فصول ومسائل تتعلق بالمساجد
ابن جبرين
المقدمة
[المقدمة] فصول ومسائل تتعلق بالمساجد بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله الملك المحمود، الرحيم المعبود، المعروف بالكرم والجود، أحمده سبحانه وأشكره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فإن ربنا سبحانه لما كلّف عباده وأمرهم ونهاهم شرع لهم الاجتماع لأداء بعض العبادات، وخصَّ بعض الأماكن والبقاع بفضيلة وشرف تميزت بها، وفاقت سواها في مضاعفة الأجر والثواب فيها. وقد خص الله هذه الأمة المحمدية بأن شرع لهم بناء المساجد، والسعي في عمارتها، والمسابقة إليها، وتخصيصها بأنواع من العبادة لا تصح في غيرها. ولأهمية المساجد في هذه الشريعة أحببت أن أكتب حول ما يتعلق بها هذه الصفحات، مع أن العلماء قديمًا وحديثًا قد أولوها عناية كبيرة وتوسعوا في خصائصها، ولكن من باب المساهمة ورغبة في الفائدة أكتب هذه الفصول -والله الموفق-.
الفصل الأول فضل المساجد وشرفها
[الفصل الأول فضل المساجد وشرفها] الفصل الأول في فضل المساجد وشرفها قد عُلم أن الكثير من العبادات تتعين في المساجد، أو يزيد أجرها ويضاعف العمل فيها، فلذلك ورد ما يدل على فضلها مطلقًا، فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير البقاع المساجد، وشر البقاع الأسواق» [رواه الحاكم، وسكت عنه الذهبي، ورواه الطبراني. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه عطاء بن السائب وهو ثقة، ولكنه اختلط في آخر عمره، وبقية رجاله ثقات] (¬1) . وعن أنس مرفوعًا: «خير البقاع بيوت الله» . . .) الحديث [رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبيد بن القاسم وهو ضعيف] (¬2) . وعن واثلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شر المجالس الأسواق والطرق، وخير المجالس المساجد، فإن لم تجلس في المسجد فالزم بيتك» [رواه الطبرانى وفيه: " بكار بن تيميم " مجهول] (¬3) . ¬
وعن جبير بن مطعم: «أن رجلاً قال: يا رسول الله، أي البلدان أحب إلى الله، وأي البلدان أبغض إلى الله، قال: لا أدري حتى أسأل جبريل صلى الله عليه وسلم، فأتاه فأخبره جبريل: أن أحب البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق» [رواية البزّار، وفيه: عبد الله بن محمد بن عقيل ابن أبي طال، وهو مختلف في الاحتجاج به] (¬1) . وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «المساجد بيوت الله في الأرض تضيء لأهل السماء كما تضيء نجوم السماء لأهل الأرض» [رواه الطبراني في الكبير، قال الهيثمى: ورجاله موثوقون] ) (¬2) . وقد دلَّ على معناه ما ورد في القرآن من إضافة المساجد إلى الله تعالى، وهي إضافة تشريف وفضل، كقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] (¬3) مع أن جميع البقاع وما فيها ملك لله تعالى، ولكن المساجد لها ميزة وشرف، حيث تختص بكثير من العبادات والطاعات والقربات، وكما قال ¬
تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] (¬1) . والصحيح أن المراد المساجد المعمورة للذكر والطاعة، والتي هي من خصائص البلاد الإسلامية، فلذلك تؤدى فيها الصلاة جماعة وفرادى، ويدعو فيها المسلم ربه وحده، ولا يدعو معه أحدًا، فإضافتها إلى الله تعالى تقتضي شرفها وتميّزها على بقية البقاع، وذلك ما يوجب احترامها، واعتراف المسلمين بفضلها، فهي من خصائص المسلمين، حيث إن لكل ملة ديانة ومتعبد يجتمع فيه أهل تلك الديانة لأداء عباداتهم والتي يدينون بها، مثل الصوامع والديارات، والكنائس والبيع، مع أنها في زمانها أفضل من غيرها، ولذلك قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] (¬2) . ويراد بالصلوات: موضع العبادات، ولكن بعد نسخ تلك الديانات تعين منع عمارة تلك المعابد، لما فيها من مخالفة شعائر الإسلام، ووجب على المسلمين إظهار هذه المساجد وإشهارها، فأصبحت معالم على كل بلاد يسكنها المسلمون، حيث تتميز بهذه المساجد والتي ¬
مدحها الله بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] (¬1) فترفع مناراتها فوق المساكن والعمارات، وتعرف بمحاربيها الموجهة إلى القبلة الخاصة بالمسلمين. ¬
الفصل الثاني فضل بناء المساجد وعمارتها
[الفصل الثاني فضل بناء المساجد وعمارتها] الفصل الثاني في فضل بناء المساجد وعمارتها بعد أن عرف فضل هذه المساجد وشرفها، فقد ورد ما يدل على فضل بنائها وعمارتها الحسية والمعنوية، فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عثمان رضي الله عنه أنه قال لما بني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم أكثرتم علي وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة» وفي رواية: «بنى الله له في الجنة مثله» (¬1) وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى مسجدا صغيرا أو كبيرا بنى الله له بيتا في الجنة» [رواه الترمذي] (¬2) وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى لله مسجدا ليذكر الله فيه بنى الله له بيتا في الجنة» [رواه النسائي] (¬3) . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتا في الجنة» ¬
[رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه] (¬1) . وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى لله مسجدًا من ماله بنى الله له بيتًا في الجنة» [رواه ابن ماجه] (¬2) . وله عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى مسجدً الله كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتًا في الجنة» [وإسناده صحيح] (¬3) . وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتًا أوسع منه في الجنة» [رواه أحمد وفيه الحجاج بن أرطاة متكلم فيه] (¬4) . وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجدًا فصلي فيه بنى الله عز وجل له في الجنة أفضل منه» [رواه أحمد والطبراني، وفيه الحسن بن يحيى ضعفه الدارقطني ووثقه أبو حاتم] (¬5) وعن ابن عباس عن ¬
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة لبيضها بنى الله له بيتًا في الجنة» [رواه أحمد والبزار وفيه: جابر الجعفي وفيه ضعف] (¬1) . وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى لله مسجدًا قدر مفحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة» [رواه البزّار والطبراني في الصغير، والبيهقي وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان من طريق الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه، قال في مجمع الزوائد: ورجاله ثقات] (¬2) وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة» [رواه البزّار والطبراني، وفيه: الحكم ابن ظهير، وهو متروك] (¬3) . ¬
وعن أبيِ هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى بيتَا يعبد الله فيه من مال حلال بنى الله له بيتًا في الجنة من در وياقوت» [رواه الطبراني في الأوسط والبزّار، وفيه: سليمان بن داود اليمامي وهو ضعيف، (¬1) . وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتَاَ في الجنة» قال: وهذه المساجد التي في طريق مكة؟ قال: (وتلك) [رواه البزّار والطبراني في الأوسط وفيه: كثير بن عبد الرحمن ضعفه العقيلي، وذكره ابن حبان في الثقات] (¬2) . وعن عائشة عن النبيِ صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى لله مسجَدَا لا يريد به رياءً ولا سمعةَ بنى الله له بيتًا في الجنة» [رواه الطبراني في الأوسط، وفيه المثنى بن الصباح ضعف القطان، ووثقه ابن معين في رواية، وضعف في أخرى] (¬3) . وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى مسجدًا بنى الله له بيَتَا في ¬
الجنة» [رواه الطبراني في الأوسط وفيه: وهب بن حفص وهو ضعيف] (¬1) وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة» [رواه الطبراني في الأوسط وفيه المثنى بن الصباح، ضعّفه القطان، ووثقه ابن معين في إحدى الروايات، (¬2) . وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى لله مسجدًا يراه الله بنى الله له بيتًا في الجنة، فإن مات في يومه غفر له، ومن حفر قبرًا يراه الله بنى الله له بيتًا في الجنة، وإن مات في يومه غفر له» [رواه الطبراني في الأوسط، وفيه: عمران بن عبيد الله، قال البخاري: فيه نظر، وضعفه ابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات] (¬3) . وعن أبيِ أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى لله مسجدَا بنى الله له في الجنة أوسع منه» [رواه الطبراني في الكبير، وفيه: علي بن يزيد وهو ضعيف] (¬4) . وعن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى لله مسجَدَا بنى الله له بيتًا في الجنة» [رواه ¬
الطبراني، ورواه أحمد بلفظ: «فإن الله يبني له بيتًا أوسع منه في الجنة» ورجاله موثقون، (¬1) وعن نبيط بن شريط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة» [رواه الطبراني في الأوسط والصغير، وشيخ الطبراني فيه كذبه صاحب الميزان] (¬2) . وعن أبي قرصافة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « (ابنو المساجد وأخرجوا القمامة منها، فمن بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة) قال رجل: يا رسول الله وهذه المساجد والتي تبنى في الطريق؟ قال: (نعم وإخراج القمامة منها مهور الحور العين) » [رواه الطبراني في الكبير وفي إسناده مجاهيل] (¬3) . هكذا أورد هذه الأحاديث أو أكثرها المنذري في ¬
الترغيب والترهيب، والهيثمي في مجمع الزوائد، ومجموعها يدل على أن الحديث متواتر حيث رواه ثمانية عشر من الصحابة، وبعضهم روى حديثين كابن عباس، وعائشة، وأبي هريرة رضي الله عنهم، وما في بعضها من الضعف ينجبر برواية الآخرين، فيدل على القطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم رغب في بناء المساجد، وقد اشترط في أكثرها أن يكون البناء لله تعالى، أي يريد به وجه الله والدار الآخرة لا يريد به رياء ولا سمعة، ولا يتمدح به، ولا يمن به على المصلين، وإنما يقصد الأجر من الله تعالى، وذلك شرط ثقيل، وعلامة ذلك أن يخفى نفسه، أو لا يحب ذكر فعله على وجه الإعجاب بعمله، وقد جعل ثوابه على ذلك أن يبنى الله له بيتًا في الجنة، وهذا أجر عظيم، فقد ورد أن «موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها» (¬1) . وقوله في بعض الأحاديث: «ولو كمفحص قطاة» أي: الموضع الذي تصلحه من الأرض لبيضها، ولكنه أراد المبالغة في الصغر، حتى لا يحتقر أحد ما بناه من المساجد ولو في غاية الصغر، وقد يدخل في ذلك من ساهم في بنائه ولو باللبن أو الطين، أو عمل فيه بيده، أو دفع أجرة ¬
العاملين ونحو ذلك من العمل الذي ينسب إلى صاحبه أنه ساعد في بناء المسجد بنفسه أو ماله، احتسابًا وطلبَا للأجر المرتب على ذلك، وهو أن يبنى الله له مثله أو أوسع منه في الجنة، حيث إن البيت في الجنة لا يقاس بما في الدنيا، ولا نسبة بينهما، وذلك مما يدفع من وسع الله عليه إلى المسارعة في الخيرات، واغتنام الفرصة في هذه الحياة، فيقدم لآخرته ما يجد ثوابه مضاعفًا عند ربه أضعافًا كثيرة. ثم إنه يستحب عدم الزخرفة والتباهي في المساجد، فقد ذكر البخاري عن أنس قال: «يتباهون بها ثم لا يعمرونها» (¬1) [وهذا الحديث رواه أحمد والدارمي وابن ماجه وغيرهم بلفظ: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» وفي رواية: «يأت على أمتي زمان يتباهون بالمساجد ولا يعمرونها إلا قليلاً» (¬2) . وروى ابن ماجه عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا: «ما ساء قوم قط إلا ¬
زخرفوا مساجدهم» (¬1) . وذكر البخاري عن ابن عباس قال: «لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى» (¬2) . ولابن حبان وأبى داود عن ابن عباس مرفوعًا: «ما أمرت بتشييد المساجد» (¬3) . قال البخاري: وأمر عمر ببناء المساجد، وقال: " أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس " (¬4) . وقد كثر التباهي في هذه الأزمنة بالمساجد، وأسرفوا في زخرفتها وكثرة الإنفاق عليها، وقد أفتى المشايخ بجواز تشييدها إذا شيدت المساكن والمنازل، حتى لا تكون المساجد مشوَّهة حقيرة بالنسبة إلى البيوت والمنازل، لكن بدون الإسراف والمبالغة في الزخرفة والرفع، وكثرة الإنفاق والألوان والأصباغ، والتنوع في ما يصرف فيها من الخزف والبلاط، والفرش مما لا حاجة إليه فهناك مساجد بحاجة إلى أدنى عمارة. ¬
الفصل الثالث فضل خدمة المساجد وعمارتها بالطاعة
[الفصل الثالث فضل خدمة المساجد وعمارتها بالطاعة] الفصل الثالث في فضل خدمة المساجد وعمارتها بالطاعة قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ - إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 17 - 18] (¬1) الآية، حيث وصف من يعمر المساجد بالإيمان بالله واليوم الآخر، والصلاة والزكاة وخشية الله وحده، والاهتداء الكامل، أي أن المؤمنين بالله حقًا هم الذين يحملهم إيمانهم على عمارة المساجد، وأكثر أهل العلم على أن المراد عمارتها بالصلاة والذكر والقراءة والعلم، وأنواع العبادة، فهي العمارة الحقيقية، ولهذا أورد الإمام أحمد بإسناده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18] » [رواه الترمذي وقال: حسن غريب، ورواه الحاكم وقال: هذه ترجمة للمصريين لم يختلفوا في صحتها وصدق رواتها. لكن قال الذهبي: إن دراجًا كثير المناكير، ¬
أي: دراج أبو السمح، أحد رجال الإسناد، وقد أورده النووي في رياض الصالحين مع التزامه بذكر الأحاديث الصحيحة والحسنة] (¬1) . ثم إن معناه تشهد له الآية الكريمة، حيث زكى ربنا سبحانه من يعمر المساجد، ووصفهم بالإيمان بالله واليوم الآخر. . إلخ، وذكر ابن كثير عند هذه الآية عن عبد بن حميد بإسناده عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما يعمر مساجد الله أهل الله» [وكذا رواه البزّار كما في الكشف، في باب في عمار المساجد عن صالح المري، عن ثابت، عن أنس، وقال: لا نعلم رواه عن ثابت عن أنس إلا صالح. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه صالح المري وهو ضعيف] (¬2) . قلت: ولعله مستنبط من الآية الكريمة. وقال الزمخشري في الآية: "أي: إنما تستقيم عمارة هؤلاء، وتكون معتدًا بها، والعمارة تتناول رم ما استرم منها، وقمها، وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر، ومن الذكر: درس العلم، بل هو ¬
أجله وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن له المساجد، من أحاديث الدنيا، فضلاً عن فضول الحديث" (¬1) . ثم أورد عدة أحاديث منها حديث بلفظ: «يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقًا، ذكرهم الدنيا وحب الدنيا، لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة» [قال الحافظ: أخرجه الطبراني عن أبي وائل، عن ابن مسعود، وفيه: بزيع أبو الخليل وهو متروك. ثم ذكر أنه رواه ابن حبان في صحيحه من طريق آخر بنحوه] (¬2) . ويدخل في خدمة المساجد إنارتها، فقد ذكر الزمخشري عن أنس رضي الله عنه قال: «من أسرج في مسجد سرجًا، لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له مادام في ذلك المسجد ضوؤه» [قال الحافظ: رواه الحارث ابن أسامة من رواية الحكم العبدي عن أنس (¬3) وفي ¬
الطبراني عن علي رفعه: «من علق قنديلاً في مسجد صلى عليه سبعون ألف ملك» . . . إلخ) لكنه ضعيف، (¬1) . وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رجلاً أسود أو امرأة سوداء كان يقم المسجد، فمات فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مات. قال: (أفلا كنتم آذنتموني به، دلّوني على قبره، أو قال قبرها) ، فأتى قبره فصلى عليه» ، سميت في بعض الروايات: أم محجن (¬2) والمراد: أنها تجمع القمامة وهى الكناسة، ومنها قطع الخرق، والقذى، والعبدان، قال أهل اللغة: القذى في العين والشراب ما يسقط فيه، ثم استعمل في كل شيء يقع في البيت وغيره ذا كان يسيرًا، ففي هذا الحديث فضل تنظيف المسجد إزالة ما يقع فيه من قمامة وقذى، لأنه يشوه المنظر، ويسبب النفرة من المسجد، بخلاف الموضع النظيف، فإنه النفس تألفه وترغب إطالة البقاء فيه. ¬
ومن تنظيفه تطييبه بالنضوح والدخنة، فقد رو " أبو يعلى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يجمّر المسجد كل جمعة. [قال الهيثمي: وفيه عبد الله بن عمر العمري وثقه أحمد وغيره، واختلف في الاحتجاج به، (¬1) . ولا شك في استحباب تطييب المساجد بالعود ونضحها بالطيب، لمكانتها وشرفها، وذلك مما يرغب العامة في الجلوس فيها، ويسبب محبة النفوس لها، ويزيدها جمالا. وقد روى عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد» . . .) إلخ [رواه أبو داود والترمذي وابن خزيمة في صحيحه، وسكت عنه أبو داود وقال المنذري في تهذيبه: وفي إسناده عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، وثقة ابن معين وتكلم فيه غير واحد. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وذكر أن البخاري استغربه، ونقل عن البخاري والدارمي أن المطلب بن عبد الله راويه عن أنس لا يعرف له سماع من ¬
أحد الصحابة] (¬1) ومع ذلك فمعناه صحيح، ويشهد لذلك قصة المرأة والتي كانت تقم المسجد فماتت فصلى النبي على قبرها (¬2) . ومن خدمة المساجد فرشها بما يريح المصلّين ولو بتراب نظيف، أو حصباء، فقد روى أبو داود عن أي الوليد قال: «سألت ابن عمر عن الحصا الذي كان في المسجد، فقال: إنا مطرنا ذات ليلة، فأصبحت الأرض مبتلة، فجعل الرجل يجيء بالحصا في ثوبه فيبسطه تحته، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: (ما أحسن هذا) » [لكن إسناده ضعيف] (¬3) . ولا شك أن إراحة المصلّين بما يزيل عنهم حرارة الأرض، أو يقيهم من الغبار، أو يزيل عنهم شدة الحر مما يثاب عليه من قصده، ولذلك اعتيد في هذه الأزمنة جعل البسط والسجاد المريح في أغلب المساجد، بعد أن كانوا يصلون على الحصباء والأرض الصلبة والغبار، فوجدوا بذلك راحة وانبساطًا ومحبة للعبادة ورغبة فيها. ¬
ومن خدمة المساجد إنارتها كما سبق في حديث أنس وعلي على ما فيهما من الضعف، وقد روى ابن ماجه وأبو داود «عن ميمونة مولاة النبي على قالت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس. قال: (فإن لم تأتوه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله) » . ولابن ماجه في سننه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أول من أسرج في المساجد تميم الداري. وهو موقوف وسنده ضعيف (¬1) . ولا شك أن إسراج المسجد الذي هو إنارته مما يسبب الرغبة فيه وينير الطريق لمن دخله، حتى يعرف الموضع الذي يقصده، وينظر مواضع الصلاة، ويتوقى خطر الصلاة لغير القبلة، أو العثور في نائم، والاصطدام بسارية أو حائط، وقد يسر الله تعالى في هذه الأزمنة وجود الكهرباء الذي يحصل بها تمام الإنارة والضياء الكامل، حتى أشرقت المساجد، واستنار الطريق، وتيسرت السبل للوصول إلى المساجد بسهولة وراحة، وأمن من الأخطار والفزع الذي يعتري من يمشي في ظلمة مدلهمة، سواء كانت في المساجد أو في ¬
طريق الوصول إليها، ومع ذلك فقد ورد ما يدل على فضل المشي إلى المسجد في الظلمات، وكثرة الأجر المرتب على ذلك، فقد روى أبو داود والترمذي عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» [أو قال الترمذي: غريب. وقال المنذري في الترغيب: رجال إسناده ثقات] (¬1) . وعن سهل بن سعد السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليبشر المشاؤن في الظلم إلى المساجد بنور تام يوم القيام» [رواه ابن ماجه والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي] (¬2) . وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» [رواه ابن ماجه والحاكم، وسكت عنه الذهبي، وضعفه البوصيري في الزوائد] (¬3) . ¬
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المشاؤن إلى المساجد في الظلم أولئك الخواضون في رحمة الله» [رواه ابن ماجه، وفي إسناده: إسماعيل بن رافع متكلم فيه، ونقل الترمذي عن البخاري وقال هو ثقة مقارب الحديث] (¬1) . وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليضيء للذين يتخللون إلى المساجد في الظلم بنور ساطع يوم القيامة» [قال المنذري: رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن] (¬2) . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مشى في ظلمة الليل إلي المسجد لقي الله عز وجل بنور يوم القيامة» [رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن، وابن حبان في صحيحه ولفظه قال: «من مشى في ظلمة الليل إلى المساجد أتاه الله نورًا يوم القيامة» (¬3) . ¬
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بشر المدلجين إلى المساجد في الظلم بمنابر من النور يوم القيامة، يفزع الناس ولا يفزعون» [رواه الطبراني في الكبير وفي إسناده نظر، كذا في الترغيب] (¬1) . وقد ذكر مثل هذا الحديث صاحبه مجمع الزوائد عن أبي سعيد وزيد بن حارثة، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وأبي الدرداء، وأبي موسى (¬2) . وهو دليلٌ على شهرة الحديث، وكثرة من نقله من الصحابة، ومن خرجه من أهل الحديث، ولعل سبب الترغيب بكثرة الثواب ما كان المسلمون فيه من شدة الظلمة في بعض الليالي، مع ضيق الطرق، والتوائها، فيصعب سلوكها والعبور معها إلى المساجد في الليالي المظلمة، مخافة الهوام واللصوص، والحفر والحجارة والحيطان المعترضة، وقد خفَّت هذه الأشياء في زماننا بسعة الطرق وإنارتها، ونظافتها وأمنها والحمد لله، فلا عذر لأحد في التأخر لأجل ظلمة أو نحوها، فمتى وجدت الظلمة فصبر واحتسب ومشى لصلاة العشاء وصلاة الصبح كان أهلاً أن يحظى بالنور التام يوم القيامة. ¬
الفصل الرابع تنزيه المساجد وصيانتها عن الأقذار الحسية
[الفصل الرابع تنزيه المساجد وصيانتها عن الأقذار الحسية] الفصل الرابع في تنزيه المساجد وصيانتها عن الأقذار الحسية لما كانت هذه البيوت أمكنة العبادة والتقرب إلى الله تعالى بالطاعة، ورد الأمر بصيانتها، وحفظها عن الأقذار والنجاسات والفضلات، حتى تحظى بالنظافة والحسن والجمال، وقد تقدم حديث المرأة التي كانت تقم المسجد فماتت فصلى النبي صلى الله عليه وسلم على قبرها، وقد ثبت في الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه. زاد مسلم في رواية: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما فهي لذكر الله تعالى والصلاة وقراءة القرآن.» (¬1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوه ¬
واهريقوا على بوله سجلاً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين» [رواه البخاري] (¬1) . ولا خلاف أن البول ونحوه من النجاسات التي تصان عنها المساجد التي تشترط طهارتها، فتصان المساجد وفرشها وما يلحق بها من رحبات وأسطحة ونحوها عن جميع النجاسات، وتطهر متى وقع فيها شيء من ذلك. وهكذا ورد تطهيرها عن الأقذار كالنخام، والمخاط، واللعاب، والدم، والقيح ونحوها، فقد روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة فشق ذلك عليه، حتى رؤي ذلك في وجهه، فقام فحكه بيده، فقال: (إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنما يناجي ربه، فإن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدمه) ثم أخد طرف ردائه فبزق فيه ثم رد بعضه على بعض فقال: (أو يفعل هكذا) .» (¬2) . وفي رواية للنسائي: «رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخامة في قبلة المسجد، فغضب حتى أحمر وجهه، فقامت امرأة من الأنصار فحكتها، وجعلت مكانه خلوقًا، قال رسول صلى الله عليه وسلم: (ما أحسن هذا) .» (¬3) . وفي الصحيحين أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بصاقًا في جدار القبلة فحكه، ثم أقبل على الناس فقال: (إذا كان أحدكم يصلّي فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه إذا صلّى) » ، وفي رواية: «فتغيظ على الناس ثم حكها، ودعا بزعفران فلطخه به» (¬4) . وفي الصحيحين نحوه عن أبي سعيد الخدري ولأبي داود عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد ما حكها: «أيسر أحدكم أن يبصق في وجهه؟ فإن أحدكم إذا استقبل القبلة فإنما يستقبل ربه عز وجل، والملك عن يمينه، فلا يتفل عن يمينه ولا في قبلته. .) » (¬5) إلخ. وفي رواية لأبي داود: «من دخل هذا المسجد فبزق فيه أو تنخم فليحفر فليدفنه، فإن لم يفعل فليبزق في ثوبه ثم ليخرج به.» (¬6) . ¬
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها في دفنها.» (¬1) . وروى الإمام أحمد والطبراني نحوه عن أبي أمامة (¬2) ولأحمد وأبي يعلى عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تنخم أحدكم في المسجد فليغيب بنخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه» [ورجاله موثوقون] (¬3) . وهناك أحاديث كثيرة تدل على النهي عن البصاق والتنخم في المسجد، وفي بعضها النهي بأن يبصق في القبلة أو عن اليمين، والإذن في البصاق عن اليسار أو تحت القدم اليسرى، ثم دلكها بالقدم، ولا شك أن البصاق والنخامة مما يستقذر في الطباع، ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى البصاق في قبلة المسجد، حتى أحمر وجهه، وسارع إلى حكه ثم لطخ مكانه بخلوق أو زعفران. ¬
وقد علم أن المسجد إذا كان مبنيًا من الطين، فحكه يسير، وأن الأرض ترابية يمكن دفن ما يقع فيها، أو إخراج ترابه المستقذر، وحيث إن المساجد في هذه الأزمنة قد أصبحت مبلطة، ومفروشة في الغالب بفرش نظيفة، تتأثر بالوسخ والقذر، ويظهر فيها أثر النخامة والدم والصديد ونحو ذلك، تعين المنع من البصاق فيها على الأرض مطلقا، سواء على الفرش أو في الحيطان، أو على البلاط فمن بدره البصاق أو نخام فعليه أن يخرج لذلك، أو يبصق في منديل ويخرجه، أو في طرف ثوبه ويرد بعضه على بعض كما ذكر في الحديث، حتى يبقى المسجد نظيفًا طيبًا. وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أخرج أذى من المسجد بنى الله له بيتا في الجنة» [رواه ابن ماجه عن أبي سعيد، وفي إسناده لين] (¬1) . وفى السنن عن عائشة رضي الله عنها قالت: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب) » . قال ¬
سفيان: بناء المساجد في الدور يعني: في القبائل. [وإسناده صحيح] (¬1) . وعن سمرة بن جندب أنه كتب إلى بنيه: (أما بعد، «فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نصنع المساجد في ديارنا، ونصلح صنعتها ونطهرها» [رواه أبو داود وهو حديث حسن] (¬2) . فيدخل في تنظيفها إزالة الأقذار عنها، وكذا الروائح الخائسة، فإنها مما تنفر المصلّين، وكذا تؤذي الملائكة، وقد وردت الأحاديث في مثل ذلك. ففي الصحيحين من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزلنا، أو ليعتزل مساجدنا وليقعد في بيته» وفي رواية: «من أكل البصل والثوم والكرات فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى بما يتأذى منه بنو آدم.» (¬3) . قال ابن الأثير في جامع ¬
الأصول: " ليس البصل والثوم من باب الأعذار في الانقطاع عن المساجد، وإنما أمرهم بالاعتزال عقوبة لهم ونكالا، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتأذى بريحها " اهـ. ولا شك أن الصحابة لم يجعلوا أكل البصل والثوم عذرًا لهم، ويتوسلوا به إلى هجر المساجد، بل فهموا النهي عن أكل هذه البقول، ولسان حالهم يقول: نترك كل شيء يحول بيننا وبين المساجد والتي يتنافس بالصلاة فيها، وإن احتيج إليها أكلوها في الوقت الطويل كبعد الفجر أو بعد العشاء، بحيث يزول ريحها قبل وقت الصلاة، أو أكلوها بعدما تطبخ ويذهب ريحها. ويلحق بها كل ماله رائحة منتنة مؤذية كدخان التبغ والجراك، لكن لا يكون تعاطيه عذرًا للمدخنين في ترك الجماعة، وإنما ينهون عن تعاطيه قرب وقت الصلاة، حتى يتأذى المصلّون والملائكة والله أعلم. ومما تنزه عنه المساجد الحذاء المتسخة والتي تحمل قذرًا أو نجاسة، أو لوثًا ووسخًا تتسخ بها فرش المسجد وسجاده، وأرضه النظيفة، مع العلم أنه يجوز أن يصلي بالنعال النظيفة، فقد روى أبو داود عن أبي سعيد رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرًا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما» [وإسناده صحيح] (¬1) . وعن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في خفافهم ولا نعالهم» [رواه أبو داود والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي] (¬2) . وفي الصحيح عن أنس أنه سئل: «أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى في نعليه؟ قال: نعم.» (¬3) . ولعل السبب كان مشقة اللبس والخلع، لحاجتهم إلى ربط الشسع والشراك، فأما في هذه الأزمنة فتوجد أحذية لا تحتاج إلى الحزام والربط، فيسهل خلعها ولبسها من قيام، فيفضل خلعها، حيث إن المساجد قد فرشت غالبًا، وتتلوث بالغبار والتراب الذي لا تخلو منه الأحذية، وكذا ¬
ما يوجد في الطرق من المستنقعات والمياه العكرة، وقد هيئ غالبًا للأحذية أماكن مخصصة توضع فيها إذا خلعت، مع جواز الصلاة فيها إذا تحققت نظافتها للأحاديث المذكورة.
الفصل الخامس صيانة المساجد عن الأمور الدنيوية
[الفصل الخامس صيانة المساجد عن الأمور الدنيوية] [أولاً نشد الضالة في المسجد] الفصل الخامس في صيانة المساجد عن الأمور الدنيوية أولاً: نشد الضالة في المسجد: ورد النهي عنه، فعن بريدة رضي الله عنه «أن رجلاً نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له) » [رواه مسلم] (¬1) . ومعناه: من وجد هذا الجمل فدعا إليه صاحبه ليأخذه. وعن جابر رضي الله عنه قال: «جاء رجل ينشد ضالة في المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا وجدت) » [رواه النسائي بإسناد صحيح] (¬2) . وعن أبي هريرة رضيِ الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سمع رجلاَ ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردّها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا» [رواه مسلم وغيره] (¬3) . ولعل السبب أن ذلك ذريعة إلى أن تتخذ ¬
المساجد أماكن للأمور الدنيوية، فترتفع فيها الأصوات ويكثر فيها اللغط الذي ينافي احترامها، وحيث إن الضوال من بهيمة الأنعام، وكذا المفقودات من الأمتعة والأموال قد تكثر فيتوسع أصحابها في السؤال عنها في المساجد وقت اجتماع المصلّين، مما ينافي العبادة، لذلك يدعى على من سأل عن ضالة أو مفقودة، بأن يقال له: لا وجدت ضالتك، أو عسى أن لا تجدها، فإن المساجد أعدت للعبادة.
ثانيا تعاطي التجارة في المسجد
[ثانيًا تعاطي التجارة في المسجد] ثانيًا: تعاطي التجارة في المسجد: فقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك» [وقال: حسن غريب. ورواه أحمد والدارمي وابن خزيمة والحاكم وصححه] (¬1) . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الشراء والبيع في المسجد» . (رواه أحمد وأهل السنن بإسناد حسن) (¬2) . ولعلّ ذلك لأجل صيانة بيوت الله عن أمور الدنيا، وما يشغل عن الطاعة، وذلك لأن التجارة لابد معها من مماكة ومماكسة، ورفع أصوات، مما قد نهى عنه في المساجد، ولأن التجارة مما تتعلق بالدنيا ومتاعها، فلا تناسب في المساجد والتي بنيت لذكر الله تعالى، والصلاة وأنواع العبادة. ¬
ثالثا التحلق في المساجد للحديث في أمور الدنيا وإنشاد الشعر
[ثالثا التحلق في المساجد للحديث في أمور الدنيا وإنشاد الشعر] ثالثا: التحلق في المساجد للحديث في أمور الدنيا، وإنشاد الشعر: ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أحمد وأهل السنن مرفوعًا: «نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه ضالة، وأن ينشد فيه شعر، ونهى عن الحلق قبل الصلاة يوم الجمعة» (¬1) . قال السّاعتي في الفتح الرباني في الأشعار: أي المذمومة كالمباهاة والافتخار، لا ما كان في الزهد وذم الدنيا، والدفاع عن الإسلام، كما فعل حسّان (¬2) . وقد روى البخاري في بدء الخلق من صحيحه، ومسلم في الفضائل عن سعيد بن المسيب قال: مرّ عمر في المسجد وحسّان ينشد (فلحظ عليه، فقال: كنت أنشد وفيه خير منك. . .) (¬3) إلخ. وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصب لحسان منبرًا في المسجد، فيقوم ¬
عليه يهجو الكفار» (¬1) . ولعلّ ذلك لما في شعره رضي الله عنه من الحماس والانتصار للرسول صلى الله عليه وسلم، والرد على المشركين، وتفنيد شبهاتهم، وإظهار خزيهم. وحمل الحافظ ابن حجر في الفتح النهى عن أشعار الجاهلية والمبطلين، والمأذون ما سلم من ذلك، وقيل: " النهي عن ما إذا كان التناشد غالبًا على المسجد حتى يتشاغل به فيه " (¬2) اهـ. وأما ما رواه الترمذي في آخر الأدب، والنسائي في كتاب السهو من سننه عن جابر بن سمرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس، فيتحدث أصحابه يذكرون حديث الجاهلية، وينشدون الشعر، ويضحكون ويتبسم» (¬3) . فلعلّ ذلك للتحدث بنعمة الله، وذكر ما كان عليه أهل الجاهلية، ¬
وأشعارهم المشتملة على النصائح، لا على القبائح، وذكر في المرقاة: أن من كلامهم تعجبهم من جهلهم حيث يصورون أصنامًا من تمر ثم يأكلونها عند الجوع، وحيث يعبدون أصنامًا ينحتونها وتبول عليها الثعالب، وكل ذك تحدث بنعمة الإسلام. وأما النهي عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة فيظهر أنهم كانوا يتحلقون في المسجد يتناجون إذا جمعهم المسجد للصلاة، فربما حضرت الصلاة وهم يحلقون، وذلك مما يشوش على المصلين، حيث أمروا إذا دخلوا في المسجد لصلاة أن يقوموا في الصفوف، ويكملوا الصفوف الأول فالأول، ولا يتفرقون، وذلك لأن التحلق يشغلهم عن القراءة والتنفل بالصلاة، ويسبب تقطع الصفوف، فيخرج الإمام وهم حلق يتناجون، وقد يكون حديثهم في أمور دنيوية، يتساءلون فيها، لبعد عهدهم بالتلاقي، فيغتنمون ذلك التلاقي، فربما قطع الصفوف، مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة، والتراص في الصفوف، فالتحلق يخالف هيئة اجتماع المصلين، فمن حضر للصلاة فعليه أن لا يهتم بسواها، فالتحلق فيه غفلة عن الأمر الذي جاؤا لأجله، الذي هو العبادة والإنصات للخطبة.
ولا يدخل في ذلك التحلق للعلم في الصباح، حيث إنهم لم يحضروا للصلاة، وإنما جاؤا للاستفادة والتعلم، وبعده ينصرفون إلى أهليهم، ثم يذهبون للصلاة بعد ذلك بزمن طويل أو قصير، فلا ينهى عن التعلم في صباح الجمعة، سيما إذا كان في مسجد لا تقام فيه الجمعة، وإنما تقام فيه حلقة علمية صغيرة أو كبيرة يستفاد منها، كما يستفاد من الخطب ونحوها. وأما جلوس الناس في المسجد، والتحديث في أمور الدنيا، فذلك مما ينافي العبادة التي بنيت لها المساجد، لأنها إنما بنيت لذكر الله والصلاة والقراءة والعلم، فاتخاذها مجالس عادية كالبيوت والأسواق يدل على الاستهانة بها، وعدم احترامها، فكما نهي فيها عن البيع والشراء ونشد الضالة، فكذلك ينهى فيها عن القال والقيل، والاغتياب، وحديث الدنيا، وقد روى ابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعًا: «يكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم، ليس لله فيهم حاجة» (¬1) . ولا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس في ¬
المسجد للتعليم، ويتحلق أصحابه حوله، ويحضرون تعليمه، حتى ولو كانوا جنبًا بعد أن يتوضؤا، حرصًا على الاستفادة وأدلة ذلك كثيرة.
رابعا السؤال في المساجد
[رابعا السؤال في المساجد] رابعًا: السؤال فيها: أي: كثرة المتسولين الذين يتكففون الناس، ويستجدون طلبًا للدنيا، ولقد كثروا في هذه الأزمنة، وتفاقم أمرهم، فأصبحت المساجد أو أكثرها أماكن للاستجداء والتكفف، وحصل بذلك تشويش ورفع أصوات، وتجمعات لأعداد كثيرة، يظهرون بصفة الضعف والذل والهوان، ويرتدون ثيابًا دنسة، ولا شك أن من بينهم من هو بحاجة وفاقة شديدة أو قليلة، ولكن الكثير منهم من المحتالين على جمع المال من غير حاجة، لذلك تصدر بعض التعميمات والتعليمات للأئمة بمنعهم، إلا من ظهرت عليه فاقة شديدة، وإحالتهم إلى طرق الأبواب، والاتصال بأرباب الأموال. ومع ذلك فلا مانع من الصدقة في المسجد لمناسبة، فقد ترجم أبو داود في سننه (باب المسألة في المسجد) ثم روى بإسناد حسن عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينا؟) فقال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل، فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن
فأخذتها فدفعتها إليه» (¬1) . فهذا السائل ذو حاجة، حيث قنع بكسرة رغيف ليسد بها جوعته، وقد بوّب البخاري في صحيحه: (باب القسمة وتعليق القنو في المسجد) ثم ذكر حديث أنس رضي الله عنه قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين، فقال: (انثروه في المسجد) وكان أكثر مال أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلمَ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه. . فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم منه درهم» (¬2) . ففي هذا الحديث جواز تفريق المال الذي يشترك فيه المسلون في المسجد، بشرط ألا يشغل المصلّين، ولا يحصل فيه ازدحام وهيشات أصوات، فإن تيسر تفريقه في غير المسجد فهو أولى، ومثله تفريق الزكوات وصدقة الفطر، يجوز في المساجد عند الحاجة. ¬
وكذا يجوز وضع الماء في المسجد للشرب في القرب لتبريده، وكذا وضع البرّادات الكهربائية، لما في ذلك من نفع المسلين، وإعانة المصلين، فيحل بذلك أجر كبير لمن وضع هذه السقايات والبرّدات. ومثله أيضا تفطير الصوّام في المساجد بجلب الأكل والشرب لهم، إذا لم يتيسر وضعه خارج المسجد، لما في ذلك من الأجر الكبير، بشرط أن لا يلوث المسجد بالفضلات والنفايات، وتنظيف المسجد بعد ذلك، وإزالة بقايا الأكل وما تساقط منه.
خامسا رفع الأصوات في المساجد
[خامسًا رفع الأصوات في المساجد] خامسًا: رفع الأصوات في المساجد: وذلك لأن المساجد أماكن الطاعة والعبادة، وفيها يقبل العبد على صلاته وأوراده، ويحضر قلبه، ويخشع لربه، فمتى سمع الأصوات المزعجة انشغل قلبه، وغفل عن ذكر الله تعالى، وتشوش عليه فكره، وتشتت عليه ذهنه، فلا جرم لزم احترام المساجد، ولو كانت خالية من المصلّين والتالين، لحرمة الملائكة وأماكن للعبادة. وقد روى البخاري عن السائب بن يزيد أن عمر بن الخطاب أمره أن يأتيه برجلين في المسجد، فقال: من أين أنتما؟ فقالا: من الطائف. فقال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1) . فالظاهر أنهما يتكلمان كلامًا عاديًا يسمعه عمر رضي الله عنه وهو في جانب المسجد، فزجرهما عن رفع الصوت مطلقًا، وليس خاصًا بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكر الواقع منهما. وقد روى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال ¬
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإياكم وهيشات الأسواق» (¬1) . قال النووي: "أي اختلاطها، والمنازعة والخصومات، وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها" (¬2) . وهذا عام في وقت الصلاة وغيرها، وذلك لأن الأسواق يحصل فيها الاختلاف ورفع الصوت والنزاع، فأمرهم باحترام أماكن الصلاة، وإبعادهم عما يحصل في الأسواق. فأما الحديث الذي رواه البخاري وغيره «عن كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أي حدرد دينًا كان عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما فنادى: (يا كعب) قال: لبيك يا رسول الله. قال: (ضع من في دينك هذا) وأومأ بيده أي: الشطر، قال قد فعلت. قال: (قم فاقضه) » (¬3) . فقد استدل به على جواز التقاضي والملازمة في المسجد، ورفع الصوت فيه مالم يتفاحش، ولعلهما كانا في أحد جوانب المسجد، أي: بقربه، أو أن الصوت كان خاصًا يسمعه القريب، ¬
ويمكن أن الدين تأخر وفاؤه ولم يتمكن كعب من رؤيته إلا في المسجد، ولعلهما رفعا الصوت، فأصلح بينهما لينقطع رفع الصوت (¬1) . ويستثنى من ذلك رفع الصوت بالذكر الوارد بعد انقضاء الصلاة المكتوبة، بالاستغفار ثلاثًا، وقول: اللهم أنت السلام. . إلخ، وقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. . إلخ، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « (إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان -على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬2) . وقال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته. وفي رواية: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير (¬3) . ولعلّ ذلك فيما إلا انشغلوا كلهم بالذكر والتهليل والتوحيد، فيجتمع من أصوات المجموع ما يرتفع، حتى يسمعه من هو خارج المسجد, وإن يسمع صوت كل واحد بمفرده. وأما التصويت بقراءة القرآن خارج الصلاة فيجوز إن ¬
كان ذلك أولى للقارئ، وأقرب إلى استحضاره وتدبره، ولم يكن من يتضرر برفع الصوت، فأما إن كان هناك نائم أو نيام يتضررون بالصوت، فالأولى خفض الصوت بالقراءة والذكر، فإن كان الجميع يقرءون ويصوتون صوتًا عاديًا، وحصل به نشاط فلا بأس به، وقد قال تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] (¬1) . وقد ذكر ابن كثير عند تفسير هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان متواريًا بمكة كان إذا صلى ورفع صوته بالقراءة سمعه المشركون فسبوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، فنزلت الآية وهو حديث متفق عليه (¬2) . وروى ابن جرير عن ابن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر كان إذا صلّى فقرأ خفض، وأن عمر كان يرفع صوته، فسئل أبو بكر فقال: أنا أناجى ربي، وقد علم حاجتي، وقال عمر: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان. فلما نزلت الآية قيل لأبى بكر: ارفع شيئًا. وقيل لعمر: اخفض شيئًا (¬3) . ¬
وهذا يعم القراءة في الصلاة وخارجها، وسواء كان في المسجد أو في غيره، فمتى كان القارئ يجد نشاطًا وقوة في الجهر، ويحصل منه التدبر والتعقل، وحضور القلب، ولا يحصل ضرر منه على غيره، فله أن يجهر بحيث لا يقصد الإعجاب ولا الرياء ولا السمعة.
سادسا اتخاذ المسجد مستقرا وسكنا لغير حاجة
[سادسًا اتخاذ المسجد مستقرًا وسكنًا لغير حاجة] سادسًا: اتخاذ المسجد مستقرًا وسكنًا لغير حاجة: فإنه يلزم فن ذلك فعل ما يكره فيه، أو ما يحصل بعده، كامتهان للمسجد، واستهانة بحرمته، مع أن جنس ذلك واقع في العهد النبوي، وجائز للحاجة، فقد اشتهر أنه كان في المسجد صفّة أو حجرة يأوي إليها المهاجرون الذين لا يجدون مستقرًا ومأوىً، فقد يجتمع فيها عدد كثير يبيتون في المسجد، ويقيمون فيه، فإن وجد أحدهم مأوىً غيره،! واستغنى بسكن انتقل إليه، وقد يعملون في النهار، ثم يأتون في الليل إلى تلك الصفة، وقد يهدى إليهم أطعمة ومأكولات فيضطرون إلى الأكل أو الشرب في المسجد، والنوم فيه، وذلك جائز للحاجة، ومع الأمن من تلويث المصلّى، ومع العناية بنظافة المسجد. وقد روى البخاري في قصة العرنيين عن أنس قال: «قدم رهط من عكل على النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا في الصفّة» (¬1) . وروى البخاري أيضًا عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: ¬
كان أصحاب الصفة الفقراء (¬1) . قال في الفتح: والصفة موضع مظلل في المسجد النبوي، كانت تأوي إليه المساكين (¬2) ولا شك أنه يلزم من بقائهم في المسجد النوم فيه، والأكل والشرب فيه، ولعلّ ذلك جاز لحاجة. وجواز النوم في المسجد هو قول الجمهور، لما روى البخاري وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أيضًا عن سهل بن سعد قصة فيها أن علي بن أبي طالب غاضب فاطمة، فلم يقل عندها ونام في المسجد وقت القيلولة حتى سقط رداؤه عن شقه، وأصابه تراب (¬3) إلخ. وروى أيضًا عن أي هريرة قال: رأيت سبعين من أول الصفّة ما منهم رجل عليه رداء (¬4) إلخ. ومعلوم أن هذا العدد لا تتسع لهم الصفّة الصغيرة، فدل على أنهم ينامون ¬
في زوايا المسجد، إلا من وجد منهم مأوىً، فمن استغنى منهم استقل في منزله. بل ثبت في الصحيح عن عائشة أن وليدة سوداء كانت لحي من العرب فأعتقوها. . فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد، أو حفش (¬1) الحديث. والخباء: الخيمة من وبر أو غيره. والحفش: البيت الصغير، وفيه إباحة المبيت والمقيل في المسجد لمن لا مسكن له من المسلمين، رجلاً كان أو امرأة، عند أمن الفتنة، وإباحة استظلاله فيه بالخيمة ونحوها. وقد ثبت في الصحيح «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده» (¬2) . وأذن مرة لعائشة في الاعتكاف معه فبنت لها خباء، ثم بنت حفصة لها خباء (¬3) إلخ. ومعلوم أن المعتكف ينام في المسجد، ويأكل فيه ويشرب فيه، ويتخذه مستقرًا ليتفرغ فيه للعبادة. ¬
وقد روى الإمام أحمد أن أبا ذر رضي الله عنه كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا فرغ من خدمته أوى إلى المسجد، وكان هو بيته يضطجع فيه، وذكر أنه قال: فأين أنام وهل لي بيت غيره. وكذا روى الطبراني وفي إسناده شهر بن حوشب وفيه كلام وقد وثق (¬1) . ولعلّ أبا ذر كان من أهل الصفة الذين ليس لهم مأوى سوى المسجد، فينام فيه كغيره للحاجة، مع علمه بحرمة المسجد، ووجوب العناية وتنظيفه عن الفضلات والقذر. فأما الأكل فقد روى الطبراني كما في مجمع الزوائد عن عبد الله ابن الزبير قال: «أكلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا شواء في المسجد. . إلخ» ، وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال (¬2) . وعن ابن عمر قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيخ بفضيخ بسر فشربه، فلذلك سمى مسجد الفضيخ.» [رواه أحمد وأبو يعلى وفي إسناده مقال] (¬3) . ¬
وروى الإمام أحمد بإسناد حسن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ في المسجد» (¬1) . ولعلّ ذلك وضوء تجديد، وكان في أحد جوانب المسجد. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن زيد بن ثابت «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في المسجد» (¬2) . فقد ذكر مسلم في كتاب التمييز له أن ابن لهيعة أخطأ فيه، وأن الصواب (احتجر) أي اتخذ حجرة أي جانبًا يجلس فيه للاعتكاف (¬3) . وكل هذه الأفعال تفعل بقدر الحاجة، وعند الأمن من تلويث المسجد، وظهور أثر الوسخ ورائحة الفضلات، وبقايا الطعام فيه، وقد يقع في هذه الأزمنة وقبلها وضع الأطعمة في المسجد وقت الإفطار من صوم رمضان، لكثرة الفقراء من العمالة، والفقراء، والمساكين الذين يعوزهم تحصيل طعام الإفطار المتواجد عند الأثرياء، ويشق جمعهم في المساكن، فاحتيج إلى تفطيرهم في المساجد أو ما يقرب ¬
منها كبناء خيمة داخل المسجد أو خارجه، ويلزم مع ذلك تنظيف المساجد بعدهم، وإخراج بقايا الأطعمة ونحوها وإزالة النفايات وما يشوه المنظر، مع التزام وضع الأطعمة على خوان أو سفرة غليظة لا تخرقها المياه التي تتساقط عند الشرب من القهوة ونحوها، وكذا لابد من التهوية والطيب الذي تزول معه روائح الأطعمة، ولابد من إبعاد ما له رائحة مكروهة كالبصل والكراث والفجل ونحوها، حيث ورد النهي عن الإتيان إلى المساجد بروائح مستكرهة، وأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم. ومما يحرص على تنزيه المسجد منه: الحدث فيه، وهو خروج الريح الذي هو النسم الخارج من الدبر، وقد دل على كراهته حديث أبي هريرة في الصحيح، ولفظه: «الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث» (¬1) . وقد فسر أبو هريرة الحديث بالصوت، ولكنه قد يقع بغير الاختيار، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينصرف- أي: من الصلاة- حتى يسمع صوتَا أو يجد ريحًا» . [متفق عليه] (¬2) . ¬
وورد في الحديث: «إذا أحدث أحدكم في الصلاة فليمسك بأنفه ثم لينصرف» [رواه البيهقي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي] (¬1) . قال الحافظ في الفتح: "يدل على أن الحديث يبطل ذلك أي: استغفار الملائكة، ولو استمر جالسًا، وفيه دليل على أن الحدث في المسجد أشد من النخامة، لأن لها كفارة، ولم يذكر لهذا كفارة، بل عوقب بحرمان استغفار الملائكة، ودعاؤهم مستجاب" (¬2) . ثم إن العادة في هذه الأزمنة إغلاق المساجد، ومنع النوم فيها، وذلك خوف الفساد، ووقوع المعاصي داخل المسجد، فقد عثر على أفراد يفعلون الفواحش ليلاً، وربما نهارًا على حين غفلة من الناس، فكان من صيانة المساجد إغلاقها، ومنع المبيت بها، حتى تصان بيوت الله عن هذه الفواحش التي هي من أقبح المحرمات، والتي كثرت وتمكنت في كثير من الأفراد ودون ارتداع، ولو كان في ذلك حرمان الضعفاء من النوم فيه للحاجة، لكن صيانة أماكن العبادة والطاعة أولى من مراعاة حاجة أولئك الذين قد يجدون ملاذًا في البلاد الواسعة، والله الموفق. ¬
سابعا المرور في المسجد واتخاذه طريقا لغير حاجة
[سابعًا المرور في المسجد واتخاذه طريقًا لغير حاجة] سابعًا: المرور في المسجد واتخاذه طريقًا لغير حاجة: فإن المساجد لها مكانتها وشرفها، فلا يجوز امتهانها بكثرة المرور والعبور فيها من بابٍ لبابٍ دون حاجة ضرورية، وإنما لمجرد العادة أو اختصار الطريق، فأما إن كان المرور لحاجة فلا بأس بذلك، وهو ما كان يقع في المسجد النبوي. وقد ترجم البخاري في صحيحه (باب المرورِ في المسجد) وذكر فيه حديث أبي موسى رفعه: «من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها» . . .) (¬1) إلخ. وروى قبله حديث جابر بلفظ: «مرَّ رجلٌ في المسجد معه سهام» . . .) (¬2) إلخ. ولعلّ ذلك كان لحاجة ألجأته إلى المرور، وقد يراد بالمرور الدخول لصلاة أو عبادة ونحو ذلك. ¬
وهكذا ما روي في تفسير قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] (¬1) . عن ابن عباس قال: لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل قال: تمر به مرًا ولا تجلس. [رواه ابن أبي حاتم] (¬2) . وروى ابن جرير عن يزيد بن أبي حبيب أن رجالا كانت أبوابهم في المسجد، فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، ولا يجدون ممرًا إلا في المسجد، فأنزل الله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] (¬3) . وفي هذا جواز مرور الجنب في المسجد لحاجة الإتيان بالماء أو للاغتسال، ولا يجوز لغير حاجة، فقد روى أبو داود من حديث أفلت بن خليفة، عن جسرة بنت دجاجة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» (¬4) . لكن قال الخطابي: إن أفلت مجهول، وضعف الحديث به، وتعقبه المنذري في تهذيب السنن، وابن القيم في شرح التهذيب بأنه معروف، وقد وثقه بعض الأئمة (¬5) . ¬
وقد روى البخاري هذا الحديث في ترجمة أفلت من تاريخه الكبير، ولم يجرح أفلت، وسماه بعضهم: فليت، ولكنه ذكر أن عند جسرة عجائب (¬1) وقد رواه ابن ماجه عن أبي الخطاب الهجري، عن محدوج الذهلي، عن جسرة، عن أم سلمة، بلفظ: «إن المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض» (¬2) . قال في الزوائد: "إسناده ضعيف، محدوج لم يوثق، وأبو الخطاب مجهول" (¬3) اهـ. ويمكن أنه عن جسرة عن عائشة وأم سلمة إن كان ثابتًا، ولعل نهي الحائض مخافة تلويث المسجد، ومتى أمن ذلك جاز دخولها المسجد، والحديث قد حسنه الزيلعي في نصب الراية عن عائشة، وناقش ما قيل في إسناده من المقال (¬4) . وقد روى مسلم في صحيح «عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ناوليني الخمرة من المسجد) فقلت: إني حائض. فقال: (إن حيضتك ليست في يدك) » (¬5) . ثم روى نحوه عن أبي هريرة، ولفظه: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فقال ¬
صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة ناوليني الثوب) فقالت: إني حائض. فقال صلى الله عليه وسلم: (إن حيضتك ليست في يدك) فناولته» (¬1) . وظاهره أنه طلب منها ثوبا وهو في المسجد فأتت به، ولم يمنعها الحيض، ولعلها أمنت من التلويث، أو اعتبرت أن النهي عن الجلوس فيه. وأما الجنب فلعل النهي عن دخوله المسجد لأنه محدث حدثًا أكبر، والمسجد موضع للعبادة، فلابد أن يكون محل احترام، فلا يجلس فيه الجنب، وقد ذهب الأئمة الثلاثة إلى منع الجنب من المسجد حتى يغتسل، لقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] (¬2) . أي: لا تقربوا أماكن الصلاة، وذهب الإمام أحمد إلى جواز دخول الجنب المسجد إذا توضأ، وروي عن الصحابة أنهم كانوا يجلسون في المسجد للتعلم وهم جنب إذا توضؤا، ذكر ذلك ابن كثير عند تفسير هذه الآية، وروى ذلك بإسناد سعيد بن منصور، عن عطاء بن يسار، قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤا وضوء الصلاة. [وإسناده على شرط مسلم] (¬3) . ¬
ثامنا منع الصبيان ونحوهم من المساجد عند خوف العبث واللعب فيه
[ثامنًا منع الصبيان ونحوهم من المساجد عند خوف العبث واللعب فيه] ثامنًا: منع الصبيان ونحوهم من المساجد عند خوف العبث واللعب فيه: وذلك أن من طبيعة الأطفال كثرة اللعب والحركة، والتقلب والاضطراب، مما يشوش على المصلّين والقراء، وأهل الذكر والعلم، ولا يستطع وليه التحكم في تسكينه غالبًا، فهو في الصلاة يكثر الالتفات والتقدم والتأخر، ومد اليدين، وحركة القدمين، وذلك مما يشغل من يصلى إلى جانبه، ويلهيه عن الإقبال على صلاته، مما يذهب الخشوع، وينقص الأجر، ثم إن الأطفال الذين دون سن التمييز لا يؤمن تلويثهم للمسجد، فقد يحصل منهم التبول ونحوه، والروائح المستكرهة، واللعاب والبصاق ونحو ذلك، لعدم فهمهم بحرمة المكان، وصعوبة تأديبهم، والتحكم فيهم، فلذلك يتأكد على أوليائهم منعهم من دخول المساجد إلا بعد التأكد هن فهمهم، وتعلمهم احترام المسجد، وتربيتهم على النظافة والأدب، وحفظهم عن كثرة الحركة، وما يسبب ضررًا أو تشويشًا للمنظر الظاهر في بيوت الله التي أذن أن ترفع.
وقد روى ابن ماجه في سننه عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وشراءكم، وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسلَّ سيوفكم» . . .) (¬1) إلخ. قال البوصيري في الزوائد: "إسناده ضعيف، فإن الحارث بن نبهان متفق على ضعفه" (¬2) اهـ. لكن له شواهد، فقد رواه الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة قالوا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وخصوماتكم، وأصواتكم، وسلّ سيوفكم، وإقامة حدودكم. . . إلخ» . [لكن في إسناده العلاء بن كثير الليثي الشامي وهو ضعيف] (¬3) . ورواه الطبراني في الكبير أيضًا عن مكحول عن معاذ مرفوعًا: «جنّبوا مساجدكم صبيانكم، وخصوماتكم، ¬
وحدودكم، وشراءكم, وبيعكم» . . . .) إلخ. لكن معاذا قد مات قديمًا فلم يدركه مكحول (¬1) . ولعلّ هذه الشواهد يقوى بها الحديث ليعرف أن له أصل، والعلة ما ذكرنا، فإن الصبيان وكذا المجانين يصعب تأديبهم والقبض عليهم، ولجهلهم بحرمة المكان يحصل منهم العبث الكثير والخبث، وتنجيس المكان ونحو ذلك فيتأذى بهم المصلّون ويشوشون على من حولهم فلزم منعهم. ¬
تاسعا إقامة الحدود في المساجد واتخاذها موضعا لسماع القضايا والخصومات
[تاسعًا إقامة الحدود في المساجد واتخاذها موضعًا لسماع القضايا والخصومات] تاسعًا: إقامة الحدود فيها: واتخاذها. موضعًا لسماع القضايا والخصومات التي تقع بين المتنازعين، حيث أنه ولابد سيحصل ضجيج وأصوات عالية، وكلمات نابية، فإن كلاً من الخصمين عادة يعيب الآخر ويثلبه، ويذكره بأقبح الصفات من الكذب، والافتراء، والظلم، والعدوان، ويقابله الآخر بمثل ذلك أو أشد، فيلزم من ذلك عادة امتهان المساجد بذكرهم هذه الصفات الذميمة المبنية على المبالغة أو الظن الخاطئ، وذلك مما ينافي كرامة المسجد ومكانته في النفوس، وهكذا ما يحصل عند إقامة الحدود في المسجد من احتشاد الخلق هناك لمجرد الفرجة والنظر، ويكون من بينهم السفهاء والأطفال، وأهل الجهل والفساد، فيحصل ازدحام ورفع أصوات، وارتكاب مفاسد وأخطاء تنافي شرف المسجد ومكانته في النفوس، ويحصل تشويش على من يصلي أو يقرأ أو يتعبد، وسواء كانت الحدود قتلاً أو رجمًا، أو جلدًا أو قطع طرف أو نحو ذلك. وقد ورد النهي عن إقامة الحدود في حديث واثلة عند ابن ماجه، وحديث أبي الدرداء وأبي أمامة ومعاذ عند الطبراني، وإن كانت ضعيفة كما سبق، ولكن يقوّي بعضها بعضًا، مما
يدل على أن لها أصلا لكن قد ورد ذكر الرجم في المصلىّ كما في البخاري وغيره (¬1) . والمراد به: الموضع الذي في البقيع يصلى فيه على الجنائز، والمعنى أن إقامة الحد عليه كانتَ قريبا من ذلك المصلى، ولم يكن محوطًا، وليمر فيه علامة المسجد. وهكذا ما في الحديث أن ذلك الرجل اعترف بالزنا في المسجد، وكرَّر اعترافه، وأمر برجمه (¬2) إنما فيه الحكم عليه في المسجد، وقد ورد عن بعض السلف أنهم حكموا بين الميم في المسجد. قال البخاريِ في كتاب الأحكام من صحيحه (باب من قضى ولاعن في المسجد) ولا عن عمر عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد، وقضى مروان باليمين على زيد بن ثابت عند المنبر، وكان الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في الرحبة خارجًا من المسجد (¬3) ثم روى حديث سهل بن سعد في قصة المتلاعنين، قال: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد (¬4) . ¬
وذكر الحافظ في الفتح أن أثر شريح وصله ابن أبي شيبة ومحمد بن سعد من طريق إسماعيل بن أبي خالد، قال: رأيت شريحًا يقضي في المسجد وعليه برنس خز (¬1) . وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الحكم بن عتيبة، أنه رأى شريحًا يقضي في المسجد (¬2) . وأثر الشعبي وصله سعيد الخزومي في جامع سفيان، من طريق عبدا لله بن شبرمة: رأيت الشعبي جلد يهوديًا في قرية في المسجد. وكذا أخرجه عبد الرزاق عن سفيان (¬3) . وأما أثر يحيى بن يعمر فوصله ابن أبي شيبة من رواية عبد الرحمن بن قيس، قال: رأيت يحيى بن يعمر يقضي في المسجد (¬4) . وأخرج الكرابيسي في أدب الفقهاء من طريق أبي الزناد قال: كان سعد بن إبراهيم، وأبو بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم، وابنه، ومحمد بن صفوان، ومحمد بن مصعب ¬
ابن شرحبيل يقضون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر جماعة آخرون (¬1) . ثم ذكر أن الرحبة بناء يكون أمام باب المسجد غير منفصل عنه، والراجح أن لها حكم المساجد فيصبح فيها الاعتكاف، وكل ما يشترط له المسجد، فإن كانت الرحبة منفصلة فليس لها حكم المسجد. والذي يظهر من مجموع هذه الآثار أن المراد بالرحبة هنا الرحبة المنسوبة للمسجد فقد أخرى ابن أي شيبة من طريق المثنى بن سعيد قال: رأيت الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في المسجد (¬2) . وأخرج الكرابيسي في أدب الفقهاء من وجه آخر أن الحسن وزرارة وإياس بن معاوية كانوا إذا دخلوا المسجد للقضاء صلّوا ركعتين قبل أن يجلسوا (¬3) . تْم نقل الحافظ عن ابن بطال قال: استحب القضاء في المسجد طائفة، وقال مالك: هو الأمر القديم، لأنه يصل إلى القاضي فيه المرأة والضعيف، وإذا كان في منزله لم يصل إليه الناس، لإمكان الاحتجاب، قال: وبه قال أحمد ¬
وإسحاق، وكره ذلك طائفة، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى القاسم ببن عبد الرحمن أن لا تقضى في المسجد، فإنه يأتيك الحائض والمشرك (¬1) . وقال الشافعي: أحب إلى أن يقضي في غير المسجد لذلك (¬2) . وقال الكرابيسي: " كره بعضهم الحكم في المسجد من أجل أنه قد يكون الحكم بين مسلم ومشرك، فيدخل المسلم المسجد، ودخول المشرك المسجد مكروه، ولكن الحكم بينهم لم يزل من صنيع السلف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره" اهـ. وقد علم أن القضاء في ذلك الزمان هو مجرد سماع قول الخصمين، ثم الفصل بينهما بكلمة أو كلمتين، وتنتهي القضية بدون مجادلات، ورفع أصوات، وتسجيل توقيعات، كما في هذه الأزمنة، وقد يكون سبا حكمهم في المسجد عدم توفر بناء خاص بالمحاكم، حيث أن القاضي يجلس في بيته، وقد يضيق بالخصوم المنزل، فيحتاج إلى الجلوس في المسجد، وقد يكون العذر هو ¬
تمكن المرأة والضعيف من الوصول إليه للإدلاء بالحجة, وسماع الدعوى، وتحذير الكاذب من امتهان المسجد بالحلف الفاجر. وأما في هذه الأزمنة وبالأخص في هذه المملكة فقد خصص محاكم مهيئة للجلوس فيها، وإحضار الخصومة، وتيسر للمظلوم والضعيف الوصول إلى القاضي، وعلى هذا تنزه المساجد عن هذه المرافعات، والجدال والنزاع, حتى يعرف للمساجد مكانتها وشرفها.
عاشرا منع الكفار والمشركين من دخول المساجد
[عاشرٌا منع الكفار والمشركين من دخول المساجد] عاشرٌا: منع الكفار والمشركين من دخولها: للأمر بتطهيرها وتنظيفها الحسي والمعنوي، وقد ذكر الله تعالى أن المشركين نجس، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] (¬1) . ولما نزلت بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعليا وغيرهما ينادون في موسم في موسم الحج: «أن لا يحج بعد هذا العام مشرك» (¬2) . وذكر الحافظ ابن كثير في التفسير عن أبي عمرو والأوزاعي قال: كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] (¬3) . قال ابن كثير: ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك، كما ورد في الصحيح: «المؤمن لا ينجس» (¬4) . وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس ينجس البدن ¬
والذات، لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم، وقال أشعث عن الحسن: " من صافحهم فليتوضأ " (¬1) اهـ. ولعلّ هذا منهم للمبالغة في مقت المشركين، وبغضهم والحذر منهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة ولحذيفة: «إن المؤمن لا ينجس» (¬2) . قال الحافظ في الفتح: تمسك بمفهومه بعض أهل الظاهر فقال: إن الكافر نجس العين وقوّاه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] وأجاب الجمهور عن الحديث بأن المراد أن المؤمن طاهر الأعضاء لاعتياده مجانبة النجاسة، بخلاف المشرك لعدم تحفظه عن النجاسة، وعن الآية بأن المراد أنهم نجس في الاعتقاد والاستقذار (¬3) . إلخ. وقد سبق ما نقله الحافظ عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى القاسم أن لا تقض في المسجد، فإنه يأتيك الحائض والمشرك وقول الكرابيسي: " كره بعضهم الحكم في المسجد، لأنه لد يكون الحكم بين مسلم ومشرك، ودخول المشرك المسجد مكروه " اهـ. ¬
وذكر ابن مفلح في الآداب أن أبا موسى قدم على عمر رضي الله عنه بحساب العراق، فقال: ادع (الكاتب) يقرؤه، فقال: إنه لا يدخل المسجد. فقال: لم؟ قال: لأنه نصراني (¬1) إلخ. وهو واضح في أنه قد تقرر عنده أن النصارى لا يمكنون من دخول المساجد لحرمتها، ونجاستهم المعنوية. وأما الحديث الذي في البخاري في قصة ثمامة بن أثال، وربطه في المسجد قبل أن يسلم (¬2) فلعلّ ذلك فُعل حتى يشاهد المصلّين، ويسمع القرآن، فينشرح صدره للإسلام كما حصل، حيث أسلم بعد ثلاث ليال، وكذا إذنه لوفد ثقيف، ودخولهم عليه في المسجد (¬3) لأنهم جاؤا راغبين في الإسلام، وكذا يقال في سائر الوفود، وحيث لم يكن هناك أماكن واسعة لاستقبال الوفود غير المسجد النبوي، ولقربه من بيوت النبي صلى الله عليه وسلم. ¬
حادي عشر منع سل السيوف ورؤوس النبال في المسجد
[حادي عشر منع سل السيوف ورؤوس النبال في المسجد] حادي عشر: منع سل السيوف ورؤوس النبال في المسجد: ففي الصحيحين عن جابر قال: «مر رجل في المسجد ومعه سهام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمسك بنصالها» (¬1) . وروى البخاري عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مرْ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها, لا يعقر بكفه مسلما» وفي رواية: «كي لا تخدش مسلمًا» (¬2) . ولعلّ ذلك لأن النبال رءوسها محددة، فإذا دخل بها المسجد أو الموضع المزدحم بالناس لم يؤمن أن يجرح بها إنسانًا على حين غفلة، والمسلم حرام سفك قليل دمه وكثيره، وذلك دليل حرمة المسجد أن يجرح فيه أحد من المسلمين، فمن دخله ومعه شيء محدد كسيف، أو خنجر، أو سكين فعليه أن يمسك برءوسها إذا مرَّ بين الناس، مخافة أن يطعن بها أحدًا من المسلمين. وأما الحديث الذي رواه البخاري وغيره عن عائشة قالت: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا على باب حجرتي، ¬
والحبشة يلعبون في المسجد، وفي لفظ: والحبشة يلعبون بحرابهم» (¬1) . فأجيب بأنه أذن لهم للتدرب على القتال، وتعليم حمل السلاح والكر والفر، ولأن فيه استعانة على إعداد القوة للكفار، ولأن المتدربين يستطيعون حفظ سلاحهم، ويتحكمون فيه، بخلاف من مرَّ في المسجد بسهام أو نبال حال وجود المصلِّين، فقد يغفل فيجرح بها أحدًا وهو في غفلة. والله أعلم. والمباحث المتعلقة بالمساجد كثيرة قد استوفى أكثرها البخاري في صحيحه، وغيره من علماء الحديث والفقه والأحكام، وأورد كل منهم ما تيسر له، وفيما ذكرنا كفاية. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم كتبه عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين 7 - / 8 / 1419 هـ ¬