فصول في الثقافة والأدب

علي الطنطاوي

علي الطنطاوي فصول في الثقافة والأدب جمع وترتيب حفيد المؤلف مجاهد مأمون ديرانية دار المنارة للنشر والتوزيع

حقوق الطبع محفوظة يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر الطبعة الأولى 2007 دار المنارة للنشر والتوزيع ص ب 1250 جدة 21431 المملكة العربية السعودية هاتف 6603652 فاكس 6603238 المستودع 6675864

مقدمة

مقدّمة كاد هذا الكتابُ يصل إلى أيدي القرّاء قبل اليوم بشهور، لولا أن الله أراد له التأخير، وفيما يقضي الله خير. وهذا ما حصل: قرأتم في مقدمة كتاب «نور وهداية» أني قد اشتغلت أسابيع في مراجعة أوراق جدي -رحمه الله- حتى اكتملَت بين يديّ مقالاتٌ وأحاديثُ كاملاتٌ أو شبهُ كاملات، ثم أنفقت أسابيع أُخَر في فرز تلك الأحاديث والمقالات. وقد اعتبرت ذلك العمل فرزاً نهائياً لكل ما كان بين يديّ من أوراق، وبفراغي منه صارت الخطة واضحة أخيراً؛ فقد جمعت المؤتلِفَ من الكتابات الكثيرة التي تراكمَت بين يدَيّ وضمَمتُ بعضَه إلى بعض، فتكوّنت منه أصولٌ متعدّدة لكتب من ذوات الموضوع الواحد، وبقي عليّ مراجعةُ هذه الأصول -بعد صَفّها- وتصحيحُها ودفعها إلى المطبعة. وكان من ثمرة هذا العمل كتاب «نور وهداية» الذي وفق الله إلى إصداره في العام الماضي، وكذلك كان منها هذا الكتاب، «فصول في الثقافة والأدب». غيرَ أني لمّا بدأت بتصحيح مادته وجدت نقصاً في أصول بعض المقالات، وقرأت إشارات -في سواها- إلى مقالات لم أجد لها أصولاً عندي، فعزمت عندئذ على حل هذه المعضلات جميعاً. وفكرت فاهتديت إلى حل؛

تذكرت أيامي الجميلة في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، وقد مضى عليها اليومَ ربعُ قرن أو يزيد، وكنت أُمضي في مكتبتها الساعات الطوال، ولطالما أمضيت فيها اليوم إلى آخره وسط الكتب والمراجع، حتى تغلق أبوابها ويضطروني إلى الانصراف. فذهبت إلى المكتبة المركزية في الجامعة، وعهدي بقسم الدوريات فيها أن فيه طائفة طيّبة من الدَّوْريات القديمة. وظهر أني كنت في ظني على صواب ووجدت فيها ما كنت أملت، فانتدبت نفسي لمراجعة هذا القسم، ودأبت على زيارة المكتبة في الأسبوع ثلاث مرات، أمضي فيها في كل مرة أربعَ ساعات أو خمساً، وصرّمت في ذلك أشهر الصيف، كلّها أو جلّها، وغربلت عشرات من المجلّدات، فظفرت بمقالات كثيرة لم تكن في يدي من قبل أصولٌ لها، وبذلك ازداد العمل الذي بدأت به اتساعاً واكتمالاً، وباتت «مشروعات» الكتب المُعَدَّة للنشر واضحةً خطّتُها مجتمِعةً مادّتُها. * * * أما هذا الكتاب ففيه تنوّعٌ في الموضوع وتنوّعٌ في الزمان؛ فقد صدرت المقالات التي تؤلفه في الثلاثينيّات والأربعينيّات والخمسينيّات، ومنها مقالات وأحاديث من الستينيّات والسبعينيّات، والأقل من مقالاته صدر في الثمانينيّات، في السنوات الأخيرة التي نشر فيها جدي -رحمه الله- سلسلة مقالات «صور وخواطر» في جريدة «الشرق الأوسط»، بعد الفراغ من نشر ذكرياته فيها. ومنها ما كان أحاديثَ عثرتُ على مُسوَّداتها، ومنها مقالات نُشِرت في صحف ومجلات قديمة متنوعة، وقليلٌ منها مخطوطات لم تُنشَر

من قبل ولا أذيعت قط. وهي تتنوع في موضوعاتها وتتباين، وفيها فوائد وفيها عِبَر، وفيها نثر وفيها شعر، وفيها جِدّ وفيها طرائف. وقد رتبتها في الكتاب في نسق، فجمعت ما تآلف منها معاً، وبدأت بالأخفّ منها وانتهيت بالأدسم. ولقد كان يمكن أن يصدر هذا الكتاب ويصدر معه الكتاب الآخر الذي أعلنت عنه في بعض حواشي «الذكريات» (في طبعتها الجديدة التي صدرت في السنة الماضية بفضل الله)، وهو كتاب «فصول في الدعوة والإصلاح»؛ فقد عزمت على إصدار الاثنين معاً وفرّغت لهما ما قدّرته لازماً من الوقت، لكن العمل في هذا الكتاب استطال حتى سطا على وقت الآخر، وعطّلني إصدارُ الطبعة الجديدة من كتاب «دمشق» أيضاً، فتأجل إصدار الكتاب الآخر إلى حين. وامتدّ عملي في هذا الكتاب لأن فيه نصوصاً كثيرة من النثر والشعر تحتاج إلى مراجعة وضبط، فجدّي رحمه الله لم يضبط بالشكل إلا أقل القليل من الكلمات في كل ما يكتب، وأنا أحرص -حين أُعِدّ كُتُبَه للنشر- على أن أضبط كل غريب من اللفظ، وكذلك أسماء الأعلام والأماكن، وأتكبّد في ذلك عناء غير قليل، لكني أحتسبُه لأن الظن يغلب عليّ (حتى يقارب اليقين) أن كثيرين يعجزون عن قراءة الكلمات الصعبة وأسماء الرجال المجهولين والأماكن غير المألوفة، إلا أنْ يُضبَط ذلك كله بالشَّكْل. رحم الله الشيخ، فقد كان يكتب لزمان غير هذا الزمان، أو أنه يظن أن عامة القرّاء (وأنا منهم) مثله في العلم فهم يستغنون عن التشكيل في أمثال هذه المواطن.

والشعر خاصة لا يَحسن نشره بغير تشكيل، فهو يفقد وزنه إذا اختلّت قراءته، والألفاظ الغريبة فيه أكثر منها في سواه من النصوص الأدبية. ومن أجل ذلك فقد أنفقت وقتاً طويلاً في مراجعة وضبط الشعر في هذا الكتاب، وهو غير قليل، واضطرني هذا إلى الغوص في الدواوين وكتب الأدب. ثم ألجأتني مباحثُ ومسائل أخرى إلى كتب التاريخ والأعلام وسواها، فما انتهيت من تصحيح الكتاب وإعداده للنشر إلا وقد مررت بعشرات من المجلدات في شتى العلوم والفنون. * * * وبعد، فالحمد لله الذي أمدَّني بالهمّة والوقت لإخراج هذا الكتاب، وجزى الله خيراً كلَّ من ألهمه الله فدعا لي بالبركة في وقتي فأعان على صدوره، وبارك الله في كل من يدعو بالأجر لزوج خالتي، نادر حتاحت، الذي ينشره اليوم، ولي لقاء عملي فيه وفي سواه، وقبل ذلك لجدّي الذي خَطّه أول مرة، رحمه الله وغفر له وأكرم مثواه. مجاهد مأمون ديرانية جدة: رمضان 1428

وقفة عند ريع اللصوص

وقفة عند رِيع اللصوص نشرت سنة 1986 عادتي حين أنزل بلداً لا أعرف فيه أحداً أن أركب الترام (إن كان فيه ترام) أو سيارة النقل الجماعي، فلا أنزل منها حتى ترجع بي إلى المكان الذي بدأت منه؛ فأرى البلد وأنا آمنٌ أن أضلّ الطريق أو أتعرض لمكروه. فلما وصلت مكة للإقامة فيها سنة 1384 ما كان فيها إلا سيارات الأجرة الصغيرة (التاكسي) و «خطوط البلدة»، وهي سيّارات ليست بالصغيرة ولا بالكبيرة، لا هي بالجيدة التي لا تُعاب ولا الرديئة التي لا تُركب، يدعونها «الأَنيسة». فأنِست باسمها لمّا سمعته، ومر على ذهني ما أحفظ من الشعر الذي فيه ذكر الأوانس، من آنسة عنترة بن معاوية بن شداد التي يقول عن دارها: دارٌ لآنِسةٍ غَضيضٍ طَرْفُها ... طَوْعِ العِناقِ لذيذةِ المُتَبَسَّمِ ولا أكتمكم طربي لكلمة «لذيذة»، فلو أنه قال «حلوة» أو قال «جميلة» لما بلغ عُشر ما تبلغ كلمة لذيذة. إنها تشعرك كأن ابتسامتها شيء يُذاق! ولكن لا تحسبوا أنها طَوع العناق لكل قادم عليها مائل إليها، إنها تكون إذن بغيّاً، وما كانت نساء العرب

بغايا، وإن دون الوصول إليهن وعناقهن شفرات السيوف وخوض الدم، ولكنها طوع العناق لزوجها. وذكرتُ آنسات البحتري عند بركة المتوكل: يا مَن رأى البِرْكَةَ الحَسناءَ رُؤيَتَها ... والآنِساتِ إذا لاحَتْ مَغانيها أنا رأيت بركة المتوكل ولكنها كانت جافة بلا ماء، وشاهدت آثار هذه المغاني ولكن خالية بلا آنسات، رأيتها بعدما أبلى الزمان جِدّتَها وأذهب بهجتها. هذه البركة -التي كنت أحسب البحتري مبالغاً في وصف سعتها- قسناها لمّا زرناها فوجدنا قطرها يزيد على ثلاثمئة خطوة، لذلك غارت دجلة منها: ما بالُ دِجْلَةَ (¬1) كَالغَيرى تُنافِسُها ... في الحُسنِ طَوْراً وأَطواراً تُباهيها؟ بيد أن البحتري ما قاسها بالخطى ولا الأمتار، تلك مقاييس جامدة يقيس بها أمثالنا، أما الشاعر فمقاييسه فيها حياة؛ إنه يقيس بالسّمَك: لا يبلغُ السّمَكُ المَحصورُ غايتَها ... لِبُعْدِ ما بينَ قاصيها ودانيها (¬2) * * * ¬

_ (¬1) يخطئ كثير من المذيعين والمتحدثين فيضمّون دال «دجلة»، والذي نص عليه صاحب القاموس المحيط أنها بالكسر أو بالفتح، كلاهما صحيح، واختار ياقوت الكسر، أما الضم فلا وجه له (مجاهد). (¬2) وصفها حين رآها فقال: "ثم انتهينا إلى البركة، ولست أكتم القراء أني كنت أظن أن البحتري يبالغ في وصفها على طريقة الشعراء الخياليين، وأقرر ذلك في دروسي الأدبية وأقول: ما عسى أن تبلغ=

أدَعُ «الأوانس» وأعود إلى «الأنيسة»، إلى السيارة التي ركبتها يومئذ فما أنست بها ولا استرحت إليها، فقد ضاق بي مقعدها حتى يبست رجلاي وتصلّب ظهري وآذى الازدحام جنبي، ولكن كيف الخروج منها؟ يقولون في مصر: «دخول الحمّام ليس كخروجه»! وهذه الأنيسة تشبه الحمّام في حَرّها، يغتسل فيها راكبها من غير أن ينزع ثيابه، لا يغتسل بالماء الذي يُصَبّ عليه بل بالعرق الذي ينصَبّ منه! وكانت تلك هي المرة الأولى التي أركبها فيها، وكانت هي المرة الأخيرة، فلم أعد بعد ذلك إليها. جعلت السيارة تدور بنا، وكلما بلغنا موقفاً سمّاه السائق لينزل فيه من يشاء النزول، فوقفنا في موقف فقال: «رِيع اللصوص». فتنبهت كأنْ قد قرصتني نحلة، وشككت في صحة سمعي، فأعاد القول: «ريع اللصوص»! فعجبت، لأن كلمة «الريع» معروفة وإن تركها الناس، فهي عربية قرآنية (1). ولكن ما بال اللصوص؟ وهل للّصوص حي ¬

_ = هذه البركة حتى تظل دجلة كالغَيْرى منها، وحتى إن السمك المحصور لا يبلغ غايتها لبعد ما بين قاصيها ودانيها؟ فلما رأيت أنقاضها رأيت شيئاً عظيماً، رأيت بحراً، رأيت ميدان سباق! دائرة قطرها نحو مئتي متر، فأكبرتها وهي جافة، فكيف لو رأيتها وهي ممتلئة بالماء؟ إذن لرأيت أكثر مما قال البحتري" (بغداد ص49) (مجاهد). (1) الآية 128 في سورة الشعراء: {أتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثون؟}. وللريع معان؛ منها الطريق، والصَّوْمعة، وما ارتفع من الأرض كالتلّ أو الجبل (مجاهد).

يجتمعون فيه؟ وتمنيت لو أن اللصوص والمفسدين في الأرض اجتمعوا في مكان محصور، إذن لهان الوصول إليهم وإصلاحهم أو القضاء عليهم. ولو اجتمع البعوض كله في موضع واحد لقُضي على البعوض، لأن نجاته في تفرّقه واختفائه، وأنه يضرب ويهرب ويضرّ ويفرّ فلا يوصَل إليه. وشرٌّ من الحشرات والبعوض وجراثيم الأمراض قومُ بيغن وشامير، واجتماعُهم في فلسطين من بشائر القضاء عليهم وأن نرى تأويل قوله تعالى فيهم (وقولُه الحق): {وَقَضَيْنا إلى بَني إسْرَائيلَ في الكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوَّاً كَبيراً. فإذا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنا أُولي بَاسٍ شَديدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيارِ، وكانَ وَعْداً مَفْعُولاً}. الأولى التي بعث الله عليهم عبادَه المؤمنين به المُخلصين له هي التي كانت على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام وصحابته، الذين جاسوا خلال الديار التي حسبوها يوماً ديارهم (في المدينة)، ثم أُجْلُوا عنها وعن جزيرة العرب فلن يعودوا بعون الله إليها. {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأمْدَدْناكُمْ بأَمْوالٍ وبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أكثَرَ نَفيراً}؛ وهذا ما نراه الآن، حين اجتمع في أيدي اليهود -على قلّتهم- أمضى السلاح، وناصرهم أقوى الدول، وجعلهم الله أكثر نَفيراً في الحرب. ولكن الله يمهّد بذلك للمسلمين -إن عادوا إلى دينهم- لِيَسوؤوا وجوههم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة.

وسنرى تأويل (¬1) هذا عياناً ونرى تحقيق ما خبّر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، حتى يختبئ اليهودي من وراء الشجر والحجر، فيقول الشجر والحجر: يا مسلم، هذا يهودي خلفي فاقتله» (¬2)؛ أي أننا سنقف أمامهم في المعركة التي يكون الظفر فيها لنا عليهم، فكيف نظفر بهم وهم متفرقون في البلدان مندَسّون بين الشعوب؟ وهل يكون القتال إلا بين جماعتين ظاهرتين؟ فاجتماعهم في فلسطين وقيام دولتهم فيها تصديق لوعد الله ورسوله لنا. ولا تعجبوا من نطق الشجر والحجر. ألم يعلّمنا الله كيف نُنطق الأسطوانةَ وشريطَ التسجيل والرائي (التلفزيون)؟ ألم يُنطق لنا الجمادَ؟ فلماذا تعجبون ولا تكادون تصدّقون إن سمعتم أن الشجر والحجر ينطقان؟ ¬

_ (¬1) آل الماءُ من البرد إلى جليد أي صار، وأوَّلَه أي صيّره. والتأويل يجيء بمعنيَين: تأويل الحال وتأويل المقال، والأول هو ما جاء في القرآن: {يَوْمَ يأتي تَأويلُه}، أي تصير حاله إلى ما خبّر به الله. أما تأويل المقال فهو حرف معنى اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر، وهذا الذي يتكلم عنه العلماء عند البحث في آيات الصفات. (¬2) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله» أخرجه البخاري (واللفظ له) ومسلم والترمذي وأحمد، وفي لفظ لمسلم: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغَرْقَد فإنه من شجر اليهود» (مجاهد).

وهذا وعد من الله لنا إن عدنا إلى ديننا وجعلنا معركة فلسطين معركة إسلامية، لا معركة استرداد الأرض فقط، فكل شعب تُسلَب أرضُه يحارب لاسترداد أرضه، ولا معركة قومية عربية، لأن لغيرنا قوميات، فإن اعتمدنا على القومية وحدها صرنا نحن وهم سواء ووكلَنا الله -كما وَكَلَهم- إلى أنفسنا، وإن تخلى الله عنا ووكلَنا إلى أنفسنا ضعنا. إن معهم وعد بلفور، وهذا وعد من ربّ بلفور الذي خلقهم وخلق بلفور. وسيقفون بين يدي رب العالمين يوم لا ينفع المال ولا السلاح، يوم تبرز الجحيم لمن يرى، فمَن ينقذهم يومئذ منها؟ هذا، ولا تقولوا لي: قد خرجتَ عن الموضوع؛ فإن موضوعي اليوم هو الكلام عن اللصوص، أثاره في نفسي وقوفي في المكان الذي كان يُسمّى يومئذ «ريع اللصوص». وأكبر لصوص العصر وأعظمهم جرماً وأشدهم إثماً اليهود الذين هم اليوم في فلسطين. وإذا كان من يسرق متاعاً من الدار يكون من المجرمين الفجّار، فكيف بمَن يسرق الدار كلها؟ وكيف بالذي يعينه على جريمته ويكون معه على صاحب البيت؟ ألا يكون مجرماً مثله؟ فكيف بمن يسرق قطراً كاملاً، يأخذه من أهله، يحتله بسلاح البغي والعدوان، ثم إذا قام مِن أصحابه مَن يطالب بحقه فيه أحالوه إلى المحكمة بتهمة مقاومة الاحتلال؟ أرأيتم أجرأ على الحق من هذا؟ أرأيتم من هو أصفق وجهاً وأوقح نفساً من اللص الذي ينكر عليك أن تطالب بحقك؟

وإذا جاء مَن يزعج المحتل بكى وشكا وقال إنه يريد أن يكون آمناً، وهذا يُذهب أمنه ويفسد عليه حياته! * * * ولو أنني حصرت ذهني لجمعت مما عرفت من أخبار اللصوص كتاباً صغيراً، ولو أن أحد المؤلفين يضع كتاباً في طبقاتهم وأخبارهم لجاء منه أثر أدبي تاريخي. ولا تعجبوا، فإن أجدادنا ألّفوا في سِيَر العلماء والدعاة والمصلحين والعقلاء والمجانين واللصوص والمجرمين، ونحن نزعم أننا نعيش في عصر النور فلا نفعل عُشر ما فعلوا. ولعل أدنى طبقاتهم وأيسرَها (لو أن في السرقة يسيراً!) هو الذي يسرق عن حاجة، يسرق ليعيش. وشرٌّ منه الذي يسرق طمعاً واستكثاراً من المال بالحرام، والذي يسرق متستّراً بجاهه أو منزلته أو ثقة الناس به، والمحتال والمزوّر، والذي يأكل مال الأرملة واليتيم وينسى أن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً. والذي يستهين بسرقة أموال الدولة، ابتداء من صحيفة الورق الصقيل يكتب في وسطها رقم هاتف أو عنوان صديق، ومن استعمال سيارة الدولة في خاصة شأنه وشأن أسرته، وانتهاء بالذي يسرق أموال المناقصات والتعهدات. وهذا كله من «الغُلول» الذي توعّد الله فاعلَه وقال عنه: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأتِ بِما غَلَّ يَومَ القِيامَة}، فمن أين له يوم القيامة مثل ما غلّه وسرقه ليأتي به؟ والذي يسرق وقت العمل؛ يكلَّف بأن يجيء الساعة الثامنة فيجيء التاسعة، وأن يخرج في الثانية فيخرج في الواحدة،

ويمضي باسمه على دفتر الدوام ثم ينسلّ فيغيب ساعة أو بعض ساعة. والذي يسرق أوقات المراجعين وكرامتهم، فتكون القضية محتاجة إلى خمس دقائق فيقول لصاحبها تعال غداً، يحسب أنه إن قعد وراء المكتب والمراجِع واقف أمامه أن ذلك سيدوم له، ثم يدّعي أنه مؤمن، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه». والتلميذ الذي يسرق الجواب في الامتحان. إنه حين يسرق بعينه من ورقة جاره أكبرُ ذنباً من الذي يسرق بيده من جيبه (¬1)، لأن سرقة المال يزول أثرها بردّ المال، ومن سرق الجواب ونال الدرجة زوراً، ثم أخذ بعدها الشهادة زوراً، ثم نال المنصب زوراً، يستمر أثر جريمته دهراً، وربما صار بشهادته معلّماً وهو غير عالم، فنشأ على يديه الآثمتين جماعة من الجهلاء، فيكون كحامل جرثومة المرض يعدي من يتصل به، ومَن أعداه ذهب فأعدى سواه، فسرى المرض في جسد الأمة. أما السرقات الأدبية فلها حديث قديم جداً طويل جداً، كتبت فيه في غير هذا الموضع، وقد ظهر الآن لون منها ما عرفه الأوّلون هو سرقة المطبوعات. وقد تجرّعت منه المُرَّ وذقت منه الصَّابَ والعلقم. آخُذُ كتابي المطبوع بإذني وعلمي والكتابَ المسروق، فلا أميّز أنا واحداً من واحد، لأن الورق هو الورق والحرف هو الحرف والحبر هو الحبر! لكني إن لم أستطع أن أميز فإن في الوجود من يميز الصالح من الفاسد ومن يكافئ على ¬

_ (¬1) الجيب في اللغة فتحة القميص، ولكنا استعملناها هنا على ما يفهمه الناس.

الحسن ويعاقب على السيئ، هو الله الذي سيقف بين يديه الظالم والمظلوم. وربما أحسن إليّ هذا الذي سرق كتبي، لأنني آخذ منه حقي يوم يُلغى التعامل بالريال وبالدولار وبالينّ وبالمارك، ولا يبقى إلا التعامل بالحسنات، فمن كان له حق أخذ من حسنات مَن عليه الحق أو ألقى عليه من سيئاته. ومن السرقات ما لا يعوَّض. كان في متحف دمشق مجموعة من الدنانير الأموية بقيت بعد هذا الزمان الطويل وقلّ أمثالها، سرقها مرة لصٌّ فأذابها وجعلها سبيكة فأضاع قيمتها التاريخية وإن حفظ كتلتها الذهبية؛ كالذي سرق دفتري في رحلة الحجاز، وقد حدّثتكم خبره (¬1)، ودفتراً آخر ضخماً كتبت فيه بخطّي مباحث علم النفس والفلسفة لمّا كنا ندرسها سنة 1929 (1348هـ)، وكان عزيزاً عليّ لأن فيه فصلاً من تاريخ حياتي ولأن فيه قطعة من نفسي، لست أدري من سرقه من بيتي. وما سرقه لص محترف تسلق الجدار أو كسر الأقفال، ولكن سرقه واحد ممّن أدخلته أنا داري لا يعلم إلا الله وحده من هو. ¬

_ (¬1) في «الذكريات»؛ خبّرنا كيف اتخذ من أول الرحلة دفتراً يصف فيه ما يراه ويفصّل فيه أخبار الرحلة، ثم قال: "حتى إذا دنونا من المدينة وأوفى الكتاب على التمام وقاربَت الرحلة الغاية، امتدّت يدٌ لم أعرف صاحبها (الله وحده يعرفه) فذهبَت بالدفتر. ولا تزال لوعة فقده في قلبي إلى اليوم، ولو فقدت مالي لكان أهون عليّ لأن المال يُعوَّض، والريالات والليرات والدولارات تختلف مقاديرها عدداً ولكن تتفق أفرادها شكلاً، كالكتاب المطبوع يضيع منك فتشتري غيره. أما ذلك الدفتر فمن أين آتي بمثله؟ "، انظر «الذكريات» 3/ 29 من الطبعة الجديدة (مجاهد).

ومن اللصوص الذين يستعيرون الكتب ولا يردّونها، لذلك قررت قراراً لا رجعة فيه أن لا أعير أحداً كتاباً مهما كان السبب: ألا يا مُستعيرَ الكُتْبِ دَعْني ... فإنّ إعارَتي للكُتْبِ عارُ فمَحبوبي من الدُّنيا كتابي ... وهل أبصرتَ مَحبوباً يُعارُ؟ ومن اللصوص الذين لا يؤبَه لهم الذين يسرقون وقتك؛ فيأتي مَن يزورك على غير ميعاد، يهبط عليك كما تهبط المصيبة وينزل بك كموت الفجأة. ولطالما عطّل عليّ مثلُ هؤلاء مقالةً كنت أعدّها أو درساً كنت أحضّره. لذلك لا أستقبل الآن أحداً أبداً بلا موعد، لا كِبْراً مني ولكن حفاظاً على وقتي. وإذا كانت سرقة المال ذنباً، فسرقة الوقت الذي يأتي بالمال أكبر؛ الوقت الذي تنال به المال والعلم ويكون سبباً في دخولك الجنة أو في دخولك النار. على أن هذا كله يُعَدّ في مجتمعاتنا من الشواذّ، والأصل في الناس الاستقامة والخير. ولكن بعض هذه الأفلام وهذه المسلسلات، المصرية خاصة منها والشكوى إلى الله، كلها أو جلها فيها الاحتيال والتزوير والسرقة وأن يكون المرء ذا وجهين. أهذه صورة شعب مصر؟ إني أغار على مصر، ومصر بلدي منها أصلي، وأبرّئ مصر، وأقول: لا والله ما هذه صورة شعب مصر، وإنه لأعَفّ وأنظف وأشرف مما تصوره به المسلسلات. فليتَّقِ الله فينا صانعوها (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أكرم الله الشيخ فتوفّاه قبل أن يرى عجائب التمثيليات والمسلسلات السورية التي أنستنا ما كان قبلها! (مجاهد).

وبعد، فإني سأورد عليكم طرفتين من طُرَف اللصوص فيهما إن شاء الله متعة: في دمشق مسجد كبير اسمه «جامع التوبة»، وهو جامع مبارك فيه أُنس وجمال، سُمّي بجامع التوبة لأنه كان خاناً تُرتكَب فيه أنواع المعاصي، فاشتراه أحد الملوك في القرن السابع الهجري وهدمه وبناه مسجداً (¬1). وكان فيه من نحو سبعين سنة شيخ مُرَبٍّ عالم عامل اسمه الشيخ سليم المُسوتي، وكان أهل الحي يثقون به ويرجعون إليه في أمور دينهم وأمور دنياهم. وكان عند هذا الشيخ تلميذ صالح، وكان مضرب المثل في فقره وفي إبائه وعزة نفسه، وكان يسكن في غرفة في المسجد. مرّ عليه يومان لم يأكل فيهما شيئاً، وليس عنده ما يَطعَمه ولا ما يشتري به طعاماً، فلما جاء اليوم الثالث أحس كأنه مشرف على الموت، وفكر ماذا يصنع، فرأى أنه بلغ حد الاضطرار الذي يجوّز له أكل الميتة أو السرقة بمقدار الحاجة، فآثر أن يسرق ما يقيم صلبه. وهذه القصة واقعة أعرف أشخاصها وأعرف تفصيلها وأروي ما فعل الرجل، لا أحكم على فعله بأنه خير أو شر أو أنه جائز أو ممنوع. وكان المسجد في حي من الأحياء القديمة، والبيوت فيها متلاصقة والسطوح متصلة، يستطيع المرء أن ينتقل من أول الحي إلى آخره مشياً على السطوح. فصعد إلى سطح المسجد ¬

_ (¬1) بناه الملك الأشرف ابن الملك العادل الأيوبي سنة 632هـ، وهو جامع حي العُقَيبة الذي عاش فيه جدي السنوات الأولى من حياته. انظر خبره في هذا الكتاب في مقالة «طرائف من التاريخ»، ص48 (مجاهد).

وانتقل منه إلى الدار التي تليه، فلمح فيها نساء فغضّ من بصره وابتعد، ونظر فرأى إلى جنبها داراً خالية، وشم رائحة الطبخ تصعد منها، فأحس من جوعه لمّا شمّها كأنها مغناطيس يجذبه إليها. وكانت الدور من طبقة واحدة، فقفز قفزتين من السطح إلى الشرفة فصار في الدار، وأسرع إلى المطبخ فكشف غطاء القِدر، فرأى فيها باذنجاناً محشوّاً، فأخذ واحدة ولم يُبالِ من شدة جوعه بسخونتها، وعضّ منها عضة، فما كاد يبتلعها حتى ارتدّ إليه عقله ودينه، وقال لنفسه: أعوذ بالله، أنا طالب علم مقيم في المسجد، ثم أقتحم المنازل وأسرق ما فيها؟ وكبر عليه ما فعل، فندم واستغفر ورَدّ الباذنجانة، وعاد من حيث جاء فنزل إلى المسجد وقعد في حلقة الشيخ وهو لا يكاد -من شدة الجوع- يفهم ما يسمع. فلما انقضى الدرس وانصرف الناس (وأؤكد لكم أن القصة واقعة) جاءت امرأة مستترة (ولم يكن في تلك الأيام امرأة غير مستترة) فكلمت الشيخ بكلام لم يسمعه، فتلفّت الشيخ حوله فلم يَرَ غيره، فدعاه وقال له: هل أنت متزوج؟ قال: لا. قال: هل تريد الزواج؟ فسكت، فقال له الشيخ: قل، هل تريد الزواج؟ قال: يا سيدي، ما عندي ثمن رغيف آكله فبماذا أتزوج؟ قال الشيخ: إن هذه المرأة خبّرتني أن زوجها توفي وأنها غريبة عن هذا البلد، ليس لها فيه ولا في الدنيا إلا عم عجوز فقير، وقد جاءت به معها (وأشار إليه قاعداً في ركن الحلقة) وقد ورثَت دار زوجها ومعاشه، وهي تحب أن تجد رجلاً يتزوجها على سنة الله ورسوله لئلا تبقى منفردة فيطمع فيها الأشرار وأولاد

الحرام، فهل تريد أن تتزوج بها؟ قال: نعم. وسألها الشيخ: هل تقبلين به زوجاً؟ قالت: نعم. فدعا بعمها ودعا بشاهدين وعقد العقد، ودفع المهر عن التلميذ، وقال له: خذ بيد زوجتك. فأخذ بيدها، أو أخذت هي بيده فقادته إلى بيتها، فلما دخلته كشفت عن وجهها فرأى شباباً وجمالاً، ورأى البيت هو البيت الذي نزله. وسألته: هل تأكل؟ قال: نعم. فكشفت غطاء القِدْر فرأت الباذنجانة، فقالت: عجباً! من دخل الدار فعضّها؟ فبكى الرجل وقصّ عليها الخبر، فقالت له: هذه ثمرة الأمانة، عففت عن الباذنجانة الحرام فأعطاك الله الدار كلَّها وصاحبتَها بالحلال. * * * أما القصة الأخرى فلعل الطرافة فيها أكثر من المنفعة منها، وهي واقعة أعرف أشخاصها وظروفها، هي أن شاباً فيه تُقى وفيه غفلة طلب العلم، حتى إذا أصاب منه حظاً قال الشيخ له ولرفقائه: لا تكونوا عالة على الناس، فإن العالم الذي يمدّ يده إلى أبناء الدنيا لا يكون فيه خير، فليذهب كل واحد منكم وليشتغل بالصنعة التي كان أبوه يشتغل بها، وليتّقِ الله فيها. وذهب الشاب إلى أمه فقال لها: ما هي الصنعة التي كان أبي

يشتغل بها؟ فاضطربت المرأة وقالت: أبوك قد ذهب إلى رحمة الله، فما لك وللصنعة التي كان يشتغل بها؟ فألحّ عليها وهي تتملّص منه، حتى إذا اضطرّها إلى الكلام أخبرته وهي كارهة أن أباه كان لصاً. فقال لها: إن الشيخ أمرنا أن يشتغل كلٌّ بصنعة أبيه ويتقي الله فيها. قالت الأم: ويحك! وهل في السرقة تقوى؟ وكان في الولد كما قلت غفلة، فقال لها: هكذا قال الشيخ. ثم ذهب فسأل وتسقّط الأخبار حتى عرف كيف يسرق اللصوص، فأعدّ عُدّة السرقة، وصلى العشاء، وانتظر حتى نام الناس، وخرج ليشتغل بصنعة أبيه كما قال الشيخ. فبدأ بدار جاره، ثم ذكر أن الشيخ قد أوصاه بالتقوى، وليس من التقوى إيذاء الجار، فتخطى هذه الدار. ومرّ بأخرى فقال لنفسه: هذه دار أيتام، والله حذر من أكل مال اليتيم. وما زال يمشي حتى وصل إلى دار تاجر غني ليس له إلا بنت واحدة، ويعلم الناس أن عنده الأموال التي تزيد عن حاجته. فقال: ها هنا. وعالج الباب بالمفاتيح التي أعدّها ففتح ودخل، فوجد داراً واسعة وغرفاً كثيرة، فجال فيها حتى اهتدى إلى مكان المال، وفتح الصندوق فوجد من الذهب والفضة والنقد شيئاً كثيراً، فهمّ بأخذه، ثم قال: لا، لقد أمرنا الشيخ بالتقوى، ولعلّ هذا التاجر لم يؤدِّ زكاة أمواله، لنُخرج الزكاةَ أولاً. وأخذ الدفاتر وأشعل فانوساً صغيراً جاء به معه، وراح

يراجع الدفاتر ويحسب، وكان ماهراً في الحساب خبيراً بإمساك الدفاتر، فأحصى الأموال وحسب زكاتها فنحّى مقدار الزكاة جانباً، واستغرق في الحساب حتى مضت ساعات، فنظر فإذا هو الفجر. فقال: تقوى الله تقضي بالصلاة أولاً. وخرج إلى صحن الدار، فتوضأ من البِرْكة وأقام الصلاة، فسمع رب البيت فنظر فرأى عجباً، فانوساً مضيئاً، ورأى صندوق أمواله مفتوحاً ورجلاً يقيم الصلاة. فقالت له امرأته: ما هذا؟ قال: والله لا أدري! ونزل إليه فقال: ويلك من أنت وما هذا؟ قال اللص: الصلاة أولاً ثم الكلام، فتوضّأ ثم تقدّمْ فصَلِّ بنا، فإن الإمامة لصاحب الدار. فخاف صاحب الدار أن يكون معه سلاح ففعل ما أمره به، والله أعلم كيف صلى، فلما قُضيت الصلاة قال له: خبّرني ما أنت وما شأنك؟ قال: لص. قال: وماذا تصنع بدفاتري؟ قال: أحسب الزكاة التي لم تُخرجها من ستّ سنين، وقد حسبتها وفرزتها لتضعها في مصارفها. فكاد الرجل يُجَنّ من العجب، وقال له: ويلك، ما خبرك؟ هل أنت مجنون؟ فخبّره خبره كله. فلما سمعه التاجر ورأى جمال صورته وضبط حسابه ذهب إلى امرأته فكلمها، ثم رجع إليه فقال له: ما رأيك لو زوّجتك بنتي وجعلتك كاتباً وحاسباً عندي، وأسكنتك أنت وأمك في داري، ثم جعلتك شريكي؟ قال: أقبل. وأصبح الصباح فدُعي بالمأذون وبالشهود وعُقِد العقد! وهذه قصة واقعة. * * *

أما السرقات الأدبية فقد قلت لكم إنني لا أعرض لها الآن، إلا لواحدة لها صلة بالعلم والعلماء، وهي سرّ لم يُرفَع عنه الستار إلى الآن. ذلك أن عندنا كتابين متماثلين تماماً في موضوع جديد، لم يؤلَّف فيه قبلَهما ولم يؤلَّف فيه بعدهما إلا القليل، هما كتاب «الأحكام السلطانية» للماوَرْديّ وكتاب «الأحكام السلطانية» للقاضي أبي يَعْلَى. والكتابان متشابهان متطابقان لأن أحدهما منسوخ عن الآخر، فمَن هو صاحب الكتاب الأول؟ الماوردي من أفقه فقهاء الشافعية وكان يلقَّب بأقضى القضاة، وأبو يعلى من أفقه فقهاء الحنابلة، وإذا قيل «القاضي» انصرف اللقب إليه. والاختلاف بينهما أن الماوردي حين يسرد الأحكام يسردها على المذهب الشافعي وأبو يعلى على مذهب الإمام أحمد. وكانا في عصر واحد، وبلد واحد، وأظنهما كانا قاضيَين في محكمة واحدة! فلعل أحد الأساتذة أو الطلاب الذين يُعِدّون رسائل الشهادات العالية يدرس هذا الموضوع ويُثبت بالأدلة مَن منهما المؤلف الأول. أما أنا فأميل إلى أنه الماوردي، لأن للماوردي كتاباً آخر قريباً في أسلوبه ونهجه وطريقته من هذا الكتاب، والله أعلم بالصواب. * * *

لعبة شطرنج

لعبة شِطرنج حديث أذيع سنة 1960 أحدّثكم اليومَ عن واقعة غريبة من وقائع التاريخ. وفي وقائع التاريخ وفي حوادث الحياة عجائب أغرب من أفانين الخيال. واقعة موضوعها «لعبة شِطرنج» (¬1). والشطرنج لعبة معروفة، وهو أعلى أنواع اللعب وأدقّها، عُنيت به الأمم قديماً وحديثاً، وكان العرب من أشدّ الأمم عناية به وبراعة فيه، حتى إن منهم من كان يلاعب وهو مُسْتدبِر الرقعة لا ينظر إليها، ومن كانا يلعبان وهما مسافران على ظهور الإبل، ليس أمامهما رقعة ولا حجارة، وإنما يتخيلان الرقعة وحركات الحجارة تخيّلاً. وبرع فيها جماعة منهم أبو القاسم التّوزي الشطرنجي، الذي وصفه ابن الرومي في قصيدة طويلة منها قوله: غَلِطَ الناسُ، ليسَ تلعبُ بالشِّطْرنج، لكنْ بأنْفُسِ اللُّعَباءِ لك مَكرٌ يَدِبُّ في القوم أَخْفَى من دبيب الفَناء في الأعضاء تقتلُ الشّاهَ حيث شئتَ من الرقعة طَبّاً بالقِتْلَةِ النَّكراء ¬

_ (¬1) قال الفيروزابادي: "الشِّطْرَنْج بالكسر، ولا يُفتَح أوّله" (مجاهد).

غيرَما ناظرٍ بعينِك في الدَّسْتِ ولا مُقبلٍ على الرُّسَلاء بل تراها وأنت مُستدبِرُ الظَّهرِ بقلبٍ مُصوَّرٍ من ذكاء ونُظمت فيه مقطَّعات وقصائد وكان له أدب. ولقد شبّه شوقي الحرب برقعة الشطرنج في قصيدته عن نابليون وكلامه عن موقعة إسترلتز، فقال: عند أُسْتَرْلِتْزَ كان المُلتقى ... واصطدامُ النَّسْرُ بالمُسْتَنْسِرينْ وُضِعَ الشِّطرَنْجُ فاستقبلتَه ... ببَنانٍ عابثٍ باللاعِبينْ صِدْتَ شاهَ الرّوسِ والنّمسا معاً ... مَنْ رأى شَاهَيْنِ صِيدا في كَمين؟ * * * والشطرنج والنرد أشهر اللعَب القديمة، وإن كان الحكم الشرعي أن النرد (الطاولة) وأمثاله من اللُّعَب التي يكون الغَلَب فيها بالحظ والمصادفة (بالزهر) حرام بالاتفاق، واللعَب التي يكون الغلب فيها بالبراعة والذكاء ولا دخل للحظ فيها فهي جائزة في بعض المذاهب الأربعة. ولعل من الحكمة في ذلك أن على المسلم أن يعتمد على نفسه بعد اعتماده على ربه، وأن لا يمشي إلا في الطريق الواضح، ولا يضع قدمه إلا على الأرض الثابتة المستقرة، ولا يجعل اعتماده على المصادفات والحظوظ. وللشطرنج اليوم طريقتان للعب: الطريقة العربية؛ ويُشترَط فيها التنبيه قبل ضرب أي حَجَر، ويُحظر فيها التَّبْييت (¬1) إلا في ¬

_ (¬1) «التبييت» في لغة الشطرنج هو العملية التي يقوم بها اللاعب لتحصين الملك؛ حيث يحرّك ملكَه أفقياً مربّعين باتجاه أي من القلعتين،=

أول اللعب، ويمشي فيها الجندي (البَيْدق) بيتاً بيتاً. والطريقة الإفرنجية؛ ولا يُشترَط فيها التنبيه، ويكون التبييت في كل وقت، ويمشي البيدق أولاً بيتين. وكل طريقة تدل على أخلاق أهلها، فالعرب شرفاء لا يأخذون شيئاً إلا بعد الإنذار، يأخذونه قوة واقتداراً لا سرقةً وخطفاً، ويمشون خطوة خطوة لا يَثِبون للغنيمة وثباً. والشطرنج يعلّم صاحبه الفكر والتدبير، ولكنه إن زاد في الاشتغال به صار مُوسوِساً ودخله الهوَس؛ لذلك اشترط الفقهاء الذين قالوا بجوازه ألاّ يشغل عن واجب ولا يؤدي إلى محظور، ولا يُبالَغ فيه حتى يكون همّ اللاعب الأول وشغله الشاغل. * * * أما الواقعة التي جئت أحدثكم حديثها فقد وقعت في الأندلس، حين انقسمت الدولة الواحدة دولاً، وترك المسلمون دينهم فتسلط الكفرة عليهم، وصار الإسبان يغزونهم ويقتطعون من ديارهم بعد أن غزوا هم الإسبان وفتحوا بلادهم. كانت هذه الواقعة أيام ملوك الطوائف (الذين كان يسميهم علماؤنا «الدول المُنقطعة»)، إذ سيّرَ الأذْفونش (ألفونس) ملك ¬

_ = اليمنى أو اليسرى، وينقل القلعةَ إلى المربع الذي عبره الملك. ويُشترط لصحة التبييت أن يكون كل من الملك والقلعة التي يتحرك باتجاهها في موضعَيهما الأصليين لم يتحركا بعد، وأن لا يكون بينهما أي حجر. وهذه هي الحركة الوحيدة التي يُسمَح فيها بتحريك قطعتين في وقت واحد (مجاهد).

الإسبان جيشاً ضخماً يريد أن يهاجم به مملكة الملك الشاعر ابن عبّاد، وكان وزيره هو الوزير الشاعر ابن عمّار (الذي حدثتكم السنة الماضية طرفاً من حديثه (¬1) فوجّهه إلى قتاله. ولم يكن لمملكة ابن عمار طاقة بالإسبان، فاعتمد ابن عمار على الحيلة. وكان لاعباً بالشطرنج، لا نظير له ولا يقوم له في اللعبة أحد، فصنع رقعة نادرة المثال وتأنق فيها، وجعل قطع اللعب من الأبنوس والصّنْدل والعود الرطب، وحلاّها بالذهب والجواهر، ووضع فيها من عبقرية الفن ما جعلها تحفة. وكان ملك الإسبان ممن يلعب الشطرنج، فوجّه إليه ابن عمار رسولاً من قِبَل الملك المعتمد للمفاوضة، وحمل معه هذه الرقعة وهذه القطع. وكانت لابن عمار منزلة أدبية ومكانة اجتماعية حملت ملك الإسبان على أن يستقبله ويبالغ في إكرامه ويأمر وجوه دولته بالتردد على خبائه، وتلطف ابن عمار حتى أراه الرقعة والقطع، فلما رآها دُهش لها وجُنّ بها وسأله أن يهبها له، فأبى إلاّ بشرط. قال: وما هو؟ قال: ألعب معك عليها، فإن غلبتني كانت لك، وإن غلبتك كان لي حكمي. ومثل هذا الشرط لا يجوز بين المسلمين، ولكنه مع كافر، والحرب خدعة. ورشا ابن عمار وزراء الملك الإسباني ووزّع عليهم المال الجمّ والهدايا الثمينة ليساعدوه عند الملك، فما زالوا بالملك يهوّنون عليه الأمر ويقولون: إن غلبته كانت لك رقعة ¬

_ (¬1) انظر فصل «الوزير الشاعر»، وهو في كتاب «رجال من التاريخ» (مجاهد).

لا نظير لها، وإن غلبك فما عساه يطلب؟ حتى قبل الملك. فقال ابن عمار: اكتب ما اتفقنا عليه واجعل بيني وبينك شهوداً. فكتب الاتفاق وأشْهَدَ عليه. ولعبا، وكان ابن عمار -كما قلنا- طبقة وحده في الأندلس، لا يقوم له أحد في هذه اللعبة، فغلب الملك غلبةً ظاهرة ليس عليها مطعن. فقال له: ماذا تطلب؟ قال: أطلب أن تأمر جيوشك بالرجوع. فغضب الملك وقال: هذا ما لا يكون أبداً. فأقبل وزراؤه الذين رشاهم ابن عمار يكلمونه ويقولون: إنه لا يَجمُل -وأنت ملك الإسبان- أن تنقض عهداً كتبته وأشهدت عليه. وما زالوا به حتى قبل، وردّ الله كيده عن المسلمين بلعبة شطرنج. وهكذا صرنا نحارب برقعة شطرنج، بعدما كنا أبطال الدنيا وسادة الأرض! * * *

أخبار من التاريخ

أخبار من التاريخ حديث أذيع سنة 1965 [حديث اليوم ليس كالأحاديث الماضيات، لا أتكلم فيه عن عَلَم من أعلام التاريخ ولا عن واقعة من وقائعه، ولكني أسرد فيه أطرافاً من تاريخ الحرمين، وجدتها متفرقة خلال مطالعاتي فجمعتها، يستمتع بها من شاء الاستمتاع، ويجد فيها النفع من أحبّ من السامعين أن يزداد معرفة بتاريخ هذا البلد الكريم.] إنكم تذهبون كل يوم إلى جدة وتعودون منها، وتركبون منها البحر وتمتطون منها الجو، فهل تعرفون مَن الذي أسّس هذه المدينة ومن جعلها مرفأ مكة؟ كان مرفأ مكة في الجاهلية في مكان قريب من جدة اسمه «الشُّعَيْبة»، فكلم عثمان بن عفان سنة 26 للهجرة أهلَ مكة في تحويله، فوافقوه، فخرج بالناس إلى موضع جدة وعاين المكان، وأمر بتحويل المرفأ إليه. ثم دخل البحر فاغتسل فيه، وقال لمن معه: ادخلوا البحر للاغتسال، ولا يغتسل أحد إلا بمئزر. ثم خرج على طريق عُسْفان إلى المدينة، وترك الناس ساحلَ الشُّعَيْبة من ذلك الزمان.

ذكر ذلك صاحب كتاب «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام» (¬1) نقلاً عن تاريخ الحافظ عمر بن فهد. ويظهر أن مرفأ الشعيبة بقي مستعمَلاً، لأن ساحله عميق تستطيع السفن أن تدنو منه، ليس كساحل جدة الذي تضطر السفن إلى الوقوف بعيدة عنه؛ فقد ذكر المؤرخون أن المهدي لمّا شرع بعمارة الحرم أمر بنقل الأساطين من مصر، فكانت السفن تقف على الشعبية لسهولة نقل الأساطين منها إلى البر. * * * يا أيها المستمعون، قلت لكم إن هذا الحديث أخبار التقطتها من زوايا التاريخ، أسردها كيفما جاءت، لا أبتغي فيها الترتيب الزمني ولا التسلسل التاريخي. من ذلك أن الكعبة كانت تقوم وحدها في الوادي، وكان الناس يبنون بيوتهم في الحِلّ خارج الحرم، يحرّمون على أنفسهم أن يبنوا بيوتهم مع بيت الله، فكانوا يأتون مكة نهاراً، فإذا كان الليل خرجوا إلى بيوتهم في الحِلّ. فلما ولي قُصَي أمرَ الكعبة وأخرج خُزاعة من مكة قال لقُريش: إنكم إن سكنتم الحرم حول البيت هابتكم العرب ولم تستحلّ قتالكم. قالوا: أنت سيدنا ورأينا تبع لرأيك. فأذن لهم بالبناء، وبنى هو «دار الندوة» لتكون لهم كالمجلس ¬

_ (¬1) لعله «الإعلام بأعلام بلد الله الحرام»، ومؤلفه هو قطب الدين محمد ابن أحمد المكّي المتوفّى سنة 988هـ (مجاهد).

النيابي للناس في أيامنا، فكانوا يجتمعون فيها كلما دهمهم أمر أو عرض لهم ما يحتاج إلى المشاورة، وكانوا يعقدون فيها العقود، فلا يتزوج أحد إلا فيها. وكان موضع دار الندوة مكان سُدّة المؤذّنين التي كانت من طرف المَطاف من جهة الشمال. فبنوا البيوت حول الكعبة من جهاتها الأربع، وتركوا حولها رَحْبة للطواف تقدَّر بمقدار المَطاف القديم قبل توسعته، وجعلوا أبواب بيوتهم من جهة الكعبة، وجعلوا بين كل بيتين طريقاً ينفذون منه إلى البيت الحرام. وبقي كذلك حتى جاء عمر، فجعل هذه الساحة مسجداً وجعل لها سوراً بمقدار قامة الإنسان. فتبيّن من ذلك أن الذي أسّس مدينة مكة هو قُصَي. * * * ومن الطرائف التي وجدتها وأنا أنظر في الكتب أن باب إبراهيم المعروف الآن، وهو بقرب باب الحَزْوَرَة، ليس منسوباً إلى سيدنا إبراهيم كما يظن الناس، بل هو منسوب إلى خياط معمَّر كبير السن اسمه إبراهيم، كان يجلس عند هذا الباب فنُسب إليه وخلد اسمه واشتهر. فليست الشهرة مقياساً للعظمة، بل ربما اشتهر من لا يستحق الشهرة وربما نُسي من كان مستحقاً لخلود الذكر. * * * وروى السيوطي نقلاً عن أبي شامة أن أهل المدينة المنوَّرة أحسّوا ليلة الأربعاء 3 جمادى الآخرة سنة 654هـ بزلزلة عظيمة

ارتجّت منها الأرض وتصدّعت بعض البيوت، ثم تكررت بعد ساعة، وتعاقبت الزلازل واستمرت يومين، ثم انفجر -كما يبدو- بركان في الحَرَّة (وهي منطقة بركانية) وصفوه بأنه نار عظيمة، أبصرها الناس من دورهم في المدينة فأضاءت لهم الدور حتى صار الليل من الضياء كالنهار. قال الراوي: وطلعنا نبصرها فوجدنا الجبال تنبع ناراً ثم تسيل النار كما يسيل السيل! واجتمع الناس في المسجد تائبين مستغفرين، واستمرت النار والزلازل قريباً من شهر. قال الذهبي: أمر هذه النار متواتر، وهي ممّا أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل في بُصرى». * * * وكانت الكعبة تُكسى الديباج الأبيض، حتى جاء الخليفة العباسي الناصر فكساها الديباج الأسود سنة 521هـ، واستمر ذلك إلى الآن. * * * وما دام الحديث عن الأوّليّات، فإن أول من أحدث بدعة الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان هو محتسب مصر، نجم الدين، سنة 792هـ. وأول من أحدث الحاشية الخضراء على عمائم المنسوبين إلى السيدة فاطمة هو المتوكل الثاني ابن المعتضد سنة 773هـ.

ومن الغريب أن العمائم البيض كانت في عهد من العهود شعار النصارى، وقد تركوها مدة، فأراد وزير الملك الناصر محمد بن قلاوون سنة 716هـ إعادتهم إليها وزيادة الجزية المفروضة عليهم، فقام بالدفاع عنهم شيخ الإسلام ابن تيميّة، وبذل جهداً عظيماً حتى أبطل ذلك كله. وأول من أحدث بدعة النِّياحة واللطم في عاشوراء هو معزّ الدولة (¬1) سنة 352هـ، وأجبر الناس على غلق الأسواق ومنع الطباخين من الطّبيخ، ونصبوا القِباب في الطرق وعلقوا عليها المُسوح، وأخرجوا النساء منتشرات الشعور يلطمنَ في الشوارع يُقمنَ المأتم على الحسين. واستمرت هذه البدعة المنكَرة عشر سنين ثم أُبطلت. * * * وفي جمادى الأول سنة 802 هجرية، أي منذ خمسمئة وثلاث وثمانين سنة، هطلت في مكة أمطار شديدة نزلت كأفواه القِرَب، وسال السَّيْل دَفّاعاً متلاطماً، فدخل الحرم حتى بلغ الماء القناديل، ثم دخل الكعبة من شِقّ الباب، وهدم من الرُّواق الذي عند الباب الذي يسمّى اليوم «باب الباسطية» عدة أساطين، وضرب منازل كثيرة، ومات في السيل عشرات. وحزن الناس لما أصاب المسجد من الهدم وسقوط الأساطين، ولم يعلموا أن سقوط هذه الأساطين سيكون سبباً في ¬

_ (¬1) اسمه أحمد بن بُوَيه، وهو من ملوك البُوَيهيين في العراق، وكان أيام الخليفة المستكفي (مجاهد).

سلامة المسجد، وأن الله يقدّر ويلطف، وأنه عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم. ذلك أنه بعد هذا السيل بخمسة أشهر، في ليلة السبت 28 شوال سنة 802، كان أحد المرابطين في تكية رامشت عند باب الحَزْوَرَة (ورامشت هو لقب الشيخ الذي بنى هذه التكية، واسمه إبراهيم بن الحسين) كان قد أشعل سراجاً في خَلوته، وتركه مشتعلاً وخرج، فجاءت فأرة فسحبت فتيل السراج فألقته على الأرض، فاحترقت الخلوة ووصلت النار إلى سقفها، ثم خرجت من شبّاكها المطلّ على الحرم فاشتعل جدار الحرم، حتى وصلت النار إلى سقف المسجد الحرام فالتهب. وعجز الناس عن إطفائه لعُلُوّه، ولأن النار كانت أسرع منهم في إحضار السلالم، فمشت في السقف والتهمت الجانب الغربي من المسجد كله، وصار شعلة واحدة إلى أن وصل الحريق إلى الجانب الشامي، واستمرّ يأكل من السقف ويسير حتى وصل إلى باب العجلة (الذي يسمى اليوم باب الباسطية) حيث هدم السيل العمودين والقوس فوقفت النار، ولولا ذلك لأكلت المسجد كله! وبقيت النار مشتعلة والناس لا يقدرون على إطفائها (ولم يكن لديهم مصلحة للإطفاء كما هي اليوم) حتى انطفأت من نفسها، وصار الجانب الغربي ونصف الجانب الشمالي مثل التلّ الكبير من أنقاض الحريق، وصار الواقف وراءه لا يستطيع أن يرى الكعبة. وكانت مصيبة من المصائب، ولكن الله يسّر عمارة ما احترق

وتهدم على يد أمير الحاجّ، الأمير بيسق، وإعادته إلى أحسن مما كان عليه. * * * وبعد ذلك بأربع وثمانين سنة، أي في سنة 886، في الثلث الأخير من ليلة الإثنين 13 رمضان، صعد رئيس المؤذنين في المسجد النبوي في المدينة المنورة المنارةَ ليؤذّن أذان السّحَر. وكانت ليلة شاتية متلبّدة الغيوم متوارية النجوم، فارتجّت الدنيا برعد هائل، وسقطت صاعقة أصابت رأس المئذنة، فمات المؤذّن، وانشقّت المئذنة فهوت على سقف المسجد واشتعلت النار فيه. وأحسّ الناس بذلك فنادوا: الحريق، الحريق في المسجد! وحضر الأمير وشيخ المسجد والقاضي وسائر الناس، وصعد أهل النجدة والقوة إلى سطح المسجد بالمياه في القِرَب يسكبونها على النار، ولكن النار ظلت مشتعلة ومشت شمالاً وغرباً، وعجزوا عن إطفائها، واستولت النار على كثير منهم فمات منهم أكثر من عشرة أنفس وهرب من استطاع الهرب. وعظُمت النار جداً وأحاطت بجميع سقف المسجد، وأحرقت ما فيه من المصاحف وخزائن الكتب وما كان في المسجد من النفائس، وصار المسجد شعلة من نار، واحترقت القبّة العليا التي فوق قبة الحجرة الشريفة وذاب ما كان عليها من رصاص، ولكن النار لم تصل -بلطف الله- إلى الحجرة ولم تؤثّر في القبة السفلى التي تعلوها، مع أنه سقط عليها من أنقاض

المنارة وأنقاض القبة العليا أمثال الجبال، وأحرقت النار كل ما عدا الحجرة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، حتى الحجارة احترقت واسوَدّت. ولما انطفأت النار نظر الناس فإذا مكان المسجد جبل من الأنقاض، فعمل أمير المدينة وعلماؤها ووجوهها وعامة أهلها، حتى النساء والصبيان، على إزالة الأنقاض وتنظيف المسجد، وأرسلوا مَن يخبر السلطان المصلح العظيم قايتباي صاحب المآثر العمرانية الباقية، فتوجّه بنفسه وعمل على عمارته من جديد، بأساطينه وأقواسه وقبّته ومآذنه، فكان تحفة عمرانية باقياً له ولمن عمل معه ثوابُها إن شاء الله. * * * أنتقل بكم الآن إلى دمشق، إلى ما قبل أربع وسبعين سنة فقط، ففي ضَحْوة يوم السبت رابع ربيع الثاني سنة 1311 كانت دمشق آمنة مطمئنة، وقد انصرف الناس إلى أعمالهم في الأسواق المُطيفة بالأموي، والنساء في بيوتهن الحافّة بالجامع، فما راعهم إلا صَريخ يصرخ كأنه النذير العُرْيان أنْ لقد احترق الأموي! فترك التجّار مخازنهم مفتوحة ووثبوا ينظرون، وصعدت النساء على السطوح، وتراكض الناس من كل جهة، وإذا الدخان ينبعث من سقف الجامع! ولم يكن في دمشق مصلحة إطفاء (وقد أُنشِئت على إثر الحادث)، وحار الناس ماذا يصنعون، فاستَبَقوا إلى سجّاد المسجد ومصاحفه يُخرجون ما يصلون إليه منها، وعمد بعضهم إلى الماء يصبّونه وإلى المعاول علّهم يحصرون

النار، ولكن النار كانت أسرع منهم، إذ كان خشب السقف قديماً جافاً وعليه من الأصبغة والأدهان طبقات، فما شمّ رائحةَ النار حتى التهب كله دفعة واحدة، كأنما قد صُبَّ عليه البنزين! وكانت الرياح في ذلك اليوم غربية شديدة، فما مرت نصف ساعة حتى صار السقف كله شعلة واحدة، وجعلت قطع النيران تتساقط من كل مكان، فالتهب المسجد كله ولم يعد يستطيع أحد أن يقترب منه، فوقفوا ينظرون وكأن النار التي تأكل مسجدهم تأكل قلوبهم، ولكن العجز أمسكهم وقيّدهم. وكانت عَمَد المسجد قديمة، أكثرها مكسور ومربوط بأطواق الحديد، فتشققت من النار، ثم هوى البناء كله وزلزلت الأرض وكانت ساعة من ساعات الهول! وامتدت النار تسوقها الرياح الغربية إلى سوق القباقبية وزقاق الحمراوي. ثم انجلى الدخان عن الخراب الشامل؛ لم يبقَ من الأموي إلا المشهدان عند باب البريد ورُواق الصحن، عدا الرواق الممتدّ بين باب النوفرة إلى مشهد الحسين فقد ناله الحريق فتضعضع، وأصاب الحريق المنارة الغربية. ذهب المسجد كله في ساعتين ونصف ساعة. المسجد الذي أُنفقت فيه الأموال والأعمار وعملت في بنائه الأيدي والأفكار ألفاً وثلاثمئة سنة، ذهب كله في مئة وخمسين دقيقة فقط، ذهب في سبيل نارجيلة! ذلك أن عاملاً من العمال كان يصلح رصاص السقف في الجهة الغربية، فأعجبه المنظر وهاج في نفسه الشوق إلى نَفَس دخان، فجاء بنارجيلة وأوقد ناراً ليشعلها، فأشعل النار

في الأموي! (¬1) ثم انصرف الناس إلى تنظيف الجامع، وكان ما اجتمع من الأنقاض المتراكمة كأنه تل عظيم. وتناوبوا على تنظيفه، يشتغل أهل كل محلة يوماً، يجيئون جميعاً؛ كهولهم وشبابهم، أغنياؤهم وفقراؤهم، يعملون بأيديهم إيماناً واحتساباً، ينقلون التراب والحجارة، ويتسابق الأغنياء إلى إطعامهم، فيتكفّل أغنياء الحي بإعداد الطعام للعاملين فيتغدّون في المسجد، فكان ذلك مظهراً رائعاً للأخوّة والبذل، وغدا الناس كأنهم أسرة واحدة، يعملون جميعاً في بيت الله وينزلون ضيوفاً عليه. وكان الكشف، وقُدِّرت نفقات البناء بسبعين ألف ليرة ذهبية. ولو أنّا نظرنا إلى القوّة الشرائية لكل ليرة وجعلنا الخبز مقياساً فحسبنا سعره يومئذ وسعره اليوم لرأينا المبلغ يعادل عشرين مليون ليرة من نقد هذه الأيام. قدّمها الدمشقيون من أموالهم، وبنوا البناء القائم اليوم بأيديهم من غير أن يشرف عليه مهندس يحمل شهادة من أوربا، فكان المسجد الأموي العظيم أثراً دمشقياً لعهد يقولون إنه كان عهد تأخّر وظلام! * * * ¬

_ (¬1) انظر خبر هذه الواقعة كما رُويت هنا (مع زيادات عليها) في كتاب علي الطنطاوي «الجامع الأموي»، فصل «الحريق الأخير» (مجاهد).

طرائف من التاريخ

طرائف من التاريخ نشرت سنة 1968 [سآتيكم اليوم بشيء جديد، ليس كما عرفتم في مقالاتي الماضية؛ فلن أعرض لموضوع أجمع أطرافه وأضمّ جوانبه، بل أسرد عليكم طرائف مرّت بي وأنا أقرأ، فيها فوائد وليس لها موضوع واحد، وربما كان فيها مع الفائدة متعة ومع الطرافة جمال.] من ذلك أن المنجِّمين أجمعوا في سنة 582 للهجرة على أن هذه الحياة الدنيا تنتهي في نصف الليلة التاسعة من جمادى الآخرة وسيموت الأحياء جميعاً. أما السبب فهو أن الكواكب الستة تجتمع هذه الليلة في الميزان، فينشأ عن اجتماعها رياح شديدة مسمومة تُهلك كل ذي حياة. وعمّ الذعر، وانتشر الخبر وانتقل من بلد إلى بلد، فترك الناس بيوتهم وأموالهم وهربوا مع أولادهم ونسائهم إلى مغارات الجبال وسراديب الأرض، وسدّوها على أنفسهم لئلا تدخلها هاتيك الرياح، ووضعوا فيها الزاد والماء، وخلت المدن واختفى السكان.

وجاءت الليلة الموعودة، فكان من تكذيب الله لهؤلاء المنجّمين أنها لم تهبّ تلكَ الليلة نسمة، وأن الشموع -كما يقول السيوطي- لم يتحرك لهيبها، فسخر منهم الشعراء ونال منهم الناس. * * * وفي سنة 352هـ بعث بطرك الأرمن إلى ناصر الدولة (ابن حمدان) برجلين ملتصقين، وهما توأمان وعمرهما خمس وعشرون سنة، والالتصاق في الجنب، ولهما بطنان وسرّتان ومعدتان، ويختلف وقت جوعهما وعطشهما. ثم مات أحدهما وأنتن، وجمع ناصر الدولة الأطباء ليفصلوا الحي عن الميت، فلم يستطيعوا فمات الآخر. وفي سنة 601هـ ولدت امرأة ولداً برأسين وأربعة أيدي وأربعة أرجل، ولكنه لم يعش! هذا ما رواه المؤرخون، فما رأي الأطباء؟ * * * وفي سنة 304 أُهدي إلى المقتدر العباسي طائر أسود يتكلم الفارسية والهندية، أفصح من الببغاء. وبمناسبة الكلام عن هذا الطائر: وقعت لي واقعة أحلف لكم بالله أني أرويها كما وقعت، لا أتزيّد فيها ولا أبالغ. هي أني لما كنت في لَكْنَو في الهند سنة 1954 مللت في الفندق، فاستعرت من مكتبة ندوة العلماء كتباً منها «تاريخ الخلفاء» للسيوطي، وأنا

مولع بهذا الكتاب وقد قرأته مرات كثيرة، فجعلت أطالع فيه، فوقفت على هذا الخبر الذي رويته. وبينما كنت أقرأ هذا الخبر سمعت حواراً بين رجل كبير إنكليزي خشن الصوت وفتاة، يتخلل ذلك بُغام طفل صغير. وتكرر هذا الحوار بذاته لا تتبدل فيه كلمة من جملة ولا رنّة من لهجة، فعجبت، وخرجت فلم أجد أحداً، فدخلت فسمعت الحوار نفسه، فخرجت فلم أجد أحداً. ولحظ ذلك نادل الفندق، وهو هندي، فضحك ودلّني بإصبعه على قفص فيه طائر أسود (كالذي روى خبره السيوطي) يشبه الشُّحْرور المعروف في الشام وليس به، وإذا هو الذي يخرج هذه الأصوات. فكان عجبي من هذه المصادفة بالغاً! * * * وفي سنة 366هـ كان الفيضان العظيم في دجلة، فارتفعت مياهها ثلاثين ذراعاً وغمرت بغداد كلها، وهلك الناس والدواب وذهبت الأموال، وصلى الناس الجمعة مرتين في طيّار كبير (عوامة) على وجه الماء. وفي سنة 596هـ قلّ ماء النيل في مصر حتى قصر عن خمسة عشر ذراعاً، وكان قحط عظيم أكل معه الناس كل ما وجدوا من الحيوان، حتى صاروا يأكلون جثث الأموات، وكان الماشي لا يقع بصره إلا على ميت أو مَن هو في سياق الموت، وكان المسافر يمر بالقرية من القرى فيرى الأبواب مفتَّحة وأهل الدور موتى وما في القرية نافخ نار.

وقصّ الذهبي في تاريخه عن هذا القحط قصصاً يقشَعرّ البدن من سماعها، واستمر ذلك إلى سنة 598. * * * وكان العرف القضائي في تاريخنا أنه كلما ولي قاض جديد اختار جماعة من العُدول الثقاة وأعلن أسماءهم ليُشهّدهم الناس على معاملاتهم. ولكن لم يكن لهم نظام جامع ولا مكان معروف، وأول من نظم أمر العُدول وجعل لهم مركزاً ثابتاً ونظاماً جامعاً هو شمس الدين أحمد الجوني، قاضي دمشق سنة 635هـ. فكان نظام كتّاب العدل المعروف اليوم من ابتكار هذا القاضي. أما كلمة «كاتب العدل» (وهي ترجمة لمصطلح فرنسي) فقد وضعها سنة 1919 الأستاذ مصباح محرّم، رئيس محكمة التمييز في دمشق على عهد الحكومة العربية التي قامت إثر خروج الأتراك منها (¬1). * * * ومن طرائف العادات أن العمامة لم تكن معروفة للعلماء في الأندلس، وكان أكثرهم يمشي حاسراً لا يغطي رأسَه شيء، ¬

_ (¬1) وعلى الألسنة اليوم كلمات كثيرة استُحدِثت أعرف مَن أول من أطلقها؛ منها كلمة «عبقرية» من وضع الشيخ عبد القادر المغربي، وكلمة «فيزياء» وضعها الأستاذ عز الدين التنوخي، وهو الذي وضع كلمة «برمائية» للحيوانات التي تعيش في البرّ كما تعيش في الماء.

وكانت العمائم خاصة بالقُضاة، فإذا قالوا: فلان وضع العمامة، عرفوا أنه صار قاضياً. ففُهِم من ذلك أن ما عليه أكثر الرجال اليوم من كشف الرأس له أصل في الأندلس، أما في غير الأندلس فلم يكن معروفاً، بل كان منكراً، وكانوا يعدّون فعله قادحاً بالعدالة. * * * ومن طرائف أخبار الأندلس أن كل دار فيها فيها مكتبة، ولعل هذه العادة التي نراها اليوم في بلاد الإنكليز جاءتها من الأندلس. ولقد احتاج عالم من العلماء (نسيت اسمه) إلى كتاب ففتش عنه، وأطال التفتيش فلم يصل إليه، ثم وجده معروضاً للبيع بيد الدلاّل في سوق قرطبة، فزاد في ثمنه ليأخذه، فزاحمه رجل يبدو عليه الثراء، وكلما زاد في الثمن درهماً زاد الرجل خمسة، حتى عجز العالم وأخذ الرجل الكتاب. فلما صار في يده جاءه العالم منكسراً فقال له: بارك الله لك فيه، ولكني محتاج إليه، فهل تعيرني إياه ليلة أقرؤه فيها وأرده إليك. فقال الرجل: والله ما لي به حاجة ولا أدري ماذا فيه، ولكن أعجبني شكله، وفي مكتبة بيتي فراغ لكتاب بمثل حجمه، لذلك أخذته، فإذا كنت محتاجاً إليه هذه الحاجة فخذه هدية مني إليك. * * *

ومن غرائب الحظوظ أن أسرة بني بُوَيه كانت من أشهر الأسر التي سيطرت على الخلافة العباسية، وصبغتها بالصبغة الشيعية، وأسست ملكاً دام زمناً، وأفسدت الأمر فيمن أفسده من التُّرك والعَجَم والمغول. وكان بُوَيه هذا، مؤسس هذه الأسرة، صعلوكاً يصيد السمك، فرأى في منامه كأنه خرج منه عَمود نار ثم تشعب حتى ملأ الدنيا، فأوّلوه له بأنه يخرج من ولده من يملك الأرض. ومضت السنون، ودخل الجيش فصار قائد فصيل من الجند لابن زياد الدَّيلمي، وقلّ ما بيده من المال، فاستلقى على ظهره مفكراً مهموماً، فرأى حية في السقف، فلحقها ليقتلها فدخلت في شق في الجدار، فبحث عنها فوجد مخبأ فيه عشرة صناديق مملوءة ذهباً. وطلب يوماً خياطاً يَخيط له ثوباً، وكان الخياط أصم، فخاف لمّا دعاه وجزع وقال: والله العظيم ما عندي إلا اثنا عشر صندوقاً، أدفعها إليك فلا تقتلني، فإني لست أعلم ما فيها. فأحضرها، فوجد فيها مالاً عظيماً من أموال الملوك الماضين. وكان يوماً يسير في طريق في شيراز، فساخت قوائم فرسه في حفرة، فنظر فإذا هي مدخل سرداب، فكشفه فإذا هو يوصل إلى بيت تحت الأرض فيه آثار قديمة لا تقدَّر بثمن. * * *

وفي أخبار الظاهر العباسي أن أباه الناصر، وهو -على تأخر أيامه- من أشد الخلفاء هيبة وسطوة، قد طالت مدة حكمه سبعاً وأربعين سنة، فلما جاءت الخلافة الظاهر كانت سنه اثنتين وخمسين سنة، فأبطل المُكوس وفرّق الأموال، وأزال المظالم وأظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سيرة العُمَرين (كما قال السيوطي). فقيل له: ألا حفظت الأموال وملأت الخزائن واستمتعت كما استمتع من كان قبلك؟ فقال لهم: لقد فتحت الدكان بعد العصر (يعني أن الولاية جاءته وهو كبير السن)، فمَن فتح بعد العصر إيش يكسب؟ فاتركوني أسارع بفعل الخير، فكم بقيت أعيش بعد هذا؟ (¬1) * * * ¬

_ (¬1) «الظاهر» من كِرام خلفاء بني العباس، ويستحق أن يعرفه الناس فيَدْعوا له بالرحمة على جميل صنعه وحسن سيرته. وقد نقل ابن الأثير من مآثره الكثير؛ فمنها أنه أعاد للناس الأموال المغصوبة، وأبطل المُكوس، وأعاد الخراج القديم في جميع العراق، ولما أعاد الخراج الأصلي على البلاد حضر خلق وقالوا إن أراضيهم قد يبست أكثرُ أشجارها، فأمر أن لا يؤخَذ إلا من كل شجرة سالمة. ومن عدله أن صَنجة الخلافة (أي العِيار الذي توزن به الدراهم والدنانير) كانت راجحة في المثقال نصف قيراط، فكان عمّال الدولة يقبضون بها ويعطون بصنجة البلد، فكتب إلى العمال والولاة كتاباً يأمرهم فيه باعتماد صنجة الناس، وكتب في رأس الكتاب {وَيْلٌ للمُطَفِّفين}، فكتبوا يخبرونه أن الخزانة تخسر بذلك خمسة وثلاثين ألف دينار، فأرسل إليهم كتابه وفيه: يبطل ولو أن الخسارة ثلاثمئة ألف وخمسون=

وفي دمشق جامع مشهور اسمه «جامع التوبة» في حي العُقَيبة، وهو اليوم من أحياء دمشق القديمة، ولكنه كان قديماً قرية خارج البلد. وكان فيها خان يدعى خان الزّنجاري، قد جمع - كما قال ابن خَلّكان- أسباب اللذائذ ويجري فيه من ألوان الفسوق والمعاصي ما لا يوصف. وبلغ ذلك الملك الأشرف، وقيل له: إن هذا لا يجوز أن ¬

_ = ألف دينار. وروى ابن الأثير أخباراً مدهشة عن كرمه وسخاء نفسه وما فرّقه في الناس من أموال، وقال أيضاً: ووُجد في بيت من داره ألوف رِقاع كلها مختومة، فقيل له: لِمَ لا تفتحها؟ قال: لا حاجة لنا فيها، كلها سِعايات. ونقل السيوطي عن سبط ابن الجوزي أنه دخل إلى الخزائن يوماً فقال له خادمه: كانت في أيام آبائك تمتلئ. فقال: "ما جُعلت الخزائن لتمتلئ بل لتُفرَّغ وتُنفَق في سبيل الله، فإن الجمعَ شُغلُ التجّار". ولم يَعِش في الخلافة غير تسعة أشهر، رحمه الله. ومن تمام الفائدة أن يعرف الناس شيئاً عن ابنه المستنصر، وهو أبو المستعصم آخر الخلفاء العباسيين في العراق. وكان المستنصر صالحاً مُصلحاً كأبيه الظاهر، وكان جدّه الناصر يقرّبه ويسميه «القاضي» لهُداه وعقله وإنكاره ما يجد من المنكر. وكان عادلاً كريماً شهماً حسن السيرة، أقام مَنار الدين ونشر السنن وعمّر الطرق، وقاد الجيوش وافتتح الحصون وحفظ الثغور، وردّ التتار في مواقع عدة وأنزل بهم هزائم منكرة، وهو الذي بنى المدرسة المستنصرية ببغداد، ولولا أن أطيل لسردت عليكم من أخباره الكثير، ولكن المقام ليس يتسع لذلك كله، فاقرؤوا عنه في كتب التاريخ لتعرفوا فصلاً لا تعرفونه من أخبار دولة الإسلام. ومَلَك سبع عشرة سنة، رحمه الله (مجاهد).

يكون في بلاد المسلمين. فأمر بهدمه وإزالته، وأنشأ في موضعه مسجداً جامعاً أنفق عليه جملة من الأموال، فدعاه الناس «جامع التوبة». ومن المصادفات أن أول خطيب عُيِّن له هو جمال الدين البستي، وكان في صباه يتبع الملاهي ثم صلح وصار من الأخيار. فلما مات تولى مكانه العماد الواسطي، وكان كذلك متَّهماً بالشراب، ثم تاب. * * * ومن طرائف الحوادث ما رواه ابن الأثير في «الكامل» في حوادث سنة 456هـ؛ أن جماعة من الأكراد خرجوا يتصيّدون، فزعموا أنهم رأوا في برّية العراق خِيَماً سوداً، وسمعوا منها لطماً شديداً وعويلاً كثيراً وقائلاً يقول: قد مات سيدوك ملك الجن، وأي بلد لم يلطم أهله عليه ويعملوا له العزاء قلع أصله وهلك أهله. وشاع الخبر، فخرج كثير من النساء الجاهلات إلى المقابر يلطمن وينحن، وخرج كثير من سَفَلة الرجال يفعلون مثل ذلك. قال: وكان ذلك ضحكة عظيمة! ثم قال: ولقد جرى في أيامنا نحن (أي أيام ابن الأثير) في الموصل وما والاها من البلاد مثل ذلك، ذلك أن الناس سنة 600هـ أصابهم وجع كثير في حلوقهم مات فيه كثير من الناس، فشاع أن امرأة من الجن يقال لها «أم عنقود» مات ابنها عنقود، وكل من لا يعمل له مأتماً أصابه هذا المرض! فأقيمت المآتم،

وصار الناس يقولون: يا أمَّ عنقودٍ، اعذُرينا ... قد مات عنقودٌ ما درينا قال: وكل هذا فعل الأوباش (¬1). * * * هذا وعندي من أمثال هذه الطرائف ما يملأ كتاباً كبيراً، لأني كلما قرأت كتاباً علّقت عليه بياناً بما فيه من فوائد وغرائب وأخبار، فإذا أعجبت القراء عاودتهم بمثلها من حين إلى حين، والله المعين. * * * ¬

_ (¬1) ومن اعتقد أن غير الله ينفع أو يضر بلا سبب ظاهر كفر.

طاقة أخبار

طاقة أخبار نشرت سنة 1968 يقيّدني أخي الأستاذ العامودي (¬1) من لطفه المَشوب بالحزم بقيد من حرير، ناعم الملمس ولكنه قوي الشدّ لا أستطيع أن أفلت منه، وقد ماطلته بالمقالة أياماً، ثم أكدت له الوعد أن أدفعها إليه اليوم. وجاء اليوم، وجاءني معه صداع أخذ يشق رأسي، حتى لقد أحسست في صدغي ووراء أذني بمثل المطارق، ولم أعد أقدر على صفحة أسوّدها أو سطور أخطّها، وشُغلت بنفسي عن القرّاء وعن المجلة. وخفت الأستاذ أن أعود إلى الاعتذار، فنظرت في أوراقي، فوجدت أخباراً كنا جمعناها أنا وأخي ناجي (¬2) لنعمل منها كتاباً، ثم صرفَتنا عنه الصّوارف. فقلت: أختار منها طاقة (¬3)، طاقة أخبار لا طاقة أزهار، أشغل بها القراء وأدفع عني بها غضب الأستاذ. ¬

_ (¬1) نُشرت هذه المقالة في مجلة «الحج» التي كان يصدرها الشيخ محمد سعيد العامودي، وكذلك المقالة التي سبقتها (مجاهد). (¬2) المستشار القانوني في وزارة الحج والقاضي السابق في الشام. (¬3) لا باقة كما يقول الناس.

فهاكموها، والفضل لكم إن قبلتموها. * * * محاكمة عند شُرَيح القاضي لما توجّه علي بن أبي طالب إلى صِفّين افتقد درعاً له، فلما انقضت الحرب ورجع إلى الكوفة أصاب الدرع في يد يهودي، فقال لليهودي: الدرع درعي لم أبِعْ ولم أَهَبْ. فقال اليهودي: درعي وفي يدي. فقال: نصير إلى القاضي. فتقدم عليّ فجلس إلى جنب شُريح وقال: لولا أن خصمي يهودي لاستويت معه في المجلس، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أَصْغروهم من حيث أصغَرَهم الله». فقال شريح: قل يا أمير المؤمنين. فقال: نعم، هذه الدرع التي في يد هذا اليهودي درعي، لم أبِعْ ولم أهَبْ. فقال شريح: إيش تقول يا يهودي؟ قال: درعي وفي يدي. فقال شريح: ألك بيّنة يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قَنْبَر والحسن يشهدان أن الدرع درعي، ما عندي غيرهما. فقال شريح: شهادة الابن لا تجوز للأب. حكمت لليهودي.

فقال اليهودي: أميرُ المؤمنين قدّمني إلى قاضيه، وقاضيه قضى عليه! أشهد أن هذا هو دين الحق. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله وأن الدرع درعك. (تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص 7) * * * من أجل الأعرابي عن أبي عبيدة أن المهدي كان يصلي بهم الصلوات الخمس في المسجد الجامع بالبصرة لمّا قَدِمها، فأقيمت الصلاة يوماً فقال أعرابي: لست على طهر، وقد رغبت في الصلاة خلفك فَمُرْ هؤلاء بانتظاري! فقال المهدي: انتظروه. ودخل المحراب فوقف إلى أن قيل: قد جاء الرجل، فكبّر. فعجب الناس من سماحة أخلاقه. (تاريخ الخلفاء، ص 108) * * * الخليفة المهتدي في مجلس القضاء عن عبد الله الإسكافي قال: حضرت مجلس المهتدي وقد جلس للمظالم، فادّعى رجل على ابن المهتدي، فأمر بإحضاره، فأُحضر. وأقامه إلى جنب الرجل فسأله عمّا ادّعاه عليه، فأقرّ به، فأمره بالخروج له من حقه. فكتب له بذلك كتاباً، فلما فرغ قال له الرجل: والله يا أمير المؤمنين ما أنت إلا كما قال الشاعر:

حكّمتموهُ فقضى بينكم ... أبْلَجُ مثلُ القمر الزّاهرِ لا يقبل الرِّشْوةَ في حُكمه ... ولا يُبالي غَبَنَ الخاسر فقال له المهتدي: أما أنت أيها الرجل فأحسن الله مقالتك، وأما أنا فما جلست هذا المجلس حتى قرأت في المصحف: {وَنَضَعُ المَوَازينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيئاً، وإنْ كانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِها، وَكَفى بنا حَاسبين}. قال: فما رأيت باكياً أكثر من ذلك اليوم. (تاريخ بغداد، 3/ 349) * * * من صفات الرشيد كان هارون الرشيد أبيض طويلاً مَليحاً فصيحاً، له نظر في العلم والأدب، وكان يصلّي في خلافته في كل يوم مئة ركعة إلى أن مات، لا يتركها إلا لعلة، ويتصدق من صُلب ماله كل يوم بألف درهم. وكان يحب العلم وأهله ويعظّم حرمات الإسلام، ويبغض المِراء في الدين والكلام في معارضة النص، وكان يبكي على نفسه وعلى إسرافه وذنوبه، لا سيّما إذا وُعظ. دخل عليه مرة ابن السمّاك الواعظ، فبالغ في احترامه، فقال له ابن السماك: تواضعك في شرفك أشرف من شرفك، ثم وعظه فأبكاه.

وقال أبو معاوية الضرير: أكلت مع الرشيد يوماً، ثم صبّ على يدي رجل لا أعرفه، ثم قال الرشيد: تدري من يصب عليك؟ قلت: لا. قال: أنا، إجلالاً للعلم. وكانت أيام الرشيد كلُّها خيرٌ كأنها -من حسنها- أعراس. (تاريخ الخلفاء، ص111) * * * القاضي يردّه إلى الحق كتب المنصور إلى سِوار بن عبد الله قاضي البصرة: انظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد وفلان التاجر، فادفعها إلى القائد. فكتب إليه سِوار: إن البيّنة قد قامت عندي أنها للتاجر، فلست أخرجها من يده إلا ببيّنة. فكتب إليه المنصور: والله الذي لا إله إلا هو لتدفعنّها إلى القائد. فرد عليه: والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجتُها من يد التاجر إلا بحق! فما جاء الكتاب قال المنصور: ملأتها والله عدلاً، وصار قضاتي يردّونني إلى الحق. (تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص103) * * *

لو احتجت إلى مالك ما وعظتك قام بعض الزهّاد بين يدَي المنصور فقال: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشترِ نفسك ببعضها، واذكر ليلة تبيت في القبر وكأنك لم تَبِتْ قبلها ليلة، واذكر ليلة تمَخّض عن يوم لا ليلة بعده. فأمر له المنصور بمال فقال: لو احتجت إلى مالك ما وعظتك! (تاريخ الخلفاء، ص103) * * * عزة العلم قال الجاحظ: لقد دخلت على إسحاق بن سليمان في إمرته فرأيت السِّماطَين (¬1) والرجال مثولاً كأن على رؤوسهم الطير، ورأيت فرشته وبِزّته. ثم دخلت عليه وهو معزول، وإذا هو في بيت كتبه (أي في مكتبته) وحواليه الأسفاط والرقوق والقماطير والدفاتر والمساطر والمحابر، فما رأيته قط أفخم ولا أنبل ولا أَهْيَب ولا أجزل منه في ذلك اليوم، لأنه جمع مع المهابة المحبة، ومع الفخامة الحلاوة، ومع السؤدد الحكمة. (الحيوان للجاحظ، ص50) * * * ¬

_ (¬1) السِّماط هو الصف من الرجال، وكانوا يقولون: قام الرجال حول فلان سِماطَين؛ أي وقفوا صفَّين بين يديه (مجاهد).

هكذا يُطلَب العلم عن حمدان الأصبهاني قال: كنت عند شَريك فأتاه ابن الخليفة المهدي، فاستند إلى الحائط وسأل عن حديث، فلم يلتفت إليه شريك، ثم أعاد عليه السؤال فعاد إلى الإعراض عنه. فقال له: كأنك تستخفّ بأولاد الخلفاء؟ قال: لا، ولكن العلم أزين عند أهله من أن يضيّعوه. فجثا على ركبتيه ثم سأل، فقال شريك: هكذا يُطلَب العلم! (تاريخ الخلفاء ص108) * * * النية الصالحة حُمل إلى الإمام البخاري بضاعة له، فاجتمع بعض التجار إليه بالعشية فطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم، فقال لهم: انصرفوا الليلة. فجاءه من الغد تجّار آخرون فطلبوا منه تلك البضاعة بربح عشرة آلاف درهم، فردّهم وقال: إني نويت البارحة أن أدفع إلى الذين طلبوا أمس بما طلبوا أول مرة. فدفعها إلى الأوّلين بما طلبوا بربح خمسة آلاف درهم، وقال: لا أحب أن أنقض نيّتي. (تاريخ بغداد 3/ 11) * * *

ذكاء الشَّعبي روي أن عبد الملك بن مروان خرج يوماً، فلقيته امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين. قال: ما شأنك؟ قالت: توفي أخي وترك ستمئة دينار، فدُفع إليّ من ميراثه دينار واحد وقيل: هذا حقك! فعمي الأمر فيها على عبد الملك، فأرسل إلى الشعبي فسأله. فقال: نعم، هذا توفي فترك ابنتين فلهما الثلثان أربعمئة، وأُمّاً فلها السدس مئة، وزوجة فلها الثمن، خمسة وسبعون، واثني عشر أخاً فلهم أربعة وعشرون، وبقي لهذه دينار. (تاريخ الخلفاء ص86) * * * دخول بلا كلام عن محمد بن يزداد قال: كنت بباب المأمون، فجاء محمد ابن أبي محمد اليزيدي فاستأذن، فقال له الحاجب: إن أمير المؤمنين قد أخذ دواء وأمرني أن أحجب الناس عنه. قال: فأمَرَك أن لا تُدخل إليه رقعة؟ قال: لا. فدعا بدواة كانت مع غلامه وقرطاس وكتب إليه:

هديّتيَ التحيّةُ للإمامِ ... إمامِ العَدْل والمَلِكِ الهُمامِ لأنّي لو بذلتُ له حياتي ... وما أحوي لَقَلاّ للإمام أراكَ من الدّواءِ اللهُ نفعاً ... وعافيةً تكون إلى تَمام أتأذنُ في الدخول بلا كلام ... سوى تقبيل كفّك والسلام؟ قال: فأدخل الرقعة، وخرج مسرعاً وأَذِن لي. فدخلت مسرعاً وخرجت، وأتبعني بألف دينار. (تاريخ بغداد 3/ 412) * * * وصف بيمارستان (مستشفى) بنى عبد المؤمن في مرّاكش بيمارستاناً ما أظن أن في الدنيا مثله، وذلك أنه تخيّر ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد، وأمر البنّائين بإتقانه على أحسن الوجوه، فأتقنوا فيه من النقوش البديعة والزخارف المحكمة ما زاد على الاقتراح. وأمر أن يغرس فيه مع ذلك من جميع الأشجار المَشمومات والمأكولات، وأجرى فيه مياهاً كثيرة تدور على جميع البيوت زيادة على أربع برك، في وسط إحداها رخام أبيض. ثم أمر له من الفرش النفيسة من أنواع الصوف والكتان والحرير والأديم وغيره بما يزيد على الوصف ويأتي فوق النعت، وأجرى له مبلغاً من المال في كل يوم برسم الطعام، وما ينفق عليه خاصة، خارجاً عما جُلب إليه من الأدوية. وأقام فيه من الصيادلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال، وأعد فيه للمرضى ثياباً للّيل وللنهار، ومن جهاز الصيف والشتاء، فإذا نَقَه المريض فإن كان فقيراً أمر له عند خروجه بمال يعيش

به ريثما يستقل، وإن كان غنياً دفع إليه ماله وتركته وسببه. ولم يقصره على الفقراء دون الأغنياء، بل كل من مرض بمرّاكش من غريب حُمل إليه وعولج إلى أن يستريح أو يموت، وكان يركب إليه في كل جمعة بعد صلاته ويدخله ويعود المرضى ويسألهم عن أحوالهم. (المُغرَب ص190) * * *

حادثة من التاريخ

حادثة من التاريخ أذيعت سنة 1972 [كان عمر بن الخطاب يقول: لا يزال الناس بخير ما عرفوا أمر جاهليتهم؛ لأن الذي اغتنى لا يدرك نعمة الغنى إلا إذا ذكر أيام الفقر، ومن شبع لا يعرف قدر نعمة الشّبَع إلا إنْ تَصوَّر حالة الجوع. ونحن الذين نستمتع اليوم -في هذه البلد- بالعزة والكرامة وعلوّ المنزلة بين الدول، ينبغي لنحمد الله على هذه النعمة أن نعرف كيف كنّا. وهذا قصة من الماضي القريب تصوّر لكم كيف كنا، أعرضها عليكم لتحمدوا الله على ما أنتم فيه.] هذه حادثة وقعت في جدة في السادس من ذي القعدة سنة 1274هـ، منذ مئة وثماني عشرة سنة، ترون فيها ما كنا فيه من الخضوع لدول الغرب ومن تسلط دول الغرب علينا، لتَعجبوا مما كنا فيه مع كبر الدولة العثمانية وسعة ملكها، ولتحمدوا الله على ما صرنا إليه من العزة والكرامة. وخلاصة الحادثة أن تاجراً من تجار جدة اسمه صالح جوهر، كان له مركب في البحر قد رفع عليه لسبب من الأسباب الراية الإنكليزية، فخطر له يوماً فأنزلها ورفع مكانها الراية

العثمانية، فسمع بذلك قنصل الإنكليز، فمنعه فلم يمتنع، وراجع التاجرُ الوالي نامق باشا، فأذن له برفع الراية العثمانية وكتب له بذلك منشوراً. فطلع قنصل الإنكليز وأنزل الراية العثمانية ووطئها برجله، وتكلم (كما تقول الرواية) بكلام غير لائق، وأعاد الراية الإنكليزية. وشاع ذلك بين الناس فغضبوا وهاجوا، وخرجت جماهيرهم صاخبة فأحاطت بدار القنصل ورمتها بالحجارة، فخرج إليهم القنصل وقابلهم بالشدة والعنف ووجّه إليهم الشتائم، فألقى بذلك الزيت على نار غضبهم، وكانت النتيجة أن قُتل القنصل، وجرّهم الغضب إلى مهاجمة القنصليات الأجنبية الأخرى. وأرادوا العدوان على النصارى ونهب أموالهم، لا سيما كبيرهم التاجر فرج بيه، وهو شريك قنصل الإنكليز وكانت له يد فيما كان من القنصل، فمنعهم من ذلك وكيل شريف مكة، السيد عبد الله نصيف، وجيه جدة يومئذ (وكان شريف مكة هو محمد ابن عون). وكان نامق باشا قد سافر إلى المدينة، فلما سمع بهذه الحادثة عاد مسرعاً إلى جدة، وعمل على تسكين الفتنة، وقبض على من تولّى كبرها وأثارها ووضعهم في السجن، وكتب إلى إسطنبول يخبر السلطان بما كان، وطلع إلى مكة لأداء الحج. فلما كان اليوم الثالث من أيام التشريق، والناس في منى، جاء الخبر من جدة بأن سفينة حربية إنكليزية وقفت حيال جدة ورمتها بالقنابل خمس ساعات متتاليات، بلا إنذار ولا إعلان

حرب. ولم يكن في المدينة إلا الضعاف والنساء والأولاد والقليل من الرجال، لأن أكثر الناس في الحج، فذُعروا وخرجوا هائمين على وجوههم تاركين بيوتهم وأموالهم. فنزل نامق باشا إلى مكة، وعقد مجلساً عاماً أحضر فيه وجوه جدة ومكة وشيوخ القبائل وكبار المواطنين، وعرض عليهم الأمر وسألهم الرأي. فقال أكثرهم: إن الإسلام ولله الحمد قوي وأهله كثيرون. وذكروا له عدد قبائل الحجاز، مثل هُذَيل وثَقيف وحَرْب وغامِد وزَهْران، وقالوا له: لو تركتهم ينفرون نفيراً عاماً لاجتمع منهم خمسون ألفاً، ولدفعوا عدوان الإنكليز وردّوهم على أعقابهم وأذاقوهم وبال أمرهم. فقال لهم نامق باشا: هذا العدد الذي ذكرتموه صحيح، وربما كان في قبائل العرب أضعاف ما ذكرتم، ولكن إذا اجتمعت هذه القبائل فإن غاية ما يقدرون عليه أنهم يصلون إلى جدة ويدفعون هذا المركب، فيجيء غيره من مراكب الإنكليز وغيرهم من الدول فيعتدي على بقية المرافئ، وتكون حرب على الدولة العثمانية لا تملكون نيل النصر فيها، لأنكم لا تملكون سفناً حربية ولا تقدرون على خوض المعارك الحربية، ثم إن جمع هذه القبائل يحتاج إلى مدة طويلة والأمر أعجل من ذلك. فقال أحد التجار: إن من البحّارة في جدة من يستطيع الغوص والدخول تحت هذا المركب البحري، فيغرقه بالبرّامات التي تثقب فيه ثقوباً. قال الباشا: وما النفع من إغراقه، وإن نحن أغرقناه جاءنا

بدل المركب عشرة، وإن أغرقنا العشرة جاءتنا مئة؟ قالوا: فماذا ترى؟ قال: نتدارك الأمر باللطف وحسن السياسة، بأن نتوجه إلى جدة أنا وبعض أعيانكم، ونجتمع بقبطان هذا المركب ونعقد معه أمراً يندفع به الضرر. فاستحسنوا رأيه وتوجهوا معه إلى جدة، فقابل القبطان، وتم الاتفاق على أن يجري التحقيق في هذه القضية ويُرفَع الأمر إلى السلطان ويُعمَل بما يجيب به. ولكن السلطنة -مع الأسف- خيّبت الأمل فيها ووقفت موقفاً هو الغاية في المذلة والهوان؛ فبدلاً من أن تدفع العدوان بمثله أو أن تحتجّ عليه وترفض القبول، وهذا أقل الإيمان، أرسلت في أواخر المحرم من سنة 1275 لجنة تحقيق مختلطة، مؤلفة من أعضاء عثمانيين وأعضاء إنكليز وفرنسيين. وكان العثمانيون قلة في اللجنة فسيطر عليها الأجانب، وراحت اللجنة تقبض على كل من تتوهم أن له صلة بمقتل القنصل على اعتبار أن هذه هي الجريمة الكبرى، أما ضرب البلد الآمن بالقنابل وإزهاق المئات من أرواح الأبرياء، وإضاعة الأموال وتخريب البيوت وترويع الآمنين، فهذا كله مشروع. وقبضوا على المئات من الوجوه والأعيان. فلما لم يستطيعوا معرفة الفاعل الحقيقي لجؤوا إلى قرار غريب؛ هو اتهام الباشا ووكلائه ووجوه البلد بأنهم أحدثوا هذه الفتنة. وكان أغرب من ذلك أن خنعت الدولة العليّة العثمانية، فقبلت بنفي نامق باشا

وقتل الوجيه الأنبل كبير الحضارم السيد سعيد العامودي، فقُتل علناً في جدة، كما قُتل عبد الله المحتسب واثنا عشر من وجوه الناس. ونفوا عشرات من كرام الناس، فمنهم من مات في منفاه كالسيد عبد الله باهارون، شيخ السادة من الحضارمة، ومنهم من رجع إلى جدة بعد أمد طويل كالشيخ عبد القادر قاضي جدة، والشيخ عمر بادرب، والشيخ سعيد باغلف. وحضر بعد انتهاء الأمر الشريف عبد الله الذي ولي إمارة مكة، فقال له أعضاء اللجنة من الإنكليز والفرنسيين: لقد سرّنا قدومك إلى جدة قبل أن نسافر، لأننا نريد الوصول إلى مكة لنراها وخشينا أن يمنعنا أهل مكة من دخولها، فلما حضرت أنت وثقنا من دخولها، لأنه لا يستطيع أحد أن يمنعنا وأنت الأمير المُطاع النافذ الأمر. فبلغ منه الضعف وبلغ من هيبتهم في نفسه أنه لم يستطع أن يردهم، واسمعوه يقول بلسانه (كما نقل ذلك زيني دَحلان) قال: "إنهم لما طلبوا مني ذلك تحيرت، وعلمت أني إن أجبتهم بأن ذلك محرَّم في ديننا لم يقبلوا مني الجواب وأن المسلمين لا يقبلون بدخولهم مكة، فألهمني الله جواباً عقلياً إقناعياً، فقلت لهم: أنتم رأيتم صورة مكة في الخرائط والجغرافيات، ليس فيها بساتين ولا أنهار ولا شيء من الزخارف، وإنما هي واد غير ذي زرع بين الجبال، وذهابكم إليها تعب بلا فائدة. فقنعوا بهذا الجواب وتركوا الذهاب". * * *

هذه هي الحادثة التي كانت -كما يقول دحلان- من أعظم المصائب على الإسلام، سردتها عليكم لتَعجبوا مما كنا فيه من الضعف أمام دول الغرب، ولتحمدوا الله على أنّا صرنا أعزّ وأكرم، وأن مثل هذا الحادث لا يمكن أن يُعاد. * * *

من نصوص «الحسبة»

من نصوص «الحِسْبَة» حديث أذيع سنة 1965 اسمحوا لي أولاً أن أقرأ عليكم هذا النص، ثم أقول لكم ما هو موضوع الحديث. هذا النص تعليمات وأوامر للخبّازين وأصحاب الأفران، قال: "يجب رفع سقف الفرن وأن يُجعَل فيه مَنْفَس واسع للدخان، ويجب كنس بيت النار قبل كل تَعْميرة، وغسل البرميل وتبديل مائه كل يوم، وغسل المَعاجِن وتنظيفها. ويجب على من يعجن العجين أن يلبس ثوباً أبيض ضيّق الكمين لئلا يسقط شيء من عَرَقه في العجين، وأن يكون ملثَّماً لأنه ربما عطس أو تكلم فقطر شيء من فمه في العجين، ويشدّ على جبينه عصابة بيضاء لئلا يعرق فيقطر من عرقه شيء في العجين، ويحلق شعر ذراعيه لئلا يسقط من شعره في العجين، وإذا عجن في النهار فليكن عنده إنسان في يده مِذَبّة فيطرد الذباب عن العجين. ولا يجوز أن يُستعمَل الكُرْكُم والزَّعْفَران في توريد وجه الرغيف حتى يُظَنّ أنه ناضج، ولا أن يُغَشّ الدقيق بدقيق الحمص والفول، ولا أن يُخبَز العجين قبل أن يختمر، فإن الفَطير يثقل في الميزان وفي المعدة". * * *

ربما ظننتم -يا أيها الإخوان المستمعون- أن هذه التعليمات صادرة عن إحدى البلديات أو إحدى دوائر الصحة في عصرنا هذا. لا يا سادة؛ إنها تعليمات المحتسب قبل سبعمئة سنة، في القرون التي نسميها «القرون الوسطى» تقليداً منا للغربيين ومجاراةً لهم في اصطلاحاتهم. لقد كانت القرون الوسطى عهودَ تأخر وانحطاط في أوربا، أما في بلادنا فقد كانت عهود ازدهار وحضارة، وهذا النص الذي أنقله لكم شاهد واحد من آلاف الشواهد على ما أقول. النص من كتاب «الحِسْبَة»، ترون منه كيف أُلزِم العَجّان بأن يلبس مثل ثياب الجرّاحين في المستشفيات في أيامنا، صِدارة بيضاء ضيّقة الكُمَّين، ولثام يغطي الأنف والفم، وعصابة بيضاء تُشَدّ على الجبين، وأعجب من هذه إلزام العجّان بأن يحلق شعر ذراعيه لئلا تسقط منه شعرة في العجين. كما أوجبوا على كل خبّاز أن يتخذ له خاتماً فيه شارة خاصة يطبع به على كل رغيف يخرج من فرنه، ليكون مسؤولاً عنه إذا كان في دقيقه غش. وفي «نفح الطبيب» أن الحاكم في الأندلس كان يسعّر الأشياء الضرورية، لا سيّما الخبز واللحم، ويأمر البيّاعين بأن يضعوا عليها أوراقاً بسعرها، ثم يبعث المحتسبُ الولدَ الصغير أو الخادم لاختبار البيّاع، فإن باعه بأكثر من السعر الرسمي استدعاه وعاقبه، فإن عاد أغلق دكّانه. وفي كتاب «الحسبة» أيضاً نص عن الأطباء، لا يكاد يصدّق القارئ أنه مكتوب في القرن الثاني عشر الميلادي، أيام كانت

أوربا لا تعرف من الطب إلا ما تعرفه أشد القبائل الاستوائية في إفريقيا بعداً عن الحضارة وعن العلم؛ كانوا يداوون بالسحر والشعوذة وبتر الأعضاء بلا داع، وخنق المريض بأنواع من الأعشاب المؤدّية لطرد الشياطين! واقرؤوا ما كتبه أسامة بن منقذ. هل تعرفون أسامة بن منقذ؟ إنه البطل الأديب، أحد فرسان الحروب الصليبية وأحد المؤلفين البارعين، وكتابه «الاعتبار» الذي دَوّنَ فيه مشاهداته من الكتب العالمية، وقد تُرجم إلى أكثر اللغات الحية. في هذا الكتاب قصة طبيب مسلم أرسله ليداوي أحد ملوك الإفرنج في أيام هدنة كانت بين المسلمين والصليبيين، فاقرؤوها تروا كيف تركوا أدوية الطبيب وعمدوا إلى مداواة المريض بالنار والدخان والسحر لطرد الشياطين، ثم ضربوا رجله بالفأس فقطعوها، ومات المريض! في تلك الأيام تُنشَر هذه التعليمات التي أتلوها عليكم. قال صاحب كتاب «الحسبة»: "وينبغي إذا أُدخِل الطبيب على المريض أن يسأله عن سبب مرضه وعمّا يجده من الألم، ثم يرتب له قانوناً من الأشربة وغيرها من العقاقير، ويكتب نسخة منه لأولياء المريض ويُشهد عليها مَن حضر معه عند المريض، فإذا كان من الغد حضر ونظر إلى دائه ونظر إلى قارورته (أي فحص بوله) وسأل المريض: هل تناقص به المرض أم لا؟ ثم يرتب له ما ينبغي حسب مقتضى الحال. وهكذا إلى أن يبرأ أو يموت. فإن برئ من مرضه أخذ

الطبيب أجرته وكرامته، وإن مات حضر أولياؤه عند الطبيب الذي كان قد نصبه السلطان رئيساً للأطباء وعرضوا عليه النسخ التي كتبها لهم الطبيب، فإن رآها على مقتضى الحكمة وصناعة الطب، من غير تفريط ولا تقصير من الطبيب، قال لهم: إن مريضكم مات بانتهاء أجله. وإن رأى أن الطبيب قد أخطأ أو قصّر قال لهم: خذوا دية صاحبكم من الطبيب، فإنه هو الذي قتله بسوء صناعته وتفريطه". أرأيتم يا سادة؟ إن هذه المسؤولية -التي قررها المجتمع الإسلامي من قرون طويلة- لم تقرَّر إلى اليوم في أكثر البلاد المتحضرة. وفي هذا الكتاب، مع أنه كتاب في الحسبة لا في الطب، بيان كثير من آدابه؛ فعلى الطبيب أن يحلف اليمين التي سنّها أبقراط، وعليه أن لا يعطي أحداً دواء مضراً، وأن يمتنع عن مساعدة النساء على الإجهاض وإسقاط الولد، ولا يعطي الرجال الدواء الذي يقطع النسل، وليغض بصره عن العورات عند دخوله على المرضى، ولا يفشي سرّ مريضه. * * * هذه قطرة من بحر مما كنا عليه في القرون التي ندعوها «القرون الوسطى»، والتي كانت أوربا تعيش فيها وراء ثلاثة حجب من الهمجية والتعصب والجهل. * * *

من طرائف الأخبار

من طرائف الأخبار حديث أذيع نحو سنة 1969 السبب في أن عنوان هذه السلسلة «بلا عنوان» هو أني وجدت المدرّس إذا التزم الجِدّ الحصةَ كلها ولم ينفّس عن الطلاب بنكتة أو نادرة مَلّوا درسه، وأن المائدة إذا كانت كلها لحماً وشحماً وسمناً لم يكن فيها أبازير ومشهّيات انصرفت النفوس عنها. فأحببت أن تكون هذه السلسلة «بلا عنوان» لأحدّث مرة في الموضوع الأصلي وألتزم طريق الجِدّ، وأقف مرة لأستريح وأريح القراء وأخفف عنهم ثقل الجِدّ بنكتة أو نادرة. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح ولكن لا يقول إلا حقاً. جاءته امرأة عجوز من الأنصار فقالت له: ادعُ الله أن يدخلني الجنة، فقال لها: إن الجنة لا تدخلها عجوز. فولّت وهي تبكي، فقال لها: أما قرأت قوله تعالى: {إنّا أنْشَانَاهُنَّ إنْشاءً، فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً، عُرُباً أَتْرَاباً}؛ أي أنها تعود في الجنة شابة. وجاءه مرة بدوي يطلب منه أن يحمله على جمله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أحملك إلا على ولد الناقة»، قال الرجل: إنه لا يطيقني! فقال له الناس: ويحك، وهل الجمل إلا ولد الناقة؟ وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتمازحون حتى إنهم يتبادحون

بالبطيخ؛ أي يرمي كل منهم قطعة البطيخ على صاحبه، فإذا جاء الجِد كانوا هم الرجال. وسُئل الشَّعبي: أكان أصحاب محمد يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم مثل الجبال. وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل اسمه نُعَيمان كثير المزاح، ومن مزحه أنه رأى مَخْرمَة بن نوفل (وكان ضريراً، ولا يعرفه)، فقال له: دلّني على مكان أبول فيه، فجاء به إلى مؤخرة المسجد. فلما قصر ليبول صاح به الناس: إنك في المسجد! قال: من قادني؟ قالوا: نُعيمان. قال: لله عليّ إن وصلت إليه لأضربنه بعصاي. ومرت أيام، فجاءه نعيمان فقال: أتحب أن أدلّك على نعيمان؟ قال: نعم. قال: ها هو ذا. وقاده حتى أوصله إلى عثمان ابن عفان وهو قائم يصلي. فرفع عصاه فضربه، فصاح به الناس: ويلك، تضرب أمير المؤمنين! قال: من قادني؟ قالوا: نعيمان. قال: والله لا تعرضت له أبداً. وهذا مزاح ثقيل وربما كان يجاوز كل حدود المزاح المألوف، ومع ذلك قبله الصحابة لأنه مزاح، ولو أخذوه على أنه جِدّ لكان نصيب نعيمان العقوبة الشديدة الرادعة. ومن شاء أن يطّلع على مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين والأئمة، فلينظر كتاب «المِراح في المِزاح» للغَزّي. * * * فأنا جعلت أحاديث هذه السلسلة بلا عنوان لأحدّث تارة حديث التسلية والفكاهة، وتارات حديث الجِدّ والفائدة. ولقد أدركنا من مشايخنا من كان يحدثنا عن نفسه بما لو حدث به اليوم

مدرّس لَعُدّ من الغرائب. شيخنا عبد القادر المبارك رحمه الله، الذي كان راوية العصر وكان من أيسر محفوظاته «القاموس المحيط»، حدّثنا مرة في الفصل أن إخوانه كانوا يعيبون عليه أنه -لاشتغال فكره بمسائل اللغة والأدب- يسلّمون عليه في الطريق فلا يردّ السلام، فعزم يوماً على أن يكون متنبهاً، فسمع وهو خارج من بيته وطء خطوات جاره على بلاط الزقاق، فلما اقترب منه قال له بصوته الجهوري العجيب: "وعليكم السلام"، ثم التفت ليراه فإذا هو بغل الطاحون، أرسله صاحبه إلى البِرْكة ليشرب! وكنت يوماً من أيام الدراسة في مصر، فركبت الترام مع أستاذ جليل من مشايخ الأزهر، وكان معروفاً بثقل الجسم وخفة الروح، وكان الترام مزدحماً، فقعد أمامنا رجل رومي (خواجة) ووضع رجلاً على رجل، فأصاب بطرف حذائه جبة الشيخ السوداء، فنبّهه ليُنزل رجله، فقال له: أنا خُرّ (يعني حر). فهممت به، فوكزني الشيخ بيده أن أتركه، فتركته وأنا مغتاظ، وإذا بالشيخ يمد رجليه الاثنتين بالحذاء فيضعهما في حضن الخواجة! فقال الخواجة: إيه ده يا حضرة الشيخ؟ فقال له الشيخ: أنت خر، أنا خُرّين. وارتجّ الترام من الضحك، وهرب الخواجة. وكان في الشام رجل صالح زاهد حقيقة اسمه الشيخ أحمد الحارون، رحمه الله، وكان الناس يعتقدون أنه من أهل الكرامات، وهو لا يدّعي شيئاً من ذلك. قصّ علينا بلسانه أنه جاءه مرة رجل في اليوم الثامن من ذي الحجة يسأله أن يرسله إلى الحج، أيام كان السفر إلى الحج يستغرق في البر أو البحر أسبوعاً على الأقل.

فقال له: كيف آخذك إلى الحج والوقفة غداً؟ قال: إنك من أهل الكرامات، وقد خبّروني أنك تستطيع أن توصلني إلى مكة. فقال له: يا أخي، إن الذي خبّرك قد سخر منك. أنا لا أستطيع أن أوصل نفسي الآن إلى مكة، فضلاً عن أوصلك. فقال: بل تستطيع، أنت من أهل الكرامات، قد خبّروني بذلك. ولازمه لا يفارقه، فقال له: هل تكتم كل ما أصنعه معك ولا تخبر به أحداً؟ قال: نعم. قال: وتقسم على ذلك؟ فأقسم له، وزاد على القسم طلاق امرأته ثلاثاً إذا خبّر أحداً. قال له: امشِ معي. فأخذه إلى مسجد التكية السليمانية في الشام، وفيها بركة ماء مربَّعة طول كل ضلع من أضلاعها عشرة أذرع، ولكن عمقها قليل. وكان المسجد خالياً في تلك الساعة من النهار، فقال له: قف على حافة البركة، فوقف. قال: أغمض عينيك. فأغمض عينيه، فدفعه الشيخ إلى البركة وهرب! فصاح وتخبط، فاجتمع نفر من المارة سمعوه فأخرجوه والماء يقطر منه. قالوا: كيف سقطت؟ من رماك؟ قال: لا أستطيع أن أقول! * * * عندي من أمثال هذه الأخبار الكثير، ولكن الوقت انتهى، ولعلي أعود إلى مثلها في وقت آخر. والسلام عليكم ورحمة الله. * * *

وقفة على الفسطاط

وقفة على الفسطاط نشرت سنة 1947 قرأت في مذكرات صاحب السمو الملكي الأمير محمد علي التي طُبعت في مصر هذه السنة أنه كان يتولى رياسة لجنة حفظ الآثار العربية، فقررت اللجنة سنة 1329هـ "إصلاح جامع عمرو وتجديده، اهتماماً به من جهة أنه أول مسجد أسس في الإسلام بمصر، وأنه مَشرق أنوار العلوم الإسلامية بمصر منذ القدم، ولئلا نعاب بقلة الاكتراث بمفاخرنا التاريخية". واهتم بذلك الأجانب، وكتب إليه أساتذة كبار محبّذين ومشجّعين، وكاد يتم الأمر لولا أن أكثر الأعضاء المسلمين في اللجنة غابوا عن الجلسة التي عُيِّنت لإتمام المشروع، فصارت الأغلبية للأجانب. قال الأمير: "فلما بدأت في تبادل الآراء مع الأعضاء في مسألة إصلاح الجامع قام هرتس باشا، مهندس الأوقاف إذ ذاك، وسألني: ماذا تعملون في حيطان سور الجامع؟ فقلت: حيث إن السور متهدم متخرب، وإنه جُدِّد مراراً ولم يبقَ له منظر جذاب، نريد أن نعمل سوراً جيداً فخماً يتناسب واسم الجامع. فأظهر أسفه

لهذا العمل وقال: إننا إذن سنكسر ما فيه من طوب أحمر أثري، وإن هذا خسارة لا تعوض لأنها آثار قديمة ستتلف بهذا العمل. وبعد ذلك سأل السيد ديمول، الممثل الألماني لصندوق الدَّيْن قائلاً: ماذا تعملون في البواكي؟ ثم سأل المستشرق السويسري بورك هارت: ماذا تعملون في عمدان الجامع؟ وبعد ذلك قام السيد فارنال، الممثل الإنكليزي لصندوق الدين، وسأل: ماذا تعلمون في البوابة الكبيرة؟ ". وذكر الأمير جوابه لكل منهم، وهو جواب مقنع، ولكن القوم لم يقتنعوا. قال: "ثم زاد امتعاضي وقلت لجميع الجالسين: أما يَندى جبينكم خجلاً من هذا الوضع أيها الجماعة؟ إن الدين الإسلامي لا يسمح لغير المسلم أن يتدخل في أمور مساجد الله، والحكومة المصرية سمحت وتساهلت إلى حد أن تتدخلوا في شؤون نحو مئتين وخمسين مسجداً في مصر دون حق شرعي، والمسلمون لمّا أرادوا تعظيم شأن جامع مَن أدخل الدين الإسلامي في بلادنا تُحجمون وتوقفون عملنا؟ وعلى هذا فإني متنازل عن رياسة هذه اللجنة". وتنازل الأمير، ووقف العمل. * * * قرأت هذا فأحببت أن أزور الجامع، ولم أكن زرته، وهو قريب من «الرَّوضة» حيث أقيم. فسألت فوجدت أنه لا يصل إليه ترام ولا سيارة، مع أن كل مكان في مصر -إلاّ هو- تمشي إليه سيارة أو ترام! فذهبت أخوض في التراب في طرق مهملة ومسالك

معطلة، حتى وصلت إلى الجامع، وهو قائم كالشيخ المريض المُدنِف وسط العِشَش والفواخير والجيّارات والجبّانات! قلت: أهذا هو جامع عمرو؟ قالوا: نعم. قلت: وهذه هي الفسطاط؟ قالوا: نعم. الفسطاط، أول بلدة للمسلمين في مصر، يهملها المسلمون حتى تعود مقابر للنصارى؟ الفسطاط، منزل الفاتحين الذين نشروا في مصر حضارة الإسلام، يُمحى منها كل مظهر للحضارة فلا يكون فيها إلا الفواخير والجيّارات، وتذهب منها معالم الحياة فلا تكون إلا داراً للموتى! هل يدري هؤلاء الذين يروحون ويغدون على هذه البقعة المتروكة، وهل يدري أولئك الذين لم يزوروها ولم يروها، أنه من هنا سطع النور الذي أضاء مصر بضوء الإسلام، ومن هنا انبجس المَعين الذي روّى العِطاش من أبناء مصر وإفريقيا، ومن هنا مشت الراية الإسلامية حتى رفرفت على نصف دنيا الماضي من البحر الأحمر إلى ما وراء البيرنيه، ومن هنا خرج الصوت الذي ألغى نظام الطبقات وساوى بين الناس في مصر وأعطاهم الحرية في دينهم ودنياهم، وأنها هنا وُلدت مصر زعيمة العروبة ومثابة الإسلام؟ فمن الذي كاد لهذه البقعة الطاهرة حتى صارت أوحش

بقعة في مصر وأحطَّها وأبعدها عن الحضارة والنظافة والبهاء؟ ما الذي صرف الناس عنها، فلا يؤمّها مصري ليذكر مشرق شمس الهداية منها على بلاده، ولا يستطيع أن يصل إليها سائح ليرى فيها آثار أمجد ذكرى في تاريخ مصر؟ أيتخرب المسجد ويُهمَل الحصن، ولا تشفع لهما روعة البطولة ولا خشعة الإيمان ولا عظمة العلم؟ أما والله الذي لا إله إلا هو، لو كانت هذه المآثر لغيرنا، لأمة تحس وتشعر وتقدّر أمجادها، لجعلت بِقاعها كلها كَعبات يُحَجّ إليها ومنابر تتلو على الناس سُوَر البطولة فيصغي إليها الناس، ولخلّدَت كل مكان مرّ منه عمرو وكل طريق سلكه وكل قلعة افتتحها، من العَريش إلى الفرما إلى أم دُنَين (قرب حديقة الأزبكية)، إلى ساحة المعركة في عين شمس، إلى ميدان الوقعة الكبرى التي كان فيها النصر عند حصن بابليون (قصر الشمع) عند جامع عمرو. ولَعَبّدت هذا الطريق، طريق الفتح، وظلّلَته بأشجار الغار وكنَّفَته بالورد والفلّ، ولجعلت في كل قرية وكل بلدة مدرسة باسم عمرو، تعرّف الناس بعمرو وبالدين الذي جاء به عمرو. * * * إن فتوح المسلمين أعجوبة التاريخ ومعجزة الدهر، ولكن ليس فيها ما هو أعجب من فتح مصر، فقد حيّر من الوجهة الحربية العسكريين وأدهش بنتائجه المؤرخين. لقد كان جيش عمرو يوم صدم مصر أربعة آلاف. وما

أربعة آلاف في جنب مصر وملك مصر؟ ولو أطبق عليهم أهلها بأجسادهم لطحنوهم، ولو ضاربوهم بالحجارة لقتلوهم، ولو حصروهم من بعيد لأهلكوهم. ولكن أربعة آلاف فتحت مصر، فتحتها بعبقرية قائدها، فتحتها بخلائقها وبإيمانها. ومَن كان معه الإيمان لا يقف له شيء. ولقد فتح مصرَ من قبله فاتحون، العرب (الهكسوس) أبناء الجزيرة، والفرس، واليونان، والروم، فكان في مصر غالبون ومغلوبون، غرباء حاكمون ومصريون محكومون، ولبث الفتح ما لبثت القوة، فلما زالت زال وعادت البلاد لأهلها. فلما فتحها عمرو صارت لقومه إلى آخر الدهر. ولقد دأب الروم -وهم آخر من حكمها- عاملين بالترغيب والترهيب، يستخدمون العطايا والمنايا لحمل المصريين على مذهب في النصرانية غير مذهبهم، فما استطاعوا، وهم جميعاً أهل دين واحد، واستطاع عمرو أن يُدخلهم بطوعهم ورضاهم في الإسلام، فيكونوا هم أهله وتكون بلدهم بلده. وهذه هي طريقة الفاتحين المسلمين، لم ينقلوا الإسلام إلى البلاد التي فتحوها ولكن نقلوا أهلها إلى الإسلام (¬1): أراهم فضله وأذاقهم عدله، أعطاهم الحرية في عباداتهم، وأعاد لهم بطريركهم بنيامين الذي طرده الروم، ورفع المظالم عنهم، ومنع بعضهم أن يستعبد بعضاً، وحفر لهم الخليج في سنة واحدة، ¬

_ (¬1) الكلمة لشيخ الإسلام ابن تيميّة، وقد كنت عقدت عليها فصلاً في «الرسالة» في السنة الماضية.

من النيل إلى البحر الأحمر، استعملهم فيه بالأجرة لا بالسخرة، وجعله لهم لا لغيرهم، فكان للخير والبركات، لا كقناة السويس التي هي في أرضنا وليست لنا! فكانت هذه الأعمال خطباً ومحاضرات في الدعوة إلى الإسلام، ما سمعها المصريون حتى انقلبوا جميعاً مسلمين، وكذلك تكون الدعوة: بالأعمال لا بالأقوال. * * * لقد رأيت مرة رواية مسرحية في جمعية إسلامية مثّل فيها الممثلُ عَمْراً رجلاً قميئاً ثعلبياً محتالاً، يتدسّس في القوم ويستَرِق الأخبار ويوقع الشر ويتعمد الكذب، فعلمت أن هؤلاء الذين هداهم الله بعمرو لا يعرفون من هو عمرو! لقد كان عمرو شريفاً في الجاهلية والإسلام، وكان صادقاً صريحاً، وكان شاعراً فصيحاً، وكان أبيّاً عَزوفاً لا يرضى بالدَّنِيّة من عُمَر (وهو مَنْ هو) ويردّ عليه الكلمة بمثلها حين راسله في أمر خراج مصر. وكان فقيهاً في دينه، أسلم طائعاً مختاراً، فتوافقت على ورود شِرعة الإسلام يومئذ عبقريتا عظيمَين من عظماء الناس كلهم لا العرب وحدهم وماردين من مَرَدة القيادة والحروب، سيد القواد خالد بن الوليد وعمرو بن العاص. هداه إلى الإسلام نطق سديد، لم يدخله فيه طمع ولا طبَع، ولم تدفعه إليه رغبة ولا رهبة، وكان صادقاً في إسلامه قوياً في إيمانه، حتى ولاّه الرسول صلى الله عليه وسلم حَطْم رب من أرباب الباطل، اختاره لهدم سُواع، وأقره على إمارة سرية فيها سادة الإسلام ومشايخه: أبو بكر وعمر

وأبو عبيدة، وجعله رسولَه إلى ملك عُمان وأمينَه على الصدقات فيها، وشهد له أنه «من صالحي قريش»، وقال فيه: «نِعْمَ أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله». ونظر إليه عمر فقال: «ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميراً»، وقال قَبِيصَة ابن جابر: «صحبت عمرو بن العاص، فما رأيت رجلاً أَبْيَنَ قرآناً ولا أكرم خلقاً ولا أشبه سريرةً بعلانية منه». وكان عمر إذا رأى رجلاً عَيِيّاً يتلجلج في كلامه يقول: «أشهد أن خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد» (¬1). وكان مشهده يوم بلغه انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملأ الأعلى مشهداً يلين القلوب الجامدة، وما يُفجَع ولد بأبيه أو محب بحبيبه فتكون لوعته عليه وحسرته لفقده أشدَّ من حسرة عمرو ولوعته. وكان يومَ الردة سيفاً من سيوف الله التي رجعت الإسلامَ إلى موطنه بعدما كادت تشرّده عنه الخطوب، وأعز الله به الدين وقمع الثائرين. ثم رمى به الصدّيقُ الرومَ، وقدّمه على «مَن هم أقدم منه سابقة وحرمة» (¬2) وجعله أحد القوّاد الأربعة، فتجلّت عبقريته حتى رجع الثلاثة إلى رأيه، وبلغ الرأيُ أبا بكر فأقرّ ما رأى. وكان في اليرموك ثاني الأبطال بعد نابغة المعارك خالد، وكان بطل أَجْنادين، فضرب الله به أرطبون الروم بأرطبون العرب، فكان أرجح منه في الميزان وكانت عبقريته أبقى على وجه الزمان، حتى قال عُمَر: غلبه عمرو، لله عمرو! ¬

_ (¬1) تخريج الأحاديث في الإصابة لإمام الحُفّاظ ابن حجر. (¬2) من كلام أبي بكر له في وصيته العجيبة التي تشهد لنا أننا نحن أهل البطولة وأهل الحضارة لا هؤلاء الغربيون.

أما النبل في سلائقه والسمو في خلائقه، وقوة جنانه وفصاحة لسانه، فاسألوا عنها كتب الرجال، فما يتسع لها المقال. هذا هو عمرو وما عرفتموه؟ قرأتم ما كَذَبه عليه المؤرّخون يوم التحكيم ولم تقرؤوا الحقيقة التي رواها المحدّثون وهم أوثق نقلاً وأصدق قولاً -كما في «العواصم من القواصم» للقاضي أبي بكر بن العربي (¬1) - وسمعتم أنه من دُهاة العرب فحسبتم الدهاء ¬

_ (¬1) لا يعرف هذا الكتابَ الجليل غيرُ قليل من الناس؛ إنما يعرفون القطعة الصغيرة منه التي نشرها محب الدين الخطيب باسم «العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم». ولم يكن كتاب محب الدين صدر يوم نشر علي الطنطاوي هذه المقالة، بل صدر بعدها بخمس سنين. على أن نسخة كاملة منه كانت قد صدرت من قبل، أصدرها شيخ النهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس سنة 1347هـ، وحققها معتمداً على نسخة مفرَدة عثر عليها في جامع الزيتونة. كل ذلك ذكره محب الدين الخطيب في تقديمه القيّم لهذا الكتاب، لكن الناس قلّ أن يقرؤوا هذه المقدمة ثم يظنون أن الذي نشره هو الكتاب كله. وقد مضى على الطبعة التي نشرها الشيخ ابن باديس رحمه الله دهر طويل وما عاد يعثر عليها أحد، وحُرم الناس هذا الكتاب حتى قيّض الله له أستاذاً في جامعة الجزائر هو الدكتور عمار طالبي، الذي عثر على أربع مخطوطات للكتاب فأعاد تحقيقه معتمداً عليها، ثم نشره كاملاً من نحو خمس عشرة سنة. والكتاب فيه مناقشات لعشرات المسائل في الفلسفة والعقيدة والفقه والحديث والتفسير، سوى ما نعرفه من تحقيق مواقف الصحابة والخلاف الذي شجر بينهم، وفي ذلك كله يظهر العقل الكبير والذهن المتوقد للقاضي ابن العربي (وهو من كبار فقهاء المالكية أيضاً). على=

لا يكون إلا بالكذب والاحتيال والدس والوقيعة. لا يا سادة، إن من تخرّج في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم وكان رسولَ رسولِ الله لا يكون دسّاساً ولا كذاباً. إن المؤمن لا يكذب، هكذا قال الرجل الذي قال: «ابنا العاص مؤمنان، عمرو وهشام» (1)، محمد صلى الله عليه وسلم. هذا هو عمرو؛ فأي فاتح صنع مثل ما صنع عمرو؟ أي قائد كان أعظم بركة في ظَفَره من عمرو؟ أي مصلح كان أبقى أثراً في إصلاحه من عمرو؟ إنه ما شهد في مصر مسلم أنه لا إله إلا الله، ولا قام متبتّل في صلاة، ولا قعد واعظ في مصلاّه، ولا قاض إلى منصته، ولا مدرّس إلى أسطوانته، ولا عمل مصري من خير، إلا وعمرو شريكه في ثواب عبادته؛ لأنه السبب في هدايته، ومَن سَنّ سُنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. عمرو بنى جامع ابن طولون، وشاد الأزهر، وعمّر هذه المدارس وأقام هذه المساجد، وأنشأ كل مظهر للإسلام في مصر ما كان لولا عمرو. عمرو هو الذي ردّ برابرة الشرق في عين جالوت، وبرابرة الشمال في المنصورة، وكان له فضل كل نصر كتبه الله للإسلام في مصر. ¬

_ = أن الطبعة الجديدة لا تغني عن طبعة محب الدين الخطيب لما في هذه الأخيرة من التعليقات والتعقيبات النافعة الجامعة المانعة، ولو أن ناشراً جمع حواشي ابن باديس وحواشي محب الدين إلى الطبعة الكاملة المحقَّقة الأخيرة لجاء بشيء عظيم يخدم به هذا الكتاب ويفيد قارئيه (مجاهد). (1) «الاستيعاب» للحافظ الأندلسي ابن عبد البر.

هذا هو عمرو، فهل تلبي مصرُ -في إصلاح جامعه- دعوةَ الأمير؟ وهل تُرجع للفسطاط عهودَها الخاليات؟ * * *

الإمام الأوزاعي

الإمام الأوزاعي نشرت سنة 1935 أشكر للكاتب الفاضل صاحب ترجمة الإمام الأوزاعي المنشورة في «الرسالة» عنايته بدراسة تاريخنا الجليل واستخراج جواهره التي شغلَتنا عنها أصدافُ غيرنا، وأرجو أن يقبل هذه الملاحظات قَبولاً حسناً، وأن يعلم أن الذي حفزني إلى نشرها إنما هو حرمة الحق وأمانة التاريخ: 1 - يقول الكاتب في تحقيق نسبة الأوزاعي: وقد اختُلف في معنى هذه الكلمة، فمن قائل إنها بطن من ذي الكلاع من اليمن، وقيل بطن من همذان (بالذال)، وقيل إن الأوزاع قرية بدمشق خارج باب الفراديس. والصحيح أنه ليس بين هذه الأقوال اختلاف؛ فالأوزاع اسم قبيلة من اليمن، سكنت هذا الموضع فسُمِّي بها كما ذكر ياقوت. ونَسَبهم في حِمْيَر ولكن عِدادهم في هَمْدان كما قال في «التاج». وهَمْدان -كما في «اللسان» (¬1) - قبيلة في اليمن. ¬

_ (¬1) «أي «لسان العرب» لابن منظور، و «التاج» هو تاج العَروس للزبيدي، وانظر مقالة علي الطنطاوي عنه في كتاب «رجال من التاريخ»، فصل «شارح القاموس» (مجاهد).

أما هَمَذان التي ذكرها الكاتب فمدينة مشهورة في أرض العجم، وعجيب أن يُنسَب إليها الأوزاعي، وأعجب منه أنه نقل هذه الرواية عن ابن خَلِّكان، وهي في ابن خلكان في الصفحة التي نقل منها الرواية «همدان» بالدال لا «همذان» بالذال! وقد وجدت في كتاب لا يحضرني اسمه أن الأوزاعي من العُقَيبة، قال إنها قرية بظاهر دمشق. والعُقَيبة اليوم حيّ كبير من أحياء دمشق بالقرب من السور خارج باب العمارة، وهذا الباب هو باب الفراديس بعينه، وهو لا يزال موجوداً، ولا يزال داخله طريق مُوازٍ للسور يسمى طريق بين السورين (¬1)، فعلى هذا تكون العُقَيبة هي قرية الأوزاع. 2 - وقال الكاتب إن الأوزاعي «لم يكن يستعمل الرأي، بل إنه -كما فعل غيره- عدل إلى الكتاب والسنة». والذي يُفهَم من هذه الجملة أن من يقول بالرأي يعدل عن الكتاب والسنة، وهذا خطأ فاحش، لأن أصحاب الرأي (أو القياس) لا يُعملون رأيهم ولا يُجْرون قياسهم إلا في المسائل ¬

_ (¬1) في القرن السادس الهجري بنى السلطان نور الدين زنكي سوراً جديداً لمدينة دمشق يمتد موازياً للسور القديم بين باب السلام وباب الفرج، فنشأ الحي الذي صار يسمى من بعد زقاق «بين السورين». ومَن أحب أن يرى مواضع تلك المعالم جميعاً فليراجع الخريطة التي وضعتُها في أول كتاب «دمشق»، في طبعته الجديدة التي أرسلتها إلى الطباعة منذ أسابيع، وأرجو أن تكون بين أيدي الناس وقت صدور هذا الكتاب (مجاهد).

التي لم يَرِد فيها نص من كتاب ولا سنة، فهم يُرجعونها إلى هذين الأصلين ويطبقونها عليهما. وليس لمسلم أن يقول في الدين برأيه ويتكلم فيه بهواه. والحنفية هم الذين يُسمَّون بأصحاب الرأي، وجميع الحنفية -كما يقول ابن حزم- مُجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أَوْلى من الرأي والقياس، وقد قدّم أبو حنيفة رحمه الله العملَ بالأحاديث المرسَلة على العمل بالرأي في مسائل عدة. ولعل الكاتب لم يقصد هذا الذي قد يُفهَم من كلامه. 3 - وقال الكاتب: «ذهب بعض المؤرخين -أمثال كولدزهر- إلى أن الفقه الإسلامي قد تأثر بالفقه الروماني، وأنا أقول: إن كان هذا صحيحاً فأحر بالأوزاعي أن يكون آخر المتأثرين به لأنه من أبعد الفقهاء عن الرأي». فلم يهتم الكاتب بدحض هذه الفِرية التي افتراها كولدزهر وأمثاله من المؤرخين، ولم يبين أنها في رأي العلم خرافة من الخرافات، وأن المحققين قد تكلموا فيها وبينوا خطأها، بل كان جلّ همّه أن يبرّئ الأوزاعي منها، ولو يسلّم ضمناً بأن الفقهاء قد تأثروا بالفقه الروماني. على حين أنه لا يمكن أن يقوم دليل علمي واحد على أن الفقه الإسلامي مأخوذ من الفقه الروماني، إلا إذا كان القرآن مترجَماً عن لغة الرومان وكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رومانياً خرج من أبوين عربيين! والذي نقوله إنه إذا كانت هناك علاقة بين

الفقهين فإن الفقه الروماني المعروف اليوم هو المقتبَس عن الفقه الإسلامي، ودليلنا على هذا أن الفقه الروماني الحاضر جديد، لفَّقَه طائفة من العلماء بعد أن اندثر الفقه الروماني القديم، وهذا الدليل -على علاّته- أقوى من دليلهم على دعواهم، فليُثبتوا إن استطاعوا أن الفقه الروماني الحاضر هو القديم ذاته، وليأتونا بالأسانيد الصحيحة والروايات المضبوطة كما نأتيهم نحن بأسانيد حديثنا وروايات سنّتنا! هذا وإن في ترجمة الأوزاعي كتاباً قائماً برأسه نشره من عهد قريب كاتب الإسلام الأمير شكيب أرسلان، فلينظره الكاتب الفاضل. * * *

العجيبة الثامنة

العجيبة الثامنة نشرت سنة 1987 عجائب العالم القديم سبع: أهرام مصر، وحدائق بابل، وبقية السبع التي تعرفونها. وهي عجائب حقاً، ولكنها هياكل شيدت من حجارة قُطعت من صخور الجبل أو آجُرّ جُبِلَ من تراب الأرض ونضج على جَمْر الأفران، وهذه العجيبة الثامنة أثر من عمل الأذهان. تلك تحف من عمل السواعد القوية والأيدي الصَّنَاع، وهذه من عمل الفكر الخالص والقرائح العبقرية ... إنها كتب لو جُمعت لبُني منها هرم صغير أو لشيد برج هائل. فهل يقاس أثر لا روح فيه (وإن لم يَخْلُ من عبقرية تَروع ناظريها ويُكبرها المتأمل فيها) بآثار حية تبعث الأرواح في الأجساد، وتثير السواكن من الأفكار، وتحرك القرائح فتدفعها إلى الابتكار؟ هل عرفتم «القاموس المحيط»؟ إن فيه ستين ألف مادة، فهل فيكم من قرأه كله؟ من يستطيع أن ينسخه بخطه نسخاً؟ فكيف بمن ألّفه تأليفاً؟ و «لسان العرب»، وهو أكبر منه وأوسع، فيه ثمانون ألف مادة. من قرأه منكم؟ ومن يستطيع أن يكتبه؟ وتاج العروس

شرح القاموس؟ و «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني، العربي الأموي الذي كان -على أمويّته- يتشيع؟ ونهاية الأرب، وصبح الأعشى، وتفسير الطبري، وفتح الباري، والمبسوط، وشرح المواقف للسيد الجرجاني، والزّرقاني على المواهب، ومعجم البلدان ... وأمثال هذه الكتب التي تُعَدّ بالعشرات، بل بالمئات؟ إنها تمضي الأعمار دون قراءتها قراءة، فضلاً عن كتابتها كتابة. فتصوّروا كيف ألفها مؤلفوها وكتبوها بأيديهم، وتناقلها الناس ونسخوا منها نسخاً؟ حتى كان في مكتبة العزيز بن المعز، وهو من ملوك الدولة العُبَيدية التي تدعى بالفاطمية، بضع وثلاثون نسخة من كتاب «العين». وهو أول المُعجمات بالعربية، بل لعلي لا أكون مبالغاً إن قلت إنه أول المعجمات في الألسن كلها، ابتكره رجل كان من أذكى البشر جميعاً، هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي وضع علماً جاء به كاملاً، هو علم العَروض. استنبطه من أصوات القَصّارين وهم يَخْبِطون بالمخابط على الثياب فتختلف أصواتها، فميّز منها «السّبَب» (طق) من «الوَتَد» (ططق)، وطبّق ذلك على شعر العرب ووضع هذه الأوزان (¬1). وكان في هذه المكتبة عشرون نسخة من تاريخ الطبري، منها (كما يقول المقريزي في خططه) نسخة بخط الطبري نفسه، وفيها مئة نسخة من «الجمهرة» لابن دُرَيد. وكل ذلك في عهد لم تكن عُرفت فيه المطابع ولا الطابعات. (¬2) ¬

_ (¬1) والسبب هو الشارة السوداء في السلم الموسيقي، والبيضاء هي الوتد، لأن السوداء ضربة واحدة (طق) والبيضاء ضربتان (ططق). (¬2) «الطابعة» كلمة وضعتها للآلة الكاتبة.

المكتبة الإسلامية هي عجيبة العجائب، ذهب جُلّها ولم يبقَ منها إلا قُلّها (¬1). وهذا الذي بقي هو الأقل الأقل، وهو -على ذلك- شيء عظيم؛ ففي مكتبات إسطنبول -كما نقلوا- أكثر من مئتَي ألف مخطوطة جلبها العثمانيون من العواصم العربية والإسلامية، وفي شمالي إفريقيا مئتا ألف مخطوط في مكتبات القَيروان وفاس وحواضر الشمال الإفريقي المسلم، وفي مصر ثمانون ألف مخطوط، وفي موريتانيا واليمن وغيرهما. ولا نزال -مع ذلك- نجد بالمصادفة نوادر أخرى لم نكن نعرف لها وجوداً، آتيكم عليها بأمثلة. فهذا كتاب «الفصول والغايات» الذي قالوا إن المَعرّي عارض به القرآن، واستمرت التهمة أكثر من تسعة قرون والمتهَم بريء، والكتاب مفقود وفَقده يؤكد التهمة ويقوّيها، حتى وجده خالي محب الدين الخطيب في مكة في موسم الحج أيام الشريف حسين، لمّا كان محرر «القبلة» التي حلّت محلها الجريدة الرسمية «أم القرى»؛ رآه بيد أحد الباعة فاشتراه بثمن بخس وأهداه إلى مكتبة صديقه أحمد تيمور باشا (التي ضُمَّت بعدُ إلى دار الكتب)، ثم طبعه الأستاذ الزناتي، وهو ثالث الإخوان الثلاثة: الزيات، وطه حسين، والزناتي. وكان صديقنا الأستاذ عز الدين التَّنوخي يفتش عن رسالة لأبي الطيب اللغوي في خزانة شيخنا مفتي الشام، الطبيب الشيخ أبي اليسر عابدين، فوجد بالمصادفة كتابه «الإبدال» (الذي كان ¬

_ (¬1) «القُلّ» (بضم القاف) هو القليل، ومنه قولهم: «ما لا يُدرَك كله لا يُترَك قُلّه»، وأكثر الناس يخطئون في رواية هذا المثل.

يُعتقَد بأنه مفقود) ضمن مجموعة من المخطوطات. وكنت قبل قدومي إلى المملكة من نحو خمس وعشرين سنة أزور مكتبة محدّث الشام، الشيخ بدر الدين الحسني (رحمه الله ورحم كل من ذكرت ومن سأذكر في هذا الفصل مَن مات منهم، ومن بقي فله مني التحيات) فوجدت كتاباً عظيماً هو ركيزة من ركائز علم اللغة، كان المعتقَد أنه فُقد فيما فُقد من كنوز مكتبنا الإسلامية، وهو «مُعجم الأصلين»، أي الكتاب والسنة، للإمام الهَرَوي، أحد أئمة اللغة في القرن الرابع. وقد ذكره ابن الأثير في مقدمة «النهاية» وعدّه خير ما أُلِّف في هذا الموضوع. وجدت منه نسخة صحيحة مشكولاً أكثرها مكتوبة من ثمانمئة سنة عليها خطوط بعض الأعلام، وقد سألت صديقنا الدكتور صلاح الدين المنجّد، وكان -يومئذ- مدير معهد المخطوطات، فعلمت أنه ليس في الدنيا من هذا الكتاب إلا نسخة ناقصة في جامعة بوسطن في أميركا، ونسخة أخرى ناقصة أيضاً في إسطنبول. وهذا الكتاب إذا طُبع كان أصلاً من الأصول وصُحِّح عليه القاموس ولسان العرب. وقد كتبت إلى كل جامعة أو مجمع آمُل أن يعتني به وأن يطبعه، فما وجدت عند أحد اهتماماً ولا تلقيت منه جواباً! وبيعت مرة تَرِكة عالم في دمشق بالمزاد، وكانت عنده كتب كثيرة، فجرّد أولاده (وهم جَهَلة) الكتب المطبوعة المجلدة فاحتفظوا بها ثم أشعلوا النار بالباقي. وبينما كانت النار تأكل هذا الكنز الذي لا يُقدَّر بثمن رأوا بينها كتاباً فيه صور ملوّنة أعجبتهم، فسلّوه من وسط اللهب وقد احترق طرفه، وعرضوه

على الوَرّاقين، فإذا هو نسخة من «عجائب المخلوقات» للقَزْويني مكتوبة من أكثر من أربعمئة سنة، ميّزتها أن فيها صوراً ملوَّنة مذهَّبة كأنما صُوِّرت الآن، لها قيمة فنية لا تقدَّر، فباعوه بمئة ليرة (يوم كانت للّيرة منزلتها)، وباعه الذي اشتراه للمتحف البريطاني بألف ومئتَي ليرة، وأحسب هذه النسخة قد استقرت هناك. * * * هذه المكتبة التي أصابتها المصائب وحاقت بها النكبات، العامة الشاملة والخاصة المفردة؛ كنكبتها بالمغول لمّا انحدر علينا سَيْلُهم المدمّر من أقصى الشرق، فجرف في طريقه مظاهر العمران وثمار الفكر حتى وصل إلى هذه المكتبة، فألقوا -من جهلهم- كتبها في دجلة يمرّون عليها يتخذونها جسراً! حتى نقلوا أن ماء دجلة حِيال الضفتين قد اسودّ مسافات مما ذاب فيه من المداد والحبر، بل من حصاد الأدمغة ونتاج العقول. ولما دخل الإسبان الأندلس أحرقوا مكتباتها، حتى صار ليلها نهاراً مما صعد منها من اللهب. وحسبكم أن تعلموا أن واحدة من مكتبات قرطبة كانت فهارسُ دواوين الشعر فيها -كما يقول ابن خلدون- أربعة وأربعين دفتراً كبيراً. فهارس دواوين الشعر فقط! أحرقها الإسبان فأضاءت ليالي الأندلس. وما أحرق -بضيق ذهنه وعصبيّته- ابنُ تاشفين من كتب الفلسفة التي تخرج عن الفقه والتفسير والحديث غَيرةً منه على الدين وزعماً أنها تضعف إيمان المؤمنين، فذهب بآلاف من الكتب. هذا عدا عمّا أصابها من النكبات الفردية، من التحريق

والتخريق والتمزيق والتغريق، حتى لم يبقَ من هذه المكتبة إلا الأقل الأقل، وهذا الأقل لا تزال المطابع في الشرق والغرب تطبع منه من مئتَي سنة إلى الآن، ولم تطبع إلا بعض هذا القليل الذي بقي. لقد اطّلع عالم تركي على طرف من هذا التراث، هو حاجي خليفة صاحب «كشف الظنون»، فوصف في كتابه العظيم ما اطّلع عليه فكان نحو عشرين ألف كتاب، وأُلِّفت ذيول لكشف الظنون تزيد عليه أضعافاً، وكلها مطبوع معروف تتداوله أيدي الناس (¬1). وعالم تركي آخر هو طاش كُبْري زاده، صاحب «مفتاح السعادة»، وصف جانباً آخر اطّلع عليه فكان في ثلاثمئة وستة عشر علماً (أو بحثاً إذا شئتم التدقيق والتحقيق). وذكر ابن كثير في «البداية والنهاية» أن مكتبة الخليفة العُبيدي (الذي يسميه الناس الفاطمي) لما استولى عليها صلاح الدين الأيوبي كانت كتبها تقرب من المليون. * * * إن من هذه الكتب ما لا يستطيع الواحد منا أن يقرأه قراءة، فكيف إذا حاول أن ينسخه نسخاً؟ فكيف وكثير منها أملاه مؤلّفوه إملاء لأنهم كانوا من مكفوفي البصر؟ كالمخصَّص لابن سِيْدَه، ¬

_ (¬1) أشهرها «إيضاح المَكنون في الذيل على كشف الظنون» لإسماعيل باشا البغدادي، واستدرك فيه تسعة عشر ألف كتاب لم يذكرها حاجي خليفة (مجاهد).

أوسع كتاب في اللغة، أملاه إملاء (¬1). والاستيعاب لابن عبد البَرّ، أملاه إملاء وهو ضرير لا يقدر أن يأخذ من الكتب. و «المبسوط» أوسع كتاب في الفقه، أملاه مؤلفه وهو محبوس في الجُبّ تحت الأرض لكلمة حق قالها عند حاكم ظالم (¬2)، فكان تلاميذه يقفون في الطريق يستَمْلون ويكتبون وهو يملي عليهم من بطن الجب، ما عنده كتاب ينظر فيه ولا مرجع يرجع إليه، وقد بيّنَ ذلك في كتاب العبادات في آخر باب الإقرار. والطبري كان يريد أن يجعل تاريخه في ثلاثين ألف ورقة، فسأل تلاميذه فاستكثروه، فجعله في ثلاثة آلاف وقال: وا أسفاه، لقد كلّت الهمم عن طلب العلم! وقاضي مصر بكّار بن قُتَيبة، لما سجنه ابن طولون وطال سجنه سأله طلاب الحديث أن يأذن لهم بالسماع منه، فكان يحدثهم وهو في السجن يأخذون عنه من وراء الباب. وابن تيميّة كتب كثيراً من رسائله وهو في السجن. وابن سينا ألّفَ رسالته عن القولنج (ونحن لا نزال إلى الآن نستعمل في الشام كلمة القولنج (¬3)) ورسالة حَيّ بن يقظان (التي قلدها ابن ¬

_ (¬1) «سِيدَهْ» بكسر السين وفتح الدال، كان ضريراً وأبوه كذلك، وقد طُبع «المخصَّص» في سبعة عشر جزءاً من الأجزاء الكبار (مجاهد). (¬2) «المبسوط» هو أوسع كتب الأحناف، وهو شرح «الكافي» للحاكم الشهيد، ومؤلفه هو شمس الأئمة السَّرَخْسي، سَجَنه في الجبّ خاقانُ أوزجَنْد بسبب كلمة حق نصحه بها (مجاهد). (¬3) القُولَنج أو القَوْلنج: مرض معوي مؤلم (مجاهد).

طُفَيل الأندلسي، فاشتهرت قصته وماتت قصة ابن سينا) كتبهما وهو سجين. وقصة «حي بن يقظان» هي التي نسج على منوالها ومشى على أثرها مؤلف رواية روبنسون كروزو المشهورة. بل إن الكتاب العظيم لابن سينا، وهو «الشِّفاء» الذي بقي الأساس في دراسة الطب في جامعات أوربا إلى ما قبل أربعمئة سنة، ألّفه وهو هارب متنقّل في البلدان مُتوارٍ عن الأبصار. بل لقد أخرجت هذه العصور المتأخرة كتباً كبيرة، كشرح القاموس للزَّبيدي (الهندي الأصل اليَماني المقام). بل لقد أُلِّفت في عصرنا هذا كتب كبار، ككتاب «الأعلام» للزِّرِكْلِيّ، ومجموعة «فجر الإسلام» و «ضحى الإسلام» و «ظهر الإسلام» لأحمد أمين، و «تاريخ العرب قبل الإسلام» لجواد علي العراقي الذي توفي حديثاً، و «شرح الكامل» للمَرْصَفي. ولقد حدّث أحدُ تلاميذه أنه دخل عليه يوماً (وكان يسكن غرفة مقفرة من دار خَرِبة في حي قديم من أحياء القاهرة، يضلّ الماشي في أزقّته ويغوص في وحله، لأنه كان -من فقره- لا يستطيع أن يجد غير هذه الدار في غير هذا الحي) فوجده قاعداً على حصير بالٍ مفروش في وسط الغرفة، ليس فيها سواه، وأمامه الكتب منثورة والصحائف منشورة، وحول الحصير خيط من الدبس مصبوب على الأرض. فسأله: ما هذا الدبس يا مولانا؟ فضحك الشيخ وقال: إنه سور يحميني من هجمات البق! وأكثر القرّاء لم يعودوا يعرفون -بحمد الله- ما هو البَقّ الذي كنا نقاسي منه الأمَرّين ونحن صغار، لا نملك له دفعاً ولا نعرف دواء.

في هذه الغرفة العارية، على هذه القطعة من الحصير، ألّف الشيخ كتابه العظيم «شرح الكامل للمبرّد» (¬1)، هذا الكتاب من الكتب التي يفاخر بها عصرنا العصور الخوالي، لهذا العالِم الذي ينافس بأمثاله القرون الماضيات. * * * ولا تزال في المكتبات العامة والخاصة عشرات، بل مئات، من المخطوطات؛ في دار الكتب المصرية، وفي المكتبة الظاهرية في الشام، وفي مكتبات إسطنبول وبغداد، وفي مكتبة باريس، وفي مكتبة المتحف البريطاني، وفي الإسكوريال في إسبانيا، وفي مكتبة عارف حكمة في المدينة، وفي مكتبات فاس وغيرها في المغرب، هذه التي سلمت من أيدي المتعصّبين من أعضاء محكمة التفتيش، ولو بقي كل ما كان في الأندلس لوجدنا شيئاً عظيماً، وفي ليدن في هولندا، وفي مكتبة بوسطن في أميركا ... في هذه المكتبات التي رأيت بعضاً منها واطّلعت على فهارس بعض وسمعت الأخبار عن بعض، لا تزال فيها الآن آلاف مؤلفة من هذه المخطوطات. وفي المكتبات الخاصة آلاف أخرى. أذكر لكم من هذه المكتبات ما عرفته أو سمعت به. من أكبرها مكتبة أحمد تيمور باشا الذي تعقّب كتب التاريخ ¬

_ (¬1) يخطئ كثير من الناس في لفظ اسمه فيكسرون الراء، والصحيح فتحها، ولتسميته بذلك قصة رواها ابن خَلِّكان في كتابه. انظر «وفيات الأعيان» (4/ 321) (مجاهد).

خاصة، فكان يشتري الكتاب منها بوزنه ذهباً إن لم يستطع شراءه بأقل من ذلك. ومكتبة أحمد زكي باشا (وكلا المكتبتين في دار الكتب المصرية الآن والحمد لله). ومكتبة عبد الحي الكتّاني في المغرب، وهي من أغنى الكتب في التاريخ. ومكتبة أنستاس الكرملي، وفيها كثير من المفردات ليس لها ثَوَان. ومكتبة صديقنا إسعاف النشاشيبي رحمة الله عليه وعلى كل من ذكرت، هذه المكتبة -على كبرها واتساعها- لا يكاد يوجد فيها كتاب واحد يخلو من فهارس ومن تعليقات، رأيت كثيراً منها. ومكتبة الشيخ خليل الخالدي، وقد زرتها لما كنت ذاهباً إلى مصر للدراسة سنة 1928. ومكتبة شيخنا المفتي الشيخ أبي اليسر عابدين ... في هذه المكتبات نوادر لا تزال راقدة تنتظر من يوفّقه الله لإخراجها ببعثها من مرقدها؛ من ذلك أن رجلاً من أسرة معروفة في الشام كان يشتغل أسلافها بالعلم توفي من أكثر من خمسين سنة، فباعوا كتبه المخطوطة، ثم نبّههم أحدُ الخبراء إلى أن فيها كتاباً نادراً، فأحبوا أن يسترجعوه ممن اشتراه، وأبى عليهم استرجاعه، وأقيمت بشأنه قضايا في المحاكم لا أريد التعرض لها، ولكني أريد أن أقول: إن هذا الكتاب هو «كتاب البَيْزَرة» (أو البَزْدَرة) وهو علم طب البُزاة. وأنتم تعرفون البازي والصقر والشاهين، هذه الطيور التي كانوا يصطادون بها (ولا يزالون يتخذونها للصيد في بعض نواحي الجزيرة العربية). ولقد كتبت عن هذا الكتاب في السنة الثانية أو الثالثة من مجلة الرسالة، فاقرؤوا ما جاء فيه تجدوا عجائب لا تكاد تصدَّق (¬1)؛ من ذلك ¬

_ (¬1) ستأتي المقالة عنه في آخر هذا الكتاب (مجاهد).

أن فيه باباً عنوانه «باب معرفة مرض الطائر من فحص مائه». أي أنهم -من فحص بَول الطائر- يعرفون مرضه! لم يكتفوا بأن عُنُوا بعلم الحيوان عامة وألّفوا فيه الكتب، حتى ألّفوا في هذه الناحية الخاصة من طب الحيوان. ولم يكن هذا إلا بعد أن أوفَوا على الغاية من العناية بالطب الإنساني. وأنا لست من أهل الاختصاص في الطب، ولكني وقفت خلال مطالعاتي على نصوص عجيبة؛ منها أنني وجدت مرة في «وفيات الأعيان» لابن خَلِّكان أن الحَجّاج مرض مرضاً لم يستطيعوا أن يعرفوا حقيقته ولا سببه، فجاؤوا بإسفنجة صغيرة ربطوها بخيط وجعلوه يبتلعها، ثم استخرجوها ففحصوا عصارته المِعَدية، على مقدار ما كانوا يعرفون يومئذ من أمثال هذه البحوث. وقرأت في «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني أنها أُجرِيَت للسيدة سُكَيْنَة بنت الحسين، إحدى عقيلتَي قريش وأجمل نسائها، وهي التي جمع مصعب بن الزبير بينها وبين العقيلة الأخرى عائشة بنت طلحة، كانت لها في عينها نقطة (أو شيء لا أعرف حقيقته)، فأجريت لها عملية في العين واستخرجوا هذه النقطة من وراء الجسم الزجاجي. وقد قرأت وصف هذه العملية للجاحظ ولكني نسيت في أي كتاب قرأتها. وإذا نظرتم في تاريخ المستشفيات في الإسلام تعرفون مبلغ ما وصلوا إليه في هذا الباب. اقرؤوا «تاريخ المستشفيات» للدكتور عيسى المصري، والكتاب الآخر الذي ألّفه أستاذ من الكلية الأميركية في بيروت نسيت اسمه الآن عن المستشفى النُّوري الذي أنشأه في دمشق نور الدين زنكي، وبقي بناؤه إلى الآن ولكنه صار

مدرسة التجارة، تجدوا أن أطباء هذا المستشفى عرفوا طريقة عزل المرضى المُعْدين وعرفوا أسلوب التخصص في الطب. والبَيْروني، المفكر العظيم الذي يقول عنه سخاو (وهو أحد المستشرقين الألمان) بأنه أكبر عقلية كانت في القرون الوسطى، يذكر في كتابه «الصَّيْدَنة» (أي الصيدلة) أنهم لم يكتفوا بدراسة الطب عامة بل كانوا يعرفون التخصص فيه. * * * لكي تروا جانباً من جوانب عظمة المكتبة الإسلامية اقرؤوا كتاب «ثقافة الهند» الذي طبعه المَجْمَع العلمي في دمشق لمؤرّخ الهند العالم الجليل والد أبي الحسن النَّدْوي، وهو في خمسمئة صفحة من القطع الكبير بالحرف الصغير، كله أسماء للكتب التي أُلِّفت في الهند. ولقد نشرت مجلة «المعلم العربي» (التي كانت تصدرها وزارة المعارف في الشام) تلخيصاً لكتاب ألفه مؤلف أميركي يذكر فيه مآثر المسلمين في العلوم على اختلافها، ولولا أن المؤلف أميركي، لم يكن عربياً ولا مسلماً، لقلت إنها دعاية صحفية، لأنني وجدت فيها أخباراً ومناقب لنا لا أعرفها أنا، وأنا مدمن على المطالعة والقراءة من سبعين سنة! * * *

كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني

كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني حديث أذيع سنة 1972 أنا أحب أن تكون أحاديثي للناس كلهم، أو لأكثرهم إذا كان من المتعذّر أن تكون لهم كلهم، ولكني أضطر أحياناً أن أجعل الحديث للمتعلّمين وحدهم، فمعذرة إليكم. موضوع اليوم عن كتاب، كتاب مشهور جداً ومفيد جداً، ولكن الناس رفعوه فوق منزلته ووثقوا به أكثر مما ينبغي أن يوثَق به، وصار كثير من كبار الأدباء والباحثين ينقل منه الأخبار التاريخية ويعزوها إليه، كأن العَزْو إليه يُسقط عن الباحث تَبِعة التحقيق. بل لقد وجدنا من هؤلاء الباحثين الكبار من ينقل منه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه ينقل من صحيح البخاري! مع أن هذا الكتاب ما كان قط كتاب حديث، ولا كتاب تاريخ، ولا يوثَق بأخباره ولا يعتمَد عليها. هو كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني. وأنا ليس من منهجي في هذه الأحاديث الكلام على الكتب، ولكن كتاباً له مثل شهرة «الأغاني»، وينقل عنه أكبر أدباء العرب

اليوم أخباراً تصوّر المجتمع الإسلامي منصرفاً إلى اللهو غارقاً في الفسوق، إن كتاباً كهذا من حقه أن نتكلم عنه في هذه الأحاديث، بياناً لحقيقته وتوضيحاً لحال مؤلفه. أبو الفرج الأصفهاني عربي أموي صحيح النسب، وإن كان منسوباً إلى أصفهان، المدينة الفارسية. وكثير من المنسوبين اسماً إلى بلدان فارس كانوا عرباً خُلَّصاً من سلائل القبائل التي استقرت في تلك البلاد بعد الفتح. ومن أعجب العجب أن أبا الفرج كان أموياً وكان يتشيّع! وما أعرف الأموية اجتمعت مع التشيّع في أحد قبله ولا في أحد بعده. وكان الرجل رقيق الدين سيّئ السيرة، يعطي نفسه هواها وينغمس في المعاصي. وكان وسخ الثوب، قذر الهيئة، بذيء اللسان، ولكنه كان -مع هذا كله- آية في سعة الحفظ وكثرة الرواية، عارفاً بأكثر العلوم، كاتباً ناقداً موسيقياً شاعراً، يحسن الوصف وإن كان الغالب عليه الهجاء. أما كتاب «الأغاني»، فإن من أراد متعة الأدب، وطلب جيد الشعر، وأراد الإحاطة بأخبار الشعراء والمغنّين، للّذة الأدبية وتقوية الملَكة البيانية، فلا يجد كتاباً أجمع لهذا كله منه. وما منّا إلا مَن كان «الأغاني» عُدّته الأولى في إقامة اللسان وتجويد البيان. ولقد قرأته كله (وهو بضعة وعشرون جزءاً) ثلاث مرات، واستفدت منه في الأدب واللغة ما لم أستفِد مثلَه من غيره. كل هذا صحيح، أما أن يكون كتاب دين تؤخَذ منه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يفعل هؤلاء الأدباء الكبار المعروفون، أو أن

يكون كتاب تاريخ يُعتمَد عليه في تحقيق الأخبار، فلا. إن من يأخذ «الأغاني» على أنه كتاب تاريخ يجد المجتمع الإسلامي العباسي مجتمعاً لاهياً عابثاً، لا شغل له إلا شرب الخمر وسماع الغناء والفتنة بالجواري والغلمان، من أكبر خليفة في القصر إلى أصغر ملاّح في دجلة، مع أن هذا غير صحيح. ولقد كان في بغداد على عهد أبي الفرج أكثر من مليونين من السكان، وكان في هذا العدد الضخم من السكان فُسّاق وشُرّاب خمر وزُناة ولاهُون، وكان فيهم الفارغون المتبطّلون المقبلون على الغناء والطرب، يعيشون لذلك لا يشتغلون بغيره، ولكن هؤلاء كانوا قِلّة وكانوا أقل من القلة. وكان إلى جنب هؤلاء الفُسّاق من أمثال مطيع بن إياس ويحيى والحمّادَين (¬1) وأبي نُواس وأمثالهم، كان إلى جنبهم أبو حنيفة وشَريك وابن المُبارك وسُفيان والشافعي وابن حنبل، والعلماء والعُبّاد، وكان إلى جنبهم أئمة اللغة ورُواة الأدب ممّن عُرفوا بالصلاح والتقوى، وكان التجّار والعامة ممن كانت تمتلئ بهم المساجد حتى كانت تتصل صفوف المصلّين من مسجد الرُّصافة في بغداد إلى الشط. فليس المجتمع كله كما يصوّره أبو الفرج. ثم إن أبا الفرج في «الأغاني» يتكلم عن الرجل ممن تَرجَم له، فيُغفل جوانبه كلها ويَعْمَد إلى جانب اللهو والغناء فيتكلم عليه ويبالغ فيه، لأن هذا ¬

_ (¬1) حمّاد عَجْرَد وحمّاد الراوية، ويحيى هو يحيى بن زياد، وكل من ذُكر من الشعراء المُجّان وأكثرهم من المُخَضْرَمين (الذين أدركوا آخر الدولة الأموية وأول الدولة العباسية) (مجاهد).

هو موضوع كتابه. وكثير من الأخبار التي يرويها مَكذوب أو مبالَغ فيه. فمن ذلك أخبار عمر بن أبي ربيعة. تصوّروا لو أن شاعراً دخل بين النساء وهنّ في الطواف أو عند رمي الجِمار، وأقبل ينظر في وجوههن، هل يتركه الناس؟ فكيف إن نَظَمَ فيهنّ أشعار الغزل؟ هل يسمح الناس اليوم لشاعر أن ينظم أشعار الغزل بالحاجّات؟ فكيف إن نشر هذا الغزل في جريدة، هل يسمح له الناس أن ينشره في جريدة؟ هذا مع العلم أن زمان ابن أبي ربيعة هو زمان الصحابة، وهو صدر الإسلام، فإذا كنا نحن الآن -على فساد الزمان وبعد العهد- لا نسمح بأن يقوم فينا من يصنع ما زعم صاحب «الأغاني» وأمثاله أن ابن أبي ربيعة كان يصنعه، فهل يسمح له بذلك الصحابة؟ فلا شك أن أخبار عمر بن أبي ربيعة التي يرويها صاحب «الأغاني» أكثرها مكذوب. والخلاصة أن «الأغاني» كتاب من أعظم كتب الأدب، ولكن لا يجوز الاعتماد على صحة أخباره ولا يجوز أن يُنقَل منه التاريخ، وصاحبه -على جلالة قدره في الأدب- رقيق الدين سيّئ السمعة بذيء اللسان، لا يوثَق بروايته ولا بصدقه. فاقرؤوا كتاب «الأغاني» للمتعة الأدبية ولتقويم المَلَكة البيانية، ولكن لا تصدّقوا كل ما يرويه فيه ولا تعتمدوا عليه. * * *

دفاع عن الأصمعي

دفاع عن الأصمعي قرأت ما كتب الأستاذ عبد الغني حسن في ردّه (¬1)، فوجدت أن أكبر ما احتَجّ به عليّ أن العبارة التي ساقها هي للسيوطي. وأنا أحب أن أبين لأخي الأستاذ عبد الغني أن لو كان الخلاف بيننا على أمر شخصي لما باليت مع مَن مِنّا الحق، ولقبلت بما قال وتركت الجدال. ولكن الخلاف على صدق رجل رُوي عنه -كما قالوا- ربع اللغة، فإذا سقطت روايته سقط ربع لغتنا. على أنه لو كان حقاً كما نقل الأستاذ لما دافعت عنه، ولكن الواقع أنه كان صادقاً، وكان أبعد الناس عن الخلاعة، وكان مقبول الرواية. والأستاذ يعلم أن عندنا علماً ليس لأمة علم مثله، هو «علم الرجال»، أعني علم «الجرح والتعديل». ويعلم أن علماءه لم يدّخروا في هذا الشأن وسعاً، ويعلم أن أجمع كتاب للرجال ¬

_ (¬1) وجدت هذه القطعة بخط جدي رحمه الله بغير تاريخ، وغلب على ظني -من نوع ورقها- أنها مكتوبة في أوائل الستينيات، ويبدو من السياق أنها كانت جزءاً من مناظرة أو حوار نُشر في بعض الصحف أو المجلات، ولعله امتد على حلقات عدّة (مجاهد).

هو «الخلاصة» للخَزْرَجي، الذي لخّص فيه كتاب «التذهيب» للحافظ الذهبي و «التقريب» لابن حجر و «الإكمال» لابن ماكولا و «الكمال» للحافظ عبد الغني المقدسي و «الجمع» لابن طاهر و «الميزان» للذهبي، وهي أعظم كتب هذا العلم. وقد جاء في «الخلاصة» عن الأصمعي ما نصه: "هو أحد الأعلام، روى عن أبي عمرو بن العلاء ومِسْعَر (¬1) ومالك وخلائق، وروى عنه ابن مَعين ونصر بن علي وعمر بن شَيبة وخلق، وَثَّقَه ابن مَعين، وقال المبرَّد: كان بحراً في اللغة". فالرجل إذن موثوق الرواية عند المحدِّثين. بل إن السيوطي نفسه يقول عنه في كتابه «بُغية الوُعاة» ما نصه: "أحد أئمة اللغة والغريب والأخبار والمُلَح والنوادر، روى عن أبي عمرو بن العلاء وقُرّة بن خالد ونافع بن أبي نعيم وشُعبة وحَمّاد ... (إلى أن قال) وقال ابن مَعين: لم يكن ممّن يكذب. وقال أبو داود: صَدوق. وكان يتّقي أن يفسّر الحديث كما كان يتقي أن يفسر القرآن، وكان من أهل السنة، ولا يفتي إلا فيما أجمع عليه علماء اللغة، ويقف عمّا ينفردون عنه، ولا يجيز إلا الأفصح". هذا ما قاله السيوطي فيه، فأين منه ما نقلتَه عنه؟ على أنه إن كان قال فيه ذلك في كتابه «المُزهِر» (¬2) وخالف ما قاله عنه هنا، ¬

_ (¬1) مسعر بن كِدام الهلالي، من ثقات أهل الحديث، كان يقال له «المصحف» لعظم الثقة بما يرويه (مجاهد). (¬2) في «المزهر» للسّيوطي (1/ 118): "الأصمعي كان منسوباً إلى الخلاعة ومشهوراً بأنه كان يزيد في اللغة ما لم يكن منها" (مجاهد).

فلقد شهد له الإمام الذي يقلّده السيوطي، والذي كان أقدم من السيوطي وأعلم، وهو الشافعي، شهد له بالصدق. وفي ترجمته في «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي المحدّث أخبار تدل على تديّنه وتصوّنه، وكذلك عند ابن خلّكان، وعند غيرهما ممن ترجم له من الثقات. وأثنى عليه وشهد له بالصدق كذلك أحمد بن حنبل، وعلي بن المَديني، ويحيى بن مَعين، وأبو داود، وهؤلاء هم أئمة الدين وشيوخ المحدّثين، ولا يضره -بعد شهاداتهم له- طعنُ طاعن في صدقه. * * *

لون من الترف العقلي

لون من الترف العقلي نشرت سنة 1987 طرق المؤلفون في كتبهم كلَّ باب من أبواب المعرفة وسلكوا كل طريق من طرق العلم والأدب، وأودعوها كل ما يمكن أن يصل إليه العقل المفكر والقلب الشاعر والوجدان المتأمل، فكان فيها علوم الدين والدنيا؛ فيها مئات ومئات من المجلدات في القرآن، تنزيله وتأويله؛ وفي الحديث، روايته ودرايته؛ وفي الأدب، فنونه وألوانه؛ وفي الطبيعة، قوانينها ومظاهرها؛ وفي التاريخ، قديمه وحديثه. ولدينا آلاف من الكتب في تراجم العظماء وطبقاتهم: الصحابة والتابعين، والقُرّاء والفقهاء، والقُوّاد والأمراء، والأدباء والشعراء. دوّنوا أخبار العقلاء والمجانين والحمقى والمغفلين كما دونوا أخبار الأذكياء والنابغين! وإذا كان عند اليونان الأقدمين هذه «الإلياذة» التي يَعُدّونها أولى مفاخرهم، والتي استمد منها أدباء الغرب وشعراؤهم المحدثون أكثر مآثرهم، فلقد روى الكتّاني في «التراتيب الإدارية» أن عندنا قصيدة في خمسة آلاف بيت، هَمْزية جيدة في السيرة النبوية. ولابن عيسى القرطبي أرجوزة أخرى في سبعة آلاف بيت. وثالثة عنوانها «المقالات السَّنِيّة في مدح خير

البرية» لعثمان بن علي في تسعة عشر ألف بيت! وإذا كانت الإلياذة تشتمل على خرافات وعلى تخيّلات، ما يَسندها واقع ولا تعتمد على حقيقة، فإن هذه الأراجيز ما فيها إلا حقائق ثابتة وتواريخ محقَّقة. هذا وأنتم تعرفون الأراجيز العلمية، كألفية ابن مالك وألفية العراقي والكثير من أمثالهما. ولما ظنوا أنهم شبعوا من الجِدّ واكتفوا استراحوا إلى لون جديد، كما استراح أهل الفن من المصوِّرين والرسامين إلى هذه المذاهب الجديدة في الرسم، التي لا تبلغ معرفتي بها مبلغ القدرة على وصفها والكلام فيها، ولكن لا يصل عجبي منها إلى حد الإعجاب بها أو تذوقها وفهمها. وكيف أعجب بلوحة ما أرى فيها إلا علب كبريت مكوَّمة أكواماً، أو حجارة مركومة رَكماً، أو سلّماً مقلوباً قد تعلق بخطوط متعرجة متداخلة بلا ترتيب ولا نظام ولا دقة ولا إحكام، كأنها خرابيش الدجاج على بقعة من الرمل، ثم أرى تحتها كتابة موضِّحة لها تقول إنها صورة امرأة جميلة أو مشهد غروب الشمس في البحر ... وما ثَمّ شمس ولا بحر، ما هناك إلا الفوضى والعبث! كهذا المذهب الحديث في الشعر، حيث تُرصَف كلمات جميلة لا يربط بينها رباط يتبيّنه الفكر، ولا صورة يلذّها الذوق، ولا موسيقى تطرب لها الآذان، ما هي إلا مُعجَم، ولكنه معجم قد اختلّ ترتيبه! قالوا: إن هذا هو الشعر الحديث! والذي نعرفه أن الألفاظ أوعية للمعاني، فإذا خَلَت من المعنى المبتكَر والصورة الحلوة عادت ألفاظاً فارغة، لها إن

قرعتَها طنين ورنين وما فيها فائدة للمستفيدين! وصارت ألاعيب لأدباء ذلك الزمان الذي يدعوه مؤرّخو الأدب بعصر الانحطاط؛ كل هم رجاله التلاعب بالألفاظ لا يجاوزونها. وكان المثل الأعلى لشادي الأدب -لمّا بدأنا النظر في الأدب- مقامات الحريري، يحرص أساتذتنا على أن ندمن قراءتها ونحفظ ما نستطيع حفظه منها، ونرى غاية ما يصل إليه الكاتب أن يصنع مثل ما صنع الحريري -مثلاً- في المقامة السادسة، حين التزم أن تكون فيها كلمة منقوطة بعدها كلمة مُهمَلة بلا نَقْط، وجرى على هذا في المقامة كلها، فيقول: "الكرَمُ -ثبّتَ الله جيشَ سُعودك- يَزين، واللؤم -غَضّ الدّهر جَفْنَ حسودك- يَشين ... "، وما صنعه في المقامة السادسة عشرة، حين جاء بلون آخر من ألوان اللعب بالألفاظ كان مألوفاً في ذلك العصر، هو أن يجيء بجملة إذا قرأت حروفها منكوسة، فبدأت بآخر حرف منها ورجعت إلى ما قبله، لم تتبدل الجملة. وصنع في ذلك شعراً متكلَّفاً سخيفاً (¬1)، حاولت أن أرويه، ثم وجدت أنني أزعج ¬

_ (¬1) هي «المقامة المغربية»، وفيها طائفة من أمثال هذه الجُمَل التي تُقرأ من اليمين إلى اليسار كما تُقرَأ من اليسار إلى اليمين: «كبِّرْ رَجاءَ أجرِ ربّك»، وهذه بعض الأبيات التي أشار الشيخ إليها ووصفها بالسخافة (وهي حقاً كذلك): اُسْلُ جَنابَ غاشِم ... مُشاغِب إنْ جَلَسا اُسْكُنْ تَقَوَّ فعَسى ... يُسعِفُ وقْتٌ نَكَسا ومن شاء المزيد، وهو كثير، فليرجع إلى المقامة المذكورة في كتاب «مقامات الحريري» (مجاهد).

بروايته القراء ولا أعوّضهم عن هذا الإزعاج متعة ولا منفعة. ومن هذا الباب أن العماد الكاتب لما ودّع القاضي الفاضل (وهو من أساتذة هذا المذهب، مذهب الصناعة اللفظية الميتة التي لا روح فيها) قال له: «سِرْ فلا كَبا بك الفرس». وهي جملة إن عكستها لم تنعكس، فأجابه بمثلها على الفور فقال: «دام عُلا العماد». ومن أجود ما أحفظ في هذا الباب (إن كان فيه شيء جيد!) قول القائل: مودّتُهُ تَدومُ لكلِّ هَوْل ... وهل كلٌّ مودّتُه تَدومُ؟ خذوا حروف هذا البيت فاقلبوها تجدوها تبقى على حالها. كانوا يَعُدّون نهاية الأرب وغاية الأدب أن يقدر الأديب على مثل هذا العبث، حتى إن الشيخ محمود الحَمْزاوي، أشهر المُفتين في دمشق في القرن الثالث عشر الهجري، ألّف تفسيراً صغيراً للقرآن مطبوعاً، وهو عندي في مكتبتي، كل حروفه مُهمَلة، أي ليس فيه حرف منقوط، فليس فيه كلمة فيها باء ولا تاء ولا جيم ولا خاء ولا شين ولا ضاد ... فتصوروا الجهد الذي بذله فيه ثم انظروا النفع الذي يأتي منه، تجدوا جهداً كبيراً ونفعاً ضئيلاً. ورأيت من قديم في المكتبة العربية في الشام كتاباً فيه جداول أربعة أو خمسة (نسيت)، في الجدول الأول كتاب في الفقه مثلاً، وفي الثاني نحو وصرف، وفي الثالث تاريخ، وفي الرابع بحث مكتوب بلسان الترك، ثم إذا قرأت السطر كله معاً متجاوزاً حدود

هذه الجداول جاء معك كتاب آخر فيه علم آخر (¬1). ولما شرّفني المجمع العلمي العراقي بعضويته من نحو ثلاثين سنة كان يتفضل فيرسل إليّ مطبوعاته، وهي من أنفس ما أخرجت المطابع، فلما جئت المملكة انقطعت عني واستحييت أن أسأل عنها فحُرمت منها. قرأت في مجلة المجمع يومئذ وصفاً لكتاب مثل هذا، يزيد عليه بأن فيه ثمانية جداول وأنه يُقرَأ بالمائل من اليمين إلى الشمال ومن الشمال إلى اليمين، وفي ذلك ما يُدهش ولكنه لا يفيد (¬2). كقصة الرجل الذي قالوا إنه كان يُلقي على الأرض إبرة، ثم يلقي عليها بأخرى وهو قائم فتقع في خرمها، ولا يزال يرمي واحدة بعد واحدة حتى يجمع مئة إبرة متصلاً بعضها ببعض. فرُفع أمره إلى حاكم البلد -وكان عاقلاً كريماً- فأمر له بمئة دينار وأن يُجلَد مئة جلدة، فسألوه فقال: أما الدنانير فلهذه البراعة النادرة، وأما الجلد فلأنه صرف همته إلى هذا العبث ولم يوجّهها وجهة ينتفع بها الناس. * * * وإذا رجعتم إلى مجلة «الرسالة»، إلى العدد الذي صدر يوم ¬

_ (¬1) أظنه كتاب «عنوان الشّرف الوافي» لإسماعيل بن أبي بكر المقرئ، وهو مطبوع متداوَل رأيته مراراً، وهذه صفته (مجاهد). (¬2) أذكر أنني رأيت كتاباً مطبوعاً بهذه الصفة منذ بضع سنين، لكنني استسخفته ولم أهتم به فنسيت اسمه واسم مؤلفه، ولو أن قارئاً مهتماً بحث عنه في المكتبات فأحسب أنه سيجده (مجاهد).

الإثنين 23 رجب 1354هـ (أي من أربع وخمسين سنة) وجدتم مقالة لي فيها وصف لكتاب عجيب ليس له في تراثنا الفكري مثيل، لا لأنه حوى من حقائق العلم أو من طرائف الفن ما لم يَحْوِه كتاب غيره، بل لأنه جاء فيه بشيء جديد من هذا الذي سمّيته «الترف العقلي»؛ فقد تعمد أن لا يأتي فيه إلا بما هو خطأ محرَّف عن أصله، معدول به عن جادة الصواب مُمال به عن سبيل الحق، فلا بيتَ يُنسَب إلى صاحبه، ولا كتابَ يُعْزى إلى مؤلفه، ولا مسألةَ تورَد على وجهها، ولا بلدةَ توضع في موضعها ... وقد أورد ذلك كله بحذق ومهارة وفرط لباقة، حتى إنك لتتلوه فتحسّ -لحلاوة ما تقرأ- أنك تقرأ حقاً وصدقاً، وما فيه من الحق والصدق شيء! (¬1) ولا يقدر على الخطأ الذي لا صواب فيه إلا من يقدر على الصواب الذي لا خطأ معه؛ يحتاج كلاهما إلى علم بمواقع الخطأ ووجوه الصواب. ثم إنه حلاّه بالنكات اللغوية والمسائل النحوية والطرائف الأدبية والآراء الفلسفية، وزيّنه بالحِكَم الباهرة والأمثال السائرة، واستشهد على كل مسألة من مسائله بأقوال العرب، ولكن ذلك كله محرَّف عن الصواب. هذا الكتاب اسمه «اختراع الخُراع» (والخُراع في اللغة داء يصيب الدابة في ظهرها فتبرك فلا تستطيع القيام)، ومؤلفه هو صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، أحد أئمة القلم والأدب في عصره، ومؤلف الكتاب الكبير «الوافي بالوفيات»، الذي يُعَد ¬

_ (¬1) ستأتي المقالة كاملة في آخر هذا الكتاب إن شاء الله (مجاهد).

من أجمع كتب التراجم. أول هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، قال أبو خُرافة الهدّ القشيري سامحه الله تعالى: حضرت في بعض أوطان أوطاري وأوطار أبكاري مع جماعة ... فابتدر أحد ظرفائهم فأنشدنا بيتين هما: لو كنت بَكْتوت امرأة جارية الفَضْل ... وكان أكل الشعير في البرد مَلْبَسكو لا بدّ من الطلوع إلى بئرك في ... الليل وظلام النهار متضحٍ اً (¬1) قال: فأخذ الجماعة في العجب مما اتفق فيهما من اضطراب النظم، واختلال القافية، وعدم الإعراب، ومخالفة أوضاع اللغة، وتناقض المعنى وفساده، والتخبيط في التاريخ ... (¬2) ثم مضى في الشرح فقال: قال الشارح عفا الله عنه: نبدأ أولاً بما في البيتين من اللغة، وثانياً بما فيهما من الإعراب، وثالثاً بما ¬

_ (¬1) لعل الله كشف للصفدي طرفاً من مستقبل الأدب، فجعله يقرأ ما يُنشَر في أيامنا من الكلام على أنه شعر، والذي لا يختلف عن هذين البيتين اللذين أوردهما! هذا الشعر الذي تعب أخونا الأستاذ الفاضل أكرم زعيتر في وضع الأسماء له. وكثرة الأسماء ليست دائماً دليلاً على شرف المسمَّى، فالقط له أكثر من خمسين اسماً، ثم لم يكن إلا قطاً، ما صار نمراً ولا أسداً. (¬2) قلت: فكيف لو قرؤوا شعر الحداثة الذي تنشره الصحف على أنه هو الشعر لا ما رواه الرواة وأودعوه الكتب وملؤوا به الدواوين؟

فيهما من التاريخ وتقدير المعنى، ورابعاً بما فيهما من البديع، وخامساً في الكلام على ما يتعلق بعَروضهما، وسادساً بما يتعلق بعلم القافية. القول في اللغة: قوله «بَكْتوت»: هو اسم علم مركب من اللغة العربية والتركية، بَكْ بالعربي وتوت بالتركي، ومعناهما أمير توت. ومن قال إن معنى ذلك بالعربية أمير النيروز فلا يتأتى له ذلك، إلا إن كان النيروز في شهر توت، على ما ذكره السخاوي في «سمع الكيان». قوله «امرأة»: المرأة مشتقة من المِرآة، وهي التي يرى الإنسان فيها وجهه إذا كانت في جيبه. قوله «جارية»: فيها قولان، منهم من قال: هي السّاقية لأنها تجري من أسفل إلى فوق، ومنهم من قال هي في مقابلة المملوك. قوله «الفضل»: هو كل شيء ناقص، ومنه سُمّي عبد الرحيم كاتب مروان بالفاضل لأنه كان قصيراً. وفي أمثال بُزُرْجمِهْر: «لأمرٍ ما جدع قصيرٌ أنفَه». قوله «كان»: معلوم أنها للاستقبال، وسيأتي الكلام عليها في الإعراب. قوله «الشعير»: معروف أنه من فواكه الآدميين، ولا يوجد إلا في جزرات الهند بالمغرب في الليل دون النهار صيفاً.

قوله «في الليل»: الليل معروف، وهو من الزوال إلى أذان العصر في العُرف، وفي اللغة من طلوع الشمس إلى غروبها ... إلخ. القول في الإعراب: «لو»: حرف يجرّ الاسم ويكسر الخبر على ما ذكر الرمّاني في «شرح طبيعي الشفا» والكسائي في «رموز الكنوز». هذا مذهب الكوفيين، والصحيح أنها من الأفعال الناقصة التي لا عمل لها، وإنما قلنا إنها فعل ناقص لأنها كانت في الأصل «لوى»، فنقصت حرفاً، وإنما قلنا إنها لا عمل لها لأنها متى نقصت ضعفت عن العمل، هذا الذي ذهب إليه إقليدس وأرشميدس في مخارج الحروف وبرهنّاه مستشهدين على ذلك بقول الشمّاخ في رائيّته ... إلخ. «أكل»: فعل مضارع، لأن في أوله أحد الزوائد الخمسة وهو الهمزة، إنما قلنا بزيادتها لأنه لا يصحّ تجريدها، تقول: كل شيء. «الشعير»: الألف واللام أصلية، وهي نكرة إن قلنا بأنها أداة التعريف، ومعرفة إذا قلنا بأصليّتها، ذكر ذلك المبرَّد في كتاب ديسقوريدوس في باب النعت، وهو ها هنا مرفوع على الحال. إلى أن قال: «في»: اسم، لأنه يَحسن دخول حرف الجر عليه، تقول: انتقل من الشمس إلى فيء الظل. ودخول الألف واللام، تقول: هذه الدراهم مبلغ ألفي درهم. والإضافة، تقول: أعجبني حسن فيك. والتنوين أيضاً، تقول: هذا المال فيءٌ

للمسلمين ... وعلى الجملة فما للنحاة في الأسماء كلمة تدخلها علامات الاسم كلها إلاّ «في»، وهي ممنوعة من الصرف لأنه اجتمع فيها من العلل أكثر مما اجتمع في أذربيجان ... إلخ. * * * والقطعة الموجودة من الكتاب كلها على هذا النمط، فيها طرافة وفيها غرابة وفيها مهارة، أكتفي بما نقلته عنها ورويته منها لأنه شيء لا يهمّ إلا الخاصة من القراء، وأعتذر إلى غيرهم من إيرادها والتطويل فيها، وأرجو أن يهتمّ أحد الطلاب الذين يُعِدّون لشهادة العالمية (الدكتوراة) بهذا الكتاب ويفتشوا عنه ويستقرئوا هذا النوع من الأدب، فهو موضوع جيد لرسالة مبتكَرة (¬1). * * * ¬

_ (¬1) حين نشر الشيخ رحمه الله هذه المقالة في صحيفة «الشرق الأوسط» سنة 1987 اقتصر منها على هذا الجزء اليسير، وفي الأصل الذي نشره في مجلة «الرسالة» سنة 1935 تطويل وزيادة، وفيها أيضاً تعليقات وضّح فيها موطن الخطأ في كل لفظة وردّها إلى الصواب ليفهم القارئ وجه الطرفة فيها. وقد أورد طرفاً من ذلك في هذه المقالة، لكنني جرّدتها منه هنا لأنها ستأتي كاملة مع تعليقاته عليها في موضع آخر من هذا الكتاب بإذن الله، فلم أجد حاجة إلى التكرار (مجاهد).

ما هي السماء؟

ما هي السماء؟ نشرت سنة 1987 إنّي تاركٌ اليومَ الأرضَ وما فيها وكاتبٌ عن السماء. لا أنقل ما في الكتب، وإن كان العلم والمعرفة يُطلَبان من الكتب أولاً، ولكني قائل شيئاً هو عند أكثر القراء جديد ربما يقرؤونه أول مرة، وهو عندي قديم، فأنا أشير إليه في كتبي المطبوعة ومقالاتي المنشورة وأحاديثي المسموعة من نصف قرن. ولقد لخّصت الذي أكتبه اليوم في مقالة قصيرة نشرتها من نحو عشرين سنة أو قريباً منها في «الوعي الإسلامي» التي تصدر في الكويت (¬1)، طلبت فيها رأي العلماء، فعلّق عليها ناس أفاضل كان أظهرَهم الأستاذ الجليل الذي جمع الثقافتين: الثقافة الإسلامية العربية والثقافة الحديثة الغربية، هو الأستاذ محمد أحمد الغمراوي رحمة الله عليه، صاحب «النقد التحليلي في الرد على ما جاء به طه حسين في كتاب الشعر الجاهلي». والذي أعادني إلى الكلام في هذا الموضوع مقالة قرأتها قبل ¬

_ (¬1) في عددها الخامس والثلاثين الذي صدر في محرّم سنة 1387 (نيسان 1967) (مجاهد).

أيام، فعدت لأسأل: ما هي السماء؟ وسيعجب أكثر القرّاء ويقولون: ارفع رأسك في النهار ترَ فوقك بحراً أزرق ما لأوله بداية ولا لآخره نهاية، فإن كان الليل صار ملاءة سوداء لا يدرك البصر طرفيها قد طُرِّزت بلآلئ مضيئة تلمع مثل النجوم. هذه هي السماء، فهل يجهل أحدٌ السماء حتى يسأل: ما هي السماء؟ * * * ما هذا السقف الأزرق إلا الهواء. ولما أطلق الروس أول مركبة اخترقته زُلزلت عقول كنّا نحسبها أثبت من الجبال، وخفَّتْ أحلامٌ كانت أثقل من الرواسي، وكاد قوم يكفرون بعد إيمانهم، فحسبوا -جهلاً منهم- أنهم شاركوا الله في ملكه بما وصلوا إليه من العلم، وأنهم سيّروا في الفضاء قمراً آخر مثل القمر. وكنت أذيع يومئذ أحاديث دائمة من إذاعة دمشق، فقلت معلقاً على هذا الخبر: إنما مَثَلكم ومَثَل قمركم كجماعة من النمل كانت في قريتها في يوم عاصف، فحملت نملة منها قطعة من القش، ثم أفلتتها فحملتها الريح مسافة عشرة أمتار، فظنت النملة أنها صارت من الآلهة ... ولا إله إلا الله (¬1). وجاء بعد ذلك مَن يكتب أن العلم قد انتصر على الطبيعة وقهرها، فأذعتُ حديثاً آخر قلت فيه إن القشة ما طارت إلا بالقانون الطبيعي الذي طبع الله الكون عليه، وما يستطيع أحد أن يقهر الطبيعة، وإن قال ذلك سفاهة وجهلاً. ¬

_ (¬1) انظر مقالة «ما قَدَروا الله حقّ قدره» في كتاب «نور وهداية» (مجاهد).

وقد نبّهَنا الله إلى ذلك في القرآن، ولكن أين من يتنبّه؟ ألم تقرؤوا خبر الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربه أنْ آتاه الله المُلك؟ {إذْ قَالَ إبْراهيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُميتُ، قالَ: أنا أُحْيي وَأُميتُ}، أي أنه يأتي برجل حكم عليه بالقتل فيعفو عنه فيحييه، ويعمد إلى آخر فيقتله فيميته. على أنه ما أحيا ولا أمات إلا بالسنن التي سنّها الله والقوانين الطبيعية التي طبع الله الكونَ عليها، فلمّا طلب منه إبراهيم شيئاً يَخرج على هذه القوانين فقال له: {فإنّ اللهَ يَأتي بالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ، فَاتِ بها مِنَ المَغْرِبِ} ماذا كان جوابه؟ {فَبُهِتَ الذي كَفَرَ}. ولقد قلت من سنين في بعض أحاديثي «على مائدة الإفطار» في رمضان: إن لكل عصر وثنية، وإن وثنية هذا العصر هي المبالغة في تقدير العلم وتقديسه وجعله نداً للدين! وما العلم؟ العلوم الطبيعية عند أهلها هي: الوصول إلى معرفة قانون الله بالمشاهدة، ثم بالتجرِبة، ثم بالمعرفة. مراحل لا بد منها؛ نيوتن مثلاً شاهد شيئاً يسقط، فراقبه ولاحظه وفكّر فيه، ثم فرض فرضية وجاء بنظرية، ثم أراد أن يختبر صحةَ هذه النظرية من بطلانها وصوابَها من خطئها فعمد إلى التجربة؛ فإذا اتحدت الظروف -ولو اختلفت البلدان- ثم كانت النتيجة واحدة فذلك هو القانون الطبيعي. وإذا قلت «الطبيعي» فلست أعني هذه المقالة الحمقاء التي كان يقول بها السفهاء والسخفاء، من أن الطبيعة هي التي خلقت وهي التي صنعت وهي التي عملت، بل أعني بقول «الطبيعي» أنه ليس من عمل البشر. وإلا فما الطبيعة؟ إن لفظها «فَعيلة» بمعنى مَفعولة، أي أشياء

مَطبوعة، وكل مطبوع لا بد له من طابع. وقد بطلت الآن هذه المقالة وانصرف العلماء الكبار عنها وعادوا إلى إدراك الحقيقة الكبرى، وهي الإيمان بأن لهذا الكون خالقاً حكيماً قادراً سميعاً بصيراً. واقرؤوا إن شئتم كتاب «العلم يدعو إلى الإيمان» وكتاب «الطب محراب الإيمان»، والكتب الكثيرة التي أُلِّفت في موضوعه وفي معناه. هذا هو العلم. ثم إننا لم نُؤْتَ منه إلا قليلاً؛ عرفنا قانون الجاذبية، ولكن ما هي الجاذبية؟ ما ماهيّتها؟ وعرفنا الكهرباء وقوانينها وظواهرها، وجعلناها علماً يدرَّس في المدارس والجامعات وألّفنا فيها كتباً ومجلدات، ولكن هل عرف أحد ماهيّة الكهرباء؟ إننا نعلم أنها إن قُطعت الأسلاك انطفأت المصابيح ووقفت الآلات وفقدنا هذه الطاقة التي دعوناها الكهرباء، ولكن هل الأسلاك هي الكهرباء؟ (¬1) {وَمَا أُوتيتُم مِنَ العِلْمِ إلاّ قَليلاً}. ¬

_ (¬1) سمعت هذا المثال من جدي رحمه الله غير مرة، وقد ناقشته ذات يوم فقلت له إن الكهرباء هي دفق من الكهارب (الإلكترونات) السالبة الشحنة التي تندفع في المادة الموصِلة (السلك)، فقال: ولكن الكهرباء ليست هذه الإلكترونات، إنما هذه دقائقُ مشحونةٌ بالكهرباء، فما هي الكهرباء؟ وإنما سقت هذا الحوار لئلاّ يظن قارئ يقرأ جملة الشيخ هنا أنه كان جاهلاً بالذرة ودقائقها وبالكهرباء وأصولها؛ فهو كان قارئاً موسوعياً، هذه كانت من صفاته الظاهرة رحمه الله، فكانت كتب العلوم من جملة ما يقرأ من الكتب (على أنه لا يبلغ من التوسع والشمول فيها ما يبلغه في كتب الفقه والأدب وأمثالهما من الموضوعات اللازمة له والمحبَّبة إليه)، وما كان ليجهل ما يعرفه طلاب المدارس من هذه=

إن البشر إنما {يَعْلَمونَ ظاهِراً مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيا}، أما الحقائق والماهيّات فلم يصل إليها علمهم. أنا أفكر وأعلم أن الدماغ (أي المخ) له صلة قوية بالتفكير، فإن اختلّ جزء منه اختلّ الفكر، ولكن هل الفكر هو الدماغ؟ لمّا انتصر المذهب المادي في أواخر القرن التاسع عشر قال هيغل (أو إسبنسر، نسيت من منهما القائل): «إن الدماغ يفرز الفكر كما تُفرز الكَبِدُ الصفراءَ». ثم صارت هذه المقالة تاريخاً يدوَّن ونادرة تُروى. لقد أبطل هنري برغسون وأصحابه نظرية الماديين، وإن عادت إليها الحياة شيئاً قليلاً على يد الماركسيين. ومذهب ماركس ¬

_ = العلوم، وسوف ترون فيما يأتي من هذه المقالة تأكيد هذا الذي أقوله والبرهان عليه. وقد بات العلماء يعرفون اليوم أن ما كنا نحسبه مكوّنات أوّلية للذرة إنما يتكون من أجزاء أصغر؛ فالبروتونات والنيوترونات التي تكوّن معاً نواة الذرة يتكوّن كل واحد منها من اجتماع ثلاثة جُسَيمات أصغر يسمّونها «الكوارْكات»، وهي على ستة أنواع، فالبروتون يتكون مثلاً من اتحاد اثنين منها شحنةُ كلٍّ منهما ثلثا وَحدة موجبة وثالثٍ شحنتُه ثلث وَحدة سالبة، فيكون المجموع وَحدة موجبة واحدة. والنيوترون يأتي من اجتماع كواركين شحنة كل منهما ثلث وَحدة سالبة وكوارك ثالث شحنته ثلثا وَحدة موجبة، فيلغي بعضها بعضاً ويصبح بلا شحنة (متعادلاً). هذا كله نعرفه اليوم، ولكنا ما زلنا -كما قال جدي هنا- نجهل حقيقة الشحنة التي هي الكهرباء. وسيأتي بعدَنا جيل يعرف أكثر وأكثر، وربما استمرّ العلماء في العثور على مكوِّنات للمادة أصغر وأصغر، وإنما هذا من الإعجاز، ليقول كل جيل منهم للذي سبقه: «وما أوتيتُم من العلم إلا قليلاً»، وصدق الله (مجاهد).

آيل إلى الزوال، لقد بدت في الجو علائم نهايته (¬1). وعرفنا من قديم أن الإيمان والعاطفة والحب متصلة كلها بالقلب، والشعراء في كل لغة ولسان يقولون: سرقَت الحبيبة قلبي، وسكنت قلبي، ومزقت قلبي ... ولست أدري ماذا صنعت غير هذا بقلبه! فهل عرفنا حقيقة الصلة بين الإيمان والحب وبين القلوب التي في الصدور؟ * * * إن الأرض ذرة صغيرة في هذا الفضاء، فما الذي عرفناه من خبر هذا الفضاء؟ عرفنا بعلومنا ما يعرفه أطفال يلعبون على شاطئ البحر المحيط، جمعوا قليلاً من الأصداف الملوَّنة وحسبوا أنهم وضعوا أيديهم على ما في البحر. وهذا المثال ضربه -كما أذكر- نيوتن، ليس المثال من عندي. وهذه القوانين الطبيعية: هل تَنْفُذُ هي نفسها في العوالم البعيدة عنا التي لا نعرف إلا لمحة عنها، أم هي قاصرة على عالمنا الأرضي وما يقاربه؟ لذلك رجعت أفكر في خلق السماوات والأرض، فلم أجد عند البشر علماً منه؛ إن الله ما أطلعهم إلا على طرف من أطراف هذا الفضاء، وسترون أن هذا الفضاء كله جزء من العوالم الكبيرة ¬

_ (¬1) بعد أربع سنوات من نشر هذه المقالة تخلّت كبرى الدول الماركسية في العالم عن ماركسيتها، وتفكّك الاتحاد السوفييتي رسمياً في الخامس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) من عام 1991 (مجاهد).

التي خلقها الله، فجئت أسأل عنها مَن خلقها. وما شهدنا خلقها ولا خلق أنفسنا. مَن شهد نفسه لمّا كان نطفة في دم أبيه؟ ثم صار جنيناً في بطن أمه؟ ثم كان وليداً لا يعقل ولا يذكر ولا يفهم؟ إنها مرحلة من حياة آمن بها لأن أهله خبّروه بخبرها. وحياتنا طريق طويل طويل في بَيداء ممتدة واسعة، في وسطها قرية منوَّرة، فأنا لا أرى من الطيارة إلا هذه البقعة الصغيرة التي فيها الأنوار، وقبلها مراحل من الطريق وبعدها مراحل، أما ما كان قبلها فصدّقتُ خبره لمّا سمعته من أهلي، فلماذا لا أصدق خبر ما بعدها وقد خبّرني به خالقي وخالق أهلي؟ لقد علّمونا -مثلاً- أن الأرض قد انفصلت عن الشمس، وهذه هي نظرية لابلاس. ولكن القرآن الذي أنزله خالق الأرض والشمس يقول: {قُلْ أَئِنَّكُم لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَينِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً، ذلكَ رَبُّ العَالمين. وَجَعَلَ فيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا، وَبَارَكَ فيهَا، وَقَدَّرَ فيهَا أَقْوَاتَها في أَرْبَعَةِ أيّامٍ سَواءً للسَّائِلينَ. ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَللأرْضِ ائْتِيَا طَوْعَاً أو كَرْهَاً، قَالَتَا: أتَيْنَا طائِعِين. فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَيْنِ، وَأَوْحَى في كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا}؛ وهذا كلام رب العالمين صريح أن الأرض خُلقت قبل السماء، وأن السماء لمّا خُلقت الأرض كانت دُخاناً، أي غازات أو ما يشبهها، أو مادة أثيرية لا نعرف كُنهها. وكنت أعجب كيف تكون الأرض أصل هذا الكون الواسع، وهي منه كالقطرة من البحر العظيم والرملة الواحدة من الصحراء

الكبرى، ثم ذكرت أن هذه هي سنة الله في كونه، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً}. أليس كل شيء في الدنيا مركَّباً من هذه الذرة الصغيرة؟ وكل حي من هذه الخلية التي لا تُرى؟ فلِمَ لا تكون الأكوان من هذه الأرض؟ ولقد خبّرني الأستاذ عمر الحكيم رحمه الله (وكان يدرّس هنا في الكلية في مكة) أنهم عدلوا عن نظرية لابلاس وأعرضوا عنها ولم يبقَ متمسّكاً بها إلا الفرنسيون أو بعضهم عصبيةً منهم لصاحبها، وسرد في ذلك كلاماً طويلاً وسمّى لي مراجع كثيرة لم أحفظ أسماءها. والأستاذ عمر الحكيم كان -كما يقولون اليوم- موسوعة، فهو عسكري تخرج في أكبر مدرسة عسكرية في فرنسا، من سان سير، وهو أكبر أستاذ كان عندنا في الجغرافية، وكان مطّلعاً على جانب كبير من العلوم الإسلامية ومتقناً للفرنسية والألمانية ويحسن الإنكليزية، والعربية لغته، رحمه الله ورحم أباه خالد الحكيم، الذي كان من المقرَّبين من الملك المؤسِّس عبد العزيز عليه رحمة الله. * * * فما السماء؟ السماء في لغة العرب كل ما علاك فأظلّك. أما المقرَّر في العلم فهو أن الشمس والقمر يسبحان في الفضاء (وهذا أمر صرّح به القرآن فقال: {وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُون})، وأن الشمس -على بعدها عنا- يصل نورها إلينا في نحو ثمان دقائق، لأن النور يقطع في مسيره ثلاثمئة ألف

كيل (كيلومتر) في الثانية؛ أي أنها تبعد عنا ثمان دقائق بالزمن الضوئي، والقمر يبعد عنا ثانية وثلث الثانية بهذا الزمن، فلو أننا استطعنا أن نصنع مركبة تسير بسرعة الضوء (وهي أقصى سرعة ممكنة، فإنْ زادت السرعة على ذلك ذهب الجسم -كما يقول آينشتاين- وتحول إلى طاقة) لبلغنا القمر في ثانية وثلث الثانية، ولوصلنا إلى الشمس في ثماني دقائق. وأن هذه الأجرام التي تظهر لنا نقطة في الفضاء في الليلة الظلماء (وقد لا تظهر لنا أبداً) منها ما يبعد عنا ألف ألف (أي مليوناً) من السنين بالزمن الضوئي، ومنها ما يبعد عنا مئة مليون وألف مليون سنة وأكثر. فاحسبوا كم «ثمان دقائق» في هذه المدة التي تبلغ ألف مليون سنة لتتصوروا كم هي أبعد من الشمس. أما كبرها، فنحن نعلم أن القمر أصغر من أرضنا، والأرض لا تعد شيئاً إلى جنب الشمس، ومن النجوم العملاقة ما لو أن الشمس أُلقِيت فيه هي وسيّاراتها لكانت بالنسبة إليه كحبة رمل ألقيت في بَوادي نجد، أو كقطرة ماء قُطِرت في البحر المحيط! وهذه النجوم والأجرام -على ضخامتها- كثيرة لا تُحصى، يزيد عددها على ملايين الملايين، وتسير بسرعة مهولة، ومع ذلك لا تصطدم إلا إذا اصطدمت ستُّ نحلات تطير وحدها حول الأرض، لأن هذا الفضاء واسع واسع كسَعَة جوّ الأرض بالنسبة إلى النحلات كما يقول مؤلف كتاب «النجوم في مسالكها»! فأين مكان السماء من هذا الفضاء؟ الله خبّرنا أن السماء ليست حدوداً وهميّة، بل هي «جرم»

حقيقي لأنه سمّاها «بناء» وقال «بَنَيْناها»: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إلى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنَّاهَا؟}، {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَاً شِدَاداً}، {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}، {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقَاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا؟}. وقال: {اللهُ الذي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها}. ووصفها بأنها سقف لهذا العالم فقال: {وَجَعَلْنَا السّمَاءَ سَقْفاً}، وقال: {والسَّقْفِ المَرْفُوع}، وجعل لها أبواباً تُفتَح وتُغلَق، فقال: {فَفَتَحْنَا أبْوابَ السّمَاء}، و {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أبْوابُ السّمَاء}، ونفى أن يكون فيها منافذ غير هذه الأبواب، فقال: {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوج}، وأن السماء تُفتَح يوم القيامة: {وَفُتِحَتِ السّمَاء}، وأنها تَنْشَقّ: {فإذا انْشَقَّتِ السّمَاء} وتنفطر وتُكشَط. وبيّنت النصوص أن السماوات سبع: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوات}، {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوات}، {الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوات}. وأن الله قد جعلها طِباقاً، قال: {سَبْعَ سَمَاوات طِباقاً}. فليست السماء خطوطاً وهمية هي مدارات الكواكب كما ذهب إلى ذلك جماعة من الفضلاء أخطؤوا وما أصابوا، وليست السماء حاجزاً متصوَّراً، بل هي كما وصفها ربنا بناء؛ إنها مادة محيطة بهذا الفضاء وما فيه، ولها أبواب تُفتَح وتُغلَق، وعليها حَرَس، وإذا جاء الموعد تُطوَى السماءُ {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُب}. ثم إن الله -عزّ وجل- بعد أن وصف السماء بأنها بناء وأنها سقف مرفوع أكمل الصورة فجعل لهذا السقف مصابيح، فقال: {وَزَيَّنّا السّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابيحَ}، وصرّح بأن هذه المصابيح هي الكواكب: {بِزينَةٍ الكَوَاكِب}، فدلّ ذلك على أن الكواكب تحت السماء الدنيا لأن المصابيح لا تكون إلا تحت السقف.

والذي تبين لي من هذا كله، من نصوص الكتاب المُبين ومن مقرَّرات علماء الفلك، أن الشمس وتوابعها (وهنّ الأرض وأخواتها) وهذه النجوم والأجرام التي لا يُحصى عددها تسبح في فضاء عظيم، وهذا الفضاء تحيط به كله «كرة» هائلة، وهذه الكرة هي «السماء الدنيا»، وهذا العالَم بأرضه وشمسه وأجرامه جميعاً في وسطها. ولهذه الكرة سمك الله أعلم بمقداره، قال تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوّاهَا}، وهي في فضاء لعله مثل هذا الفضاء أو أصغر أو أكبر، وحوله كرة أخرى لها سمك هي السماء الثانية، ثم فضاء، ثم كرة ... وهكذا إلى السماء السابعة. وبغير هذه الصورة لا تكون السماوات «طِبَاقاً»، لا تكون طِباقاً إلا إن انطبقت كلُّ نقطة فيها على التي تقابلها من الأخرى. وبعد السماء السابعة مخلوقات يستحيل على العقل أن يتخيلها أو يتصورها، منها الكرسي: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالأرْضَ}، ثم العرش: {وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظيم}، وسِدْرة المُنتهى، وما عبّر الله عنه بما لم تره إلا عين بشرية واحدة، أكرم الله صاحبها فأراه هذه الآية الكبرى ليلة المعراج، هي عين نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم. هذه كلها عظمة المخلوق، فما بالكم بعظمة الخالق؟ لا إله إلا هو، تعالى عمّا يقول الظالمون عُلُوّاً كبيراً. * * * أما آية {وَجَعَلَ القَمَرَ فيهِنَّ نُورَاً} (أي في السماوات)

فلا تدلّ على غير ما قلت، لأن القمر إذا كان في السماء الدنيا فهو في السماوات كلها، كما لو كانت جوهرة في علبة، وهذه العلبة في علبة أخرى، والثانية في ثالثة، فقلتَ إن في هذه العلبة جوهرة. والآيتان الأوْلَيان أصرح، ولا يُترَك الدليل القطعي لدليل محتمَل (¬1). ولمّا صعدوا إلى القمر أنكر ذلك بعضُ المشايخ ونسوا أنه كان علينا -نحن المسلمين- أن نسبقهم في الوصول إلى القمر، لأن ديننا دين علم، ولأن أول كلمة من كتابنا كانت كلمة {اقْرَأ} وأول تمجيد فيه لله أنه {عَلّمَ بالقَلَمِ، عَلّمَ الإنْسَانَ ما لَمْ يَعْلَم}، وأن الله أعطانا عقولاً تفكّر وقال لنا: {انْظُرُوا مَاذا في السَّماواتِ وَالأرْضِ}. وظنوا أن القمر في السماء وأن السماء لا يمكن أن يبلغها أحد، واستندوا إلى أحاديث رُويت ولا تفيد العلم، ونسوا أن الله يقول في القرآن: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَينِ وَأَوْحَى في كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا، وَزَيَّنّا السّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابيح}، وبيّن في الآية الأخرى (والقرآن يفسّر بعضُه بعضاً): {إنّا زَيَّنّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزينَةٍ الكَواكِبَ}؛ فالله قد جعل السماء سقفاً محفوظاً وجعل الكواكب مصابيح، والمصابيح إنما تكون تحت السقف. وإذا نحن وصلنا إلى القمر والمريخ، بل والشمس، فأين القمر والمشتري والشمس من السماء؟ إذا كان بعد الشمس عنا كبعد إبهامك عن خنصرك تكون السماء أبعد عنك من أميركا بملايين الملايين من المرات! ¬

_ (¬1) قالوا: الدليل إذا تطرّق إليه الاحتمال امتنع به الاستدلال.

وإذا كان علماء الفلك يقولون بأن من النجوم والمجرات ما يسير الضوء الصادر عنه في الفضاء من أول الزمان ولم يصل إلينا إلى الآن، فمعنى ذلك أننا لو اخترعنا مركبة فضائية تسير بسرعة الضوء ولو ركبنا فيها يوم وُلد نوح وسرنا من ذلك الوقت إلى اليوم لا نكون قد قطعنا من طريق السماء (الدنيا) إلا كما تقطع النملة التي تمشي دقيقة واحدة من هنا إلى أميركا! * * * وأنا حين أنتهي إلى هذه الصورة وأرى أن عالمنا كله -بأجرامه وفضائه- محبوس في وسط الكرة الصغرى التي هي السماء الدنيا، أجد ذهني ينتقل إلى الجنين «المحبوس» في بطن أمه. هذا الجنين لو استطعت أن تسأله واستطاع أن يجيبك وقلت له: ما هي الدنيا؟ لقال لك: الدنيا هي هذا البطن وهذه الأغشية. فلو خبّرته أن ها هنا دنيا أكبر، عالَماً فيه برّ وبحر وسهل وجبل ومدن كِبار، وأن داراً واحدة من دور هذه المدن أكبر من دنياه هو بملايين المرات، لم يستطع أن يفهم ما تقول أو أن يتصوره. وكذلك نحن حين نسمع أن الجنة عرضها كعرض السماوات والأرض وأن قصراً واحداً من قصورها أكبر من هذه الأرض كلها. إن نسبة مُلك الله إلى هذا «الفضاء» الذي فيه الكواكب والنجوم والمجرات كنسبة هذا الفضاء إلى بطن الأم، بل هو أكبر. فسبحان الله، لا إله إلا الله، وما أحمق من لا يؤمن بالله! والله الذي خلق هذه المخلوقات التي يعجز العقل عن تصوّر

مدى كبرها خلق أخرى يعجز عن تخيل مدى صغرها؛ ففي الذرة التي لا تراها العين شبه هذه الفضاء، فيها قريب مما فيه من الأجرام الدقيقة التي تمشي على نظام قدّره رب العالمين، يدور بعضها من حول بعض، تتقارب وتتباعد وتختلف وتأتلف على قانون محكم وضعه رب العالمين. وفي الخلية الحية وما كشفوه فيها من المورِّثات التي تنقل بعض الطبائع والسّمات من الآباء إلى الأبناء آية أخرى. وفي كل شيء له آية، ولكن الناس في غفلة عن ذكر الله: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَميعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ والسّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمينِه}، {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ الله}. * * *

من هو العربي؟

رأي للبحث والمناقشة من هو العربي؟ نشرت سنة 1979 من العربي؟ هذا هو موضوع المقال. وربما عجب ناسٌ من هذا السؤال ورأوا الأمر أوضح من أن يُستوضَح عنه وأهون من أن نشتغل بالكلام فيه. وأنا أسأل هؤلاء الإخوان: هل العربية بالنَّسَب أم باللسان؟ إذا كانت بالنسَب فماذا نكون نحن، وما لأكثرنا نسب في العرب؟ وما دام الناس لآدم، وآدم واحد جاء منه كثير وصار من أبنائه الشعوب والقبائل، وما دام لكل قبيلة وشعب أول (أي أب) تنتمي إليه وتبدأ منه، فمن هو أبو العرب الذي كان منه أولهم وإليه انتماؤهم، فمَن نَسَلَه هذا الأب كان عربياً، ومن سبقه أو جاء من غيره لم يكن من العرب؟ وإذا كانت باللسان وكان اللسان هو الميزان، فهل كان لسانُ الأقدمين من سكان اليمن ولسانُ عاد وثمود وطسم وجديس، لساناً عربياً؟ وهل صحيح ما يقولونه من أن العرب عارِبة ومُستعربة، وأن المستعربة هم أبناء إسماعيل ومنهم بنو هاشم رهط محمد صلى الله عليه وسلم؟

الذي أراه أنا أن اللسان العربي الذي نتعارفه اليوم، ونرجع إلى المعاجم في تحقيق مفرداته، وإلى الصرف في اشتقاق كلماته، وإلى النحو في ضبط حركاته، ما جُمعت شوارده ولا قُعِّدت قواعده إلا اعتماداً على ما جاء في القرآن وعلى ما أُثر عن العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، من أشعار وأقوال يرجع العلماء إليها ويستشهدون بها، فما نطقوا به فهو الصحيح المقبول، وما خالفه فهو اللحن المرذول؛ المدار في ذلك كله على «السَّماع» منهم والموافقة لهم، لا دخل فيه للعقل ولا للمنطق. فلننظر إلى لسان (¬1) حِمْيَر ومن كان قبلهم من سكان اليمن، وإلى ما وصل إلينا من بقايا ألسن عاد وثمود والعمالقة، وما جاء في قانون حمورابي: هل هو موافق للسان العرب الذي نزل به القرآن ونُظمت فيه المعلقات؟ الجواب: لا. وهذا شيء اتفقت عليه كلمة علمائنا الأولين وكشوف المُحْدَثين من الأثريين؛ فلقد رُوي عن شيخ الرواة وإمام أهل العربية أبي عمرو بن العلاء أنه قال: «ما عربية حمير بعربيتنا ولا لسانهم بلساننا». وذكروا أنه لما قدم وفد عرب الشمال على سيف بن ذي يزن يهنّئونه باسترجاع اليمن قال لأحدهم: ثِبْ. وكان الملك على ظهر غمدان، فوثب الرجل من سطح القصر فما وصل الأرض إلا وقد تقطع. فعجب الملك وقال: ما له؟ قالوا: ¬

_ (¬1) فرّقَ المتقدمون بين «اللسان» و «اللغة»، وإن كانا بمعنى؛ فاللسان عندهم كالعربية والفارسية والهندية، واللغة (وندعوها اليوم اللهجة) كلغة قريش وتميم. وقالوا في جمعها «ألسُن»، وفي جمع اللسان الذي هو العضو «ألسِنة» (وكلاهما صحيح في الحالين) (مجاهد).

أنت قلت له «ثِبْ». قال: «من دخل ظَفار حَمَّر». أي تعلم لسان حمير. وزعموا أن «ثب» في لسانهم بمعنى «اقعد»، وأنا أسرد القصة من حفظي، وليس تحت يدي وأنا أكتب هذا المقال شيء من المراجع لأرجع إليه. وأذكر أننا درسنا في الجامعة المصرية (وقد حضرت فيها فترة من سنة 1928) في كتاب للمستشرق جويدي صُوَرَ نُقوشٍ وجدوها على قبور في اليمن، لا تُفهَم ولا يُحكَم بأنها من لسان العرب. فلسان حمير -إذن- غير لسان قريش. فإذا كانوا هم العرب العاربة وكان لسانهم هو العربي كان القرآن منزَّلاً بغير العربية لأنه مخالف للسان حمير ... مع أن القاعدة الثابتة التي ينبني هذا الكلام كله عليها هي أن القرآن نص عربي، وكل نتيجة تخالف هذه المقدمة مردودة. فالعرب -إذن- هم قريش ومن نطق بلسانهم الذي نزل به القرآن، فمن وافقهم كان من أهل العربية، ومن خالفهم لم يكن من أهلها. ولسان حمير ومن كان قبلها في اليمن مخالف له، فهل نقول إن حمير ليست من العرب؟ وهل يمكن أن يقال -على هذا- إن العرب هم ثمرة زواج إسماعيل من جرهم، كما كان العبرانيون ثمرةَ زواج يعقوب من أهل فلسطين؟ وأزيد الكلام بياناً: إن إبراهيم هو جدّ العرب وجدّ العبرانيين، ولكنه ليس عربياً ولا عبرانياً. وقد افترق أولاده، فكان إسماعيل أبا العرب وإسحاق أبا العبرانيين، وإسماعيل وإسحاق كلاهما غير عربي ولا عبراني. وقد ابتدأ ظهور العبرانيين بظهور

بني إسرائيل (الذي هو يعقوب عليه السلام)، فهل ابتدأ ظهور العرب، أعني الناطقين بلغة القرآن، بظهور أولاد إسماعيل؟ وإن قلنا إن العرب في الماضي هم سكان الجزيرة العربية الذين كانوا يتكلمون بلسان العرب المعروف الآن، الذي هو لسان القرآن؟ فماذا يكون أسلافهم إذن، ممن يسمَّون -خطأً- العرب العاربة أو العرب البائدة؟ وهل هذا الاختلاف بين اللسانين كاختلاف لسان الإنكليز اليوم عن لسانهم قبل قرون، بحيث لا يفهم إنكليزي اليوم لغة إنكليز القرن العاشر؟ أو كاختلاف لسان الفرنسيين والطليان عن لسان اللاتين الذي كان منه اشتقاقه وإليه مَرَدّه؟ وأنا أعلم أن القول بأن "عاداً وثمود وسبأ وأمثالهم عربٌ" هو عند أكثر الناس من البديهيات (¬1)، ولكن هذه البديهية يعترضها اختلاف اللسان: فكيف يكونون عرباً، بل كيف يكونون هم العرب العاربة، ولسانهم غير لسان القرآن الذي لا ينكر أحدٌ أنه هو اللسان العربي المبين؟ هذا سؤال أسأله، لا أقرر قاعدة ولا أحكم حكماً، ومن كان عنده رأي فليعرضه للمناقشة. (¬2) * * * ¬

_ (¬1) قالوا «طبيعي» و «بديهي»، ولو كانتا مخالفتين للقياس، ولم يقل أحد من المتقدمين «طبعي» ولا «بدهي». (¬2) انظر مقالة «المنزل الأول للبشر» في كتاب «من نفحات الحرم» (مجاهد).

هذي شهورنا

هذي شهورنا نشرت سنة 1956 يستعمل إخواننا المصريون للشهور الشمسية أسماء أجنبية (يناير وفبراير، إلخ)، ونستعمل نحن أسماء الشهور التي كان يستعملها العرب؛ وهي: كانون الثّاني، شُبَاط، آذار، نَيْسَان، أَيّار، حَزيران، تَمّوز، آب، أَيلول، تِشْرين الأول، تِشْرين الثاني، كانون الأول. قال أبو العلاء المَعَرّي: تشتاقُ أيّارَ نفوسُ الوَرى ... وإنّما الشَّوقُ إلى وَرْدِهِ وقال ابن الزَّيات: ما غَالَني عنك أيلولٌ بلذّته ... وطِيبِه، ولنِعمَ الشهرُ أيلولُ وقال صَفيّ الدين الحِلّي: والغُصنُ قد كُسِي الغلائلَ بعدما ... أخذت يدا كانونَ في تجريدِهِ وقال فتيان الشّاغوري: قد أجْمَدَ الخمرَ كانونٌ بكل قَدَحْ ... وأخمدَ الجَمْرَ في الكانونِ حين قَدَحْ

الكانون في شطر البيت الثاني هو الموقد، وبين المصراعين تجانس غير تام. وقال سبط ابن التعاويذي: يا عليُّ يومُنا ... أولُ يوم من شُباطْ أنا في مجلسِ لَهْوٍ ... وسرورٍ وانبِساط وقال ابن المعتز: حبَّذا آذارُ شهراً ... فيه للنّور انتشارُ ينقصُ الليلُ إذا ... حلَّ ويمتدُّ النّهارُ وقال شوقي: آذارُ أقبَلَ قُمْ بنا يا صاحي ... حَيِّ الرّبيعَ حديقةَ الأرواحِ وقال محمد البزم: قرأتُ شِعرَك في آبٍ فخُيِّلَ لي ... أنّي أُقَلَّبُ في أحشاءِ كانونا * * *

اقتراح في التعليم

اقتراح في التعليم نشرت سنة 1953 مارست التعليم ستاً وعشرين سنة، علّمت خلالها في المدارس الأوّلية القروية في سَقْبا وزاكية، والمدارس الابتدائية في دمشق: الملك الظاهر وخالد وطارق، والمدارس الأهلية: الأمينية والكاملية والجوهرية، والمدارس الثانوية في دمشق ودير الزور وبغداد والبصرة وكركوك والقاهرة، والكلّيات الشرعية في دمشق وبيروت وبغداد، ودار المعلمين العالية في بغداد، ودرّست أطفالاً وشبّاناً وبنين وبنات، ولا أزال إلى اليوم أمارس التدريس مع القضاء في ثانويتين للبنين وللبنات. فاجتمع لي -من ذلك- من التجارب في التعليم ما لا أظنه اجتمع لكثيرين من المدرسين؛ أعان على ذلك طولُ المدة وتعدُّدُ البلاد، وأنه مرّ عليّ ألوفٌ وألوفٌ من التلاميذ، وتحصّل لي من ذلك آراء سأحاول أن ألخّص شيئاً منها لهذه المجلة (¬1). وما أنشره اليوم اقتراح أنا أعلم أن دون الأخذ به عقبات، وأنه دعوة لقلب أوضاع المدارس وإبدال طرائق التعليم، ولكن ¬

_ (¬1) مجلة «المعلّم العربي» التي نُشرت هذه المقالة فيها (مجاهد).

ذلك لا يمنع من درسه وبحثه، لأن كل اقتراح أو رأي بذرة تُلقَى في الأذهان، إما أن تموت وإما أن يكون منها الدَّوحة الباسقة والشجرة العظيمة. وما من شجرة -مهما عظمت وبسقت- إلا وأصلها بذرة. والذي نبهني لهذه الاقتراح وجعلني أبحث فيه مرة في الرسالة من عهد بعيد (¬1) أنه كان لي أخ دعاه داع صحي إلى ترك المدرسة، فانقطع عنها وأقبل يطالع من كتب الأدب والتاريخ ما لا يثقل عليه ولا ينال من صحته، فقرأ فيما قرأ «تاريخ الطبري» كله و «الأغاني» وكتباً أخرى من هذه البَابَة، ثم رأى أن يدخل امتحان الكفاية (وتسميتها بالكفاءة لا وجه له (¬2))، فاستعد لذلك شهراً واحداً، ثم دخله فكان من الناجحين، على أن الناجحين في تلك السنة كانوا دون الثلث. وعاد إلى مثل ما كان عليه حتى كان امتحان النهاية (البكالوريا) (¬3) فاستعد له أشهراً ونجح فيه. ¬

_ (¬1) انظر مقالة «أسلوب جديد في التعليم»، وهي منشورة في كتاب «في سبيل الإصلاح»، وانظر أيضاً الصفحة الثانية من مقالة «المطالعة» في هذا الكتاب، ص180 (مجاهد). (¬2) هو امتحان الشهادة الإعدادية، كان على رأس سنوات الدراسة الإعدادية الثلاث، وكان من وزن امتحان الثانوية العامة في أهميته وخطورة شأنه، فمن لم ينجح فيه استحال عليه إكمال الدراسة الثانوية، ومن نجح بمعدَّل دون المطلوب تحوّل إلى المدارس المِهَنية والصناعية وحُرم من التعليم الأكاديمي. بقي إلى أيامي أو بعدها بقليل، ثم أُلغي من سنوات طويلة حتى لأحسب أن عامة الناس لا يعرفونه اليوم إذا سمعوا به (مجاهد). (¬3) أي الثانوية العامة (مجاهد).

ففكرت في أمره، وجعلت أسائل نفسي: فإذا كانت الغاية النجاح في هذا الامتحان، وكان ذلك يتم بدراسة أشهر أو سنة على أبعد تقدير، فلِمَ ندرّس الطلاب هذه العلوم في سنين طويلة؟ ولماذا نضيع زهرة شباب أبنائنا في المدرسة لنعلمهم ما لا يكاد ينفعهم في حَيَواتهم إذا هم خرجوا من المدرسة إلى الحياة، ولم يقدروا أن يشتغلوا بعد ذلك بما يشتغل به العامي الجاهل من أعمال اليد وأشغال السوق؟ ألا يمكن أن نعلّم كل طالب ما ينتفع به ويميل إليه، ونعفيه من علوم يكرهها ولا فائدة لها في حياته؟ ثم ركزت السؤال فقلت: ما هي الغاية من التعليم؟ * * * إن الغاية إما أن تكون الشهادة، أو تكون العلم لذاته، أو تكون الإعداد لخوض لُجّة الحياة والفوز في اجتيازها. أما «الشهادة» فلا بحث فيها لأنها عَرَض لا جوهر، ووسيلة إلى غيرها، لا يصح الوقوف عليها ولا القناعة بها. وهي -بعدُ- كاسمها، شهادة، قد تكون مزكّاة عادلة، وقد تكون شهادة زور تعطى لغير أهلها وتُمنَح غيرَ مستحقها. وماذا ينفع الفقير المفلس أن يشهد له عُدول البلد بأنه أغنى الأغنياء؟ أما «العلم» فإني أذكر ما جرّبته بنفسي وما شاهدت عليه تلاميذي. ولقد كنت في دراستي الثانوية مُجَلّياً دائماً، وما كنت مقصراً في درس حتى الرياضيات، ولقد بقي من أساتذتنا الهاشمي والكيّال والشمّاع (مدّ الله في أعمارهم)، فاسألوهم: هل كنت إلا سابقاً في الرياضيات وفي الطبيعيات؟ ولقد كتبت مرة في

جريدة «اليوم» سنة 1930 أدّعي الجهل المطبق بالرياضيات -على عادة الأدباء- فردّ عليّ أستاذنا مسلّم عناية (رحمة الله على روحه) وشهد لي بأني كنت من السابقين فيها. وما قلت هذا تمدّحاً وفخراً بل لأقرر أني -على رغم هذا كله- لم يبقَ عندي الآن مما درست من العلوم إلا ما كان طبعي منصرفاً إليه من علوم الدين واللسان والتاريخ والفلسفة، وما عدا ذلك من العلوم الرياضية والطبيعية (¬1) فلا أكاد أعرف منه الآن إلا أشياء عامة جداً، أما التفاصيل والدقائق وأعيان المسائل فقد نسيتها كلها، ولو سئلت عما أعرفه من المثلثات مثلاً لأجبت صادقاً بأني لا أعرف إلا شيئاً اسمه الجيب والتَّجيب (وأظن أن اسمه تمام الجيب) والمماس (ولا أذكر ما هو على التحقيق)، حتى موضوع علم المثلثات على وجه التحديد نسيته، مع أن علامتي في هذا الدرس سنة درسناه كانت تسعاً من عشر وكنت تلك السنة الأول في صفي. والشيء الذي لم أنسَه ولم أجد في الحياة وقد عرفت العمليات الجراحية، وآلام النوبات الرملية، والضياع في الصحراء، وشهدت حربين اثنتين، حرب 1914 وحرب 1939، وذقت الفقر وموت الأم والأب ... فلم أجد في ذلك كله ما هو أصعب منه، فهو الجذر التكعيبي والعياذ بالله من ذكره! أما الكيمياء العضوية فلا أعرف منها الآن إلا أن فيها شيئاً اسمه الميثان، وتركيبه جزء من الفحم وأربعة من مولِّد الماء (¬2). ¬

_ (¬1) لا الطبعية كما يقول المتحذلقون. (¬2) أي ذرة كربون وأربع ذرات هيدروجين، رمزه الكيماوي CH4، وهو المركَّب الأول في سلسلة البارافين الهَيْدروكربونية (مجاهد).

ولا أعرف عنها وعن الفيزياء (¬1) إلا أن الكيمياء تبحث في التبدّلات الجوهرية في المواد وتلك تبحث في التبدلات العارضة. ودرست الجغرافية (¬2) الطبيعية والسياسية والاقتصادية، ومع ذلك فقد سمعت في الرادّ من أيام اسم بلد فلم أدرِ أين يقع حتى بحثت عنه على المصوَّر. وكل من عرفت من الطلاب هذه حالهم؛ ينسى أكثرهم كل شيء إلا شيئاً انقطع له واختص به، ويحفظ الأقلُّ منهم خلاصات موجَزة. أفما كان خيراً لو أقرأناهم هذه الخلاصات وحدها من الأصل؟ ولست أقول: دعوا هذه العلوم لا تُقرئوها التلاميذ، ولكن أقول إن هذا الخلط بين العلوم الكثيرة يؤدي إلى إضاعتها كلها، وهذا سرّ ما نشكوه من ضعف الطلاب في مصر والشام والعراق في اللغة، وهي أداة العلم كله، وما نلمسه من عقم القرائح وفَقْد المخترع والباحث. ولو أنّا رجعنا إلى طريقة أجدادنا الذين كانوا يتعلمون علمين اثنين أو ثلاثة، فإذا أحسنوها أخذوا في غيرها، لكان أجدى علينا. * * * ¬

_ (¬1) وكانت تسمى في أيامنا «حكمت طبعية». (¬2) وقد كان الأب أنستاس الكرملي يسمّيها علم «التفريع»، من قولهم فَرَع الأرض (أي جَوّل فيها).

فمدارسنا -إذن- لا توصل إلى الغاية العلمية النظرية، فلننظر إلى الغاية العَمَلية: هل تبلّغنا إياها؟ هل تُعِدّ مدارسُنا التلاميذَ إعداداً جيداً للنجاح في الحياة، وضمان الكسب الطيب والعيش الرغد، مع الخلق القويم والإيمان العميق؟ الجواب -فيما أحسب- مُشاهَد ملموس؛ هو أن مدارسنا، معشرَ العرب لا معشر السوريين فقط، لا تكاد تخرّج إلا أطباء أو محامين أو مدرّسين أو موظفين. أما الوظائف فعددها محدود لا يمكن أن يتسع لكل المتعلمين، ولا ينبغي أن يتسع لهم. وأما الأطباء والمحامون في دمشق فقد صاروا من الآن أكثر من اللازم بكثير، وغدا جلّهم يقنع بالربح القليل. أما التجارة والزراعة وسائر طرق الرزق فإن أكثر أهلها أو كلهم ممّن لم تخرّجهم المدارس، بل خرّجوا أنفسهم في مدرسة الحياة الكبرى. وأصل المسألة أن نظام التعليم في بلادنا كالدار القديمة التي بُنيَت من غير هندسة وعلى غير مخطَّط، لا يفتأ أصحابها يتعاهدونها بالإصلاح، ويحاولون مرة جعلها على الأسلوب العربي، وتارة على الأسلوب القوطي، وطوراً على الأسلوب الأميركي الحديث، ينفقون عليها أضعاف ما يكفي لبناء دار جديدة، ويرضون أن يجعلوها -من كثرة التجارب وتعدد الأساليب- كالثوب المرقَّع، ولكنهم لا يجرؤون على هدمها من أساسها وتنظيف أرضها وبنائها من جديد على هندسة صالحة ونمط صحي نافع.

إننا نحبس التلاميذ ست سنين للدراسة الثانوية، ونحشو رؤوسهم بمعلومات أكثرها لا ينفع في الحياة. وماذا لعمري استفدت أنا -من دراسة المثلثات والهندسة النظرية وحفظ معادلات الكيمياء وقوانين الفيزياء- في الكتابة وتدريس الأدب والقضاء، وهذه هي أعمالي في الحياة؟ سيقول قائل: ومن الذي ضرب الرمل فعرف أنك ستكون أديباً أو قاضياً؟ أفما كان في الإمكان أن تكون مهندساً أو صيدلياً أو شيخ طريقة أو قاطع طريق؟ كل ذلك ممكن، ولكن الدراسة العالية هي التي حددت طريقي في الحياة. فلماذا لم أحدده قبل ذلك بسنوات؟ لماذا لم أحدد طريقي من قبل؟ هذه هي المسألة (كما يقول شكسبير)، والآن وصلت إلى الاقتراح الذي قدمت له هذه المقدمات الطِّوال. * * * إن الدراسة العالية هي المقصودة بالذات، وما قبلها ثقافة عامة هي بمكان المقدّمة لها والتمهيد إليها. أفلا يستطيع الشاب الواعي دراسة الحقوق -مثلاً- من غير إحاطة بدقائق الكيمياء والفيزياء والمثلثات؟ أوَلا يكفيه أن يعرف عنها الشيء المُجمَل المختصر؟ وطالب الطب: هل يستحيل عليه تحصيله من غير معرفة بعلل الشعر واختلاف الكوفيين والبصريين؟ لقد شاهدنا محامين بارعين وقضاة لا يعرفون شيئاً عما

درسناه من المشتقَّات وتحول التابع. وشاهدنا أطباء استطاعوا أن ينجحوا في عمليات خطيرة وهم يجهلون شروط عمل اسم الفاعل ولا يقدرون على الموازنة بين أبي تمام والبحتري. وها هم أولاء كبار رجال المعارف المشرفون على شؤونها وعلى هذه المجلّة، سلوهم: هل يذكرون من دروس التجهيز إلا ما يتعلق بما انقطعوا له واختصوا به؟ سلوا الأستاذ الفتيح، وهو أديب وحقوقي: هل يستطيع أن يحل معادلة جبرية من الدرجة الثانية؟ وهل يعرف رمز البترول من الكيمياء العضوية؟ وسلوه مرة ثانية: هل منعه ذلك من أن يكون موفَّقاً في عمله ناجحاً فيه، معدوداً من كبار رجال التربية والتعليم؟ فما العمل؟ أنا أقول لكم، ولكن لن يسمع أحدٌ قولي لأني لست ذا شهادة في التربية والتعليم! اجعلوا مدة الدراسة الابتدائية والثانوية معاً سبع سنين، يتمكن فيها الطالب من العربية بالمِران والتطبيق وإحياء السليقة في نفسه، لا بحشو رأسه بالقواعد وقتل وقته بمعرفة أوجه الإعراب، حتى يقيم لسانه ويتنزّه عن الخطأ الفاحش. ولا يضره -إذا رفع الاسم الواقع بعد «إذا» - أن يُعربه مبتدأ أو فاعلاً لفعل محذوف يفسّره المذكور كما يقول متحذلقة النحاة، وإذا نصب الاسم لا يضره أن يكون حالاً أو تمييزاً. ويتعلم من دينه ما يمسك عليه إيمانَه وخلقه ويرغّبه في الخير ويصرفه عن الشر ويمنعه عن الحرام، ولا يحتاج -بعد

هذا- إلى عَدّ سنن الصلاة ولا إلى معرفة اختلاف الفقهاء في القُرْء: أهو الدم أم الطهر؟ ومن الرياضيات الشيءَ العملي الذي لا يُستغنَى عنه، من غير بحث في النظريات المجردة. ومن علوم الطبيعة وقوانينها ما لا بد من معرفته لإدراك ظواهر الطبيعة وأسرار المخترَعات التي يستعملها، كالرادّ والهاتف والكهرباء. وشيئاً من الصحة وتاريخ العرب وجغرافية بلادهم، ومبادئ لغة من اللغات الأجنبية ... وأمثال ذلك، فما قصدت الاستقصاء ووضع منهج كامل بل أردت التمثيل. فإذا تخرج الطالب في هذه المدرسة عرضنا عليه فروع الجامعة ليختار واحداً منها، فإذا اختاره حضّرناه له في سنة أو سنتين أو ثلاث عند الضرورة، وعلمناه ما لا بد منه للدراسة في هذا الفرع؛ فيكون في كل كلية قسم تحضيري يتلقى فيه الطالب علومَه عن رغبة فيها وحب لها، لأنه هو الذي اختارها ولأنها وافقت هواه. وينجو -بذلك- مَن خُلق شاعراً من طلاسم الرياضيات أو الرسوب دونها والانقطاع عن المدرسة وحرمانه التحصيل من أجلها، وهو لا يحتاج إليها من بعد أبداً. ولا يتعلم كل طالب إلا ما يحتاج إليه، مع اختصار مدة الدراسة، وتقوية الاختصاص، وكسب الوقت الذي يُستفاد منه في تقوية الأجسام بالرياضة وتقويم الأخلاق بالموعظة والمراقبة. ومن شاء الاكتفاء بالدراسة الأولى واقتحام الحياة لم نسلبه وقته، ونكون قد سلّحناه بثقافة عملية يعلو بها عن مستوى العامة

والسوقة، ويستطيع معها مداومة القراءة والمطالعة. فما رأي إخواننا الأساتذة والمربين؟ * * *

لغة أضاعها أهلوها

لغة أضاعها أهلوها نشرت سنة 1955 في اللغة الإنكليزية -كما قالوا- حروف تُكتَب ولا تُقرَأ، وحروف تُقرَأ وهي غير مكتوبة، وحروف تُقرَأ مرّة شيئاً ومرّة شيئاً آخر، ولا بد لكل طالب لهذه اللغة أن يتعلم كيف تُكتَب كل كلمة فيها ويتعلم كيف تُلفَظ. وهي -بعدُ- لغة سماعية، لا يطّرد فيها قياس ولا تُعرَف لها قاعدة. ثم إنها لغة ليس لها نَسَب ثابت ولا أصل معروف، وحاضرُها يلعن ماضيها ويومُها يسُبُّ أمسَها، ولا يفهم إنكليزي اليوم كلامَ بُلَغاء الإنكليز في عصر المَعَرّي والشريف الرّضِيّ فضلاً عن عصر امرئ القيس وزُهَير (¬1)، ¬

_ (¬1) هذا الذي يقوله علي الطنطاوي هنا كلام علمي صحيح لا إنشاء مبالغة وتهويل، فعلماء اللغة يقسّمون تاريخ اللغة الإنكليزية إلى ثلاث طبقات: الإنكليزية القديمة، وامتدت بين عامَي 500 و1100 للميلاد، والإنكليزية الوَسيطة بين عامَي 1100 و1485، وبعدها بدأ عهد الإنكليزية الحديثة، وهي لغة لا علاقة لها بتلك القديمة إلا قليلاً، فتلك ذات أصول جرمانية وفيها تصريفات كثيرة، وهذه الحديثة حملت كثيراً من سمات اللغة الفرنسية بسبب التغلب السياسي للنورمنديين على إنكلترا خلال الحقبة الوسطى، وقد فقدت كل التصريفات القديمة التي كانت من خصائصها. والحقيقة=

وألفاظُها لُمامة (لُمامة من العامي الفصيح) (1) من الطرق، ففيها كلمات ألمانية وكلمات فرنسية وكلمات من العربية ... وفيها ¬

_ = التي لا يماري فيها أحدٌ من أهل الإنكليزية اليوم أن أي أحد من الناس يعجز عجزاً تاماً عن قراءة وفهم نص كُتب بالإنكليزية القديمة، وعجزاً شبه تام عن قراءة أي من نصوص الإنكليزية الوسيطة؛ بل إن أدب شكسبير لا يكاد يفهمه إلا واحد من بضع مئات من الناس عندهم، ولمّا تمضِ على وفاته غير أربعة قرون (توفي سنة 1616)! (مجاهد). (1) من عادة جدي رحمه الله أن يشير في حواشي كتبه إلى الكلمات التي تأتي في كتاباته مما يستعمله العوام في كلامهم وله أصل فصيح، تجدون ذلك في مواضع كثيرة من كتبه. وقد أشار إلى هذه الكلمة هنا على عادته، لكنه لم يضبطها بالشكل. وأنا أحرص حين أُعِدّ كتبه للنشر على ضبط كل غريب من اللفظ (كما قلت في مقدمة هذا الكتاب). ولم أجد اللمامة في المعاجم، فاجتهدت فضممت لامها وأنا على شيء من الشك، فأهل الشام يلفظونها بلام ساكنة، على عادتهم في ابتداء كلمات كثيرة بالتسكين، وهي لغة في بعض أحياء العرب مخالِفةٌ للفصيح، لأن العرب لا يبدؤون بساكن (ولا يقفون على متحرك كما تعلمون). وقد اجتهدتُ في ضَمّ اللام هنا لأن «فُعالة» صيغة شبه قياسية للبقية من الشيء، تقول «بُرادة» لما يزيد من بَرْد الحديد و «نُشارة» لما يفضل من نشر الخشب، ومثلهما «القُلامة» للظفر المقصوص و «القُمامة» لما يبقى من تنظيف البيت، ومثلها «الزُّبالة» و «النُّفاية» و «الحُثالة» ... هذا كله في كتب اللغة القديمة، وقد اعتمد عليه مَجْمَع اللغة العربية في مصر فأصدر في مؤتمره سنة 1980 قراراً أقرّ فيه قياسية هذه الصيغة مطلقاً في أمثال هذه المواطن، فرجوت أن تكون كلمة «لُمامة» من هذا الباب (مجاهد).

كلمات من كل لسان. وهي -على هذا الضعف والعجز وهذه المعايب كلها- قد سَمَتْ بها هِمَمُ أهلها حتى فرضوها على ثلث أهل الأرض وأنطقوهم بها. واللغة العربية، وهي أكمل لغات البشر وأجودها مخارجَ وأضبطها قواعدَ، ذات القياس المطّرد والأوزان المعروفة (¬1)، والتي هي أقدم قِدَماً من التاريخ فلا يعرفها التاريخ إلا كاملة النموّ بالغة النضج. فمتى ولدت؟ ومتى كانت طفولتها؟ ومتى تدرّجت في طريق الكمال حتى وصلت إلينا كاملة مكمَّلة، ¬

_ (¬1) رأيتم قبل قليل اطّراد القياس في وزن «فُعالة» على سبيل المثال، وهاكم مثالين آخرين (من بين عشرات وعشرات) على عظمة القياس في اللغة؛ فقد سُمع من قديم وزن «فِعالة» للدّلالة على الحِرْفَة في عشرات الألفاظ، فأقرّ المَجْمَع (في مؤتمر عام 1975) قياسية هذه الصيغة لكل حرفة، من الفعل الثلاثي إذا احتمل دلالة الاستمرار والملازمة، مثل: نِجارة وحِدادة ووِراقة وطِبابة وخِياطة وبِقالة، إلخ. ومن هذا الباب الكلمة التي اقترحها علي الطنطاوي لما يسميه الأكثرون «التقنية»، وهي «التِّقانة». ومثال آخر: وزن «فُعال» للمرض، فقد سُمعت عن العرب عشرات الألفاظ التي تدل على المرض من هذا الوزن، مثل: صُداع وسُعال وزُكام وبُحاح ودُوار وهُلاس (وهو مرض السُّلّ) وكُباد وكُزاز (وهو الارتعاد من البرد) وفُواق وخُناق، إلخ. فأقرّ المجمع قياسية هذه الصيغة مطلقاً لكل داء أو مرض (من «فَعَل» اللازم المفتوح العين). والأمثلة على الأوزان القياسية التي تجعل من لغتنا العربية أطوعَ لغات الدنيا لاستيعاب كل جديد لا تُحصى، ولو أن المقام مقام الاستقصاء لرأى القرّاء من هذا الباب عجائب ما كانوا يظنونها في لغتهم التي ينطقون (مجاهد).

لم تحتَجْ إلى تبديل أو تعديل منذ وُجد في الدنيا تاريخ؟ بل لقد أمدَّت -بما زاد عنها من ألفاظها- أكثر لغات الأرض، ففي كل لغة منها أثر. هذه اللغة العظيمة قد أضاعها أهلوها وأهملوها، فلم يكفِهم أن قعدوا عن نشرها وتعليمها الناسَ (كما فعل أجدادهم من قبل) بل هم قد تنكّروا لها وأعرضوا عنها، وجَهِلها منهم حتى كثيرٌ ممّن يدرّسها في المدارس، وجَهِلها حتى كثيرون ممّن يُدْعَون أدباء فيها. بل لقد كان ما هو شر من هذا الجهل، هو أن هؤلاء (الأدباء) يقبّحون مُحَسّنات الكلام ويُزرون على البلغاء، ويحاربون البلاغة لعجزهم عن أن يأتوا بمثلها أولاً، ولأنها أسلوب القرآن ثانياً، وهم يكرهون الإسلام وكل ما هو منه بسبب، ويتمنّون أن يَدَع الناس أسلوب القرآن إلى أسلوب التوراة والإنجيل، وبيانَ النابغة والحُطَيئة والبحتري إلى «بيان ...» شعراء المهجر! فصرتَ تقرأ كتباً ومقالات لقوم من أشباه العوامّ وهم عند الناس كتّاب ومؤلفون؛ يَلْحَنون في الفاعل والمفعول وهم من أئمة الأدب وأعيان الأدباء، ما قرؤوا يوماً كتاباً في نحو ولا صرف، ولا تمرّسوا بأساليب العرب ولا عرفوا مذاهبها في كلامها، وهم أساتذة الأدب الرسميون في الثانويات والجامعات! ولا تغترّوا بما يَدْعون إليه من العُروبة وما يهرف به هذا العجوز ساطع الحصري، الذي كان يُعَدّ مفكراً لمّا كان الحلاقُ طبيبَ الأسنان والصيدليُّ العطارَ والكتاتيبُ رياضَ الأطفال، ثم تغيّر الزمان، فلم يعد الحلاق طبيباً ولا العطار صيدلياً ولا الكُتّاب

روضة، ولا الحصري مربياً ولا مفكراً. إن العروبة، بل إن كل قومية في الدنيا، إنما تقوم على اللسان والتاريخ والعادات. وهؤلاء لا عاداتهم عادات العرب، ولا يعرفون تاريخ العرب، ولا يفهمون لغة العرب. لا أعني هذا العجوز الذي أفسد «معارف» العراق ثم أفسد «معارف» الشام ثم ذهب يفسد «معارف» مصر، والذي يتكلم الآن باللغة العرتكية (¬1)، لا أعنيه وحده، بل أقصدهم جميعاً، ذوي اللغات العرفسية والعركزية (¬2)، ومن شكّ في هذا فليتفضل فليُرِني بليغاً واحداً في هؤلاء القوميين جميعاً. وغيرتهم على العربية كذب. ولقد جرّبتهم السنةَ الماضية حين كنت في باكستان، وكان القوم فيها متردّدين في اختيار لغة رسمية لهم بين العربية والإنكليزية، العربية لأنها لغة قرآنهم ولأن فيهم -في دار العلوم في كراتشي، وفي معهد ديوبَنْد قرب دهلي، وفي ندوة العلماء في لَكْنَو، وفي عشرات المدارس في الهند- علماءَ بالعربية قلَّ أن تجد في مصر والشام من يدانيهم، والإنكليزية لأنها أسهل تعلّماً. ولا يمكن أن تُتَّخذ الأوردية لغة رسمية لأن أهل باكستان الشرقية لا يفهمونها، ولا البنغالية لأن أهل باكستان الغربية لا يفهمونها، وهنا خمسة وأربعون مليوناً وهنا خمسة وثلاثون، وبين اللغتين اختلاف في الأصل: هذه سنسكريتية وهذه فارسية وعربية، وفي الحروف: هذي حروفها ¬

_ (¬1) الكلمة منحوتة من العربية والتركية! (¬2) أي العربية الفرنسية والعربية الإنكليزية.

هندية وهذه حروفها عربية (¬1). وكانت فرصةً لا تكون فرصةٌ أعظم منها، وكنا نستطيع فيها بشيء قليل من الجهد أن نضم إلى الناطقين اليوم بالعربية أكثرَ منهم، نضم ثمانين مليوناً. ولقد كتبت إلى هؤلاء القوميين فما اهتم بذلك أحد، وإلى الحكومات العربية فما تحركت، إلا ما كان من المفوضية السورية في كراتشي ووزارة المعارف هنا، إذ استطاعتا بأربعة مدرّسين فتح عشرين مدرسة لتعليم العربية في كراتشي، يدرس فيها ابن سبعين بجانب ابن سبع، ومدرسة لتخريج معلمين للعربية. والفرصة لا تزال سانحة، فإذا أضعناها لم نستطع أن نعوض مثلها (¬2). ولقد سنحت مثلها أيام السلطان سليم حين أراد أن يتخذ العربية لغة رسمية للدولة، فلم تتم إرادته، ولو تمت لكان الأتراك كلهم اليوم عرباً. * * * إن العالَم الإسلامي كله مستعد للإقبال على العربية وتعلّمها إن جئناه باسم الدين، أما إن جئناه باسم القومية العربية فلن نجد خيراً. وما كان شيءٌ -عَلِمَ الله- يحزّ في نفوسنا ويُخجلنا في رحلتنا إلى الهند والملايو وأندونيسيا إلاّ العتاب الناعم الذي يلقَوْننا به على أنّا صددنا عن اليد التي مدّوها إلينا وزهدنا في ¬

_ (¬1) الأوردية هي ذات الأصل العربي الفارسي وهي التي تُكتَب بحروف عربية (مجاهد). (¬2) انظر مقالة «لغتَكم يا أيها العرب»، وهي المقالة الافتتاحية في كتاب «فِكَر ومباحث»، وفيها إسهاب في هذا الموضوع واستطراد (مجاهد).

الأخوّة التي أكنّوها لنا، وتركنا (أو ترك ناسٌ منّا) رابطة الإسلام التي نكسب بها هؤلاء الإخوان الذين يزيدون عن ثلاثمئة وستين مليوناً لرابطة قومية لم نكسب بها إلى اليوم (ويظهر أننا لن نكسب بها من بعدُ) أحداً. وفي أندونيسيا وفي سلطنة جوهور في الملايو، وفي كل مكان فيه مسلمون، مدارسُ للعربية مملوءة بالطلاب. ولو أنّا عرفنا لغتنا ونشطنا لخدمتها وذهبنا نعلّمها هؤلاء الطلاب الذين يريدونها، لصار العالم الإسلامي كله ينطق العربية في مئة سنة فقط، كما صار ينطقها كله في القرن الثالث الهجري. ولكن العربية -مع الأسف- لغة أضاعها أهلوها وأهملوها، فذلَّتْ وقَلَّتْ وهي خير اللغات، وعَزّت وكَثُرَت لغة لا تصلح خادماً لها حين سَمَت بها هِمَم أبنائها. * * *

آفة اللغة هذا النحو

آفة اللغة هذا النحو نشرت سنة 1988 سألني سائل من أساتذة العربية: ما هي الطريقة المُثلى لتعليم التلاميذ النحو؟ لا أريد أن تضع لي منهجاً خيالياً يحلّق في جو السماء حتى ليدهشك تحليقه، ولكن أريد طريقاً واضحاً يسهل تطبيقه ويمكن تحقيقه. قلت للسائل: إذا رأيت وأنت في مكة رجلاً ضالاً يسألك عن الطريق، أما كنت تدلّه؟ قال: بلى. قلت: كيف تدله وأنت لا تعرف مقصده؟ إن عليك أن تسأله أولاً عن غايته، فإن كان يقصد الحرم دللته على طريق الحرم، وإن كان يريد الطائف أو جدّة أرشدته إلى طريق جدة أو الطائف. فما الغاية من تدريس النحو؟ أليست إقامة اللسان وتجنب اللحن في الكلام، فإن قرأ أو خطب أو حاضر لم يرفع منخفضاً ولم يكسر منتصباً؟ قال: بلى. قلت: فما الذي يضرّه إذا نصب المنصوب أن يحسبه «تمييزاً» وهو «حال»، ما دام قد صحح المقال؟ نعم، إن ذلك يقدح في علمه ويُنقص من مقداره عند أقرانه، ولكنه لا يَحيد به عن غايته. فالمطلوب إذن تكوين المَلَكة الصحيحة لا حفظ القواعد المجرَّدة. وهل كان العربي الأول الذي أُخِذت اللغة عنه

يدري ما الحال وما التمييز، أو كان يعرف هذه الأسماء التي سمّيتموها أنتم ومشايخكم؟ في كتاب «الصاحبي» أن عربياً سُئل: أتجرّ فلسطين؟ فعجب وقال: "إني إذن لقوي"! ما فهم من كلمة الجرّ إلا السحب. وأنه قيل لآخر: أتهمز إسرائيل؟ قال: "ما كنت رجل سَوء"، لم يفهم من الهمز إلا شيئاً بمعنى الوكز واللكز. و «الصاحبي» هو من أوائل ما قرأت من الكتب، ألفه أحمد ابن فارس وسمّاه كذلك تقرّباً إلى الوزير الصاحب بن عباد. وكان واحداً من اثنين هما من عباقرة علماء اللغة، وكانا في عصر واحد، أحمد بن فارس هذا وابن جِنّي. * * * أمامي الآن عدد من مجلة الرسالة صدر يوم 2 شوال سنة 1353هـ، في السنة التي قدمت فيها مكة أول مرة من خمس وخمسين سنة، فيه مقالة لي عنوانها «آفة اللغة هذا النحو». وليس هذا العنوان لي، ولكني استعرته من مقالة للأستاذ الزيات كان نشرها في الرسالة قبل هذا التاريخ. ما قلت أنا ولا قال هو «آفة اللغة النحو» بل: «هذا» النحو؛ فالنحو هو خلاصة علوم العربية، وقد كان أكثر ما يعتنون به من علومها ونحن صغار، كما كانت العناية بالفقه من بين علوم الشريعة، لأن النحو هو الذي يستقيم به اللسان ويُجتنَب به اللحن في الكلام، والفقه هو الذي يُعرَف به الحلال من الحرام. وكما كان الدين سهلاً قريباً، يجيء الأعرابي من باديته فيقعد

بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً أو بعض يوم فيعرف منه ما يكفي لصحة إسلامه، ثم يرجع إلى قومه داعياً إليه ومعلّماً، لأن الدين كان يؤخَذ من منابعه وكان مقترناً بالحياة ممتزجاً بها يبيّن حكم كل عمل من أعمالها؛ كذلك كان تعلم العربية، كان سهلاً لأنه يعتمد على إحياء المَلَكة وأخذ الطالب بحفظ الفصيح، فيتعلم العربية كما يتعلم الطفل الكلام. فلا النحو ينفصل عن شواهده وفهمها وإدراك بلاغتها، ولا الفقه يبتعد عن أدلته وفقهها والعمل بها. ولقد كان هذا ممكناً لو كانت لغتنا، التي نديرها على ألسنتنا ونستعملها في مطالب حياتنا وفي تفاهمنا فيما بيننا، هي اللغة الفصيحة. ولم أقل «الفصحى» لأن الفُصحى مؤنث الأفصح، وأفصح لغات العرب هي التي نزل بها القرآن، وإطلاق لفظ الفصحى على كل كلام صحيح فصيح فيه من الغلوّ والمبالغة الكثير. وقد قلت الصحيح الفصيح، إذ ما كل صحيح يكون فصيحاً، ففي العربية مثلاً فعل «حَبَّ» الثلاثي، وهو بمعنى «أحبّ» الرباعي، فاسم الفاعل منه حابٌّ بمعنى مُحِبّ، ولكن كلمة «حابّ» متروكة مرذولة وكلمة «مُحِبّ» مسلوكة مقبولة. أما اسم المفعول فلا يأتي إلا من الثلاثي. هل سمعتم شاعراً مطبوعاً بدلاً من أن يقول: أنا المحب وأنت المحبوب، يقول: أنا الحابّ وأنت المُحَبّ؟ لذلك كان من شروط فصاحة الكلمة أن تكون خالية من الغرابة، وأن تكون واضحة المعنى سائرة على ألسنة البلغاء. أما الذين يغوصون في أعماق القاموس المحيط ليستخرجوا منه

الكلمات العَويصة التي لا يعرف معناها إلا أئمة اللغة فليسوا في شيء من الفصاحة ولا يُعَدّون من أهلها؛ إنما الفصاحة والبيان فيما يدعونه: «السهل الممتنع»، الذي وصفه ابن المقفَّع بأنه الذي إذا سمعه الجاهل ظن لسهولته أنه يحسن مثله، فإن جرّبه امتنع عليه ولم يصل إليه. هذا كلام الله، وهو أبلغ الكلام، هل فيه الغموض المقصود، أو لفظ يصعب فهمه على العربي الذي نزل القرآن بلسانه؟ أم هو الآية في الوضوح والبيان؟ وهل تكرر ورود كلمة في القرآن كما تكرر لفظ «المُبين»؟ والمبين اسم فاعل من أبان يُبين، والجاحظ سمّى كتابه «البيان والتبيين» ما سمّاه «الغموض والتغميض»! ولقد أمسى أبو علقمة النحوي أضحوكة التاريخ لمّا قال وقد ازدحم عليه الصبيان: ما لكم تَكَاكَاتم عليّ كَتَكَاكُئكم على ذي جِنّة؟ افرنقعوا عني! (¬1) وأكثر ما يصنع هذا في عصرنا ناس من الأعاجم، تعلموا العربية تعلماً وما هي في طبعهم ولا هي على ألسنتهم، فستروا بهذا الإغراب جهلَهم. * * * ¬

_ (¬1) هذه ترجمتها إلى العربية التي يفهمها الناس: "ما لكم تجمّعتم عليّ كتجمّعكم على رجل مجنون؟ تفرقوا عني"! ولأبي علقمة المذكور نوادر من هذا الباب رواها ابن الجوزي في «أخبار الحمقى والمغفلين»، وروى أمثالاً لها ثم عقّب عليها تعقيباً حسناً فقال: وقد تكلم قوم من النحويين بالإعراب مع العوام، فكان ذلك من جنس التغفيل وإن كان صواباً، لأنه لا ينبغي أن يُكلَّم كل قوم إلا بما يفهمون، ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: «حدّثوا الناس بما يعقلون» (مجاهد).

قلت في مقالة «الرسالة»: لقد أصبح النحو علماً عقيماً، يدرسه الرجل ويشتغل به سنين طِوالاً، ثم لا يخرج منه إلى شيء من إقامة اللسان والفهم عن العرب. وإني لأعرف من شيوخنا من قرؤوه وأقرؤوه دهراً، ووقفوا على مذاهبه وعلى أقواله وعرفوا غوامضه وخفاياه، وأوّلوا فيه وعلّلوا وناظروا فيه وجادلوا، وذهبوا في التأويل والتعليل كل مذهب، ثم لا يكاد أحدهم يقيم لسانه في صفحة يقرؤها، أو خطبة يلقيها، أو قصيدة يرويها! ولم يقتصر هذا العجز على طائفة من الشيوخ المعاصرين ومن قبلهم من العلماء المتأخرين، بل لقد وقع فيه ناس من جلّة النحويين وأئمتهم منذ العهد الأول! روى السيوطي في «بُغية الوُعاة» أن رجلاً قال لابن خالَوَيه (وهو النحوي الإمام الذي اختص بسيف الدولة، وسكن حلب وانتشر فيها علمه وروايته، وله مع المتنبي أخبار ومناظرات)، قال له رجل: أريد أن تعلّمني من النحو والعربية ما أقيم به لساني، فقال له ابن خالويه: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو، ما تعلمت ما أقيم به لساني! فأي فائدة من النحو إذا كانت قراءته خمسين سنة لا تعلّم صاحبها كيف يقيم لسانه؟ (إلى أن قلت): وسبب هذا التعقيد -فيما أحسب- أن النحاة اتخذوا النحو وسيلة إلى الغنى وطريقاً إلى المال، وابتغوه تجارة وعرَضاً من أعراض الدنيا، فعقّدوه هذا التعقيد وهوّلوا أمره حتى يعجز الناس عن فهمه إلا بهم، فيأتوهم فيسألوهم، فيعطوهم، فيغتنوا.

وروى الجاحظ في كتاب «الحيوان» أنه قال للأخفش: ما لك تكتب الكتاب فتبدؤه عذباً سائغاً، ثم تجعله صعباً غامضاً، ثم تعود به كما بدأت؟ قال: ذلك لأن الناس إذا فهموا الواضح فسرّهم أتوني ففسّرت لهم الغامض، فأخذت منهم! (إلى أن قلت): وزاد النحوَ تعقيداً وإبهاماً وبعداً عن الغاية التي وُضع من أجلها ما صنعه الرمّاني، المفسر العالم صاحب الدين والفصاحة والصلاح، من مزج النحو بالمنطق وحشوه به، حتى ما يقدر مَن بعدَه على تجريده منه، وحتى قال أبو علي الفارسي (وكان معاصراً له): إن كان النحو ما يقول الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان ما نقوله نحن فليس معه منه شيء! ومن رجع إلى تلك المقالة وجد فيها أمثال هذه الأخبار (¬1). * * * لقد كان النحو وسيلة لإقامة اللسان، فجعلوه غاية وعقّدوه وطوّلوا طريقه وصعّبوه على سالكه! ولقد كنت أدرّس النحو، وكنت مطّلعاً على كتبه الجديدة عارفاً بمناهج مؤلفيها وبكل الذي هو فيها، فإذا أردت الأمثلة على ما أقول انسالت عليّ، فتركت تدريس النحو من نحو أربعين سنة وقطعت صلتي بتلك الكتب ولم أعد أدري: أجَدَّ فيها جديد أم لا نزال في «شذور الذهب» و «شرح ابن عقيل» ولا يزال جديدنا «قواعد اللغة العربية» لحفني ¬

_ (¬1) المقالة منشورة في كتاب «فِكَر ومباحث»، وفيها فائدة وطرافة، فليُتِمَّ قراءتها هناك مَن شاء من القراء (مجاهد).

ناصف وإخوانه وكتاب الشيخ مصطفى الغلاييني؟ أقول هذا ليكون عذراً لي لديكم إن ضربت الأمثلة مما كان على أيامي ولم أعرف بالتفصيل ما هو كائن في هذه الأيام. مما كان يغيظني ويثقل عليّ هذه التعاريف التي لا أجد حاجة إليها، وكان يَؤودُني ويُعجزني أن أُفهم الصغار أن الاسم هو ما دل على معنى مستقل في الذهن وليس الزمن جزءاً منه. إنهم يعرفون الاسم من غير أن ألزمهم حفظ هذا التعريف. فإن قلت للتلميذ: ما اسمك؟ قال: حسن، أو صالح. وإن سألته: ما اسم المكان الذي تجتمعون فيه وتدرسون في غرفه؟ قال: المدرسة. وما اسم الحيوان الذي يُربَط بالعربة فيجرّها؟ قال: الحصان ... فهم يعرفون ما هو الاسم، فلماذا أعرّفه ما هو عارف به؟ ولما كنت أنا تلميذاً كان من أصعب الأشياء عليّ أن يقول لي المدرس: كيف تصوغ المضارع من الماضي؟ أنا أصوغه ولكن لا أعرف كيف، كما أنني أمشي ولكن أعجز عن أن أشرح للناس كيف أمشي. هل أقول لهم إني أعتمد على قدم واحدة وأنقل الثانية خطوة إلى الأمام، ثم أعود فأعتمد على الثانية وأنقل الأولى حتى أجعلها أمامها؟ ما لي ولهذا الكلام؟ أنا أمشي والسلام! وكنت أعجب من هؤلاء النحويين، لماذا لا يعلّمون التلاميذ أنها إذا جاءت قبل الفعل المضارع فاء السببية، أو واو المعية، أو لام الجحود، نصبته بعد أن كان مرفوعاً؟ لماذا يكون العامل على نصبه (أنْ) مُستَتِرةً وجوباً، لم تظهر أبداً ولم يرها أحد قط؟ هل

في الألفاظ جِن يَرَون ولكن لا يراهم أحد؟ وما نفع هذه الحكاية التي لا أصل لها؟ وإذا كان كل المقصود أن ننطق بالفعل المضارع منصوباً إن سبقته هذه الأدوات، سواء أكانت هي بذاتها الناصبة أم كان الناصب «أنْ» هذه التي لم يبصرها أحد، ما الفرق؟ ولماذا نتعب أنفسنا بالاشتغال بهذا العبث؟ هل هو تحقيق في قضية نصب لئلا تُقيَّد الجريمة ضد مجهول؟ ومسألة أعجب: هل توضع القواعد النحوية وفق ما نطقت به العرب، نستمدها منه ونعتمد فيها عليه، أم أن القاعدة تصير حجة على أصحاب اللغة؟ فمن أين جئتم بهذه القاعدة، وهي أن كلمة «إذا» لا تدخل على الاسم، وأنها لا تدخل إلا على فعل؟ فإذا قرأنا قوله تعالى: {إذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وقوله: {إذا السَّمَاءُ انْفَطَرتْ} وقرأنا قول لبيد: «إذا القومُ قالوا مَن فَتَىً خِلتُ أنني ...» وأبياتاً مثلها لا يبلغ العد حصرها، قلنا: إن السماء فاعل لفعل محذوف يفسّره المذكور، وتقديره: إذا انشقت السماء انشقت. ما هذا الهذيان؟ وهل سمعتم عربياً عاقلاً يقول هذا الكلام؟ ولماذا لا نعلم التلاميذ أن «السماء» في قوله تعالى: {إذا السّمَاءُ انْشَقَّت} مبتدأ مثل كل اسم مرفوع يبدأ به الكلام؟ * * * إن غاية النحو إقامة اللسان والبعد عن اللحن، فإذا قال قائل: «أعطِني حقّي» فقد نطق بالصواب، فإذا زاد فعرف أن

«حقي» مفعول به فقد زاد على المطلوب، فإن لم يعرف علامة النصب والمانع من ظهورها لم يضرّه في هذه المرحلة شيئاً. وكنت وأنا أعلم الصغار أستعين بشيء من طريقة تعليم النحو الفرنسي، فأقول له: تطلب ماذا؟ فيقول: حقّي. فأُفهمه أن «حقي» هي مفعول به. وإذا قيل «جاء زيد» أسأله: مَن الذي جاء؟ فيقول: زيد. فأُفهمه أنه الفاعل. وأنا إنما أريد تسهيل تعلم النحو وتعليمه، لا أريد أن أكون عوناً لأعداء العربية الذين يعملون على حرب الإسلام بحجّة تيسير قواعد اللغة العربية. إنهم يعرفون مكان العربية من القرآن، وفي إضعافها -كما يظنون- إضعاف للدين، وإفساد شعرها (الذي يُعتمَد عليه في تفسير آيات القرآن) باب من أبواب حرب الإسلام؛ فهم لا يعملون ابتغاء التجديد وحده، بل يريدون حرب الإسلام من كل طريق يستطيعون أن يسلكوه وأن يصلوا به إلى ما يريدون. والذي أقترحه هو أن نفرّق بين اثنين: القراءة الصحيحة وفهم النص فهماً إجمالياً، وفقه النص وفهمه فهماً دقيقاً. نكتفي بالأول من التلميذ المبتدئ، فحسبُه أن يقرأ بلا خطأ وأن يُلِمّ بالمعنى إلماماً. ومعرفة المعنى الإجمالي يعين على الإعراب، والتدقيق في الإعراب يساعد على فقه النص. أضرب أمثلة مما يخطر على بالي الآن، ولو حصرت ذهني واتسع وقتي لجئت بأكثر منها. قوله تعالى: {لَقَدْ رَأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرى}، معناه

الإجمالي ظاهر، والإعراب يوضّح المعنى التفصيلي؛ فإذا كانت كلمة «الكبرى» مفعولاً به للفعل «رأى» يكون المعراج هو أكبر المعجزات الظاهرة بعد القرآن (لأن فيه خَرْقاً لقانون عام من قوانين الوجود التي سَنّها موجِدُه)، وإن كانت صفة لكلمة «آيات» كان المعنى أنه رأى واحدة من الآيات الكبرى. وفي القرآن آيات لا يكاد يُفهَم المراد منها إلا بشيء من الإعراب، كقوله تعالى: {وَرَهْبَانِيّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلاّ ابْتِغَاءَ رِضْوانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِها}، ويكون المعنى أنهم ابتدعوها ابتغاء مرضاة الله، ما كتبها الله عليهم، ثم ما رعوها حق رعايتها. وآيات إذا اختلّ إعرابها نقلَت قارئها من الإيمان إلى الكفر، كقوله تعالى: {إنّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلمَاءُ} (¬1). * * * ¬

_ (¬1) الفاعل في الآية متأخّر (العلماءُ) وحركته الضمة لأنه مرفوع، ولفظ الجلالة في موقع مفعول به متقدم وعلامة إعرابه الفتحة لأنه منصوب. ولو أن قارئاً حرّك هاء لفظ الجلالة بالضمّ وفَتَح آخر «العلماء» لصار المعنى أن الله يخشى العلماءَ من عباده، تعالى الله علوّاً كبيراً. وهذا الانحراف الفظيع في المعنى جاء كله من استبدال ضمة بفتحة وفتحة بضمة، فانظر إلى خطورة الإعراب في تغيير المعاني، ثم استمع إلى محدّثي البرامج وخطباء المنابر، عامتهم إلا القليل منهم، يتوجَّعْ قلبُك وتأسَ على لغة استباحها كل واحد بغير حساب. حتى الذين يَدْعُون إلى الإسلام، والعربيةُ لغة القرآن كتابِ الإسلام، ضاعت العربية بين أيديهم وعلى ألسنتهم، فعليها السلام! (مجاهد).

والموضوع كما قلت موضوع واسع، والكلام فيه طويل، ويستحق أن تخصص له وزارة المعارف (أو إحدى الهيئات التي تُعنى باللغة وبالأدب) ندوة تحشد فيها بعضاً من كبار الأدباء وعلماء العربية، الذين مارسوا التدريس وعرفوا مشكلاته، ليبحثوا عن دواء لهذا الداء. * * *

كيف كنا وكيف صرتم

مقالة للطلاب كيف كنا وكيف صرتم نُشرت سنة 1988 هذه المقالة للطلاب، أو هي عن الطلاب. ولكن لا أريد أن أزيدهم بها عبئاً على عبئهم، ولا أن أجعلها درساً أضيفه إلى الدروس التي يُمضون نهارَهم في تلقّيها وليلَهم في مراجعتها والنظر فيها، والتي أعلم أن أكثرهم لا يستريح إليها ولا يستمتع بها، بل قد يتمنى الخلاص منها. ولقد كنت مثلهم؛ أُساقُ إلى المدرسة سَوْقَ المحكوم عليه إلى السجن، وإن وجدت المدرسة يوماً مغلقة أو المدرّس غائباً أو مريضاً فرحت بإغلاق المدرسة وغياب المدرّس. أقول لكم الحقيقة، فلا يصعُبْ عليكم سَماعُ الحقيقة. وإن جاءت يوماً عطلةٌ طارئة سرّتني العطلة الطارئة. وبقي هذا الشعور معي يلازمني حتى كبرت وصرت في الجامعة، ثم غدوت معلماً في المدارس الابتدائية، ثم في الثانوية، ثم صرت محاضراً فأستاذاً في الجامعة، ثم في قسم الدراسات العليا فيها. بل أنا أفرح اليوم حين يهتف بي (أي يكلمني بالهاتف) ولدي الأستاذ عبد الله رَوّاس، مخرج برنامجي في الرائي (التلفزيون)،

فيقول إن التسجيل قد أُجِّل، فأحس كأن حِمْلاً ثقيلاً كان على عاتقي وأُنزل عنه. حديث اليوم للطلاب، ولكني أَعِدُهم بأني لن ألبس جُبّة المعلم ولن أحمل عصاه (وإن لم يعد للمعلم اليومَ جُبّة يلبسها ولا عصا يحملها) ولن أخاطبهم من الأعالي، من فوق مِنَصّة التدريس، ولن آتيهم بالنصائح التي ماتت ودُفنت في الكتب من سنين طِوال، أستخرج جُثَثها فألقيها على رؤوسهم؛ لأن النصيحة لا تفيد إلا إن جاءت حيّة تمشي على الأرض كما يمشي الأحياء من الناس، تعيش معهم، تستمدّ من حياتهم، تُصوّر مجتمعهم. ثم إنها تُعطى مثلما يعطي الطبيبُ الدواءَ، كل يوم ثلاثة أقراص. ولو أنك وجدت النفع فيها فأخذت حبّات القارورة كلها معاً لانقلب النفع إلى ضرر، بل ربما صار الشفاء المرجوّ هلاكاً محقَّقاً. والذين يتكلمون في الرائي أو يخطبون على المنابر فيصبّون الوعظ صبّاً على رؤوس الناس لا يكادون ينفعون الناس، بل إنهم يخالفون سنة الإسلام. لمّا بعث عمرُ بن الخطاب عبدَ الله ابن مسعود إلى العراق داعياً ومعلماً جعل لهم مجلساً للوعظ والتذكير، فقالوا له: زدنا. قال: لا، إني أخاف أن تَمَلّوا، فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يتخوّلنا بالموعظة حتى لا نَمَلّ. فإذا كان الصحابة، وهم -كما سماهم خالي محب الدين الخطيب- «الجيل المثالي» الذي لم تَرَ عينُ التاريخ جيلاً خيراً منه يمكن أن يُمِلَّهم استمرارُ الجِدّ وتوالي المواعظ، فكيف لا يمل من مثل ذلك طلاب المدرسة وسامعو الإذاعة ومشاهدو الرائي؟ * * *

وأنا معلم قديم، بل إنني من أقدم المعلمين الذين يمشون اليوم على وجه هذه الكرة، قَلَّ مَن أمضى في التعليم مثل ما أمضيت فيه من السنين، من سنة 1345هـ قبل أن أكمل التعلّم، كنت طالباً مع الطلاب الكبار ومعلماً للتلاميذ الصغار، ولم أنقطع تماماً عن التعليم إلى الآن؛ إنها ستون سنة، فكم من الأحياء اليوم مَن أمضى ستين سنة في التعليم؟ علّمت في المدارس الأولية، التي تقابل مدارس الحضانة في هذه الأيام، لولا أن مدارس الحضانة فيها أَوَانس لِطاف ظِراف عندهن اللعب والألطاف والأولاد يسرحون في حديقة فيها الورد والزهر، وفي تلك المدارس -التي بدأت أعلّم فيها- شيوخ غِلاظ شِداد هم في الناس كزبانية جهنم في الملائكة (ونعوذ بالله من جهنم وزبانيتها)؛ ما عندهم إلا الفَلَق ولا يخاطبون التلاميذ إلا بلغة الخيزران أو قضبان الرمّان، لا يُسمعونهم النصائح من آذانهم بل من بُطون أقدامهم. قضيت في مثل هذه المدارس (أو هي على التعبير الصحيح «الكتاتيب») بعضَ يوم حدّثتكم مرة عما وجدت فيه، وكان ذلك سنة 1332هـ ولم أكمل السنوات الخمس الأولى من عمري، وقد مرّ عليه أكثر من ثلاثة أرباع القرن ولا يزال سواده أمام عيني، ولا تزال مرارته في حلقي وذكراه غَصّةً في نفسي (¬1). ¬

_ (¬1) انظر مقالة «في الكُتّاب» في كتاب «من حديث النفس»، وانظر أيضاً في «الذكريات» الحلقة 150، وفيها: "أدخلني جدي إليه قُبَيل إعلان الحرب الأولى وأنا طفل ما أحسب أني جاوزت الخامسة إلاّ قليلاً،=

والعجب أن من الناس -على هذا- من يحنّ إلى أيام تلك الكتاتيب ويتمنى أن تعود! ثم علّمت في طبقات المدارس كلها، في الشام مُدُنِه وقُراه، وفي العراق شماليّه وجنوبيّه، وفي المملكة غربها ووسطها، وألقيت عشرات وعشرات وعشرات من المحاضرات في هذه البلاد، وفي الأردن وفي لبنان (وهما في العرف العربي من الشام) وفي مصر، وفي كراتشي وبومباي وسنغافورة وجاكرتا وسورابايا في آخر المشرق من جنوبي آسيا، وفي مدن الغرب من أوربا، في ألمانيا وبلجيكا وهولندا، وكنت فيها كلها أَلقَى الطلاب وأحاورهم، أسمع منهم وأُسمعهم وأعرف ما عندهم. فما الذي وجدت بعد هذا كله؟ وجدت أن الطلاب الآن هم -في الجملة- غير الطلاب الذين عرفتهم بالأمس؛ لا أعني أن أشخاصهم قد تبدلت، فهذا واضح لا يحتاج إلى إيضاح، ولكن أعني ما في رؤوسهم من علم، وما على ألسنتهم من فصاحة وبيان، وما في قلوبهم من خير ومن إيمان. ¬

_ = فلبثت في هذا الكُتّاب من بعد صلاة الظهر إلى أن كان الانصراف بعد العصر، ساعتان أو ثلاث ساعات مرّ عليها الآن ثلاث وسبعون سنة، وكلّما تذكّرتها أحسست الرعب الذي أصابني فيها والألم الذي دخل عليّ منها والشقاء الذي استهللت به حياتي العلمية. فماذا يكون مبلغ العذاب الذي مرّ عليه أكثر من سبعين سنة ولا تزال مرارته في قلبي، ولا أزال كلّما ذكرته كأنني أراه أمامي؟! " (الذكريات 5/ 333 من الطبعة الجديدة) (مجاهد).

أما العلم فأظن أننا لو نظرنا إلى المناهج الآن لوجدناها أوسع حدوداً وأكثر إحاطة وأجمع لمسائل العلم، ووجدنا فيها ما لم نكن نجده على أيامنا. ولكن إن أبصرنا الطلاب ورغبتهم بالعلم، وإقبالهم عليه وحبهم إياه، وجدناهم قد نزلوا بدلاً من أن يصعدوا، وضعُفوا بدلاً من أن يقوَوا. وليس هذا في المملكة وحدها، ولا في الشام معها، بل هو أمر يكاد يكون عاماً مشاهَداً في جميع بلدان هذا الشرق العربي. لقد غدا قدراً مشترَكاً بين الطلاب جميعاً. فإن جئنا إلى العربية وعلومها، ومعرفة قواعدها والتمكن منها والبعد عن اللحن فيها، رأينا عجباً لو جاء يحدّثنا به واحدٌ ونحن صغار لحسبناه هارباً من البيمارستان! * * * أنا هنا للصدق لا للمجاملة، جئت لأكون مؤرّخاً لا شاعراً مَدّاحاً. أنا كالطبيب، فهل تقبل من الطبيب أن يكتم عنك مرضك وأن يقول لك إنك صحيح معافى سليم من العلل، حتى يستفحل المرض ويفوت أوان المداواة فلا يفيد الدواء؟ كان أكثر طلاب الثانوية منا يقرأ الكتاب الأدبي فلا يلحن، أو يزلّ لسانه باللحن الخفيف فينبهه رفيقه فيعود إلى الصواب. كنا نقرأ في مثل «عيون الأخبار» لابن قُتَيبة و «الكامل» للمبرَّد. هل تصدّقون أني قرأت «الأغاني» كله وأنا لا أزال طالباً؟ أعترف الآن أنني لم أفهم كل ما فيه من الشعر وأني كنت أتخطى

بعضه، أمرّ به ولا أقف عليه، ولكني قرأته. فهل في الطلاب اليوم من قرأ «الأغاني»؟ ولولا الحياء لقلت: كم من أساتذة العربية مَن قرأه كله؟ كنا نستدرك ونحن طلاب على الشعراء الكبار! لما قال خير الدين في قصيدته في الثورة السورية: «غضبت لسوريا الشهيدة أمة» قلنا: أخطأ خير الدين، فلا يقال «سوريا الشهيدة» بل «سوريا الشهيد». ولقد أمضينا أياماً نفتش فيها -بإرشاد أستاذنا الجندي- عن «مواضيع» جمع موضوع، هل لها وجه من الصحة أم الحق ما قاله في ردّه على اليازجي من أن الصواب أن يُقال «موضوعات»؟ لقد كان أستاذنا الجندي وأستاذنا المبارك يمنعاننا من قراءة الجرائد والمجلات وأكثر القصص، خوفاً علينا من أن تتسرب العُجْمة ويمشي اللحن إلى ألسنتنا. لقد كلفنا سليم الجندي -لما جاءنا أستاذاً للعربية في مكتب عنبر في الشام سنة 1923 - أن نحفظ قصيدة المتنبي التي ودّع بها سيف الدولة: «وا حرَّ قلباهُ ممّن قلبُهُ شَبِمُ»، وبعد أن شرحها لنا عاد فقال لنا: دعوها، فإن المتنبي شاعر مولَّد لا يُحتَجّ بعربيّته، وراح يختار لنا من الشعر الجاهلي وشعر صدر الإسلام ما لا أزال إلى الآن -بعد خمس وستين سنة- أحفظ طائفة صالحة منه. وطلاب اليوم إن كُلِّفوا حفظ مئتَي بيت في العام كله عدّوا ذلك من المصائب التي لا تُحتمَل!

كانوا يختارون لنا روائع الشعر الجاهلي والإسلامي، فانظروا اليوم في كتب المختارات التي يضعونها بين أيدي الطلاب ليكون ما فيها قدوة لهم يتّبعون أثره ويمشون على طريقه. انظروا، ماذا ترون؟ رأيت مرة في كتاب مدرسي قصيدة لرجل يدعونه بدر شاكر السيّاب، لولا أنها مكتوبة بحروف عربية لما فهمت منها شيئاً! أفبمثل هذا الشعر تريدون أن تنشّئوا أولادكم على الفصاحة وعلى البيان وعلى فهم إعجاز القرآن؟! * * * واللحن؟ ألا نسمع اللحن الآن في كل مكان؟ هل يخلو منبر من خطباء يلحنون في خطب الجمعة في المسجد، وفي المحاضرات الأدبية في النوادي، وفي دروس الأدب في كليات الجامعات؟ كم عدد الذين يقرؤون نصاً قديماً ولا يلحنون فيه؟ إنهم يلحنون حتى في كتاب الله إذا قرؤوا من آياته، وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إن روَوا منها! وفي ذهني الآن أمثلة كثيرة بما وقع من اللحن الشنيع من المذيعين، بل ممن تعدّونهم من الأدباء الكبار، أستطيع أن أسردها، ولكنني لا أريد أن أسوء أحداً بها. سمعت من قريب حديث عائشة لما جاءتها المرأة ومعها ولداها، فأعطتها تمرة. لم يكن في بيت رسول الله وسيد البشر صلى الله عليه وسلم شيء يؤكَل إلا هذه التمرة، تمرة واحدة! فقسمتها بينهما، فلما دخل رسول الله عليه الصلاة والسلام خبّرته بذلك، فقال: وما يعجبك منها؟ «يعجّبك»، بتشديد الجيم، أي: ما الذي يجعلك

تعجبين؟ فقرأها المذيع: وما الذي يُعجِبك؟ كأن ما فعلته لا يستحق العجب منه ولا الإعجاب به! ولطالما عرض الرائي آية أو حديثاً، نراه أمامنا مكتوباً كتابة صحيحة فيجيء المذيع فيقرؤه قراءة مَلحونة! وكم مرة نبّهناهم فقلنا لهم: قولوا «أذان» الظهر، فلا يقولون ولا يكتبون إلا «آذان» الظهر، كأن للظهر عيوناً وآذاناً! كان مقرَّراً علينا في أول المدرسة المتوسطة كتاب «قواعد اللغة العربية» لحفني ناصف، الأديب العلامة، ولإخوانه الذين لا يقلّون عنه. كنا نقرؤه في السنة التي تلي الشهادة الابتدائية، وكنا نفهمه، وكنا نحفظه. فكم من الأساتذة الكبار مَن يحفظه الآن؟ إن هذا الكتاب -على صغره- يكفي مَن أحاط به فلا يحتاج معه إلى غيره، وإن كان كالطعام المركَّز الكثير الفوائد ولكنه صعب الهضم، الذي لا تقبله إلا المِعَد القوية والأجسام الصحيحة. وأنا لا أريد أن تعودوا إليه بالذات، بل أريد أن أريكم الفرق ما بيننا لما كنا طلاباً وبين الطلاب الآن. إن اللسان من عناصر وجود كل أمة ومن أمارات حياتها، ولسان العرب على التخصيص، لأنه اللغة الرسمية لكل مسلم. إنه لسان كتابه الذي هو عماد دينه والذي لا تصحّ صلاة المسلم إلا بتلاوة شيء منه؛ فالعربية والإسلام مقترنان اقتران الفَرْقَدين، لا يختلفان ولا يتنافران، إنما يكون اختلاف الدعوة في العربية إذا جاءت بما يخالف مبادئ الإسلام أو يقرر للأفراد رابطة تربطهم حتى يصيروا أمة غيرَ رابطة الإسلام.

ونرى -على هذا- من العرب المسلمين من يميل عنها إلى الإنكليزية، يتظرّف بالنطق بها، يزعم أنها أوسع من العربية لأن «القاموس المحيط» ما فيه إلا ستون ألف مادة و «لسان العرب» (وهو أوسع المعاجم) فيه ثمانون ألفاً، ولأن معجم أكسفورد في الإنكليزية -كما سمعنا- ومعجم لاروس الكبير في الفرنسية -كما رأينا وعلمنا- فيه أضعاف ذلك العدد من الكلمات، وينسى هؤلاء أن مَثَل الاثنين كمثل رجلين، أحدهما عنده عشرة أولاد خرجوا كلهم من صلبه وولدتهم زوجته، والآخر عنده خمسون ولكنهم لُقَطاء، فهو كلما رأى لَقيطاً حمله إلى بيته وضمه إلى أسرته وعدّه من ولده، وما هو من لحمه ودمه ولا يجمعه نسب بأبيه ولا بأمه (¬1). * * * ¬

_ (¬1) الحقيقة أنّ لوفرة المداخل في المعاجم الأجنبية وقلّتها في معاجمنا العربية سبباً آخر؛ فالمدخل الواحد في معاجمنا يضم تصريفات الجَذْر جميعاً، ولذلك تجده واسعاً اتساعاً قد يبدو غير معقول أحياناً، وانظر إلى «لسان العرب» تَرَ من ذلك الكثير؛ فمادة «قعد» مثلاً تمتد بطول ثماني صفحات، ومادة «قطع» بطول عشر، و «سلم» تشغل اثنتي عشرة صفحة، وفي كل مادة يجتمع كل ما يتصرف من هذا الأصل الثلاثي من مفردات قد تبلغ العشرات. أما في المعجم الأجنبي فتجد الفعل اللازم في مدخل مستقل، والفعل المتعدي في آخر، والمصدر في ثالث، والصفة في رابع، وهكذا. فكيف لا تكون مداخل المعجم الأجنبي أضعاف مداخل المعجم العربي بعد ذلك كله؟ على أننا لو ضممنا أصول الكلمات في المعجم الأجنبي بعضها إلى بعض لما بلغ عددها نصف عدد مداخل المعجم العربي ولا ربعه (مجاهد).

الضَعْف في العربية داء وَبيل، والكلام فيه طويل طويل، لا تكفي فيه مقالة ولا مقالات، وما أدري لماذا لا تعقد إحدى جامعات المملكة مؤتمراً للنظر فيه ومعرفة أسبابه، تدعو إليه كبار أساتذة العربية والمشتغلين بها، فيبحث في أسباب هذا الضعف. ولست ألقي تبعته على الطلاب وحدهم (وإن كانت هذه المقالة موجَّهة إليهم)، بل ربما كانوا آخرَ مَن يُلقى عليه اللوم. بل السبب أولاً في اختيار الأساتذة ومعلّمي العربية، فإن منهم مَن لا يتقنها ولا يكاد يفهم الوسط من نصوصها، فكيف يعطي مَن يكون جيبه فارغاً؟ فالمسألة تحتاج إلى مؤتمر يُبحث فيه في أساتذة العربية، وفي مناهجها التي ينبغي أن تُنقَّى من التعريفات ومن كثير من المنعطفات التي لا ضرورة لها ولا داعي إليها (كبحث «أنْ المُضمَرة» مثلاً)، وأن ننظر فيما يعرض لها في حياتنا العامة فيفسدها ويعمل على إضعافها، كالأغاني ولغة التمثيليات والمسلسلات والشعر العامي. والبحث طويل، ولا بدّ من رجعات إليه. * * *

المطالعة

المطالعة حديث أذيع سنة 1966 أريد أن أدلكم اليوم على شيء فيه لذة كبيرة، وفيه منفعة كبيرة، وتكاليفه قليلة. فهل تحبون أن تعرفوا ما هو؟ هو المطالعة. ولقد جرّبت اللذائذ كلها فما وجدت أمتع من الخلوة بكتاب. وإذا كان للناس ميول وكانت لهم رغبات، فإن الميل إلى المطالعة والرغبة فيها هي أفضلها. وهذا الكلام للسامعين جميعاً؛ للطالب، وللمدرّس، وللطبيب، وللمرأة في بيتها، وللمسافر وللمقيم. الطالب إذا اقتصر على دروس المدرسة ولم يطالع لا يصير عالماً. وما دروس المدرسة؟ إن مثال ما يقرؤه الطالب في الثانوية مثال من يريد أن يعمل وليمة، فهو يدخل المطعم ليختار طعام الوليمة، فيذوق لقمة من هذا ولقمة من ذاك، فإذا أعجبه لون اشترى منه. والطالب يذوق في الثانوية لقمة من لون التاريخ، ولقمة من الحساب، ولقمة من النحو، ولقمة من الكيمياء ... ليرى ما ترغب فيه نفسه ويميل إليه طبعه فيُقبل عليه، فإذا اكتفى بما درسه في المدرسة لم يحصّل شيئاً، لأن اللقمة لا تُشبع الجائع!

فليتعود الطلاب المطالعة، وليبدؤوا بالكتب الخفيفة السهلة. لي أخ أحببت أن أعوّده على المطالعة وهو صغير، فأتيته بقصة عنترة في ثمان مجلدات. وقصة عنترة مكتوبة بأسلوب فصيح، وفيها فروسية وفيها أدب، وفيها كثير من أخبار العرب، وإن كان مخلوطاً فيها الحقُّ بالباطل والواقعُ بالخيال، وليست كقصص هذه الأيام. فقرأها كلها، المجلدات الثمانية، وحفظ أكثر ما فيها. ثم أتيته بفتوح الشام (المنسوب للواقدي)، وهو كتاب مزيج من التاريخ ومن القصة، فقرأه، ثم تدرّج في المطالعة حتى صار يقرأ الكتب الكِبار (¬1). فليبدأ الطلاب ولو بالقصص، على أن يختاروا منها القصص البليغة الأسلوب، العالية الهدف، العميقة المغزى. ولقد تُرجِمت أكثر القصص الأدبية العالمية، كالتي ترجمها المنفلوطي أو تُرجمت له فكتبها بأسلوبه أو ترجمها الزيّات، وغيرها من كتب التراجم التي هي أجمل من القصص. وأنا أوصي الطلاب والطالبات بقراءة كتاب «التلميذة الخالدة» الذي ألّفته بنت مدام كوري وقَصَّت فيه حياةَ أمها مدام كوري مكتشفة الراديوم. ثم ينتقلون من القصص إلى كتب الأدب، فيقرؤون -مثلاً- ¬

_ (¬1) هو الشيخ سعيد الطنطاوي، الأخ الأصغر لعلي الطنطاوي. وهو آية في الحفظ؛ يحفظ المئات من القصائد الطوال، بل الآلاف بلا مبالغة، ويحفظ من الأخبار والتواريخ والتراجم والأنساب ما يجعله موسوعة حية في هذه الأبواب، وهو فقيه حنفي متمكن من مذهبه متعصب له، وهو -بعدُ- عالم في الطبيعيات، تخرّج في كلية العلوم ودرّس الفيزياء والرياضيات، وله كتابات منشورة (مجاهد).

«البخلاء» للجاحظ، و «كليلة ودمنة» لابن المقفّع. ثم يقرؤون كتباً أنفع، ككتاب «صيد الخاطر» لابن الجوزي، وكتاب الحارث المحاسبي «الرعاية لحقوق الله»، ثم يقرؤون كتب العلم. وخير ما يقرؤون القرآن، بشرط أن يفهموا ما يقرؤون، وقراءةُ سورة قصيرة مع الفهم والتدبّر خير من ختمة بلا فهم ولا تدبّر. القرآن أساس البلاغة في القول، فضلاً عن كونه أساس الهداية للقلب، وكونه دستور الحياتين وسبب السعادتين. والذين تسمعون عنهم من بلغاء النصارى في هذا القرن ما بلغوا هذه المنزلة إلا بدراسة القرآن، كالشيخ ناصيف اليازجي وابنه إبراهيم اليازجي، وفارس الخوري، هذا وهم نصارى، ونحن أَوْلى بهذا الكتاب. فليتعود الطلاب المطالعة بأن يقرؤوا كل يوم خمس صفحات، لا يتركونها أبداً. أنا من نصف قرن أقرأ ما لا يقل معدّله اليومي عن عشرين صفحة، بل لا يكاد يقل عن خمسين، فاحسبوا كم يبلغ مجموع عشرين صفحة في اليوم في خمسين سنة؟ أكثر من ثلث مليون. لا تعجبوا، فكثير من الناس قرؤوا أكثر من ذلك، العقاد مثلاً أعرف أنه قرأ أكثر منها. أما العلماء المتقدّمون فمنهم من بلغت مؤلفاته، لا مطالعاته، خمسين ألف صفحة. ومن كان من الطلاب يملك مالاً -من راتب من الدولة أو نفقة له من أبيه- فليخصص منه كل شهر خمسة ريالات أو عشرة لشراء الكتب، على أن يحسن اختيار ما يشتري، يجد أنه لم يكمل

دراسته حتى صارت عنده مكتبة صغيرة. ومن لم يجد مالاً فإن المكتبات العامة موجودة والمطالعة فيها مجّانية، فليذهب إليها. المهم حُسْن اختيار الكتب؛ فالكتب مثل الأطعمة، فيها النافع وفيها الضار، ومنها المغذّي المفيد، وما هو كثير الدسم عظيم النفع ولكن لا تشتهيه النفس، وما هو مُشَهٍّ لذيذ ولكن لا ينفع، ومنها السم القاتل، ومنها ما هو سم ولكنه ملفوف بغشاء من السكّر، فمن انخدع بحلاوة الغشاء قتله السم! ومَن أكل كل ما يجده -يخلط به الحلو والحامض والحار والبارد- أصابته التخمة وسوء الهضم، ومن قرأ كل شيء صار معه سوء هضم عقلي! ومن الكتب ما يُدخِل الجنةَ ومنها ما يُدخل النارَ، فلينتبه الطالب، وليسأل من يثق به من المدرّسين والعلماء، وإلاّ كان ترك المطالعة خيراً منها. لما كنا صغاراً لم يكن في أيامنا هذا الرائي (التلفزيون) ولا الرادّ (الراديو)، ولا كانت هذه الأشياء قد اختُرعت، ولم تكن السينما الناطقة قد وُجدت، فما كان عندنا من التسليات إلا المطالعة. ولم يكن شيء من أمثال هذه المجلات المصوَّرة، فكنّا إذا أردنا أن نقرأ الأشياء الخفيفة لإضاعة الوقت لا نجد إلا قصص الفروسية، كقصة عنترة وحمزة البهلوان والملكة ذات الهمة وسيرة بني هلال، وأمثال ذلك. ثم أخذنا نقرأ كتب الأدب. ولقد قرأت «الأغاني» كله (وهو في بضعة وعشرين مجلداً) في عطلتين صيفيتين متواليتين وأنا في أول الدراسة الإعدادية. لم أفهم كل ما فيه، ولا نصفه، ولكن

قرأته، وعلق في ذهني من أخباره شيء كثير لا أزال أذكره إلى اليوم رغم قِدَم العهد وضعف الذاكرة. * * * المطالعة ضرورية للطالب وضرورية للمدرّس؛ فالمدرس الذي يقتصر على ما تعلّمه في المدرسة، ولا يطالع ليوسع أفقه ويزيد علمه، يتخلّف عن القافلة ويصبح بين الطلاب كأنه طالب حافظ لدرسه! وهي ضرورية للطبيب، ليطّلع على ما كُشِف من أمراض وما استُحدث من طرق العلاج وما جَدّ من أدوية. وضرورية لعالم الدين، ليرى ما حدث في الدنيا فيعرف كيف يبيّن حكم الله فيه. وضرورية لعلماء الدنيا ليعرفوا أحكام دينهم وأسراره ومزاياه. ولو أردنا أن نعرف مقدار رقيّ بلد فلننظر إلى عدد الكتب التي تُباع فيه. جاءني مرة طالب يشكو مُرَّ الشكوى من كثرة ما كُلِّف بحفظه من الشعر العربي. قلت: وما الذي كُلِّفتَ به؟ قال: كُلِّفتُ بحفظ مئتَي بيت في السنة. ولما قال «مئتي بيت» ضخّم صوته ورفع حاجبيه وفتح عينيه، وضغط على الحروف كأنه يأتي بإحدى المدهشات. فقلت له: إن حمّاد الراوية كان يحفظ أكثر. قال: ومَن حمّاد الراوية؟ قلت: وجهلك به أعجب. حمّاد كان في العراق، فأبلغه والي الكوفة أن الخليفة هشام بن عبد الملك يدعوه لأمر مهم، وأعطاه

خمسة آلاف درهم لينفق منها على عياله في غيبته ثم سَفَّره على نفقة الخليفة إلى دمشق. أما الأمر المهم الذي استدعاه الخليفة من أجله فهو أن الخليفة كان يتوضأ والخادم يصب على يديه من الإبريق، فتذكر أن كلمة «إبريق» قد وردت في بيت شعر ولم يقدر أن يذكر البيت، فدعاه ليسأله عنه. فخبّره أن البيت هو: ودَعَوْا بالصَّبوح يوماً فجاءت ... قَيْنَةٌ في يمينها إبريقُ ثم سأله (وهنا الشاهد): كم تحفظ يا حمّاد من الشعر؟ قال: لا أدري يا أمير المؤمنين، ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مئة قصيدة لمئة شاعر معروف. قال: هات. فأنشده حتى ملّ الخليفة، فوكّل به مَن يسمع منه، فأنشده من حفظه ألفين ومئتي قصيدة. فإذا كان في كل منها عشرون بيتاً على الأقل فهذه أربعة وأربعون ألف بيت ... وأنت تستكثر حفظ مئتي بيت! * * * إن الحفظ هو الميزة الأولى للذهن العربي، أو الإسلامي إن شئت؛ لأن العلوم كلها قد نُقِلت حفظاً ورُويت رواية، ولم يبدأ التدوين والتأليف إلا في أواخر القرن الثاني. وحفظ المحدّثين أعجوبة، ومنهم -كالدّارَقطني- من كان يحفظ مئة ألف حديث بسندها. هل تعرف ما هو السند؟ هو طريق رواية الحديث، أي قولهم: حدّثنا فلان عن فلان ... هذا هو السند. ومنهم من يحفظ من أسماء الرواة العشرة الآلاف وأكثر من ذلك، ومنهم من كان يسمع عشرات الأحاديث فيحفظها من مَرّة.

لما جاء الشافعي إلى مالك وقعد في حلقته كان مالك يُملي والطلاب يكتبون، ولم يكن مع الشافعي قلم ولا ورق، فجعل يبلّ إصبعه بريقه ويكتب على ذراعه. الكتابة لم تكن لتظهر بالطبع، ولكنه يصنع ذلك ليثبّت الأحاديث في ذاكرته. ورآه مالك فحسبه يهزأ به، فقال له: إنما أكتب ما أسمع لأحفظه، وإن شئت أعدته عليك. قال: أعده. فأعاد الدرس كله. وقصة البخاري في بغداد أعجب. لمّا جاء البخاري بغداد وقعد للدرس، وكان شاباً، أراد بعض المحدّثين أن يختبروا حفظه، فجاؤوا بمئة حديث فخلطوا مُتونها بأسانيدها، أي أنهم جعلوا سند هذا المتن لذاك وسند ذاك لهذا، ثم جاؤوا بعشرة أشخاص فحفّظوا كل واحد عشرة من الأحاديث المخلوطة. فلما قعد البخاري للدرس قام أولهم فسأله: ما تقول في حديث كذا؟ وسرد عليه أحد الأحاديث المخلوطة، فقال: لا أعرفه. فسأله عن الثاني، والثالث، إلى العاشر، وهو يقول: لا أعرفه. فلما فرغ قعد وقام الرجل الثاني فصنع مثله، والثالث والرابع ... حتى عُرضت عليه الأحاديث المئة، وهو يقول: لا أعرفها. وتعجب الناس، وظن العامة أنه رجل جاهل لأنه يُسأَل عن مئة حديث فلا يعرف منها شيئاً. فلما فرغوا قال البخاري للرجل الأول: قم. فقام، فقال له: الحديث الأول الذي سألتني عنه رويتَه كذا، وجوابه كذا، والحديث الثاني رويته كذا وجوابه كذا ... حتى أعاد الأحاديث المئة بخطئها وصوابها. وليس العجيب حفظُه الصوابَ، بل العجيب حفظه الغلط.

وأغرب من هذه القصة قصة أبي العلاء المعري، ومَن رواها مؤرخ ثقة هو ابن العَدِيم (¬1). قال: كان المعرّي في مسجده، وكان إلى جنب المسجد روميّان يتكلمان بلسان الروم (وهو لا يعرفه)، ثم اختلفا على شيء ورفعا الأمر إلى القاضي، فطالب أحدَهما بالبيّنة. فقال له: ما كان معنا أحد، ولكن كان في المسجد شيخ يسمع كلامنا فادعُ به، فدعا القاضي بالمعرّي وسأله. فقال المعري: أنا لا أعرف ما قالا، ولكن أُعيد عليك ألفاظهما. وأعادها بالرومية! وهذه القصة -إن صَحّت- كانت من أعجب العجب. وقصة المتنبي لما وقف يشتري كتاباً صغيراً فجعل ينظر فيه، فقال له البائع: إن كنت تريد أن تشتريه فهات الثمن، وإن كنت تريد حفظه فإنك لا تستطيع أن تحفظه في وقفة. قال: ماذا يكون منك إن كنت قد حفظته؟ قال البائع: إن حفظتَه فهو لك. قال: خذ فانظر. وقرأه عليه، وإذا به قد حفظه! والغزالي ... يقول الغزالي: من أساتذتي الذين استفدت منهم قاطع طريق، خرج علينا مرة فأخذ كل ما في القافلة، وأخذ «تعليقتي» (وهي دفتر المذكرات التي كان يكتب فيها ما يسمعه من ¬

_ (¬1) له كتاب كبير جداً في أعلام مدينة حلب وتاريخها اسمه «بغية الطلب في تاريخ حلب» اختصره في «زبدة الحلب في تاريخ حلب» وطُبع جزء صغير منه، وله عن المعرّي كتاب لم يُعثَر عليه كاملاً اسمه «دفع الظلم والتجرّي عن أبي العلاء المعري»، طُبع ما عُثِر عليه منه، ويُحتمَل أن تكون هذه القصة في أي من الكتابين (مجاهد).

العلماء). قال: فجعلت أتوسّل إليه وأقول: أنا لا آسَفُ على مال ولا متاع، ولكن تعليقتي. قال له: وما تعليقتك؟ قال الغزالي: دفتر فيه علمي كله. فضحك قاطع الطريق وقال: ما هذا العلم الذي يذهب منك إن ذهب دفتر؟ قال الغزالي: فانتبهت لهذا الدرس، وجعلت أحفظ كل شيء أسمعه لئلا يذهب إن ذهب الكتاب. ومن هنا قالوا: ليس بعِلْمٍ ما حوَى القِمَّطْرُ ... ما العلمُ إلاّ ما حواه الصّدْرُ * * * يا سادة، عندي أخبار أخرى؛ ما انتهى الموضوع ولكن انتهى الوقت، ولعلي أعود إليه في حلقة أخرى إن شاء الله. * * *

كلمة في اختيار نصوص الدراسة الأدبية

كلمة في اختيار نصوص الدراسة الأدبية حديث أذيع نحو سنة 1961 كنت قاعداً أفكر في موضوع أتحدث به إليكم (وأصعب شيء على المحدّث اختيار الموضوع، لا سيما إذا كان مثلي يحدث الناس من قديم، من أكثر من ربع قرن)، وإذا بي أسمع من رادّ الجيران أغنية: «أراك عَصِيّ الدّمع شيمتُك الصبرُ». وأنا قديم الإعجاب بهذه القطعة، فهي من أروع ما قال أبو فراس. فانصرفت أتتبع الرادّ بسمعي، وإذا بي أنتبه إلى شيء عجيب في هذه القطعة لم أنتبه له من قبل. بيتٌ فيها يوحي إلى سامعه بما يأباه الدين وينكره الخلق الرفيع، لأن الدين والخلق يدفعان إلى الإيثار وحب الناس، وهذا البيت يدفع إلى الأثَرَة (أو الأنانية كما يُقال اليوم) وحبّ الذات، بل إن فيه أبشع صور الأنانية وأبعدها عن الخلق القويم؛ هو قوله: «إذا مِتُّ ظَمْآناً فلا نَزَل القَطْرُ». انظروا كم بين قوله هذا وبين قول المعري: فلا نَزَلت عَليّ ولا بأرضي ... سَحائِبُ ليس تَنتظمُ البلادا

أبو فراس ينحطّ إلى أدنى دركات الأثرة والأنانية، لا يرتفع فيهتمّ بأهلٍ أو ولد، ولا يرتفع درجة أخرى فيهتم ببلد أو وطن، إنه لا يبالي إلا بنفسه، فإذا مات عطشان فلينقطع المطر وليحترق الزرع ولتُقفر الأرض وليعمّ القحط، وليهلك القريب والبعيد والعدو والصديق، ولا يبقَ أحد. والمعرّي يرتفع إلى أعلى درجات الإيثار، فلا يرضى أن ينزل المطر عليه ولا على أرضه وحدها، لا يرتضي إلا غيثاً عامّاً يشمل خيرُه البلادَ والعباد. كم بين هذا وبين قوله في ذلك البيت: «إذا مِتّ ظمآناً فلا نزل القطر»! ومثله البيت الآخر: ونحن أناسٌ لا تَوَسُّطَ بَيْنَنَا ... لنا الصّدرُ دون العالَمين أو القبرُ الصدر أو القبر؟ أما من توسط بينهما؟ هذا -والله- أسوأ منهج في الحياة. أي أنك إذا ركبت في سفينة ومعك أهلك وولدك وأوشكت على الغرق فقال لك الربان: ألقِ في البحر نصف أمتعتك تخلص من الغرق، قلت: لا، لنا الصدر دون العالمين أو القبر؛ فإما أن أنجو بمتاعي كله أو أن أموت أنا وأهلي! وأن الطالب في الامتحان إذا ألقي عليه سؤال رأى أنه إن أجاب عليه نال درجة النجاح ولكن لم يَنَلْ درجة التفوق قال: لا، لنا الصدر دون العالمين أو القبر، فإما مئة على مئة وإما الصفر! والتاجر إذا أمّل أن يربح في البضاعة ألفاً فنقص ربحه مئتين ركب رأسه وقال: لا، لنا الصدر، وآثر أن يخسر ثمن البضاعة كله عن أن ينقص ربحه مئتين!

إن من المؤسف أن هذا البيت قد جرى على ألسنة الناس واتخذه كثير منهم منهاجاً لحياتهم، فأضاع على مَن أخذ به خيراً كثيراً. * * * وأنا أتمنى أن ينتبه إخواننا مدرّسو الأدب العربي، فلا يقتصروا على بلاغة اللفظ حين يختارون النصوص والشواهد للطلاب. إن بلاغة اللفظ هي المعيار الأول للكلام في رأي أستاذ الأدب، ولكنها لا تكفي وحدها؛ بل يجب أن ينظر إلى ما تثيره في نفس الطالب من ميول، وما توحي به من توجيه في الحياة، وما يكون لها من أثر في الخلق وفي السلوك. وإن خطبة زياد -مثلاً- من أبلغ الخطب، وخطبة الحجاج مثلها، وهما نافعتان في تقويم المَلَكة الأدبية، ولكن ما توحيان به من توجيه سيءٌ جداً، ففيهما إعلان خطة الظلم التي ينكرها الإسلام في أخذ البريء بالمجرم في خطبة زياد (¬1)، وطريقة الاستبداد التي يأباها الدين في حزم الناس حزم السَّلَمة وضربهم ¬

_ (¬1) خطبته المشهورة «البتراء»؛ سُمِّيت كذلك لأنه بدأها بغير الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومما قاله فيها: ألا إنّا قد سُسْنا وساسَنا السّائسون، وجرّبْنا وجرّبَنا المجرِّبون، وإنا وجدنا هذا الأمر لا يُصلحه إلا شدةٌ في غير عنف ولينٌ في غير ضَعف. وأيْمُ الله إنّ لي فيكم صَرْعَى، فليحذَرْ كلُّ رجل منكم أن يكون من صَرْعاي، فوالله لآخُذَنّ البريءَ بالقَسيم (قَسيمُك هو الذي يقاسمك مالاً أو أرضاً أو داراً بينك وبينه)، والمطيعَ بالعاصي، والمقبلَ بالمدبر، حتى تلين لي قناتكم وحتى يقول القائل: «انْجُ سعدٌ فقد هلك سُعَيْد» ... (مجاهد).

ضرب غرائب الإبل في خطبة الحجّاج (¬1). وفي دراسة نقائض جرير والفرزدق أدبٌ كثير، وفيها -كما قال يونس- ربع اللغة، وهي أنفع شيء في إقامة اللسان وتقوية السليقة، ولكنها توحي بتحسين الأعراف الجاهلية في الحياة، تلك الأعراف التي كان إبطالها من جملة أغراض الإسلام. وفي شعر بشار وأبي نُواس وأمثالهما أدبٌ كثير، ولكنّ فيه هدمَ الأخلاق ونشرَ الفساد. وفي شعر أبي العتاهية أدبٌ كثير، ولكنّ فيه قتلَ الطموح والاستسلامَ إلى اليأس. وكذلك المتنبي في تزوير التاريخ وتشويه الحقيقة، حين يرفع سيف الدولة وهو طاغية ظالم (وإن كان قائداً مظفَّراً) ويخفض كافوراً وهو من أصلح الملوك ... والشواهد كثيرة، وأنا ما أردت الاستقصاء لكن التمثيل، لأبيّن أن أستاذ الأدب يستطيع أن يكون موجِّهاً ومُصلحاً إذا لم يكتَفِ -عند اختيار النصوص للدراسة والاستظهار- ببلاغة لفظها وصفاء ديباجتها، بل ينظر إلى ما توحي به من خُلُق وما تشتمل عليه من توجيه. * * * ¬

_ (¬1) السَّلَم نوع من الشجر، واحدته سَلَمَة. وكانت هذه أولَ خطبة خطبها الحجّاج في الكوفة لمّا ولي العراق أيام عبد الملك، قال فيها: "ألا إن أمير المؤمنين كَبَّ كِنانتَه فعَجَم عيدانَها فوجدني أصلبَها عوداً، فوجّهني إليكم ... أما والله لألحُوَنَّكم لَحْوَ العصا (يقال: لحا العودَ أو الشجرةَ لَحْواً: قَشَرها)، ولأعصِبَنّكم عَصْب السَّلَمة، ولأضربنّكم ضربَ غرائب الإبل ... "، وهذا مثل ضربه للناس يهدّدهم به، ذلك أن الإبل إذا وردت الماء فدخلت عليها غريبةٌ من غيرها ضُربت وطُردت حتى تخرج منها. انظر «العقد الفريد» 5/ 18 (مجاهد).

في أصول الأدب

في أصول الأدب نشرت سنة 1955 [إلى السيد ع ح وإخوانه من الطلاب: أخذت الكتاب الذي فيه أسئلتكم، وهذا الفصل هو الجواب.] العلم والفن الحق والخير والجمال هي غايات العقول، ومقاصد المعارف، ومُثُل الناس العليا؛ فما يوصل إلى الحق من معارف البشر فهو «العلم»، وما يريدون به الجمال فهو «الفن»، وما يصلون به إلى الخير فهو «الأخلاق». والعلم والفن يختلفان غايةً وطريقاً ووسيلةً، فالعلم غايته الحقيقة، وطريقه المحاكمة، ووسيلته الفكر. والفن غايته الجمال، وطريقه الشعور، ووسيلته الذوق (¬1). الأدب فن من الفنون والفنون -في اختلاف مظاهرها واتحاد جوهرها- كالكلمات ¬

_ (¬1) انظر مقالة «بين العلم والأدب» في كتاب «فِكَر ومباحث»، وفيها إسهاب لهذا الإيجاز (مجاهد).

المترادفة في التعبير عن المعنى الواحد، فالشاعر والمصوِّر (¬1) إذا أبصرا غروب الشمس في البحر أثار في نفسَيهما كليهما شعوراً واحداً، ولكن هذا يعبّر عنه بالألفاظ والأوزان، وذاك يعبّر عنه بالخطوط والألوان. فالصورة البارعة قصيدة من الشعر، والقصيدة العبقرية صورة من الصور. والتصوير أخو الموسيقى، وكلها مظاهر متعددة للجوهر الواحد. وليس يضر الصورة أن لا يكون للشجرة المصوَّرة فيها -مثلاً- وجود حقيقي، ولا الجملة الأدبية أن لا تكون حقيقية بجملتها وتفصيلها. ولو غربلت الأدب بغِربال الحقيقة المجرَّدة لأسقطت أغلى جواهره، من مثل قوله تعالى {واسْأَلِ القَرْيَة} وقوله {واخْفِضْ لَهُما جَنَاحَ الذُّل}، لأن القرية لا تُسأل ولا تجيب والذل ليس له جناح (¬2)، ولأضعت ثلاثة الأرباع من أدب كل أمة في الدنيا. الأدب والنقد وتاريخ الأدب هذا هو الأدب بمعناه العام، أما الأدب على وجه التحديد والتعريف فهو «مجموع ما في لسان من الألسنة من كلام جميل» من شعر أو نثر، ومن مذكرات أو رسائل، أو عرض (ريبورتاج) أو مقالات أو قصة أو رواية. فالأدب إنشاء وإبداع، أما النقد فهو وزن وتقويم: يشعر ¬

_ (¬1) المقصود هو «الرسّام» وليس الذي يلتقط الصور بآلة التصوير (مجاهد). (¬2) من أجود ما قرأت في مجازات القرآن كتاب «الإشارة» للعز بن عبد السلام، وقد طُبع في إسطنبول سنة 1313هـ.

الأديب، فيعبّر عن شعوره بقطعة من الشعر أو النثر ينشئها ويبدعها، فيجيء الناقد فيضعها في كفّة ميزانه، ويضع في الكفة الأخرى الصورةَ الكاملة التي يريدها لها، ثم يبيّن ما في القطعة من الخفة أو الرُّجْحان، ومن الكمال أو النقصان. أما تاريخ الأدب فهو ترتيب وتصنيف. الأديب يشعر فيعبّر، والناقد يزن فيقدّر، فيأتي مؤرخ الأدب فينظر في آثار الأدباء وفي أحكام النقاد، ويلحظ التسلسل الفكري والتعاقب الزمني، وينظم ذلك كله في دراسة عامة وسرد شامل. أشكال الأدب (الشعر والنثر) إن أكثر المتأدّبين لا يفرقون بين الشعر والنثر إلا بالوزن، مع أن في الموزون ما ليس بشعر، كقول ابن مالك: ولا يَصحّ الابتدا بالنَّكِره ... ما لم تُفِد؛ كعِنْدَ زَيد نَمِرَه وقول معارض الدّريدية: مَن لم يُرِد أن تنتقب نِعالُهُ ... يحملها في يده إذا مَشَى ومن أراد أن يصونَ رِجْلَهُ ... فلبسُها خيرٌ له من الحَفى وقول الآخر (وهو -إن أردت الصدق- من أصدق القول): الليل ليلٌ، والنهارُ نهارُ ... والأرضُ فيها الماء والأشجار وفي غير الموزون ما هو الشعر محض الشعر، كالذي ترجمه الزيات نثراً من شعر لامارتين، وما نثر به زكي مبارك الكثير من شعر الشريف، وفي كثير مما كتب الرافعي.

وتعريف الشعر بأنه «الكلام الموزون المُقفَّى قصداً» هو تعريف العَروضيّين لا الأدباء، أما التعريف الأدبي للشعر فهو أنه «التعبير الجميل عن الشعور النبيل»؛ فما وصف شعوراً أرقّ وأنبل من شعور العامي العادي، وأثار في نفسك مثله، وعبّر عنه باللفظ الجميل فهو الشعر. والذي أراه أنا أنه لا بد من تقسيمين للكلام: تقسيم له من جهة اللفظ إلى منثور ومنظوم، وتقسيم له من جهة المعنى إلى نثر وشعر. وبذلك يكون الكلام على أربعة أنواع: شعر، وشعر منثور، ونثر، ونثر منظوم. والأدب له مظاهر وأشكال أهمها: «المذكرات»: التي يكتبها المرء لنفسه، يدوّن فيها خواطرَه وأفكاره ويصف فيها ما رأى من مشاهد وصور، لا يحتشد لها ولا يحتفل، ولا يبتغي لها إلا أسهل الأساليب وأبعدها عن الصناعة والتكلف. وربما كُتبت القصة الفنية بأسلوب المذكرات، فاستُعملت فيها طرق التحسين والتجميل وخرجت عن حد البداهة والسهولة، كآلام فيرتر (¬1). ثم «الرسالة»: والأصل في الرسالة أن تخاطب فيها الصديق ¬

_ (¬1) وهي النموذج الأكمل للترجمة، على ما في موضوعها الأصلي من بعد عن الرجولة والقوّة. وأنا أنصح كل ناشئ في الأدب أن يجرب كتابة المذكرات، لا يكتب ماذا أكل وشرب وماذا لبس وركب، بل ما رأى من طرائف وما اعتلج في نفسه من عواطف. وإذا هو لم يصر بذلك كاتباً، قرأ فيه -فيما بعد- تاريخ نفسه وحوادث أمسه.

الواحد، لا تتكلف له تكلفك لجماعة القراء. وربما استُعمل أسلوب الرسائل في كتابة القصص، كقصة ماجدولين (¬1). ثم «العرض» (الريبورتاج). ثم «المقالة»، المقالة الوصفية، والمقالة العاطفية، والمقالة القصصية، والمقالة التحليلية. وقد نجمت فئة تدعو إلى نبذ أدب المقالات، مع أن أدب المقالات من أوسع أبواب الأدب، عندنا وعند اللاتين والسكسون وكل أمة من أمم الشرق والغرب. ثم «القصة»: وهي تُقسَّم من جهة طولها وقِصَرها إلى أقصوصة، وقصة، ورواية. ومن جهة شكلها إلى مسرحية وقصة، ومن جهة موضوعها إلى ملهاة ومأساة وملحمة (دراما)، ومن جهة أسلوبها إلى واقعية (يمكن أن تقع حوادثها لا أنها وقعت فعلاً) وخيالية وتحليلية وتصويرية، ومن جهة مصدرها إلى تاريخية واجتماعية وعاطفية، إلخ. وتشتمل كل قصة على عناصر أساسية، هي الظروف (الزمان والمكان)، والأبطال، والعقدة. وقد كان من شروطها أن تُحَلّ العقدة، ولكن من المذاهب الجديدة في الأدب ما يترك العقدة بلا حل ليجهد القارئ ذهنه في حلها. والكلام في القصة يحتاج إلى مقالات طوال، وما هذا إلا استطراد. ¬

_ (¬1) وهي أيضاً من هذا الأدب الضعيف الرخو الذي يقتل الرجولة، ويجعل الحياة وقفاً على نظرة من عينيها أو قبلة من فيها، فإذا وصل إليها لم يعد يبالي دنيا ولا آخرة!

علوم الأدب والقطعة الأدبية كالعمارة المشيدة؛ لا بد لبنائها من اختيار الحجارة وتمييز أنواعها، ثم معرفة بنيتها لئلا تكون نخرة أو فارغة، ثم نحتها بحيث يركب بعضها على بعض، ثم وضع المخطط بحيث يجيء البناء وفق الطلب ومقتضى الحال، داراً أو فندقاً أو حمّاماً، ثم تجصيصها ودهنها، ثم وضع زخارفها وتحسيناتها. وحجارة البناء الأدبي الكلمات، تُعرَف أجناسها بعلم اللغة، وتركيبها وبناؤها بالصرف، ونحت أواخرها حتى يتصل بعضها ببعض بالنحو، ووضع القطعة بحسب ما تقتضيه الحال بالمعاني، والافتنان في التعبير بالبيان، والتجميل والتحسين بالبَديع والعروض. أنواع النقد والنقد نقدان: نقد القطعة من حيث لغتها وإعرابها وتأليفها ووزنها، وهذا «نقد علمي» لا يختلف فيه ناقد عن ناقد، لأن اعتماده على قواعد ثابتة وقوانين مقرَّرة، فإن اختلف فيه ناقدان رجعا إلى المعاجم الموثوق بها (¬1) وإلى كتب النحو والصرف والبلاغة والعروض. ونقدها من حيث جمال أسلوبها وأثرها في نفس قارئها، وهو «نقد فنّي» اعتمادُه على الذوق، فهو لذلك قد يختلف باختلاف النقّاد. ¬

_ (¬1) وليس منها «المنجد» ولا أشباهه.

منهج تاريخ الأدب والتصنيف الذي قلنا إنه عمل مؤرّخ الأدب إما أن يكون تصنيفاً زمنياً (يتبع العصور)، أو تصنيفاً فنياً (يتبع المذاهب). وتقسيم العصور الأدبية تبعاً للعهود السياسية (وهو المتّبَع في تدريس الأدب في المدارس) تقسيم لا يقوم على أساس. أولاً: لأنه ليس بين السياسة والأدب تشابه ولا ارتباط، ولا تصحّ النسبة بينهما طرداً ولا عكساً، فربما ازدهر الأدب بازدهار السياسة، كصدر العهد العباسي، وربما تأخر بتقدمها، كعهد الفتح الإسلامي، وربما ارتقى بانحطاطها، كعهد الدول المنقطعة في الأندلس (¬1). ثانياً: لهذا الخطأ في إطلاق صفات عامة على أدب كل عصر، كما يفعل مؤلفو الكتب المدرسية، مع أن في كل عصر مجدّدين ومقلدين. ومن شعراء الجاهلية مَن وصف مظاهر الحضارة وكان شعره من أرق الشعر لفظاً وأسلوباً كعَدِيّ بن زيد، ومن شعراء عصرنا من نظم الشعر البدوي محاكاة وتقليداً كمحمود سامي البارودي. ولو صحت مقاييس هؤلاء المؤلفين لكان البارودي الشاعرَ الجاهلي وعدي الشاعرَ العصري (¬2). ¬

_ (¬1) هذا هو اصطلاح مؤرخينا لما يسمى اليوم «ملوك الطوائف». (¬2) ومن مزايا أدبنا أن الإنكليزي يأخذ شعر شاعر كان في القرن السادس عشر فلا يفهم عنه شيئاً، وأننا نأخذ شعر الجاهلية فنجد فيه -وقد مر عليه أكثر من ألف وأربعمئة سنة- ما هو أسهل وأجمل وأوضح من شعر بعض الشعراء هذه الأيام. كقول ابن كلثوم:=

ثالثاً: لأن التطور الأدبي يخالف في طبيعته التطور السياسي، فقد زالت الدولة الأموية وجاءت الدولة العباسية خلال أيام أو أشهر، ولكن الأدب الأموي لم يذهب خلال هذه الأشهر، والشاعر الذي كان يَنْظم أيام بني أمية على أسلوب لم يبدّله لمّا تبدلت الحكومة. وكما أن الطفل لا يصير شاباً في يوم معين من شهر معين، بل يتم ذلك في المدة الطويلة ويكون كحركة الظل، تراه واقفاً وهو يمشي، فكذلك الأدب، لا يتحول إلا في الزمن المديد وبالسير البطيء. المذاهب الأدبية وخير من ذلك أن ندرس الأدب تبعاً للمذاهب الأدبية. وللإفرنج مذاهب معروفة: المذهب الاتّباعي (الكلاسيك)، والعاطفي (الرومانتيك)، والواقعي، والخيالي، والطبيعي، والرمزي. ولكل ذلك أنواع وفروع؛ فواقعية إميل زولا غير واقعية قُصّاص الروس، وتاريخية ديكنز غير تاريخية دوماس الكبير. فلِمَ لا نكشف في الأدب العربي عن الصفات المتشابهة في طائفة من الشعراء فنجعلها مذهباً؟ فيكون في الغَزَل المذهب العذري، ¬

_ = إذا بلغ الرّضيعُ لنا فِطاماً ... تَخِرّ له الجبابرُ ساجدينا وقول الأَوْدي: والبيت لا يُبتنَى إلا له عَمَدٌ ... ولا عِمادَ إذا لم تُرْسَ أوتادُ وهذه مزية للعربية أكرمها الله بها لمكان القرآن منها، وكل محاولة لتبديل قواعدها أو تغيير حروفها أو إحلال العامية مكانها محاولة خائبة، لأن الله حفظ هذه اللغة بالقرآن.

والمذهب القصصي، والمذهب الصوفي، والمذهب المادي، يلتقي في كل مذهب كلُّ من ذهب إليه من الشعراء، من لدن امرئ القيس إلى شعراء هذا العصر. ويكون مثل ذلك في المدح والهجاء والوصف والرثاء ... وهذه الرابطة في المذهب أقوى من رابطة العصر التي يتمسك بها واضعو مناهج الأدب في المدارس. عيوب في برامج الأدب المدرسية من عيوب هذه البرامج أنها تأتي التلميذ المبتدئ الذي لا عهد له بالأدب فتفرض عليه أصعب نصوصه وأبعدَها عنه ألفاظاً ومعاني وأسلوباً وموضوعاً، وكلما ازداد قوة زادته تسهيلاً، حتى ينتهي بدرس الأدب العصري! وهو ضد ما توجبه الفطرة وما تدعو إليه قواعد التعليم وما يراه صاحب الذوق السليم. ومن عيوب هذه المناهج أنها تهمل الأدب نفسَه وتُعنى بتاريخه، فتعرّف الطالب بمزايا الأديب ومكانته ونسبته إلى أدباء عصره، ولكنها لا تفرض عليه فهم شعره، ولا تلزمه دراسة نصوص منه دراسةَ لغةٍ وبلاغة وتحليل. ولست أدري كيف يدرس الطالب شاعراً وهو لم يفهم شعره! وإنْ شرح المدرّسون والمؤلفون بيتاً اقتصروا على تفسير الغريب من ألفاظه، مع أنه ربما فُهمت ألفاظه كلها ولم يُفهَم معناه. ولقد اشتغلت مرة شهراً كاملاً حتى فهمت معنى هذا البيت وأدركت ما هو الذي عضّ برأسه: وما زلتُ خيراً منك مُذْ عَضَّ كارهاً ... برأسِك عادِيُّ النِّجادِ رَكوبُ (¬1) ¬

_ (¬1) البيت لأرطأة بن سُهَيَّة يهجو به شَبيب بن البَرْصاء، وخبره في=

مع أن ألفاظه كلها مفهومة. وكنت أشرح بعض كتب الأدب لطلاب القسم العالي في الكلية الشرعية في سوريا، فكانت تمرّ بي أبيات كثيرة أفهم معاني ألفاظها كلها ولا أدرك حقيقة المراد منها. لذلك كانت طريقة شرّاحنا الأوّلين -في شرح المفردات ثم تفسير المعنى- أقوَمَ وأوْصَلَ إلى الغاية. وربما توقف فهم المعنى على مسألة فقهية، كبيت أبي تمام: بسُنَّة السَّيْفِ والخَطّيِّ من دَمِهِ ... لا سُنّةِ الدّينِ والإسلامِ مُختضبِ (1) أو مسألة فلكية، كقوله عن الأبراج: ¬

_ = «الأغاني» أن أرطأة "كان قد هاجى شبيباً، ثم دخل على عبد الملك ابن مروان فأنشده قوله فيه: أبي كانَ خيراً من أبيكَ ولم يَزَلْ ... جَنيباً لآبائي وأنتَ جَنيبُ (الجَنيب هو التابع المنقاد) فقال له عبد الملك: كذبت. ثم أنشده البيت الآخر فقال: «وما زلتُ خيراً منك مُذْ عَضَّ كارهاً ...» فقال له عبد الملك: صدقت". ووجدت للبيت شرحاً في أول الجزء الثاني من «الأمالي»، لكني استقبحت معناه فأعرضت عن ذكره هنا (مجاهد). (1) لأن المَسْنون هو الخِضاب بالحنّاء، وهذا الفارس (الذي أشار إليه في البيت الذي يسبق في القصيدة هذا البيتَ بقوله: «كم بين حيطانها من فارس بطل ...»، أي من فرسان الأعداء الأشدّاء) قد اختضب بدمه، فهي ليست سنّةَ الإسلام في الخضاب بل سنّة الرمح (الخطّي) والسيف؛ كناية عن القتل (مجاهد).

ما كان مُنقلِباً أو غيرَ مُنْقَلِبِ (¬1) ¬

_ (¬1) صدر البيت: «وصَيّروا الأَبْرُجَ العُلْيا مرتَّبة ...»، فهم يجعلون في البروج منقلِباً وثابتاً (غير منقلب)، فإذا جاء الأمر في وقت البرج الثابت احتفلوا به، وإذا جاء في البرج المنقلب طرحوه وأهملوه. وليست هذه من مسائل علم الفلك، بل هي من شَعْوذات المنجّمين. والفرق كبير بين «العلم» و «الشعوذة»؛ «الفلك» علم رَصين له فوائد في حساب الأهلّة وحركة الشمس، فهو من العلوم التي يحتاج المسلم إليها، وقد برع فيه المسلمون كما لم تبرع فيه أمة أخرى من قبلهم. أما التنجيم فلا يعدو أن يكون تخريفاً وتخريقاً. لذلك أتْبَعَ أبو تمام بيته هذا بقوله: يَقْضونَ بالأمر عنها وهْيَ غَافِلةٌ ... ما دارَ في فَلَكٍ منها وفي قُطُبِ «يقضون بالأمر عنها»: أي عن الأفلاك والبروج. وقد كان فتح عمورية كله نكسة نكس الله بها المنجمين وخِزياً أخزاهم به. وليس العتب على المنجّمين، بل على المغفَّلين الذين يستمعون إليهم ثم هم لهم مصدّقون، ولو آمن هؤلاء حقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم وآمنوا أنه الصادق الأمين لخافوا من سوء العاقبة، فقد أخرج مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرّافاً فسأله عن شيء لم تُقبَل له صلاة أربعين ليلة»؛ هذا الذي سأل، فما بالك بالذي صدّق؟ ذلك قد خسر آخرته كلها؛ عن أبي هريرة والحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى كاهناً أو عرّافاً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد». وليس شرطاً لتأتي العراف أن تقطع المسافات إليه، بل لو فتحت صفحة الأبراج في المجلة أو الجريدة فقرأتها فقد أتيت واحداً من العرّافين ... فاعتبروا يا أيها المؤمنون! واعذروني على هذا التطويل والاستطراد، غير أني لم أستطع أن أقاوم فرصة سنحت لي لجَلاء هذه المسألة التي يتعامل معها كثير من الناس وكأنها من صغائر اللّمَم، وإنها لمن كبريات مسائل الاعتقاد (مجاهد).

أو مسألة تاريخية، كقوله (¬1): مُصْفَرّةٌ مُحْمَرّةٌ فكأنّها ... عُصَبٌ تَيَمَّنُ في الوَغَى وتَمَضَّرُ الأسلوب ومن أكبر عيوب برامجنا أنها لا تعنى بدراسة الأسلوب، مع أن غاية ما يبلغه الأديب إدراك مزايا الأساليب. و «الأسلوب» كلمة لا تزال مُبهَمة، لم يُحدَّد معناها تحديداً منطقياً يجمع أفراد ما تدل عليه ويُخرج أضدادها. والذي أراه أن الأسلوب يتصل -أولاً- بالكلمات: غرابة ووضوحاً ورقّة وجَفاء. ولكل كاتب أو شاعر قاموس خاص؛ مجموعة من الكلمات يدور كلامه عليها ويُكثر من استعمالها، وأول معالم الأسلوب عند أديب أن تعرف له هذه الكلمات. ثم الجمل: طولاً وقِصَراً، وبياناً وغموضاً، واشتمالاً على السَّجْع والمُحَسِّنات أو خُلُوّاً منها. ثم معرفة نوع هذا الأسلوب: هل هو أسلوب صحفي، أو علمي، أو خطابي، أو عاطفي، أو وصفي ... وهل تكثر فيه الصور أو تكثر الأفكار. ¬

_ (¬1) البيت لأبي تمام يصف الربيع وأزهارَه ذوات الألوان المختلفات. أما التشبيه فجاء به من الشِّعار الذي اتخذه في الحرب العدنانيون (وأشهر فروعهم مُضَر) والقحطانيون، وكان العداء بين الفريقين شديداً منذ القِدَم وبينهما وقائع، فاتخذ المُضَريّون العمائم الحمر والرايات الحمر، واتخذ أهل اليمن الأصفر من ذلك (مجاهد).

ثم الروح التي تلوح من ثناياه: هل هي روح جِدّ أم فكاهة، وحماسة أم هدوء، وتفاؤل أم تشاؤم، وصراحة أم مُداورة ولفّ وتعريض. ثم النسق: هل يُكثر من المقدّمات والاستطرادات أم يدخل في صلب الموضوع فوراً، وهل هو من أرباب الاختصار أم من أصحاب التطويل. ثم الموضوعات، ولكل أديب موضوعات يحبّها ويطرقها، وأخرى لا يدنو منها ولا يتكلم فيها. وأنت إذا أدمنت النظر في آثار كاتب وأكثرت القراءة له، ثم وجدت قطعة له ليس عليها اسمه، عرفته بها من هذه الصفات التي ذكرتها لك. وبشّار لما سمع هذا البيت: وأنكرَتْني، وما كانَ الذي نكرت ... من الحوادثِ إلا الشّيبَ والصّلَعَا منسوباً إلى الأعشى حكم أنه ليس له، من كلمة واحدة فيه عرف أنها ليست من قاموس الأعشى. * * * والخلاصة: أنكم قد تصيرون نُقّاداً بالاطلاع على علوم الأدب، وإدمان النظر في آثار بُلَغاء العرب، والتمرس بأساليبهم ومحاولة الوقوف على مزاياها وخصائصها. وقد تكونون مُؤرِّخين

للأدب إذا ضممتم -إلى ذلك كله- الوقوفَ على آراء النُّقّاد ومعرفة المذاهب الأدبية. أما أن تكونوا أدباء مُبدعين، كُتّاباً وشعراء وقَصَصيّين، فإن ذلك يحتاج إلى شيء آخر، شيء لا أملكه لكم ولا يستطيع أحدٌ أن يُهديَه إليكم هو «المَلَكة الأدبية»، وهي يا إخواني منحة من الله يمنحها من يشاء. والسلام عليكم ورحمة الله (¬1). * * * ¬

_ (¬1) من كان مهتماً بموضوع هذه المقالة فليقرأ معها «مقالة في التحليل الأدبي»، وليقرأ أيضاً: «المَلَكة والثقافة» و «كيف تكون كاتباً» و «في النقد» و «الأدب العربي في مدارس العراق» و «الترجمة والتأليف»، وهي منشورة كلها في كتاب «فِكَر ومباحث» (مجاهد).

الوصف الخيالي والوصف الواقعي

الوصف الخيالي والوصف الواقعي نشرت سنة 1955 [كتب إليّ طالب جامعي يسألني بيان الفرق بين الوصف الخيالي والوصف الواقعي. ويقول إنه سمع من مدرّسي الأدب وقرأ في كتبه كلاماً طويلاً في التعريف بهما، ولكن لم يَضِحْ له الفارق بينهما.] وأنا لن أقول له في الجواب كلاماً طويلاً ولا قصيراً، ولكن أسوق مثالين يُغْنيان عن هذا الكلام. المثال الأول قول أبي تمام في حريق عَمّورية (¬1): لقد تركتَ -أميرَ المُؤمنينَ- بها ... للنّارِ يوماً ذَليل الصَّخْرِ والخَشَبِ ¬

_ (¬1) عندي فضول قديم لمعرفة موقع عَمُّورية هذه، وقد وجدت أن غاية ما ذكره ياقوت أنها في بلاد الروم، ثم وصلت إلى أنها كانت إلى الشمال الغربي من قونية (جنوب أنقرة، في الأناضول. والأناضول هي تركيا الحالية) على بعد يتراوح بين ثمانين كيلاً منها ومئة وثمانين؛ هذا ما استطعت استنتاجه من خرائط «أطلس تاريخ الإسلام» لحسين مؤنس. وهو كتاب عظيم جليل النفع، ولكن يبدو أن المواقع لم تُحدَّد على خرائطه بدقة كبيرة، فهي تتفاوت بين خريطة وأخرى كما وجدت في حالة مدينتنا هذه (مجاهد).

غادَرْتَ فيها بَهيمَ الليلِ وهْو ضُحىً ... يُشِلّهُ (¬1) وَسْطَها صُبْحٌ مِنَ اللهَبِ حتى كأنَّ جَلابيبَ الدُّجى رَغِبَتْ ... عن لونِها، أو كأنَّ الشّمسَ لم تَغِبِ ضَوْءٌ من النّارِ، والظَّلْماءُ عاكِفَةٌ ... وظُلْمَةٌ من دُخانٍ في ضُحىً شَحِبِ فالشّمسُ طالِعَةٌ مِنْ ذا وقد أَفَلَتْ ... والشّمسُ واجِبةٌ مِنْ ذا ولم تَجِبِ فانظر كيف وصف الحريق: 1 - أتت النّار على كل ما في البنيان من حجر وأخشاب، فأفاض الشاعر على هذه الحقيقة خيالَه وصَبَّ في هذه الجامدات الحياة، فإذا الجذوع التي كانت تتمايل تيهاً وفخراً والصخرُ الذي كان يَشمخ عُجْباً وكِبْراً قد عادا -أمام النار- ذليلَين مَهينَين. 2 - ولم تكن هذه الصورة إلا ارتفاع الطيّارة عن الأرض في طريقها إلى طِباق الجو؛ فلما فرغ منها أوغل في خياله، فإذا هذا الحريق يجيء بأعجوبة، فيبدّل قوانين الكون ويداخل الأوقات بعضها ببعض، فيجعل الليل البهيم ضُحى سافراً. 3 - ثم لا يدعك تطمئن إلى هذه الصورة العجيبة ولا ينتظرك لتفكّر فيها وتدرك أسرارها، حتى يسرع إليك فيمحوها ويقرّر أنه لم يبدَّل الليل ضُحىً، فالليل ليل، ولكن الصبح عجّل في مسيره ¬

_ (¬1) يقال: شَلّ الصباحُ الظلامَ، بمعنى غلبه (مجاهد).

فطرد ظلام الليل قبل الأوان! 4 - فتفكر في هذا الصبح: كيف جاء قبل موعده؟ وتحاول أن تستمرئ هذه القصة، وإذا به يفاجئك بأن الصبح ليس الصبح المعتاد، ولكنه صبح من اللهب! 5 - ثم يدع هذا كله ويأتي بشيء جديد، هو أن هذا أيضاً ليس صبحاً حقيقياً ولا صبحاً من اللهب، ولكنه الليل مَلَّ ثيابه السود فاستبدل بها -هذه المرّةَ- الثياب البيض. 6 - ثم يرجع فيقول: لا، لا شيء من ذلك كله؛ فلا الليل تبدل ضحى ولا الصبح طرد الليل ولا استُبدلت ثياب بثياب، وإنما المسألة أن الشمس لم تغب، فمن هنا جاء هذا الضياء. 7 - فإذا اطمأننت إلى هذا التفسير المعقول عاد يحوّلك عنه ويقول لك إن هذا الضوء ليس ضوء الشمس. إذن ما هو يا سيدنا الشاعر؟ قال: هو ضوء النار، والظلام لا يزال عاكفاً. فتقول: وهذا أيضاً معقول، فالنار من شأنها أن تضيء في الظلام. 8 - فيسرع إليك فيقول: ولكن هذا الظلام ليس ظلام الليل، بل هو ظلام الدخان. 9 - وليس الوقت ليلاً أضاءته النار، ولكنه ضحى شاحب سوّده الدخان! 10 - وما دام الوقت ضحى فالشمس طالعة. فتتحول الصورة إلى ضحى تبدو شمسه ويحجبها هذا الدخان بظلامه. 11 - فيقول: لا؛ إن التي طلعت ليست الشمس، ولكنها

شمس أخرى، شمس من ضياء النار، أما الشمس الحقيقية فقد أفلت. 12 - فتقول: هذا حسن، قد أفلت الشمس وغابت، فهي إذن غائبة. فيقول: لا، إنها ليست غائبة الغياب المعروف، ولكن غيّبَها الدخان، وهي في الحقيقة لم تَغِبْ. فهذه اثنتا عشرة صورة في خمسة أبيات، تلاعب فيها بألباب السامعين وجاء فيها بشيء قد يدعو إلى الإعجاب، لما فيه من التصرف في أفانين القول وما فيه من العجيب النادر من التَّشابيه والاستعارات. ولكن هل عرفتَ ما هو هذا الحريق؟ وكيف كان؟ وما الذي احترق؟ إلى آخر ما يعرض للذهن من أسئلة. أوَلا ينطبق هذا الوصف على حريق روما على عهد نيرون، وحريق الأموي أيام السلطان عبد الحميد، وعلى كل حريق في الدنيا؟ ألم تشعر أنك لم تخرج منه -على إبداعه- بشيء؟ هذا مثال للوصف الخيالي. * * * المثال الثاني قول البحتري في موكب المتوكل يوم العيد: أظْهَرْتَ عِزَّ المُلكِ فيهِ بجَحْفَلٍ ... لَجِبٍ يُحاطُ الدِّينُ فيهِ ويُنْصَرُ خِلْنا الجِبالَ تَسيرُ فيهِ وقد غَدَتْ ... عُدَداً يَسيرُ بها العَديدُ الأكثرُ

فالخيلُ تَصهَلُ والفوارسُ تدّعي ... والبِيضُ تلمعُ والأسنّة تُزهِرُ والأرضُ خاشعةٌ تَميدُ بثِقْلِها ... والجوُّ مُعتَكرُ الجوانبِ أغبرُ حتى طلعْتَ بضَوْءِ وجهكَ فانْجَلَتْ ... تلك الدُّجى وانْجابَ ذاك العِثْيَرُ (¬1) وافْتَنَّ فيك النّاظرون فإصْبَعٌ ... يُومَا إليك بها وعَيْنٌ تَنظُرُ ذكَروا بطلعتِكَ النبيَّ فهلّلوا ... لمّا طلَعْتَ منَ الصفوفِ وكبّروا ومشَيت مِشيةَ خاضعٍ متواضعٍ ... للهِ، لا يُزهَى ولا يَتكبّرُ حتى انتهيتَ إلى المُصَلّى لابساً ... نورَ الهُدى يبدو عليكَ ويَظهَرُ فَلَوَ انّ مشتاقاً تكلّف فوقَ ما ... في وُسعِهِ لسعى إليكَ المِنبرُ فأنت هنا مع البحتري على أرض الواقع، تمشي صاحِياً تعرف أين تضع قدمك، وقد كنت مع أبي تمام تطير على أجنحة الخيال في كون عجيب، تبدلت فيه قوانين الوجود وتغير مسير الأفلاك وتداخلت فيه الأوقات، ترى ما يُدهش ويُعجب ولكنك لا تدرك حقيقة ما ترى. ¬

_ (¬1) انْجابَ العِثْيَر: انكشف الغبار (مجاهد).

أنت هنا أمام «فِلْم» ناطق، ينقلك إلى ذلك الزمان وذلك المكان، ويريك ما رأى مَن شهد الموكب. ألا ترى الجيشَ أمامك بعدده الكثير وآلاته الضخمة التي تشبه الجبال، من الدبّابات والعَرّادات والكِبَاش والمَنْجَنيقات (¬1)؟ ألا تسمع صهيل الخيل ¬

_ (¬1) «الدَّبّابة» اسم قديم لآلة حربية استعملها المسلمون في حروبهم، وهي برج من الخشب الصلب يُغلَّف بجلود تُنقَع في الخَلّ لمقاومة الاشتعال، ويُثبَّت هذا البرج على قاعدة ذات عجلات. والغاية من الدبّابة الاقتراب من الأسوار وحماية النقّابين الذين تحملهم في داخلها. و «الكَبْش» آلة تتكون من عَمود خشبي طويل قد يبلغ طوله عشرة أمتار، وفي رأسه كرة من الحديد أو الفولاذ، ولعلها كانت على شكل رأس الكبش، ومن هنا اكتسبت هذه الآلة اسمها. وكانوا يدفعونها بالخيل على الأسوار لهدمها، وربما أرجحوها إلى الأمام وإلى الخلف وهم يدقّون بها السور حتى ينهدم أو ينتقب. وقد يكون الكبش جزءاً من الدبّابة، حيث تحمل الدبابة في مقدّمتها كرة معدنية كرأس الكبش متصلة بعمود معلق في داخل الدبابة بحبال تجري على بكرات معلَّقة بسقفها، ويتعاون الجنود الذين يتحصنون في داخل الدبابة على ضرب السور بها حتى يخرقوه. ولك أن تتخيل شكل هذا السلاح المركَّب قريباً من شكل دبابة معاصرة تحمل مدفعها أمامها! أما «المَنْجَنيق» فإنه آلة معروفة يعرف الناسُ اليومَ شكلها، وكانوا يرمون به الحجارة فيَدُكّون بها الأسوار، وربما رمَوا الزّفت والنّفط (بكسر النون أو بفتحها، كلا الوجهين صحيح فصيح) المشتعل فحرّقوا الحصن المهاجَم بالنار، ومنه اشتقوا الفعل: جَنَق الحجرَ (وجنّقه، بتشديد النون وبالتخفيف)، والرماةُ به هم المَنْجنيقيّة. و «العَرّادة» مَنجنيق صغير يمكن حمله على الدواب؛ فكأن المَنْجنيقات -في عرف اليوم- هي المدافع الكبيرة والعَرّادات هي مدافع البازوكا! =

وصياح الفرسان؟ ألا ترى السيوف والأسنّة تلمع خلال الغبار؟ ألا تحسّ كأنْ قد مادت الأرض تحت أقدامك؟ وإنك لفي هذه الضجة وهذه الحركة، وإذا بكل متحرك قد سكن وكل صوت قد سكت، وإذا بالغبار قد انجاب، فتسأل: ماذا جرى؟ فتُجاب همساً أنْ قد وصل الخليفة. ولا تسمع من هذه الخلائق كلها رِكزاً، ولا ترى إلا رؤوساً متدانية تتناجى في خفوت، وأصابع ممتدة تشير إليه، وأنظاراً جائلة تحاول أن تقع عليه. حتى إذا برز من بين الصفوف وصار ¬

_ = وكانت عندهم أيضاً «النَّفّاطات»، وهي قاذفات النفط خاصة ولا تقذف الأحجار، و «الأمخال»، وهي آلات ينزعون بها الحجارة، و «الزحّافات»، وهي نوع من الدبّابات الصغيرة تتسع لجندي واحد. هذه الآلات كلها -وغيرها من عدّة الحرب- تجدون وصفها في كتاب اسمه «التذكرة الهَرَويّة في الحِيَل الحربية» لعلي بن أبي بكر الهَرَوي المتوفى سنة 611هـ، وهو كتاب نادر في موضوعه وقليلٌ انتشارُه في الأسواق، فقد طبعته وزارة الثقافة السورية منذ ربع قرن بتحقيق قيّم وتعليقات نفيسة لمطيع المرابط، ولم أعلم أنه أُعيد نشره ولا رأيت منه نسخاً في المكتبات من سنين طويلة، وأحسب أن نسخه كلها قد نفدت منذ زمن بعيد. وقد استفاد المحقّق فائدة عظيمة من كتاب نشرته وزارة الثقافة في دمشق أيضاً قبل نشر «التذكرة» بنحو عشر سنين، وهو كتاب «الحياة العسكرية عند العرب» لإحسان الهندي. هذا ما قرأته في حواشي «التذكرة» وفي قائمة مراجع التحقيق في آخرها، ولم أطّلع على هذا الكتاب للأسف ولا وصلت إليه، فأحسن الله إلى الرجلين على ما أفادانا به من علم في هذا الموضوع الذي يقلّ العلم فيه أو يكاد ينعدم (مجاهد).

وسط الساحة ارتجّت الدنيا بالتكبير والتهليل؛ لا يكبّرون للمنصب ولا للرغبة ولا للرهبة، ولكن لأنهم ذكروا بطلعته النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا هو يمشي مشية خاشع متواضع، متواضع لله لا للناس، حتى وصل إلى المُصلّى (¬1). فهل غاب عنك شيء من دقائق هذا المشهد؟ هل يمكن أن ينطبق هذا الوصف على كل موكب كما انطبق ذاك على كل حريق؟ هذا هو الوصف الواقعي، وإن كانت قد خالطَته صور من غير الواقع، كلبس النّور وسعي المنبر؛ فقد سرق البحتري «سعي المنبر» من «سعي المكان الجَديب» عند أبي تمام، ولكنه سرق واسترقّ وأخذ وزاد. وإذا لم يَكْفِ السائلَ المثال، كانت لي عودة إلى هذا المجال. * * * ¬

_ (¬1) إن شئت فاقرأ شرحاً أكثر إسهاباً لهذه الأبيات في حلقة «دروس الأدب في بغداد» في «الذكريات» (3/ 407 - 409) (مجاهد).

حرفة الأدب

حرفة الأدب نشرت سنة 1955 هذا هو جوابك يا أخي الأستاذ حسني (¬1): هل تعرف من هو الشهيد الحي؟ ومن هو المعذَّب في الأرض؟ ومن هو أحق بالرّثاء والإشفاق؟ ليس السجين المكبَّل بالقيود الذي يقطع الحجارة من جَلْمَد الصخر، ولا الذي يغوص في أعماق اللجَج يبحث عن اللؤلؤ في بطن البحر، ولكنه المسكين الذي قُدِّر عليه أن يستخرج رزقه من أضيق أبواب الرزق: من شق القلم. هو من اتخذ الكتابة حرفة له، فهو يكتب دائماً وأبداً، يكتب وهو خامل كسول، ويكتب وهو مريض موجع، ويكتب وهو حزين مهموم. إن رأى الناسُ مشهداً من مشاهد الطبيعة فوقفوا يستمتعون به، وقف هو يفكر كيف يصوغ شعوره كلاماً يعرضه على الناس. وإن قرأ الناس قصة أو مرّ بهم نعيم أو مسّهم بؤس، اختزنوا عواطفهم في صدورهم وتجرّعوها أو تعللوا بها على مهل، وراح ¬

_ (¬1) أظنه حسني كنعان، أستاذ علي الطنطاوي ثم صديقه من بعد. وله أخبار متفرقة في الذكريات (مجاهد).

هو يبحث عن تعبير يذيع به عواطفه وينشرها. كل ما عنده للناس، أفراحه وأتراحه، وحبه وبغضه، وهو أبداً يَصُفّ كلاماً، هو أبداً يكتب؛ يفيق فيكتب، وينام وهو يكتب، ويحسّ أن الأفكار تصطرع أحياناً في رأسه وتتراكض حتى لتكاد تصدع أصداغه، فيستيقظ من أعماق منامه ليشعل المصباح إلى جانب سريره ويكتب (¬1)، فإذا أفرغ ما في رأسه وحسب أنه سينام وثبت أفكار أخرى تضرب على جوانب رأسه من داخل ليقوم فيفتح لها! فلا يستمتع بيقظة ولا منام، ولا يعرف لذة التأمل ولا فتنة الأحلام، ولا يعيش ساعة لنفسه بل يعيش عمره كله للناس. ويا ليته يكتب حينما يريد، وأنّى، وهو يكتب حينما تريد المطبعة؟ والمطبعة لا ترحم، المطبعة كجهنّم، كلما قيل لها: هل امتلأت؟ تقول: هل من مزيد؟ الفكرة التي تحتاج إلى يومين لتنضج، توجب عليك المطبعة أن تعبّر عنها اليوم وأن تجيء بها كاملة ناضجة تعجب القراء. فكيف تضع الأم وليدها قبل أن يستكمل مدة حَمْله، ويكون كاملاً مكملاً لا سَقْطاً ولا مشوَّهاً؟ والأفكار لا تأتي إلا على مهل، تنساب انسياباً، وما على الكاتب إلا أن يستلقي ويسترخي ويدوّن ما يعرض له؛ كصائد ¬

_ (¬1) إنه لَيَصف هنا نفسه، فهكذا كان جدي رحمه الله؛ إلى جنب فراشه مصباح وقلم وأوراق، فلا يزال كلما خطرت له فكرة أنار المصباح فخطّ على الورق كلمات، أو ربما خَرْبَش الكلمات في الظلمة حتى لا يطير من عينيه النوم، فإذا أصبح الصباح لم يكد ينجح في قراءة ما خربشه في عتمة الليل من كلمات. وهو في كل الأحوال لا يكاد يهنأ بنوم من كثرة ما يشتغل فكره بالأحاديث والمقالات (مجاهد).

الأسماك، ينصب شبكته ويقعد ساكناً ينتظر، فإن وثب وتحرك وهزّ الشبكة فرّت منها الأسماك. والمطبعة تريد منك أن تثب وراء السمكة فتمسكها بيدك وتضعها في الشبكة، تريد أن تجمع أفكارك كلها بنفسك وتصبّها على الورق! والموضوع الذي يحتاج إلى عشر صفحات عليك أن تكتبه في صفحتين لأن المطبعة لا تحتاج إلا إلى اثنتين. وإن عرضت لك -وأنت تنظر في تجارب الطبع- كلمة أفضل من كلمة أو جملة أحسن من جملة فإيّاك أن تبدّلها، لأن المطبعة يتعبها هذا التبديل. وخذ بعد ذلك ما شئت من التَّطْبيعات والتصحيفات وتحريف الكلم عن مواضعها وإبدالها بغيرها، وانْشَقَّ غضباً وغيظاً، فليس ينفعك الغضب ولا يجدي عليك الغيظ بعدما سار هذا التحريف وشَرّقَ وغَرّبَ وهو محمول عليك ومنسوب إليك، وأنفك -ولا مؤاخذة- في الرغام! وأصعب شيء على الكاتب أن يَكثُر عليه العمل حتى لا يدع له وقتاً يداخل فيه الناس ويخالطهم. وهذا الاختلاط هو الزِّناد الذي يقدح شرر الفكرة، وما يراه أو يسمعه هو المادة التي يصنع منها أدبه. فكيف يُنتج معملٌ فَقَدَ الزِّناد الذي يدير المحرك والموادَّ الأولية التي تشغّل المعمل؟ لذلك تجد أكثر الكتّاب يجودون في الشباب أكثر مما يجودون في الكهولة، يكتبون في شبابهم للأدب المَحْض، يريدون أن يشقّوا لهم طريقاً وسط الزحمة فيتخذون لذلك أقوى العُدَد، يتعبون ويكِدّون، لا يبالون في سبيل التجويد وقتاً ولا جهداً، حتى إذا عُبِّد لهم الطريق وضمنوا لأنفسهم الحظوة عند

القراء والقَبول في الناس، جاؤوا يقبضون أجرة هذا الجهد الأول. فيزدحم عليهم الناشرون وأصحاب المجلات يطلبون منهم أن يكتبوا لهم، فيكثر في أيديهم المال ويقلّ الوقت، فيكتبون ما يخطر على البال، لا يجوِّدون ولا يحسنون، يرمون المقالة لا يبالون أجاءت بالطول أم بالعرض ... وماذا يصنعون والناشرون لا يَدَعون لهم وقتاً لتجويد؟ وأصعب منه أن يُقال لك اكتب لنا في موضوع كذا، فإذا تأخرت أو تقاعست عتبوا عليك ولاموك. يحسبون أن الأفكار في رأس الكاتب كالدراهم في كيسه والبضائع في مخزنه، لا يكلّفه إعدادها إلاّ أن يَمُدّ يدَه فيأتي بها، لا يدرون أن للنفس إقبالاً وإعراضاً، وأنها يسلس قيادها تارة وتَحْرُن تارات، وأن من كبار الكتّاب من تمرّ به أيامٌ كلما حاول الكتابة فيها وقفت يده وجمد قلمه ونضب فكره، كأنه لم يكتب شيئاً قط! وأن الفرزدق، وهو مَن هو في الشعر، كان يقول: إنها لتجوز عليّ ساعات لَقَلْعُ ضرس من أضراسي أهون عليّ فيها من بيت من الشعر! وأن جريراً، الذي كان يغرف في شعره من بحر، قضى ليلة بطولها يتمرّغ ويتلوّى كالنُّفَساء التي تعاني آلام الوضع، حتى وضع قصيدته «الدمّاغة» (¬1) عند مطلع الفجر! ¬

_ (¬1) هي بائية جرير الشهيرة التي هجا فيها بني نُمَير، هو سماها «الدمّاغة». سهر فيها ليلة كاملة يتقلب على فراشه -كما في كتب الأدب- حتى كان السّحَر، فإذا هو قد قالها ثمانين بيتاً في بني نمير، فلما ختمها بقوله: فَغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمَيرٍ ... فلا كَعْباً بلغتَ ولا كِلابا كبّر ثم قال: قد والله أخزيتهم إلى آخر الدهر. وهذه القصيدة تسميها=

وأصعب من ذلك كله مَن يأتيك من الكُبَراء والفُضَلاء أو ممن أنت معترف بحقهم أو مضطر إلى إرضائهم، فيسألك أن تُعِدّ له خطبة أو مقالة أو محاضرة في موضوع كذا ... ويشرح لك فكرته، وقد تكون سخيفة أو رَقيعة أو فاسدة، وعليك أن تتبناها وتكون أباً مزوّراً لها وتسخّر لها أسلوبك وبلاغتك، ثم تقرؤها له وتتحمّل ملاحظاته وانتقاداته، ثم تشكلها وتعلّمه قراءتها وإلقاءها، ثم تجيء بعد إلقائها فتهنّئه عليها مع المهنّئين! والقرّاء! هل تسمع يا أيها الأخ؟ القراء أشد على الكاتب من المطبعة ومن الناشرين. إنْ جَدَدْتَ لهم، قالوا: إلى متى الجِدّ؟ ألا شيء من هَزْل؟ ألا قليل من إحماض؟ وإن هزلت لهم قالوا: ما هذا العبث، وما هذا الكلام الفارغ من المعنى؟ ألا جددت ونحن في أيام جِدّ وجهاد؟ وإن سلكت بهم سبل العاطفة ووصفت لهم عواطف القلب وصبوات النفس، قالوا: يا لله، ويا للأخلاق! أمثلك يكتب في مثل هذا؟ دَعْ هذا للشبّان المراهقين وتفرّغْ لما ينفع الناس ويُصلح المجتمع. وإن أنت تفرغت لما ينفع الناس ويصلح المجتمع قالوا: ما هذا؟ أهذا أدب؟ هذا وعظ! إنما الأدب وصف صبوات النفس وعواطف القلب! * * * ¬

_ = العرب «الفاضحة»؛ تركت بني نُمَير ينتسبون في البصرة إلى عامر بن صَعْصَعة ويتجاوزون أباهم نُميراً إلى أبيه، هرباً من ذكر نمير وفراراً مما وُسِم به من الفضيحة والوصمة (مجاهد).

ولو كنا في بلاد تدع الكاتب يقول ما يشاء (مما لا يقدح في خُلُق ولا دين) لهان الأمر، ولكن القراء لا يُسيغون إلا لوناً واحداً من الكلام، فإن بدّلته لهم أو جدّدت فيه لم تحتمله نفوسهم، وأصابهم منه سوء هضم عقلي، يُعقِب نوبةَ ثورة، يصيب الكاتبَ شرارُها أو تحرقه نارها. فهو مضطر أن يكون في عواطفه وآلام قلبه في واد، وفيما يكتب للناس في واد. والقراء يأخذون المجلة ليمروا عليها نظرة مسرعة وهم راكبون في الترام أو منتظرون الطعام أو متهيئون للمنام، فلا يحاولون أن يستمتعوا بها أو يستفيدوا منها، بل يحاولون انتقاصها وتجريح صاحبها. ما يدرون أن هذا الكلام الذي يقرؤونه في دقائق قد كلف صاحبه تفكير ساعات وجهد أيام، وأنه مرّ على هذه الأفكار -من يوم أن كانت بذرة في النفس ألقتها فيها رياح المصادفة، وسَقَتْها ملاحظة عابرة، ثم غذّتها الفِكَر والمشاهدات والذكريات والأحلام، إلى أن صارت مقالة مقروءة- أكثرُ مما مر على الرغيف من يوم أن كان سنبلة في الحقل إلى أن وُضع على المائدة. وربما كان الرغيف مُرّاً أو محروقاً أو غير ناضج، ولكنه لم يصل إليك حتى اعتوَرَته هذه الأيدي كلها ومرت به هذه الأطوار جميعاً. * * * فيا أيها الأخ، أرجو قبل أن تسأل عن علي الطنطاوي، وما باله لا يعطي المجلة خير ما عنده، وهل شاخ أم هرم أم أصْفَى كما تُصفي الدجاجة (¬1)، أن تسأل القراء: هل يَدَعون لي أن أقول ¬

_ (¬1) يقال: أصفى الشاعرُ إذا انقطع شعره، وأصفت الدجاجة إذا انقطع بَيضها (مجاهد).

ما أريد؟ هل تتركني إدارة المجلة أكتب في الأدب كما كنت أكتب في «الرسالة»؟ لقد حيّروني وسدّوا عليّ مسالكي، فوقفت، لا عجزاً ولا مرضاً ولكن لأني لا أدري من أين أسير! هذه هي القصة يا أيها الأخ، فأبقِها سراً بيني وبينك ولا تطلع عليها أحداً من القرّاء. * * *

مقدمة «باب البيان»

مقدّمة «باب البيان» نشرت سنة 1955 جمعني موسم حج هذه السنة بالأخ الأستاذ صاحب «المسلمون». وكنا في زيارة الأستاذ رشدي ملحس رئيس ديوان جلالة الملك سعود، فجعل يثني على «المسلمون» وصاحبها، ويأخذ عليها أنها لا تُعنى بالأدب عنايتها بالعلم، ولا تجعل من صفحاتها للقلب بعض ما جعلت للعقل. والأستاذ صاحب «المسلمون» من مزاياه أنه لا يسمع اقتراحاً نافعاً إلا أخذ به؛ لذلك أخذ بهذا الاقتراح الرشيد من الأستاذ رشدي، وكلفني «فتح» هذا «الباب». ولم أدرِ -حين قبلت- أن الشباب ولّى وأن العزم وَنَى، وأن الأيام لم تُبقِ في أعصابي قوة أفتح بها باباً ولا شُبّاكاً (¬1)، وأني كنت أخدع نفسي وأخدع الناس حين أزعم أني ما أزال اليوم كما كنت من ربع قرن، أيامَ كنت لا أقرأ قصة ولا أتلو شعراً، ولا أشهد خَشْعَة السحَر ولا بهاء الغَداة ولا فتنة الأصيل، ولا أرى الطبيعة حين تَبْسِم بأفواه الزهر أو تضحك بخَرْخَرة السواقي ¬

_ (¬1) الشباك بهذا المعنى لفظ مولَّد.

أو تزأر بهدير الأنهار، ولا أرى الجمال حيثما كان، إلا توثبت القريحة وتدفقت على النفس المعاني، وازدحمت على القلم الكَلِمُ وولدت على سِنانه الفصول والمقالات. أيام كنت ... وأين مني تلك الأيام؟ كنت إن مشيت ثلاثة أكيال (¬1) إلى الرَّبْوة أو عشرة إلى الهامَة، أو ذهبت إلى بيروت أو إلى حمص، نشأت في النفس ألف ذكرى ونُقشت ألف صورة وانبعث ألف أمل. وهأنذا أمشي اليوم إلى آخر الأرض، إلى السند والهند وسيام وجاوة، فلا أكتب عنها إلا مُكرَهاً، كمَن ينحت من صخر، ولطالما كنت -إذا كتبت- أغرف من بحر. لقد ونى العزم وولّى الشباب، فهل ترونها أبقت لي الأيام ما أقوى به على فتح هذا الباب؟ وهل تروني أستطيع أن أجري مع هؤلاء الأدباء في ميدان، وقد غبر دهري وعتقت آرائي، حتى صرت كأني عندهم من آثار الأوّلين؟ وأين أنا منهم وأنا لا أرتضي هذه الأساليب الواهية المستعجمة التي يكتبون بها، وهم لا يرتضون أسلوبي؟ وأنا أنكر هذه الموضوعات التي لا يعرفون غيرها، وهم ينكرون موضوعاتي؟ ومَن يستمع إليّ إن قلت إن غزل الشعراء العذريين الأمويين خير من شعركم هذا الحديث؟ وإن فيمَن تعدّونهم كتّاباً (كيوسف السباعي) من لا أستطيع أن أجد فيه إلا عامياً، عامي الفكر وعامي الأسلوب، وإن هذا الهراء الذي يكتبه ويطبعه لو كتب مثلَه تلميذٌ في الثانوية ممن عرفنا في أيامنا لسقط في الامتحان؟! ¬

_ (¬1) كيل (كيلومتر) وجمعه أكيال، مثل ميل وأميال.

ومن يستمع إليّ إن قلت إن الأسلوب قبل الفكرة، والعبارة قبل الغرض، وإن المقطوعة الجميلة الأسلوب الصافية الديباجة المنخولة اللفظ أفضل -ولو خلت من المعنى المبتكَر- من كل هذا الهذَر الذي تسمّونه الشعر الجديد، وإن المعاني -مهما سمت وعلت- إن جاءت في اللفظ الركيك والنظم المتهافت (كنظم الصافي النّجَفي) لم يكن فيها خير ولم تكن إلا كتماثيل الثلج، كل ما فيها من دقة الصنع وروعة الفن يذوب إن أشرقت عليه الشمس فيصير وحلاً تطؤه الأقدام؟ هذه آرائي، فهل يستمع إليّ الناس إن أنا أبديتها؟ وهل ترضى «المسلمون» عن هذه الآراء؟ وإن هي لم تكن معي فيها، فهل تدعني أقول ما أشاء على عهدتي، أم تسدّ فمي وتشدّ بنِسْعَة لساني؟ وإن هي تركتني وخلّت بيني وبين الناس، فهل بقي لي من القوة والأَيْد ما أصاول به وأجادل، وأدافع عن آرائي؟ * * * وشيء آخر؛ هو أني أعلم أن الغايات ثلاث: الحقيقة، والخير، والجمال. وأن الأدب لا يبتغي إلا الجمال وحده، هو غايته التي يمشي إليها وهو طَلِبَته التي يحرص عليها، وأن أعذب الكلام أكذبه. وهل الاستعارات والمَجازات كلها إلا أكاذيب؟ أنا أعلم هذا، وقد نشرت هذا الفصل عن الشريف الرضيّ دلالة عليه (¬1). ولكن الشريف وغير الشريف إنما قالوا هذا في ¬

_ (¬1) يشير إلى مقالة «سيد شعراء الحب العذري»، التي نشرها في «باب البيان» عندئذ، وهي في كتابه «رجال من التاريخ» (مجاهد).

ساعات لهوهم وحظوظ نفوسهم، لم يقولوه في الأيام السود ولا وسط المَعامع الحمر. ونحن اليوم في ساحة حرب، حرب الاستعمار ومكايده، وإسرائيل وشرورها، والدول الكبيرة ومطامعها، وحرب الإلحاد والرذيلة وخبيث العادات، وحرب الفقر والمرض والجهل ... فهل يدع أدباؤنا هذا كله ويقولون مثل الذي قال الشريف الرضي؟ هل يتركون النار تأكل خضراءهم ويستلقون على ظهورهم يحلمون بقبلة من حسناء في غفلة الرقيب؟ إنه لم يبقَ في فرنسا بعد كَسْرة السبعين قلم كاتب ولا لسان أديب إلا قال فيها، مواسياً ومقوّياً وباعثاً للأمل وحافزاً للهمم، فكُتبت مئات من القصص عن مشاهد الحرب وآلاف من المقالات ودواوين من الشعر؟ فما الذي قاله أدباء العرب في «مأساة فلسطين»؟ هل يجهل أدباؤنا خطر الكلام في مصاير الأمم؟ هل نسوا أن خطبة طارق هي التي فتحت الأندلس، وخطب نابليون ربحت النصر في إسترلتز، وأن خطب فيخته أنهضت ألمانيا، وأن أشعار إقبال أقامت دولة باكستان، وأن نصائح السرهندي صنعت أورانك زيب، أعظم ملوك الهند وسادس الخلفاء الراشدين (¬1)؟ * * * إننا نفتح هذا الباب في «المسلمون»، فهل يحب أدباؤنا أن يدخلوا؟ ¬

_ (¬1) انظر الفصل عنه في كتاب «رجال من التاريخ» (مجاهد).

ولا نقصره على لون من ألوان الأدب ولا على شكل من أشكاله. إنما ننشر فيه -إن شاء الله- الشعر والنثر، والبحث والوصف، والعرض والنقد، والأقصوصة والمسرحية، من كل ما نكتبه نحن أو يأتينا مما يكتب الناس وما نختاره من روائع الأدب القديم؛ لا نتقيد في النشر إلا بقيدين: (1) نقاء الديباجة وسلامة الأسلوب، حتى يكون هذا الباب متعة للأديب الضليع، وإماماً للطالب المتأدب يتبع سبيله ويسلك سننه. (2) ثم الحفاظ على مبادئ المجلة، بأن يكون ما يُنشَر فيها من الأدب نافعاً في خلق أو دين، فإن لم يكن بعضه كذلك فلا أقل من أن يكون خالياً من كل ما يأباه الدين والخلق الكريم. والاتكال على الله، ومنه نرجو التوفيق ونستمد العون (¬1). * * * ¬

_ (¬1) نُشرت هذه المقالة في العدد الثاني من السنة الرابعة من سنوات «المسلمون» الذي صدر في شهر رمضان 1374 (نيسان 1955)، واستمر علي الطنطاوي يحرر هذا الباب تلك السنة حتى توقف الباب كله في آخرها، في العدد العاشر الذي صدر في رجب 1375 (شباط 1956). وهذه «المسلمون» ليست «المسلمون» التي نشر فيها مذكراته بأخَرَة، فتلك الأخيرة مجلة حديثة، بدأت بالصدور أواخر عام 1981 وبدأ علي الطنطاوي بنشر مذكراته فيها منذ عددها الرابع. أما هذه القديمة التي نتحدث عنها هنا فقد بدأت بالصدور قبل ذلك بثلاثين سنة كوامل، لا تزيد أسبوعاً ولا تنقص أسبوعاً، وهذه=

¬

_ = من غرائب المصادفات وعجائب الموافقات. وقد أصدرها أولاً في القاهرة سعيد رمضان (المصري)، واستمرت كذلك ثلاث سنوات، ثم انتقلت إلى دمشق وصار مصطفى السباعي هو صاحب امتيازها ورئيس تحريرها. وفي أولى سنواتها في دمشق (سنتها الرابعة) حرّر علي الطنطاوي «باب البيان» فيها. وصدرت «المسلمون» في دمشق ثلاث سنوات، ثم انتقلت في سنتها السابعة إلى جنيف في سويسرا وعاد سعيد رمضان إلى رئاسة تحريرها. وفي السنة التي فارقَت فيها «المسلمون» الشام حوّل الشيخ السباعي ترخيصها وبدأ بإصدار «حضارة الإسلام»، وهي المجلة الجليلة التي كُتبت لها الحياة سنوات طويلة من بعد (مجاهد).

كلمات في الأدب

كلمات في الأدب نشرت سنة 1946 النثر والشعر في المدارس كنت كلما درّست الأدب العربي أعجب لما أجد من انصراف الطلاب عن نثره إلى شعره، على حين أنهم أميَل إلى النثر في الأدب الفرنسي منهم إلى الشعر، ففكرت فرأيت أن السبب في ذلك المناهج. فالذي تقرّر المناهج تدريسه من النثر العربي في مصر والشام والعراق لا يخرج في جملته عن رسائل ميتة لا روح فيها، أو فقرات جامدة مسجَّعة أو غير مسجَّعة، ليس فيها وصف يهز القلب أو معنى يوقظ الفكر، حتى إن ما يُختار لمثل الجاحظ (وهو في رأيي أحد الخمسة الذين انتهت إليهم إمامة النثر العربي؛ الجاحظ وأبي حيان التوحيدي والغزالي وابن خلدون ومحيي الدين بن عربي) هو من المُمِلّ المُضجِر، كوصف الكتاب وصفاً هو مجموعة جمل مستقلة تشبه حِكَم أكثم بن صيفي، ليس بينها ارتباط، ولا يفسدها التقديم فيها ولا التأخير، ويصعب استظهارها وحفظها، مع أن للجاحظ المعجِب المطرِب والمبهِج المرقِص من القصص والأوصاف؛ فكان من ذلك أن رغب

الطلاب عن أدبنا وكرهوه، وآثروا عليه الأدب الفرنسي لأنهم وجدوه أقرب إلى قلوبهم وأدنى إلى أفكارهم. ودواء هذا الداء أن يخرج واضعو المناهج من هذه الزاوية التي حبسوا أنفسهم والطلابَ فيها إلى فضاء الأدب ورحبه، ويدَعوا الصاحب والقاضي الفاضل، وهذه الرسائلَ الباردة، وهذا الأدبَ الميّت الذي لا روح فيه ولا جمال ولا يصح أن يكون مثالاً يُحتذَى ودليلاً يُتّبَع، ولا يجوز أن يُعرَض على الطالب إلا على أنه لون من ألوان الكتابة فيدرسه دراسة المؤرخ له لا دراسة المتأدب به، ويفتشوا بين العلماء والمؤرّخين والصوفية عن ذَوي الملكات البيانية، فيجدوا فيهم من لا يُعَدّ معه أدب الصاحب وعبد الرحيم البيساني (¬1) إلا لعب أطفال. أذكرُ -على سبيل المثال- ابن الجوزي في كتابه «صيد الخاطر»، وموضوعه ظاهر من اسمه، وهو خواطر كانت تخطر له فيدوّنها في هذا الكتاب. وليس في هذا الكتاب بلاغة الجاحظ وابن قتيبة ولا صناعة ابن العميد ولا فحولة الجرجاني، ولكن فيه شيئاً ليس مثله عند أولئك جميعاً، هو هذه السهولة وهذه السلاسة، وهذا الصدق في تصوير الخواطر، وهذا الإلمام بالمسائل النفسية والاجتماعية والدينية، وما فيه من وثبات ذهنية ¬

_ (¬1) هو القاضي الفاضل نفسه، وكان أبوه يلي قضاء بيسان في فلسطين فنُسِب إليها، إلا أن شهرته بين الناس بلقبه مقدَّمة على شهرته باسمه. وهو من أشهر الكتّاب في تاريخ الأدب العربي، كان من وزراء صلاح الدين ومن مقرَّبيه، وكان صلاح الدين يقول: "لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم، بل بقلم الفاضل" (مجاهد).

عجيبة وما يقوم به من تحبيب الأدب إلى الطلاب. وهذا الكتاب لو نُشر اليوم على أنه لبعض الكتّاب العصريين لقامت له الصحف الأدبية وقعدت وهللت له وكبرت، وأحلّته الذروة والسنام (¬1). وأذكرُ ابن السماك، هذا الرجل الذي تدل الفقرات القليلة التي رُوِيَت له على أنه أحد أفراد الدنيا في بلاغة القول وصفاء الأسلوب وعلوّ التفكير، ولم يفكر مع ذلك أحد في استقراء أخباره وتتبع آثاره (¬2)، وابن حزم في «طوق الحمامة»، وابن القيّم في «روضة المحبين»، وابن داود الظاهري، والطبري، والغزالي، وابن عربي، وأبا حيان، والشافعي، وأمماً لو أَحَبَّ واضعو المناهج العناية بآدابهم لوجدوا شيئاً يُنسيهم وينسي الطلاب الصاحبَ بن عباد وأضرابَه. * * * ¬

_ (¬1) كتب علي الطنطاوي هذه الكلمات سنة 1946، ولم يكن الكتاب معروفاً للناس يومئذ، ما كانت منه في الأسواق إلا نسخ قليلة من طبعة قديمة كثيرة التصحيف والأخطاء. ثم شاء الله أن ينشره هو وأخوه الشيخ ناجي الطنطاوي، رحم الله الاثنين، فظهر بعد أربع عشرة سنة من نشر هذه المقالة، سنة 1960، وكانت تلك أول طبعة جيدة للكتاب عرفها الناس. وقد قدّم جدي للكتاب بمقدمة في أربعين صفحة، روى لنا في أولها قصة تعرّفه إلى هذا الكتاب النفيس يوم كان مدرّساً في الأعظمية في بغداد، وهي مقدمة لطيفة مفيدة تستحق أن تُقرَأ، والكتاب كله كذلك (مجاهد). (¬2) انظر الخبر عنه واقرأ قطعة من نثره في الحلقة السابعة والثلاثين من «الذكريات» (1/ 394 من الطبعة الجديدة) (مجاهد).

الكتب المدرسية والكتب الأدبية زرت من سنين أحد الناشرين في دمشق، وكان عنده صديقي الأستاذ عز الدين التَّنوخي، ومعه كتاب «المثنّى» لأبي الطيب اللغوي، الإمام العَلَم قريع ابن خالويه وزميله في بلاط سيف الدولة، وقد وقع على النسخة الوحيدة منه التي ليس لها في الأرض ثانية، بدليل أنها ليست في خزانة من الخزائن العامة في الشرق ولا في الغرب، وأنه أعلن في مجلة المَجْمَع العلمي العربي السؤال عنها فلم يكن عند أحد علم بها. والنسخة صحيحة مقابَلة بالأصل، أي بنسخة المؤلف، عليها تعليقات بخطوط كبار العلماء كابن الشِّحْنَة وغيره، فاشتغل بنَسْخها وتصحيحها ومعارضتها بكتب اللغة أمداً طويلاً، فرأيته يعرض عليه طبعها بشرط واحد: هو أنه لا يشترط شرطاً ولا يريد مالاً ولا يبتغي على تعبه أجراً. وعند الناشر معلّم يعرض عليه كتاباً في القراءة والمطالعة، كل عمله فيه أنه نسخ من كتب الأدب قصصاً وأحاديث كتبها في أوراق ثم جمعها فخاطها، فجعلها - بإذن الله- كتابَ مطالعةٍ للصفوف الثانوية، وهذا المؤلف يأبى إلا أن يكون أربعون في المئة من النسخ المطبوعة ثمن تعبه! وقد مرت الآن سنوات على هذه المقابلة، طبع فيها هذا الناشر مئة كتاب مدرسي، وكتاب «المثنى» لا يزال مخطوطاً في دار أبي قيس! (¬1) ¬

_ (¬1) انتظر هذا الكتاب طويلاً حتى طبعه أخيراً المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1960، بعد كتابة هذه المقالة بأربع عشرة سنة (مجاهد).

أدباء المجالس من الأدباء مَن كنت أقرأ له فلا أبتغي بلاغة ولا لَسَناً ولا بياناً إلا وجدت عنده فوق ما أبتغي، فأتخيل شخصه وأتوهّمه على أوفى ما يكون عليه المتفوّه اللسِن، ثم ألقاه فألقى الرجل الساكت الصَّموت الذي لا يكاد يتكلم حتى تكون أنت الذي يسأله ويدفعه إلى الكلام، وإذا تكلم أخفى صوته ولطّف حروفه حتى لا يُسمَع منه ولا يُفهَم عنه. ومن الأدباء من ألقاه في مجلس فأجد المحاضر الفيّاض الذي ينتقل من نكتة إلى نكتة ومن قصة إلى أبيات من الشعر، فيبتدع لها المناسبات ويلقيها بصوت قوي، ويتكئ على الحروف ويعظّم مخارجها، فأُكبره وأعظمه وأسأله أن يكتب مقالة أو ينشئ فصلاً، فيفرّ منه فراراً ويسوّف ويعتذر ... فإذا أُحرِج وكتب جاء بشيء هو أشبه بسفرة المُسَحِّر، فيها من كل طعام لقمة، ولكن الحلو مع الحامض والحار مع البارد، وكل طعام مع طعام. وقد تتبعت أحوال هؤلاء، فوجدت أكثرهم على غير علم ولا اختصاص، ولا يطالع بجِدّ ولا يبحث بإمعان، ولا تدع له المجالس وقتاً لدرس ولا بحث، وإنما يحفظ الرجل منهم طائفة من الأخبار الأدبية والنوادر فيحملها معه أياماً يعرضها في كل مجلس، ويعيدها بعينها حتى ترِثّ وتَبلى وتصبح كالثوب الخَلق، فيعمد إلى غيرها فيصنع به مثلما صنع بها، ولا يدرك الناس الفرق بينه وبين الأديب المبدع الباحث، فيطلقون على الاثنين اسم «الأديب». فمتى يميز الناس بين الأديب الحق، وبين أديب المجالس؟ * * *

حرية الكتابة لست أدعو في هذه الكلمة إلى سلب الكتّاب حرية الكتابة، ولكني أدعو إلى الإبقاء على حرية الناس في التديّن والتخلق بكريم الأخلاق. وإن لكل حرية حدوداً لا ينبغي لها أن تعدوها، وإلا كانت حريةَ المجنون الذي يفعل ما شاء وشاء له الجنون. أنت حر في دارك، ولكنك لا تستطيع أن تتخذ منها أتوناً للفحم ولا ماخوراً للفجور، ولا تستطيع أن تحرقها أو تنسفها بالبارود. وأنت حر في نفسك، ولكنك لا تقدر أن تبسط سفرتك فتأكل في المحراب يوم الجمعة والناس في الصلاة، ولا تقدر أن تلقي الصحون وتصلي على المائدة ساعة الوليمة في الحفل الحاشد، أو أن تحضر المحاضرة بلباس الحمّام، أو أن تصرخ في المستشفى أو تغني في المأتم! وأنت حر في قلمك، ولكنك لا تملك أن تدعو إلى هدم استقلال وطنك، والخروج على قوانين بلادك ... إنهم يمنعونك ويُسكتونك ويضربون -إن فعلتَ- على يدك. فلماذا لا يمنعونك أن تكفر بالله، وتهدم الأخلاق، وتُخرج الناس على الدين، والأخلاقُ أساس الاستقلال والدين أَوْلى من القانون؟ وكيف صحّ ذلك المنع وساغ ولم يمسس حرمة هذه الحرية ولم يَنَلْ من قدسيتها، ولا يصح هذا ولا يسوغ ولا يكون إلا عدواناً على حرية الكتابة وإلحاداً فيها؟ أوَليس من عمل الحكومة الذي كانت من أجله الحكومات أن تقر الأمن في الأمة، وتضمن لها العزة والسيادة بين الأمم؟

إنه لا يكون أمن أو تكون عزة إلا بالخلق المتين وبالدين، فإن ذهبا لم يخلفهما شيء. وما القانون؟ هو الشرطي، فإن أمن العاصي أن يراه الشرطي أو يدري به القاضي أو يناله العقاب، ركب في طريق الغواية رأسَه فلم يردّه شيء. أما المؤمن فيردعه عن المعصية علمُه أن الله مطّلع عليه في سره وعلنه، وأما صاحب الخلق فربما رده خلقه وعصمه الله به. فلماذا نهدم بأيدينا هذين الحصنين، وندع الضعف والهوان يدخلان علينا بدخول الإلحاد والفجور؟ أوَمِن العدل أن تحفظ الحكومة أموال الناس من اللصوص وتضيّع عقائدهم، وتحمي جسومهم من القَتَلة وتبيح قلوبهم، وتقيم الحراس يحرسون البيوت والأثاث وتدع أعراض البنات وأخلاق الصبيان هملاً يسرقها ويعبث بها كل صحفي مفسد وشاعر ماجن وكاتب خبيث؟ سيقولون: حرية الكتابة. نعم، إنها حرية ينبغي أن تصان وتُضمَن، ولا يُعتدَى عليها ولا يُنال منها، ولكن الدين والأخلاق ينبغي -كذلك- أن يُصانا وأن يُضمَنا وأن لا يُعتدَى عليهما ولا يُنال منهما. فإن تعارض الأمران فلنحمل أخف الضررين ولنقبل بأهون الشرّين، وأهونهما أن نخسر حرية الكتابة أحياناً لنحفظ الدين والشرف، لا أن نخسر الدين والشرف لنحفظ «حرية الكتابة»، ونقول لكل صاحب نِحلة ضالّة أو هوى خبيث أو رأي هدّام: اكتب ما تريد واطبعه، وهاته نقرأه على أبنائنا وبناتنا ونَصُبّه في عقولهم وننشّئهم عليه!

ونحن اليوم في مطلع حياة جديدة، وقد غيرت هذه الحرب (¬1) المقاييس وبدّلت قِيَم الأشياء في أفهام الناس، وكانت امتحاناً قاسياً للأمم، لم تنجح فيه أمة فشا فيها الفجور وعمّت الفاحشة وضعفت الرجولة ونُسيت العقيدة. ولن يدوم نجاح لأمة لا تزال تستهين بالعفاف وتميل إلى المجون وتؤمن بالكفر، وحسبنا فرنسا مثلاً معروضاً لكل ذي عينين تبصران وعقل يفكر. فلنعتبر بغيرنا قبل أن نصير عِبرة للمعتبرين، ولتفهم حكوماتنا أنه لا حياة لنا إلا إذا أنشأنا من أبنائنا جيلاً مؤمناً متين الخلق، ظاهر الرجولة، مقبلاً على الجِدّ عارفاً بالواجب عليه. فإذا تركت الحكومات الصحفيين والكتّاب (أعني بعضهم) ينقض كل يوم حجراً من صرح الأخلاق ويوهي جانباً، وينشر في الناس حديث الشهوة البهيمية، ويستكثر من القراء بإثارة أحط الغرائز البشرية، لم ننشئ -والله- إلا جيلاً رَخواً ضعيفاً، هَمُّه شهوته ومطلبه لذته، قد ضاعت رجولته وذهبت قوته ... ثم نبني بهذا الجيل مجدنا ونقيم عزنا، ونأخذ بين الأمم مكاننا؟! إن المسألة أكبر من أن نلوك فيها هذه الألفاظ: «حرية الكتابة» و «حرية الفكر». إنها مسألة حياة أو موت! * * * وما في نشر الفاحشة صعوبة ولا يحتاج إلى عبقرية أو بلاغة ¬

_ (¬1) الحرب العالمية الثانية، ونُشرت هذه المقالة في السنة التالية لخروج العالَم منها (مجاهد).

أو أدب أو نبوغ، وحسب الرجل أن ينشر في كتاب ما يُطوى في الخلوة، أو أن يظهر في صورة ما يستر من العورة، حتى ينال منه ما يريد. فتجرأ الناس على الأدب واقتحموا حِماه من غير أن يُعدّوا لذلك عدته، من وقوف على اللغة وأساليبها، واطلاع على صرفها ونحوها، ونظر في رسائل بلغائها ودواوين شعرائها ... وفيمَ هذا العناء كله، وأدب الشهوة لا يحتاج إليه ولا يعتمد عليه؟ وما هي إلا سهرة في الخمّارة أو ليلة في المرقص، حتى تجمع أسبابَه كلها ومقوماته! طُبع في دمشق منذ سنة كتاب صغير، زاهي الغلاف ناعمُه، ملفوف بالورق الشفّاف الذي تُلَفّ به علب الشكلاطة في الأعراس، معقود عليه شريط أحمر (كالذي أوجب الفرنسيون -أولَ العهد باحتلالهم الشام- وضعه في خصور بعضهن ليُعرَفن به!) فيه كلام مطبوع على صفة الشعر، فيه أشطار طولها واحد إذا قستَها بالسنتيمترات، يشتمل على وصف ما يكون بين الفاسق القارح والبغيّ المتمرسة المتوقحة، وصفاً واقعياً لا خيال فيه، لأن صاحبه ليس بالأديب الواسع الخيال، بل هو مدلل غني عزيز على أبويه، وهو طالب في مدرسة، وقد قرأ كتابَه الطلابُ في مدارسهم والطالبات! وفي الكتاب -مع ذلك- تجديدٌ في بحور العَروض؛ يختلط فيه البحر البسيط بالبحر الأبيض المتوسط! وتجديدٌ في قواعد النحو، لأن الناس قد مَلّوا رفع الفاعل ونصب المفعول، ومضى عليهم ثلاثة آلاف سنة وهم مقيمون عليه، فلم يكن بُدٌّ

من هذا التجديد! ومع ذلك فقد قرأنا في الجرائد من نحو شهر أن صاحب هذا الكتاب قد دُعي إلى محطة الإذاعة في القاهرة ليذيع منها شعره، رغبة منهم بنشر الأدب السوري وتوثيقاً للتعاون الثقافي بين الأقطار العربية! وإذا نزلت بهذا الأسلوب دركة أخرى، وجعلت الموضوع كله في وصف بنات «المحل العمومي» وما يكون منهن وصفاً سافراً مفصَّلاً، جاء معك ديوان «قالت لي السمراء» لنزار قباني الذي صدر في دمشق منذ سنتين! وإذا زدت لغة هذا الديوان لعنة على لعنتها، وأسلوبَه عَمىً على عَماه، وموضوعَه فجوراً على فجوره، جاء معك ذلك الكتاب الذي أصدره في دمشق من نحو عشر سنين موظف عامي صغير في دائرة الصحة (¬1). وهاكم مثالاً آخر؛ هو الكتاب الذي صدر في دمشق منذ عهد قريب، واسمه «مختصر تاريخ الحضارة العربية». وقد وُضع لطلاب المدارس الثانوية، ونصف مباحثه في القرآن وعلومه، والحديث وفنونه، والفقه أصوله وفروعه، والكلام، والفِرَق الإسلامية وعقائدها ... والذي راع صدورُه العلماءَ لما فيه من التخليطات التي يُكفَّر بمثلها المؤمن ويُجَهَّل العالم، ويُضحَك منه على ذقن قائله. وألّف مفتي الجمهورية لجنة للنظر فيه، فنظرت فوجدت فيه من الغلطات ما لا ينتهي العجب من صدوره ممن ينتسب إلى العلم ولو من وراء خمسة جدود، فكان مثال مؤلفيه ¬

_ (¬1) ولن أسمّيه حتى لا أدلّ الناس عليه، فقد نُسي الكتاب ونُسي صاحبه بحمد الله.

فيه كالنحوي إذا ألف في علم التشريح والكيميائي إذا كتب في فن التمثيل! على أن النظر في الغلاف إلى اسم مؤلفَيه يُبطل هذا العجب، لأن أحدهما اسمه جورج كذا، والآخر اسمه من أسماء المسلمين، ولا أعرف عنه ولا عن زميله شيئاً، ولكن أبحاث الكتاب تدل على أن هذا المسلم أجهل بعلوم المسلمين من الخواجة جورج! إنها حرية الكتابة، فليتعلم طلابنا الأباطيلَ على أنها حقائق، والأوهام على أنها الإسلام، ويحفظوها ليؤدّوها يوم الامتحان، ما دامت هذه الحرية مَصونة وما دام الكلام في الحد منها عدواناً على الفكر المقدس! * * *

إلى الأستاذ الرافعي

إلى الأستاذ الرافعي نشرت في مجلة «الرسالة» سنة 1934 أَعِرْني -يا سيدي- هذا القلم السحري الذي تكتب به، لأصف لك الشعور الذي خامرني وإخواني هنا حين قرأنا فصلك الأخير: «قصة زواج»، فما أدري والله كيف أصفه لك. وقد والله قرأناه مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ، وقد والله قطعنا القراءة مرة وثانية وثالثة، لأننا لم نكن نملك نفوسنا أن تُفلت من قيود المادّة وتنفذ من بين السطور إلى عالم أسمى وأوسع، تطير في أرجائه لتلحق بهذه البلاغة العلوية التي تسمو بِتاليها وتسمو، حتى تدنو به من حدود العالم الكامل، عالم القرآن، وتريه تحقيق ما قاله فيها سعد: كأنها تنزيل من التنزيل! وقد والله خرجنا منها وكأننا لم نعرف عبد الملك أمير المؤمنين وسعيداً سيد التابعين إلا الساعة ... فإذا أنت قد نقلت المُلْكَ والجلال من ذاك إلى هذا، وإذا مقالة منك واحدة تغلب عبد الملك على جيوشه وأمواله وملكه، ثم تجرّده منها، ثم تعرضه جسداً هزيلاً، وتمنح سعيداً -على فقره وتواضعه- أسمى العظمة والهيبة والجلال. وأقسم لقد سمعت هذه القصة وقرأتها، وحفظتها وحدّثت

بها، وانحدرت بين أذني ورأسي ولساني عشرين مرة، ثم كأني لم أسمع بها إلا الآن، وكأني كنت فيها في ليل مظلم فطلعَت عليّ مقالتك شمساً ساطعة؛ عرفت معها كيف تكون حُصَيَّاتُ الليل لآلئَ النهار. فما بالك بمن لم يسمع باسم سعيد؟ وما بالك بمن لا يعرف في الدنيا أدباً إلا الأدب الذي يسقط علينا من باريس أو لندن، ولا يدري من البلاغة إلا أنها التي تلوح بين سطورها رؤوس البنادق وأفواه المدافع وأجنحة الطيارات؟ ومثل أولئك كثير؛ فقد عابوك بالغموض ورمَوَك بالإبهام، وادّعَوا أن كتبك لا تُفهَم ومعانيك لا تُسَاغ، فلما ظهر أن في الغرب شاعراً فحلاً مذهبه الغموض يتخذه ويدعو له ويدافع عنه، أصبح الغموض فناً من فنون الأدب تُتمَحَّل له الأسباب وتُتلمَّس له الدّوَاعي! فما الذي جعل سيئة الرافعي حسنة بول فاليري، إلا أن ذاك من فرنسا وهذا من مصر؟ أما إن هذا الإيمان بالغرب إذا انتقل من الشيوخ إلى الشبّان لم يكن إلا كفراً بالشرق وإلحاداً بالعقائد الشرقية وجهلاً باللغة الشرقية وخروجاً من الجلدة الشرقية! وإن عندنا في دمشق ندوة أرادت أن تَعيب مَجْمَعنا الأدبي (¬1)، فلم تجد أبلغ في العيب ¬

_ (¬1) يريد «ندوة المأمون» التي كان ميشيل عفلق من أعضائها وكانت على خصومة مع المجمع. انظر أخبار «المجمع الأدبي» في دمشق في الحلقة 66 من الذكريات (ج3 ص377 من الطبعة الجديدة)، وكان علي الطنطاوي عضواً فيه، ولمّا نشر هذه المقالة في مجلة «الرسالة» في تلك السنة ذيّلها باسمه مع إشارة إلى عضويته في المجمع، فتركتها كما هي لأنها صارت صفحة من سجل التاريخ (مجاهد).

من قولها: «إن المجمع ثقافته شرقية»! بل لقد ضبطتنا متلبسين بالجريمة وأشهدت علينا أننا كنا نحمل كتباً صفراء، وكان الذي نحمله «شرح المواقف» للسيد. ومثل هؤلاء لا يقرؤون الأدب العربي إلا إذا صيغ هذه الصياغة! * * * وعندنا أن هذه القصة بكل ما قرأنا -في العربية- من قصص ما يزال أكثر أصحابها يُنشئون أدباً فرنسياً أو إنكليزياً بحروف عربية. وعندنا أنك إذا استكثرت من هذا النوع غَطّيت على خيام أهل الجديد ودُورهم المَبنيَّة من الطين والقش بقصر شامخ من الصخر يَثبت ما ثبت الدهر. وعندنا أن مئة قصة من مثل هذه القصة تنشئ الأدب العربي إنشاء جديداً، وتخرج من الشيخ الهِمّ الفاني الذي ينتظر الموت شاباً قَويّاً بَهيّاً جاء يستأنف الحياة بحنكة الشيخوخة، وتجعل من الأدب العربي أدبين: أدب أربعة عشر قرناً، وأدب الرافعي! ولست والله أمدحك لأتملّقك وأتزلف إليك، وما بي -بحمد الله- رذيلة التملّق والتزلف. بل إني لأنقم منك أحياناً أنك تبالغ في الدقة وتُمعن في السَّبْك الفنّي لمعانيك وألفاظك حتى ما أكاد أفهم عنك. وإننا لنحفظ جُمَلك هذه الغامضةَ ونتنادر بها، على حين أنك تعرف من نفسك القدرة على أسهل الكلام وأوضحه وأن شعرك ليّن سائغ عذب كالماء. ولكني أمدحك -وما أجدني صنعت شيئاً- لأنك في نفسي أكبر من ذاك؛ إنك واحد من عشرة هم كُتّاب العربية في كل

عصورها، إنك لسان القرآن الناطق. فاقبل تحياتي وإكباري وشكري، وأسألك أن تَزيدنا من هذا النوع من الأدب، وأن تستكثر من هذه الفصول الاجتماعية، وأن تعلم أن مقالاتك في الزواج كان لها من الأثر ما لا يكون لقانون صارم من ورائه السجن والغرامة. علي الطنطاوي (عضو المجمع الأدبي بدمشق) * * *

أسلوب الرافعي

أسلوب الرافعي حديث أذيع سنة 1977 سألني سائل عن أسلوب الرافعي. وأسلوبُه على أربعة أنواع: (1) أسلوبه في كتاباته التي يتفلسف فيها ويكتب فيما يسميه «فلسفة الحب»، ككتابه «رسائل الأحزان» وكتابيه الآخرين: «أوراق الورد» و «السحاب الأحمر»، وهو أسلوب معقَّد مصطنَع ثقيل، وإن كان مملوءاً بالتَّشابيه النادرة، والاستعارات العجيبة، والصناعة البيانية. (2) أسلوبه في تآليفه العلمية، ككتابه «تاريخ آداب العرب»، ومنه الجزء الخاص بإعجاز القرآن، وهو أسلوب جَزْل متين صحيح يشبه أسلوب الجُرْجَاني في «دلائل الإعجاز». (3) أسلوبه في مقالات «الرسالة» التي جمعها في كتاب «وحي القلم»، وهو أسلوب ممتاز، فيه بيان وبلاغة وفيه -غالباً- وضوح. وخيره ما كان على صورة قصة، كقصة «أمراء للبيع» و «قصة زواج». (4) أسلوبه في النقد، وهو مملوء بالسخرية والتعالي

والهَمْز واللَّمْز، وإن كان نقده لطه حسين -في كتاب «تحت راية القرآن» - نقداً نظيفاً، أما نقده للعقّاد في كتاب «على السَّفّود» فهو هجاء بَذيء، لذلك لم يطبع اسمَه عليه. أما أسلوبه في شعره فسهل واضح حماسي جداً، فيه مبالغات ولكنها مقبولة، وهو أنجح شاعر في نَظْم الأناشيد؛ مثال ذلك نشيده «اسلمي يا مصر»، ونشيد «سعد»، ونشيده العظيم «ربَّنا إيّاكَ نَدعو رَبَّنا» الذي يقول فيه: إنّما الإسلامُ في الصحرا امْتَهَدْ ليَجيءَ كلُّ مسلم أسد أما الذي يُنتقَد عليه فهو اعتداده الشديد بنفسه وتعاليه على خصومه، وتعقيد عباراته وبذاءة ألفاظه أحياناً. لكنه في كتاباته كلها (إلاّ ما يسميه فلسفة الحب) يدافع عن الإسلام والعروبة ويقف لأعدائها بالمرصاد، وقد بقي أربعين سنة أو أكثر وهو الممثّل الأول للأدب الإسلامي والمدافع عنه. رحمه الله. * * *

طه حسين في دمشق

طه حسين في دمشق نشرت سنة 1955 دعا رئيس الجامعة السورية في الأسبوع الماضي إلى المحاضرة التي سيلقيها الدكتور طه حسين حول «بعض خصائص الشعر العربي القديم في سوريا». وكانت الدعوة ببطاقة من جنس بطاقات الأعراس دعاه فيها «عميد الأدب العربي». ورأى الناس هذا اللقب، ورأوا الأزمة المصطنَعة في توزيع البطاقات، وسمعوا طبول الدعاية الضخمة التي قُرعت لهذه المحاضرة، فحسبوا أنهم سيلقَون فيها ليلة العمر؛ فتسابقوا إليها وازدحموا عليها، وبيعت البطاقة بليرة، وظنّوا أن الدكتور سيُريهم السُّها (¬1) ويكشف لهم أميركا، فإذا هو يريهم القمر ويكشف لهم إسبانيا! وإذا هو يبدأ -على عادته دائماً- بهذا اللتّ والعَجْن (¬2)، ¬

_ (¬1) «السُّها» نجم صغير يجاور وُسطى البنات الثلاث في مجموعة «بنات نَعْش الكبرى» (وهي كَوكَبة الدب الأكبر في أقصى السماء الشمالية)، وكان العرب يمتحنون به أبصارهم، فمَن شاهده عَدُّوه قوي النظر. وفي أمثالهم: «أُريها السُّها وتريني القمر»، يُقال لمن يقصد بكلامه الأمر الدقيق الخفيّ فيُجَاب بالظاهر الجَليّ (مجاهد). (¬2) تعبير فصيح، ومنه اللات أخت العُزّى.

وأنه "جاء ليتحدث عن بعض خصائص الشعر العربي القديم في سوريا، وما كان يحبّ أن يتحدث عن بعض خصائص الشعر العربي القديم في سوريا، وإن كان يسعده أن يتحدث عن بعض خصائص الشعر العربي القديم في سوريا، لأنه ليس من السهل ولا من المَيسور الحديث عن بعض خصائص الشعر العربي القديم في سوريا، وأنه يجد المشقة والعسر في الحديث عن بعض خصائص الشعر العربي القديم في سوريا، ولكن هذه المشقة وهذا العسر يُحتمَلان في سبيل الحديث عن بعض خصائص الشعر العربي القديم في سوريا ... " إلخ. وبعد هذا الدهليز الملتوي المُلتَفّ الذي يمتد ميلاً أوصلنا إلى دار من ثلاث غرف، فقال كلاماً مُعاداً مكرَّراً موجوداً في كل كتاب من كتب الأدب المؤلَّفة لصفوف البكالوريا. ولحن لَحْنات في الإلقاء، وجاء -على عادته أيضاً- بأحكام قائمة على الوهم مَبنيّة على الباطل، فتوهّم أن عَدِيّ بن الرِّقاع لم يقل بيته المشهور: تُزْجِي أَغَنَّ كأنّ إبْرَةَ رَوْقِهِ (¬1) ... قَلَمٌ أصابَ من الدَّوَاةِ مِدادَها ارتجالاً، ولكن بعد طول الرويّة والبحث والحذف والتصحيح. ودليل طه أن طه نفسه لا يستطيع أن يأتي بمثل هذا التشبيه البارع ارتجالاً، فيجب أن يكون عَديّ، الشاعر المطبوع، مثل طه! ونسي طه أنه لا يستطيع أن يأتي بمثل ذلك ولو بحث ¬

_ (¬1) البيت من أبيات في وصف ظبية. تُزجي: أي تسوق وتدفع، والأَغَنّ: الذي في صوته غُنّة، يريد ولدها تدفعه، والرَّوْق القَرْن (مجاهد).

وفكر، وأن أسلوبه أسلوب علميٌّ خالٍ من كل مزايا الأساليب الأدبية الحافلة بالصور المليئة بالتشبيهات والاستعارات. وما دام قد ثبت أن عدياً لم يأتِ بهذا البيت الواحد إلا بعد الرَّوِيّة، فقد ثبت -قِياساً عليه- أن شعر عديّ كله شعر روية وبحث، وما دام شعر عديّ شعر روية وبحث فالشعر الشامي كله شعر بحث وروية وإعداد. وهكذا صدر الحكم الطاهَوي! تخيّلَ حَبّة فبنى منها قُبّة، والقبة ولدت قِباباً، والقباب شكّلت مدينة ... وما كانت المدينة قط إلا في هذا الخيال السقيم! وهذه مصيبة طه حسين، بدأت معه من يوم خلع عمامته الأزهرية وخلع معها عقله ودينه، فأظهر من «آثاره» ما تستر الهرّة أمثالَه من «آثارها»، حين نشر ذلك الخزي الذي سماه كتاب «الشعر الجاهلي»، ولا تزال معه إلى اليوم. وما لقيت أحداً ممن سمع المحاضرة إلا أحسّ أنه خُدع بهذه الدعاية (¬1)، وأن المحاضرة تافهة الموضوع فارغة من المعاني، وأن إلقاء المحاضر -على جودته- إلقاء نَمَطي بلهجة واحدة ونغمة مستمرة، لا يظهر عليه أثر الحياة، ولا تتبدل رنّته في استفهام ولا تقرير ولا مفاجأة ولا تعجّب، وأن محطاته كلها واحدة، تنتهي بشِدّة على الحرف منكَرة، وقلقلة في غير موضع قلقلة. ¬

_ (¬1) كلمة «دعاية» فصيحة مسموعة، وإن كان القياس دعاوة.

ولكن كل واحد من السامعين كان يخشى أن يصرّح بما أحس به -بعد هذه الدعاية المسرحية التي كانت للمحاضرة- فيُتّهَم بعدم الفهم! ولو كانت هذه المحاضرة كلمة ألقيت في حفلة شاي بمناسبة عارضة لكان للرجل بعض العذر، ولكنه موضوع أعدّه من أكثر من سبع سنين، وقد خبّرَ به صديقي الأستاذ سعيد الأفغاني سنة 1947 وقال له إنه يريد أن يحاضر به في دمشق، وخبّرني الأستاذ الأفغاني بهذا من سنين. ولا عجب أن يجيء هذا من طه، ولكن العجب من أهل الشام، يَدَعون الكَفِيّ القدير من أهل بلدهم، ويُجَنّون بكل قادم عليهم فيرفعونه إلى حيث لا تحمله أجنحته؛ فيوماً ترتَجّ البلد ويطير العقل منها لأن طه حسين جاء يحدّثها بما يعرفه كل مدرّس للأدب في الثانوي وكل طالب للأدب في الجامعة، ويوماً تُقيم مهرجاناً لأبي ماضي، ويوماً تبتدع عيداً قومياً لإحياء ذكرى هذا المأفون ابن سرجون! فمتى يعقل الشاميون؟! * * *

طه حسين في الميزان

طه حسين في الميزان حديث أذيع نحو سنة 1975 لما توفي الدكتور طه حسين (¬1) وردت عليّ أسئلة تطلب أن أبيّن القول فيه، وقد أجبت عنها في برنامجي في الرائي (التلفزيون) جواباً مفصَّلاً ألخصه الآن فيما يلي: الجواب يختلف باختلاف المقياس الذي نقيس به عظمة الرجال، والمقاييس تختلف باختلاف الغايات والمقاصد. فإن كنا نريد مَن يَؤُمّنا في الصلاة قدّمنا من العلماء الأقرأ، وإن طلبنا مَن يُفتينا اخترنا الأعلم والأفقَه، وإن كان المقصد خطبة تُلقى جئنا بالأفصح الأَبْيَن، وفي مباراة المصارعة أو العَدْو طلبنا الأقوى عضلاً والأخفّ حركة، وفي درس التدريب العسكري تُركت هذه المقاييس كلها وقُدِّم الأطول فمَن كان أقل منه طولاً ... وعند الله لا عبرة لشيء من هذا كله ولا وزن له، وإنما يَرْجَح ميزانُ من كان أكثر إيماناً وأصلح عملاً. فإذا كانت عظمة الأديب إنما تُقاس بذيوع الاسم وانتشار الصيت، فلا شك أن طه حسين أذْيَع أدباء العصر اسماً وأكثرهم ¬

_ (¬1) توفي سنة 1973 (مجاهد).

انتشارَ صيت. وإن كانت بما يشغل به الناسَ ويصرف أنظارهم بذلك إليه، كان طه حسين الأول في هذا المجال. وإن كانت باقتفاء أسلوبه ومحاولة المتأدّبين تقليده والنسج على نَوْله، فإن أسلوب طه حسين هو المُجَلّي في هذا الميدان. وإن كانت بآثاره (صالحة كانت أو طالحة، خيّرة أو شريرة) فطه حسين أشد الأدباء تأثيراً في الشباب وفي المجتمع. وهو قوي الشخصية، نافذ القول، وله مزايا أُخَر. وهو خير مَن شرح الشعر الجاهلي القديم شرحاً عَذْباً سهلاً حبّبه إلى الشباب ورغّبهم فيه. ولكن أسلوبه -لما تستلزمه طبيعة الإملاء- مليء بالتكرار والإسهاب الذي يصل أحياناً إلى حد الإملال والاستثقال. وليس لأسلوبه أناقة الزيّات، ولا خفّة المازني، ولا فكر العقاد، ولا حوار الحكيم، ولا واقعية أحمد أمين، ولا جمال أسلوب زكي مبارك. ولم ينجح في القصة، وقد كرّر محاولة تأليفها. ولا شك أن كتاب «الأيام» عمل أدبي جميل، ولكنها قصة حياته وليست قصة موضوعة، ولا تقاس بالقصص الأدبية العالمية، لأن الذي في «الأيام» وصف جميل لوقائع، وتلك صور من الحياة فيها اصطفاء وفيها جمع وتأليف، ولها عقدة وحل، وفيها مجهول يتطلّع إليه القارئ وتدور عليه القصة. * * * على أنّي ما سُئلت عن طه حسين من وجهة نظر الناقد أو المؤرّخ الأدبي، وإنما سألني عنه مَن هو من الشبّان المسلمين

لأتكلم عنه من الوجهة الإسلامية. أنا لا أقول إن طه حسين ملحد زنديق، وأرى أنه يؤمن بالله، لكنه إيمان بوجوده وأنه الرب، وهذا لا يكفي ما لم يكن معه إفراده بالعبادة وأداء ما أوجب الله على عباده. وطه حسين من آثاره أنه سَنَّ سُنّة إدخال البنات الجامعات واختلاطهن بالشبّان، وما نرى ونلمس من نتائج هذه السنّة. على أن الله لا يسألني يوم القيامة عن طه حسين ولا عن غيره، بل يسألني عن نفسي: ماذا أقرأ وماذا أنصح الشبّان أن يقرؤوا؟ ويعاقبني إن كتمت الحق عنهم أو غششتهم فصرفتهم عنه. فهل أنصح الشبان بقراءة كتب طه حسين، وإن دعاه الصاوي يوماً «عميد الأدب العربي» فمشت الكلمة في الناس؟ الجواب: لا. «لا» بالقول الصريح، و «لا» بالقلم العريض؛ لأن لطه حسين كتباً فيها بلاء كبير -ككتابه «مستقبل الثقافة» - وكتباً فيها تمجيد للوثنيات اليونانية، وكتباً فيها الكفر الصريح. ولقد كنت في مصر أدرس في دار العلوم سنة 1928 (وكنت مع الشهيد السعيد سيد قطب في سنة واحدة، ولم أكمل)، ويومئذ صدر كتابه «الشعر الجاهلي» الذي يكذّب القرآنَ صراحة، والذي أُلِّفت عشرات الكتب في ردّه وإبطاله، من أشهرها كتاب الغمراوي «النقد التحليلي» وكتاب السيد الخضر «نقض كتاب الشعر الجاهلي» و «تحت راية القرآن» للرافعي، واتسعت القضية حتى دخلت الندوة (البرلمان). وكتبه تفيض بالتناقض؛ يسوق الرأي ثم يعود فيأتي بضدّه.

وما كان طه يوماً من كتّاب الدعوة، ولا من أنصار الإسلام، ولا رضي عنه الإسلاميون أبداً، حتى كتابه الذي قلت عنه إنه من روائع الأدب (الأيام) فيه عبارة أخجل من الله أن أرويها وترتجف أعصابي خوفاً من هذه الجرأة على الله، ولا أدري إذا بُدِّلت هذه العبارة أو عُدِّلت في الطبعات الجديدة من الكتاب، وهي قوله: "إن الصبي (يعني نفسه) أضاع ما كان معه من القرآن كما أضاع نعله"! أستغفر الله. صحيح أن كتابه «مرآة الإسلام» (¬1) ليس فيها ما يؤخَذ عليه، ولكن النصيحة للمؤمنين والقول الحق في كتبه: أني لا أرى في قراءتها خيراً للشبان المتدينين، وأرى الابتعاد عنها لسلامة دينهم وضمان آخرتهم. * * * ¬

_ (¬1) الذي ألّفه لمّا مالت سوق النشر إلى جهة الإسلام. ومن هنا جاءت كتب مثل «حياة محمد» لهيكل و «محمد» للحكيم وعبقريات العقاد، ما هي إلا أن السوق مالت فمالوا معها.

صوت من وراء القرون

صوت من وراء القرون نشرت سنة 1955 [قال لَقيط بن يَعْمَر الإيادي ينذر قومَه غزو كسرى إياهم (وكان كاتباً في ديوانه)، وكأن هذه القصيدة صوت من وراء الغيب، قطع إلينا أكثر من ثلاثة عشر قرناً لينذرنا خطر إسرائيل. (¬1)] أبلِغْ إياداً وخَلِّلْ في سَراتِهُمُ ... إنّي أرى الرأيَ -إنْ لم أُعْصَ- قد نَصَعا يا لَهْفَ نفسيَ إنْ كانت أمورُكُمُ ¬

_ (¬1) في «الشعر والشعراء» لابن قُتيبة أن اسمه لَقيط بن مَعْمَر، وفي القصّة فيه بعض اختلاف لا يضرّ، فالعبرة ظاهرة فيها في كل حال. وفي «الأغاني» أن لقيطاً لمّا أرسل إلى قومه ينذرهم غزوَ كسرى جعل عنوان الكتاب: كتابٌ في الصّحيفةِ من لَقيطٍ ... إلى مَنْ بالجزيرةِ من إيادِ بأنّ الليثَ كِسْرى قد أتاكُمْ ... فلا يَشْغَلكُمُ سَوْقُ النِّقادِ والنِّقاد هي صغار الغنم (جمع نَقَد)؛ أراد: لا تشتغلوا بالمال عن الاستعداد للعدو. قال صاحب «الأغاني»: "وبعث كسرى جيشاً فيه أربعة آلاف حتى لقيهم وهم غافلون لم يلتفتوا إلى تحذير لقيط، فاقتتل الطرفان قتالاً شديداً، فظفر جيش كسرى بهم وهزمهم" (انظر للتفصيل: الأغاني 22/ 393 - 398) (مجاهد).

شَتّى وأُبرِمَ أمرُ النّاسِ فاجْتَمَعَا ألا تخافون قَوْماً -لا أبَا لَكُمُ- ... أَمْسَوا إليكم كأمثال الدَّبا سِرَعا (¬1) في كلّ يومٍ يَسُنُّون الحِرابَ لكم ... لا يَهْجَعونَ إذا ما غافلٌ هَجَعا ما لي أراكُمْ نِياماً في بُلَهْنيَة (¬2) ... وقد تَرَوْنَ شِهابَ الحَربِ قد سَطَعا فاقنوا جِيادَكُمُ (¬3) واحمُوا ذِمارَكُمُ ... واسْتَشْعروا الصبرَ لا تستشعروا الجَزَعا اُذْكوا العيونَ وَراء السَّرْحِ واحترِسوا ... حتى تُرى الخيلُ من تَعْدائها رُجُعا لا تُثمروا المالَ للأعداءِ إنّهُمُ ... إنْ يَظهروا يَحْتووكُمْ والتِّلادَ مَعَا (¬4) هيهاتَ لا مالَ مِنْ زَرْع ولا إبل ¬

_ (¬1) كأمثال الدَّبا: أي مثل الجَراد (مجاهد). (¬2) البلهنية: العيش اللين، كعيشنا الآن ونحن في حرب مع إسرائيل. (¬3) واقتنوا مع الجياد الدبابات والطيارات وكل أنواع السلاح الذي تستعد لكم به إسرائيل، وأقيموا معسكرات التدريب في كل مكان، حتى يكون كل رجل منكم جندياً. (¬4) كما وقع في فلسطين، والتِّلاد هو المال.

يُرجَى لغابِركم إنْ أنفُكُمْ جُدِعَا ماذا يَرُدّ عليكم عزَّ أوّلكم ... إنْ ضاعَ آخِرُكم أو ذَلّ واتَّضَعا؟ * * * يا قومُ لا تأمَنوا إن كنتمُ غُيُراً ... على نِسائكُمُ كسرى وما جَمَعا (¬1) هو الجَلاءُ (¬2) الذي تبقى مذلّتُهُ ... إنْ طار طائرُكُمْ يوماً وإنْ وَقَعا هو الفَناءُ الذي يَجْتَثُّ أصْلَكُمُ ... فمَنْ رأى مثلَ ذا رأياً ومَن سَمِعا؟ * * * قومُوا قِياماً على أَمْشاطِ أرْجُلِكُم ... ثمّ افْزَعوا، قد ينالُ الأمنَ مَنْ فَزِعَا وقَلِّدوا أمرَكُمْ -لله دَرُّكُمُ- ... رَحْبَ الذّراعِ بأمرِ الحَرْبِ مُضْطَلِعا لا مُتْرَفاً إنْ رَخَاءُ العَيشِ ساعَدَهُ ¬

_ (¬1) واذكروا نساء يافا وقبية ودير ياسين. (¬2) وترك البلاد لليهود، حتى يناموا في فُرُشنا وينعموا بخيرات أرضنا، ونهيم نحن على وجوهنا لاجئين في الخيام.

ولا إذا عَضَّ مَكروهٌ بِهِ خَشَعا لا يَطْعَمُ النّومَ إلاّ رَيْثَ يَبْعَثُهُ ... هَمٌّ، يكادُ حَشاهُ يقطعُ الضِّلَعا مُسَهَّدُ النومِ تَعنيه أمورُكمُ ... يَرومُ منها إلى الأعداء مُطَّلعا وليس يَشغَلُهُ مالٌ يُثَمِّرُهُ ... عنكم ولا وَلَدٌ يَبغي له الرِّفَعا * * * لقد بذلتُ لكم نُصحي بلا دَخَلٍ ... فاسْتَيقِظوا، إنّ خيرَ العِلْمِ ما نَفَعا هذا كتابي إليكُمْ والنَّذيرُ لكُمْ ... لِمَنْ رَأى رأيَهُ منكُمْ ومَنْ سَمِعا * * *

ثالث الحرمين

ثالث الحرمين نشرت سنة 1955 [هذه قطعة من قصيدة، ما قال ناظمها بيتاً من الشعر قط قبلَها ولا قاله بعدَها، أعدّها في ساعة واحدة، وألقاها على الملك سعود وغلام محمد حاكم الباكستان في الحفلة الكبرى في فندق بيج في كراتشي، ننشرها لنهزّ بها الشعراء، علّهم يقولون ما لم يستطع ناظمُها أن يقول: (¬1)] أجَلالةَ المَلكِ العظيم سُعودِ ... صقرَ الجزيرة وابنَ خير جُدودِ يا خادمَ الحَرَمينِ: تَترُكُ ثالثَ ... الحَرَمينِ يَعدو فيهِ كلبُ يَهودِ؟ هوَ حِصنُ حقٍّ غابَ عنهُ حُماتُهُ ... هُوَ قلعةٌ لكنْ بغَيرِ جُنودِ لا العطرُ والنَّدُّ المصفّى طِيبُهُ ... لكنَّ ريّاهُ شذى البارودِ ¬

_ (¬1) قدّم الشيخ لهذه الأبيات بهذه المقدمة حين نشرها في «باب البيان» في مجلة «المسلمون» في عدد شوال 1374، وقد أدرج بعض أبياتها في «الذكريات» وقال: "أنا لست بشاعر، ولكني أحياناً أرصف أبياتاً إن لم تكُن شعراً فإنها تعبّر عن شعور. وقد ارتجلتُ هذه المقطوعة في الحفلة الكبرى التي أُقيمَت لقضية فلسطين في كراتشي، وكان حاضرها الملك سعود والرئيس الباكستاني" (الذكريات 8/ 165) (مجاهد).

يُصْلَى المُصلّي النارَ في جَنَباتِهِ ... والمسلمونَ بِنَومةٍ وهُجودِ أينامُ مَنْ تُقري المدافعُ سَمعَهُ ... صوتاً يُزلزلُ قُنّة الجُلمودِ أينامُ مَنْ يمشي اللهيبُ بدارِهِ ... يَشوي حَميمُ لظاهُ رملَ البيدِ قد فَرَّ منه النّاسُ إلاّ فتيةً ... مِن كلّ قَرْم ثابتٍ صِنْديدِ قد أقبَلوا يُورون حرباً أدبرت ... عنها أراهِطُ عِدّةٍ وعَديدِ ولَقُوا بلَحْمِ الصّدْرِ أثقالَ العِدى ... صَبروا على نارٍ لَهُمْ وحديدِ لا حِصنَ يَحْميهِ وإنّ حُصونَهم ... في كل ثَغْرٍ جُثّةٌ لشَهيدِ إنّ النُّحوسَ تعاقبَتْ في أرضهم ... أسُعودُ بَدِّلْ نَحْسَهم بِسُعودِ أسُعودُ، باكستانُ أكبرُ دَوْلةٍ ... ولأَنْتَ أكبرُ سَيّدٍ وعَميدِ أيضيعُ بينَكما مصلّى أحمدٍ ... ويَعودُ هيكلَ معبدٍ ليهودِ؟ المرأةُ الشَّلاّءُ تحمي بيتَها ... أنُبيحُ بيتَ الخالقِ المعبودِ؟ * * *

إلى أخي أبي الحسن الندوي

كتاب مفتوح إلى أخي أبي الحسن النَّدْوي نشرت سنة 1958 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لما كنا في لَكْنَو طلبت من الأخ الأستاذ محمد الرابع (¬1) أن يختار لي قصيدة من عيون شعر إقبال يُفهمني معانيها، ثم أنشئها أنا بالعربية إنشاء، كما صنعت بقصيدة الشاعر الإنكليزي غراي (وهي مرثيته المشهورة (¬2)) من أكثر من عشرين سنة بمعونة الأستاذ علي حيدر الركابي، زميلنا في التدريس يومئذ في مدارس العراق. فاختار لي قصيدة «صوت الجبل» (بانك درا) وخبّرني أنها من أعظم قصائد إقبال الإسلامية، وتلا عليّ ترجمتَها الحرفية، فوجدت شيئاً عظيماً حقاً، ولكني عجزت عن فهمه فضلاً عن إساغته وهضمه وصياغته صياغة عربية، ورددت ذلك إلى اختلاف أساليب البلاغة باختلاف اللغات؛ فنحن لا نألف هذه ¬

_ (¬1) وهو رابع إخوة خمسة كلٌّ منهم اسمه محمد! (¬2) منشورة في كتاب «صور وخواطر» (مجاهد).

الأَخْيِلَة المعقَّدة وهذه المَجازات البعيدة التي يعرفها اللسان الفارسي، ولو أني استطعت أن أفهم (أو لو أن الأخ استطاع أن يفهّمني) المُراد منها لجئت بما يقابلها في العربية أو بما يقوله العربي لو أراد هذا المعنى. وعلمت في لكنو أن هذه القصيدة من النمط العالي الذي لا يصل إلى إدراكه إلا نفر من أفذاذ الأدباء سَمَّوك في أوائل من سَمَّوا منهم. فهل لك أن تنقل هذه القصيدة إلى العربية؟ وهل لك أن تختار من شعر إقبال ما يجعلنا نتذوق طعم أدبه ونلمّ بطريقته ونتجلّى أسباب عظمته؟ فإن كل ما قرأنا من كلامه مترجَماً إلى العربية لم يعرّفنا به ولم يدلّنا عليه. ولقد قرأت أكثر ما تُرجم لإقبال وما كُتب عن إقبال، وفهمت عنه شيئاً ما أدري أصحيح هو أم أنني أخطأت الفهم؛ فقد كان من أكبر مفاخر الشاعر العربي أن يرفع بشعره قبيلة خاملة، أما إقبال فمن مفاخره أنه بنى دولة فيها ثمانون مليون مسلم كان شعره من دعائمها، فما هو هذا الشعر وما مثاله؟ وكنت أعرف أن شاعر العرب يقول: والشّعْرُ ما لم يكُن ذكرى وعاطفةً ... أو حِكمةً فهو تَقطيعٌ وأَوْزانُ ففهمت أن العاطفة في شعر إقبال شيء آخر غير عاطفة الشاعر العربي، وأن الحكمة عنده ليست حكمة المثل السائر والبيت البليغ الذي يحمل ثمرة تجربة في الحياة، ولكنها حكمة من نوع آخر. فما هي هذه الأنواع الأُخَر؟ لقد اشتدّت بي الرغبة في الوقوف على شاعرية إقبال حتى

لقد فكرت -أقسم لك- بأن أتعلم الأوردية والفارسية لأدرك سرّها وأستجلي بنفسي جمالَها، ثم وجدت أن الشبابَ قد ولّى والذهنَ قد ونى. وهيهات أن تكون بعد الخمسين كما كنت أيام الشباب! فهل تضيف -يا أخي أبا الحسن- إلى مآثرك هذه المأثرة، فتفتح للعرب كُوّة على هذه الروضة المحجَّبة أو تحمل إليهم زهرات منها، فتحسن بذلك إلى العرب وإلى الأدب والإسلام؟ (¬1) والسلام عليك ورحمة الله من أخيك الذي يحبك، ولا يزال يذكر أبداً أيامَ لَكْنَو وما لقي فيها من نبلك وفضلك. علي الطنطاوي (دمشق) * * * ¬

_ (¬1) نُشِرَت هذه الرسالة المفتوحة في مجلة «المسلمون»، في عددها الثالث من أعداد السنة السادسة الذي صدر في شوال 1377 (أيار 1958)، وما مضت سنتان حتى أصدر أبو الحسن في عام 1960 كتابه «روائع إقبال» الذي ترجم فيه إلى العربية طائفة من صفوة شعر إقبال. وهو كتاب في نحو مئتين وعشرين صفحة، قال في مقدّمته التي قدَّمَ بها للطبعة الأولى إن رسالة علي الطنطاوي هذه كانت من دوافعه إلى إخراج الكتاب، رحم الله الاثنين (مجاهد).

ابن عابدين ورسائله

ابن عابدين ورسائله كُتبت نحو سنة 1959 ولم تُنشَر (¬1) ظهر في هذه القرون الثلاثة الأخيرة علماء لا يحصيهم العد، ألّفوا مؤلَّفات لا يحيط بها الحصر. ولم يكن في هؤلاء العلماء جميعاً مَن هو أرسخ قدماً في الفقه وأنفذ فيه فكراً من العالم الذي أقص عليكم اليوم قصة حياته، ولم يكن في هذه المؤلَّفات جميعاً ما هو أكثر ذيوعاً وأعمّ نفعاً من الكتب التي ألفها هذا العالم. ذلكم هو ابن عابدين، صاحب «الحاشية» المشهورة التي صارت عمدة المُفتين في المذهب الحنفي، والتي لا يضارعها ولا يقاربها -في تحقيق مسائلها وفي إقبال الناس عليها- كتاب من كتب المذهب. ¬

_ (¬1) لم يُنشَر هذا الفصل من قبل قط لأنه لم يكتمل، كما سترون فيما يأتي. ولو أنه كان ترجمة لعَلَم من الأعلام فحَسْب لضمَمتُه إلى كتاب «رجال من التاريخ» في طبعته الجديدة فيما سأضمّ من ترجمات إن شاء الله، لكني وجدته أقربَ إلى مادة هذا الكتاب لأنه بحث في رسائل ابن عابدين، والترجمة هذه كأنها مقدّمة للبحث لا تكاد تكون مستقلة بذاتها (مجاهد).

في دكان في البزورية تبدأ هذه القصة في دكان في البزورية (¬1) لرجل اسمه السيد عمر عابدين، لم يكن من العلماء، ولكنه كان من أسرة عُرف رجالها بالاشتغال بالعلم وبالإقبال على العبادة، وبأن لهم حظاً من شرف النسب. وكان من المشهور والمتعارَف عليه في دمشق أن يشتغل العلماء بالتجارة ويتعاطوا البيع والشراء، وقد أدركت أنا عدداً من هؤلاء العلماء لا تزال بقاياهم موجودة إلى اليوم، جمعوا العلم والمال وتجارة الدنيا وتجارة الآخرة، فاستغنوا بذلك عن أموال الحكام وترفّعوا به عن ذُلّ السؤال، وأمدّوا به الفقير وساعدوا المحتاج، فكان لهم عزّ الغِنى وعز العلم. وما انحرف عن الجادة مَن انحرف من العلماء إلا لأنهم احتاجوا إلى الرواتب ومدّوا أيديهم إلى أموال الأوقاف. وكان السيد عمر يتحسّر دائماً على ما فاته من الاشتغال بالعلم وعلى أنه لم يسلك في ذلك مسلك أسلافه، فلما وُلد له هذا الولد (الذي نتحدث عنه) حفّظه القرآن وهو صغير، فكان يتلو الآيات قبل أن يصحح نطق الكلمات، ونشّأه على التلاوة الدائمة، وأقامه معه في الدكان يعلمه البيع والشراء. ¬

_ (¬1) «البزورية» سوق من أسواق دمشق قديم جداً، كانت تُباع فيه الأبازير والتوابل والعطور وأنواع الحلويات من أيام ابن عساكر، وما تزال كذلك إلى اليوم. وهو خلف سوق مدحت باشا، بينه وبين سوق السلاح جنوبي الجامع الأموي (مجاهد).

ناصح مجهول وكان يوماً يقرأ القرآن -كما علمه أبوه- والناس عاكفون على بيعهم وشرائهم، فمرّ به رجل، فسمعه يلحن، فزجره وأنكر عليه، وقال له: إن القرآن ما أُنزل لنقرأه بلا فهم كما تنطق الببغاء، بل لتدبّر معانيه والعمل به. وأنت ترتكب في قراءتك هذه ذنبين: الأول أن هذا محل للتجارة، والناس لا يستمعون قراءتك فيرتكبون الإثم بسببك، والثاني: أن قراءتك ملحونة، وأنت لا تقيم لسانك بها ولا تتدبر معاني ما تقرأ. خير البرّ عاجله وكان صبياً يومئذ، لم يبلغ الحلم، ولكنه أدرك -مع ذلك- صحة ما قال الرجل، فاستأذن أباه وذهب من فوره فسأل عن أقرأ أهل البلد، فدلّوه على الشيخ سعيد الحموي، وكان شيخ قرّاء الشام في تلك الأيام، فذهب إليه في حجرته في المسجد وطلب منه أن يعلمه أحكام القرآن بالتجويد. ولازمه مدة حفظ فيها الشاطبية والجَزْرية والميدانية، وقرأها عليه قراءة إتقان وإمعان، فجمع القراءات بطرقها وأوجهها. بداية طلب العلم ولما رأى ذلك أبوه رغّبه في العلم وأشار عليه بموالاة الطلب. وكان قد وجد لذة العلم وأحبّ الشيخ، فقرأ عليه النحو والصرف والفقه الشافعي. والنحو هو ثمرة علوم العربية كلها، وكلها مقدّمات له

وأسباب. والفقه ثمرة علوم الدين كلها، وكلها مقدمات له وأسباب؛ لذلك كان طالب العلم يبدأ بهما ويعكف عليهما، ولا ينتقل إلى غيرهما إلا إذا أتقنهما، لأن من أسلوب التعليم يومئذ أن لا يُرهَق الطالب بالعلوم الكثيرة دفعة واحدة (كما يُصنَع اليوم) بل يُكلَّف بالعلم أو العِلْمين، لا يزيد عليهما حتى يفرغ منهما. انتقاله إلى المذهب الحنفي واستنفد علم الشيخ الحموي كله، وطلب المزيد، فدُلّ على العالم الكبير الشيخ محمد شاكر السالمي، الشهير بالعقّاد، وكان فقيهاً حنفياً عالي الطبقة، فقرأ عليه التفسير والحديث وعلم المعقول، وألزمه الانتقال إلى المذهب الحنفي، كما انتقل إليه أبو جعفر الطحاوي من قبل، ونبغ فيه كما نبغ الطحاوي. (¬1) * * * ¬

_ (¬1) انتهت هنا القطعة التي وجدتها بخط جدي رحمه الله، وقد ترددت لبرهة: أأضم هذا الفصل إلى الكتاب أم أدعه لعدم تمامه، ثم آثرت أن أضمه إلى الكتاب ومعه الفصل الذي يليه في رسائل ابن عابدين. وقد كان جدي عظيمَ التوقير لابن عابدين يبالغ في الثناء عليه وعلى كتبه. والظاهر أنه عزم على أن يتوسع في الكتابة عنه ذات يوم، فقد شرع في كتابة هذا الفصل في ترجمته (ولم يتمَّه)، وسَوّدَ مادة فصل آخر في إحصاء رسائله والتعليق عليها (ولم يتمّه أيضاً، وهو الذي سيأتي بعد هذا الفصل). وكنتُ -إذا رتبت له أوراقه- أجد ظرفاً عليه عنوان «ابن عابدين ورسائله»، من تلك الظروف الكبيرة التي كان يحفظ فيها مشروعات كتابات مؤجَّلة أو كتب تحت الإعداد. وفي هذا الظرف وجدت الأوراق التي جاءت منها هذه المقالة. =

رسائل ابن عابدين «الحاشية» هي عمدة المُفتين في المذهب الحنفي من أكثر من مئة سنة، لا يضارعها في تحقيق مسائلها وفي إقبال الناس عليها كتابٌ من كتب الفقهاء المتأخرين في المذهب، لكنها - على جلالة قدرها- تعليقات تقيَّدَ فيها واضعُها بالنص الذي ¬

_ = فأمّا تمام ترجمة ابن عابدين -بإيجاز- فهي أنه قد لزم شيخَه العقاد حتى وفاته سنة 1222هـ، ثم قرأ على الشيخ سعيد الحلبي علاّمة عصره، وكذلك قرأ على طائفة من كبار علماء زمانه كالشيخ محمد الكزبري والشيخ أحمد العطّار والشيخ صالح الزجّاج، وكثيرين غيرهم. وكان حسن السريرة دائم البِشْر والابتسام كثير التواضع، يُمضي أكثر ليله في التأليف ولا ينام إلا قليلاً. وكان كسبه من تجارة له مع شريك يقوم بالعمل من غير أن يزاول هو التجارة بنفسه. وأُغرم بالكتب حتى جمع منها مكتبة عظيمة، وكتب بخطه الكثير، وكان أبوه يشتري له من الكتب ما شاء ويقول: "اشترِ وعليّ الثمن، فإنك أحيَيتَ ما أمتُّ من سيرة سَلَفي". ووهبه مكتبة كبيرة ورثها عن آبائه. وترجم له الشيخ محمد جميل الشطي في «أعيان دمشق في القرن الثالث عشر» فقال: "كان رحمه الله مُهاباً مُطاعاً لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد بلغ من الشهرة ما لا مزيد عليه، وكان مع ذلك حسن الصحبة حريصاً على إفادة الناس. وكان شغله من الدنيا التعلّم والتعليم والتفهّم والتفهيم، مقسِّماً وقتَه على أنواع الخير، من طاعة وعبادة وتدريس وتأليف وإفتاء. وكانت تَرِدُ إليه الأسئلة من غالب البلاد فيجيب عنها، ولم يزل كذلك حتى توفي -رحمه الله- في الحادي والعشرين من ربيع الثاني سنة 1252، وسنّه يومئذ أربع وخمسون سنة، ودُفن في مقبرة الباب الصغير" (مجاهد).

يعلّق عليه (¬1). أما عظمة ابن عابدين وفقهه وسعة روايته وكثرة اطلاعه على كتب الحنفية فتتجلى في رسائله. إنّ كل رسالة منها بحث كامل يصحّ أن يكون أساس أطروحة لنيل الدكتوراة، لا بل هي أعظم من ذلك بلا جدال. (¬2) ¬

_ (¬1) ذلك لأن الحاشية إنما هي شرح مطوَّل لكتاب «الدُّر المُختار»، وهذا الكتاب نفسه شرح لمَتْن سَبَقه. وهذه كانت عادة المتأخرين من المؤلفين، يبدأ أحدهم بالمَتْن، ثم يأتي من يشرحه ثم من يُحَشّي على الشرح، وهكذا في سلسلة طويلة نرى آثارها في مئات من كتب الفقه في المذاهب الأربعة جميعاً. والكتب الثلاثة التي صنعت «الحاشية» جاءت كلها من القرون المتأخرة كما هو متوقَّع: المتن الأصلي «تنوير الأبصار وجامع البحار» للشيخ شمس الدين التَّمرتاشي الغَزّي المتوفى سنة 1004هـ، وشرحه «الدّر المُختار شرح تَنوير الأبصار» للعلاء الحَصكَفي المتوفى سنة 1088، ثم «ردّ المُحتار على الدر المختار»، وهو الكتاب الذي اشتهر باسم حاشية ابن عابدين، صاحبنا هذا المتوفى سنة 1252. وفي «الأعلام» للزركلي أن لصاحب المتن الأصلي شرحاً مخطوطاً على متنه لم يُطبَع اسمه «منح الغفّار شرح تنوير الأبصار»، ووجدت في «هديّة العارفين» للبغدادي أن للشارح (العلاء الحَصكَفي) شرحاً آخر أوسع اسمه «خزائن الأسرار وبدائع الأفكار في شرح تنوير الأبصار»، ولم أقع له على خبر. أخيراً ينبغي أن نقول إن ابن عابدين قد توفي قبل أن يتم حاشيته، فأتمّها ابنه الشيخ محمد علاء الدين (ت 1306) في مجلدين، وسمّى التتمة «قرة عيون الأخيار لتكملة رد المحتار» (مجاهد). (¬2) وصفها في «الذكريات» فقال: "رسائل ابن عابدين المشهورة أُعيدَ طبعها الآن ووُجدت في الأسواق بعد أن كانت نادرة يكاد يتعذّر وجودها، وكل رسالة منها تصلح أطروحة لنيل شهادة الدكتوراة" (8/ 28 من الطبعة الجديدة) (مجاهد).

فهو لا يبحث موضوعاً إلا حشد له من القول ما لا يجد الباحث مزيداً عليه، ولا يقتصر على نصوص المذهب، بل ينظر في أقوال فقهاء المذاهب الثلاثة الأخرى ويوازن بينها ثم يرجّح، وربما عرض رأياً له صادراً عن فقه عميق أصيل لا فقه رواية ونقل. وهو مناظر قوي، يعمد إلى الشدّة على الخصم ويضرب وجهه بالحجج العلمية وبالشواهد الشعرية، يظهر ذلك جلياً في عدد من رسائله. وأعظم هذه الرسائل -بلا شك- هي «شرح رسالة عُقود رَسْم المفتي»، ولا أظن أن حنفياً يستطيع أن يدّعي أنه قادر على الإفتاء من غير أن يعرف المسائل التي اشتملت عليها. وعلم «رسم المفتي» هو الذي يعلّم المفتي كيف يميّز القول الأصحّ والقول الصحيح عند ازدحام الأقوال. ثم رسالته النفيسة في العُرف، وهي «نشر العَرْف في بناء بعض الأحكام على العُرْف». وهذه طائفة من رسائله: * * * الإبانة عن أخذ الأجرة على الحضانة تكلم فيها عن الحضانة: هل هي حق الحاضنة أم هي حق الولد؟ وانتهى إلى أن لكل منهما حقاً فيها. وعن الأجرة ومن يستحقها، وعن الأجرة في حال إعسار الأب وتبرّع غير الأم بالحضانة مجاناً، ونقل في ذلك نقولاً كثيرة من كتب الحنفية

والشافعية. وبيّنَ أنه إن كان المتبرع بها أجنبياً عن الولد كُلِّف بدفع الأجرة التي يتبرع بها إلى الأم وبقي الولد عندها، وإن كان غيرَ أجنبي عنه والأب مُعسر خُيِّرت بين إمساكه مجاناً (أي بلا أجرة) أو دفعه إلى المتبرع بها. والرسالة في ثماني عشرة صفحة. * * * منهل الواردين من بحار الفَيض على ذخر المتأهّلين في مسائل الحيض هذه الرسالة شرح لرسالة «ذخر المتأهلين» للشيخ البركوي المتوفى سنة 981هـ، وهي رسالة صغيرة الحجم كثيرة النفع، جمعت مسائل الحيض كلها، واشتملت على مقدمة وفصول. المقدمة في تفسير الألفاظ المستعمَلة في هذا الباب من أبواب الفقه وفي أصوله وقواعده الكلية. الفصل الأول في ابتداء الحيض وانتهائه. الفصل الثاني في أحكام المُبتدَأة (¬1) والمعتادة. الفصل الثالث في الانقطاع. الفصل الرابع في أحكام الاستمرار. الفصل الأخير في أحكام الدماء الثلاثة المعقود عليها الباب، وهي الحيض والاستحاضة والنِّفاس. والرسالة في تسع وستين صفحة، مطبوعة في دمشق سنة 1302. * * * ¬

_ (¬1) التي بدأ بها الحيض ولم تكن حاضت من قبل (مجاهد).

رسالة رفع الانتقاض ودفع الاعتراض على قولهم: الأَيْمان مَبنيّة على الألفاظ لا على الأغراض تكلم فيها على الأَيْمان وهل تُبنى على الألفاظ أو على العُرف. فإن اعتبرنا الألفاظ، وغضب رجل فحلف ألاّ يشتري من فلان بقرش ثم اشترى بمئة أو بألف لا يحنث، وإن اعتبرنا غرض الحالف وعُرف الناس يحنث. وشرح صعوبة المسألة، ونقل -على عادته- نُقولاً نفيسة نادرة من كتب المذهب، ونبّه إلى الغلط في بعضها. وبيّن أن الحالف على شيء لا بد أن يكون له غرض من الحلف، وهذا الغرض إما أن يكون الفعل نفسه (مثل: لا أدخل هذه الدار) وإما أن يكون الفعل مقروناً بشيء آخر (مثل: لا أشتري الشيء الفلاني بعشرة)، فإن غرضه أنه لا يشتري بالعشرة ولا بما فوقها. وإما أن يكون أمراً خارجاً عن الفعل المسمّى ولا يكون المسمى مراداً أصلاً (مثل: لا أضع قدمي في هذه الدار)، فإن غرضه أنه لا يدخل، فلو وضع قدمه ولم يدخل لم يحنث. وشرح هذه الأحوال ثم قال: "والحاصل أن الأوجه أربعة: إما أن توجد حقيقة الفعل ويفوت الغرض، وإما أن توجد صورة الفعل والغرض، وإما أن يوجد الغرض فقط ويفوت الفعل، وإما أن لا يوجد منهما شيء. والحنث إنما يتحقق في الوجه الأول فقط دون الثلاثة الباقية". وضرب لذلك أمثلة، ثم استطرد إلى الكلام في الحقيقة والمجاز فجاء بشيء نفيس. وكانت خلاصة بحثه: "إن الذي يُبنى

عليه الحكم في الأيمان هو الألفاظ المذكورة في كلام الحالف باعتبار دلالتها على معانيها الحقيقية أو المجازية التي قرينتها العرف، وتسمى «الحقيقة الاصطلاحية»، وهي مقدَّمة على الحقيقة اللغوية. أما الأغراض الخارجة على الألفاظ فلا تُبنى عليها الأحكام في الأيمان". والرسالة في تسع عشرة صفحة. * * * تنبيه ذوي الأفهام على أحكام التبليغ خلف الإمام وفيها دليل مشروعيته، وهو حديث جابر في صلاته صلى الله عليه وسلم بالناس قاعداً في مرضه وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره، وسرد طرق الحديث وجاء بنقول وأحكام فقهيّة واستنباطات قيّمة، وبيّنَ "ما أحدثه جَهَلة المُبَلّغين من منكرات ابتدعوها ومُحدَثات اخترعوها، لكثرة جهلهم وقلّة عقلهم ... "، وبيّن هذه المُبتدَعات وأن في بعضها كفراً وفي بعضها فساد الصلاة، ونقل عن الشيخ عبد الغني النابلسي (الذي كان علاّمة عصره) قوله "إن الأذان والإقامة والتسبيحات خلال الصلاة والأدعية جميعها والخطبة وقراءة القرآن وذكر الله تعالى، كل ذلك لا يجوز فيه التمطيط والتغيير في الحروف والكلمات والزيادة في المد، فإن التغيير والتمطيط حرام، وتحسين الصوت مستحَب، ولا يُرتكَب الحرام لأجل المستحَب". والرسالة في سبع عشرة صفحة. * * *

إعلام الأعلام بأحكام الإقرار العام قال في أولها: "إن مسألة الإقرار العام قد حارت فيها الأفهام، لا سيّما إقرار الوارث بقبضه جميعَ ما يخصّه من التركة. وكثر فيها النزاع، حتى إن أفضل المتأخرين الشيخ حسن الشُّرُنْبُلالي ألّف فيها رسالة، جمع فيها كثيراً من نقول المذهب، ولم يَخلُ ما جاء به عن تأمل ونظر. فأردت أن أذكر بعض نقوله وأضم إليها بعض النقول، وجمعت ذلك في هذه الرسالة ورتّبتها على مقدمة وستة فصول". والرسالة في ست وعشرين صفحة، مطبوعة في دمشق سنة 1301 بتصحيح الشيخ أبي الخير عابدين. * * * العقود الدُّريّة في قول الواقف على الفريضة الشرعية قال في سبب تأليفها: "إن هذه المسألة قد اختلفت فيها فتاوى المفتين من العلماء المتأخرين، حيث لم يَرِد فيها نص عن الأئمة المتقدمين، وقد ألف فيها رسالةً شيخُ الإسلام، العلاّمة يحيى بن المنقار المفتي بدمشق الشام، وافَقَه فيها كثير من أهل عصره وصوّبوا ما ابتكره بثاقب فكره، وخالفه فيها آخرون، والكل أئمة مُعتبَرون، فها أنذا أذكر لك جملة من كلام الفريقين، وأضم إليها ما تقرّ به العين". والذي قرره ابن المنقار أن قوله "على الفريضة الشرعية" يفيد التسوية بين الذكر والأنثى في القسمة، والذين ردوا عليه قالوا إنه يفيد أن للذكر مثل حظ الأنثيَين. وبعد أن أفاض ابن عابدين في

الكلام على أدلة الفريقين قال: "والحاصل أنه ليس المراد بالفريضة الشرعية فريضة الميراث ولا التسوية، ولكن تُفَسَّر بالعُرف". وفي الرسالة فوائد كثيرة جاءت استطراداً، منها أن قضاء القاضي يُنقَض إذا كان حكماً لا دليل عليه، وأن المرأة تصلح شاهدة في الأوقاف كما تصلح ناظرة، وأن قولهم «نَصّ الواقف كنص الشارع» في الفهم والدلالة لا في وجوب العمل به ... والرسالة في إحدى وعشرين صفحة. * * * الفوائد العجيبة في إعراب الكلمات الغريبة قال في أولها: "وقد عنّ لي الكلام على بعض ألفاظ شاع استعمالها بين العلماء، وفي إعرابها أو معناها إشكال أو خفاء". تكلم فيها على قولهم «هَلُمّ جَرّاً»، وقولهم «من ثَمّ»، و «اللهمَّ إلاّ أنْ يكون كذا»، و «لا بد من كذا»، و «هو أكثر من أن يحصى وزيد أعقل من أن يكذب»، و «سواء كان كذا أم كذا»، و «كائناً ما كان»، و «بعد التي واللُّتَيّا»، و «هذا الشيء لا مَحالة كذا»، و «لا أفعله البتّة»، و «ناهيك بكذا»، وألفاظ أُخَر. والرسالة مطبوعة في دمشق سنة 1301 بتصحيح أبي الخير عابدين، وهي في ثلاث وعشرين صفحة، فيّاضة بالفوائد النحوية واللغوية والنُّقول النفيسة، وإن كان فيها كثير من تكلّف وجوه الإعراب والتمحّل للمعاني. * * *

شفاء العليل وبل الغليل في حكم الوصية بالختمات والتهاليل كتب المؤلف على نسخته التي هي بخطه: "بيان عدد الكتب التي جمعت منها هذه الرسالة، سوى التي راجعتها ولم أنقل عنها، أسردها هنا، وإن كنت عزوت كل مسألة إلى محلها ليزداد الواقف عليها ثقة بذكر مجموعها، وقد أنافت على خمسين كتاباً. وهي: شرح البخاري للعَيني، شرح مَجْمَع الآثار، شرح الكنز للزَّيلعي، شرحه لابن نُجَيم، شرحه للمقدسي، معراج الدِّراية، فتح القدير، الدر المختار ... "، إلخ. * * * رفع الاشتباه عن عبارة الأشباه وسبب تأليفها أن شيخه، الشيخ شاكر، سُئل في شعبان سنة 1218 عن عبارة ابن نُجَيم في كتاب الأشباه والنظائر، في آخر باب المرتد: «ولو قال قائل إن الأنبياء لم يَعصوا حال النبوة ولا قبلها كفر لأنه رد النصوص». فأمره بتأليف هذه الرسالة. بحث فيها في عصمة الأنبياء، وبيّنَ أنهم معصومون قبل النبوة من الكفر بالإجماع، وغيرُ الكفر من الذنوب موضع خلاف بين العلماء. فنقل عن أكثر الأشاعرة وطائفة من المعتزلة أنه لا يمتنع عقلاً على الأنبياء قبل البعثة أن تقع منهم معصية، كبيرة كانت أو صغيرة، وذهب الرّوافض وأكثر المعتزلة إلى أنه يمتنع عقلاً. وهم معصومون بعد النبوة من الكفر، ومن تعمّد الكذب في الأحكام، ومن تعمّد الكبائر والصغائر الدالة على الخسة، وأما

الصغائر التي لا تدل على الخسة فتجوز منهم عمداً وسهواً. والرسالة في اثنتي عشرة صفحة. * * * رفع التردد في عقد الأصابع عند التشهد حقق فيها المسألة، وبيّنَ كيفية عَقْدها عند التشهد، وجاء بنقول كثيرة وجاء بأدلتها من الحديث، وبحث في رجال هذه الأحاديث وطرقها. وكان الفراغ من تأليف هذه الرسالة (وهي في ست عشرة صفحة) في رجب سنة 1236، وقد اطلع بعد ذلك على رسالة في موضوعها للشيخ مُلاّ علي القاري فألحقها بها في ربيع الأول سنة 1249. * * * الأقوال الواضحة الجليّة في تحرير مسألة نقض القسمة ومسألة الدرجة الجعلية وهي في تحرير المسألة التي ذكرها الإمام السبكي في الأشباه، في القاعدة التاسعة (إعمال الكلام أولى من إهماله). وهي متعلقة بقسمة ريع الوقف، بَيّن فيها المسألة وجواب السبكي، ومخالفته له ووجه ما ذهب إليه. وهي في إحدى وعشرين صفحة، طُبعت في دمشق سنة 1301. * * *

أجوبة محقَّقة عن أسئلة مفرَّقة أجاب فيها على أسئلة في تفسير عبارات مُشكلة في شروط بعض الواقفين، وجاء -على عادته- بنُقول نفيسة، من مذهبه ومن مذهب الشافعية. وعلى سؤال ورد إليه في ذي الحجة سنة 1241 عن ذمي تشاجر مع مسلم، فقال له المسلم: أنت كافر. قال الذمي: لست بكافر. قال له المسلم: قل آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر. فقال النصراني: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. قال المسلم: الرسل كثيرون. قال النصراني: كلهم. وذلك بحضور جماعة من المسلمين. وهم يسألون: هل يُحكَم بإسلامه أم لا؟ فأجاب بأنه لا يحكم بإسلامه، وبيّن الوجه في هذه الفتوى فقال: "على أنه لو أتى بالشهادتين صراحة لا يُحكَم بإسلامه ما لم يتبرأ من دينه، كما صرّح به الجمع الكثير من أئمتنا الحنفية". وعلى سؤال في الحساب موضوعه تقسيم تركة فيها وصية. وعلى سؤال في التمليك، وهل يحتاج إلى التسليم أم لا، فأجاب أن "التمليك لفظ مشترك بين ما يكون بعِوَض وما يكون بدونه، وأن كلاًّ منهما قد يكون تمليك عين أو تمليك منفعة. فالأول كالبيع، فإنه تمليك المال بعِوَض، والإجارة، فإنها تمليك المنفعة بعوض، والنكاح، فإنه تمليك البضع بعوض، لكنه تمليك حكماً. والثاني كالهبة، فإنه تمليك العين حالاً بلا عِوَض، ومثلها الصدقة، وكالوصية فإنها تمليك العين بعد الموت

بلا عوض، وكذا العاريّة، فإنها تمليك المنفعة بلا عوض. وهذه العقود مختلفة الأحكام ... "، وأفاض في شرح أحكامها. والرسالة في إحدى وعشرين صفحة، وفيها بحث جيد عن طلاق الثلاث بلفظ واحد (¬1). * * * ¬

_ (¬1) هذه هي آخر الرسائل التي ذكرها جدي فيما وجدت من أوراق، وقد كان يعتزم -فيما ظهر لي- إتمام الكتابة في وصف هذه الرسائل وتنقيح القسم الذي كتبه، لأن ما كُتب كُتب بصيغة المُسَوَّدة، ومن أجل ذلك كدت أصرف النظر عن نشر هذا الفصل كله أصلاً، ثم إني آثرت نشره كما هو على تركه واطّراحه. ومن شاء أن يطّلع على سائر الرسائل فهي مطبوعة متداوَلة (كما أشار الشيخ في النص الذي نقلتُه من «الذكريات» وأثبتُّه في صدر هذا الفصل)، وأهم ما بقي منها مما لم يُذكر هنا: «تنبيه الغافل الوَسْنان على أحكام هلال رمضان»، و «تحرير النقول في النفقة على الفروع والأصول»، و «تحرير العبارة فيمَن هو أَوْلى بالإجارة»، و «تنبيه الولاة على أحكام شاتم خير الأنام أو أحد أصحابه الكرام». ولابن عابدين عدد كبير من المؤلَّفات طُبع بعضٌ منها وبعضٌ ما يزال مخطوطاً، وقسم آخر فُقِد، فممّا فُقِدَ من كتاباته «ذيل سلك الدُّرَر للمُرادي»، و «حاشية على تفسير القاضي البيضاوي»، و «حاشية كبرى على إفاضة الأنوار شرح كتاب المنار»، و «نظم كنز الدقائق». رحمه الله (مجاهد).

مصادر الثقافة وتصنيف العلوم

مصادر الثقافة وتصنيف العلوم (¬1) للثقافة أو العلوم مصدران: كسبي وتوقيفي. وعند الكلام على العلم المكتسَب لا بدّ من تصوّر العالِم الذي هو الإنسان، والمعلوم الذي هو الكون، وطريق العلم. ومصادر العلم المكتسَب وطرقُه هي الحواسّ والخيال والعقل. فالحواسّ هي منافذ النفس التي تطلّ منها على العالَم الخارجي، والحسّ يُفيد العلم حتماً، فإذا مارى الإنسان فيما يسمع خبره فلا يستطيع أن يماري فيما يراه أو يلمسه. غير أن الحواسّ لا تُطلِعنا على كل شيء في الوجود؛ أنا لا أدرك ببصري نملة تمشي على بعد أميال ولا أسمع لها صوتاً، مع أن لها وجوداً وصوتاً. والحواسّ ربما تُخطئ، كأن ترى بعينك القلم المستقيم الموضوع في الماء منكسراً أو ترى السراب ماء. والحواسّ ليست كاملة، بدليل أنهم اكتشفوا حواسّ غير الخمس المعروفة، كحاسّة ¬

_ (¬1) أخذت هذه المقالة من الحلقة 188 من «الذكريات» (بتصرف قليل)، وأضفتها إلى هذا الكتاب لمناسبتها له، ولأن من القراء من يهتم بموضوع هذا الكتاب خاصة، وقد لا يحب أن يقرأ الذكريات كلها فيفوته الانتفاع بها (مجاهد).

البرودة والحرارة، وحسّ التوازن، والحسّ الداخلي. فالحواسّ إذن تُفيد العلم ولكنها لا تُطلعنا على كل الموجودات، فلا يحقّ لنا أن نُنكِر أشياء (كالجنّ أو الملائكة مثلاً) لمجرَّد أننا لا نراها ولا نحسّ بها. ثم يأتي بعد الحواسّ الخيال. والخيال هو القوة التي تستحضر بها النفس المُحَسّات (أي المحسوسات) عند غيابها، فأنا أستطيع أن أتخيّل داري في دمشق وأنا في مكة، أي أنني أرى بعين الخيال كل ما كنت أراه فيها بعين الحقيقة. والخيال أحد طرق العلم، وإن لم يكُن يُفيد العلم وحده، فالرياضي يتخيّل نتيجة المعادلة قبل حلّها، والشاعر يتخيّل القصيدة قبل أن يُتمّ نَظْمها، والعالِم يتخيّل ثمرة البحث قبل أن يكمله. غير أن الخيال له حدود، فنحن لا نستطيع أن نتخيّل إلاّ ما أدركناه أو أدركنا أجزاءه من طريق الحواسّ. وإن أبعد الخيال (كتخيّل رائحة حمراء مثلاً، أو ما يقوله المذيع كل يوم: تسمعون تلاوة عطرة من سورة كذا ...) هذا كله مأخوذ من الواقع، ولكننا وضعنا الرائحة حيث يجب وضع اللون والصوت. لذلك يستحيل أن نتخيّل شيئاً من أمور الآخرة على حقيقته، وهذا مصداق قول ابن عباس: «ما في الدنيا ممّا في الآخرة إلاّ الأسماء». ثم يأتي العقل. والعقل هو القوة المميّزة في الإنسان وهو طريق العلم الصحيح، غير أن العقل لا يستقلّ بإدراك الموجودات كلها لأنه مقيَّد بالزمان والمكان فلا يدرك ما وراء المادّة، ولأن عمله لا يزيد على ترتيب وتحقيق المعلومات التي جاءته من طريق

الحواسّ، ولأنه محدود لا يتصوّر غيرَ المحدود (أي اللانهاية)؛ ولذلك يبقى الإنسان على جهل بما وراء المادة حتى يمنحه الله طريقاً آخر للعلم هو «المصدر التوقيفي»، أي طريق الوحي. لا الوحي الذي يفهمه الكتّاب والشعراء ويعنون به الإلهام النفسي، بل الوحي الذي هو نزول الملَك بمعلومات ليست من عند العقل. هذا المصدر هو المصدر الأهمّ، لا في رأي علمائنا فقط بل في رأي أعلام الفلاسفة الغربيين كديكارت ولايبنتز ودوركايم. وتفصيل هذا كله في كتابي «تعريف عامّ بدين الإسلام» (¬1). * * * في دروسي التي ألقيتها في الكلية الشرعية (¬2) في مادة «الثقافة الإسلامية» بحثت في العلم: ما هو وما حقيقته؟ ثم تذكّرت ما درَسناه في شعبة الفلسفة (وقد نلتُ شهادتها سنة 1929) من تصنيفات العلوم لبعض فلاسفة اليونان وبعض أعلام الغرب، فحاولت أن أجد مثلها لعلمائنا. وعكفت على الكتب وحبست نفسي في المكتبة أياماً، فوجدت الكثير، فوضعته إلى جنب ما كنا درسناه في علم المنطق التجريبي وجعلت منه فصلاً طويلاً يصلح أن يُطبع في رسالة أو كُتيّب، ولكني فقدته فضاع. ¬

_ (¬1) انظر فصل «قواعد العقائد» في كتاب «تعريف عام بدين الإسلام»، ومقالة «العقيدة بين العقل والعاطفة» في كتاب «فِكَر ومباحث» (مجاهد). (¬2) انظر الحلقة 187 من الذكريات (في الكلية الشرعية في دمشق)، وهي في أول الجزء السابع (مجاهد).

والمنطق التجريبي، أو المنطق العلمي، هو غير المنطق الصوري، منطق أرسطو الذي عُني به علماؤنا وأولَوه ما لا يستحقّ من هذه العناية، وأدخلوه في البلاغة وفي النحو، بل وفي العقائد (أي في علم الكلام) فأفسد كل علم دخل فيه. لمّا بحثت عن أوراقي فلم أجدها سألت عنها من هو في المملكة ممن كان يومئذ من الطلاب، وكلهم الآن من الأساتذة الكبار، فما وجدتها عند أحد منهم. ولو أني تعودت أن أكتب كل ما أُعِدّه من محاضرات ومن أحاديث ومن دروس، ونشرتها يومئذ في مجلة أو طبعتها في رسالة، لانتفعت بها وانتفع بها الناس. ولكن «لو» تفتح عمل الشيطان. ما وجدت إلا مسوَّدات فيها رؤوس المسائل التي ألقيتها، بل فيها إشارات إلى رؤوس المسائل مكتوبة على عجل، قرأت بعضها ولم أستطع -لسوء الخط- قراءة بعضها وأنا كاتبها! وكثيراً ما يقع لي مثل هذا: أُعِدّ محاضرة أو مقالة علمية، فأكبّ على المراجع وأغرق في صفحات المجلَّدات وبيدي قلم وورق أدوّن ما أجده نافعاً لي في مقالتي أو محاضرتي، أشير إليه ولا أدلّ عليه، أُجمِل ولا أفصّل وألمّح ولا أصرّح، وفي ظني حينئذ أن الإشارة والإجمال والتلميح بلا تصريح يكفي. فإذا مر الزمان وعُدت إليها -كما أعود الآن- لم أستطع أن أحلّ رموزها ولا أن أدرك المُراد منها، فضلاً عن أن أكتفي بها. ولقد أضعت على نفسي وعلى الناس بهذه الخطة الحمقاء مقالات وفصولاً ومباحث لو أنها كُتبت في حينها لكان منها الكثير الطيب.

تكلمت أولاً عن العلم: ما هو العلم؟ فوجدت أن العلم بالمعنى اللغوي هو ما يقابل الجهل، وأن العلم بالمعنى الأصولي المنطقي هو الذي يقابل الظنّ، أي أن مراتب الوجود الذهني عند علمائنا ثلاث: «الشكّ»، وهو تَساوي جانبَي الإثبات والنفي. فإن سُئلتَ وأنت في المدينة: هل في القرية مطر؟ قلتَ: لا أدري. لأن احتمال نزول المطر كاحتمال عدمه، وليس لديك دليل لنفيه ولا لإثباته. فإن لمحت في الأفق من جهة القرية سحاباً رجح عندك جانب الإثبات رجحاناً قليلاً، 55 بالمئة مثلاً، فقلت: «أظنّ» أن فيها مطراً. فإن تراكب السحاب وتراكم واسودّ ولمعت خلاله البروق صار عندك «غلبة الظنّ». فإن ذهبت إلى القرية فرأيت المطر، أو تواتر به إليك الخبر، فهذا هو «العلم». فالعلم هنا بمعنى اليقين، ولذلك قال جمهور العلماء إن حديث الآحاد لا يُفيد العلم ولو صحّ، وإنما يُعمَل به بغلبة الظنّ. وقال أهل الحديث وكثير من فقهاء الحنابلة إنه إن صحّ أفاده. فمن أنكر -على رأي الجمهور- عقيدةً جاءت في حديث آحاد لم نحكم بكفره، لأننا لا نستطيع أن نجزم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله كما نجزم بأن القرآن هو كلام الله، وإن كان المحدّثون بذلوا من الجهد في تحقيق الأسانيد غاية ما في طاقة البشر. أقسام العلم والعلم بمعنى اليقين قسّمه علماؤنا إلى «علم ضروري»، وهو اليقين الذي يجيء من طريق الحسّ، و «علم نظري»، وهو ما يحتاج إلى دليل.

ثم إن عندنا «العلم» الذي يقابل «الفنّ»، ومن هنا قلنا «علم الكيمياء» و «علم النحو»، وقلنا «فنّ التصوير» و «فنّ الإنشاء». والعلم يمتاز من الفنّ بالغاية وبالوسيلة وبالأداة. فالعلم غايته الحقيقة والفنُّ غايته الجمال، والعلم وسيلته المحاكمة والفنّ وسيلته الشعور، والعلم أداته العقل والفنّ أداته العاطفة أو القلب كما يقولون. ومما يلاحَظ أن الأمم كلها قديمها وحديثها تخصّ القلبَ بالعاطفة والعقلَ بالفكر، ولعلّ منشأ ذلك أن الإنسان الأول كان يجد أنه إذا فكّر أصابه الصداع وإذا رأى الجمال أو هاج به الغرام أحسّ الخفقان، فظنّ أن هذا من ذاك وأن الفكرَ بالعقل والعاطفةَ بالقلب. على أنه إذا أُطلق القلب في القرآن أريدَ به مُطلَق اللبّ، لا هذا القلب المادي الذي يضخّ الدم، فكأن المُراد بالقلب في القرآن الفكر والشعور ولو خصّه بأنه الذي في الصدور، والله أعلم. ومن العلماء المحدَثين مَن يضيّق دائرة العلم حتى لا تتّسع إلاّ للعلوم التجريبية، وليس ذلك بمسلَّم لهم. وكان علماؤنا يفرّقون بين العلم والأدب، فالعلم تخصُّصٌ وتعمُّق في علم واحد، والأدب أخذٌ من كل شيء بطرف؛ فكان معنى كلمة «الأديب» قديماً كمعنى كلمة «المثقَّف فكرياً» الآن. وقد جعل الصوفية العلم عِلمَين: علم الظاهر وعلم الباطن، فجاؤوا فيما سمّوه بعلم الباطن بطامّات وبلايا يُنكِرها العقل ويردّها النقل. * * *

تصنيف العلوم أمّا تصنيفات العلوم فهي كثيرة متعددة بتعدّد الأسس التي يمكن بناؤها عليها، فمن العلماء مَن صنّفها تبعاً لحكمها في الشرع كالغزالي تارة، وتبعاً لغير ذلك تارات أخرى. ومنهم من صنّفها باعتبار أصلها كابن خلدون والحفيد (¬1)، ومنهم من صنّفها بحسب طبيعة موضوعها كطاشْكُبْري زاده، ومن صنّفها بغايتها كأرسطو، أو بالملَكة البشرية المتعلقة بها مثل بيكون ودروكايم، أو بموضوعها مثل مُلاّ كاتب جَلَبي (¬2) وأوغست كونت. والتصنيف يختلف باختلاف الأزمنة، إذ قد تظهر علوم جديدة ويتبدّل محتوى بعض العلوم بازدياد موضوعاتها أو نقصها، أو اندماجها في علوم أخرى. وقد وجدتُ خلال مطالعاتي تصنيفات أخرى كثيرة اخترت منها كالمثال عليها بعض هذه التصنيفات. تصنيف الغزالي: صنّفها الغزالي باعتبار حكمها في الشرع إلى مُهمّة وغير مُهمّة. وقسّم المُهمّة إلى ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية، أي أنه فرض على المجموع لا على كل فرد منه فإذا قام به بعض سقط الإثم عن الباقين. وقسّم غير المُهمّة ¬

_ (¬1) لعله ابن رشد الحفيد، صاحب «بداية المجتهد» في الفقه و «تهافت التهافت» في الفلسفة، ولعل تصنيفه هذا في كتابه «فصل المقال». أقول هذا ظانّاً غيرَ جازم، والله أعلم (مجاهد). (¬2) هو المعروف باسم «حاجي خليفة»، وكتابه الذي صنّف فيه العلوم وعرّف بكتبها تعريفاً بِبْليوغْرافيّاً هو «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون» (مجاهد).

إلى ما هو مُباح وما هو مذموم. وشرح اختلاف العلماء في العلم الذي هو فرض عين في حديث «طلب العلم فريضة على كل مسلم»، وذهب فيه مذهباً وسطاً، وقال بأن العلم المفروض يختلف باختلاف الأشخاص واختلاف الأزمنة والأحوال، فمَن أسلم ضُحى من نهار وجب عليه أن يعرف ما يصحّ به إيمانه، فإذا كان الظهر وجب عليه معرفة الوضوء والصلاة، فإن أدركه رمضان وجب عليه معرفة أحكام الصيام، فإن امتلك النصاب وجب عليه معرفة أحكام الزكاة ... ومن أراد زيادة الوقوف على رأيه فليرجع إلى كتبه: «الإحياء» و «فاتحة العلوم» وكتاب «ميزان العمل». وقسّم العلوم باعتبار أصلها إلى شرعية وغير شرعية، فغير الشرعية منها ما هو عقليّ كالرياضيات، أو تجريبي كالطب، أو سماعي كاللغة. والشرعية تقسم عنده إلى أصول وفروع ومقدّمات ومتمّمات. تصنيف ابن خلدون: قسّمها إلى «طبيعية» يهتدي إليها الإنسان بفكره، و «نقلية» يأخذها عمّن وضعها. فالطبيعية هي العلوم الحكمية الفلسفية، وهي عامّة لجميع البشر. ويلاحَظ أن الفلسفة على عهد ابن خلدون كانت تنتظم العلومَ كلها، أي أنها كانت لها كالأم الحاضنة للأولاد الصغار، فكلما كبر علم استقلّ عنها، وآخر علم استقلّ (أو كاد) هو علم النفس. وصارت الفلسفة في أيامنا قاصرة على مسائل المغيَّبات (الميتافيزيقا). وقال إن العلوم النقلية مستمَدّة من الخبر إلى الواضع الشرعي، وهي خاصّة بالمسلمين ولا مجال للعقل فيها إلاّ في إلحاق الفروع بالأصول، وأصلها الكتاب والسنة.

تصنيف ابن النديم: أمّا ابن النديم المتوفّى سنة 385 صاحب «الفهرست» فليس له تصنيف كامل للعلوم، وإنما يُستنبَط من كتابه الذي جعله عشرة فصول (أو عشر مقالات كما سمّاها) وجعل كل طائفة من العلوم في مقالة منها، وتكلّم عن لغات الأمم وخصائصها، ثم عن كتب الشرائع المنزلة، ثم النحو واللغة، ثم التاريخ، ثم الشعر، ثم علم الكلام، ثم الفقه والحديث، ثم الفلسفة والعلوم القديمة، ثم الأسمار والخرافات والسحر والشعوذة، ثم المذاهب والاعتقادات (انظر مقدّمة الفهرست). تصنيف شمس الدين السنجاري المتوفى سنة 749: قسّم العلوم إلى مقصودة في ذاتها ومقصودة لغيرها. فالأولى هي العلوم الحكمية، وهي عنده إما نظرية كالفلسفة والطبيعيات والهندسة، وإما عملية كالسياسة والأخلاق وتدبير المنزل. والثانية علوم الأدب، فهي عشرة: اللغة والتصريف والمعاني والبيان والبديع والعَروض والقوافي والنحو والخط والقراءة. ثم العلوم الشرعية وهي ثمانية: القراءات ورواية الحديث ودرايته والتفسير وأصول الدين وأصول الفقه والجدل وعلم الخلاف. ثم العلوم العقلية وهي الطب والبيطرة والبيزرة (وهو طب البُزاة، وقد كتبت عنه في مجلة الرسالة من أكثر من خمسين سنة) (¬1) والفراسة وتعبير الرؤيا (والحقيقة أن تعبير الرؤيا ليس بعلم) والنجوم والسحر والطلّسْمات (وهذه كلها ليست من العلوم) والكيمياء والسيمياء والفلاحة والمرايا المحرقة والمساحة والمياه. ¬

_ (¬1) انظر مقالة «كتاب في البَيْزَرة» في هذا الكتاب، وهي بعد هذه المقالة على الفور (مجاهد).

تصنيف طاشْكُبْري زاده: قال في كتابه العظيم «مفتاح السعادة» إن الأشياء لها وجود في أربع: في الكتابة، وفي الألفاظ، وفي الأذهان، وفي الأعيان (وأقول أنا إن هذا التقسيم مأخوذ من الغزالي في كتابه «المقصد الأسنى»). وصنّف طاشكبري زاده العلوم تبعاً لذلك، فجعل من القسم الأول الكتابة وعلم الخط والإملاء. ومن الثاني اللغة وعلم الوضع (أقول: وقد كان يُدرَّس على أيامنا ثم أهملَته المدارس) والاشتقاق والتصريف والنحو والمعاني والبيان والبديع والعَروض والقافية والإنشاء وقرض الشعر والشروط والسجلاّت والأحاجي (أي الفوازير) والأغلوطات والتاريخ والمغازي. ومن الثالث المنطق والجدل والمناظرة والخلاف (وهو ما نسمّيه اليوم «الفقه المقارن»). وقسّم الرابع إلى: «إلهيّ» ومنه علم النفس (وهو غير ما ندرسه باسم السيكُلوجي) وعلم المَعاد (أي الآخرة) ومقالات الفِرَق. و «رياضيّ»، كالعدد (أي الحساب) والهندسة والهيئة (أي علم الفلك) والموسيقى. و «طبيعي»، وهو الطب والبيطرة والبيزرة والنبات والحيوان والفِلاحة (أي الزراعة) والمعادن والفراسة وتعبير الرؤيا والنجوم والسحر (وهذه ليست علوماً) والكيمياء والكحالة (أي طب العيون) والصيدلة والجراحة. وقد جمعتُ تصنيفات أُخَر، ولكنني أجتزئ بالذي كتبته هنا. * * *

كتاب في البيزرة

من نوادر المخطوطات كتاب في البَيْزَرَة نشرت سنة 1935 [وصف وتحليل لنسخة فريدة من كتاب مفقود، في علم ضائع، لمؤلف مجهول.] البَيْزَرَة (أو البَزْدَرَة) علم يُبحَث فيه عن "أحوال الجوارح من حيث حفظ صحتها، وإزالة مرضها، ومعرفة العلامات الدالّة على قوّتها في الصيد وضعفها فيه"؛ هذا ما قاله في «كشف الظنون». والكلمة معرَّبة، وهي من قولهم «بَيْزار»، معرَّب «بازْدار» أو «بازيار»، أي حافظ البازي وصاحبه، والجمع «بيازِرة» كما في التاج واللسان. قال الكُمَيْت: كأنّ سوابقَها في الغُبارِ ... صقورٌ تُعارِض بَيْزارَها وقد سمّوه علم البزدَرَة (أو البَيْزَرة) إضافة له إلى أشرف أنواعه وأخفّها، وهي البُزاة. ولخّصه داود الأنطاكي في كتابه «التذكرة» في مقدمة وثلاثة مباحث: فالمقدمة في كيفية اهتداء الناس إلى اتخاذ الطيور، وأول متّخِذ لها، وما هو المعتبَر منها. والمبحث الأول في كيفية الاستدلال على الجيد منها باللون

والصفة وفي ذكر طرق التعليم. والمبحث الثاني في أوقات الإرسال وكيفية الصيد واختلاف حال الطيور. والمبحث الثالث في علامات الصحة والمرض وطبّ الجوارح. وقد كان هذا العلم مزدهراً معروفاً أيام عز العرب وازدهار مدنيّتهم، ثم ضاع فيما ضاع من تراث الأجداد، وفُقدت كتبه كلها ونسيه الناس، فلم يكد يذكره أحد ممن ألّف في تاريخ الثقافة الإسلامية، ولم يبقَ بين أيدينا من المراجع في هذا العلم إلا هذا الفصل الذي كتبه الشيخ داود الأنطاكي في كتابه «تذكرة أولي الألباب» (¬1) وكلمة في «كشف الظنون» لحاجي خليفة لا تعدو الثلاثة الأسطر. على أن للمتقدمين كتباً كثيرة في هذا العلم، عدّ ابن النديم في «الفهرست» عدداً منها، ككتاب «الجوارح» لمحمد بن عمر البازيار، وكتاب «البزاة واللعب بها» لأبي دُلَف العِجْلي، وسمّاه ابن خلّكان «كتاب البُزاة والصيد». ومن الكتب المؤلَّفة في هذا العلم كتاب «القانون الواضح»، ذكره في كشف الظنون ووصفه بأنه كافٍ في هذا العلم ولم يُسَمِّ مؤلفه. وذكر الشاعر الكبير الأستاذ الشيخ رضا الشَّبيبي، وزير المعارف العراقية اليوم، في مجلة «المقتبس» أن في الخزانة التيمورية كتاباً اسمه «القانون في البيزرة»، ولعله هو. وفي الأدب العربي أدب للصيد قائم برأسه يُسمّى ¬

_ (¬1) كان داود طبيباً ماهراً، لم يكن في زمانه أعلم منه بالطب، وله تصانيف كثيرة أهمها «التذكرة»، والغريب أنه كان ضريراً.

«الطَّرْدِيّات»، نبغ فيه جماعة منهم أبو نُوَاس، وأبو فراس، وكُشاجِم، والحِلّي، وغيرهم. * * * أما الكتاب الذي أصفه اليوم فقد وقع عليه صديقنا العالم الشيخ حمدي السَّفَرْجَلاني في خزانة قديمة في دمشق فعرف قدره فاشتراه، ثم كانت له قصة انتهت بأن بيع الكتاب إلى أحد المولعين بالكتب القديمة من الإفرنج، وبقيت منه النسخة الفوتوغرافية التي أصفها عند الأستاذ السفرجلاني. وكتابنا، وإن لم يُعرَف مؤلفه، من أقدم الكتب المصنَّفة في هذا العلم وأجلّها؛ فقد وُضع للعزيز بالله العُبَيدي الفاطمي، صاحب مصر والشام المتوفَّى سنة 386هـ. وكان مُغرَىً بالصيد، يصيد بالحبل والجارح من الطير ويصيد بالسباع. وكان مؤلف الكتاب -كما يتحدث عن نفسه- من بَيازرة العزيز والمقرَّبين إليه، وكان غالياً في التشيع، لا يذكر العزيز مرة إلا صلى عليه وسلم! فمن قوله: "وقد كان مؤلف هذا الكتاب في جملة البيازرة متقدماً عليهم، لا في جملة واحد منهم لا يحسن شيئاً من البيزرة. ثم أفرده أمير المؤمنين -صلى الله عليه- عنهم وله من العمر إحدى عشرة سنة، ثم خرج في صناعته إلى ما قد شاهده الناس وعرفوه، ورقّى أمير المؤمنين -صلى الله عليه- منزلته إلى أن صار إقطاعه عشرين ألف دينار، وبلغ المنزلة التي لو رآها في النوم لما صدّقها، فلا يَخْفَ عن الناس ما كان فيه وما صار إليه". وفي آخر الكتاب: "تم الكتاب، والحمد لله رب العالمين

كما هو أهله ومستحقه، وصلى الله على نبيه محمد خاتم النبيين، وعلى الأئمة من عترته الطاهرين الأخيار وسلم تسليماً". والكتاب كله من النمط العالي في إنشائه وأسلوبه، وهو مشحون بالفوائد والأخبار الأدبية والأشعار المستملَحة والقصص اللطيفة، ويقع في ثلاثمئة صفحة مكتوبة بخط قريب من النسخي، قليلة أخطاؤه، مَشكول شكلاً لا يُعتمَد عليه دائماً، فيه إشارات خاصة كانت توضع على الحروف المُهمَلة (¬1) ثم أُهملت (¬2). وليس في أول الكتاب أو آخره ما يدلّ على تاريخ كتابته، ولكني عثرت في وسطه على جملة مكتوبة بخط الناسخ هذا نصها: "وكتب هذا الكتاب تاريخ سنة خمسمئة في شهر شوال"؛ وإذن فيكون عمر النسخة التي نصفها أكثر من ثمانية قرون. * * * وسنعرض على القراء خلاصة أبواب الكتاب ونماذج منه صالحة. بدأ «المقدمة» بقوله: "الحمد لله الذي له في كل لطيف ¬

_ (¬1) هي الحروف غير المَنْقوطة، كالحاء والدال والراء والسين والصاد، إلخ. وكانوا يسمّون المنقوطة «مُعْجَمَة» (أو مُعَجَّمَة)، كالباء والتاء والجيم والخاء والذال والزاي، إلخ، من قولهم: عَجَمَ الكتابة (وعجَّمها وأعجمها) إذا نقطها (مجاهد). (¬2) وللعلامة المرحوم الشيخ طاهر الجزائري رسالة في بيان هذه الإشارات، وهي مطبوعة.

من خَلقه مُعجز يُتفكَّر فيه، وخفيّ من صنعه يُتنبَّه به عليه، ونِعَم تقتضي مواصلةَ حمده، ومِنَن تحثّ على متابعة شكره، والذي ميّز كلَّ نوع من حيوانٍ خلقه على حِدَته، وأبانه بشكله وصورته، وجعل له من الآلة ما يلائم طبعه، ويسّره للأمر الذي خُلق له ويؤدّيه إلى مصلحته وقوام جسمه. وجعلنا من أشرف ذلك كله نوعاً وأتمّه معرفة، وجمع فينا بالقوة ما فرّقه في تلك الأصناف بالآلة، فليس منها شيء مخصوص بحال له فيها مصلحة إلا ونحن قادرون على مثلها، فإنّا بفضل حيلة العقل نستعمل مثل ذلك إذا احتجنا إليه ونفارقه إذا استغنينا عنه؛ كذوات الحد والشوكة من صدف أو مخلب، فإن لنا مكان ذلك ما نستعمله من السيوف والرماح وسائر الأسلحة؛ وكذوات الحافر والظلف، فإن لنا أمثال ذلك مما ننتعله ونتقي أذى الأرض به ... وجعل لنا خدماً وأعواناً، وزينة وجمالاً، وأكلاً وأقواتاً؛ فبعضٌ نمتطيه، وبعضٌ نقتنيه، وبعضٌ نَغْتذيه. وأحلّ لنا صيد البر والبحر والهواء؛ نقتنص الوحش من كِناسها، ونستنزل الطير من الهواء، ونستخرج الحوت من الماء. لم يَكِلْنا في ذلك إلى مبلغ حيلتنا حتى عَضَدَنا عليه وسهّل السبيل إليه، بأن خلق لنا من تلك الأنواع أشخاصاً أغراها بغيرها من سائر أجناسها، ووصَلها من آلة الخلْقَة وسلاح البُنْيَة، وقبول التأديب والتَّضْرِية والانطباع على الأكفّ والاستجابة، فدلنا على موضع الصنع فيها وموقع الانتفاع بها، كالفهد والكلب وسائر الضواري، والبازي والشاهين وسائر الجوارح، كل ما يحويه من ذلك لنا كاسب وعلينا كادح وبمصلحتنا عائد ... ". ثم يقول: "إن للصيد فوائد جمة، وملاذَّ ممتعة، ومحاسن

بيّنة، فبه يُستفَاد النشاط والأَرْيَحية والمنافع الظاهرة والباطنة والمِران والرياضة ... مع ما فيه من الآداب البارعة والأمثال السائرة، ومسائل الفقه الدقيقة والأخبار المأثورة، ما نحن مجتهدون في شرحه وتلخيصه وتفصيله وتبويبه في هذا الكتاب المترجَم بكتاب «البَيْزَرة»، على مبلغ حفظنا ومنتهى وسعنا، وبحسب ما يحضرنا وينتظم لنا، اتّباعاً فيما لا يجوز الابتداع فيه، وابتداعاً فيما أغفله مَنْ تَقدَّمَنا ممن يدّعيه، ونحن مقدّمون ذكرَ الأبواب التي تشتمل على ذلك ليأتي كل باب في معناه، وبالله الحول والقوة ومنه عز وجل التوفيق والمعونة". * * * ثم بدأ بأبواب الكتاب باباً باباً، وهذه عناوينها ونبذة عن بعض منها: «باب» من كانت له رغبة في الصيد وعنده شيء من آلته من الأنبياء صلوات الله عليهم، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الأشراف. «باب» تمرين الخيل وجرأة الفارس على ركوبها، باقتحام العِقاب وتسنّم الهِضاب والحدود والأنصاب. «باب» ما قيل في طرد كل صنف من وحش وطير. «باب» فضائل الصيد، وأنه لا يكاد يحبّ الصيدَ ويُؤْثره إلا رجلان متباينان في الحال متقاربان في علوّ الهمة: إما ملك ذو ثروة، أو زاهد ذو قناعة ... فمن هذه الطبقة من يقتات من صيده ما

يكفيه ويتصدّق بما يفضل عنه توقّياً من المعاملة والمبايعة، ومنهم من يبيع ما فضل عن قُوْته ويعود بثمنه في سائر مصلحته". ومن نوادر هذا الباب: "قال أبو العباس السفاح لأبي دُلامة: سَلْ. فقال: كلباً. قال: ويلك، وما تصنع بكلب؟ قال: قلتَ سَلْ، والكلب حاجتي. قال: هو لك. قال: ودابة تكون للصيد. قال: ودابة. قال: وغلام يركبها ويتصيّد عليها. قال: وغلام. قال: وجارية تُصلح لنا صيدَنا وتعالج طعامنا. قال: وجارية. قال أبو دلامة: كلب ودابة وغلام وجارية ... هؤلاء عيال، فلا بد من دار. قال: ودار. قال: ولا بد من غِلّة وضَيْعة (¬1) لهؤلاء، قال: قد أقطعناك مئة جريب عامرة ومئة جريب غامرة. قال: ما الغامرة؟ قال: التي لا نبات فيها. قال: أنا أُقطعك خمسمئة جريب في فيافي بني أسد! فضحك وقال: قد جعلنا لك المئتين عامرة، بقي لك شيء؟ قال: أقبّل يدك. قال: أما هذه فدعها. قال: ما منعتَ عيالي شيئاً أهون عليهم فَقْداً من هذا (¬2). ونادرة أخرى، قال: "أخبرني بعض الأدباء أن رجلاً من الشعراء قصد أحد الكُبَراء، فتعذّر عليه ما أمله عنده وحال بينه وبينه الحُجّاب. وكان ذلك الكبير آلفاً للصيد مُغرىً به، فعمد ¬

_ (¬1) الضيعة هي العقار أو الأرض ذات الزّرع، وفي سوريا ولبنان يسمّون القرية ضَيْعة، ولعل أصلها من هنا (مجاهد). (¬2) قال الجاحظ: "فانظر إلى حِذقه بالمسألة ولطفه فيها؛ ابتدأ بكلب فسهّل القصةَ به، وجعل يأتي بما يليه على ترتيب وفكاهة، حتى نال ما لو سأله بديهة لما وصل إليه". وانظر أخبار أبي دُلامة في الجزء التاسع من «الأغاني».

الشاعر إلى رِقاع لِطاف فكتب فيها ما قاله من الشعر في مديحه، وصاد عدّة من الظباء والأرانب والثعالب ثم شدّ تلك الرقاع في أذناب بعضها وآذان بعض. وراعى خروج الرجل إلى الصيد، فلما خرج كمن له في مظانّه ثم أطلقها، فلما ظفر بها استبشر، ورأى تلك الرقاع ووقف عليها فزاد في طربه، واستظرف الرجل واستلطفه وأمر بطلبه فأُحضر، ونال منه خيراً كثيراً". ثم قال: "ومن فضل العلم بالصيد ما حكاه لي أبي عن خالد ابن برمك، أنه كان نظر -وهو على سطح قرية مع قَحْطَبة حين فصلوا من خراسان، وبينهم وبين عدوهم مسيرة أيام- إلى أقاطيع ظِباء مقبلة من البرّ حتى كادت تخالط العسكر، فقال لقحطبة: نادِ في الناس بالإسراج والإلجام وأخذ الأُهْبة (¬1)، فتشوّف قحطبة فلم يَرَ شيئاً يَروعه، فقال لخالد: ما هذا الرأي؟ فقال: أما ترى الوحش قد أقبلت؟ إن وراءها لجمعاً يكشفها. فما تمالك الناس أن يتأهبوا حتى رأوا الطليعة، ولولا علم خالد بالصيد لكان ذلك العسكر قد اصْطُلم (¬2) ". «باب» من كان مستهتراً بالصيد من الأشراف ... (وهو باب طويل حافل بالأخبار الممتعة والأشعار المستملَحة). ¬

_ (¬1) يريد أن يجهّز كل فارس فرسَه للركوب بوضع السرج وشد اللجام. وقَحْطَبة بن شَبيب الطائي من قوّاد العباسيين المظفرين، كان صاحب أبي مسلم الخراساني، وهو أحد النقباء الاثني عشر الذين اختارهم محمد بن علي في خراسان (مجاهد). (¬2) اصْطُلم أي أُبيدَ عن آخره (مجاهد).

«باب» صفة البواشق وذكر ألوانها وأوزانها وصفة الفارِهِ منها: فالأحمر الأسود الظهر جيّد صَبور على الكد، والأحمر الظهر والبطن رَخْو ما له جلَد، إلخ. «باب» في ضَراءة الباشق وفَراهته وما يصيد من الطرائد المعجزة التي هي من صيد البازي. وذكر علاجات البواشق وعللها وما خلص منها من العلل وأنجب، وذكر القَرْنَصَة (¬1) وذكر ما يحتاج إليه في القرنصة من الخدمة. بعد ذلك «باب» في تشخيص أمراض البازي، قال: "ويُستدَلّ من الذَّرْق (¬2) على كل علة". وبعده عدّة أبواب في علاج الأدواء المتنوعة التي تصيب البازي. ثم «باب» في تفضيل الصقور على الشواهين لما فيها من الفَراهة، وهو السبب الموجِب لتقديمها. وذكر ألوانها وأوزانها، وفيه فصول طويلة كالذي مرّ في باب البواشق وباب البزاة. ثم «باب» في صفة الشواهين وذكر ألوانها وأوزانها، وكذلك العقبان. و «باب» في الصيد بالفهد وما يستحسن منه، وفيه كثير من الأشعار والأخبار الجيدة. و «باب» في صفة الظباء وذكر مواضعها وصيدها وما فيها من ¬

_ (¬1) قال الشيخ داود الأنطاكي: وأما القرنصة فهي إراحة الطائر مدة معلومة من الصيد، وتكون غالباً للبزاة، ووقتها من دخول شهر أيّار. (¬2) الذَّرق للطائر (والزَّرْق) بمنزلة البول من الإنسان.

المنافع، وما قيل في ذلك من الشعر. و «باب» في ذكر الكلاب وخصائصها وصيدها وعللها ودوائها، وما قيل فيها من الشعر. و «باب» في صيد طير الماء بالبازي والباشق، وهو آخر أبواب الكتاب. * * * هذا وصفٌ موجَز وبيانٌ لِقيمة هذا الكتاب الجليل، وإنّا لنرجو أن يهيّئ الله له ناشراً يسرع إلى طبعه، ليستفيد منه أهل الأدب وأصحاب هذه الصناعة، ويأخذ مكانه في المكتبة العربية، فإن مكانه لا يزال خالياً ولا يسدّه اليوم في الدنيا كتاب غيره. وإنّا لنرجو أن تُعنى بأمره لجنة التأليف والترجمة والنشر، ويكون لها في نشره مآثر جديدة تُضَمّ إلى مآثرها الجمّة وأياديها الكثيرة على الثقافة والأدب (¬1). * * * ¬

_ (¬1) مضت سنوات طويلة بعد نشر هذه المقالة حتى وجد الكتاب أخيراً طريقَه إلى أيدي الناس؛ فقد حققه الأستاذ محمد كرد علي، وكان آخرَ ما قام به من أعمال، فرغ منه في شهر آب من عام 1952 وتوفي بعد ذلك بثمانية أشهر، ونشره المجمع العلمي بدمشق فصدر بعد وفاة كرد علي بأشهر معدودات، رحمه الله (مجاهد).

اختراع الخراع

من نوادر المخطوطات اختراع الخُراع نشرت سنة 1935 [أطلعني على هذه الرسالة صديقي الشاعر الأديب السيد أحمد عُبَيد، أحد أصحاب المكتبة العربية العامرة بدمشق، فرأيتها رسالة عجيبة وتحفة أدبية غريبة، ورأيت فيها فناً من فنون الأدب العربي لا يعرفه الناس، ودليلاً على بُعد الغاية التي بلغها أدبنا، فأحببت أن أتحف بها قراء «الرسالة» فتكون لهم أفكوهة وللأدب خدمة، بتسجيل هذا الأثر الجميل من آثاره الضائعة.] هذا الكتاب اسمه «اختراع الخُراع». والخُراع في اللغة شيء يصيب الدابة في ظهرها فتبرك فلا تستطيع القيام. ومؤلفه هو صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي المتوفى سنة 764هـ، أحد أئمة القلم والأدب في عصره، مولده سنة 696. له نظم جيد وله مؤلَّفات جليلة، وولي في مصر والشام كتابة الإنشاء لملوكها؛ كتب عنه شيخه الذهبي ووصفه بأنه "الإمام العالم الأديب البليغ الأكمل، طلب العلم وشارك في الفضائل

وساد في علم الرسائل، وقرأ الحديث وجمع وصنَّف، والله يمدّه بتوفيقه، سمع مني وسمعت منه، وله تآليف وكتب وبلاغة". وقد نقلت هذه العبارة من كتاب «شذرات الذهب». وأدلّ القراء الذين لا يعرفونه عليه لينتفعوا منه (أي «الشذرات»)، فهو تاريخ مفيد، بدأ من السنة الأولى للهجرة وانتهى إلى سنة ألف، يذكر في كل سنة ما كان فيها من الأحداث ومَن مات فيها من الأعلام. والصفدي هو مؤلف الكتاب الكبير «الوافي بالوَفَيات» الذي يكاد يكون أجمع كتب التراجم (¬1). ومن مؤلفاته المطبوعة «نَكْت ¬

_ (¬1) قال علي الطنطاوي في حاشية على المقالة يوم نشرها في الرسالة سنة 1935: "راجعت بعض التراجم في بعض الأجزاء الفوتوغرافية في دار الكتب المصرية العامرة، فوجدته قد جمع فأوعى ولم يَدَع بعده مجالاً لقائل". قلت: ولم يكن الكتاب صدر يومئذ، إنما كان مخطوطاً في خزائن الكتب، ثم وفّق الله إلى تحقيقه ونشره فصدر في ستة عشر مجلداً. وهذا الكتاب هو أوفى كتب التراجم وأجمعها بلا جدال (كما قال جدّي رحمه الله في عبارته هنا)؛ فقد افتتح ابن خَلِّكان التدوين في هذا الباب بكتابه العظيم «وَفَيات الأعيان»، وبلغ فيه أواسط النصف الثاني من القرن السابع (توفي ابن خلكان سنة 681)، وبلغ عدد التراجم في كتابه نحو ثمانمئة، ثم جاء ابن شاكر الكُتْبي في القرن التالي فتمّم الكتاب بكتابه «فَوَات الوَفَيات»، وفيه نحو ستمئة ترجمة. والغريب أنه والصفدي توفّيا جميعاً في سنة واحدة (764)، وكلاهما تابَعَ ابنَ خلّكان في كتابه. ورغم أن «الوافي» كتاب شامل عظيم (ترجم لنحو أربعة عشر ألفاً من الأعلام) إلا أن الحدود الزمانية لحياة مؤلفه تحدّه بأواسط القرن الثامن. ولما كان حجم التراجم في=

الهِمْيان في نُكَت العميان» (1) وله شرح لاميّة العَجَم، وكتب كثيرة معروفة. مهر في فن الأدب، وكتب الخط المليح، وقال النظم الرائق، وألف المؤلفات الفائقة، وباشر كتابة الإنشاء بمصر ودمشق، ثم ولي كتابة السر بحلب، ثم وكالة بيت المال بالشام، وتصدى للإفادة بالجامع الأموي، وحدّث بدمشق وحلب ¬

_ = تضخّم بمرور القرون وكان «الوافي» قد بلغ هذا المبلغ من الاتّساع، فإن المنطق فرض على المؤلفين أن يتوقفوا عن كتابة كتب شاملة في التراجم، وبدأ اتجاه جديد إلى التأليف في تراجم أعلام القرون؛ بدأ هذا المنهجَ الجديدَ الحافظُ ابن حجر في «الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة»، وتبعه السَّخاوي في «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع»، ثم نجم الدين الغَزّي في «الكواكب السّائرة في أعيان المئة العاشرة»، ثم محمد أمين المُحبّي في «خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر»، ثم محمد خليل المُرادي في «سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر»، وأخيراً عبد الرزاق البيطار في «حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر». بقيت -للفائدة- كلمة صغيرة في كلمة «وَفَيات»: يخطئ كثيرون فيلفظونها بكسر الفاء وتشديد الياء بعدها، والصواب فتح الفاء والياء بلا شدة (وَفَيَات)، وهي جمع «وفاة»، وقد اختار هذا المنهجَ (الترجمة بترتيب سنوات الوفاة) ابنُ خلكان الذي فتح لنا هذا الباب، وهو أهمل كلَّ من لم تُعرَف سنة وفاته، وعلّلَ منهجَه هذا قائلاً إن الذي يموت دون أن يحسّ بموته أحد لا بد أن يكون نكرة لا يستحق أن يُترجَم له والأَوْلى أن تهمله كتب التّراجِم (مجاهد). (1) الهِميان هو النطاق الذي يتخذه المسافر، من الحُجّاج وغيرهم، فيودعه ما يخاف عليه من أوراقه وماله.

وغيرهما. وتحدث عنه شيخ الإسلام التاج السبكي فقال إنه "برع في الأدب نظماً ونثراً وكتابة وجمعاً، وعُني بالحديث، ولازم الحافظ فتح الدين بن سيد الناس، وبه تمهّر في الأدب، وصنّف الكثير في التاريخ والأدب. قال لي إنه كتب أزيد من ستمئة مجلد تصنيفاً" (¬1). * * * أما هذه الرسالة التي نتكلم عنها فإنها في شرح بيتين من الشعر، شرحهما المؤلف شرحاً مستفيضاً، حلاّه بالنكات اللغوية والمسائل النحوية والطرائف الأدبية والآراء الفلسفية، وزيّنه بالحِكَم الباهرة والأمثال السائرة، واستشهد على كل مسألة من مسائله بأقوال العرب، ولكنه -وتلك ميّزة هذا الكتاب- تعمّد "أن لا يأتي إلاّ بما هو خطأ محرَّف عن أصله، مَعدول به عن جادّة الصواب، مُمَال به عن سبيل الحق: فلا بيتَ يُنسَب إلى صاحبه، ولا كتابَ يُعزى إلى مؤلّفه، ولا مسألةَ تُوردَ على وجهها، ولا بلدةَ توضع في موضعها ... "، وقد أورد ذلك كله بحذق ومهارة ولباقة وظرف، حتى إن الرجل ليتلوه فيحس -لحلاوة ما يقرأ- أنه لا يقرأ إلا حقاً وصدقاً، وما فيه من الحق والصدق شيء! ولا يقدر على الخطأ الذي لا صوابَ فيه إلا من يقدر على الصواب لا خطأ معه؛ يحتاج كلاهما إلى علم بمواقف الخطأ ووجوه الصواب، وانتباه وفطنة واطّلاع ومعرفة، كيلا يخلط خطأ بصواب أو صواباً بخطأ. والرسالة -على ما فيها من الهَزْل ¬

_ (¬1) طبقات الشافعية الكبرى: 6/ 94.

والتحريف- تدل على طول باع مؤلفها في علوم اللسان وعلوم العقل، ووقوفه على آراء الفلاسفة وآثار الأدباء ومباحث العلماء، ولا تخلو من فوائد. وهي ناقصة من وسطها وآخرها، والموجود منها ثلاث وخمسون صفحة، في كل صفحة أحد عشر سطراً، مكتوبة بخط قريب من النسخي مضبوط قليل الأخطاء يدلّ على علم ناسخه، وليس في الرسالة تاريخ، ولكن ورقها من الورق الذي بَطَلَ استعماله من ثلاثة قرون، فكأنها مكتوبة في القرن التاسع أو العاشر. على الصفحة الأولى منها: كتاب اختراع الخراع تأليف المولى الأجل الفاضل العلامة فريد دهره ووحيد عصره صلاح الدين أبي الصفا خليل بن أيبك الصفدي رحمه الله تعالى للشيخ عبد الجواد: بدا لابنِ أَيَبَكَ في عصره ... كسادُ العُلومِ وخُبْثُ الطِّباعْ وأنّ الأماثِلَ قد أصبحوا ... هَباءً يُطارُ بِهم في الشَّعاعْ وأنّ كثيراً كَمَالاتُهم ... دَعاوَى أحاديثُها في انقطاعْ فجَرَّ بأفعاله رأيَهم ... وأتحفهم باختِراعِ الخُراعْ * * * أول الرسالة: قال أبو خُرافة الهدّ القشيري سامحه الله تعالى: حضرت في بعض أوطان أوطاري وأوطار أبكاري مع جماعة ...

فابتدر أحد ظرفائهم فأنشدنا بيتين هما: لو كنتِ بَكْتوت امرَأَةَ جاريَةِ الفَضْلِ ... وكانَ أكْلُ الشَّعيرِ في البَرْدِ مَلْبَسكو لا بُدَّ مِنَ الطُّلوعِ إلى بِئْركِ في ... الليلِ وظَلامُ النّهارِ متضحٍ اً (¬1) فأخذ الجماعة في الإعجاب مما اتفق فيهما من اضطراب النظم، واختلال القافية، وعدم الإعراب، ومخالفة أوضاع اللغة، وتناقض المعنى وفساده، والتخبيط في التاريخ ... وقضوا نهارهم بتعاطي كؤوس العُجْب من ذلك؛ فقال أحدهم: إنهما محتاجان إلى شرح ينخرط معهما في سلك الغريب ... فصبّحهم وقد أعمل في الشرح حيلته، فقال: حدثني نصير الدين أبو الهزايم ثابت (¬2) قال: حدثني من كتابه أصيل الدين أبو المفاخر لقيط القطربي، وقيل القرطبي، قال: أخبرني إجازة أسد الدين أبو ثور صقر الفنحكردي من أهل دمشق، قال: إن افتخار الدين سبكتكين القُسَهتاني صاحب «زهر الآداب» قال: عارض هذين البيتين الأفوهُ الأَودي أبو علي، على ما ذكره الحريري في «الخطب النباتية» (¬3) في قوله: ¬

_ (¬1) هكذا هي في الأصل، كلمة «متضح» متحركة بتنوين الكسر، وبعدها ألف عليها تنوين فتح! (¬2) تأمل في التناقض بين نصره الدينَ وكونه أبا الهزائم. (¬3) صاحب «زهر الآداب» هو أبو إسحاق الحصري، والأفوه الأودي من شعراء العرب، وأبو علي القالي صاحب «الأمالي»، و «الخطب» لابن نباتة.

وإذا نظرتُ إلى الوُجود بعينكم ... فجميع ما في الكائنات مَليحُ وهذا من قصيدته الطَّرْدية في التشبيهات، وأولها: وأنت يا غُصنَ النّقا ... ما أنتَ من ذاك النّمَطْ (¬1) وزعم مؤيد الدولة أبو خاذل أيدكين الجواليقي، صاحب المديح المأموني، في كتاب الصادح والباغم، في باب المراثي، أنهما من باب قول الثعالبي: لو كنت شاهين جارية الفضـ ... ـل وكان الحريم منزلك وليس بشيء، والصحيح الأول. (¬2) قال الشارح عفا الله عنه: نبدأ أولاً بما في البيتين من اللغة، وثانياً بما فيهما من الإعراب، وثالثاً بما فيهما من التاريخ وتقدير المعنى، ورابعاً بما فيهما من البديع، وخامساً بالكلام على ما يتعلق بعَروضهما، وسادساً بما يتعلق بعلم القافية. القول في اللغة قوله «بَكْتوت»: هو عَلَم مُرَكَّب من اللغة العربية والتركية، ¬

_ (¬1) من شعر البهاء زهير. (¬2) «الصادح والباغم» لابن الهبّارية، وليس فيه مَرَاثٍ، والثعالبي هو صاحب «يتيمة الدهر» وغيرها، والبيت من شعر ابن الحَجّاج. قلت: وقرأت في كشف الظنون أن «الصادح والباغم» منظومة في ألفَي بيت على أسلوب «كليلة ودمنة»، أمضى مؤلفها في نَظْمها عشر سنين (مجاهد).

فبَكْ بالعربي وتوت بالتركي، ومعناهما «أمير توت»، مثل دمرطاس ومروان وقراحاً وما أشبه ذلك. ومن قال إن معنى ذلك بالعربية «أمير النّيروز» فلا يتأتى له ذلك، إلا إن كان النيروز في شهر توت على ما ذكره السَّخاوي في سمع الكيان (¬1). قوله «امرأة»: المرأة مشتقة من المرآة، وهي التي يرى الإنسان فيها وجهَه إذا كانت في جيبه، أعني السراويل، وكقول الأخطل: ما أخَذَ المِرآةَ في كَفّهِ ... ينظُرُ فيها للجَمَال المَصونْ إلاّ رأى الشمس وبَدْرَ الدُّجى ... ووجهَهُ في فَلكٍ يَسْبحونْ (¬2) قوله «جارية»: فيها قولان، منهم من قال: هي الساقية لأنها تجري من أسفل إلى فوق، واستشهد بقول الحُطَيئة: نديمتي جارِيةٌ ساقِيَهْ ... ونُزهَتي ساقيةٌ جاريَهْ جاريةٌ أَعْيُنُها جَنّةٌ ... وجَنّةٌ أَعْيُنُها جاريَهْ (¬3) ¬

_ (¬1) السخاوي معروف، و «سمع الكيان» كتاب عارض فيه محمد بن زكريا الرازي الطبيبُ كتابَ أرسطو الطبيعي. (¬2) الأخطل معروف، والبيتان لابن سَناء المُلك. (¬3) انتبهوا لقوله: تجري من أسفل إلى فوق! والحُطَيئة معروف، والشعر أظن أنه لشرف الدين شيخ الشيوخ. وهذان البيتان شاهد في باب المحسِّنات من التورية والجِنَاس والطِّبَاق، كل ذلك فيهما بلا تكلف ولا تصنّع.

ومنهم من قال: هي في مقابلة المملوك، واستشهد بقول العَكَوَّك: أيا بديعَ الجَمالِ رِقَّ لِمَنْ ... سِتْرُ هَواهُ عليك مَهْتوكُ دُموعُهُ في هَواكَ جارِيةٌ ... وقلبُهُ في يدَيْكَ مَمْلوكُ (¬1) وهذا باطل ببديهة الإنسان. قوله «الفضل»: هو كل شيء ناقص (!) ومنه سُمِّي عبد الرحيم كاتب مروان بالفاضل لأنه كان قصيراً (¬2)، وفي أمثال بُزُرْجَمْهِر: «لأمر ما جَدَعَ قصيرٌ أنفَه» (¬3). قال التَّلَّعْفَري: ضِعافُ الطَّيرِ أَطْوَلُها جُسوماً ... ولم تَطُلِ البُزاةُ ولا الصُّقورُ (¬4) قوله «كان»: معلوم أنها للاستقبال (!)، وسيأتي الكلام عليها في الإعراب. قوله «أكل»: هو الحالة المؤدّية إلى الجوع لمن هو شبعان (!). ¬

_ (¬1) العَكَوَّك هو علي بن جَبَلة، من شعراء العصر العباسي، والبيتان كأنهما لمحيي الدين بن عبد الظاهر. قلت: وهنا أيضاً تحقّقت من البيتين لِمَا وجدته من الشك في نسبتهما، فوجدتهما في «الوافي بالوفيات» منسوبَين لزين الدين بن عُبيد الله (مجاهد). (¬2) عبد الرحيم هو القاضي الفاضل، كاتب السلطان صلاح الدين، وكاتب مروان إنما هو عبد الحميد الكاتب. (¬3) بزرجمهر حكيم الفرس، والمثل من أمثال قصة الزَّبّاء المشهورة. (¬4) التلَّعفري شاعر متأخّر، والشعر للعبّاس بن مِرْدَاس.

قوله «الشعير»: معروف أنه من فواكه الآدميين، ولا يوجد إلا في جَزَرات الهند بالمغرب في الليل دون النهار صيفاً، قال ابن السّاعاتي: جاريةٌ لم تأكُلِ المُرَقَّقا ... ولم تَذُقْ مِنَ البُقُولِ الفُسْتُقَا ومن استشهد في هذا بقول ابن الفارض يصف رجلاً من الأكراد كَوْسَجاً: عَلّقَ اللهُ في عَذَاريكَ مِخلا ... ةً، ولكنّها بغيرِ شَعير (¬1) فليس من التحقيق في شيء، والمعنى على الأول. إلى أن قال: قوله «من الطلوع إلى بئرك»، «الطلوع»: نعوذ بالله منه، لأنه مرض بلغمي يحدث في الشَّعر لمداومة أكل الزَّنْجبيل والأشياء الحارّة كالبطّيخ والأسماك وغيرها؛ قال ابن الدُّمَيْنَة يرثي شخصاً: فَسّرَ لي عابرٌ مَناماً ... فصّلَ في قوله وأَجْمَلْ وقال لا بُدّ من طُلوعٍ ... فكان ذاك الطُّلوعُ دُمَّلْ (¬2) «بئركِ»: لفظ مركب من الأعداد في التركي، كقولك في العربي واحد اثنان، فبير واحد وإكي اثنان، ومجموع هذا العدد سبعة ونصف، لأن إكي ناقصة الياء، ولولا ذلك لكان المجموع ¬

_ (¬1) ابن السّاعاتي بهاء الدين بن رستم، من شعراء صلاح الدين، والبَيت من شواهد كتاب سيبويه. وابن الفارض معروف، والشعر لابن الرّومي. (¬2) ابن الدُّمَينة من شعراء الحماسة، والبيتان من شعر الحكيم ابن دانيال.

ثمانية. وألفاظ الأتراك لا شاهد عليها من العربية، فلهذا أضربنا عن الاستشهاد لذلك! «في الليل»: الليل معروف، وهو من الزّوال إلى أذان العصر في العُرْف، وفي اللغة من طلوع الشمس إلى غروبها؛ كما قال دُرَيد بن الصِّمَّة في الغزل: أمستوفي قُلَيّوب ... إلى كم هكذا تكذبْ؟ من الصُّبح إلى الظهر ... إلى العَصر إلى المَغربْ وقليوب بلدة صغيرة على شاطئ الفرات من أعمال عدن، وقيل هي إقريطش باليمن (¬1). * * * إلى آخر ما قاله في اللغة في هذين البيتين، ثم انتقل إلى: القول في الإعراب «لو»: حرف يجرّ الاسم ويكسر الخَبَر، على ما ذكره الرُّمّاني في شرح طبيعي الشِّفا والكِسائي في رموز الكنوز (¬2)؛ هذا مذهب الكوفيين، والصحيح أنها من الأفعال الناقصة التي لا عمل لها. ¬

_ (¬1) دريد بن الصِّمّة من شعراء الجاهلية وفرسانهم، والشعر لشرف الدين البوصيري (وكأنه يصف به بعض الموظفين في أيامنا وكذبهم على المراجعين، يؤجّلونهم من حين إلى حين!)، وقليوب بلدة معروفة في مصر. (¬2) «الشفا» لابن سينا في الحكمة، و «رموز الكنوز» لسيف الدين الآمدي، والكسائي شيخ نحاة الكوفة، والرمّاني من النحاة.

وإنما قلنا إنها فعل ناقص لأنها كانت في الأصل «لوى» فنقصت حرفاً، وإنما قلنا إنها لا عمل لها لأنها متى نقصت ضَعُفت عن العمل، وهذا الذي ذهب إليه إقليدس وأرشميدس في مخارج الحروف وبرهنّاه مستشهدَين على ذلك بقول الشَّمّاخ في رائيّته: أرسَلَ فَرْعاً ولَوَى هاجري ... صِدْغاً فأعيا بهما واصفُهْ (¬1) * * * وقد سقط من الرسالة أوراق لا أدري كم هي، ثم يبدأ الموجود منها بقوله: قال الشارح رحمه الله تعالى: «أكل»: فعل مضارع، لأن في أوله أحد الزوائد الخمسة وهو الهمزة؛ إنما قلنا بزيادتها لأنه لا يصح تجريدها، تقول: «كل» شيء. قال لَبيد: كلُّ خَطْبٍ ما لم تكونوا غِضاباً ... يا أُهَيْلَ الحِمى عَلَيّ يَسيرُ وقد جاء فعلاً ماضياً في قول الخنساء الأَخْيَلية ترثي زوجها: أَكِلُ الأمرَ إذا ما حلَّ بي ... للّذي قَدَّرَهُ أنْ يَقَعَا (¬2) «الشعير»: الألف واللام أصلية، وهو نكرة إن قلنا بأنها أداة التعريف، ومعرفة إن قلنا بأصليَّتها، ذكر ذلك المبرَّد في كتاب ¬

_ (¬1) إقليدس وأرشميدس من فلاسفة اليونان، والشماخ معروف، والشعر لبعض المتأخرين. (¬2) لَبيد معروف، والشعر لبعض المتأخرين، والخنساء أخت صخر وكانت ترثيه هو لا زوجها، والأخيلية هي ليلى، معروفة.

ديسقوريدوس في باب النَّعْت، وهو هنا مرفوع على الحال (¬1). «في»: اسم، لأنه يحسن دخول حرف الجر عليه: تقول انتقل من الشمس إلى فيء الظل، ودخول الألف واللام: تقول هذه الدراهم مبلغ ألفي درهم، والإضافة تقول: أعجبني حسن فيك، والتنوين أيضاً تقول: هذا المال فيءٌ للمسلمين. وعلى الجملة فما للنحاة في الأسماء كلمة يدخلها سائر خواص الاسم إلا «في»، وهي ممنوعة من الصرف لأنه اجتمع فيها من العلل أكثر مما اجتمع في أذربيجان، وذلك أن الفاء بعشرة والياء بثمانين على ما ذكره الزجّاج في الجُمَل، فصارت تسعين، وعلل الصرف المانعة تسعة. قال شُبْرُمة بن الطُّفَيل في وصف الزَّرافة: رُبَّ بُرْغوثٍ ليلةً بِتُّ منه ... وفؤادي في قَبضةِ التّسعينِ والقَبْض هو المنع من الصرف (¬2). فلهذا قال النحاة إن «في» لا تنصرف. «البرد»: منصوب بالألف واللام التي في آخره على أنه خبر متقدِّم تأخر عنه المبتدأ فحُذِف، وهي مسألة مشهورة في باب الاستثناء، ونص عليها سيبويه خلافاً لابن الحاجب لمّا بحث معه في المسألة الزُّنْبورية بين يدي الوليد بن عبد الملك. وتقدُّمُ ¬

_ (¬1) المبرَّد من أئمة العربية، وكتاب ديسقوريدوس في معرفة الأدوية النباتية المفردة، والحال منصوب لا مرفوع. (¬2) شبرمة من شعراء العرب، والبيت للصاحب جمال الدين بن مَطروح.

الخبرِ دائرٌ في الكلام على ألسنة العرب، قال كُثَيّر عَزّة في محبوبته بُثَينة: والله ما من خَبَرٍ سَرّني ... إلاّ وذِكراكِ له مُبْتَدَا فقدّم الخبر وأخّر المبتدأ (¬1). * * * إلى آخر ما قاله في اللغة في هذين البيتين، ثم انتقل إلى: القول على المعنى قال: قبل الخوض في الكلام على المعنى نقدّم مقدمة تشتمل على ما يتعلق بهذين البيتين من التاريخ منقولاً من «المجسطي» للأحنف بن قيس في تاريخ بغداد؛ فنقول: بَكتوت هذه كانت بعض حَظايا النُّعمان بن المُنذِر، شراها من نور الدين الشّهيد صاحب القَيْروان، وكانت قبلُ لعَنان بنت النّابغة ابن أبي سُلْمَى زوج سيف الدولة وهو ابن بُوَيه أول ملوك السامانيّة الذين أخذوا خُراسان من الفاطميين، أول ملوكهم السفاح، والسفاح هو أخو العاضد (¬2). * * * ¬

_ (¬1) سيبويه معروف، توفي سنة 180، وابن الحاجب متأخر معروف، والبحث في المسألة الزنبورية كان بين سيبويه والكِسَائي عند يحيى البَرْمكي، وكثَيّر معروف ومحبوبته عَزّة، والبيت للسِّرَاج الورَّاق. (¬2) «المجسطي» لليونان، والأحنف تابعي كبير معروف، و «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي أبي بكر، والنّعمان ملك الحيرة ونور الدين صاحب الشام معروف (وبينهما قرون)، وعَنان جارية الناطفي،=

هذا مثال من هذه الرسالة العجيبة، نقف عنده لا نجاوزه إلى القول في البديع والعروض والقافية، لأن المقال قد طال ونخشى أن يَمَلّ القرّاء الكرام. * * * ¬

_ = وابن أبي سُلمى هو زهير لا النابغة، وسيف الدولة هو ابن حمدان وليس ابنَ بُوَيه، وبنو بُوَيه ملوكُ الدَّيْلَم والسامانيّةُ ملوك خراسان، والفاطميون ملوك مصر والمغرب، والسفّاح أخو المنصور أول خلفاء بني العباس، والعاضد آخر الفاطميين أصحاب مصر.

من آثار المؤلف 1 ـ أبو بكر الصديق 1935 2 ـ قصص من التاريخ 1957 3 ـ رجال من التاريخ 1958 4 ـ صور وخواطر 1958 5 ـ قصص من الحياة 1959 6 ـ في سبيل الإصلاح 1959 7 ـ دمشق 1959 8 ـ أخبار عمر 1959 9 ـ مقالات في كلمات 1959 10ـ من نفحات الحرم 1960 11ـ سلسلة حكايات من التاريخ (1 ـ 7) 1960 12ـ هتاف المجد 1960 13ـ من حديث النفس 1960 14ـ الجامع الأموي 1960 15ـ في أندونيسيا 1960 16ـ فصول إسلامية 1960 17ـ صيد الخاطر لابن الجوزي (تحقيق وتعليق) 1960 18ـ فِكَر ومباحث 1960

19ـ مع الناس 1960 20ـ بغداد: مشاهدات وذكريات 1960 21ـ سلسلة أعلام التاريخ (1ـ 5) 1960 22ـ تعريف عام بدين الإسلام 1970 23ـ فتاوى علي الطنطاوي 1985 24ـ ذكريات علي الطنطاوي (1ـ 8) 1985ـ 1989 25ـ مقالات في كلمات (الجزء الثاني) 2000 26ـ فتاوى علي الطنطاوي (الجزء الثاني) 2001 27ـ فصول اجتماعية 2002 28ـ سيّد رجال التاريخ (محمد صلى الله عليه وسلم) 2002 29ـ نور وهداية 2006 30ـ فصول في الثقافة والأدب 2007 * * *

§1/1