فصول في الدعوة والإصلاح

علي الطنطاوي

علي الطنطاوي فصول في الدعوة والإصلاح جمع وترتيب حفيد المؤلف مجاهد مأمون ديرانية دار المنارة للنشر والتوزيع

حقوق الطبع محفوظة يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر الطبعة الأولى 2008 دار المنارة للنشر والتوزيع ص ب 1250 جدة 21431 المملكة العربية السعودية هاتف 6603652 فاكس 6603238 المستودع 6675864

مقدمة

مقدّمة إن من الأَعلام من تغلب عليه صِفَةٌ فهو يُعرَف بها، أو سِمَةٌ فهو يُنسَب إليها؛ فإذا ذُكر لك الإسكندر -مثلاً- أو صلاح الدين تصوّرتَ حياة حافلة بالمعارك والفتوح، وإذا سمعت بالطبري أو النووي تخيّلتَ حياة غنية بالدَّرس والتأليف، وهكذا. فأي شيء يخطر ببالك إذا فكرت بعلي الطنطاوي؟ قد يقول قائل: العلم الوَفير والثقافة المتنوعة، ويقول آخر: الكلمة الحلوة والأسلوب الجميل، ويقول ثالث ورابع: الحديث الجذّاب والإلقاء الساحر، وروح الفكاهة والشخصية الآسرة ... وكل واحد من هؤلاء مُصيب، غير أنه لم يمسّ إلا عَرَضاً وفاته الجوهر. لقد كان علي الطنطاوي صاحبَ علم وفير وأسلوب جميل وحديث جذّاب، إلى غير ذلك، ولكن هذه جميعاً كانت أدوات سخَّرَها واستعملها في دعوته إلى الله وسعيه إلى الإصلاح. فلو أن سائلاً سألني: "كيف تلخّص حياة علي الطنطاوي؟ صِفْها في عشر كلمات". لقلت له: لا أحتاج إلى عشر، آخذ ثلاثاً وأردّ لك سبعاً. لقد صرف حياته «في الدعوة والإصلاح»، رحمه الله وأجزل له الثواب. * * *

لقد سعى علي الطنطاوي خلال حياته كلها إلى الإصلاح، وجَهَدَ واجتهد وجاهد في سبيله: إصلاح العقيدة والعبادة، وإصلاح السلوك والأخلاق، وإصلاح التعليم والتربية، وإصلاح اللغة والأدب، وإصلاح حياة الناس الاجتماعية والأُسَرية، وإصلاح الحكومات والمحكومين. في الدين والاعتقاد حارب الدعوات الباطلة والنِّحَل الباطنة والبدع والخرافات ودعا إلى الإسلام النقيّ الصحيح، وفي المجتمع والحياة العامة حارب التحلل والتكشف والفجور والاختلاط ودافع عن الاستقامة والعِفّة والفضيلة، وفي الأخلاق الاجتماعية حارب الكذب والغش والنفاق والالتواء والظلم والعدوان والرذائل كلها ودعا إلى نقائضها من الفضائل وكرائم الأخلاق، وفي اللغة والأدب حارب الضعف والحداثة ودافع عن العربية وانتصر للأسلوب العالي والبيان الراقي والشعر الأصيل الموزون ... وأنّى ذهبتَ في مجالات الحياة وجدت يده ممدودة فيه بالإصلاح. لقد كان حرباً على الآثام كلها وداعياً إلى كل فضيلة، وحيثما كانت الخِيرَة بين خير وشر كان حرباً على الشر نصيراً للخير داعياً إليه مدافعاً عنه. ولئن أعانه على جهاده الطويل هذا ما آتاه الله من أسلوب وفصاحة وبيان، وما حباه به من اندفاع وشجاعة وجرأة وصلت به أحياناً إلى درجة التهوّر، وما درج عليه من الثورة على العادات ومخالفة المألوف، فإن الذي دفعه في هذا الطريق في المقام الأول هو الإيمان العميق الذي غُرس في قلبه، والروح المتوثِّبة التي حملها بين جَنْبَيه، وموهبته النادرة في الانتباه إلى الخطأ مهما

دقَّ وصَغُر، والإحساس بالخطر مهما خفي وبَعُد؛ فكان من دأبه أن ينبّه الناس إلى الخطر قبل أن يدنو منهم الخطر، ويحذّرهم من السيل قبل أن يدهمهم السيل، وكان كالمنارة التي تصرف السفن عن اقتحام صخور البر في الليلة العاصفة الظَّلْماء، أو الشعاع الذي ينير الطريق للجَمْع المضطرب في الفتنة الغاشية الدَّهْماء، وكان في قومه النّذيرَ العُرْيان. * * * وبعد، فهذا هو الكتاب السابع الذي وفّقَ الله -بفضله وكرمه- إلى إصداره بعد وفاة جدي رحمه الله. ولئن كنت قد اخترت له هذا العنوان، «فصول في الدعوة والإصلاح»، فإنني أعترف بأن ما فيه من أحاديث ومقالات ليس سوى عينة صغيرة مما أنفقه في حياته من جهد في الدعوة وفي الإصلاح. ولو أنّي توسعت لجعلت عنوان هذا الكتاب اسماً جامعاً لمؤلَّفات علي الطنطاوي كلها، بل لكتبه وأحاديثه وخطبه ومحاضراته جميعاً؛ فهو كان داعياً مُصلحاً في كل ما حدّث وحاضر وخطب وكتب. وقد جمعت مادة هذا الكتاب من مقالات نُشرت في الصحف والمجلات وأحاديث أُلقِيَت على المنابر أو أُذيعَت في الإذاعات بين عامَي 1936 و1990، أي في مدى يزيد على نصف قرن من الزمان، وبعض مقالاته كتبها جدي رحمه الله ثم لم يُذِعْها ولم ينشُرْها قط. وكما يحصل معي في كل مرة، وجدت -وأنا أُعِدّ مادته وأرتّبها- مقالات وأحاديث عديدة فيها مشابَهة وتكرار، فاخترت

من كل متشابهَين أفضلَهما وضحّيت بالآخر، وبقي -بعد ذلك- من المقالات والأحاديث ما يمكن أن يجد القارئ في بعضه تشابهاً في اللفظ أو تكراراً في المعنى، لكنني وجدته أقل من أن يجرّ إلى حذف المقالة كلها فكان مصيرها البقاء. وهأنذا أقدّم اليوم هذا الكتاب وأنا أسأل الله أن يكتب الثواب لي على إخراجه، ولناشره على نشره بين الناس، وأن يثيب جدي عليه أحسن الثواب، ويجعل كلَّ كلمة فيه وكلَّ حرف في ميزان حسناته يوم الحساب. مجاهد مأمون ديرانية غرة المحرّم 1429

التقدمية والرجعية

التقدمية والرجعية نشرت سنة 1966 رآني صديق لي وأنا أكتب هذا المقال، فقال لي مازحاً: اجعلها مقالات تقدّمية، لا تجعلها مقالات رجعية. قلت: ما التقدمية، وما الرجعية؟ قال: ألا تعرف؟ قلت: لا والله، ولكني أعرف أن لكل عصر كلمات تمشي فيه على الألسن، يُقبل عليها الشباب ويُفتَنون بها من غير بحث عن حقيقة معناها، كما يتلقف النساء (أعني بعض النساء) الموضات في الثياب، ويقلّدْنَها ويحرصنَ عليها من غير أن يدركن الفائدة منها! ولقد كانت الموضة السائرة ونحن صغار كلمة «عصري»، وكانوا يتّهمون كل متمسك بالدين بأنه متعصب وغير عصري. وقبلها كانت الموضة كلمة «منوَّر»، فالذي يخالف ما عليه الشباب يتهمونه بأنه غير منوَّر. وكان كثيرون من ضعاف الإيمان يتظاهرون بترك الدين (وهم متديّنون في الواقع) خوفاً من أن يقال إنهم غير منورين أو إنهم متعصبون غير عصريين! وقد بطلت اليوم هذه الكلمات وحلّت محلها كلمات جديدة

صارت هي موضة العصر، هي كلمات «التقدمي» و «التقدمية» و «الرجعي» و «الرجعية». ولقد كنت أكتب من تسع عشرة سنة كلمات قِصاراً في جريدة شامية بعنوان «كل يوم كلمة صغيرة» (¬1)، فكتبت يوماً أسأل أهل التقدمية عن تعريفها الذي يبيّن حقيقتها وعن تعريف الرجعية الذي يوضح حدودها، وانتظرت طويلاً فلم أجد عندهم الجواب الشافي (¬2). الذي أعرفه أن التقدمية مشتقة من التقدّم، وأن العرب قالوا «التقدمية» في مثل هذا المعنى. وتستطيعون أن تراجعوا معناها في «أساس البلاغة» وفي المعاجم. وأعرف أن الرجعية من الرجوع. فإذا وقفت في جدّة ووجهك إلى البحر وتقدمت فأنت بهذا المعنى تقدمي، تزداد «تقدّمية» كلما اقتربت من الشاطئ، وإذا جعلت ظهرك إلى البحر وتقدمت فأنت تقدمي أيضاً، تزداد «تقدّمية» كلما ابتعدت عن البحر. فكلاهما تقدمي، فمن منكما ¬

_ (¬1) وهي المقالات التي جُمِع عدد منها من بعدُ في كتاب «مقالات في كلمات»، الذي أصدره جدي رحمه الله سنة 1959، وأصدرتُ جزأه الثاني -بفضل الله- بعد وفاته بسنة. وقد نشر هذه المقالات في جريدة «النصر» أولاً ثم انتقل بها إلى جريدة «الأيام» من بعد، واستمرّ فيها سنين (مجاهد). (¬2) انظر مقالة «ما هي التقدمية؟» في كتاب «مقالات في كلمات»، قال في أولها: "ما هي هذه التقدمية التي صار النطق بها موضة العصر وعلامة التمدن والفهم؟ هل يتكرم أحدٌ فيعرّفها لنا تعريفاً جامعاً مانعاً، فيكون له الأجر والشكر، أم أن «التقدميين» -مثلنا نحن «الرجعيين» - لا يعرفون لها تعريفاً ولا يدرون لها معنى محدوداً؟ " (مجاهد).

التقدمي الحقيقي؟ فأنت لا تعرّف «التقدمية» إذن إلا إذا حدّدتَ الوجهة التي تتوجه إليها. هذا هو التفريق المادي بالنسبة إلى الرجل الذي يمشي، فما هو التفريق المعنوي بين «التقدمية» التي يَدْعون إليها و «الرجعية» التي يخوّفون الناس بها؟ هل يريدون بالتقدمي الرجل الذي يدعو إلى الجديد، إلى عصر الذرة والصاروخ، وبالرجعي الرجل الذي يتمسك بالقديم ويريد أن نعود إلى عهد الجمل والسِّراج؟ إن كان هذا هو الذي يريدون فليس بشيء، لأن الأمور لا تقسَّم إلى جديد وقديم، بل إلى حق وباطل وخير وشر. وإذا كان كل قديم -على رأي هؤلاء- عتيقاً بالياً واجباً تركُه فإن العقل أقدم من الدين، فإذا تركتم الدين لقِدَمِه فاتركوا العقل لأنه أقدم منه، وعودوا مجانين هاربين من مستشفى المجاذيب! والحب قديم، فاتركوا الحب. والزواج قديم، فأبطلوا الزواج. وآباؤكم وأجدادكم صاروا من أهل القديم، فتبرّؤوا من آبائكم وأجدادكم ... أفهذا كلام يا ناس؟! كلا، ما هذا هو المقياس الصحيح. وإذا كان في هذا العصر تقدّم العلم وازدهار الحضارة، فإن فيه الحروب المدمرة والقنابل المبيدة والتهتك والفساد، وفي هذا العصر تركنا اليهود يسلبوننا قطعة من قلب بلادنا ويستأثرون بها دوننا، ويشرّدون أبناءها حتى يتفرقوا فوق كل أرض وتحت كل نجم، وقبل ألف سنة كان أسلافنا يركبون الإبل لا يعرفون السيارات ولا الطيارات، ويعيشون على السُّرُج ومصابيح الزيت، ولكنهم كانوا سادة الدنيا وكانوا أعزّ الأمم.

فإذا قلتم إننا رجعيون فنحن معكم، ونفتخر بأننا من الرجعيين. لكننا لا نريد الرجعة إلى عهود الاستعمار ولا إلى أيام الانحطاط والتأخر، بل نريد الرجوع إلى العهد الذي كنا فيه ملوك الأرض وكنا أساتذة العالم، وكان في أيدينا صَوْلجان الحكم وكان في أيدينا منار العلم. إلى عهد الصدر الأول، العهد الذي خرجت فيه الجيوش العربية المسلمة من هذا البلد تحمل راية محمد صلى الله عليه وسلم، فركزتها على كل جبل وفوق كل قلعة، من قلب فرنسا إلى قلب الصين. على أننا إذا تلفَّتْنا إلى الماضي فلا نلتفت إليه لنرجع القهقرى ونمشي إلى الوراء، بل لنستمد منه القوة على السير سعياً إلى الأمام، إلى الأمام لنربط بين الماضي المجيد والمستقبل المجيد، إلى الأمام لنصل مجدنا الجديد بمجدنا التليد. * * * إننا نعلم أن الاستغراقَ في الماضي وحدَه نومٌ أو جمود، والاستغراقَ في المستقبل وحده هوسٌ وجنون، والاستغراقَ في الحاضر وحده عجزٌ وقعود. ونحن نريد أن نستمدّ من الماضي دافعاً وحافزاً، ومن المستقبل موجّهاً ومرشداً، ومن الحاضر عماداً وسناداً. إننا ندعو إلى العودة إلى الماضي، ولكن ما معنى هذا؟ هل معناه أن نعود القرون الماضية ونرجع الكرة الأرضية في دورانها، ونسقط من حساب الزمان هذه القرون الطويلة حتى نعيش في القرن الأول الهجري مرة أخرى؟ هذا مستحيل.

هل معناه أن نعود إلى حياة القرن الأول فنركب الإبل وندع السيارة، ونسكن الخيام ونترك البيوت، ونعود إلى طب الحارث بن كَلَدَة أو أبي بكر الرازي ونترك الطب الحديث؟ هذا ما لا يقول به أحد؛ بل نريد العودة إلى مثل ما كان عليه أجدادنا من العلم والمجد والقوة والسلطان. ونحن نعلم أن هذا المجد لا يعود بالأحاديث والخطب، ونعلم أن السجين المصفَّد بالأغلال لا يطلقه تذكر الحرية والتغني بلذاتها، وأن الجائع لا يشبعه تذكر موائد الماضي واستعراض ألوانها، وأن الفقير لا يغنيه تذكر زمان غناه والزهو بما صنع فيه، وأن الذلة لا تُدفَع عن الذليل بنظم قصائد الفخر بعزة جده وأبيه. ولكننا نعلم أيضاً أن السجين الذي ينسى أيام الحرية يستريح إلى القيد ولا يجد حافزاً إلى الانطلاق، وأن الفقير الذي ينسى زمان الغنى يطمئن إلى الفقر ولا يجد دافعاً إلى الاستغناء، وأن الذليل الذي ينسى عزة أبيه يألف الذل ولا يجد قوة على دفعه. فإذا اطمأننّا إلى جلال ماضينا وحسبنا أن خطبة بتمجيده ومقالة بالإشادة به تغنينا وتكفينا فلن يعود لنا هذا الجلال أبداً، وإن نسينا أننا أبناء سادة الأرض وأساتذة الدنيا لم يحرك أعصابنا شيء إلى استعادة هذا المجد. فلنأخذ من الماضي بقَدْر، نأخذ منه ما يدفع ويرفع وينفع، وندع منه ما يثبط ويُقعد ويُنيم. إننا لا نريد أن نعود إلى الزمان الماضي، فالزمان يمشي أبداً لا يقف ولا يعود، ولا نعود إلى مثل معيشة الزمان الماضي ونترك ثمرات الحضارة، ولكن نعود إلى

المُثُل العليا وإلى الفضائل التي لا تفقد قيمتها بمرور الزمن؛ فكما أن الذهب والألماس لا يضرّه القِدَم ولا يصدأ كما يصدأ الحديد، فإن في المعاني ما هو كالألماس والذهب في المعادن. * * * نحن نريد أن نعود إلى هذه الحياة؛ هذه هي رجعيتنا التي لا ننكرها بل نفتخر بها، قد عرّفناها ووضّحناها، فما هي تقدميتكم يا أيها السادة التقدميون؟ هل معناها التقدم من أهل الغرب وتقليدهم في كل شيء، بل تقليدهم في الشر الذي يشكون منه ويتمنون الابتعاد عنه؟ وأن نهمل عقولنا ونترك شرع ربنا ونتبرأ من آبائنا وأجدادنا، ونمشي وراء الغربيين فنقول بمقالهم ونفعل فعلهم، فإن كشفوا العورات كان سترها رجعية، وإن أعلنوا الزنا كان إعلانه تقدمية، وإن لبسوا السراويل في أذرعهم والمعاطف في أرجلهم، أو قعدوا على الأرض وأجلسوا الكراسي فوقهم، أو أكلوا الحساء (الشوربة) بالشوكة والبطيخ بالملعقة، فقد وجب في شرعة التقدمية أن نفعل فعلهم وإلا كنا رجعيين؟! إذا كان هو المراد بالتقدمية فتشجّعوا وقولوه، ولا تدعونا نطالعه من خلال السطور ومن بين الكلمات. * * *

الإسلام والحياة

الإسلام والحياة نشرت سنة 1937 لما كنت طفلاً صغيراً كنت أذهب مع أبي يوم المولد إلى منزل المحدّث الكبير السيد الكتاني رحمه الله، فكنت أجد فيه حشداً من الناس وقد تفرقوا في قاعاته وأبهائه، فتحلقوا فيها حول جِفان الرز الموشَّاة بالصنوبر واللوز والمغطاة باللحم، فأكلوا حتى شبعوا ثم قاموا ليأكل غيرهم. فإذا انتهى الطعام ذهب منهم من ذهب وبقي من بقى يستمع قصة المولد. أو أذهبُ إلى المسجد الأموي فأجد فيه خلائق مجتمعة حول تالٍ يتلو شيئاً يسميه «قصة المولد»، ومنشدين يغنّون أغاني يدعونها أناشيد نبوية، فإذا انتهى الغناء واكتملت القراءة بدأ الصراخ والصراع على السكاكر والملبَّس. وكان هذا هو الاحتفال بالمولد! وفي ذات صباح خرجت من داري، فإذا في المدينة شيء جديد، إذا البلد قد اكتست حلّة من أغصان الشجر مزينة بأزهار الغوطة، ولبست ثوباً من السجاد العجمي مزداناً بالصور، صور شتى لا تجمعها فكرة ولا تدل على شيء، فمن صورة عنترة بن

شداد على فرسه بشواربه التي تشبه سواري مركب إلى صورة السلطان عبد الحميد، ومن صورة الملك حسين إلى صورة فيل من فيلة الهند ... ومن فوقها الأعلام من كل لون وشكل، من علم البلاد إلى علم الطريقة الشاذلية إلى علم إيران! وخلال ذلك العشرات من المصابيح الكهربائية تضيء في عين الشمس، فتُغْني الشركة الأجنبية وتفقر الشعب (¬1). فسألت: فيمَ هذا كله؟ قالوا: هذا كله للاحتفال بالمولد! ومرَّت الأيام، وارتقينا فأصبح كل حيّ يقيم حفلة في المسجد، وغدت الحفلات تقام في البيوت وعلى قوارع الطرق. ولكن ماذا في هذه الحفلات؟ قصة حياته صلى الله عليه وآله وسلم. غير أن قصة الحياة تبدأ عند الولادة، والناس يختمون القصة إذا وُلِد، فكأنهم لم يقرؤوا منها شيئاً. ثم ماذا؟ أغانٍ وأناشيد، وأحلف لكم -أيها السادة- أنني سمعت مرة منشداً يقرأ في حفلة مولد أغنية غزلية معروفة، فلما انتهى منها قال: اللهم صلِّ وسلّمْ وبارك عليه، فقال الناس الأذكياء: اللهمّ صل وسلم وبارك عليه! ومرّت الأيام، وانتبه الناس فدَعَوا الخطباء يخطبون. هذا جيد أيها السادة، ولكن ما هي جدواه؟ يسمع الناس هذه الخطب، وتفيض لها حماستهم وتخفق قلوبهم، وتنطلق أيديهم ¬

_ (¬1) كانت شركة الكهرباء بلجيكية في تلك الأيام (مجاهد).

بالتصفيق وحناجرهم بالثناء، ثم تمر أيام الاحتفال وينغمس الناس كرّة أخرى في لجّة الحياة، فينسون الحفلة والخطب، ولا يبقى لها في نفوسهم إلا ذكرى ضئيلة أو صورة واهية لعبقرية خطيب أو براعة شاعر. هذا ما فكرت فيه ساعة أخذت كتاب جمعية «التمدّن الإسلامي» الذي تكلفني فيه بالكلام في هذه الحفلة؛ قلت في نفسي: لقد خطبت كثيراً من الخطب الحماسية المجلجلة وهززت الناس بها هزاً، فأين أثرها؟ لم يبق منه شيء. إذن فلن أعيد على الناس حديث الحماسة، ولن أقرأ عليهم صفحات التاريخ، ولكني سأحدثهم حديث الحياة. أوَلم يكن مولده صلى الله عليه وسلم حياة لهذا العالَم، وحياة الفضائل البشرية والمثل العليا؟ فلماذا لا تكون ذكرى هذا المولد مطلع حياة جديدة لنا؟ إذن فليكن موضوعي: «الإسلام والحياة». * * * أيها السادة، ليس الخطيب الجريء هو الذي يهزّ عواطف الجمهور بكلمات سطحية فارغة ولكنها رنّانة مثل الطبل، ولا الذي يصرّخ فيهم ويرفع صوته يزيّن لهم ما هم فيه ويحسّن لهم حاضرهم، ولكن الخطيب الجريء هو الذي يبحث بحثاً عقلياً، ويدرس ناحية من الموضوع درساً عميقاً، ويقول للجمهور: إن ما أنت عليه باطل، إن الحق هو ما سأسوقه إليك.

وأنا أعترف بأن الجماهير لم تألف عندنا هذا النوع من الخطباء، وأعترف أني لم أجرب أن أكون من قبلُ خطيباً من هذا الطراز، ولكني سأمتحن جرأتي وأضحّي بإعجابكم بي، ذلك الإعجاب الذي أناله بسهولة إذا خطبت فيكم خطبة حماسية وأثرت أعصابكم بذكرى الماضي الفخم، ولكني أكون خادعاً لكم لأني أُنسيكم بوصف هذا الماضي وعظمته أنكم في حاضر ليس فيه من تلك العظمة شيء. وبعد، فلندخل إلى الموضوع. إننا اليوم في مطلع نهضة جديدة تشمل أقطار هذا الشرق الإسلامي، ما في ذلك شك، وإن المبدأ الذي يمكن أن نصدر عنه في هذه النهضة هو الإسلام. ولقد يعترض علينا دعاة للوطنية الضيقة التي لا تتجاوز سوريا بحدودها السياسية، ويعترض علينا من يدعو إلى قومية سورية مستقلة، كما يعترض علينا دعاة الوحدة العربية، ويعترض غيرهم اعتراضات كثيرة ... ولكن هذه الاعتراضات كلها مردودة، ولقد فصلت هذا الموضوع في مقالة ترونها في الجزء الأول من مجلة «التمدن الإسلامي» الذي صدر في هذا الشهر الأنوَر، فلن أعيدها الآن عليكم. إن الإسلام -أيها السادة- يجب أن يكون الصلة الكبرى في نهضتنا الحاضرة، ولكن ذلك يحتاج إلى عمل، يحتاج إلى جماعة من العلماء يدرسون الكتاب والسنة درساً علمياً، ويفهمون حاجة العصر فهماً صحيحاً، ويستنبطون لنا ما نحتاج إليه من القوانين والنظم. فمن يقوم بهذه المهمة؟

إننا -أيها السادة- حيال طبقتين من المتعلمين: طبقة المتعلمين في المدارس النظامية والأجنبية، وطبقة المتعلمين على المشايخ وفي المدارس القديمة، وإذا شئتم التجوّز أقول: إن أمامنا شيوخاً وشباناً، وبين هاتين الطبقتين فرق كبير لا يُدرَك للوهلة الأولى؛ ذلك أن أسلوب التفكير عند الشباب يخالف تماماً أسلوب تفكير الشيوخ. أما الشباب: فقد تعلموا إلى حدّ ما طريقة الشك والبحث العلمي، فالشاب لا يطمئن إلا إذا شكّ أولاً، وحاكم المسألة وأدارها على وجوهها وشغل بها عقله، ولكنه يغلو في هذا الشك ويبالغ في تقدير قيمة العقل، فيريد أن يحكم به على كل شيء، مع أن العقل لا يستطيع أن يحكم على ما وراء المادة، والعلم لا دخل له في مسائل الغيبيات. وأما الشيوخ فعلى النقيض من ذلك: يعرفون روح الاتّباع، ويفزعون من الخروج على المألوف، فما قاله المؤلف أو الشارح فهو عندهم الصواب! مع أن نظرة واحدة إلى تاريخنا التشريعي والسياسي تكفي للدلالة على خطأ هذا الجمود. كان العرب أمة بدوية جاهلة لا شأن لها في الدنيا ولا خطر، فرفعها الإسلام، الإسلام وحده، حتى جعل منها أمة تعاونت مع الأمم التي شرفت بالإسلام، فأقامت حضارة تعدّ الحضارة العالمية الثانية بين ثلاث حضارات، الأولى حضارة اليونان، والثالثة أوربا. فإذا نحن ذكرنا هذه الحقيقة وآمنّا بأن الإسلام ابن حضارة وتمدن، ثم رأينا مكاننا اليوم من سُلّم الحضارة ونسبتنا

إلى الأمم المتمدنة، أيقَنّا بأن التقصير منا لا من الإسلام ذاته. الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولكن الإسلام ليس محصوراً في كتب الفقه وإنما هو في القرآن وفي السنة الصحيحة. ولقد قام أجدادنا الأولون بالواجب عليهم، أخذوا القرآن فقرؤوه وفهموه واستنبطوا منه (ومن السنة الصحيحة) القوانينَ الشخصية والحقوقية والجزائية والقانون الأساسي والأنظمة الإدارية والشرع الدولي، وتركوا لنا هذه المجموعة الفقهية النادرة المثال، التي تضمن حلّ كل مشكلة اجتماعية أو حقوقية عَرَضت لهؤلاء الفقهاء. ولكن الفلك دار -من بعدُ- دورات والزمان تبدل، فتغير العُرْف، وتحولت أوضاع المجتمع وأساليب التجارة وأشكال الحياة، ونشأ للإسلام خصوم من المبشرين والملحدين وعُبّاد العلم والجاهلين ودعاة الفجور والخلاعة، فماذا صنع العلماء حيال ذلك كله؟ هل تتسع صدوركم لسماع طائفة من الحوادث الصغيرة الواقعة؟ ذهبت إلى عالم فعرضت له طرفاً من المفاسد المنتشرة والحانات المفتوحة والمدارس المضلِّلة، وطلبت منه أن يساهم بعلمه في الإصلاح الخلقي والاجتماعي، فقطع عليّ حديثي وقال لي: "لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا كله، صار آخر الزمان فلن يفيد شيء". وأخذ سبحته، وقام ليذهب إلى رئيس الحكومة ليهنّئه بالعيد ويتزلف إليه لئلا يقطع راتبه الذي يأخذه بلا عمل. وذهبت إلى الثاني فحدثته، فقال: "هذا كله من الشيخ فلان،

هذا الوهابي الذي بثّ في نفوس الناس الفساد" ... فتركته. وذهبت إلى الثالث فسألته عن مسألة مما يعترض به أعداؤنا علينا، فأسكتني بشدة وقال لي: "لا تقل هذا، يُخشَى عليك"! قلت: يا سيدي، أنا أنقل كلامهم لأعرف ردّه، وناقل الكفر ليس بكافر. فقال: "أعوذ بالله من هذا الجيل"، وأعرض عني. لا تغضبوا أيها السادة، فلا أريد أن أقول إن العلماء كلهم على هذا النمط، ولكني أريد أن أقول إن أكثر علمائنا يعيشون بيننا وكأنهم يعيشون في القرن التاسع الهجري، ويفكرون بعقول أهل ذلك القرن، وهم بعيدون عن فهم روح العصر وعلومه لا يستطيعون أن يتفاهموا مع الشباب. أما الشباب فاسمعوا حديث الشباب: الشباب يقبلون كل شيء يجدون عليه طابع أوربا، ولو كان الفجور والكذب والحماقة والبلاء الأزرق، ويردّون كل ما عليه شارة الشرق وطابع الدين. وكل كلمة يقولها عالم من أوربا حق لا غبار عليه، وكل ما يقول علماؤنا سخف وجمود! * * * هذه هي حالنا؛ نحن نحتاج إلى من يفهم روح الإسلام ويدرك حاجة العصر، ثم ينقطع لدرس مسألة واحدة على أسلوب البحث العلمي وفي ضوء علم أصول الفقه، على نحو ما درس العلامة المصري الشيخ أحمد شاكر مسألة الطلاق، وهي من المعضلات، فوُفِّق في كتابه «نظام الطلاق في الإسلام» إلى أحسن حلّ لها مُستنبَط من الكتاب والسنة.

نريد من كل عالم أن ينتج لنا شيئاً. إننا نحتاج إلى كثير ... نحتاج إلى شباب ينقلون إلينا علوم الغرب التي برعوا فيها على نحو ما نقل التراجمةُ علومَ اليونان في مطلع العهد العباسي، ونحتاج إلى شيوخ يفهمون هذه الكتب ويبيّنون لنا حكم الدين فيها. نحتاج إلى شيوخ يؤلفون لنا كتباً جديدة بأسلوب علمي مفهوم، في الفقه والتوحيد والأصول والمصطلح وسائر العلوم الإسلامية، ونحتاج إلى شبان يقرؤون هذه الكتب ويتفهمونها. نحتاج إلى فقهاء يجدّدون لنا باب المعاملات في الفقه. وأرجو ألاّ تفهموا كلمتي على غير وجهها، فأنا أريد أن ننظر في أحكام الفقه، فما كان منها مستنداً إلى نص قاطع من كتاب أو سنة يبقى على حاله لأنه لا سبيل إلى تبديله مطلقاً، وما كان مستنداً إلى شيء من العُرف الذي كان سائداً في وقت من الأوقات، وتغيَّر اليوم هذا العرف، يتغير الحكم تبعاً له. وهذا هو مدلول القاعدة الفقهية: «لا يُنكَر تغير الأحكام بتغير الأزمان»، لا كما يفهمها بعض الببغاوات ممن درسوا «المجلة» في الحقوق، فيريدون أن يغيروا أحكام القرآن تبعاً لهذه القاعدة. * * * أنا لا أحب أن أجعل محاضرتي في الفقه والأصول، ولا أريد أن أسوق لكم أمثلة كثيرة أرهقكم بسماعها، ولكني أريد أن أقول: إن الزمان قد استدار كيوم بدأت الحضارة الإسلامية، وإن علينا أن ننشئ حضارة جديدة، لا هي بالغربية الخالصة ولا هي حضارة أجدادنا بكل فروعها، بل هي حضارة مقتبَسة من

الإسلام مطابقة لروح العصر. والإسلام ابن حضارة وعلم، ابن حياة ومدنية، فلا يجوز أن يكون متّبعوه عالة على الأمم في العلم والعمران. يجب أن نعود في كل علم إلى أربابه، فلا نبعث طلابنا يدرسون اللغة العربية إلى باريس كما تفعل وزارة معارفكم، ولا نقتبس تاريخ التشريع الإسلامي والقرآن والحديث من المستشرقين كما يفعل بعض مدرّسي الوزارة، كما أننا لا نعود في الطب إلى «تذكرة داود» كما يفعل بعض علمائنا! إن علينا واجباً ضخماً هو إبلاغ رسالة الإسلام لأهل القرن العشرين، ولا يتم ذلك إلا إذا فهم علماؤنا عقلية أهل القرن العشرين، ودرسوا أساليب التفكير فيه، واطلعوا على دخائل الحياة وأوضاع المجتمع ... وحينئذ يعلمون أن الأمر أكبر من أن تكفي فيه خطبة حماسية تُلقَى على منبر، أو كتاب يقرأ في مدرسة، أو حفلة تقام في زاوية، وحينئذ يمتنع أمثالي ممن لم يتخصص في العلوم الإسلامية عن أن يخوض فيها. أيها السادة، بهذا يكون الاحتفال بذكرى مولده صلى الله عليه وسلم: بنشر شريعته وإحياء دينه، لا بالخطب الجوفاء والزينة الباطلة وحفلات اللهو والطرب. أعاده الله عليكم باليُمن والفلاح. * * *

أساس الدعوة إلى الإسلام

أساس الدعوة إلى الإسلام نشرت سنة 1938 طلب إليّ الأستاذ أن أكتب كلمة لهذا الجزء الممتاز من «الكفاح» (¬1) واقترح عليّ هذا الموضوع، فقبلت على ضيق الوقت وقلّة البضاعة، ولكن لم أجلس للكتابة فيه حتى تشعّبت عليّ طُرُقه والتوَتْ عليّ سُبُل التفكير فيه، فرأيت أن أقصر الكلام فيه على ناحية واحدة هي أساليب الدعاية إلى الإسلام في المدارس، لأن هذه الناحية تمسّ عملي، ولأني أمارس الآن تدريس الدين. أنا أحمد الله على أني من الشباب الذين يفتخرون بإسلامهم، ويؤمنون بما جاء به، ويحرصون جهد الطاقة على التمسك به، ولكني حين أرجع إلى نفسي فأفتش عن سبب هذا كله لا أجد إلا هذه الصور التي استقرّت في نفسي منذ عهد الطفولة، وما رأيت في داري وبيتي، وما سمعت في دروس المشايخ وحلقات الوعّاظ. أما تلك المناقشات التي كانت تثار في الصف وتلك ¬

_ (¬1) نشر علي الطنطاوي هذه المقالة في جريدة «الكفاح» التي كانت تصدرها في بغداد جمعيةُ الهداية الإسلامية، وكان يعمل مدرّساً في المدرسة الغربية في بغداد تلك السنة (مجاهد).

الأدلّة التي كان المدرّسون في المدرسة يُجهدون بها نفوسهم، وتلك الدلائل التي يسوقونها يزعمون أنهم يثبتون بها وجود الله، فلم يكن لها أثر في نفسي ... اللهمّ إلا أثراً سيئاً، هو أنها غرست في عقلي بعض الشكوك وجرّأته على البحث فيما لا يحسنه العقل ولا يناله علمه ولا تبلغه طاقته. لذلك عزمت حين تسلمت درس الدين على أن أجتنب مثل هذه المناقشات في وجود الله وتفسير القدَر أو ما يشبه ذلك من الأمور الغيبية، وأن أعمد إلى تنبيه الإيمان في نفوس التلاميذ من طريق القلب لا من طريق العقل، وأن أُفهمهم حقيقة التوحيد قبل أن أشتغل معهم بفروع الفقه أو حكمة التشريع أو مسائل التفسير، فإذا عرفوا الله حق معرفته لم يعبدوا سواه، ولم يتبعوا مع أمره هوى ولا دفعهم إلى ارتكاب ما حرّم دافع. هذا هو أساس الدعوة إلى الإسلام. ولا نزعم أننا جئنا بشيء جديد حين قلناه، لأنه هو الأساس الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو رأس الأمر ومِلاكه، لم يبعث الله من رسول إلا لإرشاد الناس إليه. وليس معنى التوحيد أن يعتقد الإنسان بأن لهذا العالم خالقاً وأنه قديم باق متصف بصفات الكمال منزَّه عن أضداده، فهذا شيء فطري في الإنسان لا يستطيع نزوعاً عنه ولا انفكاكاً منه. وهذا شيء مقرَّر عند العلماء، حتى إن دوركايم يقول في وصف الإنسان إنه «حيوان متديّن» (مقابَلة لقولهم: الإنسان حيوان اجتماعي). وليس في الناس من ينكر وجود إله لهذا الكون إنكاراً

جدياً ويعيش حياته كلها على ذلك ويموت عليه، حتى الكفار من قريش الذين سمّاهم الإسلام مشركين، واختصّهم بهذه التسمية دون اليهود والنصارى من أهل الكتاب، كانوا يُقرّون بأن للكون إلهاً خالقاً: {وَلَئِنْ سَألتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السّماوَاتِ والأرْضَ لَيَقولُنَّ الله}، وكانوا إذا ركبوا في الفُلْك دعَوا الله مخلصين، وإذا لبّوا في حجهم قالوا: «لبّيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك». وكانوا يقولون عن آلهتهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرِّبونا إلى اللهِ زُلْفَى}. كل هذا معروف، وإنما بُعث الرسل لإرشاد الناس إلى عبادة هذا الإله وحده وتنزيهه عن الشريك وعن الشفيع، فمَن عرف أن للكون إلهاً قادراً قديماً باقياً سميعاً بصيراً، ولكنه عبد معه غيره واتخذ إليه شفعاء بغير إذنه، لا يكون مؤمناً ولا موحِّداً. وقد زود النبي صلى الله عليه وسلم العرب بهذه العقيدة، ثم قذف بهم في أرجاء الأرض فكانوا سادتها وملوكها وعلماءها وأساتذة الحاضرة فيها. فليس علينا إذا أردنا أن ندعو إلى الله في المدارس إلا تزويد الطلاب بعقيدة التوحيد، بشرط أن نسلك إلى ذلك طريق القرآن ونستعمل حججه، وندع هذه الكتب المتأخرة التي خلطت بين الفلسفة والعقائد خلطاً شنيعاً، وملأت صفحات منها كثيرة في سرد شُبَه المبطلين والردّ على أقوام بادوا ولم يبقَ لهم أثر. أين الجهمية مثلاً والقدرية والمُرجئة ولست أدري ماذا؟ فلماذا نشتغل بحفظ شُبَههم ونردّ عليها، ونحن نعلم أن السلف كلهم كرهوا ذلك وذمّوا من أجله علم الكلام، حتى أفتى بعض فقهائنا الحنفية بأنه إذا مات رجل وأوصى بمال لعلماء بلده لا يدخل فيهم

علماء الكلام؟ ونحن نعلم أن أمثال الفخر الرازي وإمام الحرمين الجُويني والغزالي -من سُرُج هذه المِلّة وأعلامها- قد عادوا قبل موتهم إلى عقيدة السلف وتركوا التأويل. * * * هذا ويجب أن يكون المدرّس مخاطباً قلوبَ الطلاب لا عقولهم، ولَرُبّ قصة من قصص الرقائق يسمعها المرء من واعظ أو قاصّ تبلغ من نفسه ما لا تبلغ أقوى الأدلة العقلية والبراهين المنطقية. ولا أريد من ذلك أن الإسلام يناقض العقل، معاذ الله، ولكن أريد أن أقول إن العقل لا يستطيع إدراك المغيَّبات ولا الحكم فيها، وقد بيّنت ذلك في فصل قديم في «الرسالة» أرجو أن يكون فصلاً من كتاب أكتبه في «الإيمان» (¬1). وكيف يحكم العقل فيما وراء الزمان والمكان وهو لا يدرك مسألة حتى يسأل: متى كانت وأين كانت؟ وكيف يحيط العقل المحدود بالله الذي لا أول له ولا آخر، لأنه هو الأول والآخر؟ فلندَع التدليل على هذه المسائل، ولنرجع إلى فطرة الإيمان في النفوس فلنستعن بها. قيل لرابعة العدوية: إن فلاناً من العلماء قد أقام ألف دليل على وجود الله. فقالت: لو لم يكن عنده ألف شك لما أقام ألف دليل! قالوا: فكيف إذن؟ قالت: إذا ضللت في الصحراء وأيِسْتَ من النجاة ماذا تقول؟ قال: أقول يا الله! قالت: هذا هو الدليل. ¬

_ (¬1) بعد نشر هذه المقالة بأكثر من ثلاثين سنة صدر كتاب «تعريف عام بدين الإسلام»، وفيه تفصيل وبسط لهذه المسائل كلها (مجاهد).

فيجب إذن أن نجعل التوحيد أساس الدعوة إلى الله، وأن نخاطب فيه القلب، وأن نتكلم بلسان الشرع ونستعمل حجج القرآن. * * * ولا يستقيم ذلك كله ولا يُجدي حتى يكون القائمون بتدريس الدين قدوة للطلاب في تديّنهم وتقواهم. أما أمثالنا فلا يصلحون! فيجب أن يُدّرس الدينَ رجلٌ يكون في سَمْته وأخلاقه وسيرته تقياً ورعاً، مجتنباً للمحرمات بعيداً عن الشبهات، فإذا كان كذلك نفعهم بسيرته وأخلاقه أكثر مما ينفعهم بعلمه. أما أن يدرّس الدينَ -والعياذ بالله- من يفطر رمضان جهراً (كما قد يقع) أو يترك الصلاة فلا، بل ربما كان إهمال درس الدين كله أنفع للطلاب وأجدى عليهم! ولا ينفع الأسلوب ولا المدرّس إلا إذا كان درس الدين داخلاً في الفحص المدرسي، يطالَب به الطلاب ويسقطون ويرسبون في صفوفهم إذا قصّروا فيه. ولست أدري كيف يرسب الطالب لقصوره في درس الرسم أو الرياضة، ولا يرسب لقصوره في درس الدين! هذه هو الأساس الذي أتمنى أن تُبنى عليه الدعوة إلى الله في المدارس. * * *

أين الخلل؟

أين الخلل؟ حديث أذيع سنة 1971 يا أيها الإخوة الذين يستمعون إليّ الآن، ويا أيتها الأخوات، أرجو أن تكونوا معي اليوم خاصة لا بآذانكم وحدها، بل بآذانكم وبقلوبكم. أرجو أن تَمُنّوا عليّ فتسمعوا كل كلمة أقولها في هذا الحديث. أرجو أن تمنحوني هذه الدقائق العشر اليوم كاملة، فيؤجّل المتحدث حديثه وتؤخر السيدة عملها، وتُقبلوا عليّ جميعاً، لأني أشرح مشكلة أرجو أن تشاركوني في حلّها. لقد مضى نصف رمضان، ومرّ منه خمسة عشر يوماً سمعتم فيها كل يوم حديثاً، وسمعتم من غيري، ممن هم أعلم وأفضل، أحاديث تُعَدّ إذا عُدَّت بالعشرات، أحاديث مختلفة الأساليب والموضوعات من محدّثين مختلفي الشخصيات مختلفي الإنشاء والإلقاء، ولكنها كلها تريد هدفاً واحداً وتسعى إلى غاية واحدة، هي الدعوة إلى الإسلام. فخبّروني: ماذا استفدتم منها؟ التلميذ عنده في كل شهر امتحان يُسأَل فيه عما بقي لديه مما أُلقِي عليه، والتاجر له في كل سنة أشهُر موازنة يحسب فيها ما

ربحه وما خسره، والذي يصعد الجبل يقف ليلتفت وراءه فيرى كم قطع من الطريق، وينظر أمامه ليرى كم بقي عليه حتى يصل. فاقعدوا وفكروا: ما هي حصيلة هذه الأحاديث؟ لا أشك أنها أثارت في أنفسكم لمّا سمعتموها الشعور بالإيمان، ولا أشك أنكم تعلمتم منها طائفة من المسائل المتفرقة، ولكني لست أسأل عن هذا، بل أسأل عن أمر آخر. أسأل: هل كان لها أثر في حياتكم؟ هل كانت لها نتيجة عملية ظهرت في أعمالكم أو في بيوتكم أو في أسواقكم؟ هل بدّلت شيئاً من أسلوب معيشتكم أو طريقة تفكيركم؟ * * * يا سادة، نحن نقول ونعيد ونكرر أن الإسلام دين ودنيا، الإسلام عقيدة وشريعة، الإسلام علم وسلوك، الإسلام يرافق المسلم في كل حين، فيبيّن له ما يَحِلّ له وما يَحرُم عليه، وما يُندَب له وما يُكرَه، يرافقه دائماً، إذا كان وحده، أو كان مع زوجته، أو كان مع أولاده، أو كان في تجارته في سوقه، أو وراء مكتبه في ديوانه، أو على مقعده في مدرسته، وفي العرس وفي المأتم، وفي السلم وفي الحرب. نقول هذا ونعيده ونكرّره حتى صار من الكلام المألوف، بل لقد صار من الحديث المُعاد المَمْلول. فتعالوا ننظر في حياتنا التي نعيشها في بيوتنا، في أسواقنا، وانظروا إلى أزيائنا وأزياء نسائنا، وسلوكنا وسلوك أبنائنا، ومعاملاتنا المالية وأوضاعنا الاجتماعية ... هل هي موافقة كلها للإسلام؟

أنا أسأل نفسي، أنا الذي يعظ مع الواعظين ويحدّث مع المتحدثين، والمفروض فيّ أن أكون عاملاً بما أقول؛ أسأل نفسي: هل أنا في حياتي كلها أطبق أحكام الإسلام وأمشي على طريقه تماماً وأحكّمه في أموري كلها؟ والجواب (مع الخجل ومع الأسف): لا. وليس معنى هذا الجواب أنني أرتكب الكبائر وأقطع السابلة وأشهد الزور وأعمل الفحشاء، بل معناه أن أسلوب حياتي، وأساليب حيواتكم، ووضع المجتمعات الإسلامية اليوم، ليس الأسلوب الذي حدده الإسلام تماماً ولا الوضع الذي يرتضيه. إن الطابع العام لحياتنا هو طابع الإفرنج وغير المسلمين، لا طابع السلف الصالح. تقولون: أتريد أن نركب الجمل بدلاً من الطيارة، ونوقد السراج عوضاً عن الكهرباء لنعيش مثل حياة السلف؟ لا، لا أريد هذا ولا الإسلام يريده. الإسلام يجعل الحكمة ضالّة المؤمن، ويأمرنا أن نأخذ النافع المفيد، وأن نكون أعلم الأمم وأقوى الأمم. ما هذا الذي أريد، ولكن أريد أن أسأل عن الدين، عن الخلق، عن المعاملة: هل نحن فيها أقرب إلى السلف الصالح أم إلى غير المسلمين؟ هل نهتم بالدين مثلما نهتم بالصحة أو بالمال؟ هل نتبع العادات الموروثة والمستورَدة ونتمسك بها، أم نَزِنها بميزان الإسلام ونقيسها بمقاييسه؟ هل نربّي أولادنا على ما يريد الشرع أو ما يطلبه المجتمع العصري؟ * * *

يا سادة، إن أخطر ما يتعرض له الإسلام أن يصير دين مسجد فقط، أن يظن واحد منكم أنه إذا صلى الصلوات الخمس مع الجماعة، وصام رمضان وحجّ، وقرأ كل يوم جزءاً من القرآن ولو بلا فهم، فقد صار من الصالحين، ولا عليه بعد ذلك أن يُلبس امرأته وبناته وفق الموضة مهما كان وضع هذه الموضة، وأن تكون معاملاته وفق العُرف التجاري مهما كان هذا العرف، وأن يفعل في ساعات فراغه كما يفعل الناس، مهما كان فِعْل الناس، لا ينظر في شيء من ذلك إلى حكم الشرع ولا يأخذ نفسه بتطبيقه. هذا أخطر ما يتعرض له الإسلام، وقد بدأ بعض المسلمين يفهمون الإسلام بهذا المعنى الخطير. أليس هذا صحيحاً؟ ألا تجدون المساجد ممتلئة بالمصلّين تمتدّ صفوفها يوم الجمعة إلى الشوارع، في أكثر بلاد الإسلام، بل في كل بلد من بلاد الإسلام؟ أوَليس من بين هؤلاء المصلين القاضي الذي يحكم بالقانون الوضعي المخالف لحكم الله، والتاجر الذي يأكل الربا الذي حرّمه الله، والذي يغشّ والذي يكذب، والذي يرتكب في بيته وفي عمله مجموعة من المحرَّمات؟ عفواً، أنا لا أقول إنكم جميعاً من هؤلاء، بل أقول إنه ليس بيننا إلا قليل ممّن عصم الله، يسير في حياته كلها في ضوء أحكام الشرع. لذلك سألت: ما الذي استفدناه من هذه الأحاديث؟ كم أُلقي عليكم من هذه الأحاديث من يوم أُنشئت إلى الآن؟ مئات ومئات ومئات، فما هو الأثر العملي لها؟ أكاد أقول بأسف: إنه ليس لها أثر في حياتنا العملية! حتى أنا الذي يعظ ويحدّث،

أسجّل الحديث ثم أسمعه، ثم أعود إلى أسلوب حياتي الذي رسمَته العادات الموروثة والمستورَدة وأعرافُ الناس وأوضاعُ المجتمع! ففكروا معي وقولوا لي: هل هذا الذي قلته صحيح أم لا؟ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ومواعظ السلف بدّلت الدنيا وغيّرت الأرض، وهدمت وبَنَت وصنعت دنيا جديدة، دنيا خير وبِرّ، فلماذا لا تفيد أحاديثنا ومواعظنا؟ لماذا لا يكون لها تأثير في حياتنا العملية؟ لماذا لم تبدل سلوكنا في الحياة؟ وإذا صح أنها لا تبدل سلوكنا ولا تؤثر فينا، فهل نتركها ونستريح من إعدادها ونريح السامعين من الإصغاء إليها، أم يمكن تبديل أسلوبها وطريقتها حتى تكون مؤثرة؟ هل العلة في أسلوب الأحاديث، أم في إعراض السامعين، أم في كثرة عوامل الهدم وقوّتها، أم في موت القلوب أو في قسوتها؟ وحيثما كانت العلة، فهل لها دواء؟ وما دواؤها؟ * * * يا سادة، لقد رجوتكم في مطلع هذا الحديث أن تكونوا معي بآذانكم وعقولكم، وأن تفتحوا له أذهانكم وقلوبكم لتفكروا معي في هذه المشكلة، ولتقولوا لي: لماذا تُلقى المواعظ ويسمعها الناس ولا يكون لها أثر؟ لماذا؟ ما السبب؟ * * *

حقائق مؤلمة

حقائق مؤلمة نشرت سنة 1946 [الكُتّاب أطباء الأمة، فإذا جامل الطبيب مريضه فكتم عنه داءه لم يبرأ منه أبداً.] هذا يوم المولد (¬1)، وإنه لمحطّة في طريق الزمان، فلنقف عليه كما يقف المسافر في المحطة ليلقي ببصره حوله، فينظر إلى أين يسير، وكم قطع من طريقه إلى غايته، وهل يمشي إليها على الصراط السويّ أم قد ضلّ عنها وجانَفَها، وهل يساير القافلة أم شرد عنها وفارقها؟ ولنحاسب فيه أنفسنا كما يحاسب التاجر نفسه، فيرى ما له وما عليه. أما أنا فقد وقفت ونظرت، فأنَبْتُ وقد فاضت النفس حسرة وامتلأت ألماً، وأيقنت أن الذي علينا أكثر من الذي لنا، وأننا قد خسرنا! ولم يكن التشاؤم من شأني ولا اليأس مذهبي، ولكن ما نحن فيه يُؤْيِس الآمل ويَكْرُب المتفائل. وأين -لعمري- باب ¬

_ (¬1) نُشرت المقالة في مجلة «الرسالة» في ذكرى المولد سنة 1946 (1365هـ) (مجاهد).

الأمل حتى أَلِجَه؟ وأية حال من أحوالنا تبشّر بالخير وتدعو إلى السرور: أحالنا في بيوتنا، أم في مدارسنا، أم في أسواقنا، أم في دواوين حكومتنا؟ وأي طبقة من طبقاتنا تتبع هدْي نبينا: أعلماؤنا، أم قادتنا، أم أدباؤنا، أم عامتنا؟ وأي بلد من بلداننا كان البلد الإسلامي الخالص: شامنا، أم مصرنا، أم عراقنا؟ * * * أما البيوت، وهي الحجارة في صرح الوطن، لا يصلح إن فسدت ولا ينهض إن تهافتت، فلقد كان العهد بها مؤسسة على التقوى، قائمة على الخلق النبيل والود المبذول. وكان الرجل فيها سيّداً يطيعه أهلها ويطيع هو ربه، وكان لعمله وبيته، لا يعرف غيرهما ولا يهمّه سواهما. وكان الولد برّاً بأبيه، والزوجة موافقة لزوجها، همّها دارها ومطمحها إسعاد زوجها وولدها. فتغيرت الحال، فصارت المرأة قَوّامة على رَجُلها، والولد متكبراً على أبيه، والرجل دارُه قهوته أو ملهاه أو ناديه، والمرأة بيتها الشارع ودينها زينتها، تتخذها لتتجمل بها للرجال الأجانب في الترام والطريق لا لزوجها في المنزل، وآثرَت على دارها زياراتها وسينماها. وربما خالف الزوج إلى غير أهله وخاللت هي غير زوجها، ونشأ الولد على المُجون وشَبّت البنت على الاستهتار ... هذا وميزان النفقات في البيت مختل، وحبل الود مصروم، والتعاون على الخير مفقود، وظل الدين غير ممدود. وما بقي من البيوت صالحاً فإن الفساد يسعى إليه، وهو يسعى إلى الفساد! * * *

أما المدارس فلقد كنا نعرفها مشارق أنوار العلم ومنابع الهدى، ونعرف المعلمين فيها مربِّين مهذِّبين ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء، ونعرف التلاميذ وهم طلاب علم وقُصّاد خلق، دنياهم مدرستهم وعملهم درسهم وأئمتهم معلموهم، فكانت المدارس تخرّج علماء ومهذِّبين أصحاب خلق متين ودين، تعتز بهم بلادهم وتسمو أوطانهم. فصار همَّ التلاميذ حزبٌ سياسي ينتسبون إليه ويصرِّخون في مظاهراته ويضعون أكتافهم سلّماً لزعمائه، يرتقون عليه إلى ما يشتهون من كراسي الحكم ... أو نحلة ينتحلونها ويحملون في صدورهم شارتها ويُهرعون إلى ناديها، ثم لا يفهمون من حقها أو باطلها إلا هذه المظاهر التي طلبوها لها وحدها، ثم يشتغلون عن الدرس بالخلاف عليها والكلام فيها، من غير فقه لها أو وقوف على مبادئها ... أو فلم سينمائي يحرصون عليه أكثر من حرصهم على دروسهم وعبادتهم، أو رواية في مسرح، أو صورة مكشوفة في مجلة. وصار المعلمون، أعني أكثر المعلمين، أصحاب شهادات لا علوم، ودعاة مذاهب سياسية أو اجتماعية لا دعاة إلى الله ولا إلى الخلق، وصاروا قدوة الطلاب في قصد السينمات والملاهي لا قصد المساجد والمكتبات، وصار منهم الشيوعي الذي يعلن شيوعيته، والقومي الذي يظهر قوميته، والجاحد الذي لا يتوارى بجحوده، والماجن الذي لا يتستر بمجونه، إي والله العظيم، ووُسدت الأمور إلى غير أهلها، فجُعل غير العالمين معلّمين، والمحتاجون إلى التربية مربّين، وتكلم في المسائل من ليس من أربابها، وتصدر في محرابها من لم يَلِج بابها، وجيء بالشباب

العُزّاب ليعلموا البنات، فكنا كمَن يُدْني سلكتي الكهرباء (¬1) حتى تنقدح شرارتهما، ويضع إلى جانبهما البارود ثم ينام الأحمق آمناً من الانفجار. ما بقي والله إلا أن نجيء بالبنات ليعلّمنَ الشباب، وما دمنا نمشي على هذا الطريق فما بقي شيء عجيب، وكل آت قريب! اللهم الطف بنا ولا تكلنا إلى أنفسنا، ولا تسلط علينا سفهاءنا، يا رب. * * * أما الأسواق فلقد كانت فيها التجارة فصار فيها الاحتكار، وكان فيها قوم منا يجلبون لنا أرزاقنا، فصار فيها أعداء لنا، يسرقون فيخزنون أقواتنا ليجمعوا القروش من جيوبنا فيجعلوها ذهباً في صناديقهم. ولقد انتهت الحرب وحل السلام، ولا يزال هؤلاء الفُجّار الأشرار يرفعون الأسعار ويكوون الفقراء بالنار، لا يعرفون الإنصاف ولا الرحمة ولا الإنسانية. * * * أما دواوين الحكومة فقد نسي من فيها أنهم أُجَراء الناس، يأكلون الخبز من فضل أيديهم ويجلسون مجالسهم هذه لخدمة مصالحهم، وحسبوا أنهم ملوك والناس لهم خَوَل، وسادة وهم لهم عبيد. ثم لم يكفِ أكثرَهم ما يأخذون من وقت من يرجع في حاجته إليهم ومن كرامة نفسه حتى أخذوا الرشوة من جيبه، ¬

_ (¬1) السلك جمع والناس يظنونه فرداً، والواحدة سلكة، وهي الخيط.

وربما ... ربما مدّوا أعينهم إلى عِرضه! وهم -بعد ذلك- جيش مجيَّش، نصفهم لا يُحتاج إليه ولا يُنتفَع به، قد جاءت به الوساطات والشفاعات فرفعته من غير كفاية على أهل الكفايات، ومَن اقتصر منهم على مرتَّبه ليعيش به عاش من قلّة المرتب حياة هي كالموت، ولم يكفِه المرتب ثمن الخبز، فكأن الحكومة تقول لصغار الموظفين: اذهبوا فاسرقوا لتعيشوا، فإن ثمن خبزكم أعطيناه لكبار الموظفين لينفقوه على الترف والسرف والقرف (¬1). * * * ثم إن العلماء، وهم عدّة الإصلاح ولُسُن الحق ودعاة الله، هربوا واختبؤوا في بيوتهم، فمنهم من لا يرى المنكر ولا يعرفه، ومنهم من يراه ولا ينكره، ومنهم من ينكره همساً، ومنهم من يعلن ولا يعرف الطريق الموصل إلى رفع المنكرات، ومنهم من ملأت قلبَه الدنيا فهو يسعى إليها ويزاحم عليها، وربما اصطادها بشبكة من لحية عريضة وقيّدها بسبحة طويلة وأخفاها تحت عمامة ضخمة، وذلّ من أجلها للحكام وخضع للأغنياء، وفقد القلب الذي يقتحم الأهوال واللسان الذي يصدع بالحق، فغدا يقول ولا يُستمَع لقوله، وينكر ولا يُلتفَت لإنكاره، وجُلّهم لا قلم له يخاطب به الناس ويسوقهم به إلى الحق ولا لسان، فكيف يكون داعياً من لا يكون خطيباً ولا كاتباً؟! * * * ¬

_ (¬1) القرف: الاسم من المُقَارَفة.

والقادة ما صاروا قادة بعبقرية اختصّهم بها الله، ولا بعلم اختصوا به أنفسهم وأحيوا في تحصيله لياليهم، ولا بعقل هو فوق العقول وذكاء لا يدانيه ذكاء، ولكنّما هي حرفة احترفوها ومسلك سلكوه: زيد وعمرو، أما زيد فجدّ واستقام ودرس حتى أكمل المدرسة، فصار معلماً أو كاتباً أو موظفاً، وأما عمرو فأهمل درسه وأضاع وقته، والتوى مع الطرق الملتوية فالتحق بالأحزاب وعاشر الأغراب، وولج حيث لا يَحْسُن الولوج وخرج من حيث يُستقبَح الخروج، ورفع ووضع وخرب وأصلح حتى عرفه الناس، فكان نائباً، ثم صار وزيراً، ثم تمّت آثار قدرة الله القادر على كل شيء فاستحال قائداً من القادة! * * * والأدباء وأهل الصحف، هَمُّ أكثرهم التزلّفُ إلى القراء والوصول إلى رضاهم، رأوا أقرب الطرق طريق الشهوة فسلكوه وركبوا فيه الصعب والذَّلول: من الصور العارية، والقصص المثيرة، وطريق الإغراب في عرض الأخبار، وتكبير الصغير، وتعظيم الحقير، وتشويه أوجه الحقائق ... فيقرأ الناشئ الشيء وضده، فلا يؤمن من بعدُ بشيء. وإن كان في الكُتّاب من يدعو إلى إصلاح في لغة صحيحة وأسلوب منقح لم يقرأه إلا الخاصة، وإن كانت مجلة على هذه الصفة لم يُبَع منها مع كل ألف من تلك عدد واحد! * * * ولعلي بالغت أو غلب عليّ التشاؤم، فلم أرَ إلا ما ذكرت

ووصفت، ولكني صدَقت ولم أقل إلا حقاً، ولعل الذي قلت أقل من الحق! إن العالَم اليوم واقف على مفرق الطرق، حائر بينها أيّاً يسلك منها. ونحن أشد أهل العالم حيرة وتردداً، فنحن في المكان الذي تلتقي فيه نِحَل الشرق والغرب ومذاهبهما كلها، فيأخذ كل واحد ما تصل إليه يده، ثم يصيح في الدعوة إليه، ثم يزاحم ليشق له طريقاً ... فنحن في زحمة وضجة دونها ما يَرْوون عن ضجة برج بابل، والله وحده يعلم عمَّ تنجلي. ففي الدين سلفيون وصوفيون، ودعاة إلى التمسك بالمذاهب وترك الاجتهاد ودعاة إلى الاجتهاد ونبذ التقليد، وإلى الأخذ بالحديث وترك كتب الفقه وإلى الاقتصار عليها، وفي البدع دعاة إلى القاديانية والبهائية والتيجانية ووحدة الوجود، وفي غير الدين شيوعيون وقوميون سوريون وملحدون ومستهترون ودعاة إلى السفور والاختلاط، وفي السياسة كتلويون وعُصْبَويون (¬1) ومعارضون ومؤيّدون، وعاملون للإنكليز أو للفرنسيين أو للروس، وقائلون بالجمهورية أو بالملكية، أو بالاستقلال أو بسورية الكبرى أو بالوحدة العربية ... والمناقشات مستمرة لا ¬

_ (¬1) «الكتلة الوطنية» معروفة، وكان أهم زعمائها إبراهيم هنانو وهاشم الأتاسي وشكري القوّتلي وفارس الخوري، أما العصبة فهي «حزب عصبة العمل القومي» الذي أسس في أوائل الثلاثينيات، وكان ضعيفاً قليل الانتشار فلم يجاوز تأثيره دمشق وحمص وبعض المدن القليلة الأخرى في سوريا (مجاهد).

تنقطع، والخلافات قائمة ما تقعد، قد انشقّت البيوت وانصدعت الأسر. وإني لأعرف أخوين: شيوعياً أحمر وعضواً في شباب محمد، شقيقين في دار واحدة وأبوهما شيخ طريقة! وأعرف شيوعياً وأبوه نقيب أشراف! فالإخوان في المنزل، والرفاق في المدرسة، والزملاء في الديوان، يختلفون أبداً ويتقاتلون. فعمَّ تنجلي هذه الغَمْرة؟ (¬1) الله وحده العالم. هذا في الشام، أما في سائر البلدان فليكتب عنها كتّاب من أهلها، يُفتَح في «الرسالة» باب من أبرك الأبواب وأكثرها فائدة ونفعاً، إذ إن أول الدواء تصوير الداء. * * * ¬

_ (¬1) الغَمرة: الشدة. وفي المثل: «غَمَرات ثم يَنْجَلين» (مجاهد).

بلا عنوان

بلا عنوان نشرت سنة 1968 أنا -يا إخوان- أزدادُ اقتناعاً كل يوم بأن أحاديثنا في الإذاعة وكتاباتنا في الصحف والمجلات، كلها لا تفيد. لقد تكلمنا كثيراً، فماذا أفادنا الكلام؟ لقد ألقيت أول خطبة عامة سنة 1345هـ، أذكر ذلك تماماً، وأنا من ذلك اليوم إلى اليوم أتكلم وأخطب وأكتب، وغيري يتكلم؛ آلاف الكتّاب والخطباء يكتبون ويخطبون، يملؤون الطروس (¬1) بروائع الفكر وبدائع الأدب، ويهزّون أعواد المنابر بمُعجزات البيان ومأثورات الخطب. فماذا كانت النتيجة؟ لقد شهدت عُرى الإسلام في هذه السنين الأربعين تنفصم عروة عروة، لقد شهدت صرح الإسلام يُهدَم لبنة لبنة! نحن كل يوم إلى ضعف وخصومنا إلى قوة. لم يكن في بلدنا قبل هذه السنين صوت يرتفع بما يخالف الدين، لم يكن فيها من يكتب أو يقول ما ينافي الإسلام. كانت المدارس، حتى على عهد ¬

_ (¬1) الطُّروس (والأَطْراس): الصحائف، والمفرد طِرْس (مجاهد).

الانتداب، تدرّس الإسلام وعلوم الإسلام. كان المدرسون -على الغالب- صالحين مصلحين، وكان الطلاب -على الأغلب- من المسلمين المتمسّكين بالدين. لم يكن في بلدنا كله امرأة واحدة سافرة ولا فجور مُعلَن، وكانت المساجد عامرة، وكانت الملاهي مقفرة، بل لقد كانت معدومة، ما كان في دمشق كله إلا ملهى واحد صغير حقير. فماذا صار فيها اليوم، وفي أكثر بلاد المسلمين؟ كان العلماء -على ضيق أذهان أكثرهم، واقتصارهم من العلم على كتب معينة يَقرؤونها ويُقرئونها- كانوا على هذا هم مرجع البلد وموئل الناس، وكانوا الأدلة في مسالك الحياة. فما حال العلماء اليوم؟ وكان الناس يقفون عند حدود الحلال والحرام، ويسألون في كل نازلة عن حكم الله، ويربّون أولادهم وبناتهم على خوف الله ووفق شرع الله، فما حال الناس اليوم؟ فماذا أفادت الخطب، وماذا نفعت الأحاديث؟ إنها تنفع وتفيد لو كان بعدها عمل، لأن كلَّ عمل أوّلُه كلام، أما إن اقتصرنا على الكلام فعلينا وعلى كياننا السلام! الطبيب يقول لك كلاماً: يصف لك الدواء لتستعمله، فتُتبع هذا الكلامَ عملاً، أما إن اكتفيت من طبّه بسماع كلماته، لم يكن بُرء ولم يأتِ الشفاء. * * * يا إخوان، هل أنتم مستعدون لسماع الحقيقة ولو كانت

مؤلمة؟ الحقيقة: إننا نقول وخصومنا (أعني خصوم الإسلام) يعملون، ونحن ننام وهم يسهرون، ونحن نشتغل بحكم السُّبحة ونكتفي من الإسلام بالدعوة إلى تقصير الثوب وتطويل اللحية، وهم يدرسون أحوال كل بلد ووضعه الديني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ويضعون لكل بلد المنهاج الموافق له لتضليل أولاده وناشئته وإخراجهم من دين الإسلام. يخططون لعشر سنين وعشرين، ونحن لا ننظر إلى أبعد مما بين أرجلنا ولا نمد أبصارنا لنرى ما أمامنا، ننتظر حتى تقع الواقعة فنعقد المؤتمرات ونتخذ القرارات، ونخطب الخطب الصاخبة المزلزلة ونكتب المقالات الملتهبة، ولكنها لا تحرق إلا أصابعنا، وعدوّنا ماض في طريقه لا يبالي بنا، لأنه خَبِرنا وعرفنا وعلم أنه ليس عندنا إلا الكلام وليس في خططنا إلا الارتجال. وفيمَ نكتب؟ في موضوعات معروفة قد فرغ العلماء من الكتابة فيها، ننقل مما في الكتب، لا نجدد ولا نبتكر ولا ندع الكتب لننظر إلى الحياة. نشتغل بالفروع والأصل مهدَّد، نحافظ على أوراق الشجرة والمنشارُ يعمل في قطع جذعها، نداوي أصبع المريض من أثر وخزة الشوكة، وندع المريض يعاني سكرات الموت من مرض القلب! قد فصلنا ما بين كتاباتنا وحياتنا، فانصرف الشبّان عن كتاباتنا حتى صار من إضاعة المال أن ننفق على ثمن ورقها وحبرها. إنها تكرار واجترار وبحث في الفروع وفي الآداب، مع أن الأمر أخطر بكثير من البحث في الفروع وفي الآداب ... الأمر أمر كفر وإيمان!

الإسلام مهدَّد. إنه لم يمرّ على الإسلام خَطْب كالخطب الذي يمر به في هذه الأيام. كان في الماضي أفراد ملحدون أو جماعات محدودة تحارب الإسلام، ولكن الإسلام اليوم يواجه قوى ضخمة. إنها دول غنية بالمال وبالسلاح، وعقول كبيرة شريرة تخطط لهذه الدول وتضع لها المناهج المدروسة؛ أموال تُعَدّ بآلاف الملايين، وبشر يُعَدّون بالملايين لتطبيق هذه المناهج. لقد استطاعوا أن يغزوا آخر بقعة من العالم الإسلامي، وأن يدخلوا في أصغر حلقة من المجتمع الإسلامي. دخلوا إلى المدارس فدسّوا ما يريدون في مناهجها، دخلوا إلى المحاكم فرفعوا منها أحكام الإسلام، دخلوا إلى وسائل الإعلام كلها فسخّروها لمآربهم، دخلوا إلى البيوت فتحكّموا في الأزياء وفي العادات ... لم يسلم منها أحد. أفسدوا العقول بالمذاهب والشبهات وباسم حرية الفكر. أفسدوا الأخلاق باسم الانطلاق والتحرر والروح الرياضية والحياة الفنية والحرية الجامعية، وبغير ذلك من الأسماء التي تتعدد ألفاظها ومعناها واحد، هو إذهاب العفاف وإضاعة الأعراض. فماذا صنعنا نحن أمام هذا كله؟ كتبنا مقالات كل ما فيها مكرَّر مُعاد، وخطبنا خطباً أكثرها كلام فارغ من المعنى، ثم ذهبنا فنمنا. فهل نستمر، أم نعترف بعقم هذا المسعى ونفتش عن مسلك آخر؟ يقولون إن الرجوع إلى الحق فضيلة، فلماذا لا نرجع إلى

الحق؟ الحق أن كل ما عملناه يتلخص في كلمة واحدة، هي (ولا مؤاخذة): إننا لم نعمل شيئاً! إن عملنا كله «لا شيء»؛ إنه «صفر». فلنبدأ من نقطة الصفر. إن الذي يريد أن يطلق النار على عدوّه في الحرب ينبغي أن يعرف أولاً أين هو عدوّه، وإلا أطلق النار إلى اليمين والعدو في الشمال. فلنعرف أولاً خطط أعدائنا لنرد عليها بخطط مثلها، لننتبه إلى مداخلهم علينا لنَسُدّ هذه المداخل. لنقلل من الكلام ولنكثر من العمل، لنترك الجعجعة والصراخ ولنتعلم العمل في صمت. يجب أن يكون للعمل الإسلامي قيادة نبيهة واعية تحشد القوى وتوزع الوجائب، فلا تكلف أحداً إلا بما يستطيع، ولا يجاوز أحدٌ ما كُلِّف به. لا أريد أن أدخل في التفاصيل، لأن أجدادنا كانوا يقولون: «ثبِّت العرشَ ثم انقُش»؛ فالنقش لا يفيد إن لم يُثبَّت العرش، وذكر التفاصيل لا ينفع إن لم يُقَرّ الأصل. بل إن التفاصيل لا يجوز أن تذكر في مقالة عامة ولا تُعلَن في خطبة، بل تكون سراً، كالخطة الحربية في القيادة العامة، تُحفَظ وراء خمسين قفلاً لتخرج رأساً للتنفيذ يوم المعركة. فهل لما قلت تحقيق، أم أنا أحلم يقظانَ، وأتمنى ما لا يكون؟ * * *

دعوهم وما يقولون

دعوهم وما يقولون نشرت سنة 1955 إن قالوا: «جامدون» فقولوا: نعم، نحن جامدون وأنتم مائعون! إن الماء الجامد كقطعة الألماس التي يبسم فيها النور وتقبّلها شفاه الشمس، أما المائع فيجري حتى يكون وحلاً تطؤه الأقدام. فأينا أنقى وأطهر: نحن الجامدين، أم أنتم أيها المائعون؟ وإن قالوا «رجعيون» فقولوا: نعم، ولكنها رجعة إلى أيام المجد الذي شدناه على قمة الدهر، والنور الذي أضأناه للزمان ليعرف طريقه إلى الخلود، والحضارة التي دِنّا بها البشر وجعلنا بها الإنسان خليقاً بالإنسانية. فهل تكرهون أن «نرجع» إلى مثل تلك الأيام؟ وإن قالوا: نحن «تقدميون»، فقولوا: نعم، ولكنكم لا تتقدمون إلا إلى الهاوية، هاوية الانحلال والفساد، تريدون أن تكونوا أحراراً في غرائزكم كحرية الدِّيَكة والحمير، فمن قرّبكم من هذه الهاوية فقال لكم: اهتكوا أستار العورات وارفعوا السجف بين الرجال والنساء، فهو تقدمي، ومن زلّ لسانه مرة

فذكر الدين، أو نطق بكلمة الخُلُق، أو قال: حلال وحرام، فهو رجعي من الرجعيين. وإن قالوا: نحن «اشتراكيون»، فقولوا: نعم، ولكنكم لا تعرفون من الاشتراكية إلا أنكم تشتركون جميعاً في التقليد القردي لأهل أوربا، وأنكم لا تعرفون الحق من الباطل إلا بدمغتها عليه، فما قالوه لكم قلتموه، وما وضعوه في رؤوسكم كررتموه تكرير الببغاوات واجتررتموه كالبقر! أما «الاشتراكية» فما رأينا عندكم منها إلا اسمها، تتجملون به في خطبكم ومباحثكم، وتتخذه أحزابكم الهزيلة شبكة تصطاد بها الأصوات يوم الانتخاب! وإن قالوا: «الروح الرياضية»، فقولوا: نعم، ولكن رياضتكم جسد مكشوف بلا روح، والرياضة رياضة النفس قبل رياضة الجسم، وروحها التعاون بإخلاص، والإقرار بالحق، وأن لا يزدهيك النصر ولا تحطمك الهزيمة ولا يداخلك اليأس، وأن يكون عليك من نفسك رقيب يحاسبها قبل أن تحاسَب، وأن يكون لك من إرادتك قيد لشهواتك ... فأين أنتم من هذا كله، وأنتم بطّاشون عند الظفر، خَوّارون عند الصدمة الأولى، قد تعبّدَتكم شهواتكم وتحكمت فيكم غرائزكم، ثم إنكم مختلفون متباغضون متحاسدون، لا تعرفون من التعاون إلا أنه كلمة تنطق بها ألسنتكم وتكذب بها أفعالكم؟ وإن قالوا: «المساواة بين الجنسين»، فقولوا: نعم، وسوف نَسُنّ قانوناً يوجب أن يحبل الرجل مرة وتحبل المرأة مرة، ويُرضع سنة وترضع هي سنة، وبذلك يتساوى الجنسان ويجتمع

النقيضان، فيصير الرجل امرأة وتصير المرأة رجلاً، ويتحقق ما تريده الجمعيات النسائية! وإن قالوا «أتردّوننا إلى الوراء وترجعوننا -ونحن في عصر الذرة- إلى غار حراء؟» فقولوا: الحق معكم، إن الزمان ماض إلى الأمام، وكل قديم قد جَدّ في مكانه ما أوجب تركه، لذلك تركتم الدين أولاً، ثم رأيتم العقل أقدم من الدين، فتركتموه وغدوتم من بعده مجانين! * * * ومهما قالوا من أشباه هذا الهذر فلا تبالوه ولا تحفلوه، واجعلوا ردكم عليهم هزأ به وسخرية بأهله، وأن تبقوا سائرين في طريقكم إلى غايتكم. فإنهم ما يقصدون إلا تعويقكم عنها وإقامة الأشواك في سبيلكم إليها، وغايتكم -يا أيها الشباب المسلمون- في السماء، ستركبون إليها الرياح وتسيرون على هام السحب، ولقد أُعِدّت طيارتكم وهدرت محركاتها، وستمشون على درب من شعاع الشمس لا على محجّة من تراب الأرض، فهل تعوق الأشواك من يشق طريقه في كبد السماء؟ إنهم لا يملكون إلا أن يقولوا، فدعوهم وما يقولون. * * *

تعليق مختصر على خبر

تعليق مختصر على خبر نشرت سنة 1947 هذا الخبر الذي جاء فيه أن معيداً في كلية الآداب أعدّ أطروحة ينال بها لقب «دكتور»، فلم يجد لها موضوعاً إلا «القصص في القرآن»، ولم يجد ما يقوله عن القصص في القرآن إلا أنه أساطير الأولين، وأنه كذب مُفترَى، وأنه مستمَد من التوراة ومن أدب فارس ويونان، وأن الأستاذين الأحمدَين (¬1) الفاضلين حكما بردّ الأطروحة وإسقاطها، واختلفا في تعليل الحكم، فكانت العلة عند الأستاذ الأمين الجهل، وعند الأستاذ الشايب الكفر ... وعندنا أنهما معاً، لأن هذا لا يجيء إلا من ذاك. وفي الخبر أن الذي أشرف على إعداد الأطروحة وأعان عليها شيخ بعمامة بيضاء من أساتذة الكلية، وأن هذا الشيخ عزّ عليه إسقاط الأطروحة فغضب (والغضب لله وللحق من الفضائل)، وقال إنه متضامن مع مقدِّم الرسالة في كل حرف منها، وإنه لا ينبغي الوقوف أمام حرية الفكر. ولو انتهت القصة عند ردّ الأحمدين، ولم يكن صاحب ¬

_ (¬1) أحمد أمين وأحمد الشايب، كما يظهر من سياق المقالة (مجاهد).

الأطروحة مدرّساً، ولم يُدخل نفسَه فيها هذا الشيخُ لينصر الكفر ويدفع عن الإلحاد ويؤيد الجهل ... لقلنا شاب أراد أن يتعجل الشهرة قبل أوانها، ورأى طريق العلم والتحقيق طويلاً، فسلك طريق جهنم وأراد اجتياز الصراط فسقط، وسكتنا، ومرّت الحادثة كما مرّت أحداث أمثالها وشرّ منها، ظن مُحْدثوها أنهم هدموا الإسلام ونسفوه نسفاً وصرفوا الناس عنه صرفاً، والإسلام لم يشعر بها ولم يحسّ بوقعها، ولم يزدَدْ عليها إلا قوّة وانتشاراً. ولكن دخول هذا الشيخ في المجادلة على صدق القرآن وكذبه، وكون طالب الأطروحة موظفاً رسمياً ومعيداً في الكلية، أمر لا يُسكَت عنه ... وهذا الذي نقوله اليوم أول الغيث. * * * ومقالنا اليوم تذكير لهذا الشيخ بأنه ليس من أصحاب العقول الكبيرة والبحث العلمي ليكفر إذا كفر عن بيّنة، وما به إلا أنه رأى أديباً زلّ من عشرين سنة فقال كلاماً مثل هذا، فملأ اسمه الدنيا وشغل الناس، فأحب أن يكون مثله! ولندع الدين، ما دمت -يا مولانا الشيخ- تحسب أن الخروج عليه مدنيّة وتقدّم، وأن الأخذ به رجعية، وأنك أعلنت الكفر وجهرت به واخترته والعياذ بالله لنفسك، ولنأخذ العلم والمنطق والتاريخ: فهل في العلم والتاريخ شيء يؤيد ما جاء في الخبر أن الأطروحة اشتملت عليه، وما أعلنتَ أنك مع المؤلف في كل حرف منه؟ وبأي دليل من أدلة العلم، وفي أي كتاب من كتب التاريخ، ثبت لك ولصاحب الأطروحة أن الله قد اقتبس

قرآنَه من أدب فارس ويونان ومن كاذب الأساطير؟ تعالى الله عمّا يقول الكافرون عُلوّاً كبيراً. وإذا لم يكن القرآن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا من جهة فارس ولا من جهة يونان، وكان من تصنيف محمد صلى الله عليه وسلم، وكان قد اقتبسه من التوراة ومن آداب الأمم ومن أساطيرها، فكيف خفي ذلك على أسلافك من أنصار حرية الفكر، من اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة وكل عدوّ للإسلام خصيم للقرآن، فلم يؤلف فيه أحدٌ ولم يُثبته حتى جاء تلميذك هذا فكتبه، لتكافئه الدولة على كفره بدينها الرسمي وطعنه بقرآنها بإعطائه شهادة الدكتوراة، وتسليمه أبناء المسلمين ليلقّنهم هذه الآراء على أنها علم وفضل، وأن الذي لا يحفظها ويعيدها يوم الامتحان يرسب في صفه إنْ طفا الطلاب؟! وحرية الفكر؟ ما حرية الفكر يا هذا؟ كيف تفهمها؟ أكلما طاف برأسك طائف من هوى أثْبتَّه على الورق وخرجت به مزهوّاً على الناس، وقلت: هذي حرية الفكر؟ أما إنه ليجيء في فكري أنا الآن كلام عنك، لولا أني لم أعرض هذه المقالة على الأستاذ الزيات، وأني أخاف أن يغضب إن حططت عليك بثقلي، لقلته فما تركتك تستطيع أن تمشي في الجامعة أو تتراءى للطلاب ... فارتقبه، فكل شيء له أوان، وما أنت بمعجز الله في الجامعة وقد أهلك فرعون وهامان وأبا جهل. وما لك تكره أن أسبّك بعلم، وتسب أنت الله عَدْواً بغير علم؟ ولا تحب أن أقول في كتابك الذي لفَّقْتَه كلمة الحق،

وتقول أنت في كتاب الله كلمة الباطل؟ وما لك لا تجرؤ أن تقول لواحد من هؤلاء الكتّاب أخرجَ كتاباً تلقّاه الناس بالقبول: "إنك تكذب"، وتنسب الكذب إلى الله المنتقم الجبار؟ أغَرَّك -ويلك- حلمه عنك، وأنه مَدّ لك حتى صرت تعطي الدكتوراة وأنت لم تأخذها، وتمنح العلم وأنت لا تملكه، وتؤلف في البلاغة وما أنت منها في شيء، ولا أُثِرَ عنك بيان غطّى على بيان الجاحظ وأبي حيان والرافعي والزيات، ولا أنت صاحب شعر ولا نثر، وقُصارى أمرك أنك أُدخلت على طلاب لا يفهمون من البلاغة إلا بمقدار ما يفهم من الصحافة صاحب «القبس»، فمَخْرَقْتَ عليهم وزعمت لهم أنك إمامها وأنك مؤذّنها وخطيبها، ورأيتهم صدَّقوا قولك فزدت فادّعيت أنك باني مسجدها ورافع منارتها، ولو أنت ادعيت النبوة فيهم ما وجدت منهم من يكذّبك أو يكفر بك، ما داموا يأخذون منك الدرجات في الامتحان، ثم يخرجون كما دخلوا، لا أنت علمتهم ولا هم تعلموا منك! وكيف يتعلمون وقد جعلت دروس البلاغة عِيّاً، والفصاحة عامية، وكانت دروسك ذلك الخزي الذي نشره في «الرسالة» الأستاذ العمّاري، فكان تسلية لقراء الرسالة وفكاهة ضحكوا عليك به شهراً؟ لقد كان كفراً مبتكَراً منك حين زعمت -في تلك الدروس- أن الله قال لمحمد: «يا أخي»، فكيف قعدت بك القريحة اليوم فلم تأتِ إلا بكفر عتيق قيل في مصر من عشرين سنة، وقيل في مكة قبل الهجرة، فكان سخرية الأوّلين والآخرين؟ ولقد بعثتَ يومئذ من يدافع عنك في «الرسالة»، فلم يبلغ به أدبه مع

الله ودينه، ولا علمه وبلاغته، ولا معرفته بتصريف الكلام، إلا أن يحتجَّ على جواز زعمك أن الله قال لمحمد «يا أخي» بقول الحَمّار لحِماره: «يا أخي»! ولم أردّ عليه لأني لم أكن أعرف -قبل أن أسمع ردّه هذا- شيئاً من لغة الحَمّارين والحمير ولا قواعد المناظرة في لسانهم! * * * وبعد، فما أريد اليوم الرد على هذين الرجلين ولا تأديبهما؛ إنما أردت تنبيه رجال المعارف في مصر التي دينها الرسمي الإسلام، وعميد الكلية العربي المسلم الذي اسمه الدكتور عزام، إلى هذين المدرّسَين اللذين يعلنان الكفر بالله والطعن في القرآن، والإهانة لكل مسلم يرى في مصر دار الأزهر ومثابة العلم، وهما يأخذان أموال الأمة ليلقِّنا أبناء مصر وأبناء الشام والعراق والحجاز واليمن والمغرب وكل بلد يبعث بأبنائه إلى هذه الجامعة مثلَ هذه الكُفْريّات، التي يعتقدانها ويكتبانها ويصرّان عليها، ولا يخافان فيها الله ولا الحكومة ولا العلماء ولا العامة. وأنا أرقب ما تصنع وزارة الأوقاف وما يصنع الأزهر وعلماؤه، لأستخير الله فيما أصنع أنا بعد، وما يصنعه هذا القلم الضعيف في نفسه القويّ بالله وبدينه وبقرآنه. وما بسيفي أضرب، ولكن بسيف محمد، صلى الله على محمد وسلّم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) نشر علي الطنطاوي هذه المقالة وهو مقيم في القاهرة، وقد أشرف في تلك السنة (1947) على تحرير «الرسالة». والمقالة نموذج يمثل=

¬

_ = أسلوبه في الهجاء والسخرية تمثيلاً حسناً. وقد نشر من مثل هذه المقالة الكثير، واعتزم ذات يوم أن يجمع هذا الكثير في كتاب سماه «مناظرات ورُدود»، ثم كره ذلك وأعرض عنه لمّا تقدمت به السن، وكان قد مال عن هذه الأساليب وهجرها من أُخريات الشباب فلم يَعُد إليها إلا قليلاً، فهي تظهر في كتاباته المتأخرة كلما غضب لله غضبة لم يقدر على كبتها أو ردّها (كما في مقالة «القومية والإسلام» التي تجدونها في آخر هذا الكتاب) (مجاهد).

اتفاق الدعاة

اتفاق الدعاة حديث أذيع سنة 1974 تكلمت البارحة كلاماً عاماً توجّهت به إلى السامعين من متعلمين وغير متعلمين ومن الرجال ومن النساء، حاولت فيه أن أنشر من حولهم أَرَج المحبة وصفاء الود ومحو الخلافات أو تناسيها، وأنا أحب أن أوجه الليلة مثل هذا الكلام إلى إخواني العلماء والدعاة على وجه التخصيص، لا إلى علماء هذا البلد وحده، بل إلى علماء كل بلد يصل إليه كلامي فيسمعه أو يُنقَل إليه فيعيه ويفهمه. وأنا أقوله والله بإخلاص، ولست أحمل لأحد من العلماء ضِغناً ولا بغضاً، وكيف أحذّر من شيء وأنا مبتلى به، فأكون كمَن يأمر الناس بالبِرّ وينسى نفسه؟ وأنا أعوذ بالله من أن أكونه. نحن نحتاج إلى الدعوة إلى الله، فمن الذي يدعو إليه وإلى دينه؟ ونحن نحتاج إلى من يعلّم الناس الإسلام ويشرحه لهم، فمن يشرح للناس الإسلام؟ الجَهَلة والفُسّاق؟ العلماء طبعاً. وأنا أعرف من العلماء عشرات وعشرات في كل بلد زرته (وقد زرت أكثر بلاد الإسلام)، علماء هم في الفهم والعلم

والصلاح والتقوى على قَدَم العلماء العاملين من السلف الصالح. ولكنهم ما خرجوا عن كونهم بشراً، فبين بعضهم وبعض خلاف، خلاف شخصي حيناً، واختلاف في فهم الإسلام أحياناً. واسمحوا لي أن أذكر أمثلة عن هذه الاختلافات. ولست بذكر الأمثلة أقول إنها كلها صواب، ولا أقرّها كلها، ولكني أذكر الخطأ والصواب لأبيّن مدى الاختلاف بينهم. من العلماء من يرى الإسلام في اتّباع أحد المذاهب الأربعة، ومنهم من يرى ترك التقليد والأخذ من الكتاب والسنة رأساً، ومنهم من يسلك مسلك السلف، ومنهم من يلتزم بطريقة من الطرق الصوفية، ومنهم من يُؤثر رأي عالم من العلماء غير المذهبيين كابن حزم مثلاً، ومنهم من يرى التنفير من آرائه والدعوة إلى تركها، ومنهم من يأخذ آداباً معينة من آداب الإسلام، يقتصر عليها ويعلّمها تلاميذه على أنها هي الإسلام. ولا يقتصر الأمر على هذا الاختلاف، بل إن كل واحد يرى الحق فيما هو عليه ويجادل المخالفين له، وقد انتقل هذا الاختلاف في الفهم وهذا الجدال بين أهله إلى الشبّان. ولقد عدت إلى دمشق في هذا الصيف بعد غيبة امتدت أربع سنوات، فوجدت ظاهرة غريبة عجيبة، هي رجعة الشبّان والشابات من طلبة الجامعات وطالباتها إلى الإسلام، رجعة بقوة وحماسة واندفاع، وإقبال الشبان على مجالس العلماء والدعاة والفتيات على دروس الداعيات. وأشهد أن هؤلاء الشبان والشابات قد بلغوا الغاية في عمق الإيمان، وصدق التدين، واستقامة السيرة،

والإقبال على العلم والعبادة، ولكن سرى إليهم داء الاختلاف والجدال، فتفرقوا وأضاعوا وقتهم في المناقشات، وجعلوا بأسهم بينهم بدلاً من أن يكون بأسهم على عدوهم وعدو دينهم. ومن هؤلاء المشايخ مَن نسي أن الدين بُني على خمس، هي الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحج، ويتخذ لنفسه أصولاً يبدأ الشبّان بها ويبذل أكبر جهده في سبيلها، وقد تكون من فروع الفروع؛ كمن يأتيه الشاب الذي يجهل ما هو الإسلام فيعلمه أوراداً معينة من أوراد الطريقة قبل أن يعلمه أحكام الطهارة والصلاة، أو يلزمه بتطويل لحيته قبل تصحيح عقيدته، فيظن أن اللحية هي عماد الدين، فإذا طولها فسخر منه رفاقه أو ناله بالأذى مجتمعُه فحلقها، ظنّ أنه خرج من الإسلام بهدم عموده فترك الصلاة وأتى المحرمات. فالإصلاح إذن يكون باجتماع هؤلاء العلماء، من سلفيين وصوفيين وآخذين بالحديث ومقلدين لأحد المذاهب، فإذا اجتمعوا نظروا في المسائل التي يختلفون عليها والمسائل التي يتفقون عليها، فما كانوا متفقين عليه تعاونوا جميعاً على الدعوة إليه، وما كانوا مختلفين فيه عرضوه على كتاب الله وسنة رسوله الثابتة الصحيحة، فإن كان شيء مخالفاً لذلك تركوه أو أعلنوا مخالفة من يقول به للإسلام، وما كان من المسائل الفرعية الاجتهادية التي ليست من أصول الدين ولا يضر الاختلاف فيه بقي كلٌّ على رأيه، ولكن لا يدعو إليه ولا يناقش فيه. أي أننا نأخذ بكلمة أخينا الشهيد مجدّد الإسلام في هذا العصر، الشيخ حسن البنا رحمه الله، وهي أننا نتعاون فيما اتفقنا

عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه. وهو يقصد طبعاً الاختلاف في الأمور الاجتهادية التي يسوغ الشرع الاختلاف في مثلها توسعة على الناس، أما الأمور التي تمسّ أصل العقيدة، أو يكون فيها تحليل حرام متفَق على حرمته، أو تخالف ما أجمع عليه المسلمون وعُلِم من الدين بالضرورة، فهذه لا يمكن التساهل فيها. وهم جميعاً متفقون على وجوب محاربة الإلحاد، من أي فم خرج ومن أي طريق جاء. وهم متفقون على وجوب مكافحة الفواحش في أي بلد كانت ومن أي من الناس صدرت. وهم متفقون على وجوب إقامة الفرائض، ونشر الفضيلة، ومطاردة الفساد، والترغيب في الجهاد لإنقاذ قبلة المسلمين الأولى. فليتفق العلماء إذن على قصر جهودهم كلها على هذه المسائل ويتعاونوا جميعاً عليها، وليؤجّلوا البحث في المسائل الخلافية التي تفرق الجَمع وتشتّت الشمل وتشغلنا بأنفسنا عن عدونا. * * * إن أمامنا معركة هي معركة كفر وإيمان، فلنوفر قوانا كلها لها، ولا نجعل بأسنا بيننا، ولا نشتغل عن المعركة الأصلية بمسائل فرعية لا يضرّ الاختلاف فيها. والغريب أن هذا الكلام -على وضوحه وصحّته- يحتاج كما يظهر إلى زمن طويل وجهد كبير حتى يقتنع به الدعاة ويجعلوه واقعاً. * * *

الدين ثقيل والجزاء عظيم

الدِّين ثقيل والجزاء عظيم حديث أذيع سنة 1961 زرت أمس صديقاً لي، فيه سذاجة وفيه دين، فوجدته يقرّع ولده ويرفع صوته عليه ويسبّه، وقد بلغ به الغضب الغاية. قلت: مهلاً يا أخانا، مهلاً. هوِّنْ عليك وخبِّرني بالقصة. قال: ألا ترى هذا الخبيث قليل الأدب؟ قلت: ما له؟ قال: إنك تعرف أولاد عمه الثلاثة، وتعلم أن فلاناً منهم هو الصالح المصلح وأن الأخوين الباقيين من الجَهَلة الفُسّاق الذين يتبعون شهواتهم، لا يُحرّمون حراماً ولا يمتنعون من ممنوع، وكلما حملته على صحبة الصالح تركه فصاحب أخويه، ثم بلغت به الوقاحة أنْ مدحهما وذمّه. قال الشاب: ما ذممته، ولكن قلت إنه ثقيل. فزاد الغضب بالأب، وقال: أرأيت الفاعل التارك؟ يقول عن الرجل الديّن الصالح ثقيل! قلت: أنا لا أقول بمقالته، ولكني أقول إن الدين نفسه ثقيل.

فارتاع الأب وصاح: أعوذ بالله! أنت تقول هذا؟ ودُهش الولد وفتح عينيه. قلت: نعم، أنا أقول هذا، وهذا هو الحق. هذه طبيعة النفس البشرية؛ إن الله خلق النفس أمّارة بالسوء مَيّالة إلى الانطلاق من كل قيد والوصول إلى كل لذة، فيأتي الدين فيقيّدها ويمنعها من كثير من اللذائذ، فيَثقل عليها. إن ابن العم الفاسق يأخذه إلى السينما فيجد فيها لهواً تستريح نفسه إليه وجمالاً مكشوفاً يتلذذ برؤيته، أو إلى الملهى حيث يجد أمامه حقيقةً ملموسة ما رأى في السينما صورتَه معروضةً مرئية، وينطلق معه يطلب كل متعة، ويطرق معه كل باب ويسلك معه كل طريق، ويفعل كل شيء ... فيأتي ابن عمه الصالح فيقول له: ابتعد عن السينما، وعن الملهى، ولا تطرق إلا أبواب الخير، ولا تسلك إلا طرق الطاعة، فيقيّده. إن الدين قَيْد، وكل قيد ثقيل على النفس. يرى الشاب البنت الجميلة كاشفة الساق بادية النحر، فيقول له الشيطان: انظر إليها ما أجملها! ويخيّل له صورة المتعة بها، وتستجيب النفس للشيطان فتمتلئ رغبة بالنظر وتشوّفاً إليه، فيأتي الدين فيقول له: لا، هذا حرام. ويكون نائماً في الصباح، والفراش دافئ والجو بارد والنوم لذيذ، فيقول له الدين: اهجر فراشك الدافئ واترك نومك اللذيذ، وتوضأ وقم إلى الصلاة. ويجوع، ويرى الطعام أمامه، ونفسه تشتهيه والشيطان يرغّبه فيه، فيأتي الدين فيُلزمه بالصيام ويقول له: امتنع عن الطعام. ويجد

التاجر الكسب الحاضر والربح الوفير، فتميل إليه نفسه وتتعلق به رغبته، فيقول له الدين: اترك هذا الربح لأن فيه ربا، وهو حرام. ويرى الفتى بنت الجيران، فيشير إليها وتشير إليه، ويكلمها وتكلمه، ويرغب فيها وترغب فيه، وتشغله عن كل عمل فلا يفكر إلا فيها ويشغلها عن كل شغل فلا تفكر إلا فيه، ويربط الشيطان حبله بحبلها ويمهّد له الطريق إليها، فيقول له الدين: ابتعد عنها، لا تنظر إليها ولا تفكر فيها إلا بالزواج الحلال. لذلك يرى الشاب الدين ثقيلاً، لأنه مجموعة قيود. والله نفسه وصف القرآن بأنه ثقيل، أي ثقيل على النفوس بما فيه من التكاليف والأوامر، فقال: {إنّا سَنُلْقي عَليْكَ قَوْلاً ثَقيلاً}. وأثقل التكاليف أن تترك اللذة الحاضرة المطلوبة أملاً بلذّة غائبة مجهولة، وهذا هو الإيمان بالغيب. ولذلك أعدّ الله الثواب العظيم للمؤمنين بالغيب، وأثنى عليهم وبيّن أن ذلك أول صفة من صفات المتقين: {ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فيه هُدَىً للمُتَّقينَ، الذينَ يُؤْمنونَ بالغَيْبِ، ويُقيمُونَ الصّلاةَ، وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُون}. ومن هم المؤمنون بالغيب؟ ليسوا الذين يقولون بألسنتهم «آمَنّا»؛ بل الشاب المؤمن بالغيب هو الذي يرى رفاقه يسلكون طريق الفسوق، وهو يميل إليه، ويعالج في نفسه مثل حرّ النار من الرغبة فيه، ويتقلب في فراشه لا يستطيع أن ينام من تفكيره فيه، ولكن يقاوم نفسه ويكبت رغبته، ويترك هذه اللذة الحاضرة طمعاً باللذة الموعودة في الآخرة. والموظف المؤمن بالغيب هو الذي يرى زملاءه يَمُدّون أيديهم إلى المال الحرام فيكونون به

من أولي السَّعَة والغنى، وهو يقنع بمرتبه القليل ويصبر على الضيق أملاً بالغنى والسّعة في الآخرة. والمرأة المؤمنة بالغيب هي التي ترى صاحباتها يتّبعنَ الموضة ويسلكن طريقها ويكسبن إعجاب الناس، وهي تَقْدر على ذلك وتميل إليه، ولكنها تخالف نفسها وتقيم على حجابها، وترضى أن يقولوا عنها «متأخرة» أو «مجذوبة» رجاء المكافأة في الآخرة. المؤمن بالغيب هو الذي يمتنع عن الحرام مهما كان لذيذاً ومهما كان مفيداً في الدنيا، لينال الثواب في الآخرة. وهذا شيء ثقيل على النفس. وابن الجوزي أشار إلى هذا المعنى في كتابه «صيد الخاطر»، فقال إنه ليس العَجَب ممّن يتّبع هواه ويبتغي اللذّة، سواء أكانت في الحلال أم في الحرام، بل العجب ممّن يخالف نفسه وهواه ويتبع رضا الله. قال: "جواذب الطبع إلى الدنيا كثيرة، ثم هي من داخل، وذِكْرُ أمر الآخرة خارجٌ عن الطبع، ثم هو من خارج. وربما ظن من لا علم له أن جواذب الآخرة أقوى، لما يسمع من الوعيد في القرآن، وليس كذلك، لأن مَثَل الطبع في ميله إلى الدنيا كالماء الجاري، فإنه يطلب الهبوط، وإنما رَفْعه إلى فوق يحتاج إلى التكلف. ولهذا جاء الشرع بالترغيب والترهيب يقوّي جُندَ العقل، فأما الطبع فجواذبه كثيرة، وليس العجب أن يَغْلِب، إنما العجب أن يُغلَب" (¬1). ¬

_ (¬1) هذه هي الخاطرة الثانية من خواطر الكتاب. وهو كتاب عظيم=

وما يقوله صحيح، لأن الصلاح والتقوى صعود، والفساد والفسوق هبوط، والصعود صعب أما الهبوط فهيّن. إنك تستطيع أن تحرك الصخرة وهي في رأس الجبل حركة واحدة فتدحرجها حتى تصل إلى قرارة الوادي، ولكنك لا تستطيع أن ترفعها إلا بالجهد والتعب. وتقدر أن تخرق خزّان الماء في جبل قاسيون فينحدر ماؤه حتى يصل إلى بردى، ولكنك لا تقدر أن تعيده إلا بالمضخّات والآلات وبالغ النفقات. * * * إن الدين قَيْد، والعقل قيد، والقانون قيد، والخُلُق قيد ... وكلما تقدم الإنسان في طريق الحضارة كثرت قيوده. الحيوان لا يقيّده شيء إلا غريزته، فهو يمشي عارياً، وإذا مال الذكر فيه إلى الأنثى دنا منها علناً، وإذا رأى الطعام بين يدي حيوان آخر أضعف منه قتله وأخذه منه. والإنسان الابتدائي أرقى من الحيوان بقليل، قانونه قانون «الحق للأقوى»، فكل ما يفعل القوي عنده مشروع، إن أعجبه مال الضعيف غصب منه المال، وإن أعجبته امرأة الضعيف استلب منه المرأة. وارتقى الإنسان درجة فجاء بالحكومة، فكفَّتْ من قوّة ¬

_ = يستحق أن يُقرَأ، فمن أغراه هذا التعليق فقرر أن يقرأه فقد أصاب في القرار وأحسن الاختيار. وللكتاب في السوق طبعات كثيرة، لكني أتحيّز إلى الطبعة التي حققها ناجي الطنطاوي وعلق عليها وقدم لها علي الطنطاوي، فهي أفضل الطبعات المحقَّقة وأقدمها، وأحسب أن سائر الطبعات عالة عليها في الضبط والتحقيق (مجاهد).

القوي وشدت أزر الضعيف وعاقبت المعتدي. ولكنها لم تَكْفِ وحدها لإصلاح المجتمع، لأن المعتدي يفرّ من وجه الحكومة أو يسيطر عليها ويعود إلى ظلمه، فلا تكفي الحكومة. وارتقى الإنسان درجة أخرى، فجاءت الأعراف والأخلاق فهذّبت الغرائز بعض التهذيب، ولكن بقي في الناس من لا يبالي بالأخلاق ولا بالأعراف، فلم يصلح المجتمع. وارتقى الإنسان درجة أخرى، فجاء الدين فأصلح ما لم يصلحه القانون ولا العرف ولا الخلق؛ ذلك أن الذي يستقيم خوفاً من عقوبة القانون يَعْوَجّ إذا أَمِنَ أن يصل إليه القانون، والذي يستقيم اتّباعاً للعرف إنما يستقيم ما دام الناس يرونه، فإذا أمن أن يراه الناس لم يعد يبالي ما يفعل. أما الذي يستقيم اتّباعاً للدين وخوفاً من الله فإنه يبقى أبداً مستقيماً، لأنه يعلم أن الله مطّلع عليه دائماً. ولو ترك الإنسان كل ما يثقل عليه وفعل كل ما تميل نفسه إليه لذهبت الصحة، وذهبت الأخلاق، وذهب القانون، ولم يعد الإنسان إنساناً ولكن وحشاً من وحوش الغاب؛ ذلك أن الدواء المرّ ثقيل على المريض، وتجرّعه مؤلم، والنفس تميل عنه وتنفر منه، فلو اتبعنا ميل النفس وتركنا الدواء لذهبت الصحة. وحبسك النفس عن اتباع هواها، وإمساكها عن أن تبطش عند الغضب وأن تأخذ عند الرغبة وأن تكفّ عند الشهوة ثقيل على النفس، فلو تركناه لأنه ثقيل عليها لذهبت الأخلاق. والإنسان خُلق مُحبّاً لنفسه مُريداً كل خير لها، ومنعُه نفسَه مما تريد ثقيل عليها، فلو تركنا كل إنسان يأخذ ما يشتهي من مال غيره وأهله لذهب القانون.

والله قد وضع في النفس حب المال والجمال وقسمهما لنا قسمين، فقال: هذا حرام وهذا حلال. فإذا جوّزنا للرجل أن يستمتع بكل جمال يشتهيه ويقدر على الوصول إليه، سواء أكان له أم كان لغيره، وسواء أكان التمتع به بالنظر واللمس أو المقاربة، حلالاً كان أم حراماً، وقلنا: هذه هي المدنية الجديدة وهذه هي الموضة، فلماذا لا نجوّز له أن يأخذ كل ما تشتهيه نفسه من أموال الناس بالغصب وبالسرقة وبالاحتيال؟ ولماذا نقيم القيامة على من يسرق عشر ليرات ونسوقه إلى المحكمة ونلقي به في السجن، ونغضّ عمّن يسرق أعراض الناس ويتمتع بحرمات بناتهم ونسائهم؟ هل المال أعزّ علينا من العِرض؟ * * * نعم، إن الدين ثقيل، ولكن ليس كل ثقيل يُترَك. والعاقل مَن إذا عَرَض له ألم مؤقت يجرّ وراءه لذة دائمة احتمله راضياً، كما يتحمل ألم قلع الضرس ليجد اللذة بالراحة من وجعه، وكما يتحمل العملية الجراحية للصحة المَرجوّة بعدها. ومن إذا عرضت له لذة مؤقتة تجرّ وراءها ألماً طويلاً أعرض عنها راضياً وانصرف عنها مطمئناً، مهما اشتدّ ميله إليها وكثرت المغريات بها. ولو قيل لك: تعال نُعطِك كل ما تريد من أموال ولذائذ ونساء ونمتّعك بكل متعة تخطر على بالك، ولكن لمدة شهر واحد، ثم نقتلك بعدها شرّ قتلة ونحرّقك بالنار، هل تقبل

بهذا النعيم أم تقول: لا، لا أريده، وما فائدة متعة شهر إن كان بعدها الموت؟ هذا مثال لذائذ الدنيا المحرَّمة، بل إن المثال أقل من الحقيقة، فإنك تستمتع في المثال شهراً تموت بعده فتستريح، وتستمتع بالحرام ثم تموت فلا تستريح، بل تُحاسَب أشد الحساب ثم يُصار بك إلى جهنم! فاحتمل ثِقَل الدّين، فإنه أهون من احتمال ثقل العذاب يوم القيامة. * * *

وصية وإنذار

وصية وإنذار كُتبت سنة 1964 (¬1) لمّا أخذت القلم لأكتب هذه الكلمة ذكرت أول مرة جئت فيها الحجاز وعرفت فيها الأخ المزروع؛ لقد كان ذلك من إحدى وثلاثين سنة، تبدَّلت فيها الدنيا غيرَ الدنيا وغدا الناسُ ¬

_ (¬1) كان للشيخ عبد الله المزروع كرّاس دأب على أن يستكتب فيه مَن يَمُرّ بمكة من الأعلام ومشاهير الرجال، واستمر على ذلك ثلاثين عاماً حتى اجتمعت له طائفة كبيرة من هذه الكلمات، وتوفي ولمّا ينشرها. ثم أخرجه بعد وفاته ولدُه الدكتور أحمد في كتاب اسمه «وصايا أساطين الدين والأدب والسياسة»، وقد نشرت الكتابَ ووزّعته «دار المنارة» التي تنشر كتب الشيخ علي الطنطاوي. قال الدكتور أحمد في مقدمته للكتاب: "كنت خارجاً من بيت الله الحرام فالتقيت بفضيلة العالم الأجل الشيخ علي الطنطاوي، وقدمت له نفسي، فابتدرني يسألني عن كرّاس نادر جمعه والدي رحمه الله بخط كثير من الشخصيات والعلماء الوافدين للحج أو للعمرة، وحثّني على الاهتمام بهذا الكراس وطباعته ... ". والكلمة التي تقرؤونها هنا واحدة من الكلمات التي يضمها الكتاب المذكور، استخرجتها منه وأضفتها إلى هذا الكتاب لمناسبتها له، ولأن قلة من محبّي الشيخ والباحثين عن تراثه سيقرؤون كتاب الشيخ المزروع، رحم الله الاثنين (مجاهد).

غيرَ الناس. لقد كان الأخ شاباً فشاخ، ولكن طيبته في قلبه ووفاءه لإخوانه ونُبله وفضله، لا يزال كله شاباً لا يشيخ. وكان الحجاز على بقية من القرن الذي مضى: كانت جدة قرية كبيرة لها سور يطيف بها، وكان الطريق منها إلى مكة وعراً قطعناه بالسيارة في نهار كامل، وكانت مكة محصورة بين الجبال، وكانت البلاد محرومة (أو كالمحرومة) من خيرات هذه الحضارة الجديدة. فدخلَت الحضارة الحجازَ من أوسع باب؛ اتسع عمرانه وكبرت مدنه، ونفض يده من القرن الذي مضى ليعيش في القرن الحاضر كما تعيش أعرق البلاد في الحضارة، وانتشر العلم وفُتحت المدارس للبنين والبنات، وصار فيه جامعات. جاءته الحضارة، ولكن جاءت معها شرورها. كان للمشايخ فيه سلطان فما أحسنوا استعماله، فزال أو كاد. وكانوا يضيِّقون على الناس ويمنعونهم المكروه خشية الوقوع في الحرام، فواقعوا المكروه والحرام. وألزموهم في التوحيد بمنع التأويل ومحاربة الأشاعرة (وهم جمهور المسلمين)، ففَشَت فيهم فاشِيَة الإلحاد وترك الإسلام ... وكل ذلك لا يزال بذوراً في باطن الأرض أو نباتاً ضعيف الساق والجذر، ولكنه كل يوم إلى قوة، والمشايخ خاصة وأهل الدين عامة كلَّ يوم إلى ضعف. إن هذه البذور تجد من يسقيها الماء ويجدّد لها التربة ويمدها بالغذاء، وهم المدرّسون والمدرِّسات الذين يؤتى بهم من البلاد الأخرى. إنها لا تزال المنكرات خفية غير ظاهرة، ولكن

هذه البذور التي نُثِرت في أدمغة الشبّان سرعان ما تنبت. لقد تسربت إلى هذه الأدمغة مفاسد العصر كلها عن طريق مباشر هم هؤلاء المدرّسون، وفيهم القومي والشيوعي والشيعي والنصيري والنصراني والمنحل الخلق، وكل ذي نحلة فاسدة وخلق ذميم، والمدرّسات الفاسقات المتكشفات. وطريق غير مباشر، هو الإذاعة والمطبوعات ورحلات السعوديين إلى الخارج، ومجيء غير السعوديين إلى البلاد. إن البلاد على خطر في دينها لا يبدو الآن، ولكنه سيظهر بعد عشر سنوات حين يتسلم طلاب اليوم مقاليد الأمر، لا سمح الله. لقد نبَّهتُ مراراً وقلت وكتبت فما سمع مني أحد، وقلت ذلك للمشايخ ورجال الحكم فما كان لكلامي أثر، فانتبهوا قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الانتباه. إني أُحذِّر أبناء هذا البلد الطاهر مصيراً كمصير مصر والشام والعراق في السفور والحسور والفسوق، وضعف الدين وأهله وقوة الكفر وسيطرته. ولا أملك إلاّ القول، وقد قلت، والله المستعان. علي الطنطاوي (من دمشق) مكة المكرمة: غرّة شعبان 1384 * * *

مشكلة

مشكلة نشرت سنة 1955 لقيت مرة أديباً مصرياً جعل يحدثني في الإسلام: جماله وكماله ووجوب التمسك به والتعصب له، وقال لي بأنه مسلم متعصب، وإن كان يتكاسل عن الصلوات لضرورات العمل، ولا يحافظ على الصوم من خوف المرض، وأنه ربما تناول المُسْكِر أحياناً في الحفلة الرسمية أو الفندق الكبير مجاراة للأوضاع الاجتماعية، وربما قارف بعض المحرَّمات ... ولكنه مع ذلك كله مسلم، مسلم متعصب! قلت: وما مظاهر إسلامك، إن كنت تترك الصلاة والصيام وتشرب الخمر وتأتي المحرَّمات؟ قال: المظاهر؟ «عاوز» المظاهر؟ طيّب، أنا رايح أقول لك: مظاهر إسلامي أني إن سمعت أحداً يطعن على الإسلام، ولو كان أعظم الناس، فعلت كذا وكذا ... وانطلق يصف بحماسة بالغة وصوت متهدّج ما يفعله بمن يطعن على الإسلام بقوله، أما طعنه هو عليه بفعله فلا يرى فيه شيئاً، لأن هذا مبلغ فهمه للإسلام! يحسب أنه يكفيه ليكون من

المسلمين هذا الدفاع عن الدين، وإن كان لا يأتمر بأوامره ولا يجتنب نواهيه ولا يعمل بأحكامه؛ كجندي لا يلبس بزّة الجند ولا يحمل سلاحهم، ولا يدخل ثكنتهم ولا يمشي في صفوفهم، وهو -مع ذلك- جندي عامل لأنه لا يدع أحداً يطعن على الجيش أو يتكلم فيه! وهذا أحد الأفهام العجيبة للإسلام. ولو أن مستقرئاً استقرى (¬1) صورة الإسلام في نفوس آحاد الناس لرأى من اختلافها العجب العجاب. هذا رجل لا يصلي إلا مع الجماعة الأولى، ولا يفتر لسانه عن الذكر والتسبيح، ويَعُدّ نفسه ويعدّه أصحابه من الأتقياء الصالحين، وهو مع ذلك يغش إن باع، ويُخلف إن وعد، ويحتال لأكل أموال الناس بحيل عجيبة يعجز عن مثلها إبليس، ثم لا يكفّ حتى يلفّق لها ثوباً مشروعاً من أقوال الفقهاء ومن مواد القانون، يسترها به حتى لا يكون عليه سبيل لقاضٍ أو حاكم. يرى الإسلام قاصراً على صلاة الجماعة وترديد الأذكار والأَوْراد، أما المعاملة فشيء آخر، شيء لا يقدم ولا يؤخر ولا صلة له بالدين! وهذه امرأة تصلي وتصوم وتقرأ القرآن وتبكي عند سماع الموعظة، ولكنها تخرج سافرة حاسرة مكشوفة النحر والشعر والصدر! وهذا رجل أعرفه من المسرفين على أنفسهم، ممّن لا يحلّل ¬

_ (¬1) استقرى يستقري وليست استقرأ كما يظن أكثر الكاتبين.

حلالاً ولا يحرّم حراماً، ولا يبالي إذا جاع من أين تجيء أكلته، ولا ينظر إذا اشتهى أين تقع نطفته، وهو -مع ذلك كله- لا يطيق أن يسمع قَوْلة في أهل الله والصالحين، ويرتجف غضباً لله حتى لا يدري أين تقع غضبته، لأن الإسلام عنده هو التأدب مع أهل الله والتوجه إليهم والتماس بركاتهم! وآخر مسلم متمسك قائم بالعبادات مبتعد عن المحرَّمات، ولكنه يقول بالشيوعية أو يتبع الماسونية، ويُؤْثر أخاه فيها ولو كان يهودياً أو نصرانياً على أخيه في الإسلام، ولا يرى في ذلك شيئاً! وثالث صحيح العقيدة صادق المعاملة، لا ينتحل نحلة تخالف الإسلام، ولكنه لا يصلي ولا يصوم! * * * وإذا نحن تركنا آحاد الناس ونظرنا إلى الدعاة إلى الله، الذين نرجو بهم نصرة الإسلام وإعادة أهله إليه، لرأينا كثيراً منهم مختلفين كذلك في تحديد الطريق الذي يوصل إلى الله، ولوجدنا للإسلام في نفس كل واحد منهم صورة تختلف عما في نفس الآخر، وإن كانوا جميعاً يدعون إليه. هذا يرى الإسلام في اتّباع مذهب من المذاهب الأربعة والوقوف عند ما أفتى به متأخّرو فقهائه، ولو كانت هذه الفتوى مَبنيَّة على عُرف وتبدّل اليومَ هذا العرف، أو أُقيمت على اجتهاد وبدا وجهٌ أقوى لاجتهاد غيره تدعو إليه الحاجة وتستلزمه المصلحة؛ يَعُدّ الخروج على حاشية ابن عابدين خروجاً من

الدين، ويؤمن بأن الاجتهاد سُدَّ بابه فلا يُفتَح إلى يوم القيامة، كأنه قد امتنع على الله (أستغفر الله!) أن يخلق ذهناً كذهن أبي حنيفة ورأياً كرأي الشافعي ونظراً كنظر مالك ورواية كرواية أحمد، ويرى أن الكتاب والسنة قد أُخذ منهما كل شيء وعُصرا عصر الليمونة استُنفد ماؤها، ولم يعد يجوز لأحد أن يستنبط منهما حكماً أو يرى فيهما دليلاً، وما يصلحان بعدُ إلا للتبرك والتقبيل، وتلاوة القرآن بلا فهم وقراءة «البخاري» لاستنزال واستجلاب المطر، واعتقاد أن البيت الذي يكون فيه «البخاري» لا يصيبه حرق ولا غرق ... مع أنك لو ألقيت كتاب البخاري نفسه في النار لاحترق، ولو رميته في الماء فابتلّ لأصابه الغرق! وآخر يرى الإسلام في ترك المذاهب كلها والعودة إلى السنّة، فكل من استطاع أن يقرأ في البخاري ومسلم ومَجْمَع الزوائد، وأن يفتش عن اسم الراوي في التقريب أو التهذيب، وجب عليه الاجتهاد وحرم عليه التقليد، ويسمون هذا الفقه العجيب الذي يشبه فقه بُرْد (والد بشّار) (¬1) «فقه السنّة»؛ لا يدرون أن الوقوفَ على الأحاديث ومعرفةَ أَسْنادها ودرجاتها شيءٌ واستنباطَ الأحكام منها شيءٌ آخر، وأن المحدّثين كالصيادلة والفقهاءَ كالأطباء، فالصيدلي يحفظ من أسماء الأدوية ويعرف من أصنافها ما لا يعرفه الطبيب، ولكنه لا يستطيع أن يشخّص ¬

_ (¬1) كان بشّار يهجو الناس وهو صبي فيشكونه إلى أبيه فيضربه، فلما طال ذلك عليه قال لأبيه: قل لهم إن ابني هذا أعمى، والله يقول {لَيسَ على الأعْمَى حَرَج}، فقال لهم ذلك، فقالوا: لَفقه بُرْد أشدّ علينا من شعر بشار!

الأمراض ويشفي المرضى. وأن الصحابة أنفسهم لم يكن فيهم إلا مئة ممّن يفتي، وأن مئة الألف من المسلمين الذين توفي عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يرجعون إلى هذه المئة ولا يجتهدون لأنفسهم. وأنه إن لم يطّلع الإمام من الأئمة على الحديث من الأحاديث فإن أَتْباع مذهبه قد اطّلعوا عليه خلال هذه القرون الطويلة، وأنهم كانوا أتقى لله وأحرص على دينهم من أن يخالفوا حديثاً صحيحاً لقول إمام أو غير إمام، وأن المذاهب لم تأخذ الأحاديث وحدها بل أخذت الحديث وما قال فيه الصحابي، والتابعي، ومَن بعده، وسجّلت هذه الشروح والأفهام المتعاقبة ثم استخلصت منها الحكم، وأن من يترك اجتهادات الأئمة كمن يرى الطيّارة وما بلغت إليه بعد الجهود المتتالية والرقي المتسلسل، فيتركها ويُعرض عنها ويحاول الطيران بأجنحة يركّبها لنفسه كما فعل العباس بن فرناس! وإن دعوى منع التقليد في الدين دعوى باطلة، لأن في كل علم أهل اختصاص فيه وغرباء عنه، فإذا احتاج الغريب إلى معرفة حكم فيه رجع إلى أهله، كالعامي يحتاج إلى مداواة مريضه أو عمارة بيته أو إصلاح ساعته، فلا يستطيع إلا الرجوع إلى الطبيب أو المهندس أو الساعاتي، وتقليده فيما يذهب به إليه اجتهاده. * * * وداع يدعو إلى إجراء الآيات المتشابهات على ظواهرها، ويبالغ في ذلك حتى يثبت لله يداً حقيقية ووجهاً وعرشاً قد استوى عليه استواء، وأمثال ذلك، ويحارب كل قائل فيها بالمجاز صارف

لها عن الحقيقة (ومن القائلين بذلك أعلام الملة وكبار علماء المسلمين)، ويجعل ذلك أكبر همه ورأس دعوته، يفاجئ به التلميذ الذي لم يعرف بعد ما أركان الإسلام وما شروط الصلاة. وآخر يجعل أكبر همه ورأس دعوته نفي ذلك كله وتأويل الآيات الواردة فيه، ويبالغ في تحكيم عقله البشري في هذه المسائل الإلهية التي لا تتبع قوانين أرضنا وأحكام عالمنا، حتى ينكر الرؤية يوم القيامة، ويجعل العرش والكرسي مجازاً لا حقيقة، فعرشه وكرسيّه -تبارك وتعالى- هما مُلكه؛ كما نقول نحن اليوم (ولله المثل الأعلى): "كانت الهند تحت العرش البريطاني"، أو نقول: "إن كرسيّ المملكة العراقية يشمل إربل والبصرة". وثالث يرى الإسلام في محاربة الصوفية صحيحها وباطلها، وينفِّر من قراءة كتبها وصحبة أهلها، مَن كان منهم قبل «الرسالة القشيرية» ممّن أخذ تصوَّفه من أصول الإسلام، ومن جاء بعدُ ممّن أخذ (على الغالب) من غير ينابيع الإسلام. ورابع قائم لهذا بالمرصاد، عامل على الدعوة إلى الصوفية معتقد بكل ما جاء به أهلها، حتى القائلين منهم بوحدة الوجود وخلط العبيد بالمعبود، كالحلاج وابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني، ويرى أن للدين ظاهراً وباطناً، فالظاهر الشريعة والباطن الحقيقة، الأول ما يدل عليه الكتاب والسنة بوضعهما اللغوي ومدلولهما المجازي والاصطلاحي وما فهم العرب منهما، والثاني ما يذهب إليه القوم بتأويلاتهم وتفسيراتهم

التي لم يقل بها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الأربعة، ولا بقية العشرة، ولا أحدٌ من الصحابة ولا من التابعين ولا من الأئمة المجتهدين، والتي لا توافق معقولاً ولا منقولاً. وخامس لا يصرح بوحدة الوجود، ولكن يقول بما هو أدهى وأمَرّ وما يكون كفر كفار قريش في جنبه إيماناً، وهو أن المتصرف بالأكوان «القطب»، يعاونه الأربعة «الأوتاد» والأربعون «الأبدال»، وأن وراء هذه الدول الظاهرة دولة أهل الديوان وأصحاب النوبة، فلكل منطقة من الأرض شيخ أو مجذوب أو معتوه يتصرف بها، وكأن الله (أستغفره مئة مرة) مَلك دستوري له المُلك لا الحكم، وهذا القطب هو رئيس الوزراء الذي يتولى هو وأعوانه من رجال السلطة التنفيذية الحكمَ الفعلي! ولا يعتقد هذا في نفسه، بل يدعو إليه ويقرئ الكتب المشتملة عليه (كالطبقات للشّعراني) في المساجد جهاراً نهاراً، في دروس عامة يحضرها العامي والتلميذ والموافق والمخالف. وسادس يدعو إلى طريقة من هذه الطرق: النقشبندية والقادرية والرفاعية والتيجانية (الفرنسية)، يفني عمره في الحفاظ لها والدفاع عنها. ومن يدعو إلى النحل الباطلة والكفر الصريح، كالقاديانية (الإنكليزية)، ويزعم أنه يدعو إلى الإسلام الصحيح! وسابع يرى الإسلام، كل الإسلام، أن تطلق اللحية وتحسّن العمة، وتسدل العذبة وتلبس الجبة وتطيل السبحة، ولتفعل بعد ذلك ما تشاء. * * *

وهؤلاء الدعاة مختلفون أبداً، آخِذٌ بعضهم بخناق بعض؛ يتناظرون أبداً ويتجادلون ويتقاذفون الردود، لا في مصر والشام والعراق وحدها، بل في بلاد الإسلام جميعاً. ولقد شهدت في كراتشي من يُعرفون بأهل الحديث، ومن هم عاكفون على أقوال متأخري فقهاء الحنفية لا يحيدون عنها شعرة كأنها هي الكتاب المنزَّل، ومن هو على مشرب الصوفية ... وغير هؤلاء وأولئك، والخلاف قائم بينهم. ورأيت مثل ذلك الخلاف في الدين في أندونيسيا. والخصوم، خصوم هؤلاء الدعاة جميعاً وخصوم الإسلام من البعثيين والشيوعيين والملحدين والمفسدين من أتباع المستشرقين، ينظرون ويتفرّجون بهذا الخلاف، ويفرحون به، ثم ينطلقون إلى الميدان الذي أخليناه فيسرحون فيه وحدهم ويمرحون ويصنعون ما يريدون. والإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم واحد، له مفهوم واحد، فعلامَ هذا الاختلاف؟ وكيف نستطيع أن نقرِّب الإسلام إلى أفهام الناس ونعرّف به من لا يعرفه، ونعرضه على حقيقته سهلاً واضحاً معقولاً، إذا كنا مختلفين في الصورة التي ينبغي أن نعرض عليها الإسلام؟ وأنا لا أقول بتوحيد الأفهام ومنع الاختلاف، فما أظن أن هذا يكون، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولكن الذي أقوله هو وجوب الاتفاق على الأسلوب الذي ندعو به إلى الإسلام، والصورة التي نعرضها له على التلاميذ في المدارس،

والعامة في المساجد، والأجانب في بلاد الغرب، لنقول لهم: هذا هو أساس الإسلام وهذه أركانه وهذا طريق الدخول فيه، لا نفجأ واحداً من هؤلاء بالخلاف في فهم مشكلات الآيات ولا الاجتهاد والتقليد، ولا نحملهم على الآراء الفردية التي لا يقرّها الجميع. فما هو الأسلوب «العملي» الممكن للوصول إلى هذه الغاية؟ هل يكون ذلك بمؤتمر لعلماء المسلمين، أم يتولاه معهد من المعاهد العلمية، أم يقوم به واحد من المسلمين؟ ما هو الأسلوب؟ * * * وبعد، فلقد كنت أعددت لهذا المكان مقالة غير هذه المقالة، ولكن ما كتبه الأخ الأستاذ أبو أيمن في صدر العدد الماضي من «المسلمون» (¬1) هو الذي دفعني إلى التفكير في هذه المشكلة وعرضها على كتّاب المجلة وقرّائها، ليفكروا هم أيضاً فيها ويجدوا الحل لها. * * * ¬

_ (¬1) أبو أيمن هو سعيد رمضان، صاحب «المسلمون» التي نُشرت هذه المقالة فيها، وكان يذيّل افتتاحياته فيها بهذه الكنية غالباً وباسمه الصريح أحياناً (مجاهد).

عرفوهم بالإسلام يصيروا مسلمين

عرّفوهم بالإسلام يصيروا مسلمين نشرت سنة 1988 من نحو عشرين سنة ذهبت في رحلة إلى ألمانيا وبلجيكا وتلك الديار، ورأيت في المركز الإسلامي في آخن وفي بروكسل (وفي غيرهما من المراكز) طائفة من الشبان المسلمين، لو قلت بأنهم من بقايا شباب الصحابة، صلاحاً وتقى وتمسكاً بالإسلام واستعداداً لبذل الروح في سبيله، لما كنت مبالغاً. ومضت على ذلك سنوات، فجاءني بعضهم في مكة المكرمة أيام الحج، ومعهم شاب ألماني قال إنه دخل في الإسلام وأقام عليه سنين، ثم أزمع العودة إلى ما كان عليه من دين. وهم يريدون أن يستعينوا بي على تثبيته على الإسلام. فسألته، فأكد لي -على لسان الترجمان- بأن هذا صحيح، فقلت له: وما الذي رغبك في الإسلام أولاً ثم رغبك عنه ثانياً؟ فتكلم كلاماً طويلاً خلاصته: أنه عرف في ألمانيا جماعة من الطلبة المسلمين وخالطهم، فوجدهم في صدق لهجتهم واستقامة سيرتهم، وتعففهم عن الفحشاء، وحفظ لسانهم من الكذب والغيبة والنميمة، وأيديهم من البطش بالباطل والعدوان على

أحد، وأجوافهم من شرب الخمر وأكل ما لا يحل ... وجدهم في هذا كله عجباً. فسأل: ما دينهم؟ فخبّروه بأنهم مسلمون، ولخصوا له الإسلام، وقرؤوا عليه آيات من القرآن الكريم، وأسمعوه من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ورووا له سيرته وسير أصحابه. وكان مما نقلوه إليه شيئاً من كلامي، وأخرج صحيفة فيها بلسانهم ترجمة لما كنت قلته في مقدمة كتابي «أبو بكر الصديق». ومما جاء في تلك المقدمة: إن سر الإسلام بدأ في هذه الأمة البادية الجاهلة المتفرقة، فجعل منها أمة لم يكن ولن يكون لها نظير. امتزجت روح الإسلام بأرواح المسلمين وغلبت عليها، ثم استأصلت منها حب الدنيا، وانتزعت منها الطمع والحسد والغش والكذب، وأنشأت من أصحابها قوماً هم خلاصة البشر وغاية ما يبلغه السمو الإنساني. أنشأت من أصحابها قوماً يغضبون لله، ويرضون لله، ويصمتون لله، وينطقون لله، قد ماتت في نفوسهم الأهواء ومُحيت منها الشهوات، ولم يبقَ إلا دين يهدي وعقل يستهدي. قوم كان دليلهم الدين، وقانونهم هدي سيد المرسلين، وشعارهم شعار المساكين، وعيشهم عيش الزاهدين، ثم كانت فتوحهم فتوح الملوك الجبارين، وكانوا بذلك سادة العالمين. لم يمنعهم زهدهم من أن يكونوا أبطال الحروب وسادة الدنيا، ولم يفتنهم ما نالوا من مجد وما بلغوا من جاه عن دينهم وتقواهم. قوم ينصب لهم أميرهم قاضياً فيلبث سنة لا يختصم إليه اثنان؛ لم يكونوا ليختصموا وبين أيديهم القرآن الكريم، وكل واحد منهم يعرف ما يحق له فلا يطلب أكثر منه، ويعرف ما يجب عليه فلا

يقصر في القيام به، ويحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويسعى ليَسلم الناس من لسانه ويده. إذا مرض المسلم عاده المسلمون، وإذا افتقر أعانوه، وإذا أحسن شكروه، وإذا ظُلِم نصروه، وإذا ظَلَم ردعوه، دينهم نصيحة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ففيم يختصمون؟ والمقالة طويلة، وهي موجودة في أول كتابي «أبو بكر الصديق» الذي طُبع سنة 1352هـ. * * * فقلت له: وما الذي أنكرت من هذا الكلام وما كذّبتَ فيه، وما قلتُ إلا ما هو حق وصدق؟ إن مجتمع الصحابة كان المجتمع المثالي حقاً، تحقق فيه ما تخيله أفلاطون والفارابي، والاشتراكيون الخياليون من قبل أن ينشأ الدجال الأكبر، كارل ماركس! ولكنهم ما جاوزوا حدود البشرية ولا صاروا مجتمعاً ملائكياً؛ إنهم كانوا يحيون على هذه الأرض، هذه الحياة الدنيا. وما الحياة الدنيا دار قرار، إنما هي دار امتحان واختبار، وأهلها -مهما سَمَوا- بشر خطّاؤون، ولقد وُجد فيهم -على هذه الصفات كلها- ما لا بد من وجود مثله في الدنيا، فكانت حوادث سرقة وزنا، ولكنها حوادث فردية نادرة أحسبها وقعت مرة واحدة ولم تتكرر. وعاد يقول إنه لما رأى أولئك الشباب وقرأ هذه الصحف دخل في الإسلام قلباً ولساناً، ونفذ أحكامه ظاهراً وباطناً، وعاش مع هؤلاء الشباب سنين في جو من السموّ والطهر لم يكن يظن أن

مثله يكون على الأرض. ووصفوا له الحج، وشوّقوه إلى هذه البقاع التي نزل فيها الوحي وخرج منها النور، وعاش فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكوّن فيها هذا المجتمع المثالي الذي لم تره عين الدنيا ولم يوصف مثله في التاريخ إلا مرة واحدة، هي هذه المرة. وقالوا له بأن الحج يجمع المسلمين من آفاق الأرض فيعرف إخوانه في الدنيا، فأقبل على الحج تحدوه الأشواق ويدفعه الإيمان، يستبطئ أسرع وسائل السفر، من شوقه إلى بلوغ هذه الغاية، ليرى بعينه على الأرض ما قرأه في الكتب وما سمعه بإذنه من الرفاق. فلما وصل وخالط المسلمين، على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وتعدد بلدانهم وتباين عاداتهم، وجد ... وجعل يعدد ما وجد من البعد بين حال المسلمين اليوم وما هم فيه من انحراف عن طريق الإسلام وبين ما كان قد قرأه وسمعه، فعلم أن هؤلاء الشبان كذبوا عليه وخدعوه، لذلك عزم على الرجوع إلى دين آبائه وأجداده. فقلت له: ما كذب أولئك الإخوان عليك حين وصفوا لك الإسلام ورووا لك ما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام والمجتمع الإسلامي الأول، وما كذبت أنت حين ذكرت عيوب المسلمين اليوم ومجتمعهم المريض. إن مجتمعاتنا التي نسميها «إسلامية» فيها كما ترى الكثير الكثير مما يخالف الإسلام، فلا الأسر تقوم على أساس الإسلام، وكثير من الحكومات التي تنتسب إلى الإسلام لا تحكم بما يوجبه

الإسلام، ولكن لا أسميها مجتمعات «جاهلية»، فالجاهلية عهد تاريخي مضى لا صفة باقية. وأنا لا أذهب إلى ما ذهب إليه الأخَوان الحبيبان، الشهيد السعيد سيد قطب رحمه الله، والداعية العامل محمد قطب حفظه الله، بل إنني لأقول إنهما مخطئان؛ فلو كانت دار المسلمين اليوم دار كفر (كما فهم منهما بعض الشباب، وإن لم يقولاه صراحة ولا كتباه واضحاً) لو كانت مجتمعاتنا دار كفر لطُبِّقت عليها أحكامها المدوَّنة في كتب الفقه. وكيف؟ ولا يزال يُصدَح فيها بالأذان، ويُتلى فيها القرآن، وتقام فيها الصلاة؟ إنها ليست كاملة الإسلام، هذا حق، ولكنها ليست كافرة، وهذا حق أيضاً، وإن كان فيها شيء من بعض صفات الكافرين. والرأي فيها أنها «مجتمعات إسلامية عاصية»، فيها المؤمن الصادق الإيمان، وفيها المسلم المقيم على الإسلام، وفيها دون ذلك، كأن أهلها صاروا -كما ورد عن الجن- طرائق قِدَداً! وما دامت جذوة الإيمان لم تنطفئ في القلوب، فعلينا أن نستعين بالله وأن نبذل الجهد لنعيد أصحابها إلى الدين. وأنا حاضرت الشبان والشابات في مصر وفي لبنان وفي العراق وفي الشام (وهي بلدي وأصلي)، وفي الهند وباكستان وأندونيسيا، وفي كثير من بلاد أوربا الغربية، وحضرت اثنين من المؤتمرات التي يقيمها كلَّ سنة المركزُ الإسلامي في آخن، كان أحدهما في مدينة آيسن والآخر في دوسلدورف، فوجدت شباناً وشابات أعود فأكرر غيرَ كاذب ولا حانث إن شاء الله: إنني رأيت

فيهم مثل الذي قرأته عن شباب الصحابة، يقيمون في تلك الديار وهم ثابتون على إسلامهم، تكتنفهم الشبهات والشهوات من كل ناحية وهم مرتبطون بدينهم وبربهم. ولقد سُئلت مرة في جامعة الرياض (في آخر زيارة لي إليها) عن حال الشبان اليوم في المملكة وفيما عرفت من البلدان العربية، فضربت لذلك مثلاً: غديراً واسعاً كان ماؤه صافياً، فتعكّر، فلم يبلغ حد الفساد ولم يبقَ على ما كان عليه من الصفاء، فأقاموا في جانب منه مصفاة يصب ماؤها في بركة صغيرة، فكان فيها من الماء ما لا مزيد عليه في عذوبته وفي صفائه وفي طهره، وما خرج منه بعد تصفيته ألقَوه في بركة أخرى في الجانب الآخر من الغدير، فكان فيها ماء لا يُتصوَّر أقذر منه في عكره وفي وساخته وفيما يحمل من أسباب الداء. هذا هو المثال. أما الغدير فما كان عليه أكثر المسلمين في مطلع هذا القرن، كانوا في الجملة على دين، ولكنه دين مَشوب بشيء من الجهل وبشيء من البدع، وربما خالطه شيء من الشرك الذي لا يكاد يُنتبَه إليه. فلما كانت هذه الرجعة إلى الإسلام (التي دعوها الصحوة الإسلامية) رأينا الغدير الواحد صار ثلاثة غُدُر: واحداً صغيراً صافياً عذباً لا مثيل له في صفائه وفي عذوبته، وواحداً وسخاً قذراً لا شبيه له في وساخته وقذارته، وأكثر ماء الغدير بقي على ما كان عليه. * * * أعود إلى قصة الفتى الألماني. قلت له: ما كذب هؤلاء

عليك، ولكن مثالك ومثالهم كمن وُصف له ماء الينبوع وحُملت إليه قارورة منه من رأس العين، فتبع مجرى الماء حتى بَعُدَ عن منبعه عشرة أميال، فرآه قد علقت به الأقذار والأكدار، فحكم بما يرى على أصل الينبوع. على أن النبع موجود، فمن شاء استقى منه أو جَرَّ الماء إليه في أنابيب لا يصل إليها قذر ولا يخالطها كدر. العين الأصلية والنبع الصافي هو القرآن الكريم، والسنة الثابتة الصحيحة، وسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام التي كانت تصديقاً عملياً للقرآن الكريم، وسِيَر أصحابه التي كانت في جملتها استمداداً من سيرته واستمراراً لطريقته. أما الساقية العكرة فهي ما يفهمه العوام وأشباه العوام على أنه دين الإسلام، وهي ما يقول به المبتدعون المنحرفون الذين نسبوا إلى الإسلام ما ليس منه، وشرعوا من الدين ما لم يأذن الله به. فلا يجوز إذن أن نحكم على الإسلام بحال المسلمين، فإذا كان في المسلمين من يعتقد معتقدات، أو يأتي ببدع، أو يفعل أفعالاً تخالف ما في كتاب الله وما في الصحيح من سنة رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وسلم، نقول بأن هؤلاء انحرفوا عن طريق الإسلام، ولا نقول بأن هذا هو الإسلام. وللشيخ جمال الدين الأفغاني (أو للشيخ محمد عبده، ما عدت أذكر لأيهما) (¬1) كلمة عجيبة تعبّر عن هذه الحقيقة بأوضح ¬

_ (¬1) الكلمة للشيخ محمد عبده، قالها لمّا زار أوربا وخالط أهلها، وقال=

صورة وأوجز عبارة، هي أن «الإسلام محجوب بأهله»؛ أي أن الإسلام مثل لوحة فنية بديعة عُلِّقت على جدار المعرض، ولكن قَيّم المعرض وقف أمامها بوجهه الكالح وثوبه الوسخ، فستر عن الرائين جمالها وأخفى عنهم روعتها، فلما رأوه قالوا: ما دام هذا ممثّل المعرض فلن تكون اللوحة إلا على شكله، فلا خير إذن في النظر إليها! لا شك أن المجتمع الإسلامي اليوم فيه مخالفات للإسلام كثيرة، وفيه انحراف عن طريقه، وعلى العلماء أن يبيّنوا ذلك للمسلمين وأن يردّوهم إلى الطريق الصحيح. قال: فلِمَ لم يفعلوا؟ قلت: إن من مزايا الإسلام أنه لا يفرق بين من دخل فيه من سنة أو سنتين، بل من دخل فيه من يوم أو يومين، ومن له في الإسلام عشرة أجداد؛ كلاهما يُعتبَر مسلماً وعضواً عاملاً في هذه الجمعية الإنسانية الخَيّرة التي هي جماعة المسلمين، ومواطناً أصلياً في دولة الإسلام. ¬

_ = فيها أيضاً كلمته المشهورة الثانية: «وجدت فيها إسلاماً بلا مسلمين». وانظر مقالة علي الطنطاوي «الإسلام الصحيح» في كتاب «مقالات في كلمات»، قال: "فجعلت أفكر في عمل هؤلاء الجاهلين الذين يتكلمون باسم الدين من غير علم ولا فهم ... فأراهم علّةَ ما نشكو منه من انصراف الناس عن الدين، وأرى فيهم تحقيق كلمة الشيخ محمد عبده التي تكاد تكون من جوامع الكلم: «الإسلام محجوب بأهله»؛ يسترونه عن الناظرين إليه، ويمنعونهم أن يروا يُسْره ومرونته وصلاحه لكل زمان وكل مكان" (مجاهد).

وهو يوجب على كل من عرف الإسلام الأصلي ورأى المجتمعات اليوم تنحرف عنه أن يحذّرها من الانحراف، وأن يعيدها إلى الصراط السوي، وأن يصرف الناس عن ماء الساقية الملوَّث العكر ليرجعوا إلى رأس النبع الصافي. وأنت اليوم مسلم مثقف، عرفت الإسلام وأنكرت ما أنكرت من حال المسلمين، فيجب عليك ما يجب على هؤلاء العلماء لأنك صرت منهم، ومن علم مسألة واحدة صار عالماً بها. فبدلاً من أن تفرّ من المعركة وأن تنسحب منها، وأن تدع الإسلام بعدما عرفت أنه دين الحق، بدلاً من ذلك هَلُمّ فضَعْ يدك في يدي، وهلمّ نضع أنا وأنت أيدينا في أيدي العاملين المصلحين، ونعمل على إحياء أصل من أصول هذا الإسلام هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إن «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» طريق خطير، لأن الشرط فيه أن لا تسكت عن ضياع حق من حقوق الله تقدر على رده، وأن لا تعتدي على حرية مسلم في حياته. وما زلت به حتى اقتنع بحمد الله وثبت على إسلامه، وصار له في الدعوة إلى الإصلاح آثار كثيرة معروفة. وأستغفر الله أني نسيت اسمه، ولكن الله لا ينسى محسناً أراد بإحسانه وجهه. يا أيها القراء، ثقوا أنه ليس بين المثقفين من أهل أوربا وبين دخولهم في الإسلام إلا أن يجدوا من يعرّفهم به بالأسلوب الذي يفهمونه. * * *

الأحاديث الدينية في الإذاعة

الأحاديث الدينية في الإذاعة نشرت سنة 1988 قال لي قائل: ما أكثر الأحاديث الدينية في الإذاعة! قلت: بل ما أقلها! إنّي لأفتح عيني ثم أغلقها ... على كثيرٍ ولكنْ لا أرى أحدا إنها كثير إذا عُدَّت، قليل إذا قُوِّمت. وهل يكون محدِّثاً وداعياً إلى الله ناجحاً كل من فتح كتاباً وسرد ما فيه؟ إن من المحدثين من يختار كتاباً كبيراً من كتب الحديث فيقرأ منه، يقرأ كل يوم نصف صفحة أو صفحة ويأخذ المكافأة من الإذاعة عليها، ولو استمر عشرين سنة لما أتى على نصفه! ومن يعمد إلى علم من العلوم المقرَّرة المعروفة، كالفقه وأبوابه والحديث وعلومه والسيرة والتاريخ، فيقرأ منها حصة يحسبها علينا حديثاً! إن من هذه الأحاديث ما هو كالنوافير الصناعية، التي يراها الرائي تعلو في الجو يضرب بعضها بعضاً تلمع في عين الشمس، فيحسبها قد انبثقت من مَعين لا ينقطع، وما خرجت إلا من علبة مغلقة فيها ماء يحركها المحرّك فيقذف بها إلى العلاء، ثم يعود الماء من حيث جاء، خرج منها ثم رجع إليها.

أنا لا أدعوكم أن تأتوا في أحاديثكم بشيء جديد، فلا يمكن لأحد أن يأتي في الدين بشيء جديد، لأن كل جديد في الدين لم ينزل به قرآن ولم تَرِد به سُنّة يكون بدعة مردودة وحَدَثاً في الإسلام منكَراً. لا أريد التجديد في الموضوع، ولكن أريد أن تجددوا في الأسلوب. إننا في حاجة لعرض حقائق الإسلام في ثوب جديد. لقد جَدّت أمور وحدثت أوضاع ليس لها ذكر في هذه الكتب، لأنها لم تكن على عهد مؤلفيها ليتكلموا فيها، ولا بد من بيان حكم الإسلام في هذه الأمور وهذه الأوضاع. نحن أمام حضارة جديدة لم يعرفها أجدادنا، حضارة وَسَمتنا بسماتها ودخلت علينا بحسناتها وسيئاتها، فما موقف الإسلام من هذه الحضارة؟ نحن أمام دعوات جديدة لم تكن على عهد أجدادنا الذين ألّفوا تلك الكتب، فما موقف الإسلام من هذه الدعوات؟ لقد واجه الإسلام على أيامهم دعوات الباطنية والخوارج والشيعة الغالية وأمثالها، فعرفوا كيف يردون عن الإسلام كيدها، فكيف نردّ نحن اليوم كيد الماركسية والقومية الملحدة والقاديانية والبهائية والعلمانية؟ نحن أمام نظريات جديدة في الفلك وفي علم الحياة وأمام كشوف جديدة في الفيزياء والكيمياء وغزو للفضاء، فما موقف الإسلام من هذه الكشوف وتلك النظريات؟ نحن أمام قوى هائلة منظَّمة، تخطط لها عقول كبيرة شريرة وتملك أسلحة خطيرة كثيرة، تعمل كلها على إخراج الجيل

الجديد منا من الدين أو إدخال الشك عليهم في عقائدهم، فكيف نعمل على رد هذه القوى وإنقاذ الجيل الجديد من خطرها؟ كيف نردّ نساءنا عن التكشف الذي يأباه الشرع، والاختلاط الذي تنكره السلائق العربية؟ كيف نعيد المسلمين إلى أخوّتهم ووحدتهم؟ كيف نشرح لهم حقيقة الإسلام الذي يجهل أكثرهم حقيقته؟ كيف نعمل على تعليم المسلمين أمور دينهم وتلقينهم خوف ربهم؟ كيف نقرب إليهم معاني قرآنهم الذي يتعبّدون به في صلاتهم، يتلونه في كل مسجد ويسمعونه من كل إذاعة، لعلهم إن فهموه رجعوا إليه فعملوا بما فيه؟ كيف نعرض عليهم سيرة نبيهم عليه الصلاة والسلام، في نفسه ومع أهله ومع أصحابه، لنعود إلى مثل ما كان عليه الرسول وأصحابه؟ كيف نحدّثهم أحاديث أرباب القلوب ونروي لهم أنباء الصالحين من العلماء العاملين، لا من جَهَلة المتعبّدين ولا من أصناف المبتدعين ولكن من الزهاد العابدين، علّ هذه المواعظ ترقق قلوبهم وتخفف عن عواتقهم من أثقال المطامع والشهوات، ليَخِفّوا فيستطيعوا الركض في طريق الجنة؟ ونأتي خلال ذلك بأحاديث فيها من طرائف التاريخ وصور المجتمع، تنويعاً للفائدة وتنشيطاً للنفس. * * * لما كنت أعمل أنا وأخي ناجي على تحقيق الكتاب العظيم للواعظ العظيم، كتاب «صيد الخاطر» لابن الجوزي، وضعت له مقدمة طويلة جاءت في الطبعة الأولى في أكثر من سبعين صفحة،

درست فيها حياته وآراءه وأدبه، فكان مما وجدت أنه كان يجتمع إليه عشرون ألفاً أو ثلاثون ألفاً، وربما بالغ المبالغون فأوصلوا عدد المستمعين إلى مئة ألف. فكنت أعجب منه وأستكثره وأحسبه مبالغة، وأسأل: كيف يسمع هذا الجمع العظيم؟ ثم رأيت أنه يتكلم متمهلاً، يسوق الجملة بعد الجملة، فينقلها مَن دنا منه إلى من نأى عنه. ذلك يوم صار الوعظ صناعة ينقطع ناس إليها، يشتغلون بها ويدأبون عليها، وكان مدارها على ترقيق القلوب وإسالة المدامع وتحريك العواطف (¬1). بدأ ذلك قبل انقطاع عهد الخلفاء الراشدين، حتى إني أحفظ (وإن لم أتثبّت بالمراجعة الآن من صحة هذا الذي أحفظ) أن علياً رضي الله عنه منع القُصّاص (وكانوا يسمون الوُعّاظ القُصّاص) واستثنى الحسن البصري. وصار لمجالس الوعظ مظاهر شكلية وترتيبات عجيبة، وصف بعضَها ابن جُبَير الأندلسي في رحلته حين زار بغداد وتكلم عن ابن الجوزي، ووصفها ابن الجوزي نفسه، فقد كان يحتشد لها الناس ويأتون قبلها بساعات، يحجزون المحلات ويدفعون فيها الأجور البالغات، وتوقد الشموع، ويبدأ المجلس بتلاوة الآية أو الآيات التي سيتكلم الواعظ في تفسيرها، يتلونها بالأصوات الحسنة والأنغام المتعددة، وتتخلل الموعظةَ أبياتٌ من الشعر، ويكون فيها الصياح والصراخ والتوبة والاستغفار، ولهذه التوبة صورة ما عرفها السلف، ويكون فيها قص الشعور. ولم أحقق ما ¬

_ (¬1) على ما فيها من أحاديث يروونها لم تثبت عند أهل العلم، وإسرائيليات ينقلونها لا دليل عليها من الإسلام، وقصص مبالَغ فيها أو هي موضوعة من أصلها.

حكاية قص الشعور هذه التي يُكثر ابن الجوزي من ذكرها. وما أريد أن أجعل هذه المقالة عن ابن الجوزي، فمن شاء رجع إلى مقدمتي لكتابه «صيد الخاطر» (¬1) فقرأ ما كتبته عنه. كنت أحسب ما ذكروه عن عدد المستمعين لابن الجوزي مبالغة، ولكني أجد اليوم أنه صار من المشاهد المألوفة أن المستمعين إلى أصغر محدِّث في الإذاعة يبلغون الملايين. لم تكن في الأيام الخالية هذه المكبِّرات للصوت، ولا هذه الإذاعات التي صارت منبراً للمصلحين وللمفسدين، وللمعلمين وللمطربين، ولمن يذكّر الناس بربهم ولمن يصرفهم عن ذكر ربهم. وأنا أعرف إذاعة المملكة من يوم أُنشئت أنها أُنشئت ليقول المحدّث فيها كلمة الصدق ويجهر منها بدعوة الحق، أُنشئت ليهدم المحدِّث فيها ويبني: يهدم الجدار المائل، لكن لا يتركه كومة من التراب بل يبني مكانه جداراً جديداً قائماً قوياً. يقتلع من الأرض النبات الخبيث والشوك المؤذي، ولكنه لا يدع مكانه أرضاً قاحلة بل يزرع فيها أفانين النبات، لينعم الناظر بألوان الورد والزهر وينتفع الطاعم بأنواع الثمر. ¬

_ (¬1) الذي أنبّه هنا إلى أنه كتاب عظيم، فيه منفعة وفيه متعة، فيه دنيا ودين، فيه أدب وتاريخ، وهو في فقرات قصار كأنها اليوميات التي تُنشَر في الجرائد هذه الأيام (وأقدمها في مصر يوميّات الصاوي: «ما قلّ ودلّ»، وفي الشام يوميات يوسف العيسى في جريدة ألف باء قبل ستين سنة).

نحن لا ننكر المنكر ونمشي، بل نقف حتى نُحِلّ محلَّه المعروف. * * * إننا نريد أن ننشئ أمة جديدة، أمة مسلمة تمشي على سنن السلف، لتعيد مجد السلف وعز السلف. فكيف ننشئ هذه الأمة؟ كيف ينشئ الباني الدار؟ إنه يختار الحجارة، ثم ينحتها، ثم يشدّ بعضها إلى بعض. وحجارة بناء الأمة أفرادها، ولا تنشأ أمة صالحة من أفراد فاسدين. فلنبدأ بإصلاح الأفراد. ولا بد هنا من شرطين؛ شرطان لا بد منهما لبلوغ الغاية التي نرجوها من هذه الأحاديث الدينية في الإذاعة، شرطان اثنان: واحد يُطلَب مني أنا المحدِّث، والآخر منكم أنتم يا أيها المستمعون. أما الذي يطلب مني فهو أن أبدأ بنفسي فأعظها، لأن واعظ المسجد ومحدث الإذاعة ومعلم المدرسة، إذا لم يعظ نفسه لم يستطع أن يعظ الناس. إن فاقد الشيء لا يعطيه، والنبع الجاف لا يمد السواقي بالماء، والقلب الذي يملؤه الظلام لا يضيء للسالكين الطريق، والفؤاد الذي فيه الثلج لا يبعث في السامعين حرارة الإيمان، والعالم والمحدّث الذي يطمع في أموال الناس وفي دنيا الحكّام لا يستطيع أن يعظ الناس ولا أن ينصح الحكام. والكلام الذي يخرج من القلب هو الذي يقع في القلب،

والذي لا يخرج إلا من اللسان لا يجاوز الآذان. ورب كلمة تسمعها من عامي جاهل تهزك هزاً وتبعث في قلبك الخشوع وتسيل من عينيك الدموع، وخطبة طويلة حوت جواهر البلاغة ودرر البيان تسمعها فلا تحرك منك شعرة واحدة. فالذي يطلبه الناس من الواعظين (ومني إن كان لي شرف الدخول في زمرة الواعظين) أن يحاولوا وعظ أنفسهم قبل موعظة الناس. والذي يُطلَب من السامعين: أن يسمعوا هذه الأحاديث من الإذاعة ليعملوا بها، لا ليتخذوها تسلية ويقطعوا الوقت بسماعها، وأن يبدأ كل واحد منهم بنفسه فيصلحها. إذا أصلح الأب نفسه وراقب الله وكان معه بقلبه كان الله معه، فسخّر لطاعته زوجته وولده. وليكن بفعله أوعظ منه بقلبه، فلا يقل لأولاده اصدقوا وهو كاذب، ولا يأمرهم بالصلاة وهو لا يصلي، ولا ينهاهم عن الحرام وهو يفعل الحرام. فإذا تاب الأب من ذنبه وأصلح ما بينه وبين ربه، فليلتفت إلى أسرته فيحاول إصلاحها، فإن الأمة مجموعة من الأسر، فإذا صلحت الأسر صلحت الأمة، والله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. فإذا بدأ كل سامع بنفسه فأصلحها وألزمها السير على طريق الشرع ولو خالف هواه ورغبة نفسه وأعراف مجتمعه (أعني التي تخالف الدين)، وقدّم طاعة الله وابتغاء رضاه على متابعة الناس وطلب رضاهم، وإذا عزم المحدِّث عزماً صادقاً على التوبة، وبدأ بنفسه فوعظها فتاب من ذنبه، وعزم السامعون على العمل بما

يسمعون ... كان لهذه الأحاديث -إن شاء الله- أثرٌ باقٍ في صحيفة المحدِّث وصحائف المستمعين يوم تُعرَض صحف الأعمال على الله رب العالمين. * * * أما الأحاديث فإنها كالغذاء أو كالدواء. الغذاء إن كان كله دهناً ودسماً، ليس معه ما يثير الشهية ويبعث الرغبة، أعرض عنه الآكل وصعب تناوله عليه مع علمه بحاجته إليه. والدواء إن كان مُرّاً لا يُساغ أباه المريض ولو أيقن أن فيه الشفاء. لقد قلت من قبل في أحاديثي في وسائل الإعلام إننا لما كنا صغاراً، وكانت البَرْداء (الملاريا) منتشرة بين الناس لم يُقضَ عليها كما قُضي عليها الآن والحمد لله، كانوا يداوونها بخشب الكينا، يأخذون قشور شجرته فيَغْلونها غَلْياً ثم يسقوننا منها، وهي مُرّة مرارة الحنظل أو العلقم. فكنت أفرّ منها، وربما أخذتها فصببت ما في الكوب وراء الوسائد! (وكنا نقعد على الأرض، ما كانت عندنا هذه المقاعد والأرائك). ويستطيع الطفل الآن أن يتناول هذا الدواء فلا يحس به، ذلك أنهم أخذوا خلاصته (¬1)، يأخذون القليل من هذا المر، وهو العنصر الفعال فيه، فيُغَشّونه بغشاء من السكر الحلو، فيأخذه المريض فلا ¬

_ (¬1) أي العنصر الفعّال فيه، ويدلّون عليه عادة بإضافة هذه اللاحقة: «إين» إلى الكلمة فيقولون «كينين»، كما يقولون عن العنصر الفعّال في القهوة «كافيين»، وعربوه فقالوا «قَهوين».

يحس بمرارته، بل يذوق حلاوة الغشاء الذي أحاط به. إنها قد قست القلوب، وغلب عليها حب الدنيا وملأتها مشاغل الحياة وهمومها ولذاتها، فلا بد من أن نحتال عليها حتى نذكّرها بربها وبآخرتها، وأن ندور من حولها لنجد الباب الموصل إليها. ما خلق الله قلباً مغلقاً، بل جعل لكل قلب مدخلاً. والمداخل شتّى: فمن الناس من تدخل إليه من باب الترغيب، أو من باب الترهيب، ومن ينفعه الدليل العقلي، ومن يفيده الحافز العاطفي ... ومن المحدّثين من يُعرِض عن هذا كله، لا يفكر فيه ولا يلتفت إليه، ويحسب أن المطلوب منه مجرد الإخبار بأن هذا الفعل يُدخل الجنة وذاك يستحق صاحبه النار. ومَن مِن الناس يجهل أن الصدق خير، وأن الكذب شر، وأن الأمانة أفضل من الخيانة، وأن من يمشي مُكِبّاً على وجهه ليس كمَن يمشي سَوِيّاً على صراط مستقيم؟ إن هذه الحقائق الكبرى يعرفها الناس كلهم، حتى من يرتكب المعاصي. من يشرب الخمر هل يعوّد عليها ولده؟ بل خذوا مثالاً أقرب، خذوا المدخّن الذي لا تنفك أصابعه ممسكة بالدخينة، يطفئها بعد أن أشعل الأخرى منها، إذا رأى ولده يأخذ دخينة من علبته، هل يشجّعه عليها ويقول له: خذها! أم يبعده عنها ويلومه عليها؟ ذلك لأنه يعلم أنها شر، ولكنه يزعم أنه لا يستطيع الخلاص منه. * * *

إننا لا نريد موعظة بعيدة عن الحياة، يسمعها السامع كأنه يستمع حديثاً بلسان غير لسانه، بل نريد الموعظة الممتزجة بالحياة. لا نريد زيتاً مختلطاً بالماء، إذا تركته عاد منفصلاً يهبط الماء فيه ويعلو الزيت، بل ماء ممزوجاً به الخل، قد صار منه حتى لا تفرق فيه بين الخل والماء. لا نريد أن تكون دروس الدين في المدرسة بعيدة عما هو في المجتمع فلا يرى التلميذ سبيلاً واضحاً لإدخاله فيها؛ بل درساً مَبنيّاً على وصف ما في المجتمع: نَصِفُ الدواء ثم نسمّي له الدواء. إن الله لم ينزّل القرآن جملة واحدة كما أنزل الكتب من قبله، بل أنزله آية بعد آية، أو آيات بعد آيات، نزل مرتبطاً بالحياة، مقوِّماً عوجها، مصحِّحاً خطأها، سامياً بها: قال المشركون في مكة أقوالاً فنزل قرآن بحكاية هذه الأقوال وردّها، وكانت الهجرة فنزلت آيات في الهجرة، وكان الإفك فنزل القرآن بردّ ما أفك المفترون، وكانت مسألة أسرى بدر فنزل بها قرآن، وكانت بيعة الرضوان فنزلت الآية تتكلم عن بيعة الرضوان ... جاء الدين مرتبطاً بالحياة؛ كلما تلونا هذه الآيات ذكرنا ما كان، فجعَلْنا ديننَا -إذ ندرّسه في مدارسنا- بعيداً عن حياتنا. أنزل الله القرآن ليكون دستوراً نتبعه وقانوناً نطبقه، فاكتفى أناس منا بتلاوة ألفاظه والتطريب في قراءته، وافتتاح الحفلات واختتامها به، وبين تلاوة الافتتاح وتلاوة الاختتام ما لا يرضي الله ولا يوافق الإسلام. أليس هذا الذي يجري في كثير من بلاد المسلمين؟ لو كان القرآن يؤثر فينا كما أثر في عمر وغير عمر من الصحابة الأولين، فبدّل حياتهم ونقلهم من حال إلى حال، لو كان الناس يعلمون

أننا في هذا كأسلافنا، هل كانت الإذاعات في البلاد التي لا تحب الإسلام ولا تود أهله، هل كانت تفتتح إذاعتها بالقرآن؟ * * * وبعد، فإن أحاديث الإذاعة ومقالات الصحف ليست كدروس المدرسة، ففي المدرسة طلاب محصورون، وللإذاعة مستمعون وللجريدة قارئون لا حصر لهم. طلاب المدرسة مُلزَمون أن يحضروا من أول الحصة إلى آخرها، إن غابوا كان لهم مَن يتفقّدهم وإن غفلوا وجدوا من ينبّههم، ومستمعو الإذاعة وقُرّاء الجريدة ليس عليهم رقيب، إن شاؤوا فتحوا الرادّ فسمعوا وإن شاؤوا أغلقوه فاستراحوا، ومنهم من يسمع من الحديث كلمة من هنا وكلمة من هناك، ومن يسمعه من آخره فلا يعرف ماذا كان في أوله. وقرّاء الجريدة إن شاؤوا قرؤوا المقالة، وإن شاؤوا جازوا بها وتركوها، وإن شاؤوا قرؤوا كلمات منها. ثم إنهم متباينون فهماً وإدراكاً وعقيدة واتجاهاً، فالمحدث البارع والكاتب الناجح هو مَن يستمع إليه أو يقرأ له أكبر عدد منهم. المهم أن يستمعوا وأن يقرؤوا، ثم لا يضر المحدّثَ أو الكاتبَ ليكون ناجحاً أن يوافقوه أو أن يخالفوه، إن المهم هو أن يقرؤوه. ولست في مقام مَن يوجّه الكُتّاب والمحدِّثين، وفيهم كثير ممّن هو أعلم مني علماً وأوسع إدراكاً وأشد إخلاصاً، ولكنها ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين. * * *

منهج الدعوة وواجب الدعاة

منهج الدعوة وواجب الدعاة حديث أذيع سنة 1963 كنت قبل ثلاثين سنة معلماً في مدرسة ابتدائية، وكان معنا معلم شيخ قليل العلم كثير الادّعاء، يعرف من الإسلام أطرافاً يظن بأنها الدين كله. قُرع جرس الدرس مرة، وكان أحد المعلمين عطشان فتناول كأس الماء ليشرب قبل أن يدخل الفصل، فصرخ به صرخة جعلت حلقه يَشْرق بالماء وكفه تسقط الكأس. قال له: خالفت السنّة، شربت قائماً (¬1) ولم تُسَمِّ، وشربت جرعة واحدة لا ثلاثاً. وكان جدال تحول إلى معركة، دعت إليها شدة ذلك الشيخ وتركه المعروف عند الأمر بالمعروف. وقامت في دمشق نهضة دينية من نحو أربعين سنة، دعا إليها شيخان صالحان، تبعهما الناس أفواجاً وأقبلوا على دروسهما، وكادت تُصلح البلدَ لولا أن هذين الشيخين جعلا رأس الدعوة ومِلاكها العمامة واللحية وإخراج الأولاد من المدارس الحكومية، وكانت هذه أركان الإسلام عندهما، مع أن إطلاق اللحية وإن كان ¬

_ (¬1) مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم شرب قائماً.

من السنّة فليس من أركان الإسلام (¬1). وانتشرت في دمشق من سنين مشكلة شغلت العلماء شهوراً، ونُشرت فيها رسائل وأُلِّفت فيها كتب وكُتبت فيها مقالات، وانقسم أهل العلم فيها قسمين، فلا تسمع في كل مجلس إلا جدالاً. ولعلكم لا تصدقون إذا قلت لكم إن هذه المشكلة الكبيرة التي شغلت العلماء ليست محاربة الإلحاد الفاشي ولا الفساد المنشر، ولا نصرة الفضيلة وقمع الرذيلة، بل هي مشكلة التراويح: هل هي عشرون ركعة أم هي ثمان؟ وصارت هذه هي مشكلة المشكلات في الإسلام في تلك الأيام! وأنا ما ضربت هذه الأمثلة (وعندي عشرات من أمثالها، ولكني اجتزأت بها)، ما ضربتها إلا لأبيّن للناس اختلاف صور الإسلام في نفوس أهله. إن الإسلام في حقيقته واحد، ولكن أفهام الداعين إليه اليوم والناطقين باسمه تباينت في فهمه، حتى صار لكل واحد منهم مفهوم للإسلام غير مفهوم الآخر. وقد يشك في هذا الكلام كثير من السامعين ويترددون في تصديقه، ولكنه هو الواقع. كل واحد منا يتمسك بمجموعة من المسائل الفرعية يجعلها هي الدين. هذا يرى الدين في دفع الشبهات عنه ورد هجمات الهاجمين عليه، وإن لم يكن هذا المدافع متمسكاً بالفرائض ¬

_ (¬1) تحدث علي الطنطاوي في ذكرياته عن هذه الحركة التي سُمِّيت «نهضة المشايخ». انظر الحلقة 23، وهي في الجزء الأول من أجزاء الذكريات (مجاهد).

منتهياً عن المحرمات. وذاك يراه في الإقبال على العبادة وملازمة المساجد، ولا يعنيه بعد ذلك ما يكون من كيد خصوم الدين له وانصراف أبنائه عنه وفشوّ الضلالات فيهم. والمقلدُ الدّينُ عنده مذهبه الذي يقلده، والذي يتبع شيخاً يظن الدين ما يقوله هذا الشيخ وما يفعله، وثالث يرى الدين في ترك المذاهب والأخذ من الكتاب والسنة ولو كان الآخذ عامياً جاهلاً ... ومن يرى الدين في تكبير العمامة وتعريض اللحية وتطويل السبحة، ومن يرى الدين في صدق المعاملة والوفاء بالوعد وإن لم يُصَلِّ ولم يَصُم، ومن يراه في الصلاة والصيام ولو كان في معاملته الناس على غير ما يريد الإسلام. وأنا أكرر القول إني لا أنكر أن إعفاء اللحية مثلاً من السنة وأن العبادة هي ركن الدين، وما أدعو إلى حلق اللحية أو تهوين شأن العبادة، معاذ الله؛ إنما قلت إن الإسلام واحد، ولكن إذا فتشت عن صوره في نفوس المنتسبين إليه وحَدِّه في عقولهم تجد صوراً مختلفات وحدوداً متباينات، بعضها باطل وكثير منها حق، ولكنه بعض الحق، يأخذ أصحابها أحكاماً فرعية أو آداباً من آداب الإسلام فيجعلونها هي الإسلام كله. وهذه إذاعة «صوت الإسلام»، وأول ما يُطلب من محدّثيها تحديد الإسلام الحقيقي ورسم طريق الدعوة إليه. إن مَرَدّ أخطائنا في الدعوة إلى أمرين؛ الأول: أننا نبدأ بالفرع قبل الأصل، والمهم قبل الأهم. الثاني: أننا نختلف على هذه الفروع، فنهمل الدعوة إلى الأصول.

مع أن الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم. كيف دعا رسول الله إلى الإسلام؟ إنه بدأ أولاً بتصحيح العقيدة وتثبيت التوحيد في النفوس، ثم ثنّى بالنهي عن المحرمات، ثم أمر بإتيان الفرائض، ثم عمد إلى السنن والآداب. وكان الأعرابي يأتي من باديته فيجالس الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً أو بعض يوم، فيتعلم أصول الإسلام ويذهب إلى قومه داعياً ومبشراً. فلماذا لا نفعل كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليس هو قدوتنا، وبه الأسوة الحسنة لنا؟ * * * إننا نحتاج إلى دعوة جديدة إلى الإسلام في بلاد المسلمين وبين شبان المسلمين قبل أن ندعو إليه في أوربا وأميركا، لأن أكثر هؤلاء الشبان يجهلون الإسلام، ولأنهم أصبحوا كأنهم غرباء عنه، وهذه حقيقة نقررها مع أشد الأسف. فيجب أن نعرض عليهم الإسلام الواضح الخالي من الغموض، البسيط البعيد عن التعقيد، بأصوله المجرَّدة عن التفريعات، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من يجيئه من الأعراب. نلقّنهم أولاً ما يثبت به توحيد الله في نفوسهم، لا بمناقشة الجهمية والمعتزلة ومن كان من المخالفين الذين مضوا ولم يبقَ لهم أثر، ولا بإثارة المشكلات والشبهات والاشتغال بردّها، بل نلقنهم التوحيد كما جاء في القرآن، ونضع في قلوبهم محبة الله وخشيته، ونعلمهم أنه مطّلع عليهم وأنه لهم بالمرصاد، ثم نبين لهم المحرَّمات ونحملهم على اجتنابها، والفرائض

وندعوهم للقيام بها. ولا بد لي من بيان أن المحرمات والفرائض قسمان، قسم وردت فيه آيات وأحاديث صريحة قطعية الدلالة ليس فيها مجال للاجتهاد، وقسم وردت فيه آيات وأحاديث أراد الشارع -توسعةً على الأمة- أن يكون فيها مجال للاجتهاد. فالقسم الأول لم يختلف فيه العلماء أصلاً؛ لم يختلفوا في حرمة القتل والزنا واللواط والربا وأكل مال الناس بالباطل وعقوق الوالدين ... فهذه وأمثالها لا يجوز ارتكابها ومن استحلّها كفر. ولم يختلفوا في وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وبر الوالدين وأداء حقوق الناس وأمثالها، فهذه وأمثالها لا يجوز تركها، ومن استحلّ تركها كفر. أما ما اختلفت فيه مذاهب أهل السنة (أي المذاهب الأربعة) فذهب بعضها إلى تحريمه أو وجوبه وذهب بعضها إلى كراهته أو سنيّته، فينبغي أن نأخذ الشاب -ونحن ندعوه إلى الإسلام ونرغّبه فيه- بأخفّها عليه، ما دام لهذا الأخف مستنَد، وما دام قد قال به من يُعتَدّ بقوله من الفقهاء. وإذا علّمناه الفرائض، الصلاة مثلاً، فلنعلمه كيفيتها الصحيحة كما علمها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابَه حين قال: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي»، فلا ينبغي أن نُلزم الشاب بحفظ الشروط والأركان والواجبات والسنن والمندوبات والمفسدات، فيستعظم الأمر ويستصعبه فيتركه جملة، إلا إذا كان طالبَ علم يريد الانقطاع إليه ... فإذا صحت عقيدته، وعرف الحرام فاجتنبه،

وعرف الفرض فأتاه، وذاق حلاوة الإيمان، لقنّاه السنن والآداب ورغَّبناه فيها. * * * والشيء الآخر هو أن بين العلماء خلافاً على أمور اجتهادية يجوز في مثلها الخلاف، فهذه لا ينبغي أن نشتغل بالمناظرة فيها ولا أن نشغل العامة بها. والتراويح ليست فريضة، فإذا لم يُصَلِّها العامي عشرين ركعة وصلاها ثماني، أو أبى الثماني وأكمل العشرين، فإنه لا يترتب على ذلك حدث في الإسلام نشتغل به عما هو أهم منه، من دفع هجمات الملحدين وتعليم شبان المسلمين حقيقة الدين. أنا أرجو من العلماء أن يتعاونوا على ما اتفقوا عليه، ويتركوا الخلاف فيما يختلفون فيه إن كان من الأمور الاجتهادية التي اختلفت فيها أفهام الفقهاء ومداركهم. لقد هَبَّت اليوم عواصف من المذاهب الباطلة والشبهات ومن الفساد الذي يطلق الغرائز ويثير الشهوات، وهذه العواصف توشك أن تطفئ شعلة الإيمان في نفوس كثير من أبناء المسلمين، ونحن -معشر الدعاة والوعّاظ- نختلف على الجزئيات، أو نبدأ في الدعوة بالفروع قبل الأصول. وإذا نحن لم نعد بالإسلام إلى حقيقته، ونأخذه من ينبوعه فنعرضه على الشباب صافياً رائقاً، وتكن دعوتنا إلى المعروف بالمعروف، لا نكون قد قمنا بعمل ولا نكون قد أدّينا الواجب. * * *

ماذا يصنع الصالحون؟

ماذا يصنع الصالحون؟ كتبت سنة 1964 ولم تُنشَر (¬1) لي بنت أكملت الدراسة الابتدائية. وكانت عادتي في بناتي أن أدخلهن المدرسة الإعدادية، يبقين فيها سنتين أو ثلاثاً، ثم يجيء الخاطب الصالح فأزوجهن. فنظرت إلى المدارس الإعدادية في دمشق، فإذا المدارس الرسمية أكثر مدرّساتها من السافرات الحاسرات، وأنا قد نشّأت ابنتي على التزام الحجاب الشرعي وعلى اجتناب المحرَّمات الظاهرة. وفيها هذا السفور الذي يكشف الشعر والنحر وبعض الصدر ويجعل المسلمات في الزيّ كالكافرات، والبنت لا تُكبر أحداً إكبارها لمعلمتها ولا ترى لها قدوة سواها، ولو أني أمرت بنتي بالحجاب وشددت عليها فيه وذكّرتها به آناء الليل وأطراف النهار، ثم رأت المعلمات سافرات، لذهب كلامي كله هباء. ووجدت هذه المدارس لا تخلو من مدرّسين من الرجال. وأنا قد عوّدت بنتي ألاّ تلقى أجنبياً ولا تكلمه، ولا بد لهذا المدرّس من أن يكلمها وتكلمه، فتَهون عليها مخالطة الرجال. ¬

_ (¬1) انظر التعليق في آخر المقالة (مجاهد).

ووجدت البنات فيها -مهما كنّ متحجّبات- إذا دخلن المدرسة ينزعن أكثر حجابهن كأنهنّ صرنَ في دارهنّ، فيرى المدرّس منهن ما لا يجوز أن يرى مثلَه إلا أخٌ أو أب، وما هو بأبٍ لهنّ ولا أخ، ما هو إلا أجنبي لا يحل له -مهما كان علمه وكانت سنّه وكان صلاحه- لا يحق له أن يرى منهن إلا الوجه والكفين، ولا يجوز أن يخلو بإحداهن ولو كانت خلوته بها خلوة كلام. ثم إن مناهج هذه المدارس على غير ما أريد وعلى غير ما أرى أنه الصواب؛ فهي تعلم البنات مثل علوم الصبيان، مع أن الذي يحتاج هو إليه لا تحتاج إليه هي، وما ينفعه أن يدرسه لا ينفعها هي أن تدرسه، ذلك لأنها خُلقت لغير ما خُلق له، وستشتغل إذا كبرت بغير ما يشتغل هو به، وهذا التعليم يدفعها -في مُقْبِل أمرها- أن تسلك مسلكه وأن تحاول التحرر من أنوثتها لتشاركه في رجولته، فتدخل مثله دواوين الحكومة وتشتغل مثله في المتاجر، فلا تبقى امرأة كما خلقها الله ولا تصير رجلاً كما أراد لها هؤلاء الناس! وكنت قد وضعت أخواتها الثلاث قبلها في مدرسة أهلية قالوا إنها إسلامية، وإذا هي لا تختلف عن مدارس الحكومة إلا بأنها بالأجرة وتلك بالمَجّان، والمنهج هو المنهج والكتب هي الكتب، والمدرّسات أكثرهن من السافرات كأخواتهن هناك، وفيها من البلايا والطامّات ما يهدم في نفوس التلاميذ والتلميذات كل ما يبنيه الأبُ الصالح في البيت والخطيبُ المصلح في المسجد! ومن بعض ما فيها أن كتب التاريخ تعلّم البنات ديانات الأمم الأولى -من المصريين والفنيقيين واليونان والرومان- وما كان لها

من عقائد تنافي الوحدانية، وتكلفهن حفظ ذلك واستظهاره قبل أن يعرفن ما التوحيد وما عقائد أهل الإسلام. ثم إن دخلت البنت المدرسة الثانوية ألزموها أن تلبس السراويل القصار بحجة الرياضة، ثم يأتون لها بالرجل العسكري ليعلّمها أساليب القتال واستعمال السلاح، كأن الشبّان لا يدورون فارغين في الطرقات ولا تمتلئ بهم السينمات، وكأنه لم يبقَ في البلد رجال فوجب القتال على النساء! ثم زادوا فجعلوا للبنات معسكراً يَبِتْنَ فيه شهراً، يَنَمْنَ ويُقمنَ خارج بيوتهن بعيدات عن أهليهن، يشرف عليهن الرجال الأجانب عنهن. ثم إن دخلت البنت الجامعة وجدت من الاختلاط والفساد ما يغني تصوُّره عن تصويره والعلمُ به عن الكلام فيه. * * * ووجدت أن المجتمع قد فسد كما فسدت المدارس، وإذا لم يصل السفور إلى البنت من زميلات المدرسة وصل إليها من جارات الدار. ووجدت أن البنت إن لم تقرأ الكفر في كتب المدرسة قرأته في المجلات أو سمعته في الإذاعات ... ووجدت الداء يستشري ويزيد، فما كنا نتصوره قبل ثلاثين سنة مستحيلاً، وقبل عشرين سنة بعيداً، وقبل عشر سنين مُعيباً، صار هو القاعدة المتَّبَعة وصار هو الأصل الذي يُقاس عليه ويُرجَع إليه. فماذا أصنع؟ إنها مشكلة، ليست مشكلتي وحدي، بل هي مشكلة كل أب له بنات. فكيف أحفظ على بناتي حجابهن؟ هذا وباء عَمَّ وانتشر، فماذا نصنع له؟ ماذا يصنع الناس في درء الوباء؟

كان الوباء إذا جاء أقام سنين وفتك بالكبير والصغير حتى تمتلئ البلد بالجثث وتخلو من السكان. كذلك كان يصنع في الشرق والغرب، ولكنه لمّا قدم مصر سنة 1947 لم يلبث فيها إلا قليلاً، فما السبب؟ لقد كنت مقيماً في مصر تلك السنة وعرفت السبب: استعدت له الحكومة ونهض لمقاومته الأطباء، فحاصروه قبل انتشاره وقضوا عليه قبل استفحاله. وهذا وباء في الدين، جعلَنا نحن المسلمين كأنّا لسنا بالمسلمين، فالعورات مكشوفة، والمحرَّمات معلَنة، والفرائض متروكة؛ كأننا والله في جاهلية جَهلاء وضلالة عمياء لم يُنزَّل علينا كتاب ولم يُبعَث فينا نبي، بل إن الجاهلية أشرف -أقسم بالله- وأعفّ وأنظف! وهل كان في الجاهلية بنت تكشف عورتها بعلم الأب وعين الأم ونظر الناس، فلا تسمع مُنكِراً ولا ترى معترضاً؟ إنه وباء في القلوب والعقائد والأخلاق، فماذا نصنع له؟ أما الحكومة، لا أعني حكومة بعينها بل أكثر حكومات البلاد الإسلامية، فلم تلتفت إليه ولم تهتمّ به، بل ربما كان منها من تشجّعه وتزيده شرّاً وانتشاراً. وأما الشعوب فلم تنتدب منها من أهل القدرة والاختصاص من يتطوع لمحاربته ودفعه على خطة مرسومة ومنهج مدروس، كما فعل الأطباء في دفع ذلك الوباء. إن أكثر الأمة -لو أحصيت- لا تزال تؤمن بالله وتحب الخير، ولكنها قد ضعفت ثقتها بربها وضعفت ثقتها بنفسها، لا يجمعها نظام ولا يقودها قائد ولا تنطق باسمها صحيفة، بل

إن القانون في كثير من البلدان يصادم رغبتها وعقيدتها والصحف تنشر ما يخالف رأيها ومذهبها، فلا تزال كلَّ يوم إلى نقص. فلم يبقَ إلا أن يحتاط كلٌّ لنفسه؛ لم يبقَ إلا أن يفرّ المرء بدينه ويجتنب أسباب الداء. لقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاد الدين غريباً، فلنكن من أهله ولو تغرّبنا في بلادنا، فأولو الفضل في أوطانهم غرباء. لقد تصدّعت الجبهة وانهزم الجيش وتفرّق، وبقي هاهنا وهاهناك أفراد. فليجتمع من بقي، وليتكاتفوا ويتحارسوا حتى يكثروا ويعيدوا تأليف الجيش. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون (¬1). * * * ¬

_ (¬1) هذه المقالة زفرة مصدور، كتبها علي الطنطاوي في هيئة المسوَّدة ولم يبيّضها ولم ينشرها، وقد بذلتُ بعض الجهد في تحريرها حتى تأخذ صورة المقالة التامة. وهي مقالة مفهومة في سياقها التاريخي، فقد كُتبت في وقت عصيب وواقع كئيب، ولم يلبث جدي بعدها في الشام إلا قليلاً، ثم غادرها فلم يعد إليها إلا في زيارات متقطعة خلال السنوات الخمس عشرة اللاحقة، وانقطع بعد ذلك فلم يعد إليها قط حتى توفاه الله، عليه رحمة الله (مجاهد).

بيان وإنذار

بيان وإنذار حديث أذيع سنة 1972 يا سادة، كان المستعمرون على عهد نشأتنا يحكمون بلادنا، وكانت لهم على كل جبل قلعةٌ مدافعُها موجَّهة إلينا، ولهم في كل بلد جند يلوّحون بسلاحهم في وجوهنا، وكنا نثور عليهم فنقتل منهم ويقتلون منا ... ثم أوحى إليهم شيطانهم خطة فيها توفير لأموالهم وحفظ لأرواح جنودهم، هي أن يتركوا هذا الاستعمار الظاهر ويعمدوا إلى استعمار خفي، يستعمرون به القلوب لا المدن، ويسخّرون به أبناءنا للإيقاع بنا. وكان أول ما حاربونا به أن عملوا على سلبنا أقوى أسلحتنا، وهي ديننا. ذلك أنهم علموا أنه ما دام المسلمون متمسّكين بهذا الدين الذي يدعو إلى العزة ويأمر بالجهاد، ويفتح عيون أتباعه حتى يفرقوا بين الخير والشر والصديق والعدو، فلن يصلوا منا إلى ما يريدون؛ فعمدوا إلى إضعاف الدين في نفوس أولادنا، وشقّوا لذلك الطرق وأعدّوا له الخطط، فمن تقليل ساعات الدروس الدينية في المدارس، ومن بَثّ الشر في النفوس، ومن إفساد الأخلاق بالصور والأفلام ... فنالوا بذلك ما لم ينالوا عُشرَ مِعْشاره بالقلاع والمدافع والدبابات!

وهذا الذي أقوله ليس خيال شاعر ولا صَوغ أديب، ولكنه حق واقع قالوه في كتبهم التي ألّفوها لأنفسهم، وقرّروه في مجتمعاتهم ووصّاهم به دهاقين سياستهم. إنهم ما حاربونا بسلاح كان أكثر أذى لنا وأشدّ نفعاً لهم من هذا السلاح الشيطاني الرهيب، وهو صرفنا على ديننا وعن دعوة ربنا. فإذا أراد المسلمون أن يردّوا أذى هذا السلاح عن أعناقهم، وأن يحبطوا كيد عدوّهم ويفوّتوا عليه الظفر بهم، فليس لهم إلا الرجوع إلى دينهم. فيا شباب المسلمين، لا تبلغ منكم الغفلة أن يتلاعب بكم العدوّ ويسخّركم لمآربه. إنه يريد أن يصرفكم عن دينكم ليتمكن منكم ويستحوذ على خيرات بلادكم وثمرات أرضكم، فلا تستجيبوا لوساوس شياطين الإنس، وارجعوا إلى دينكم فتمسكوا به، واجهروا بدعوته، احملوا أنتم لواءها وكونوا أنتم سياجها وحُماتها، واطلبوا بذلك رضا الله لا رضا الناس، وثوابَ الآخرة لا متع الدنيا، وأعيدوا على مسمع التاريخ سِيَر شُبّان الصحابة الذين شدهوا التاريخ ببطولاتهم، أعيدوها بأفعالكم لا بأقوالكم، حتى تعلم الدنيا أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تموت وأن دعوة الإسلام لا تنقطع، وأنه قد يهرم الدهر ويبقى الإسلام شاباً يحميه من أبنائه شبابٌ يقحمون في سبيله الأهوال ويجرعون الغصص، ويستخفّون الأثقال ولا يبالون بالموت. ويومئذ، يوم يتعاضد المسلمون ويتضامنون ويرجعون إخوة كما أراد الله أن يكونوا، يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. * * *

الدعوة إلى الأصول قبل الفروع

الدعوة إلى الأصول قبل الفروع حديث أذيع سنة 1972 الإسلام يحتاج اليوم إلى الدعوة من جديد. لا أقصد دعوة الكفار المخالفين، فهي واجبة، ولكن أمامنا ما هو أوجب وما هو أقرب، وهو دعوة شبان المسلمين والشابات المسلمات إلى الإسلام. لا تعجبوا، فإن أكثر أبناء المسلمين لا يعرفون ما الإسلام. حتى الذين يصلّون منهم ويصومون، فإن الكثير منهم يصلي ويصوم بحكم العادة، ولكنه لا يعرف أسرار الصلاة والصوم ولا يعرف من أحكامهما إلا القليل. فكيف ندعو الشبان إلى الإسلام؟ أنا أعرف من الدعاة الصالحين من يأتيه الشاب من هؤلاء يرغب في التعلم والصلاح، فلا يبدؤه بما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصحيح العقيدة أولاً، ثم بتعريفه المحرَّمات والكبائر المُجمَع عليها ليتجنبها والفروض الأساسية المُجمَع عليها ليقوم بها، لا يصنع ذلك كله، بل يبدؤه بإطلاق لحيته! وأنا لا أعترض على إطلاق اللحية ولا أزيّن حلقها، ولكن أضرب مثلاً لمن يترك

أركان الإسلام الأصلية ويبدأ بما وراءها، فيبذل جهداً في إقناع الشاب بإطلاق اللحية، لو بذله في تصحيح العقيدة وإقامة أركان الدين لحقق من ذلك ما يريد، ذلك لأن أصعب شيء على الشاب إطلاق لحيته، فإذا عرّفته بالله ولقّنته تعظيمه أطلق لحيته من نفسه بلا كلام، أما إذا بدأت بها فعملها على كره لها، ثم ثَقُل عليه أمرها فتركها فإنه يترك معها الدين كله. وقد شاهدنا هذا مراراً. هذا مثال، فلا يقل بعض السامعين إن الطنطاوي يدعو إلى حلق اللحى ومخالفة السنة، فإننا في وقت حرج، والإسلام مُهاجَم في عقر داره، والإيمان نفسه مهدَّد. نحن الآن أمام خطر حقيقي وكفر صريح، فأجّلوا البحث في السنن والمكروهات، بل أجّلوا البحث في الأمور المختلَف بين فقهاء المذاهب الأربعة في أنها محرمة أو مكروهة. * * * خطيب الحرم في الجمعة الماضية قال كلمة صحيحة، هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث ثلاث عشرة سنة في مكة لا يدعو فيها إلا إلى تصحيح العقيدة وإقرار التوحيد، فلما استقر التوحيد في النفوس وصحّت العقيدة نزلت عليه تفصيلات الشريعة وآيات الأحكام. فلماذا لا يفعل العلماء والمرشدون والدعاة إلى الله مثل فعل رسول اللهصلى الله عليه وسلم؟ التوحيد هو الأصل، فلماذا نجد من يبدأ بفروع الفروع قبل الأصل؟ جاء مرة شاب ألماني إلى دمشق، هداه الله إلى الإسلام فهو

يريد أن يعرف أحكامه ويتمكن منه، فدلوه على أحد المشايخ، فكان أول ما بدأه به أن يطلق لحيته وأن يختن نفسه، ثم بدأ يعلّمه أحكام الاستبراء والاستنجاء، والخلاف في جغرافية الوجه: هل يحدّه شمالاً أول الجبين أو منبت الشعر؟ وألا يضربه بالماء عند الوضوء لأن ذلك مكروه ... وأمضى سنة كاملة ما تعلم فيها إلا أقسام المياه، وأنها سبعة: طاهر مطهِّر غير مكروه، وطاهر مطهِّر مع الكراهة، وطاهر غير مطهِّر ... إلى آخره، وما حكم السمن الذي تسقط فيه فأرة والبئر التي تموت فيها هرة! وثقوا أني أقول ما وقع، فكانت النتيجة أن الشاب رجع إلى ألمانيا وعاد إلى دينه! وليس كلامي الآن عن غير المسلمين، بل إن الكثير من شباب المسلمين يحتاج إلى أن تدعوه إلى الإسلام من جديد. إن أعداء الإسلام ينصبون الشِّباك لاصطياد المسلمين، وشباكهم -مع الأسف- من الحرير الناعم، يضعون فيها كل ما يرغب فيه الشبان من ألوان الجمال وأنواع الملذات، يستعينون على اجتذابهم بالنساء وبالصور وبالملاهي، يخاطبونهم باللغة التي يفهمونها، يأخذونهم باسم حرية الفكر وحرية الاختلاط والتحرر من القيود. بهذا وأمثاله أخذوا أكثر الشبان المسلمين وضمّوهم إلى صفوفهم. فإذا ألهم الله أحد الشبان الرجوع إلى الدين واتصل بأحد المشايخ، فماذا يجد؟ أنا أصف أمراضاً وأقرر حقائق، فلا يعتب عليّ أحد.

إما أن يتصل بشيخ من أرباب الطرق الصوفية، فيلقنه طريقته ويحمله عليها، ويُلزمه بأمور لم يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا الصدر الأول، ويقول له: إن هذا هو الدين. أو أن يكون الشيخ من الذين اشتغلوا بالفقه كما كان يُعرَف الاشتغال بالفقه من خمسين أو ستين سنة، وذلك بأن يقرأ الطالب على مشايخه كتب الآخرين ويفهمها، ثم يُقرئها ويُفهمها، لا يبحث عن دليل، ولا يفرّق بين الثابت بالنص وما هو مستند إلى عرف أو اجتهاد يخطئ ويصيب، فيتلقى أقوال المتأخرين من الفقهاء على أنها دين لا يُبدَّل ولا يُغيَّر. أو يكون الشيخ من الذين يهتمون بالمظاهر ويشتغلون بالتنظيم عن الغاية، فيدخل في اجتماعاته وتنظيماته، ويتعود الخوض في مسائل معينة لا يعدوها، ويرمي إلى السياسة الحاضرة أكثر مما يرمي إلى التربية الحقيقية ... وأمثال ذلك. لا أقول إن جميع المشايخ والدعاة على هذا، لا بل إن فيهم المشايخ العلماء العاملين، ولكنهم قلة، والكثرة تشتغل بالفرع عن الأصل. الكثرة تعيش في محيط ضيق، لا تتعداه بأبصارها ولا تعرف ما وراءه، فلا تقدّر الخطر الذي يحيق بالإسلام ولا تعلم ماذا يصنع أعداء الإسلام. لا تدري أن الإسلام عاد غريباً كما بدأ غريباً، صار غريباً في بلاده وبين أهله. إن المساجد تمتلئ بالمصلين، والناس يصومون في رمضان، والحجاج يزداد عددهم سنة بعد سنة، ولكن الصلاة والصيام والحج فقدت عند كثير من الناس روحها وبقي جسدها. إن سموم أعداء الإسلام دخلت إلى مجتمع المصلّين الصائمين، إلى بيوتهم، إلى أفكار رجالهم، إلى أزياء نسائهم، إلى مناهج

مدارسهم، إلى قوانين محاكمهم. * * * إن الإسلام مهدَّد من أساسه، ولا بد من إعداد خطط جديدة، خطط ترد خطط الأعداء، فنبدأ بالأصل وهو التوحيد، ثم ننتقل إلى ترك المحرمات، ثم إتيان الفرائض، وبعد ذلك نصل إلى الكلام في تطويل اللحية وتقصير الثوب والتسمية على الطعام، وأمثال ذلك من الفروع. إذا دخلت شوكة في إصبع الولد بين ظفره ولحمه، وغُرِزت فيها، يهتم أبوه ويسرع به إلى الطبيب، لكن إذا كان الولد مصاباً بورم خبيث ووُضع تحت العملية الجراحية، وكان معرَّضاً للموت بين دقيقة وأخرى، ورأى الطبيب الشوكة في إصبعه فإنه لا يلتفت إليها، لأنه يشتغل بما هو أهم، بإنقاذ حياة الولد من خطر الموت. الأمر والله جِدّ كل الجد، والإسلام مهدد حقيقة، وكثير من الشبان من أبناء المسلمين قد تمكن منهم أعداء الإسلام فحازوهم إليهم، فينبغي أن يكون اهتمامنا كله بالحفاظ على أسس الدين. لنشتغل الآن بالعقائد وبالواجبات والمحرمات. إن جذع الشجرة قد اشتعلت من حوله النار، فاشتغلوا بالجذع ودعوا الآن الفروع والأوراق. * * *

رسالة بلا عنوان

رسالة بلا عنوان نشرت سنة 1955 [هذه رسالة توجيه أرسلها إلينا الأستاذ الكبير قاضي دمشق، الشيخ علي الطنطاوي، قبل أن يصله العدد الأول من مجلتنا، وفيها نداء حار إلى العلماء نرجو أن يستجيبوا له، وتوجيه طيب للشباب نرجو أن يعملوا به. والمجلة تشكر الأستاذ الكريم على توجيهه الواعي (¬1).] أعتذر إليكم إذ أبطأت عنكم. وما أبطأت كسلاً ولا تهاوناً، ولكن دأبي -إذا دُعيت إلى الكتابة في مجلة جديدة- أن أرقب العدد الأول منها لأعرف مطلب أصحابها ومشرب كتّابها، ولأدري كيف أخاطب قرّاءها وأختار الموضوعات الصالحة لها، فلما تصرَّمَت الأيام ولم ترسلوا إليّ المجلة كتبت هذه الرسالة، فإن وجدتم فيها الشيء الذي تريدونه مني وكانت تصلح لمجلتكم فانشروها، وإن كانت لا تصلح فاطووها. ¬

_ (¬1) نُشرت هذه المقالة -كما أغلّب- في العدد الأول من مجلة «الشهاب» التي أصدرها الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله في تلك السنة، واستمر صدورها إلى سنة 1958 (مجاهد).

وأنا لا أعرف ما أسلوب مجلتكم، ولكني لو كنت من أصحاب الرأي فيها لاقترحت عليكم أن تجعلوا مقصدها الأول هو تعريف المسلمين بالإسلام وترجمة علومه إلى لسان العصر، لأن الإسلام في ذاته قوة لا يقوم لها شيء في الدنيا، ولذلك سار في الأرض وانتشر، وما زال ينتشر إلى اليوم بلا تبشير به ولا دعوة منظَّمة إليه. وما أُتِي المسلمون إلا من جهلهم بالإسلام. ولقد كنت أقول دائماً لمجدد العصر الشيخ حسن البنا (رحمه الله وانتقم له ممّن سفك دمه) كنت أقول له دائماً إن موطن الضعف في الإخوان هو جهلهم بالدين، حتى إنه -غفر الله له- ألزمني بأن أجعل جلسات أسبوعية لبعض رؤساء الشُّعَب في مصر، وكان هؤلاء الرؤساء من طلبة الجامعة على الغالب، من كلياتها المختلفة، فمنهم طالب الطب وطالب الأدب وطالب الهندسة، وكانت لي معهم مجالس كثيرة وجدت فيها أن أكثرهم لا يعرف موضوعات العلوم الإسلامية ولا فيمَ تبحث، ولا يستطيع أن يفرق بين أصول الفقه وأصول الدين، ولا يعرف شيئاً من مصطلح الحديث، ولا وقوف له إلا على ما لا يكاد يُذكَر من كتب الثقافة الإسلامية ... هذا على رغم ما شهدته فيهم من صدق الإيمان وتوقّد النشاط ومَضاء العزم، واستعدادهم لاقتحام النار والحديد بصدورهم ابتغاء نصر الإسلام وإعلاء كلمة الله. وأنا أعلم أن لهؤلاء الشباب في جهلهم هذا بعض العذر، فهم قد درسوا في المدارس الرسمية، وهذه المدارس لا تزال تمشي على الطريق الذي سيّرها فيه دَنْلوب في مصر وراجِهْ في سوريا وأمثالُهما، وهو طريق يبعدها عن الدين وعلومه بدعوى

التجديد وترك التعصب ومجاراة الأمم الراقية. وهي دعوى كاذبة، والحقيقة فيها أن أوربا أدركت من زمن بعيد قوة الإسلام فعملت على تجريد المسلمين من هذه القوة، فهوّنت عليهم أمر دينهم وهوّلت عليهم بهذه الألفاظ الطنّانة، فصدق ذلك السخفاءُ منهم وحسبوا أنهم لا يكونون متمدنين إلا إن تركوا الدين. ولست أدري متى ينتبه المسلمون ويدركون هذه الخدعة؟ ثم إن هؤلاء الشباب إذا أرادوا أن يعرفوا الإسلام بأنفسهم لم يجدوا أمامهم إلا هذه الكتب القديمة، وهي موضوعة لزمان غير زمانهم ومكتوبة بأسلوب لا يفهمونه ولا يفهمه إلا المتمكن من علم المنطق، الممارس لهذه الكتب المتلقّيها عن مشايخها، وإلا العلماء، وأكثرهم بعيد عن الشباب والشبابُ بعيدون عنهم، لا صلة بينهم وبينهم، فكيف يعلم هؤلاء الشباب ما الإسلام؟ إنهم لا يمكن أن يعرفوا الإسلام إلا بأن تعمد مجلة كمجلتكم إلى علماء الدين فتكلّفهم بتبسيط علوم الإسلام، ونشر خلاصات عن مباحثها العلمية بأسلوب أدبي سهل، ودلالة القرّاء على كتبها وإرشادهم إلى مراجعها. وفي مصر وفي الشام من يستطيع أن يقوم بهذا العمل على أكمل وجه، كالأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاّف والأستاذ الشيخ شلتوت، وأمثالهما. وأن يكون مقصدها الثاني بعث روائع تاريخنا ومناقب رجالنا، وعرضها على القراء بالأساليب البيّنة والأقلام القوية المتمكنة، لتذكّرنا بهذا الإرث الضخم الذي لا يزال يجري في دمائنا، ولكنا نسيناه وأعرضنا عنه، وبأمجاد ماضينا ومفاخر

أجدادنا، فيكون لنا من ذلك دافع إلى العمل وحافز إلى الجِدّ، وأن لا نلتفت إلى الهدّامين المنافقين من صنائع الأجانب الذين لا يفتؤون يَعيبون علينا فخرنا بماضينا، ليجرّدونا من هذا السلاح الثاني من أسلحتنا ويُرضوا بذلك أعداءنا الطامعين في بلادنا. وأن يكون مقصدها الثالث دراسة هذه المذاهب الجديدة المخالفة لديننا، التي لا يزال يُفتَن بها شبابنا ويقبلون عليها، كالاشتراكية والشيوعية والعنصرية والقومية، والبدع الجديدة الكافرة كالبهائية والقاديانية، دراستها دراسة فهم وتثبّت والرد عليها بلسان أهلها، كما صنع الغزالي حين ألّف «مقاصد الفلاسفة» أولاً، وأثبت أنه فهم مذاهبهم حتى عُدَّ بذلك من أئمتهم، ثم ألف «تهافت الفلاسفة» فضربهم ضربة لم يستطيعوا أن يقوموا بعدها. هذا، وأنا سأحاول إن شاء الله أن أشارككم في تحقيق هذه المقاصد على مقدار ضعفي وعجزي، والله المستعان، والسلام على من قبلكم من الإخوان. * * *

خدمة الإسلام

خدمة الإسلام نشرت سنة 1990 (¬1) لما عدت إلى الدار وخبرني أهلي أن الجريدة هتفت بي تهنّئني بالجائزة لم أفهم المقصود منها ولم أدرِ أي جائزة هي، لأنني ما مُنحت في عمري جائزة ولا اجتمع قوم لتكريمي. وأنا أكتب وأخطب من سنة 1345هـ وأنا دون العشرين، وقد دخلت الآن عشر التسعين، وبلغ ما كتبته ونشرته أكثر من خمسة عشر ألف صفحة، ولم آخذ جائزة ولم أجد من أحد تكريماً. ولعل ذلك كان خيراً لي لأنني أنتظر الثواب من الله وحده. لما كانت الوحدة بين سوريا ومصر أنشئت لجان للأدباء ولجان للفقهاء، فعُرض اسمي على اللجنتين، فقال أهل الفقه إنه لا مكان لي عندهم لأنني رجل أديب، وقال الأدباء أنْ لا محل لي معهم لأنني شيخ فقيه، فضعت بين الفقه الذي أنكرني والأدب الذي تخلى عني، ورجعت صفر اليدين وحافي القدمين، ما ¬

_ (¬1) نُشرت هذه المقالة في جريدة «الشرق الأوسط» يوم الخميس 15/ 3/ 1990 بمناسبة حصول الشيخ رحمه الله على جائزة الملك فيصل في خدمة الإسلام، وبعضها مقتطف من الكلمة التي كتبها لتُلقى باسمه في حفل الجائزة (مجاهد).

أدركت ولا خُفَّي حُنين! وقد تعودنا ألاّ يُذكر في هذا المقام، مقام التكريم وتوزيع الجوائز، إلا من كان يلقى الناس دائماً ومن عقد بينه وبين كبارهم صداقات وصِلات، أما أن يُعمَد إلى رجل مثلي، معتزل من سنين طويلة قد اشتمل عليه بيته، لا يلقى الناس إلا من كُوّة الإذاعة أو من لوحة الرائي (التلفزيون) أو من بين سطور الجريدة، ثم يكرّموه، فهذا شيء عجيب ... وهذا ما كان. إن من أكبر الشرف أن يسجَّل أحدنا في فرقة خدم الإسلام. أليس عند الفرنسيين «جوقة الشرف» ووسامها عندهم أعلى وسام؟ إن خدمتي للإسلام كانت بتوفيق من الله لي وكانت نعمة أنعمها الله عليّ، لم تكن بعملي أنا. وهل اخترت أنا قبل أن أولد الشيخ مصطفى الطنطاوي العالم الفقيه أمين الفتوى ليكون أبي؟ وهل شاركته في اختيار شقيقة محب الدين الخطيب لتكون أمي؟ إن الله أنعم عليّ بذلك بغير عمل مني وأثابني عليه (¬1). إن أكبر حادث في حياتي لم أره ولم أعرفه إلا سماعاً من الناس، وهو يوم مولدي؛ لا أذكر منه إلا ما ذكروه لي، وقالوا (وهو خبر من الأخبار) إني وُلدت بلا أسنان، وإني لم أكن أتكلم، وإني لم أكن أفهم الكلام، ولا أستطيع أن أنقلب من جنب إلى جنب، مع أن الحيوان تلده أمه فيقف على رجليه ثم يمشي معها، ولم تولّده طبيبة ولا قابلة! وكنت إن حطَّت على ¬

_ (¬1) ولكنه -من كرمه- لا يعاقب من كتب عليه أن ينشأ في بيت فسوق وعصيان، وإنما يؤاخذ كل إنسان بعمله.

أنفي ذبابة لم أملك أن أطرد الذبابة عن أنفي، فكان الذي يحفظني ويوجهني هو الله. خلقني من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيباً. ثم كتب الله لي أن طال بي العمر وأني رأيت حلواً ورأيت مراً، فلا الحلو دام ولا المر استمر. وكذلك الدنيا، ليل بعده نهار ونهار يعقبه ليل، لا الليل يبقى ولا النهار، الآلام يأتي عليها حينٌ تصير ذكرى في النفس وحديثاً على اللسان، ولا يبقى للإنسان إلا ما يحمله معه إلى الدار الآخرة. وأنا أسأل الله أن تكون خدمتي للإسلام مما ينفعني في آخرتي. * * * وهل يحتاج الإسلام إلى من يخدمه ويدعمه؟ إن خدمته شرفٌ للخادم لا سدُّ حاجة في المخدوم. لقد قلت في الكلمة التي ألقاها عني في حفل الجائزة حفيدي المهندس مجاهد ديرانيّة: افتحوا مصوَّر العالم الإسلامي وانظروا إلى البلاد التي دخلها الإسلام أيام الفتوح، والبلاد التي دخل إليها بعدما طُويت رايات الفتح ووقفت جيوشه ولم يبقَ للمسلمين فتح جديد، مَن الذي أدخل الإسلام في الجزر النائية من أندونيسيا وماليزيا والفلبين؟ من أوصل الإسلام إلى المراكز الإسلامية في أوربا كلها وفي أميركا؟ من حمل الإسلام إلى كوريا وإلى اليابان؟ إن الذي حمله تجّار لم يكونوا منقطعين للدعوة ولا مستعدين لها، ولم يأت من يمدّهم بالمال الجزيل وبالوسائل

الموصلة كما يُمَدّ المنصِّرون. لقد زرت أكثر بلاد الإسلام في آسيا وزرت كثيراً من المدن التي فيها مسلمون في وسط أوربا، فرأيت أنه ليس بين أهلها (وبين شبّانهم على الأخص) وبين أن يدخلوا في الإسلام إلا أن يعرفوه على حقيقته، لأنه قوة في ذاته. وقد كذب الذين يدّعون أن الإسلام إنما انتشر بالسيف. لقد مرّ وقت كان المسلمون فيه بعدد أصابع اليدين، كانت أمة الإسلام مؤلَّفة من أبي بكر وعليّ وخديجة وسلمان وبلال؛ أبو بكر يمثل الرجال، وعليّ يمثل الصبيان، وخديجة تمثل النساء، وبلال يمثل الحبشة، وسلمان يمثل الفرس، فهل كان معهم سيف؟ هل كان مع المسلمين الأولين الذين كانوا قلة في مكة وكانوا يستترون في دار الأرقم في أصل الصّفا، هل كان مع هؤلاء الذين نشروا الإسلام وأسسوا له الأسس وعرّفوا به الناس، هل كان معهم جيش له قوة وسلاح؟ بعث الله محمداً بالتوحيد ليواجه به الأرض الكافرة كلها، قال له: قاتل في سبيل الله لا تُكلَّف إلا نفسك. رجل واحد يقاتل في سبيل الله، لينصر شرع الله ولينقذ عباد الله من الضلالة والكفر. إن الذين يحسبون الجهاد عدواناً مسلحاً لا يدرون ما الجهاد. الجهاد ليس حرباً هجومية نعتدي فيها على الناس، والإسلام إنما جاء لإقرار العدل وتحريم العدوان، وليس الجهاد حرباً دفاعية

بالمعنى العسكري، فما احتل الكفار مكة ولا المدينة؛ ولكن مَثَل الجهاد كقطر كبير أصابه القحط، فشحَّت الأقوات وعمّ الجوع وفشت الأمراض وقلّ الدواء، فجاء من يحمل المدد إلى الجائعين والدواء إلى المرضى لينقذهم مما هم فيه، فوقف في الطريق ناس يمنعونهم، يحولون بينهم وبين هذا الخير وهذا العمل الإنساني، فقالوا لهم: تعالوا شاركونا فيما نعمل تكونوا منا ولكم ما لنا وعليكم ما علينا، فأبوا عليهم. قالوا لهم: دعونا نمرّ ونحن ندافع عنكم، لا نكلفكم قتال عدو ولا بذل روح، على أن تمدونا بشيء من المال قليل. قالوا: لا. فلم يبق إلا أن يقاتلوهم، أن يقاتلوا هذه الفئة القليلة التي تمنع الخير عن الناس ... يقاتلون أفراداً لينقذوا أمماً، وكان ذلك هو الجهاد. وكان الخير الذي نحمله للدنيا هو الذي نزل علينا من السماء في حراء. * * * الإسلام قوي بذاته مؤيَّد بتأييد الله له. انظروا كم حاقت به من شدائد، وكم اجتمع عليه من خصوم، وكم وضعوا لحربه من خطط، فكان النصر أخيراً للإسلام. لمّا قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدّ أكثر العرب عن دين الحق، منهم من كفر وخرج من الإسلام، وأكثرهم منعوا الزكاة، فعدّهم خليفة رسول الله بهذا من المرتدّين. وحسب أقوام أنها نهاية الإسلام، فما هي إلا أن ثبت هذا الشيخ الجليل، أبو بكر، وثبت معه خيار المسلمين، فماتت الردة وعاش الإسلام.

ولما اجتمعت دول أوربا كلها على حرب المسلمين، وساقت إليهم جيوشاً أولها في القسطنطينية وآخرها في أعماق أوربا، وتوالت الحملات، وملك الصليبيون السواحل من سوريا وحكموا القدس، لا سنة ولا سنتين بل أكثر من تسعين سنة، فظن ضعاف النفوس أن القدس ضاعت منا إلى الأبد، فما هي إلا أن قام مسلم تركي وقام مسلم كردي، فنشرا راية القرآن وضربا بسيف محمد، حتى انتصر نور الدين ومن بعده صلاح الدين على أوربا كلها، لأن راية القرآن إذا رُفعت لا تُخذَل أبداً، وسيف محمد إذا ضربنا به لا ينبو أبداً. ثم جاء السيل الجارف من أقصى الشرق، سيل المغول والتتار، فدمر العواصم وجرف صروح الحضارة، وسقطت أمامه بغداد التي كانت أعظم حواضر الأرض، ولم يبق إلا مصر. وكانت مصر يومئذ ضعيفة، يحكمها مماليك صيّرهم الدهر ملوكاً، فما هي إلا أن قام فيهم شيخ صالح من دمشق هو الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وشيوخ صالحون من مصر، فأيقظوا الإيمان في قلوبهم فقاتلوا لله لا للدنيا، فنصرهم الله في عين جالوت نصراً لا يزال كُتّاب التاريخ مدهوشين منه إلى اليوم. وما ذهبت قوة الإسلام ولا فقد أهله عزتهم، وهاكم الأمثلة ظاهرة أمامكم: المجاهدون الأفغان والدولة القوية التي أعلنت عجزها عنهم. بل هاكم المثل القائم اليوم: هؤلاء الأولاد الصغار الذين يقفون في مواجهة جنود مدرَّبين، ما معهم في أيديهم الصغيرة إلا حجارة أرضهم يلقونها بسواعدهم، فعجزت عنهم هذه الدولة الباغية التي وضعوا في يدها أعتى الأسلحة ووأفتكها.

ولقد حضرت في عمري مؤتمراً واحداً، هو مؤتمر القدس سنة 1953 الذي انعقد لتأييد قضية فلسطين، وقد شرّفوني بأن ألقي كلمة الافتتاح فيه، فألقيتها وقلت فيها: إن كان لدى اليهود وعد من بلفور، يعدهم فيه بما لا حكم له عليه ولا نفاذ لأمره فيه، فإن لدينا وعداً من رب بلفور ورب قوم بلفور، رب العالمين، بأن النصر للمؤمنين، للمؤمنين بكتب الله كلها وبرسل الله كلهم، العاقبة لهم؛ فإن كنا منهم بقلوبنا وجوارحنا وأقوالنا وأفعالنا، حقق الله هذا النصر على أيدينا وكان لنا به المجد في الدنيا والجنة في الآخرة، وإن انحرفنا وضللنا وابتعدنا عن ديننا استبدل الله بنا قوماً غيرنا، فأسلم الشعب الألماني مثلاً أو الشعب الياباني، فحملوا لواء الإسلام الذي لا يسقط أبداً، وبقينا نحن -لا سمح الله ولا قدّر- كفقراء اليهود، لا دنيا ولا دين. * * * الإنسان يحبّ أن يكون مخدوماً لا خادماً وأن يكون حراً لا عبداً، إلا إذا كانت العبودية لله وكانت الخدمة لدين الله. المسلمون الأوَّلون لمّا وضعوا جباههم (وهي أكرم أعضائهم) على الأرض عند موطئ النعال ذلاً لله، أعزهم الله، فجعل جباه الجبابرة توضع عند أقدامهم، وملّكهم مفاتيح الأرض، وجعلهم سادة الأرض وأساتذتها. وبعد، فإن العاقبة للإسلام، فمن كان مع الإسلام كان النصر معه. * * *

الطريقة الصحيحة للإصلاح

الطريقة الصحيحة للإصلاح نشرت سنة 1988 لمّا قعدت لأكتب هذه المقالة خطرت لي خاطرة كثيراً ما تعاودني كلما أردت أن أهيّئ محاضرة أو أكتب مقالة، هي: ماذا أكتب، وماذا أقول؟ حينما أكتب في الأدب وللأدب يكون الجواب حاضراً، وهو أني أكتب لإمتاع الناس، ولأبقي لي أثراً لعلي أمشي به يوماً في ذيل قافلة الأدباء. ولكنني لا أكتب الآن للأدب، فلماذا أكتب؟ لأعلّم الناس؟ الناس لا ينقصهم العلم بل العمل، لا أعني العلم بتفاصيل العلوم ودقائق الأحكام، فهذا مما يحتاج أكثر الناس إلى تعلمه، ولكن أعني الحقائق الخُلُقية الكبرى: الصدق والكذب مثلاً، هل يجهل أحد أن الصدق خير وأن الكذب شر؟ هل يقول أحد إن القتل أو الزنا أو الربا أمر حسن مشروع؟ ألا يعلم الناس جميعاً أن هذا كله شر؟ شارب الخمر، هل يعوّد عليها ولده؟ بل هل يعوّد المدخِّنُ ابنَه على التدخين، يقول له: خذ يا بابا اسحب سحبة، تعلّمْ كيف تدخن؟ بل إنه إذا رأى الدَّخينة (السيكارة) في يده أخذها منه ونهاه عنها.

إن التدخين (وإن لم يكن في منزلة ما سردنا من المحرَّمات) يُقرّ كل مَن تَلْقاه من الناس، حتى الذين يدخنون، بأنه أمر يضر ولا ينفع. والذي يكذب لا يحتاج إلى محاضرة لإقناعه بشر الكذب، بل يحتاج إلى إرادة تحمله على ترك الكذب. ومثله شارب الخمر، ومن يتعدى على الناس بلسانه أو بيده، لو سألته: هل هذا الذي تفعله حق وعدل؟ لوجدته يقر بقلبه (وإن أنكر أحياناً بلسانه) أنه ليس عدلاً ولا حقاً ... فلا فائدة إذن من أن أكتفي بالقول إن هذا العمل خير وهذا شر، فهو يعرف الشرّ ويعرف الخير. فماذا نصنع إذن؟ وكيف نصرف الناس عن هذه الأمور التي يحكم الشرع بحرمتها ويحكم العقل بقبحها؟ أريد أن تفكروا معي حتى نصل إلى الطريقة الصحيحة للإصلاح، وأنا أعرض عليكم ما عندي: الناس قسمان؛ منهم الصغار الذين لا يزالون على الفطرة النقية والذين لم يتعودوا بعدُ ارتكاب هذه المحرمات، ومنهم الكبار الذين تعودوها واستمرؤوا لذتها العاجلة وانغمسوا فيها. وسأبيّن بكلمة موجزة لا يتسع المجال لأكثر منها ما أقترحه لإصلاح الفريقين. * * * إنه لا يكفي أن أقول للكبير الذي تعوّد شرب الخمر، أو العكوف على القمار، أو إدمان المخدرات، أو الانغماس في الفواحش ... لا يكفي أن أقول له ابتعد عنها واتركها؛ لأن الشرع

قد قال له ذلك، نهاه الله عنها وعن أمثالها في كتابه وعلى لسان نبيه. فإذا لم يسمع كلام الله فهل يسمع كلامي؟ وربما كان في هؤلاء العصاة من هو مؤمن بالله وبالجنة والنار ويريد أن يترك ما هو فيه وأن يتوب منه وينصرف عنه، ولكنْ تغلبه نفسٌ تربَّتْ على المعصية وقلبٌ تعوّد القسوة، وبيئةٌ تغلّب عليها الفسادُ وأصحابٌ من طبيعتهم الانصراف إلى الشر، فعليّ -إذن- أن أنبّه في نفسه خوف الله، وأن أليّن قلبه حتى يسمع كلام الله، وأن أدعوه إلى أن يبدل بيئته إلى بيئة مؤمنة صالحة. وربما صارت المعصية مرضاً. فأنت حين تقول لمدمن المخدرات: "اتركها وانصرف عنها" كمَن يقول للمريض: "دع المرض وارجع إلى صحتك ثم حافظ عليها"! إن الأمر قد خرج من يده، وهو اليوم أحوج إلى العلاج. ولا يفهَمْ أحدٌ عني أني أريد إعفاءه من العقوبة التي أوجبها الشرع، فالعقوبة هي جزء من الإصلاح، ولولاها لانتشر المرض وعم وصار البلد كله مستشفى واحداً (¬1) وصار أهل البلد كلهم مرضى. ولقد أحسن العلماء هنا وأصابوا ووُفِّقوا حين أفتوا بقتل من يعمل على نشر هذا السم الذي اسمه «المخدرات» وعلى ترويجه بين الناس وعلى ترغيبهم فيه. ومن توفيق الله للمملكة أنها تعجّل بعقوبة الجاني، ولو أن حكومة الكويت نفّذت حكم القتل على هؤلاء المجرمين وما أجّلته ولا أبقتهم تطعمهم وتسقيهم، لما طمع هؤلاء المجرمون الآثمون في إنقاذهم، فخطفوا الطيارة ¬

_ (¬1) ولا تقولوا مستشفى واحدة، فالمستشفى مذكَّر.

وصنعوا بمن فيها هذا الذي صنعوا (¬1). * * * لقد سألتكم: ماذا نصنع إذن؟ نصنع ما نصنعه للمريض الذي يعاني من آلام النوبة التي تنتابه ويصرخ من أوجاعها: نعطيه أولاً ما يسكّن الألم، ثم نبحث عن أسباب الداء لنقطعها، ثم عن منشأ العدوى لنُبعده عنها، ثم نعطيه من المقوّيات ما يعينه على دفع المرض إذا عاوده. فالدواء العاجل (وهو المسكّن) بيد حُماة الأمن، الذين يمنعون وقوع الجريمة أو استمرارها كما يمنع الدواء المسكِّن ¬

_ (¬1) نسي الناس اليوم هذه الحادثة وقد مضى عليها عشرون عاماً، وهذه قصتها موجَزة: في الخامس من نيسان (أبريل) 1988 خطف جماعة من «حزب الله»، يقودهم عماد مُغنيّة، طائرة الخطوط الجوية الكويتية «الجابرية» القادمة من بانكوك، وتوجهوا بها إلى مطار مشهد الإيراني، وهناك تزودوا بالوقود وبالأسلحة وانتقلوا إلى لارنكا في قبرص. وطالب الخاطفون حكومة الكويت بالإفراج عن بضعة عشر سجيناً متهمين بتنفيذ تفجيرات مختلفة في الكويت سنة 1983، في محطة الكهرباء الرئيسية للبلاد ومطار الكويت ومجمّعات نفطية وسكنية، وهي تفجيرات راح بسببها عدد من الضحايا البُرآء. وفي مطار لارنكا قتل مغنيّة اثنين من الركاب الكويتيين، حيث أطلق النار على رأسيهما وألقى بهما من الطائرة إلى الأرض. ثم توجهت الطائرة أخيراً إلى الجزائر، وهناك انتهت المأساة بعدما دامت خمسة عشر يوماً، وخُلّي سبيل الرهائن مقابل إطلاق سراح الخاطفين ونقلهم إلى إيران (مجاهد).

استمرارَ النَّوبة الموجعة. أما البحث عن أسباب الداء وعن منشأ العدوى فمن عمل علماء الاجتماع وأرباب الأقلام، يدرسون أحوال هؤلاء المنحرفين ويبحثون عن العوامل التي عملت على انحرافهم، والعوامل التي تعيدهم إلى الجادة وتبعدهم عن هذا الانحراف. ولنا من تجارب الأمم الأخرى صور تنير لنا الطريق، لا يمنع الشرع من أخذها بل يحثّنا على الاستفادة منها، لأن الحكمة ضالّة المؤمن يأخذها حيثما وجدها. فقد أُسِّست عندهم معاهد لمعالجة الانحراف وأقيمت مؤسسات، ورُصدت لذلك أموال طائلة وعَملت له عقول مفكرة، واستُخدم لذلك العلاجُ المادي: أدوية ومستحضرات للخلاص من إدمان المخدرات والخمور وأمثالها، والعلاج النفسي لتقويم الميول المنحرفة وحل العقد النفسية. أما الأدوية المقوّية التي يكون بها الجسم المتين الذي يقاوم المرض، فمن عمل الوُعّاظ والخطباء والمدرّسين، والكُتّاب في الصحف والمُحدّثين في الإذاعات. إن هذا الوعظ لا بد منه، ولكن بشرطين. الأول: أن يكون بأسلوب العصر الذي يفهمه أهل العصر، فإنّ لكل عصر أسلوباً يفهم به أهله. ولست أدعو إلى تبديل حقائق الدين، فحقائق الدين لا تبدَّل، وتبديلها كفر بها ومُجانَبة لها، ولكن أدعو إلى تبديل أسلوب عرض هذه الحقائق. فقد يكون أسلوب منها صالحاً من مئة سنة ولكنه لم يعد يصلح الآن، ولو بعثت مبشراً بالإسلام

إلى أميركا -مثلاً- فكلمهم بالعربية لما فهموا عنه، فلا بد إذن أن تكلمهم بلسانهم، وأن تنقل لهم حقائق الدين كما هي بذلك اللسان ... هذا الذي أردته من الدعوة إلى استعمال لغة العصر وأسلوبه. الثاني: أن نتأسّى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجعل الوعظ باللين واللطف لا بالشدة والعنف، وأن نسوق كلاماً عاماً يكون فيه تلميح وتلويح، لا أن نسوقه صريحاً واضحاً يتألم منه السامع فيثير في نفسه الرغبة في المقاومة والإعراض عن الموعظة. وخير المواعظ ما جاء عَرَضاً، ولقد كنت أشاهد في المحكمة في قضايا الجرائم أن الطعنة التي تصيب الرجل على حين غفلة منه تدخل فيها السكين معشارين أو ثلاثة أو أكثر (¬1)، فإذا كان متنبهاً لها مترقباً وقوعها لم تدخل نصف معشار. والله أمرنا أن ندعو بالحكمة والموعظة الحسنة؛ ذلك لأن الموعظة قد تكون سيئة، سيئة في أسلوبها لا في أصلها. والموعظة الحسنة هي التي يكون معها الدليل، فلا نأمر بما لم يأمر به الله ولا رسوله، ولا نزيد عليه ما ليس منه. والتي تكون خالصة لله تخرج من قلب قائلها فتقع في قلب سامعها. ومن سنّة الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: ما بال أقوام يفعلون؟ لا يقول للمخاطَبين: ما بالكم تفعلون؟ أي أنه يذكر الفعل ولا يصرّح بذكر الفاعل. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول الإسلام، ¬

_ (¬1) المعشار هو السنتيمتر.

ولكنه صعب لا يستطيعه كل من أراده، لأن عليه أن يجمع بين بيان حكم الله الذي لا يجوز كتمانه، وبين حفظ كرامة المخاطَبين، وأن لا نتعدى على ما منحهم الشارع من حرية في تصرفاتهم. * * * هذا كله يصلح للكبار، أما الصغار فأمرهم مختلف. إن من أكبر أسباب الانحراف التي وجدتها خلال اشتغالي بالقضاء واطلاعي على الآلاف المؤلفة من القضايا، ومما رأيت وما سمعت من أحوال الناس، من أكبر هذه الأسباب غياب الأب عن أولاده أكثر النهار؛ ينهض صباحاً فيجدهم قد ذهبوا إلى مدارسهم، ويعود في الليل بعدما ناموا، فلا يكاد يراهم أو يرونه إلا يوم الجمعة. ومن الناس من يضطره عمله إلى هذا الغياب، ومنهم من يُؤْثر مجالسة أصحابه في المقهى أو في النادي على الإشراف على بيته. وأنا لا أقول إن على الأب أن يبقى دائماً في الدار، لا يصاحب أحداً ولا يزور صديقاً، لأن من حقه أن يأنس بأصحابه، ومن حق الأم أن يكون لها صاحبات تأنس بهن ويزُرْنَها وتزورهن. ولكن يخرج الأب إلى أصحابه ساعتين أو ثلاثاً في اليومين أو الثلاثة، وتخرج الأم ساعتين في الأسبوع أو الأسبوعين، ثم يبقى كلاهما بعد ذلك مشرفاً على الأولاد: يَعلمان أين يذهبون، ومَن يصاحبون، وإن تأخر الولد في المدرسة ساعة سأل أبوه عنه، وإن صاحَبَ أحداً توثّق من خُلُقه ودينه قبل أن يأذن له بمصاحبته، ثم لا يدعه يذهب معه أو ينفرد وحده بزيارته إلا إن غدا شاباً.

بقي أن نسأل: ماذا يصنع الأولاد في الدار؟ وماذا يصنع الأب وهو معهم؟ هل يُلزمهم أن يقعدوا طول السهرة جالسين على ركبهم وأعينهم إلى الأرض كأنهم في مأتم، هَيبةً لأبيهم واحتراماً له؟ أو يجبرهم على أن يقرؤوا ويكتبوا ويراجعوا دروسهم ولا يَدَعوا الكتاب والقلم ساعة من ليل أو نهار؟ والمرأة ماذا تصنع؟ تطبخ وتكنس وتخيط فقط؟ لا؛ إن من حق المرأة أن تتسلى، ومن حق الأولاد أن يلعبوا. ومَن أراد أن يحفظ أولاده من الانحراف وأن يبقيهم معه في البيت، فليجعل البيت مستوفياً وسائلَ التسلية الجائزة شرعاً، ولتكن هذه الوسائل بإشرافه، على أن يكون إشرافه من بعيد لا يُشعر به زوجته ولا أولاده. وينبغي أن ينزل أحياناً إلى مستوى أولاده فيشاركهم أفكارهم وألعابهم ولهوهم، كما يعاونهم على دروسهم. وإذا كان في البيت الرادّ والرائي (أي الراديو والتلفزيون) فينبغي أن يتعوّد أهل البيت أن لا يسمعوا إلا ما لا ضرر من سماعه في الرادّ، ولا يروا إلا ما لا ضرر من رؤيته في الرائي، وأن يتركوا ما وراء ذلك راضين مقتنعين لا مكرَهين ولا مجبرين. وإذا كان لدى الأولاد عمل مدرسي أو كان عندهم امتحان يعوّدهم أبوهم تقديم الجِدّ على التسلية والواجب على اللذة، ويربّيهم على ذلك حتى يصير كأنه طبع لهم. وإذا كان في البلد متنزّهات أو مشاهد غير محرَّمة فليأخذ أهله إليها في أيام العطلات، لأن تبديل لون الحياة لا بد منه، والتزام لون واحد يبعث على الملل؛ ولو كان الأولاد يعيشون في قصر فيه أفخم الفرش ويقدَّم فيه أطيب الطعام وفيه أنواع اللعب ولهم على بابه

أغلى السيارات، لو أنهم لبثوا في هذا القصر شهراً لا يخرجون منه لملّوا منه واشتهوا أن يذهبوا يوماً إلى سفح الجبل أو ساحل البحر، يمشون على أرجلهم ويقعدون على التراب ويشعلون الفحم ويشوون عليه اللحم ويأكلونه بأيديهم. وإن من أكبر العوامل في فتور العواطف الزوجية وركود أذهان الأولاد وضعف أجسامهم هذه الحياة الرتيبة المتشابهة؛ ولذلك أقترح -جادّاً- أن تترك الأسرة دارها وتذهب مرة في الشهر أو الشهرين فتتغدى في المطعم، أو تذهب في الصيف فتقضي ليالي تحت الخيام، أو تبدل ترتيب الدار فتجعل غرفة الاستقبال للقعود وغرفة القعود للاستقبال، وتغيّر وضع الأثاث، لا كل أسبوعين أو ثلاثة بل مرة في السنة والسنتين. والقصد من هذا كله أن يجد الرجل في الدار ما يغنيه عن ارتياد المقاهي وإغفال الأسرة، وأن تجد المرأة ما يغنيها عن الخروج في كل يوم لزيارة الصديقات وحضور الاستقبالات وإضاعة الأولاد، وأن يجد الأولاد في الدار ما يسلّيهم ويمتعهم ويمنعهم من اللعب في الطرقات ومصاحبة الأشرار ... على أن هذا كله لا قيمة له إن لم يكن بين الزوجين حب وتفاهم وتعاون حقيقي، فإن كان هذا الحب موجوداً وهذا التفاهم قائماً كان البيت جنة، ولو أنه كان غرفتين مهدَّمتين ليس فيهما ماء ولا كهرباء. إن هذا الحب يجعل الغرفتين المهدَّمتين قصراً عظيماً، وفَقد الحب والتفاهم بين الزوجين والشِّقاق الدائم بينهما يجعل القصر العظيم جحيماً مُستَعِراً وسجناً مطبقاً. على أن لا يكون في ذلك كله ما يغضب الله ولا ما يحرّمه

الدين، وإن في المباحات لَمَنجى من الوقوع في الحرام، والله ما حرّمَ شيئاً إلا أحلَّ شيئاً يقوم مقامه ويسد مسده ويغني عنه. * * *

حصاد ربع قرن في حقل الدعوة الإسلامية في الشام

حصاد ربع قرن في حقل الدعوة الإسلامية في الشام نشرت سنة 1953 هذا بحث وُلد قبل استكمال مدة الحمل، ولست أدري أيموت من يومه أم يَمُنّ الله عليه فيكتب له الحياة؛ ذلك أني كنت أدوِّن عناصره وأجمع أجزاءه ليجيء تاريخاً كاملاً للدعوة الإسلامية في بلاد الشام خلال ربع القرن الماضي، فجاءتني برقية الأخ الأستاذ سعيد رمضان تستعجلني (¬1)، فكتبته في مجلس واحد وأنا موقن أني نسيت كثيراً من الحقائق التي يجب أن تقال في هذا المجال، وإن كنت موقناً أيضاً بأني لم أقل إلا حقاً. وأنا أتردد من ربع قرن على مصر والعراق ولبنان، وأقيم في كل منها الشهور الطوال أو السنة كلها أحياناً. والشام بلدي، وأعرف في كل من البلاد الأربعة، وفي الحجاز أيضاً، الصفوةَ من علمائه والدّعاة إلى الله فيه وأعمالهم وجهودهم، وكنت أعزم على ¬

_ (¬1) نشرت هذه المقالة في مجلة «المسلمون» التي كان يصدرها الأستاذ سعيد رمضان، في العدد الثاني من أعداد السنة الثالثة الذي صدر في نهاية عام 1953 (مجاهد).

أن أحاول كتابة فصول في تاريخ الدعوة فيها جميعاً، ثم رأيت أن أقتصر على الشام وأدع لغيري (ممّن هم أعلم مني) كتابة الباقي. * * * لمّا قدمت مصر أول مرة كانت الدعوة الإسلامية فيها منحصرة في الأزهر المعمور، والرجال الذين تخرجوا فيه أو على أسلوبه، وفي المدارس التي كانت تنحو منحى الأزهر (وإن كان جلّ عنايتها بالعلوم اللسانية) كدار العلوم، وفي أفراد معدودين من غير الأزهريين، أخصّ بالذكر منهم: أحمد تيمور باشا رحمه الله، الذي كان أمة وحده في دينه وعلمه وخلقه وتحقيقه وحيائه وتواضعه. ومن هو أقرب الناس شبهاً به في سَمته وصمته وأدبه وعلمه، أستاذنا السيد الخضر حسين مدّ الله في عمره. وخالي وأستاذي محب الدين الخطيب، الذي كان أول عامل على تنظيم الدعوة الإسلامية في مصر، كما كان أول عامل على إحياء الفكرة العربية في الشام من قبل. والطائفة المختارة من إخواننا، كالدكتور الدرديري، والأساتذة محمود شاكر وعبد السلام هارون وعبد المنعم خلاف، وآخرين لا تحضرني الآن -من العجلة- أسماؤهم. وكان مقرهم المطبعة السلفية في شارع الاستئناف عند الأستاذ محب الدين الخطيب، وهنالك عرفت بعضاً منهم، وعرفت بعضاً في دار العلوم العليا (وقد دخلتها حوالي سنة 1929 ولم أتمَّها) وفي مجلة «المنار». والأزهر -وإن ظل دهراً طويلاً المعقلَ الإسلامي من هجمات الإلحاد والمصباحَ الهادي في ظلمات الجهل- قد اقتصر

عمله على التعليم دون التوجيه الاجتماعي، واقتصر التعليم فيه على قراءة كتب معينة من كتب المتأخرين، وصرف الجهد كله في حل العُقَد من ألفاظها وكشف الغامض من معانيها ... أي أن المقصد من التعليم كان الكتاب لا العلم (كما قال الشيخ محمد عبده). وكانت كتب الأئمة الأوّلين في الفقه والعربية وغيرهما منسية متروكة لا يكاد أحد يرجع إليها، وكان من هذه العلوم ما هو عبث لا طائل تحته ولا يكاد ينفع في دنيا ولا دين، كعلم الكلام (النّسَفية والسنوسية والمواقف وأشباهها) وعلم المنطق، ولقد كاد يسبقني القلم فأُلحق بها الكتب الأزهرية في البلاغة، وهي أقوى العوامل في إبعاد الطلاب عن البلاغة! وكان عمل «المنار» وتلك الطائفة من العلماء الأخيار منحصراً في بقعة ضيقة وأفراد قلائل، لا يتعداهم أثره ولا يصل إلى جماهير الشعب ولا إلى طلاب المدارس، ولم يكن للدعوة من الصحف إلا المجلة الأسبوعية الجديدة يومئذ، مجلة «الفتح» التي أنشأها الأستاذ محب الدين. ولم أعدّ «المنار» من الصحف لأنها أولاً مجلة شهرية، ولأنها علمية ترتفع ثانياً عن أفهام الشباب ومدارك الأوساط من الناس، ولأنها لا تكاد تُباع في الأسواق ولا يقرؤها إلا المشتركون فيها. لذلك كله لم تتصل بالناس اتصالاً مباشراً، وإن كان لها أثر غير مباشر، أثر ظاهر في توجيه الفكر الإسلامي الحديث، وأن قرّاءها -على قلتهم- كانوا منبَثّين في جميع بلاد الإسلام، وكان لهم في بلدانهم منزلة عالية ومكان مرموق. فكان الناس قسمين: مشايخ وأفندية، وكان الشعب بينهما

متديّناً على جهل بحقائق الدين، متمسكاً بالإسلام على مزج لكثير من البدع والخرافات بالإسلام؛ كان يجمع بين شهادة أن «لا إله إلا الله» وبين العكوف على القبور وسؤال أصحابها ما لا يقدر عليه إلا الله، ومن أنكر عليهم شيئاً من ذلك وصموه بالوهابية. وقد لا يبالي القارئ الشاب اليوم بهذه الوصمة ولا يرى فيها شيئاً، ولكنها كانت يومئذ من الوصمات الكبار، وأذكر أني علقت مرة في «علقة» الأستاذ في المدرسة ونالت قدمَيّ عصاه، لأني ضُبطت بالجرم المشهود حين أُمسكت واقفاً على درس الشيخ عبد القادر بدران في جامع بني أمية في دمشق! * * * هذه الصورة التي صوّرت بها مصر قبل ربع قرن هي «مصغَّرة» صورة الشام في تلك الأيام. كان في الشام مشايخ أجلاء من أوعية العلم وصدور العلماء، ولكنهم كانوا -على الغالب- جاهلين بأحوال الناس، ينفرون من كل جديد ويطمئنون إلى كل قديم، عجزوا عن الدعوة إلى الله بالأساليب العصرية الجديدة وعن إدراك عقلية الشباب، فانسحبوا من المعركة وأخلوا الميدان، وانطووا على نفوسهم واعتكفوا في مدارسهم ومساجدهم. و «أفندية» يقودهم من كانوا يُسمَّون في الشام رجال الرعيل الأول من الوطنيين، وكانوا -على الغالب- جاهلين بالإسلام ليس في نفوسهم منه إلا صور مشوَّهة، وكانوا حرباً على أهله والداعين إليه، وإن كان لهم فضل العمل على دفع الاستعمار

وتحقيق الاستقلال. وأستطيع أن أمثّل عليهم وعلى موقفهم من الإسلام باثنين: الأستاذ الكبير ساطع الحصري، شيخ المربّين من العرب، الذي حارب الدعوة الإسلامية عمرَه كله بقلمه ولسانه وسلطان وظيفته (كلما ولي وظيفة) حرباً علمية منظَّمة، وكان أسلوبه في محاربتها هو العمل على إحلال «العربية» محل «الإسلامية»، وهي بذاتها دعوة الجاهلية التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها وبيّن أن صاحبها ليس منا، وإقامة برامج المدارس على هذا الأساس الواهي. والثاني هو الوطني المعروف فخري البارودي. وهو زعيم شعبي محبوب كان له في كل حركة وطنية عمل، ولكنه -مع الأسف- حرب على الدعوة الإسلامية، وأسلوبه فيها أسلوب المستهزئين من كفار قريش، وهو سَوْق النكات العامية والسخرية بالمشايخ وتركيب النوادر عليهم، على نحو ما يركّبها بعض الملحدين من النصارى على قسوسهم ورهبانهم. وهنالك أسلوب ثالث، هو نفث هذا الحقد الدفين على المشايخ (الذين يمثلون الفكرة الإسلامية) بضربهم بسيف الحكومة، وقد طُبِّق هذا الأسلوب على أفظع شكل حينما ولي الحكم في الشام سعد الله الجابري الحلبي (وهو أيضاً من رجال الرعيل الأول)، وبطش بالمشايخ، وأودع كثيراً منهم السجون وهاج بهم الجرائد، لسبب تافه ليس هذا موضع بيانه (¬1). ¬

_ (¬1) قال في «الذكريات»: "ثم عمدوا إلى فئة من خطباء المساجد حامَوا عن الفضيلة فساقوهم إلى المحاكم سَوق المجرمين، وأدخلوهم=

وسبب هذا كله المشايخ، أعني بعضهم، فهم الذين طبعوا في نفوس هؤلاء الناس تلك الصورة المشوَّهة للإسلام. المشايخ الذين طالما لقينا مِن تكفيرهم مَن يقول بكرويّة الأرض وحركتها وتكفير من يدرس الجغرافيا والكيمياء والطبيعة! وقد صرّح لي بذلك الأستاذ ساطع الحصري في القاهرة سنة 1947، فقلت له: إن هذا العذر من مثلك غير مقبول، لأنك تستطيع -في قوة عقلك وسعة علمك- أن تعرف حقيقة الإسلام من مصادره وتُخلي ذهنك مما تقول إن أولئك المشايخ قد وضعوه فيه، وأن تدرسه من جديد، فترى أن الإسلام ليس ديناً جامداً ولا منافياً للحضارة ولا معارضاً للمنطق، وأنه هو الطريق إلى ما نسعى إليه جميعاً من استعادة أمجادنا واسترداد مكاننا بين الأمم. ولو فعل ذلك لصار من أقوى دعاة الفكرة الإسلامية. أما ¬

_ = السجون من غير مستند إلى قانون من القوانين، وجرّعوهم كؤوس الذلّ، حتى صار مَن يذكر السفور بسوء أو يدعو إلى الفضيلة والستر كمن يدعو إلى الخيانة العظمى ... وتولّى كِبْر ذلك سعد الله الجابري وكتلتُه، فسوّد به صفحته وأفسد وطنيته" (5/ 322 من الطبعة الجديدة). والقصة مفصَّلة في الحلقتين 148 و149 (في الجزء الخامس من الذكريات)، وهي طويلة، فمن شاء راجعها في موضعها هناك. وأصل هاتين الحلقتين المقالةُ التي نشرها علي الطنطاوي في «الرسالة» في تلك السنة، «دفاع عن الفضيلة»، وهي من جواهره التي ينبغي أن تُقرَأ وتعاد قراءتها في كل حين؛ فمن أحب قراءتها مجرَّدةً فهي في كتاب «في سبيل الإصلاح»، ومن أحب قراءتها مع الحواشي والشروح فليقرأ هاتين الحلقتين في «الذكريات»، والحلقاتُ التي بعدهما متّصلٌ موضوعُها بموضوعهما كذلك (مجاهد).

السيد فخري البارودي وأمثاله من رجال الرعيل الأول (وصحفيّي الرعيل الأول ...) فلا تنفع معهم مناظرة ولا يفيد جدال، وهل يُناظَر الهازل ويجادَل الساخر، ويناقَش المناقشةَ العلمية من يتكلم عمّا لا يعلم ويهرف فيما لا يعرف؟ وهل تجادل في فائدة الهندسة من يسخر من الهندسة وأهلها ويهجوهم بالنكات والنوادر والمضحكات، وهو بعدُ لم يدرس الهندسة في عمره، وليس يدري: أتبحث في السطوح والأجسام أو في قواعد طبخ الباذنجان وسيرة كسرى أنوشروان؟ وكانت الجرائد معهم، وكان لهم من الشعب المناضل مكان القيادة فمكّن ذلك لهم، حتى استطاع فخري البارودي أن يجمع مرة -في خطبة واحدة في الجامع الأموي- بين التعريض بذم شيخ الإسلام في ديار الشام الشيخ بدر الدين أخذاً له بجريرة ابنه الذي كان رئيس الوزراء، والتصريح بمدح البطريرك الماروني في لبنان، وقال إنه يحج إلى بكركي (مقر البطريرك)، نعم، بهذا اللفظ وفي جامع بني أمية! * * * وبقي المشايخ في عزلتهم حتى أخذت الحماسة الدينية مأخذها من اثنين منهم، هما الواعظان الشعبيان العالمان، الشيخ علي الدقر والشيخ هاشم الخطيب. وكان الأول أكثر شعبية وصوفية والثاني أعلم، فقاما بحركة هزّت دمشق وضواحيها هزّاً عنيفاً، وجدّدا الدعوة إلى الدين بعزيمة صادقة وهمّة وحماسة وعنف شديد، فأقبل عليهما الناس إقبالاً منقطع النظير، ولكنهما

-مع الأسف- قد جعلا همَّهما الأكبر اتخاذ العمائم وإسبال اللحى، وإلباس النساء الأُزُر البيض بدل الملاءات السود! ثم إنهما دعوا إلى مقاطعة مدارس الحكومة قبل أن يعدّوا مدارس غيرَها، وإلى ترك العلوم الطبيعية ونبذ الأدب والاقتصار على النحو والفقه والحديث والتفسير والتصوف! فكان ذلك سبباً في فشل هذه الدعوة، وكان فشلها سريعاً كما كان نجاحها سريعاً، فكانت كأنها حريق في تل من القش (¬1). على أن هذه الوثبة قد أبقت أثرين: أولهما أن العلماء لمّا رأوا هذا النجاح تبدد ما كانوا فيه من اليأس، وعلموا أنهم يستطيعون -إذا شاؤوا- اقتحام الميدان الشعبي، وأن العاطفة الدينية لا تزال أقوى العواطف في صدور العامة من أهل الشام. والثاني: أن الجماعة التي كوّنتها هذه الوثبة قد اتبعت من بعدُ سبيل الحكمة، وسايرت الزمن من حيث يسير، فاستطاعت أن تنشئ مدارس عدة ثانوية ودينية، وأن يكون تلاميذها في مقدمة الناجحين في البكالوريا في كل دورة. * * * لبثت الحال على ذلك إلى أن أُلِّفت في مصر «جمعية الشبان المسلمين»، فكان تأليفها بداية مرحلة جديدة في طريق ¬

_ (¬1) تحدث علي الطنطاوي في ذكرياته عن «نهضة المشايخ» هذه في أكثر من موضع؛ انظر 1/ 240 (في الحلقة 23)، 1/ 284 (الحلقة 27)، 5/ 359 (الحلقة 152) (مجاهد).

الدعوة هي مرحلة العمل المنظَّم (ومن الوفاء للحقيقة أن أقرر أنها وُلدت في دار المطبعة السلفية في شارع الاستئناف في القاهرة)، ولمّا عدت إلى مصر المرة الثانية كان رئيسها الأستاذ الكبير في جسده ورجولته وقلبه وإيمانه عبد الحميد سعيد، خَلَف في الرياسة الأستاذَ الشيخ عبد العزيز شاويش، وكان أمين سرّها خالي الأستاذ المحب. ثم أُلِّفت جمعية الهداية الإسلامية، وكان رئيسها من يوم تأسيسها -فيما أعلم- الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر، وأُلِّف مثلهما في دمشق وفي بغداد، ثم أُلِّفت في دمشق «جمعية التمدن الإسلامي»، وكان تلاميذ الأستاذ الشيخ علي الدقر قد ألّفوا جمعية سمّوها «الجمعية الغَرّاء» لتعليم أولاد الفقراء. وسأصف لكم هذه المرحلة في المقالة الآتية إن شاء الله (¬1). * * * ¬

_ (¬1) لم يكمل جدي رحمه الله هذا البحث لسبب لا أعرفه ولم يصرّح به، فصدر العدد التالي من «المسلمون» وفيه مقالة «يا ابني» (وهي منشورة في كتاب «فصول إسلامية»)، وفي الذي يليه «كلمة صغيرة» (وهي في هذا الكتاب)، ثم لم ينشر في المجلة شيئاً حتى العدد الأول من السنة التالية (سنة المجلة الرابعة)، حيث نشر مقالة «المسلمون إلى خير»، وهي منشورة في كتاب «في هتاف المجد» (مجاهد).

المدرسة الدينية

المدرسة الدينية نشرت سنة 1937 دفعني إلى التفكير في هذا الموضوع الذي أكتبه اليوم خبر صغير قرأته كما قرأه الناس كلهم، ولكني قرأته بإعجاب وفخر. هذا الخبر الصغير الذي يصف في تواضع واختصار منقبة عظيمة ومكرمة قصّر عنها الفحول من الرجال ذوي الوجاهة والغنى، وقدرت عليها هذه المرأة التي تبرعت بنفقات الكلية الإسلامية. ولقد جمعت هذا المال الكثير بعملها وكدّها، لم ينتهِ إليها كما تنتهي الأموال إلى الوارثين لينفقوها في أسواق الرذيلة والعار. على أني لن أقف مقالي على تمجيد هذه المرأة وإكبار عملها، فهي امرأة ماجدة وعملها عمل كبير، والعالم الإسلامي الذي قرأ الخبر في الجرائد -كما قرأته- مجّدَها وأكبر عملها من غير أن يحفزه إلى ذلك كاتب ضعيف مثلي. ولكني أحب أن أقصر مقالي على المدارس الإسلامية الدينية، وأن أهبط من سماء الخيال والأدب إلى أرض الحقيقة والواقع. والواقع أن المال اللازم لإنشاء هذه المدرسة في حلب قد توفر (أو توفر أكثره) ولم يبقَ إلا التفكير في صرفه. وأنا أعلم أن الذين يقومون على صرفه لا يحتاجون إلى

رأيي ومشورتي، ولكني لا أجد بدّاً من أن أقول كلمتي هذه لعلها تنفع أحداً. ولست أدّعي أني أعلّم أو أنصح، ولكنها تجارب لي أحببت أن أكتبها (¬1). * * * من هذه التجارب ما يتعلق ببرامج التعليم، ومنها ما يتصل بنظام المدرسة، ومنها ما يدور على أصول التدريس والمدرّسين. أما برامج التعليم في المدرسة الدينية، فقد أصبح من المُجمَع عليه وجوب اشتمالها على العلوم الإسلامية والعربية وعلى ثقافة عامة واسعة تحيط بمجمل نواحي المعارف الإنسانية، لأنه أصبح من المفهوم أن الإسلام دين وعلم وقانون وفن، وأنه صالح لكل زمان ومكان، فلا يستقيم في الفكر أن تكون عقول علمائه الذين يعيشون اليوم مخالفة لعقول الناس وفي معزل عن حقائق الكون التي توصّل العقل البشري إلى معرفتها. وقد باد ذلك الرأي الذي يرى علوم الطبيعة والرياضة منافية للدين، ومات أصحابه بعد أن هبطوا بالأمة من يفاعها وبلغوا بها الحضيض الأوهد، وأكسبوها -بما ارتضوا لها من الجهل بعلوم الدنيا- هذا الاستعمار وهذه البلايا ... فلن نطيل الوقوف عند هذا، ولكننا نشير إلى ضرورة تدريس العلوم الإسلامية الخالصة -كالفقه والتوحيد- على شكل يفهمه أبناء هذا العصر ويلائم أذواقهم، وأن يُختار لتدريسها ¬

_ (¬1) نُشرت هذه المقالة في جريدة «الفتح» في صفر سنة 1357، وكان علي الطنطاوي يومئذ مدرّساً في الكلية الشرعية في بيروت (مجاهد).

جماعة قد انطلقت عقولهم من قيود اللفظ والوقوف عند تفهّم العبارة وإعادتها بأسلوب آخر (قد يكون أرقى من أسلوب الكتاب وقد ينحطّ عنه)، وأن يُختار للتلاميذ المبتدئين كتب سهلة مكتوبة بأسلوب مفهوم، وأن يُبتعَد عن هذه الشروح وهذه الحواشي فلا تدرَّس إلا في الصفوف العالية حينما تقوى مَلَكة العلوم الإسلامية عند التلميذ، لأن الابتداء بتقرير هذه الكتب للتلاميذ الذين درسوا في مدراس مدنية دراسة بعيدة عن الدين يُنتج نتيجة سيئة جداً، هي تنفير الطلاب من كتبنا وعلومنا. ولست أذهب في هذا إلى الحط من قيمة هذه الكتب القديمة، فإني أَعْرَف الناس بقيمتها وقيمة أصحابها الذين ألّفوها على طريقةٍ لا نشك بصلاحيتها للعصر الذي أُلِّفت فيه. ولكني أذهب إلى أن المراد من الدرس فهم مادة العلم، وعلم النحو مثلاً يُفهَم من غير أن نحفّظ التلاميذ المبتدئين هذه المنظومة العجيبة التي تُعرَف بـ «الألفية»، ونكسر بها أدمغتهم ونبغّض بها النحوَ إليهم أشد التبغيض، وإلى أن هذه الكتب الحديثة المبوَّبة المرتبة تغني التلاميذ المبتدئين عن «القَطْر» (¬1) و «ابن عقيل»، وليس تدريس هذين الكتابين من الدين حتى نتمسك بهما ونحرص عليهما، ولكن الوصول إلى الغاية من أقرب الطرق هو الذي يُعَدّ من حقائق الدين. وأذهب إلى أن تدريس الفقه للمبتدئين لا يقتضي شرح هذه الافتراضات الغريبة التي توجد في كتب الفقه ويولع بها بعض الفقهاء ... وإلى جانب هذه الإفاضة في فرض الفروض نجد في ¬

_ (¬1) «قَطر الندى وبلّ الصدى» لابن هشام، و «ابن عقيل» شرح لألفية ابن مالك (مجاهد).

كتب الفقه نقصاً كبيراً في المسائل التي جَدّت ولم يكن يقع أمثالها في عصور الفقهاء المتقدمين، والتي شغل المعاصرين من علمائنا عن بحثها واستنباط أحكامها اشتغالُهم بعبارة الكتاب وتحليل غامضها. وأنا أذهب إلى أن تدريس التوحيد مثلاً يقتضي الابتعاد عن كتب الكلام المحشوة بحكاية أقوال المخالفين والرد عليها، فيحفظ التلاميذ شُبَه أقوام بادوا ونِحَل انقرضت قبل أن يعرفوا حقيقة التوحيد على قوّته وبساطته وجلاله، مستشهدين بآيات الله في كتابه وفي خلقه. * * * أما النظام المدرسي فيكاد يكون مفقوداً اليوم في أكثر مدارسنا الدينية، لأن مرجع أكثرها إلى أفراد يديرونها ويشرفون عليها. وكل مدرسة أو شركة أو جمعية تتبع رأي واحد وهواه لا حظَّ لها إلا الموت والخيبة، لأن الفرد -مهما كان حسن النية- يخطئ ويَهِم، ولذلك شرع الله الشورى. ولذلك وجب على مؤسّسي المدرسة الدينية أن يجعلوا مرجعها «جمعية» تضم أهل الرأي والاختصاص لا أهل العبادة والصلاح فقط، لأن من المسلَّم به أن التجّار مثلاً لا يستطيعون أن يديروا مدرسة ويضعوا برامجها، ولو كانوا صالحين عاملين وكان لهم فضل في إنشاء هذه المدرسة. وليجدَّد أعضاء الجمعية بالانتخاب، ولا يكونوا أعضاء خالدين يحتكرون المشروع ويسدّون سبيل العمل فيه في وجوه الناس، فإن ذلك يُفسد عملهم

ويخرج به عن غايته الغرّاء ومقاصده الخيرية، ويجعله شركة احتكار ربحها المجد والشهرة والجاه. وليكن نظام المدرسة موافقاً لطبائع الطلاب وفطرتهم، ضامناً لغايات التربية، عاملاً على إنماء مواهب التلاميذ وملكاتهم، بعيداً عن الفوضى بعده عن العسكرية الآلية، فلا يجعل التلاميذ متمرّدين يركب كلٌّ منهم رأسَه ولا يخضع إلا لنفسه، ولا يجعلهم آلات صَمّاء لا تحسّ ولا تفكر ولا تشعر بكرامة. وأن يراعى في وضع نظام العقوبات روح الطالب وعزّته، وأن تُحرَّم العقوبات التي تُذِلّ نفوس الطلاب، لأن تربية عزة النفس والكرامة أول واجب على من ينشئ مدرسة دينية تخرّج علماء شرعيين، وحسبنا ما نجد اليوم من ضعف علمائنا (أعني بعضهم) وهوان نفوسهم عليهم! أما اختيار المدرّسين فهو بيت القصيد وعقدة القصة؛ إذ إن من شروط المدرّس في المدارس الدينية أن يكون دَيّناً عالماً معلّماً مربّياً. ولا أعني بالدين أن يدع المعلم صفه ليستلم محرابه وأن يترك التعليم ليشتغل بالذكر، ولكن أعني بالدين أن يرعى المعلم حق الله وحق المدرسة عليه ويعرف قيمة الواجب، فلا يغرس في نفوس الطلاب فكرة ضارة ولا خُلُقاً سيئاً ولا عقيدة باطلة، وألاّ يضيع لحظة من الدرس في غير فائدة. وأعني بالعالِم العالم بالمادة التي يدرّسها، لأن المدرس إذا لم يكن متيناً في درسه لم يُفِد ولم يُحترَم. وأعني بالمعلم من كان قادراً على إفهام الطلاب، مطّلعاً على أصول التدريس، مستعداً للمناقشة والإقناع. وليس كل من فهم الكتاب المقرَّر أو حفظه وأعاده يُعَدّ معلماً، بل إني لأعرف علماء كثيرين لا يحسنون التعليم. أما المربي فهو

الذي اطّلع على نظريات التربية ودخائل النفس البشرية، وفهم طبائع التلاميذ وقوَّم أخلاقهم، وضرب لهم من نفسه مثلاً سامياً وأراهم منه صورة كاملة. * * * بقي أصول التدريس. كيف ندرّس في مدارسنا الدينية؟ كنت منذ أعوام مدرّساً في مدرسة طارق بن زياد في دمشق على سفح قاسيون، وكان في الصف الذي يقابلني حصة اللغة الفرنسية، فدخل الصفَّ مفتّشُ الفرنسية ... وهو رجل فرنسي أحمق كان في بلده معلماً أولياً، فعُيِّن في بلادنا مدير دار المعلمين العالية ومفتش اللغة الفرنسية، ولما صار كذلك أصبح من حقه أن يأخذ شهادة الدكتوراة، فأخذها صَدَقة من وزارة المستعمرات! فما راعنا ونحن في دروسنا إلا سعادة المفتش يأخذ علبة الأوساخ وهي ممتلئة فيرفعها فوق رأسه، برغم أنها كبيرة وأنها مصنوعة من الخشب الغليظ، ثم يفلتها فتهوي ويكون لها ضجة هائلة، فيضطرب المعلم ويفزع التلاميذ وفيهم صبية صغار، فيضحك الكبار ويبكي الصغار، ويبتدر الجبناء البابَ منهزمين ويقفز الجُرَآء صائحين مشاغبين، وتمتلئ غرفة الدرس بالأوساخ، وتزلزل الأرض زلزالها فيتعطل كل درس في المدرسة، ويخرج الطلاب والمدرسون من صفوفهم. ولما هدأت الدنيا بعد زلزالها سألنا: ما الخبر؟ فقالوا: إن سعادته سمع المدرّس يشرح للتلاميذ معنى فعل «tomber» (ومعناه السقوط)، فأحب أن ينبّه المعلم إلى وجوب شرحه بالعمل لا بالقول، فألقى عليه الأوساخ من فوق رأسه ... على

أصول التدريس الحديث! وكان معنا مرة معلم لغة فرنسية على المذهب الحديث الذي يعنى بشرح اللغة عملياً، فإذا كان في الدرس اسم قلم أرَيْتَ التلاميذ القلم بيدك، وإن كان فيه اسم قط جئت لهم بقط، وإن كان حمار أدخلت إلى الصف حماراً ... وكان عند هذا المعلم درس فيه ذكر الديك، فماذا يصنع؟ يأتي بالديك طبعاً. فاشتراه وصحب حمّالاً يحمله إلى المدرسة، ووضعه على منصة المدرس ليشرح للطلاب معناه كلمة «ديك». ولكن الديك لم يكن مهذباً ولم ينتبه لشروح المعلم، بل وثب على رؤوس التلاميذ، فقام التلاميذ من كل صوب ليقبضوا عليه، فدخل تحت المقاعد، فقلبوا المقاعد، فخرج من الشبّاك، فلحقوه، وقامت قيامة المدرسة! هذا ما شهدتُ من أصول التدريس الحديث! أما القديم فأشهده دائماً في كثير من المدارس الدينية: يأتي المدرّس (الشيخ) إلى الصف متأخراً على الغالب لأن ساعته تأخرت أو توقفت، أو لأن صديقاً له زاره، أو لأن رجلاً ثقيلاً استوقفه في الطريق فاستفتاه في أمر ... أو يأتي بعد غياب أيام كان فيها مريضاً أو متوهّماً أنه مريض، أو كان مدعوَّاً إلى وليمة أو حفلة زفاف في إحدى القرى، أو كان يستقبل ضيوفاً أو يودع مسافرين ... فيجلس على كرسيه والتلاميذ بين قائم وقاعد ونائم، فيمضي دقائق قد تطول وقد تقصر في الاعتذار عن تأخره أو غيابه، ويخوض في حديث أو حديثين على الهامش، ثم يبدأ الدرس فيقرأ التلميذ (المُعيد) باباً من أبواب الكتاب والمعلّم

ساكت، والتلاميذ مشغولون بقراءة كتاب آخر أو بحديث خافت أو بالنوم. فإذا فرغ المعيد من قراءته بدأ الشيخ فتنحنح وعدّل جلسته، وحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ودعا لمشايخه ووالديه وللحاضرين ووالديهم وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات ... مقدمة معروفة لا تتبدّل ولا تتغير، ثم أعاد قراءة الباب بصوت أخفض ولهجة أسرع، فإذا انتهى لم يكن باقياً في الساعة إلا أقلها، فشرح ما قرأ شرحاً سريعاً (أو بالعبارة الصادقة: أعاد خلاصة ما قرأ من حفظه)، فلا يكاد يمضي في شرحه حتى يؤذّن الجرس بانتهاء الدرس. فإذا كان الشيخ مشغولاً خرج، وإن كان مستريحاً تابع شرحه وترك المدرّس الآخر ينتظر. وإذا أخطأ أحد التلاميذ فانتبه إلى الدرس أو عرض له إشكال أو اعتراض فسأل فالويل له، لأنه يعترض على الشيخ المؤلف رحمه الله ويحقّر السلف، ويبدأ الشيخ بمحاضرة طويلة موضوعها «جيل اليوم ووقاحتهم»، تحرّم على الطالب أن يعود إلى سؤال أو انتباه! فعلى أي الطريقتين تسير المدرسة الدينية الجديدة؟ لا على هذه ولا تلك، ولكن على النهج السويّ الذي يجمع مزايا الأصول الحديثة ومحاسن الطريقة القديمة، والذي يجعل الغاية الأولى من الدرس إفهام الطلاب مادة العلم لا عبارة الكتاب. هذه نتيجة تجارب متواضعة أسوقها ليطّلع عليها القائمون على إنشاء المدرسة الإسلامية في دمشق وفي حلب، وفي غيرهما من بلاد العالم الإسلامي. * * *

في نقد المناهج الدينية

في نقد المناهج الدينية حديث أذيع من إذاعة جدة سنة 1968 قبل أن أبدأ هذا الحديث أحب أن أوصيكم بكتابين أرجو أن تحرصوا على قراءتهما؛ كتابين كِدتُ أقول إن على كل مسلم مثقف الاطلاع عليهما، وهما كتاب «الغارة على العالم الإسلامي» وكتاب «التبشير والاستعمار» (¬1). ¬

_ (¬1) كثيراً ما أشار جدي إلى هذين الكتابين ودعا إلى قراءتهما، وهما كتابان قديمان لكنهما ما زالا يُطبعان ويمكن أن يجدهما الناس في المكتبات اليوم. الأول (الغارة) كان في الأصل إصداراً خاصاً من مجلة فرنسية تبشيرية بروتستانتية اسمها «مجلة العالم الإسلامي»، وقد صدر هذا العدد سنة 1912 بعنوان «الغارة على العالم الإسلامي» أو «فتح العالم الإسلامي»، فترجمه ولخّصه محب الدين الخطيب بالاشتراك مع مساعد اليافي ونشراه منجَّماً في جريدة «المؤيد» المصرية، فأثار في العالم الإسلامي ضجة وتناقلته وأعادت نشرَ فصوله جرائدُ عدة في عدد من البلدان الإسلامية، ثم نُشر في كتاب مستقل بعد ذلك بسنوات، وهو من أول الكتب التي لفتت انتباه الناس إلى خطر التبشير في العالم الإسلامي. ثم جاء كتاب «التبشير والاستعمار» الذي أصدره سنة 1953 مصطفى الخالدي وعمر فرّوخ فجدد الاهتمام بهذا الموضوع الخطير وزاده جلاء، وهو=

اقرؤوهما تروا أن أعداءنا عرفوا من زمن بعيد أنهم لا يستطيعون أن يغلبونا على أمرنا، ويتحكموا بنا ويسيطروا علينا، ما دمنا عارفين بالإسلام متمسكين به، فجعلوا أكبر همهم وبذلوا أقصى جهدهم في صرفنا عن ديننا، وأعانهم على ذلك كثيرٌ من الدعاة الذين عجزوا عن أن يَدْعوا إلى الإسلام بالأسلوب الذي يفهمه أهل العصر، أو دَعَوا إليه بالغلطة التي تنفّر من الدين، أو تمسكوا بأمور فرعية وتركوا الأصل ... وكان من نتائج هذه الحملة من أعداء المسلمين أن أُهملت دروس الدين في المدارس، وصار في أكثر البلاد الإسلامية لأتفه العلوم، بل صار للرسم وللّعب من العناية ومن عدد الحصص ما ليس لعلوم الإسلام كلها، وغدونا أيام الاستعمار والانتداب وما للدين في مدارسنا إلا ساعة واحدة في الأسبوع، وكان لا يدخل في الامتحانات العامة، ولا يرسب الطالب في فصله إن لم يعرف الدين، فسعينا وجاهدنا حتى صارت له ساعتان، ساعتان فقط في الأسبوع! ولكنا استطعنا بحمد الله أن نطوّر المناهج والكتب حتى ¬

_ = كتاب جليل خطير الشأن بحق. ومن تمام الفائدة أن أشير إلى كتب الدكتور محمد محمد حسين المتميزة في هذا الباب، ولا سيما كتاب «حصوننا مهددة من داخلها» وكتاب «الإسلام والحضارة الغربية». وهذه كلها كتب قديمة، لكن الأيام لم تذهب بأهميتها وما تزال جديرة بالقراءة، أما أفضل ما صدر في هذا الباب في السنوات الأخيرة فهو المجموعة المتميزة التي أصدرتها الدكتورة زينب عبدالعزيز، وهي تضم عدداً من الكتب اختارت لها اسماً جامعاً هو «صليبية الغرب وحضارته»، وأهمها «الفاتيكان والإسلام» و «تنصير العالم» و «حرب صليبية بكل المقاييس» (مجاهد).

أصبح التلميذ يفهم جانباً كبيراً من حقائق الدين في هاتين الساعتين فقط، ومَن نظر في كتب الدين التي كانت مقرَّرة في الشام مثلاً إلى ما قبل خمس سنوات (فما أعرف ما جَدَّ فيها بعد ذلك) رأى أن هذه الكتب تستوفي الكلام على الإيمان، والعبادات، والأخلاق الإسلامية، والقواعد الفقهية، مع ما تشتمل عليه من تصحيح أوضاع المجتمع وفق الإسلام وتطبيق الدين على أحوال العصر، وكل ذلك بأسلوب واضح مشرق جَلِيّ يرغب فيه التلاميذ. والفضل في ذلك لشاب لو كُلِّفتُ أن أختار خمسة من خير من عرفت من شباب المسلمين في هذا العصر لذكرته في رأس الخمسة، شاب كان مفتشاً لعلوم الدين، فعمل في صمت ودأب، وجاهد بإخلاص واحتساب، وصبر على المقاومة وعلى الأذى، وكان يستعين بهذا الدأب وهذا الصبر وبما أوتي من لين القول وحسن الخلق، حتى حقق الله على يديه هذا كله. وأنا أحب أن أسمّيه دلالة عليه، وهو الأستاذ عبد الرحمن الباني (¬1). ¬

_ (¬1) ذكره في «الذكريات» غير مرة، ففي أخبار سنة 1929 (في الحلقة الرابعة والثلاثين) قال: "ودرّست في «الجوهرية»، وكان من تلاميذي فيها واحد نبغ حتى صار من شيوخ التعليم ومن العلماء، وأمضى شطراً من عمره موجِّهاً للمدرّسين مشرفاً على وضع المناهج وتأليف الكتب في العلوم الدينية، لأنه كان مفتّش التربية الدينية في وزارة المعارف، هو الأستاذ عبد الرحمن الباني". وحين رثى عبد الرحمن رأفت الباشا في الحلقة 207 قال: "وكان المفتّشَ العامّ للغة العربية في الشام يوم كان رَصيفه وسَمِيّه الأستاذ عبد الرحمن الباني مفتّشَ العلوم الدينية، فصنعا (صنع الله لهما) للدين وللعربية ما يبقى في الناس أثره وعند الله ثوابه" (مجاهد).

ساعتان يا سادة في الأسبوع، ساعتان فقط، كان منهما هذا الخير كله. فكم من الخير العظيم يأتي من الساعات الثماني التي خُصِّصت للدين في هذه المملكة؟ * * * قلت في أوائل هذه الأحاديث إن الحكومة ما قصّرت وقد خصصت للدين ثماني ساعات في الأسبوع بالمدارس، وجعلت له المكانة الأولى في الامتحان، فهل كان لهذه الساعات الثماني من الفائدة ما أفادته تلكم الساعتان؟ إذا أردتم معرفة الجواب فانظروا حال الطلاب، وإذا قلتم: عرِّفْنا ما هي الأسباب؟ قلت: هي المنهج، والمدرّس، والكتاب. والكلام في هذه الثلاث لا يُوفّى في حديث ولا في ثلاثة أحاديث، بل يحتاج إلى ثلاثين حديثاً، لذلك أشير إليه إشارة في ثلاث كلمات فقط. أما المنهج فيُطلَب فيه أن يتعلم الطالب ما يصحح عقيدته أولاً، لا على الطريقة العقلية السخيفة التي تُتَّبَع في كثير من مدارس المسلمين ولمّا كنا صغاراً كانوا يعلّموننا بها، يقولون: كل موجود لا بد له من موجِد، فالنجّار صنع الباب، والبَنّاء بنى الدار، والله خلق العالم؛ فيذهب ذهن التلميذ رأساً إلى هذا السؤال (أستغفر الله): مَنْ خلق الله؟ طريقة سخيفة! ولا بإقامة الأدلة على وجوده، بل بالطريقة القرآنية المبسطة، باعتبار أن الإيمان بالله بديهية. ثم تلقينه خوف الله ومحبته، وتعليمه عبادته ودعاءه. ثم نعلمه من الفقه ما يحتاج إليه في حياته، ما يحتاج إليه فقط، فلا نعلم التلميذ في الابتدائية موجبات الغسل، ولا ندرّس

البنات خيارات البيع وشروط الكفالة. أما المدرّس فينبغي أن يُعَدَّ لدرس الدين مثل إعداد باقي المدرسين، بحيث يكون مطّلعاً على العلوم الجديدة عارفاً بها، صاحب ثقافة عامة، مُلمّاً بجميع المعارف الإنسانية إلماماً (لا علم اختصاص)، لا أن يقتصر علمه على الدرس الذي يدرّسه فإذا ذُكرت أمامه مسألة في الكيمياء والفلك مثلاً ظهر جهله بها وبعده عنها. أما الكتاب فالأصل فيه أن يكون مفهوماً وأن يكون ممتعاً. لا أقصد أن يفهمه أستاذ الجامعة وقاضي القضاة، بل أن يفهمه التلميذ الذي سنعرضه عليه. وعندكم مقياس، مقياس حاضر دائماً: إذا أردتم أن تقرّروا كتاباً لفصل من الفصول فهاتوا تلميذاً من ذلك الفصل، تلميذاً وسطاً لا هو بالنابغة العبقري ولا هو بالغبي الخامل، وقولوا له: اقرأ فيه وانظر ماذا فهمتَ منه. ولا بأس بأن تعينوه بشيء يسير من الشرح والتفسير، فإن هو قد فهمه واستمتع به، أو لم يتبرَّم به على الأقل (حتى لو لم يستمتع به) كان كتاباً صالحاً، وإلا وجب تبديله والبحث عن غيره. إن الكتب عندنا تدرّس الدين على أسلوب لا يفهمه التلميذ ولا يُسيغه، ولا يوجّهه في حياته وجهة الخير ولا يطبعه بطابع الإسلام. وأمامي الآن الكتاب الذي تُلزَم به بنتي الصغيرة (وهي في التاسعة من العمر وفي السنة الثالثة الابتدائية) أنقل إليكم منه هذه الفقرات بحروفها: "اعلم رحمك الله تعالى أن التوحيد هو إقرار الله بالعبادة، وأن الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، ومعنى «لا إله إلا الله»: «لا إله» نافياً جميع ما يُعبَد من دون الله،

«إلا الله» مثبتاً العبادة لله وحده، لا شريك له في عبادته كما أنه ليس له شريك في ملكه". ومن قسم الفقه من الكتاب نفسه أنقل هذه الفقرات: "الاستنجاء هو إزالة الخارج من السبيلين بالماء الطهور، ويجزئ عنه الاستجمار بالأحجار وكل طاهر مباح مُنَقّ، إذا لم يتجاوز الخارج موضع العادة فلا يجزئ غير الماء، ويحرم الاستنجاء بالعظم والروث والطعام وكتب العلم، ويُشترَط ثلاث مسحات منقّية فأكثر". وأنا أرجو مَن كان عنده من القُرّاء بنت في مثل عمر بنتي، أو كانت في المدرسة في مثل سنتها، أن يقرأ عليها هذا الكلام وأن يحاول إفهامها معناه. وهذا كتاب السنة الثالثة المتوسطة، فتحته كيفما اتفق فجاء فيه هذا النص، هذا النص الذي سأقرؤه مقرر على البنين وعلى البنات أيضاً: "ولا يجوز بيع مَكيل بشيء من جنسه وزناً ولا موزون كَيلاً، وإن اختلف الجنسان جاز بيعه كيف شاء يداً بيد، ولم يجز النَّسء فيه ولا التفرق قبل القبض إلا بالثمن المثمَّن. وكل شيئين جمعهما اسم خاص فهما جنس واحد، إلا أن يكونا من أصلين مختلفين، فإن فروع الأجناس أجناس وإن اتفقت أسماؤها، كالأدِقَّة والأَدْهان". هل فهمتم من هذا النص أي شيء؟ هذا الذي يجب على تلاميذ السنة الثالثة الإعدادية أن يفهموه! أليست هذه الكتب وأمثالها حجّة علينا نعطيها نحن لأعداء

الإسلام ليقولوا: ما دامت هذه الساعات تُنفَق فيما لا نفع فيه ولا أثر له، فلماذا لا نجعلها لتدريس العلوم التي يفهمها التلميذ ويستفيد منها؟ وإذا هم قالوا ذلك، أفلا يجدون مؤيّدين لهم موافقين على كلامهم من التلاميذ أنفسهم، ومن آبائهم المسلمين المتدينين؟ وإذا كانت المدارس العصرية تهمل تدريس الدين أو تجعل له ساعة أو ساعتين في الأسبوع، وكانت المدارس الدينية (أو مدارس البلاد المتمسكة بالإسلام كمدارس المملكة هنا) تخصها بربع ساعات الأسبوع، ولكنها تُلزم المدرّسين تدريسها من هذه الكتب التي لا تخاطب التلاميذ على قدر عقولهم ولا تنزل إلى درجة أفهامهم، وربما كان المدرّس الذي يدرّسها قد رُبِّي عليها ونشأ فيها فلا يعرف غيرها، فيشرح غامضها بأغمض منه ... إذا كان هذا (وهو كائن كله) فكيف ومتى يتعلم التلميذ أحكام دينه؟ وماذا يصنع من كانت له بنت؟ في أي مدرسة يضعها؟ * * * يا سادة، القمح غذاء للطير، ولو تُرك لأكلته الطيور في سنابله، فجعل ربنا -جَلَّت حكمته- في رأس السنبلة أشواكاً رقيقة تمنع الطائر من الوصول إلى القمح. وهذه الكتب أشواك تمنع التلميذ من الوصول إلى العلم ومعرفة الإسلام! فإن كان ذلك مقصوداً، وكان الغرض وضع العلم أمامه وأن يُمنَع من الوصول إليه فقد حصل المقصود. وإلا فأزيلوا هذه الأشواك ليصل التلاميذ إلى حقائق الإسلام، فإن لم تفعلوا ذهبت الساعات الثماني كل

أسبوع هباء، هي وما يُنفَق عليها من رواتب المدرّسين ونفقات طبع الكتب، ولم يستفد أحدٌ منها شيئاً. ولا تؤاخذوني إن عدت إلى هذا الموضوع الآن بشيء من التفصيل بعد أن عرضت له بالإجمال في صدر هذه الأحاديث؛ فلقد أعادني إليه ما علَّق به الأستاذ علي حافظ في جريدة «المدينة» مؤيداً ما قلت محبِّذاً له، وما وجدت من الموافقة والتأييد عند كل من لقيت من الناس أو كتب إليّ. هذه المملكة تقوم بحمد الله على الإسلام، وقد خصصت المبالغ الطائلة في موازنات المعارف والإعلام والأوقاف للإسلام وأولته أكبر العناية والاهتمام، فهل من المعقول أن نهدر هذا كله بإصرارنا على تدريس هذه الكتب بالذات بعد أن ثبت للمدرسين، ولآباء الطلاب، ولمفكّري البلد، ولأولياء الأمر، أنها لم تعد تصلح؟ نعم، إننا نقولها بأصرح لفظ وأعلى صوت: لم تعد تصلح ولا بد من تبديلها. فلماذا لا نبدّلها. هل هي قرآن منزَّل لا يغيَّر ولا يبدَّل؟ والسلام عليكم ورحمة الله. * * *

كلمة ترضي الله وتغضب بعض البشر

كلمة تُرضي الله وتُغضب بعض البشر (¬1) منّا أناس لطول ما أحبوا الأجنبي وعظّموه وكبر في نفوسهم يتمنّون لو أن جلداً أوربياً يُفصَّل على أجسادهم ليلبسوه، وأن رأساً أوربياً يُركَّب بين أكتافهم ليتخذوه، هؤلاء الذين ولّيناهم أمور أبنائنا وبناتنا، وقلنا لهم: اصنعوا بهم ما شئتم! وكانوا -فوق تقليدهم الأجنبي وحبهم له- قد غلبتهم غرائزهم وشهواتهم، فما كان منهم إلا أن أهملوا تعليم أولادنا الدّينَ لأنهم يجهلون ديننا، ثم ربّوهم على عادات عدونا لأنهم يحبون عدونا، ثم أشبعوا من بناتنا وأولادنا ميولهم وشهواتهم ¬

_ (¬1) نُشرت هذه الكلمة في «مجلة الأوقاف» في دمشق، ولا أعلم تاريخ نشرها على التحقيق، غير أنني أرجّح أن يكون في أواخر الأربعينيّات؛ فقد حدّثنا جدي رحمه الله في ذكرياته عن هذه المجلة حينما ذكر جميل الدهّان فقال: "كان يوماً مدير الأوقاف العامّ ... وقد دنوت منه لمّا أنشأ مجلة الأوقاف، وكنت قاضي دمشق". وقد ابتدأ صدور هذه المجلة في رمضان 1364هـ، وكان علي الطنطاوي قاضي دمشق بين عامَي 1943 و1953 (مجاهد).

حين كشفوا أفخاذ الصبيان أولاً باسم الرياضة والكشفية، ثم امتدت أيديهم إلى البنات فعملوهن مرشدات (أي كشّافات)، ونحن عُمْيٌ لا نبصر، خُرْسٌ لا ننطق، حمير لا نغار ... إننا نستأهل والله أكثر من ذلك! * * *

الاختلاط في الجامعات

الاختلاط في الجامعات كُتبت سنة 1971 (¬1) أشهد أولاً أن «المجتمع» إحدى المجلات القليلة الواعية التي عرفتها في حياتي، كـ «الفتح» لخالي محب الدين الخطيب رحمه الله، و «البصائر» التي كان يحررها صديقي الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله، و «البعث الإسلامي» و «الرائد» لإخواننا «النَّدْويين» في لَكْنَو في الهند، وقريب منها أو مثلها «البلاغ» و «الوعي الإسلامي» و «حضارة الإسلام». وإني لتصل إليّ أعداد من «المجتمع»، ولكنها تأتي إليّ بعد صدورها بعشرين يوماً، فأحب أن أعلّق أحياناً على بعض ما ¬

_ (¬1) وجدت أصل هذه المقالة بخط جدي رحمه الله، وفي أعلاها بخطه: "الشرط أن تُنشَر كما هي أو تُرَدّ إليّ"، وعلى هامش الورقة بخطه أيضاً: "هذه المقالة يُسمَح لمن شاء من أصحاب المجلات والجرائد أن ينقلها، ولمن أراد من أهل الخير أن يطبعها ويوزعها، على أن ينسبها إلى كاتبها ولا يبدل فيها شيئاً". وقد أرسل صورة من المخطوطة إلى مجلة «المجتمع» الكويتية لتنشر فيها كما يظهر من السياق، لكني لم أستطع أن أحقق إن كانت قد نشرت فيها أو لم تنشر (مجاهد).

أجد فيها ولكني أجد أن وقت التعليق قد فات، وأنه لا يصل إلى المجلة إلا بعد صدورها بشهر أو أكثر، فأدعه. ولو كنت قريباً منها لأعنتها على جهادها، ولأصليت هؤلاء المنحرفين نار الحق التي تذيب غش نفوسهم وتكشف زيفها وزيغها. وأنا -وإن شخت وولّى شبابي- لا تزال فيّ بحمد الله بقية تسّر الصديق وتكبت العدوّ وتؤيد الحق، كبقية القوة في الأسد العجوز التي تكفي لصدّ وقاحة الثعالب. ولكن ما قرأته في عدد 28 رمضان 1391 (رقم 86) عن «ندوة الجامعة» وحملة «الرأي العام» هالني وأدهشني، ورأيت من الواجب عليّ أن أكتب فيه، ولو جاء ما كتبت متأخراً عن موعده. * * * أنا أعرف أمثال هؤلاء الشباب، وأنا واقف على حقيقة أمرهم؛ إنهم يميلون إلى المرأة ويحبون أن يستمتعوا بجمالها، وكانوا (أو كان أكثرهم) في أوربا أو أميركا يرون اللذات هناك مباحة والمتع معروضة، فلما عادوا حنّوا إلى ما كانوا فيه من الانطلاق وضاقوا بما وجدوا من القيد والحجاب، فهم يألمون ممّن يحرمهم هذه المتعة المشتهاة كما يألم الصبي إذا منعته قطعة الحلوى التي يطلبها. ولا يدري الصبي أن قطعة الحلوى لا تُنال سرقة ولا خطفاً ولا غصباً، ولكن بالثمن، فإن جاء بثمنها وصل إليها. وهؤلاء

مثله؛ لا يدرون (أو يدرون ويتناسون) أن المتعة بالمرأة إنما تكون بالزواج. إن عمل المتزوج الزواج الشرعي وعمل الفاحش واحد في حقيقته، فلماذا يقيم المتزوج الحفلات ويطبع البطاقات ويضيء المصابيح ويدعو الناس، ويفرّ الآخر بصاحبته إلى بقعة منعزلة أو غرفة موصدة، أو يتستر بستار الفن والرياضة والروح الجامعية، ليخفي حقيقة مقصده وما يخفي صدره؟ لماذا يكون المتزوج آمناً مطمئناً، ويكون الآخر حذراً خائفاً مترقباً؟ ذلك لأن الأول كمَن يدخل المطعم ونقوده في يده، فيقعد أمام المائدة ويطلب القائمة ويأكل على مهل، والآخر يخطف الطعام ويهرب به والناس يلحقونه، فهو يعدو ويأكل في عَدْوه، فيحرق الطعام حلقه أو يقف في بلعومه! هذه هي الحقيقة؛ إنهم لا يريدون إلا الاستمتاع ببناتنا مجاناً، ولو كانت في أول الأمر متعة النظر والكلام. يريدون أن يأكلوا الطعام ولا يدفعوا الثمن. إنهم «لصوص». لا تستكبروا الكلمة ولا تستنكروها، فإنها من باب تسمية الأشياء بأسمائها، فمَن غضب منها كان كلابس الأسمال الوسخة الممزقة، يغضب على آلة التصوير لأنها لم تخرج صورته لابساً الحلة الجديدة. ثم إني لا أسمّي أحداً بعينه ولا أصف أحداً بذاته، فلماذا الغضب؟ نعم، إنهم لصوص، ولكنهم لصوص من نوع جديد وقح ما سمعنا بمثله قبل اليوم. لصّ سَرّاق، ويعترض طريقك ويصرخ في

وجهك، يقول لك: لماذا تخفي تحفك الثمينة وتسترها عني؟ إني أخفيها -ويلك- وأسترها لئلا تسرقها. إننا نحجب بناتنا لئلا يعتدي هؤلاء اللصوص، لصوص الأعراض، على أعراضهن. أفليس لنا الحق أن نحمي أعراض بناتنا؟ هذا إذا كان هؤلاء الناس يعرفون ما العرض! لقد كتبت من أكثر من أربعين سنة أنبّه على أمر غريب، هو أن كلمة «العِرْض» بمدلولها الذي نفهمه ليس لها كلمة تُترجَم بها، ليس لها ما يقابلها، لا في اللغة الفرنسية فيما أعلم ولا في الإنكليزية وغيرها فيما أسمع. لذلك يرى الأب منهم بنته تخرج مع الشاب الأجنبي شرعاً عنها ويختلي بها، فلا يُسخطه ذلك منها ولا ينكره عليها. * * * هؤلاء لا فائدة من الكلام معهم. هل يفيد الكلام مع الذئب وإقناعه أن لا يحاول «الاختلاط» بالغنم؟ لكن الكلام مع البنات وآباء البنات. أليس لهؤلاء البنات آباء؟ فأين آباؤهن؟ يا إخواننا، إن المقام مقام مصارحة ومناصحة لا مقام مداراة ومجاملة، والأمر أخطر من أن يُجامَل فيه. هل يجامل الطبيب مريضه فيقول له: "صحتك جيدة، ما بك شيء"، وميزان الحرارة يشير إلى أن حرارته أربعون، أو يدلّ ميزان الضغط على أن ضغط دمه مئتان؟ فلا تؤاخذوني إن صرّحت وما لمّحت، وأوضحت وما لوّحت.

أيسّر الأبَ العربي المسلم أن تعود إليه بنته يوماً وفي بطنها حمل من غير زواج؟ هذا ما قد يجرّ إليه الاختلاط. أقول «قد» وهي حرف تقريب، ولو شئت لقلت «قد» الأخرى التي يقال في إعرابها إنها حرف تحقيق. قلت يوماً في رائي (تلفزيون) عمّان عن الاختلاط في الجامعة كلمة سمعها الناس، وصدّق عليها كل من سمعها. قلت: إن من يضع الشابة العَزَبة بجنب الشاب العزب في الفصل، وينتظر ألاّ تنصرف أفكارهما إلا إلى شرح الأستاذ، ويأمن ألاّ يقع بينهما شيء، ولا بعد انتهاء الدوام، كمَن يضع الغاز المشتعل بجنب برميل البنزين المفتوح، وينام آمناً ألاّ يكون انفجار! هذا هو الحق، فلا نكن كما يُقال عن النعامة: إنها تخفي نظرها عن الصيّاد، تظن أنه لا يراها ما دامت هي لا تراه. لقد ثبت أن هذا افتراء على النعامة وأنها لا تفعله، ولكن كثيراً من بني آدم يفعلونه! فيا أيها الآباء انتبهوا، واسمعوا وَعُوا. إنهم يقولون: الفن، ويقولون: الرياضة، ويقولون: الروح الجامعية ... وما يقصدون -صدّقوني- ما في قرارة نفوسهم إلا هذه الرغبة المجنونة للاستمتاع بجمال بناتكم. لما كان حكم الششكلي في الشام أحدثوا حدثاً ما سبق له مثيل، مباراة في كرة السلة بين البنات، أقصد الصبايا الكاشفات. فمنعناها أولاً، ثم غُلبنا على أمرنا، والشر قد يغلب الخير. وتتابعت هذه المباريات، وكانت مناظرات بيننا وبين المروّجين لها

من جنود الأستاذ إبليس لعنه الله، فكان مما قاله لي واحد منهم: إنني عدو الرياضة. فقلت له: كذّاب والله، بل أنا أحب الرياضة وأمارسها، وكنت أمارس الأثقال والملاكمة وبعض المصارعة، ولا أزال أتمرن بعض التمرينات للآن. ولكن أنتم الذين تحتجّون بالرياضة لتخفوا سوء نياتكم، وإلا فخبّرني: إذا كان همكم كله أن تنزل الكرة في السلة، فلماذا تكون المقاعد خالية في مباريات الشباب وهم أقدر عليها، فإذا كانت مباريات البنات امتلأت المقاعد كلها والممرات، وركب الناس الجدار وطلعوا على الشجر؟ أجاؤوا ليشهدوا نزول الكرة في السلة، أم جاؤوا ينظرون إلى أفخاذ البنات؟ بلاش كذب وتدجيل، وكفاية قلّة حيا! * * * ثم إن العاقبة على البنت، فاسمعن يا بناتي، فهذا الكلام لكنّ، والمؤامرة والله عليكن أنتنّ، وستكنّ أنتنّ وحدكن الضحايا. تشترك البنت والشاب في الإثم فيكونان فيه سواء، ولكن الناس ينسون فعلته، يقولون: شاب أذنب وتاب! ويقبلون توبته ويسترون حوبته، أما البنت فلا ينسونها لها أبداً، بل تبقى الوصمة دائماً على جبهتها. ويمضي هو خفيفاً كأنه ما صنع شيئاً، ويبقى وزر الجريمة عليها وثقلها على عاتقها أو في بطنها. إن أمل كل امرأة في الدنيا (حتى ملكة إنكلترا، وممثلات السينما اللواتي يبلغ دخلهن الملايين)، أملها في الزواج، ولا تتزوج إلا النظيفة الطاهرة زواجاً ناجحاً من رجل شريف طاهر.

حتى الفاسق إذا أراد الزواج لم يرضَ الفاسدة (ولو كان هو الذي أفسدها) زوجة له وأماً لأولاده! لا تقولوا لي هذا غير صحيح، فإني لبثت في القضاء أكثر من ربع قرن، نصفها في محكمة النقض في غرفة الأحوال الشخصية، ومرّ عليّ أكثر من عشرين ألف قضية زوجية حكمت فيها، فأنا أتكلم عن خبرة، فلا يردّ عليّ أحدٌ بلا علم. لذلك نرى قلة الزواج والكسادَ في البنات ملازماً للفساد. ولا تقولي -يا بنتي- هذا شاب صالح وهذا زميل أو مدرس، فكل شاب في الدنيا يميل إلى الفتاة، وإن كان اليوم تقياً فربما غلبته يوماً غريزته، أو رأى إبليس منه أو منك لحظة ضعف فدفع بكما إلى الهاوية. إذا قال لك الشاب «صباح الخير» فإنه سيقول بعدها -إذا أنت شجّعته ووصلت حبل الكلام- كلمات الحب والغرام. ولا تغترّي بحب الرجل، فإن أكثر الرجال يحبون ليستمتعوا ثم يتملصوا ويتخلصوا، والمرأة تحب لتستمر وتُخلص. وهذا من نتائج الوضع الحيوي (البيولوجي) لكل من الذكر والأنثى، الإنسان في ذلك والحيوان سواء، عمله مؤقت وعملها دائم. تذكّري مقالتي «يا بنتي»؛ لقد طبعت أكثر من ثلاثين مرة، وفي كل مرة يطبع منها عشرات الآلاف وتوزع مجاناً (¬1)، وقد ¬

_ (¬1) وهي في كتابي «صور وخواطر»، وقد تُرجمت إلى الإنكليزية في الهند والباكستان وإلى الأردية وإلى الفارسية وإلى التركية.

ضاق بها كثير من الشبان وغضبوا منها، ولكن غضبهم ذهب جفاء والرسالة بقيت في الأرض ولله وحده الحمد. لقد كتبتها حين كنت في عشر الخمسين من العمر، وأنا اليوم في عشر السبعين، ولكني لا أزال مقتنعاً بكل ما جاء فيها. * * * والإسلام لا يحارب الغرائز ولا يقول لنا: «اقتلوها»، لأن الذي غرزها في النفوس وفطرها عليها هو الله، والذي أنزل الإسلام هو الله. فالإسلام ليس فيه رهبانية، ولكن ليس فيه أيضاً إباحية. إنه لا يقول لنا: قفوا في وجه السيل إذا أقبل! فإننا لا نستطيع أن نقف في وجه السيل، ولكن يقول: أعدّوا له مجرى آمناً يجري فيه، فلا يجرف البيوت ولا يذهب بساكنيها. والإسلام لا يمنع شيئاً يحتاج إليه الناس ولا يحرّمه إلا أحلّ ما يقوم مقامه ويغني عنه؛ فهو قد حرّم الاتصال الناقص والاتصال الكامل غير المثمر، لأن المقصد من هذه الشهوة بقاء النوع، كما أن المقصد من الجوع بقاء الفرد. أما الاتصال الناقص، وهو النظر إلى جسد المرأة الأجنبية (ولو كانت زميلة أو سكرتيرة، أو خادمة في البيت، أو طالبة في الجامعة، أو موظفة في الحكومة) ولمسه والخلوة بالمرأة وأمثال ذلك فإنه حرام، لأنه يصرف عن المقصود الأول وهو بقاء النوع. وأوضّح الأمر بمثال. أكثر الأسر تشكو من انصراف أولادها عن الطعام، فإذا حضر الغداء لم يقبلوا عليه ولم يصيبوا حاجتهم

منه، وما يعقب ذلك من سوء صحتهم وهزال أجسادهم. فما السبب فيه؟ السبب أن الولد أكل قبل الغداء بنصف ساعة كفّ شكلاطة، وقبل ذلك قطعة سكّر، وقبله تفاحة، فلا هو شبع بذلك وتغذّى ولا هو استبقى شهيته كاملة للغداء. هذا مثال «الاتصال الناقص» (كما سمّيته). وقد خطر لي خاطر في حكمة ستر العورة. ذلك أني فكرت: لماذا شرع الله ستر العورة؟ وكل حكم في الشرع له حكمة. فوجدت أن اليد خُلقت للأخذ والعطاء والتحية والمصافحة، فلو قيّد الناس أيديهم لبطلت أعمالهم. والوجه لتعرف به الناس ويعرفوك به، وتراهم ويروك، وتسمعهم وتسمع منهم. أما ما بين السرّة والركبة فلا يصلح إلا لأحد أمرين: قضاء حاجة المرء في المرحاض، وحاجة الأزواج في المخدع. وعمل المرحاض لك وحدك، لا تدعو معك ضيوفاً ولا تُشهد عليه شهوداً، والزوجان في خلوتهما لا يسمحان لأحد بمشاهدتهما، لذلك كانت هذه المنطقة من الجسد منطقة حراماً لأنه لا حاجة لأحد بها، ولأن إظهارها يذكّر بما خُلقت له ويدعو إليه، فيكون ذريعة للوقوع في الفاحشة. * * * أما جريدة «الرأي العام» فلم أرها ولم أسمع بها، ولكن أعرف أن الرأي العام لا يكون الحق دائماً معه؛ فالرأي العام في مكة إبّان البعثة كان يقرر أن اللات والعُزّى آلهة تُعبَد، والرأي العام كان يقول يوماً إن الأرض مسطَّحة كالصفحة.

فلا تتخذوا الرأي العام حجة ولا الأكثرية دليلاً قاطعاً، فكثيراً ما يكون الحق مع القلّة. لو كان في المستشفى ثلاثة جراحين مختصين قرروا إجراء عملية عاجلة للمريض، وقررت الأكثرية في المستشفى المؤلفة من ثلاثين من الممرضات والممرضين والخدم والفرّاشين تأجيل العملية، هل نأخذ برأي الكثرة ونقول إنه «الرأي العام»، أم نأخذ بقول الأطباء الثلاثة؟ ولو قرر ربان الطيّارة ومساعده الهبوط بها لخلل طرأ عليها أو نقص في وقودها، وأجمع الرأي العام للركاب الثمانين على الاستمرار في الطيران، هل نأخذ برأي الثمانين أم بقرار الاثنين؟ كلا، ليس الرأي العام مقياس الحق، ولا حكم الأكثرية، بل حكم الشرع وحكم العقل. والعقل والشرع صنوان لا يفترقان، ما في الشرع قضية قطعية تنافي قضية عقلية قطعية. ولكن يظهر أن بعض من يدّعي الكلام باسم «الرأي العام» يخالف الشرع والعقل معاً. ومخالف العقل يقال له في اللغة «مجنون»، فهل تريدون منا أن نناقش مجانين؟ * * * يا بنتي، أعود فأقول لك: إن المؤامرة والله عليك، وهؤلاء يحفّون بك يتسابقون إليك ويتزاحمون عليك ما دمت شابة جميلة، فإذا كبرت سنك وذوى جمالك نبذوك كما ينبذون قشر برتقالة امتصوا ماءها.

رأيت في أمستردام في هولندا (لما كنت فيها في السنة الماضية) عجوزاً ضئيلة نحيلة ترتجف من الكبر تريد أن تجتاز الشارع، فما وجدت من يأخذ بيدها، حتى أمسك بها وأجازها شاب مسلم كان معي، فخبّرني أن هذه العجوز المهمَلة كانت يوماً من ملكات الجمال اللواتي تلقى على أقدامهن القلوب والأموال. أفهذا خير، أم عجوز تزوجت وخلفت أولاداً وأحفاداً، فهي في عز وكرامة بين أولادها وأحفادها؟ يا بنتي، إن معك جوهرة، إن معك كأساً ثمينة من البلور النادر، وأمامك السوق يشتريها منك أهله بالثمن الغالي، وعلى الطريق لصوص (حرامية) يتزلفون إليك ويخدعونك ليأخذوها منك بلا ثمن، وإذا أُخذَت لا تعود، وإذا كُسرت لا تعوَّض، فتنبّهي! إن السوق هو الزواج، والحرامية هم دعاة الاختلاط، فلا تمنحي أحداً ذرة من جمالك إلا بعد أن تربطيه من رقبته برباط الزواج. يا بنتي اسمعي مني، فأنا والله ناصح لك، أنا «صديق المرأة» لا هؤلاء اللصوص. * * *

كلمة في الأدب

كلمة في الأدب حديث أذيع سنة 1963 لقد عملوا مني قاضياً ومستشاراً مقرِّراً للدائرة الشرعية في محكمة التمييز، فهل يسوِّغ لي ذلك أن أنكر صلتي بالأدب؟ هل يجحد أحدٌ أصله وفصله؟ أنا أديب أولاً وآخراً، وأنا أُجِلّ الأدب وأقدّره، وعشت أطول فترة من حياتي به وله، ولكن أحب أن أعلن الليلة أنّي حربٌ على نوع من الأدب شاع وذاع حتى شغل الألسن والأسماع، هو هذا الأدب الجنسي. لقد كان الفُسّاق منا إذا انحدروا إلى ما لا منحدَر بعده وبلغوا قرارة الفسوق، قرؤوا كتاب «رجوع الشيخ إلى صِباه». وهذه القصص التي تُعرَض في واجهات المكتبات، ويشتريها من شاء من البنين والبنات، إذا وُضع «رجوع الشيخ» إلى جنبها كان بالنسبة إليها «كتاب الأخلاق» لابن مَسكويه! نعم، أنا أقدّر الأدب، ولكن هل تريدون مني أن أقدّر شعر بودلير وقصص أندريه جيد، وأن أقدّر بيرون الذي بدأ بالحب قبل أن يبدأ تعلم أحرف الهجاء، ففسق وهو في السابعة وأحب الغلمان الحسان الأماليد، ثم انتهى به الأمر أن أحب أخته، أخته يا سادة، حباً أثمر حَبَلاً؟! أتريدون أن أغتفر له هذا كله وأن

أصفق له وأعدّه مع العباقرة الخالدين، لأنه استطاع أن يصف هذه الأعمال بكلام بليغ؟ إن كان هذا هو الأدب فاشهدوا عليّ أني طلقت الأدب طلاقاً ثلاثاً لا رجعة فيه، وسامحكم الله بالسنين الأربعين التي أنفقتها في تحصيله وفي صنعه. لعنة الله على الشعر الجميل والوصف العبقري إن كان لا يجيء إلا بذهاب الدين والفضيلة والعفاف، وعلى كل أديب يُفسد عليّ ديني ويَذهب بعرضي ويحقّر مقدساتي ليقول كلاماً حلواً. وهل تعوّض عليّ لذتي بحلاوة الكلام، الدينَ الذي فسد والعرضَ الذي ذهب والمقدسات التي مُرِّغت بالوحل والتراب؟ (¬1) * * * ¬

_ (¬1) انظر مقالة «نحن المذنبون» في كتاب «صور وخواطر»، وفي هذه الكلمة القصيرة شَبَه بها، إلا أنها إشارة موجزة وتلك مقالة موسَّعة، وفي آخرها قال: "نحن الكثرة الكاثرة، نحن الذين نملك الأموال والعقول والألسنة والأقلام، ونملك هذه المنابر التي تستطيع أن تهز الأرض، إذ علاها رجال لا أشباه الرجال! فإذا بقينا على هذا الصمت، وهذا الضعف، وهذه العبودية، كنا مستحقين أن نُصفَع على وجوهنا كل يوم، لا بالكتب بل بالنعال"! وتلك المقالة صرخة نذير وهتاف تحذير، وقد كان من حقها أن يضمها هذا الكتاب لولا أن الأمر سبق فيها، فمن أجل ذلك أحببت أن أثبت هنا هذه الكلمة القصيرة -على ما فيها من إيجاز ومن مشابهة لتلك المقالة- لأذكّر القراء بها فيرجعوا إليها. واقرؤوا معها أيضاً في الكتاب نفسه مقالة «نداء إلى أدباء مصر»، والمقالتان تصدران عن همّ واحد ويجمعهما جامع واحد (مجاهد).

حركة طيبة في لبنان

حركة طيبة في لبنان نشرت سنة 1938 يسرنا أن نعلن لقرّاء «الفتح» أن في لبنان حركة طيبة تدل على اتجاه فيه جديد، يُدني من الغاية التي تسعى إليها مصر وغيرها من أقطار هذا الشرق الإسلامي. وقد بدأت هذه الحركة بفضح المؤامرة التي دبرها الأستاذ فؤاد أفرام البستاني (خليفة لامانس في تعصبه وغرضه ودسه)، والدكتور أسد رستم زميله في تأليف كتاب تاريخ لبنان الموجز، وما ضمّناه هذا الكتاب الذي عهدت إليهما الحكومة بتأليفه ليكون كتاب تاريخ فجعلاه كتاب أغلاط وأكاذيب وتبشير بالنصرانية، وطبعته جريدة «المكشوف»، وقُرِّر تدريسه رسمياً في مدارس لبنان، فنهض الدكتور عمر فروخ وزميله الأستاذ النقاش، فنشرا في جريدة «بيروت» فصولاً طويلة فيها نقد تفصيلي وبيان لما في هذا الكتاب من الأغلاط الشنيعة، والكذب على التاريخ، والتحريف والتزوير، والطعن بالقرآن من وراء حجاب. وكان لهذا النقد ضجة كبرى في بيروت نبّهت الناس إلى حقيقة هؤلاء الذين يتسترون بستار العلم والأدب، فوقف تدريس الكتاب، وألفت لجنة لتنظر فيه. وامتدت هذه الحركة إلى «المكشوف» فشرع الناس

يقاطعونها. وأول من تنبه إلى ضرر هذه الجريدة السيئة من الأدباء الأستاذ عبد الله المشنوق، مدير مدارس المقاصد الخيرية، وكان له معها موقف في العام الماضي باءت فيه هذه الجريدة بالخزي والهوان. وأول من تنبه إلى مقاطعتها من الورّاقين الأديب السيد أحمد شبلي، وكان يكتب فيها وينشرها، حتى إذا تبين له أمرها قاطعها. وانقطع جماعة من الأدباء إلى كشف خبيئها في الصحف، منهم الأستاذ محمد روحي فيصل، وكان من أصدقائها الذين تمجّدهم وتثني عليهم، فلما آثر الحق نالت منه وهجته. * * * أما حكاية هذه الجريدة وصاحبها بلا مبالغة ولا تزويق فهي: أن رجلاً يدعى فؤاد حبيش أحب أن يشتهر في الأدباء، ولم يُعرف له أسلوب في البلاغة ولا أثر في الأدب ولا سعة في العلم، فعمد إلى أقصر الطرق، ففاجأ الجمهور بشيء لم يكن يُنتظَر من عاقل، فألف كتاباً دعا فيه الناس -بلغة محطمة مكسرة، وأسلوب ساقط مرذول، وعامية ظاهرة- إلى التعري من الثياب، وإلى التعري من الأخلاق والدين، وإلى هتك ستر الحياء وتمزيق برقع الفضيلة، وبيّن أنه جرب ذلك بنفسه! وألحّ في هذه الدعوة، ثم علم أنه لن يجد لكلامه سميعاً ولا لدعوته مجيباً حتى يجد الشيطان أتباعاً من الملائكة، فانصرف إلى الدعوة من وراء ستار، وأنشأ مجلة داعرة كأنها ماخور سَيّار، من نوع الصحافي التائه زاده الله تيهاً وعَمَى، موضوعها أخبار الزنا وحكايات الفحش ملطخة بالصور العارية، وسماها بألبق الأسماء

وأشدها انطباقاً على افتضاحها ووقاحتها، سماها «المكشوف» (على حين أن الناس يسألون الله الستر والله يسمي نفسه الستَّار)، فكان هذا الاسم مقالة دائمة قائمة في رأس هذه المجلة تلعنها أبداً، وكان ما صنع هذا الأحمق بنفسه نهاية الجهل والخذلان. وكان عندنا في الشام كثير من هذه المجلات، تُنشَر بين الشبّان والشابات على مسمع الحكومة والجمعيات الإسلامية وبصرها، فأخذت على «المكشوف» السوق فلم تدع لها قارئاً، لأن هذا القلم الضعيف الذي يحمله هذا الحبيشي لا يصلح لفضيلة ولا لرذيلة، لا يصلح إلا للنار، فبارت وأفلست، فانتقل من الكلام على الدعارة الجنسية والانحلال الأخلاقي إلى الكلام على الانحلال اللغوي، وجمع لها طائفة من الشباب على شاكلة صاحبها ومثله، وأصدرها «أدبية». لكنْ مَن تراه يقرؤها وفي الدنيا «المقتطف» و «الزهراء» و «السياسة»، ثم جاءت «الرسالة» و «الرواية»، إلا من سَفِهَ نفسه وأضاع عقله؟ ففكر الحبيشي وقدّر، وانتهى إلى الأخذ بحكمة بشّار حين هجا جريراً ليكون أشعر الناس، فشرع يهجو، فلا يرى إلا الإعراض والاستصغار فلا يستحي ولا يخجل، لأنه: إذا قَلَّ ماءُ الوجه قلَّ حياؤه ... ولا خيرَ في وجه إذا قلَّ ماؤه ولا يَني يفتش عن أديب جديد له شهرة وله مكانة يتعلق بأذياله، فعلق بالشاعر بشارة الخوري فلم ينل منه منالاً، فمال إلى أدباء الشام فلم يلقوا لهذيانه بالاً، فانصرف إلى أدباء العربية، أدباء مصر، يحسب أنه -لِمَا فشا من سره وطمَّ من بلائه، وشاع من اسمه وتردّد على الألسنة تردد الفضيحة الحمراء والوصمة

المخزية، لا تجيء إلا ومعها اللعن- يستطيع أن يهدم بهذه الورقة المسوَّدة بالعار الأدبَ العربي في مصر، فجاء ينطح الصخرة برأسه، ولكنه لم يضرها ولم يؤثر فيها. وكيف وهي ما هي؟ ثهلان ذو الهَضَبات هل يَتَحلْحَلُ؟ هذه هي قصة المجلة التي يألم بعض إخواننا المصريين من تعرّضها إليهم وتعلقها بأذيالهم، ما زدتُ في سردها على ما أعلم أنه حق ... والتي تدعو اليوم إلى طرح البيان العربي بتوجيه همم الشباب إلى العناية بالمعنى دون اللفظ، لتصرفهم بذلك عن لغة القرآن، وتدعو إلى عُصْبة لبنانية، يَنْبَتُّ فيها أدباء هذا الجيل من جبال الشام من جسم الأدب العربي، وتدعو (ويسوؤني أن أقرر هذا الواقع) إلى عصبية نصرانية تُلقى فيها العداوة والبغضاء بين أهل البلد الواحد، وتبلغ بها الحماقة ويبلغ بها الغرض الذي يعمي ويَصُمّ إلى أن تنشر في الصفحة من صفحاتها هجاء فلان وفلان من أكابر كتاب العربية وأدبائها، ومَن هم بُناة بيانها الجديد ومفخرتها وعزها، وتدّعي أنهم ليسوا شيئاً، وتنشر في الصفحة بعدها تقريظ فلان وفلان من صبيان المتأدبين والتراجمة في لبنان! * * * لقد غدا أمر هذه المجلة معروفاً عندنا كل المعرفة، حتى ما يأبه أحد لها ولا يصرف إليها باله، ثم تألفت اللجان لمحاربتها على نحو ما بيّنا في مطلع هذا المقال.

هذا ولا نسجل هذه القصة اهتماماً بالمكشوف، وإنما نسجلها على أنها ظاهرة جديدة وحركة طيبة في لبنان (¬1). * * * ¬

_ (¬1) من منهجي أنني أدع مقالات علي الطنطاوي التي كتبها في مناسبات مضت وظروف انقضت فلا أضمّها إلى أي من كتبه الجديدة، لكنني آثرت نشر هذه المقالة هنا لما وجدته من تشابه الظروف وإن تباعد الزمان؛ فإن تكن هذه الجريدة قد ماتت واندثر خبرها فلم يعد يذكرها أحد، فإن الرّحِم الذي أخرجها ما زال يُنجب، وإن لها أخوات ما زلنَ يولدن. فلتكن هذه الصرخة التي أطلقها الشيخ قبل سبعين عاماً تحذيراً من «مكشوف» ذلك الوقت تحذيراً من «مكشوف» كل وقت، ولولا أنني أنزّه هذا الكتاب عن أن يكون بوق دعاية لهذه الجرائد والمجلات لذكرتها بأسمائها، لكني أُعرض عن ذلك ليجهلها من جهلها ويهجرها من عرفها (مجاهد).

عدوان فظيع، ودعوة صالحة

عدوان فظيع، ودعوة صالحة نشرت سنة 1937 جاءني أمس طالب ذكي من طلاب البكالوريا في ثانوية دمشق الرسمية ومعه دفتر، فقال لي: أنت رجل يدعو إلى الاجتهاد، صرّحتَ بذلك في مقالتك الأخيرة في «الرسالة»، فخذ انظر آراء هذا الإمام المجتهد الجديد. قلت: أنا لم أدعُ إلى الاجتهاد المطلق ولم أفتح بابَه للطالب والجندي والتاجر والصانع، ولكن دعوت إلى تأليف لجنة من العلماء تضع لنا قوانين تستنبطها من الإسلام، نستغني بها عن هذه القوانين الأجنبية التي أصبح أخذنا بها -ونحن أمة منها انبثق نور العلم والتشريع- عاراً علينا، وتجتهد في استنباطها كما اجتهد الأئمة الأوّلون ... هذا ما قلت، فمَن هو المجتهد الذي تحمل إليّ آراءه في كرّاسة مدرسية؟ قال: هو الخواجة «فلان»، رجع من أوربا ومعه ورقة عليها اسمه وصورته وفي أسفلها خاتم مدير الجامعة، سحر بها الوزارة فقالت له: كن مدرّس التاريخ الإسلامي في صف البكالوريا، فكان! ثم أخذت الوزارةَ النشوةُ فقالت له: كن فقيهاً محدّثاً

أصولياً، كن أبا حنيفة ... فخذ دفتره فانظر ماذا كان؟ فلا والله ما استُقبلتُ في حياتي بمثل ما استقبلني به هذا الطالب، وما رأيت وما سمعت بأعجب منه: مسيحي يدرّس دين الإسلام! أوَليس تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم وتاريخ القرآن ديناً؟ ما بقي والله إلا أن أدرّس أنا تاريخ الإنجيل ومذاهب النصرانية، وأنا لا أعرف كتاباً من الكتب التي ألفها النصارى في هذا الباب، لا أعرف فيه إلا كتاباً لشيخ مسلم. أيّ فرق بين هذا، وبين أن يدرّس هذا الشاب المسيحي دينَنا لطلابنا المسلمين، وما معه من المراجع إلا كتاب مستشرق نصراني؟ أخذتُ الدفتر أنظر ما فيه، فإذا فيه درس للقرآن والحديث والمذاهب الإسلامية في الفقه ونشوئها وأصولها واختلافها، كل آرائه جديد مبتكَر لم يعرفه أحد من العلماء والباحثين ولا يقرّه الدين. فسبّحتُ بحمد الله إذ يؤتي الحكمة من يشاء! وأحببتُ أن أشير إلى طرف من هذه الآراء، أدلّ عليها الناس ليهتدوا بها إلى الحق الذي تجنّب علماءَ المسلمين في الدهر الأطول، ثم جاء في ذَنَب الزمان على لسان «خواجة» ... وأن أدلّ على مكان العبرة منها. * * * كان الناس كلهم، مذ جاء الله بالإسلام إلى يوم الناس هذا، مجتمعين على أن القرآن جديد في أسلوبه لا يشبه أساليب العرب في مخاطباتهم وآدابهم، وأن الله تحدّاهم به وهم ملوك

القول ومَرَدة البيان، فلم يقدروا على أن يأتوا بمثل سورة صغيرة منه ... فجاء هذا «الخواجة» بعد ثلاثة عشر قرناً يبيّن للناس أنهم على ضلال، وأن أسلوب السُّوَر المكية من السَّجْع المعروف عند عرب الجاهلية وبعض كُهّانهم. أين كانت هذه الحقيقة مخبوءة؟ ويعلل «الخواجة ميشيل» اختلافَ أسلوب السور المكية عن المدنية بأن الرسول كان في أول دعوته "في حالة عصبية، يشعر شعوراً مبهماً، وكان مضطرباً، فلذلك أتى أسلوب السور الأولى (أي المكية) عنيفاً متقطعاً مبهماً". ويتكلم «الخواجة» عن جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن، فيقرّر "أن هذه المجموعة الأولى لم تنل صفة رسمية، بل بقيت كمشروع خاص قام به أبو بكر وعمر". فهل في القرّاء من فهم معنى هذا الهذيان؟ وهل يُسمّى هذا اللغو المخالف للعلم والمنطق تاريخاً يُلقَى على طلبة مدرسة ثانوية؟ والمفروض في التاريخ الذي يلقى في المدارس الثانوية أنه خلاصة الحقائق الثابتة عند العلماء، لا ما يتمخض به ذهن المدرس الجاهل من خيال وسخف وهذيان! والطامة الكبرى في كلامه على جمع عثمان للقرآن، إذ يقول ما نصه: "ولما ازدادت هذه الخلافات بين هذه الأقطار بشأن النص الأصلي للقرآن صمّم عثمان على وضع نص لا خلاف فيه". وهو كلام صريح في أن عثمان وضع نصّ القرآن! إننا نترك ما في هذا الكلام من طعن بالإسلام لننظر في قيمته العلمية. أليس معنى هذا الكلام أن الرجل لم يفهم ماذا عمل

عثمان، ولم يتنازل فيقرأ كتاب التاريخ الإسلامي الذي يقرؤه الأطفال؟ كيف يكون مثل هذا مدرّساً لطلاب المسلمين في آخر صف ثانوي؟ ولِمَ لا يكون (على هذا القياس) بائعُ الباذنجان أستاذَ الحقوق الدولية في كلية الحقوق؟ أي فرق بينهما ما داما قد استويا في الجهل بما يدرّسان؟! * * * ويا ليت هذا الخواجة وقف هنا، بل هو قد ذهب إلى القول: "الظاهر أن هذا النص الرسمي (يعني القرآن) كان ينقصه سورتان (ما شاء الله!) ذكرهما أُبَيّ (أين ذكرهما يا حضرة الخواجة؟) ويزيد سورتين على نص ابن مسعود"! أرأيتم أوقح من هذا الافتراء على الإسلام والعلم والحقيقة؟ لقد كان للإسلام أعداء كثيرون من أول يوم ظهر فيه إلى هذا اليوم، ولكن لم يجرؤ واحد منهم على هذا الافتراء لأنهم كانوا أشدَّ احتراماً لنفوسهم من أن يسقطوا هذه السقطة، وأعقلَ من أن يتورطوا في هذا الغلط الشائن! ونقل أن الخوارج ينكرون سورة يوسف "لأن فيها لهجة غرامية لا تكون في كتاب مقدس"، ولم يبيّن مصدر هذا النقل، ولا هو يدريه! وأنا أعترف بأني لم أعلم ذلك من قبل، فليأتِ بالنص لنعلم مَن هم هؤلاء الخوارج القائلون بهذا القول؟ وينقل عن بعض المستشرقين تفسيراً مضحكاً غريباً لا أصل له في تاريخ ولا واقع ولا نص قديم، هو أن أوائل السور (ألم، حم، ق ... إلخ) أوائل أسماء الكَتَبة أو الذين كانوا يملكون النسخ

عندما وُضع (انتبه لكلمة «وُضع» المتكررة) النص الأصلي! وهذا الكلام مخالف للعلم ومنافٍ للدين الإسلامي، لأنه يجعل أوائل السور من غير القرآن وهي من القرآن بالإجماع. وينقل عنهم مسخرة أخرى لم تخرج إلا من أدمغتهم، هي أن القراءات السبع قد نشأت في القرن العاشر، إذ "اجتمع سبعة علماء وكانت بينهم مناقشات انتهت بوضع هذه القراءات السبع"! فأين ومتى كان هذا المؤتمر ومن ذكره من المؤرخين؟ أم أنه يرتجل التاريخ ارتجالاً ويضعه في رأسه؟ وهل هذا هو التاريخ الذي قرّرت الوزارة تدريسه في مدارسها؟ * * * ولست أذكر كل ما وجدت من البلايا والخطيئات في هذا الفصل الواحد ضَنّاً بالوقت ورحمة بالقراء، ولكني أمثّل له تمثيلاً. ومن أمثلة هذا العدوان على الحق والإسلام تقريره أن في القرآن ما كان خاصاً بزمانه لا يمكن تطبيقه الآن ولا يصلح، ومثّل له في درس من دروسه بالعقوبات المنصوص عليها في القرآن. والكلام في العقوبات يحتاج إلى فصل، بل كتاب برأسه، وليس هذا محله. ومن الأخطاء العلمية أنه عرَّفَ «البدعة» بأنها "الخطأ غير المقصود في التفتيش عن الحقيقة". وهذا مثل تعريف المثلث بأنه السطح المحاط بخمسة أضلاع، أو تعريف الفاعل في النحو بأنه الأرض المحاطة بالماء من جهاتها الأربع! وقسّم المسلمين إلى «محافظين» منعوا البِدَع و «أحرار» أخذوا بها، واشترطوا أن يكون

ذلك بالإجماع! وهذا تناقض وخلط لا معنى له، لأن الإجماع لا ينعقد على بدعة، وما انعقد عليه الإجماع فليس ببدعة! ومن دلائل الجهل المطبق في بحث هذا الخواجة أنه رأى الفقهاء ينقسمون إلى أهل الحديث وأهل الرأي، ففهم أن «الرأي» هو الأخذ بالرأي المجرد وترك الحديث لأنه بزعمه متناقض مبهم! وأن هؤلاء الذين تركوا الحديث فتّشوا عن قواعد حقوقية أخرى، فنشأت المذاهب ... واستمر يبحث في المذاهب بحثاً لا يختلف عن أي رواية خيالية تخرجها مخيّلة كاتبها ليدافع بها عن مذهب له، أو يظهر شعوراً يكنّه في صدره أو عاطفة تحويها نفسه. ولقد ظهرت في رواية هذا الخواجة عواطفه نحو الإسلام، وظهر عداؤه وتعصبه وبعده عن الإنصاف وبراءته من العلم والبحث العلمي. ثم عاد إلى الشنشنة القديمة، دعوى العلاقة بين الحقوق الرومانية والإسلامية. وهي مسألة مفروغ منها، أصبح من الكلام الفارغ وإضاعة الوقت أن يعود إلى التشدّق فيها كاتبٌ أو باحث، وأصبحت مثل مسألة ادّعاء حرق المسلمين مكتبة الإسكندرية ... لا رأي للعلم فيها إلا أنها تزوير وافتراء. ثم إنها ليست داخلة في منهج التاريخ ولا يعرفها هذا الخواجة لأنه ليس متخصصاً في الحقوق، ولا يفهمها الطلاب، ولا معنى للبحث فيها إلا الطعن على الإسلام بالحق والباطل وبمناسبة وغير مناسبة! وختم البحث بقاصمة الظهر (ظهره هو) وبَليّة البلايا وطامّة الطامات، فقال نقلاً عن المستشرق اليهودي غولد زيهر بأن "البدع تصير بالعادة سنّة وينعقد عليها الإجماع فتبث، وهكذا (انتبه!) ثبت النص الأخير للقرآن (أي بعد أن كان بدعة باطلة!) والكتب

الستة (كذلك!) وأعياد المولد (وقد نص الشاطبي على بدعيّتها) والتوسل بالأولياء (وهي من المنكَرات) " ... فانظر كيف قرن مسألة أعياد المولد الفرعية بثبوت النص القرآني والكتب الستة، وهي عماد ديننا وجماع الإسلام كله، وماذا يبقى إذا كان الكتاب والسنة بدعة؟ هذا كلام لا يقوله إلا من أعمى التعصّبُ بصيرتَه حتى ما يفكر، وأعمى الجهلُ المركَّب بصره حتى ما يرى ويقرأ، وهذا ما لا يكون إلا بخذلان من الله، ونعوذ بالله من خذلانه. * * * وبعد، فإننا لم نملأ صفحات «الفتح» (¬1) ونتعب قرّاءه الكرام رداً على هذا الجاهل أو اهتماماً به، فهو أهون علينا من ذلك، وهو على الله أشدّ هواناً. ولقد عرفت الأيام من أعداء الإسلام كل وقح وأحمق وسخيف ومزوِّر، فذهب ما جاؤوا به وبقي الإسلام لم يضرّوه شيئاً، لأن الله تعهد بحفظه وجعل العاقبة لأهله. ولكنّا كتبنا هذا الفصل، وأطلنا في التمثيل على هذا الخلط وهذا العدوان، لنأخذ من ذلك عبرة تنفعنا اليوم. ونحن اليوم (في أكثر بلدان الشرق الإسلامي) في مطلع حياة جديدة، نصفي الماضي وننخل الحاضر، ثم لا يبقى إلا المنخول المصفّى من أخلاقنا وأوضاعنا وعاداتنا. ¬

_ (¬1) نُشرت هذه المقالة في الصفحة الأولى من مجلة «الفتح» يوم الخميس السادس من شوال 1356، وقد جعلها محب الدين الخطيب، صاحب الفتح، افتتاحية ذلك العدد (مجاهد).

العبرة في هذا العدوان السخيف أن هذه المفتريات -على ظهورها ونتنها- ألقيت على صف عالٍ فيه قرابة أربعين طالباً مسلماً، فما أحسّ بها ولا أنكرها إلا بضعة طلاب، أنكروها بضعف وجادلوا فيها بجهد المُقِلّ، وقَبِلها الباقون جملة وتعصّبوا لها ودافعوا عنها. أفليس في هذا دليل على أن نزع الدروس الدينية من مناهج التدريس ومن مواد الامتحانات العمومية قد حقق أغراض المستعمرين وأذناب المستعمرين، وأخرج جيلاً جديداً جاهلاً بأصول الإسلام وعلومه وتاريخه، مجرَّداً من الغيرة الإسلامية؟ إنه لم يبقَ إلا أن يُسمّى هذا الجيل جورج وميشيل وطنوس بدلاً من أحمد ومحمد ومحمود! وماذا تغني الأسماء؟ هل يدخل الرجل الجنة بورقة النفوس أو بشهادة الميلاد؟ وهل يصبح القط أسداً بورقة تعلَّق في عنق القط مكتوب فيها أنه أسد؟ فإذا لم تعالَج هذه المسألة بصورة جدية سريعة، وإذا أضعنا هذه الفرصة الأخيرة، جاء وقت لا ينفع فيه العلاج، لأن المريض يكون قد مات! (¬1) ¬

_ (¬1) أطلق علي الطنطاوي نداءه هذا في وقت مبكر ولمّا يستفحل الداء، فكان صرخةَ النذير العُريان. ثم شاء الله أن تتحقق النبوءة ويذهب هُتاف الصَّريخ بلا مُجيب، فضاعت الفرصة وجاء الوقت الذي لم يعد ينفع فيه علاج، ودفع الناس ثمن التخاذل والسكوت: نصف قرن من العناء والبلاء، وما زالوا يدفعون! انظر مقالة «رد على أدعياء البعثية» التي ستأتي في هذا الكتاب، و «الخواجة» المذكور في المقالتين واحد (مجاهد).

والعبرة في هذا العدوان السخيف: أن آباء هؤلاء الطلاب الأربعين لا يعلمون بأن معلم التاريخ الإسلامي لأبنائهم نصراني شيوعي لا يؤمن بدين ولا يقرّ بإله، ويصرّح بذلك في دروسه على طلابه! لا يعلمون بذلك لأنهم لا يهتمون به ولا يسألون عنه أبناءهم ... هذه فئة منهم. وفئة تعلم بذلك ولكنها لا تباليه ولا تحفل به، وفئة ثالثة تعلم ذلك وتحفله وتهتم به، ولكنها لا تقدر على شيء لأن كل واحد يتكلم وحده، كل واحد منا يأتي وحده فيدفع الباب فلا يندفع، فيدعه ويمضي معتقداً أنه وفّى ما عليه. ولو دفعناه جميعاً لانهار انهياراً، فيجب أن نأخذ من هذا عبرة ودافعاً إلى العمل المجتمِع، ذلك الذي لم نتعلمه بعد. والعبرة في هذا العدوان السخيف: أن هؤلاء الطلاب القلائل الذين أنكروا ما سمعوا، وأحبوا أن يردّوه ويعرفوا حقيقته، لم يجدوا كتاباً يتعلمون منه حقائق الإسلام، ومن وجد منهم الكتاب لم يفهمه، لأنه مكتوب بغير لغة هذا العصر لغير أبناء هذا العصر! ولقد كنت العام الماضي في العراق، فسألني أحد تلاميذي -من طلاب الثانوية في بغداد- عن كتاب واضح منير فيه بيان حقيقة الإسلام وأركانه، يقرؤه فيغدو مسلماً كاملاً ويستغني به عن غيره، فلم أجد ما أدلّه عليه (¬1)، لأننا لا نزال في حاجة إلى كتاب ¬

_ (¬1) انظر مقالة «كتاب في الدين الإسلامي» المنشورة في كتاب «فصول إسلامية»، وفيها: "ولقد أحسست بهذا النقص منذ ابتداء عهدي بالطلب، وعرضت له في رسائل «في سبيل الإصلاح» التي نشرتها=

جامع يُبحَث فيه عن «الإيمان» أولاً، عن الإيمان الواجب، لا عن المناقشات والفلسفات والردود على الطوائف التي لم يبقَ منها على وجه الأرض أثر، ويكون إيماناً سلفياً مستمَدّاً من الكتاب والسنة. ويبحث عن «الإسلام» ثانياً، أي عن أركانه الخمسة بغاية الاختصار والبيان، وعن «الإحسان» ثالثاً، وهو الجانب الأخلاقي الاجتماعي من الدين. فلعل صحيفة «الفتح» الميمونة الطالع التي أنشأت، نعم، أنشأت هي «جمعية الشبّان المسلمين» وبثَّت هذه الروح الإسلامية التي تملأ مصر اليوم، لعلها تدعو إلى تأليف هذا الكتاب الذي يقرؤه الشاب فيفهم الإسلام الواضح الفطري البسيط، كما كان يفهمه الأعرابي من جلسات قليلة يجلسها مع الرسول صلى الله عليه وسلم. * * * إن قصة هذا الخواجة تتكرر دائماً ونحن نشتغل دائماً بردّها، أي بالعمل السلبي، ونحن في أشد الحاجة اليوم إلى ¬

_ = في دمشق إثر عودتي من مصر سنة 1929، بيد أني لم أعرف خطره إلا أمس، حين درّست الدين في مدارس العراق وشرحت للطلاب مزاياه وكشفت لهم عن عظمته، فكانوا يتشوّقون إلى زيادة الاطلاع ويرغبون في متابعة الدرس، فيسألونني عن الكتاب الذي يجدون فيه خلاصة الدين كما يجدون خلاصة الطبيعة أو الهندسة في كتاب واحد، فأفكر فيه فلا أجده ... "، واقرأ أيضاً «قصة هذا الكتاب»، وهو الفصل الافتتاحي في كتاب «تعريف عام بدين الإسلام» الذي صدر بعد نشر هذه المقالة بثلث قرن (مجاهد).

العمل الإيجابي، إلى بناء النافع أيضاً لا إلى هدم الضارّ فقط، إلى إنشاء الحصون الدائمة لحماية عقائد الناشئة، وعرض الإسلام بشكل واضح صحيح، ولا يقوم بهذا إلا العلماء الذين جمعوا بين ثقافة العصر والثقافة الإسلامية والتديّن الحقيقي، وهذه هي «الحلقة المفقودة»، أما الجامدون فقد ظهر عجزهم عن هذا، لأنهم يعيشون في هذا العصر ولا يعيشون في هذا العصر! فيا طلاب الأزهر ودار العلوم بمصر، ويا طلاب الكلية الشرعية في بيروت، والخسروية في حلب، ودار العلوم في بغداد، ويا أيها الشباب المسلمون المتدينون في كل مكان: عليكم المُعوَّل، فإلى العمل. * * *

عدوان أفظع

عدوان أفظع نشرت سنة 1937 علم القرّاء نبأ ذلك العدوان الفظيع الذي ضَجّت له دمشق وهال كلَّ مسلم وكلَّ عالم فيها، ذلك العدوان على الدين الإسلامي والحقيقةِ والعلم، الذي اهتمت له جمعية العلماء في دمشق وراجعت من أجله الحكومة، وأذاعت بياناً تهدّئ به من حماسة هذا الشعب الأبيّ المسلم الذي يعرف الناسُ كلهم ماذا يفعل إذا غضب، والذي لم تُخِفْه مدافع فرنسا ودباباتها ولم تكسر من وطنيته، فكيف يخيفه هذا الخواجة المسيحي وهؤلاء الأربعون من الخواجات المسلمين، والموقفُ موقف عدوان على الدين، والدينُ أعزّ من الوطنية، وافتراء على الحقيقة، والحقيقةُ أثمن من المادة، ومسّ للعقائد، والعقائدُ فوق كل شيء؟ فسكت الشعب ينتظر على مضض. وكان يهوّن هذا العدوانَ (ولن يَهون) أن هذا الرجل جاهل بهذه المادة فيجب ألاّ يوكَل إليه تدريسها من الأصل، وكنت أظن أنه سيتنصّل من هذه الأقوال المضحكة الظاهرة البُطلان، فإذا هو يصرّ عليها ويطلب مناظرته، فلا يقبل طالب علم في دمشق أن يتنزّل إلى مناظرته فيها، فيبعث أحد تلاميذه للردّ على مقالتي

الأولى في «الفتح» بمقالة ينشرها في جريدة لبنانية نصرانية (¬1)، تحمل سموم التعصب الذميم والحقد القاتل على الإسلام وأهله على التعميم، وعلى مصر وكتّابها على التخصيص، وتحاول أن تهدم بهذا الهذيان وهذه الشتائم الدنيئة وهذه الحملات الطائشة البيانَ القرآني لتقيم مكانه بياناً إنجيلياً! وكما أن البيان القرآني يأتي في أسلوبه في الذروة من العلوّ، فإن أساليبهم تجيء في الحضيض الأسفل من الركاكة التي ليس بعدها ركاكة والعيّ الذي ليس بعده عيّ. وقد فشلت دعوة ذلك القسيس اللبناني منذ سنين إلى اتخاذ اللغة العامية لغة أدب وتأليف، فاستبدلوا بها هذه الدعوة إلى أدب المعاني وطرح الألفاظ، وهذه لها موضع آخر تُشرَح فيه ويُكشَف غامضها ويُعلَن خبيئها، وهذا موضع الكلام في مقال هذا الطالب. * * * مقال هذا الطالب عدوان أفظع وأشد، لأن أستاذه نصراني شيوعي ولكنه هو -كما يقول في مقالته بصريح عبارته ويقسم على ذلك بالله- "مسلم يعتقد بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويعتقد بالملائكة والأنبياء والكتب السماوية والحشر والنشر والقضاء والقدر ويصوم ويصلي، وإنما قال ما قال غضبة للحق" ... فانظروا إلى هذا المسلم المؤمن الصائم المصلي: عمَّ يدافع وماذا يعتقد؟ وانظروا إلى هذه الفوضى في التعليم التي ¬

_ (¬1) هي جريدة «المكشوف». انظر مقالة «حركة طيبة في لبنان»، وقد مرّت في هذا الكتاب (مجاهد).

تجعل من هذا الصائم المصلي مدافعاً عن الكفر والجهل! وأفيقوا -أيها المسلمون- من نومكم، واعلموا أنه إن كان مثل هذا التلميذ المتدين قد أثمرت في نفسه ضلالاتُ هذا الخواجة وأمثاله، فماذا تصنع بغيره ممّن ليس مصلياً ولا صائماً؟ وانتبهوا إلى أبنائكم، وراقبوا المدارس، فإنه يوشك أن تُخرج المدارسُ من الولد عدوّاً لأبيه، كافراً بدينه، خصماً لقرآنه! على أني لن أقسو على هذا الطالب ولن أردّ عليه، ولكني أحب أن آخذ من مقاله عبرة أخرى وفائدة جديدة تهمّنا في نهضتنا الجديدة. والأمر جِدّ، ونحن اليوم على مفترق الطرق، قد استيقظنا ولكنّا لا ندري أيَّ طريق نسلك، فلن نضيع الوقت بالردّ على تلاميذ مدفوعين ولا أساتذة جاهلين، ولكنا نختار طريقنا إلى غايتنا. إن هذا المسلم المؤمن الصائم المصلي يرى أن "تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم وتاريخ القرآن لا يسمّى ديناً" فلا بأس إذن أن يدرّسه نصراني جاهل بالقرآن وعلومه، غريب عن علم الإسناد لا يعرف صحيح الروايات من سقيمها، ولا يعرف مصطلح الحديث ولا يعرف إليه مرجعاً إلا كتاباً صغيراً نشره مستشرق باللغة الفرنسية! على أن المفروض في هذا الطالب أنه أعقل من أن يتورط في هذه الورطة وهو في صف البكالوريا، ولكن الأستاذ -كما علمت- قد دخل الصف يحمل عدد «الفتح» الذي أخزاه الله فيه وفضحه ونكّل به، فتذلّل للطلاب وتَمَسْكن لهم وتظاهر بأنه مظلوم مسكين، والطلابُ -كما قلت في المقالة الأولى- ليس لهم وقوف على الحقيقة الدينية، وهم طيّبو القلب يُخدَعون

وتؤثّر فيهم العاطفة، ويشعرون بالجميل للمعلم الذي يمنحهم الدرجات بلا حساب (كما يفعل هذا المدرّس)، فأشفقوا عليه لمّا سمعوا ذلك منه وخُدعوا كما خُدع ذلك الأرنب بالقط الذاكر التقي الصائم المصلي (في قصة كليلة ودمنة)، فتطوع هذا الطالب المؤمن المسلم المصلي الصائم للدفاع عن القط! ولكن ماذا يقول في الدفاع؟ لم يجد إلا قاموس الشتائم، فسبّني وشتمني فلم أبالِ بذلك، وإنما باليت واهتممت باعتقاد هذا الطالب بصحة هذا الرأي الباطل ودفاعه عنه، فهو يدافع عن دعوى الخواجة بأن أسلوب القرآن ليس جديداً (وإنما هو أسلوب السَّجْع المعروف عند عرب الجاهلية وبعض كُهّانهم) ويستدل على ذلك بكلمة لطه حسين في كتابه «الأدب الجاهلي» جاء فيها ما نصّه: "إنما كان القرآن جديداً في أسلوبه، جديداً فيما يدعو إليه الناس، جديداً فيما شرع للناس من دين وقانون". أفرأيت فهم هذا التلميذ؟! أما كان خيراً له أن يهتمّ بدروسه التي سيُمتحَن فيها من أن يورّط نفسه في هذا الخزي وأن يستدلّ على الدعوى بضدّها؟ ثم متى كان طه حسين في «الأدب الجاهلي» حجة في حقائق الإسلام؟ أما كان يجب على هذا الطالب أن يعلم أن هذا الكتاب شَغَل دوائر القضاء ودمَغَته النيابة العمومية بشَرّ أوصاف الخزي، وأُلِّفت في الرد عليه كتب جَمّة قائمة برأسها؟ وأي هزيمة أعظم من التماس الحجة في مثل هذا المرجع الذي ظهر عُواره لكل عالم وأديب؟ هذا وليس في الذي نقله الطالب من كلام طه حجة له أصلاً. * * *

وبعد، فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، ومن معاني هذا الحديث أن الله قد يبتلي هذا الدين بالفاجر المُبطل فيقول ما يوقظ المسلمين وينبّههم إلى دفعه، فيتأيّد بذلك الدينُ. ولعل هؤلاء الفجّار (من أمثال الخواجة ميشيل وعصابته ومن يرى رأيه) مصدرُ خير للمسلمين إن شاء الله، وإنّ من المصائب أحياناً ما يفيد، وقد يأخذ الإنسان من الحية أو العقرب ما ينفعه ويتداوى به. وهذه حادثة من مئات الحوادث: هذا الخواجة المسيحي الذي يدرّس تاريخ القرآن والحديث والفقه، والذي جاء بكل ما رآه القرّاء في المقالة الماضية، يصرّ على أقواله وتبلغ به قلة الحياء إلى دعوة المسلمين إلى مناظرته فيها، ثم هو لا يزال في منصبه! ومن الطلاب المسلمين من انزلقت أرجلهم معه في كل ما يقول، يؤيدونه فيه، واستقر ذلك في نفوسهم حتى دفع هذا الطالبَ المسلم إلى الدفاع عنه! شبّان المسلمين يحالفون المدرّس الجاهل النصراني على آبائهم وإخوانهم، ويتآمرون مع الجريدة المتعصبة على دينهم وأدبهم ... أفلا تستحق هذه الظاهرة شيئاً من اهتمام القائمين على إدارة الجبهة الإسلامية؟ أكرر القول بأننا لا نحتاج إلى الهدم حاجتَنا إلى البناء، وأن مصدر هذه الظاهرة في الشبان ليس النقص في الإيمان ولا الفطرة السيئة، فهم مولودون على الفطرة النقية والإيمانُ مستقر في أعماق نفوسهم من الصغر، ولكن مصدرها الجهلُ بالدين. أنا أعتقد أن هذا الطالب الذي ردّ عليّ ودافع عن أمور واضحة البطلان ليس له أقل اتصال بالعلم، وهو لم يكن منافقاً ولا كاذباً، ولكنه كان مقتنعاً بينه وبين نفسه بأن ما قاله هو الحق،

وأنني مخطئ، وأن جميع علماء المسلمين متعصبون رجعيون لا يعرفون البحث العلمي الجديد! وهو معذور -في رأيي- تماماً، لأنه رأى هذا الخواجة لبقاً يدّعي المعرفة ويستطيع أن يتفاهم معه ويتفق معه في التفكير، في حين لا يرى في المشايخ من يستطيع أن يتفاهم معه. ورأى مع هذا المدرّس كتاباً مبوَّباً منظماً فيه كل ضلالاته معروضة بشكل جذّاب عليه طلاء من البحث العلمي، في حين أن كتب الحق التي هي مع علماء المسلمين أُلِّفت لعصر غير هذا العصر ولقرّاء غير هؤلاء القراء، فيُخيَّل إلى النشء الذي لم يألفها أنها ينقصها التبويب والترتيب والبحث العلمي الجديد، فيتركها مثلُ هذا الفتى المسلم ويلجأ إلى كتب أستاذه الخواجة! فالمسألة إذن أكبر من عزل أستاذ أو إحالته على القضاء؛ إنها مسألة ناشئة المسلمين في كل بلد، مسألة أمة المستقبل تُنَشَّأ على غير الحق ويتولى قيادتَها جماعةٌ من الجاهلين المُبطلين، إذا افتُضح واحد منهم مصادَفةً فإن كثيرين لا يزالون في الخفاء. فأنا أقترح على الجمعيات الإسلامية في مصر والشام الدعوةَ إلى تأليف الكتب على الأسلوب الجديد في بيان الإسلام وحقائقه ومزاياه، وإقامة مؤتمر إسلامي عام يحضره مندوبون عن كافة الجمعيات والهيئات لبحث مسألة «التعليم والإسلام» وبيان أقصر الطرق وأقومها إلى الغاية، وانتخاب هيئات تنفيذية لتحقيق مقررات هذا المؤتمر. وبغير ذلك لا تزداد المشكلة إلا تعقيداً، حتى يأتي يوم نخشى أن لا تُحَلّ فيه أبداً لا قدّر الله. * * *

جاء الحق وزهق الباطل

جاء الحق وزهق الباطل حديث أذيع سنة 1972 كل يوم، وفي كل مكان، تظهر أدلة جديدة على عظمة الإسلام وصحّة مبادئه، ويعود العالم إليها أو يقترب منها، من حيث يشعر أنها مبادئ الإسلام أو من حيث يراها مبادئ صحيحة. ها نحن أولاء نقرأ اليوم ونسمع بأن دول أوربا -على ما كان بينها من خصومات ترجع جذورها إلى قرون طويلة، واختلاف في اللغات والعادات، واختلاف أحياناً في المعتقدات- قد تناست خصوماتها ودفنت أحقادها، وتخطت حواجز اللغات والعادات والمعتقدات، والتقت كلها أو كادت في أوربا واحدة. كيف تلتقي فرنسا وألمانيا لقاء الأصدقاء ويفصل بينهما بحر من الدماء، من أيام نابليون وقبله وبعده، إلى حرب السبعين، إلى الحرب الأولى والثانية؟ كيف تلتقي ألمانيا وبلجيكا؟ كيف تلتقي إنكلترا وفرنسا؟ ما السوق الأوربية المشتركة؟ فما معنى هذا كله؟ معناه أنه لم يعد من الممكن أن تعيش في هذه الدنيا إلا الكتل الضخمة (¬1)، معناه أن مبدأ القوميات (الذي ¬

_ (¬1) يختارون هذا لأنفسهم، أما لنا فلا يختارون إلا ما يضعفنا، لذلك تقسّمنا القوميات.

كان شعار القرن التاسع عشر) قد مات، وأن الروابط بين الناس صارت روابط معنوية، روابط هدف مشترك أو مصلحة يؤمن بها الجميع. أليس هذا ما دعا إليه الإسلام حين جعل الرابطة بين أفراد الأمة المسلمة تتجاوز حدود القوميات واللغات؟ أليس هذا ما كنا نقوله، أو ما كنت أقوله وأكتبه من أكثر من أربعين سنة؟ أليس هذا موضوع الخلاف بيننا وبين دعاة القومية من تلك الأيام؟ وليس العجيب أن يعود العالم إلى هذا، فهذا هو الحق، ولكن العجيب أن يبقى فينا من ينادي بمبدأ القوميات ويدافع عنها ويتحمس لها! إن كل مبدأ من هذه المبادئ التي تدخل إلى رؤوس أبنائنا أخطر بألف مرة من الصواريخ والقنابل، لأنها تجعل من أبنائنا أعداء لنا وأعواناً لعدوّنا علينا. إن اليهود، وما لهم من مؤسسات ومخططات وما فُطروا عليه من المكر والدهاء وما بأيديهم من خزائن الأموال، إن الصهيونية وابنتها الماركسية، وابنتها الأخرى نظرية دارون، هذه كلها لا تزال تدس السموم في غذائنا الروحي في الكتب وفي الإذاعات، بل وفي البرامج والمناهج وعلى ألسنة كثير من المدرّسين في بلاد المسلمين. حتى البضاعة التي تذهب «موضتها» عندهم ولا تعود صالحة للاستعمال تُصدَّر إلينا على أنها جديدة، كما تُصدَّر بالات الثياب المستعمَلة! فالقومية -كما رأيتم- بطلت موضتها في أوربا وأُهملت فصُدِّرت إلينا، ومثلها الدارونيّة التي انهارت علمياً وتهدّمت أسسها الموهومة على أيدي أكابر علماء العصر،

وكذلك الفرويدية التي سقطت وظهر عُوارها. إن نظرية دارون في بقاء الأصلح قد جَرَّت إلى اتخاذ وسائل القوة والسيطرة على الضعيف وإهمال مبدأ العدل، وكانت من العوامل الخفية في حربين عالميتين. ونظرية فرويد في أن الغريزة الجنسية هي أصل الغرائز جَرَّت إلى هذه الإباحية التي نراها أو نسمع بها، والتي بدأ الناس ينتبهون إلى خطرها. إن دارون، وفرويد، وماركس، ونيتشه، ودوركايم ... كل هؤلاء من ثمرات المخططات اليهودية، خرجوا من مصنعها، لا بأجسادهم وأرواحهم فالأجساد والأرواح من خلق الله وحده، لكن بأفكارهم الضالّة ومبادئهم المدمِّرة. ولا يزال بعض من يدّعي العلم (لأنه يحمل فيه ورقة مطبوعة) يؤمن بنظرية دارون ويكذّب بها كلام الخالق! حينما تنتشر الأمراض السارية في بلد يكون الحجر الصحي لئلاّ يخرج منه مُصاب (أي حامل جرثوم) فينشره في البلد الآخر، وأَوْلى بنا أن نتنبّه إلى حَمَلة جراثيم هذه الأمراض فنمنعهم من دخول بلادنا، وأن نلقّح السكان (والشباب خاصة) بلقاح يمنع دخول المرض فيهم. وهذا اللقاح هو العقيدة الصحيحة، بشرط أن يوضَع اللقاح في قوارير جديدة معدّة إعداداً طبياً، وأن يقوم به أطباء خبراء. وما أقل هؤلاء الأطباء! * * *

الحكم بالقوانين الشرعية

الحكم بالقوانين الشرعية حديث أذيع سنة 1967 أنا من أقدم المحدثين في الإذاعة؛ فلقد حدّثت من أول إذاعة عربية من نحو ربع قرن ولا أزال أتحدث إلى اليوم، وطريقتي التي لا أحيد عنها هي أن أقول ما يفهمه العامي ولا ينكره العالِم، وأن أجتنب المباحث العلمية لأن مكانها الجامعات والنوادي لا الإذاعات. هذه طريقتي، ولكني سأحيد عنها في هذا الحديث. إني سأتكلم -مضطراً- بما يعلو عن أفهام العامة، وهذا تحذير، فهل سمعتم بمحدّث يبدأ حديثه بالتحذير من سماعه؟ * * * قلت إن هذه الحضارة الغربية التي أقبلنا عليها واغترفنا منها فيها ما لا يمنعه ديننا ولا يحرم الأخذ به، فنحن نأخذه مطمئنّين، وفيها ما يحتاج إلى بحث ونظر، وفيها ما يخالف الدين الذي نَدين به والأخلاق التي نتحلّى بها. أما ما يخالف فهو الذي يطلق الغرائز ويثير الشهوات، ثم

يفتح أمامها طرق الحرام ويسهّلها ويُعبّدها، ويسدّ في وجهها سبل الحرام أو يوعّرها ويضيعها. وسأتكلم عليه في طائفة من هذه الأحاديث. وأما الذي يحتاج إلى بحث ونظر فأوّله هذه القوانين الجديدة وهذه النظم: ما حكمها في الدين؟ وهل يجوز إقرارها والعمل بها، أم لا بد من اتّباع ما قرر الفقهاء في مذهب من المذاهب الأربعة؟ وما أجيب به الآن هو رأيي الذي أراه، وهو يحتمل الخطأ والصواب، فمن تبين له خطؤه فليصحّحه لي. إذا فتحتم كتاب «بلوغ المرام» أو «منتقى الأخبار»، أو أي كتاب من الكتب التي تسرد أحاديث الأحكام، وجدتم أن الأحاديث الواردة في العبادات كثيرة جداً والأحاديث الواردة في المعاملات المدنية قليلة. وهذا من مزايا الإسلام، ليكون ديناً مرناً يصلح لكل زمان ومكان؛ فالعبادات لا تحتاج إلى تبديل، بل لا يجوز فيها التبديل، ولا مجال فيها للاجتهاد إلا في فهم النص الذي جاءت دلالته غيرَ قطعية تسهيلاً على الناس. أما المعاملات فمن شأنها أنها تتبدل بتبدل الأزمان والبلدان، وتتبدل بتبدل أوضاع الناس وأعرافهم، فوضَعَ لها الشرع قواعد عامة وترك للمجتهدين استنباط التفاصيل. فقد حدد الشرع -مثلاً- كيف ينعقد العقد وكيف يكون صحيحاً لا فاسداً، وضمن حرية المتعاقدين بنفي الإكراه، كما أنه نفى التغرير والغبن، ومنع أنواعاً معينة من العقود لأنها

عقود مضرّتها أكثر من نفعها، ولم يعتبرها ولو تراضى عليها المتعاقدان، وترك ما عدا ذلك إلى رأي المسلمين، فما رأوه في عصر من العصور حسناً ولم يخالفوا فيه نصاً شرعياً من آية أو حديث كان عند الله حسناً. فالقوانين والأنظمة الجديدة إن كان فيها تحليل حرام (كما يحلل القانون المدني في أكثر البلاد الإسلامية الربا) فهذا مردود لا نقبله، ولو أجمع عليه المجلس النيابي، ولو اتفقت عليه الأمة كلها، بل نرده ولو أطبقت على القول به أمم الأرض، لأنه ليس لبشر أن يُحِلّ ما حرّم الله، وليس لبشر أن يُسقط عن المكلَّفين ما أوجبه الله عليهم. هذا في الحرام المتفَق على حرمته والواجب المتفَق على وجوبه، أما ما دون ذلك من الأمور التي أوجبها مذهب من مذاهب المسلمين الأربعة وقال آخر إنها مندوبة لا واجبة، والتي حرمها مذهب وقال غيره إنها مكروهة لا محرَّمة، فهذه أمرها أسهل. وما جاء في هذه الأنظمة الجديدة من أحكام لم يتعرض إليها الدين بل تركها للمسلمين، كنظام المرور، ونظام الموظفين، ونظام أصول المحاكمات الذي يبيّن طرق المرافعة المؤدّية إلى العدل الذي أمر الله به، فهذه الأنظمة (وهي في حقيقتها قوانين وإن كانت تسمَّى هنا أنظمة) فإننا نقبلها ولا نعترض عليها. وكذلك القول في قانون العقوبات. إن الشرع حدد عقوبات معيَّنة لبعض الجرائم، كعقوبة القتل والزنا والقذف والسرقة وشرب

الخمر والإفساد في الأرض، فلا يجوز تبديلها ولا التصرف فيها، ومن بدّل عقوبة السارق فجعلها السجن مثلاً محل القطع، إن استحلّ هذا التبديل أو اعتقد أن الذي ذهب إليه أفضل وأعدل يكون قد كفر! أما الجرائم والمخالفات التي لم ينص الشارع عليها فإن عقوبتها متروكة لرأي الحاكم المسلم، فما قرّره -بعد استشارة أولي الرأي والعلم وأصحاب الحل والعقد- يكون قانوناً مقبولاً. وقد يستفظع الناس عقوبة الرجم مثلاً أو عقوبة القطع. والجواب أن عقوبة الرجم لا تكون إلا بإقرار المذنب، لأن الشرع وضع لإثباتها شروطاً يكاد يكون تحقيقها متعذِّراً أو بعيد الوقوع. وكيف يرى أربعة شهود في وقت واحد ما أوجب عليهم الشارع أن يشهدوا به، ولو كان الفاعلان يفعلان ذلك الأمر أمامهم ما رأوا ذلك لأن أعضاء الإنسان يحجب بعضها بعضاً؟ والعفو، فقد اضطررت إلى هذا التعبير المعقد لئلا أصرّح في الإذاعة بما لا يحسن التصريح به فيها. ومن أقر بالزنا كان له الحق بأن يرجع عن إقراره، ولو كان الإقرار أمام القاضي؛ كل ذلك لأن الحدود تُدرَأ بالشبهات. وعقوبة السارق لا تكون في كل سرقة، بل في السرقة التي يأخذ فيها الشيء من حِرْز مثله بنيّة امتلاكه، ولا يكون هذا الشيء تافهاً حقيراً بل شيئاً ثميناً له قيمة. فلو وضع تاجرٌ عشرين ألف ريال على مكتبه وترك الباب مفتوحاً وذهب ليصلي وجاء من سرقها فإنه لا يُقطَع، لأنه لم يسرقها من حرز مثلها، ومثل هذا المبلغ لا يوضع عادة على المكتب بل في صندوق الحديد. ومن أخذه من صندوق الحديد وأعطاه لآخر، قالوا إنه لا قَطْع عليه

لأنه لم يأخذه لنفسه، والحدود تدرأ بالشبهات. ومن سرق ريالاً أو بطيخة لا يُقطَع لأن الذي سرقه تافه قليل الثمن. ومن باب درء الحدود بالشبهات ما فعله عمر من ترك القطع عام الرّمادة، لأن الأمر بلغ بكثير من الناس في تلك السنة إلى حال الاضطرار وجواز أكل الميتة. ومن الناس من يقول إن قطع اليد عقوبة وحشية لا تليق بهذا العصر. وجوابنا: أولاً: أن هذا حكم الله، فإن رأيتموه وحشياً أو غير وحشي، وإن أعجبكم أو لم يعجبكم، فإننا لا نستطيع أن نتركه ولا أن نلغيه. وهل تريدون أن نصدر مرسوماً نقرر فيه إلغاء آية القطع من القرآن ومحوها من الطبعات الجديدة من المصاحف ومنع تلاوتها؟! ونقول ثانياً: هل رقبة الإنسان أعزّ عليه أم يده؟ فلماذا تسمحون أن نقطع رقبته عقوبة له على بعض الجرائم، وتستنكرون أن نقطع يده عقوبة على بعضها؟ ونقول ثالثاً: إننا لا نحتاج إلا لقطع يد أو يدين كل عشر سنين، ثم يعمّ الأمن وتبطل السرقات. وهذا ما رأيناه بأعيننا في هذه المملكة أيام الملك عبد العزيز رحمه الله، لمّا جئناها من نحو ثلاثين سنة؛ كنت تترك مالك في الصحراء على الطريق العام، وتغيب عنه شهراً ثم تعود إليه فتجده على حاله ما مسّته يد. لقد كتبت يومئذ أقول إن الصحراء صارت على عهد عبد العزيز آمَنَ من ميدان النجم في باريس، وكانت كلمة حق. * * *

بقي شيء واحد أحب أن أقوله قبل أن أختم هذا الحديث: إنه لا يكفي في القانون المدني أن تكون أحكامه موافقة للشرع، بل أن يكون مستنبَطاً من الفقه الإسلامي. والفقه الإسلامي -في الواقع- غنيٌّ غِنىً لا يحتاج معه إلى الأخذ من غيره. إنه أكثر كتباً وبحوثاً وأعمق نظريات، وأصحُّ قواعدَ وأكثرُ تفريعات من القانون الفرنسي. وهذا شيء مشاهَد يعرفه القضاة الذين يرجعون إلى كتبنا وإلى الكتب الفرنسية. والعثمانيون وضعوا «المَجَلّة» فكانت قانوناً مدنياً ممتازاً، وبقينا نحكم بها في الشام إلى أيام حسني الزعيم، ولا تزال الأردن تحكم بها. مع أنها وُضعت في القرن الماضي واقتُصر فيها على مذهب واحد، فكيف لو وضعنا مثلها الآن ولم نتقيد فيها بمذهب واحد ولا بالمذاهب الأربعة، بل بالدليل الشرعي، فإن اتفقت المذاهب الأربعة على حكم من الأحكام الاجتهادية ولم يَرِد في هذا الحكم دليل مُلزِم من كتاب أو سنّة، ورأينا العدل في غير ما قالوا به فلا مانع من أن نخالفهم. تقولون: ما دام الحكم لا يخالف الدين، فما الفرق بين أن نأخذه من الفقه الإسلامي أو من الحقوق الفرنسية؟ الفرق أنها لما كانت عندنا «المجلة»، مجلة الأحكام العدلية، وكانت هي قانوننا المدني، كنا نرجع فيما لا نصّ عليه فيها إلى كتب الفقه: إلى الحاشية والتنقيح والفتاوى الهندية وأمثالها، فلما جاءنا حسني الزعيم -عليه من الله ما يستحق- بالقانون المدني الفرنسي صار مرجعنا دالّوز وجاستون وشُرّاح فرنسا ... هؤلاء صاروا هم أئمتنا!

والخلاصة أيها السادة: إن هذه الأنظمة وهذه القوانين، ما كان منها متعلقاً بأمر لم ينصّ عليه الشرع (كنظام المرور ونظام الموظفين) فهو مقبول، وما كان منها مخالفاً للشرع، يُحِلّ حراماً أو يُسقط فرضاً، فمردود. وإن علينا أن نقتبس هذه القوانين من شرعنا، من أدلّة الشرع لا من مذهب معين، لا نأخذها من قانون أجنبي فنضطر إلى الرجوع إلى كتب أهله. هذا، واعلموا أن القانون المدني الفرنسي (الذي هو أصل القوانين المدنية الحديثة) وضعته لجنة بأمر نابليون بعد عودته من مصر. وقد ثبت الآن -من محاضر جلسات اللجنة وأوراقها- أنهم اعتمدوا فيه على كتب في فقه الإمام مالك. فإذا كانوا هم أخذوه منا، أفنرجع فنقبسه منهم؟ أيكون عندنا كنز من الذهب، ثم نمدّ أيدينا لنشحد قرشاً؟! * * *

إلى علماء الشيعة

إلى علماء الشيعة نشرت سنة 1947 كان أهل القسطنطينية يتجادلون في مسائل تافهة لا تقدّم ولا تؤخر والعدوُّ على الأبواب، فضُرب بهم المثل حتى قيل لكل جدال سخيف في وقت عصيب: «جدال بيزنطي». ونحن المسلمين اليوم يحيط بنا الأعداء من كل جانب وتنصَبّ علينا المصائب من كل مكان، ثم نختلف في أبي بكر وعليّ: أيهما كان أحق بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وفي نتائج بنيناها على هذه المقدمة وفروع فرّعناها عن هذا الأصل، أطلنا الكلام فيها والجدال عليها، حتى لم يبقَ فيها شيء يُقال إلا قلناه ولا حجّة إلا احتججنا بها، وحتى صارت من الحديث المعاد والقول المملول، وصرنا -معشرَ أهل السُّنّة- نتمنى أن تُطوى صحيفتها ويُنسَخ حديثها ويُتناسَى حتى يُنسَى، لذلك رحبنا في مصر بالعالم الإيراني محمد تقي قُمّي، ومكنّاه من افتتاح «دار التقريب بين المذاهب الإسلامية»، وسررنا حقيقة بتقرب إخواننا الشيعة منا ورجوعهم إلينا بعد إعراضهم عنا. وجمهور أهل السنة لا يعلمون عن الشيعة إلا أنهم حزب سياسي أُلِّف في وقت من الأوقات لتأييد أحد المرشّحَين

للخلافة، اعتقاداً منهم بفضله وإيماناً بصلاحه، ويرون هذا شيئاً طبيعياً ومفهوماً لا يخلو من مثله بلد فيه انتخابات عامة، والحكومة فيه برأي الأمة لا بنصّ سماوي ولا بحق إلهي، فمن انتخبته الأمة ورضيت به فهو الحاكم الشرعي. أما الشيء الذي لا يرونه طبيعياً ولا مفهوماً فهو أن يبقى في أميركا -مثلاً- حزب لا يزال يسبّ لنكولن ويعادي الأمة الأميركية كلها لأنها انتخبته وقدّمته على خصمه الذي يراه هذا الحزب أصلح منه، ويستمر على ذلك إلى الآن وقد مات لنكولن ومات خصمه، وولي بعده رؤساء كثيرون وماتوا! أو أن يبقى في المسلمين حزب يعادي الكثرة الكاثرة من سلف هذه الأمة وخلفها، وينتقص جمهرة الأحياء والأموات منها، لأن الخليفة الذي بايعته هذه الأمة بالخلافة سنة خمس وثلاثين للهجرة كان من حقه أن يبايَع بها سنة عشر، ويرى أن تأخير بيعته خمساً وعشرين سنة وتقديم ثلاثة رجال عليه أمر يستحق أن نتنازع نحن الآن عليه، بعد ألف وثلاثمئة وخمسين سنة، وبعدما تبدلت الأرض وتغيّر وجه الدنيا ... مع أن هذا الخليفة نفسه قَبِلَ بتقديم الثلاثة عليه، وبايعهم بالخلافة بيده، وأعطاهم طاعته وأولاهم مودّته! إن الأحزاب تتنازع وتختلف، وقد يَسُبّ بعضها بعضاً ويبغي بعضها على بعض، ويسلك كل منها إلى تقوية مرشَّحه أوعر الطرق، فيمدحه بالباطل ويفتري على خصمه ويصفه بكل ما يشين، ولكن تنقضي المعركة الانتخابية فيعود السلام، ويرجع الجميع إخواناً متصافّين يجمعهم العمل للوطن والسعي لإعلاء شأنه.

فما بالنا نشتغل اليوم بمسألة انتهت من ... ثلاثة عشر قرناً؟ شيء عجيب جداً! * * * على أن أهل السنة لا يطيلون النزاع في أفضلية أبي بكر أو عليّ ولا يرون لذلك خطراً في الدين، لأنه إن كان الفضل عند الله فالله أعلم به، وهو لا يُسأَل عمّا يفعل، ونحن لا دخل لنا في القضية. وإن كان في الإدارة والسياسة فقد ولّى الرجلان، والحكم الآن للتاريخ وأهله. ولا طريق للاتفاق بيننا وبين الشيعة إلا بأمور: 1 - بأن ندع الكلام في تفضيل بعض الصحابة على بعض، لأن ذلك ليس من أركان الإيمان ولا من أسس الدين، وليس له في حياتنا نتيجة عملية. 2 - وأن نُجِلّ الصحابة جميعاً ونُكْبرهم كلهم ولا نخوض فيما كان بينهم من حروب، فتلك دماء طهّر الله سيوفَنا منها -كما قال الإمام مالك- فلنطهّر ألسنتَنا عن الخوض فيها. 3 - وأن نرجع جميعاً إلى أصول الدين: إلى الكتاب معتمدين في تفسيره على المأثور (كالذي نقله الطبري في تفسيره) أولاً، ثم على المعقول الموافق للعربية ولأسباب النزول. وإلى السنّة الصحيحة وما بُني عليها من فقه وفُرِّع من فروع، وأن نترك كتب الخلاف التي تؤرث الأحقاد وتثير السخائم. * * *

هذا هو الطريق الذي نراه، وأن يتعاون الشيعة والسنة على منع كل ما يصدع الشمل ويفرق الجمع ويلقي الخُلْف بين جماعة المسلمين، كهذا الكتاب الذي كتبت هذه الكلمة تعليقاً عليه. وهو كتاب أُهدي إلى «الرسالة» للاطلاع والنقد، اسمه «تحت راية الحق في الرد على الجزء الأول من فجر الإسلام»، مكتوب على غلافه: لمؤلفه البحاثة المحقق الشيخ عبد الله السبيتي. مطبوع في طهران طبعاً سقيماً، أسلوبه ضعيف كثير الأغلاط، له مقدمة بقلم صاحب السماحة العلامة الكبير حجة الإسلام الشيخ مرتضى آل ياسين الكاظمي. ولست أريد تتبع كل ما فيه، ولكني أمثّل عليه بهذا الذي أنقله منه بحروفه، ولم أتعمد اختيار أشده، وإنما أخذت ما وقع تحت نظري منه: قال في صفحة (15): إن تاريخ سقيفة بني ساعدة يملي علينا درساً كاملاً يوضّح لنا به نفسية المهاجرين والأنصار، وأنها لم تَصفُ نفوسهم إلى حد وصل الدين (كذا) إلى أعماق قلوبهم. والصحاح تحدّثنا عن قول عمر «إن النبي يهجر»، ذلك حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إيتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً. فكل ذلك يشرف بالباحث على القطع بأن الدين لم يصل إلى أعماق قلوبهم ولم يفهموا الإسلام كما يريد الإسلام. وقال في صفحة (154): وحسبه أن يرى كعب الأحبار اليهودي الدسّاس إلى جانب عثمان، وهو مستشاره. وقال (50): معاوية رأس النفاق، معاوية المستهتر. وقال (85): معاوية رأس القاسطين. وقال (79): ورُبّ رجال أقعدهم بغض أمير المؤمنين

عن القيام بواجب الشهادة فأصابتهم دعوته، كأنس بن مالك. وقال (98): أبو هريرة يحدّث بالترهات ويختلق الخرافات. وقال (130): حديث المنافقين كابن هند (أي معاوية) وابن النابغة (أي عمرو بن العاص) وابن الحكم وابن شعبة وأمثالهم، ولا بحديث الكذّابين الدجالين المخرفين كأبي هريرة. وقال (40): الشيخان (أي البخاري ومسلم) عُنيا بأمور لا وزن لها ولا قيمة، ولسنا نعلم لو كان النجاح في هذه الحرب (الخندق) لغير علي، أكان يهمله الشيخان؟ فاتضح لك أن تلك الأقلام (الكلام كله على البخاري ومسلم) التي تسوّد تلك الصفحات كانت تمشي وراء الميول والأهواء والتبصيص حول التيجان. وقال (93): على أن مسلماً في صحيحه زاد في اختصارها (خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم) جرياً على مقتضيات السياسة التي تخرس الناطق وتصم السميع، فحذف شطرها المختص بعلي عليه السلام كما لا يخفى، وهو مما يدلك على أن السياسة لا دين لها وأنها تعمي البصر والبصيرة. وقال (96): كرّر البخاري هذه السخافة في مواضع عديدة من كتابه ... وقد أخرج البخاري من الغرائب والعجائب والمناكير ما يليق بعقول مخرّفي البربر وعجائز السودان. وقال (100): تراه (أي البخاري) يخرّج من الأحاديث الموضوعة ما تقرّب الواضعُ به إلى الظالمين الغاشمين تصحيحاً لما كانوا يرتكبونه من القتل والمثلة وسائر الأعمال البربرية. وقال (146): إن الشيعة لا تعوّل على تلك الأسانيد (أي أسانيد أهل السنة) بل لا تعتبرها ولا تعرج في مقام الاستدلال عليها، فلا تبالي بها وافقت مذهبها أو خالفته. وقال فيها: إن لدى الشيعة أحاديث أخرجوها من طرقهم المعتبَرة عندهم ودوّنوها في كتب لهم مخصوصة، وهي كافية وافية لفروع

الدين وأصوله عليها مدار علمهم وعملهم، وهي لا سواها الحجة عندهم. فما أغناهم بها عن حديث غيرهم، صحّ حديث الغير أم لم يصح. وقال (162): والتجسيم معروف عن الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه، ولقد رأينا من قبل أن ابن تيمية وابن القيم رأيهما ذلك أيضاً. وقال (163): والتجسيم رأي محمد بن عبد الوهاب وعليه اليوم الوهابية جميعاً، لا يتحاشون في ذلك، وقد نقله الشهرستاني عن أحمد بن حنبل وداود بن علي الأصفهاني (أي الظاهري) ومالك بن أنس ومقاتل بن سليمان وجماعة من أئمة أهل السنة. وقال (64): ومتى كانت الشيعة تعتبر تفسير الطبري وتعتمد عليه؟ وقال (86): ومتى كان ابن خلدون وغيره من علماء السنة، اللهم إلا القليل، لا يحمل حقداً ولا يتحامل عندما يقف مؤرخاً للشيعة، ومتى كان المؤرخ منهم لا يرتكب زوراً وبهتاناً عند سنوح كل فرصة؟ وقال فيها: الاعتماد على ابن خلدون وأمثاله مثل من يريد أن يبحث عن الشريعة الإسلامية وصحة نبوّة النبي فيعتمد على كتب النصارى قبل سبعة قرون ... إلخ. * * * ومؤلف الكتاب، البحاثة المحقق، لا يسوق هذا على أنه رأي له، بل على أنه معتقَد الشيعة وأنه المعتمَد عندهم. وأنا أصدّقه في ذلك ما لم أرَ علماء الشيعة يكذّبونه فيه وينكرونه عليه، وأقول: إذا كان إخواننا الشيعة يعتقدون أن المهاجرين والأنصار لم تَصْفُ نفوسهم لفهم الدين ولم يصل إلى أعماق قلوبهم، ونحن نراهم أئمة الهدى ووَرَثة الرسول، وإذا كانوا يسبّون أكثر الصحابة ونحن نجدهم خلاصة الإنسانية ولباب البشر، وإذا كانوا لا يقبلون

أسنادنا ولا يحتجون بحديثنا، ونحن نبني على هذه الأَسناد ديننا ونقيم على هذه الأحاديث شرعنا، وإذا كانوا يرون الصحيحين مملوءين بالموضوعات والسخافات لا يليقان إلا بمخرّفي البربر وعجائز السودان، ونحن نراهما أصحّ الكتب عندنا بعد كتاب ربنا، ولا يعتبرون تفسير الطبري وهو عمدة تفاسيرنا، وإذا كانوا يطعنون على أئمتنا ويَصِمونهم بالتجسيم وفساد المعتقد، وإذا كان المؤلف قد صرّح في الصفحات (15) و (64) و (132) بأنه لم يقل كل ما عنده ولم يجهر بكل ما يعتقده "لئلا يقوده البحث إلى نتائج غير صالحة قد لا تلتئم مع العصر الذي يُطلب فيه الوفاق"، وإذا كان عنده، أي عند الشيعة، أكثر من هذا الذي قاله، فكيف يا علماء الشيعة، وكيف يا أعضاء دار التقريب، وكيف يا محمد تقي قمّي، يكون الوفاق ويتم التقارب؟! أوَليس من التناقض أن يأتي من إيران محمد تقي قُمّي ليعمل على التقريب بين المذاهب، فينزل في أفخم فندق في القاهرة ويفتح داراً ينفق عليها وعلى موظفيها وزوّارها أضخم النفقات، في الوقت الذي يُطبع فيه في طهران هذا الكتاب؟ وهل وجدتم في مصر أو الشام أو العراق كتاباً لسنّي يسب فيه أهل البيت الأطهار أو يتعرض فيه لسيدنا عليّ وذريته الطيبة؟ فلماذا إذن افتتحتم دار التقريب في مصر التي تحب عترة النبي صلى الله عليه وسلم وتتبرك بقبور الحسين وزينب ونفيسة (¬1)، ولم تفتحوها في طهران، حيث طبع هذا الكتاب الذي لم يترك مؤلفه أحداً من سلف هذه الأمة وخلفها حتى أصابه برشاش من أدبه السامي؟ ¬

_ (¬1) والتبرك بالقبور لا يجوز.

ألم يكفِنا هذا الاختلاف أربعة عشر قرناً؟ أما آن لنا أن نصطلح ونتفق، ونجرّد المسألة من ثوبها الديني لتعود مسألة سياسية وقضية حزبية انتخابية، لا أكثر ولا أقل، ويرجع إخواننا الشيعة إلى حظيرة الجماعة، فيترضّوا عن الصحابة كلهم كما نترضّى نحن عن آل البيت جميعاً، ويُجِلّوا أبا بكر وعمر كما نُجل نحن عليّاً؟ ما قول علماء الشيعة الأفاضل، وما قول أعضاء دار التقريب؟ (¬1) * * * ¬

_ (¬1) نشر علي الطنطاوي -رحمه الله- هذه المقالة في مجلة «الرسالة» في عددها الصادر بتاريخ 5/ 5/1947 (14 جمادى الآخرة 1366)، وكان مقيماً تلك السنة في القاهرة، ثم عاد بعد أسبوع فنشر في مجلة «الفتح» مقالة بعنوان «كيف قابلت هذا القُمّي»، وفيها وصف لمناظرة قصيرة مع القمي الذي افتتح «دار التقريب» في القاهرة، قال في أولها: "لمّا نشرت مقالتي «إلى علماء الشيعة» في «الرسالة» اهتم لها محمد تقي قمي، ودعا الأستاذ الزيات ودعاني إلى زيارة «دار التقريب»، فذهبنا إليها وذهب معنا الأستاذ سعيد الأفغاني. حتى إذا وقفت بنا السيارة أمامها رأينا مغنى (فيلا) أنيقاً ساطع الأضواء بارع الحديقة، على بابه لوحة من نحاس فيها عنوانه، فلم نقرأ ما فيها ولكن قرأناها هي عنواناً، وقديماً قالوا: «يُقرَأ الكتاب من عنوانه». وصعدنا الدرج، فاستقبلَنا شابان مَشَيا أمامنا إلى باب البهو، ثم استقبلنا شاب آخر إلى باب الغرفة، فشاهدنا فيها هذا القمي ولقينا عنده جماعة امتلأت=

¬

_ = بهم الغرفة، ورأينا أثاثاً يدلّ على ترف. وكان على المنضدة أمامنا طبق فيه «بسكويت» فاخر، ولكنا أعجلناه عن دعوتنا إليه وشغلناه -بالمناظرة- عن نفسه وعنه. وبدأ الحديث بهذه المجاملات السخيفة التي تبدأ بمثلها الأحاديث ... ثم تكلمنا عن الاجتهاد والتقليد فانتقص -غيرَ مصرِّح- أهل السنة بسدّ باب الاجتهاد وامتدح جماعته بفتحه، فقلت له: ومَن سدَّ الباب؟ ومن قال لك إن الاجتهاد انقطع في عصر من العصور؟ إنها كانت تنزل نوازل لم يُنَصّ على مثلها، فكان العالِم يُستفتى فيها فيُفتي مجتهداً على قواعد إمامه وأصوله. وسأله صديقنا الأفغاني عن حقيقة الاجتهاد عندهم وماذا يصنع هؤلاء المجتهدون اليوم؟ فقال بأنهم يفتون في كل مسألة غيرَ مقيَّدين بنقل من عالم أو إمام، فقلت: حتى الأئمة الاثني عشر؟ فراوغ في الجواب وقال بأن الأئمة لا يخالفون الرسول، فقلت: إن هذا ليس بجواب". إلى أن قال: "ثم وصل الحديث إلى دار التقريب هذه، وما غايتها وما منهجها، وكيف يكون التقريب؟ فأعطانا قانون الدار ومقدمته، فقلت له: قد قرأت هذه المقدمة في دار الرسالة فلم أفهم منها شيئاً، وقرأت خلاصتها على الأستاذ الزيات فلم يفهم منها شيئاً، وقرأها صديقنا الأفغاني بعد ذلك فلم يفهم منها شيئاً، وليس لها ميزة إلا هذه المقدرة العجيبة من كاتبها وهذه العبقرية النادرة التي استطاع بها أن يكتب عشر صفحات كلاماً، لكل فقرة منه معنى وليس له في مجموعه دلالة على الغرض ولا صلة بالموضوع! أما القانون فليس فيه شيء عملي إلا إدخال الفقه الشيعي إلى الأزهر". إلى أن قال: "قلت: لندع رواة الحديث ولنأخذ أول من نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم الصحابة، فماذا تقولون في الصحابة؟ فتملّص من الجواب، فلما أحرجته صرّح بأن الشيعة يطعنون بأكثر الصحابة=

¬

_ = ولا يقبلون أحاديثهم. قلت: ونحن نراهم عدولاً ونراهم أئمة الهدى، فكيف يكون التقارب؟ قال سعيد الأفغاني: أنا رجل مشتغل بالحساب، يكون التقارب بأن نحصي الصحابة الذين يسبّهم الشيعة، ثم نقسمهم قسمين متساويين فنسبّ نحن قسماً ويسبّون هم قسماً! فقال أحد الحاضرين (وهو شيخ من أهل السنة): المهم التقارب في المودة والصداقة و ... قلت: يا شيخنا، هل تُوادُّ من يسب أباك؟ قال: لا. قلت: سألتك بالله، أيهما أحب إليك وسبُّه أشد عليك، أبوك أم أبو بكر؟ قال: أبو بكر. قلت: فهذا وسائر الشيعة يسبّون أبا بكر وعمر ويتقربون إلى الله بترديد لعنهما، ثم إنه يعتقد أنك كافر. قال القمّي: لا. قلت: بلى؛ إن في دار الكتب الظاهرية بدمشق رسالة مطبوعة لطلاب مدارس الشيعة في جبل عامل حدثني عنها الأستاذ عز الدين التنوخي مرتَّبة على شكل سؤال وجواب، فيها سؤال: على كم بُني الإسلام؟ الجواب: على ست، على الخمس المعروفة، وعلى الاعتقاد بالإمامة. سؤال: وما الإمامة؟ الجواب: أن تعتقد أن علياً وصي الرسول وخليفته وأن الشيخين ظلماه حقه، وأن لعنة الله على الظالمين. سؤال: وما حكم منكر الإمامة؟ الجواب: حكمه أنه كافر وأنه في النار خالد مخلَّد فيها. وسكت القُمّي، فسأله الأفغاني: هل أنت جادّ بالسعي للتقريب؟ قال القمي: نعم. قال الأفغاني: فابدأ بإغلاق هذه الدار، لأنها أثارت هذه المناظرات بين الشيعة وأهل السنة وأيقظت الفتنة النائمة". والمقالة طويلة لا يتسع المقام هنا لنقلها كاملة، وإنما نقلت منها ما أتممت به الموضوع، فمن شاء رجع إلى مجلد «الفتح» في عامها السابع عشر (1366هـ) فقرأها كاملة هناك (مجاهد).

إلى أين تمشي مصر؟

إلى أين تمشي مصر؟ نشرت سنة 1947 ذهبتُ أمس أعود الأستاذ الشيخ حسن البنا في مستشفى الروضة، فما كدت أسأل عنه حتى ابتدر إليّ جماعات من الشبان، كلٌّ يريد أن يسير معي يدلّني على غرفته ويطمئنني عن صحته وعن نجاح عمليته، وكلٌّ يتكلم وفي عينيه بريق الحب وفي صوته رنّة الإكبار، حتى دخلت عليه فوجدته مضطجعاً على سرير أصفر من أسرّة المستشفى، في غرفة ضيقة ليس فيها بهاء الغنى ولا أُبَّهة الترف، ولو شاء لحلَّ في أفخم سرير من أعظم مستشفى، ولاتكأ على وسائد من ريش النعام والتفّ بملاحف من حرير القز، ولكنه في مرضه مثله في صحته: لا يحب أن يكون كالآخرين: يستمتع بلذيذ المآكل وناعم اللباس وفخم السيارات وعالي القصور باسم الدعوة وبمال الجماعة! ووجدت على كراسي الغرفة وفوق أنضادها وفي كل بقعة فيها شباباً متخشّعين كأن على رؤوسهم الطير، يستمعون إليه ويأخذون عنه. وسلمت عليه، فألفيته كعهدي به يوم لمحته أول مرة منذ تسع عشرة سنة، لم يتغير ولم يتكبر ولم يبطر، يقابل من حوله بوجه كأنما أضيئت فيه المصابيح من الإشراق،

ويكلمهم بلسان كأنما يقطر منه العسل من الحلاوة، ويتواضع لهم ويُشعرهم أنه واحد منهم، ويعظهم متحدثاً لا معلماً، فتبلغ الموعظة مبلغها وتؤثر أثرها، ويعلمهم سائلاً مستفهماً، ويأمرهم راجياً أو ملتمساً ... وكان مجلسٌ لله وللعلم وللوطن، مجلسُ جِدٍّ في دنيا اللهو، وطهر في عصر الآثام، كالواحة الخضرة في الصحراء المقفرة. وجرى ذكر المستشفيات فقلت له: لِمَ لا يفتح الإخوان مستشفى؟ فنظر إلى رجل كان قاعداً -من ضيق المكان- على حافة سريره، وقال له: ما قولك يا فلان؟ خاطبه باسمه مجرداً من الألقاب، في مودة ولطف يلينان القلوب القاسية ويعطفان الأفئدة النافرة، فكيف بأفئدة المريدين المحبين؟ ولم تكن إلا دقائق حتى تمَّ الأمر وأنشئ المستوصف الجديد للإخوان، وسيرى الناس عمّا قريب أركانه قائمة وبابَه إن شاء الله مفتوحاً. * * * وخرجت فركبت الترام وفي نفسي من أثر هذا المجلس مثل أثر القصة العظيمة تقرؤها وتنتهي منها، والنغمة العذبة تسمعها، وكان الترام خالياً، فلم أكد أستقر حتى دخل عليّ شابان يلبسان أردية بلا أكمام ولا أردان، وكانا ظاهرَي الخنوثة حتى كأنهما فتاتان وُضعتا في جلد رجلين! فألقيا بأنفسهما على المقعد إلقاء، فاضطجع أحدهما اضطجاع العروس المدلَّلة على سريرها ورفع الآخر رجلاً فوق رجل فعل الراقصة على مسرحها لتظهر المستتر منها! فاغتظت منهما وتمنيت لو أجد باباً إليهما لأضع عليهما لساناً كالمبرد الحامي، فأداويهما به من داء الخنوثة كما

تُداوَى بالكيّ الإبل الجربى، ولكني لم أجدْ، فأغضيتُ عنهما، وأغمضت عينيّ وتناومت وأنا أسمع حديثهما. ولن أروي بالنص هذا الحديث، ولكني ألخصه للقراء: قال أحدهما: وما هذا العقّاد؟ إنه يحتاج إلى «ديكشينري» حتى يُفهَم ... لماذا لا يكتبون بلغة سهلة؟ وأفاض في حديث الأدب بمثل هذا الأسلوب وهذا الفهم، يخلط كلامه بالفرنسية تارة وبكلمات من الإنكليزية لا أعرف ما هي أخرى، حتى سأل رفيقه: هل بدأت المطالعة؟ لقد قرب الامتحان. قال الآخر: لا، إني لم أستطع. قال: طبعاً يا أخي، أنت مشغول بما هو أهم. وضحك ضحكة بَغِيّ وَقَاح. قال: لا، أبداً. قال: وفلانة؟ (وسمّى اسمها). قال: ليس بيننا إلا أنها زميلتي وأني أقرأ معها. قال: تقرأ في جروبي وفي طريق الهرم؟ قال: هو أنا الوحيد الذي يعمل هذا؟ وتشقّقَ الحديث عن فضائح منكرة وحكايات لها رائحة منتنة، لا أنقلها، وإن كان فيها دليل جديد لنا على وجوب انفصال

الجنسين، في الجامعة والسوق والمخزن وكل مكان، فلا يلتقيان إلا على نسب أو زواج. وغَثَت نفسي من هذه الأحاديث ولم أستطع أن أصغي إليها، فتركتهما ونزلت من الترام، وجعلت أقابل بين المشهدين وأوازن بين الجماعتين، وأفكر: لمَن منهما تكون الغَلَبة ويُكتَب النصر؟ أيهما يجرّ مصر معه في طريقه ويوجهها وجهته؟ لمن يكون غَدٌ ويكون المستقبل: للجِدّ أم للهزل؟ للعفاف أم للفسوق؟ للبلاج أم للمسجد؟ لجماعة المستشفى أم لرفيقَي الترام؟ أما أنا فلست خائفاً من الفساد ولو كَثُرَ أهله وقَوِيَ أنصاره، ولا يائساً من الإصلاح ولو طالت سُبُله وقلّت وسائله. وهل ييأس الرُّبان مهما اضطرب البحر وعلا الموج وهو يبصر أعلام الشاطئ؟ وهل يخاف البردَ -مهما اشتد وقَرَس- من يحس نسائم الربيع؟ وهل يخشى الظلامَ -مهما تراكب وأطبق- من يرى طلائع الفجر؟ لا، لست متشائماً ولا أحب التشاؤم، ومعاذ الله أن أقصر عليه قلمي أو أقف عليه لساني؛ ولكني أنظر إلى الأمام فأجد أن الطريق مديد والمنزل بعيد، والمسلك وعر والحوائل من صخر، فأصيح بالقافلة أن جِدِّي وأسرعي، لا تنقطعي ... وأنظر إلى الوراء فأرى أنها قطعت مراحل طِوالاً وجازت عقبات شِداداً، فأقول لها: قفي واستريحي لئلا تهلكي. * * * فتعالوا ننظر إلى الوراء لنرى كم قطعنا من الطريق: لقد

أقمت في مصر 1928، فما كنت أظن يومئذ (ولا يظن أحد ولا يخطر على باله) أن سيجيء يوم يكتب فيه فلان وفلان من الكتّاب، أعني المجدّدين، في السيرة وفي التاريخ الإسلامي وفي منزل الوحي، ويدعون إلى الإسلام ويمجّدونه، فجاء هذا اليوم ورأيناه. وهَبوهم كتبوا رياء وتجارة وابتغاء الربح، أليس معنى هذا أن الناس قد تبدّلوا حتى صارت تَرُوج فيهم كتب الإسلام؟ وما كنت أظن يومئذ (ولا يظن أحد) أن هؤلاء النفر من الشبّان الذين اجتمعوا في المطبعة السلفية في شارع الاستئناف، ليعملوا للشبان المسلمين جمعية كجمعية الشبان المسيحيين، سيكونون في سنة 1947 نصف مليون شاب تضمهم جمعيات الإخوان والشبّان والهداية وأنصار السنة وشباب محمد. وما كنت أظن يومئذ (ولا يظن أحد) يوم كان المتعلمون في مصر يلهجون بالفرعونية، والعامة لا يعرفون إن كانت بغداد في الشام أو القدس في العراق، أن الفكرة الإسلامية ستكون سنة 1947 ظاهرة جلية لكل مصري. وما كنت أظن يومئذ، يوم لم يكن في مصر مجلة إسلامية إلا «المنار» و «الفتح» (ولا يظن أحد) أنه سيكون فيها جريدة إسلامية يومية، وأكثر من عشر مجلات أسبوعية وشهرية، ومجلة هي في مقدمة المجلات الأدبية منزلة وقيمة وانتشاراً، يستطيع أن ينشر فيها رجلٌ مثلي مثلَ الكلام الذي أنشره اليوم في «الرسالة». وما كنت أظن يومئذ (ولا يظن أحد) أن طلاب الأزهر سينازلون الحكومة مطالبين بجعل الدين درساً أساسياً في جميع

مدارس الدولة، وبتوسيع مناطق الوعظ والإرشاد حتى تشمل جميع المراكز، وإنصاف الأئمة والخطباء. وما كنت أظن يومئذ (ولا يظن أحد) أنه لن يبقى سنة 1947 رجل فرنسي في سوريا ولبنان، ولن يبقى جندي إنكليزي في مدن مصر، إلا أن يدخلها متنكراً، كالبضائع المهرَّبة والحشيش والأفيون وجرثومة السل والكوليرا ولصوص المنازل! وأنها ستكون للدول العربية جامعة رسمية، لها في عالم السياسة مكانة مرموقة وفي آذان الأمم صوت مسموع. هذه كلها خطوات في طريقنا خطوناها ومراحل قطعناها، وإنها تستحق أن نقف عليها لنستريح منها ونستبشر بها ونحمد الله عليها. ولكن هل انتهى الطريق؟ تعالوا ننظر الآن إلى الأمام كم بقي علينا. * * * هذه الجمعيات الإسلامية، فيها عدد كبير ونفع قليل، يهم أكثرَها المظهرُ لا الجوهر، تشتغل بالتافه الحقير وتهمل الجليل الخطير، تخضع لأفراد والله أمر بالشورى، ويجهل أعضاؤها حقائق الإسلام والعلمُ بها فرض، وهذا الجلاء ناقص في مصر لا يتم حتى يشمل وادي النيل كله، وهذه المجلات الإسلامية أكثرها لا يستحق أن يقرأ أو يُشترَى، والصحافة الفاجرة أعلى صوتاً وأبهى طبعاً وأكثر عدداً، والأفلام الداعرة تزداد انتشاراً ويزداد الناس عليها إقبالاً، ومظاهر الفسوق على السواحل تقوى سنة

بعد سنة، وجماعة المستشفى مَثَل نادر كالنسخة المخطوطة من الكتاب القيّم، وشابّا الترام النموذج الشائع كالكتاب المطبوع، فلمن منهما تكون الغلبة ويكون النصر؟ أيهما يَجُرّ مصر معه في طريقه ويوجّهها وجهته؟ لمن يكون غَدٌ ويكون المستقبل ... إلى أين تمشي مصر؟ لقد كان لنا أستاذ يعلمنا التاريخ، كان ضابطاً في الجيش العثماني، وكان له قانونان هما عنده الأصلان اللذان تُرَدّ إليهما حوادث التاريخ كلها، وهما قانونا الوجود: أولهما أن الشيء المصادم للطبيعة لا يدوم، وثانيهما أن كل شيء يمشي على محيط دائرة: فهو يبدأ من الحضيض، ثم يعلو حتى يبلغ الأوج، ثم ينحدر. الطفل يولد ضعيفاً ثم يحبو ثم يدرج، ثم يبلغ أشده وينازع -مِن جهله- اللهَ في ملكه، ثم يعود طفلاً بلحية بيضاء. والقمر يكون هلالاً ثم بدراً ثم يدركه المحاق. والشجرة والحزب والحكومة وكل ما في الوجود، وإنما تتفاوت الأشياء في مدة العلوّ والانحدار. فهل هذا الذي نراه في الصحف والأفلام والشواطئ من التكشف طبيعي؟ أوَلا يؤدي إلى غلبة الشهوة حتى نصير كالعجماوات، ثم إلى موتها بالألفة حتى نصير كالجمادات، وكلاهما مصادم لطبيعة البشر؟ إنه إذن لن يدوم. ثم إنه أمر بلغ آخر مداه واستكمل فتوّته، وما بعد الفتوة إلا الكهولة فالعجز فالهلاك. أما «جماعة المستشفى» فأمرها هو الأمر، وهو اليوم ضعيف ضعف الطفولة ليِّنٌ لين الغصن، ولكن بعد الطفولة شباباً أيّداً، وبعد الغصن جذعاً راسخ الجذور باسق الفروع ممتد

الظلال ... فهو إلى زيادة وذاك إلى ضعف، والمستقبل لهذه الجماعة وإلى غايتها مصر تمشي، ولكنها تمشي متعثرة فسدّدوا خطاها وخذوا بيدها، وكونوا في عونها جميعاً لا أشتاتاً، فإن يد الله على الجماعة، وأصلحوا أنفسكم ليصلحها الله بكم، وسينصر الله من ينصره. * * *

مات شيخ الأزهر!

مات شيخ الأزهر! نشرت سنة 1954 إن مات شيخ الأزهر الشيخ عبد الرحمن تاج فليس أول شيخ يموت، ولقد مضى من قبله أئمة فحول كانوا مصابيح الهدى وكانوا بحار العلم، وكانوا في ثباتهم على الحق جبالاً لا تزول حتى تزول عن مطارحها الجبال ... ولكنه أول شيخ للأزهر يموت ونفسه «حيَّة» تسعى! إن مَن قبله مات ودُفن، وهذا عاش ولُعن، فما مات فيه جسده الفاني، ولكن مات قلبه ومات ضميره ومات إيمانه، وباع الآجلة بالعاجلة، وآثر الدنيا على الآخرة، وفضّل رضا جمال عبد الناصر على رضا الربّ الناصر لأوليائه، القاهر فوق أعدائه، الجبار الذي لا يشاركه كبرياءه أحدٌ إلا قصمه ... فحكم (جازاه الله) بتكفير صفوة المؤمنين في هذا العصر، الإخوان المسلمين (¬1): ¬

_ (¬1) تولى الشيخ عبد الرحمن تاج مشيخة الأزهر بقرار من رئيس الجمهورية، جمال عبد الناصر، في بداية سنة 1954، وهو نموذج للعالِم الذي يبيع دينه بدنيا غيره (وإن هذه لأخسر صفقة في الدنيا، نعوذ بالله أن نقع في مثلها)؛ عُرف أولاً بفتواه الشهيرة في "التجريد من شرف المواطَنة (الجنسية) " التي أعان بها على ضرب اللواء=

الشباب الذين نشؤوا في طاعة الله، وبشّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ممّن يظلهم عرش الله يوم لا ظل إلا ظله. شباب عرفوا الإسلام وتمسكوا به، أمّوا المساجد على حين يؤم أترابهم الملاهي والمراقص، وصفّوا أقدامهم في هدآت الليل على حين يسهر أولئك في الخزي والعار، وناجَوا ربهم في خلوات الأسحار على حين ينام أولئك نوم العَجْماوات، وحملوا في سبيل الله من ظلم الظالمين ما تنطحن تحته الرواسي، فما لانوا ولا استكانوا، ولا كفروا بالله مذ آمنوا به، ولا ضاقوا بمحن الأيام منذ استعذبوا لذائذ الطاعات. وجاء في بيانه (الذي أذاعته محطة مصر) بالآيات محرَّفات عن مواضعها، والأحاديث مَسوقة غير مساقها، ليوهم عامة المصريين أنه يدافع عن الدين ويتكلم بلسان العلم، فلم يسعني والله السكوت وأنا أعلم أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وأن على المسلم أن يقول الحق ولو على نفسه أو صديقه أو زميله، وخفت إن سكتنا جميعاً ولم نَرُدّ على هذا الدعيّ المفتري أن يعمّنا الله بعذاب من عنده. ¬

_ = محمد نجيب، أول رئيس لمصر في العهد الجمهوري، ثم صار سيفاً في يد جمال عبد الناصر في حربه الهمجية الظالمة على الإخوان، فأصدر في أعقاب حادثة المنشية (تلك التمثيلية المشهورة) بياناً شرساً هاجم فيه الإخوان وحرّض عليهم باعتبارهم "جماعة تعمل على تشويه الدين وحقائقه"، وفي هذا البيان، وعنوانه «مؤامرة الإخوان»، وصف الإخوان بأنهم "خوارج لا تُقبَل منهم توبة ولا شفاعة"! (مجاهد).

ولا أدري من هو الذي خدع شيخ الأزهر والنّفَرَ من علماء السوء الذين شاركوه خزيه، فأخبرهم أن في الإسلام «إكليروس»، وأن شيخ الأزهر كالبابا في القرون الوسطى، يُدخل الجنة ويحرم منها ويبيعها قراريط وأمتاراً، ولم يعلم أن الإسلام ليس فيه رجال دين، وأن كل مسلم هو رجل الدين، وأن امرأة عجوزاً ردّت على عمر ... وما نافق عمر ولا زوّر، ولكن اجتهد فأخطأ. فلماذا لا يردّ مثلي على شيخ الأزهر، وهو لا يقاس بعمر ولا يدانيه ولا يوزن بشِراك نعله، وهو قد غيّر وبدل وكذب ونافق، وألزم نفسه قاعدة «من كفّرَ مسلماً فقد كفر»، فكيف بمن يكفّر الملايين من صفوة المسلمين؟ ولو فرضنا (وهو فرض لا يلزم ولا يثبت حقاً) أن الاشتراك في السعي لقلب الحكم في مصر كفر، فكيف حكم بالتكفير قبل صدور الحكم من هذه المحكمة العجيبة، وكيف عمّمه على الإخوان المسلمين جميعاً في آفاق الأرض وهم ملايين وملايين، من كل شاب رجله خير من رأس الشيخ المنافق، وقفاه أفضل من وجهه، وساعة منه في طاعته وعبادته خير من عُمْر في النفاق؟! وأين شيخ الأزهر؟ وما له خرس عن إنكار المنكرات في مصر، عن الفجور المعلَن، عن الفسق البادي، عن الخمور والشرور، عمّا أحدثه هؤلاء الحاكمون من ألوان المعاصي، من إبعاد الصالحين وإدناء الراقصات والراقصين؟ ما له لم يجد هو وصحبه هيئة كبار العلماء، ما يثير غضبهم إلا أن يكون في الدنيا هؤلاء الملايين من الشباب المؤمنين الصالحين المصلحين؟ * * *

أنا أعرف مصر من خمس وعشرين سنة، وأعرفها الآن، وأشهد أن ليس فيها من خير جَدَّ إلا كان مصدره دعوة الإخوان. وهل كان فيها من قبلُ شبابٌ يملؤون المساجد، وطلابٌ يقومون الليل ويتلون القرآن، ويتزاحمون على الطاعات تزاحم غيرهم على الراقصات والسينمات؟ وهذا السيل من الكتب الإسلامية الذي ينبع من المطابع العصرية حتى يصل إلى أقصى الأرض التي تقرأ العربية، فيخلّف وراءه حيثما سار خصباً ونباتاً وزهراً وثمراً؟ لقد جرف كل فكر، حتى أفكار هؤلاء المؤلفين الذين صاروا يكتبون في الإسلام ورجاله (وما كانوا منه قبل دعوة الإخوان في قليل ولا كثير): العقّاد وهيكل وطه والحكيم، وكثير غيرهم يعرفهم الناس. وكل دار للنشر، حتى الدور التي ما فتئت تحارب الإسلام حرباً منظَّمة بنشر الصور العارية والأخبار الداعرة حتى غدت ماخوراً سَيّاراً، كدار الهلال ودار أخبار اليوم، صارت هي الأخرى تنشر الكتب الإسلامية لأن السوق اليوم -بفضل دعوة الإخوان- سوقها. وما أنا من الإخوان في قيود السجلات، ولكني منهم في العقيدة والدين. وقد عوّدني الله أن لا أقول إلا الحق، وأن أجهر به إن خرس عنه ضِعاف الإيمان أو صرّح علماء السوء بغيره، كهؤلاء الذين كتبوا هذا البيان. هؤلاء الذين اغترّوا حين سَمّاهم الحاكمون «هيئة كبار العلماء»، وعطس إبليس في مناخرهم وزيّنَ لهم الجاه والمنصب، فبذلوا في سبيله كل شيء، حتى الدين، فجعلوا علمهم مطيّة يصلون به إلى قلب كل حاكم. قرروا بالأمس أن فاروق من أشراف المسلمين وأنه من

نسل الرسول صلوات الله عليه، ذلك لمّا كان فاروق هو الملك الذي يعطي المناصب والرتب، فلما زال لم يستحوا أن يجعلوه شيطاناً مَريداً، بعد أن جعلوه الملك الصالح المصلح والشريف الحسيب النسيب! وهم اليوم يقررون كفر الإخوان (أستغفر الله من رواية هذا الهذر)، ولئن عاد الإخوان غداً وصار لهم الأمر عادوا يتزلفون إليهم ويجعلونهم الهادين المهديين، وسترَون. شِنْشِنة عرفناها من أَخْزَم وخُلُق في الصَّغار ألفناه وعرفناه. أما الإخوان فقد أثبتت الأيام أنهم صفوة المسلمين في هذا العصر، وأنهم كالذهب المصفَّى لا تزيده النار إلا صفاء. فيا أيها الإخوان، اصبروا واثبتوا، فإنه إن كان شيخ الأزهر عليكم فإن الأمة الإسلامية كلها معكم، والله معكم، ومن كان مع الله فلا يبالِ أحداً. اصبروا آل عمّار، موعدكم الجنة! * * * وبعد، فهذه تعزية بشيخ الأزهر وهيئة كبار العلماء. لقد ماتوا، فلا تذكروا بعد اليوم شيخ الأزهر ولا هيئة كبار العلماء! ولو أنهم ماتوا ودُفنوا لكان خيراً لهم، ولكن ماتت ضمائرهم وماتت قلوبهم، فنطقت ألسنتهم بهذا البيان الذي رضي عنه عبد الناصر وصحبه، وغضب عليهم من أجله الناس جميعاً والملائكة، وغضب عليهم الله المنتقم الجبار. وبعد (مرة ثانية)، فما لشيخ الأزهر هذا وأمور الدين؟ أين هو من الدين لمّا كان يتحدث إلى الصحف عن باريز وليالي

باريز، ويَحِنّ إليها كما يحن المؤمن إلى زمزم والحطيم، ويترحم على لياليها ويدعوها «الجنة»؟ هذه أحاديثه في المجلات، وهذه صورته وسيكارته في يده، وفمه مفتوح وأنظاره ضائعة في الماضي، ماضيه في باريس (¬1)، جنّته التي خرج منها آسفاً عليها متشوقاً إليها! هذا هو -يا أيها المسلمون- شيخ الإسلام في هذا العصر: كعبته باريس، وتشوّقه إلى ملاهيها، وعلمه سلّم للدنيا ومطيّة للوصول إلى رضا الحاكمين. هذا الذي أصدر الحكم بتكفير الإخوان المسلمين! إلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله. * * * ¬

_ (¬1) حصل الشيخ عبد الرحمن تاج على شهادة الدكتوراة في الفلسفة وتاريخ الأديان من جامعة السوربون في فرنسا عام 1943 (مجاهد).

نحن وهذه الحضارة

نحن وهذه الحضارة نشرت سنة 1965 زرت الرياض من سنتين بعد غيبة عنها امتدت ثلاثين سنة، فتفضل جماعة من طلبة العلم فاستقبلوني في المطار وصحبوني إلى البلد. وسلكت بنا السيارة شارع الوزارات، نمرّ بتلك المَغاني (الفيلاّت) الجميلات وتلك الأبنية الكبيرات المشرفات، وأنا أنظر إليها نظر المدهوش الذي يُفاجَأ بما لم يكن يتوقع؛ فقد كان عهدي بتلك البقاع أنها صحراء جرداء ما فيها نبت ولا ماء وليس فيها من بناء، وأراها الآن شارعاً ضخماً في وسطه حديقة ممتدة، فيها الورد والزهر وفيها أنواع الشجر والماء يجري فيها متدفقاً من الأنابيب، والعمارات على جانبيها والسيارات تجري على طرقها! وكان أصحابي كلما رأوني أزداد دهشة ازدادوا اندفاعاً في الوصف ومبالغة في البيان، ثم قال لي واحد منهم، وقد أخذته نشوة كل دليل يُطلع الغريبَ على جمال بلده: أهذه أول مرة ترى فيها الرياض؟ قلت: إني أعرفها من قبل أن تُولد، ولكن ليست هذه هي الرياض التي أعرفها.

وكانت السيارة قد بلغت بنا «الديرة»، وصرنا في جوار المسجد الكبير، فتهلل وجهي وأحسست مثل ما يحسه الغريب الضالّ إذا أبصر في زحمة الناس وجهَ حبيب يعرفه ويألفه، وصحت: هذه هي الرياض التي أعرفها، هذه الأسواق الضيقة وهذه المنازل المبنية من اللبن والطين ... إنّ لي هنا ذكريات، والذكريات هي الحياة، أما تلك الشوارع التي مررنا بها بعد المطار فليس لي فيها ذكرى، فهي -على جمالها- غريبة عني، وهذه -على ما هي عليه- أحسّ كأني منها أو كأنها مني. وأعجب هذا الكلام أحدَ الجماعة وأثار كمائن نفسه فقال: إي والله، هذه هي بلدنا وهذه حياتنا، فيا ليت هذه المدنية الغربية لم تصل إلينا ولم نَرَها! إن هذه البيوت المبنية من الطين التي لا تنيرها الكهرباء ولا تصل إليها السيارات، وليس فيها البرّادات ولا الغسّالات، خيرٌ من تلك العمارات وما فيها. لقد أفسدت هذه المدنية أخلاقنا وأضاعت علينا ديننا، وما جاءنا منها إلا الشر! وانبرى له آخر فقال له: أتريد منا أن نعود إلى عهد البداوة في عصر الذرّة والصاروخ، وأن ندع ثمرات الحضارة ونعيش محرومين منها، على حين يستمتع الناس من حولنا بها؟ إنها مدنيّة العصر، ليست لأمّة دون أمة ولا لبلد دون بلد. وكثر المتكلمون وتداخلت الأصوات، ولكن الأقوال كلها كانت تتردّد بين رأيين: هل علينا أن نأخذ بهذه المدنية بكل ما فيها ونقبلها بخيرها وشرها، لأنه لا بد منها ولا انفكاك عنها، أم علينا أن نتركها ونبتعد عنها لأنها لا توافق أحكام ديننا ولا تمشي مع خلائقنا، ولأن الإسلام ينكر الإقبال عليها والأخذ بها؟

وأنا رجل من المُخَضْرَمين، عرفت هذه البلاد قبل أن تتصل بها الحضارة الغربية، وعرفتها بعدها. لقد عرفت دمشق وما فيها سيارة واحدة، وما فيها إلا عشرون داراً فيها الكهرباء، وليس فيها إلا شارع واحد شقّه جمال باشا سنة 1916، أما الرادّ (الراديو) والرائي (التلفزيون) وأمثالهما فلم يكن قد اختُرع من ذلك شيء. وزرت جدة أيام كانت جدة محاطة بسور له أبواب تغلق كل عشيّة وتفتح في النهار، ولا يدخل إليها ولا يخرج منها إلا من هذه الأبواب، وعرفتها وقد أوشكت أن تصير مثل الإسكندرية أو بيروت. وعرفت الرياض سنة 1935، والرياض التي ترونها الآن ... وإني لأفكر وأوازن بين الحالين وأسأل نفسي: هل ربحنا أم خسرنا؟ أي الفريقين أهدى وأصوب رأياً: من يريد منا أن نأخذ بهذه الحضارة أخذاً كاملاً، أم من يريد أن نتركها وننصرف عنها؟ الحق بين الفريقين، فلا هؤلاء على حق ولا هؤلاء؛ لقد ربحنا باقتباسنا من هذه الحضارة وخسرنا، وكل شيء في الدنيا فيه ربح وفيه خسارة. إن هذه الحضارة ليست شراً محضاً، وليست كذلك خيراً محضاً، فالقول بأن نتركها كلها مردود، والقول بأن نأخذها كلها مردود. وهل نستطيع أن نتركها بعدما انغمسنا فيها وصارت هي عماد حياتنا؟ إن من يطلب ذلك يطلب ما لا يكون. ولو نحن استطعنا تركها فهل من المصلحة أن نتركها؟ أيريد هؤلاء أن نغلق المستشفيات ونطرد الأطباء، وأن نلغي

شركة الخطوط الجوية ونبيع طيّاراتها، وأن نذهب إلى الحج من الرياض إلى مكة على الإبل، فنمضي على الطريق عشرين يوماً بدلاً من أن نذهب في ساعة وبعض الساعة في الطيّارة، وأن نَحُلّ شركة الكهرباء ونرفع أسلاكها من الشوارع ونرجع إلى الشمع وسُرُج الزيت، وأن نحارب اليهود بالسيف والرمح بدلاً من المدفع والصاروخ؟ ولماذا نفعل ذلك؟ * * * أما الإسلام فلا يوجب علينا أن نترك هذه الحضارة بكل ما فيها، فلا تحتجّوا بالإسلام. الإسلام قد حرّم محرمات وفرض فرائض، وترك أموراً على الإباحة الأصلية؛ فما حرّمه الإسلام نتركه ولو أجمع أهل الأرض على قبوله والعمل به، وما أوجبه نأتيه ولو اتفق سكان المعمورة على استنكاره والإعراض عنه، وما كان من المباحات، مما لم يَدْعُ الإسلام إلى الأخذ به ولا إلى تركه، ننظر: فإن كان فيه نفع لنا أخذناه، لأن الحكمة ضالّة المؤمن، ولأن المصلحة العامة هنا مقصد من مقاصد الشارع. وفي مثل هذا (¬1) يقول ابن القَيّم: «إن الحكم الشرعي يدور مع المصلحة، فحيثما تحققت فثَمّ شرع الله»، ولأن علينا أن نعمل لدنيانا كما نعمل لآخرتنا: {وَلا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنيا}، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللهِ التي أخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق؟}. ¬

_ (¬1) لا فيما ورد فيه النص كما ظن خطأً الأستاذ الجليل عبد الوهاب خلاّف في كتابه «السياسة الشرعية».

ثم إننا لسنا غرباء عن هذه الحضارة ولا واغلين عليها، بل نحن شركاء فيها، نحن من أصحابها. إن الحضارات نوعان (كما قسّمها شبنكلر في كتابه المشهور): حضارات محلية كحضارات الهند والصين، وحضارة عالمية. والحضارة العالمية بناءٌ من ثلاثة أدوار اشترك فيه ثلاثة بانين: أما الدَّور الأول فقد بناه المصريون والفينيقيون واليونان، ومَن شاركهم فيه وأعانهم عليه، والثاني بناه المسلمون، والثالث بناه الغربيون. وكل دور منها يقوم على ما تحته، فلولاه ما قام. فنحن شركاء في هذه العمارة، لنا فيها دور من ثلاثة، ولسنا مستأجرين ولا مُسْتَجْدين ولا معتدين، نحن من أصحاب الدار. ولكن ليس معنى هذا أن نقبلها بكل ما فيها. إن فيها شروراً كثيرة ومفاسد مردّها جميعاً إلى أصلين: أحدهما ما تحمله من أفكار ومبادئ فيها ما يزيغ المؤمن عن شرعة الحق وما يضله عن سبيل الهدى. والثاني هو أشد وأنكى، ما يغلب على هذه الحضارة من تهاون بمسائل الجنس وإطلاق للشهوات، وهو أشد، لأن الأول (وإن كان فيه الكفر أحياناً) لا يجد عند كل شاب استعداداً لقبوله، أما الثاني فإنه يجد القبول في كل نفس لأن الله ركّب في نفس كل شاب الميل إلى المرأة، فمن عمد إلى إثارة الشهوات وأيقظ الغريزة استهوى بذلك الشباب جميعاً إلا من عصم الله بعصمته، وقليلٌ ما هم، بل أقل من القليل. * * * فإذا أردنا أن نصحّح موقفنا من هذه الحضارة فلنصنع مثل

الذي صنع أجدادنا لمّا اتصلوا بالفرس وغيرهم من الشعوب ذوات الحضارات الأولى. إنهم أخذوا من حضاراتهم وعيونُهم مفتحة وعقولُهم حاضرة، وميزان الشرع في أيديهم، لم يأخذوها عمى ولا تقليداً، ولم يقلّدوا أهلها تقليد القردة بلا نظر ولا علم. هذا هو الحق وهذا هو طريق الاعتدال، لا إفراط ولا تفريط، فما كان فيها من مخترَعات نافعة، وما كان من تقدم علمي، وما كان من رفاهية وراحة ليس فيها محرَّم ... هذا نأخذه كله. وما كان فيها من تهاون بالفضائل والعفاف، وإطلاق للغرائز والشهوات، وتسهيل للزنا، وتصعيب للزواج، وهذه القصص التي فيها الأدب المكشوف والأفلام التي تُعلِّم الناشئة فنون الغرام وطرق الإجرام ... هذا نتركه كله، كما نترك كل فلسفة وكل علم وكل مذهب اجتماعي ينافي أحكام ديننا. ولا بد من تفصيل لهذا الإجمال، لعله يأتي إن شاء الله فيما سيجيء من المقال (¬1). * * * ¬

_ (¬1) نُشرت هذه المقالة في مجلة «الوعي الإسلامي»، في العدد السادس من أعداد سنتها الأولى، ولم أجد في الأعداد اللاحقة أي عودة إلى هذا الموضوع. على أن في محاضرة «موقفنا من الحضارة الغربية» (التي ألقاها جدي رحمه الله في الرياض بعد ذلك بثماني سنين، في الدورة الأولى للندوة العالمية للشباب الإسلامي)، في هذه المحاضرة تفصيل واسع وإحاطة بالموضوع كاملة، فمن شاء قرأها في كتاب «فصول إسلامية» (مجاهد).

موقفنا من الحضارة الغربية

موقفنا من الحضارة الغربية (¬1) حديث أذيع سنة 1972 الإسلام جاء للحياة كلها، للبيت والسوق والمدرسة والمحكمة والديوان، فهل يسيطر الإسلام اليوم على حياتنا؟ أريد أن أبدأ من الإذاعة، فليسمح لي القائمون على الإذاعة. إنكم تسمعون الآن حديثاً دينياً، فماذا يجيء بعده إذا انتهى، وماذا كان في الإذاعة قبل أن يبدأ؟ والمصلي يذهب إلى الصلاة في المسجد، ولكن ماذا كان يصنع قبل الصلاة، وماذا يصنع بعدها؟ لقد فصلنا في الواقع الدينَ عن الحياة، فبقينا نحافظ على مظاهر الإسلام في العبادة، ولكن إذا انتهت العبادة لم نَسِرْ في حياتنا على هَدي الإسلام. انظروا إلى حياتنا اليوم، إلى تفكيرنا، إلى مطالعاتنا، إلى صحفنا، إلى مدارسنا، إلى أزيائنا، إلى ¬

_ (¬1) هذه المقالة القصيرة فيها -على إيجازها- تكملة وتوضيح لما انتهت إليه المقالة السابقة، ولولا ذلك لاقتصرت على تلك الأولى ولم أدرج هذه الثانية في الكتاب، وإن يكن فيها بعض التكرار الذي لا بد منه (مجاهد).

عاداتنا، هل الطابع الإسلامي الخالص أظهَرُ فيها أم الطابع الغربي (الأفرنجي)؟ فينبغي أن نمحّص حياتنا وأن نجردها مما طرأ عليها. وأنا لا أقول بترك هذه الحضارة الجديدة والعودة إلى ما كنا عليه من ستين أو سبعين سنة، ولا إلى أخذ هذه الحضارة بكل ما فيها. لما جاءتنا هذه الحضارة أول مرة، من أكثر من نصف قرن، أصابتنا في دهشة، ورأيناها مفاجأة دفعتنا إلى أحد موقفين: منا من ازداد تمسكاً بقديمه وأعلن رفضه الكامل لكل ما جاءت به من خير ومن شر، ومنا من أقبل عليها يأخذها بكل ما فيها من خير أو شر. وكلا الموقفين خطأ، وكل من الطرفين مخطئ. واشتد الجدال بينهما وامتد النزاع، وقامت معركة في غير طائل. ولست أسرد تاريخاً، ولا أحيط بخمس دقائق بجوانب الموضوع، ولكن أعرض الخطوط العريضة. إذا كان كل من الموقفين خطأ فما هو الموقف الصحيح؟ الجواب أن الحضارة الغربية، أعني هذه الحضارة الجديدة، لها جوانب. جانب فكري فلسفي، وجانب عملي علمي، وجانب فني، وجانب يتصل بالعادات ويتعلق بالمجتمع. ورأيي أنا أن الجانب الفلسفي (الذي يبحث فيما وراء الطبيعة) لا نحتاج إليه، ولا ينبغي أن يشتغل به إلا نفر من الأساتذة والطلاب المختصين، للعلم به ومناقشته والرد عليه.

والجانب العلمي، أي العلوم المادية من الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء وأمثال ذلك، فهذا نأخذه كله، ونتعلمه حتى نصير نحن أساتذته ونسبق فيه أهله أو نجاريهم فيه. وما يتعلق بالفنون الجميلة، ما كان منه مخالفاً لديننا كالتصوير المجسم والرقص العاري والاختلاط الخبيث باسم الفن، فهذا لا نقبله ولا نوافق عليه. وما يتصل بالعادات والأخلاق الاجتماعية ففيه تفصيل. المشاهَد أن الأخلاق الاجتماعية الصالحة -من الوفاء بالوعد، والمحافظة على الكلمة، والصدق في المعاملة، والترتيب والنظافة، والتعاون المثمر، وأمثال ذلك- موجود عند الإفرنج متوافر في أكثر مجتمعاتهم، وكله مما يأمر به ديننا، فإذا أخذنا به فقد عملنا بأحكام الدين. أما الأخلاق المتصلة بالجنس فقد بلغت عندهم نهاية الانحطاط، فعندهم التكشف والخلاعة والاختلاط وهوان الأعراض وإعلان الفجور، فهذا لا نقبله منهم ولا نقلدهم فيه، ونحاربه ما استطعنا، لأن ديننا وشرف سلائقنا وعاداتنا وأعرافنا كلها توجب علينا محاربته. * * * الخلاصة أن العلوم المادية -من الكيمياء والفيزياء والطب والفلك والجغرافية وأمثالها- نأخذها كلها، أعني نأخذ حقائقها الثابتة لا نظرياتها، ولا يمكن أن نجد نصاً في القرآن قطعياً يعارض حقيقة علمية مشاهَدة. والمخترَعات الجديدة -من

السيارات والطيارات والمدافع والصواريخ والمصانع وأمثالها- نأخذها كلها ونتعلم أسرارها، ونحاول أن نصنع مثلها أو خيراً منها. والمبادئ والفلسفات المخالفة لعقائدنا، والفنون التي تنافي ديننا وأخلاقنا، نرفضها كلها ولا نقبلها. والعادات ما كان منها صالحاً نافعاً أخذناه، وما كان منها ضاراً تركناه. هذه هو موقفنا من هذه الحضارة. * * *

رد على أدعياء البعثية

ردّ على أدعياء البعثية كتبت سنة 1958 لقد بلغ الإسلام بلاداً تعجبون أنتم الآن إذا سمعتم بأنه بلغها، وأقام فيها دولاً وأنشأ فيها حضارات وترك فيها آثاراً، وأكثر القراء لا يعرفون شيئاً عنها لأننا أمة جهلت تاريخها. ثم بُلينا فوق الجهل بما هو شرٌّ من الجهل، بشباب أغرار ويدّعون الحكمة والعقل، جُهّال بتاريخنا ويَلُون تدريسه في المدارس والجامعات، يُلقون جهلهم على أنه علم، ويواجهون به طلاباً لا معرفة لهم ولا دفاع لديهم، لا يواجهون به العلماء في النوادي ولا القرّاء في الصحف، ثم يضطرون الطلاب إلى حفظه والامتحان فيه وأخذ الشهادة عليه، ثم يخرج الطلاب مدرّسين، فينظرون فإذا ليس في أيديهم إلا هذا الجهل المركَّب تركيب حصاة المثانة، لا تتحلل ولا تذوب! فيحملونه إلى تلاميذهم، وتتزايد حلقات السلسلة حتى تكون قيداً للحقائق تمنعها أن تنطلق في الناس، وتحبسها في بطون الكتب وصدور العلماء، وتذيع هذه الأكاذيب الصبيانية على أنها هي الحقائق التاريخية! من هذه الأكاذيب التي تعيدها ببغاوات المعلمين وترددها أسطوانات الصحفيين، زعمهم أن هذه الحضارة التي نسميها

-على المجاز- «عربية» لم يُنشئها الإسلام، ولكن أنشأتها العبقرية الكامنة في هذه الأمة، وأن هذه العبقرية هي التي صنعت محمداً صلى الله عليه وسلم في أول التاريخ، وستصنع مثله في آخره، وأن للعرب حضارات قديمة عظيمة كحضارتهم بعد الإسلام ... وأمثال هذا الهَذَر. وما ندري (ولا هم يدرون) ما هذه الحضارات، ومن الرجل الذي أخرجته أمة العرب بعبقريتها فكان مثل محمد صلى الله عليه وسلم. ولعلهم يريدون بذلك هذا الدَّعِيّ العَيِيّ الغبيّ الخواجة فلان، الذي ليس فيه من العربية إلا أن اسمه في «القاموس» في باب القاف فصل العين، والذي لا يكون مثله إماماً إلا لأمة من أمثالهم، كالجُرَذ لا يكون إلا إمام قوم من الفئران! (¬1) ¬

_ (¬1) هو ميشيل عفلق. وفي الحلقة 112 من الذكريات (4/ 186 - 189) قصة الاحتفال بذكرى المولد سنة 1938 وأُلقيت فيه خطبة لعفلق، قال: "وكنت يومئذ ألتهب حماسة، فما كان مني إلاّ أن وضعت كفّي على طرف المسرح وقفزت فصرت فوقه، وأخذت بعنق ثوب الخطيب فجذبته ورميت به من فوق المسرح، واستلمت أنا مكبّر الصوت وردَدت عليه وتكلمت عن الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره خاتم الأنبياء ... واضطربَت الحفلة وهاج الناس، وكثر المتكلّمون، وكانت لها عقابيل. وكنت عنيفاً في ردودي وفي مجادلاتي فشرعت أتكلم عنه (عن عفلق) في الدروس وأمام الطلاّب، وقلت لهم الكلمة التي انتشرت حتّى كادت تسير مثلاً من الأمثال على ألسنة الناس؛ قلت لهم: هذا الذي يدّعي العربية ونصرتها والدفاع عنها ما فيه من العربية إلاّ أن اسمه مكتوب في القاموس المحيط، في باب القاف فصل العين. ورجعوا إلى القاموس وعرفوا معنى الكلمة"! قلت: والمعنى قبيح لا أستطيع نقله هنا، فمن شاء رجع إلى القاموس فقرأه في موضعه (مجاهد).

وإن ناقشتهم في هذه الحضارة التي زعموها للعرب: أين هي؟ وأين كانت مخبوءة طوال أربعة عشر قرناً فلم يبصرها أحد من المؤرخين حتى جاء الخواجة كريستوفر كولومبس القرن العشرين فاكتشفها، وتحققت على يده معجزة «البعث» فبُعِثَت له «حيّة» تسعى؟ قالوا: إنها حضارة حمورابي، وفراعنة مصر، وفينيقيي الشام، وآشوريي بابل، وتبابعة اليمن ... فإن عجبت وقلت: وما شأن أكثر هؤلاء بالعرب، وقد قال أبو عمرو بن العلاء (وهو أعرف بالعربية وأهلها من الخواجة ميخائيل)، قال: ما عربية هؤلاء بعربيتنا ولا لسانهم بلساننا (¬1)؟ قالوا: لقد ثبت أنهم ساميون وأن أصلهم من جزيرة العرب، وحقّقت ذلك نظرية المَوجات. قلنا: أما أنهم ساميون وأنهم خرجوا من الجزيرة، فنعم. ولكن اليهود أيضاً ساميون، فهل اليهود عندكم عرب؟ وإن كانوا عرباً، فلماذا لا تذهبون إلى أميركا وتعلنون هذه الحقيقة، فتحلّوا المشكلة التي عجزت عن حلها هيئة الأمم المتحدة؟ ولا تنسوا أن تأخذوا معكم طلبات انتساب فارغة ليملأها أيزنهاور وتشرشل ومالنكوف، فيصيروا جميعاً من مريدي حضرة الخواجة. أما ابن غوريون فلا حاجة به إليها، لأنكم أقررتم له بأنه عربي قُحّ من أهل الشّيح والقَيْصوم! ولعلها ما وصلت نتيجة هذا «البعث» إلى تل أبيب إلا لأن ¬

_ (¬1) وليس معنى هذا أنهم غير عرب، بل معناه أن العربية هي لسان قريش التي نزل بها القرآن.

مقدماته جاءت من هناك (والله أعلم)، وإلا فما معنى أن يكون كل عربي وكل مسلم وكل منصف في الدنيا حرباً على إسرائيل، ثم يقول هؤلاء -من حيث يشعرون أو لا يشعرون- إن إسرائيل إخواننا وأحبابنا ومنا وإلينا؟! وإذا كان كل سامي عربياً لأن كل عربي سامي، فلماذا لا يكون كل حيوان إنساناً لأن كل إنسان حيوان؟ ويستوي في هذه الإنسانية «البعثية» الحمارُ وأستاذ التاريخ في كلية الآداب؟ وإذا كان هؤلاء كلهم عرباً لأنهم كانوا في الجزيرة وخرجوا منها، فلماذا لا يكون من الأسرة كل من كان في دارها وخرج منها، ولو كان كلب صاحب الدار، ولو كان ثعباناً خرج من شق الجدار؟ وإذا كان يُحكَم بالفرع على الأصل فيكون أجداد العرب عرباً، ومددنا هذا القياس حتى وصلنا إلى الجد الأكبر، آدم عليه السلام، يكون آدم عربياً. وإذا كان آدم عربياً كان كل أبنائه من العرب، وإذا كانوا كلهم من العرب فهم إذن من القائلين بالقومية العربية، ومن الموصوفين بالبعثية، ومن أتباع الخواجة المحترم! هذا هو «المنطق البعثي»! * * * وما نحن بخصوم العربية، بل نحن أحق بها وأهلها. وهل العربية إلا البيان العربي، والأخلاق العربية، وتكريم ماضي العرب، والعمل على بناء المستقبل العربي؟ وهذا كله فينا؛ فينا البيان، وما عَهِدنا لدعاة هذه العصبية الجاهلية رجلاً واحداً يُعَدّ من أرباب البيان، وليس لهم شاعر مفلق ولا خطيب مصقع ولا كاتب

بليغ ولا راوية محيط! وفينا الأخلاق والغيرة على الأعراض. وفينا علماء التاريخ الواصلون إلى موارده المحقّقون لأخباره، وأولئك لا يعرفون منه إلا ما حفظوه من دسّ المستشرقين. ومن المستشرقين يهود، فمن هنا جاءتهم تلك الفكرة الآثمة التي تجعل الساميين كلهم عرباً، ليكون اليهود من العرب، فلا يبقى معنى لحربهم وقتالهم والحرص على طردهم من فلسطين. * * * وأنا أعذر هؤلاء الأساتذة، فهم شباب، ما كنا نأمل ونحن في مثل أسنانهم، ونحن يومئذ أعرَف بالتاريخ منهم اليوم، أن يكون الواحد منا مدرّساً في الصف الأول الثانوي. شباب رأوا أنفسهم أساتذة في الجامعة (وأستاذيّة الجامعة في بلاد الناس شيء عظيم)، فاغتروا كما اغترّ الجحش الذي زعموا أنه لبس مرة جلدة الأسد فظن نفسه أسداً ... والقصة معروفة. وانطلقوا يصوّرون للطلاب الماضي لا كما كان، بل كما يتمنى الخواجة ميخائيل ويهود المستشرقين أن يكون قد كان! وأرادوا أن يلفّوا هذا السمّ بغشاء من السكّر وأن يجدوا لهذه الخيالات سنداً من النقل، فنظروا نظرة عَجْلى في كتب التاريخ العربي، وذيّلوا كتبهم بأرقام صفحاتها ليدلّوا على أنهم أخذوا منها. يحسبون أنه يكفي أن يعرف المرء كيف يقرأ ما كتب الطبري ليصير -بقدرة الله- مؤرِّخاً، لا يدرون أن هذه الكتب هي مصادر التاريخ لا التاريخ، هي المواد الأولية، ولا بد من تنقيتها أولاً وجمع النقيّ منها، ثم إدخاله المصنع.

إن علمنا كله يقوم على الرواية، والرواية (ومنها رواية الأخبار التاريخية) تقوم على معرفة الرجال. وقد انفردنا نحن دون الأمم كلها بأن كان عندنا علم خاص بمعرفة الرجال. والطبري (وغير الطبري) فيه الروايات الصحيحة المنقولة عن الثقات الضابطين، والروايات المتهافتة المروية عن قوم لم يكونوا من أهل الضبط وليسوا أهلاً للثقة. ثم إن الروايات التاريخية هي رواية عامية (إن صحّ التعبير)، أما الرواية العلمية الثابتة فهي رواية المحدِّثين، لذلك كان المرجع الأول لتاريخنا ما رُوي على طريقة المحدثين. وهذا أيضاً له درجات ومراتب، من المتواتر الذي لا يرتقي الشك إليه، والمشهور والعزيز والصحيح والحسن والضعيف. والصحيح درجات، لاختلاف المصححين واختلاف شرائطهم في التصحيح. فلا بد -إذن- ليكون الرجل مؤرخاً من أن يكون عارفاً بعلوم الرواية والإسناد، عارفاً بالرجال، عارفاً بالعربية ليفهم ظواهر الكلام وبواطنه وإشاراته ومعاريضه. فإذا كان كذلك استحيا من نفسه وتجرد عن العصبية والهوى وأراد ببحثه الحقَّ ومرضاةَ الله، وإن لم يكن كذلك لم يكن إلا جاهلاً بالتاريخ أو دجّالاً، ولو كان أستاذ الجامعة وكان من أصحاب الشهادات العالية. * * *

كلمة في الاشتراكية

كلمة في الاشتراكية نشرت سنة 1966 ليس القصد من هذه الكلمة الإحاطة بالموضوع ولا دراسته دراسة تخصص وتعمق، بل القصد تعريف الجمهور بها تعريفاً مجملاً يقفه على حقيقتها ويكشف له خفاياها، في حدود الإيجاز الذي تتسع له المجلة والتبسيط (¬1) الذي تحتمله الجماهير. وقد غدت «الاشتراكية» اليوم الخطرَ الأكبر على الإسلام، والمشكلةَ الشاغلة لرجل الدعوة الإسلامية. ولا بد لمن ينصب نفسه مدافعاً عن الإسلام في وجه الهجمات الإلحادية، ولمن يردّ على مذهب من المذاهب المخالفة، من أن يفهم هذا المذهب فهماً صحيحاً. ولا يكفي أن يتعرف إليه من إشارات الصحف وردود الخصوم، بل لا بد له من أن يقرأ كتب أهله ويطّلع على حقيقته عند أصحابه. والإمام الغزالي لمّا أراد أن يردّ على الفلاسفة درس مذاهبهم وقرأ كتبهم حتى أحاط بأقوالهم ووقف على حقيقة حالهم، وصار ¬

_ (¬1) التبسيط هو التوسيع، ولكنا أردنا باستعمالها هنا بالمعنى المشهور إفهام القراء.

الأستاذ الأكبر للفلسفة في أكبر جامعات الأرض يومئذ، المدرسة النظامية، وألف كتاب «مقاصد الفلاسفة» فكان أحسن معبِّر عنها وأصحّ مرجع فيها، ثم رد عليها في كتاب «تهافت الفلاسفة»، فكان هذا الكتاب ضربة لها قاضية عليها، لم تقم لها بعده قائمة في المشرق. ولست أريد من كل من يرد على «الاشتراكية» -مثلاً- أن ينقطع إليها حتى يصير أستاذاً فيها، بل أريد أن يفهمها ليعرف ما هي حقيقة الشُّبَه التي يرد عليها. وإذا كان الإمام أحمد بن حنبل وكثير من العلماء قد كرهوا شرح أقوام الخصوم ولو للردّ عليها (لئلا يكون في ذلك نشر لها) فلقد ارتضوا جميعاً شرحها إذا عَمّ أمرها وطَمّ شرها، كما هي الحال في مسألة الاشتراكية اليوم. لذلك أشرح أولاً ما هي الاشتراكية، ثم أبيّن حكم الإسلام فيها. * * * كلمة «الاشتراكية» ليس لها معنى علمي واضح محدَّد لأنها تُطلَق على ألوان مختلفة من المذاهب اليسارية، مما اعتاد المؤلفون أن يسمّوه «الاشتراكية الخيالية» إلى الماركسية أو الشيوعية التي يسمونها «الاشتراكية العلمية»، وهذه أيضاً على درجات، فهي في الصين الشعبية مثلاً أشدّ منها في روسيا السوفييتية. أما «الاشتراكية الخيالية» فهي ما جاء في مجموعة من الكتب صدرت في أوربا وأميركا في هذه القرون الثلاثة الأخيرة، تخيّل

أصحابها مجتمعاً أفضل من المجتمع الذي كانوا يعيشون فيه، أقاموه على الأسس الاقتصادية التي رأوا أنه يمكن أن يرتفع عليها هذا الصرح المثالي. أذكر منهم -على سبيل المثال- توماس مور، مؤلف كتاب «طوبيا» الذي ظهر في إنكلترا في الفترة التي اتجه فيها اقتصادها من الزراعة وحدها إلى التجارة الواسعة. وكان من الأسس التي وضعها في كتابه (لمجتمعه الذي تخيّله) أن تكون ملكية الأرض عامة، وأن يوزَّع نتاجها بالعدل، وأن يراح العاملون فيها فلا يكلَّفوا العمل أكثر من ست ساعات في اليوم، وأن يعالَج المرضى بالمجّان، وأن يُلزَم الأطفال جميعاً بالتعليم. ثم جاء جيمس هارنغتون فألف في بداية النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي كتاباً اسمه «جمهورية أوشيانا»، نحا فيه نحو مور في تعميم ملكية الأرض، وأقام لمجتمعه المتخيَّل حكومة جمهورية دستورية السلطات فيها (التشريعية والتنفيذية والقضائية) منفصلٌ بعضُها عن بعض، قال بذلك قبل أن يقول به مونتسكيو في فرنسا بزمن طويل. ثم جاء سان سيمون الفرنسي فدعا إلى الاشتراكية في الإنتاج، وأن يعمل كلٌّ حسب قدرته ويأخذ قدر حاجته، وكان ممّا دعا إليه إلغاء الإرث. وحاولوا تطبيق أقواله على المجتمع، فكان نصيبها الفشل. وجاء بعده شارل فورييه، وكان أبرز ما دعا إليه التعاون بين العمال وتأليف الجمعيات التعاونية. وأساس مذهب التعاون -اقتصادياً- حذف الوسيط بين المنتِج والمستهلك ورَدّ ربحه على

المستهلكين أنفسهم. وقد بدأت «التعاونيات» في مصر من أكثر من خمس وثلاثين سنة، وكان من المختصين بشؤون التعاون صديقنا العالم المسلم الدكتور الدّرديري رحمه الله، الذي أمضى أكثر عمره في العمل لجمعية الشبان المسلمين. وفي أول القرن التاسع عشر ظهر روبرت أوين، وكان أهم ما جاء به أنه درس مشكلات العمل الآلي، وبيّن أن استمراره يعطل الأيدي العاملة فتنتشر البطالة، ثم يكون الكساد لزيادة الإنتاج عن حاجة الأسواق. ولكن ما حذّر منه لم يظهر في أيامه، لما كان فيها من فتح أسواق جديدة عن طريق الاستعمار وما اصطلحوا على تسميته بالإمبريالزم (¬1). وربما أُلحق بهؤلاء آخرون اشتركوا معهم في تصور المجتمع المثالي، منهم من كان من قبل كأفلاطون في كتاب «الجمهورية» والفارابي في «المدينة الفاضلة»، ومنهم من جاء من بعد كويلز (¬2) وألدوس هكسلي الذي تصوّر في كتابه «العالَم الطريف» (الذي تُرجم إلى العربية) عالَمَ المستقبل تصوراً بالغ الغرابة بعيداً عن الإمكان، لا يقول بإمكانه عاقل. * * * ¬

_ (¬1) أي الاستعمار، والمعنى الحرفي لكلمة «إمبريال» هو «إمبراطوري». (¬2) هـ ج ويلز، مؤلف رواية «حرب العوالم» المشهورة وعدد غيرها من روايات الخيال العلمي. وقد ألف في موضوع «المدينة الفاضلة» عدداً من الروايات والكتب غير الروائية (مجاهد).

وقد دُعي هذا كله «الاشتراكية الخيالية» لأن أصحاب هذه الكتب قدّموا للناس صورة خيالية للمجتمع المنشود، ولكن لم يبيّنوا الطريق إليه ولم يرسموا المناهج لتحقيقه. ودُعيت اشتراكية كارل ماركس (أي الماركسية) «الاشتراكية العلمية»، وهي المقصودة الآن بكلمة «الاشتراكية» التي تسمعونها من الأفواه ومن الإذاعات وتقرؤون عنها في الصحف والمجلات. فمن هو ماركس؟ وما الماركسية؟ كارل ماركس يهودي ألماني، ولد سنة 1818 ودرس في جامعة بون ونال شهادة العالمية (الدكتوراة) سنة 1841. وكان المذهب المادي في الفلسفة هو الذي يسيطر -تلك الأيام- على عقول الشبان المتعلمين وطلبة الجامعات في ألمانيا، وكان زعيم هذا المذهب هيغل. وقد أقبل ماركس على هذه الفلسفة وآمن بها، وولّدت في نفسه أفكاراً ثورية هدّامة جعلت الجامعة ترفض قبوله للتدريس فيها، فاحترف الصحافة يتخذ منها بوقاً لدعوته، فطورد حتى اضطر إلى التنقل بين ألمانيا وفرنسا وبلجيكا، ثم استقر في إنكلترا. وكان أشهر كتبه كتاب «رأس المال» و «الميثاق الشيوعي» (المانيفِسْتو) الذي شاركه زميله فردريك أنْغلز إصداره سنة 1848. وسأحاول تلخيص ما ذهب إليه كارل ماركس وتقريبه لجمهور القراء. رأى ماركس أن الناس على عهده طبقتان: كثرة تَجِدّ وتكدح ولا تنال إلا القليل، وقلة تستمتع بالكثير من ثمرات هذا الكد.

وكان ماركس يرى (كما رأى بعض من كانوا من قبله) أن الأرض للعموم، لا يجوز أن يتملكها الأفراد، وأن رأس المال يجري عليه ما يجري على الأرض. ولمّا كانت وسائل الإنتاج ثلاثاً، وهي «الأرض» و «رأس المال» و «العمل»، وكان كل من الأرض (¬1) ورأس المال مما لا يجوز عنده أن تشمله الملكية الفردية، فلم يبقَ إلا العمل. فبالعمل وحده -على رأي ماركس- تُحدَّد قِيَم المنتجات. ولما كان العامل هو الذي يقدم العمل ولا يأخذ من قيمة ما عمله إلا الأقل، وكان فائض القيمة يأخذه رب العمل فلا يستطيع أن ينفقه كله مهما أترف نفسه وأهله، وتبقى منه بقية يرثها أولاده من بعده فيقوون بها على البقاء وعلى الاستمرار في هذا الظلم ... فلم يكن عنده بُدٌّ من ثورة تعيد الحق -في زعمه- إلى نصابه وتؤدي إلى القضاء على هذه الطبقة التي تأخذ فائض القيمة (طبقة البرجوازيين) فلا تبقى إلا طبقة الكادحين (طبقة البروليتاريا). ولما كانت الحكومات في أيامه تناصر هؤلاء «البرجوازيين» وتحمي الوضع القائم، وكان الدين يدعو إلى الصبر وإلى الأمل بحياة أخرى، فقد رأى وجوب إسقاط هذه الحكومات وصرف ¬

_ (¬1) ذكر صديقنا العلامة الأستاذ المودودي في مقالته «نظام الاقتصاد الإسلامي»، في الجزء الماضي من هذه المجلة، أن مالك الأرض إن أهمل أرضه ثلاث سنوات انتُزعت منه أو صارت بحكم الأرض المَوات، وقال إن هذا هو حكم القانون الإسلامي، فأرجو أن يتفضل ويذكر لنا: هل ورد في هذا دليل أو قال به أحد من الفقهاء؟

الناس عن الدين، لأنه يخدّر العمال فلا يجعلهم يحسّون بآلامهم، فهو في زعمه «أفيون الشعوب»! وجعل لهذه الثورة أساساً فلسفياً هو ما يسمى «الديالكتيك». والديالكتيك كلمة يونانية معناها المناظرة أو الجدل (¬1). وأصل ما يدعى «الديالكتيك» للفيلسوف هيغل، وخلاصته أن الأفكار والمبادئ تصطرع وتتصادم، فكلما قامت فكرة ظهرت مع هذه الفكرة بذور فكرة أخرى مضادة لها، لا تلبث أن تنبت ويكبر نبتها فتقضي عليها وتحل محلها. ومن هذا التدافع المستمر (الذي يشبه تدافع موجات البحر وتعاقبها) تكون «حركة التاريخ». وقد أخذ ذلك ماركس، ولكنه جعل الأساس الوضع الاقتصادي لا الأفكار المجردة، فهو عنده مبعث هذه الحركة التي تُنشئ الأفكار وتُظهر الأشخاص الذين يحملونها. وهذا التطور أو التنازع (الذي شبّهوه بالجدال أو الديالكتيك) لا بد أن يؤدي إلى النتيجة التي لا بد منها في زعمهم، وهي محو الطبقة المستغلّة وبقاء الطبقة الكادحة، طبقة «البروليتاريا»، وحدها. وهذا معنى الكلمة التي تتردد في هذه الأيام على الألسنة والأقلام، كلمة «حتميّة التاريخ». وهذه «الحركة التاريخية» هي التي بدؤوا يدعونها «المَدّ الثوري». ومقتضى هذه النظرية عند هيغل وعند ماركس (على ¬

_ (¬1) والعامة عندنا يستعملون كلمة مشتقة من هذه المادة هي «ديالوج»، فيقولون: «مونولوج»، أي الأغنية الفردية، و «ديالوج»، أي الأغنية الثنائية أو الحوار الغنائي.

اختلافهما في تفاصيلها) أن الذي يوجّه سير التاريخ ويحرك العالم ويوجد كل شيء ليس الإله المعبود، بل هو عامل بشري وقوانين مادية تخضع لها حركة التاريخ. وهما ينكران وجود الإله ولا يعترفان بأي عامل ديني أو روحي، بل لقد جاء على ألسنة زعماء الشيوعية ما يفيد تأليه التاريخ! هذه هي الناحية الخطيرة في الماركسية. وفيها شيء آخر لا يكاد يقل عنها خطراً، هو «النسبية» أو «المرحلية». فالقانون والحرية والمساواة والعدل ... كل ذلك يكون له في كل عصر (أو في كل مرحلة من مراحل الطريق إلى الثورة) معنى خاص. فهم ينادون بالحرية والعدل والمساواة، ولكنهم يفسرون هذه الكلمات في كل مرحلة بالمعنى الذي يناسب هذه المرحلة، حتى إن «الحرية» لَيكون معناها في بعض المراحل الاستعبادَ والتقييد، ويكون معنى العدل الظلمَ، ويكون معنى المساواة التفريقَ والتمييز. وبذلك تسقط هذه المبادئ والمُثُل وتنهار معها أسس المجتمع البشري! والمجتمع عند كارل ماركس لا يقوم على أخوّة بين طبقات الشعب، بل على «الصراع الطَّبَقي» الدائم، حتى يُقضى على «الطبقة البرجوازية» (أي على خواص الناس) ولا يبقى إلا العامة (البروليتاريا)، والعمل على بلوغ هذه الغاية هو ما يسمى في عرف الماركسية ومَن ينطق باسمها بـ «الثورة». فكلمة «الثورة» التي تسمعونها تردَّد دائماً في هذه الأيام هذا

معناها. ويجوز في هذه الثورة سلوك كل طريق يؤدي إلى القضاء على الطبقة البرجوازية (طبقة الخواص والأغنياء ورجال الدين)، ولا تتقيد هذه الثورة بقيود العدل ولا الحق ولا القانون، بل هي لا تكاد تحدد لها معنى ثابتاً يحقق وجودها. وحين تنجح الثورة تنفرد طبقة الكادحين (أي البروليتاريا) بالحكم وتحكم حكماً مطلقاً (ديكتاتورياً)، حتى يتم القضاء على الطبقات الأخرى ويخلو الجو لها. وعندئذ لا تبقى حاجة للدولة ويكون المجتمع الشيوعي المنشود، وهو مجتمع خالٍ من الطبقات، تعمّه العدالة ويسود فيه النظام (¬1). * * * ¬

_ (¬1) لعل من غرائب المصادفات (وما في الدنيا مصادفة إلا بقَدَر من الله) أنني انتهيت -في الوقت الذي وصلت فيه إلى هذا الموضع من الكتاب- من قراءة رواية اسمها «بجعات برّية»، وهي رواية تاريخية طويلة تبلغ ثلاثة أمثال هذا الكتاب طولاً، وتسرد فيها مؤلفتها الصينية يونغ تشانغ قصة عائلتها في الصين الشيوعية؛ فهي ليست رواية خيالية كعامة الروايات بل هي ملحمة تاريخية واقعية؛ فإن يكن أيّ كتاب أميناً في وصف الحياة في ظل الشيوعية فهي هذه الرواية بلا جدال، لا سيما وأنها تصف التطبيق الأمثل المنشود للشيوعية في بلد كبير وخلال مدة طويلة تمتد لثلاثة عقود. لقد افتُتن بالدعاية الشيوعية سُذّج كُثُر في عالمنا الإسلامي وذهب بعضهم إلى التخلي عن دينهم في سبيلها، وإني لأتمنى أن يقرأ هؤلاء هذه الرواية، بل أن يقرأها كل واحد من الناس كافة، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، ليروا مبلغ القهر والظلم والعذاب الذي عاشه=

ويبدو من هذا التلخيص الموجَز أن دعوة التوفيق بين الإسلام والاشتراكية بحجة أن في الإسلام اشتراكية دعوة باطلة. لأن الاشتراكية (والمقصود بها الماركسية) ليست مجرد توزيع الأراضي، ولا تأميم المعامل، ولا إسعاف العمال، ولا معونة الفلاحين ... هذه كلها فروع لها، أما الأصل فهو هذه الفلسفة المادية (الديالكتيك) القائمة على إنكار الدين، بل على إنكار كل ما هو روحي وردّ كل شيء إلى «المادة»، واتخاذ التاريخ إلهاً، و «حتمية التاريخ» عقيدة، وعلى الشك بجميع المُثُل العليا والعبث بتفسير معانيها، وعلى ثورة طاغية تنسف المجتمع وتجعل الأسافل فيه أعالي والأعالي أسافل. إنها تقوم على «صراع الطبقات» واستبداد العوام بالخواص ثم العمل على إبادتهم وقطع دابرهم، وهي بهذا كله تناقض الإسلام مناقضة صريحة؛ فالإسلام مبني على الإيمان وعلى التوحيد وهذه مبنية على الإلحاد والجحود، والإسلام يدعو إلى الأخوّة والمحبة والعدل وهذه تدعو إلى الحقد والبغضاء والصراع، وتجيز الظلم إذا كان وسيلة لحرب من تسميهم «البرجوازيين»، والإسلام يُقرّ الملكية الفردية (وإن كان يقيدها بالقيود التي سيأتي بيانها) ويقر التوارث وهذه تأبى ذلك كله. ¬

_ = مئات الملايين من الناس في سبيل تحقيق حلم مجنون. ثم نراهم في النهاية يتأملون شعارات ماو الثورية التي تقول: «وطننا الاشتراكي جنة» ويتساءلون: "إذا كانت هذه هي الجنة فما هو الجحيم؟ " ... نعم، اقرؤوها يا أيها المؤمنون بالاشتراكية والشيوعية، لتكفروا بهذه الأباطيل كفراً لا إيمان بعده إلا بالله، الخالق العظيم (مجاهد).

ولا شك أن في هذه المذاهب أموراً فرعية ربما وافقت في الجملة أموراً مثلها في الإسلام، ولكن هذا التوافق في الجزئيات لا يسوّغ لنا أن نقول «اشتراكية الإسلام»، بدليل أن التوافق بين القرآن والتوراة الموجودة الآن في أيدي اليهود أكثر، وقصص الأنبياء فيها تكاد تكون واحدة، مع اختلاف الأسلوب. فهل يحق لنا -بناء على هذا- أن نقول: «يهودية الإسلام»؟! ولست أعرّض بأخي المؤمن المجاهد الشيخ مصطفى السباعي رحمة الله على روحه، فلقد ناقشته في حياته وكان بيني وبينه أخذ ورَدّ، وأشهد ما كان قصده إلا الخير وأنه أراد أن يجلب بذلك الاشتراكيةَ وأهلَها إلى الإسلام ... لكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، وربما أراد الرجل الخير فاتُّخذ عمله حجة للشر (¬1). ¬

_ (¬1) في ربيع عام 1959 ألقى الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله محاضرة في جامعة دمشق عنوانها «اشتراكية الإسلام»، ثم وسّع مادة هذه المحاضرة وأصدرها في نهاية العام في كتاب حمل العنوانَ ذاته، وبلغ عدد صفحاته 175 صفحة، وفي السنة التالية نقّح الكتاب وزاد فيه وأعاد نشره في 420 صفحة. وأثارت المحاضرة (وأثار الكتاب من بعدها) نقاشاً طويلاً وجدلاً مع عدد من العلماء، لعل من أبرزهم شيخ حماة محمد الحامد وقاضي دمشق علي الطنطاوي. وقد ردّ علي الطنطاوي على الكتاب رداً مقتضباً في أول الأمر، فنشر في بعض الصحف كلمة صغيرة قال فيها: "قرأت الكلمة الطيبة التي كتبها الأخ الأستاذ سعيد رمضان البوطي وأشار فيها إلى كتاب «اشتراكية الإسلام» للأخ الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي. وهو صديق كريم، ولكن أرسطو كان=

فالرجل مؤمن مخلص مريد للإصلاح، ولكن الطريق الذي مشى فيه طريق وعر متقطع، وإن ظنه طريقاً سهلاً موصلاً. ¬

_ = يقول: «أفلاطون صديقي والحق صديقي، فإذا اختلفا فأنا مع الحق». وكتاب «اشتراكية الإسلام» فيه بحث عميق وفيه إحاطة وشمول، وهو كتاب جليل، ولكن فيه أشياء كثيرة إذا لم أصرّح بأنها ليست صحيحة فأنا أصرّح بأنها تخالف المذاهب الأربعة التي عليها المسلمون اليوم. وقد حضرتُ الأستاذَ لمّا ألقاها محاضَرةً في الجامعة -على ندرة ما أحضر من المحاضرات- واضطررت أن أقاطعه تسع مرات لأبيّن له بكلمة سريعة أن الحكم الفقهي الذي يسوقه يحتاج -على الأقل- إلى نظر (وكان مما استوقفته فيه يومئذ قوله بأن قانون الإصلاح الزراعي له مُستنَد شرعي). ودين الأستاذ عزيز عليه بمقدار ما هو عزيز عليّ، وكل عالم في الدنيا يخطئ والعصمةُ للأنبياء وحدهم، ولا يضيره ولا يُغضبه إن شاء الله أن أطلب تأليف لجنة من فقهاء المذاهب الأربعة للنظر في الكتاب وبيان ما ينبغي تعديله فيه؛ فلا يجوز أن يبقى على ما هو عليه ويُتَّخَذ حجة لمن يريد أن يأتينا بدين جديد غير دين الإسلام في مصر وفي الشام. وأنا أعرف الاشتراكية وأعرف الإسلام، ولكني لا أعرف شيئاً اسمه اشتراكية الإسلام، والسلام". والإشارة في آخر الكلمة واضحة إلى حكم عبد الناصر، فقد ألقى السباعي محاضرته وعقّب عليها جدي بهذا التعقيب في أيام الوحدة بين مصر وسوريا، وكان عبد الناصر يسعى إلى تطبيق الاشتراكية في الإقليم الشمالي (سوريا) كما طبقها من قبل في الإقليم الجنوبي (مصر)، ومن ثمراتها ذلك القانون الذي سموه «قانون الإصلاح الزراعي» والذي كان من نتائجه بوار الزراعة، وقانون «التأميم» وكان من نتائجه انهيار الصناعة، وانظر خبر ذلك كله في الحلقة 160 من ذكريات علي الطنطاوي (وهي في الجزء السادس). =

وكلامي هنا في ردّ الفكرة، لا في نقد الشيخ الذي كان وجوده ربحاً للدعوة وكان فَقده خساراً عليها، والذي ترك من ¬

_ = ثم عاد جدي رحمه الله فنشر في «الأيام» مقالة أوسع يضيق المقام هنا عن نشرها كاملة، وإنما أجتزئ بما جاء في آخرها. قال: "أما قولي للأخ السباعي أني أعرف الاشتراكية وأعرف الإسلام، ولكني لا أعرف شيئاً اسمه اشتراكية الإسلام، فتفصيله: أن الإسلام جمع الخير كله، وكل مذهب من هذه المذاهب فيه جانب من الخير وجانب من الشر. وإذا جاز أن نقول إن في الإسلام اشتراكية لمجرد أن الخير الذي تدعو إليه الاشتراكية موجود في الإسلام جاز على هذا القياس أن نقول «يهودية الإسلام» لأن المقدار المشترَك بين التوراة والقرآن أكبر من المقدار المشترَك بين الاشتراكية والإسلام! وهذا أيضاً كلام موجز له عندي شروح وحواش إذا أحبّ أخي عدت فسردتها. أما ما قلته له من أن في كتابه أشياء كثيرة تخالف -على الأقل- المذاهب الأربعة فصحيح، ولست أنا وحدي الذي لاحظه بل لاحظه عدد من العلماء. وقد كتبت إلى سماحة المفتي مقترحِاً تأليف لجنة للنظر فيه. وبعد، فلماذا لا تكون يا أخي الشيخ مصطفى أرحبَ صدراً للنقد، ولماذا لا تتقبل كلمة الحق؟ إنها يا أخي مسألة دين، ولأن تكون مخطئاً فتصحح خطأك (ومن هو الذي لا يخطئ؟) خير لك من الإصرار على الخطأ وتحمُّل تبعات افتتان الشبّان به ولقاء الله عليه. هذا واللهِ كلامُ مُحِبٍّ لك، وهذا واللهِ ما أريده لنفسي لو كنت مكانك. على أننا إن اختلفنا في مسائل علمية فإننا لا نزال صفّاً واحداً ولا نزال إخوة متصافِين، ولا يمنعنا هذا من جهاد الملحدين والمفسدين وتنبيه الغافلين وتعليم الجاهلين. ولأخي مصطفى السباعي تحياتي وسلامي وصداقتي الدائمة". =

الآثار ما يكون له منه الثواب الدائم والنفع الباقي، رحمه الله وجزاه على نيته خير الجزاء. وللكلام بقية تقرؤونها في الجزء القادم إن شاء الله (¬1). * * * ¬

_ = ولم تنتهِ هذه المساجلات إلى شيء، بل بقي الشيخ مصطفى مُصرّاً على موقفه وعلى كتابه، اسماً ومحتوى. أما أنا فأحسب أن هذا الموضوع كان من سقطات السباعي غفر الله له؛ فقد استفاد منه أعداء الإسلام، واستغلته حكومة جمال عبد الناصر استغلالاً سيّئاً لترويج المذهب الاشتراكي الذي ذهبت إليه، إلا أنني أرجو للشيخ الأجر على اجتهاده، ولا أظن إلا أنه أراد فيما ذهب إليه الخير والصلاح لدينه ودعوته، رحمه الله. وحتى الذين قبلوا الكتاب نفسه ولم يتلقّوه بالنقد ساءهم عنوانُه، ولعل خير مَن عبّر عن هذا الرأي الأستاذ عبد الله الطنطاوي في كتابه «مصطفى السباعي، الداعية الرائد والعالم المجاهد»، فقد علّق على تسمية الكتاب بقوله: "لقد اجتهد الأستاذ الكبير، ونرجو أن ينال أجر ما اجتهد، وما نظنه -نحن محبّيه إلى درجة العشق- إلا قد جانبه الصواب فيما اجتهد في التسمية، وفي دفاعه الحار عن هذا المسمّى الذي نكره" (مجاهد). (¬1) نشر جدي هذه المقالة في العدد الأخير من أعداد السنة الثالثة من مجلة «رابطة العالم الإسلامي» الذي صدر في ذي الحجة 1385، ثم لم يعد إليه بأي تكملة في أي من الأعداد اللاحقة، بل إنه لم ينشر في هذه المجلة أي مقالة في سنتها الرابعة، ثم عاد للكتابة فيها في السنة الخامسة (1387)، لكنه لم يكمل الموضوع الذي وعد هنا بإكماله قط، عليه رحمة الله (مجاهد).

الدعوة إلى الوحدة

الدعوة إلى الوحدة نشرت سنة 1939 إذا أنت دققت في أحوال هذه الأمم -وهي تستكثر اليوم من أسباب القوة وتتزايد في اتخاذ العُدَد التي تدرأ عنها أخطار البركان الذي يوشك أن ينفجر في كل لحظة (¬1) - لرأيت أن أقوى عُددها وأمضى أسلحتها اتفاقُ بَنيها على المطمح الذي يطمحون إليه والغاية التي يبتدرونها، وأدركت أنها لن تنفع العدّةُ ولا يُجدي العَددُ أمةً أضاعت هدفها، فهي تهيم على غير هدى. فما هو المطمح الذي نسعى إليه؟ إن لنا مطمحاً، ما في ذلك شك، ولكن الآراء تختلف على تحديده، في وقت يعمّ فيه البشرَ الرعبُ والفزع، ويتراءى فيه شبح الحرب المروّعة الجارفة، ولا يصحّ فيه اختلاف. فمنّا مَن قَصَر مطمحه على الجامعة الإقليمية الضيقة، ومنا من دعا إلى ¬

_ (¬1) نُشرت هذه المقالة في مجلة «الثقافة» في السادس من حزيران (يونيو) سنة 1939، وبعد نشرها باثني عشر أسبوعاً اجتاحت الجيوش الألمانية بولندا، في اليوم الأول من أيلول (سبتمبر)، وبدأت عندئذ الحرب العالمية الثانية رسمياً (مجاهد).

الجامعة القومية التي تضم كل عربي، ولو تناءت الديار واختلفت الأفكار، ومنا من دعا إلى الجامعة الواسعة الشاملة، الجامعة الإسلامية. وأنا محاول تمحيص هذه الدعوات وتقويمها والكلام عليها، لا من ناحية إمكان تحقيقها أو استحالتها، بل من جهة صحتها وبطلانها ونفعها وضررها. وليس على من يدعو إلى مبدأ صحيح أن يقوم على تنفيذه، فإن تنفيذه (ما لم يكن مستحيلاً في العقل) ممكن وحاصل بالقوة، ولا يطالَب العالم الأخلاقي الذي يقبّح السرقة ويدعو إلى تطهير المجتمع منها بأن يكون مفتش شرطة، يتعقب اللصوص ليطهر منهم المجتمع بالفعل! * * * ولا بد لنا قبل المفاضلة بين هذه الدعوات الثلاث من الاتفاق على معنى «الأمة»، وتحقيق الأسس التي تبنى عليها الأمم والروابط التي تؤلف بين أجزائها. ولن نتعب في هذا البحث، فقد كُتبت فيه ألوف الصفحات منذ ألقى رينان محاضرته المشهورة سنة 1882 إلى اليوم، وأصبح معروفاً أن الأرض التي تعيش عليها الأمة، واللغة التي تتكلم بها، والدين الذي تدين به ربَّها، والدم الذي يجري في عروقها، واتحاد المشاعر بين أفرادها، ونظرهم إلى الماضي نظرة واحدة تنتج في النفس شعوراً واحداً، واتفاق آمالهم بالمستقبل ... هذه جميعاً هي التي تصنع الأمة الواحدة. فإذا وعيت هذا وأدركته، فانظر في هذه الأقاليم العربية: هل تلقى وأنت تقطع هذا الطريق الذي يُقطَع في ساعتين، إذا جاوزت

حدود سوريا وتسلقت شعاب الجبل، هل تلقى اختلافاً جوهرياً في العادات أو في اللغة أو في الحياة الاجتماعية بين دمشق وبيروت، مثل الذي يلقاه المسافر من باريس إلى برلين؟ وتحدّث إلى من شئت من سكان البلدين، وعرّج به على الماضي واذكر له المستقبل، فإنك لا تجد تبايناً ولا اختلافاً يصحّ معه اعتبار أهل كل بلد أمة لهم قومية مستقلة. فالدعوة إذن إلى قومية سورية أو لبنانية أو مصرية أو عراقية لغو من القول، وتكذيب للعلم، وردّ للواقع. بقي علينا الكلام في الدعوتين العربية والإسلامية. وليس بينهما خلاف جوهري، فإنه لولا الإسلام ما كان العرب شيئاً ولا كان لهم في التاريخ ذكر، وللبثوا في آخر الأمم حضارة وعلماً، ولولا العرب ما انتشر الإسلام ولا عمّ الشعوب. ثم إن كل مسلم نصف عربيّ لأن المسلمين أمة محمد، ومحمد صلى الله عليه وسلم عربي، ولأن القرآن كتابهم كتاب عربي مبين. وكل عربي نصف مسلم، لأنه لا يفتخر إذا افتخر بعرب نجد ولا عرب اليمامة، بل يفتخر بعرب دمشق وبغداد والقاهرة، وهم مسلمون عَزّوا بالإسلام. ثم إن هذه الحضارة ليست عربية خالصة وإنما هي حضارة إسلامية ساهم فيها المسلمون كلهم، وكل عظيم في العرب تلميذ لمحمد صلى الله عليه وسلم. ولكن الاختلاف بين الدعوتين من ناحية السعة والامتداد؛ فالوحدة العربية مقصورة على أقل من سبعين مليون عربي، بينما تمتد الجامعة الإسلامية إلى ما يقارب أربعمئة مليون. وسأبين قيمة الجامعة الإسلامية العلمية والدينية، ثم أعرض إلى ما يوجَّه إليها من نقد فأجيب عليه.

أما من الناحية العلمية فالمسلمون يؤلفون أمة واحدة، ليس في الدنيا أمة أقوى منها في الروابط المعنوية وفي الإرادة العامة؛ فتاريخها واحد وآمالها واحدة، ثم إن لها من دينها روابط ليست لغيرها. وحسبك بالحج الذي يجتمع فيه أفرادها من سائر آفاق الأرض، فيقوم الصيني إلى جانب الياباني، بجوار الهندي والأفغاني، والعربي والتركي، ومن جاء من روسيا ومن قدم من بلاد الألبان ... لباسهم واحد، ونداؤهم واحد، وربهم واحد؛ فأي رجل يستطيع أن يقول بأن هذا الهندي أو هذا الفارسي غريب عنك، وأن طنوس العربي وحاييم العربي أقرب منه إليك؟! ثم إن من معجزات الإسلام أنه استبق الأيام فأقرّ هذه الرابطة (الروحية المادية معاً) منذ أربعة عشر قرناً، مع أن العالم لم يتجه إلى مثلها إلا في هذه الأيام التي سقطت فيها -في الواقع- المبادئ العنصرية وقامت في مكانها روابط فكرية، كالشيوعية والنازية والديمقراطية ... فلماذا لعمري تؤلف الشيوعية بين الفرنسي الشيوعي والروسي، على اختلاف الدم واللغة، ولا يؤلف الإسلام، وهو الرابطة المحكمة والعروة الوثقى، بين كافة متّبِعيه؟ أما من الناحية الدينية فإن الإسلام لم يَدَعْ للمسلم الخيار في هذا الباب، بل وضع هذه الوحدة الإسلامية موضع الأسس الكبرى من الدين، فقال الله تعالى: {إنّمَا المُؤْمِنونَ إخْوَة}، وشبّه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأعضاء الجسد الواحد، وأعلن في حجة الوداع على رؤوس الملأ أنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وتلا قول الله عز وجل: {إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ}، وقدّم النبي صلى الله عليه وسلم سلمانَ الفارسي وصُهيباً الرومي وبلالاً الحبشي،

وأخّر أبا لهب عمّ رسول الله، وجعل الله سبَّه عبادة: {تَبَّتْ يَدَا أبي لَهَبٍ وَتَبّ}! وصرح صلى الله عليه وسلم بأنه ليس من المسلمين من دعا بدعوة الجاهلية. وما دعوة الجاهلية إلا هذه العصبية القومية التي تُؤْثِر رابطة الدم على جامعة الإيمان. * * * أما اعتراضهم على هذه الدعوة فينحصر أهمه في أن البلاد العربية ليست خالصة للمسلمين، وإنما هي مشترَكة بينهم وبين غيرهم، فالدعوة إلى المبدأ الإسلامي فيها استفزاز لهؤلاء وإيذاء لهم. والجواب على ذلك أن هذه الدعوة من أسس الدين التي لا هوادة فيها، ولا خيار للمسلم في العدول عنها. ثم إن الإسلام حفظ لهؤلاء المواطنين غير المسلمين كل حق هو لهم، وضمن لهم من الحريات ما لا تضمن أكثرَ منه دولةٌ على ظهر الأرض لأمثالهم؛ فأي خوف عليهم من هذه الدعوة؟ ثم إن هؤلاء العرب غير المسلمين لا يتجاوزون مليونين في كافة الأقطار العربية، يقابلهم أكثر من عشرين وثلاثمئة مليون مسلم غير عربي؛ فأي عاقل يعطي ثلاثمئة وعشرين ليأخذ اثنين؟ * * * ومن نِعَم الله أن مصر والشام لا تقولان إلا بالوحدة الإسلامية، وأن عقلاءهما يعلمون أن هذه الفكرة العربية إنما هي من صنع الإنكليز لمصلحة لهم فيها ظاهرة، وهي فصل الهند عن أقطار الشرق الأدنى. ولكن هذه الفكرة لن تعيش،

والعاقبة للإسلام، والإسلام لا يجتمع مع عصبية الجاهلية في قلب واحد (¬1). * * * ¬

_ (¬1) نشر جدي رحمه الله هذه المقالة وهو في بغداد. وكانت الدعوة إلى القومية قد اشتدّت وظهر أمرها في وزارة المعارف العراقية يومئذ، فساير قومٌ من المدرّسين الوزارةَ فدعوا بدعوتها، وأبى آخرون لكنهم ستروا معارضتهم، وقلّة جاهروا بنقد الدعوة إلى القومية ودعوا إلى الوحدة الإسلامية. وكان علي الطنطاوي من هؤلاء، فعاقبته الوزارة فنقلته على إثر هذا الموقف إلى كركوك في الشمال. انظر خبر هذا كله في الحلقة 111 من «الذكريات»، في الجزء الرابع، وستأتي الإشارة إلى هذه الواقعة في مقالة «القومية والإسلام» في هذا الكتاب (ص310) (مجاهد).

الدعوة القومية والإسلام

الدعوة القومية والإسلام نشرت سنة 1939 مضى قولنا في القومية بإيجاز بالغ حدّ الإشارة. ومقالتنا اليوم في معنى القومية وإظهار مكانها من الدين عَلْواً وسَفْلاً، وخلافاً ووفاقاً، وغرضنا من ذلك الاتفاق على مطمح لنا واحد ونفي التفرق الذي يؤدّي بأهله إلى الفشل، وأن نجمع قوانا التي ننفقها في التنازع والتخاصم ثم نوجهها وجهتها المرجوّة إلى الإصلاح والقوة والتقدم. * * * وبعد، فإذا كان معنى القومية بيان فضائل العرب، ونشر تاريخهم، والعناية كل العناية بلغتهم وآدابهم، واتباع سنتهم في كلامهم، فنحن -لا جرم- قوميون، بل إن كل مسلم فيما أحسب قومي، لأن المسلم مهما كانت لغته وكان قومه لا يستطيع أن ينكر فضائل العرب وينشر مثالبهم ويحقرهم ويبغضهم. وكيف لعمر الله يتّبع محمداً ثم يذم صحابة محمد الذين أُخذ عنهم الدين وأُثِرت عنهم الأحكام، وكانوا هم نَقَلة الأحاديث وحَمَلة القرآن؟ والمسلم -حيث كان- مَعني بتاريخ العرب لأنه تاريخ

الإسلام، مشغوف بلغة العرب لأنها لغة قرآنه ولسان نبيّه، واللغة التي بها يخاطب ربه في صلاته ويدعوه في مناجاته، محبّ لأرض العرب لأنها منها انبثق النور وفيها نزل الوحي، وعليها عاش النبي صلوات الله عليه وفيها دُفن، وإليها الحج من أقطار الأرض، فأي مسلم لا يُؤْثر عرفات على بلده، ويفضّل حجرة النبي التي يقوم فيها قبره الشريف على داره وغرفته؟ فأنت ترى بأن الإسلام دعوة عربية، وتعلم أنه صبغ الدنيا المفتوحة بالصبغة العربية في أقل من نصف قرن. فليس بين القومية -بهذا المعنى- وبين الإسلام فرق ولا خلاف، بل إن الدعوة إليها لا تنجح كما نجحت من قبل إلا إن جاءت باسم الإسلام. وإذا كانت القومية هي السعي للوحدة العربية وإنشاء الدولة العربية القوية، فنحن قوميون عاملون على القومية مجاهدون في سبيلها. ومن يأبى الوحدة ويُؤْثر الانقسام، ويرضى بهذه الحال المضحكة المبكية؟ إن الداعين إلى الوحدة الإسلامية يعلمون أن الجهود يجب أن تُصرَف أولاً إلى توحيد العرب، وهم أعقل بحمد الله من أن يطلبوا وصل بغداد بحيدر أباد قبل أن تتصل بغداد بدمشق! والإسلام -يومَ بدا نورُه- بدأ بالعرب فوحّد بينهم، وجمع شملهم، وألَّف بين قلوبهم، فلما أصبحوا بنعمة الله إخواناً خرج بهم من جزيرتهم ففتح بهم الدنيا، وثَلَّ بهم عروش الطغاة، وأعطاهم مقاليد الأمر والنهي فحكموا بالإسلام المشرق والمغرب، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

فالقومية -بهذا التفسير- لا تخالف الإسلام، بل تؤيده ويؤيدها. أما إذا كان المراد بالقومية أن نجعل الرابطة بيننا اللغة والدم، وأن ننكر أخُوّة الدين ونبرأ من أهلها ولو كانوا في الإسلام على قدم صهيب وبلال وسلمان، وأن ننفي الدين من السياسة وننأى به عن التشريع ولا نباليه ولا نحفله، وأن نهمل صفة النبوّة في محمد صلى الله عليه وسلم فلا نرى فيه إلا زعيماً عربياً ورئيساً قومياً، وأن لا نهتم من القرآن إلا بلغته وبلاغته دون مغزاه وغايته، فالقومية -بهذا المعنى- ليست مخالفة للإسلام فحسب، ولكنها هدم للإسلام من أساسه وعودة إلى الجاهلية الأولى، يوم لم يكن كتاب أُنزِل ولا نبي بُعث ولا نور أضاء ... وهذه التي قال عنها العارفون إنها دسيسة خبيثة من عمل الإنكليز، بدليل أن شيئاً اسمه «قومية عربية» لم يعرفه العرب قط، وإنما عرفوا عصبية قَبَلية، نعاها عليهم الإسلام وسفَّه أهلها، فاختفت حيناً، ثم ظهرت عند من لا يزعه وازع قوي من دين؛ كالشعراء ورجال السياسة (أعني بعضهم) وناس من الأعراب قالوا قيسية وقالوا يمانية. ولم تُعرَف هذه الدعوة القومية على الوجه الذي بيّنا إلا في آخر الزمان، حين عجزت دول أوربا عن قتل «الرجل المريض» بزعمهم، فدسّت له سكين القوميات تحزّ في مفاصله وتقطع أوصاله؛ وكان ما كان مما يعرف الناس وما يأبى الله والإسلام، وانتهينا إلى الفرقة في السياسة وفي الأجناس والمذاهب، وصرنا إلى حال لو تأمل حقيقتَها المتأملُ لرأى ما تمَّ منها (في بعض البلدان المسلمة) يدل دلالة البرهان القاطع على أن المراد من هذه

الدعوة القومية هدم الإسلام ومحاربته والرجوع إلى الجاهلية، وهذا ما تجب محاربته على كل من يشهد أن لا إله إلا الله. * * * يَضِحُ لك من هذا أن الدعوة الإسلامية لا تهدم من القومية إلا جانبها الخبيث، أما الجانب الطيّب -من نحو إنشاء دولة عربية قوية- فإنها تؤيده وتدعمه. وإذا ظن أحد أن الأخوّة الإسلامية من شأنها أن تجعلنا نمدّ أيدينا مصافحين لكل من جاء يقتلنا ويملك أرضنا باسم الإسلام فقد ظنَّ آثماً، لأن الإسلام لم يكن في يوم من الأيام دين ضعف وتخاذل، وإنما هو دين قوة وأَيْد، وجزاءُ سيئة فيه سيئة مثلها، والعمل على كل ما يقوّي الدولة ويشد أزرها مما يطلبه الدين وتدعو إليه الشريعة. فيا ليت إخواننا دعاة القومية يحرصون على فهم حقيقة الإسلام، إذن لرأوه الطريق الوحيد إلى ما يريدون والعون على ما يأملون، ولم يفزعوا منه ولم يجزعوا من ذكره، ولعلموا أنه يُكسبهم ثلاثمئة وعشرين مليون أخ (¬1)، إذا هم عجزوا اليوم عن معونتهم إلا بالروح والعاطفة فسيكونون لهم في غد عوناً باليد واللسان وإخواناً على السرّاء والضرّاء، ويكونون وإياهم كما أراد الله أن يكونوا: إخوة وأعضاء جسد، إذا شكا عضو منه تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى. * * * ¬

_ (¬1) كانوا ثلاثمئة مليون فصاروا اليوم ألفاً وثلاثمئة مليون، هم المسلمون من غير العرب الآن (مجاهد).

كلمة صغيرة

كلمة صغيرة نشرت سنة 1954 ماذا يصنع أهل الأسرة الواحدة؟ يقيمون جميعاً في دار واحدة، ويأكلون على مائدة واحدة، ويصبحون معاً ويُمسون معاً، يتبادلون الحب والودّ، يعطفون على المريض ويسألون عن الغائب، ويقومون صفاً واحداً في وجه الأحداث والمصائب. أليست هذه هي صفة الأسرة؟ نحن إذن أسرة واحدة. هذا ما قلته لنفسي ونحن في المؤتمر (¬1)، معنا المرّاكشي والجزائري والتونسي والمصري والعراقي والشامي واللبناني والأردني والفلسطيني، وإخوان من إيران وكردستان والأفغان والباكستان وأندونيسيا والقفقاس، وما لست أذكر الآن ... نحو سبعين رجلاً ما التقوا من قبل ولا سمع بعضهم بأسماء بعض، لكل واحد منهم زي غير زي الآخر ولسان غير لسانه وملامح غير ملامحه، ولو تعمّدتَ أن تجمع الأشتات من الناس والأضداد ¬

_ (¬1) المؤتمر الإسلامي لإنقاذ فلسطين الذي عُقد في القدس أواخر سنة 1953، وانظر أخباره في الحلقة 138 من «الذكريات»، وهي في الجزء الخامس (مجاهد).

-في الظاهر- من البشر لما جئت بأعجب من هذه المجموعة. ولكن هذه المجموعة أقامت في فندق واحد، وأكلت على مائدة واحدة، وقامت للصلاة صفاً واحداً وراء إمام واحد، ومرض قوم (وكنت ممّن مرض) فعطفوا عليه جميعاً، ومات واحد فحزنوا عليه جميعاً، وأحسّ كل فرد منها منذ الساعة الأولى بأنه مع إخوان له، يعرفهم منذ الأزل ويعرفونه ويحبهم ويحبونه. فكيف تحققت هذه المعجزة؟ كيف اختُصرت في هذا الفندق ممالك الإسلام كلها فكانت أسرة واحدة، تتمنى أكثر الأسر التي يجمع بينها الدم والنسب أن يكون لها بعض ما كان لهذه الأسرة من جوامع الحب وروابط الود؟ كيف تهاوت في لحظة حواجز اللسان والبلدان والأزياء والأفكار، حتى كأنْ ليس فيهم عربي ولا فارسي ولا تركي ولا كردي ولا شركسي، ولا أشقر ولا أسمر، ولا قريب ولا بعيد؟ كيف انهدم في يوم واحد ما أنفق أعداء الإسلام القرون الطِّوال في بنائه، من عوائق الوحدة في الدين وموانع الأخوّة في الله؟ هذا هو سرّ الإسلام. فقل لدعاة القومية: موتوا بغيظكم؛ إن المستقبل لنا، لقد شِدْتُم صرحاً ولكنه صرح من الثلج، متى أشرقت عليه شمس الإسلام رجع وحلاً تطؤه الأقدام. * * *

موقف الإسلام من العربية

موقف الإسلام من العربية نشرت سنة 1967 أحب أن أعود اليوم إلى الكلام على العربية والإسلام: ما هو موقف الإسلام من القومية والعربية؟ هل يوجب علينا الإسلام أن نتنكر لدعوة القومية، وأن نعلن الحرب عليها ونناوئ القائلين بها؟ وقبل الجواب أسأل سؤالاً آخر يتوقف عليه الجواب على السؤال الأول: ما هي القومية؟ الذي أفهمه أنا أن للقومية دعائم ثلاثاً: اللغة، والتاريخ، والعادات. وهذه الثلاث هي الروابط التي تربط أبناء القومية، لا أعني العربية وحدها بل كل قومية في الدنيا. فاللغة هنا هي العربية، وهي لغة القرآن، لا يختلف اثنان من العرب بأن القرآن هو أبلغ نص فيها وأسماه، وأنه عماد هذه اللغة، وأنه هو الذي حفظ لها كيانها وأقام قواعدها، أي نحوها وصرفها، وأنه من أجل إثبات إعجازه نشأت علوم البلاغة فيها، وأن العربي اليوم بفضل القرآن يفهم أشعار الجاهلية التي قيلت من خمسة عشر قرناً، مع أن الإنكليزي اليوم لا يستطيع أن يفهم

أشعار شعراء الإنكليز قبل خمسة قرون والفرنسي اليوم لا يستطيع أن يفهم أشعار شعراء الفرنسيين قبل خمسة قرون؛ تبدلت قواعد الإنكليزية والفرنسية في هذه القرون الخمسة وبقيت قواعد اللغة العربية كما كانت منذ أنزل الله القرآن، والسبب في بقائها هو القرآن. فإذا كانت العربية هي الدعامة الكبرى في بناء القومية العربية، فالإسلام يدعو إلى حفظها وإتقانها. ونحن -دعاةَ الإسلام- لا نزال أعلمَ بالعربية وأعرف بعلومها، ولا نزال نحن المرجع فيها، ولم يظهر إلى الآن من دعاة القومية من يُعَدّ مرجعاً في اللغة وعلومها، بل إن جلّهم (إن لم نقل كلهم) يلحن في عشرة أسطر يتلوها أو عشر جُمَل يلقيها، فكيف يحمل لواء الدعوة إلى القومية من لا يعرف لغة أهلها؟ والدعامة الثانية (وهي التاريخ): نحن، لا هم، حرّاسها وحُماتها. إن التاريخ العربي هو التاريخ الإسلامي، تاريخ انتشار هذه الدعوة، تاريخ هذه الفتوح، تاريخ الحضارة التي أقامها الإسلام ... وهذا التاريخ لا يعرفه إلا من عرف علم الرجال وميّز بين الروايات والأسانيد، ولا يعرف هذا إلا المشتغلون بالحديث وعلومه، وأعني بذلك رجال الدعوة الإسلامية. وقد يحمل القوميون الشهادات الجامعية في الاختصاص بالتاريخ ويكونون هم مدرّسيه في الجامعات بحكم هذه الشهادات، ولكن بضاعتهم كلَّها هي ما تلقّوه عن المستشرقين وما قرؤوه في كتبهم التي لا يخلو كتاب منها من الدس ومن الجهل.

فالتاريخ العربي (أو الإسلامي)، وهو الدعامة الثانية من دعائم القومية، نحن علماؤه ونحن لا نزال المرجع فيه. والدعامة الثالثة هي العادات العربية، من الكرم والشجاعة والغيرة على الأعراض وصدق المواعيد وحفظ الجوار، وأمثال ذلك، وهذه كلها نحن أربابها ونحن المتَّصفون بها، لأن ديننا يأمرنا بها ولأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم إنما بُعث ليُتمّم مكارم الأخلاق. فنحن إذن لا نهدم دعائم القومية الثلاث: اللغة والتاريخ والعادات، بل نحن نبنيها ونحميها، ولا نعارض الداعين إلى بنائها وحفظها. إنما نعارض الذين يريدون أن يجعلوا من القومية ديناً يستبدلونه بدين الإسلام، وأن يجعلوا من أخوّة العروبة بديلاً من أخوّة الإيمان، وأن يفرقوا الأمة الواحدة، أمة محمد، فيجعلوها أمماً ويقطّعوا روابط الأخوّة بينها، وأن يعيدوا لنا عهد الجاهلية وعصبيتها بعد أن بعث الله فينا نبياً وأنزل فينا كتاباً، وأنار لنا الطريق الذي كان مظلماً، فرآه أجدادنا فسلكوه فأوصلهم إلى مجد الدنيا ونعيم الآخرة. هذا الذي ننكره أشد الإنكار ونأباه أشد الإباء، أما الحفاظ على لغة العرب وتاريخ العرب وسلائق العرب، فهذه كلها نحن أحق بها ونحن أهلها. * * * وعجبي والله ممّن يعتزي إلى العربية ويعتز بها: كيف لا يتمسك بالإسلام ويعض عليه بالنواجذ، ويراه له أول المفاخر

إذا عُقدت الخناصر؟ وعجبي ممّن يدعو بدعوة الإسلام، ثم يرى كأن من شرط صحة الدعوة أن يسب العرب ويذم العربية، وكأن العربية والإسلام ضدان لا يجتمعان ولا يوجد أحدهما إلا بفَقد الآخر! مع أن الله، والله أعلم حيث يضع رسالته، اختار لخاتمة الرسالات رجلاً من العرب، وأنزل عليه الكتاب بلسان العرب، وجعل حمل الرسالة ونشرها للعرب؛ هم الذين تلقوها وهم الذين نقلوها، وهم الذين جعلوا بذورها في الأرض جماجم شهدائهم وماءها الذي سُقِيَت به دماء أبطالهم، فأنبتت هذه البذور حضارة خيّرة ماجدة تفيّأ أهلُ الأرض كلهم ظلالَها وطعموا من ثمراتها. ولكن الإسلام لم يكن بالعرب، بل العرب كانوا بالإسلام؛ الإسلام هو الذي جاء إلى هذا المعدن الخام الكامن في نفوسهم، الذي لا يدري به الناس ولا يدرون به هم أنفسهم، فاستخرجه وصفّاه وصنع منه هذه الروائع التي عَزَّت عن الشبيه واستعصت على التقليد. لقد وُلد العرب في التاريخ يوم ولد محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يصدّق فليتصور كيف يكون تاريخ العرب لولا محمد صلى الله عليه وسلم؟ وماذا كان يبقى لهم لولا الحضارة التي أقامها أتباع محمد من العرب؟ إنه لن يبقى لهم إلا السقاية والرفادة والمعلَّقات السبع، وقصر غمدان في اليمن والخورنق في الحيرة ... وهذا كل شيء! أما حضارة دمشق وبغداد والقاهرة فهذه كلها إنما صنعها الإسلام، وهؤلاء القوّاد الأمجاد الذين ربحوا للعرب عشرة آلاف معركة، الذي أخرجهم وحقق لهم هذه الانتصارات هو الإسلام.

وهؤلاء العلماء وهؤلاء الفلاسفة الذين كانوا أساتذة الدنيا، وكانت كتبهم هي الغذاء العقلي لأدمغة طلاب أوربا في جامعاتها إلى ما قبل أربعة قرون فقط ... هذا كله أثر من آثار الإسلام. إن العرب مَدينون بوجودهم الحضاري وبمنزلتهم في التاريخ للإسلام. فالعربية والإسلام أخَوان لا ضدان ولا نقيضان. إن بينهما ما يسمى عند أهل المنطق «عموماً وخصوصاً من وجه»؛ إنهما دائرتان متداخلتان، دائرة صغيرة هي العربية وكبيرة هي الإسلام، يكون منهما ثلاثة أقسام: عربي مسلم، وهذا ليس فيه كلام، فنحن عرب ونحن مسلمون، ونحن نعتز بقرآننا العربي ونعتز بعربيتنا المسلمة. ومسلم غير عربي، وهو أخونا، نحن منه وهو منا، دينه ديننا وكتابه كتابنا وقبلته قبلتنا، لا فرق بينه وبيننا ولا فضل لنا عليه ولا له علينا. وفيهما عربي غير مسلم. إن كان في ذمتنا وكان ساكناً معنا كان له ما لنا وعليه ما علينا، ولكن لا نقدمه على ذاك الذي هو أخونا، ولا نجعل رابطة الدم واللسان كرابطة الدين، ولا نجعل من يشرك بالله أو يجعل له ولداً أو يجحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كمن يقول معنا «لا إله إلا الله، محمد رسول الله». هذا هو ديننا، لا نستطيع أن نكتم حقائقه أو نبدل أركانه، بل نعلنه على رؤوس الأشهاد ومن ذُرَى المآذن، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. * * *

فضل الإسلام على العربية

فضل الإسلام على العربية حديث أذيع سنة 1973 فكرت اليوم في العروبة التي جعلوا الدعوة إليها شعارهم، واتخذوها لهم ديناً بدلاً من دينهم، ماذا كانت لولا الإسلام؟ هذه أشعار الجاهلية، وهذا ما رُوي من كلام كُلَمائها وبُلَغائها وما نُقل من أحداثها وأخبارها، هل فيها كلها مَنْ ذَكَر العربية أو فخر بالعرب من حيث هم عرب؟ كل فخر الجاهلية فخر بالقبيلة؛ هذا يفخر بتَغْلِب وهذا ببكر وهذا بعَبْس وهذا بذبيان (¬1)، أما الفخر بالعرب والعروبة فلم يرد لهم على لسان، ولم تذكر العروبة إلا بعد الإسلام. هذه واحدة. والثانية: أن العربية كانت لهجات ولغات مختلفات، ما وحّدها وجعلها لغة واحدة وقَعَّد لها القواعد ووضع لها النحو والصرف وجمع مفرداتها في المعاجم إلا الإسلام. والثالثة: أن العربية كانت لغة حياة بدوية أو نصف حضرية، مقاصدها محدودة وروائعها الأدبية معدودة، ما جعلها لغة ¬

_ (¬1) تلفظ بضمّ الذال وكسرها، كلا الوجهين صحيح (مجاهد).

الحضارة والعلم وجعل لها هذه الروائع التي لا تُحصى في النثر وفي الشعر وفي العاطفة وفي الفكر، وجعل لها هذه المئات من ألوف الكتب، إلا الإسلام. والرابعة: أن العربية كانت محصورة في هذه الجزيرة، لا يكاد ينطق بها وراء حدودها إلا هذه البقاع المجاورة لها من الشام وأطراف العراق، وما مكّن لها حتى جعلها يوماً لسان هذه البلاد الشاسعة الواسعة التي تمتد من جنوبي فرنسا إلى غربي الصين، وجعلها -بعدُ- لغة الثقافة ولغة السياسة في الهند وماليزيا وجاوة وتلك البلاد، ونشرها في روسيا حين كانت تقوم حكومة البلغار المسلمة حتى نهر الفولغا عند مدينة ستالينغراد ... ما فعل ذلك كله إلا الإسلام. * * * الإسلام هو الذي أسدى إلى اللغة العربية هذه الأيادي كلها، وهو الذي أفضل عليها، وهو الذي سخّر الأعاجم حتى درسوها وأتقنوها وصاروا هم علماءها الذين يعلّمونها أبناءها، من أمثال سيبويه والزَّمَخْشري والعشرات من أئمة النحو والصرف، وصاروا هم شعراءها وأدباءها، من أمثال بشّار وأبي نُواس وابن الرومي وابن المقفَّع والجاحظ، والعشرات من عباقرة الشعر وأئمة البيان. انظروا نظرة في مصوَّر فارس والأفغان وتركستان (¬1)، ¬

_ (¬1) أي خريطة هذه البلاد (مجاهد).

وفكروا: هل ترون مدينة فيها لم يُخرج منها الإسلام إماماً من الأئمة ألّف بالعربية أجلّ الكتب في الدين واللغة والأدب؟ وحسبكم البخاري، وأين أنتم من بُخارى؟ والنَّسائي والنيسابوري والقزويني والشّاشي (¬1) والتّبريزي والرّازي (¬2) والطّبري (¬3) والأصفهاني ... وعشرات من هذه الأسماء، حتى إنكم لا تجدون في هذه البلاد المترامية الأطراف مدينة لم يُخرج منها الإسلام عالماً خدم العربية. ومثل ذلك في بلاد المغرب، وحسبكم بالقرطبي والداني والجبّاني والصقلّي والشاطبي. ولا يزال الإسلام يمتد على رغم قلة الدعاة وتخلف الزمان، وكلما بلغ في امتداده قطراً جديداً حمل معه إليه العربية، يتعلمها كل مسلم ليناجي بها ربه ويقرأ بها في صلاته. فإذا كان أصحاب الدعوة العربية صادقين في حب العربية راغبين في نشرها، فعليهم بالرجوع إلى الإسلام ودعوة الإسلام، لأن العربية لم تنتشر في الماضي، ولن تنتشر في المستقبل، إلا بدعوة الإسلام. * * * ¬

_ (¬1) مدينة الشّاش هي طاشْقَند. (¬2) نسبة إلى الريّ، وهي إلى جنب طهران. (¬3) نسبة إلى طبرستان.

القومية والإسلام

القومية والإسلام كتبت سنة 1987 ولم تُنشَر (¬1) في هذه الجريدة، عدد 23 كانون الأول (ديسمبر) 1987، مقالة عنوانها «كتاب مفتوح إلى الأخ هشام علي حافظ» بقلم نصري سلهب. قرأتها فوجدت أن الرسالة لم توجَّه إليّ ليُطلَب مني الجواب عليها، وليس في المكتوبة إليه ضعف لأسنده أو عجز عن الرد لأرشده، وقلت: أجوز بها لا أقف عليها. وكدت أمضي في طريقي، لولا أنّي وجدت في الرسالة ما يجاوز الرسائل الإخوانية إلى أمور هي من الدين مالَ فيها الكاتب عن سبيل الصواب، ولا بدّ لها ممّن يقوِّم مَيْلها ويصحح خطأها، ¬

_ (¬1) أرسل علي الطنطاوي هذه المقالة إلى جريدة «الشرق الأوسط» لتُنشَر في سلسلة «صور وخواطر»، التي بدأ بنشرها بعدما فرغ من نشر ذكرياته فيها أواخر تلك السنة، وهي الحلقة الثانية عشرة في هذه السلسلة الجديدة. وكأنه قد توجس أن تستثقل الجريدة نشرها كما كتبها فتهذّب شيئاً من ألفاظها أو تحذف بعضاً من كلماتها، فكتب في أعلاها بخط يده: "لا يُبدَّل فيها حرف واحد إلا بموافقتي". لكن الجريدة اعتذرت عن نشرها فلم تُنشَر قط، فهذه أول مرة يطّلع عليها الناس (مجاهد).

لأن الله أخذ على مَنْ عَلِمَ الحق أن يبيّنه للناس وأن لا يكتمه، وإن كتمه كان شيطاناً أخرس. وأنا لا أحب أن أكون شيطاناً مُبيناً ناطقاً بأفصح لسان، فهل أكون شيطاناً وأكون أخرس؟ ثم إنني لا أعرض للكاتب بمدح ولا قدح، وما لي في شخصه أرب، وإنما أصحح فكرة يوجب ديني عليّ تصحيحها. في هذه المقالة إثارة للغبار في ميدان طالما نزلت إليه وصُلْتُ فيه منذ ظهرت فينا بدعة القومية، وكنا لا نعرف قبلها إلا رابطة الإسلام، وكان عندنا مدرّسون من العرب ومن الترك ومن الأكراد ومن الشركس، فكنا لا نفرق بين أحد منهم وكنا نجلّهم جميعاً ونحبهم. كنا أمة واحدة هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، التي كانت (ولا تزال وستبقى) فيها من كل جنس وكل لون، لأن محمداً عليه الصلاة والسلام لم يُبعَث إلى العرب وحدهم بل إلى كل أبيض وأسود، بُعث إلى الناس كافة، فالناس في الإسلام سواء، من آمن منهم بالله وبالقرآن. * * * قال صاحب الكتاب المفتوح إن أميراً عربياً سأل الأستاذ أمين الريحاني عن دينه: هل هو نصراني أم هو مسلم؟ فقال له: يا طويل العمر، أنا عربي. وحَسِب الكاتب أن هذه الكلمة كانت فصل الخطاب وكان فيها الجواب كل الجواب. يقول إنه عربي، فما معنى أنه عربي؟ ومن هو العربي؟ نحن عندما نذكر المسلم نستطيع -على أهون سبيل- أن نجد له تعريفاً يجمع الأفراد

ويُخرج الأضداد. فمن هو العربي؟ إن دعاة القومية لم يتفقوا إلى الآن على جواب هذا السؤال (¬1). هل العربي عربي النسب؟ وأين إذن سلسلة نسب الريحاني إلى العرب؟ ومن أي القبائل العربية هو؟ بل مَن منّا -نحن عرب الأمصار في مصر والشام وأكثر البلدان- يستطيع أن يعدّ من أجداده إلى أبعد من الجد الرابع أو الخامس؟ وإذا أخذنا هذا المقياس ألا نُخرج طائفة من أعلام العربية في الأدب وفي التاريخ من عروبتهم؟ ألا يكون بشّار شاعراً فارسياً، وابن الرومي يونانياً؟ بل لو أخذ الفرنسيون بهذا المقياس ألا يجدون أن جان جاك روسو سويسري؟ ولو قبله الإنكليز ألا يرون أن ملوكهم ألمان جرمانيون ليسوا أصلاً من الإنكليز؟ قد تقولون إن هذه عرقية (راسيزم) لا قومية، فمَن هو العربي في شرع القومية؟ إن قلتم إنه الذي يتكلم العربية ويعرف تاريخها وعاداتها، عددت لكم من غير العرب من يجمع هذا كله وهو فرنسي أو إنكليزي، كالمستشرق كرينكو مثلاً، أو لورنس أو غلوب. فيقولون: لا بد أن يشعر بشعور العرب، فنقول: إن المقاييس الاجتماعية والشروط القانونية لا تعتمد على الخفايا وعلى ما يُكِنّ الضمير، بل على حدود ظاهرة، فمن أين نعرف ما يشعر به المرء وما يضمره في نفسه إن لم ينطق به بلسانه أو يكشفه بعمله؟ * * * ¬

_ (¬1) انظر مقالة «من هو العربي؟»، وهي في كتاب «فصول في الثقافة والأدب» الذي صدر من وقت قريب (مجاهد).

إن الدين عقيدة ومنهاج، والعروبة جنسية؛ فقد يكون المرء عربياً وهو مسلم، أو عربياً وهو كافر، وقد يكون المسلم عربياً أو يكون تركياً أو فارسياً. فالريحاني -بهذا الجواب- كطالب الجامعة، يُسأَل عن الكلية التي يدرس فيها فيجيب أن طوله 170 معشاراً (¬1)! ما شأن طولك وأنت تُسأَل عن كليتك؟ فإذا كنت عربياً فلا فضل لك في ذلك، وما أنت صنعته ولا تُسأَل عنه، إنما تُسأَل عن دينك الذي اتّبعتَه لأن في استطاعتك تبديله، ولا تستطيع تبديل أصلك الذي انبثقت منه. أو هل يظن صاحب الكتاب المفتوح أن الأمر بأيدينا وأننا نملك الحكم فيه؟ إنه أمر قضى فيه الشرع، وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم. وقد قال صاحب الكتاب المفتوح إن على كل واحد أن يحافظ على دينه، وهذه مسألة من ديننا. إن للناس آراء شتى في الرِّباط الذي يربط الأفراد حتى تكون منهم أمة، منهم من يجعله اللغة، ومنهم من يجعله النَّسَب، وذهب رينان (في محاضرته التي ألقاها في السوربون سنة 1882) إلى أن هذه الرابطة هي «الإرادة المشتركة»، فكل مجموعة من الأفراد يربطها بالماضي شعور واحد ولها في المستقبل أمل واحد، وتكون إرادتها واحدة في العيش للجميع، يكون منها أمة. هذه آراء الناس، ولكن القرآن الذي أنزله الله على محمد ¬

_ (¬1) المِعشار هو السنتيمتر.

عليه الصلاة والسلام، والذي لم يجرؤ أحدٌ من ألدّ الأعداء على القول بأنه حُرِّف أو صُحِّف كما حُرِّفت الكتب من قبله (اللهمّ إلا جماعة الخميني، وما الخميني وجماعته من أمة القرآن!)، هذا القرآن قرّر فيه الله أن هذا الرباط هو الإيمان، هو العقيدة، لا رباط الدم ولا اللسان ولا الإرادة المشتركة ... فمَن كان من المسلمين كان منا، من أمتنا، ومن لم يكن منهم فليس منا. {إنَّمَا المُؤْمِنونَ إخْوَة}، ما قال «إنما العرب» ولا الفرس ولا الترك. فلفظ «إنما» -عند من يعرف لسان العرب- يفيد الحَصْر والقَصْر، فالأُخُوّة أخوّة الإيمان. إنه نص قرآني، فمن عدل عنه أو بدّله خالف القرآن، ومن خالف القرآن لم يكن مسلماً. أفيغني المرءَ -بعد هذا- أنه عربي عن أن يعرّف بدينه، وعن أن يكون على دين الحق؟ إن الدين عند الله الإسلام. أوَكل عربي هو منا؟ أهو أعرق في العروبة ممّن كان منها في الذروة وفي السنام، من أبي لهب القُرَشي الهاشمي عم النبي؟ إننا نتبرأ منه ونسبّه في صلاتنا. أفنَسُبّ عمّ النبي ونخرجه من أمتنا، وندخل قسطنطين وميشيل والريحاني؟ لا، ولا كرامة! أفيريدون منا أن نخرج من ديننا لنجاملهم ونرضيهم، ثم لا يَرضون -بعدُ- عنا؟ {وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ اليَهودُ وَلا النّصَارى حتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم}. وأنا من مطلع شبابي، من يوم أكملت دراستي وشرعت أكتب وأخطب وأؤلف، أجادل في هذه القومية. كتبت في ذلك مئات، مئات حقاً، من المقالات، وخطبت مئات من

الخطب، ومَن قرأ ذكرياتي عرف كيف وقفت أنا واثنان من رفاقي المدرّسين في العراق، هما عبد المنعم خلاف المصري، رفيقي في دار العلوم في مصر سنة 1347هـ، وأحمد مظهر العظمة، الوزير السوري رحمه الله، وقفنا في وجه هذه الدعوة الجامحة التي تبنَّتْها وزارة المعارف في تلك الأيام، وكنا مدرّسين فيها تابعين لها، وكيف عاقبونا فنقلونا إلى شمالي العراق، إلى المناطق الكردية، أنا إلى كركوك وعبد المنعم إلى السليمانية وأحمد مظهر إلى أربيل، فاستقال عبد المنعم ورجع، وبقيت أنا شهوراً ثم رجعت، وانتظر أخونا أحمد حتى أعلنت الحرب العامة الثانية (¬1). وأنا لا أريد هنا العودة إلى هذا الجدال ولا لتكرار ما قلت وكتبت، فما كتبتُ مطبوع موجود وما قلته قد يذكره الذاكرون من الناس، ولكن أحب أن أقرر أن دعوتنا إلى التمسك بالإسلام ليست دعوة إلى التبرؤ من العربية. ولقد طالما ساءلت نفسي: ما علاقة العربية بالإسلام؟ قد تكون العلاقة بين شيئين أنهما متطابقان بحيث إذا ذُكر أحدهما ذكر كلاهما، كاللفظين المترادفين الدالَّين على معنى واحد. فهل العربية والإسلام متطابقان؟ هل كل عربي مسلم بالضرورة، وهل كل مسلم عربي بالضرورة؟ الجواب: لا. وقد تكون علاقة عموم وخصوص، كالذي بين لفظ النجدي ¬

_ (¬1) انظر خبر هذه الواقعة في الحلقة 111 من الذكريات، وهي في الجزء الرابع (مجاهد).

أو الحجازي ولفظ السعودي، بحيث يكون كل حجازي وكل نجدي سعودياً وليس كل سعودي نجدياً أو حجازياً. فهل بين العربية والإسلام عموم وخصوص؟ وقد تكون علاقة تضاد، فهل بينهما تضاد؟ المتضادّان لا يجتمعان ولكن قد ينعدمان، كالبياض والسواد، لا تجد ثوباً هو أبيض وأسود ولكن تجد أصفر، فلا هو أبيض ولا أسود. فهل العربية والإسلام من هذا الباب؟ هل بينهما تناقض فلا يجتمعان معاً، ولا ينعدمان معاً؟ كالوجود والعدم والموت والحياة، هل يمكن أن يكون في الدنيا شيء لا هو موجود ولا هو معدوم؟ فكيف إذن يكون شيئاً؟ الرابطة بين العروبة والإسلام ليست شيئاً مما سبق، فما هي هذه العلاقة؟ إنها التي يسميها أهل المنطق «عموم وخصوص من وجه». لتَضِحَ لكم هذه الرابطة ارسموا على صفحة أمامكم دائرتين متداخلتين، دائرة كبيرة ودائرة صغيرة، تجدوا أمامكم ثلاثة أقسام: قسم كله من الدائرة الكبيرة وليس فيه من الصغيرة شيء، وقسم كله من الدائرة الصغيرة ليس فيه من الكبيرة شيء، وقسم تلتقي فيه الدائرتان فهو من هذه ومن تلك. وهذا مثال العربي المسلم؛ فمن كان عربياً مسلماً لا صلة له بهذه المشكلة التي نتكلم عنها، لأنه إن دُعي باسم الإسلام كان من المدعوّين، وإن دُعي باسم العروبة كان من المدعوّين. ولكن الخلاف في القسمين الباقيين، في العربي غير المسلم، وفي المسلم غير العربي: أيّهما أقرب إلينا؟

أذكّركم أولاً أن الجواب ليس متروكاً لنا، لآرائنا وأهوائنا، بل هو شيء قرّره كتاب ربنا، فمَن عَدَل عنه أو عدَّل فيه خرج من الدين. الأخوّة في القرآن أخوّة الإيمان، ليس عندنا شيء اسمه أخوة العروبة كما كان يقول مذيع صوت العرب، لأن رابطة الإيمان أقوى عندنا من رابطة النسب والدم. وأنتم تعرفون أن الله وعد نوحاً أن ينجّي له أهله، فلما دعا ولده ليركب معه في سفينته مع القوم المؤمنين أبى وأعرض، وظن أنه يجد جبلاً يأوي إليه يعصمه من الماء، فلما كان من المُهلَكين قال نوح: {رَبِّ إنّ ابْنِي مِنْ أهْلي وإنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ}، فقال له الله رب العالمين: {يا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ، إنّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالح}. فهل تكون الرابطة بيننا وبين صاحب الكتاب المفتوح أقوى من رابطة الأخوّة والبُنُوّة بين نوح وولده؟ فإذا رفض الله هذه الرابطة وأباها على نوح، الأب الثاني للبشر، فهل يقرّنا عليها؟ * * * إن هذه ليست مناقشة في مذهب أدبي ولا في قضية اجتماعية، ولا هي رأي لنا نتبنّاه أو نتبرأ منه؛ إنها مسألة دين. ونحن نجامل نصارى العرب الذين لم يقاتلونا في ديننا ولم يُخرجونا من ديارنا ولم يُظاهروا علينا، ونبرّهم ونقسط إليهم، ولكننا لا نرضى أن نبذل في هذه المجاملة ذرة من ديننا أو من عقيدتنا، فنبوء بغضب الله وعذاب الدهر كله، وندخل جهنم إكراماً لخواطرهم وحباً بعيونهم ... لا والله، ولا كرامة! إن بذل الدنيا وما فيها من مال ومتاع يُعَدّ كرماً، ولكن بذل الدين حماقة

وجنون، ونحن لا نريد أن نكون حمقى ولا مغفلين. يقول صاحب الكتاب المفتوح: "إن قسمة العالم إلى مسيحيين ومسلمين لم تعد واردة -كما نعلم ذلك جيداً- لا في أوربا ولا في أميركا جميعها، شمالاً ووسطاً وجنوباً، ولا في الصين ولا في اليابان ولا حتى في الهند، إن هذه القسمة قد انقضت منذ زمن". أفادك الله يا صاحب الكتاب المفتوح، فقد أريتنا ما لم نكن نراه، دللتنا على أمر لا وجود له. فهل أنت جادّ فيما تقول؟ أم أنت تهزل في موضع الجِدّ؟ أم أنك تعيش في مثل جمهورية أفلاطون أو في المدينة الفاضلة للفارابي، بعيداً عن الدنيا وما فيها، تسامر أحلامك حتى تتصورها حقيقة واقعة، وما هي بالحقيقة ولا بالواقعة؟ ولمّا نَزلْنا منزلاً طَلَّهُ النَّدَى ... أَنيقاً وبُستاناً من النَّوْرِ حالِيَا أَجَدَّ لنا طِيبُ المكانِ وحُسْنُهُ ... مُنَىً، فتمنّينا فكنتَ الأَمانِيَا والأمانيّ لا تلد وحدها واقعاً: {لَيسَ بِأمَانِيِّكُمْ وَلا أمَانِيِّ أهْلِ الكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه}. لقد ذكّرني هذا القول بقصة كنا نقرؤها في كتاب المطالعة في المدرسة الابتدائية قبل سبعين سنة، هي أن صياداً كان يصيد العصافير في يوم بارد ويبكي من شدة البرد، فقال عصفور لصاحبه: ألا ترى رقّة قلبه وسَيَلان دمعه؟ فقال له صاحبه: ويحك، لا تنظر إلى الدمع في عينيه، بل انظر ما تصنع يداه. كيف بَطَلَ تقسيم الناس إلى مسلمين ونصارى؟ خبّروني إن

كنتم تعلمون. هل أسلم النصارى جميعاً فلم يبقَ منهم أحد، أم كفر المسلمون جميعاً وصاروا نصارى؟ فكيف بطل هذا التقسيم وهو قائم مشاهَد موجود؟ أهذا كلام؟ وأنبّه إلى أنني لا أريد إثارة النزاع بين المسلمين والنصارى ولا أنا الذي بدأ الكلام فيه، وما أكتب الآن إلا جواباً على كتاب، ما أرسله صاحبه بالبريد مغلقاً بل نشره في الجريدة الكبرى مفتوحاً، ولا بد للكتاب المفتوح من جواب مفتوح. يقول إنها لم تعد هناك حروب بين النصرانية والإسلام. فما الذي يقع إذن في لبنان؟ هل المسلمون هم الذين أعلنوا هذه الحرب وحشدوا لها، وأعدوا لها هذا السلاح كله، ومزّقوا حكومتهم من أجلها؟ وهل المسلمون هم الذين جعلوا البلد بلدين والعرب عربَين، فكانت بيروت الشرقية بلداً والغربية بلداً، وبينهما برزخ لا يبغيان؟ إن المسلمين، أي الذين هم على مذهب أهل السنة والجماعة، على سنن رسول الله عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام لا على مذهب الخميني وابن سبأ، هم وحدهم الذين لم يؤلّفوا شبه حكومة، ولا ساقوا جيشاً، ولا أعدّوا سلاحاً، ولا كانت لهم فرق من المليشيات. فكيف إذن انتهت الحروب؟ وهل الحرب هي التي فيها المدافع والبارود فقط؟ أليس من الحرب ما هو أشد من حرب الحديد والنار، ما هو حرب العقائد وحرب المبادئ؟ فإذا كانت هذه الحروب قد انتهت، فماذا يصنعون في أندونيسيا وفي إفريقيا؟ ما بال المنصّرين المكفّرين (الذين يدعونهم بالمبشرين)، ما بالهم يسهرون الليل ويصلونه بالنهار، يُعدّون العُدَد ويرسمون الخطط

وينفقون الأموال لإخراج أبناء المسلمين من دينهم؟ يقنعون بذلك بعد أن عجزوا عن إدخالهم في دينهم هم (¬1). * * * وبعد، فأعيد القول إني لا أريد التفريق بين الناس ولا أريد العدوان على أحد، ولكن ربنا علّمَنا فقال لنا: من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم. فأنا هنا إنما أردّ عدواناً وأصحح خطأ، وأعلن حقاً أبلج لا مرية فيه، وأنا أجامل النصارى من العرب ولا أسوؤهم ولا أعتدي عليهم، ولكنني لا أبذل لهم ذرة من ديني لأن ديني أغلى عندي من الدنيا ومن فيها. * * * ¬

_ (¬1) ثم شاء الله أن تتم فصول الرواية لتزول الغشاوة عن أعين ناس منا لم تقنعهم كلمات الشيخ هذه يومئذ، فانتزع الصليبيون جزءاً من أندونيسيا وجعلوه دولة نصرانية اسمها تيمور، وفي السودان يسعون سعياً حثيثاً إلى مثل ذلك في دارفور، وقد لا يصل هذا الكتاب إلى الناس (في طبعته الأولى هذه أو في طبعة لاحقة) إلا وقد تحقق لهم هذا الأمر لا قدّر الله. أما هذه الحرب في لبنان، التي دفع فيها المسلمون الثمن الأكبر، فلم تعد إلا نادرة تُروى في جنب الكارثة الكبرى التي نزلت بالمسلمين في البوسنة، بعدما نشر جدي رحمه الله مقالته هذه ببضع سنين، ورأينا فيها من الفظائع والأهوال ما جعل هولاكو في أعيننا من أرحم الرُّحَماء! ولم نكد ننسى ذلك كله أو نكاد حتى أعلن بوش حربه الصليبية الجديدة، وجيّش الجيوش من أمم العالَم النصراني كله لمحاربة المسلمين في العراق وفي أفغانستان. ثم ماذا بعد؟ الجواب في رَحِم الأيام، فانتظروا الجواب (مجاهد).

من آثار المؤلف 1 ـ أبو بكر الصديق 1935 2 ـ قصص من التاريخ 1957 3 ـ رجال من التاريخ 1958 4 ـ صور وخواطر 1958 5 ـ قصص من الحياة 1959 6 ـ في سبيل الإصلاح 1959 7 ـ دمشق 1959 8 ـ أخبار عمر 1959 9 ـ مقالات في كلمات 1959 10ـ من نفحات الحرم 1960 11ـ سلسلة حكايات من التاريخ (1 ـ 7) 1960 12ـ هتاف المجد 1960 13ـ من حديث النفس 1960 14ـ الجامع الأموي 1960 15ـ في أندونيسيا 1960 16ـ فصول إسلامية 1960 17ـ صيد الخاطر لابن الجوزي (تحقيق وتعليق) 1960 18ـ فِكَر ومباحث 1960

19ـ مع الناس 1960 20ـ بغداد: مشاهدات وذكريات 1960 21ـ سلسلة أعلام التاريخ (1ـ 5) 1960 22ـ تعريف عام بدين الإسلام 1970 23ـ فتاوى علي الطنطاوي 1985 24ـ ذكريات علي الطنطاوي (1ـ 8) 1985ـ 1989 25ـ مقالات في كلمات (الجزء الثاني) 2000 26ـ فتاوى علي الطنطاوي (الجزء الثاني) 2001 27ـ فصول اجتماعية 2002 28ـ سيّد رجال التاريخ (محمد صلى الله عليه وسلم) 2002 29ـ نور وهداية 2006 30ـ فصول في الثقافة والأدب 2007 31ـ فصول في الدعوة والإصلاح 2008 * * *

§1/1