وغابا فأجبتهم والضحك ملء ... فمي ولم أعدم جوابا مهلاً فما هذا الذي ... قد غركم إلا سرابا أو لا ترون الغرب كيـ ... ــف غدا الرجال به ذئابا أو لا ترون به عرى الـ ... أخلاق تنشعب انشعابا كم نظرة للوجه تو ... رث في الحشا جمرًا مذابا إن ترغبوا لنسائكم ... صونًا وعيشًا مستطابا فدعوا السفور لأهله ... وارخوا عليهن النقابا 3 - وإذا أراد اللَّه نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار في ما جاورت ... ما كان يعرف طيب عَرف (¬1) العود استئذان الأقارب بعضهم على بعض: قال اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاء ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - وَالْقَوَاعِدُ مِنَ ¬

(¬1) عَرف: أي رائحة (قل).

النِّسَاء اللاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 58 - 60]. جاء في «مختصر تفسير ابن كثير» ما مختصره: قال ابن كثير رحمه اللَّه تعالى: (هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض، وما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض، فأمر اللَّه تعالى المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال: الأول: من قبل صلاة الغداة لأن الناس إذ ذاك يكونون نيامًا في فرشهم {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ} أي: في وقت القيلولة؛ لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله، {وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاء}؛ لأنه وقت النوم فيؤمر الخدم والأطفال أن لا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال، لما يخشى من أن يكون الرجل على أهله أو نحو ذلك من الأعمال؛ ولهذا قال: {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي: إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال، فلا جناح عليكم في تمكينكم إياهم، ولا عليهم إن رأوا شيئًا في غير تلك الأحوال، ولأنهم طوافون عليكم أي في الخدمة وغير ذلك، وما يدل على أنها محكمة لم تنسخ قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، ثم قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} يعني إذا بلغ الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث إذا بلغوا الحلم، وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال، وإن لم يكن في الأحوال الثلاث. قال الأوزاعي: إذا كان الغلام رباعيًا فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه، فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال، وقال في قوله: {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} يعني: كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه، وقوله: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء} هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد {اللآتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا} أي: لم يبق لهن تشوف إلى التزوج، {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي ليس عليهن من الحرج في التستر كما على غيرهن من النساء، قال ابن مسعود في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} قال: الجلباب أو الرداء، وقال أبو صالح: تضع الجلباب وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار، وقال سعيد بن جبير في الآية: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} يقول: لا يتبرجن بوضع الجلباب ليرى ما عليهن من الزينة. عن أم الضياء أنها قالت: دخلت على عائشة رضي اللَّه عنها فقلت: يا أم المؤمنين، ما تقولين في الخضاب والنفاض والصباغ والقرطين والخلخال وخاتم الذهب وثياب الرقاق؟ فقالت:

أحكام العورة بين المحارم:

يا معشر النساء قصتكن كلها واحدة، أحل اللَّه لكن الزينة غير متبرجات (¬1)، أي: لا يحل لكن أن يروا منكن محرمًا. وقوله: {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} أي: وترك وضعهن لثيابهن وإن كان جائزًا، خير وأفضل لهن، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}). انتهى من «مختصر ابن كثير». أحكام العورة بين المحارم: جاء في كتاب «المرأة المسلمة» للشيخ وهبي غاوجي أثابه اللَّه تعالى. (قد عرفنا أن المرأة في حق الأجنبي عورة مستورة، لا تبدي له شيئًا من بدنها ولا وجهها وكفيها. فما عورتها في حق زوجها ومحارمها؟ 1 - العورة بين الزوجين: لا عورة بين الرجل وزوجته، فيحل له أن ينظر منها إلى كل شيء، ويحل لها أن تنظر منه إلى كل شيء، وإن كان يستحب أن لا يتجردا تجرد العيرين حين يكونان معًا. قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك». رواه الخمسة (¬2). 2 - العورة بين الأولاد وأبويهم: ينظر الأولاد إلى أبيهم فيما عدا ما بين السرة والركبة، فلا يحل للرجل أن يظهر فخذيه بقصد بين يدي أولاده ذكورًا كانوا أو إناثًا. وينظر الأولاد إلى أمهم كما ينظرون إلى أبيهم، وينظرون إلى صدرها، دون ظهرها على المختار، لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم} أي: يقول أحدهم لزوجته: أنت علي كظهر أمي، يحرمُها بذلك على نفسه). اهـ من كتاب «المرأة المسلمة». وجاء في كتاب «فقه النظر في الإسلام» لمحمد أديب كلكل رحمه اللَّه تعالى (ص95: 99): (كل امرأة تحرم على الرجل حرمة مؤبدة فهي من ذوات محارمه، وكل رجل حرم على المرأة الزواج منه حرمة مؤبدة فهو من ذوي محارمها. ونظر الرجل إلى ذوات محارمه بنسب أو رضاع (كالأم وإن علت، والبنت وإن ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم. اهـ النفاض: يقال: ما عليه نفاض: شيء من ثياب - «المعجم الوسيط» (قل). (¬2) حسن، رواه أبو يعلى في «مسنده» والحاكم والبيهقي في «السنن» - انظر «صحيح الجامع» (قل).

سفلت، والأخت من أي جهة، والعمة، والخالة، وبنت الأخت، وبنت الأخ، أو مصاهرة: (كزوجة الأب وإن علا، وزوجة الابن وإن سفل، وأم الزوجة ولو قبل الدخول بهن، وبنت الزوجة إذا دخل بأمها؛ لأن العقد على البنات يحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم على البنات). فنظره يجوز إلى ما عدا ما بين السرة والركبة، لكن بغير شهوة؛ لأن النظر بشهوة حرام حتى فيما عدا ما بين السرة والركبة كما في شرح النووي لصحيح مسلم. بل هو حرام لكل ما لا يباح الاستمتاع به ولو حيوانًا أو جمادًا. وقيل: إنما يحل نظر ما يبدو منها في المهنة فقط؛ لأن غيره لا ضرورة إلى النظر إليه سواء المحرم بالنسب والمصاهرة والرضاع، وقيل لا ينظر بالمصاهرة والرضاع إلا إلى البادي في المهنة، والصحيح الأول، ولكن الثاني أسلم وأحوط. والمراد بما يبدو في المهنة: الوجه، والرأس، والعنق، واليد إلى المرفق، والرجل إلى الركبة. والمهنة: بفتح الميم وكسرها: الخدمة، وهل الثدي زمن الإرضاع مما يبدو عند المهنة؟ فيه وجهان عند الشافعية وفي حاشية الدسوقي من كتب المالكية: « .... ولا يجوز للرجل أن يرى من المرأة التي من محارمه صدرها ولا ظهرها ولا ثديها ولا ساقها وإن لم يلتذ بخلاف الأطراف من عنق ورأس وظهر قدم إلا أن يخشى لذة فيحرم لا لكونه عورة». اهـ. وفي «المغني» لابن قدامة المقدسي من كتب الحنابلة: «ويجوز للرجل أن ينظر من ذوات محارمه إلى ما يظهر غالبًا كالرقبة والرأس والكفين والقدمين ونحو ذلك، وليس له النظر إلى ما يستتر غالبًا كالصدر والظهر ونحوهما». اهـ. وفي «الهدية العلائية» من كتب الحنفية: « .... ومن محرمه إلى الرأس والوجه والصدر والساق والعضد إن أمن شهوته وشهوتها وإلا لا، لا إلى الظهر والبطن والفخذ وما يتبعهما من نحو الفرجين والأليتين والركبتين». اهـ. وأما النظر إلى السرة والركبة فيجوز لأنهما ليس من العورة بالنسبة لنظر المحرم. قال النووي في «شرح صحيح مسلم»: «السرة والركبة فيهما ثلاثة أوجه لأصحابنا، أصحها: ليستا بعورة، والثاني: هما عورة، الثالث: السرة عورة دون الركبة». اهـ. وقال مالك: السرة ليست بعورة، وعند أبي حنيفة: الركبة عورة، وهو قول عطاء. ونظر المرأة إلى محرمها كعكسه - لأن المحرمية معنى يوجب حرمة المناكحة - فكانا كالرجلين والمرأتين فتنظر منه ما عدا ما بين سرته وركبته.

يقول العلامة أبو بكر بن العربي في كتابه «أحكام القرآن»: إن حكم الرجل مع النساء على ثلاثة أقسام: الأول: من يجوز له نكاحها. الثاني: من لا يحل له نكاحها ولا لابنه كالأخ والجد والحفيد. الثالث: من لا يحل له نكاحها، ويجوز لولده كالعم والخال بحسب منزلتهم في الحرمة. فمن كان يجوز له نكاحها لم يحل له رؤية شيء منها، ومن لا يحل له نكاحها ويجوز لولده [كالعم والخال] جاز له رؤية وجهها وكفيها خاصة، ولم يحل له رؤية زينتها، ومن لا يحل له ولا لولده جاز الوضع لجلبابها ورؤية زينتها). اهـ. فيحرم على الرجل إذن أن يرى ابنته، أو أخته، أو أمه، أو خالته، أو عمته، أو إحدى محارمه وقد ارتدت تلك الثياب القصيرة التي ارتفعت إلى ما فوق الركبتين، وكشفت عن الفخذين، وأبدت ما حول السوءتين، والتي ملؤها الإغراء والفتنة. ويحرم عليه تمكينهن من ارتدائها أو ارتداء ثوب يصف أو يشف، ويحرم عليه أيضًا أن يخلو بابنته أو أخته أو إحدى محارمه إذا لم يأمن الشهوة وخاف الفتنة، وبالأخص في مثل هذا العصر حيث الشهوات العارمة، والغرائز المتوثبة. قال القرطبي في «تفسيره»: «لقد كره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه، أو أخته، وزمانه خير من زماننا - هذا كلام القرطبي - وحرم على الرجل أن ينظر إلى ذات محرمه نظر شهوة يريدها». اهـ. ويحرم على المرأة أن ترى ذلك - بين السرة والركبة - من أحد محارمها، ولو كان ابنها، أو أخاها، أو ابنتها، وإن أمنت الفتنة ولم تخف الشهوة ولو من أجل خلع الثياب والتغسيل والتدليك في الحمام ... ). اهـ من كتاب «فقه النظر». فائدة: بمناسبة النهي عن لبس المرأة الثياب الضيقة جاء في كتاب «فقه النظر» (ص 170): قال مالك رضي اللَّه عنه: بلغني أن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه نهى النساء عن لبس القباطي، قال: وإن كانت لا تشف فإنها تصف. قال ابن رشد رحمه اللَّه: القباطي: ثياب ضيقة ملتصقة بالجسد لضيقها فتبدي تخانة جسم لابسها من نحافته، وتصف محاسنه وتبدي ما يستحسن مما لا يستحسن). اهـ من «فقه النظر». قال اللَّه تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8] فإن إبليس لعنه اللَّه

3 - العورة بين المرأة والمرأة:

يزين للمرأة الشابة لبس الثياب الضيقة لإظهار محاسنها، ويأتي إلى المرأة المسنة أو التي دونها ويزين لها لبس الثياب الضيقة أيضًا، لإظهار أنها شابة وهي ليست كذلك، ولا نجاة منه إلا بالإخلاص والالتجاء إلى اللَّه تعالى، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا. ونعود إلى تكملة الكلام عن أحكام العورة بين المحارم من كتاب «المرأة المسلمة»: 3 - العورة بين المرأة والمرأة: تنظر المرأة المسلمة إلى المرأة المسلمة فيما سوى ما بين السرة والركبة من الساق، والصدر والعنق، وقد اتفق العلماء على أن الأحاديث التي حددت عورة الرجل من الرجل هي نفسها بيان لعورة المرأة من المرأة. قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة» (¬1)، فلا يحل للمرأة المسلمة أن تبدي فخذيها أمام المرأة المسلمة، كما لا يحل ذلك بين الأم وأولادها، ولا بين الأخوات وأخواتهن أو إخوانهن. فلبس المرأة الثوب القصير عن الركبة ولو كان في بيتها وبين أولادها إثم، وتكون بذلك قدوة سوء! بل كشفها شيئًا من ذلك أمام أولادها في الحمام أو عند خلع الثياب إثم لا يسوغ شرعًا إلا لضرورة. أما المرأة الفاجرة: فلا يحل للمسلمة أن تبدي أمامها زينتها وصدرها، لأنها قد تصفها عند الفاجرات والفجار، وقد يلحق ذلك بالمسلمة تهمة. أما الكافرة: فهي كالرجل الأجنبي لا ينبغي أن تتكشف المرأة المسلمة أمامها إلا لحاجة. قال ابن كثير عند قوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ .... }: يعني تظهر زينتها أيضًا للنساء المسلمات دون أهل الذمة؛ لئلا يصفنهن لرجالهن، وذلك وإن كان محذورًا في جميع النساء - أي الوصف - إلا أنه في نساء أهل الذمة أشد؛ فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع، فأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه. وقد قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها» (¬2). أما غير المحارم من الأقارب كابن العم وبنت العم، وابن الخال وبنت الخال، فحكمهم حكم الأجانب الغرباء لجواز الزواج بينهم. ¬

(¬1) رواه مسلم وأبو داود والترمذي. (¬2) متفق عليه. اهـ. تنعتها: تصفها. (قل).

والقرابة عن طريق الرضاعة، والقرابة عن طريق المصاهرة كالقرابة النسبية في أحكام العورة. أحكام الصغير الأجنبي: يختلف حكم نظر الطفل الأجنبي إلى النساء ودخوله عليهن قبل المراهقة عما بعد المراهقة إلى البلوغ، ففي سن ما قبل المراهقة يجوز للصغير الدخول على النساء والنظر إلى زينتهن الباطنة كالشعر والعنق والصدر والعضد والساعد والساق والقدم (لا الفخذ والبطن والثدي). أما إذا راهق الحُلُم فقد أصبح من حيث النظر إلى الزينة الباطنة في حكم البالغ، فيمنع من النظر وتمنع المرأة من إبداء شيء من زينتها أمامه، وإن كان لا يمنع من الدخول على النساء بشرط أن لا يرى منهن سوى الوجه والكفين، أما إذا بلغ فقد حرم عليه النظر والدخول معًا، لأنه أصبح رجلاً، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياكم والدخول على النساء» قال رجل من الأنصار: أرأيت الحمو؟ قال: «الحمو الموت». ويؤمر الوالدان بستر ولدهما إذا بلغ أن يُشتهى. فيستران فخذي ولدهما ولا يأذنان له بكشف فخذيه بين أحد من أهله فضلاً عن الأجانب حفظًا له، وتعليمًا على رعاية أحكام الإسلام) (¬1). اهـ من كتاب «المرأة المسلمة». وجاء في كتاب «فقه النظر»: أما الصبي فإن كان: أ- مراهقًا، وهو من قارب البلوغ، فهو كالبالغ على الأصح ومعنى حرمة النظر في المراهق مع أنه غير مكلف أنه يحرم على وليه تمكينه منه، ولا حكم يتعلق بفعل غير المكلف، ويحرم على المرأة أن تتكشف أمامه أو تنظر إليه. ب- غير مراهق ولكنه يقدر على حكاية ما يراه بشهوة ويفرق بين الشوهاء والحسناء فهو كالبالغ أيضًا ومعنى الحرمة فيه كما ذكر. جـ- قادرًا على حكاية ما يراه من غير شهوة فهو كالمحرم. د- غير قادر على حكاية ما يراه من أحوال النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن فهو كالعدم فلا بأس بدخوله على النساء). اهـ. ¬

(¬1) انظر أحكام العورة مفصلة في كتاب الشيخ محمد بشير الشقفة في مواضع.

الباب الحادي عشر: حكم عمل المرأة خارج البيت

الباب الحادي عشر: حكم عمل المرأة خارج البيت أولاً: قال اللَّه تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33]. قال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية: أي: الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة، ومن الحوائج الشرعية: الصلاة في المسجد بشرطه كما قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تمنعوا إماء اللَّه مساجد اللَّه وليخرجن وهن تفلات» (¬1) (غير متطيبات) وفي رواية: «وبيوتهن خير لهن»، وروى الحافظ البزار عن أنس رضي اللَّه عنه قال: جئن النساء إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقلن: يا رسول اللَّه ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل اللَّه تعالى، فما لنا من عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل اللَّه تعالى؟ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قعدت - أو كلمة نحوها - منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل اللَّه تعالى» (¬2)، وعن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها» أخرجه الحافظ البزار والترمذي. وفي الحديث: «صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها» (¬3). وقوله تعالى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}. قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال فذلك تبرج الجاهلية الأولى. وقال قتادة: كانت لهن مشية وتَكَسُّر وتغنج فنهى اللَّه سبحانه وتعالى عن ذلك. وقال مقاتل: التبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها وذلك التبرج ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج (¬4). انتهى. اللَّه أكبر، إن جلوس المرأة المؤمنة بين جدران بيتها لا يقل عند اللَّه تعالى عن الجلوس بين جدران بيت اللَّه الحرام، وإن سعيها في مخدعها ومطبخها لا يقل عند اللَّه تعالى عن السعي بين الصفا والمروة. وإن جلوس المرأة المؤمنة في بيتها بمثابة عدّاد يعد الحسنات، فإذا خرجت من بيتها، توقف هذا العداد، اللهم إلا إذا كان خروجها لحاجة يقرها الشرع الحنيف. أما إذا خرجت لغير حاجة فإنه قد يعقب توقف عداد الحسنات دوران عداد ¬

(¬1) رواه البخاري بلفظ: «لا تمنعوا إماء اللَّه بيوت اللَّه». (¬2) أخرجه الحافظ البزار عن عبد اللَّه بن مسعود وإسناده جيد. اهـ. وضعفه البعض. (قل). (¬3) ذكره الألباني في «صحيح الترمذي» مختصرًا وقال: صحيح. (قل). (¬4) «مختصر تفسير ابن كثير» (ج3 ص 93، 94). (قل).

أمان المرأة:

السيئات. إن المرأة المؤمنة التي تَقَرُّ في بيتها تثاب من ناحيتين: من ناحية امتثالها لأمر اللَّه تعالى بالقرار في البيت، ومن ناحية عدم إيذائها للمسلمين. سبحان اللَّه! وكأن اللَّه تعالى يسأل ملائكته عن إمائه المؤمنات - وهو أعلم بهن - يا ملائكتي، كيف وجدتم إمائي؟ وكأنهم يقولون: يا رب أتيناهن وهن في البيوت وتركناهن وهن في البيوت. أمان المرأة: قد تقول امرأة: إنني أريد أن أؤمن مستقبلي ويكون لدي مصروف مستقل؟ سبحان اللَّه! إن أمان المرأة في أن ينفق عليها زوجها، ويزول هذا الأمان بإنفاق المرأة على نفسها، في غير الحالات التي تبيح للمرأة العمل خارج بيتها، والتي يأتي الكلام عنها إن شاء اللَّه تعالى. فالمرأة المؤمنة تجد العزة في الذلة لزوجها في طاعة اللَّه، وتجد الغنى في إنفاق زوجها عليها، ولو كان لا يملك إلا دقل التمر، وتجد الهواء الطلق في نفس أولادها، ورائحة طبيخها. ولا تعجب من ذلك فإن خلوف فم الصائم أطيب عند اللَّه تعالى من رائحة المسك .. احترسي أيتها الأخت المؤمنة، فإن الشيطان قد يزخرف لك قائلاً: إذا طلقت، فأين لك بالمال؟ وهنا أجيب عليك بسؤال، وهو: هل عندك الآن في البيت صيدلية فيها كل الأدوية التي تصلح لعلاج كل الأمراض، أم أنه عندما يأتيك المرض تحضرين الدواء؟ إذن لماذا تبحثين عن هذا الأمر قبل وقوعه؟ وإذا أثارت المرأة هذا السؤال فإنها بذلك تكون أساءت الظن بربها. وفي «الصحيحين» عن رب العزة جل شأنه: «أنا عند ظن عبدي بي» فمن ظن بربه ظنًّا حسنًا وجد اللَّه تعالى عند حسن ظنه به، ومن ظن غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. القوامة: قال اللَّه تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]. قال ابن كثير (¬1) رحمه اللَّه تعالى في تفسير هذه الآية: يقول تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} أي: الرجل قيم على المرأة، أي: هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي: لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة ولهذا كانت النبوة مختصة ¬

(¬1) «مختصر تفسير ابن كثير» للصابوني (ج1 ص: 385). (قل).

لا تكلف المرأة بشيء من الإنفاق:

بالرجال، وكذلك الملك الأعظم لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة» رواه البخاري، وكذا منصب القضاء وغير ذلك {وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أي: من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها اللَّه عليهم لهن في كتابه وسنة نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه، وله الفضل عليها والإفضال، فناسب أن يكون قيّمًا عليها كما قال تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}، وقال ابن عباس: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} يعني: أمراء عليهن، أي: تطيعه فيما أمرها اللَّه به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة لأهله حافظة لماله. انتهى من ابن كثير. وفي «صفوة التفاسير»: ورد النظم الكريم {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ولو قال: بتفضيلهم عليهن، لكان أخصر وأوجز، ولكن التعبير ورد بتلك الصيغة لحكمة جليلة وهي إفادة أن المرأة من الرجل بمنزلة عضو من جسم الإنسان وكذلك العكس، فالرجل بمنزلة الرأس، والمرأة بمنزلة البدن، ولا ينبغي أن يتكبر عضو على عضو، فالأذن لا تغني عن العين، واليد لا تغني عن القدم، ولا عار على الشخص أن يكون قلبه أفضل من معدته ورأسه أشرف من يده، فالكل يؤدي دوره بانتظام، ولا غنى لواحد عن الآخر، وهذا هو سر التعبير بقوله: {بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} فظهر أن الآية في نهاية الإيجاز والإعجاز (¬1). انتهى من «صفوة التفاسير». لا تكلف المرأة بشيء من الإنفاق: وجاء في كتاب «المرأة المسلمة» للشيخ وهبي غاوجي: ولا تكلف المرأة بشيء من الإنفاق، أمًّا كانت أو أختًا، بنتًا كانت أو زوجة، قادرة على العمل أو عاجزة عنه، غنية كانت الزوجة أو فقيرة، كان زوجها قادرًا على العمل أو عاجزًا عنه، غنيًا كان أو فقيرًا، بل ذكر الفقهاء أن الزوج غير القادر على العمل أو غير الواجد له وهو فقير يكلف بالسؤال لينفق على زوجته، ولا يكلف بذلك من أجل أمه، فإن الزوجة زوجته فقط والأم أمٌّ له ولأخوته، أما الأم والأخت إن كانتا غنيتين فتنفقان على أنفسهما من مالهما، وإذا افتقرتا كان على الولد والأخ الإنفاق عليهما ولا تكلفان بالعمل مع قدرتهما عليه (¬2). انتهى من كتاب «المرأة المسلمة». ¬

(¬1) «صفوة التفاسير» للصابوني (ج1 ص: 278). (قل). (¬2) كتاب «المرأة المسلمة» للشيخ وهبي غاوجي (ص: 66، 67). (قل).

تنبيه: حتى لا يساء معنى السؤال في حالة عدم القدرة على العمل أو عدم وجوده، فإليك مختصر ما جاء في «مختصر منهاج القاصدين» في هذا الشأن: تحريم السؤال من غير ضرورة: اعلم أنه قد ورد في السؤال أحاديث في النهي عنه، وفي الترخيص فيه. أما الترخيص: فكقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «للسائل حق وإن جاء على فرس» أخرجه أحمد وجوده الحافظان العراقي والسخاوي وغيرهما (¬1). ولو كان السؤال حرامًا، لما جاز إعانة المعتدي على عدوانه، والإعطاء إعانة. وأما أحاديث النهي عن السؤال: فقد قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى اللَّه عز وجل وليس في وجهه مزعة لحم» أخرجاه في «الصحيحين». وكشف الغطاء في هذا أن نقول: السؤال في الأصل حرام، لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور: أحدها: الشكوى. والثاني: إذلال نفسه، وما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. والثالث: إيذاء المسئول غالبًا، وإنما يباح السؤال في حالة الضرورة والحاجة المهمة القريبة من الضرورة. أما المضطر، فهو كسؤال الجائع عند خوفه على نفسه موتًا أو مرضًا. وأما المحتاج حاجة مهمة فهو كمن وجد الخبز وهو محتاج إلى الأدم، فله أن يسأل مع الكراهة (¬2). انتهى من «مختصر منهاج القاصدين». ¬

(¬1) ضعيف - انظر «ضعيف الجامع». (قل). (¬2) «مختصر منهاج القاصدين» (ص: 321، 322). (قل).

ونعود مرة أخرى إلى حكم عمل المرأة خارج البيت، فنقول وباللَّه التوفيق: سبحان اللَّه! إن البيوت بدون الأمهات الصالحات قبور، سبحان اللَّه! بيت بلا زوجة كمسجد لا تقام في صلاة. سبحان اللَّه! لو علمت المرأة ثواب جلوسها في بيتها ما خرجت من بيتها إلا ثلاث مرات: مرة من بيت أبيها إلى بيت زوجها، ومرة من بيتها إلى البيت الحرام لأداء فريضة ربها، ومرة من مكان موتها إلى قبرها. ثالثًا: جاء في كتاب «المرأة المسلمة» لفضيلة الشيخ وهبي غاوجي ما مختصره: قال أثابه اللَّه: قد عرفنا طبيعة المرأة ووظيفتها في الحياة الاجتماعية، وعرفنا آداب خروجها من البيت وصفة ثيابها في ذلك، وضرورة بعدها عن مخالطة الرجال ولو كان في الطريق، أو المسجد والطواف حول الكعبة. وعرفنا حرمة اختلائها بالرجال، وحرمة سفرها وحدها، أو مع غير زوج أو محرم، وعرفنا كذلك أنها تقيم في بيتها لا تخرج إلا لحاجة، وليس حاجتها طلب الرزق فإنها مكفية الرزق من والدها أو زوجها أو أخيها أو ابنها، أو قريبها. وعرفنا كذلك أن لها أن تعمل في مساعدة زوجها أو أبيها في الخياطة والتطريز وغير ذلك، وأن تتاجر بمالها لأن لها الشخصية المستقلة. وعرفنا كذلك أنها مشغولة دائمًا بالعناية بأولادها وبيتها وزوجها، وهي - لعمر اللَّه - أعمال تتناسب مع فطرتها، وتقتضيها طبيعة مشاركة الرجل في أمور الحياة. وهي في هذا كله لا تجد حاجة تدعوها إلى الخروج من البيت لتعمل، فإنما هي ضرورة - والضرورة تقدر بقدرها - فتخرج مراعية الشروط التالية: 1 - إذن وليها من أب أو زوج لها في الخروج للعمل. 2 - سلامتها من الاختلاط والخلوة بالأجنبي، وقد عرفنا حرمة ذلك شرعًا، وذلك لما قد ينتج عنه من آثار سيئة في النفوس والأخلاق بل من الفساد في الأعراض. 3 - خروج المرأة من بيتها على الزي الإسلامي من جلباب سابغ وستر للوجه والكفين إلخ (¬1) [على التفصيل الذي تقدم في حكم تغطية وجه المرأة]. ونتساءل: هل من حاجة عامة لخروج المرأة من بيتها للعمل؟ وهل من فائدة عامة في ذلك؟ ثم هل ثمة خسارة في خروجها من البيت إلى العمل خارجه (¬2)؟ ¬

(¬1) انظر «ماذا عن المرأة» للشيخ نور الدين عتر (ص: 167). (¬2) راجع هذا الموضوع بالتفصيل في كتاب «المرأة المسلمة» لفضيلة الشيخ وهبي غاوجي (ص: 227: 239). مع التنبيه إلى أن غالب ما تم حذفه من كتاب «المرأة المسلمة» السالف ذكره خاص بأقوال غير المسلمين عن عمل المرأة خارج البيت، وكلها تؤيد القرار داخل البيت، ولكني اكتفيت بكلام ربنا وسنة نبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن أصدق الحديث كتاب اللَّه تعالى، وخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (قل).

أ- يقول بعضهم: إن عمل المرأة خارج البيت - ولا يعدون عملها في البيت عملاً، مع أنهم يجلبون الخادمات للعمل في بيوتهم - يساعد على التقدم الاجتماعي وزيادة الإنتاج. لكن خروج المرأة من البيت لتعمل خارجه يعني: 1 - إهمال الأطفال من العطف والرعاية ولا شك أن عملية التربية تقوم على الحب والصدق والملاحظة وطول الزمن، وبدون ذلك لا تتحقق التربية، ومحاضن الرضع وأعشاش الأطفال عند الآخرين تظهر - لمن يريد أن يرى ويعلم - أنها لا تحقق للأطفال ما يتحقق لهم في بيوتهم؛ لأن المربية في المحضن مهما كانت على علم وتربية لكنها لا تملك قلب الأم .. فلا تصبر .. ولا تحرص .. ولا تحب كما تفعل الأم. فهل يوازي ما يخسره الأولاد من عطف الأمهات وعنايتهن ما تعود به الأم آخر النهار من دريهمات؟. 2 - إن المرأة التي تخرج إلى العمل في مجتمعاتنا تخالط الرجال - عادة - وقد تخلو بهم، وذلك أمر محرم، وإضرار ذلك على سمعتها وأخلاقها معلوم غير مجهول. فهل يوازي ما تخسره المرأة من سمعتها وربما شرفها ما تعود به آخر النهار من دريهمات؟ 3 - إن المرأة التي تعمل خارج البيت تحتل في كثير من الحالات مكان الرجل - وقد يكون زوجها أو أخاها - وتدع في بيتها مكانًا خاليًا لا يملؤه أحد. 4 - إن المرأة التي تعمل خارج البيت تفقد أنوثتها ويفقد أطفالها الأنس والحب. 5 - إذا خرجت المرأة من بيتها للعمل فستعتاد الخروج من البيت، ولو لم يكن لها عمل كما هو ملاحظ، وبالتالي سيستمر انشطار الأسرة وانقطاع الألفة بين أفرادها .. ويقل ويضعف التعاون والتحاب بين أفرادها كما هو ملاحظ في بلاد الآخرين، وقد كادت الأسرة أن تنهار كليًّا. 6 - المرأة مطبوعة على حب الزينة والتحلي بالثياب وغيرها، قال اللَّه تعالى: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18] فإذا هي خرجت لتعمل خارج البيت فإنها ستنفق الكثير من المال الذي تأخذه على ثيابها وزينتها وتصفيف شعرها، ودول الآخرين تشكو من الملايين التي تذهب في تفاهات الزينة التي تتزين بها النساء.

وانظر إلى غالب الموظفات في طريق ذهابهن إلى أعمالهن أو عودتهن منها، لترى الترف الفارغ والمال الضائع، في مظاهر وبهارج .. لا ترقى بمجتمع ولا تتقدم باقتصاد. 7 - إن المرأة كما يقول الآخرون والخبراء: أقل عملاً وإنتاجًا من الرجال، وأقل منه رغبة في الطموح، والوصول إلى الجديد. إن لها من العادة الشهرية، وأعباء الحمل، والفكر في الأولاد وفي الأنوثة ومطالبها، ما يشغلها حقًّا أن توازي الرجل في عمله، ويعوقها عن التقدم بالعمل. والنادر من النساء لا ينقض القاعدة. فإذا وازنا بصدق وصراحة بين ما يقدِّرون من تقدم وإنتاج حين تعمل المرأة خارج البيت - وهم لا يعدون عملها في البيت عملاً (عنادًا ومكابرة) وبين ما ذكرنا وما لم نذكر من أخطار وأضرار، فهل تربو فائدة خروج المرأة من البيت على قرارها فيه؟ ثم إن المسلم لا يغفل عن أن اللَّه تعالى قد خلق الخلق لعبادته وطاعته، وأمرهم أن يسيروا وفق شرعه وهديه، ثم هو المتكفل بعد ذلك لعباده بما شاء من رزق، وهو واسع واسع إذا سلكوا مسالكه الحقة، قال اللَّه تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. ب- قد يقول قائل: إذن لماذا خرجت المرأة لتعمل خارج البيت وما تزال؟ أقول: لهذا أسباب عديدة ليس منها سبب يقصد به إكرام المرأة، وهاك بعضها: 1 - إن الأب هناك لا تكلفه الدولة الإنفاق على ابنته إذا بلغت الثامنة عشرة من عمرها، لذا فهو يجبرها على أن تجد لها عملاً إذا بلغت ذلك السن .. وكثيرًا ما يكلفها دفع حجرة الغرفة التي تسكنها في بيت أبيها فضلاً عن أجرة غسل الثياب وكيها. 2 - إن الناس هناك يحيون لشهواتهم، فهم يريدون المرأة في كل مكان .. فأخرجوها من بيتها لتكون معهم .. ولهم .. ألا ترى كيف يسخرونها لشهواتهم الدنيئة في الإعلانات ... إلخ. 3 - إن البخل والأنانية شديد عندهم، فهم لا يقبلون أن ينفقوا - في زعمهم - على من لا يعمل إلا أعمالاً بسيطة، ولا يرون تربية الأولاد أمرًا هامًّا، ومهمة شاقة؛ لأنهم لا يبالون بدين وتربية. 4 - إن المرأة عندهم هي التي تهيئ بيت الزوجية، فلا بد لها أن تعمل وتجمع المال حتى تقدمه مهرًا (دوطة) لمن يريد الزواج بها. وكلما كان مالها أكثر كانت رغبة الرجال فيها أكثر. ومع ذلك فما يزال هناك بعض من الآباء ينفقون على بناتهم إذا بلغن، ولا يرضون

لهن بالعمل خارج البيت، ولا بمخالطة الرجال إلا في حدود ضيقة، وقليل ما هم. 5 - وهي اليوم تجد الحرية لخروجها من البيت، فتخادن من تشاء، وتصادق من تشاء، وتذهب حيث تشاء بل وتنام حيث تشاء. وقد استمرأت هذه الحياة الفاسدة، واستمرأ الرجال ذلك فيهن، ومعهن، فلن تعود المرأة هناك إلى بيتها وإلى عفافها، إلا إذا عادت إلى الإسلام، فهو وحده الكفيل بإعادة الحياة الإنسانية إلى فطرتها، وتقويم كل اعوجاج وانحراف فيها. جـ- وقد يقول قائل: فما بال المرأة عندنا خرجت من بيتها لتعمل خارجه، متحملة عصيان اللَّه تعالى ومخالفة الولي من الوالدين أو الزوج، ومعرِّضة نفسها للتهم والفساد، وربما الزنى، ومهددة أسرتها بالانهيار، ومكلفة فطرتها ما لا تحب ولا ترضى؟! ما بال المرأة عندنا خرجت من بيتها لتعمل خارجه فتخالط الرجال، وهي مكفية النفقة من وليها، من أب أو أخ أو زوج، والرجل لا يطمع فيها قدر ما يطمع الآخرون؛ لما يزال فيه من إسلام وغيرة وعفة، وهي إذا تزوجت تأخذ المهر خالصًا لها طيبًا؟ إنها - أيها الأخ [المسلم]- استمرأت مظاهر الحياة عند الآخرين، وأعجبت بالمرأة هناك، لها مكسب خاص تنفق منه على زينتها وبهرجتها، أعجبت بالمرأة هناك تحيا حرة، لما لها من الاستقلال الاقتصادي من حيث ما تأخذ من راتب، وأسباب يأتي ذكرها. إنها بكلمة واحدة التبعية، والتقليد، لمن لا يرجو اللَّه واليوم الآخر. ويا حبذا ... يا حبذا لو قامت في بلاد العرب بلاد المسلمين هيئات تحصي بصدق نتائج خروج المرأة من بيتها لتعمل مع الرجال، وتصادق الرجال، وتخادن الرجال: من إفساد للأسر، وحوادث الزنى، وثمرات الزنى، ومن هوان الجرائم في أعين الناس وقلوبهم، ومن الخيانات الزوجية، وجرائم السرقة، وشرب الخمر، والاعتداء على الأعراض، وحوادث القتل ... إلخ. لو قامت تلك الهيئات بإحصاء واحد لربما كان نتيجة ذلك الإحصاء مدعاة لنعود إلى صورة المجتمع المسلم، حيث لا اختلاط، ولا عمل مشترك بين الرجل والمرأة، فلا فساد إلى حد كبير. حبذا لو يتم هذا قبل أن نتمادى أكثر مما نفعل، فيصبح العود أصعب - معاذ اللَّه - عسى أن يكون ذلك قريبًا. انتهى من كتاب «المرأة المسلمة».

ثالثا: كيفية تعليم المرأة:

ثالثًا: كيفية تعليم المرأة: قال فضيلة الشيخ وهبي غاوجي أثابه اللَّه: من حاجة خروج الأنثى من البيت: خروجها إلى تعلم العلم (¬1). من خلال ما عرضنا من طبيعة المرأة ووظيفتها في الحياة، نستطيع أن نقرر بسهولة وإيجاز، أن العلم الذي يجب أن توجه إليه جهود الآباء ووزارة التربية والإعلام في حق الأنثى هو العلم الذي يتفق مع طبيعة الأنثى ووظيفتها في الحياة. 1 - فتكثر لها دروس الدين المختلفة من قرآن وسنة وتوحيد وفقه، والأنثى سريعة التأثر ولكنها سريعة التحول كذلك لقوة عاطفتها، فالإكثار عليها من دروس الدين والوعظ كفيل - بإذن اللَّه تعالى - بتنشئتها لتصبح أمًّا تقوم بواجباتها الدينية والدنيوية في الأسرة خير قيام، والإخلال بالتذكير في هذا الجانب يورث قسوة القلب، ولا خير في قلب قاس. 2 - تكثر لها دروس التربية والأخلاق، وتردد لها بما يتناسب مع دراستها، كي تجد في نفسها حصيلة كريمة في الأخلاق علمًا وعملاً، فتربي على ذلك أولادها في المستقبل. 3 - تكثر لها دروس العناية بالأسرة: قيامها، وظيفتها، وظائف أعضائها، واجباتها نحو زوجها، وبيته، وأولادها. 4 - تكثر لها دروس التاريخ المتمثلة في المجاهدين والمصلحين وأثرهم الحسن في أقوامهم؛ كي تربي أولادها في المستقبل على أخلاق العظمة، والخير، والصلاح. 5 - تكثر لها دروس تتعلم بها أعمالاً تتفق مع وظيفتها من خياطة وتطريز وحرف أخرى. 6 - توجه بعضهن إلى متابعة الدراسة العالية كي يخرجن قابلات، ممرضات للنساء - دون الرجل - طبيبات - للنساء كذلك - معلمات ومدرسات في المدارس التي تنشأ لهن، ويكون التعليم فيها مؤنثًا قدر الإمكان. بهذا وأمثاله توجه الأنثى في التعليم الوجهة التي تتفق وفطرتها واختصاصها. وما أحوج الإنسانية إلى الاختصاصات المختلفة، وما أشد ما تعمل اليوم لتوفيرها، لكنها للأسف تغفل عن هذا الاختصاص العظيم الهام، لما سبق ذكره من الأسباب. وينبغي ألا تعلم الأنثى كما يعلم الذكر حذو القذة بالقذة كما يفعل الآخرون. ويجب أن يحذّر من الاختلاط في التعليم لأضراره البالغة الدرجة القصوى من ¬

(¬1) كتاب «المرأة المسلمة» لفضيلة الشيخ وهبي غاوجي (ص: 240، 241). (قل).

شروط خروج المرأة من البيت:

الخطورة. انتهى من كتاب «المرأة المسلمة». فائدة: جاء في كتاب «فقه السنة» للشيخ الجليل سيد سابق تحت عنوان «خروج المرأة لطلب العلم» ما يلي: (إذا كان العلم الذي تطلبه المرأة مفروضًا (¬1) عليها وجب على الزوج أن يعلمها إياه - إذا كان قادرًا على التعليم - فإذا لم يفعل وجب عليها أن تخرج حيث العلماء ومجالس العلم، لتتعلم أحاكم دينها ولو من غير إذنه .. أما إذا كانت الزوجة عالمة بما فرضه اللَّه عليها من أحكام، أو كان الزوج متفقهًا في دين اللَّه، وقام بتعليمها، فلا حق لها في الخروج إلى طلب العلم إلا بإذنه) انتهى من «فقه السنة» (¬2). شروط خروج المرأة من البيت: جاء في كتاب «المرأة المسلمة» للشيخ غاوجي ما مختصره: الأصل في المرأة أن تقر في بيتها حيث مملكتها ووظيفتها قال اللَّه تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33]، وهذه الآية وإن كان نزولها في نساء الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهي خطاب لبناتهن كذلك من نساء المؤمنين جميعًا لأن الأنوثة واحدة ... وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُذن لكن في الخروج لحاجتكن». رواه البخاري، وقال في الإذن للنساء إلى المساجد: «لا تمنعوا إماء اللَّه مساجد اللَّه». رواه البخاري. وخروج المرأة إلى المسجد للصلاة خروج إباحة لا الوجوب كالرجل [وقد تقدم حديث زوجة أبي حميد الساعدي: « .... صلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك .. وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجد الجماعة»]. وذلك لما في ذلك من قلة الخروج، ثم قرب المسافة عند الخروج من البيت. ومن هنا قال الفقهاء: لا تخرج الشواب إلى مسجد الجماعة، وتخرج العجائز إن شئن، حذرًا من الفتنة. وقد حدد الإسلام خروج المرأة من البيت لحاجة وبشروط أخرى تجمل فيما يلي: 1 - الخروج للحاجة، لا للهو وإضاعة الأوقات قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أذن لكن .... ». 2 - الخروج بإذن الزوج أو الولي من الأب أو الأم أو الأخ والعم. 3 - اتخاذ الستر الحق عند الخروج، وذلك أن تستر جميع بدنها [كما تقدم في الباب السابق عند بيان شروط الحجاب الشرعي] وأن تغض نظرها في سيرها، فلا تنظر هنا وهناك لغير حاجة. ¬

(¬1) العلم الفرض: هو العلم بالعمل الذي فرضه اللَّه لأن كل ما فرض اللَّه عمله فرض العلم به. (¬2) «فقه السنة» (ج7 ص: 174). (قل).

4 - ترك التعطر أو استعمال أدوات الزينة المعطرة. [كما تقدم في آيات سورة النور]. 5 - ترك التعطر ولو في الخروج إلى الصلاة في مثل يوم الجمعة [كما تقدم أيضًا في آيات سورة النور]. 6 - لا تمشي وسط الطريق وفي زحمة الرجال [كما تقدم أيضًا في آيات سورة النور]. 7 - تمشي متواضعة على أدب وحياء لا تتخذ خلاخل ولا حذاء يضرب على الأرض بقوة، فيسمع الناس قرع حذائها، فيلتفتون، وربما وقعت الفتنة [كما تقدم أيضًا في آيات سورة النور]. 8 - وإذا حادثت أجنبيًا - غير مَحْرم لها - تحادثه بصوت عادي، وتسعى جهدها أن يكون خاليًا من الرقة والتكسر والإغراء. قال اللَّه تعالى: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]. 9 - ولا ترفع النقاب عن وجهها في الطريق والأسواق ومجامع الرجال، إلا أن تضطرها إلى ذلك حاجة وعلى قدر تلك الحاجة. جاءت أم خلاد إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي منتقبة - تسأل عن ابنها وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة؟ فقالت: أن أرزأ ابني فلن أرزأ حيائي. فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابنك له أجر شهيدين» قالت: ولم ذلك يا رسول اللَّه؟ قال: «لأنه قتله أهل الكتاب» (¬1). 10 - فإذا ذهبت إلى دكان أو دائرة فلا تنفرد برجل وقد أغلق الباب عليهما لأن ذلك خلوة، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما» (¬2). ولا تصافح غير ذي محرم منها من الرجال، «ما مس رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يد امرأة (¬3) - أجنبية - قط إلا أن يأخذ عليها فإن أخذ عليها - أي العهد والبيعة، قال: اذهبي فقد بايعتك» (¬4). 11 - وإذا دخلت على صديقة لها تزورها فلا تضع ثمة ثيابها، فقد يكون في البيت رجل يتلصص، أو يكون في المجلس امرأة سوء تصفها لمن يرغب فيها، قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ¬

(¬1) رواه أبو داود. اهـ. ضعيف - انظر «ضعيف أبي داود» وانظر «عون المعبود». (قل). (¬2) رواه الترمذي والنسائي. [وصححه الألباني في «صحيح الترمذي»]. (قل). (¬3) رواه أبو داود. اهـ. صحيح - م، خ نحوه - انظر «صحيح سنن أبي داود». (قل). (¬4) هذا ولا يفهم من تتمة الحديث أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصافح النساء فقد كان يبايعهن دون مصافحة.

«أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها فقد هتكت ستر ما بينها وبين اللَّه عز وجل» (¬1). [وسيأتي التعليق على هذا الحديث إن شاء اللَّه تعالى]. ولا ريب أنه يحرم على المرأة أن تصف امرأة أجنبية لزوجها، فقد يدعو ذلك إلى الإثم، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها». رواه البخاري وأحمد وغيرهما. أي لا تصف لزوجها ما رأت من حسن المرأة. 12 - لا تخرج من بلدها إلى مكان آخر يبعد أكثر من ثلاثين كيلو مترًا (¬2) إلا ومعها زوج أو محرم، قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تسير مسافة يوم وليلة إلا مع ذي محرم». متفق عليه. [سؤال: هل يجوز للمرأة أن تسافر دون محرم إلى المدن حيث الجامعة وتعيش هناك من أجل العلم ... ؟!]. 13 - ولا تخرج حتى لأداء نسك الحج دون زوج أو محرم (¬3)، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم» فقال رجل: يا رسول اللَّه إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا؟ فقال: «انطلق فحج مع امرأتك» متفق عليه. 14، 15 - لا تتشبه بالرجل في اللباس ولا غيره مما هو خاص به [كما تقدم في شروط الحجاب] ولا تلبس لبس الفاسقات المستهترات، فتغري الرجال من حيث تريد أو لا تريد (¬4). انتهى [كما تقدم أيضًا]. ¬

(¬1) رواه أحمد وابن حبان. اهـ. ورواه ابن ماجه والحاكم - صحيح - انظر «صحيح الجامع» (قل). (¬2) الصواب: عدم تحديد السفر بمسافة معينة، فما تعارف عليه الناس أنه سفر فهو سفر - كما قال ابن القيم رحمه اللَّه - وإن كانت المسافة أقل من المسافة المذكورة. (قل). (¬3) راجع أقوال العلماء في اشتراط الزوج أو المحرم بالنسبة لحج المرأة وهل أجازه بعضهم؟ «فقه السنة» المجلد الأول (ص: 534 - 535). فائدة: وردت أحاديث في اشتراط سفر المرأة مع محرم، ذكر في بعضها مسيرة يوم وليلة، وأخرى يومين، وثالثة مسيرة ثلاثة أيام ... فهل معنى ذلك أن المرأة يجوز لها أن تسافر بدون محرم إذا كانت المسافة أقل من المدة المشار إليها؟ الجواب: جاء في «شرح السنة» للبغوي رحمه اللَّه تعالى بتحقيق الأرنؤوط أثابه اللَّه تعالى (ج17) هامش (ص 18): (قال النووي رحمه اللَّه تعالى: ليس المراد من التحديد ظاهره، بل كل ما يسمى سفرًا فالمرأة منهية عنه إلا بالمحرم، وإن وقع التحديد من أمر واقع فلا يعمل بمفهومه. (قل). (¬4) كتاب «المرأة المسلمة» (ص: 78: 85). (قل).

بحث مسألة وضع ثياب المرأة خارج بيتها

بحث مسألة وضع ثياب المرأة خارج بيتها 1 - عن أبي المليح قال: (دخل نسوة من أهل الشام على عائشة فقالت: ممن أنتن؟ قلن: من أهل الشام. قالت: لعلكن من الكُورة التي تدخل نساؤها الحمامات؟ قلن: نعم. قالت: أما إني سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين اللَّه»). صحيح - رواه أبو داود والترمذي - انظر «صحيح الجامع». وجاء في «عون المعبود» (جـ 11 ص 46: 48): (نسوة) بكسر النون اسم جمع للنساء (من أهل الشام) وفي رواية ابن ماجه من أهل حمص وهو بلدة من الشام (من الكورة) بضم الكاف أي البلدة أو الناحية «تخلع» بفتح اللام أي تنزع «ثيابها» أي الساتر لها «في غير بيتها». وفي رواية الترمذي وابن ماجه في غير بيت زوجها «إلا هتكت» الستر وحجاب الحياء وجلباب الأدب ومعنى الهتك خرق الستر عما وراءه «ما بينها وبين اللَّه تعالى»؛ لأنها مأمورة بالتستر والتحفظ من أن يراها أجنبي، حتى لا ينبغي لهن أن يكشفن عورتهن في الخلوة أيضًا إلا عند أزواجهن، فإذا كشفت أعضاءها في الحمام (¬1) من غير ضرورة فقد هتكت الستر الذي أمرها اللَّه تعالى به. قال الطيبي: وذلك لأن اللَّه تعالى أنزل لباسًا ليواري به سوآتهن وهو لباس التقوى، فإذا لم يتقين اللَّه تعالى وكشفن سوآتهن هتكن الستر بينهن وبين اللَّه تعالى. انتهى. قال المنذري: وأخرجه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن. 2 - وأخرج ابن ماجه عن أبي مليح الهذلي أن نسوة من أهل حمص استأذن على عائشة فقالت: لعلكن من اللواتي يدخلن الحمامات، سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها فقد هتكت ستر ما بينها وبين اللَّه». اهـ. صحيح - أحمد وابن ماجه والحاكم - انظر «صحيح الجامع». جاء في «فيض القدير» للمناوي رحمه اللَّه تعالى: (قوله: «أيما امرأة» قال في التنقيح أي مبتدأ في معنى الشرط وما زائدة لتوكيد الشرط وقوله: الآتي (فقد ... ) جواب الشرط «وضعت ثيابها في غير بيت زوجها» كناية ¬

(¬1) ما المقصود بالحمام هنا؟ سيأتي بيان ذلك إن شاء اللَّه تعالى. (قل).

عن تكشفها للأجانب وعدم تسترها منهم «فقد هتكت ستر ما بينها وبين اللَّه عز وجل»). اهـ. 3 - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها خرق اللَّه عز وجل عنها ستره». صحيح - رواه أحمد والطبراني في «الكبير» والحاكم والبيهقي في «شعب الإيمان» - انظر «صحيح الجامع». قال المناوي رحمه اللَّه تعالى في «فيض القدير»: («أيما امرأة نزعت ثيابها» أي: قلعت ما يسترها منها «في غير بيتها» أي: محل سكنها «خرق اللَّه عز وجل عنها ستره» لأنها لما لم تحافظ على ما أمرت به من التستر عن الأجانب جوزيت بذلك والجزاء من جنس العمل، والظاهر أن نزع الثياب عبارة عن تكشفها للأجنبي لينال منها الجماع أو مقدماته بخلاف ما لو نزعت ثيابها بين نساء مع المحافظة على ستر العورة إذ لا وجه لدخولها في هذا الوعيد). اهـ. ما المقصود بالحمامات في الحديث؟ وهي حمامات عامة خاصة بالنساء، ومن باب أولى ينطبق هذا الحديث على حمامات السباحة والمصايف. أعاذ اللَّه نساء المسلمين منها. وعلى هذا فيحل للمرأة المسلمة أن تضع ثيابها عند المرأة المسلمة طالما أنها تحافظ على ستر العورة، وطالما أنها أيضًا في أمن من اطلاع الرجال عليها. ومن المعلوم أن عورة المرأة مع المرأة من السرة إلى الركبة. ويجوز النظر إلى ما عدا ذلك عدا المرأة المشركة فهي كالرجل الأجنبي لا ينبغي أن تتكشف المرأة المسلمة أمامها إلا لحاجة. وعلى ذلك فلا يجوز للمرأة المسلمة أن تظهر عورتها أمام امرأة أخرى ولو كانت أمها أو أختها أو ابنتها إلا لضرورة كالولادة أو المعالجة من مرض ونحوه. ولا يدخل الاستحداد (حلق العانة) الخاص بالنساء تحت هذه الضرورة واللَّه أعلم. (ذكرني بأن هذا الحديث خاص بدخول الحمام أحد العلماء جزاه اللَّه خيرًا، فقمت ببحث المسألة على ما تقدم، وإن كان الحديث يشمل غير الحمام، كما ظهر من شرح الحديث رقم (3) أي السابق لهذه الفقرة، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا. * * *

الباب الثاني عشر: علاج الصرع وعلاج السحر وفك الربط وعلاج الحسد

الباب الثاني عشر: علاج الصرع وعلاج السحر وفك الربط وعلاج الحسد أولاً: هديه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في علاج الصرع: جاء في «زاد المعاد» لابن القيم رحمه اللَّه تعالى ما مختصره: أخرجا في «الصحيحين» من حديث عطاء بن أبي رباح، قال: قال ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع اللَّه لي، فقال: «إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت اللَّه أن يعافيك» فقالت: أصبر، قالت: فإني أتكشف، فادع اللَّه ألا أتكشف، فدعا لها. قلت: الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية (¬1)، وصرعٌ من الأخلاط الرديئة. والثاني: هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه .. إلى أن قال رحمه اللَّه تعالى: وعلاج هذا النوع - أي الأول - يكون بأمرين: أمر من جهة المصروع، وأمر من جهة المعالج، فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه، وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها، والتعوّذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان، فإن هذا نوع محاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحًا في نفسه جيدًا، وأن يكون الساعد قويًّا، فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل، فكيف إذا عدم الأمران جميعًا: يكون القلب خرابًا من التوحيد، والتوكل، والتقوى، والتوجه، ولا سلاح له. والثاني: من جهة المعالج، بأن يكون فيه هذان الأمران أيضًا، حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله: «اخرج منه» أو بقول: «بسم اللَّه» أو بقول: «لا حول ولا قوة إلا باللَّه» والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: «اخرج عدو اللَّه أنا رسول اللَّه» (¬2). ¬

(¬1) وقال رحمه اللَّه: وبالجملة: فهذا النوع من الصرع، وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والمعرفة، وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم، وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر، والتعاويذ، والتحصنات النبوية والإيمانية، فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه، وربما كان عريانًا فيؤثر فيه هذا. (قل). (¬2) رواه أحمد، وقال الأرنؤوط: رجاله ثقات. (قل).

ثانيا: علاج الصرع:

وشاهدتُ شيخنا يُرسل إلى المصروع من يخاطب الروح (¬1) التي فيه، ويقول: قال لك الشيخ: اخرجي، فإن هذا لا يحل لك، فيُفيق المصروع، وربما خاطبه بنفسه، وربما كانت الروح ماردة فيُخرجها بالضرب، فيُفيق المصروع ولا يُحس بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارًا (¬2). انتهى. ثانيًا: علاج الصرع: جاء في «تحفة الذاكرين» للشوكاني تحت عنوان: «ما يقال للمصاب بلمة من الجن» ما يلي: الحديث أخرجه أحمد والحاكم في «المستدرك» كما قال المصنف رحمه اللَّه، وهو من حديث أبيّ بن كعب رضي اللَّه عنه قال: كنت عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاء أعرابي، فقال: يا نبي اللَّه إن لي أخًا به وجع، قال: «وما وجعه؟» قال: به لمم، قال: «فأتني به» فأتاه به فوضعه بين يديه، فعوذه بفاتحة الكتاب ... الحديث إلخ. وقال في آخره: فقام الرجل كأن لم يشك شيئًا قط. قال الحاكم في «المستدرك»: صحيح، ورواه ابن ماجه من طريق أخرى، وعزاه الهيثمي في «مجمع الزوائد» من حديثه إلى عبد اللَّه بن أحمد في «زوائد المسند» وقال: فيه أبو جناب وهو ضعيف لكثرة تدليسه، وقد وثقه ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح، وأخرجه أبو يعلى بنحوه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل عن أبيه وفي إسناده أبو جناب المذكور (¬3). انتهى. الآيات الواردة في الحديث السالف ذكره: (الفاتحة)، (البقرة: الآيات: 1: 5، 163، 164، 255، 284، 286): (آل عمران: 18، 19)، (الأعراف: 54: 56)، (المؤمنون: 116، 118)، (الصافات: 1: 10)، (الحشر: 22: 24)، (الجن: 3)، (قل هو اللَّه أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس). ثالثًا السحر: ذكر اللَّه تعالى السحر في أكثر من موضع في القرآن: خاصة قوله تعالى: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ ¬

(¬1) لاحظ أن هذه الروح تتكلم على لسان نفس الشخص المصروع ولكن بصوت مختلف. (قل). (¬2) «زاد المعاد» بتحقيق الأرنؤوط (ج4 ص: 66: 71). (قل). (¬3) «تحفة الذاكرين» للشوكاني (ص 211، 212). (قل).

رابعا علاج السحر:

السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102]، وهو من الموبقات «المهلكات» السبع الذي صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأمر باجتنابها، لما رواه البخاري ومسلم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قالوا: وما هن يا رسول اللَّه؟ قال: «الشرك باللَّه، والسحر، وقتل النفس التي حرم اللَّه، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات». فمن أراد معرفة مدى حرمة هذه الموبقة، ومعرفة أنواع السحر، وأقوال العلماء في قتل الساحر، وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته أم لا؟ فليرجع إلى «تفسير ابن كثير» رحمه اللَّه (¬1) لهذه الآية، وأيضًا تفسير (قل أعوذ برب الفلق). رابعًا علاج السحر: جاء في «زاد المعاد» لابن القيم رحمه اللَّه ما مختصره: والمقصود ذكر هديه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في علاج هذا المرض، وقد روي عنه فيه نوعان: أحدهما: وهو أبلغهما: استخراجه وإبطاله كما ثبت ذلك في الصحيح. والنوع الثاني: الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر [وذكر رحمه اللَّه الحجامة كمثل لذلك]. ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية فالقلب إذا كان ممتلئًا من اللَّه مغمورًا بذكره وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوذات وورد لا يخل به يطابق فيه قلبه لسانه، كان من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه. وعند السحرة: أن سحرهم إنما يتم تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات، ولهذا فإن غالب ما يؤثر في النساء، والصبيان، والجُهال، وأهل البوادي، ومن ضعف حظه من الدين والتوكل والتوحيد ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية والدعوات والتعوذات النبوية (¬2). انتهى من «زاد المعاد». ¬

(¬1) «مختصر تفسير ابن كثير» للصابوني (ج1 ص 95: 102، ج3 ص: 694: 696). (قل). (¬2) «زاد المعاد» لابن القيم ج4 (الطب النبوي) (ص: 124: 127). (قل).

خامسا: بعض ما ورد في حل السحر:

تنبيه: علاج (فك) الربط (¬1): جاء في تفسير الآية السابقة لابن كثير ما يلي: وهل يسأل الساحر حلاًّ لسحره؟ فأجازه سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري، وقال الشعبي: لا بأس بالنشرة، وكره ذلك الحسن البصري، وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت: يا رسول اللَّه، هلا تنشرت، فقال: «أما اللَّه فقد شفاني وخشيت أن أفتح على الناس شرًّا». وحكى القرطبي عن وهب أنه قال: يؤخذ سبع ورقات من سدر، فتدق بين حجرين ثم تضرب بالماء، ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات، ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به، وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته. (قلت): أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل اللَّه على رسوله في إذهاب ذلك وهما (المعوذتان)، وفي الحديث: «لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما» وكذلك قراءة آية الكرسي فإنها مطردة للشيطان. انتهى من ابن كثير. خامسًا: بعض ما ورد في حل السحر: جاء في تفسير ابن كثير (¬2) لسورة يونس عند قوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ} ما يلي: وقال ابن أبي حاتم، عن ليث وهو ابن أبي سليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن اللَّه تعالى، تقرأ في إناء فيه ماء، ثم يصب على رأس المسحور، الآية التي من سورة يونس: أ- {فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ - وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [قال ابن كثير: الآية وذكر الآيتين 81، 82]. ب - والآية الأخرى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} إلى آخر أربع آيات .. ¬

(¬1) الربط نوع من أنواع السحر، ولكني أفردته ب عنوان مستقل لحاجة الناس إليه. (قل). (¬2) «تفسير ابن كثير» (ج2 ص: 427). (قل). تنبيه: النشرة بالضم ضرب (نوع) من العلاج، يعالج به من يظن أن به سحرًا أو مسًا من الجن - كذا في الفتح (جـ 10 ص244)، والمقصود بذلك هنا حل السحر؛ بدليل قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وخشيت أن أفتح على الناس شرًا». قال الحافظ في الفتح (ج 10 ص241): (قال النووي: خشي من إخراجه وإشاعته ضررًا على المسلمين من تذكر السحر وتعلمه ونحو ذلك، وهو من باب ترك المصلحة خوف المفسدة). (قل).

سادسا: تنبيهات خاصة بفك الربط:

أي كالآتي: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ - فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ - وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ - قَالُواْ آمَنَّا بِربِّ الْعَالَمِينَ - رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 118: 122]. جـ- وقوله: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69]. انتهى من ابن كثير. تنبيه: وروي - واللَّه أعلم - أن تلك الآيات السابقة تكتب بمداد طاهر كالزعفران، ثم تذاب في كوب به ماء، ثم يشرب منها المسحور، يفعل ذلك ثلاث مرات (الكتابة والإذابة والشرب). سادسًا: تنبيهات خاصة بفك الربط: توضيحًا لما أورده ابن كثير رحمه اللَّه تعالى عن الربط والذي سبق الكلام عنه يراعى ما يلي: أ- ورق السدر هو الورق المعروف بورق النبق. ب- يراعى أن يكون هذا الورق أخضر، وقد ورد ذلك في كتاب «آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان». جـ- يراعى ترتيب الخطوات المتبعة، ولا تتقدم خطوة على أخرى، ويمكنك أن تكتب هذه الخطوات بالأرقام فتقول مثلاً: 1 - سبع ورقات من سدر. 2 - تدق بين حجرين. 3 - تنضح بالماء ... ثم تكتب باقي الخطوات. د- يراعى أن تكون كمية الماء كافية للشرب والاغتسال بحيث إنه بعد قراءة آية الكرسي لا يزاد الماء. هـ- إذا كان المسحور لا يصلي، فعليه أن يصلي، (وأن يعتقد بأن النافع الضار والشافي هو اللَّه سبحانه وتعالى). سابعًا: تنبيهات لا غنى عنها: أ- على من أراد القيام بالرقية التي سبق الكلام عنها من «تحفة الذاكرين»، أن يراعى ما يلي: 1 - عليه أن يداوم على الأذكار الواردة في الصباح والمساء، خصوصًا (قل هو اللَّه أحد والمعوذتين).

2 - أن يرقي أولاده الصغار بالمعوذتين، وهذا عام لكل من له أولاد صغار. 3 - أن يحافظ على أذكار النوم خصوصًا آية الكرسي. 4 - أن يجتنب الأشياء غير الشرعية عند الرقية، ولا يرقي إلا بالوارد، ويراعى ما يقال على لسان الروح، مثل ما ذكره ابن تيمية رحمه اللَّه عندما قالت له الروح: أنا أدعه كرامة لك، فقل لها رحمه اللَّه: لا، ولكن طاعة لله ورسوله. 5 - أن يقرأ الكتاب السالف ذكره، وهو «آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان» تأليف الشيخ العلامة المحدث القاضي بدر الدين أبي عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه الشبلي الحنفي (تصحيح عبد اللَّه محمد صديق). ب- ما يدلك على خطورة عدم التسمية، ما جاء في كتاب «آكام المرجان» السالف ذكره، في الباب الثاني بعد المائة عن يحيى بن يعلى الأسلمي عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: إذا جامع الرجل أهله ولم يسم، انطوى الجان على إحليله فجامع معه، فذلك قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ} (¬1) [الرحمن: 56]. انتهى. جـ- وجاء في الباب الثامن بعد المائة في نفس الكتاب السالف ذكره تحت عنوان (في بيان نوم الشيطان على الفراش الذي لا ينام عليه أحد) قال المؤلف رحمه اللَّه: ليس هذا على إطلاقه، بل إذا فرش ولم يسم عليه، وليس مخصوصًا بالفراش، بل كل ما لم يسم عليه من طعام أو شراب أو لباس أو غير ذلك مما ينتفع به فللشيطان فيه تصرف واستعمال إما بإتلاف عينه كالطعام والشراب وإما مع بقاء العين (¬2). انتهى. فينبغي للمسلم أن يبدأ عمله باسم اللَّه، ويكون ذلك حتى في أقل الأشياء، فإذا دخل غرفة يقول باسم اللَّه، وإذا ضغط على مفتاح الكهرباء يقول باسم اللَّه، وإذا حمل شيئًا يقول باسم اللَّه، وإذا أوقد النار يقول باسم اللَّه، وإذا أتى بالقلم من مكانه يقول باسم اللَّه ... فائدة: جاء في باب الغضب في «مختصر منهاج القاصدين» وروينا أن إبليس لعنه اللَّه بدا لموسى عليه السلام، فقال: يا موسى، إياك والحدة، فإني ألعب بالرجل الحديد كما يلعب الصبيان بالكرة. ¬

(¬1) «آكام المرجان» (ص: 177: 178). (قل). (¬2) «آكام المرجان» (ص: 180 - 181). (قل).

تنبيه: حتى تعتصم باللَّه من الجن فعليك بهذه الأحراز: 1 - الاستعاذة: قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36]. 2 - قراءة المعوذتين: فعن أبي سعيد أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ من أعين الجان وأعين الإنسان فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما، أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح (¬1). وقد تقدم فضل قراءة (قل هو اللَّه أحد والمعوذتين) ثلاث مرات في الصباح والمساء، في الحديث رقم 4 من أذكار الصباح والمساء. 3 - قراءة آية الكرسي عند النوم: وقد تقدم في فضلها الحديث رقم 3 من أذكار النوم. 4 - قراءة سورة البقرة: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» رواه مسلم وأحمد وغيرهما. 5 - قراءة الآيتين من آخر سورة البقرة عند النوم: وقد تقدم الحديث رقم 4 من أذكار النوم. 6 - قول: (لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) في اليوم مائة مرة: وقد تقدم في الحديث 16 من الأذكار أن من قرأها بهذا العدد كانت له حرزًا من الشيطان. 7 - كثرة ذكر اللَّه عز وجل: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث يحيى بن زكريا عليهما السلام « .... كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر اللَّه تعالى .... ». رواه أحمد والترمذي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (¬2). وقد تقدم فضل الذكر وأنه يطرد الشيطان. 8 - الوضوء: وقد روي في الحديث: «إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ» (¬3). 9 - الصلاة: فإن الشيطان يبكي لرؤيته سجود ابن آدم ويقول كما في الحديث: ¬

(¬1) صحيح - انظر «سنن الترمذي». (قل). (¬2) وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (قل). (¬3) وضعفه الألباني في «ضعيف الجامع» وقال الأرنؤوط في تحقيق «جامع العلوم والحكم» (ج1 ص 366): سنده حسن وأخطأ من ضعفه. (قل).

«يا ويله أمر بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت .... » رواه مسلم. 10 - العلم: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد» رواه الترمذي. وضعفه الألباني في تمام المنة. 11 - إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس: وعمومًا سد مداخل الشيطان، والتي من أهمها الحسد والحرص والغضب والشهوة والشبع والطمع في الناس والعجلة والكبر ... وفي النهاية يمكن القول بفضل اللَّه تعالى: كل ما يبعدك عن الرحمن، يقربك من الشيطان. (غالب .... هذه الأحراز مستقاة من «مدارج السالكين»، و «آكام المرجان». أ- فائدة: جاء في «صحيح سنن» أبي داود عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما عن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان إذا دخل المسجد يقول: «أعوذ باللَّه العظيم، وبوجه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم» قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان حفظ منى سائر اليوم. ب- لطيفة: قال العلماء في بيان ما يدعو الشيطان إليه ابن آدم ويوسوس له: وينحصر ذلك في ست مراتب: فالأولى مرتبة الكفر والشرك ومعاداة اللَّه تعالى ورسوله، فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه واستراح من تعبه معه. المرتبة الثانية: مرتبة البدعة، وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي؛ لأن ضررها في الدين، فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الثالثة، وهي الكبائر على اختلاف أنواعها، فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الرابعة، وهي الصغائر، التي إذا اجتمعت ربما أهلكت صاحبها، فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الخامسة: وهي اشتغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب، بل عقابها فوات الثواب الذي فات عليه باشتغاله بها، فإن عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة السادسة: وهو أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه. انتهى بتصرف من كتاب «آكام المرجان» وأصل ذلك في «مدارج السالكين» لابن القيم رحمه اللَّه. 5 - خاتمة: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن اللَّه تعالى كتب كتابًا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، وهو عند العرش، وإنه أنزل منه آيتين، ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربُها الشيطان». (صحيح) (¬1) رواه الترمذي والنسائي والحاكم عن النعمان بن بشير - كذا في «صحيح ¬

(¬1) صحيح - انظر «صحيح سنن الترمذي». (قل).

الجامع». جاء في «تحفة الأحوذي» (جـ8 ص 160، 161) ما مختصره: (قوله: «إن اللَّه كتب كتابًا» أي: أجري القلم على اللوح، وأثبت فيه مقادير الخلائق على وفق ما تعلقت به الإرادة «قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام» كنى به عن طول المدة وتمادي ما بين التقدير والخلق من الزمن فلا ينافي عدم تحقق الأعوام قبل السماء، والمراد مجرد الكثرة وعدم النهاية قاله المناوي. وقال الطيبي: كتابة مقادير الخلق قبل خلقها بخمسين ألف سنة كما ورد (¬1)، لا ينافي كتابة الكتاب المذكور بألفي عام، لجواز اختلاف أوقات الكتابة في اللوح ولجواز أن لا يراد به التحديد بل مجرد السبق الدال على الشرف. انتهى. قال بعضهم: ولجواز مغايرة (¬2) الكتابين وهو الأظهر انتهى. «أنزل» أي: اللَّه سبحانه وتعالى «منه» أي: من جملة ما في ذلك الكتاب والمذكور «آيتين» هما: {آمَنَ الرَّسُولُ} إلى آخره «ختم بهما سورة البقرة» أي: جعلهما خاتمتها. «ولا يقرآن في دار» أي: في مكان من بيت وغيره «ثلاث ليال» أي: في كل ليلة منها «فيقربها شيطان» فضلاً عن أن يدخلها، فعبر بنفي القرب ليفيد نفي الدخول بالأولى. قال الطيبي: لا توجد قراءة يعقبها قربان، يعني أن الفاء للتعقيب عطفًا على النفي، والنفي سلط على المجموع، وقيل: يحتمل أن تكون للجمعية، أي لا تجتمع القراءة، وقرب الشيطان. كذا في «المرقاه». اهـ. وهذا الحديث يختلف عن الحديث المتقدم في «أذكار النوم» برقم (4): «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» متفق عليه فلك أن تقرأ هاتين الآيتين، وتجمع الفائدتين في نية واحدة واللَّه أعلم، وإتمامًا للفائدة جاء في «تحفة الأحوذي» (جـ 8 ص 159): (قوله: «من قرأ الآيتين (¬3) من آخر سورة البقرة» أي: {آمَنَ الرَّسُولُ} إلى آخره «في ليلة» وقد أخرج على بن سعيد العسكري بلفظ: «من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتا {آمَنَ الرَّسُولُ} إلى آخر السورة» ذكره الحافظ «كفتاه» أي: أجزأتا عنه من قيام الليل، وقيل أجزأتا عنه من قراءة القرآن مطلقًا سواء كان داخل الصلاة أم خارجها. وقيل معناه ¬

(¬1) لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كتب اللَّه تعالى مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ... » رواه مسلم (قل). (¬2) اختلاف. (قل). (¬3) ورد «الآيتين» و «بالآيتين» راجع «جامع الأصول». (قل).

علاج الحسد:

أجزأتاه فيما يتعلق بالاعتقاد لما اشتملتا عليه من الإيمان والأعمال إجمالاً، وقيل معناه كفتاه كل سوء، وقيل كفتاه شر الشيطان، وقيل دفعتا عنه شر الإنس والجن، وقيل معناه كفتاه ما حصل له بسببهما من الثواب عن طلب شيء آخر، وكأنهما اختصتا بذلك من الثناء على الصحابة بجميل انقيادهم إلى اللَّه تعالى وابتهالهم ورجوعهم إليه وما حصل لهم من الإجابة إلى مطلوبهم قال الحافظ بعد ذكر هذه الوجوه: والوجه الأول ورد صريحًا من طريق عاصم عن علقمة عن أبي مسعود رفعه: «من قرأ خاتمة البقرة أجزأت عنه قيام ليلة». قال: ويؤيد الرابع حديث النعمان بن بشير يعني الذي أخرجه الترمذي في هذا الباب وقال الشوكاني بعد ذكر هذه الوجوه: ولا مانع من إرادة هذه الأمور جميعها ويؤيد ذلك ما تقرر في علم المعاني والبيان من أن حذف المتعلق مشعر بالتعميم فكأنه قال كفتاه من كل شر ومن كل ما يخاف، وفضل اللَّه واسع. قوله: (هذا حديث حسن صحيح) أخرجه الجماعة). اهـ. علاج الحسد: قال اللَّه تعالى: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}. في «أيسر التفاسير» للجزائري أثابه اللَّه تعالى: (أي: أظهر حسده وأعمله: أي وتعوذ برب الفلق - أي الصبح - من شر حاسد، أي من الناس إذا حسد، أي أظهر حسده فابتغاك بضر، أو أرادك بشر، أو طلبك بسوء بحسده لك، لأن الحسد طلب زوال النعمة عن المحسود، وسواءً أرادها له أو لم يردها وهو شر الحسد). اهـ. قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحاسدوا» رواه مسلم. جاء في «جامع العلوم والحكم» لابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى ما مختصره: (فقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحاسدوا» يعني: لا يحسد بعضكم بعضًا، والحسد مركوز في طباع البشر، وهو أن الإنسان يكره أن يفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل. ثم ينقسم الناس بعد هذا إلى أقسام، فمنهم من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل، ثم منهم من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه، ومنهم من يسعى في إزالته عن المحسود فقط من غير نقل إلى نفسه، وهو شرهما وأخبثهما، وهذا هو الحسد المذموم المنهي عنه، وهو كان ذنب إبليس حيث حسد آدم عليه السلام لما رآه قد فاق على الملائكة بأن خلقه اللَّه بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه في جواره، فما زال يسعى في إخراجه من الجنة حتى أخرج منها، ويروى عن ابن عمر أن إبليس قال لنوح:

اثنتان أهلك بهما بني آدم: الحسد، وبالحسد لعنت وجعلت شيطانًا رجيمًا، والحرص [وبالحرص] أبيح آدمُ الجنةَ كلَّها، فأصبت حاجتي منه بالحرص. خرجه ابن أبي الدنيا. وقسم آخر من الناس إذا حسد غيره، لم يعمل بمقتضى حسده، ولم يبغ على المحسود بقولٍ ولا فعلٍ. وقد روي عن الحسن أنه لا يأثم بذلك، وروي مرفوعًا من وجوه ضعيفة، وهذا على نوعين: أحدهما: أن لا يمكنه إزالة الحسد من نفسه، فيكون مغلوبًا على ذلك، فلا يأثم به. والثاني: من يحدث نفسه بذلك اختيارًا، ويعيده ويبديه في نفسه مستروحًا إلى تمني زوال نعمة أخيه، فهذا شبيه بالعزم المصمم على المعصية، وفي العقاب على ذلك اختلاف بين العلماء، وربما يذكر في موضع آخر إن شاء اللَّه تعالى، لكن هذا يبعد أن يسلم من البغي على المحسود، ولو بالقول، فيأثم بذلك. وقسم آخر إذا حسد لم يتمن زوال نعمة المحسود، بل يسعى في اكتساب مثل فضائله، ويتمنى أن يكون مثله، فإن كانت الفضائل دنيوية، فلا خير في ذلك، كما قال الذين يريدون الحياة الدنيا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص: 79]، وإن كانت فضائل دينية، فهو حسن، وقد تمنى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشهادة في سبيل اللَّه عز وجل. وفي «الصحيحين» عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه اللَّه مالاً، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه اللَّه القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار» (¬1)، وهذا هو الغبطة، وسماه حسدًا من باب الاستعارة. وقسم آخر إذا وجد من نفسه الحسد، سعى في إزالته، وفي الإحسان إلى المحسود بإسداء الإحسان إليه، والدعاء له، ونشر فضائله، وفي إزالته ما وجد له في نفسه من الحسد حتى يبدله بمحبة أن يكون أخوه المسلم خيرًا منه وأفضل، وهذا من أعلى درجات الإيمان، وصاحبه وهو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (¬2). اهـ من «جامع العلوم والحكم». ¬

(¬1) رواه البخاري (5025) و (7529)، ومسلم (815)، وأحمد (2/ 36 و88)، والترمذي (1936)، وابن ماجه (4209) من حديث ابن عمر، وصححه ابن حبان (125). (¬2) «جامع العلوم والحكم» (جـ2 ص 260: 263) بتحقيق الأرنؤوط وباجس أثابهما اللَّه تعالى. (قل).

العين حق عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استُغْسلتم فاغسلوا». رواه أحمد ومسلم. جاء في «تحفة الأحوذي» (جـ6 ص 181، 182): («العين» أي: أثرها «حق» لا بمعنى أن لها تأثيرًا بل معنى أنها سبب عادي كسائر الأسباب العادية بخلق اللَّه تعالى عند نظر العائن إلى شيء وإعجابه ما شاء من ألم أو هلكة. قوله: «لو كان شيء سابق القدر» بالتحريك أي لو أمكن أن يسبق شيء القدر في إفناء شيء وزواله قبل أوانه المقدر له «لسبقته» أي: القدر «العين» لكنها لا تسبق القدر، فإنه تعالى قدر المقادير قبل الخلق. قال الحافظ: جرى الحديث مجرى المبالغة في إثبات العين لا أنه يمكن أن يرد القدرَ شيءٌ إذ القدر عبارة عن سابق علم اللَّه وهو لا راد لأمره (¬1). وحاصله لو فرض أن شيئًا له قوة بحيث يسبق القدر لكان العين لكنها لا تسبق فكيف غيرها انتهى. قال النووي: فيه إثبات القدر وهو حق بالنصوص وإجماع أهل السنة، ومعناه أن الأشياء كلها بقدر اللَّه تعالى ولا تقع إلا على حسب ما قدرها اللَّه تعالى وسبق بها علمه. فلا يقع ضرر العين ولا غيره من الخير والشر إلا بقدر اللَّه تعالى وفيه صحة أمر العين وأنها قوية الضرر انتهى). اهـ من «تحفة الأحوذي». العين: عينان: إنسية وجنية: جاء في «زاد المعاد» لابن القيم رحمه اللَّه بتحقيق الأرنؤوط أثابه اللَّه تعالى (جـ4 ص 164): والعين: عينان: عينٌ إنسية، وعينٌ جنِّيّة، فقد صح عن أم سلمة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة، فقال: «استرقوا لها، فإن بها النظرة» (¬2). قال الحسين بن مسعود الفراء: وقوله «سفعة». أي: نظرة، يعني: من الجن. يقول: بها عين أصابتها من نظر الجن أنفذ من أسنة الرماح). اهـ. ¬

(¬1) انظر تفصيل قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يرد القضاء إلا الدعاء ... » المتقدم في باب الدعاء برقم (15). (قل). (¬2) أخرجه البخاري (10/ 171، 172) في الطب: باب رقية العين، ومسلم (2197) في السلام: باب رقية العين، والسفعة - بفتح السين ويجوز ضمها وسكون الفاء - سواد في الوجه، ومنه سفعة الفرس: سواد ناصيته، وعن الأصمعي: حمرة يعلوها سواد، وقيل: صفرة، وقيل: سواد مع لون آخر، وقال ابن قتيبة: لون يخالف لون الوجه، وكلها متقاربة.

علاج العين:

علاج العين: 1 - الرقية (التعوذات): سواء كانت العين إنسية أو جنية، وقد تقدم حديث الجارية السابق. وفي «الصحيحين» عن عائشة قالت: (أمرني النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو أمر أن نسترقي من العين). قال الحافظ في «الفتح» (جـ10 ص 211): (أي يطلب الرقية ممن يعرف الرقى بسبب العين [وهي لا تكون إلا بالقرءان والسنة] وقال رحمه اللَّه: (وفي الحديث مشروعية الرقية لمن أصابه العين). اهـ من «الفتح». وجاء في «زاد المعاد» (جـ4 ص 168: 173) ما مختصره: (والنفس: العين، يقال: أصابت فلانًا نفس، أي: عين. والنافس: العائن. فمن التعوذات والرقى الإكثار من قراءة المعوذتين، وفاتحة الكتاب، وآية الكرسي ومنها التعوذات النبوية. نحو: أعوذ بكلمات اللَّه التامات من شر ما خلق. ونحو: أعوذ بكلمات اللَّه التامة من كل شيطان وهامة (¬1)، ومن كل عين لامة. ونحو: أعوذ بكلمات اللَّه التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ وبرأ (¬2)، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في ¬

(¬1) هامة: بتشديد الميم واحدة الهوام التي تدب على الأرض وتؤذي الناس، وقيل: هي ذات السموم واللَّه أعلم، والظاهر أنها أعم من ذات السموم. لامة: أي - العين - التي تصيب بسوء كما في «الصحاح». كذا في «تحفة الذاكرين» للشوكاني. (قل). تنبيه: هذه أدعية عامة، بقطع النظر عن صحتها، وبقطع النظر عن ارتباطها بوقت معين، إلا ما ثبت منه في وقت معين فلا بد من العمل به في وقته كالمعوذات وآية الكرسي، وأعوذ بكلمات اللَّه التامات من شر ما خلق. (قل). (¬2) برأ: في أسماء اللَّه تعالى (البارئ) هو الذي خلق الخلق لا عن مثال، ولهذه اللفظة من الاختصاص بخلق الحيوان، ليس لها بغيره من المخلوقات، وقلما تستعمل في غير الحيوان، فيقال: برأ اللَّه النسمة، وخلق السماوات والأرض - كذا في «النهاية»، وفي «المعجم الوسيط»: ذرأ بمعنى خلق. (قل).

الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل، والنهار، ومن شر طوارق الليل إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن. ومنها: «أعوذ بكلمات اللَّه التامة من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن شر همزات الشياطين وأن يحضرون». ومنها: «اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم، وكلماتك التامة من شر ما أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت تكشف المأثم والمغرم، اللهم إنه لا يُهزم جندُك، ولا يُخْلَفُ وعدك، سبحانك وبحمدك». ومنها: «أعوذ بوجه اللَّه العظيم الذي لا شيء أعظم منه، وبكلمات اللَّه التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وأسماء اللَّه الحسنى، ما علمت منها وما لم أعلم، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر كل ذي شر لا أطيق شره، ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، إن ربي على صراط مستقيم». ومنها: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، عليك توكلت، وأنت رب العرش العظيم، ما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا باللَّه، أعلم أن اللَّه على كل شيء قدير، وأن اللَّه قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم». وإن شاء قال: «تحصنتُ باللَّه الذي لا إله هو، إلهي وإله كل شيء، واعتصمت بربي ورب كل شيء، وتوكلت على الحي الذي لا يموت، واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا باللَّه، حسبي اللَّه ونعم الوكيل، حسبي الرب من العباد، حسبي الخالق من المخلوق، حسبي الرازق من المرزوق، حسبي الذي هو حسبي حسبي الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، حسبي اللَّه وكفى، سمع اللَّه لمن دعا، ليس وراء اللَّه مرمى، حسبي اللَّه لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم». ومن جرب هذه الدعوات والعُوذ، عرف مقدار منفعتها، وشدة الحاجة إليها، وهي تمنع وصول أثر العائن، وتدفعه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها، وقوة نفسه، واستعداده، وقوة توكله وثبات قلبه، فإنها سلاح، والسلاح بضاربه. فصل 2 - وإذا كان العائن يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين، فليدفع شرها بقوله: اللهم بارك عليه، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف: «ألا برَّكت» أي: قلت: اللهم بارك عليه. [وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى]. 3 - وما يدفع به إصابة العين قول: ما شاء اللَّه لا قوة إلا باللَّه، روى هشام بن عروة، عن أبيه، أنه كان إذا رأى شيئًا يعجبه، أو دخل حائطًا من حيطانه، قال: ما شاء اللَّه، لا قوة إلا باللَّه. 4 - ومنها رقية جبريل عليه السلام للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي رواها مسلم في «صحيحه»: «باسم

اللَّه أرقيك، من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد اللَّه يشفيك، باسم اللَّه أرقيك». 5 - ورأى جماعة من السلف أن تكتب له الآيات من القرآن، ثم يشربها. قال مجاهد: لا بأس أن يكتب القرآن، ويغسله، ويسقيه المريض، ومثله عن أبي قلابة. ويذكر عن ابن عباس: أنه أمر أن يكتب لامرأة تعسر عليها ولادُها أثرٌ من القرآن، ثم يغسل وتسقى. وقال أيوب: رأيت أبا قلابة كتب كتابًا من القرآن، ثم غسله بماء، وسقاه رجلاً كان به وجع. 6 - ومنها: أن يؤمر العائن بغسل مغابنه (¬1) وأطرافه وداخلة إزاره، وفيه قولان: أحدهما: أنه فرجه. والثاني: أنه طرف إزاره الداخل الذي يلي جسده من الجانب الأيمن، ثم يُصَبُ على رأس المعين من خلفه بغتة، وهذا مما لا يناله علاج الأطباء، ولا ينتفع به من أنكره، أو سخر منه، أو شك فيه، أو فعله مجربًا لا يعتقد أن ذلك ينفعه). [وذكر رحمه اللَّه في أول الباب]: قال الزهري: يؤمر الرجل العائن بقدح، فيدخل كفه فيه، فيتمضمض، ثم يمجه في القدح، ويغسل وجهه في القدح، ثم يدخل يده اليسرى، فيصب على ركبته اليمنى في القدح، ثم يدخل يده اليمنى، فيصب على ركبته اليسرى، ثم يغسل داخله إزاره، ولا يوضع القدح في الأرض، ثم يصب على رأس الرجل الذي تصيبه العين من خلفه صبةً واحدة (¬2)). اهـ من «زاد المعاد». الكلام على اغتسال العائن للمعين - بالتفصيل - من «تحفة الأحوذي»، والذي قد سبقت الإشارة إليه: أي تكملة شرح الحديث المذكور في أول الباب: قال المباركفوري رحمه اللَّه تعالى: («وإذا استغسلتم» بصيغة المجهول أي إذا طلبتم للاغتسال «فاغسلوا» أطرافكم عند طلب المعيون ذلك من العائن، وهذا كان أمرًا معلومًا عندهم، فأمرهم أن لا يمتنعوا منه إذا أريد منهم، وأدنى ما في ذلك رفع الوهم الحاصل في ذلك، وظاهر الأمر ¬

(¬1) مغابن البدن، الآباط وكل موضع اجتمع فيه الوسخ، الواحد مغبن مثل مسجد، ومنه غبنت الثوب أي ثنيته - كذا في «المصباح المنير». (قل). (¬2) ذكره البيهقي في «السنن» (9/ 352) عقب حديث سهل.

الوجوب. وحكى المازري فيه خلافًا وصحح الوجوب وقال: متى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به فإنه يتعين. وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر وهذا أولى، ولم يبين في هذا الحديث صفة الاغتسال وقد وقعت في حديث سهل بن حنيف عند أحمد والنسائي وصححه ابن حبان من طريق الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن أباه حدثه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج وساروا معه نحو ماء حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف وكان أبيض حسن الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة فلبط، أي صرع وزنًا ومعنى أي سهل، فأتى رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «هل تتهمون به من أحد؟» قالوا: عامر بن ربيعة فدعا عامرًا فتغيظ عليه، فقال: «علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت»! ثم قال: «اغتسل له»، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزارة في قدح ثم يصب ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه وظهره ثم يكفأ القدح، ففعل به ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس. لفظ أحمد من رواية أبي أويس عن الزهري، ولفظ النسائي من رواية ابن أبي ذئب عن الزهري بهذا السند أنه يصب صبة على وجهه بيده اليمنى وكذلك سائر أعضائه صبة صبة في القدح، وقال في آخره ثم يكفأ القدح وراءه على الأرض، ووقع في رواية ابن ماجه من طريق ابن عيينة عن الزهري عن أبي أمامة أن عامر بن ربيعة مر بسهل بن حنيف وهو يغتسل فذكر الحديث، وفيه فليدع بالبركة، ثم دعا بماء فأمر عامرًا أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين وركبتيه وداخلة إزاره وأمره أن يصب عليه. قال سفيان قال معمر عن الزهري: وأمر أن يكفأ الإناء من خلفه. قال المازري: المراد بداخلة الإزار الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن، وقد ظن بعضهم أن داخلة الإزار كناية عن الفرج انتهى. وزاد عياض أن المراد ما يلي جسده من الإزار، وقيل: أراد موضع الإزار من الجسد وقيل أراد وركه لأنه، معقد الإزار). اهـ

من «تحفة الأحوذي». وجاء في «زاد المعاد» (جـ4 ص 173): 7 - (ومن علاج ذلك أيضًا والاحتراز منه ستر محاسن من يخاف عليه العين بمن يردها عنه، كما ذكر البغوي في كتاب «شرح السنة»: أن عثمان رضي اللَّه عنه رأى صبيًا مليحًا، فقال: دَسِّمُوا نُونَتَه، لئلا تصيبه العين، ثم قال في تفسيره: ومعنى: دسموا نونته: أي: سودوا نونته، والنونة: النقرة التي تكون في ذقن الصبي الصغير. وقال الخطابي في «غريب الحديث» له: عن عثمان إنه رأى صبيًا تأخذه العين، فقال: دسموا نونته. فقال أبو عمرو: سألت أحمد بن يحيى عنه، فقال: أراد بالنونة: النقرة في ذقنه. والتدسيم: التسويد. أراد: سودوا ذلك الموضع من ذقنه، ليرد العين). اهـ من «زاد المعاد». وجاء في «التفسير القيم» لابن القيم رحمه اللَّه تعالى (ص 577: 594) ما مختصره: (والعاين والحاسد يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء). فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه، وتتوجه نحو من يريد أذاه. فالعائن: تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته. والحاسد: يحصل له ذلك عند غيبة المحسود وحضوره أيضًا. ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده، من جماد أو حيوان، أو زرع، أو مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه. وربما أصابت عينه نفسه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق، مع تكييف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين. والمقصود: أن العائن حاسد خاص. وهو أضر من الحاسد. ولهذا - واللَّه أعلم - إنما جاء في السورة ذكر الحاسد دون العائن لأنه أعم. فكل عائن حاسد ولا بد. وليس كل حاسد عائنًا. فإذا استعاذ من شر الحاسد دخل فيه العائن. وهذا من شمول القرآن وإعجازه وبلاغته. والشيطان يقارن الساحر والحاسد، ويحادثهما ويصاحبهما. ولكن الحاسد تعينه الشياطين بلا استدعاء منه للشيطان، لأن الحاسد شبيه بإبليس، وهو في الحقيقة من أتباعه؛ لأنه يطلب ما يحبه الشيطان من فساد الناس، وزوال نعم اللَّه عنهم، كما أن إبليس حسد آدم لشرفه وفضله، وأبى أن يسجد له حسدًا. فالحاسد من جند إبليس. وأما الساحر فهو يطلب من الشيطان أن يعينه ويستعينه. وربما يعبده من دون اللَّه، حتى يقضي له حاجته، وربما يسجد له.

وفي كتب السحر والسر المكتوم من هذا عجائب. ولهذا كلما كان الساحر أكفر وأخبث وأشد معاداة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين كان سحره أقوى وأنفذ. والمقصود: أن الساحر والحاسد كل منهما قصده الشر، لكن الحاسد بطبعه ونفسه وبغضه للمحسود، والشيطان يقترن به ويعينه، ويزين له حسده، ويأمره بموجبه. والساحر بعلمه، وكسبه، وشركه، واستعانته بالشياطين. فصل ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب (¬1): أحدها: التعوذ باللَّه من شره، والتحصن به واللجأ إليه. وهو المقصود بهذه السورة واللَّه تعالى سميع لاستعاذته، عليمٌ بما يستعيذ منه، والسمع هنا المراد به: سمع الإجابة، لا السمع العام. فهو مثل قوله: «سمع اللَّه لمن حمده» وقول الخليل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} [إبراهيم: 39] ومرة يقرنه بالعلم، ومرة بالبصر، لاقتضاء حال المستعيذ ذلك، فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن اللَّه يراه، ويعلم كيده وشره. فأخبر اللَّه تعالى هذا المستعيذ أنه سميع لاستعاذته، أي مجيب، عليم بكيد عدوه، يراه ويبصره، لينبسط أمل المستعيذ، ويقبل بقلبه على الدعاء. وتأمل حكمة القرآن، كيف جاء في الاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه بلفظ: {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} في الأعراف (¬2) وحم السجدة أي: فصلت (¬3). وجاءت الاستعاذة من شر الإنس الذين يؤنسون ويرون بالأبصار بلفظ: {السَّمِيعُ البَصِيرُ} في سورة حم المؤمن فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56] لأن أفعال هؤلاء أفعال معاينة ترى بالبصر، وأما نزغ الشيطان فوساوس، وخطرات يلقيها في القلب، يتعلق بها العليم فأمر بالاستعاذة بالسميع العليم فيها. وأمر بالاستعاذة بالسميع البصير في باب ما يُرى بالبصر، ويدرك بالرؤية، واللَّه أعلم. السبب الثاني: تقوى اللَّه، وحفظه عند أمره ونهيه. فمن اتقى اللَّه تولى اللَّه حفظه، ¬

(¬1) غالب هذه الأشياء يصلح لدفع الشرور بصفة عامة. (قل). (¬2) آية الأعراف: 200 {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. (قل). (¬3) آية فصلت: 36: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. (قل).

ولم يكله إلى غيره. قال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد اللَّه بن عباس: «احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك» (¬1)، فمن حفظ اللَّه حفظه اللَّه، ووجده أمامه أينما توجه. ومن كان اللَّه حافظه وأمامه فممَّن يخاف؟ وممَّنْ يحذر؟ السبب الثالث: الصبر على عدوه، وأن لا يقاتله ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً. فما نُصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه، والتوكل على اللَّه ولا يستطل تأخيره وبغيه. السبب الرابع: التوكل على اللَّه: والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم. وهو من أقوى الأسباب في ذلك، فإن اللَّه حسبه، أي كافيه. ومن كان اللَّه كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لا بد منه، كالحر والبرد، والجوع والعطش، وإما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدًا. وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له، وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه، وبين الضرر الذي يتشفى به منه. قال بعض السلف: جعل اللَّه لكل عمل جزاء من جنسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده، فقال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، ولم يقل: نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه، وواقيه. السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له فلا يلتفت إليه ولا يخافه، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه. السبب السادس: وهو الإقبال على اللَّه والإخلاص له، وجعل محبته ورضاه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه، وأمانيها تدب فيها دبيب تلك الخواطر شيئًا فشيئًا، حتى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية، فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كلها في محاب الرب، والتقرب إليه وتملقه وترضيه، واستعطافه وذكره، قال تعالى حكاية عن عدوه إبليس: أنه قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83]، فقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ ¬

(¬1) صحيح - رواه أحمد والترمذي والحاكم - انظر «صحيح الجامع». (قل).

عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99، 100]، وقال في حق الصديق يوسف - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]. السبب السابع: تجريد التوبة إلى اللَّه من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه. فإن اللَّه تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وقال لخير الخلق، وهم أصحاب نبيه دونه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]. فما سلط على العبد ما يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها. وما ينساه مما عمله أضعاف ما يذكره. وفي الدعاء المشهور: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم» (¬1). فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه. فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب. ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له ونال منه، فقال له: قف حتى أدخل البيت، ثم أخرج إليك. فدخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب، وأناب إلى ربه. ثم خرج إليه فقال له: ما صنعت؟ فقال: تبت إلى اللَّه من الذنب الذي سلطك به عليَّ. وسنذكر إن شاء اللَّه تعالى أنه ليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها. فإذا عوفي العبد من الذنوب عوفي من موجباتها. فليس للعبد إذا بغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنفع له من التوبة النصوح. وعلامة سعادته: أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها. فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به، بل يتولى هو التوبة وإصلاح عيوبه. واللَّه يتولى نصرته وحفظه، والدفع عنه ولا بد. فما أسعده من عبد، وما أبركها من نازلة نزلت به، وما أحسن أثرها عليه، ولكن التوفيق والرشد بيد اللَّه، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. فما كل أحد يوفق لهذا، لا معرفة به، ولا إرادة له، ولا قدرة عليه، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه. السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه. فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء، ودفع العين، وشر الحاسد. ولو لم يكن في هذا إلا بتجارب الأمم قديمًا وحديثًا لكفى به. فما تكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملاً فيه باللطف والمعونة والتأييد. وكانت له فيه العاقبة الحميدة. السبب التاسع: وهو من أصعب الأسباب على النفس، وأشقها عليها، ولا يوفق له إلا من عظم حظه من اللَّه - وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه. فكلما ازداد أذىً وشرًّا وبغيًا وحسدًا ازددت إليه إحسانًا، وله نصيحة، وعليه شفقة. وما أظنك تصدق بأن هذا يكون، فضلاً عن أن تتعاطاه، فاسمع الآن قوله عز وجل: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ - وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ - وَإِمَّا ¬

(¬1) صحيح - الحكيم عن أبي بكر - انظر «صحيح الجامع» رقم (3731): «الشرك فيكم ... ». (قل).

يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34: 36]، وقال: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص: 54]. واسمع الآن ما الذي يسهل هذا على النفس، ويطيبه إليها ويُنعمها به. اعلم أن لك ذنوبًا بينك وبين اللَّه، تخاف عواقبها، وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لك. ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة، حتى ينعم عليك ويكرمك، ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله. فإذا كنت ترجو هذا من ربك، وتحب أن يقابل به إساءتك، فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه، وتقابل به إساءتهم؛ ليعاملك اللَّه تلك المعاملة. فإن الجزاء من جنس العمل فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل اللَّه معك في ذنوبك وإساءتك، جزاءً وفاقًا. فانتقم بعد ذلك، أو اعف، وأحسن أو اترك. فكما تدين تدان، وكما تفعل مع عباده يفعل معك. السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كله، وعليه مدار هذه الأسباب، وهو تجريد التوحيد، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأن هذه الآلات بمنزلة حركات الرياح، وهي بيد محركها، وفاطرها وبارئها، ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه. فهو الذي يحسن إلى عبده بها. وهو الذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه. قال تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]، وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك» (¬1). فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع اللَّه، بل يفرد اللَّه بالمخافة وقد أمنه منه. وخرج من قلبه اهتمامه به، واشتغاله به وفكره فيه، وتجرد لله محبة وخشية وإنابة وتوكلاً، واشتغالاً به عن غيره، فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده، وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل، واللَّه يتولى حفظه والدفع عنه، فإن اللَّه يدافع عن الذين آمنوا، فإن كان مؤمنًا باللَّه فاللَّه يدافع عنه ولا بد. وبحسب إيمانه يكون دفاع اللَّه عنه. فإن كمل إيمانه كان دفع اللَّه عنه أتم دفع، وإن مزج، مزج له. وإن كان مرة ومرة ¬

(¬1) تقدم تحت السبب الثاني - منذ قليل - «احفظ اللَّه ..... ». (قل).

فاللَّه له مرة ومرة، كما قال بعض السلف: من أقبل على اللَّه بكليته أقبل اللَّه عليه جملة. ومن أعرض عن اللَّه بكليته أعرض اللَّه عنه جملة. ومن كان مرة ومرة فاللَّه له مرة ومرة. فالتوحيد حصن اللَّه الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين، قال بعض السلف: من خاف اللَّه خافه كل شيء. ومن لم يخف اللَّه أخافه من كل شيء. هذه عشرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر، وليس له أنفع من التوجه إلى اللَّه وإقباله عليه، وتوكله عليه، وثقته به، وأن لا يخاف معه غيره، بل يكون خوفه منه وحده، ولا يرجو سواه، بل يرجوه وحده، فلا يعلق قلبه بغيره، ولا يستغيث بسواه، ولا يرجو إلا إياه. ومتى علق قلبه بغيره ورجاه وخافه: وكل إليه وخذل من جهته. فمن خاف شيئًا غير اللَّه سُلِّط عليه. ومن رجا شيئًا سوى اللَّه خذل من جهته وحرم خيره. هذه سنة اللَّه في خلقه. ولن تجد لسنة اللَّه تبديلا). اهـ من «التفسير القيم». * * *

الباب الثالث عشر: الدين النصيحة

الباب الثالث عشر: الدين النصيحة قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدين النصيحة» رواه مسلم .. لذا أذكِّر نفسي وإياك بهذه النصائح والفوائد: الأولى: قال اللَّه تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. الصلاة الوسطى: قال ابن كثير رحمه اللَّه بعد أن أورد الخلاف فيها: وقد ثبتت السنة بأنها صلاة العصر (¬1). انتهى. وعلى هذا يمكن القول - واللَّه أعلم -: انتظارك صلاة العصر قبل الأذان لا يقل عن استيقاظك قبل الفجر للقيام. وعن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: سألت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصلاة على وقتها» قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أي؟ قال «الجهاد في سبيل اللَّه» متفق عليه. وعلى هذا يمكن القول واللَّه أعلم: إذا أردت الرضوان فحافظ على الصلاة حفاظ المؤذن على الأذان. ولا يفوتك أن تقرأ فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في (مسألة الجماعة للصلاة) هل واجبة أم سنة؟ وإذا قلنا: واجبة، هل تصح الصلاة بدونها مع القدرة عليها؟ (¬2). الثانية: الابتعاد عن اللهو والأغاني لقول اللَّه تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] فالقلب المشغول بالأغاني، لا يكون عامرًا بالقرآن. وقد سبق الكلام عن حكم الإسلام في الغناء. الثالثة: ترتيل القرآن وحفظه والعمل به. أ- قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 4]. قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لصاحبه». رواه مسلم. وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق له أجران» متفق عليه. جاء في «رياض الصالحين» بتحقيق عبد العزيز رباح والدقاق والأرنؤوط ما يلي: «ماهر به» أي: يجيد لفظه على ما ينبغي بحيث لا يتشابه ولا يقف في قراءته. «مع السفرة»: الملائكة الرسل إلى الرسل صلوات اللَّه عليهم. «البررة» أي: المطيعين أي: ¬

(¬1) «مختصر تفسير ابن كثير» (ج1 ص: 218). (قل). (¬2) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (ج23 ص: 239: 243). (قل).

معهم في منازلهم في الآخرة. فائدة: قال ابن تيمية: من لم يقرأ القرآن فقد هجره، ومن قرأ القرآن ولم يتدبره فقد هجره، ومن قرأ القرآن وتدبره ولم يعمل به فقد هجره. وعن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قرأ حرفًا من كتاب اللَّه فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف». رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح (¬1). وروي أنه جاء في التوراة: إن اللَّه تعالى يقول: أما تستحي مني، يأتيك كتاب (يعني: خطاب) من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي، فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرأه وتتدبره حرفًا حرفًا، حتى لا يفوتك شيء منه، وهذا كتابي أنزلته إليك، انظر كيف فصلت لك فيه من القول، وكم كررت عليك فيه لتتأمل طوله وعرضه ثم أنت معرض عنه، فكنت أهون عليك من بعض إخوانك، يا عبدي! يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل وجهك، وتصغي إلى حديثه بكل قلبك، فإن تكلم متكلم أو شغلك شاغل عن حديثه أومأت إليه أن كف، وها أنا مقبل عليك ومحدث وأنت معرض بقلبك عني، أفجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك؟! ب- أهل القرآن: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أهل القرآن هم أهل اللَّه وخاصته» (¬2)، قال عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه: ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس مفطرون، وببكائه إذ الناس يضحكون، وبورعه إذ الناس يخلطون، وبصمته إذ الناس يخوضون، وبخشوعه إذ الناس يختالون، وبحزنه إذ الناس يفرحون. وقال محمد بن كعب: كنا نعرف قارئ القرآن بصفرة لونه، يشير إلى سهره وطول تهجده. وقال وهيب بن الورد: قيل لرجل: ألا تنام؟ قال: إن عجائب القرآن أطرن نومي. فائدة: جاء في «زاد المعاد» لابن القيم رحمه اللَّه، قال بعض السلف: نزل القرآن ليعمل به، فاتَخذوا تلاوته عملاً، ولهذا كان أهل القرآن هم العاملون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم (¬3). انتهى. جـ- واحرص دائمًا على أن تجمع بين علوم القرآن والسنة (على الأقل معرفة ترتيل ¬

(¬1) صحيح - انظر «صحيح سنن الترمذي». (قل). (¬2) صحيح - رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم عن أنس - انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬3) «زاد المعاد» (ج1 ص: 337). (قل).

القرآن وفهم مفرداته وما يعلم من الدين بالضرورة) وبين علوم الدنيا، وإلا فكما يقول تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]. قال ابن كثير: (أي أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشئونها وما فيها، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون في أمور الدين وما ينفعهم في الدار الآخرة، كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة)، قال الحسن البصري: واللَّه ليبلغ من أحدهم بدنياه أن يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي، وقال ابن عباس في قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية: يعني: الكفار يعرفون عمران الدنيا وهم في أمر الدين جهال) (¬1). انتهى. ويمكنك إذا كنت لا تجيد قراءة القرآن أن تذهب إلى أقرب مسجد لتتعلم فيه كيفية التلاوة، وهناك طريقة سهلة، وهي أنك تأتي بشرائط القرآن المرتل (¬2)، ثم تتابع مع الشريط في المصحف، وإذا لم يكن في إمكانك الحصول على تلك الشرائط، فيمكنك أن تستمع إلى محطة القرآن الكريم وتتابع مع القارئ في المصحف أيضًا. ويمكنك أن تختم القرآن ولو مرة على الأقل في الشهر بأن تقرأ جزءًا في كل يوم حتى لا تكون من الذين قد هجروا تلاوة القرآن. الرابعة: عليك بصيام التطوع، قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من عبد يصوم يومًا في سبيل اللَّه إلا باعد اللَّه بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا» أي: مدة سير سبعين عامًا كما قال العلماء. متفق عليه. جاء في «الصحيحين»: قال اللَّه تعالى: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به» قال ابن رجب الحنبلي في «لطائف المعارف»: (ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة، وقيل: ليس فيه رياء؛ كذا قال الإمام أحمد وغيره). وصيام التطوع ما يلي: 1 - يوم عرفة لغير الحاج وهو تاسع ذي الحجة. لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوم يوم عرفة يكفر سنتين، ماضية ومستقبلة، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية». رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. 2 - يوم عاشوراء ويوم تاسوعاء، وهما العاشر والتاسع من شهر المحرم؛ لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لئن ¬

(¬1) «مختصر تفسير ابن كثير» (ج3 ص: 48، 49). (قل). (¬2) حبذا شرائط الحصري رحمه اللَّه تعالى المرتلة. (قل).

بقيت إلى قادم لأصومن التاسع» - يعني: مع يوم عاشوراء - كما في «فقه السنة». رواه أحمد ومسلم، وأما عن صيام الحادي عشر من المحرم فقد جاء في رسالة المشروع وغير المشروع في شهر اللَّه المحرم (وما يذكره البعض من استحباب صيام الحادي عشر مع عاشوراء حديثه لم يصح، لا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما، ولكن لا خلاف في مشروعية صيام يوم الحادي عشر لمطلق حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم والذي يدل على استحباب الإكثار من الصيام في شهر اللَّه المحرم) .. 3 - صيام ستة أيام من شوال. لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال فكأنما صام الدهر». رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي. هذا لمن صام رمضان كل سنة. قال العلماء: الحسنة بعشر أمثالها ورمضان بعشر شهور، والأيام الستة بشهرين. وعند أحمد: أنها تُؤَدَّى متتابعة وغير متتابعة، ولا فضل لأحدهما على الآخر، وعند الحنفية والشافعية: الأفضل صومها متتابعة عقب العيد كذا في «فقه السنة». 4 - الإكثار من الصيام في شعبان، وخاصة النصف الأول منه، وذلك لفعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك فقد صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يصوم شعبان إلا قليلاً. 5 - العشر الأول من شهر ذي الحجة وفيه خلاف (¬1). قالت عائشة: ما رأيته [أي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] صائمًا في العشر قط. ذكره مسلم. 6 - شهر المحرم لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندما سئل عن الصيام: أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: «شهر اللَّه المحرم الذي تدعونه المحرم». رواه مسلم. 7 - الأيام البيض من كل شهر وهي: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. لقول أبي ذر الغفاري - نقلاً عن «فقه السنة» - أمرنا رسول اللَّه أن نصوم من الشهر الثلاثة أيام البيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، وقال: هي كصوم الدهر، رواه النسائي وصححه ابن حبان. 8 - صيام يوم الإثنين. لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الأعمال تعرض كل يوم اثنين وخميس، فيغفر اللَّه لكل مسلم، أو لكل مؤمن إلا المتهاجرين، فيقول: أخِّرْهما». رواه أحمد بسند صحيح - كما في «فقه السنة». والمقصود بالمتهاجرين: أي لغير اللَّه، فإذا كان أحدهما يهجر الآخر لله - خاصة بعد النصح والإرشاد - فلا إثم عليه، بل يؤجر على ذلك. واللَّه أعلم. ¬

(¬1) «زاد المعاد» (ج2 ص: 65). (قل).

9 - صيام يوم الخميس. 10 - صيام يوم وإفطار يوم (صيام داود عليه السلام). لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في «الصحيحين»: « ... وأحب الصيام إلى اللَّه تعالى صيام داود .... يصوم يومًا ويفطر يومًا»، ولقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد اللَّه بن عمرو - كما في «الصحيحين» نقلاً عن «اللؤلؤ والمرجان» - «لا صوم فوق صوم داود عليه السلام، شطر الدهر، صم يومًا وأفطر يومًا». 11 - الصيام للعزب الذي لم يستطع الباءة. 12 - كان رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم السبت والأحد كثيرًا، يقصد بذلك مخالفة اليهود والنصارى وكان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إنهما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم» (¬1). 13 - وفي «زاد المعاد»: «كان رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام»، ذكره أبو داود والنسائي وحسنه الأرنؤوط، وقالت عائشة لم يكن يبالي من أي الشهر صامها. ذكره مسلم، ولا تناقض بين هذه الآثار. 14 - وفي «صحيح الجامع» أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس من الشهر. صحيح - رواه الترمذي. 15 - وكان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخل على أهله فيقول: «هل عندكم شيء؟» فإن قالوا: لا، قال: «إني صائم» فينشئ النية للتطوع من النهار (¬2)، وجاء في «فقه السنة»: (وقال كثير من الفقهاء: إن نية صيام التطوع تجزئ من النهار، إن لم يكن قد طعم، قالت عائشة: دخل عليّ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فقال «هل عندكم شيء؟» قلنا: لا، قال: «فإني صائم». رواه مسلم وأبو داود. واشترط الأحناف أن تقع النية قبل الزوال [أي: قبيل الظهر]، وهذا هو المشهور من قولي الشافعي. وظاهر قولي ابن مسعود وأحمد: أنها تجزئ قبل الزوال، وبعده، على السواء). اهـ. واحذر تلبيس إبليس في كونه يجعلك تتناول شيئًا من الطعام أو الشراب بعد الفجر مباشرة في أيام الصيام - حتى يفوت عليك نعمة صيام النفل، فإن نويت وصبرت زال عنك تلبيس إبليس من ناحية الجوع والعطش. تنبيه: وكان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان صائمًا ونزل على قوم أتم صيامه ولم يفطر، أما الحديث ¬

(¬1) «زاد المعاد» (ج2 ص: 78) خصوصًا الهامش، والحديث أخرجه أحمد وحسنه وقال الأرنؤوط: سنده حسن. (قل). (¬2) «زاد المعاد» (ج2 ص: 83: 85). (قل).

عليك بهذه المكتبة الإسلامية

الذي رواه ابن ماجه: «من نزل على قوم فلا يصومن تطوعًا إلا بإذنهم» (¬1). قال فيه الترمذي: هذا الحديث منكر، ووافقه الأرنؤوط، أثابه اللَّه. الخامسة: عليك بهذه المكتبة الإسلامية، مع العلم بأن الكتاب المذكور أولاً هو الأيسر: 1 - التفسير: كلمات القرآن الكريم من كتاب (أيسر التفاسير) للجزائري جمع وترتيب أبي ذر القلموني - «مختصر تفسير ابن كثير» للصابوني - «تفسير ابن كثير» (الأصل) ولا غنى للمسلم عن أحدهما (¬2) - «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي - «تفسير البغوي» - «تفسير ابن جرير». تنبيه: هناك كتاب لتفسير كلمات القرآن على هيئة القاموس وهو «كلمات القرآن تفسير وبيان» للشيخ الجليل: حسنين مخلوف. 2 - الأحاديث: «رياض الصالحين» للنووي - «الأذكار النووية» - «صحيح السنن» (ويشمل) (¬3) - «صحيح الجامع الصغير» وزيادته للألباني - ترتيب أحاديث «صحيح الجامع الصغير» وزيادته على الأبواب الفقهية - «جامع الأصول» لابن الأثير - جمع الفوائد من «جامع الأصول» و «مجمع الزوائد». أحاديث مشروحة: «دليل الفالحين في شرح رياض الصالحين» - «شرح مسلم» للنووي - «شرح السنة» للبغوي بتحقيق الأرنؤوط - «عون المعبود شرح سنن أبي داود» - «تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي» - «الفتح الرباني» ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني - «فتح الباري في شرح البخاري» لابن حجر العسقلاني (موسوعة العلماء). 3 - الفقه: «فقه السنة» للسيد سابق (¬4) - «نيل الأوطار» للشوكاني - «سبل السلام» للصنعاني - «المغني» لابن قدامة - (وقد سبقت الإشارة إلى «فتح الباري»). 4 - العقيدة: «لمعة الاعتقاد» لابن قدامة شرح ابن عثيمين - «عقيدة المؤمن» لأبي بكر الجزائري - «شرح العقيدة الطحاوية». ¬

(¬1) «زاد المعاد» (ج2 ص: 83: 85). (قل). (¬2) «مختصر تفسير ابن كثير» هو الأسهل. (قل). (¬3) «صحيح سنن أبي داود» - «صحيح سنن الترمذي» - «صحيح سنن النسائي» - «صحيح سنن ابن ماجه» (كلها للألباني أثابه اللَّه) وله «صحيح الترغيب والترهيب» - «السلسلة الصحيحة». (قل). (¬4) ومعه كتاب «تمام المنة في التعليق على فقه السنة» للألباني، وهو كتاب قيم إلا أنه لا يقلل من أهمية «فقه السنة»، فمن حسنات الإنسان أن تعد سيئاته، وبعد كتابه هذه السطور ببضع سنين رأيت الشيخ سيد سابق في الرؤيا، وأنني أقول له نفس الكلمات لكن بلفظ: (كتاب «فقه السنة» كتاب مبارك ولا يقدح فيه ما جاء في «تمام المنة» من تعليقات). (قل).

5 - السيرة: «السيرة» لابن كثير - «السيرة» لابن هشام - «البداية والنهاية» لابن كثير. 6 - القصص: «قصص الأنبياء» لابن كثير. 7 - القلوب: «مختصر منهاج القاصدين» لابن قدامة - «جامع العلوم والحكم» لابن رجب الحنبلي (لا بد من قراءتهما) - «مدارج السالكين» لابن القيم. 8 - الفتاوى: «مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية» (37 جزءًا) ويمكن القول بفضل اللَّه تعالى: من أراد العلم على التمام فعليه بفتاوى شيخ الإسلام. 9 - علم الحديث: «تيسير مصطلح الحديث» للطحان - «الباعث الحثيث» لابن كثير - «نزهة النظر» لابن حجر - وهناك كتاب في أصول التخريج وهو: «أصول التخريج ودراسة الأسانيد» للطحان. 10 - اللغة: «النحو الواضح» لعلي الجارم - «قطر الندي وبل الصدى» لابن هشام - «التحفة السنية بشرح المقدمة الأجرومية» - «القواعد الأساسية في النحو والصرف للمدارس الثانوية» - «شذور الذهب» لابن هشام ومعه «متن شذور الذهب». 11 - البلاغة: «البلاغة الواضحة ودليلها» لعلي الجارم. 12 - علوم القرآن: «مباحث في علوم القرآن لمناع القطان» - «الإتقان» للسيوطي. 13 - أحكام القرآن: «روائع البيان في أحكام القرآن» للصابوني - «أحكام القرآن» للجصاص - (وقد سبقت الإشارة إلى تفسير القرطبي). 14 - أصول الفقه: «أصول الأحكام الشرعية» ليوسف قاسم، «مذكرة أصول الفقه» للشنقيطي، «إعلام الموقعين» لابن القيم، «الموافقات» للشاطبي. 15 - الشيطان: «تلبيس إبليس» لابن الجوزي - «إغاثة اللهفان» لابن القيم - «آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان» للشبلي (وقد سبقت الإشارة إليه). 16 - هدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا بيان ما يجوز وما لا يجوز: «زاد المعاد» لابن القيم بتحقيق الأرنؤوط، يقول ابن القيم رحمه اللَّه (جـ1 ص: 275): (فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز، ولما لا يجوز، وإنما مقصودنا فيه هدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كان يختاره لنفسه فإنه أكمل الهدى وأفضله). 17 - كتاب شامل لمعظم الإسلام باختصار: «منهاج المسلم» لأبي بكر الجزائري. 18 - الأحاديث الضعيفة والموضوعة: «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة» للشوكاني - «سلسلة الأحاديث الضعيفة» للألباني - «ضعيف الجامع الصغير» وزيادته

للألباني - «ضعيف سنن أبي داود» - «ضعيف سنن الترمذي» - «ضعيف سنن النسائي» - «ضعيف سنن ابن ماجه» (كلها للألباني). 19 - البدع: «الإبداع في مضار الابتداع» للعالم الجليل: الشيخ على محفوظ - «السنن والمبتدعات». 20 - لتربية الأولاد: «تربية الأطفال في الإسلام» لعبد اللَّه علوان. 21 - للمولود: «تحفة المودود في أحكام المولود» لابن القيم. 22 - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: وهو كتاب قيم لمعرفة موضع الآية في أي سورة هي؟ 23 - النهاية في غريب الحديث والأثر: لابن الأثير، وهو كتاب قيم لمعرفة معاني كلمات الأحاديث على طريقة القاموس. 24 - النار: «يقظة أولي الاعتبار فيما ورد في النار وأصحاب النار»: لصديق حسن خان - «التخويف من النار» لابن رجب الحنبلي - «التذكرة» للقرطبي (¬1). 25 - الجنة: «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» لابن القيم. 26 - الأحاديث القدسية: «شرح الأحاديث القدسية». 27 - الدعاء والذكر: «تحفة الذاكرين» للشوكاني (مع التحفظ في نقطة التوسل) - «الوابل الصيب» لابن القيم - «الأذكار النووية». 28 - القرآن الكريم: ولك أن تلتزم بالقراءة في مصحف واحد (أي طبعة واحدة، لا تقرأ في غيرها من طبعات) فإن ذلك يسهل عليك حفظ وتثبيت القرآن إن شاء اللَّه. 29 - حفظ القرآن: عون الرحمن في حفظ القرآن، بزيادة فتح المنان في حمل الفرقان لأبي ذر القلموني. 30 - تأويل الأحلام: تعطير الأنام في تعبير المنام لعبد الغني النابلسي، وبهامشه منتخب الكلام في تفسير الأحلام للإمام محمد بن سيرين. وإنما ذكرت هذا الكتاب لأن تأويل الأحلام علم من العلوم، {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلاَمِِ بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44]. 31 - أطراف الحديث: «موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف» لأبي هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول. فما قام قلم بتخريج حديث بعد صدور هذا الكتاب، إلا ولهذا الكتاب - بعد اللَّه تعالى - فضل عليه، وفائدة الدلالة على موضع الحديث. ¬

(¬1) «وصف الدور الثلاثة من تفسير ابن كثير»: «الدنيا دار الغرور»، «النار دار الثبور»، «الجنة دار السرور» جمع وترتيب أبي ذر القلموني.

ترتيب القراءة: يمكنك واللَّه أعلم، قراءة الكتاب الأول من كل مجموعة حسب الترتيب الرقمي الآتي: فتبدأ برقمي 7 (أي: مختصر منهاج القاصدين) و17 (أي: منهاج المسلم) معًا ثم 1 - 4 - 2 - 3 - 15 - 16 - 13 - 8 - 5 - 18 - 19 - 10 - 14 - 12 - 9 - 11 - 6 ... تنبيه: هناك كتب قيمة كثيرة غير ما ذكرتُ، لكني اكتفيت بتلك المصابيح. السادسة: اجتمع أنت وأهل بيتك كل يوم على مائدة الكتاب والسنة، ومن أيسر الكتب في ذلك «منهاج المسلم»، «مختصر منهاج القاصدين»، «مختصر تفسير ابن كثير» للصابوني، «الوابل الصيب» لابن القيم، «رياض الصالحين». تنبيه: هذا أقل ما يوجد في بيتك، فإن لم تستطع فعليك بكتاب «منهاج المسلم»، فهو للبيوت كالملح للقوت. السابعة: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي» (¬1). الثامنة: إياك والغيبة، قال تعالى: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12]. وعن أبي هريرة قال: قيل يا رسول اللَّه ما الغيبة؟ قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول قد بهته» رواه مسلم. وفي كفارة الغيبة قال العلماء: ( .... فإن كانت الغيبة قد بلغت الرجل جاء إليه واستحله، وأظهر له الندم على فعله، وإن كانت الغيبة لم تبلغ الرجل جعل مكان استحلاله الاستغفار له) وقد ذكرت الكلام عن الغيبة بعد الكلام عن الصحبة فانتبه. التاسعة: عدم الغرور بالطاعة، فإن الذي يبكي على معصيته خير من المغرور بطاعته كما قيل: رب معصية أورثت صاحبها ذلاًّ وانكسارًا، ورب طاعة أورثت صاحبها عجبًا وافتخارًا. العاشرة: الدعاء بظهر الغيب حتى لمن أساء إليك، وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الدعاء بظهر الغيب قد سبق الكلام عن بعضها في باب الدعاء، ومن الفائدة - واللَّه أعلم - أنك إذا كنت في الطريق ورأيت أخاك المسلم آتيًا من بعيد، فادع له قبل أن يأتي إليك، وكذلك إذا مررت على بيته، وكذلك إذا زرته فقبل أن تطرق الباب تدعو له. ¬

(¬1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد (حسن) كما قال الألباني. (قل).

فائدة حول التسبيح دبر الصلوات

الحادية عشر: فائدة حول التسبيح دبر الصلوات: جاء في «صحيح البخاري» عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: (جاء الفقراء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل في أموال يحجون بها ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدقون. قال: «ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم به أدركتم من سبقكم، ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه، إلا من عمل مثله: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين»، فاختلفنا بيننا، فقال بعضنا: نسبح ثلاثًا وثلاثين، ونحمد ثلاثًا وثلاثين، ونكبر أربعًا وثلاثين. فرجعت إليه فقال: «تقول: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، واللَّه أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاث وثلاثون»). وفي «صحيح مسلم»: قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تسبحون وتكبرون وتحمدون، دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة». قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله. فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء». وزاد غير قتيبة في هذا الحديث عن الليث عن ابن عجلان: قال سُمَيٌّ: فحدثت بعض أهلي هذا الحديث، فقال: وهمت (¬1). إنما قال: «تسبح اللَّه ثلاثًا وثلاثين وتحمد اللَّه ثلاثًا وثلاثين وتكبر اللَّه ثلاثًا وثلاثين» فرجعت إلى أبي صالح فقلت له ذلك. فأخذ بيدي فقال: اللَّه أكبر وسبحان اللَّه والحمد لله. اللَّه أكبر وسبحان اللَّه والحمد لله. حتى تبلغ من جميعهن ثلاثة وثلاثين. قال ابن عجلان: فحدثت بهذا الحديث رجاء بن حيوة. فحدثني بمثله عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال النووي رحمه اللَّه تعالى في «شرح مسلم» (ج5 ص 130: 132 رقم 142/ 595): قوله: «ذهب أهل الدثور» هو بالثاء المثلثة واحدها دَثْر وهو المال الكثير، قوله في كيفية عدد التسبيحات والتحميدات والتكبيرات: (أن أبا صالح رحمه اللَّه تعالى قال: ¬

(¬1) أي: نسيت. (قل).

يقول اللَّه أكبر وسبحان اللَّه والحمد لله ثلاثًا وثلاثين مرة)، وذكر بعد هذه الأحاديث من طرق غير طريق أبي صالح، وظاهرها أنه يسبح ثلاثًا وثلاثين مستقلة، ويكبر ثلاثًا وثلاثين مستقلة، ويحمد كذلك، وهذا ظاهر الأحاديث. قال القاضي عياض: وهو أولى من تأويل أبي صالح. وأما قول سهيل: إحدى عشرة إحدى عشرة فلا ينافي رواية الأكثرين ثلاثًا وثلاثين، بل معهم زيادة يجب قبولها. وفي رواية (تمام المائة لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير). وفي رواية أن التكبيرات أربع وثلاثون، وكلها زيادات من الثقات يجب قبولها، فينبغي أن يحتاط الإنسان فيأتي بثلاث وثلاثين تسبيحة ومثلها تحميدات وأربع وثلاثين تكبيرة ويقول معها: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له إلى آخرها؛ ليجمع بين الروايات. اهـ. وجاء في «الفتح» (جـ2 ص 382، 383) قال الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى: (قال النووي: ينبغي أن يجمع بين الروايتين بأن يكبر أربعًا وثلاثين ويقول معها لا إله إلا اللَّه وحده إلخ. وقال غيره: بل يجمع بأن يختم مرة بزيادة تكبيرة ومرة بلا إله إلا اللَّه على وفق ما وردت به الأحاديث .... ). قوله: «وتسبحون وتحمدون وتكبرون» كذا وقع في أكثر الأحاديث تقديم التسبيح على التحميد وتأخير التكبير، وفي رواية ابن عجلان تقدم التكبير على التحميد خاصة، وفيه أيضًا قول أبي صالح: «يقول اللَّه أكبر وسبحان اللَّه والحمد لله» ومثله لأبي داود من حديث أم الحكم، وله من حديث أبي هريرة: «تكبر وتحمد وتسبح» وكذا في حديث ابن عمر. وهذا الاختلاف دال على أن لا ترتيب فيها، ويستأنس لذلك بقوله في حديث الباقيات الصالحات: «لا يضرك بأيهن بدأت» لكن يمكن أن يقال: الأولى البداءة بالتسبيح لأنه يتضمن نفي النقائص عن الباري سبحانه وتعالى، ثم التحميد لأنه يتضمن إثبات الكمال له، إذ لا يلزم من نفي النقائص إثبات الكمال. ثم التكبير إذ لا يلزم من نفي النقائص وإثبات الكمال أن يكون (¬1) هناك كبير آخر. ثم يختم بالتهليل الدال على انفراده سبحانه وتعالى بجميع ذلك). اهـ. من «الفتح». وتظهر فائدة الروايات التي فيها سبحان اللَّه والحمد للَّه واللَّه أكبر مجتمعة - مع مراعاة الاختلاف الوارد في الترتيب - وبإضافة الواو أن الذاكر مهما أراد الإسراع لا بد أن يأتي بأحرف كل كلمة كاملة، وذلك لاختلاف الكلمات، أما إذا كانت الكلمات ¬

(¬1) كذا في الأصلين، والصواب: «أن لا يكون».

معاملة الزوجة بلطف والصبر على أذاها

واحدة مثل سبحان اللَّه، سبحان اللَّه، سبحان اللَّه ... إلخ فإن ذلك قد يكون سببًا لضياع بعض الحروف، إلا إذا تمهل الذاكر تمهلاً كافيًا، واللَّه أعلم. الثانية عشرة: معاملة الزوجة بلطف والصبر على أذاها، لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يفرك (أي: لا يبغض) مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقًا رضي منها آخر» رواه مسلم. وجاء في «مختصر منهاج القاصدين»: واعلم أنه ليس حسن الخلق مع المرأة كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها. وتذكر قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في «الصحيح»: «إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منزلة أعظمهم فتنة. يجئ أحدهم فيقول: قد فعلت كذا وكذا فيقول: ما صنعت شيئًا. قال: فيجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله. قال: فيدنيه منه أو قال: فيلتزمه، ويقول: نعم أنت أنت» رواه مسلم. ويقول رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك اللَّه فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا» رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح (¬1)، دخيل يعني ضيف. تنبيه: إذا وقع أي خلاف في البيت فافزع إلى الصلاة، وأطل السجود، وأكثر الاستغفار. الثالثة عشرة: ليست هناك عزة بين المؤمن والمؤمن لأن اللَّه تعالى يقول في وصف أحبائه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] ومن باب أولى أن تكون هذه الذلة بين الرجل وزوجته، فعلى كل منهما المسارعة في مصالحة الآخر ولو كان الحق معه، وذلك إرغامًا للشيطان، والأولى أن يكون ذلك من جانب الزوجة حتى تخفف عن زوجها ما يلاقيه من عناء العمل. الرابعة عشر: إياكَ والإفسادَ بين المرء وزوجه: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من خبب زوجة امرئ، أو مملوكه فليس منا» (صحيح) رواه أبو داود عن أبي هريرة «الصحيحة» (324) كذا في «صحيح الجامع» وقال المنذري - نقلاً عن «عون المعبود» وأخرجه النسائي. جاء في «فيض القدير» للمناوي رحمه اللَّه تعالى: («من خبب» بخاء معجمه ثم موحدة تحتية مكررة «زوجة امرئ» أي: خدعها ¬

(¬1) صحيح - انظر «صحيح سنن الترمذي». (قل).

الختان من محاسن الإسلام

وأفسدها «أو مملوكه فليس منا» أي: ليس على طريقتنا ولا من العاملين بأحكام شريعتنا قال [أحد العلماء]: ومن ذلك ما لو جاءته امرأة غضبانة من زوجها ليصلح بينهما مثلاً فيبسط لها في الطعام، ويزيد في النفقة والإكرام، ولو إكرامًا لزوجها، فربما مالت لغيره وازدرت ما عنده فيدخل في هذا الحديث؛ ومقام العارف أن يؤاخذ نفسه باللازم وإن لم يقصده. قال: وقد فعلت هذا الخلق مرارًا، فأضيق على المرأة الغضبانة، وأوصي عيالي أن يجوعوها لترجع وتعرف حق نعمة زوجها؛ وكذا القول في العبد). اهـ. وجاء في «عون المعبود» (جـ 14 ص: 77): «من خبب زوجة امرئ»: أي خدعها وأفسدها، أو حسن إليها الطلاق ليتزوجها أو يزوجها لغيره، أو غير ذلك). اهـ. الخامسة عشر: الختان من محاسن الإسلام: تعريف الختان: جاء في «فقه السنة»: (الختان: هو قطع الجلدة التي تغطي الحشفة (¬1) لئلا يجتمع فيها الوسخ وليتمكن من الاستبراء من البول ولئلا تنقص لذة الجماع هذا بالنسبة للرجل. وأما المرأة: فيقطع الجزء الأعلى من الفرج بالنسبة لها). اهـ. قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد (¬2)، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط». رواه البخاري ومسلم. وجاء في «تمام المنة» (ص67: 69) ما مختصره: (فقد صح قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبعض الختانات في المدينة «اخفضي ولا تنهكي، فإنه أنضر للوجه، وأحظى للزوج» رواه أبو داود، والبزار، والطبراني، وغيرهم، وله طرق وشواهد عن جمع من الصحابة خرجتها في «الصحيحة» (2/ 353 - 358) ببسط قد لا تراه في مكان آخر، وبينت فيه أن ختن النساء كان معروفًا عند السلف خلافًا لبعض من لا علم بالآثار عنده. وإن مما يؤكد ذلك كله الحديث المشهور (¬3): «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل»، وهو مخرج في «الإرواء» (رقم 80). ¬

(¬1) الحشفة: رأس عضو التذكير، ويكشف عنها الختانُ - كذا في «المعجم الوسيط». (قل). (¬2) حلق العانة - «فقه السنة» (قل). (¬3) صحيح - ابن ماجه عن عائشة وعن ابن عمرو «مسند الإمام أحمد» - عائشة وابن عمرو «سنن البيهقي» - أبي هريرة - انظر «صحيح الجامع». (قل).

قال الإمام أحمد رحمه اللَّه: (وفي هذا دليل على أن النساء كن يُختتن). انظر «تحفة المودود في أحكام المولود» لابن القيم (ص 64 - هندية) .... وأما حكم الختان فالراجح عندنا وجوبه، وهو مذهب الجمهور، كمالك والشافعي وأحمد، واختاره ابن القيم، وساق في التدليل على ذلك خمسة عشر وجهًا، وهي وإن كانت مفرداتها لا تنهض على ذلك، فلا شك أن مجموعها ينهض به، ولا يتسع المجال لسوقها جميعًا هاهنا، فاكتفى منها بوجهين: الأول: قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، والختان من ملته، كما في حديث أبي هريرة المذكور في الكتاب، وهذا الوجه أحسن الحجج، كما قال البيهقي، ونقله الحافظ (10/ 281). الثاني: أن الختان من أظهر الشعائر التي يفرق بها بين المسلم والنصراني، حتى إن المسلمين لا يكادون يعدون الأقلف منهم. ومن شاء الاطلاع على بقية الوجوه المشار إليها فليراجع كتاب «التحفة» (ص53 - 60). اهـ. وجاء في «السلسلة الصحيحة» (جـ2 ص 348، 349): (واعلم أن ختن النساء كان معروفًا عند السلف خلافًا لما يظنه من لا علم عنده: فإليك بعض الآثار في ذلك: 1 - عن الحسن قال: (دعي عثمان بن أبي العاص إلى طعام، فقيل: هل تدري ما هذا؟ هذا ختان جارية! فقال: هذا شيء ما كنا نراه على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأبى أن يأكل). أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (3/ 7/2) من طريق أبي حمزة العطار عنه. قلت: وأبو حمزة - واسمه إسحاق بن الربيع - حسن الحديث كما قال أبو حاتم، وسائر رواته موثقون، فإن كان الحسن سمعه من عثمان فهو سند حسن. وقد رواه محمد بن إسحاق عن طلحة بن عبيد اللَّه بن كريز عن الحسن به دون ذكر: «جارية». أخرجه الطبراني أيضًا، وأحمد (4/ 217)، وإسناده جيد لولا عنعنة ابن إسحاق فإنه مدلس، وبه أعله الهيثمي (4/ 60). 2 - عن أم المهاجر قالت: (سبيت (¬1) وجواري من الروم، فعرض علينا عثمان الإسلام، فلم يسلم منا غيري وغير أخرى، فقال: أخفضوهما وطهروهما. فكنت أخدم عثمان). أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (1245، 1249). 3 - عن أم علقمة: (أن بنات أخي عائشة خُتنَّ، فقيل لعائشة: ألا ندعو لهن من ¬

(¬1) أي: وقعت في الأسر. (قل).

يلهيهن؟ قالت: بلى. فأرسلت إلى عدي فأتاهن، فمرت عائشة في البيت فرأته يتغنى ويحرك رأسه طربًا - وكان ذا شعر كبير - فقالت: أف؛ شيطان! أخرجوه أخرجوه). أخرجه البخاري في «الأدب» (1247). قلت: وإسناده محتمل للتحسين ورجاله ثقات؛ غير أم علقمة هذه - واسمها مرجانة - وثقها العجلي وابن حبان، وروى عنها ثقات). اهـ. فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية: سئل ابن تيمية: هل تختن المرأة أم لا؟ فأجاب: الحمد لله نعم تختن وختانها أن تقطع أعلى الجلدة التي كعرف الديك، وفي الحديث قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للخاتنة: «أشمى ولا تنهكي فإنه أبهى للوجه وأحظى لها عند الزوج» أي: لا تبالغي في القطع، وذلك بأن المقصود بختان الرجل تطهيره من النجاسة المحتقنة في القلفة، والمقصود بختان المرأة تعديل شهوتها فإنها إذا كانت قلفاء (¬1) كانت مغتلمة (شديدة الشهوة) ولهذا يقال في المشاتمة (يا ابن القلفاء) فإن القلفاء تتطلع إلى الرجال أكثر، ولهذا يوجد من الفواحش في نساء الإفرنج ما لا يوجد في نساء المسلمين، وإذا حصلت المبالغة في الختان ضعفت الشهوة فلا يكمل مقصود الرجل فإذا قطع من غير مبالغة حصل المقصود باعتدال واللَّه أعلم. اهـ «فتاوى شيخ الإسلام» (جـ 21 ص: 114). السادسة عشرة: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب». رواه أحمد والنسائي والترمذي، وصححه الألباني. السابعة عشرة: عن بشر الحافي جاء في الأثر: «من بدأ بالحمد قبل الشكوى لم تكتب عليه الشكوى» لذا كان بشر الحافي يقول لمن سأله عن مرضه: أحمد اللَّه إليكم، بي كذا وكذا. الثامنة عشرة: ألق السلام على من عرفت ومن لم تعرف، وعليك أن تعلم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» رواه مسلم. وعليك أن تعلم أنك إذا قلت: السلام عليكم تأخذ عشر حسنات، وإذا أضفت: ورحمة اللَّه تأخذ عشرين حسنة، وإذا أضفت: وبركاته تأخذ ثلاثين حسنة، كما أفاد بذلك حديث أبي داود والترمذي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإسناده قوي كما قال الحافظ في «الفتح». ¬

(¬1) قَلِفَ، قَلَفًا: لم يختن - كذا في «المعجم الوسيط»، والمعنى: المرأة غير المختونة. (قل).

التاسعة عشرة: عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإذا حالت بينهم شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه» رواه أبو داود وسنده جيد (¬1). وعليه يمكنك أنت وزوجتك أن يلقي كل منكما على الآخر السلام عندما يأتي أحدكما بجزء من الطعام ثم يذهب لإحضار باقيه. العشرون: إذا كنت في أي مكان فألق السلام على أخيك المسلم، وإذا كنت تقود مركبتك في الطريق وتوقفت قليلاً فسلم على صاحب المركبة الأخرى. فائدة: أخرج ابن السني: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه» وحسنه الأرنؤوط في «زاد المعاد». تنبيه: جاء في «تحفة الأحوذي» (جـ7 ص 474: 477): (فائدة في بيان أن السنة في المصافحة أن تكون باليد الواحدة، أعني اليمين من الجانبين سواء كانت عند اللقاء أو عند البيعة - إلى أن قال رحمه اللَّه تعالى - وأما قول ابن مسعود رضي اللَّه عنه: (علمني النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكفى بين كفيه التشهد كما يعلمني السورة من القرآن) أخرجه الشيخان، فليس من المصافحة في شيء، بل هو من باب الأخذ باليد عند التعليم لمزيد الاعتناء والاهتمام به). اهـ. وعلى ذلك فإن ما يفعله البعض من وضع اليد اليسرى بالإضافة إلى اليمنى عند المصافحة خلاف السنة. الحادية والعشرون: قال رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة (يعني: خلق)، وعفة طعمة (¬2)». رواه أحمد في «مسنده»، وصححه الألباني. الثانية والعشرون: قال الفضيل: علامة الشقاوة خمسة: قلة الحياء، وقسوة القلب، وجمود العين، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل. وقال بعض الحكماء: من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه. وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال: «دعه فإن الحياء من الإيمان» متفق عليه. الثالثة والعشرون: بر والديك وإن جفواك لقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] وعن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: سألت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصلاة على وقتها» قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أي؟ ¬

(¬1) وهو صحيح - انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬2) قال العلماء: أي الجهة التي يُرزق منها. (قل).

قال «الجهاد في سبيل اللَّه» متفق عليه. ولقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الكبائر الإشراك باللَّه، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس» رواه البخاري. وقيل لعلي بن الحسين: إنك من أبر الناس ولا تأكل مع أمك في صحفة؟ قال: أخاف أن تسبق يدي يدها إلى ما تسبق إليه عيناها فأكون قد عققتها. ورأى أبو هريرة رجلاً يمشي خلف رجل فقال: من هذا؟ قال: أبي، قال: لا تدعه باسمه، ولا تجلس قبله، ولا تمشِ أمامه. الرابعة والعشرون: ابتعد عن القيل والقال لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن اللَّه حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعًا وهات، وكره لكم: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال». أخرجه البخاري.

الخامسة والعشرون: صل رحمك وإن كان عدوك لقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ والأرْحَامَ} [النساء:1]. ولقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح» يعني: أفضل الصدقة على ذي الرحم المضمر العداوة. رواه الطبراني، وصححه الألباني. السادسة والعشرون: لا تنفق وقتك إلا في طاعة، وقد كان أحد السلف إذا طرق الباب طارق يقول: اللهم إني أعوذ بك ممن يشغلني عن ذكرك. السابعة والعشرون: عليك بزيارة الأيتام والعطف عليهم، وتذكر أنه سيأتي اليوم الذي تغلق فيه زوجتك بابها على نفسها وتبكي على فراقك - إن قدر اللَّه لك الموت قبلها - وانظر إلى قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما». رواه البخاري. قال النووي: كافل اليتيم: القائم بأموره. الثامنة والعشرون: الجار قبل الدار، وعليك أن تأتسي بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك». رواه مسلم. وإياك إياك أن تؤذي جارك خاصة برفع صوت المذياع. وقد يبيع الرجل داره وبأقل من ثمنه هربًا من جار السوء كما قال أحدهم عند بيع داره: يلومنني أن بعت بالرخص منزلي ... ولم يعلموا جارًا هناك ينغّصُ فقلت لهم كفوا الملام فإنما ... بجيرانها تغلو الديار وترخصُ وروى المدائني: أنه باع جار لفيروز داره بأربعة آلاف درهم فجيء بها فقال البائع: هذا ثمن داري فأين ثمن جاري؟ قال: ولجارك ثمن؟! قال: لا أنقصه واللَّه عن أربعة آلاف درهم، فبلغ ذلك فيروز فأرسل إليه بثمانية آلاف درهم وقال: هذا ثمن دارك وجارك والزم دارك لا تبعها. التاسعة والعشرون: قال أبو الدرداء: أنصف أذنيك من فيك، فإنما جعلت لك أذنان وفم واحد، لتسمع أكثر مما تتكلم به. الثلاثون: أكرم ضيفك لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه» رواه مسلم. وقال تعالى في وصف كرم إبراهيم عليه السلام: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ - فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ} [الذاريات: 26، 27]. قال ابن كثير رحمه اللَّه: وهذه الآية انتظمت آداب الضيافة فإنه جاء بطعام من حيث لا يشعرون بسرعة، وأتى بأفضل ما وجد من ماله وهو عجل فتيّ سمين مشوي، فقربه إليهم لم

يضعه وقال اقتربوا، بل وضعه بين أيديهم، ولم يأمرهم أمرًا يشق على سامعه بصيغة الجزم بل قال: {أَلاَ تَأْكُلُونَ؟} على سبيل العرض والتطلف، كما يقول القائل: إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق فافعل. انتهى. قال العباس: لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيله وتصغيره وستره، فإذا عجلته هنأته، وإذا صغرته عظمته، وإذا سترته تممته. وقد نهى رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتكلف الرجل في إكرام الضيف فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتكلفن أحدٌ لضيفه ما لا يقدر عليه». وسيأتي هذا الحديث إن شاء اللَّه تعالى في باب المناهي. فائدة: دخل ضيف على عمر بن عبد العزيز رضي اللَّه عنه فقدم له نصف رغيف ونصف خيارة وقال له: كل فإن الحلال في هذا الزمان لا يحتمل السرف. الحادية والثلاثون: إذا كنت تعمل عند إنسان بأجر أو سائقًا على سيارة بالأجرة ثم أتاك ما يسمونه بالوهبة، فإنها من حق صاحب المال إلا أن يأذن لك في أخذها، لما ورد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل رجلاً على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟». رواه أحمد (¬1). فإذا كانت الأجرة المستحقة لك نصف جنيه إلا خمسة قروش، فترك لك الراكب هذه القروش الخمسة، فإنها كما قلنا من حق صاحب المركبة (أي: السيارة) إلا أن يأذن لك. وتذكر قول ميمون بن مهران: ثلاث يؤدين إلى البر والفاجر: الأمانة والعهد وصلة الرحم. الثانية والثلاثون: حاول ألا تنام بعد الفجر، وإليك بعض هديه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النوم كما جاء في كتاب «الطب النبوي» المأخوذ من «زاد المعاد» لابن القيم: وقيل (¬2): نوم النهار خلق وخرق وحمق، فالخلق نومة الهاجرة (يعني: الظهر) وهو خلق رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والخرق: نومة الفجر يشغل عن أمر الدنيا والآخرة، والحمق: نومة العصر قال بعض السلف: من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه. وقال الشاعر: ألا إن نومات الضحى تورث الفتى خبالاً ونومات العُصَير جنون ونومة الصبح تمنع الرزق؛ لأن ذلك وقت تطلب فيه الخليقة أرزاقها، وهو وقت قسمة الأرزاق. فنومه حرمان إلا لعارض أو ضرورة، وهو مضر جدًّا. ورأى عبد اللَّه بن عباس ابنًا له ¬

(¬1) وهو في «الصحيحين». (قل). (¬2) «زاد المعاد» لابن القيم (ج4 ص: 242). (قل).

نائمًا نوم الصبحة فقال له: قم أتنام في الساعة التي تقسم فيها الأرزاق. انتهى من «زاد المعاد». وروي أيضًا: تنسموا الصباح قبل أن تدنسه أنفاس العاصين. الثالثة والثلاثون: حتى تكون دعوتك إلى اللَّه ذات ثمرة، فابدأ بنفسك أولاً، لأن اللَّه تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب: 59]. فأمر تعالى نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبدأ بنسائه وبناته قبل نساء المؤمنين. الرابعة والثلاثون: قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18]. وكان يقال: النفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه خانك، وروي أن حسان بن سنان مر بغرفة فقال: متى بنيت هذه؟ ثم أقبل على نفسه فقال: تسألين عما لا يعنيك! لأعاقبنك بصوم سنة، فصامها. وقد روي أن من حاسب نفسه في الدنيا، خف في القيامة حسابه، وحسن منقلبه. ومن أهمل المحاسبة دامت حسراته. جاء في «مختصر منهاج القاصدين»: فلينظر الإنسان في أربعة أنواع: الطاعات، والمعاصي، والصفات المهلكات، والصفات المنجيات، فلا تغفل عن نفسك ولا عن صفاتك المباعدة عن اللَّه تعالى والمقربة إليه، وينبغي على كل [مسلم] أن تكون له جريدة [ورقة] يثبت فيها جملة الصفات المهلكات والصفات المنجيات وجملة المعاصي والطاعات، ويعرض ذلك على نفسه كل يوم، ويكفيه من المهلكات النظر في عشرة، فإنه إن سلم منها سلم من غيرها وهي: البخل، والكبر، والعجب، والرياء، والحسد، وشدة الغضب، وشره الطعام، وشره الوقاع، وحب المال، وحب الجاه. ومن المنجيات عشرة: الندم على الذنوب، والصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، والشكر على النعماء، واعتدال الخوف والرجاء، والزهد في الدنيا، والإخلاص في الأعمال، وحسن الخلق مع الخلق، وحب اللَّه تعالى، والخشوع. فهذه عشرون خصلة: عشرة مذمومة، وعشرة محمودة، فمتى كفي من المذمومات واحدة خط عليها في جريدته وترك الفكر فيها، وشكر اللَّه تعالى على كفايته إياها، وليعلم أن ذلك لا يتم إلا بتوفيق

اللَّه تعالى وعونه، ثم يقبل على التسع الباقية، وهكذا يفعل حتى يخط على الجميع. وكذلك يطالب نفسه بالاتصاف بالصفات المنجيات، فإذا اتصف بواحدة منها كالتوبة والندم وضع خطًّا عليها واشتغل بالباقي، فأما أكثر الناس من المعدودين في الصالحين، فينبغي أن يثبتوا في جرائدهم المعاصي الظاهرة، كأكل الشبهات وإطلاق اللسان بالغيبة، والنميمة، والمراء، والثناء على النفس، والإفراط في موالاة الأولياء، ومعاداة الأعداء، والمداهنة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن أكثر من يعد نفسه من الصالحين لا ينفك عن جملة من هذه المعاصي في جوارحه، وما لم تطهر الجوارح من الآثام لا يمكن الاشتغال بعمارة القلب وتطهيره (¬1). انتهى. * * * جدول محاسبة النفس من المهلكات ــ من المنجيات ــ من الذنوب الخفية 1 - البخل ... الندم على الذنوب ... المعاصي الظاهرة كأكل الشبهات 2 - الكبر ... الصبر على البلاء ... إطلاق اللسان بالغيبة والنميمة 3 - العجب ... الرضا بالقضاء ... المراء 4 - الرياء ... الشكر على النعماء ... الإفراط في موالاة الأولياء ومعاداة الأعداء 5 - الحسد ... اعتدال الخوف والرجاء ... المداهنة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 6 - شدة الغضب ... الزهد في الدنيا 7 - شره الطعام ... الإخلاص في الأعمال 8 - شره الوقاع ... حسن الخلق مع الخلق 9 - حب المال ... حب اللَّه تعالى 10 - حب الجاه ... الخشوع ¬

(¬1) «مختصر منهاج القاصدين» (ص: 370: 378) واعلم أنه لا غنى للمسلم عن قراءة باب المحاسبة والمراقبة من نفس الكتاب (ص: 370: 378). (قل).

الخامسة والثلاثون: أد زكاة مالك إذ كنت ممن وجبت عليهم الزكاة بشروطها، وذلك لقول اللَّه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]، ولقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من آتاه اللَّه مالاً فلم يؤد زكاته مُثّل له يوم القيامة شجاعًا أقرع (¬1) له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني: شدقيه - ثم يقول: أنا كنزك أنا مالك». ثم تلا هذه الآية: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ والأرْضِِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180]. رواه الشيخان، «الشجاع الأقرع»: الثعبان الكبير. ويقول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على اللَّه» (¬2). ويقول اللَّه تعالى: {والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34، 35]. جاء في «مختصر تفسير ابن كثير» ما مختصره: وأما الكنز فقال ابن عمر: هو المال الذي لا تؤدى زكاته. وعنه قال: ما أُدي زكاته فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وما كان ظاهرًا لا تؤدي زكاته فهو كنز. وقال الإمام أحمد عن ثوبان: لما نزل في الذهب والفضة ما نزل قالوا: فأي المال نتخذ؟ قال عمر: فأنا أعلم لكم ذلك، فأوضع على بعير فأدركه وأنا في أثره فقالوا: يا رسول اللَّه أي المال نتخذ؟ قال: «قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكرًا وزوجة تعين أحدكم على أمر الآخرة» (¬3). وقوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} الآية: أي: يقال لهم هذا الكلام تبكيتًا وتقريعًا وتهكمًا، كما ¬

(¬1) «مختصر تفسير ابن كثير» (ج2 ص: 139، 140). وجاء في «جامع الأصول» (جـ4 ص 563): (شجاعًا أقرع) الشُجاع: الحية، والأقرع: صفته بطول العمر، وذلك أنه لطول عمره قد امرقَّ شعر رأسه، فهو أخبث له، وأشد شرًّا. (زبيبتان): الزبيبتان: هما: الزَّبَدَتَان في الشِّدقين. يقال: تكلم فلان حتى زبَّب شدقاه، أي: خرج الزَّبد عليهما، ومنها الحية ذات الزبيبتين، وقيل هما النكتتان السوداوان فوق عينيه (بِلِهْزِمتيه) اللِّهزِمَتان: عظمتان ناتئتان في اللَّحيين تحت الأذنين ويقال، هما مُضْيغتان عَليَّتَان تحتهما). اهـ. (قل). (¬2) متفق عليه. (قل). (¬3) صحيح - انظر «صحيح الجامع» رقم (4409). (قل).

في قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] أي هذا بذاك وهذا الذي كنتم تكنزون لأنفسكم، ولذلك يقال: من أحب شيء وقدمه على طاعة اللَّه عذب به، وهؤلاء لما كان جمع الأموال آثر عندهم من رضا اللَّه عنهم عذبوا بها، وكان أضر الأشياء عليهم في الدار الآخرة فيحمى عليها في نار جهنم، وناهيك بحرها، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، قال عبد اللَّه بن مسعود: والذي لا إله غيره لا يكوى عبد بكنز فيمس دينار دينارًا ولا درهم درهمًا ولكن يوسع جلده، فيوضع كل دينار ودرهم على حدة. انتهى. تنبيه: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الصدقة والهدية أيهما أفضل؟ فأجاب: الحمد لله، (الصدقة) ما يعطى لوجه اللَّه تعالى عبادة محضة من غير قصد شخص معين ولا طلب غرض من جهته، لكن يوضع في مواضع الصدقة كأهل الحاجات. وأما (الهدية) فيقصد بها إكرام شخص معين، إما لمحبة، وإما لصداقة، وإما لطلب حاجة، ولهذا كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل الهدية، ويثيب عليها، فلا يكون لأحد عليه منة، ولا يأكل أوساخ الناس التي يتطهرون بها من ذنوبهم، وهي الصدقات، ولم يكن يأكل الصدقة لذلك وغيره. وإذا تبين ذلك فالصدقة أفضل، إلا أن يكون في الهدية معنى تكون به أفضل من الصدقة، مثل الإهداء لرسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته محبة له، ومثل الإهداء لقريب يصل به رحمه، وأخ له في اللَّه، فهذا يكون أفضل من الصدقة (¬1). انتهى. السادسة والثلاثون: بادر بالحج عند الميسرة، قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهن، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (¬2). وقال رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « .... فإن عمرة في رمضان تعدل حجة» وفي رواية: «تعدل حجة معي» رواه مسلم، ولمسلم أيضًا قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « .... الحج يهدم ما كان قبله». السابعة والثلاثون: علينا أن نتكلم باللغة العربية لأنها لغة القرآن. الثامنة والثلاثون: لا تنبذ التمر والزبيب جميعًا، ولكن انبذ التمر على حدة، والزبيب على حدة، ثم اخلطهما بعد تمام النبيذ، وذلك لما رواه جابر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعًا، ونهى أن ينبذ الرطب والبسر جميعًا». رواه الجماعة إلا الترمذي، ويقول رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يشرب النبيذ منكم فليشربه زبيبًا ¬

(¬1) «مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (ج31 ص: 269). (قل). (¬2) متفق عليه. (قل).

فردًا أو بسرًا فردًا» أخرجه مسلم. والبسر - كما في «القاموس» - ثمر النخل قبل أن يرطب، وسبب الكراهة فيه - كما في «شرح مسلم» (جـ 13 ص 223، 224) - أن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يتغير طعمه، فيظن الشارب أنه ليس مسكرًا ويكون مسكرًا، ومذهبنا ومذهب الجمهور أن هذا النهي لكراهة التنزيه ولا يحرم ذلك ما لم يصر مسكرًا وبهذا قال جماهير العلماء). التاسعة والثلاثون: اجتنب المسكرات، واعلم أن التداوي بها داء وليس شفاء، وذلك لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن اللَّه أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تتداووا بحرام» (¬1). رواه أبو داود. وقال ابن مسعود في المسكر: إن اللَّه لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم. ذكره البخاري. الأربعون: ابتعد عن شرب الدخان وما شابهه فإنه حرام، لقول اللَّه تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [الأعراف: 157] والدخان من الخبائث. واعلم أن لهذا الداء رائحة كريهة تؤذي الملائكة والمؤمنين لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في «صحيح مسلم»، بعد أن تكلم عن رائحة البصل: « .... وإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم» بالإضافة إلى أن هذا المال ليس مالك أنت، وإنما هو مال اللَّه تعالى، لأن اللَّه تعالى يقول: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] فلو أن هذا المال مالك أنت ما حاسبك اللَّه عليه، فاستعن باللَّه، وصل ركعتين، واسأل اللَّه أن يرفع عنك هذا البلاء، إن كنت ممن وقعوا فيه خاصة أنك عندما تستأثر بجانب من المال لنفسك، تكون بذلك قد جُرْتَ على أولادك، وأخذت منهم رزقهم، واللَّه سائلك عن ذلك. الحادية والأربعون: ابتعد عن القمار واللعب بالنرد وما في معنى ذلك، وذلك لما يلي: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ والأنصَابُ والأزْلاَمُ (¬2) رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ¬

(¬1) ضعفه الألباني في «ضعيف الجامع»، وقال الأرنؤوط في «جامع الأصول»: حسن بشواهده. (قل). (¬2) الأنصاب: قال القرطبي: قيل هي الأصنام، وقيل هي النرد والشطرنج. وفي «أيسر التفاسير»: الأنصاب: جمع نصب ما ينصب للتقرب به إلى اللَّه أو التبرك به أو لتعظيمه. والأزلام: جمع زلم: وهي عيدان يستقسمون بها في الجاهلية لمعرفة الخير من الشر، والربح من الخسارة. اهـ. وقد عوض اللَّه المسلمين عنها بصلاة الاستخارة. (قل).

وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90، 91]. قال ابن كثير رحمه اللَّه: يقول اللَّه تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر وهو القمار. وقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه أنه قال: الشطرنج من الميسر. رواه ابن أبي حاتم. قال مجاهد وعطاء: كل شيء من القمار فهو الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز. وروي عن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب مثله، وقالا: حتى الكعاب والجوز والبيض التي يلعب بها الصبيان. وقال ابن عمر وابن عباس: الميسر هو القمار، كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام، فنهاهم اللَّه عن هذه الأخلاق القبيحة. وقال مالك: كان ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين. وقال الزهري: الميسر: الضرب بالقداح على الأموال والثمار. وقال القاسم بن محمد: كل ما ألهى عن ذكر اللَّه وعن الصلاة فهو من الميسر، وكأن المراد بهذا هو النرد الذي ورد به الحديث في «صحيح مسلم» [الطاولة وما شابهها]. قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه». وفي «موطأ مالك» عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لعب بالنرد فقد عصى اللَّه ورسوله» (¬1). وأما الشطرنج فقد قال عبد اللَّه بن عمر: إنه شر من النرد، وتقدم عن علي أنه قال: هو من الميسر، ونص على تحريمه مالك وأبو حنيفة وأحمد، وكرهه الشافعي، رحمهم اللَّه تعالى، وأما الأنصاب .... فائدة: ذكر ابن كثير رحمه اللَّه: قال ابن أبي حاتم: مر علي رضي اللَّه عنه على قوم يلعبون بالشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لأن يمس أحدكم جمرًا حتى يطفأ خير له من أن يمسها. الثانية والأربعون: إذا وجدت أن حسنات الإنسان أكثر من سيئاته، فلا تذكر سيئاته، وإذا وجدت أن سيئاته أكثر من حسناته، فلا تذكر حسناته، (معنى قول لابن المبارك). الثالثة والأربعون: لا تدع يومًا يمر عليك إلا وتأمر فيه بمعروف، وتنهى فيه عن منكر، ولو أن تقول: يا فلان حي على الصلاة .... الرابعة والأربعون: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الرجل إذا كان يتلو الكتاب العزيز بين جماعة، فقرأ سجدة، فقام على قدميه وسجد، فهل قيامه أفضل من سجوده ¬

(¬1) حسن - رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم - انظر «صحيح الجامع». (قل).

وهو قاعد أم لا؟ وهل فعل ذلك رياء ونفاق؟ فأجاب رحمه اللَّه: بل سجود التلاوة قائمًا أفضل منه قاعدًا، كما ذكر ذلك من ذكره من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، وكما نقل عن عائشة، بل وكذلك سجود الشكر كما روى أبو داود في «سننه» عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من سجوده للشكر قائمًا. وهذا ظاهر في الاعتبار: فإن صلاة القائم أفضل من صلاة القاعد. وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان أحيانًا يصلي قاعدًا فإذا قرب من الركوع فإنه يركع ويسجد وهو قائم، وأحيانًا يركع ويسجد وهو قاعد، فهذا قد يكون للعذر أو للجواز. الخامسة والأربعون: قال اللَّه تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ - إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]. قال ابن القيم رحمه اللَّه: ولا يتم له سلامته مطلقًا حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد، والإخلاص يعم اهـ. من كتاب «الجواب الكافي». السادسة والأربعون: قال ابن القيم رحمه اللَّه في كتيب «زاد المهاجر إلى ربه» مراتب الدعوة أربعة: 1 - العلم بما جاء به الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 2 - العمل بما جاء به الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 3 - الدعوة إلى ما جاء به الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 4 - الصبر على ما جاء به الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. السابعة والأربعون: اثنان، أنصح نفسي وإياهما بالإعراض عن اللغو: الحلاق، والسائق (خاصة سائق السيارة الأجرة)، فللأول أن يضع في دكانه: «تفسير القرآن»، و «منهاج المسلم»، و «مختصر منهاج القاصدين». وللثاني أن يستمع إلى تسجيلات العلماء وشرائط القرآن. الثامنة والأربعون: ابتعد عن الجدال وإن كنت محقًا، لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وهو محق» رواه الطبراني، وأبو داود والضياء وحسنه الألباني في «صحيح الجامع» وقال الأرنؤوط في «جامع الأصول»: إسناده صحيح. وجاء في «عون المعبود» (جـ14 ص: 152): «أنا زعيم» أي: ضامن وكفيل «ببيت». قال الخطابي: البيت هاهنا القصر، يقال: هذا بيت فلان أي: قصره «في ربض الجنة» الرَبَض بفتحتين أي: ما حولها خارجًا عنها تشبيهًا بالأبنية التي تكون حول المدن وتحت القِلاع، كذا في «النهاية»). فإن الجدال مدخل من مداخل الشيطان. وامتثل للحق ولو أمام الناس، ولا تظن أن ذلك يقلل من شأنك، بل يرفعه، وذلك حتى لا

تكون متكبرًا عن الامتثال للحق، ولقد ذم اللَّه المعرضين عن سبيل الرشد فقال: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146]. التاسعة والأربعون: إذا أردت أن تنصح إنسانًا فلا تنصحه أمام الناس، ولتكن النصيحة بينك وبينه، قال الإمام الشافعي: من وعظ أخاه سرًّا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه. الخمسون: جاء في باب سد الذرائع في «إغاثة اللهفان» لابن القيم: (منع المقرض من قبول هدية المقترض، ما لم يكن بينهما عادة جارية بذلك قبل القرض. ففي «سنن» ابن ماجه (¬1) عن يحيى ابن إسحاق الهنائي قال: سألت أنس بن مالك: الرجل منا يقرض أخاه المال، فيهدي إليه؟ فقال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقرض أحدكم قرضًا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبنها، ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك»). انتهى. ثم قال رحمه اللَّه: وكل ذلك سدًّا لذريعة أخذ الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل. الحادية والخمسون: الصمت حكم وقليل فاعله (قول للقمان الحكيم). واعلم أن من أعظم العبادة وأيسرها على البدن الصمت، وحسن الخلق، لذا كان من صفات عباد الرحمن كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]. ومن صفاتهم أيضًا قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55] قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} أي: لا يخالطون أهله ولا يعاشروهم. {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ ... } أي: إذا سفه عليهم سفيه وكلمهم بما لا يليق أعرضوا عنه، ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح، ولا يصدر عنهم إلا كلم طيب {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أي: لا نريد طريق الجاهلية ولا نحبها (¬2). انتهى. وفي «مختصر منهاج القاصدين»: دخل عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين المسجد ليلة في الظلمة، فمر برجل نائم فعثر به، فرفع رأسه وقال: أمجنون أنت؟ فقال ¬

(¬1) ضعيف - انظر «ضعيف الجامع». (قل). (¬2) «مختصر تفسير ابن كثير» (ج3 ص: 18). (قل).

عمر: لا، فهم به الحرس، فقال عمر: مه، إنما سألني أمجنون؟ فقلت: لا. الثانية والخمسون: ما هي آخر مرة زرت فيها المقابر للعظة. الثالثة والخمسون: اكتب وصيتك الشرعية إذا كان عندك ما توصي به وإلا فإن التأخير دليل على طول أملك في الدنيا، قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده». متفق عليه، وهذا لفظ البخاري. الرابعة والخمسون: لا تتحرج في كتابة الدّين، وإن كان المدين قريبًا لك خاصةً إذا كنت تعلم أنه قد يماطل في الحق، لأن اللَّه تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. قال ابن كثير رحمه اللَّه: هذه الآية أطول آية في القرآن العظيم، وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير عن سعيد بن المسيب أنه بلغه: أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين، فقوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} هذا إرشاد من اللَّه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها، ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها .. إلى أن قال رحمه اللَّه: فأمروا أمر إرشاد لا أمر إيجاب كما ذهب إليه بعضهم. وقال رحمه اللَّه في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]. وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال:: هذه نسخت ما قبلها وقال الشعبي: إذا ائتمن بعضكم بعضًا فلا بأس ألا تكتبوا أو لا تشهدوا (¬1). انتهى. أي: أن الآية الثانية - واللَّه أعلم - نسخت ما في الآية الأولى من الكتابة والإشهاد على سبيل الإيجاب، لكنها لم تنسخ العمل بهما على سبيل الاستحباب. الخامسة والخمسون: إذا اشتريت شيئًا مكيلاً أو موزونًا وأردت أن تبيعه فعليك أن تعيد الكيلَ مرة أخرى، وكذا الموزون أن تزنه مرة أخرى، فإن الإعراض عن ذلك خطأ يقع فيه غالب المسلمين، وعلى ذلك فإن ذمة البائع الثاني لا تبرأ بكيل ووزن البائع الأول، عن عثمان بن عفان، قال: كنت أبيع التمر في السوق، فأقول: كلت في وسقي هذا كذا، فأدفع أوساق التمر بِكَيْله وآخذ شفي، فدخلني من ذلك شيء، فسألت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «إذا سميت الكيل فكله». رواه ابن ماجه وصححه الألباني. جاء في «سنن ابن ماجه» (جـ 3 ص 51): (قوله: «في وسق» بفتح واو وسكون سين، المقدار معين، ولعل المراد أنه كان يبيع بكيل البائع الأول ويقول للمشتري: إني ¬

(¬1) «مختصر تفسير ابن كثير» (ج1 ص: 252: 256). (قل).

كلت فيه هذا من الكيل، ولا يكيل له، والمشتري يعتمد على قوله فيأخذه من غير كيل جديد، فأشار له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجواب إلى أنك إذا عقدت البيع على الكيل فكله ولا تعتمد على الكيل الأول. وقوله: «وآخذ شفي» بكسر الشين وتشديد الفاء، أي: ربحي. واللَّه أعلم). وجاء في (ب - ف) (إذا سميت: إذا حددت الكيل وأظهرته). السادسة والخمسون: أكثر من الاستغفار، خاصة عند الشدائد، وأيضًا عند تسميع القرآن، فقد ورد في الأولى آيات وأحاديث كثيرة، ويكفي قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90]. وروي عن ابن تيمية رحمه اللَّه قوله: كان إذا حزبني أمر استغفرت اللَّه ألف مرة فيفرج اللَّه عني هذا الأمر. وذكر العدد هنا كناية عن الكثرة، فلا ترتبط بعدد الشيخ رحمه اللَّه. وأما عند تسميع القرآن: فقد ذكر ابن كثير في تفسيره لقول اللَّه تعالى في سورة الشورى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] عن الضحاك قال: ما نعلم أحدًا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب، ثم قرأ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} ثم قال الضحاك: وأي مصيبة أكبر من نسيان القرآن الكريم (¬1)! انتهى. السابعة والخمسون: تمسك بالسنة خاصة فيما يتصل بظاهرك، فإنها تذكر الناس باللَّه. وكان شاه بن شجاع الكرماني يقول: من عمَّر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، واعتاد أكل الحلال، لم تخطئ له فراسة أبدًا. ولا تظن أن هذه الأشياء من القشور، فإنه بالقشر يحفظ اللب، ومن أمثلة ذلك: العمامة، والقميص، والشرب جالسًا على ثلاث مرات وعلى الأرض، فإنك قد تجد من يقول: هل حرم الشرب جلوسًا على الكرسي؟ وهنا أوضح عدة أمور: أ- قال اللَّه تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] فمسألة الحرام ¬

(¬1) «مختصر تفسير ابن كثير» (ج3 ص: 279) آية (30). (قل).

والحلال مرجعها إلى اللَّه لا إلى الأهواء. ب- وقد كان بعض السلف يتحرجون في الإفتاء فكانوا يقولون عند الإفتاء: (كانوا يقولون كذا). قال ابن كثير رحمه اللَّه: ويدخل في هذا الأمر - أي الافتراء - كل من ابتدع بدعة ليس فيها مستند شرعي، أو حلل شيئًا مما حرم اللَّه أو حرم شيئًا مما أباح اللَّه بمجرد رأيه وتشهيه (¬1). انتهى. بل يمكنك أن تقول له: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الشرب واقفًا، إلا في حدود ما استنثنى، فعندما تشرب وأنت جالس (¬2) على الكرسي تكون قد امتثلت لنهي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن إذا شربت جالسًا، وعلى الأرض، فلك ثوابان: ثواب الجلوس، وثواب المتابعة للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. جـ- بعض الناس في هذه الأيام ليس عندهم إلا كلمتا حلال وحرام، ولم يعلموا أن الأحكام التي للعبودية خمسة: واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح. د- تَفَهُّم فحوى النص: فمثلاً ما رواه البخاري عن أنس رضي اللَّه عنه قال: «لم يأكل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على خوان حتى مات» والخوان كما جاء في شرح هذا الحديث: المائدة ما لم يكن عليها طعام. فالحديث هنا يدل على الاستحباب لا على الوجوب. هـ- قال ابن القيم رحمه اللَّه: ( ... والمقصود أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أكمل الخلق في كل صفة يحصل بها انشراح الصدر، واتساع القلب، وقرة العين، وحياة الروح، فهو أكمل الخلق في هذا الشرح والحياة، وقرة العين مع ما خُصَّ به من الشرح الحسي، وأكمل الخلق متابعة له، أكملهم انشراحا ولذة وقرة عين، وعلى حسب متابعته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينال العبد من انشراح صدره، وقرة عينه، ولذة روحه ما ينال ... وهكذا لأتباعه نصيب من حفظ اللَّه لهم، وعصمته إياهم، ودفاعه عنهم، وإعزازه لهم، ونصره لهم، بحسب نصيبهم من المتابعة، فمستقل، ومستكثر. فمن وجد خيرًا فليحمد اللَّه، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه) (¬3). انتهى. فالمتابعة له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكيال ومن أوفى استوفى. الثامنة والخمسون: لا تحرم وارثًا من إرثه، قال تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًّا} [الفجر: 9]، وروي أن من حرم وارثًا من إرثه حرمه اللَّه من ميراث الجنة. ¬

(¬1) «مختصر تفسير ابن كثير» (ج3 ص: 350). (قل). (¬2) سيأتي إن شاء اللَّه تعالى حكم الشرب واقفًا. (قل). (¬3) «زاد المعاد» لابن القيم (ج2 ص: 27). (قل).

وهناك بعض الناس لا يعطون المرأة حقها في الميراث، وهي أيضًا تتحرج أن تطالب بذلك خشية أن تنقطع صلتها بأقاربها. التاسعة والخمسون: اهتم بقصص الأنبياء عليهم السلام، فإن اللَّه تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألبَابِ} [يوسف: 111]، وإذا أردت أن تقص على الناس فعليك بالسيرة، فإنها تشتمل على قصص الذين شهد لهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحيح بالخيرية فقال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» قال عمران راوي الحديث: فلا أدري أذكره بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا، قال الحافظ - نقلاً عن «تحفة الأحوذي» (ج 6 ص 496): ( ... وجاء في أكثر الطرق بغير شك منهاعن النعمان بن بشير عند أحمد، وعن مالك عند مسلم عن عائشة قال رجل: يا رسول اللَّه أي الناس خير؟ قال: «القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث» مرتين أو ثلاثًا (¬1). الستون: لا تُفْت بغير علم، قال الإمام ابن القيم رحمه اللَّه في «إعلام الموقعين»: وقد حرم اللَّه القول عليه بغير علم في الفتوى والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. فرتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، وثنَّى بما هو أشد تحريمًا منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلَّث بما هو أشد تحريمًا منها وهو الشرك باللَّه سبحانه، ثم ربَّع بما هو أشد تحريمًا من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه وتعالى بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله في دينه وشرعه. الحادية والستون: جاء في «تفسير ابن كثير»، قال ابن مسعود رضي اللَّه عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ - وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ ¬

(¬1) صحيح - الترمذي والحاكم عن عمران بن حصين، أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن مسعود - انظر «صحيح الجامع». (قل).

تَذَكَّرُونَ - وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151، 153]. الثانية والستون: أحسن الظن بأخيك المسلم، خاصة عندما يدعوك إلى اللَّه، فقد تدعو مسلمًا إلى اللَّه فيقول لك: يا أخي هو أنا كافر؟ وقد يقول هذه الكلمة دون داع! .. يا أخي اتق اللَّه، من قال إنك كافر .. ليس حبيبك الذي يقدم لك المشروب، ولكن حبيبك الذي يقربك من المعبود. روي أن بعض الأئمة كان ماشيًا فألقي عليه رماد، فسجد لله شكرًا، فقالوا له: يا إمام أتسجد لله شكرًا وقد ألقي عليك الرماد؟! فرد عليه الإمام قائلاً: الحمد لله الذي جعله رمادًا ولم يجعله نارًا. وقال عمر بن الخطاب: لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا وأنت تجد لها من الخير محملاً. الثالثة والستون: لا تظهر الشماتة بأخيك المسلم، لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه اللَّه ويبتليك» رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وقال المحققون: رجاله ثقات (¬1)، ومعنى الشماتة: الفرح ببلية الغير. الرابعة والستون: جاء في «رياض الصالحين» (باب النهي عن تناجي اثنين دون الثالث بغير إذنه إلا لحاجة، وهو أن يتحدثا سرًّا بحيث لا يسمعهما، وفي معناه إذا تحدث اثنان بلسان لا يفهمه): قال اللَّه تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 10] وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث» متفق عليه ورواه أبو داود؛ قال أبو صالح: قلت لابن عمر: فأربعة؟ قال: لا يضرك. الخامسة والستون: إذا أهديت إنسانًا هدية فلا ترجع فيها؛ لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه». متفق عليه. وفي رواية: «العائد في هبته كالعائد في قيئه». ويستثنى من ذلك: 1 - هبة الوالد لولده لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع ¬

(¬1) وضعفه الألباني في «ضعيف سنن الترمذي». (قل).

استجب لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعفاء اللحية

فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده .... ». رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم، وصححه الألباني في «صحيح الجامع»، وجاء في «فقه السنة»: حكم الأم مثل الأب عند أكثر العلماء، وسواء كان الولد صغيرًا أو كبيرًا. 2 - الهدية بعوض: لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب منها». رواه مسلم. قال في «فقه السنة»: ما لم يثب منها: أي يعوض عنها وهذا هو ما رجحه ابن القيم في «إعلام الموقعين» أي: يُكافأ عليها. اهـ. كأن يقول له: أهبك هذه الساعة على أن تهبني هذا القلم. السادسة والستون: إذا وكِّلت بإخراج صدقة فأخلص نيتك لله تعالى ولا تتمناها لك وإن كنت فقيرًا، فقد تُوكل بإخراج طعام وليس في بيتك رغيف من الخبز، أو بإخراج مال وليس في بيتك درهم، وكما قيل: كم في الزوايا من خبايا، فإذا أخلصت نيتك فأنت أحد المتصدقين، فعن أبي موسى رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخازن المسلم الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملاً موفرًا طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به؛ أحد المتصدقين». متفق عليه. قال المناوي رحمه اللَّه تعالى في «فيض القدير»: «الخازن» مبتدأ «المسلم الأمين الذي يعطي» وفي رواية للبخاري ينفذ بفاء مكسورة مخففة أو مشددة وذال معجمة، وفي رواية له ينفق «ما أمر به» بالبناء للمفعول من الصدقة «كاملاً موفورًا طيبة به نفسه» ثلاثتها حال ما أمر به «فيدفعه» عطف على يعطي «إلى» الشخص «الذي أمر له» بضم الهمزة مبنيًا للمفعول أي الذي أمر الآمر له أي بالدفع «أحد المتصدقين» خبر المبتدأ أي بالرفع هو ورب الصدقة في الأجر سواء، لا ترجيح لأحدهما على الآخر، وإن اختلف مقداره لهما، فهو من قبيل قولهم في المبالغة: القلم أحد اللسانين، فالذي يتصدق بماله له أجره مضاعفًا أضعافا كثيرة، والذي ينفذ له عشر حسنات فقط، قال ابن حجر: وقوله المتصدقين ضبط في جميع روايات الصحيحين بفتح القاف على التثنية، وجوز القرطبي الكسر على الجمع أي هو متصدق من المتصدقين، واعلم أن الأوصاف الثلاثة لا بد منها: كون المتصدق مسلمًا ليصح منه التقريب، أمينًا لأن الخائن مأزور لا مأجور، طيب النفس وإلا فقدت النية فلا أجر، وفيه الخازن بكونه مسلمًا لأن الكافر لا نية له، وبكونه أمينًا لأن الخائن غير مأجور أو رتب الأجر على إعطائه ما أمر به لئلا يكون خائنًا وأن تكون نفسه بذلك طيبة لئلا يعدم النية فيفقد الأجر). اهـ. السابعة والستون: استجب لأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإعفاء اللحية، روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه وابن عمر رضي اللَّه عنهما: أمر رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإعفاء اللحية، وقال بعض العلماء: ورد هذا الأمر بألفاظ مختلفة عدها النووي رحمه اللَّه فبلغت

القرآن واللحية

خمسًا هي قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اعفوا، أوفوا، أرخوا، ارجوا، وفروا» والأمر بهذا يفيد وجوب المأمور به، بحيث يثاب فاعله، ويعاقب تاركه، وليست هناك قرينة تصرفه إلى الندب، ومنه يعلم أن حلق اللحية مخالفة صريحة لأمر رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انتهى. وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خالفوا المشركين ووفروا اللحى وأحفوا الشوارب». رواه البخاري ومسلم. وجاء في فقه السنة تعليقًا على هذا الحديث: «حمل الفقهاء هذا الأمر على الوجوب وقالوا بحرمة حلق اللحية بناء على هذا الأمر». انتهى. القرآن واللحية: قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عند تفسير قوله تعالى: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94] ما نصه: (فهذه الآية بضميمة آية الأنعام إليها، تدل على لزوم إعفاء اللحية، وعدم حلقها، وآية الأنعام المذكورة هي قوله تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} [الأنعام: 84]، ثم إن اللَّه تعالى قال بعد أن عد الأنبياء الكرام المذكورين: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، فدل ذلك على أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالاقتداء بهم، وأمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك أمر لنا، لأن أمر القدوة أمر لأتباعه كما بينا إيضاحه بالأدلة القرآنية من هذا الكتاب المبارك في سورة المائدة (¬1). وقد قدمنا هناك أنه ثبت في «صحيح البخاري» أن مجاهدًا سأل ابن عباس رضي اللَّه عنهما: من أين أخذت السجدة في (ص)؟ قال: أو ما تقرأ {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ ..... أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فسجدها داود، فسجدها رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا علمت بذلك أن هارون كان موفرًا شعر لحيته، بدليل قوله لأخيه: {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} لأنه لو كان حالقًا لما أراد الأخذ بلحيته، تبين من ذلك بإيضاح أن إعفاء اللحية سمت من السمت الذي أمرنا به في القرآن العظيم وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات اللَّه وسلامه عليهم). انتهى. وكما يقال: اللحية تربيها تربيك، وعندما يعفي الإنسان لحيته، يجدها تلزمه بأشياء لا عليه ألا يقوم بها لو كان حالقًا لها، فلو مشي إنسان ملتح مع امرأة متبرجة - حتى ولو كانت أخته - فإن الناس سوف ينظرون إليه نظرة فيها احتقار. ¬

(¬1) «أضواء البيان» للشنقيطي (ج4 ص: 506). (قل).

ومن الصعب على المسلم الملتحي أن يتردد على أماكن المعصية، لأن اللحية تقول بالمعنى الصامت: أنا تبع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فوائد وتنبيهات: 1 - قال البغوي رحمه اللَّه في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] قيل: الرجال باللحى، والنساء بالذوائب.2 - حلق اللحية استجابة لأمر الوالدين بحجة أن طاعة الوالدين فرض وإعفاء اللحية سنة: من تلبيس إبليس (¬1)، وقد تقدم قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طاعة لأحد في معصية الله». 3 - حلق اللحية رضوخًا لطلب الزوجة بيان عظيم لقول اللَّه عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]. خاتمة: جاء في «موارد الظمآن»: وفي اللحية خصال نافعة: 1 - مخالفة المشركين. 2 - تمييز الرجل عن المرأة. 3 - تمييز الرجل عن الصبي وتغطية ما في منبتها من تشويه أو تثن، لا سيما في الكبر. 4 - تعظيم الرجل الذي يعفيها وتوقيره. 5 - أن إعفاءها من سنن المرسلين. 6 - تقديم من يعفيها على الجماعة وتفضيله. 7 - السلامة من تضييع قطعة من العمر في حلقها أو قصها. انتهى من «موارد الظمآن». وفوق ذلك كله فهي امتثال لأمر اللَّه، ويا سعادة من امتثل لأمر مولاه، فإن العز كل العز في طاعة اللَّه، وإن الذل كل الذل في معصية اللَّه. الثامنة والستون: إذا كنت من الدعاة إلى اللَّه، واحتجت إلى بيت تسكن فيه، فيمكنك - واللَّه أعلم - أن تدعو بهذا الدعاء: اللهم ارزقني بيتًا يساعدني على طاعتك في المكان الذي تحب أن أدعو فيه إليك. التاسعة والستون: الشرفة كالشارع خاصة بالنسبة للمرأة ويمكنك أن تقوم بعمل ستارة تغطي أحبال الغسيل من الخارج. ¬

(¬1) وهو قياس مع الفارق. (قل).

السبعون: أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عبد الأعلى التيمي أنه قال: من أوتي من العلم ما لا يبكيه، لخليق أن قد أوتي من العلم ما لا ينفعه، لأن اللَّه نعت أهل العلم فقال: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} انتهى. وذلك في نهاية قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا - وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً - وَيَخِرُّونَ للأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107: 109]. الحادية والسبعون: من رسوخ العلم أن يكون من الكتاب، فقد ورد أن رجلاً سأل الإمام أحمد سؤالاً، فصعد الإمام إلى بيته كي يحضر الكتاب فقال الرجل: حدثني من الذاكرة، فقال الإمام رحمه اللَّه: لا، بل من الكتاب. وقد يلبس عليك إبليس قائلاً: إنك إذا قرأت من الكتاب، قال الناس: إن حظك من العلم قليل. فإذا كنت عالمًا حقًّا فلا يهمك أن تكون عالمًا عند الناس. وعمومًا يقول ابن القيم رحمه اللَّه: فالبصير الصادق، لا يستوحش من قلة الرفيق، ولا من فقده، إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول الذين أنعم اللَّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. الثانية والسبعون: إذا كنت تقوم بإعطاء درس أو خطبة جمعة، فيمكنك أن تصلي صلاة الاستخارة، لا على إلقاء الدرس أو الخطبة وإنما على الموضوع واللَّه أعلم. وأيضًا يا حبذا لو صليت صلاة الحاجة قبل تحضير الخطبة تسأل اللَّه فيها الصواب والإخلاص. الثالثة والسبعون: إذا كنت قد تعودت على السفر كثيرًا فاحذر طول الغياب، وأذكرك بقول اللَّه تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. فإلى هذا الحد تصبر المرأة على زوجها، حيث سأل عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه ابنته حفصة أم المؤمنين رضي اللَّه عنها عن ذلك فأجابته بهذه الآية. وجاء في «زاد المعاد» لابن القيم رحمه اللَّه: وينبغي (أي: للرجل) ألا يدع الجماع، فإن البئر إذا لم تنزح ذهب ماؤها (¬1). الرابعة والسبعون: ضع في نيتك أن كل ما تنفقه على أهلك يعتبر نفقة في سبيل اللَّه تعالى، حتى رغيف الخبز، ففي «صحيح مسلم» عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «دينار أنفقته في سبيل اللَّه، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أفضلها الذي أنفقته على أهلك». ¬

(¬1) راجع هدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجماع في «زاد المعاد» (ج4 ص: 249). (قل).

ولقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نفقةُ الرجل على أهله صدقة» رواه البخاري والترمذي - كما في «صحيح الجامع». جاء في «تحفة الأحوذي» (جـ6 ص: 72، 73): (قوله: «نفقة الرجل على أهله» وفي رواية للشيخين إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها. قال الحافظ: المراد بالاحتساب القصد إلى طلب الأجر. وقال القرطبي في قوله يحتسبها: أفاد بمنطوقه أن الأجر في الإنفاق إنما يحصل بقصد القربة واجبة أو مباحة، وأفاد بمفهومه أن من لم يقصد القربة لم يؤجر لكن تبرأ ذمته من الواجبة لأنها معقولة المعنى «صدقة». قال الحافظ: المراد بالصدقة الثواب وإطلاقها عليه مجازي، وقرينته الإجماع على جواز الإنفاق على الزوجة الهاشمية مثلاً، وهو من مجاز التشبيه، والمراد به أصل الثواب لا في كميته وكيفيته، قال: وقوله على أهله: يحتمل أن يشمل الزوجة والأقارب ويحتمل أن يختص بالزوجة ويلحق به من عداها بطريق الأولى، لأن الثواب إذا ثبت فيما هو واجب، فثبوته فيما ليس بواجب أولى. وقال الطبري ما ملخصه: الإنفاق على الأهل واجب، والذي يعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده، ولا منافاة بين كونها واجبة وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من صدقة التطوع. وقال المهلب: النفقة على الأهل واجبة، وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر، فعرفهم أنها لهم صدقة حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم، ترغيبًا لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع انتهى). انتهى من «تحفة الأحوذي» للعلامة المباركفوري رحمه اللَّه تعالى. الخامسة والسبعون: إذا ذهبت إلى أخيك المسلم لمصلحة معينة كصلح بين اثنين متخاصمين ... فلا تبدأ في الموضوع إلا بعد أن تجعله يؤدي الصلاة، خاصة إذا كان من المواظبين على الصلاة، ولو كان الوقت ضيقًا. ويمكنك أن تسأله بهذه الكيفية: بأي سورة قرأ بكم الإمام اليوم في الصلاة؟ السادسة والسبعون: إذا كنت وسيطًا بين طرفين في أمر من أمور الخير كالصلح .... فيمكنك أن تصلي ركعتين لله (صلاة الحاجة) تسأل اللَّه تعالى فيهما التيسير والإخلاص

وسرعة الإنجاز. السابعة والسبعون: جاء في كتاب «الزهد» للإمام أحمد قال سليمان بن داود لابنه عليهما السلام: «يا بني إن أحببت أن تغيظ عدوك فلا ترفع العصا عن ابنك» أي: داوم على تأديبه ولو بالعصا. الثامنة والسبعون: لو جهزت المرأة قلبها لله عز وجل من صغرها، بالتقوى، وحفظ القرآن - خاصة سورة النور - والابتعاد عن الأغاني، وعدم اختلاطها بالرجال، وبقرارها في بيتها، وتوكلها على فاطرها بأنه هو النافع الضار الباسط القابض، وبالدعاء في السجود بأن اللَّه تعالى يرزقها بزوج صالح، يعفها، ويحفظ عليها دينها، وينفق عليها - لو جهزت بذلك قلبها لربها - لتزوجت بإذن اللَّه تعالى قبل من تجهز لنفسها أثاث بيتها من صغرها، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} (¬1) [الزمر: 26] يا مسكينة: توضئي، واقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين .. تململي بين يديه، وقولي: يا رب إن الحلال يسير على من يسرته عليه فلا تردني. التاسعة والسبعون: إذا رقيت إنسانًا بالفاتحة أو بغيرها فلا تنس أن تكون الرقية بالترتيل. الثمانون: التزم بالترتيل في الصلاة السرية، فرب العلن هو رب السر. الحادية والثمانون: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياك وكل أمر يعتذر منه». حسن، الضياء عن أنس. «الصحيحة» (354، 1421). انظر «صحيح الجامع». قال المناوي رحمه اللَّه تعالى في «فيض القدير»: «إياك» منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره، من قبيل قولهم إياك والأسد، وأهلك والليل، وتقديره هنا باعد واتق «وكل أمر يعتذر منه» أي: احذر أن تتكلم بما تحتاج أن تعتذر عنه. قال ذو النون: ثلاثة من أعلام الكمال: وزن الكلام قبل التفوه به، ومجانبة ما يحوج إلى الاعتذار، وترك إجابة السفيه حلمًا عنه، وأخرج أحمد في «الزهد» عن سعد بن عبادة أنه قال لابنه: إياك وما يعتذر منه من القول والعمل؛ وافعل ما بدا لك؛ وفي رواية: فإنه لا يعتذر من خير؛ وخرج ابن عساكر عن ميمون بن مهران قال لي عمر بن عبد العزيز: احفظ عني أربعًا: لا تصحب سلطانًا وإن أمرته بمعروف ونهيته عن منكر، ولا تخلونّ بامرأة ولو أقرأتها القرآن، ولا تصلنّ من قطع رحمه فإنه لك أقطع؛ ولا تتكلمن بكلام تعتذر منه غدا. وأخرج القالي في أماليه عن بعضهم: دع ما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك ¬

(¬1) بلى. (قل).

اعتذاره؛ فلست بموسع عذرًا كل من أسمعته نكرًا، وهذا الحديث عده العسكري من الأمثال، وقد قال: جمع بهاتين الكلمتين جميع آداب الدنيا والدين، وفيه جمع لما ذكره بعض سلفنا أنه لا ينبغي دخول مواضع التهم، ومن ملك نفسه خاف من مواضع التهم أكثر من خوفه من وجود الألم؛ فإن دخولها يوجب سقم القلب كما يوجب الأغذية الفاسدة سقم البدن، (الضياء) المقدسي (عن أنس) قال: قال رجل: يا رسول اللَّه أوصني وأنجز فذكره. الثانية والثمانون: عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن اللَّه عز وجل يقول لأهل الجنة، يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك! فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدًا». رواه البخاري ومسلم والترمذي. الثالثة والثمانون: عن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من غسل (¬1) واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة أجر سنة: صيامها وقيامها». قال ابن كثير: هذا الحديث له طرق وألفاظ، وقد أخرجه أهل السنن الأربعة، وحسنه الترمذي. ¬

(¬1) غسل: جامع أهله. (قل).

الرابعة والثمانون: إذا استصعب عليك حمل شيء ما أو خفت مكروهًا، أو خفت فقرًا، فقل: «لا حول ولا قوة إلا باللَّه» عن الليث بن سعد عن معاوية بن صالح قال: حدثنا مشيختنا أنه بلغهم: أن أول ما خلق اللَّه عز وجل - حين كان عرشه على الماء - حملة العرش، قالوا: ربنا لم خلقتنا؟ قال: خلقتكم لحمل عرشي، فأعادوا عليه ذلك مرارًا، فقال قولوا: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، فحملوه. رواه ابن أبي الدنيا، وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيس بن عبادة: «ألا أدلك على باب من أبواب الجنة»؟ قلت: بلى. قال: «لا حول ولا قوة إلا باللَّه» (¬1) رواه الترمذي والحديث صحيح - انظر «صحيح سنن الترمذي». الخامسة والثمانون: عن ابن عباس: إذا قلت: لا إله إلا اللَّه فقل الحمد لله، فإن اللَّه تعالى يقول: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65]. انتهى، وتمام الآية: {هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. السادسة والثمانون: قال اللَّه تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} [النساء: 5] قال ابن كثير رحمه اللَّه تعالى: ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال، التي جعلها اللَّه للناس قيامًا، أي تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها، ومن هاهنا يؤخذ [الحجر على السفهاء] وهم أقسام: فتارة يكون الحجر للصغر، فإن الصغير مسلوب العبارة، وتارة يكون الحجر ¬

(¬1) انظر شرح ذلك الكنز في مقدمة كتابنا «عون الرحمن في حفظ القرآن بزيادة فتح المنان في حمل الفرقان». (قل).

للجنون، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين، وتارة للفلس وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه؛ حجر عليه. وقال ابن عباس في قوله: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ} قال: هم بنوك والنساء، وقال الضحاك: هم النساء والصبيان. وقال سعيد بن جبير: هم اليتامى. وقال مجاهد وعكرمة: هم النساء ... وقوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} قال ابن عباس: لا تعمد إلى مالك وما خولك اللَّه وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك أو بنتك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤنتهم ورزقهم. وقال ابن جرير عن أبي موسى قال: ثلاثة يدعون اللَّه فلا يستجيب لهم: رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيهًا؛ وقد قال اللَّه: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ}، ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه. وقال مجاهد: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} يعني: في البر والصلة، وهذه الآية الكريمة تضمنت الإحسان إلى العائلة في الكساوي والأرزاق، بالكلام الطيب وتحسين الأخلاق (¬1). انتهى. بل صح الحديث السابق مرفوعًا، قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاثة يدعون اللَّه فلا يستجاب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل كان له على رجل مال فلم يشهد عليه، ورجل آتى سفيهًا ماله؛ وقال اللَّه تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ}». صحيح رواه الحاكم عن أبي موسى، «الصحيحة» (1805)، الطحاوي، ابن شاذان، أبو نعيم، الديلمي - كذا في «صحيح الجامع». قال المناوي رحمه اللَّه في «فيض القدير»: («ثلاثة يدعون اللَّه عز وجل فلا يستجاب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق» بالضم «فلم يطلقها» فإذا دعا عليها لا يستجاب له؛ لأنه المعذب نفسه بمعاشرتها، وهو في سعة من فراقها، «ورجل كان له على رجل مال فلم يشهد عليه» فأنكره، فإذا دعا لا يستجاب له لأنه المفرط المقصر بعدم امتثال قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ} «ورجل آتى سفيهًا» أي: محجورًا عليه بسفه «ماله» أي: شيئًا من ماله مع علمه بالحجر عليه، فإذا دعا عليه لا يستجاب له، لأنه المضيع لماله فلا عذر له. «وقد قال اللَّه تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ ¬

(¬1) «مختصر تفسير ابن كثير» للصابوني (ج1 ص: 357، 358). (قل).

السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ}». وقال المعلق على الفيض: قال البيضاوي: نهى الأولياء عن أن يؤتوا الذين لا رشد لهم أموالهم فيضيعوها، وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء لأنها في تصرفهم وتحت ولايتهم، وهو الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة، وقيل نهي لكل أحد إلى ما خوله اللَّه من المال فيعطي امرأته وأولاده ثم ينظر إلى أيديهم، وإنما سماهم سفهاء استخفافًا بعقلهم، وهو أوفق لقوله: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} أي: تقومون بها وتنتفعون، وعلى الأول بأنها التي من جنس ما جعل اللَّه لكم قيامًا). اهـ. تنبيه: من إكرام الرجل لزوجته ألا يجعلها تذهب إلى السوق، فإن شر الأماكن في الأرض الأسواق. السابعة والثمانون: جاء في «تحفة الذاكرين» ما مختصره: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كان جُنح الليل فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلوهم، وأغلق بابك واذكر اسم اللَّه، وأطفئ مصباحك واذكر اسم اللَّه، وأوك سقاءك واذكر اسم اللَّه، وخمر إناءك واذكر اسم اللَّه ولو أن تعرض عليه شيئًا» «الحديث أخرجه الجماعة: البخاري ومسلم وأهل السنن الأربعة. جنح الليل: أي: طائفة منه وأراد به هنا الطائفة الأولى عند امتداد فحمة العشاء. فكفوا صبيانكم: أي: امنعوهم من الخروج. فخلوهم: أي: حُلوهم عن ذلك الكف الذي كففتموهم. ولو أن تعرض عليه شيئًا: يعني: أي شيء كان من عود أو غيره، فإن ذلك يكفي، وإن لم يستر جميع الإناء» (¬1). الثامنة والثمانون: جاء في «إغاثة اللهفان» ما مختصره: (كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يتوضأ بالمُد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد». رواه البخاري ومسلم، قال في «عون المعبود» بتصرف: (جـ 1 ص 164، 165): (الصاع: هو مكيال يسع أربعة أمداد. والمد: هو بالضم ربع الصاع لغة، وقال في «القاموس»: أو ملء كف الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومد يده بهما، ومنه سمى مدًا). اهـ. وعن عبد اللَّه بن عمرو أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بسعد وهو يتوضأ فقال: «لا تُسرف» فقال: يا رسول اللَّه! أوَفي الماء إسراف؟ قال: «نعم وإن كنت على نهر جار» رواه أحمد (¬2) وقال محمد بن عجلان: الفقه في دين اللَّه إسباغ الوضوء وقلة إهراق الماء. وقال الإمام أحمد: كان يقال: من قلة فقه الرجل ولعه بالماء. وفي «جامع الترمذي» من حديث أبي بن كعب «أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن للوضوء شيطانًا يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء» (¬3). وكما قال أبو حامد ¬

(¬1) «تحفة الذاكرين» للشوكاني (ص: 80). (قل). (¬2) والحديث ضعيف. (قل). (¬3) ضعفه الألباني. (قل).

الغزالي وغيره: الوسوسة سببها إما جهل بالشرع، وإما خبل في العقل، وكلاهما من أعظم النقائص والعيوب (¬1). انتهى. التاسعة والثمانون: لا تسأل أخاك المسلم إذا لقيته إلى أين تذهب؟ فربما لا يريد إعلامك بذلك. (ورد معنى ذلك في «مختصر منهاج القاصدين») وإنما من الممكن - واللَّه أعلم - لو أن معك دابة - أن تقول له: أنا طريقي في اتجاه كذا فإن أحببت أن تركب معي فافعل. التسعون: إذا زرت عالمًا فلا تطل الزيارة عنده، فإن وقته للكتاب. الحادية والتسعون: عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة. متفق عليه. وعن ابن مسعود رضي اللَّه عنهما قال: لعن اللَّه الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق اللَّه. قال العلماء: الوشم أن يغرز الجلد بإبرة ثم يحشي بكحل أو نيلج فيزرق أثره أو يخضر، وفاعلته الواشمة، والتي يفعل بها المستوشمة. وقال النووي رحمه اللَّه: الواصلة: التي تصل شعرها أو شعر غيرها بشعر آخر. والموصولة: التي يوصل شعرها. والمستوصلة: التي تسأل من يفعل ذلك لها. والمتفلجة: هي التي تبرد من أسنانها لتباعد بعضها من بعض قليلاً وتحسنها وهو الوشر، والنامصة: هي التي تأخذ من شعر حاجب غيرها وترفعه ليصير حسنًا. والمتنمصة: التي تأمر من يفعل بها ذلك. الثانية والتسعون: قال اللَّه تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]. وروي أن بعض الفقراء شكا فقره إلى بعض أرباب البصيرة، وأظهر شدة اغتمامه بذلك، فقال له: أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم؟ قال: لا، قال: أيسرك أنك أخرس ولك عشرة آلاف درهم؟ قال: لا، قال: أيسرك أنك أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفًا؟ قال: لا، قال: أيسرك أنك مجنون ولك عشرة آلاف؟ قال: لا، قال: أما تستحي أن تشكو مولاك ولك عنده عروض بخمسين ألفًا. الثالثة والتسعون: جاء في الأثر: (من أتلف شيئًا فعليه إصلاحه) فإن البعض قد يتحرج من ذلك ويقول: إنه لا يقبل العوض، وهذا خطأ، بل لو كسرت كوبًا، ولو بحسن نية فعليك ثمنه، إلا أن يعفو صاحب الكوب، وتظهر هذه المسألة في حوادث ¬

(¬1) «إغاثة اللهفان» لابن القيم (ص: 146: 162). (قل).

التصادم بالسيارات، فإنك قد تجد البعض يتحرج من أخذ حقه ظنًّا منه (عن غير علم) أن ما يسمونه بالعوض حرام. الرابعة والتسعون: إذا بشرت بنعمة تسر، أو باندفاع نقمة، فاسجد شكرًا لله، ولو كنت على غير وضوء، أو في غير اتجاه القبلة، فعن أبي بكر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أتاه أمر يسره أو بشر به خر ساجدًا شكرًا لله تعالى. رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه. وقال الأرنؤوط: إسناده حسن. وهنا نكتة لطيفة: وهو أنه كلما سجدت شكرًا لله، ولو في الأمور التي قد تعد صغيرة عند البعض، زادك اللَّه رفعة وعطاء. وبالمناسبة، لا تمنعك هيبة الناس أن تسجد للَّه في الطريق، أو في المركبة، أو عند أرباب المناصب، فلسجود الشكر وسجود التلاوة أيضًا في هذه الأماكن لذة في القلب لا تقل عن لذة السجود بين يدي اللَّه تعالى في الليل. وللمرأة أيضًا أن تسجد شكرًا لله تعالى بعد كل عمل من أعمال بيتها كالطبخ .... الخامسة والتسعون: ابتعد عن لحوم العلماء، وخذ خير ما عندهم، واترك ما سوى ذلك، وكما قال ابن عساكر: لحوم العلماء مسمومة. ومن أقواله أيضًا: من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه اللَّه قبل موته بموت القلب. طلب من العلماء: 1 - قراءة باب تلبيس إبليس على العلماء من كتاب «تلبيس إبليس» لابن الجوزي. 2 - قراءة كتاب «مختصر منهاج القاصدين» بين الحين والحين، وتغذية خطبة الجمعة به. 3 - ختم القرآن مرتين على الأقل في الشهر. واعلم أن اللَّه تعالى أودع قلبك كتابه لتذكره وتخشاه، لا لتهجره وتنساه، فالعلم هو الخشية. 4 - قراءة تفسير القرآن كل عام، خاصة قبل رمضان، (على الأقل كتاب كلمات القرآن الكريم من كتاب «أيسر التفاسير» وقد تقدم). 5 - كما قال ابن تيمية: (ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر غير منكر). وضع نصب عينك هذه الحكمة: «أكثروا الكلام عن الخير فينتشر، ولا تكثروا الكلام عن الشر فيندثر». 6 - كن في بيتك ومسجدك ومكان دعوتك كالنخلة، كما جاء في الحديث «يرمونها بالأحجار

: إن خفت ظالما فعليك بهذه الأدعية:

فترميهم بالثمار». 7 - إذا ابتليت فاستتر، فإن الصغيرة في حقك كبيرة. 8 - لا تعرقل دعوتك إلى اللَّه بالانتصار لنفسك. قال اللَّه تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} قال موسى عليه السلام: {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ} فرد فرعون: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} فرد موسى عليه السلام: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلينَ} فرد فرعون: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} فاستمر موسى عليه السلام في دعوته {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 23: 28]. 9 - اعلم أن اللَّه تعالى لم يكرم الإنسان العالم فقط، بل كرم الكلب المعلم أيضًا، فكن أهلاً لثقة اللَّه فيك، قال ابن القيم رحمه اللَّه في فضل العلم والعلماء: (إن اللَّه سبحانه جعل صيد الكلب الجاهل ميتة يحرم أكلها، وأباح صيد الكلب المعلم، وهذا أيضًا من شرف العلم أنه لا يباح إلا صيد الكلب العالم، وأما الكلب الجاهل فلا يحل أكل صيده فدل على شرف العلم وفضله). يقصد ابن القيم رحمه اللَّه قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة: 4]. قال ابن كثير في تفسير {وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}: الكلاب المعلمة والبازي وكل طير يعلم للصيد، وقال رحمه اللَّه في تعريف الكلب المعلم: (إذا أرسله استرسل، وإذا أشلاه استشلى، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ولا يمسكه لنفسه). فائدة: قال سفيان الثوري: كان يقال: العلماء ثلاثة: عالم باللَّه عالم بأمر اللَّه، وعالم باللَّه ليس بعالم بأمر اللَّه، وعالم بأمر اللَّه ليس بعالم باللَّه، فالعالم باللَّه وبأمر اللَّه الذي يخشى اللَّه تعالى ويعلم الحدود والفرائض، والعالم باللَّه ليس بعالم بأمر اللَّه الذي يخشى اللَّه ولا يعلم الحدود والفرائض، والعالم بأمر اللَّه ليس بعالم باللَّه الذي يعلم الحدود والفرائض ولا يخشى اللَّه. السادسة والتسعون: إن خفت ظالمًا فعليك بهذه الأدعية: 1 - حسبنا اللَّه ونعم الوكيل، قال اللَّه تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ - فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ

وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173، 174]. 2 - حسبنا اللَّه ونعم الوكيل على اللَّه توكلنا. أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وكيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ، فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لهم: قولوا: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل على اللَّه توكلنا». والحديث صححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي». 3 - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان دعاؤه: اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة، مات قبل أن يصيبه البلاء». أخرجه ابن حبان وصححه، وأخرجه أحمد في «مسنده»، والحاكم في «مستدركه»، وصححه الطبراني في «الكبير»، واللفظ للطبراني، وضعفه الألباني. 4 - الاستغفار: عن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لزم الاستغفار جعل اللَّه له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب». قال الأرنؤوط في «جامع الأصول» (جـ4 ص: 389): (أخرجه أبو داود رقم 1518) في الصلاة، باب الاستغفار، ورواه أيضًا أحمد في «المسند» رقم (2234) وابن ماجه رقم (3819) وفي سنده الحكم بن مصعب المخزومي الدمشقي، قال أبو حاتم: مجهول، وذكره ابن حبان في «الثقات»، وفي «الضعفاء» أيضًا، وترجمه البخاري في «التاريخ الكبير»، ولم يذكر فيه جرحًا، وباقي رجاله ثقات، وقد صحح إسناده العلامة أحمد شاكر في تعليقه على «المسند» رقم (2234) بناء على أنه ثقة عند البخاري؛ لأنه لم يذكر فيه جرحًا فانظره). اهـ. ومن المعلوم أن سيد الاستغفار: «اللهم أنت ربي .... »، ويجدر بك أن تصلي صلاة التوبة بين الحين والحين. وقد جاء في «تحفة الذاكرين» (ص: 71) في تفسير الهم والفرق بينه وبين الحزن ما يلي: (قيل: والفرق بين الهم والحزن: أن الهم إنما يكون لأمر متوقع، وأن الحزن يكون من أمر قد وقع، وقيل: الحزن للماضي والهم للمستقبل، وقيل: الفرق بينهما بالشدة والضعف، فالهم أشد في النفس من الحزن لما يحصل فيها من الغم بسببه). 5 - عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: (إذا أتيت سلطانًا مهيبًا تخاف أن يسطو عليك فقل: اللَّه أكبر الله أكبر، اللَّه أعز من خلقه جميعًا، اللَّه أعز مما أخاف وأحذر، أعوذ باللَّه الذي لا إله إلا هو الممسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه من شر عبدك فلان وجنوده وأتباعه وأشياعه من الجن والإنس، اللهم كن لي جارًا من شرهم، جل ثناؤك، وعز جارك، ولا إله غيرك - ثلاث مرات - اللهم إنا نعوذ بك أن يفرط علينا

أحد منهم أو أن يطغى). أخرجه الطبراني في «الكبير» وابن أبي شيبة في «مصنفه». وقال الشوكاني في «تحفة الذاكرين»: والحاصل أن الحديث موقوف على ابن عباس. 6 - تقدم الحديث الذي ذكرناه في الأذكار في «سنن أبي داود» والنسائي عن أبي موسى أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خاف ظالمًا قال: «اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم» قال المناوي: في نحورهم: (أي في إزاء صدورهم لتدفع عنا صدروهم وتحول بينا وبينهم) .. 7 - «اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة»، عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول اللَّه علمني شيئًا أسأله اللَّه، قال: «سل اللَّه العافية»، فمكثت أيامًا ثم جئت فقلت: يا رسول اللَّه علمني شيئًا أسأله اللَّه، قال: «يا عباس يا عم رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سل اللَّه العافية في الدنيا والآخرة» رواه الترمذي وقال: هذا حديث صحيح. وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (¬1). 8 - «اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك» أخرجه الترمذي والحاكم في «المستدرك». قال الشوكاني في «تحفة الذاكرين»: وقد ذكر له الترمذي قصة وفيها: أن اللَّه عز وجل قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سل يا محمد، قال: قلت: «اللهم إني أسألك .... » الحديث إلخ. وبعد هذه الكلمات قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنها كلمة حق، فادرسوها ثم تعلموها» قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه الألباني. 9 - كثرة ذكر اللَّه تعالى والبعد عن الاختلاف - وأعظم الذكر القرآن - قال اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلحُونَ - وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكم واصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45، 46]، جاء في «مختصر ابن كثير» ما مختصره: (هذا تعليم من اللَّه تعالى لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ}. وفي «الصحيحين»: «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا اللَّه العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف»، ثم قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: «اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، ¬

(¬1) يمكنك أن تدعو بالدعاء الوارد في أذكار الصباح والمساء: «اللهم إني أسألك العافية ... » أي: الحديث (7). (قل).

وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم» وقال قتادة: افترض اللَّه ذكره عند أشغل ما يكون، عند الضرب بالسيوف. وعن كعب الأحبار قال: ما من شيء أحب إلى اللَّه تعالى من قراءة القرآن والذكر، ولولا ذلك ما أمر الناس بالصلاة والقتال، ألا ترون أنه أمر الناس بالذكر عند القتال فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ}. فأمر تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا، وأن يذكروا اللَّه في تلك الحال ولا ينسوه، بل يستعينوا به، ويتوكلوا عليه، ويسألوه النصر على أعدائهم، ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضًا فيختلفوا، فيكون سببًا لتخاذلهم وفشلهم {وَتَذْهَبَ رِيحُكم} أي: قوتكم ووحدتكم وما كنتم فيه من الإقبال {واصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وقد كان للصحابة رضي اللَّه عنهم في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم اللَّه ورسوله به، وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم، فإنهم ببركة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وطاعته فيما أمرهم فتحوا القلوب والأقاليم شرقًا وغربًا في المدة اليسيرة، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم، وقهروا الجميع حتى علت كلمة اللَّه وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة، فرضي اللَّه عنهم وأرضاهم). اهـ من «مختصر ابن كثير». تنبيه: بعض الناس يرى في الفتن، أن البعد عن التمسك بالسنة سبيل للنجاة، فتراه يسارع إلى حلق اللحية، وخلع القميص، والبعد عن الصلاة ومجالس العلم في المساجد التي قال اللَّه فيها: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108]، بل يأمر البعض زوجه - أي امرأته - بخلع النقاب، وعلاج ذلك أن اللَّه تعالى يقول: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ} [الأنعام: 17]، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: « .... واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف». صحيح - رواه أحمد والترمذي والحاكم كما في «صحيح الجامع»، وجاء في «الفتح»: «لا يمنع العذابَ الفرارُ، وإنما يمنعه التوبةُ والاستغفار». اهـ. واعلم أن العبد إذا أتاه الابتلاء - نسأل اللَّه العافية مع محبته - فكيف يعرف أن هذا الابتلاء

من محبة اللَّه أو غير ذلك؟ قال العلماء كلامًا معناه: إذا كان العبد على طاعة اللَّه فما يأتيه من ابتلاء فهو من محبة اللَّه، وإذا كان العبد على معصية اللَّه، فما يأتيه من ابتلاء فهو مما كسبت يداه، قال اللَّه تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] فعليك بكثرة تلاوة القرآن، والصلاة والسلام على خير الأنام، والنفل من الصيام. فائدة: بعد أن علمت هذه الأدعية، أستحب لنفسي ولك - واللَّه أعلم - أن تصلي ركعتين لله تعالى (صلاة الحاجة) ثم تدعو بتلك الأدعية السابقة، مطبقًا عليها آداب الدعاء خاصة الدعاء باسم اللَّه الأعظم، وكلما ألححت على اللَّه تعالى بالدعاء بأن تجعلها من أورادك اليومية كان ذلك خيرًا، والدعاء إذا كان أقوى من البلاء فإنه يرده كما تقدم في باب الدعاء. السابعة والتسعون: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن اللَّه تعالى إذا استودع شيئًا حفظه» رواه ابن حبان والبيهقي وصححه الألباني. وعلى ذلك إذا تركت دابتك فقل: اللهم إني أستودعك إياها، وقس على ذلك باقي أمورك بأن تستودع اللَّه أولادك، وبيتك ومالك، ونفسك، حتى قلمك. الثامنة والتسعون: إياك وسيف الحياء، كأن تأكل من البضاعة قبل وزنها، حتى إذا أذن لك البائع فغالبًا يكون ذلك بسيف الحياء. التاسعة والتسعون: يقول علي رضي اللَّه عنه: (لا يرجونَّ عبد إلا ربه) فلا تقل لفلان أرجوك، ولكن قل له: أرجو اللَّه أن تفعل لي كذا. المائة: قال ابن القيم رحمه اللَّه: علامة سعادة العبد: إذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر. من كتاب «الوابل الصيب». الحادية بعد المائة: وجبات البدن: الإفطار، والغداء، والعشاء، ووجبات القلب: صلاة التوبة، وصلاة الاستخارة، وصلاة الحاجة، فداوم على صلاة التوبة، واستخر ربك في كل أمر لا تعرف خيره من شره، وإن كان صغيرًا، وإذا استطعت أن تداوم على صلاة الحاجة كمداومتك على كلمة يا رب فافعل. وإن تعسر عليك أمر ودعوت اللَّه تعالى وأحسست بعدم الإجابة فصل صلاة التوبة، ثم ارجع صلاة الحاجة كرة أخرى، لأن اللَّه تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]. الثانية بعد المائة: اهتم بتربية أولادك ودينهم خُمس اهتمامك ببطونهم.

الثالثة بعد المائة: بعض الناس يتخذ من يوم مولده عيدًا، ويسميه عيد الميلاد. إن الاحتفال بمولد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدعة، فما بالك بغيره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ليس في الإسلام أعياد سوى عيد الفطر وعيد الأضحى، ولكن لك أن تفعل في اليوم السابع من الميلاد ما يسمى بالنسيكة (أي: العقيقة) لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى، ويحلق رأسه». رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني في «صحيح الجامع». واعلم أنه قد ورد حديث يفيد إباحة العقيقة لأربع عشرة ولإحدى وعشرين، وهذا الحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع» وضعفه الحافظ ابن حجر وهو (4132): «العقيقة تذبح لسبع، أو لأربع عشرة، أو لإحدى وعشرين». (صحيح) الطبراني في «الأوسط»، والضياء عن بريدة «الروض النضير» (166)، و «الإرواء» (1170). قال الترمذي: (والعمل على هذا عند أهل العلم: يستحبون أن يذبح عن الغلام، العقيقة يوم السابع، فإن لم يتهيأ يوم السابع فيومَ الرابع عشر، فإن لم يتهيأ عق عنه يوم إحدى وعشرين). جاء في «تحفة الأحوذي» (جـ5 ص: 78، 80) تعليقًا على هذا القول: قال الحافظ في «الفتح»: بعد أن نقل قول الترمذي هذا ما لفظه: لم أر هذا صريحًا إلا عن أبي عبد اللَّه البوشنجي، ونقله صالح بن أحمد عن أبيه، وورد فيه حديث أخرجه الطبراني من رواية إسماعيل بن مسلم عن عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه، وإسماعيل ضعيف. وذكر الطبراني أنه تفرد به، انتهى كلام الحافظ.

قلت: قال الحافظ في «التقريب»: إسماعيل بن مسلم المكي أبو إسحاق كان من البصرة ثم سكن مكة وكان فقيهًا وكان ضعيف الحديث. انتهى. [وقال رحمه اللَّه]: فائدة: إذا مات المولود قبل يوم السابع هل يعق عنه أم لا؟ فقيل: لا يعق عنه وهو قول مالك. قال الحافظ في «الفتح» قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يذبح عنه يوم السابع» تمسك به من قال إن العقيقة مؤقتة باليوم السابع، وأن من ذبح قبله لم يقع الموقع وأنها تفوت بعده وهو قول مالك. وقال أيضًا: إن مات قبل السابع سقطت العقيقة. وفي رواية ابن وهب عن مالك: أن من لم يعق عنه في السابع الأول عق عنه في السابع الثاني. قال ابن وهب: ولا بأس أن يعق عنه في السابع الثالث. انتهى كلام الحافظ. قلت: والظاهر أن العقيقة مؤقتة باليوم السابع، فقول مالك هو الظاهر واللَّه تعالى أعلم. وأما رواية السابع الثاني والسابع الثالث فضعيفة، كما عرفت فيما مر. [وأما عن التسمية في غير السابع فجائزة] وقد ثبت تسمية المولود يوم ولد. ففي «صحيح البخاري» عن أبي موسى قال: ولد لي غلام فأتيت به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسماه إبراهيم فحنكه بتمرة ... الحديث. وفيه عن أبي أسيد أنه أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بابنه حين ولد فسماه المنذر، وفي «صحيح مسلم» عن أنس رفعه قال: «ولد لي اليوم غلام فسميته باسم أبي إبراهيم» الحديث (ويحلق رأسه) أي جميعه. اهـ. أي: بالموسى. مشروعية تحويل العقيقة إلى النسيكة: لما رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني عن عمرو بن شعيب عن أبيه رواه عن جده قال: (سئل رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن العقيقة فقال: «لا يُحبُ اللَّهُ العقوق» - كأنه كره الاسم - وقال: «من ولد له ولدٌ فأحب أن ينسك عنه فلينسُك، عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية شاة» ومعنى مكافأتان - كما في (ب - ف) - متساويتان في السن والحسن. وقد ورد ما يفيد الإجزاء بشاة عن الغلام. ونعود إلى شرح الحديث: جاء في «عون المعبود» (جـ8 ص: 43، 44): («كأنه كره الاسم»، وذلك لأن العقيقة التي هي الذبيحة والعقوق للأمهات مشتقان من العق الذي هو الشق والقطع، فقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحب اللَّه العقوق» بعد سؤاله عن العقيقة للإشارة إلى كراهة اسم العقيقة لما كانت هي والعقوق يرجعان إلى أصل واحد. قاله في «النيل» «فأحب أن ينسُك» بضم السين أي: يذبح (عنه) أي: عن الولد «فلينسك» هذا إرشاد منه إلى مشروعية تحويل العقيقة إلى النسيكة، وأما قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مع الغلام عقيقة ... » [هذا الجزء رواه البخاري وغيره] فلبيان الجواز، وهو لا ينافي الكراهة التي أشعر بها قوله: «لا يحب اللَّه

العقوق». اهـ. تنبيه: احذر قول الأمهات - إلا ما رحم ربي - إن رأس المولود طرية (¬1)، فيحرم المولود من سُنة حلق الرأس، فإذا كانت الأم أرحم الناس بولدها، فاللَّه أرحم من الوالدة بولدها، فإبراهيم عليه السلام عندما أُمر بذبح ولده أمسك بالسكين وتله للجبين، وأنت تبخل بشُعيراتٍ يا مسكين. واعلم أنه لا فرق بين الغلام والجارية من ناحية الحلق، فالكلام الوارد في منهاج المسلم غير صحيح، فلم يذكر الشوكاني في «نيل الأوطار» - عندما ذكر الفرق بين الغلام والجارية - أن الغلام يتميز بالحلق، وإنما العمدة في ذلك قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما النساءُ شقائق الرجال» (¬2)، فلا يثبت التخصيص إلا بدليل. الرابعة بعد المائة: عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رجلاً قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أوصني، قال: «لا تغضب»، فردده مرارًا، قال: «لا تغضب». رواه البخاري. الخامسة بعد المائة: جاء في «صحيح مسلم» (باب النهي عن الشرب قائمًا) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يشربن أحد منكم قائمًا فمن نسي فليستقئ». وجاء فيه أيضًا (باب الرخصة في الشرب قائمًا من زمزم) عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: سقيت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من زمزم فشرب قائمًا واستقى وهو عند البيت. وإليك فقه هذين الحديثين: بوب الإمام النووي في كتاب «رياض الصالحين» قائلاً: (باب جواز الشرب قائمًا وبيان أن الأكمل والأفضل الشرب جالسًا) وجاء في «زاد المعاد» لابن القيم رحمه اللَّه: (وكان أكثر شربه - أي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاعدًا، بل زجر عن الشرب قائمًا، وشرب مرة قائمًا، فقيل: هذا نسخ لنهيه. وقيل: بل فعله لبيان جواز الأمرين، والذي يظهر فيه - واللَّه أعلم - أنها واقعة عين شرب فيها قائمًا، وسياق القصة يدل عليه، فإنه أتى زمزم وهم يستقون منها، فأخذ الدلو وشرب قائمًا. والصحيح في هذه المسألة: النهي عن الشرب قائمًا، وجوازه لعذر يمنع من الشرب قاعدًا، وبهذا تجمع أحاديث الباب واللَّه أعلم. انتهى من «زاد المعاد» (¬3). ¬

(¬1) طري: غضًا لينًا - كذا في «المعجم الأوسط». (قل). (¬2) صحيح - رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عائشة، والبزار عن أنس. انظر «صحيح الجامع». (قل). (¬3) «زاد المعاد» (ج1 ص: 149: 150). (قل).

وجاء فيه أيضًا عن أبي قتادة رضي اللَّه عنه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يتنفس في الإناء (¬1). وجاء فيه أيضًا عن أنس رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتنفس في الشراب ثلاثًا ويقول: «إنه أروى وأبرأ وأمرأ». قال أنس: فأنا أتنفس في الشراب ثلاثًا. انتهى. ومعنى هدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك أنه كان يبعد الإناء عن فيه أثناء الشرب مرتين ويضعه في الثالثة. وجاء في «تحفة الأحوذي» للمباركفوري رحمه اللَّه تعالى (جـ5 ص: 539): («كان يتنفس في الإناء ثلاثًا» ووقع في رواية مسلم: «يتنفس في الشراب ثلاثًا» ووقع في رواية أخرى له مثل رواية الترمذي. قال النووي: معناه في أثناء شربه من الإناء أو في أثناء شربه الشراب «ويقول» إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هو» أي تعدد التنفس أو التثليث «أمرأ» من مرأ الطعام إذا وافق المعدة أي أكثر انصياعًا وأقوى هضمًا، «وأروى» من الري بكسر الراء غير مهموز أي أكثر ريًا وأدفع للعطش، ووقع في رواية مسلم: «أنه أروى وأبرأ وأمرأ» بزيادة قال النووي: معنى أبرأ أي أبرأ من ألم العطش، وقيل أبرأ أي أسلم من مرض أوأذى يحصل بسبب الشرب في نفس واحد انتهى. وقال الحافظ في «الفتح»: أبرأ بالهمزة من البراءة أو من البرء أي يبرئ من الأذى والعطش، ووقع في رواية أبي داود «أهنأ» بدل قوله: «أروى» من الهنأ. قال: والمعنى أنه يصير هنيًا مريًا أي سالمًا أو مبريًا من مرض أو عطش، ويؤخذ من ذلك أنه أقمع للعطش وأقوى على الهضم وأقل أثرًا في ضعف الأعضاء وبرد المعدة، واستعمال أفعل التفضيل في هذا يدل على أن للمرتين في ذلك مدخلاً في الفضل المذكور، ويؤخذ منه أن النهي عن الشرب في نفس واحد للتنزيه. انتهى كلام الحافظ. قوله: «هذا حديث حسن» وأخرجه مسلم وأصحاب السنن قاله الحافظ). اهـ. السادسة بعد المائة: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا آكل متكئًا» رواه البخاري. قال النووي في «رياض الصالحين»: (قال الخطابي: المتكئ هنا هو: الجالس معتمدًا على وطاء تحته، قال: وأراد أنه لا يعتمد على الوطاء والوسائد كفعل من يريد الإكثار من الطعام، بل يقعد مستوفزًا لا مستوطئًا ويأكل بلغة (¬2). هذا كلام الخطابي. ¬

(¬1) وفي «صحيح الجامع» نهى رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه، حم، د ت عن ابن عباس. صحيح. (قل). (¬2) ويأكل بلغة أي: يكتفي ويجتزئ به.

وأشار غيره: إلى أن المتكئ هو المائل على جنبه، واللَّه أعلم) انتهى كلام النووي رحمه اللَّه. وجاء في «زاد المعاد» لابن القيم رحمه اللَّه: (والاتكاء على ثلاثة أنواع: أحدهما: الاتكاء على الجنب، والثاني: التربع، والثالث، الاتكاء على إحدى يديه وأكله بالأخرى، والثلاثة مذمومة) انتهى. السابعة بعد المائة: أنقل إليك هنا بعض المنهيات الواردة في «صحيح الجامع» للألباني (¬1)، وقد راعيت بعون اللَّه تعالى أن تكون هذه المنهيات بقدر الاستطاعة من التي لا تثير خلافًا بين العلماء: 1، 2 - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا أمس يد النساء» طس عن قيلة بنت عبيد - صحيح. وجاء فيه أيضًا: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له». الطبراني عن معقل بن يسار. صحيح. 3 - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبيتن رجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحًا أو ذا محرم» (م عن جابر) - صحيح. 4 - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسأل الناس شيئًا ولا سوطك وإن سقط منك حتى تنزل إليه فتأخذه» حم عن أبي ذر. صحيح. 5 - « ........ لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار» حم، ت، عن عائشة صحيح [الحائض هنا أي: التي بلغت سن المحيض]. 6 - «لا يأخذن أحدكم متاع صاحبه لاعبًا ولا جادًّا، وإن أخذ عصا صاحبه فليردها إليه» (م - عن أبي هريرة) صحيح. 7 - «لا عقر في الإسلام» (د - عن أنس) صحيح (¬2). 8 - «لا يتكلفن أحد لضيفه ما لا يقدر عليه» هب - عن سلمان. صحيح. 9 - «لا يحل لمسلم أن يروع أخاه» حم، د عن رجال. صحيح. 10 - «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق اللَّه الخلق فمن خلق اللَّه؟ فمن وجد من ذلك شيئًا فليقل: آمنت باللَّه ورسوله» م عن أبي هريرة صحيح. 11 - «لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار» حم، ت عن أبي هريرة. صحيح. [وفي معنى ذلك السكين] انتهى. ¬

(¬1) «صحيح الجامع» للألباني (ج6 ص: 40) باب المناهي، (ص: 199) باب اللام ألف. (قل). (¬2) لا عقر: أي: لا ذبح عند القبر، وفي معناه التصدق عنده بخبز أو نحوه. كذا في «فيض القدير».

مختصر أسباب شرح الصدر

تنبيه: هذه المنهيات تزيد عن المائتين بكثير، ولكني اكتفيت بهذا العدد حتى ألفت نظرك إلى قراءتها. الثامنة بعد المائة: حكم رواية الحديث الضعيف وحكم العمل به: جاء في كتاب «تيسير مصطلح الحديث» للشيخ الطحان (¬1) أثابه اللَّه تعالى ما يلي: 1 - متى يروى الحديث الضعيف؟ يجوز عند أهل الحديث وغيرهم رواية الأحاديث الضعيفة، والتسهيل في أسانيدها من غير بيان ضعفها - بخلاف الأحاديث الموضوعة فإنه لا يجوز روايتها إلا مع بيان وضعها - بشرطين: أ- ألا تتعلق بالعقائد، كصفات اللَّه تعالى. ب- ألا تكون في الأحكام الشرعية مما يتعلق بالحلال والحرام. يعني يجوز روايتها في مثل المواعظ والترغيب والترهيب والقصص وما أشبه ذلك، وممن روي عنه التساهل في روايتها: سفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وينبغي التنبيه إلى أنك إذا رويتها من غير إسناد فلا تقل فيها قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما تقول: روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذا، أو بلغنا كذا وما أشبه ذلك، لئلا تجزم بنسبة ذلك الحديث للرسول وأنت تعرف ضعفه. 2 - حكم العمل به [أي متى يعمل بالحديث الضعيف؟] اختلف العلماء في العمل بالحديث الضعيف، والذي عليه جمهور العلماء على أنه يستحب العمل به في فضائل الأعمال، بشروط ثلاثة أوضحها الحافظ ابن حجر وهي: أ- أن يكون الضعف غير شديد. ب- أن يندرج الحديث تحت أصل معمول به. جـ- ألا يعتقد عند العمل به ثبوته بل يعتقد الاحتياط. التاسعة بعد المائة: مختصر أسباب شرح الصدر، وحصولها على الكمال له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ذكرها ابن القيم (¬2) رحمه اللَّه: 1 - التوحيد: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ للإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [الزمر: 22]. 2 - النور: الذي يقذفه اللَّه في قلب العبد وهو نور الإيمان. ¬

(¬1) «تيسير مصطلح الحديث» للشيخ محمود الطحان (ص 64، 65). (قل). (¬2) راجع هذه النقاط في «زاد المعاد» (ج2 ص: 23: 28). (قل).

3 - العلم: وليس هذا لكل علم بل للعلم الموروث عن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو العلم النافع. 4 - الإنابة إلى اللَّه تعالى: ومحبته بكل القلب والإقبال عليه والتنعم بعبادته. 5 - دوام ذكر اللَّه تعالى: على كل حال وفي كل موطن. 6 - الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه، والنفع بالبدن، وأنواع الإحسان. 7 - إخراج دغل القلب من الصفات المذمومة التي توجب ضيقه وعذابه، وتحول بينه وبين حصول البرء. 8 - ترك فضول النظر، والكلام، والاستماع، والمخالطة، والأكل، والنوم. ومن أقواله رحمه اللَّه: حال العبد في القبر كحال القلب في الصدر. العاشرة بعد المائة: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق». صحيح - رواه أحمد وأبو داود - كذا في «صحيح الجامع». الحادية عشرة بعد المائة: قال تعالى: {أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40]. * * *

قبل الخاتمة

قَبْل الخاتمة مقدار صلاة رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: جاء في كتاب «الصلاة» لابن القيم رحمه اللَّه تحت عنوان (المسألة العاشرة) ما مختصره: (وأما المسألة العاشرة، وهي مقدار صلاة رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهي من أجلّ المسائل وأهمها، وحاجة الناس إلى معرفتها أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وقد ضيعها الناس في عهد أنس بن مالك رضي اللَّه عنه. ففي «صحيح البخاري» من حديث الزهري قال: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: لا أعرف شيئًا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت .... ) فإذا أردت معرفة مقدار صلاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فارجع إلى الكتاب السالف ذكره «كتاب الصلاة» من (ص: 81: 111). ولقد قام ابن القيم رحمه اللَّه في هذه الصفحات بالكلام عن مقدار صلاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتعرض رحمه اللَّه لحجج المخففين للصلاة والرد عليها من جانب المكملين للصلاة .. ومما قاله رحمه اللَّه في تعليقه: (وفي «الصحيحين» - عنه أي: أنس رضي اللَّه عنه -: (ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة، ولا أتم من صلاة رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) زاد البخاري: وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه. فوصف صلاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإيجاز والإتمام، والإيجاز هو الذي كان يفعله، لا الإيجاز الذي كان يظنه من لم يقف على مقدار صلاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن الإيجاز أمر نسبي إضافي راجع إلى السنة لا إلى شهوة الإمام ومن خلفه، فلما كان يقرأ في الفجر بالستين إلى المائة [في الركعتين أو إحداهما كما في البخاري] كان هذا الإيجاز بالنسبة إلى ستمائة إلى ألف، ولما قرأ في المغرب بالأعراف، كان هذا الإيجاز بالنسبة إلى البقرة. وفي «سنن» أبي داود [عن أنس أيضًا]: وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قال سمع اللَّه لمن حمده قام حتى تقول: قد أوهم [أي: نسي] ثم يكبر ويسجد، وكان يقعد بين السجدتين حتى تقول: قد أوهم. وقال رحمه اللَّه عن سنة رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ولا نأخذ منها ما سهل علينا، ونترك منها ما شق علينا لكسل، وضعف وعزيمة، واشتغال بدنيا قد ملأت القلوب وملكت الجوارح وقرت بها العيون بدل من قرتها بالصلاة فقامت على خدمة المخلوقين كأنها على الفرش الوثيرة والمراكب الهنية، وقامت في حق خدمة ربها وفاطرها كأنها على الجمر المحرق، تعطيه الفضلة من قواها وزمانها، وتستوفي لأنفسها كمال الحظ، ولم تحفظ من السنة إلا «أَفَتَّانٌ أنت يا معاذ؟ ويا أيها الناس إن منكم منفرين»

ووضع الحديث على غير موضعه. وقد قال رحمه اللَّه (¬1) في «زاد المعاد»: وأما العشاء الآخرة فقرأ فيها بـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} ووقَّتَ لمعاذ فيها بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى} و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ونحوها، وأنكر عليه قراءتها بـ (البقرة) بعد ما صلى معه، ثم ذهب إلى بني عمرو بن عوف، فأعادها لهم [أي: العشاء] بعد ما ماضى من الليل ما شاء، وقرأ بهم بـ (البقرة)، ولهذا قال له: «أفتان أنت يا معاذ»، فتعلق النقارون بهذه الكلمة ولم يلتفتوا إلى ما قبلها ولا إلى ما بعدها. وعاد رحمه اللَّه مرة أخرى إلى التخفيف والتطويل فقال: بل المرجع في ذلك والتحاكم إلى ما كان يفعله من شرع الصلاة للأمة وجاءهم بها من عند اللَّه، وعلمهم حقوقها وحدودها وهيئاتها وأركانها، وكان يصلي وراءه الضعيف والصغير والكبير وذو الحاجة، ولم يكن بالمدينة إمام غيره صلوات اللَّه وسلامه عليه. فالذي كان يفعله صلوات اللَّه وسلامه عليه، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88]. وقد سئل بعض أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما لك في ذلك من خير. فأعادها عليه، فقال: كانت صلاة الظهر تقام، فينطلق أحدنا إلى البقيع (¬2) فيقضي حاجته، ثم يأتي أهله فيتوضأ، ثم يرجع إلى المسجد، ورسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الركعة الأولى مما يطولها، رواه مسلم في «الصحيح». وقال عبد اللَّه بن عمر: إن كان رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليأمرنا بالتخفيف، وإن كان ليؤمنا بـ (الصفات). رواه الإمام أحمد والنسائي [ومن المعلوم أن سورة الصافات 182 آية]. وقال رحمه اللَّه: وأما قراءته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الفجر بالمعوذتين، فهذا إنما كان في السفر كما هو مصرح به في الحديث والمسافر قد أبيح له أو أوجب عليه قصر الصلاة لمشقة السفر، فأبيح له تخفيف أركانها، فهلا عملتم بقراءته في الحضر بمائة آية في الفجر؟ وأما قراءته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسورة التكوير في الفجر، فإنه كان في السفر. وأما حديث تسبيحه في الركوع والسجود ثلاثًا فلا يثبت، والأحاديث الصحيحة بخلافه. وقال رحمه اللَّه: فإن جاءهم حديث صحيح خالف ما ألفوه واعتادوه قالوا: هذا منسوخ أو خلاف الإجماع، ولو كانت أحاديث التطويل منسوخة، لكان أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلم بذلك، ولما احتجوا بها على من لم يعمل بها، ولا عمل بها أعلم الأمة بها وهم الخلفاء الراشدون. فهذا صديق الأمة وشيخ الإسلام صلى الصبح فقرأ بالبقرة من أولها إلى آخرها، وخلفه الكبير والصغير وذو الحاجة، فقالوا: يا خليفة رسول اللَّه، ¬

(¬1) «زاد المعاد» (ج 1 ص: 211: 213)، ومن المعلوم أن هديه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العشاء التخفيف. (قل). (¬2) قبل التوسعة الحالية. (قل).

كادت الشمس تطلع علينا، قال: لو طلعت الشمس لم تجدنا غافلين، ومضى على منهاجه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب وكان يقرأ في الفجر بالنحل ويوسف وبهود وبني إسرائيل ونحوها من السور). انتهى. 1 - ما هي الصلاة؟ كل ما تقدم كان مقدمة لما أقوله الآن: فقد بحث ابن القيم رحمه اللَّه هذه النقطة من (ص: 94 إلى ص: 106) من كتابه السالف ذكره «الصلاة» بحثًا قيمًا، ويمكنني أن أقول بفضل اللَّه تعالى: لو لم يؤلف ابن القيم رحمه اللَّه سوى هذا الجزء فقط لكفاه ... 2 - سياق صلاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما إذا أردت معرفة سياق صلاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حين استقباله القبلة وقوله: اللَّه أكبر، إلى حين سلامه، كأنك تشاهده عيانًا، فعليك بقراءة كتاب «زاد المعاد» لابن القيم رحمه اللَّه بتحقيق الأرنؤوط (ج1 ص: 201: 206) ولا غنى لقارئ هذا الكتاب عن تحقيق الأرنؤوط أثابه اللَّه. تنبيه: قد تقدمت الإشارة إلى أهمية قراءة مسألة الجماعة للصلاة من «مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية» (ج23 ص: 239: 243)، فلا بد من قراءتها، وأيضًا لا بد من قراءة أعذار التخلف عن صلاة الجماعة من «فقه السنة». * * *

قبيل الخاتمة

قُبَيْل الخاتمة ما تزول به عقوبة الذنوب: جاء في كتاب «الإيمان الأوسط» لابن تيمية رحمه اللَّه ما مختصره: إن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أشياء: 1 - التوبة: وهذا متفق عليه بين المسلمين، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. 2 - الاستغفار: في «صحيح مسلم» عن رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لو لم تذنبوا لذهب اللَّه بكم، ولجاء بقوم يذنبون، ثم يستغفرون اللَّه، فيغفر لهم». 3 - الحسنات الماحية: كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. 4 - دعاء المؤمنين للمؤمن: مثل صلاتهم على جنازته، فعن عائشة رضي اللَّه عنها، وأنس بن مالك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون باللَّه شيئًا إلا شفعهم اللَّه فيه» رواه مسلم. 5 - ما يعمل للميت من أعمال البر: كالصدقة ونحوها. 6 - شفاعة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة: كما تواترت عنه أحاديث الشفاعة، مثل قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في «الصحيح»: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» وكما روي عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خيرت بأن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكثر، أترونها للمتقين؟ لا، ولكنها للمذنبين الخاطئين المتلوثين» (¬1). 7 - المصائب التي يكفر اللَّه بها الخطايا في الدنيا: كما في «الصحيحين» عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن إلا كفر اللَّه بها من خطاياه». 8 - ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة: فإن هذا مما يكفر به الخطايا. 9 - أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها. 10 - رحمة اللَّه وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد (¬2) انتهى. * * * ¬

(¬1) الحديث حتى قوله: «فاخترت الشفاعة» صحيح، والزيادة ضعيفة (انظر «صحيح الجامع»، «ضعيف الجامع»). (قل). (¬2) راجع هذه النقاط في الكتاب السالف ذكره لابن تيمية (ص: 19: 43). (قل).

الخاتمة أستغفر اللَّه من هذا الكتاب؛ إن الاستغفار بعد الطاعة لا يقل عن الاستغفار بعد المعصية. قال ابن القيم رحمه اللَّه: فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها. وأرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفارًا عقيب الطاعات، لشهودهم تقصيرهم فيها، وترك القيام بها كما يليق بجلاله وكبريائه. وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية، ولا رضيها لسيده. وقد أمر اللَّه تعالى وفده وحجاج بيته بأن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات وهو أجل المواقف وأفضلها. فقال: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ - ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 198، 199]، وقال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بالأسْحَارِ} [آل عمران: 17]. قال الحسن: مدوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا يستغفرون اللَّه عز وجل. وفي «الصحيح»: «أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثًا، ثم قال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» وأمره اللَّه تعالى بالاستغفار بعد أداء الرسالة، والقيام بما عليه من أعباء، وقضاء فرض الحج، واقتراب أجله، فقال في آخر سورة أنزلت عليه: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3]. ومن هاهنا فهم عمر وابن عباس - رضي اللَّه عنهم - أن هذا أجل رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلمه به، فأمره أن يستغفره عقيب أداء ما كان عليه. فكأنه إعلام بأنك قد أديت ما عليك، ولم يبق عليك شيء. فاجعل خاتمته الاستغفار كما كان خاتمة الصلاة والحج وقيام الليل. وخاتمة الوضوء أيضًا أن يقول بعد فراغه: «سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، اللهم اجعلني من التوابين،

واجعلني من المتطهرين» (¬1). انتهى. واللَّه لو علموا قبيح سريرتي ... لأبى السَّلام عليَّ من يلقاني ولأعرضوا عني وملُّوا صحبتي ... وَلَبُؤْتُ بعد كرامة بهوانِ لكن سَتَرْتَ مَعَايِبي وَمَثَالِبي (¬2) ... وَحَمَلْتَ عن سَقَطِي وعن طُغياني فلك المحامد والمدائح كلها ... بخواطري وجوارحي ولساني ولقد مَنَنْتَ عليَّ ربِ بأنعم ... ما لي بشكر أقلهن يدانِ فوحقِّ حكمتك التي آتيتني ... حتى شددت بنورها برهاني لئن اجْتَبَتْنِي من رضاك مَعُونَةٌ ... حتى تُقوِّى أَيْدُهَا (¬3) إيماني لأسبحنك بكرةً وعشيةً ... ولتخدمنك في الدُّجَى (¬4) أركاني ولأعبدنك قائمًا أو قاعدًا ... ولأشكرنك سائر الأحيانِ ولأكتمن عن البرية خَلَّتي ... ولأشكون إليك جَهْدَ زماني ولأقصدنك في جميع حوائجي ... من دون قصد فلانةِ وفلانِ ولأحسمن عن الأنام مطامعي ... بحُسَامِ يَأْسٍ لم تَشُبْهُ بَناني (¬5) ولأجعلن رضاك أكبر همتي ... ولأضربن من الهوى شيطاني ولأكسون عيوب نفسي بالتُّقى ... ولأقبضن عن الفجور عناني (¬6) ولأمنعن النفس عن شهواتها ... ولأجعلن الزهد من أعواني ولأتلون حروف وحيك في الدجى ... ولأحرقن بنوره شيطاني رحم الإله صداك يا قحطاني. ¬

(¬1) «مدارج السالكين» لابن القيم (ج1 ص: 175، 176). (قل). (¬2) المثالب: المعايب - كذا في «المعجم الوسيط». (قل). (¬3) الأيد: القوي الشديد - كذا في «المعجم الوسيط» فيكون المقصود بأيدها هنا: قوة المعونة واللَّه أعلم. (قل). (¬4) الدجى: سواد الليل وظلمته «المعجم الوسيط». (قل). (¬5) البنان: أطراف الأصابع، واحدته: بنانة «المعجم الوسيط». (قل). (¬6) العِنان: بكسر العين (سير اللجام الذي تمسك به الدابة) «المعجم الوسيط». (قل).

كتب للمؤلف

يا رب: (تم نورك فهديت، فلك الحمد، عظم حلمك فغفرت فلك الحمد، بسطت يدك فأعطيت فلك الحمد، ربنا وجهك أكرم الوجوه، وجاهك أعظم الجاه، وعطيتك أفضل العطية وأهناها، تطاع ربنا فتشكر، وتعصى فتغفر، وتجيب المضطر، وتكشف الضر، وتشفي السقيم، وتغفر الذنب، وتقبل التوبة، ولا يجزي بآلائك أحدٌ، ولا يبلغ مدحتك قول قائل). (يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث، ولا يخشى الدوائر، ويعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، ولا تواري منه سماءٌ سماء، ولا أرضٌ أرضًا، ولا بحرٌ ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، اجعل خير أعمارنا آخرها وخير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاك فيه). (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب). (سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين). وصلِّ اللَّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .... والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته. أبو ذر القلموني. . عبد المنعم بن حسين بن حنفي بن حسن بن الشاهد - مصر - الواحات الداخلة - القلمون - المقيم في مصر - الجيزة - طريق البراجيل - عزبة خيزة. تم بعون اللَّه تعالى وفضله الانتهاء من هذا الكتاب بمصر - الجيزة - ميت عقبة - في يوم الإثنين السابع عشر من شعبان سنة ألف وأربعمائة وأربع من الهجرة من بكة المباركة إلى المدينة النبوية على ساكنها الصلاة والسلام. الحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات * * * كتب للمؤلف 1 - وصف الدور الثلاثة من تفسير ابن كثير - الدنيا دار الغرور. - النار: دار الثبور. - الجنة: دار السرور. 2 - عون الرحمن في حفظ القرآن بزيادة فتح المنان في حمل الفرقان. الطبعة الثالثة بعد زيادة فتح المنان [الطبعة الأصلية] 1420 هـ دار التراث الإسلامي. 3 - كتاب الطيبات من الرزق. 4 - كلمات القرآن الكريم من كتاب أيسر التفاسير للجزائري.

§1/1