فصل الخطاب في شرح مسائل الجاهلية ت محب الدين الخطيب

الألوسي، محمود شكري

[مقدمة الطبعة الأولى] محب الدين الخطيب

[مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية] [مقدمة الطبعة الأولى] محب الدين الخطيب مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الأولى الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا (محمد) رافع لواء الهدى في العالمين وبعد فإن الخلفاء الراشدين ورجال الدولة في زمن بنى أمية كانوا يعهدون بلواء الإسلام إلى السواعد العربية تخوض به الآفاق شرقًا وغربًا، وإلى الألسنة العربية تدعو إليه بادية وحاضرة، فكانت الدولة على اتصال بجزيرة العرب تغذي الجيش من فتيانها، وتعنى بأحوال أهلهم في ربوعهم وبين جبالهم، وتوسد الأمور في الأقطار إلى النوابغ من عقلائهم وحكمائهم، فكان الإسلام غضًا في جزيرة العرب، وهدايته معمولا بها تحت الخيمة وفي بيت الشعر وبين جذوع النخيل فما برح الإسلام بذلك منصورًا، وممالكه بازدياد، والناس يدخلون في دين الله شعوبًا وأممًا، إلى أن استدار الزمان مرة أخرى فجرب الخلفاء من بنى العباس الاعتماد على أهل السياسة والحمية الدنيوية من الفرس في إقامة دعائم ملكهم، ولم يكن أهل السياسة والدنيا منهم كما كان أهل التقوى والدين، فأبدت المجوسية نواجذها، ورغم الفتك بأبي مسلم فإن الحال ظلت على ذلك إلى زمن أمير المؤمنين المعتصم فأخذ دفة السفينة من أيدي الفرس وأسلمها إلى أيدي غلمانه من الترك، فنهض من شر واحد ووقع في شرين: لأن للفرس سابقة وحضارة ليس لهؤلاء مثلهما. وفي هذه الحادثة يقول الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده: [خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخلفه، وبئس ما صنع بأمته ودينه. أكثر من ذلك الجند الأجنبي، وأقام عليه الرؤساء منه. فلم تكن إلا عشية أو ضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء، واستبدوا بالسلطان دونهم وصارت الدولة في قبضتهم، ولم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام، والقلب الذي هذبه الدين، بل جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل، يحملون ألوية الظلم، لبسوا

الإسلام على أبدانهم، ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم، وكثير منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في خلوته ويصلي مع الجماعات لتمكين سلطته. . .] منذ تلك الأزمان وجزيرة العرب مهملة: لا تعنيها الدولة، ولا تستعين بها. وكانت نتيجة ذلك أن "الجاهلية" عادت إلى جزيرة العرب واستقرت فيها قرونًا طويلة. ثم ظهر في صميم جزيرة العرب رجل عظيم لا يزال حقه على المسلمين مهضومًا فيهم، وأعني به الرجل المصلح، داعية العرب والمسلمين للرجوع إلى فطرة الإسلام الأولى، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب مؤلف أصل هذا الكتاب، هذا الرجل نظر فيما عليه سكان جزيرة العرب في زمنه فرآهم في حالة سوء: العصبية الجاهلية كالتي نهى عنها هادي البشر (محمد) صلى الله عليه وسلم، ودعاء غير الله كالذي جاء صلى الله عليه وسلم لاستئصال جرثومته، والاحتيال بمختلف الأسباب للابتعاد عن الحق والهدى كالذي كان قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم، ثم التقاطع والتفرق، والتواصي بالباطل دون الحق، والاعتداء على حق الغير، والعطالة، والكسل، والخرافات والأوهام، والضغينة، والفوضى، والقذارة، والمكر، والخداع، وعدم الانقياد للنظام بحيث كان كل رجل أمة وحده. هذه أمراض رآها مؤلف أصل هذا الكتاب موجودة في قومه وفي بلاده، ورأى السنة المحمدية تدور حول تطهير الإنسانية من هذه الشوائب، فقال في نفسه: - إذن نحن في مثل ما كان عليه أهل الجاهلية! حينئذ عاهد ربه على أن يعلن الحرب على هذه الأمراض، وأن يداويها بالطب النبوي من كتاب الله وسنة رسوله. قلت إنه كان رجلا عظيما، لأنه ثبت في جهاده إلى أن لقي ربه، فحول الله تلك الأوطان العربية على يده وبطريقته من أخلاق الجاهلية وأطوارها إلى أمة تقيم الصلاة ساعة الدعوة إليها، وتؤتي الزكاة عند استحقاقها، ولا يشهد رمضان فيها ما يشاهده في مصر والشام والعراق من فضائح، ويحجون بقلوب لا متسع فيها لغير الإيمان بالله، وكل رجل منهم عنده كفنه يحمله مع سلاحه إذا ناداه الإمام للجهاد.

إن تحويل هذه الأمة مما كانت عليه إلى ما صارت إليه ليس من الأمور الهينة، وأنا كلما تصورت في ذهني عظمة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يتضاءل في نظري كثير من الشخصيات التي أنا معجب بها، فأنظر إليه بعين الإكبار والإجلال. نعم، كان في نجد جمود وشدة، لكنهما ناشئان عن عزلة النجديين في بلاد منزوية عن ممر الأمم، وأنا على يقين بأن اتصال نجد بالحجاز واتصال النجديين والحجازيين بحجاج الأقطار، وازدياد عدد الحجيج باستتباب الأمن ورسوخه، سيكون فيه خير عظيم للحجاز ونجد والعالم الإسلامي جميعًا. وبعد فإن هذه الرسالة إحدى نظرات محمد بن عبد الوهاب إلى المرض العام الذي كان سكان الجزيرة العربية مصابين بأعراضه، والظاهر أنه جعلها رءوس أقلام ليتوسع فيها يومًا ما فلم يتيسر ذلك له وقد طبعت في الهند على اختصارها الذي جعلها بمقام فهرس للمسائل المائة التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية من الأميين والكتابيين، ولما رأى علامة العراق السيد محمود شكري الألوسي رحمه الله اختصارها، وأدرك أنها ليست تأليفًا ولكنها مذكرة لتأليف، عمد إلى شرحها. ولا أعني شرح ألفاظها بل شرح معانيها، أي أنه أتم العمل الذي كان يريد المصلح النجدي العظيم أن يتمه. ولما كان كتاب السيد محمود شكري الألوسي لا يزال مخطوطًا يخشى أن تجتاحه الجوائح، فقد رأى صديقي أديب العراق السيد محمد بهجة الأثرى - وهو خير من أنجبهم العلامة الألوسي - أن يجعل هذا الكتاب هديته إليَّ عند زيارته القاهرة في شهر صفر سنه 1347 هـ، ورأيت من قدر هذه الهدية عندي أن أبادر إلى طبعها ووضعها بين أيدي الناس تعميما لفائدتها وأن أجعلها هدية المكتبة السلفية إلى سيد شباب هذه الدعوة الأمير فيصل السعود لأنه كما ورث حُماتها بآبائه ورث صاحب الدعوة نفسه من طرف أمه، فلم أجد أحدًا أولى بها منه. والله ولي التوفيق. القاهرة: 12 ربيع الأول 1347 هـ محب الدين الخطيب

مقدمة محمود شكري الألوسي البغدادي

[مقدمة محمود شكري الألوسي البغدادي] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا للدين المبين، وأنار لنا الصراط المستقيم والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين. أما بعد فيقول العبد المفتقر إلى عفو الله وغفرانه محمود شكري الألوسي البغدادي كان الله تعالى له، وأحسن عمله: إني قد وقفت على رسالة صغيرة الحجم كثيرة الفوائد تشتمل على نحو مائة مسألة من المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية من الأميين والكتابيين، وهي أمور ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان ولا أخذت عن نبي من النبيين، ألفها الإمام محيي السنة، ومجدد الشريعة النبوية، أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب النجدي الحنبلي، تغمده الله تعالى برحمته. فرأيتها في غاية الإيجاز، بل كادت تعد من قبيل الألغاز، قد عبر عن كثير منها بعبارة مجملة، وأتى فيها بدلائل ليست بمشروحة ولا مفصلة. حتى إن من ينظرها ليظن أنها فهرس كتاب، قد عدت فيه المسائل من غير فصول ولا أبواب، ولاشتمالها على تلك المسائل المهمة الآخذة بيد المتمسك بها إلى منازل الرحمة، أحببت أن أعلق عليها شرحًا يفصل مجملها ويكشف معضلها من غير إيجاز مخل ولا إطناب ممل. مقتصرًا فيه على أوضح الأقوال، ومبينًا ما أورده من برهان ودليل، عسى الله أن ينفع بذلك المسلمين، ويهدي به من يشاء من عباده المتقين. فيكون سببًا للثواب، والفوز يوم العرض والحساب، والأمن من أليم العذاب، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

دعاء الصالحين

بسم الله الرحمن الرحيم قال المصنف رحمة الله تعالى عليه: هذِهِ مَسائِلُ خالفَ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عَلَيْهِ أهلُ الجاهِلِيَّةِ الكِتابِيِّينَ والأمِّيِّينَ، مِمَّا لا غِنى لمُسْلِمٍ عَنْ مَعْرفَتِها. فالضِّد يظهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ وَبِضدِّها تتميز الأشْياءُ وَأهَمُّ ما فيها وَأشَدُّهُ خَطَرا، عَدَمُ إيمانِ القَلْبِ بِما جاءَ به الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم، فَإِنِ انْضافَ إِلى ذلكَ اسْتِحْسانُ دِينِ الجاهِلِيَّةِ والإِيمانُ بهِ، تَمَّتِ الخَسارةُ والعياذُ باللهِ تعالى، كما قال تعالى [العنكبوت: 52] :. . {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 52] [دعاء الصالحين] دعاء الصالحين (المسألة الأولى) : أنَّهم يَتَعبَدونَ بإشْراكِ الصَّالِحينَ فِي دعاء اللهِ تعالى وعبادته، وَيَرَوْنَ ذلكَ مِنْ تَعْظيم الصَّالِحينَ الَّذي يُحِبُّهُ الله، ويُريدونَ بِذلكَ شَفاعتَهم عند الله لِظَنِّهِم أنَّهم يُحِبونَ ذلكَ كَما قَالَ تَعَالى في أوائلِ [الزُّمَرِ2-3] : {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 2 - 3] وقالَ تَعالى [يونس: 18] : {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] وهذهِ أعظمُ مسألة خالَفَهم فيها رَسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأتى بالإِخلاص، وأخْبَرَهم أنَّه دِينُ الله الَّذي لا يُقْبَلُ مِن أحَدٍ سِواهُ وأنَّ مَنْ فَعَلَ ما يسْتَحْسنونه، حَرَّمَ الله عليه الجَنَّةَ، ومأواه النَّارُ. وهذه المسألةُ هي الدِّينُ كُلُّهُ، وَلأجْلِها تَفَرَّقَ النَّاسُ بينَ مسلمٍ وكافِرٍ، وعندَها وَقَعَتِ العَداوةُ، ولأجلِها شُرِعَ الجهادُ؛ كما قال تَعالى في [البقرة: 193] : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]

التفرق

[التفرق] التفرق (الثانية) : أنهم مُتَفَرِّقونَ، ويَرَوْنَ السَّمْعَ والطَّاعةَ مَهانَةً ورَذالةً. فَأمَرَهُمُ الله بالاجتِماعِ، وَنَهاهُم عَن التفْرقة فقالَ عزَّ ذكرُه [آل عمران: 102 -103] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 102 - 103] يُقالُ: أرادَ سُبحانه بما ذُكرَ ما كانَ بين الأوسِ والخَزْرجِ مِنَ الحُروبِ التي تَطاوَلَت مِائةً وَعِشرينَ سَنَةً، إِلى أنْ أَلَّفَ سُبحانَه بينهم بالإِسلام، فَزالتِ الأحقادُ، قاله ابنُ إسحاقَ، وكان يومُ بُعاث آخِرَ الحُروبِ التي جَرَت بينهم، وقد فُصِّلَ ذلكَ في "الكامل " ومِن النَّاسِ مَن يقولُ: أراد ما كان بَيْنَ مُشركي العَرَبِ مِنَ التَّنازعُ الطَّويلِ والقتالِ العريضِ، ومنه حربُ البَسوسِ، كما نُقلَ عن الحَسَنِ رضي الله عنه. وَقَالَ تَعالى [التغابن: 16] : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن: 16] إلى غيرِ ذلِكَ من الآيات النَّاصَّةِ على النَّهي عنِ الاستبدادِ والتَّفَرُّقِ وعَدَمِ الانقيادِ والطَّاعة مِمَّا كانَ عليه أهلُ الجاهِلِيَّة. [مخالفة ولي الأمر] مخالفة ولي الأمر (الثالثة) أنَّ مُخالَفةَ وليِّ الأمْرِ، وعَدمَ الانقيادِ له عندهم فضيلةٌ، وبعضهم يجعلهُ دينا. فخالفهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأمَرهم بالصَّبْرِ على جَوْرِ الوُلاةِ والسَّمعِ والطَّاعة والنّصيحةِ لَهُمْ، وَغَلَّظ في ذلك وأبدى وأعادَ. وهذه الثلاثُ هي التي وَرَدَ فيها ما في الصَّحيح صلى الله عليه وسلم: «يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تُشْرِكوا به شَيْئا، وأنْ تَعْتَصِموا بِحَبل الله جَميْعا، وأن تُناصِحوا مَنْ وَلاَهُ الله أمرَكُم» . وروى البُخاريُّ عن ابنِ عبَّاس عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن كَرِهَ مِنْ أميرِه شَيْئا، فلْيَصْبِرْ، فإِنه مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلطانِ شِبْرًا، ماتَ مِيْتةً جاهِلِيةً» وَرَوى

التقليد

أَيْضًا عن جُنادةَ بنِ أبي أُميَّة، قال: دَخَلنا على عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ وهو مريضٌ، فَقُلْنا: أصلَحَكَ الله، حَدِّثْ بِحَديثٍ يَنْفَعُكَ الله بِهِ سَمِعْتهُ مِن النبي صلى الله عليه وسلم، قالَ: «دَعانا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبايَعَنا، فكان فيما أخَذَ عَلَينا: أنْ بايَعَنا على السَّمْعِ والطَّاعَة في مَنْشَطِنا وَمَكْرَهِنا وعُسْرِنا وَيُسْرِنا وأثَرَةٍ علينا، وأنْ لا نُنازعَ الأمرَ أهلَهُ، إلا أن تَرَوْا كُفْرًا بَواحًا عندكم من الله فيه برهانٌ» . والأحاديثُ الصحيحةُ في هذا البابِ كثيرة، ولم يقعْ خَلَلٌ في دِين النَّاسِ أو دُنياهُم إلاَّ من الإِخلال بِهذِه الوَصِيَّةِ. [التقليد] التقليد (الرابعة) : أنَّ دِينَهم مَبْنيٌّ على أُصولٍ أعْظَمُها التَّقْليدُ، فهوَ القاعدةُ الكُبرى لجميعِ الكفَّارِ مِنَ الأوَّلينَ والآخِرين: كما قال تعالى في [الزخرف: 23- 24] : {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ - قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 23 - 24] فَأَمَرَهُمُ الله تعالى بقوله في [الأعراف: 3] : {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] وقالَ تَعالى: [البقرة: 170] : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] إلى غير ذلكَ مِمَّا يَدُلُّ على أنَّ أهلَ الجاهِلِيَّة كانوا في رِبْقَةِ التقليدِ، لا يُحكِّمونَ لَهم رَأيًا، وَلاَ يُشْغِلونَ فِكرًا؛ فلِذلِكَ تاهوا في أودِيَة الجَهالَة. وهكذا كُلُّ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهم في أيِّ عصرٍ كانَ. [الاقتداء بالعالم الفاسق أو العابد الجاهل] الاقتداء بالعالم الفاسق، أو العابد الجاهل. (الخامسة) : الاقِتداءُ بِفَسَقَةِ أهلِ العِلْمِ وجهَّالِهِم وعبَّادِهِم فَحَذَّرَهُم الله تَعالى مِن ذلكَ بقوله [التوبة: 34] : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] وقال تَعالى [المائدة: 77] : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]

الاحتجاج بما كان عليه الآباء بلا دليل

إلى آَيات أُخَرَ تُنادِي بِبُطْلانِ الاقْتِداءِ بالفُسَّاقِ وَأهْلِ الضَّلالَة والغَيِّ، وذلِكَ مِنْ سنَنِ الجاهِلِيَّةِ وطرائِقِهمُ المِعْوَجَّةِ. [الاحتجاج بما كان عليه الآباء بلا دليل] الاحتجاج بما كان عليه الآباء بلا دليل (السادسة) : الاحتِجاجُ بِما كانَ عليه أهلُ القرونِ السَّالِفَةِ، مِن غَيرِ تَحكيمِ العَقْلِ، والأخْذِ بِالدَّليلِ الصَّحيح. وقد أبْطَلَ الله تَعالى ذلكَ بِقولهِ في [طه: 49-54] : {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى - قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى - قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى - قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى - كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه: 49 - 54] إلخ. وقالَ تَعالى فيِ [القَصَصِ: 36-37] : {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ - وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [القصص: 36 - 37] وَقَالَ عَزَّ ذكْرُه في سورةِ [المؤمنونَ: 23-25] : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ - فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ - إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 23 - 25] وقالَ تَعالى فيِ [ص: 6-7] : {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ - مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 6 - 7] فَجَعَلوا مَدارَ احْتِجاجِهِم على عَدَمِ قَبولِ ما جاءَت بِهِ الرُّسُلُ أنَّه لم يَكُنْ عليهِ أسْلافُهُم، وَلا عَرَفوه مِنْهم، فانْظُرْ إلى سُوءِ مدارِكِهم، وَجُمودِ قرائِحِهِم، وَلو كانَت لَهُم أعينٌ يُبْصِرونَ بِها، وآذانٌ يَسمَعون بها، لَعَرفَوا الحَقَّ بدليلِهِ، وانْقادوا لِليَقينِ مِن غيرِ تَعْليلِهِ، وَهَكَذا أخلافُهُم ووراثهم، قَد تَشابَهت قلوبُهُم.

الاحتجاج على الحق بقلة أهله

[الاحتجاج على الحق بقلة أهله] الاحتجاج على الحق بقلة أهله (السابعة) : الاعْتِمادُ عَلى الكَثْرَةِ، والاحْتِجاجُ بالسَّوادِ الأعْظمِ والاحْتِجاجُ عَلى بُطْلانِ الشَّيْءبِقِلَّةِ أهلِهِ. فَأنْزَلَ الله تَعالى ضِدَّ ذَلِكَ وما يُبْطِلُهُ، فَقَالَ في [الأنعام: 116-117] : {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ - إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 116 - 117] فالكثرةُ على خِلافِ الحَقِّ لا تستوجِبُ العُدول عَنِ اتِّباعِهِ لِمَنْ كانَ لَهُ بَصيرةٌ وَقَلب، فالحقُّ أحَقُّ بالاتِّباع، وإن قَلَّ أنْصارُهُ؛ كما قال تَعالى [ص: 24] : {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] فأخْبَرَ الله عن أهلِ الحَقِّ أنَهم قليلون. غيرَ أنَّ القلَّةَ لا تَضرُّهُمْ. تُعَيِّرُنا أنِّا قَليلٌ عَدِيدُنا ... فَقُلْتُ لَهُمْ إِنَّ الكِرامَ قَليلُ (¬1) فالمقصودُ أنَّ مَن لَهُ بَصيرةٌ ينظرُ إلى الدَّليلِ، ويأخذُ ما يَسْتنتِجُهُ البُرْهانُ، وإنْ قَلَّ العارِفونَ بِهِ، المُنْقادونَ لهُ، ومن أخَذَ ما عَليه الأكثرُ، وما ألِفَتْهُ العامَّةُ من غيرِ نظر لدليلِ فهو مخطئٌ، سالك سبيلَ الجاهِلِية، مقدوحٌ عند أهلِ البصائرِ. [الاستدلال على بطلان الشيء بكونه غريبًا] الاستدلال على بطلان الشيء بكونه غريبًا. (الثامنة) الاستدلال على بطلان الشيء بكونه غريبًا. فرد الله تَعالى ذلك بقوله في [هود: 116] : {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116] ومعنى الآية: (فَلولَا كاَنَ) تحضيضٌ فيه معنى التفجُّع، أي: فهل كان (مِنَ القُرونِ) أي الأقوام المقتربة في زمان واحد {مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود: 116] أي ذوو خصلة باقية من الرأي والعقل، أو ذَوو فضل، على أن يكون البقية اسمًا للفضل، والهاءُ (¬2) . ¬

(¬1) للسموأل. (¬2) أي هاء التأنيث في "بقية".

انخداع أهل القوة والحيلة بقوتهم وحيلتهم

للنقل، ومن هنا يقال: فلان من بقية القوم، أي: من خِيارهم، ومنه قولهم في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا، {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود: 116] الواقع فيما بينهم حسبما ذكر في قَصَصهم، وفُسِّر الفساد بالكفر وما اقترن به من المعاصي، {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116] استثناءٌ منقطعٌ، أي وَلَكِن قَليلا منهم أنْجَينا لِكَونهِم كانوا ينهون. [انخداع أهل القوة والحيلة بقوتهم وحيلتهم] انخداع أهل القوة والحيلة بقوتهم وحيلتهم (التاسعة) : الاسْتِدلالُ على المطلوب، والاحتجاجُ بِقومٍ أُعْطوا مِن القوَّةِ في الفَهْمِ والإِدْراكِ، وفي القُدْرَةِ والمُلْكِ؛ ظَنًّا أنَّ ذلك يَمْنَعُهُم من الضَّلالِ. فَرَدَّ الله تَعالى ذلك عليهم بقوله سبحانه في [الأحقاف: 24-26] : {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ - تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ - وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 24 - 26] ومعنى الآية: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ} [الأحقاف: 26] أي: قَوَّيْنا عادًا وأقْدَرْناهُم، و "ما" في قولِهِ تَعالى: فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ موصولةٌ أو موصوفةٌ و "إن" نافية، أيْ: في الَّذي، أو في شيءٍ ما مَكَّنَّاكم فيه من السَّعَةِ والبَسْطَةِ وطُولِ الأعمارِ وسائرِ مَبادئ التَّصَرُّفاتِ، كما في قولهِ تَعالى [الأنعام: 6] : {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام: 6] ولم يَكن النَّفيُ بلفظِ "ما" كراهة لِتكريرِ اللَّفظِ، وإنِ اخْتَلَفَ المَعْنى، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف: 26] لِيَسْتَعْمِلوها فِيْما خُلِقَتْ لَهُ، وَيَعْرِفوا لكُلٍّ مِنْها ما نِيْطَت بهِ مَعْرِفَتُهُ مِن فُنونِ النِّعَمِ، وَيُسْتَدَلُّ بِها على شُؤُونِ مُنْعِمِها عز وجل، وَيُداوموا على شُكْرِهِ جَلَّ ثَناؤُه {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ} [الأحقاف: 26] حَيثُ لم يَسْتَعْمِلوه في اسْتِماعِ الوحي ومواعظِ الرُّسلِ، {وَلَا أَبْصَارُهُمْ} [الأحقاف: 26] حَيثُ لم يَجْتَلوا بِها الآياتِ التكونِيَّةَ المَرسومةَ في صحائفِ العالم، {وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ} [الأحقاف: 26]

حَيث لم يَسْتَعْمِلوها في معرفة الله تعالى {مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف: 26] أيْ: شَيْئًا من الأشياءِ، و"مِن" مَزيدَةٌ للتوكيدِ. وقولهُ: {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف: 26] تَعليل للنَّفيِ، {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26] مِن العذابِ الذي كانوا يَستَعجِلونَه بطريقِ الاستهزاءِ، ويَقُولونَ: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22] فَهذه الآية تبطِلُ الاحْتِجاجَ بقومٍ أُعْطُوا مِن القوَةِ في الفهمِ والإِدراك وفي القدرةِ والملكِ؛ ظَنًّا أنَّ ذلكَ يَمْنَعُهُم منَ الضَّلالِ. ألا تَرى أنَّ قومَ عادٍ كما أخْبَرَ عنهم التنزيلُ كانوا منَ القوَّةِ والبَسْطَةِ في الأموالِ والأبدانِ والإِدْراكِ وسَعَة الأذهانِ وغيرِ ذلك مما لم يَكن مِثْلُهُ لِلعربِ الذينَ أدركوا الإِسلامَ، ومَعَ ذلكَ ضَلُّوا عن سواءِ السَّبيلِ، وَكَذَّبوا الرُّسُلَ بالأباطيلِ، فالتَّوفيقُ للِإيمانِ باللهِ ورسلِه، والإِذعان للحق، وسُلوكِ سبيلِهِ إنِّما هو فَضْلٌ منَ الله تَعالى لا لِكَثرةِ مالٍ ولا لِحُسْنِ حالٍ. وَمَنْ يُرِدِ الحَقَّ ويَسْتَدِلَّ بِكونِ مَن هو أحسنُ حالا منه لم يقبلْهُ، ولم يحُكِّم عقلَه، وَيَتَّبعْ ما يوصِله إِليه الدليل، فقد سَلَكَ سبيلَ الجاهِلِية، وحادَ عن المحجَّةِ المرْضِيَّة. ومِثلُ هذه الآية قولُه تَعالى [البقرة: 89] : {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] كانَ اليَهودُ يَعْلَمونَ مِن كُتُبِهِم رسالةَ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ الله سَيُرْسِلُ نبِيّا كَرِيما من العَرَبِ، وكانوا مِن قبلُ يَسْتَفْتِحونَ على المُشرِكينَ ببعثتِهِ، ويَقولونَ. يَا ربَنا أرْسِلِ النَّبيَّ الموعودَ إرسالُه؛ حتّىَ نَنتصرَ على الأعداءِ، فَلَمَا جاءَهُم ما عَرَفوا، وهو محمَّد صلى الله عليه وسلم، كَفَروا بهِ؛ حَسَدًا منهم أنْ تكونَ النُّبُوَّةُ في العربِ، وهم بزعمِهم أحسنُ أثاثا ورِئْيا، ولَم يَعْلموا أنَّ النُّبُوَّةَ والإِيمانَ بها فضلٌ من الله يُؤتيهِ من يَشاءُ. ومِثلُها أيْضا قولُه تَعالى [البقرة: 146-147] : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ - الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 146 - 147] الضَّميرُ في قولِه: (يَعْرِفوُنَه) عائد على العِلم في قولهِ [145] : {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145] فَكِتمانُهُم الحَقَّ، وعَدَمُ جَرْيِهِم على مُقْتَضى

انخداع أهل الثروة بثروتهم

عِلْمِهم لِما فيهم مِن الجاهِلِيَّةِ، والاعتقادِ أنَّ فضلَ الله مقصورٌ عليهم، لا يَتَعَدَّاهم إلى غيرهم وآيةُ [الأنعام: 19- 20] موافقةٌ لِهذِه الآيةِ لفظًا ومعنًى، وهي قولُه تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ - الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 19 - 20] [انخداع أهل الثروة بثروتهم] انخداع أهل الثروة بثروتهم (العاشرة) : الاسْتدلالُ بعطاءِ الدُّنيا على مَحَبَّةِ الله تعالى قال سُبحانَه [سبأ: 34-39] : {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ - وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ - قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ - وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ - قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 34 - 39] وقال في سورة "القصص" [46-50] : {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ - وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ - قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 46 - 50] وفي آيات أخرى في سورة [القصص 76 -

78 -] يقول الله سبحانه {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ - وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ - قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 76 - 78] فقدْ كفانا الله تعالى إبطالَ هذهِ الخَصْلة الجاهِلِيَّةِ بقوله في الآية الأولى [سبأ: 36] : {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سبأ: 36] وفي الآية الأخرى بقوله [القصص: 78] : {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ} [القصص: 78] إلخ، فَعَلِمْنا مِن ذلك أنَّ محبَّة الله ورضاء الله إنَّما يَكون بطاعتِهِ والانقياد لرسلِه، والإِذعانِ للحقِّ باتِّباعِ البُرهانِ. وأمَّا كثرةُ المالِ، وسَعَةُ الرِّزقِ، وعيشُ الرَّخاءِ، فلا دليلَ فيه على نجاةِ المُنْعمِ عليه بمثلِ ذلك، ولو كانتِ الدُّنيا وما فيها تُعادِل عند الله جَناحَ بَعوضة ما سَقى مَنْ عصاه شربةَ ماءٍ. قالَ سُبحانَه [الزخرف: 33] : {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] وعلى ذلك قول القائل: (¬1) . كمْ عالم عالِم أعْيَتْ مَذاهِبُهُ ... وجاهِل جاهِل تَلْقاهُ مَرْزوقا (¬2) ومما ينْسَبُ لبَعضِ الأكابرِ: رضينا قِسْمَةَ الجَبَّارِ فينا ... لَنا عِلم وَلِلأعْداء مالُ فإِنَّ المال يَفْنى عَنْ قريبٍ ... وَإِن العِلْمَ باقٍ لا يَزالُ والشَّواهِدُ كثيرة. والمقصودُ أنَّ ما كانَ عليه أهلُ الجاهِلِيَّة مِنْ كونِ زَخارِفِ الدُّنيا مِن الأدلَّة على قُربِ مَن حازَها مِن الله وقَبوله عندَه فقول بعيد عن الحقِّ، ومذهب باطلٌ لا ينبغي لِمَنْ له بصيرة أنْ يُعَوِّلَ عَلَيْهِ. ¬

(¬1) هو أبو الحسين أحمد بن يحيى المشهور بابن الرواندي الملحد. (¬2) وبعده: هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا.

الاستخفاف بالحق لضعف أهله

[الاستخفاف بالحق لضعف أهله] الاستخفاف بالحق لضعف أهله (الحادية عشرة) : الاسْتِدلالُ على بُطْلانِ الشَّيء بأخذِ الضُّعَفاءِ بِهِ، وضَعفِ فَهم من أخَذَ به، على ما يَدُلُّ عليه قولُ قومِ نوح له كما حَكاه عنهم الكِتابُ الكريمُ. قَالَ تَعالى في سورةِ [الشُّعراءِ: 105- 115] : {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ - وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ - قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ - قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ - وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ - إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الشعراء: 105 - 115] فانْظُرْ إِلَى قومِ نُوح كَيفَ اسْتنكَفوا مِن اتِّباعِ نَبِيِّهم لِسَبَبِ اتِّباعِ الضُّعفاءِ له، وَذَلِكَ لِكونِ مَطْمَحِ أنظارِهِم الدُّنْيا، وإِلا لو كانت الآخرةُ هَمَّهم، لاتَّبَعوا الحَقَّ أيْنَما وَجَدوهُ، ولكن لِجاهِلِيتِهم أعْرَضوا عَن الحَقِّ لاتِّباعِ شَهَواتِهِم، وانْظُرْ إلى هِرَقْلَ لَمَّا كان من العَقْلِ والبَصيرةِ على جانبٍ عظيمٍ، اعتقدَ اتِّباعَ الضُّعفاءِ دليَلاَ على الحَقِّ. فقال في جُملةِ ما سألَ أبا سُفْيانَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. "وَسَألْتُكَ عن أشْرافِ النَّاسِ اتَّبَعوه أم ضُعفاؤهم؟ فَذَكَرْتَ أنَّ ضُعَفاءَهم اتَّبَعوه، وهم أتْباعُ الرُّسُل". ومِثْلُ ذلكَ قوله تَعالى في سُورةِ [هُوْدٍ: 25-27] : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ - فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 25 - 27] [وصم أنصار الحق بما ليس فيهم] وصم أنصار الحق بما ليس فيهم (الثانية عشرة) من خصالِ أهل الجاهلية: رمي مَنِ اتَّبَعَ الحَقَّ بِعَدَمِ الإِخلاصِ، وطَلَبِ الدُّنيا. فَرَدَّ الله عَلَيهم بقولِ نَبِيِّهم الَّذِي حكاهُ الله عن نوحِ في الآيات المذكورة في المسألةِ الحاديةَ عشرةَ، بقوله [الشعراء: 111- 115]

التكبر عن نصرة الحق لأن أنصاره ضعفاء

{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ - قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ - وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ - إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الشعراء: 111 - 115] ومقصودُهُم أنَّ أتْباعَكَ فقراءُ، آمَنوا بِكَ؛ لِينالوا مقصدَهُمْ مِن العَيشِ، لا أنَّ إيمانَهم كان لِدَليلٍ يَقْتَضي صِحَّةَ ما جئتَ بِهِ؛ فَلِهذا رَدَّ عَلَيهم بمِا رَدَّ. [التكبر عن نصرة الحق لأن أنصاره ضعفاء] التكبر عن نصرة الحق لأن أنصاره ضعفاء (الثالثة عشرة) من خصالِ الجاهلِية الإِعراضُ عَن الدخولِ في الحَقِّ الَّذي دَخَلَ فِيهِ الضعَفاء؛ تَكَبُّرًا وأنفَةً. فردَّ الله تعالى عَلَيْهم ذلِكَ بقولِهِ في سُورةِ [الأنعام 52-53] : {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ - وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 52 - 53] ومِثلُ ذلكَ قوله تَعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى - أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 1 - 2] وغيرِ ذَلِكَ. وحاصلُ الرَّدِّ أنَّ مَن آمَنَ مِن هؤلاءِ الضُّعفاءِ، إِنَّما كانَ إيمانُه عَن بُرهانٍ، لا كما زعم خصومهم، ولست أنت بمسئول عنهم، ولا هم بمسئولين عن حسابك، فطردُهم عن بابِ الإِيمانِ من الظلمِ بِمَكانٍ. [استدلالهم على بطلان الشيء بكونهم أولى به لو كان حقا] استدلالهم على بطلان الشيء بكونهم أولى به لو كان حقا (الرابعة عشرة) : الاسْتِدْلالُ على بُطلانِ الشَّيء بِكَونِهم أوْلى بِهِ لَوْ كانَ حَقًّا. قَالَ تَعالى في سورةِ [الأحقاف11] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11] بعدَ قوله [10] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10]

جهلهم بالجامع والفارق

[جهلهم بالجامع والفارق] جهلهم بالجامع والفارق (الخامسة عشرة) : الاسْتِدلالُ بِالقياسِ الفاسِدِ، وإنكارُ القِياسِ الصَّحيحِ، وجَهْلهمْ بِالجامعِ والفارِقِ. قال تعالى في سورةِ [المؤمنين 24-25] {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ - إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 24 - 25] وقبل الآية [23] : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [المؤمنون: 23] شُروعٌ في بيانِ إهمالِ النَّاسِ، وتركِهِم النَّظَرَ والاعتبارَ فيما عَدَّدَ سُبحانَه مِن النِّعَمِ قَبْلَ هذهِ الآية، ومن خلفهم مِن زَوالِها، وفي ذلِكَ تخويفٌ لِقريشٍ، وتقديمُ قصَّة نوحٍ عليه السلام على سائرِ القَصصِ مِمَّا لا يَخفى وجهُهُ، فَقال مُتَعَطِّفا عليهم، ومُسْتَميلا لهُمْ إلى الحَقِّ {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [الأعراف: 65] أي: اعْبُدوهُ وحدَه، {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65] استئنافٌ مَسوق لِتعليلِ العبادةِ المأمورِ بِها، {أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65] الهَمْزَةُ لإِنكارِ الواقعِ واستقباحِهِ، والفاءُ للعطفِ على مقدَّر يَقْتَضيهِ المَقامُ، أيْ: أتَعْرِفونَ ذلكَ، أي مَضْمونَ قولهِ تَعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65] عَذابَهُ تَعالى الَّذِي يَسْتَوجِبُهُ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ مِن تَرْكِ عَبادتِهِ سبحانَه وحْدَه، وإشراككم بِهِ عز وجل في العبادةِ ما لا يَسْتَحِقُّ الوجودَ - لَولا إيجادُ الله إياه- فَضْلا عن اسْتِحقاقِ العبادةِ، فالمُنْكَرُ عدمُ الاتِّقاءِ، مَعَ تَحقُقِ ما يوجبُه، {فَقَالَ الْمَلَأُ} [المؤمنون: 24] أي الأشرافُ {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} [المؤمنون: 24] وصِفَ الملأ بالكُفْرِ مَعَ إشْراكِ الكُلِّ فيه للِإيْذانِ بكمال عَراقَتِهِم وشِدَّةِ شَكيمَتِهِم فيهِ، وليسَ المُرادُ مِن ذلكَ إلاَ ذَمَّهُم، دُونَ التَّمَيُّزِ عن أَشْرافٍ آَخَرينَ آمَنوا به عليه السلام أو لم يُؤمِنْ بِهِ أحَدٌ مِن أشرافِهم، كما يُفصِح عنه قولُه: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] وهذا القولُ صَدَرَ مِنْهُم لِعَوامِّهِم، {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [المؤمنون: 24] أي: في الجِنسِ والوصفِ، من غيرِ فرقٍ بَينَكم وبَينَه، وَصَفوهُ عليه السلام بِذلِكَ مُبالَغةً في وضْعِ رتْبَتِهِ العاليةِ، وحَطِّها عن مخصِبِ النُّبَوَّةِ، وَوَصَفوه بقوله سبحانه وتعالى: {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 24] إغْضابا

للمخاطبين عَلَيه عليه السلام وإغراء لهم على معاداتِه، والتَّفَضلُ: طَلَبُ الفَضلِ، وهو كِنايَةٌ عنِ السِّيادَةِ، كأنَّه قِيلَ يُريدُ أنْ يَسودَكمْ ويتقَدَّمَكُمْ بادِّعاءَ الرِّسالة، معَ كَوْنهِ مِثْلَكمْ، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [المؤمنون: 24] بيانٌ لِعَدَمِ رِسالةِ البَشَرِ عَلى الإِطلاقِ على زَعْمهم الفاسدِ، بَعْدَ تَحْقيقِ بَشَرِيَّتِهِ عليه السلام. أي وَلَو شَاءَ الله تعَالى إرسالَ الرُّسلِ، لأرْسَلَ رُسُلا مِنَ المَلائكةِ، وإنَّما قيلَ "لأنْزَلَ" لأنَّ إِرْسَالَ المَلائِكَةِ لا يكونُ إلا بطريقِ الإِنزال، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24] هَذَا إشارة إلى الكلامِ المُتَضمِّنِ الأمرَ بعبادةِ الله عز وجل، خاصَّةً والكَلامُ على تقديرِ مُضافٍ أيْ ما سَمعنا بمثل هذا الكلامِ في آبائِنا الماضينَ قَبْلَ بعثتِه عليه السلام. وقُدِّرَ المضافُ لأنَّ عدمَ السَّماعِ لكلامِ نوحٍ المذكورِ لا يصلُحُ لِلرَّدِّ فإِنَّ السَّماعَ بِمِثْلِهِ كان في القَبولِ {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} [المؤمنون: 25] أيْ ما هو إلاَ رَجُلٌ به جُنُونٌ أو جِنٌّ يخْبُلونَهُ ولِذلِكَ يَقولُ ما يَقولُ، {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 25] فاحْتَمِلوهُ واصْبِروا عليه وانْتَظِروا لَعَلَّهُ يَفيقُ مِمَّا هو فِيه مَحْمول على مَرامي أحْوالِهمْ في المُكابَرَةِ والعِنادِ، وإضرابُهُم عَمَّا وَصَفوه عليه السلام بِهِ مِنَ البَشَرِيَّة، وإرادَةِ التَّفَضُّلِ، إلى وصفِهِ بِما تَرَى، وهُم يَعْرِفونَ أنَّه عليه السلام أرجَحُ النَّاسِ عَقْلا، وأرْزَنُهُم قَولا، وهو مَحْمولٌ على تَناقُضِ مَقالاتِهم الفاسِدَةِ، قاتَلَهم الله تَعالى أنَّى يؤفَكونَ والقياسُ الفاسدُ والصَّحيحُ، والجامعُ والفارِقُ، مُفَصَّلا في كتبِ الأصول (¬1) فَبَيْنَ الرُّسلُ عليهم السلام وسائرِ النَّاسِ مُشابَهَة مِن جهةِ البشريَّةِ ولوازِمِها الضروريَّةِ، فيَصِحُّ حينئذٍ قياسُ الرُّسُلِ على غيرِهِم فيها، وعليه قولُه تَعالى [الكهف: 110، فصلت: 6] : {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [فصلت: 6] وبَيْنَ الرُّسُلِ والأنبياءِ عليهم السلام وغيرِهِم مِن البَشَرِ فُروق كثيرة منها أنَّ الله تعالى اصْطفاهم على النَّاسِ بِرسالاتِه وبكلامِهِ ووحْيِهِ وخصهم بذلك، فَلا يُقاسُ أحَدٌ مِن النَّاسِ بِهِم حِينئذٍ مِن هذِهِ الجِهَةِ، كَما لاَ يَصِحُّ قياسُ غيرِهِم بِهم في سائر ¬

(¬1) وأجود ما كتب في الاستدلال بالقياس، وتمييز صحيحه من سقيمه، كتاب (القياس في الشرع الإسلامي) لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم، وقد طبعته المطبعة السلفية مرتين.

الغلو في الصالحين

خَصائِصهِم التي فُصِّلَتْ في غيرِ هذَا المَوضعِ، فالجاهِلِيَّةُ لم يُمَيِّزوا بَين القِياس الصحيح والفاسِدِ، ولا عرفوا الجامع ولا الفارِق، كما سَمِعتَ مِن قِياسِهم الرّسُل على غَيرِهِم، وهَكَذا أتْباعُهُمُ اليومَ ومَن هو على شاكِلَتِهمْ. [الغلو في الصالحين] الغلو في الصالحين (السادسة عشرة) : الغُلوُّ في الصَّالِحينَ مِن العُلَماءِ والأولِياء، كقوله تَعالى في سورة [التوبة 30- 32] : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ - اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ - يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 30 - 32] فاتِّخاذُ أحبارِ النَّاسِ أرْبابا يُحَلِّلونَ وَيُحَرِّمونَ، وَيَتَصَرَّفونَ فِي الكَونِ ويُنادَونَ في دَفعِ ضُرٍّ أو جَلْبِ نَفْعٍ مِن جاهِلِيةِ أهل الكِتابِيِّينَ، ثُمَّ سَرى إلى غيرِهِم من جاهِلِيَّةِ العَرَبِ، ولهمُ اليومَ بقايا في مَشارقِ الأرضِ ومَغارِبِها، تصديقًا لِقولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنن مَنْ كانَ قَبْلَكُم» الحديث، حَتّىَ نَرى غالبَ النَّاسِ اليومَ مُعْرِضينَ عن الله، وعن دينه الَّذِي ارْتَضاه، مَتَوَغِّلينَ في البِدَع، تائِهينَ في أودِيَة الضَّلالِ، مُعادينَ لِلْكِتابِ والسُّنَّةِ ومَن قامَ بِهما، فأصْبَحَ الدينُ مِنهم في أنينٍ، والإِسلامُ في بَلاءٍ مبيِنِ. وحسبُنا الله، ونعْمَ الوَكيلُ. [الاعتذار بعدم الفهم] الاعتذار بعدم الفهم (السابعة عشرة) : اعْتِذارهم عَنِ اتِّباعِ الوَحْيِ بِعَدَمِ الفَهْمِ، قَال تَعالى في

سورة: [البَقَرَةِ: 87-88] : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ - وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 87 - 88] وفي سورةِ [النِّساءِ155] ، {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155] الغُلْفُ: جمعُ أغْلَفَ، كَأحْمَرَ وحُمْرٍ، وهو الذي لا يفقهُ. وأصلُه ذو القَلَفَةِ: الذي لم يُخْتَنْ، أو جَمْعُ غِلافٍ، ويُجمعُ على غُلُفٍ بِضمَّتَيْنِ أيْضًا. وأرادوا على الأوَّل: قُلوبُنا مُغَشَّاةٌ بأغشيةٍ خَلْقِيَّةٍ مانِعَةٍ عن نُفوذِ ما جئتَ بِهِ فيها. وهَذَا كقولهِم [فصلت: 5] : {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5] قَصدوا به إقناطَ النَّبِّي صلى الله عليه وسلم عن الإِجابة، وقَطْعَ طَمَعِهِ عنهم بالكُلِّية. ومِنهم مَن قالَ معنى غُلْف: مُغَشَّاةٌ مِعُلوم مِنَ التَّوراةِ تحفظُها أنْ يَصلَ إليها ما تأتي به، أو بِسلامةٍ مِنَ الفِطْرَةِ كذلِكَ. وعلى الثاني أنَّها أوعِيَةُ العِلْمِ، فَلَو كانَ ما تقولُهُ حَالا وصِدقًا لَوَعَته. قالَ ابنُ عبَّاسٍ وقتادةُ والسُّدي: أو مملوءَةٌ عِلْمًا، فَلا تَسَعُ بعدُ شيئًا، فَنحنُ مُسْتَغْنونَ بِما عندَنا عَن غيرِه. ومنهم مَن قالَ: أرادوا أنَّها أوعِيَةُ العِلْمِ؛ فَكَيْفَ يَحِلُّ لنا اتباعُ الأمِّيِّ، ولا يخفى بُعْدُهُ. وَقَالَ تعالى في سورةِ [هودٍ: 89- 91] : {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ - وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ - قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 89 - 91] وهذه الآية بمعنى الآية الأولى، وقد كَذَّبَهُمُ الله تعالى في دَعواهم هذهِ في الناس كثيرةٍ، وذَكَرَ أنَّ السَّبَبَ في عَدَمِ الفَهْمِ إِنَّما هو الطَّبْعُ على القُلوبِ بكُفْرِهِم، لا القُصورُ في البيانِ والتَّفهيمِ. وما أحسنَ قولَ القائل (¬1) : والنَّجْمُ تَسْتَصْغِرُ الأبصارُ صورتَه ... والذَّنْبُ للطَّرْفِ لا لِلنَّجْمِ في الصِّغَرِ ¬

(¬1) هو أبو العلاء المعري.

إنكارهم الحق الذي لا تقول به طائفتهم

[إنكارهم الحق الذي لا تقول به طائفتهم] إنكارهم الحق الذي لا تقول به طائفتهم (الثامنة عشرة) : من خصال الجاهِليةِ: أنَّهم لا يَقْبَلونَ مِنَ الحَقِّ إِلا ما تَقولُ بِهِ طائِفَتهمْ. قَالَ تعالى [البقرة: 91] ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91] وَمَعْنى {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] أيْ: نَسْتَمرُّ عَلى الإِيمانِ بالتَّوراةِ ومما في حُكْمها، ومرادهم مما أُنزِلَ في تقريرِ حُكْمِها، ومرادُهم بضميرِ المُتكَلِّمِ إمَّا أنبياءُ بَني إسرائيلَ- وهو الظَّاهرُ، وفيه إيماء إلى أنَّ عدمَ إيمانِهم بالقرآنِ كانَ بغيًا وحَسَدًا على نُزولِهِ على مَن لَيْسَ مِنهم، وإمَّا أنفُسُهُم، ومعنى الإِنزالِ عليهم: تكليفُهُم بِما في المُنَزَّلِ مِن الأحكامِ. وَذُمُّوا على هذِهِ المقالةِ لِما فيها مِن التَعريضِ بشأنِ القرآنِ، ودَسائسُ اليهود مشهورة، أو لأنهم تَأوَّلوا الأمرَ المُطْلَقَ العامَّ، ونزلوه على خاصٍّ هو الإِيمانُ بِما أُنْزِل عَليهم، كَما هو دَيْدَنُهُم في تأويلِ الكِتابِ بغيرِ المرادِ مِنهُ. {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ} [البقرة: 91] أيْ: هُمْ مقارنونَ لِحَقِيقتِهِ، أيْ: عالِمونَ بها {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91] لأنَّ كُتُبَ الله يُصدِّقُ بعضُها بَعضًا، فالتَّصديقُ لازِم لا يَنْتَقِلُ، وقد قَرَّرَتْ مَضمونَ الخَبَرِ، لأنَّها كالاسْتدلالِ عليه، ولِهذا تَضَمَّنت رَدَّ قولهِم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] حَيثُ أنَّ مَن لمْ يُصَدِّقْ بها بِما وافَقَ التّوَراةَ، لم يصَدقْ بِهِا. {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91] أمْرٌ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنْ يقولَ ذلكَ تَبْكيتًا لهم، حيث قَتَلوا الأنبياءَ مَعَ ادِّعاءِ الإِيمانِ بالتَّوراةِ، وهِي لا تُسَوّغُه. [التمسك بخرافات السحر] التمسك بخرافات السحر (التاسعة عشرة) من خِصالهم: الاعتياض عن كِتابِ اللهِ تَعالى بكتُبِ السِّحرِ، كَما قال تَعالى في سورةِ "البقرةِ" [101 - 102] : {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ - وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101 - 102]

التناقض في الانتساب

والكلامُ على هذهِ الآية في التفاسيرِ مشهور، وهذه الخَصلةُ الجاهِلِيّةُ مَوجودة اليومَ في كَثيرٍ من النَّاسِ، لا سِيَّما مَن انتسبَ إلى الصَّالِحينَ وهو عنهم بِمراحِلَ، فَيَتَعاطَى الأعمالَ السِّحريَّةَ مِن إمساكِ الحَيَّاتِ، وضرْبِ السِّلاحِ، والدُّخولِ في النِّيرانِ، وغيرِ ذلك مِمَّا وَرَدَتِ الشَّريعةُ بإبطالِهِ، فَأعْرَضوا، ونبذوا كتابَ الله وَراءَ ظُهورِهِم، واتَّبَعوا ما ألْقاهُ إليهِم شَياطينُهُم، وادَّعَوا أنَّ ذلِكَ مِنَ الكَراماتِ، مَعَ أنَّ الكَرامةَ لا تصدرُ عن فاسِقٍ، ومَن يَتَعاطى تلكَ الأعمال فِسْقُهُم ظاهِرٌ لِلْعَيانِ، ولِذا اتَّخَذوا دِيْنَهم لَعِبًا ولَهْوًا، وفي مِثلهم قالَ تَعالى [الكهف: 104] : {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] [التناقض في الانتساب] التناقض في الانتساب (العشرون) : تَناقضهُم في الانْتِسابِ. فَيَنْتَسِبونَ إلى إبراهيمَ عليه السلام وإلى الإسلامِ، مَعَ إظْهارِهِمْ تَرْكَ ذلكَ، والانتسابَ إلى غيرِه. [صرف النصوص عن مدلولاتها] صرف النصوص عن مدلولاتها (الحادية والعشرون) : تَحْرِيفُ كلامِ الله مِن بعدِ ما عَقَلوهُ وهُمْ يَعْلَمونَ. ولَكَمْ في هذا العَصْرِ مَنْ هو على شاكِلَتِهمْ، تَراه يَصْرِفُ النُّصوصَ، وَيُؤوِّلُها إلى ما يَشْتَهيهِ مِن الأهْواءِ.

تحريف كتب الدين

[تحريف كتب الدين] تحريف كتب الدين (الثانية والعشرون) : تَحْريفُ العلماءِ لكتُبِ الدِّين. قال الله تَعالى [البقرة: 78-79] : {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ - فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 78 - 79] وَمَن نَظَرَ إلى قُضاةِ هذا الزَّمانِ (¬1) وما تَلاعَبوا بِهِ مِن الأحكامِ، وصَرْفِ التصرف إلى ما تَهْواهُ أنْفُسُهم، وتبديلِ الحَقِّ وإبطالِهِ، بِما يَنالونَه من الرشى وغيرِ ذلكَ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ اليومَ، تبيَّنَ لَه من ذلك بحرٌ لا ساحلَ لَهُ وَهكَذا بعضُ المُبتَدِعَةِ وغلاةُ القُبورِ، وقد بُيِّنَ حالُهُم في غيرِ هذا الموضعِ. [الانصراف عن هداية الدين إلى ما يخالفها] الانصراف عن هداية الدين إلى ما يخالفها (الثالثة والعشرون) : وهي من أعجَبِ المسائلِ والخصالِ مُعاداةُ الدِّين الذي انْتَسَبوا إليهِ أشَدَّ العداوةِ، ومُوالاتهم لِمَذْهَبِ الكُفَّارِ الذينَ فارَقوهم أكْمَلَ الموالاة، كما فَعَلوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لمَّا أتاهُمْ بِدينِ موسى، واتَّبَعوا كُتُبَ السِّحْرِ، وَهو مِن دِينِ آلِ فرعونَ ومثل هؤلاء في الأمة الإسلامية كثير، هجروا السنة، وعادوها، ونصروا أقوال الفَلاسِفَةِ وأحْكامَهُمْ. [كفرهم بما مع غيرهم من الحق] كفرهم بما مع غيرهم من الحق (الرابعة والعشرون) : أنَّهُم لَمَّا افْتَرقوا، وَكلّ طائِفَةٍ لا تَقْبَلُ مِنَ الحَقِّ إلاَ ما قالَتْهُ طائفتهُم، وكَفَروا بِما مَعَ غَيرِهِم مِنَ الحَقِّ، قالَ تَعالى في [سورة البَقَرَةِ: 113] : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113] ولا شَكَّ أنَّ هذِهِ مِنَ خِصالِ ¬

(¬1) المؤلف رحمه الله عاصر الدولة العثمانية؛ ويذكر المشاهد في زمنه.

ادعاء كل طائفة حصر الحق فيها

الجاهِلِيَّةِ، وَعِلْيَةِ القوم وكَثير مِنَ النَّاسِ، لا يَعْتَقِدُ الحَقَّ إلاَ مَعَهُ، لا سِيَّما أرباب المذاهِبِ، يَرى كلُّ أهلِ مَذْهَبٍ أنَّ الدِّينَ مَعَه لا يَعْدوهُ إلى غيرِه، وكل حزب بما لديهم فرحون. وكل يَدَّعي وَصْلا بِلَيْلى ... وَلَيْلى لا تُقِرُّ لَهُمْ بِذاكا والحَزْمُ أنْ يَنْظُرَ إلى الدَّليلِ، فما قام عليه الدَّليلُ، فهو الحَقُّ الحَريُّ أن يُتَلقَّى بالقَبولِ، وما لَيْسَ عَلَيْهِ بُرْهان ولا حُجَّةٌ يُنْبَذُ وَراءَ الظهورِ، وكلُّ أحَدٍ يُؤخذ من قَولهِ ويُرَدُّ إِلا مَنِ اصْطفاه الله لِرِسالَتِهِ. [ادعاء كل طائفة حصر الحق فيها] ادعاء كل طائفة حصر الحق فيها (الخامسة والعشرون) : أنهم لَمَّا سَمِعوا قولَه صلى الله عليه وسلم في حَديثِ الافْتِراقِ: «وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي إلى ثَلاثٍ وَسَبْعينَ فِرْقَةً، كُلُّها في النَّار إلاَ واحِدَة» ادَّعى كُلُّ فِرْقَةٍ أنَّها هِي النَّاجِيَةُ كما حَكى الله عَن اليهودِ والنَّصارى في قوله تعالى [البقرة: 113] : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] مَعَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ في آخِرِ الحَديثِ المُرادَ مِنَ الفرْقَة النَّاجيَةِ، فقالَ: «وَهُمْ ما كُنت أنا عَلَيه وَأصْحابِي» أو كما قال. وَرَدَّ الله تَعالى عليهم بقولِهِ [البقرة: 111-112] : {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111 - 112] والمَقصودُ أنَّهم لَيْسَ لَهم بُرهانٌ على هذهِ الدَّعْوى، بَلِ الدَّليلُ على خِلافِ ذلِكَ. وَأبو العَبَّاس تَقيُّ الدِّينِ تكَلَّمَ على حَديثِ الفِرَقِ في كِتابِهِ (مِنهاجِ السُّنَّةِ) بِما لا مَزيدَ عَلَيه، حَيثُ اسْتَدَلَّ بهِ الرَّافِضيُّ على حقية مَذهبهِ وبُطلانِ مَذهب أهل السُّنَّةِ، فراجِعْهُ إنْ أرَدْتَه (¬1) . ¬

(¬1) وقد ازدان (منهاج السنة) بالتعليقات النفيسة على مختصره للحافظ الذهبي الذي سماه (المنتقى من منهاج الاعتدال) . نشرته المطبعة السلفية سنة 1374 وأعيد طبعه منقحًا سنة 1394.

إنكار ما أقروا أنه من دينهم

[إنكار ما أقروا أنه من دينهم] إنكار ما أقروا أنه من دينهم (السادسة والعشرون) : أنَّهم أنْكَروا ما أقَرُّوا أنَّه مِن دِينِهِم، كَما فَعَلوا في حَجِّ البَيتِ، فَتَعَبَّدوا بِإِنكارِهِ والبراءَةِ مِنه مَعَ ذلكَ الإِقرار كَما قالَ تَعالى في سورةِ [البقَرَةِ: 125] {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] إلى أنْ قالَ [130- 132] : {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ - إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 130 - 132] يُقالُ: إنَّ سَبَبَ نُزولِ قوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ} [البقرة: 130] إلخ ما رُويَ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ سَلاَم دَعا ابْنَي أخيهِ: سَلَمَةَ ومهاجِرًا إلى الإِسلام، فقال: قَد عَلِمْتُما أنَّ الله تَعالى قالَ في التَّوراةِ: إنِّي باعِثٌ مِن ولدِ إسماعيلَ نَبيًّا اسْمُهُ أحمدُ، فَمَنْ آَمَنَ بِهِ، فَقَد اهْتَدى وَرَشَدَ، وَمَنْ لَم يؤمِنْ بِهِ، فهو مَلْعون. فأسْلَمَ سلَمَةُ، وأَبى مُهاجِرٌ، فَنَزَلَتْ. انتهى. [المجاهرة بكشف العورات] المجاهرة بكشف العورات (السابعة والعشرون) : المجاهرة بِكَشْفِ العَوْراتِ، قال تعالى في سورة [الأعراف: 28-29] {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ - قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 28 - 29] قال بعض المفسرين: الفاحشة هنا: الفعلة القبيحة المتناهية في القبح، والتاء إما لأنها مجراة على الموصوف المؤنث، أي: فعلة فاحشة. وإما للنقل من الوصفية إلى الاسمية، والمراد بها هنا: عبادة الأصنام وكشف العورة في الطواف، ونحو ذلك. وعَنِ الفَرَّاءِ تْخصِيصُها بِكشفِ العَورةِ. وفي الآية حَذْفٌ، أيْ: وَإِذَا فَعَلوُا فاحِشَة فنهوا عنها قَالوُا: وَجَدنَا عليها آباءنا وَاللَّهُ أمرنَا بِهَا، مُحْتَجِّينَ بِأمْرَيْنِ: بِتَقْليدِ الآباءِ، والافتراءِ على الله. وكان مِن سُنَّةِ الحُمْسِ أنَّهم لا يَخْرُجونَ أيَّامَ المَوسِم إلى عَرَفاتٍ. إنَّما يَقِفونَ بِالمُزْدَلِفَةِ،

التعبد بتحريم الحلال

وكانوا لا يَسلأون، وَلا يَأقطونَ، ولا يَرْتَبطونَ عَنْزًا ولا بَقَرَةً، ولا يَغْزُلونَ صوفًا ولا وَبَرًا، ولا يَدْخُلونَ بَيْتًا مِنَ الشَّعْرِ والمَدرِ، وإنَّما يَكْتنُّونَ بالقبابِ الحُمْرِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ، ثُمَّ فَرَضوا على العَرَبِ قاطِبةً أنْ يَطَّرِحوا أزْوادَ الحِلِّ إذا دَخَلوا الحَرَمَ، وأنْ يَتركوا ثِيابَ الحِلِّ، ويَسْتبدِلوها بثيابِ الحَرَم، إمَّا شراء وإمَّا عارِيّة وإمَّا هِبَة، فإِنْ وَجَدوا ذلك فيها، وإلا طافوا بالبيَتِ عَرايا. وَفَرَضوا على نِساءِ العربِ مثلَ ذلكَ. غيرَ أنَّ المرأةَ كانت تَطوفُ في درج مُفَرَّجِ القَوادمِ والمَآخيرِ. قالتِ امرأةٌ (¬1) وهي تطوفُ بالبيتِ: اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أوْ كُلُّهُ ... ومَا بَدَا مِنْهُ فَلاَ أُحِلُّهُ أخْتَمَ مِثْلَ القِعْبِ بَادٍ ظِلُّهُ ... كأنَّ حُمَّى خَيْبَرٍ تَمُلُّهُ وكَلَّفوا العربَ أن يُفِيضوا مِن مُزْدَلِفَةَ، وقد كانوا يُفيضون مِن عَرَفَةَ، إلى غيرِ ذلكَ مِنَ الأمورِ الَّتي ابْتَدَعوها وتَشَرَّعوها، مِمَّا لم يأذنْ بِهِ الله. ومَعَ ذلِكَ كانوا يَدَّعونَ أنَّهم على شَريعةِ أبيهم إبراهيم عليه السلام وما ذلكَ إلا لِجاهِلِيتهِم. وغالبُ مَن يَنْتَمي إلى الإِسلامِ اليومَ ابْتَدَعوا في الدِّينِ ما لم يأذَنْ بِهِ الله: فَمنهم من اتخذ ضرب المعازف وآلات اللهو عبادة يتعبدون بها في بيوت الله ومساجده، ومِنهم مَن اتَّخَذَ الطَّوافَ على القُبورِ والقصد إليها والنُّذورَ أخْلَصَ عِبادَتِهِ وَأَفْضَلَ قُرُباتِهِ، ومِنهم مَنِ ابْتَدَعَ الرَّهْبانِيّةَ والحِيَلَ الشَّيْطانِيّةَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ سَلَكَ سبيلَ الزُّهَّادِ وطريقَ العُبَّادِ، ومَقْصِدُه الأعلى شَهَواتِهِ الحَيْوانِيَّةِ، والفَوزُ بهذهِ الدُّنيا الدَّنِية، إِلَى غيرِ ذلك مِمَّا يَطولُ، ولا يعلمُ ماذا يقولُ: إلى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضي ... وَعِنْدَ اللهِ تَجْتَمعُ الخُصُوْمُ. [التعبد بتحريم الحلال] التعبد بتحريم الحلال (الثامنة والعشرون) : التَّعَبُّدُ بِتَحْريمِ الحَلالِ، فَرَدَّ الله تعالى ذلِكَ عَليهم بِقولهِ في سورة [الأعراف: 31-33] ، {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ - قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ - قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31 - 33] ومعنى الآيات. ¬

(¬1) هي ضباعة بنت عامر بن صعصة.

الإلحاد في أسماء الله سبحانه وصفاته

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] أي ثِيابَكُم لِمواراةِ عَوْراتِكُم عِندَ طوافٍ أوْ صَلاةٍ. وسَبَبُ النُّزول: أنَّه كانَ أُناس مِن الأعرابِ يَطوفونَ بِالبيتِ عُراةً، حَتّىَ أنْ كانتِ المَرْأةُ لَتَطوفُ بِالبيتِ وهِيَ عُريانة، فَتُعَلِّق على سُفْلِها سُيورًا مِثلَ هذهِ السُّيورِ التي تكونُ على وجْهِ الحُمْرِ من الذُّبابِ، وهي تَقولُ: اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدا مِنْهُ فَلاَ أُحِلُّهْ فَأنْزَلَ الله تَعالى هذهِ الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف: 31] قال الكَلْبِيُّ: كان أهلُ الجاهِلِيَّة لا يَأكُلونَ مِنَ الطَّعامِ إلا قُوتًا، ولا يأكلونَ دَسمًا في أيَّام حَجِّهم، يُعَظِّمونَ بذلِكَ حَجَّهم، فقالَ المُسلِمونَ: يَا رَسُولَ الله، نَحْن أحَقُّ بِذلِكَ، فَأنْزَلَ الله تَعالىَ الآية. وَفِيْهِ يَظْهَرُ وجهُ ذِكْرِ الأكْلِ والشُّرْبِ هُنا. {وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] بِتَحْريمِ الحلالِ، كما هو المُناسِبُ لِسَبَبِ النُّزولِ، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] بَلْ يُبْغِضُهُمْ، وَلاَ يَرْضى أفْعالَهُمْ. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] مِنَ الثِّيابِ وكل ما يتجمل به وخلقه لنفعهم من الثياب كالقُطْنِ والكِتَّانِ والحَيوانِ كالحَريرِ والصُّوفِ {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] أيْ: المُسْتَلَذَّاتِ - وقيلَ المُحَلَّلات- ومِنَ المَآكِلِ والمَشارِبِ كَلَحْمِ الشَّاةِ وَشَحْمِهَا وَلبَنِها {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف: 32] أيْ هي لَهُم بالأصالَة لِمَزيدِ كَرَامَتِهِمْ على الله تعالى والكَفَرَةُ وإنْ شارَكوهُم فيها فبِالتبعِ، فَلاَ إشْكالَ في الاخْتِصاصِ {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] أيْ: لا يُشارِكُهم فيها غَيْرُهُم {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32] أي: مِثْل تَفْصيلِنا هذا الحُكْمَ، نُفَصِّلُ سائِرَ الأحكامِ لِمَنْ يَعْلَمُ ما في تَضامينها مِنَ المَعاني الرَّائِقَةِ {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: 33] أيْ ما تَزايَدَ قُبْحُهُ مِنَ المَعاصي، ومِنهُ ما يَتَعَلَّقُ بِالفُروج، {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] بَدَل مِنَ الفَواحِشِ، أيْ جَهْرَها وَسرَّها. وعَنِ البَعْضِ: "مَا ظَهَرَ" الزِّنا عَلانِيةً، "وَمَا بَطَنَ" الزِّنا سِرًّا وَكانوا يَكْرَهونَ الأوَّلَ، ويَفْعَلونَ الثَّانيَ، فنهوا عَن ذلِكَ مُطْلَقًا. وعن مُجاهِدٍ: "مَا ظَهَرَ" التَّعَرِّي في الطَّوافِ، "وَمَا بَطَنَ" الزِّنا. والبَعْضُ يَقولُ: الأوَّلُ طَوافُ الرِّجالِ بالنَّهارِ، والثَّاَني طوافُ النِّساءِ بالليلِ عارِياتٍ. {وَالْإِثْمَ} [الأعراف: 33] أي: ما يُوجِب الإِثمَ، وأصله الذَّمّ، ثُمَّ أُطْلِق على ما يوجِبَه مِن مطلَقِ الذَّنْبِ، وَذُكِرَ لِلتَعميمِ بَعْدَ التَّخْصيصِ بِناءً على ما تَقَدَّم مِن معْنى الفَواحِشِ. ومِنهم مَن قالَ: إِنَّ الإِثمَ هو الخَمْرُ، وَعَلَيْهِ أهلُ اللغَة، وَأنْشَدوا لَه قَولَ الشَّاعِرِ: نَهانا رَسول الله أنْ نَقْرَبَ الزِّنى ... وَأَنْ نَشْرَبَ الإِثْمَ الذي يوجِبُ الوِزْرا وَقَولَ الآخَرِ: شَرِبتُ الإِثْمَ حَتى ضلَّ عَقْلِي ... كذلكَ الإِثمُ يَذْهَبُ بِالعُقولِ {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 33] وهو الظلم والاستطالة على الناس، وأفرد بالذكر بناء على التعميم فيما قبله، أو دخوله في الفواحش للمبالغة في الزجر عنه {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] بالإلحاد في صفاته والافتراء عليه كقولهم [الأعراف: 28] {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28] ولا يخفى أن متصوفة زماننا على هذه الخصلة الجاهلية: فقد حرموا على أنفسهم زينة الله والطيبات من الرزق ليعتقد الناس صلاحهم، وابتدعوا الخلوات والرياضات وغير ذلك من شعائرهم في المأكل والملبس وسائر شئونهم، وما دروا أنهم بذلك من القوم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. [الإلحاد في أسماء الله سبحانه وصفاته] الإلحاد في أسماء الله سبحانه وصفاته (التاسعة والعشرون) : الإِلْحادُ في أسْمائِهِ وصِفاتِهِ، قالَ سُبحانَه في سورة [الأعراف: 180] : {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] تَفسيرُ هذِهِ الآية: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] تنبيه للمُؤمِنينَ على كَيْفِيَّةِ ذِكْرِهِ تَعَالى، وَكَيْفِيّة المُعامَلَةِ مَعَ المُخِلِّينَ بذلِكَ الغافِلينَ عَنه سُبحانَه، وَعَمَّا يَليقُ بِشأنِه، إثْرَ بَيانِ غَفْلَتِهِمُ التَّامَّة، وَضَلالَتِهمُ الطَّامَّة. {فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] إمَّا مِنَ الدَّعْوَةِ بِمعْنى التّسمِيَةِ، كَقَولهِم: دَعَوْتُهُ زَيدًا، أوْ يزيد أيْ: سَمَّيْتُهُ، أو الدُّعاءِ بِمعْنى النِّداءِ، كَقَولهِم: دَعْوتُ زيدًا، أيْ: نادَيْتُهُ. {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] أيْ يَميلونَ وَيَنْحَرِفون فيها عَنِ الحَقِّ إلى الباطِلِ، يُقال: ألْحَدَ، إذا مال عَنِ القَصْدِ والاستِقامَةِ، ومِنه لَحْدُ القَبْرِ لِكَونهِ في جانِبِهِ بِخلافِ الضَّريحِ، فإنَّهُ في وَسَطِهِ. والإِلحادُ في أسمائِهِ سبحانَه أنْ يُسَمَّى بِلا تَوْقيفٍ فيه، أوْ بِما يُوهِمُ مَعنًى فاسِدًا، كما في قولِ أهلِ البَدْوِ: يا أبا المَكارِم، يا أبيضَ الوجْهِ، يا سَخِيُّ، ونحو ذلك، فالمُرادُ بِترْكِ المأمورِ بِهِ الاجتنابُ عن ذلك، وأسمائِهِ ما أطْلَقوهُ عَلَيه تَعالى

وَسَمَّوهُ به على زَعَمِهِم، لا أسماؤه تعالى حَقَيقَةً، وعلى ذلك يحْمَل تَرْكُ الإِضمارِ، بأنْ يُقالَ: يُلحِدون بِها. وَقَالَ تَعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30] وهذِهِ الآيةُ في سورةِ [الرعد: 30] عن قَتادَةَ وابنِ جُرَيْجٍ ومُقاتِلٍ أنَّ الآية نَزَلَتْ في مُشْرِكي مَكَّةَ لَمَّا رَأوا كِتابَ الصُّلْحِ يومَ الحُدَيْبِيَةِ وقد كَتَبَ فيه عَليٌّ رضي الله عنه: " بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ "، فَقالَ سُهيلُ بنُ عَمْرٍو: ما نَعْرِفُ الرَّحْمنَ إلا مُسَيْلِمَةَ. ومِنهم مَن قال: سَمِعَ أبو جَهْلٍ قَولَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا الله يا رحمن» ، فقال: إنَّ محمَّدًا يَنهانا عَن عبادةِ الآلهةِ وهو يَدعو إلهينِ، فَنَزَلَتْ وَعَن بعضِهِمِ أنَّه لَمَّا قِيلَ لِكُفَّارِ قُريشٍ: اسجدوا للرحمن قالوا: وَمَا الرَّحمَنُ، فَنَزَلَتْ، وقيلَ غَيْرُ ذلِكَ مِمَّا يَطولُ. وَقَالَ تَعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ - وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ - وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 21 - 23] من سورة حم [السجدة: 21-23] ، وفي هذِهِ الآية إخبارٌ أنَّ أهلَ الجاهِلِيَّةِ كانوا يُلْحِدونَ في صِفاتِهِ، كما كانوا يُلحِدونَ في أسمائِه تَعالى. أخرَجَ أحمدُ والبُخاريُّ ومُسلِم والترِّمذيُّ والنَّسائِيُّ وجَماعةٌ عن ابنِ مسعودٍ، قالَ: كُنتُ مُسْتَندًا بأستارِ الكعبةِ، فجاءَ ثلاثةُ نَفَرٍ- قُرَشيٌّ وثَقَفيَّانِ، أو ثَقَفِي وقُرَشيانِ- كثيرٌ لحمُ بُطونهم؛ قَليلٌ عفة قُلوبِهم، فَتكَلَّموا بكلامٍ لمْ أسْمَعْهُ، فقال أحَدُهُمِ: أتَرَونَ الله يَسمعُ كلامَنا هذا؟ فَقَال الآخَرُ: إذا رَفَعْنا أصْواتَنا يَسْمَعُهُ، وإذا لم نَرْفعْ لم يَسْمَعْ، فقال الآخَرُ: إنْ سَمِعَ منه شَيئًا سَمِعَهُ كُلَّهُ. قال: فَذَكَرْتُ ذلِكَ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأنْزَلَ الله تَعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ - وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 22 - 23] فهذا هو الإِلحادُ في الصِّفاتِ. وأنتَ تَعْلَمُ أنَّ ما عَلَيْهِ أكثرُ المُتكَلِّمينَ المُسلِمينَ مِنَ الإِلحادِ في الأسماءِ والصِّفاتِ فَوْقَ ما كانَ عَلَيه أهل الجاهِلِيَّةِ، فَسَمَّوا

نسبة النقائص إلى الله سبحانه

الله بأسماءٍ ما أنزلَ الله بها مِن سُلطانٍ، ومِنهمِ مَن قالَ: لَيْسَ لِلَّهِ صفات قامتْ بِهِ، ومِنهم مَن قالَ: صِفاتُه لَيسَتْ عَيْنَ ذاتِهِ ولا غيرَهُ، ومِنهم مَن قالَ: إنَّ صفاتِه غيرهُ، ومِنهم مَن قال: إنَّ الله لم يَتكَلَّمْ بالكُتُبِ التي أنْزَلَها، وَأثْبَتوا لَه الكَلامَ النَّفسيَّ، وأنَه لم يُكَلِّمْ أحدًا مِن رُسُلِهِ، إلى غير ذلك من الإِلحادِ الذي حَشَوا به كُتبهُمْ ملؤوها مِن الهَذَيانِ، وظَنُّوا أنَّ الآية مُخْتَصَّةٌ بِأهلِ الجاهِلِيَّةِ، وَمَا دَرَوا أنَّهُمُ الفَرْدُ الكامِلُ لعُمومِها. ومَن بَصَّرَه وَنَوَّرَ قَلْبَه، أعْرَضَ عَن أخْذِ عَقائِدِهِ مِن كُتُبِ هؤلاءِ الطوائفِ، وتَلَقَّى مَعْرِفَةَ إِلهِهِ مِن كُتُبِ السَّلَفِ المُشْتَمِلَةِ على نُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ. [نسبة النقائص إلى الله سبحانه] نسبة النقائص إلى الله سبحانه (الثلاثون) : نسْبة النَّقائصِ إليه سبحانَه كالولَدِ والحاجَةِ. فإِنَّ النَّصارى قالوا: المَسِيحُ ابنُ الله، وطائفة مِن العَرَب قالوا: الملائكةُ بناتُ الله، وقوم مِن الفَلاسِفَةِ قالوا بِتَوليدِ العُقولِ، وقوم مِن اليَهودَ قالوا: العُزَيْرُ ابنُ الله، إلى غيرِ ذلِكَ. وقد نَزهَ الله نَفْسَه عن كُل ذلِكَ ونَفاه عنه بقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - اللَّهُ الصَّمَدُ - لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4] وبقوله [الصافات: 151- 152] : {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ - وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات: 151 - 152] وقوله [الأنعام: 100- 101] : {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ - بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 100 - 101] وهذا يَعُمُّ جميعَ الأنواعِ التي تُذْكَرُ في هذا البابِ عن بعضِ الأمَمِ، كما أنَّ ما نفاه من اتِّخاذِ الوَلَدِ يَعُمُّ أيْضًا جميعَ أنواعِ الاتِّخاذاتِ، لا اصطفاؤُه. كما قال تَعالى [المائدة: 18] : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18] قالَ السُّدِّيُّ: قالوا: إنَّ الله تَعالى أوْحى إلى إسرائيلَ إنّ وَلَدَكَ

بِكْرِي مِن الوَلَدِ فَأُدْخِلُهُمُ النَّارَ، فَيَكونونَ فيها أربعينَ يومًا حَتَّى تُطَهِّرَهم وتأكلَ خطاياهم، ثم ينادي منادي: أخْرِجوا كلَّ مَخْتونٍ مِن بني إسرائيل. وقدْ قال الله تَعالى [المؤمنون: 91] : {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91] وقال [الإِسراء: 111] : {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111] وقال تَعالى [الفرقان: 1- 2] : {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا - الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 1 - 2] {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ - لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ - وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 - 29] وقال سُبحانه وتعالى [النحل: 51-57] {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ - وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} [النحل: 51 - 52] إلى قوله {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا} [النحل: 56] إلى قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57] وقالَ الله تَعالى [الإسراء: 39-42] : {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا - أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا - وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا - قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 39 - 42] وقال [الصافات: 149-163] {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ - أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ - أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ - وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ - أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ - مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ - أَفَلَا تَذَكَّرُونَ - أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ - فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ - سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ - إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ - فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ - مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ - إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 149 - 163] وقال [النجم: 19 -27]

{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى - وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى - أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى - تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى - إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 19 - 23] إلى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} [النجم: 27] وقالَ تَعالى [الزخرف: 15] {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15] قال بعضُ المفسِّرينَ: (جُزءًا) ، أيْ: نَصيبًا وبعضًا. وقال بعضُهم: جعلوا لِلَّهِ نصيبًا من الولدِ. وعن قَتادةَ ومقاتل: عدلا. وكلا القولين صحيح، فإنَّهم يَجْعَلون له وَلَدًا، والولَدُ يُشْبِهُ أباهُ. ولهذا قال [الزخرف: 17] {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [الزخرف: 17] وَهُوَ كَظِيمٌ أيْ البَنات، كما قالَ في الآيَة الأخرى [النحل: 58] {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل: 58] فَقَد جَعَلوها لِلرَّحْمنِ مَثَلا، وَجَعَلوا لَهُ مِن عِبادِه جُزْءًا، فَإِنَّ الولدَ جُزء مِنَ الوالِدِ، قالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّما فاطِمَةُ بضعَةٌ مِنّيَ» . وقولُهُ [الأنعام: 100] : {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100] قالَ الكَلْبِيُّ: "نَزَلَتْ في الزَّنادِقَة، قالوا: إِنَّ الله وإبليسَ شَريكانِ، فاللهُ خالقُ النُّورِ والنَّاسِ والدَّوابِّ والأنعامِ، وإبليسُ خالقُ الظلْمَةِ والسِّباعِ والحَيَّاتِ والعَقارِبِ. وَأمَّا قولُه: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] فَقيلَ: هو قولُهُم: الملائكةُ بناتُ الله، وسمى الملائكة جِنًّا؛ لاختِفائِهم عَن الأبصارِ، وهو قولُ مُجاهِدٍ وقتادة. وقيل: قالوا لِحَيٍّ مِن الملائكةِ يُقالُ لهم: الجِنُّ، ومنهم إبليسُ: هم بناتُ الله. وَقَالَ الكَلْبِيُّ: قالوا لَعَنَهمُ الله: بَلْ بُذور يَخْرُجُ مِنها الملائكةُ. وقولهُ: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100] قالَ بعضُ المفسِّرينَ: هُم كُفَّارُ العَرَبِ، قالوا: الملائكةُ والأصنامُ بَناتُ الله، واليَهودُ قالوا: عُزير ابنُ الله، والذين كانوا يَقولونَ مِن العَرَبِ: إِنَّ الملائكةَ بناتُ الله، وَمَا نُقِلَ عَنهم مِن أنَّه صاهَرَ الجِنَّ، فوَلَدَتْ له الملائكةَ، فَقَد نَفاه عنه بامْتِناعِ الصَّاحِبَةِ، وبامتناعِ أنْ يكونَ منه جُزْءٌ، فإنِّه صَمَدٌ. وقولُه: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101] وَهذَا لأنَّ الولادةَ لا تكونُ إلا مِن

تنزيههم المخلوق عما نسبوه للخالق

أصْلَينِ، سَواءٌ في ذلِكَ تولُدُ الأعيانِ - التي تُسَمَّى الجواهِرَ- وتولد الأعراض والصِّفاتِ، بَلْ وَلاَ يَكونُ تولُد الأعْيانِ إلا بانفصال جُزْءٍ مِن الولدِ، فإِذا امتنعَ أنْ تكونَ لَه صاحِبةٌ، امْتنعَ أنْ يَكونَ لَه وَلَدٌ، وقد عَلِموا كُلُّهُم أنْ لا صاحِبَةَ له لا مِن الملائكةِ، ولا مِن الجِنِّ، ولا مِنَ الإِنْسِ، فلم يَقُلْ أحَدٌ مِنْهُم إنَّ له صاحِبَةً؛ فَلِهذا احْتجًّ بِذلِكَ عَلَيهم. وما حُكِيَ عَن بعضِ كُفَّارِ العَرَبِ أنَهُ صاهَرَ الجِنَّ، فهذا فيه نَظَرٌ. وذلكَ إنْ كانَ قَدْ قيلَ فهوَ مِمَّا يُعْلَمُ انْتِفاؤهُ مِن وُجوهٍ كَثيرةٍ، وكذلك ما قالَتْهُ النَّصارى مِن أنَّ المَسيحَ ابنُ الله وما قالَه طائفةٌ مِنَ اليهودِ أنَّ العُزَيْرَ ابنُ الله، فإنَّه قد نَفاه سُبحانه بِهذا وَهذا. وتَمامُ الكَلامِ في هذا المَقامِ في كتابِ (الجَوابِ الصَّحيحِ لِمَنْ بَدَّل دِيْنَ المَسيح) و (تَفْسير سورةِ الإِخلاص) وَغَيرِهِما مِن كُتُبِ شيخِ الإِسلامِ تقيِّ الدِّينِ قدس الله روحه. [تنزيههم المخلوق عما نسبوه للخالق] تنزيههم المخلوق عما نسبوه للخالق (المسألة الحادية والثلاثون) : تنْزِيهُ المَخْلوقِ عمَّا نَسَبوه لِلخالِقِ مِثل: تَنزيهِ أحبارِهِم عَنِ الوَلَدِ والزوجة لأنهم يَقولونَ: إِنَّ الرَّاغِبينَ في استحصالِ الكَمالاتِ كالرُّهبانِ وأضْرابِهم يَترفَّعونَ عَن أنْ يَتَدَنَّسوا بِدَناءَة التَّمتُّعِ بِالنِّساءِ، اقتِداءً بِالمَسيحِ عليه السلام، فانْظُرْ إلى سَخافةِ العُقولِ وما قادَهُم إليه ضَلالُهم حَتىَّ اعترضوا على سَيِّدنا ومولانا مُحمَّد صلى الله عليه وسلم في زَواجِهِ. وما أحْسَنَ ما قالَ الفاروقِيُّ (¬1) ردا على بعضِ أحبارِ النَّصارَى بقوله: قل لِلفرِسْنَلِ قُدْوَةِ الرُّهبانِ ... الجائليق البتْرِكِ الرَّبَّاني أنتَ الذي زَعَمَ الزَّواجَ نَقيصَةً ... مِمّنْ حَماهُ الله عَنْ نُقْصانِ ونَسيتَ تَزْويجَ الإِلهِ بِمَرْيَم ... في زَعْمِ كُلِّ مُثَلِّثٍ نَصْراني ومَن جَعَلَ منَ العَرَبِ الملائكةَ بناتِ الله، كانَ يأْنَفُ مِنْهُنَّ، وسَنَّ وَأْدَهُنَّ وَقَتْلَهُنَّ، وَنَسَبوا لِلَّهِ ما يَكرهونَ. والمقصودُ أنَّ هذهِ المَقالاتِ وأشباهَها مَنْشَؤها الجهلُ بِما جاءَت بِهِ الرُّسُلُ، وَعَدَمُ تَحْكيمِ العَقْلِ، وإِلا فأهلُ البصائِر لا يَتَطَرَّقُ إليهم هذا الخَلَلُ، واللهُ الموَفِّقُ. ¬

(¬1) عبد الباقي العمري من شعراء العراق في القرن الثالث عشر الهجري.

قولهم بالتعطيل

[قولهم بالتعطيل] قولهم بالتعطيل (الثانية والثلاثون) : القولُ بِالتَّعطيلِ، كما كانَ يقوله آل فِرْعَونَ. والتَّعطيلُ: إنكارُ أنْ يكونَ لِلعالَمِ صانِع، كما قال فرعونُ لِقومِهِ [القصص: 38] {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] ونحو ذلكَ، ولم يَخْلُ العالَمُ عن مثلِ هذهِ الجَهالاتِ في كُلِّ عَصرٍ مِنَ العُصورِ، وأبناءُ هذا الزَّمانِ إلا النَّادِرَ على هذه العَقيدةِ الباطِلة، ولو نَظَروا بِعينِ الإِنصافِ والتَّدَبُّرِ، لَعَلِموا أنَّ كُلَّ مَوجودٍ في العالَمِ يَدُلُّ على خالِقهِ وبارِئه: وفي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تدُلُّ على أنَّهُ واحِدُ ومِن أينَ لِلطَّبيعَةِ إيجادُ مِثل هذِهِ الدَّقائِقِ التي نَجِدُها في الآفاقِ والأنْفُسِ، وهي عَديمَةُ الشُّعُورِ لا عِلْمَ لَها وَلا فهْمَ تَعَالى الله عَمَّا يَقولونَ عُلوًّا كَبيرًا. [الشركة في الملك] الشركة في الملك (الثالثة والثلاثون) : الشركَةُ في المُلْكِ، كما تَقولهُ المَجوسُ، والمجوسُ أُمَّة تُعَظِّمُ الأنوارَ والنِّيرانَ والماءَ والأرضَ، ويُقرُّونَ بنُبُوَّةِ زرادِشْتَ، وَلَهُم شَرائِعُ يَصيرونَ إليها. وهم فِرق شَتى: مِنهم المَزْدَكِيَّةُ أصحابُ مَزْدَكَ المُوْبَذ، والمُوْبَذُ عندهم العالِمُ القُدوةُ، وهؤلاءِ يَرونَ الاشتِراكَ في النِّساءِ والمَكاسِبِ كما يشترَكُ في الهَواءِ والطُرُقِ وغيرها. ومِنهم الخُرَّميّة أصحابُ بابِكَ الخرمى. وهم شَرُّ طوائِفِهم، لا يُقِرُّون بِصانِعٍ ولا مَعادٍ ولا نبوَّةٍ ولا حَلالٍ ولا حَرامٍ، وعلى مذهبِهِم طوائِفُ القرامطة والإسماعيلية والنصيرية والكيسانية والزرارية والحكمية وسائر العبيدية الذين يسمون أنفسهم الفاطمية، فكل هؤلاء يجمعهم هذا المَذهَبُ، ويتَفاوَتونَ في التَّفصيلِ، فالمجوسُ شُيوخُ هؤلاءِ كلِّهِم، وأئمتُهم وقُدوتُهم، وإن كانَ المَجوسُ قد يَتَقَيَّدونَ بأصلِ دِينهم وشَرائِعِهم، وهؤلاءِ لا يَتقَيَّدونَ بِدينٍ مِنْ دياناتَ العالم ولا بِشَريعَةٍ مِن الشرائع.

إنكار النبوات

[إنكار النبوات] إنكار النبوات (الرابعة والثلاثون) : إنكارُ النُّبُوَّاتِ. وَكانوا يَقولون: ما حَكى الله عنهم بقوله في [الأنعام: 90- 91] : {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ - وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 90 - 91] تفْسيرُ هذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ} [الأنعام: 91] شُروع في تَقْريرِ أمْرِ النُّبُوَّةِ، بَعْدَ ما حَكى الله سبحانَه عن إبراهيمَ عليه السلام أنَّه ذَكَرَ دَليلَ التوَحيدِ وإبطالِ الشِّركِ، وَقَرَّرَ سبحانَه ذلكَ بأفصح الدَّليلِ بأوْضَحِ وَجهٍ. {حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] أيْ: حَقَّ مَعْرفتِهِ وعن بعضِهِم: ما عَظَّموا الله حَقَّ تَعْظِيمِه إِذْ قَالُوا منْكرينَ لبعثةِ الرُّسُلِ وإنزالِ الكُتُبِ، كافِريْنَ بِنعمةِ الله الجَليلةِ فِيهما: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] أيْ: شَيئًا مِن الأشياءِ. واختُلِفَ في قائِل ذلكَ القَولِ الشَّنيعِ: فَعَن مُجاهِدٍ أنِّهم مُشرِكو قُريشٍ، والجمهورُ على أنهمُ اليَهودُ، ومُرادُهُم مِن ذَلِكَ الطَّعْنُ في رِسالتِهِ صلى الله عليه وسلم على سَبِيلِ المُبالَغَةِ. فَقيلَ لَهم على سبيلِ الإِلزامِ: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] فإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أنْزَلَ التَّوراةَ على موسى عليه السلام وَلاَ سَبيلَ لَكم إلى إنكارِ ذلِكَ، فَلِمَ لا تُجَوِّزونَ إنزالَ القُرآنِ على مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.؟ والكلامُ في إثْباتِ النُّبُوَّةِ مُفَصَّلٌ في غيرِ هذا الموضِع، والمقصودُ أنَّ إنكارَها مِن سَنَن الجاهِلِيَّةِ، وفي النَّاسِ كَثيرٌ مِمَّن هو على شاكِلَتِهم ومُعْوَجِّ طَريقهِم. [جحودهم القدر واحتجاجهم به على الله] جحودهم القدر، واحتجاجهم به على الله (الخامسة والثلاثون) : جحودُ القَدَرِ، والاحْتِجاجُ بِهِ على الله تَعالى ومعارَضَةُ شرعِ الله بِقَدَرِ الله. وهذهِ المَسألَةُ مِن غَوامِض مَسائلِ الدِّينِ، والوُقوفُ عَلى سِرِّها عَسِر إلا على من وَفَّقَه الله تَعالى. ولابنِ القيِّمِ كِتاب جَلِيْلٌ في هذا البابِ سمَّاه (شِفاءَ العَليل في القَضاءِ والقَدَرِ والحِكْمَةِ والتَّعْليلِ) . وقد أبْطَلِ الله

سُبحانَه هذه العَقيدةَ الجاهلية بقولهِ تَعالى في آخر سورة [الأنعام: 148-149] : {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ - قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149] تَفسيرُ هذه الآية: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) : حِكاية لفَنٍّ آخَرَ مِن أباطيلِهم. {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا} [الأنعام: 148] لَمْ يُريدوا بِهذا الكَلامِ الاعتذار عَنِ ارْتكابِ القَبيحِ، إذْ لم يَعْتقِدوا قُبحَ أفعالِهم، بل هُم كما نَطَقَتْ بِهِ الآيات يحسَبُونَ أَنهَّمُ يحسِنوُنَ صُنعًا، وأنهم إنَّما يَعْبُدونَ الأصنامَ لِيُقَرِّبوهُم إلى الله زلْفى، وأنَّ التَّحريمَ إنما كانَ مِن الله عز وجل، فَما مرادهُم بذلِكَ إلا الاحتجاجُ على أنَّ ما ارْتكَبوهُ حَقٌّ ومَشروع وَمرضيٌّ عند الله تَعالى على أنَّ المشيئةَ والإِرادةَ تُساوي الأمرَ، وتَسْتَلْزِمُ الرِّضى، كما زَعَمَتِ المُعْتَزِلَةُ، فَيَكونُ حاصِلُ كلامِهِم أنَّ ما نَرتكِبُهُ مِنَ الشِّركِ والتَّحريمِ وغيرِهما تَعَلَّقَتْ بهِ مَشيئَة الله تعالى وإرادَتُه، وكل ما تَعَلَّقَتْ بهِ مَشيئَته سبحانه وإرادَتُه فَهو مَشروعٌ ومَرْضِيٌّ عندَ الله تَعالى. وبَعْدَ أنْ حَكى سُبحانهُ وَتَعالى ذلِكَ عَنهم، رَدَّ عَلَيْهِم بِقولِهِ عَزَّ مِنْ قائِلٍ {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام: 148] وهم أسلافُهُم المُشرِكونَ. وحاصِلُهُ أنَّ كلامَهم يَتَضَمَّنُ تكذيبَ الرُّسُلِ عليهم السلام، وَقَدْ دَلَّتِ المُعْجِزَةُ على صِدْقِهِم. أو نَقولُ حاصِلُهُ أنَّ ما شاءَ الله يَجِبُ، وما لم يَشَأْ يَمْتَنعُ، وكلُّ ما هذا شأنُه فلا تكليفَ بِهِ لِكونهِ مَشروطًا بالاسْتِطاعة، فَيَنْتُجُ أنَّ ما ارْتكَبَهُ مِن الشِّركِ وغيرِهِ، لَم يتكَلَّفْ بِتَرْكِهِ ولمْ يُبْعَثْ لَهُ نَبِيّ. فَرَدَّ الله تَعالى عَلَيهم بأنَّ هَذِهِ كَلِمَةُ صِدْقٍ أُريدَ بِها باطِلٌ، لأنَّهم أرادوا بِها أن الرُّسُلَ عليهم السلام في دَعْواهُمُ البِعْثةً والتكليفَ كاذِبونَ. وَقَدْ ثَبَتَ صِدْقُهُم بِالدَّلائِلِ القَطْعِيّةِ، ولِكَوْنهِ صِدْقًا أُريدَ بِهِ باطِلٌ، ذَمَّهُمُ الله تَعالى بِالتكْذيبِ. وَوجوبُ وُقوعِ مُتَعَلَّقِ المَشيئَةِ لا يُنافِي صِدقَ دَعْوى البِعثةِ والتكليفِ؛ لأنَّهما لإِظهارِ المَحَجَّةِ وإبلاغ الحُجَّةِ {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام: 148] أي نالوا عَذابَنا الذي أنْزَلْناهُ عَلَيْهم بتكْذيبهم،

وفيه إيماءٌ إلى أنَّ لهم عَذابًا مُدَّخَرًا عِندَ الله تَعالى؛ لأنَّ الذَّوقَ أوَّلُ إدْراكَ الشَّيْءِ {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148] أي هلْ لَكُمْ مِنْ عِلمٍ بأنّ الإِشراكَ وسائِرَ ما أنتُم عَلَيه مَرْضيٌّ عند الِلَّهِ تَعالى فَتُظْهروهُ لَنَا بِالبُرْهانِ؟ وهذا دَليلٌ على أنَّ المُشرِكينَ أُمَم اسْتَوجَبوا التَّوبيخَ على قولهم ذلك؛ لأنَّهَم كانوا يَهْزَءونَ بالدِّين، ويَبْغونَ رَدَّ دَعْوةِ الأنبياء عليهم السلام، حَيثُ قرع مسامعهم من شَرائِعِ الرسُلِ عليهم السلام تَفْويضُ الأمورِ إلَيْهِ سُبحانَهُ وَتَعالى، فَحينَ طالبوهُم بالإِسلامِ، والتِزام الأحكامِ، احْتَجُّوا عَلَيْهِم بِما أخَذوه مِن كَلامِهم مُسْتَهْزِئينَ بِهم عليهم الصلاة والسَّلامُ، ولم يَكُنْ غَرَضُهُمْ ذِكْرَ ما يَنْطَوي عَلَيْهِ عِقْدُهُم، كَيفَ لا والإِيمانُ بصفاتِ الله تَعالى فَرْعُ الإِيمانِ بِهِ عَزَّ شَأْنُهُ وَهُوَ عَنهم مناطُ العَيُّوق. {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] أيْ تكْذِبونَ على الله تَعالى {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] أي البينَةُ الواضِحَةُ التي بَلَغَتْ غايَةَ المَتانَةِ والقُوَّةِ على الإِثباتِ، والمُرادُ بِها في المَشهورِ: الكتابُ والرَّسولُ والبَيانُ. {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] بِالتَّوفيقِ لَها، والحَمْلِ عَليها، وَلَكِنْ شاءَ هِدايَةَ البَعْضِ الصَّارِفينَ اختِيارَهُم إلى سُلوكِ طَريقِ الحَقِّ، وضَلالَ آخَرينَ صَرَفوه إلى خِلافِ ذَلِكَ. ومِنَ النَّاسِ مَنْ ذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ في توجيهِ ما في الآية، وهو أنَّ الرَّدَّ عَليهم إنَّما كانَ لاعْتِقادِهِم أنَّهم مُسَلِّمونَ اختِيارَهم وقُدْرتهم، وأنَّ إشراكَهم إنَّما صَدَرَ مِنهم على وجْهِ الاضْطرارِ وَزَعَموا أنَّهم يُقيمونَ الحُجَّةَ على الله تَعالى ورسوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بِذَلِكَ، فَرَدَّ الله تَعالى قَولَهم في دَعْواهُم عَدَم الاخْتيارِ لأنفسِهِم، وَشَبَّهَهُمْ بِمَنِ اغْتَرَّ قَبْلَهُم بِهذا الخَيال، فَكَذَّبَ الرُّسُلَ، وَأشْرَكَ بِاللهِ عز وجل، واعْتَمَدَ على أنَّه إنَّما يَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَشِيْئَةِ اللهِ تَعالى وَرامَ إفْحامَ الرُّسُلِ بِهذِهِ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّهم لا حُجَّةَ لَهم في ذَلِكَ، وأنَّ الحُجَّةَ البالِغَةَ لَه تَعالى لا لَهم، ثُمَّ أوْضَحَ سُبحانَه أنَّ كُلَّ واقعٍ واقع بِمشيْئَتِهِ، وأنَّه لم يَشَأْ مِنهمْ إلاَ ما صدَرَ عَنهم، وأنِّه تَعالى لَو شاءَ مِنهمُ الهدايةَ لاهْتَدَوا أجْمَعينَ. والمقصودُ أنْ يَتَمَحَّضَ وجهُ الرَّدِّ عَليهم، وَتَتَخَلَّصَ عَقيدةُ نُفوذِ السنة وعموم تغلغلها بكُلِّ

كائن عنِ الرَّدِّ، ويَنْصَرِفَ الرَّدُّ إلى دَعواهُم سَلْبَ الاخْتيار لأنفُسهم، وأنّ إقامتهم الحجة بِذلِكَ خاصَّة. وإِذا تَدَبَّرْتَ الآية وَجَدْتَ صَدرَها دَافِعًا لِصُدورِ الجَبْرِية، وعَجُزَها مُعْجزًا للمُعْتزلة، إِذِ الأوَّلُ مُثبتٌ أنَّ لِلْعَبْدِ اختيارًا وقُدْرةً على وجْهٍ يَقْطعُ حُجَّتَه وعُذْرَهُ في المُخالَفَةِ والعِصْيانِ، والثَّاني مُثِبتٌ نُفوذَ مَشيئَةِ الله تَعالى في العبدِ، وأنَّ جَميعَ أفعالِه على وَفْقِ المَشيئة الإِلهيةِ، وبذلكَ تَقومُ الحُجَّةُ البالغة لأهلِ السُّنَّةِ على المُعتزلةِ، والحمدُ لِلَّهِ ربِّ العالَمِينَ. ومِنهم مَن وجَّهَ الآية بأنَّ مرادَهم رَدُّ دعوةِ الأنبياء عليهم السلام على مَعنى أنَّ الله تَعالى شاءَ شِرْكَنا، وَأرادَهُ مِنَّا، وَأنْتُم تُخالِفونَ إرادَتَه، حَيثُ تَدعونا إلى الإِيمانِ، فَوَبَّخَهُم سُبحانَه وَتَعالى بوُجوه عِدَّة: منها قولُه سُبحانَه: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] فإنه بتقدير الشَّرطِ، أي إذا كانَ الأمرُ كما زَعَمْتُم {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] وقولُه سُبحانَه: {فَلَوْ شَاءَ} [الأنعام: 149] بَدَل منه على سَبيلِ البَيانِ، أي لَو شاءَ لَدَلَّ كُلاًّ منكم ومِنْ مُخالِفيكم على دينه، لَو كانَ الأمرُ كَما تَزْعُمونَ، لَكان الإِسلامُ أيْضًا بِالمشيئةِ، فَيَجِبُ أنْ لا تَمْنَعوا المُسلِمينَ من الإِسلامِ، كما وَجَبَ بِزعمكم ألا يمنَعَكُم الأنبياءُ عن الشِّركِ. فَيَلْزَمُكُم أنْ لا يكونَ بَيْنَكم وبَيْنَ المُسْلِمينَ مُخالَفَة ومُعاداةٌ، بَلْ موافَقَة وموالاة. وحاصِلُه أنَّ ما خالَفَ مَذْهَبَكم منَ النِّحَلِ يَجِبُ أنْ يَكونَ عِندكم حَقًّا؛ لأنه بِمشيئة الله تَعالى، فَيَلْزَمُ تَصحيحُ الأديانِ المُتناقِضَة. وَفِي سورةِ [النَّحْل: 35] {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35] الكلامُ عَلى هذه الآية كالكَلام على الآية السَّابقةِ، وَلا تَراهُمْ يَتَشَبَّثونَ بِالمشيئةِ إلا عِنْدَ انخِذالِ الحُجَّةِ. ألا تَرَى كيفَ خَتَمَ بِنَحوِ آخر مجادلاتهم في سورة الأنعام في الآية السابقة، وكذلك في سورة [الزخرف: 19-22] : وهو قولُه تَعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ - وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ - أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ - بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 19 - 22] ويكفي في الانقلاب ما

يشير إليه قوله سبحانه: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] والمُرادُ بِما حَرَّموهُ السَّوائِبُ والبَحائرُ وغَيْرُها. وَفِي تَخْصيصِ الاشْتِراكِ والتَّحْريمِ بالنَّفي؛ لأنَّهُما أعْظَمُ وأشْهَرُ ما هُمْ عَلَيْهِ. وَغَرَضُهُم مِنْ ذَلِكَ تكْذيبُ الرَّسولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ والطَّعْنُ في الرِّسالةِ رَأْسًا، فَإِنَّ حاصِلَهُ أيْ ما شاءَ الله يَجِبُ، وما لمْ يَشَأْ يَمْتَنعُ، فَلَوْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى شاءَ أنْ نُوَحِّدَهُ، وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا، وَنُحَلِّلَ ما أحَلَّهُ، ولا نُحَرِّمَ شَيْئا مِمَّا حَرَّمْنا كَما تَقولُ الرُّسُلُ وَيَنْقُلونَه مِنْ جِهَتِهِ تَعالى لَكانَ الأمرُ كَما شاءَ مِنَ التَّوحيدِ ونَفْي الإِشراكِ، وَتَحْليلِ ما أحَلَّهُ، وَعَدَمِ تَحْريمِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَحَيْثُ لَم يَكُنْ كَذلِكَ، ثَبَتَ أنه لَم يَشَأْ شَيْئًا مِن ذَلِكَ بَلْ شاءَ ما نحنُ عَلَيْهِ. وتَحَقَّقَ أنَّ ما يَقولُهُ الرُّسُلُ عليهم السلام مِن تِلْقاءِ أنْفُسِهِمْ. فَرَدَّ الله تَعَالى عَلَيْهِمْ بِقَوْلهِ {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل: 33] مِن الأمَمِ، أيْ: أشْرَكوا بِاللهِ تَعالى، وَحَرَّموا مِنْ دونِهِ ما حَرَّموا، وجادَلُوا رُسُلَهُمْ بِالباطِلِ لِيُدْحضوا بِهِ الحَقَّ {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35] أيْ: ليستْ وَظيفَتُهُمْ إلا البَلاغِ للرِّسالَةِ، المُوَضِّحَ طَريق الحَق والمُظْهر أحْكامَ الوحْيِ التي مِنها تَعَلُّقُ مَشيْئَتِهِ تَعالى باهْتِداءِ مَنْ صرَفَ قُدْرتَهُ واخْتِيارَهُ إلى تَحْصَيلِ الحَقِّ؛ لقولهِ تَعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وأمَّا إلْجاؤهمْ إلى ذَلِكَ، وتنفيذُ قَوْلهم عليهِ شاءوا أوْ أبَوْا كما هو مُقْتَضى اسْتِدْلالِهم فليسَ ذَلِكَ مِن وَظيفَتِهم، ولا مِن الحِكْمَةِ التي يَتوَقَّفُ عَلَيْها التكليفُ، حَتّىَ يُسْتَدَلَّ بعدمِ ظُهورِ آثارِهِ على عدمِ حَقيقةِ الرسلِ عليهم السلام أو على عدمِ تَعَلُّقِ مَشَيْئَتِهِ تَعالى بذَلِكَ، فإِنَّ ما يَتَرَتَّبُ عليه الثوَّابُ والعِقابُ مِن الأفْعالِ لا بُدَّ في تَعَلُّقِ مَشيئتِهِ تَعالى بِوقوعِهِ مِن مُباشَرَتِهم الاخْتِيارِيّة، وَصَرْفِ اخْتِيارِهِم الجُزْئِيِّ إلى تَحْصيلِهِ، وإلا لَكانَ الثوَّابُ والعِقابُ اضطِرارِيينِ، والكلامُ على هذهِ الآية ونحوِها مُسْتوفىً في تفسير (رُوحِ المعاني) وغيرهِ. فجُحودُ القَدَرِ والاحتجاجُ بِه على الله ومُعارَضَةُ شرع الله بِقَدَرِهِ، كُلُّ ذَلِكَ مِن ضلالاتِ الجاهِلِيَّةِ. والمَقْصودُ أنَّهُ لا جَبْرَ وَلا تَفْويضَ، ولكنْ أمْر بَيْنَ أمْرَيْنِ، فمَنْ زَلَّتْ قَدَمُهُ عَنْ هَذِهِ الجادَّةِ كانَ على ما كانَ عليهِ أهلُ الجاهِلِيَّةِ، وهِيَ الطَّريقَةُ التي رَدَّ عَلَيْهَا الله سبحانَه ورَسُولهُ صلى الله عليه وسلم.

مسبة الدهر

[مسبة الدهر] مسبة الدهر (السادسة والثلاثون) : مسَبَّة الدَّهْرِ: كقولهِم في سورةِ [الجاثيةِ: 24] {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] وذلكَ أنَّ الله تَعالى أرادَ بَيانَ أحْكامِ ضلالِهم والخَتْمِ على سَمْعِهم وقُلوبِهم وجَعل غِشاوة على أبصارِهِم، فَحَكى عنهم ما صدَرَ عَنهم بقوله سُبحانَه وتَعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] التي نَحْنُ فيها {نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية: 24] أيْ تَموتُ طائِفَة، وَتَحْيا طائِفةٌ، ولا حَشْرَ أصلا. ومِنهم مَن قالَ: إِنَّ كَثيرًا مِن عُبَّادِ الأصنامِ كانَ يقول بِالتَّناسُخِ، وَعَلَيْهِ فالمُراد بِالحياةِ: إعادةُ الرُّوحِ لِبَدَنٍ آخَرَ {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] أيْ طول الزَّمانِ. وإسنادُهُمُ الإِهلاكَ إلى الدهرِ إنكار مِنهم لِمَلَكِ الموتِ وقَبْضهِ الأرواحَ بِأمرِ الله تَعالى، وكانوا يُسْنِدونَ الحوادِثَ مُطْلقًا إلَيْهِ؛ لِجَهْلِهم أنَّها مُقَدَّرة مِن عندِ الله تَعالى، وَأشْعارُهُم لِذَلِكَ مَملوءة مِن شَكْوى الدَّهْر (¬1) وهؤلاءِ مُعْترفون بوجودِ الله تَعالى، فَهُمْ غَيْرُ الدَّهْرِيَّة. فإِنَّهم مَعَ إسنادِهِمُ الحوادِثَ إلى الدَّهْرِ لا يَقولونَ بِوُجوده سُبْحانَه وَتَعالى عَمَّا يَقولونَ عُلوّا كَبيرا والكُلُّ يَقولُ بِاسْتِقْلالِ الدَّهْرِ بِالتأثيرِ. وقَد جاءَ النَّهيُ عَنْ سبِّ الدَّهْرِ، أخْرجَ مُسْلِمٌ: «لا يَسُبّ أحَدُكُم الدَّهْرَ، فَإِنَّ الله هو الدَّهْرُ» وفي رِوَايَةٍ لأبي داودَ والحاكِم "قالَ الله عز وجل: «يُؤذيني ابنُ آدمَ يقولُ: يا خيبةَ الدَّهرِ، فلا يَقُلْ أحَدُكُم يا خيبةَ الدَّهرِ، فإِنيِّ أنا الدَّهرُ، أقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهارَهُ» وَرَوى الحاكِمُ أيْضًا: «يقولُ الله عز وجل: اسْتَقْرَضتُ عَبدْي فلم يُقْرِضْني، وَشَتَمَنِي عبدي وهو لا يَدْرِي، يقولُ: ¬

(¬1) مثل قول قائهم: أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي ومثل قول الآخر: منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي وقول الآخر: رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال وكنت إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال والشعر في ذلك قديمًا وحديثًا كثير.

إضافة نعم الله إلى غيره

وادَهْراهُ! وَأنا الدَّهرُ» . وَرَوَى البَيْهقِيُّ: «لا تَسُبوا الدَّهرَ، قال الله عز وجل: أنا الأيّامُ والليالِي، أجَدِّدُها وأبلْيها، وآتي بِمُلوكٍ بعدَ مُلوكٍ» . ومَعْنى ذَلِكَ أنَّ الله تَعالى هو الآتي بالحوادِثِ، فَإِذا سَبَبْتُمُ الدَّهرَ على أنَّهُ فاعِل، وَقَعَ السَّبُّ عَلى الله عز وجل. {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الجاثية: 24] أيْ: لَيسَ لَهم بِما ذُكِرَ مِنْ قَصْرِ الحياةِ على ما فِي الدُّنيا وَنسْبَة الإِهلاكِ إلى الدَّهرِ عِلم مُسْتَنِد إلى عَقْلٍ أو نَقْلٍ {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] أيْ ما هُم إلا قَوم قُصارَى أمرِهِم الظَّنُّ والتقليدُ مِنْ غَيْرِ أنْ يَكونَ لَهُم ما يَصِحُّ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ في الجُمْلَة. وقَدْ ذَكَرْنَا في غَيْرِ هذا المَوْضِع ما يَتَعَلَّقُ بالدَّهْرِيينَ، والمقصودُ أنَّ يقول بِإِسنادِ الحوادِثِ إلى غيرِ الله تَعالى كالدَّهرِ، فَذلك ليسَ لَهُ مستندٌ عقلَيّ وَلاَ نَقْلِيٌّ، بَل هو مَحْضُ جَهْلٍ، وقائِلُهُ جاهلٌ في أيِّ عَصْرٍ كانَ. ولأهل زماننا حظ وافر من هذا الاعتقاد الباطل. والله المستعان. [إضافة نعم الله إلى غيره] إضافة نعم الله إلى غيره (السابعة والثلاثون) : إضافةُ نِعَمِ الله إلى غيرِهِ، قال الله تَعالى في سورةِ [النَّحْلِ: 83] : {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83] وقدْ عَدَّدَ الله تَعالى نِعَمَهُ على عِباده في هذهِ السُّورةِ [78: 80] إلي أنْ قالَ {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ - فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ - يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 81 - 83] فقوله {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ} [النحل: 83] إلِخ اسْتِئناف لِبيانِ أنَّ تَولي المُشرِكينَ وإعراضَهم عن الإِسلامِ لَيْسَ لِعَدَمِ مَعْرِفتِهِم نِعمةَ الله سُبْحانَه وَتَعالى أصلا، فإِنِّهم يَعرِفون أنِّها مِن الله تَعالى، ثُمَّ يُنْكِرونَها بأفعالِهِم، حيثُ لم يُفْردوا مُنْعِمَها بالعِبادةِ، فَكَأنَهم لمْ يَعْبُدوه سُبحانه وَتَعالى أصْلا، وذَلِكَ كُفْران مُنَزَّل مَنْزِلَةَ الإِنكارَ. وأخرجَ ابنُ جريرٍ وغيرهُ عَنْ مُجاهِدٍ أنه قَالَ: إنكارُهُم إيَّاها قولُهم: وَرِثْناها مِن آبائِنا وأخرجَ هو وغيرُهُ أيْضًا عن عونِ بنِ عبدِ اللهِ أنه قالَ: إنكارُهم إيَّاها أنْ يقولَ الرَّجُلُ: لَوْلا فلانٌ أصابَني

الكفر بآيات الله

كَذَا وَكَذَا، وَلَوْلا فلانٌ لم أُصِبْ كَذَا وَكَذَا. وَفِي لَفظٍ: إنكارُها: إضافتُها إلى الأسبابِ، وبعضُهُم يقولُ: إنكارُهُم: قولُهم: هي بشفاعة آلهتهم عند الله تَعالى. وَمِنهم مَن قال: النِّعمةُ هنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أيْ: يَعْرفونَ أنَّه- عليه الصلاة والسَّلامُ- نَبِيّ بِالمُعْجِزاتِ، ثُمَّ يُنكِرون ذَلِكَ، وَيَجْحَدونَه عِنادًا {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83] أيْ المُنكِرون بِقُلوبهِم، غيرُ المُعْترَفين بما ذُكِرَ. والتَّعبيرُ بالأكثرِ إمَّا لأنَّ بعضهم لم يَعْرِفِ الحَقَّ لِنُقصانِ عقلِه وعدمِ اهتدائِهٍ إليهِ، أو لِعدمِ نَظَرِهِ في الأدلَّة نَظَرًا يُؤدِّي إلى المَطْلوبِ، أو لأنَّه لمْ تَقُمْ عليهِ الحُجَّةُ؛ لِكونهِ لم يَصِلْ إلى حَدِّ المُكَلَّفينَ لِصغرٍ ونحوِه، وإمَّا لأنَّه يُقامُ مقامَ الكُلِّ، فإسنادُ المعرفةِ والإِنكارِ المتفرِّع عَلَيْها إلى ضَميرِ المشرِكينَ على الإِطلاقِ مِن باب إسناد حالِ البعضِ إلى الكلِّ. وَمِمَّا يَجْرِي هذا المَجْرى قولُهُ تَعالى في سورةِ [الواقِعةِ: 81-82] {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ - وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 81 - 82] أيْ: تَقولونَ: مُطِرْنا بِنَوْءِ كَذا وكَذا. رَوَى مُسْلِم وغيرهُ عن ابنِ عبَّاس قالَ: «مُطِرَ النَّاسُ على عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَال عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ" أصْبَحَ مِنَ الناسِ شاكِرٌ، ومِنهم كافِرٌ، قالوا: هذهِ رحمة وضَعَها الله" وقالَ بعضُهم: لَقَد صَدَقَ نَوْءُ كَذا، فَنَزَلَتْ هَذه الآية {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75] حَتَّى بَلَغَ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] » إِلَى غيرِ ذَلِكَ مِنَ الآثارِ. والمقصود أن إسناد النعم إلى غير منعمها الحقيقي كفران لها. وَقَدْ ذَكَرْنا مَذهبَ العربِ في الأنواءِ في غيرِ هذا الموضِعِ، وَفَصَّلْناه تفْصيلا، وَذَكَرْنا شِعْرَهُمُ الدَّال على مَذهَبِهم هذا. واللهُ المُوَفقُ. [الكفر بآيات الله] الكفر بآيات الله (الثامنة والثلاثون) : الكفرُ بآيات الله. والنصوصُ الدالَّةُ على ذلك في القرآنِ كثيرة: مِنها قولُهُ تَعالى في [الكَهْفِ: 105- 106] : {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا - ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف: 105 - 106] بَعْدَ قولهِ سُبحانَه [الكهف: 103- 104] : {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103 - 104]

اختيار كتب الباطل ونبذ آيات الله

فقولُه (أُوْلئكَ) كلام مُسْتَأنَفٌ منهُ مَسوق لتكْميلِ تعريفِ الأخْسَرينَ، وتَبيينِ خُسرانِهِم وضَلالِ سعْيِهِم وتَعْيينهم، بِحيثُ يَنْطَبِقُ التَّعريفُ على المُخاطَبينَ. أيْ أولئكَ المَنْعوتونَ بِما ذُكِرَ من ضَلالِ السَّعْيِ والحُسْبانِ المذكورِ {الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [الكهف: 105] بِدلائِلِهِ سُبحانَه الدَّاعِيَة إلى التَّوحيدِ الشَّامِلة للسَّمعيَّةِ والعقلِيّةِ {وَلِقَائِهِ} [الكهف: 105] هو كِنايةٌ عن البعثِ والحَشْرِ وما يَتْبَعُ ذلك من أُمورِ الآخِرَةِ، أي لم يؤمِنوا بِذَلِكَ على ما هو عَلَيه {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] أيْ: فَنَزْدَري بهم، وَنَحْتَقِرُهُم. ومِنَ النُّصوصِ ما يَدُلُّ على أنَّ مِنهم مَن كان يُنْكِرُ بَعضَ الآياتِ، ومِنهم مَن كانَ مُعْرِضًا عَنْها وهاجرًا لها، ولاَ يَخْفى عليك أنَّ مِنَ النَّاسِ اليومَ مَن هُوَ أدْهى وأمَرُّ مِمَّا كانَ عَلَيْهِ أهلُ الجاهِلِيَّة فِي هَذَا البابِ. [اختيار كتب الباطل ونبذ آيات الله] اختيار كتب الباطل، ونبذ آيات الله (التاسعة والثلاثون) : اشْتِراء كُتُبِ الباطِلِ واخْتِيارُها عليها، أيْ عَلى الآيات. قالَ تَعالى [البقرة: 99-103] : {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ - أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ - وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ - وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 99 - 102] إلى قوله: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ - وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102 - 103] وَمَعنى قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} [البقرة: 102] أيْ اسْتبدَلَ ما تَتْلوا الشَّياطينُ بِكتابِ الله. {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102] أي: نَصيبٍ {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 102] أيْ: واللهِ لَبِئْسَ شَيْئًا شَرَوا بهِ حُظوظَ أنْفُسِهِم، أيْ: باعوها أو شَرَوْها في زعْمِهِم ذَلِكَ الشِّراءَ {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا} [البقرة: 103] أيْ بِالرَّسولِ أوْ بِما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنَ الآياتِ أو بِالتَّوْراةِ {وَاتَّقَوْا} [البقرة: 103] أيْ المَعاصي

القدح في حكمة الله تعالى

التي حُكِيَتْ عَنْهُمْ. {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103] أيْ أنَّ ثَوابَ الله تَعالى خَيْرٌ لَهُمْ، وبِمَعْنى هذه الآيةِ قولُه تَعالى [البقرة: 78-79] {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ - فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 78 - 79] وَهَذه الآية نَزَلَتْ في أحبارِ اليهودِ الذينَ خافُوا أنْ تَذهبَ رِياسَتُهم بإِبْقاءِ صفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم على حالِها، فَغَيَّروها. [القدح في حكمة الله تعالى] القدح في حكمة الله تعالى (الأربعون) : القَدْح في حِكْمَتِهِ تَعالى. أقولُ: مِنْ خِصالِ الجاهلية: القَدْحُ في حِكْمَتِهِ تَعالى، وأنَّهُ لَيْسَ بحَكيمٍ في خَلْقِهِ. بِمعنى أنه سُبحانَه يَخْلُقُ ما لا حِكْمَةَ لَهُ فيهِ، وَيَأمُرُ وَيَنْهى بِما لا حِكْمَةَ فيهِ. وقد حَكى الله تَعالى ذَلِكَ بقولهِ في سورةِ [ص: 27] : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27] وَقَالَ سُبحانَه في سورةِ [المؤمنين: 115-116] : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ - فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: 115 - 116] وفي سورةِ [الدُّخانِ: 38-39] ، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ - مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 38 - 39] وفي سورةِ [الأنبياءِ: 16-17] ، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ - لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 16 - 17] وفي سورةِ [الحِجْرِ: 85] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ النَّاصَّةِ على أنَّ الله تَعالى لَم يَخلُقْ شَيْئًا مِن غيرِ حِكمةٍ وَلا عِلَّة، عَلى خِلافِ ما يَعْتَقدُهُ أهلُ الباطِلِ مِنَ الجاهِلِينَ، وَمَن نَحا نَحْوهُمْ مِن هذِهِ الأمَّةِ مِمَّنْ نَفى الحِكمةَ عَن أفعالِهِ سُبحانَه وَتَعالى. وهَذِهِ مَسألةٌ طويلةُ الذَّيلِ، قَدْ كَثُرَ فيها

الخِصامُ بَيْنَ فِرَق المُسلِمينَ، والحقُّ ما كانَ عَلَيه السَّلَفُ مِن إثبات الحِكمةِ والتَّعليلِ. وقدْ أطْنَبَ الكلامَ عليها الحافِظُ ابنُ القَيِّم في كِتابِه (شِفاءِ العليلِ في مسائلِ القَضاءِ والقَدَرِ والحِكْمَة والتَّعْليلِ) وَعَقَدَ بابًا مُفَصَّلا في طُرُقِ إثباتِ حِكمة الرَّبِّ تَعالى في خَلْقِهِ وَأمْرِهِ، وإثباتِ الغاياتِ المَطلوبةِ والعواقِب الحَمِيدَةِ الَّتي فَعَلَ وَأَمَرَ لأجلِها. ومِن جُملةِ ما قالَ في هذا البابِ: إنه سُبحانَه وَتَعالى أنكَرَ على مَن زَعَمَ أنَّه لم يخلُقِ الخَلْقَ لِغايةٍ ولا لحِكمةٍ، كَقَولهِ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115] وَقَولِهِ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ - مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38 - 39] والحَقُّ: هو الحِكَمُ والغاياتُ المحمودةُ، التي لأجلِها خَلَقَ ذَلِكَ كُلَّهُ وهو أنواعٌ كثيرةٌ منها أنْ يُعْرَفَ اللهُ بأسمائِهِ، وصِفاتِهِ، وأفعالِهِ، وآياتِهِ. ومِنها: أنْ يُحَبَّ، وَيُعْبَدَ، وَيُشْكَرَ، ويُطاعَ ومِنها: أنْ يأمُرَ، وَيَنْهى، وَيُشَرِّعَ الشَّرائِعَ. ومِنها: أنْ يُدَبِّرَ الأمرَ، ويُبْرِمَ القَضاء، وَيَتَصَرَّفَ في المَمْلَكَة بأنواعِ التَّصَرُّفاتِ. ومِنها: أنْ يثيبَ ويُعاقِبَ، فَيُجازِيَ المُحْسِنَ بإحْسانِهِ، والمُسيءَ بإساءَتِهِ، فَيَكونَ أثَرُ عَدْلِهِ وفَضْلِهِ موجودًا مُشاهَدًا، فَيُحْمَدَ على ذَلِكَ ويُشْكَرَ. ومِنها: أنْ يُعْلِمَ خَلْقَهُ أنه لا إِلهَ غَيْرُهُ، وَلاَ رَبَّ سِواهُ. ومِنها: أنْ يَصْدُقَ الصَّادِقُ فَيُكْرِمَهُ، وَيَكْذِبَ الكاذِبُ فَيُهينَهُ. ومِنْها: ظُهُورُ آثارِ أسْمائِهِ وَصِفاتِهِ عَلى تنوُّعِها وكَثرتِها في الوُجودِ الذِّهْنِيَ والخارجي، فيعلم عباده ذلك علمًا مطابقًا لما في الواقع. ومِنْها: شَهادةُ مَخلوقاتِهِ كُلِّها بأنه وَحْدَهُ ربها وَفاطِرُها ومَليكُها، وأنه وَحْدَهُ إِلهُها ومَعْبودُها. ومِنْها: ظُهورُ آثارِ كَمالِهِ المُقَدَّسِ، فإِنَّ الخَلْقَ والصُّنْعَ لازِمُ كَمالِهِ، فإِنَّه حَيٌّ قديرٌ، ومَن كانَ كَذَلِكَ لم يَكُنْ إلا فاعِلا مُختارا. ومِنها أنْ يُظْهِرَ أثَرَ حكمتِهِ في المخلوقاتِ بوضعِ كُلٍّ مِنها في مَوضِعِهِ الذي يَليقُ بِهِ، ومَجيئِهِ على الوجهِ الذي تَشْهَدُ العُقولُ والفطَرُ بِحُسْنِهِ، فتشهَدَ حِكْمَتُهُ الباهِرة ومِنها: أنَّه سُبحانه يُحِبُّ أنْ يَجودَ ويُنْعِمَ ويَعْفُوَ وَيَغْفِرَ وَيُسامحَ، ولا بُدَّ مَن لوازمِ ذَلِكَ خَلْقًا وشَرْعًا. ومِنها: أنَّه يُحِبُّ أنْ يُثْنى عَلَيْهِ، ويُمْدَحَ ويُمَجَّدَ، وَيُسَبَّحَ وَيُعَظَّمَ ومِنها: كثرةُ

شواهدِ رُبوبيتِهِ وَوَحْدانِيتِهِ وَإلهيتِه. إلى غير ذلكَ من الحِكمِ التي تَضَمَّنَها الخَلْقُ، فَخَلَقَ مَخْلوقاتِهِ بِسببِ الحَقِّ. ولأجْلِ الحَقِّ، وَخَلْقُها مُلْتَبِس بالحَقِّ، وهو في نفسِهِ حَقّ: فَمَصْدَرُهُ حَقٌّ، وغايتُه حَقٌّ، وهو يَتَضَمَّنُ الحَقَّ. وقَدْ أثنى على عِبادِهِ المؤمِنينَ حَيْثُ نَزَّهوهُ عنْ إيجادِ الخَلْقِ، لا لِشَيْءٍ ولا لِغاية، فَقَالَ تَعالى [آل عمران: 190- 191] : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ - الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران: 190 - 191] وَأخْبَرَ أنَّ هَذَا ظَنُّ أعدائِهِ، لا ظَنُّ أوليائِهِ فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27] وكيفَ يَتَوَهَّمُ أنَّه عَرَفَهُ مَن يقولُ: إنَّه لم يَخلقِ لِحكمةٍ مطلوبة لَه، ولا أمَر لِحكمةٍ، ولا نَهَى لِحكمةٍ، وإنَّما يَصدُرُ الخَلْقُ والأمرُ عن مشيئَةٍ وقُدْرَةٍ مَحْضَةٍ، لا لِحكمةٍ ولا لِغاية مقصودةِ. وهلْ هذا إلا إنكارٌ لحقيقة حَمْده بَل الخَلْقُ والأمرُ إنَّما قامَ بالحكمِ والغاياتِ، فَهُما مَظْهَرانِ لِحمده وحِكمتِهِ. فإِنكارُ الحكمةِ إنكارٌ لِحَقيقةِ خَلْقِهِ وأمرِهِ، فإِنَّ الذي أثبَتَهُ المُنْكِرونَ مِن ذَلِكَ لنَزَّهُ عنه الرَّبُّ، ويَتَعالى عَن نسبتِهِ إليهِ، فإنَّهم أثْبَتوا خَلْقًا وَأْمرًا لا رَحْمَةَ فيهِ ولا مَصْلَحَةَ ولا حِكمةَ، بَلْ يَجوزُ عِنْدَهُم أو يَقَعُ أنْ يَأمرَ بِما لا مَصلحةَ لِلْمُكَلَّفِ فيه ألبتة، ويَنْهى عَمَّا فيه مَصلحة، والجميعُ بالنِّسبة إليه سواءٌ ويَجوزُ عِندَهم أنْ يَأْمُرَ بِكُلِّ ما نَهى عَنه، وَيَنْهَى عن جَميعِ ما أمَرَ بِهِ، ولا فَرْقَ بَيْنَ هذَا وهذَا إلا بِمُجَرَّدِ الأمْرِ والنَّهْي. وَيَجوزُ عِندَهم أنْ يُعَذِّبَ مَنْ لَم يَعْصِهِ طَرْفَةَ عَينٍ، ويثيبَ مَن عصَاهُ بلْ أفْنى عُمُرَهُ في الكُفْرِ بِهِ والشِّرْكِ والظلْمِ والفُجورِ، فَلاَ سَبيلَ إلى أنْ يُعْرَفَ خِلافُ ذلِكَ منه إلا بِخَبَرِ الرَّسول، وإلا فهو جائِزٌ عليهِ. وَهَذَا مِن أقْبَحِ الظَّنِّ وأسوئهِ بالرَّبِّ سُبحانَه، وَتنزيهُهُ عَنْهُ كَتنزيهِهِ عن الظلْمِ والجَوْرِ، بَلْ هذا هو عَيْنُ الظلْمِ الَّذِي يَتَعالى الله عَنْهُ. والعَجَبُ العُجابُ أنَّ كَثيرًا مِن أربابِ هَذَا المَذْهَبِ ينزِّهونَه عَمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَه مِن صِفاتِ الكَمالِ ونُعوتِ الجَلالِ، ويزعمون أن إثباتها تجسيمٌ وتشبيهٌ، ولا ينزِّهونه عن هذا الظلم والجَوْرِ، ويَزْعُمونَ أنه عَدْل وَحَقّ، وأنَّ

الكفر بالملائكة والرسل، والتفريق بينهم

التَّوْحيدَ عِندَهُم لا يَتِمُّ إلا بهِ، كما لا يتِمُّ إلا بإنكارِ اسْتِوائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وعُلُوِّهِ فَوْقَ سَماواتِه، وتكَلُّمِهِ وتكليمِهِ، وصِفاتِ كمالِه فلا يَتِمُّ التَّوحيدُ عند هذهِ الطَّائِفةِ إلا بِهَذَا النَّفْيِ وذَلِكَ الإِثْباتِ، واللهُ وليُّ التَّوفيقِ. انتهى المقصودُ من نَقْلِهِ، وتَمامُ الكلامِ في هذا البابِ من ذَلِكَ الكِتابِ (¬1) وإليه سُبحانَه المآبُ. [الكفر بالملائكة والرسل، والتفريق بينهم] الكفر بالملائكة والرسل، والتفريق بينهم (الحادية والأربعون) : الكفر بِالملائِكَةِ والرُّسلِ والتَّفْريق بَيْنَهُم. قال تَعالى [البقرة: 87- 99] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ - وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ - وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ - بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 87 - 91] إلى أن قال: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ - مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ - وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 97 - 99] فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ هذهِ الآيات أنَّ بَعْضَ الكِتابِيِّينَ كانُوا يَكفُرونَ بِالمَلائِكَةِ والرُّسُلِ، يُفَرِّقونَ بَيْنَهُمْ، أيْ يؤمِنونَ بِبَعْضٍ ويَكفُرونَ بِبَعضٍ، وهم طائفةٌ مِن جاهِلِيَّةِ اليَهودِ. وَلِهَذَا أمَرَنا الله تَعالى بالإِيمانِ بهم وَعَدَمِ ¬

(¬1) وهو "شفاء العليل" لابن القيم رحمه الله.

الغلو في الأنبياء والرسل

التَّفْرِقَة بَيْنَهُم، فَقَالَ [البقرة: 285] {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] [الغلو في الأنبياء والرسل] الغلو في الأنبياء والرسل (الثانية والأربعون) : الغُلُوُّ في الأنبياءِ والرُّسُلِ عليهم السلام، قالَ تَعالى في سورةِ [النِّساءِ: 171] {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 171] وَالغُلُوُّ في المخلوقِ أعْظمُ سَبَبٍ لعبادةِ والغلو في المخلوق أعظم سبب لعبادة الأصنامِ والصَّالِحينَ، كَما كانَ في قوم نوح مِن عبادةِ نَسْرٍ وَسُواعٍ وَيَغوثَ ونَحْوِهِم، وكما كان مِنْ عبادةِ النَّصارى لِلمسيحِ عليه السلام، ومِثلُ ذلِكَ القولُ على الله بِغيرِ الحَقِّ. [الجدال بغير علم] الجدال بغير علم (الثالثة والأربعون) : الجِدالُ بِغيرِ العِلم كما تَرى كثيرًا مِن أهلِ الجَهلِ يُجادِلونَ أهلَ العِلْمِ عِندَ نَهْيهِم عَمَّا ألِفوه مِنَ البِدَعِ والضلالاتِ. وهي صِفَةٌ جاهِلِيّةٌ نَهانا الله تَعالى عَنِ التَّخَلُّقِ بِها. قال تَعالى في سورةِ [آل عمران: 65-66] {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ - هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 65 - 66] أخْرَجَ ابنُ إسحاقَ وابنُ جَريرٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما قالَ: «اجْتَمَعَتْ نَصارى نَجْرانَ وأحبارُ يهودَ عِندَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَتَنازَعوا عِنْدَهُ، فَقالَتِ الأحبارُ: ما كانَ إبراهيمُ إلا يَهودِيًّا، وقالتِ النَّصارى: ما كان إبْراهيمُ إلا نَصرانِيًّا، فَأنْزَل الله فيهم هذهِ الآية» المُنادِيَةَ على جَهْلِهم وعِنادِهم، كَما لا يخْفى على مَنْ راجَعَ التفسيرَ.

الكلام في الدين بلا علم

[الكلام في الدين بلا علم] الكلام في الدين بلا علم قال الشيخ: (الرابعة والأربعون) الكَلامُ في الدِّين بِلا عِلْمٍ، أقولُ: أجْمَلَ الشَّيخُ رحمه الله تعالى الكَلام في هذهِ المسألة كُلَّ الإِجمالِ كَما فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ في كَثيرٍ مِنَ المَسائِلِ، وما أحَقَّها بِالتفصيلِ. وَذَلِكَ أنَّ أهلَ الجاهِلِيةِ مِنَ العَرَبِ وغيرِهِم مِنَ الكِتابِيِّينَ شَرَعوا في الدِّينِ ما لَم يَأذَنْ بِهِ الله، أمَّا العَرَبُ فقد كانَ الكثيرُ مِنهُم على دين إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهم السلام إلى أنْ ظَهَرَ فِيهِمُ الخُزاعِيُّ (¬1) فَغَيَّرَ وَبَدَّلَ، وابْتَدَعَ بِدَعًا كَثيرةً، وَأغْرى العَرَبَ عَلى عِبادةِ الأصنامِ، وَبَحَرَ البَحيرَةَ، وَحَمى الحام، واسْتَقْسَمَ بِالأزلامِ، إلى غيرِ ذَلِكَ مِمَّا فَصلْناه في غيرِ هَذَا الموضِع. وإنْ شِئْتَ أنْ تَعْرِفَ جَهْلَ العَرَبِ، وما ابْتَدَعوهُ فاقْرأْ سورةَ الأنعامِ فَإِنَّ فيها كَثيرًا مِن ضَلالاتِهم ومُبْتَدَعاتِهم. وأمَّا الجاهِلِيُّونَ مِنَ اليَهودِ والنَّصارى، فَقَدِ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَذَلِكَ أنَّ أحبارَهم ورُهبانَهمُ ابْتَدَعوا لَهُم في الدِّينِ بدَعًا، وَحَلَّلوا وَحَرَّموا ما اشْتَهَتْهُ أنْفسُهُم، فَقَبِلوا ذَلِكَ مِنهم وأطاعوهُم عليه، مع أنَّ الدِّينَ إنِّما يَكونُ بِتشريعِ الله ووحْيِهِ إلى أنْبيائِهِ ورُسُلِهِ عليهم السلام، ولا يَكونُ بِآراءِ الرِّجالِ وبِحَسَبِ أهْوائِهِمْ، فَكُلُّ ما لا دَليلَ عَلَيْهِ مِنْ كِتابٍ ولا سُنَّةٍ مَرْدودٌ على صاحِبهِ. وَقَدْ ذَمَّ الله تَعالى اليَهود عَلى مِثل ذَلِكَ فَقَال عَزَّ اسْمُهُ في سورةِ [آلِ عِمرانَ: 78] ، {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78] فَمَنْ أوَّلَ نُصوصَ الكِتابِ والسُّنَّة على حَسَبِ شَهَواتِهِ وبِمُقْتَضى هَواهُ فَهو أيْضًا مِنْ قَبيلِ الذينَ يَلْوونَ ألْسِنَتَهُمْ بِالكِتابِ. وَأَنْتَ تَعْلَمُ ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ اليومَ كَثيرٌ مِن كُتُب الشَّريعَةِ مِنَ الآراءِ التي لَيْسَ لَها مُسْتند مِنْ دَلائِلِ الشَّريعَةِ. فإلى الله المُشْتكىَ مِنْ صَوْلَةِ الباطِلِ وخُمولِ الحَقِّ. ¬

(¬1) وهو عمرو بن لحي وكان الحجازيون ربا في امتثال أمره وطاعته والانتهاء عما ينهى عنه.

الكفر باليوم الآخر

[الكفر باليوم الآخر] الكفر باليوم الآخر (الخامسة والأربعون) : الكُفر باليومِ الآخِرِ، والتَّكذيبُ بلِقاءِ الله، وبَعْثِ الأرْواحِ، وَبِبَعْضِ ما ذَكَرَتْهُ الرّسلُ مِنْ صِفاتِ الجَنَّةِ والنَّارِ. قال تَعالى في سورةِ [الكَهْفِ: 103-105] ، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} [الكهف: 103 - 105] الآية. وقد مَرَّ الكَلامُ عَلَيها قَريبًا. وَقَالَ تَعالى في سورةِ [النَّحْلِ: 38-39] ، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل: 38 - 39] إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِنَ النُّصوصِ الوارِدَةِ في ذَلِكَ كُلِّهِ. ولِقومِ عَصْرِنا مِنْ هذا الاعْتِقادِ الجاهِلِيِّ حَظٌّ وافِرٌ، وَنَصيبٌ كامِل، ومَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، نَسْألُهُ تَعالى التَّوْفِيقَ للهِدايةِ. [التكذيب بآية مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] التكذيب بآية {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] (السادسة والأربعون) : التَّكذيب بِقَولِهِ تَعَالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] وَهو اليومُ الذي يَدينُ الله تَعالى العِبادَ فِيْهِ بِأعمالِهم، فَيُثيبُهُمْ عَلَى الخَيْراتِ ويُعاقِبُهُم على المَعاصِي والسَّيئاتِ. والتكذيبُ بِهذا اليومِ مُتَفَرِّعٌ عَلى إنكارِ البعثِ والحِسابِ والجَنَّةِ والنَّارِ. [التكذيب بآية لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ] التكذيب بآية {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254] (السابعة والأربعون) : التَّكذيب بِقَولِهِ تَعَالى [البقرة: 254] {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254] منْ قَوْلهِ سُبحانَه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] والخُلَّةُ: المَوَدَّة والصداقَةُ، ومَعْنى وَلَا شَفَاعَةٌ أيْ لا أحَدَ يَشْفَعُ لأحَدٍ إلا مِن بَعْدِ

الخطأ في معنى الشفاعة

أنْ يَأْذَنَ الرَّحْمنُ لِمَنْ يَشاءُ ويَرْضى. وأرادَ بِذَلِكَ يومَ القيامَة. والمُرادُ مِن وصْفِهِ بِما ذُكِرَ: الإِشارةُ إلى أنه لا قدرةَ لأحَدٍ فيهِ على تَحصيلِ ما ينْتفَعُ بِهِ بِوجْهٍ مِنَ الوُجوهِ، لأنَّ مَن في ذِمَّتهِ حَقّ مَثَلا إمَّا أنْ يأخُذَ بالبيع ما يُؤَدِّيهِ بِهِ، وإمَّا أنْ يعينَهُ أصدقاؤُه، وإمَّا أنْ يلتجئ إلى مَنْ يَشفعُ لَهُ فِي حَطِّه، والكُلُّ مُنْتَف، ولا مُسْتعان إلا باللهِ عز وجل. [الخطأ في معنى الشفاعة] الخطأ في معنى الشفاعة (الثامنة والأربعون) : التَّكذيبُ بِقولِهِ تَعالى في سورةِ [الزخْرُفِ: 86] {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] قَولُهُ: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ} [الزخرف: 86] أي ولا يملكُ آلِهَتُهُمُ الذين يَدْعونَهم مِن دونهِ الشَّفاعَةَ، كَما زَعَموا أنَّهُم شُفعاؤُهُم عِندَ الله عز وجل {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف: 86] الَّذي هو التَّوحيدُ. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] أيْ: يَعْلَمونَهُ. والمُرادُ بِهم: الملائِكَةُ وَعِيسى وعُزَيْرٌ وَأضْرابُهُمْ. وَأنْتَ تَرَى النَّاسَ اليومَ عاكِفينَ على أصنامٍ لهُمْ يَدْعونَهُمْ مِن دونِ الله، وعُذْرُهُم عِندَ تَوبيخِهِم أنَّ هؤلاءِ شُفَعاؤُهم. تَعَالى الله عَمَّا يُشْرِكون. [قتل أولياء الله] قتل أولياء الله (التاسعة والأربعون) : قَتْل أولياءِ الله، وقَتْلُ الذينَ يَأمُرونَ بِالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، قالَ تعالى في سورةِ [البقَرَةِ: 61] {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] وقالَ في سورةِ [آل عِمرانَ: 183] {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 183] إلى آَياتٍ أخَرَ في هذا المَعْنى صَرَّحَتْ بِما لاقاهُ الأنْبِياءُ والرُّسُلُ عليهم السلام وأتْباعُهُم المُخْلِصونَ ودُعاةُ الحَقِّ (¬1) وبِما كابَدوهُ مِن أعداءِ الله والجَهَلَةِ الطُغاةِ مِمَّا تنهَدُّ لَهُ الصَّياصِي ¬

(¬1) من ذلك أن الشيخ المصنف لاقى من أبناء زمانه كبيرهم وصغيرهم لما دعاهم إلى الله تعالى والتوحيد الذي جاءت به الرسل ما تنهد له الصياصي وتشيب له النواصي كما لا يخفى على من طالع سيرته الطاهرة، تغمده الله برحمته ورضوانه.

وتَبْيَضُّ مِنْهُ النَّواصِي. هؤلاءِ أكابِرُ الأمَّةِ المُحَمَّدِيةِ وَعُلَماؤُها الأعلامُ، قد صادَفوا عِندَ دَعوتِهم إلى الحَقِّ والمحافظَةِ عَلَيه ما يَسْوَدُّ منه وجه القِرْطاسِ، وتَشيبُ مِنه لِمَمُ المِدادِ. والأنبياءُ- صلواتُ الله عليهِم- وأتباعُهُم المُؤمنونَ- وإنْ كانوا يُبْتَلونَ في أوَّلِ الأمْر- فالعاقبَةُ لَهم، كما قالَ تَعالى لَمَّا قَصَّ قصةَ نَوح [هود: 49] : {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] وفي الحَديثِ المتَّفَقِ على صِحَّتِهِ «لما أرسلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رسولا إلى مَلِكِ الرُّومِ، فَطَلَبَ مَنْ يُخْبِرُهُ بسيرتِه، وكانَ المُشرِكونَ أعداءَهُ، لم يَكونوا آمَنوا بِهِ فقالَ: "كيفَ الحربُ بَيْنَكُم وَبَيْنَهم قالوا: الحَرْبُ بَيْنَنا وَبَيْنَهُ سِجالٌ، يُدالُ علينا المَرَّةَ، ونُدال عَليه الأخْرَى. فقال: كذلك الرُّسُلُ تُبْتَلى، وتكونُ لها العاقِبَةُ» . فإنَّه كان يومُ بدرٍ نَصر الله المُؤمِنينَ، ثُمَّ يَوْم أُحُدٍ ابتُلِي المُؤمِنونَ، ثم لم يُنْصَرِ الكُفَّارُ بَعْدَها، حَتّى أظْهَرَ الله تَعالى الإِسْلامَ. فإنْ قِيلَ: ففي الأنبياءِ مَن قد قُتِلَ، كما أخْبَرَ الله تعالى في الآيات السَّابقَةِ أنَّ بَني إسرائيلَ يَقْتُلونَ النَّبِيِّينَ بِغيرِ الحَقِّ، وفي أهل الفُجورِ مَن يُؤتيهِ الله مُلكًا وسُلْطانا وَيُسَلِّطُهُ على المُتَدَيِّنينَ كما سَلَّط بُخْتَ نَصَّرَ عَلى بَني إسرائيلَ، وكما سَلَّطَ كفَّار المُشرِكينَ وأهلِ الكتابِ- أحيانَا- على المُسْلِمينَ قيلَ: أمَّا مَنْ قُتِلَ مِن الأنبياءِ فهم كمَنْ يُقْتَلُ مِنَ المُؤمِنينَ في الجِهادِ شَهيدا. قالَ تَعالى [آل عمران: 146-148] : {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ - وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ - فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 - 148] ومعلومٌ أنَّ مَنْ قُتِلَ مِنَ المُؤمِنينَ شَهيدا في القتالِ، كان حالُه أكملَ من حالِ مَن يَموتُ حَتْفَ أنفهِ قالَ تَعالى [آل عمران: 169] : {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ولهذا قال تعالى [التوبة: 52] : {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52] أيْ: إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة. ثُمَّ إنَّ الدِّينَ الذي قاتَلَ عليه الشُّهَداء

يَنْتَصِرُ وَيَظْهَرُ، فَيَكون لِطائفتِه السَّعادةُ في الدُّنْيا والآخرةِ، مَن قُتِلَ مِنهم كان شهيدا، ومَن عاشَ مِنهم كانَ منصورًا سَعيدا، وهذا غايةُ ما يكونُ مِن النصرِ، إذْ كان الموتُ لا بُدَّ منهُ، فالموتُ على الوجهِ الذي تَحصُلُ به سعادةُ الدُّنيا والآخرةِ أكملُ، بِخلافِ من يهلكُ هو وطائفتُه، فلا يفوزُ لا هو ولا هم بمطلوبِهِم، لا في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ. والشُّهَداءُ مِنَ المؤمِنين قاتَلوا باختيارِهِم، وَفَعَلوا الأسبابَ التي بِها قُتِلوا، كالأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنْكَرِ، فَهُمُ اخْتاروا هَذا المَوْتَ، إمَّا أنَّهم قَصَدوا الشَّهادَةَ، وإمَّا أنَّهم قَصَدوا به ما يَصيرونَ شُهَداءَ، عالِمينَ بأنَّ لهُم السَّعادةَ في الآخِرَةِ وفي الدُّنيا بِانتصارِ طائِفَتِهِم وبِبَقاءِ لِسانِ الصِّدقِ لهم ثَناءً ودُعاءً، بِخِلافِ مَن هَلَكَ مِن الكُفَّارِ، فإنِّهم هَلَكوا بِغيرِ اختِيارِهِم، هَلاكا لا يرجونَ مَعه سعادةَ الآخِرِة، ولم يَحصلْ لَهُمْ ولا لِطائِفَتِهم شَيْءٌ مِن سعادةِ الدُّنيا، بَلْ أُتبعوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، وَقيلَ فيهمْ [الدخان: 25-29] : {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ - وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ - كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ - فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 25 - 29] وقد أخْبَرَ سُبحانَه أنَّ كثيرا مِن الأنبياء قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كثيرٌ، أيْ: أُلوفٌ كثيرةٌ، وأنَّهم ما ضَعُفوا ولا اسْتكانوا لِذَلِكَ، بلِ اسْتَغْفَروا مِنْ ذُنوبِهم التي كانتْ سببا لظُهورِ العدوِّ، وأنَّ الله تَعالى آتاهُمْ ثَوابَ الدُّنيا وحُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ، فإذا كان هذا قَتْلَ المُؤمِنينَ، فَما الظَّنُّ بِقتلِ الأنْبِياءِ؟ ففيه لهم ولأتباعِهم مِن سَعادةِ الدُّنيا والآخِرَةِ ما هو مِن أعظمِ الفَلاحِ. وظُهورُ الكُفَّارِ على المُؤمِنينَ- أحْيانا- هو بِسببِ ذُنوبِ المسلِمينَ، كيَومَ أُحُدٍ، فإنْ تابوا انْتَصَروا على الكُفَّارِ، وكانتِ العاقِبةُ لهم، كما قد جَرَى مِثْلُ هَذَا لِلمُسْلِمينَ في عامَّةِ ملاحِمهم معَ الكفَّارِ. وَهَذَا من آيات النُّبُوَّةِ وأعْلامِها ودَلائِلِها، فإنَّ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم إذا قاموا بعُهودِهِ ووَصاياهُ، نَصَرَهُمُ الله، وأظْهَرَهُمْ على المُخالِفينَ لَه، فإذا ضَيَّعوا عُهودهُ ظَهَرَ أُولئِكَ عَليهم. فمَدارُ النَّصرِ والظهورِ مَعَ مُتابَعَةِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وُجودا وعَدَما مِن غير سَبَبٍ

يُزاحم ذلك، ودوران الحُكْمِ مع الوصفِ وجودا وعدما مِن غير مزاحَمَة وصفٍ آخَرَ يوجِب العِلْمَ بأنَّ المَدارَ عِلَّة للدائِرِ، وقولُنا: "مِن غير وصفٍ آخَرَ": يُزيلُ النُّقوضَ الواردَةَ. فهذا الاستقراءُ والتَّتبّعُ يُبينُ أنَّ نَصْرَ الله وإظهارَه هو بسببِ اتِّباعِ النَّبِيِّ، وأنَّه سُبحانَه يُريدُ إعْلاءَ كَلِمَتِهِ وَنَصْرَه وَنصْرَ أتْباعِهِ عَلى مَن خالَفَه، وأنْ يَجعلَ لهم السَّعادةَ ولِمَن خالَفَهم الشَّقاءَ، وهذا يوجبُ العِلْمَ بنُبوّتهِ، وأنَّ مَن اتَّبَعَهُ كانَ سَعيدا، ومَن خالَفه كانَ شَقيّا. ومن هذا ظُهورُ بُخْتَ نَصَّرَ على بَني إسرائيلَ، فإنَّه مِن دلائلِ نبوَّةِ موسى؛ إذ كان ظهور بخت نصر إنما كان لما غيروا عهود موسى، وتركوا اتباعه، فعوقبوا بِذَلِكَ، وكانوا- إذْ كانوا مُتَّبِعينَ لِعُهودِ موسى - مَنْصورينَ مُؤَيَّدينَ، كما كانوا في زَمَنِ داودَ وسُلَيْمانَ وغيرِهما. قَالَ تَعالى [الإِسراء: 4-8] : {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا - فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا - ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا - إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا - عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: 4 - 8] فَكانَ ظُهورُ بَني إسرائيلَ على عَدُوِّهِم تارةً، وظُهورُ عَدُوِّهِم عَلَيهم تارةً من دَلائِلِ نبوَّةِ موسى صلى الله عليه وسلم وآياتِه، وكذلِكَ ظُهورُ أُمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم على عَدُوِّهم تارةً، وظُهورُ عَدُوِّهِم عليهم تارةً، هو من دلائِلِ رِسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم وأَعلامِ نبوته. وكانَ نَصْرُ الله لِموسى وقومِه على عَدُوِّهِم في حَياتِهِ وبَعْدَ مَوْتِهِ، كما جَرَى لَهُمْ مِنْ يوشعَ وغيرِه من دَلائِلِ نبوَّةِ موسى، وكذلك انتِصار المؤمِنين مَعَ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم في حياتِه وبَعْدَ مماتِهِ مع خُلفائِهِ مِن أعلامِ نبوته ودَلائِلها. وهذا بخِلافِ الكُفَّارِ الذين يَنْتَصِرونَ عَلى أهل الكِتابِ أحيانا، فإنَّ أولئكَ لا يكونُ مُطاعُهم إلى نبي، ولا يُقاتلونَ أتْباعَ الأنبياءِ على ديِنِ، ولا يَطلُبونَ مِن أولئكَ أنْ يَتَّبِعوهُم على دينهم، بَلْ قَدْ يُصَرِّحونَ بأنَّا نُصِرْنا عَلَيكم بِذُنوبِكم، وأنْ لَو اتَّبَعْتُم دِيْنَكم لم ننصَرْ عَليكم.

وأيْضا فلا عاقِبَةَ لهم، بَلِ الله يُهلِكُ الظَّالِمَ بالظَّالِمِ، ثُمَّ يهلِكُ الظَّالِمينَ جميعًا، ولا قَتيلُهم يَطلبُ بِقَتْلِهِ سَعادةً بعدَ الموتِ، ولا يَخْتارونَ القَتْلَ لِيَسْعَدوا بعد المَوتِ. فهذا وأمثالُه مِمَّا يُظْهرُ الفَرْقَ بَينَ انتِصارِ الأنبياءِ وأتْباعِهم، وبَيْنَ ظُهورِ بعض الكفَّارِ على المُؤمِنينَ، أو ظُهورِ بعضِهِم على بعض، ويُبَيِّنُ أنَّ ظُهورَ محمد صلى الله عليه وسلم وأُمَّتِهِ على أهلِ الكِتابِ: اليهودِ والنَّصارى، هو من جنسِ ظُهورِهم على المُشرِكينَ: عَبَدَةِ الأوثانِ، وذلك مِن أعلامِ نبوِّتهِ ودلائلِ رِسالَتِه، لَيس هو كَظُهورِ بُخْتَ نَصَّرَ على بني إسرائيلَ وظُهورِ الكُفَّارِ على المُسْلِمينَ. وهذه الآية مِمَّا أخْبَرَ بِهِ موسى، وبَيَّنَ أنَّ الكذَّابَ المُدَّعي لِلنُّبُوَّةِ لا يَتِمُّ أمرُهُ، وإنما يَتِمُّ أمرُ الصَّادِقِ. فإنَّ مِن أهلِ الكِتابِ مَن يَقولُ: مُحَمَّد وأُمَّتُه سُلِّطوا عَلَيْنَا بذُنوبِنا مَعَ صِحَّةِ دِيننا الذي نَحْنُ عَلَيْهِ، كَما سُلِّطَ بُخْتَ نَصَّرَ وغيرُه مِن المُلوكِ. وهذا قِياس فاسِدٌ، فإنَّ بُخْتَ نَصَّرَ لَم يَدَّع نبوَّة، ولا قاتَلَ على دينٍ، ولا طَلَب مِن بني إسرائيلَ أنْ يَنْتَقِلوا عَن شَريعة موسى إلى شَريعتِهِ، فلم يَكن في ظُهورِهِ إتمام لِما ادَّعاهُ مِن النُّبُوَّةِ وَدَعَا إلَيْهِ مِنَ الدِّينِ، بَل كانَ بِمَنْزِلَة المُحارِبينَ قُطَّاعِ الطَّريقِ إذا ظَهَروا على القَوافِلِ، بِخِلافِ مَنِ ادَّعى نبوَّةً ودِينا، ودَعا إليه، وَوَعَدَ أهلَه بِسعادَةِ الدُّنيا والآخِرةِ، وتَوَعَّدَ مُخالِفيهِ بِشَقاوةِ الدُّنيا والآخِرَةِ، ثُمَّ نَصَرَه اللهُ، وأظْهَرَهُ، وَأتَمَّ دِينَه، وأعْلى كَلِمَتَه، وَجَعَلَ لَهُ العاقِبةَ، وَأذَلَّ مُخالِفيهِ. فإنَ هذا مِن جِنسِ خَرقِ العاداتِ المقْتَرِنِ بِدَعوى النُّبُوَةِ، فإنَّه دليلٌ عَلَيها. وقَدْ تَغْرقُ في البَحْرِ أُمَمٌ كثيرة، فلا يَكونُ ذَلِكَ دَليلا على نُبُوَّةِ نَبِيٍّ، بِخِلافِ غَرَقِ فِرْعَوْنَ وَقَومِهِ، فإنِّه كانَ آيةً بَيِّنةً لموسى. وهذا مُوافِقٌ لِما أخْبَرَ بهِ موسى - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- مِن أنَّ الكذَّابَ لا يَتِمُّ أمْرُهُ، وذَلِكَ بأنَّ الله حَكيم لَا يَليقُ بِهِ تَأْييدُ الكَذَّابِ على كَذِبِهِ مِن غيْرِ أنْ يُبَيِّنَ كَذِبَهُ. ولِهذا أعْظَمُ الفتَنِ: فِتنةُ الدَّجَّالِ الكَذَّابِ، لَمَّا اقْتَرَنَ بِدَعْواهُ الألوهِيَّةَ بعضُ الخَوارِقِ، كان مَعَه ما يَدُلُّ على كَذِبِهِ مِن وجوهٍ: مِنها: دَعْواهُ الألوهِيّةَ، وهو أعْوَرُ، واللهُ ليس

بأعْوَرَ، مَكتوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كافرٌ، يَقْرَؤه كلُّ مُؤمِنٍ قارئ وغير قارئ، واللهُ تَعالى لا يَراهُ أَحَدٌ حَتّىَ يموتَ، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه العلامات الثلاث في الأحاديث الصحيحة. فَأمَّا تَأيِيْدُ الكَذَّاب، ونَصْرُهُ، وإظهارُ دعوتِه دائمًا، فهذا لم يَقَعْ قَطُّ، فَمَن يَستدلُّ على ما يَفْعَلُهُ الرَّبُّ سُبحانَه بالعادةِ والسُّنَّةِ، فهذا هو الواقع على ذلك- أيْضا- بِالحِكمةِ، فحِكمتُه تُناقِضُ أنْ يفعلَ ذلكَ، إذ الحَكيمُ لا يَفعلُ هذا. وقد قَال تَعالى [الفتح: 22-23] : {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا - سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الفتح: 22 - 23] فَأخْبَرَ أنَّ سُنَّةَ الله التي لا تَبديلَ لَها: نصرُ المُؤمِنينَ على الكافِرينَ. والإِيمانُ المُسْتَلْزِمُ لِذَلِكَ يَتَضَمَّنُ طاعةَ الله ورسولِهِ، فإذا نَقَصَ الإِيمانُ بِالمَعاصي كانَ الأمْرُ بِحَسبِهِ، كَما جَرَى يومَ أُحُدٍ. وقَالَ تَعَالى [فاطر: 42-43] : {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا - اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 42 - 43] فَأخْبَرَ أن الكفارَ لا يَنْظُرونَ إلا سُنَّةَ الأوَّلين، ولا يوجَد لِسُنَّةِ الله تبديلٌ، لا تُبَدَّلُ بغيرها، ولا تَتَحَوَّلُ، فكيفَ النَّصْرُ لِلكُفَّارِ على المُؤمِنينَ الَّذين يَسْتَحِقُونَ هذا على الأمم؟ وكذلك قال في المنافِقِينَ وهم الكفَّارُ في الباطِن دونَ الظَّاهِرِ وَمَنْ فيه شُعبةُ نِفاقٍ [الأحزاب: 60-62] : {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا - مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا - سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الأحزاب: 60 - 62] والسُّنَّةُ هي العادةُ، فهذه عادةُ الله المعلومةُ، فإذا نَصَرَ مَن ادَّعى النُّبوَّةَ وأتْباعَه على مَن خالَفَه، إمَّا ظاهِرا وإمَّا باطِنا نصرا مستقرّا، فإنَّ ذَلِكَ دليلٌ على أنَّه نبي صلى الله عليه وسلم، إذ كانت سُنَّةُ الله وعادتُه نصرَ المؤمنين بالأنبياء الصَّادقين على الكافرين والمنافقين، كما أنَّ سُنَّتَه تأييدُهم بالآيات البينات، وهذه منها. ومن ادَّعى النُّبُوَّةَ وَهو كاذب، فَهو

مِنْ أكْفَرِ الكُفَّارِ وأظْلَمِ الظَّالِمينَ، قال تَعَالى [الأنعام: 93] : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93] وَقَالَ تَعالى [الزمر: 32] : {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} [الزمر: 32] وَقَالَ تَعالى [العنكبوت: 68] : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} [العنكبوت: 68] وَقَالَ تَعالى [الأنعام: 144] : {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144] ومَنْ كانَ كَذَلِكَ، كانَ الله يمقته، ويُبغضُه، ويُعاقِبُه، ولا يَدومُ أمرهُ، بَلْ هو كما قالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصَّحيح عن أبي هريرةَ قالَ: «إنَّ الله يُمْلي لِلظَّالِم، فَإِذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ "، ثُمَّ قَرَأ [هود: 102] : {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] » ، وقال- أيْضا- في الحديث الصحيحِ عن أبي موسى أنَّه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثلُ المُؤْمِنِ كَمَثلِ الخامَةِ مِنَ الزَّرعِ، تفيؤُها الرِّياحُ، تُقيمُها تارة وتُميلُها أخْرى، وَمَثلُ المُنافِقِ كَمَثلَ شَجَرَةِ الأرْزِ، لا تَزالُ ثابِتةً عَلى أصلِها، حَتّى يكونَ انْجِعافُها مرَّةً واحدةً» . فالكاذبُ الفاجِرُ وإنْ عَظُمَتْ دَولتُهُ، فلا بُدَّ من زوالِها بالكُلِّيَّة، وبقاءِ ذَمِّهِ ولِسانِ السَّوْءِ لَه في العالَمِ، وهو يَظْهَرُ سَريعا، ويَزولُ سَريعا، كَدَوْلة الأسودِ العنسيِّ، ومُسَيْلَمَةَ الكذَّابِ، والحارِثِ الدِّمَشقيِّ، وبابِكِ الخُرَّمِيِّ ونحوِهِم. وأمَّا الأنبياءُ، فإنِّهم يُبْتَلونَ كثيرًا لِيُمَحَّصوا بالبَلاءِ، فإنَّ الله تَعالى يُمَكِّنُ لِلْعَبْدِ إذا ابْتلاهُ، ويُظْهِرُ أمرَه شَيْئا فشيئا، كالزَّرع، قال تَعالى [الفتح: 29] : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح: 29] (أي فراخَهُ) {فَآزَرَهُ} [الفتح: 29] (أي قَوَّاه) {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] ولِهذا كان أولى مَن يَتَّبِعُهُمْ ضُعفاءُ النَّاسِ بِاعْتِبارِ هذه الأمورِ. وسُنَّةُ الله في أنبياءِ الله وأوليائِه الصَّادقين وفي أعداء الله والمُتنبِّئين الكذَّابين مِمَّا يوجِبُ الفرقَ بين النَّوعَين، وبَيْنَ دَلائِلِ النَّبِيِّ الصَّادقِ ودَلائِل المُتنبي

الإيمان بالجبت والطاغوت

الكذَّابِ. وقد ذُكِرَ ابتلاءُ النَّبِيِّ والمؤمِنينَ ثُمَّ كَونُ العاقِبَةِ لهم في غيرِ موضعٍ كقوله تَعالى [الأنعام: 34] : {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34] وقال تعالى [البقرة: 214] : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] قال تعالى [يوسف: 109- 111] : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ - حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ - لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 109 - 111] والمقصودُ أن إيذاءَ القائِمينَ بالحَقِّ، والنَّاصِرينَ له مِن سننِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ، وكَثيرٌ مِن أهلِ عصرِنا على ذلك، واللهُ المُستَعانُ. [الإيمان بالجبت والطاغوت] الإيمان بالجبت والطاغوت (الخمسون) : الإِيمانُ بِالجِبْتِ والطَّاغوتِ، وتَفْضيلُ المُشرِكينَ على المسلمين. قال تعالى في سورةِ [النساء: 51] : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] هَذِهِ الآية نَزَلْت في حُيَيِّ بنِ أخْطَبَ وَكَعْبِ بنِ الأشرَفِ في جَمعٍ مِن يهودَ، وذلك أنَّهم خَرَجوا إلى مَكَّةَ بَعْدَ وقْعَةِ أُحُدٍ؛ لِيُحالِفوا قُريشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَيَنْقُضوا العَهْدَ الذي بَيْنَهم وبَيْنَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَنَزَل كعبٌ على أبي سُفيانَ، فَأحْسَنَ مَثواه، وَنَزَلَتِ اليهودُ في دورِ قرَيْشٍ، فقالَ أهلُ مَكَّةَ: أنْتُمْ أهلُ كِتاب،

لبس الحق بالباطل

ومحمَّد صلى الله عليه وسلم صاحبُ كِتابٍ، فلا يُؤمَنُ هذا أنْ يكونَ مَكْرًا مِنْكُمْ، فإنْ أرَدْتَ أن نَخْرج معَكَ، فَاسْجُدْ لِهذينِ الصَّنَمَينِ وآمِنْ بِهِما، فَفَعَلَ، ثُمَّ قَال كعبٌ: يا أهلَ مَكَّةَ! لِيَجِيء مِنكم ثلاثونَ ومِنَّا ثلاثونَ، فنلْزِقْ أكْبادَنا بالكعبةِ، فنعاهِدْ ربَّ البيتِ لَنَجْهَدَنَّ على قِتالِ مُحَمَّدٍ، ففَعَلوا ذلك، فَلَمَّا فَرَغُوا قال أبو سُفيانَ لِكَعبٍ: إنَّك امرؤ تَقْرأُ الكتابَ وتَعْلَمُ، ونحنُ أُمِّيُّون لا نَعلمُ، فَأيُّنا أهْدى طَريقا وأقرَبُ إلى الحَقِّ: أنَحْنُ أمْ مُحمَّد؟ قال كعبٌ: اعرِضوا عليَّ دِينَكم، فَقالَ أبو سُفيانَ: نَخنُ ننحَرُ لِلْحَجيجِ الكَوْماءَ، ونَسْقِيهِمُ اللَّبَنَ، ونقري الضَّيفَ، ونَفُكُّ العانِيَ، ونَصِلُ الرَّحِمَ، ونَعْمُرُ بيتَ رَبِّنا، وَنَطوفُ بِهِ، وَنَحْن أهلُ الحَرَمِ، ومحمدٌ فارَقَ دِينَ آبائهِ، وَقَطَعَ الرَّحِمَ، ودينُنا القديمُ، ودينُ محمَّدٍ الحديثُ، فقال كَعب: أنْتُم واللهِ أهدى سَبيلا مِمَّا عَليْهِ مُحَمَّد، فَأنْزَلَ الله في ذلكَ الآيات. والجِبْتُ في الأصلِ: اسمُ صَنَمٍ، فاستُعْمِلَ في كُلِّ مَعبود غَير الله. والطَّاغوتُ: يُطْلَقُ على كُلِّ باطِلٍ مِنْ معبودٍ أو غَيْرِهِ. ومَعْنى الإِيمانِ بِهما: إمَّا التَّصْديقُ بأنهما آلهةٌ، وإشراكُهُما بِالعِبادةِ مَعَ الله تعالى، وإمَّا طاعَتُهُما وموافقَتُهُما على ما هُما عَلَيْهِ مِنَ الباطِلِ، وإمَّا القَدْرُ المُشْتَرَكُ بينَ المَعْنَيَيْنِ كالتَّعْظِيْمِ- مَثَلا. والمُتَبادرُ المَعْنَى الأوَّلُ، أيْ أنهم يُصَدِّقونَ بأُلوهِيَّةِ هذيْنِ الباطِلَيْنِ، وَيُشْركونَهما في العِبادةِ مَعَ الإِلهِ الحَقِّ، وَيَسْجُدونَ لَهُما. [لبس الحق بالباطل] لبس الحق بالباطل (الحادية والخمسون) : لبس الحَقِّ بِالباطِلِ، وَكِتمانُه، قَالَ تَعالى في سورةِ [آل عِمرانَ: 71] : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71] وفي المُرادِ أقوال: أحَدُها: أنَّ المُرادَ تحريفُهُم التّوَراةَ والإِنجيلَ. ثانِيها: أنَّ المُرادَ إظهارُهُم الإِسلامَ، وإبطانُهُم النِّفاقَ. ثالِثُها: أن المُرادَ الإِيمانُ بِموسى وَعِيسى، والكُفرُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَرابعُها: أنَّ المُرادَ ما يَعْلَمونَه في قُلوبِهِم مِن حَقيقةِ رِسالتِه صلى الله عليه وسلم، وما يُظْهرونَه مِن تكْذَيبِهِ. [الإقرار بالحق للتوصل إلى دفعه] الإقرار بالحق للتوصل إلى دفعه (الثانية والخمسون) : التَّعَصُّبُ لِلْمَذهَبِ، والإِقرارُ بالحَقِّ لِلتَّوَصُّلِ إلى دَفْعِهِ.

اتخاذ النبيين أربابا

قَال تَعَالى في سورةِ [آلِ عِمرانَ: 72-74] : {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ - وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ - يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 72 - 74] قالَ الحسنُ والسُّدِّيُّ: تَواطَأ اثنا عَشَرَ رَجُلا مِن أحبارِ يَهودِ خَيْبَرَ وقُرى عَرِينٍ، وقال بعضُهُم لِبَعْضٍ: ادْخلوا في دِينِ مُحَمَّدٍ أوَّل النَّهارِ بالِّلسانِ دونَ الاعتقادِ، واكفُروا آخِرَ النَّهارِ، وقولوا: إنا نَظَرْنا في كُتُبِنا، وشاوَرْنا عُلَماءَنا، فَوَجَدْنا مُحَمَّدا ليس بذاكَ، وظَهَرَ لنا كَذِبُهُ، وبُطلانُ دِينه، فإذا فَعَلْتُم ذلك شَكَّ أصحابُه في دِينهم، وقالوَا: إنَّهم أهلُ كِتابٍ، وهُم أعْلَمُ بِهِ، فَيْرجِعونَ عن دِينهم إلى دينكم. [اتخاذ النبيين أربابا] اتخاذ النبيين أربابا (الثالثة والخمسون) : تسْمِيتهم اتِّباعِ الإِسلامِ شِركًا. قَالَ تَعَالى [آل عمران: 79- 80] : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ - وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 79 - 80] أخْرَجَ ابنُ إسحاقَ بِسَنَدِهِ: حِينَ «اجْتَمَعَتِ الأحْبارُ مِنَ اليهودِ والنَّصارى من أهلِ نَجْرانَ عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَدَعاهُم إلى الإِسلامِ، [قالوا] : أتُريد يا محمدُ أنْ نَعْبُدَكَ كَما تَعْبُدُ النَّصارى عِيسى ابنَ مَرْيَمَ؟ فقالَ رَجُلٌ مِن أهلِ نَجْرانَ نَصْرانِيٌّ يُقالُ لَهُ الرَّئيسُ: أوَ ذاكَ تريدُ مِنَّا يا محَمَّدُ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَعاذَ الله أنْ نَعْبُدَ غَيْرَ الله، أوْ نَأمُرَ بِعِبادَةِ غيرِهِ، وما بِذَلِكَ بَعَثنَي، وَلا بِذَلِكَ أَمَرَني» ، فَأنْزَلَ الله تَعالى هذه الآية. [تحريف الكلم عن مواضعه] تحريف الكلم عن مواضعه (الرابعة والخمسون) : تحْريفُ الكَلِم عَنْ مواضِعِهِ، وَلَيُّ الألْسِنَةِ بالكِتابِ.

قَالَ تَعالى في سورةِ [آل عِمران: 78] : {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78] رُويَ أنَّ الآية نَزَلَتْ في اليهودِ والنصارى جَميعا، وَذلِكَ أنَّهم حَرَّفوا التَّوراةَ والإِنْجيلَ، وَألْحَقوا بِكِتابِ الله تَعالى ما لَيْسَ مِنْهُ. واخْتَلَفَ النَّاسُ في أنَّ المحرَّفَ هَلْ كان يُكْتَبُ في التَّوراةِ أمْ لا؟ فَذَهبَ جَمْع إلى أنه لَيْس في التَّوراةِ سِوى كلامِ الله تَعالى، وأنَّ تَحْريفَ اليهودِ لم يَكُنْ إلا تَغْييرا وَقْتَ القِراءَةِ، وتأويلا باطِلا للنُّصوصِ، وأمَّا أنَّهم يَكْتُبون ما يَرومونَ في التَّوراةِ على تَعدُّدِ نُسَخِها فَلا. واحْتَجُّوا لِذَلِكَ بمَا رُويَ أنَّ التَّوراةَ والإِنجيلَ كما أنْزَلَهما الله تَعالى لم يُغَيَّرْ منهما حَرْفٌ، وَلَكِنَّهُم يُضِلُّونَ بِالتَّحْريفِ والتّأويلِ وَكُتُبٍ كانوا يَكْتُبونَها مِن عِندِ أنْفُسِهِم، وَيقولونَ: إنَّ ذَلِكَ مِنْ عِندِ الله، وما هو مِنْ عِندِ الله، فأمَّا كُتُبُ الله تَعالى فإنَّها مَحْفوظَةٌ لا تحوَّل. وبأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَقولُ لِليهودِ إلزامًا لهم: «ائتوا بِالتَّوراةِ فَاتْلوها إنْ كنْتُمْ صادِقينَ» ، وهم يَمْتَنِعونَ عن ذَلِكَ، فَلَو كانَت مُغَيَّرَةً إلى ما يُوافِقُ مَرامَهُمْ ما امْتنعوا، بَلْ وَمَا كانَ يقولُ لَهُم ذَلِكَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لأنَّهُ يَعودُ على مَطلَبِهِ الشَّريفِ بالإِبطالِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إلى أنَّهُم بَدَّلوا، وَكَتموا ذَلِكَ في نَفْسِ كِتابِهم، واحْتَجُّوا على ذلك بكثيرٍ مِنَ الظَّواهِرِ (¬1) . ولا يَمْنَعُ مِن ذَلِكَ تَعَدُّدُ النُّسَخِ؛ لاحْتِمالِ التّوَاطُؤِ، أو فُعِلَ ذَلِكَ فِي البَعْضِ دُونَ البَعْضِ، وكَذَلِكَ لا يَمْنَعُ مِنْه قَولُ الرَّسولِ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لاحْتِمالِ عِلْمهِ بِبقاءِ بَعضِ ما يَفي بغرَضِهِ سالِما عَنِ التَّغْييرِ، إمَّا لِجَهلِهِم بوجْهِ دِلالَتِهِ، أو لِصَرْفِ الله تَعالى إياهُم عن تغْييرِهِ. وتَمامُ الكَلامِ في تفسيرِ الجَدِّ عندَ الكلام على هَذه الآية، وكذا في (الجَواب الصَّحيح) لشَيخِ الإِسلامِ. وكثيرٌ مِنَ الأمَّة المحمَّدِيّة سَلَكوا مَسْلَكَ الكِتابِيِّيينَ في التَّحريفِ، والتّأويلِ، واتِّباعِ شَهَواتِهِم. وقَالَ تَعالى في سورةِ [النِّساءِ: 46] : ¬

(¬1) ومنها أن السفر المنسوب إلى موسى نفسه مذكور فيه خبر وفاة موسى مكتوبا من بعده، فكيف يوحى إليه أو يصدر عنه ما كتب بعده؟ محب الدين الخطيب.

تلقيب أهل الهدى بألقاب غريبة

{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 46] والكلامُ عَلَى هَذه الآية- أيضا- مستوفى في التفسيرِ. [تلقيب أهل الهدى بألقاب غريبة] تلقيب أهل الهدى بألقاب غريبة (الخامسة والخمسون) : تَلْقيبُ أهلِ الهدى بالصَّابئةِ والحَشويَّةِ. فَقَدْ كانَ أهلُ الجاهلية يُلَقِّبونَ مَن خَرَجَ عن دينهِم بالصَّابىء، كما كانوا يُسَمُّون رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، كما وَرَدَ فِي عِدَّةِ أحاديثَ مِن صحيح البخاري ومسلم وغيرهما تنفيرا للناسِ عنِ اتِّباعِ غيرِ سبيلِهِم وهَكذا تَجِدُ كَثيرا مِن هذِهِ الأمَّةِ يُطْلِقونَ على مَن خالَفَهُمْ فِي بِدَعِهِم وَأهْوائِهِم أسْماءً مكروهةً للناسِ. والصابئةُ أمة قديمةٌ على مذاهِبَ مختلفَةٍ، قَدْ تكَلَّمَ عَلَيْهَا أهلُ المَقالاتِ بِما لا مَزيدَ عَلَيْهِ. وَأمَّا الحَشويَّةُ، فَهُمْ قَومٌ كانوا يَقولونَ بِجَوازِ وُرودِ ما لا مَعْنى لَهُ فِي الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ كالحُروفِ فِي أوائِلِ السُّوَرِ، وَكذا قَالَ بَعْضُهُمْ، وهُمُ الذينَ قالَ فيهمُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ لَمَّا وَجَدَ قَوْلَهُمْ ساقِطا، وَكانوا يَجْلِسونَ في حَلْقَتِهِ أمامَهُ: "رُدُّوا هَؤلاءِ إلى حَشا الحَلْقَةِ"، أيْ: جانِبَها. وخُصومُ السَلَفيِّينَ يَرْمونَهُمْ بِهَذَا الاسْمِ؛ تنفيرا للنَّاس عَن اتِّباعِهِمْ والأخْذِ بِأقوالِهمْ، حَيْثُ يَقولونَ في المُتَشابِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وَقَدْ أخْطَأت أسْتُهُمُ الحُفْرَةَ، فَالسَّلَفُ لا يَقولونَ بِوُرودِ ما لا مَعْنى لَهُ لا في الكِتابِ ولا في السُّنَّةِ، بَلْ يَقولونَ في الاسْتِواءِ مَثَلا: "الاسْتِواءُ غَيْرُ مَجْهولٍ، والكَيْفُ غَيْرُ مَعْقولٍ، والإِقْرارُ بِهِ إيْمانٌ، والجُحودُ بِهِ كُفْرٌ. وَقَدْ أطالَ الكَلامَ في هذه المَسْألَة شَيْخُ الإِسلامِ ابنُ تَيْميَّةَ فِي كَثيرٍ مِنْ كُتُبهِ، وَلَخَّصَ ذَلِكَ فِي كِتابِهِ (جَوابُ أهْلِ الإِيمانِ) في التفاضُلِ بَيْنَ آياتِ القُرْآنِ (¬1) . ¬

(¬1) وقد أعاد طبعه ناشر هذا الكتاب في المطبعة السلفية بعناية وتدقيق.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَذْهَبِ السَّلفِ وَمَذْهَبِ الحَشوِيَّة، بأنَّ مَذْهَبَ الحَشْوِيَّةِ وُرودُ ما يَتَعَذَّرُ التّوصُّلُ إلى مَعْناهُ المُرادُ مُطْلَقًا، فالاسْتِواءُ- مَثلا- عِنْدَهُمْ لَهُ مَعْنًى يَتَوصَّلُ إِلَيْهِ بِمُجَرَّدِ سَماعِهِ كُلُّ مَنْ يَعْرفُ المَوْضوعاتِ اللُّغَويَّةَ، إلا أنَّهُ غَيْرُ مُرادٍ؛ لأنه خِلافُ ما يَقْتَضيهِ دَليلُ العَقْلِ والنَّقْلِ، ومَعْنًى آخَرُ يَليقُ بهِ- تَعالى- لا يَعْلَمه إلا هو عز وجل. وكَيْفَ يَكونُ مَذْهَبُ السَّلَفِ هو مَذْهَب الحَشْوِيَّة، وَقَدْ رَأى الحَسَنُ البَصريّ الَّذي هو مِنْ أكابِرِ السَّلَفِ سُقوطَ قَوْلِ الحَشْوِيَّة، وَلَمْ يَرْضَ أنْ يَقْعُدَ قائلُهُ تُجاهَهُ؟! والمَقْصودُ أنَّ أهْلَ الباطِلِ مِنْ المُبْتَدِعَة رَموا أهْلَ السنُّةِ والحَديثِ بمِثل هَذا اللَّقَبِ الخَبيثِ. قال أبو مُحَمَّدٍ عبدُ اللهِ بنُ قُتَيْبَةَ في "تأويلِ مُخْتَلِفِ الأحاديثِ ": "إنَّ أصْحابَ البدَعِ سَمَّوا أهْلَ الحَديثِ بِالحَشوِيّة، والنَّابِتة، والمُتَجبَرٍّةِ، والجبرية، وسَمَّوهُم الغثاءَ، وهذه كُلُّها أنباز لم يأتِ بِها خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم كما أتى في القَدَرِيَّة أنّهُمْ «مَجوسُ هَذِهِ الأمَّةِ، فإِنْ مَرِضوا فَلا تَعودوهُمْ، وإنْ ماتوا فَلا تَشْهَدوا جَنائزَهُمْ» . وفي الرَّافِضَةِ: «يَكونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمانِ يُسَمَّوْنَ الرَّافِضة، يَرْفُضونَ الإِسلامَ وَيَلْفُظونَهُ، فاقتلوهم، فإنهم مشركون» وفي المرجئة: «صِنْفانِ مِنْ أُمَّتي لا تَنالُهُم شَفاعتي، لُعِنوا على لِسانِ سَبْعينَ نَبِيًّا: المُرْجِئَةُ والقَدَرِيّة» . وفي الخوارج: «يَمْرُقونَ مِنَ الإِسلامِ كَما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيّةِ» ، و «كِلابُ أهْلِ النّارِ» . هذه أسماء مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتِلْكَ أسْماءٌ مَصنوعَةٌ انتهى. وفي "الغُنْيَةِ" (¬1) أنَّ الباطِنِيَّةَ تُسَمِّي أهلَ الحديثِ "حَشْوِية" لِقولهم بالأخبارِ وتَعَلُّقهم بِالآثار. وفِي كِتابِ "حُجَّة الله البالِغة" (¬2) "واسْتطالَ هؤلاءِ الخائِضونَ عَلى مَعْشَرِ أهْلِ الحديثِ، وسَمَّوْهُمْ مُجَسِّمَةً، ومُشَبِّهَةً، وقالوا: هُمُ المُتَسَتِّرونَ بِالبَلْكَفَة (¬3) وَقَدْ وَضَحَ لَدَيَّ وُضوحًا بَيِّنًا أنَّ اسْتِطالَتَهُمْ هَذِهِ ليستْ بِشَيْءٍ، وأنَّهم مُخْطِئونَ في مَقالتِهِم رِواية وَدِرايةً، وخاطِئونَ في طَعْنِهِمْ أئمَّةَ الهُدى انتهى. وَقَدْ قَالَ العَلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ في "كافِيَتِهِ الشَّافِيَةِ": "فَصْل في تَلْقيبِهِمِ أهلَ السُّنَّةِ بِالحَشْوِيّة، وبيان مَنْ أوْلى بِالوصفِ المَذمومِ ¬

(¬1) للشيخ عبد القادر الجيلاني. (¬2) لشاه ولي الله الدهلوي. (¬3) من كلمة "بلا كيف".

في هذا اللَّقَبِ مِنَ الطَّائفتَيْنِ، وَذِكْرِ أوَّلِ مَنْ لقب بِهِ أهْلَ السُّنَّةِ مِنْ أهْلِ البِدَعِ: وَمِنَ العَجائِبِ قَوْلهُمْ لِمَنِ اقْتَدى ... بالوَحْي منْ أثَرٍ وَمِنْ قُرْآنِ حَشْوِيَّة يَعْنونَ حَشْوا في الوُجو ... د وفَضْلَةً في أمَّةِ الإِنْسانِ وَيَظُنُّ جاهِلُهمْ بِأنَّهُمُ حَشوا ... رَبّ العِبادِ بداخلِ الأكْوان إذْ قَوْلُهُمْ فَوْقَ العِبادِ وَفي السَّما ... ء الرَّبُّ ذُو المَلَكوتِ والسُّلْطانِ ظَنَّ الحَمِيْرُ بأنَّ "فِي" لِلظَّرفِ وال ... رحمنُ مَحْوِيّ بِظَرْفِ مَكانِ وَاللهِ لمْ يُسْمَعْ بذَا من فرْقَةٍ ... قَالَتْهُ في زَمَنٍ مِنَ الأزْمانِ لا تَبْهَتوا أهْلَ الحديثِ بِهِ فَما ... ذَا قَوْلهم تَبًّا لِذي البُهْتانِ بَلْ قَوْلُهُم: إِنَّ السَّماواتِ العُلا ... في كَفِّ خالقِ هَذِهِ الأكْوانِ حَقّا كَخَرْدَلَةٍ تُرى في كَفِّ ... ممسِكِها تَعالى الله ذُو السُّلْطانِ أَتُرَوْنَهُ المَحْصورَ بَعْدُ أم السّما؟ ... يا قَوْمَنا ارْتَدِعوا عَنِ العُدْوانِ كَمْ ذَا مُشَبِّهَة وَذا حَشْوِيَّة ... صرف بلا جحد ولا كتمان تدْرونَ مَنْ سَمَّتْ شُيوخكمُ ... بِهذا الاسم في الماضي مِنَ الأزْمانِ سمى بِهِ عمرو لعَبد اللهِ (¬1) ذا ... ك ابن الخَليفةِ طارِدِ الشيطانِ فوَرِثتم عَمروا كما وَرِثوا لِعَبد الله ... أنَّى يسْتوي الإرثانِ تَدْرونَ مَنْ أَولى بِهَذَا الاسمِ ... وَهو مُناسِبٌ أحواله بِوِزانِ مَنْ قَدْ حَشا الأوراقَ والأذْهانَ مِنْ ... بِدَعٍ تُخالِفُ مقتضى القرآن هَذَا هو الحشوِيُّ لا أهلُ الحَديثِ ... أئمَّةُ الإِسْلامِ والإِيْمانِ ورَدوا عذَاب مَناهل السّنَنِ التي ... لَيْسَتْ زبالَةُ هَذِهِ الأذهانِ ووَرَدتُمُ القَلُّوطَ (¬2) مَجْرى كُلِّ ذِي ال ... أوساخ والأقذارِ والأنْتانِ وَكسلْتم أنْ تَصْعدوا لِلورْدِ من ... أثر الشرائع خَيْبةَ الكَسلانِ ¬

(¬1) عمرو هو ابن عبيد رأس المعتزلة، وعبد الله هو ابن أمير المؤمنين عمر. انظر (المنتقى من منهاج الاعتدال) طبع السلفية ص 63. (¬2) القلوط وتسمية العامة قليط: مجرى ماء في دمشق؛ تنحدر إليه مياه المطابخ والحمامات والمراحيض.

التكذيب بالحق

وحاصِلُ هَذِهِ الأبياتِ أنَّ أعْداءَ الحَقِّ وخُصومَ السُّنَّةِ وأضْدادَ الكِتابِ والسنَّةِ يُلقِّبونَ سَلَفَ الأمَّةِ المُتَمَسِّكينَ بِالكِتابِ والسُّنَّةِ بلَقَبِ "الحَشْوِيَّةِ" فالخَواصُّ مِنْهُم يَقْصِدونَ بهَذَا الاسْمِ أن المَسَمَّى بِهِ حَشْوٌ في الوُجودِ وفَضلَةٌ في النَّاسِ، لا يُعْبأ بِهمْ، ولا يُقامُ لَهُمْ وَزْنٌ؛ إذ لَمْ يَتَّبِعوا آراءَهُمُ الكاسِدَةَ، وأفكارَهُمُ الفاسِدَةَ. وأمَّا العَوامُّ مِنْهمْ فَيَظُنّونَ أنَّ تَسْمِيَةَ السَّلفِ بِالحَشْوِيّة لِقَوْلهمْ بِالفَوْقِيةِ، وَكَوْن الإِلهِ في السَّماءِ، بِمَعْنى أنَهُمُ اعْتَقَدوا- وحاشاهُم- أن الله تَعالى حَشْوُ هَذَا الوُجودِ، وأنه داخِلَ الكوْنِ تَعالى الله عَمَّا يَقولُ الظَّالِمونَ عُلُوّا كَبِيرا. وهذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ عَلى أهْلِ الحَدِيْثِ. عَلى أنَّ هذا القولَ لَم يَقُلْ بِهِ أَحَد. وأعداءُ الحَقِّ في عَصْرِنا هَذَا عَلَى هذا المَسْلَكِ الجاهِلِيِّ، فَتَراهُمْ يَرْمونَ كُلَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِالكِتابِ والسنةِ بِكُلِّ لَقَبٍ مَذْمومٍ بَيْنَ المُسْلِمينِ، واللهُ المُسْتَعانُ عَلَى ما تَصِفونَ. [التكذيب بالحق] التكذيب بالحق (السادسة والخمسون) : افْتِراء الكَذِبِ عَلى الله، والتَّكذيبُ بِالحَقِّ. وَشواهِدُ هَذه المَسألة مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ كثيرٌ، وهذا دَأَبُ المُخالِفينَ لِلدِّين المُبينِ، كاليهودِ والنَّصارى، يَدَّعونَ أنَّ ما هُمْ عَلَيْهِ هو الحَقُّ، وأنَّ الله أَمَرَهُم بِالتَّمَسُّكِ بهِ، وأَنَّ الدِّينَ المُبينَ ليس بِحَقٍّ، وأنَّ الله تَعالى أمَرَهُم بِتكْذيبِهِ، كُلُّ ذَلِكَ لاتِّبَاعِ أَسْلافِهِم، لا يَنْظُرونَ إلى الدَّليلِ، وهكذا أهلُ البدَع والضَّلالاتِ يَعْتَقدونَ بدَعَهُم الحَقَّ، وأنَّ الله أمَرَهُم بِها، وأنَّ ما عَلَيْه أهلُ الحَقّ مُفْتَرىً، لا يُصَدِّقونَ بِهِ. وكُلٌّ يَدَّعي وَصلا للَيْلى ... وَلَيْلى لا تُقِرُّ لَهُمْ بِذاكا [الافتراء على المؤمنين] الافتراء على المؤمنين (السابعة والخمسون) : رمْيُ المُؤمِنينَ بِطَلَبِ العلوِّ في الأرض. قَالَ تَعالى في سورةِ [يُوْنُسَ: 78] : {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس: 78] هذا الكلامُ مَسوقٌ لبَيانِ أنَّ موسى عليه السلام أَلْقَمَهُمُ الحَجَرَ، فانْقَطَعوا عن الإِتيانِ بِكلامٍ لَهُ تَعَلُّقٌ بكلامِهِ عليه السلام فَضلا عَن الجَوابِ الصَّحيح، واضْطُرُّوا إلى التَّشَبُّثِ بِذَيْلِ التقليدِ الذي هو دَأَبُ كُلِّ عاجِزٍ محْجوج، وَدَيْدَنُ كلِّ معالج لَجوجٍ. على أنَّه اسْتِئْناف وَقَعَ جَوابا عَمَّا قَبْلَه مِن كلامه عليه السلام على طَريقَةِ: قال موسى، كأنه قِيلَ: فَماذا قالوا لِموسى عليه

رمي المؤمنين بالفساد في الأرض

السلام حِينَ قَالَ لَهُم ما قال؟ فقِيلَ: قالوا عاجِزِينَ عن المُحاجَّةِ: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس: 78] أيْ: المُلكُ. كَما رُويَ عَنْ مجاهِدٍ، وَعَنِ الزَّجَّاجِ أنَّه سُمِّيَ المُلْكُ كِبْرِياءَ، لأنَّه أكبرُ ما يُطلَبُ مِن أمرِ الدّنيا. فَكُلُّ مَن دعا إلى الحَقِّ رَماه مَن كان على المَسْلَكِ الجاهلِيِّ أنَّ قَصْدَه مِنَ الدَّعْوةِ طَلَبُ الرِّئاسَةِ والجاهِ، مِن غَيرِ أنْ يَنْظُروا إلى ما دَعا إليه، ومَا قَامَ عَلَيْهِ مِنَ البَراهِينِ. [رمي المؤمنين بالفساد في الأرض] رمي المؤمنين بالفساد في الأرض (الثامنة والخمسون) : رمْيُ المؤمِنينَ بالفسادِ في الأرضِ. شاهِدُ هَذِهِ المَسْأَلة آياتٌ كَثيْرة، حاصِلُها أنَّ المخالِفينَ لَهُمْ مِنَ المؤمِنين مُفْسِدونَ فِي الأرضِ. انظُرْ إلى قَولهِم في أَوائِلِ سورةِ "البَقَرَةِ" الآية: 11، كَيْفَ ادَّعوا أنَّهُم هُم مُصْلِحونَ، وقد رَدَّ الله عليهم بقوله: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] البقرة: 12. وَهَكَذا من هو على شاكِلَةِ أولَئكَ، مِنَ الذينَ اسْتَحَلُّوا غَيَّهُمْ وتَمَكَّنَتْ بِدَعُهُمْ مِنْ قُلوبِهِمْ: ومَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ ... يَجِدْ مُرًّا بِهِ الماءَ الزُّلالا نسأله تعالى أَنْ يُثبتَ قُلوبنَا عَلى دينهِ القَويمِ، وأقدامَنا على الصِّراطِ المُستقيم. [رمي المؤمنين بتبديل الدين] رمي المؤمنين بتبديل الدين (التاسعة والخمسون) : رمي المؤمِنينَ بِتَبْديلِ الدِّين. قال تعالى في سورة [غافر: 26] : {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26] اعتقدوا أنَّ ما هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلالِ هو الدِّينُ الحقُّ، وَمَنْ أراد تَحْويلَهُمْ عَنِ اعْتِقادِهِمُ الكاسِدِ، وصَرْفَهُمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الغَيِّ، [فَقَدْ أرادَ] إخراجهُم من الدِّينِ، وإفسادًا في الأرْضِ. وَهَكذَا دَيْدَنُ أَعْدَاءِ الحَقِّ في كُلِّ عَصْرٍ". [اتهام أهل الحق بالفساد في الأرض] اتهام أهل الحق بالفساد في الأرض (الستون) : كَونهُمْ إذا غُلِبوا بِالحجَّةِ، فَزِعوا إلى السَّيفِ والشَّكْوى إلى المُلوكِ، وَدَعْوى احْتِقارِ السّلْطانِ، وَتَحْويلِ الرَّعِيَّةِ عَنْ دِيْنِهِ. قال تَعالى في سورةِ [الأعراف: 127] : {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [الأعراف: 127] فانظُرْ إلى شَكْوى

تناقض مذهبهم لما تركوا الحق

آلِ فِرْعونَ وَقَومِهِ إِلَيْهِ، وَتَحْريشِهمْ إيَّاهُ عَلَى مُقاتَلَةِ موسى عليه السلام وَتَهْييجِه، وَمَا ذُكِرَ في آخِرِ الآية مِن احْتِقارِ ما كانوا عَلَيْهِ. [تناقضُ مَذهَبهِمْ لَمَّا تَرَكوا الحق] تناقضُ مَذهَبهِمْ لَمَّا تَرَكوا الحق (الحادية والستون) : تناقضُ مَذهَبهِمْ لَمَّا تَرَكوا الحق. قال تعالى في سورةِ [ق: 4-5] : {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ - بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 4 - 5] فَقولُهُ: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} [ق: 5] إلخ، إضراب أُتْبعَ الإِضرابَ الأوَّل للدِّلالة عَلى أنَّهم جاءوا بِما هو أفْظَع من تَعَجُّبِهِمْ، وهو التكذيبُ بالحَقِّ، الذي هو النُّبُوَّةُ الثاَّبتة بالمُعْجِزاتِ، في أوَّل وَهْلَةٍ، مِن غير تَفَكُّرٍ ولا تَدَبُّرٍ، {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5] مُضْطَرِب، وَذَلِكَ بسببِ نَفْيِهِمُ النُّبُوَّةَ عنِ البَشَرِ بالكُليَّة تارةً، وَزَعمِهِمْ أنَّ اللاَّئقَ بِها أهلُ الجاه والمالِ كما ينبئ عَنْهُ قَولُهُم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] تارةً أُخرى، وَزَعْمهِمْ أنَّ النُّبُوَّةَ سِحْرٌ مرَّةً أُخرى، وأنَّها كهانَةٌ أخرى، حيثُ قالوا في النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً: ساحر، ومَرَّةً: كاهِنٌ، أوْ هو اخْتِلافُ حالِهم ما بَيْنَ تَعَجُّبٍ مِنَ البَعْثِ واستبعاد لَهُ، وتكذيبٍ وَتَرَدُّدٍ فيه، أو قولُهم في القرآن: هو شِعْر تارةً، وَهُو سِحْرٌ أخرى. وقال تَعالى في سورةِ [الذَّارياتِ: 7-11] : {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ - إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ - يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ - قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ - الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات: 7 - 11] الْحُبُكِ: جمع حَبيكَة، كَطَريقَةٍ، أوْ حِباك، كَمِثال وَمثل، والمرادُ بها إمَّا الطُرُقُ المحسوسةُ التي تَسيرُ فيها الكَواكبُ، أو المعقولةُ التي تُدْرَكُ بالبَصيرةِ، وهي ما يدلُّ على وَحْدَةِ الصَّانعِ وقُدْرتهِ وعِلْمِهِ وحِكمتِه إذا تأمَّلَها النَّاظرُ. وقوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات: 8] أي: مُتَخالِفٍ، مُتَناقِضٍ في أمرِ الله عز وجل، حيث تقولون: إِنَّه جلَّ شأنُهُ خَلَقَ السَّماواتِ والأرضَ، وَتَقولونَ بصحَّةِ عبادةِ الأصنامِ مَعَهُ سُبحانَه، وفي أمْرِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم فَتَقولونَ تارةً: إنَّه مَجْنونٌ، وأُخْرى: إنه ساحر، ولا يَكونُ الساحِرُ إلا عاقلا، وفي أمْرِ الحَشْرِ، فَتَقولونَ تارةً: لا حشر ولا حياة بَعْد المَوتِ أصلا، وتَزْعمونَ أُخرى أنَّ أصنامَكم

شُفعاؤُكم عِندَ الله تَعالى يومَ القيامِة، إلى غير ذلك من الأقوالِ المتخالفةِ فيما كُلفوا بالإيمانِ به. وقولُهُ: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 9] أيْ: يُصْرَفُ عَنِ الإِيمانِ بِما كلِّفوا الإِيمانَ به. {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات: 10] أيْ: الكذَّابونَ مِنْ أصحابِ القولِ المُخْتَلِفِ. {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات: 11] الغَمرةُ: الجَهلُ العظيمُ يَغْمرُهُم وَيَشْمَلهُم شمولَ الماءِ الغامرِ لِما فِيْهِ، والسَّهو: الغَفْلَةُ. وقال تَعالى في أواخر سورةِ [الأنعام: 159] : {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159] هذه الآية استئنافٌ لبيانِ أحوالِ أهلِ الكتابَيْنِ إثْرَ بيانِ حال المشركين، بناءً على ما رُويَ عن ابنِ عبَّاسٍ وقتادةَ: أنَّ الآية نَزَلَت في اليهودِ والنَّصارى. أيْ: بَدَّدوا دِينَهم، وبعَّضوه، فتمسَّكَ بِكُلِّ بعضٍ منه فرقةٌ منهم. {وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159] أيْ: فِرَقا تُشايعُ كُلُّ فِرْقَة إماما، وَتَتْبَعُهُ، أيْ: تُقَوِّيهِ، وَتُظْهرُ أمْرَهُ. أخرجَ أبو داودَ والتِّرْمِذِيُّ عن أبي هُرَيْرَةَ قال، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «افْتَرَقَتِ اليهودُ على إحْدى وسَبْعينَ فِرْقَةً، كُلّهم في الهاوِيَةِ إلا واحدةً، وافْتَرَقَتِ النصَّارى على ثِنتيْنِ وسَبْعينَ فِرْقَةً، كُلُّهُم في الهاويةِ إلا واحدةً، وَسَتَفْتَرِقُ أمَّتي على ثَلاثٍ وَسَبْعينَ فِرْقةً، كُلُّهُم في الهاوِيَةِ إلا واحدةً» . واستثناءُ الواحدةِ مِن فِرَقِ كُلٍّ مِن أهلِ الكِتابَيْنِ إِنَّما هو بالنَّظَرِ إلى العَصْرِ الماضي قَبْلَ النَّسْخِ، وأمَّا بَعْدَهُ؛ فالكُل في الهاوِيَة، وإِن اختَلَفَتْ أسبابُ دُخولهم. {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] أيْ: مِنَ السُّؤالِ عَنهم، والبَحثِ عَن تفَرُّقِهِمْ، أو من عِقابِهمْ، أَو أَنتَ بَريء مِنْهم. {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 159] تَعْليلٌ للنَّفي المذكورِ، أيْ: هو يَتَولَّى وَحْدَهُ أمرَهم: أُولاهُمْ وأُخْراهُمْ، وَيُدَبِّرُهُ حَسْبَما تَقْتَضَيهِ الحِكْمَةُ. ومِنَ النَّاسِ مَنْ قَال: المُفَرِّقونَ: أهْلُ البِدَعِ مِنْ هذه الأمَّة: فقد أخرج الحَكيمُ الترمِذِيُّ وابنُ جَريرٍ والطَّبَرانيُّ وغيرُهم عن أبي هُرَيرةَ عَن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سُبْحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا} [الأنعام: 159] إلخ: «هُمْ أهْلُ البِدَعِ والأهْواءِ مِن هذِهِ الأمَّة» فَيكونُ الكلامُ- حِيْنَئِذٍ - استِئْنافا لِبَيان حال المُبْتَدِعينَ، إثْرَ بَيانِ حالِ المُشْرِكينَ، إشارةً إلى أنّهم ليسوا مِنْهم بِبَعيدٍ. والمقصودُ أنَّ أهلَ الجاهلية سواء كانوا أُمِّيِّينَ أوْ كِتابِيِّينَ قد فَرَّقوا دينَهم، وتَغايَروا في الاعتقادِ، فكانَ عُبَّادُ الأصنامِ كُلُّ قَومٍ لَهُم صَنَمٌ يَدينونَ لَهُ، وَلَهُمْ

دعواهم العمل بالحق الذي عندهم

شرائعُ مُختَلِفَةٌ في عِبادتِها، وَمِنهم مَنْ كان يَعْبُدُ كَوْكَبا، ومِنهم مَنْ كانَ يَعْبُدُ الشمسَ، ومنهم، ومِنهم، وكذَلِكَ الكِتابِيُّونَ على ما بَينا. فالافْتِراقُ ناشئ عن الجَهْلِ، وإلا فالشَّريعةُ الحَقَّةُ في كُلِّ زمان لا تَعَدُّدَ فيها ولا اختِلافَ، ولذلك تَرى القُرآنَ يُوَحِّدُ الحَقَّ وَيُعَدِّدُ الباطِلَ: قال تَعَالى [البقرة: 257] : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] فانظُرْ كَيفَ أفْرَدَ النُّورَ الَّذي هو الحَقُّ، وَجَمَعَ الظلُماتِ التي هِيَ الباطِلُ والزَّيغُ، فَتَفْرِقَةُ الآراءِ، والاخْتِلافُ في الاعتقادِ مِنْ خِصال الجاهِلِيَّةِ وما كان عَلَيهِ أهلُ الباطِلِ، والاتفاقُ على العَقيدةِ الحَقَّةِ هو مِنْ دَأبِ أتْباعِ الرُّسُلِ والمتُمَسِّكينَ بِما شَرَعَهُ الله تَعالى. [دعْوَاهُم العَمَلَ بِالْحَقِّ الَّذي عِنْدهمْ] دعْوَاهُم العَمَلَ بِالْحَقِّ الَّذي عِنْدهمْ (الثانية والستون) : دعْوَاهُم العَمَلَ بِالْحَقِّ الَّذي عِنْدهمْ. كَما قَالَ تَعَالى في سورةِ [البَقَرَةِ: 91] : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91] أي: نستمر على الإيمان بالتوراة وما في حكمها مما أنزل لتقرير حكمها، ومُرادُهُم بِضَميرِ المُتكَلّمِ إمَّا أنَبياءُ بني إسرائيلَ- وهو الظَّاهر، وفيه إيماء إلى أنَّ عَدَمَ إيمانِهم بالقرآنِ كان بَغْيا وَحَسَدا على نُزولِهِ على مَنْ ليس منهم- وإمَّا أنْفُسُهُمْ، ومعنى الإِنزال عليهم: تكليفُهُم بِما في المُنَزَّلِ مِنَ الأحكامِ، وَذُمُّوا على هذِهِ المَقالةِ لِما فيها مِنَ الشرعي بشأنِ القرآنِ، ودسائسُ اليهودِ مشهورةٌ، وتمامُ الكَلامِ في التفسيرِ. [الزِّيادةُ في العِبادةِ] الزِّيادةُ في العِبادةِ (الثالثة والستون) : الزِّيادةُ في العِبادةِ، كَفِعْلِهِمْ يَوْمَ عاشوراء. [النقص من العبادة] النقص من العبادة (الرابعة والستون) : النَّقْص مِنْها، كَتَرْكِهِمْ الوُقوفَ. قال تعالى [البقرة: 199] ،

تعبدهم بترك الطيبات من الرزق

{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] أيْ: مِن عَرَفَةَ، لا مِنْ مُزْدَلِفَةَ. والخطابُ عامٌّ، والمقصودُ إبطال ما كان عليه الحُمْسُ مِنَ الوُقوفِ بِجَمعٍ. فَقَدْ أخرجَ البُخاريُّ ومُسْلِمٌ عَن عائشةَ رضي الله عنها قالت: «كانتْ قُرَيشٌ ومَنْ دانَ دِيْنَها يَقِفونَ بِالمُزْدَلِفَةِ، وكانوا يُسَمَّونَ الحُمْسَ، وكانت سائرُ العَرَبِ يَقِفونَ بِعَرَفات، فَلَمَّا جاءَ الإِسلامُ، أمرَ الله نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أنْ يأتيَ عرفات، ثُمَّ يَقفَ بها، ثُمَّ يُفيضَ مِنها، فَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحانه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] » وَمَعْناها: ثُمَّ أفِيضوا أيُّها الحُجَّاجُ مِنْ مَكانٍ أفاضَ جِنْسُ النَّاسِ مِنْهُ قَديما وَحَديثا، وَهو عَرَفَةُ، لا مِنْ مُزْدَلِفَةَ. [تعبدهم بترك الطيبات من الرزق] تعبدهم بترك الطيبات من الرزق (الخامسة والستون) : تعَبُّدُهُمْ بِتَركِ أكْلِ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَتَرْكِ زِيْنَةِ الله التي أخْرَجَ لِعِبادِهِ. قال تعالى في سورةِ [الأعْرافِ: 31-32] : {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ - قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31 - 32] وسببُ النُّزول- على ما رُوِيَ عن ابنِ عبَّاس - أنه كانَ أُناسٌ مِنَ الأعْرابِ يَطوفونَ بِالبيتِ عُراةً، حَتىَّ إنْ كانتِ المرأةُ لَتَطوفُ بالبيتِ وهي عُريانةٌ، فَتُعَلِّقُ على سفْلِها سُيُورا مِثل هذه السُّيورِ التي تكونُ على وَجْهِ الحُمْرِ من الذُّبابِ، وهي تقول: اليومَ يَبدو بعضُه أوْكُله ... وما بَدا مِنه فَلا أُحِله فأنزل الله تَعالى هذه الآية: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 31] إلخ. {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف: 31] مِمَّا طابَ لَكُمْ، قال الكَلْبِيُّ: "كانَ أهلُ الجاهِلِيَّة لا يأكلونَ مِنَ الطَّعامِ إلا قُوتا، وَلا يَأكُلونَ دَسَمًا في أيَّامِ حَجِّهِمْ، يُعَظِّمونَ بِذَلِكَ حَجَّهُمْ، فقال المُسْلِمونَ: يا رَسُول الله! نَحْنُ أَحقُّ بِذَلِكَ، فأنزلَ الله تَعالى الآية". ومِنْهُ يَظْهَرُ وَجْهُ ذِكْرِ الأكْلِ والشُّرْبِ هُنا {وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] بِتَحْريمِ الحَلال، كَما هو المُناسِبُ لِسَبَب النُّزولِ أَوْ بالتَّعَدِّي إلى الحَرامِ. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] مِنَ الثيِّابِ وكُلِّ ما يُتَجَمَّلُ بِهِ

تعبدهم بالمكاء والتصدية

{وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] أيْ: مِنَ المُسْتَلَذَّاتِ، وقيلَ: المُحَلَّلاتُ مِنَ المآكِل والمشارِبِ، كَلَحْمِ الشَّاةِ وَشحْمها وَلَبنها. {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف: 32] أيْ: هِيَ لَهُمْ بِالأصالَة لِمَزيدِ كَرامَتِهِم على الله تَعالى، وَالكَفَرَةُ- إنْ شارَكوهُمْ فيها- فَبِالتبعِ، {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] لا يُشارِكُهُمْ فِيْها غَيْرهُمْ. [تعبدهم بالمكاء والتصدية] تعبدهم بالمكاء والتصدية (السادسة والستون) : تعَبُّدهمْ بِالمُكاءِ وَالتَّصْدِيَةِ. قال تعالى في سورةِ "الأنفالِ" [35] : {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال: 35] تفسيرُ هذه الآية: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ} [الأنفال: 35] أيْ: المسجِدِ الحرامِ، الذي صَدُّوا المسلمينَ عنهُ، والتَّعبيرُ عنه بِالبيتِ للاختصارِ مَعَ الإِشارةِ إلى أنَّه بيتُ الله، فينبغي أنْ يُعَظَّمَ بِالعِبادةِ، وَهُمْ لمْ يَفْعَلوا. {إِلَّا مُكَاءً} [الأنفال: 35] أيْ: صَفِيرا. {وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] أيْ: تَصفيقا، وهو ضربُ اليدِ باليدِ بِحَيثُ يُسْمَعُ له صوتٌ. والمرادُ بالصَّلاةِ: إمَّا الدُّعاءُ، أو أفعال أُخَرُ كانوا يفعلونها، ويُسمونها صلاةً، وحُمِلَ المُكاءُ والتَّصديةُ عليها بتأويلِ ذلك بأنَّها لا فائدةَ فيها، ولا معنى لها، كَصَفيرِ الطُيورِ، وتصفيقِ اللعِبِ. وقد يُقالُ: المُرادُ أنَّهم وَضَعوا المُكاءَ والتّصَديةَ موضعَ الصَّلاةِ التي يَليقُ أنْ تَقَعَ عند البيتِ. يُروى أنَّهم كانوا إذا أرادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُصَلِّيَ، يَخْلِطونَ عليه بالصفيرِ والتَّصفيق. ويروى أنهم يصلون أيْضا. وَيرون أنَّهم كانوا يَطوفونَ عُراةً: الرِّجالُ والنِّساءُ مُشبكينَ بين أصابِعِهم، يُصَفرونَ فيها، وَيُصَفِّقونَ. وباقي الآية معلوم. والمقصودُ أنَّ مِثل هذه الأفعالِ لا تكونُ عِبادةً، بَلْ مِن شعائرِ الجاهِلِيَّة. فما يَفعَلُه اليومَ بعضُ جهلة المسلِمينَ في المساجدِ مِن المُكاءِ والتَّصدية يَزعُمونَ أنَّهم يَذكُرون الله، فهو مِن قَبيلِ فِعلِ الجاهِلِيةِ، وما أحْسَنَ ما يقولُ القائلُ فِيْهِم: أقالَ الله صفِّقْ لي وَغَنِّ ... وَقلْ كُفْرًا وسَمِّ الكُفْرَ ذِكْرًا؟ وَقَدْ جَعَلَ الشَّارعُ صوتَ المَلاهي صوتَ الشَّيطانِ، قال تعالى [الإسراء: 64] :

النفاق في العقيدة

{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 64] [النفاق في العقيدة] النفاق في العقيدة (السابعة والستون) : دعْواهُمُ الإِيمان عند المؤمنين، فَإذا خَرَجوا خرجوا بِالكُفْرِ الذي دَخَلوا به. [دعاؤهم الناس إلى الضلال بغير علم] دعاؤهم الناس إلى الضلال بغير علم (الثامنة والستون) : دعاؤهُمُ النَّاسَ إلى الضَّلالِ بِغَيرِ عِلمٍ. [دعاؤهم إلى الكفر مع العلم] دعاؤهم إلى الكفر مع العلم (التاسعة والستون) : دعاؤهم النَّاسَ إلى الكفْرِ مَعَ العِلْمِ. [المكر الكبار] المكر الكبار (السبعون) : المَكْرُ الكُبَّارُ: كَفِعْلِ قَوْمِ نوحٍ قال تعالى في سورةِ "نوح" عليه السلام [22-24] : {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا - وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا - وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 22 - 24] ومعنى الكُبَّارِ: الكَبيرُ. والمَكْرُ الكُبَّارُ: احتيالُهُم في الدِّين، وَصدُّهُم لِلنَّاسِ عنه، وإغراؤُهم وتحريضهم على أذية نوح عليه السلام. وَهكذا فَعَلَ أخْلافُ هؤلاءِ مِن مَرَدَةِ الدِّين، وَأتْباع الهَوى وَعَبَدَةِ الدُّنْيا، يَفعلونَ مَعَ دُعاةِ الحَقِّ كما فَعَلَ قَوْمُ نوح عليه السلام معَهُ، قد تَشابَهَتْ قُلوبُهُم، نسألُه تعالى أنْ يُعيذَ رِجالَ الحَقِّ مِن كَيدِ مِثل هؤلاءِ الفَجَرَةِ، وَيَصُونَهُم مِن مَكْرِهِم. وقَد جربتهم فرأيت مِنْهُم ... خَبائِثَ بِالمُهَيْمِنِ نَسْتَجيرُ [حالة علمائهم] حالة علمائهم (الحادية والسبعون) : أئِمَّتُهمْ: إمَّا عالم فاجِرٌ، وإمَّا عابِدٌ جاهِل. قال تعالى:

زعمهم أنهم أولياء الله

[البقرة: 75- 79] {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ - وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ - أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ - وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ - فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 75 - 79] فَذَكَرَ في الآية أنَّ فَريقا مِن أسْلافِ اليهودِ- وهم الأحبارُ- كانوا يَسْمَعونَ التَّوراةَ ويُؤوِّلونها تأويلا فاسدا حسبَ أغراضِهم، بلْ كانوا يُحَرِّفونها بِتبديلِ كلامٍ مِن تلقائِهم، كما فَعَلوا ذَلِكَ في نعته صلى الله عليه وسلم، فإنِّهُ رويَ أنه مِن صِفاتِهِ فيها أنهُ أبيضُ رَبْعَة، فَغَيَّروهُ بِأسْمَرَ طويل، وغَيَّروا آيةَ الرَّجمِ بِالتَّسخيمِ وَتَسْويدِ الوجهِ، كما في البخاريِّ. {وَمِنْهُمْ} [البقرة: 78] فَريقٌ {أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 78] إلا بالدَّعاوى الكاذبةِ، والمرادُ بِهِم جَهَلَة مُقَلِّدَةٌ، لا إدراكَ لَهُمْ، وَتَمامُ الكلامِ في هذا المَقامِ يُطلَبُ مِنَ التَفسيرِ. والمقصودُ أنَّ تَحْريفَ الكَلِمِ، واتِّباعَ الهَوى، والقولَ على الله مِن غَيرِ عِلْمٍ مِن خِصالِ الجاهِلِيَّةِ. وَأنت تَعلمُ حالَ أحبارِ السُّوءِ اليومَ والرُّهبانِ الذينَ يقولونَ على الله ما لا يُعْلَمُ قد تَجاوَزوا الحَدَّ في اتِّباعِ الهَوى، وَتَأويلِ النُّصوصِ، وما أشبهَ ذلِكَ، مِمَّا يَسْتَحْي منهُ الإِسلامُ، والأمرُ لِلَّهِ. [زعمهم أنهم أولياء الله] زعمهم أنهم أولياء الله (الثانية والسبعون) : زَعْمُهُمْ أنَّهم أولياءُ للهِ مِن دونِ الناسِ. دليلُ هذه المسألةِ قولُه تَعالى في سورةِ [الجُمُعَة: 6- 8] : {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا} [الجمعة: 6] أيْ: تَهَوَّدوا، أيْ: صاروا يَهودا. {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ} [الجمعة: 6] أيْ: أحِبَّاءُ لَه سُبْحانه، وَلَمْ يُضِفْ أولياء إلَيهِ تَعالى كما في قوله سبحانه: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} [يونس: 62] ليؤذِنَ بالفَرْقِ بَيْنَ مُدَّعي الوِلايةِ وَمَن يَخُصُّهُ بِها. {مِنْ دُونِ النَّاسِ} [الجمعة: 6] أيْ: مُتَجاوِزينَ عنِ

النَّاسِ {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} [الجمعة: 6] أيْ: فَتَمَنَّوا مِنَ الله أنْ يُميتكُم، وَيَنْقُلَكم مِن دار البَلِيَّة إلى مَحَلِّ الكَرامة {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة: 6] في زَعْمكُم، واثقينَ بأنَّه حَقٌّ، فَتَمَنَّوا الموت فإنَّه مَن أيقَنَ أنه مِن أهلِ الجَنَّةِ أحَبَّ أنْ يَتَخَلَّصَ إليها مِن هذه الدارِ التي هي قَرارَةُ الإنكار والأكدار. وأُمِر صلى الله عليه وسلم أنْ يقول لَهُم ذَلِكَ إظهارًا لِكَذِبهِم، فإنَّهم كانوا يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وَيَدَّعونَ أنَّ الآخرةَ لَهُم عند الله خالصةً، ويقولونَ: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا} [البقرة: 111] كما أخبرَ تعَالى عن الكتابيِّين في كتابه، فقال جل شأنه [البقرة: 111-112] : {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111 - 112] وَرويَ أنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ كَتَبتْ يَهودُ المدينةِ ليهودِ خَيْبَرَ: إن اتَّبَعْتم محمَّدًا أطَعْناهُ، وإنْ خالفْتُموه خالَفْناه، فقالوا: نحنُ أبناءُ خليلِ الرحمنِ، ومنا عزيرٌ ابنُ الله والأنبياءُ، ومتى كانتِ النُّبُوَّةُ في العَرَب؟ نحنُ أحَقُّ بها مِن محمد، وَلا سَبيلَ إلى اتباعِهِ، فَنَزَلَتْ [الجمعة: 6- 7] : {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا} [الجمعة: 6] الآية {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} [الجمعة: 7] إخبارٌ بحالِهم المستقبَلِ، وهو عدمُ تمنيِّهم الموتَ، وذلكَ خاصّ بأولئكَ المخاطَبينَ. وَرويَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لَهم: «والَّذِي نفسي بيدِهِ لا يقولُها أحَد مِنكُم إلا غصَّ بريقِهِ» ، فَلَمْ يَتَمَنَّهُ أَحدٌ مِنهم، وما ذَلِكَ إلا لأنَّهم كانوا مُوقِنينَ بصدقِه صلى الله عليه وسلم، فَعَلِموا أنَّهم لو تَمَنَّوا لمَاتوا مِن ساعتِهم، وَلَحِقَهم الوعيدُ، وهذه إحدى المُعجِزاتِ. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الجمعة: 7] أيْ: بسببِه، كَأنَّهُ قيلَ: انْتَفَى تَمَنِّيهم بِسببِ ما قَدَّمتْ، والمُرادُ بِما قَدَّمَتْهُ أيْديهمِ: الكُفْرُ والمعاصي الموجِبةُ لدخولِ النَّارِ، وَلَمَّا كانت اليدُ مِن بينِ جوارحِ الإِنسانِ مَناطَ عامَّةِ أفعالِه، عَبَّرَ بها تارةً عن النَّفسِ وأخرى عنِ القُدرةِ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة: 7] أيْ: بِهِمْ، وإيثارُ الإِظهارِ على الإِضمارِ لِذَمِّهِمْ، والتسجيلِ عَلَيْهم بِأنَّهم ظالِمونَ في كُلِّ ما يأتونَ وَيَذَرونَ مِنَ الأمورِ الَّتي مِن جُمْلَتها ادِّعاءُ ما هم عنه بِمَعْزِلٍ، أيْ: واللهُ عليمٌ بما

دعوى محبة الله مع ترك شرعه

صَدَرَ منهم من فُنونِ الظلمِ والمعاصي، وَبِما سَيَكونُ مِنهم، فيجازيهم على ذَلِكَ. {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} [الجمعة: 8] وَلا تَجْسُرونَ عَلى أنْ تَمَنَّوْهُ مَخافَةَ أن تُؤخَذوا بِوَبال أفْعالِكُمْ. {فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] ألْبتةَ، مِن غيرِ صارِفٍ يَلويهِ، وَلا عاطِفٍ يَثْنيهِ. {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الجمعة: 8] الذي لا تَخْفى عَلَيْهِ خافيةٌ. {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8] مِنَ الكُفْرِ وَالمعاصي بِأنْ يُجازِيكم بِها. وهذا دَيْدَنُ الزَّائغينَ، وشَأْنُ الملحِدينَ، كما قَالَ تَعالى عَن اليَهود: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18] وَقَدْ وَرِثَ هَذِهِ الخصلةَ كَثيرٌ مِمَّن يَنْتَمي إلى المِلَّةِ الإِسلاميَّةِ، بَلْ كُلّ مِنَ الفرَقِ يقول: نحنُ أَوْلِياءُ الله، مَعَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ في حديثِ الفِرَقِ في بيانِ الفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ: «وهُمْ ما أنا عليه وأصْحابي» . [دعوى محبة الله مع ترك شرعه] دعوى محبة الله، مع ترك شرعه (الثالثة والسبعون) : دَعْواهم مَحَبَّةَ اللهِ مَعَ تركِ شَرعِهِ. فَطالَبَهُم سُبحانَه بقولهِ في سورة [آل عمران: 31] : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] قال الحسن وابنُ جُرَيْجٍ: "زَعَمَ أقوام عَلى عَهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهم يحِبُّونَ الله، فقالوا: يا مُحَمَّدُ إِنَّا نُحِبُّ ربَّنا، فَأنْزَلَ الله تَعالى هذه الآية". وَرَوى الضَّحاكُ عنِ ابنِ عبَّاس قال: «وَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم على قريشٍ في المسجد الحرامِ، وقد نَصَبوا أصنامَهم، وَعَلَّقوا عَلَيها بَيْضَ النَّعامِ، وَجَعَلوا في آذانِها الشُّنوف (¬1) وَهُم يَسجدونَ لها، فقالَ: "يا معشرَ قريشٍ، لقد خالَفْتُم مِلَّةَ أبيكم إبراهيمَ وإسْماعيلَ، وَلَقَدْ كانا على الإِسلام "، فَقَالَتْ قُرَيش: يا محمَّدُ، إنَّما نَعبدُ هذه حُبًّا لِلَّهِ؛ لِتقرِّبَنا إلى الله زُلْفى، فأنْزَلَ الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران: 31] إلخ» . وفي رواية أبي صالحٍ أنَّ اليهودَ لَمَّا قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه أنزلَ الله هذه الآية، فَلَمَّا نَزَلَت عَرَضها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على اليهودِ، ¬

(¬1) الشنف: القرط الأعلى، أو معلاق في قوف الأذن، أو ما علق في أعلاها، جمعه شنوف، وما علق في أسفل الأذن قرط.

تمنيهم على الله تعالى الأماني الكاذبة

فَأبَوا أنْ يَقْبَلوها. وَرَوى محمَّدُ بنُ إسحاقَ عن محمَّدِ بن جَعفرِ بنِ الزُّبَيرِ قالَ: "نَزَلَت في نَصارى نَجرانَ، وَذَلِكَ أنهم قالوا: إنِّما نُعَظِّمُ المسيحَ، نَعْبُدُهُ حُبًّا لِلَّهِ، وتَعْظيمًا لَهُ، فأنزلَ الله تَعالى هَذِهِ الآية رَدًّا عَلَيْهِم. وَبِالجُمْلَة إن مَنْ تَلبَّسَ بالمعاصي لا يَنْبَغي لَهُ أنْ يَدَّعيَ مَحَبّهَ الله، وَمَا أحْسَنَ قولَ القائلِ: تعْصي الإِله وأنتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هَذَا لَعَمْرِي في القِياسِ بَديعُ لو كانَ حُبُّكَ صادقا لأطعْتَهُ ... إِنَّ المُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطيعُ [تمَنِّيهم على الله تَعالى الأماني الكاذبةَ] تمَنِّيهم على الله تَعالى الأماني الكاذبةَ (الرابعة والسبعون) : تمَنِّيهم على الله تَعالى الأماني الكاذبةَ. قال تعالى في سورةِ [آلِ عمرانَ: 23-24] : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 23 - 24] أخرج ابنُ إسحاقَ وجماعةٌ عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: «دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بيتَ المِدْراسِ على جماعةٍ من يهودَ، فدعاهم إلى الله تَعالى، فقال النُّعمانُ بنُ عمرو والحارثُ بنُ زيدٍ: على أيِّ دينٍ أنت يا محمَّدُ؟ فقال: "عَلى مِلَّةِ إبراهِيمَ ودِينهِ "، قالا: "فإنَّ إبراهيمَ كان يهوديًّا"، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَهَلُمَّا إلى التَّوراةِ، فهي بيننَا وَبينكُمْ، فأيُّنا عليه "، فأنزل الله تَعالى هذه الآية» . وَفِي البَحْرِ: "زَنى رجلٌ مِنَ اليهودِ بامرأةٍ، ولم يكن بعدُ في دِيننا الرَّجمُ، فَتحاكَموا إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم تَخْفيفًا على الزَّانِيَيْنِ لِشَرَفِهِما، فقال رسولُ اللًهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّما أحْكمُ بِكِتابكُم» ، فَأنْكَروا الرَّجمَ، فَجِيءَ بِالتَّوراةِ، فَوَضَع جرهمُ بنُ صُورْيا يَدَهُ عَلى آية الرّجم، فقال عبد اللهِ بنُ سَلامٍ: جاوزَها يا رسولَ الله، فَأظْهَرَها، فَرُجِما، فَغَضبتِ اليهودُ، فَنَزَلَتْ. ومَعنى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [آل عمران: 24] أيْ: المذكورُ مِنَ التَّوَلِّي والإِعْراضِ حاصِلٌ لَهُم بِسَبَبِ هَذَا القولِ الَّذِي رسخ اعتقاهم به، وَهَوَّنوا بِهِ الخُطوبَ، وَلَمْ يُبالوا معهُ بارْتكابِ المَعاصي والذُّنوبِ. والمُرادُ بِالأيَّامِ المَعدوداتِ: أيَّامُ عِبادتِهم العِجْلَ {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 24] أيْ: غَرَّهُم افتِراؤُهم وكَذِبُهُم، أو الَّذِي كانوا يَفْترونَه مِن قَولِهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} [آل عمران: 24] أوْ مِن قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]

اتخاذ قبور الصالحين مساجد

أوْ مِمَّا يَشْمَلُ ذَلِكَ ونحوه مِن قَولهِم: إن آباءَنا الأنبياءَ يَشْفعونَ لَنَا، وأنَّ الله تَعالى وَعَدَ يَعقوبَ أنْ لا يُعَذِّبَ أبناءَه إلا تَحِلَّةَ القَسَمِ. فَرد عليهم سبحانه بقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} [آل عمران: 25] إلخ. رُويَ أنَّ أوَّلَ رايةٍ تُرفَعُ لأهلِ المَوقِفِ مِن راياتِ الكُفَّارِ رايةُ اليهودِ، فيفضحُهُمُ الله تَعالى على رُؤوسِ الأشهادِ، ثُمَّ يأمُرُ بِهِم إلى النَّارِ. وهكذا رأينا كثيرا من أهل زماننا يفعلون ما يفعلون من المنكرات، اعتمادا على الشَّفاعةِ، أو على عُلُوِّ الحَسَبِ وَشَرَفِ النَّسَبِ، واللهُ المُستَعانُ. وَفِي سورةِ [البقرةِ: 80-81] : {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ - بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 80 - 81] [اتخاذ قبور الصالحين مساجد] اتخاذ قبور الصالحين مساجد (الخامسة والسبعون) : اتِّخاذُ قُبورِ أنبيائِهم وصالِحيهِم مساجِدَ. هذه المسألة من خصال الكتابيين أيام الجاهلية. وفي ذَلِكَ ورد الحديثُ الصَّحيحُ: «لَعَن الله اليهودَ والنّصَارى اتَّخَذُوا قُبورَ أنبيائِهم مَساجدَ» ، ثُمَّ قَالَ: «فَلا تَتَّخِذوها مَساجِدَ» . وَفِي الصَّحيحينِ عن أبي هريرة أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قاتَلَ الله اليهودَ والنّصَارى، اتَّخَذوا قُبورَ أنبيائِهم مَساجِدَ» . وَفِي لفظٍ لِمُسْلِمٍ: «لَعَنَ الله اليهودَ والنّصَارى، اتَّخَذُوا قُبورَ أنْبِيائِهِم مَساجِدَ» . وَفِي الصَّحيحينِ عن عائشةَ وابنِ عبَّاسٍ، قالا: «لَمَّا نزلَ بِرسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال - وهو كَذَلِكَ-: "لَعَنَ الله اليهودَ والنصَّارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مَسَاجِدَ"، يُحَذِّرُ ما صَنَعَوا".» وَفِي الصَّحيحينِ- أيْضا- عن عائشةَ أنَّ أمَّ سَلَمَةَ وأمَّ حَبيبةَ ذَكَرَتا لِرَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَنيسةً رَأيْنَها بأرضِ الحَبَشَةِ يقال لها: "ماريَة"، وَذَكَرَتا مِن حُسْنِها وتَصاويرَ فيها، فقال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أولئكَ قومٌ إذا ماتَ فيهم العبدُ الصَّالحُ أو الرَّجلُ الصالحُ بنَوا على قبرِهِ مسجدًا، وَصَوَّروا فيه تلك الصُّورَ، أولئكَ شرارُ الخَلْقِ عند الله» وعن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: «لَعَنَ

اتخاذ آثار الأنبياء مساجد

رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم زائراتِ القبورِ والمُتَّخِذينَ عَليها المساجدَ والسُّرُجَ» ، رواه أهلُ السُّننِ الأربعة فهذا التَّحذيرُ منه، واللعنُ عن مُشابهةِ أهلِ الكتابِ في بناءِ المسجِدِ على قبرِ الرَّجلِ الصَّالحِ صريحٌ في النَّهيِ عنِ المشابهةِ. وفي هذا دليل على الحذرِ عن جِنسِ أعمالِهم، حيثُ لا يؤمنُ في سائرِ أعمالِهم أنْ يكونَ من هذا الجنسِ. ثُمَّ من المعلومِ ما قد ابتُلْيَ به كثيرٌ من هذه الأمَّةِ من بناءِ القبورِ مساجدَ، واتِّخاذِ القبورِ مساجدَ بِلا بناءٍ، وَكِلا الَأمرينِ مُحَرم، معلونٌ فاعلُه بالمستفيضِ من السُّنَّةِ، وَلَيْسَ هَذَا موضعَ استقصاءِ ما في ذَلِكَ من سائرِ الأحاديثِ والآثارِ، ولهذا كان السَّلفُ يُبالِغونَ في المنعِ. [اتخاذ آثار الأنبياء مساجد] اتخاذ آثار الأنبياء مساجد (السادسة والسبعون) : اتخاذُ آثارِ أنبِيائِهِم مساجِدَ، كَمَا وَرَدَ عَن عمَرَ رضي الله عنه فإنَّ هذه المسألةَ مِن بِدَعِ جاهِلِيّة الكِتابيِّينَ، كانوا يَتَّخِذونَ آثارَ أنبيائِهِم مَساجدَ، فَوَرِثَهُمُ الجاهِلونَ مِن هذه الأمَّة، فَترَاهم يبْنون عَلى موضِعٍ اخْتَفى بهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ وَصَلَ قَدَمهُ المُبارَكُ إليه، أو تَعَبَّدَ فيهِ، فَهَذَا لَيْس يُحْمَدُ في الشَّريعةِ؛ لِجَرِّهِ إلى الغُلُوِّ. وَفِي العِراقِ مواضعُ كثيرة بَنوا عَلَيْها مَبانِيَ، كالمقام الَّذِي زَعَموا أنَّ الشَّيخ الكَيلانيَّ تَعَبَّدَ فيهِ، وَكَأثَر الكَفِّ الَّذِي زَعَمَ الشِّيَعَةُ أنَّهُ أثَرُ كَفِّ الإِمامِ عَليٍّ لَمَّا وَضَعَه على الصَّخْرةِ فَأثَّرَ فِيْهَا، فَبَنَوا عَلَيْها مَسجدا، وَكَعِدَّةِ أماكِنَ زَعَموا أن الخَضِرَ رئيَ فيها، ولا أصلَ لَهُ، إلى غيرِ ذَلِكَ مِمَّا لا يَسْتَوْعِبُهُ المَقامُ. فَينبغي لِمَن يَدَّعي الإِسلامَ أنْ يَتَجَنَّبَها، وَينْهى عن حُضورِها، وإنْ رُمِيَ بالإِنكارِ، وَعَداوةِ الأشْرارِ، وَكَيْدِ المارقينَ الفُجَّارِ. وفي المسألةِ تفصيلٌ لا بأسَ بِذِكْرِهِ: قال شيخُ الإِسلامِ: أما مَقاماتُ الأنبياءِ والصَّالحينَ- وهي الأمكنةُ التي قاموا فيها أوْ أقاموا، أوْ عَبَدوا الله سُبْحانه- لكنَّهم لَمْ يَتَّخذوها مساجِدَ- فالَّذِي بَلَغني في ذَلِكَ قَولانِ عن العلماءِ المَشْهورينِ: أحَدُهُما النَّهيُ

عن ذَلِكَ، وكراهتُه، وأنَّه لا يُسْتَحَبُّ قصدُ بُقْعَةٍ لِلعِبادةِ، إلا أن يكونَ قَصْدُها لِلعبادةِ مِمَّا جاءَ به الشَّرعُ، مِثْلُ أنْ يكونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قصَدَها لِلعبادةِ كَما قَصدَ الصَّلاةَ في مَقامِ إبراهيمَ، وكما كان يَتَحَرَّى الصلاةَ عند الاسطُوانةِ، وكما تُقْصدُ المساجِدُ لِلصَّلاةِ، ويُقْصَدُ الصَّفُّ الأوَّل، وَنَحْوِ ذَلِكَ. القول الثَّاني: أنه لا بأسَ باليَسير مِن ذَلِكَ، كَما نُقِلَ عن ابنِ عُمَرَ أنه كان يَتَحَرَّى قَصْدَ المواضِعِ التي سَلَكَها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وأن النَّبِي صلى الله عليه وسلم سلكها اتِّفاقًا لا قَصدًا (¬1) . وَسُئِلَ الإِمامُ أحمدُ عن الرَّجُلِ يأتي هذه المَشاهِدَ، وَيَذْهَبُ إليها، تَرى ذَلِكَ؟ قَالَ: أمَّا على حَديثِ ابنِ أمِّ مَكْتوم أنه سَألَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُصَلِّيَ في بيتِه حتى يَتَّخِذَ ذَلِكَ مُصَلَّى، وعلى ما كان يَفعَلُه ابنُ عُمَرَ، يتتبعُ مواضعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأثَرَه، فَلَيْس بِذَلِكَ بأسٌ أنْ يأتيَ الرَّجُلُ المَشاهِدَ، إلا أنَّ النَّاسَ قَدْ أفْرَطوا في هذا جِدًّا، وأكْثروا فيه (¬2) . وَكَذلِكَ نَقَلَ عنه أحمدُ بنُ القاسمِ أنَّه سُئِلَ عن الرَّجُلِ يأتي هذه المَشاهِدَ التي بالمدينةِ وغيرِها يذهبُ إليها؟ فقالَ: أمَّا عَلى حديثِ ابنِ أمِّ مَكْتومٍ أنه سألَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أنْ يأتيَه، فيصليَ في بيتِه، حَتَّى يَتَّخِذَه مَسجدا، وَعَلى ما كان يَفَعَلُ ابنُ عُمَرَ، كان يَتتبَّعُ مواضعَ سَيْرِ النبي صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أنه رُئيَ يَصُبُّ في موضِعٍ ماءً، فَسُئِلَ عن ذَلِكَ، فَقَالَ: «رأيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَصُبُّ ههنا ماءً» ، قال: أمَّا على هذا فلا بأسَ به. قال: وَرَخصَ فيه، ثُمَّ قال وَلَكِنْ قد أفْرطَ النَّاسُ جدًّا، وَأكْثروا في هذا المعنى. فَذَكَرَ قَبرَ الحُسينِ وما يَفعلُ النَّاسُ عندَه. رواهما الخَلاَّلُ في كتابِ الأدَبِ. فَقَدْ فَصَّلَ أبو عبدِ اللهِ في المَشاهِدِ وهي الأمكنةُ التي فيها آثارُ الأنبياءِ والصَّالحينَ من غيرِ أنْ تكونَ مساجدَ لهم كمواضعَ بالمدينة بَيْنَ القليلِ الذي لا يَتَّخِذونَه عيدا، أو الكثيرِ الذي يَتَّخذونَه عيدًا كما تَقَدَّمَ. وهذا التَّفصيلُ جَمَعَ فيه بَيْنَ الآثارِ وأقوالِ الصحابة: فإنِّه قد رَوَى البُخاريُّ في صحيحه عن موسى بنِ عقبةَ قَالَ: "رأيت سالمَ بنَ عبدِ اللهِ يَتَحَرَّى أماكِنَ مِن الطَّريقِ، وَيُصلِّي فيها، وَيُحَدِّثُ ¬

(¬1) وكان أبوه عمر على عكس ذلك كما سيأتي، وانظر ص 105 من (التوسل والوسيلة) طبع السلفية. (¬2) فما بالك بما وصل إليه الأمر بعد زمن الإمام أحمد! .

اتخاذ السرج على القبور

أنَّ أباه كان يُصلِّي فيها، وَأنَّه رأى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي في تلكَ الأمْكِنَةِ"، فهذا كَما رَخَّصَ الإِمامُ أحمدُ. وأمَّا كراهَتُهُ، فَقَدْ رَوى سعيدُ بنُ منصورٍ في سُنَنِهِ قال: حَدَّثَنا أبو مُعاويةَ قال: حَدَّثَنا الأعْمشُ عن المَعْرورِ بنِ سُوَيْدٍ عن عُمَرَ قال: خَرَجْنا مَعَهُ في حجةٍ حجها، فَقَرَأ بِنا في الفجر بـ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] في الثاَّنية، فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ حَجَّتِهِ رَأى النَّاس ابْتَدَروا المَسْجدَ، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مَسْجِدٌ صَلَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيه، فقال: "هكذا هَلَكَ أهلُ الكتابِ قَبلَكم، اتَّخَذوا آثارَ أنبيائِهم بِيَعًا، مَنْ عَرَضَتْ لَهُ مِنْكُمُ الصَّلاةُ فيه فَلْيُصَلِّ، ومن لم تعرض له الصلاة فَلْيَمْضِ". فقد كَرِهَ عُمرُ اتِّخاذَ مُصلَّى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِيدًا، وَبَيَّنَ أنَّ أهلَ الكتابِ إنِّما هَلَكوا بِمثلِ هذا، كانوا يَتَّبِعونَ آثارَ أنبيائِهم، وَيَتَّخِذونها كنائسَ وَبِيَعًا (¬1) . وَرَوَى محمَّدُ بنُ وضَّاح وغيرُه: "أنَّ عمرَ بنَ الخَطَّابِ أمَرَ بقطعِ الشَّجَرَةِ التي بُويعَ تحتَها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأنَّ النَّاسَ كانوا يذهبونَ تحتها، فخافَ عمرُ الفتنةَ عليهم. وَمَا ذَكَرَه عُمَرُ هو الحَرِيُّ بِالقبولِ، وهو مذهبُ جُمهورِ الصَّحابة، غيرَ - ابنه- وهو الَّذي يَجبُ العملُ به، ويُعَوَّلُ عَلَيْهِ. [اتخاذ السرج على القبور] اتخاذ السرج على القبور (السابعة والسبعون) : اتَّخاذ السُّرُجِ على القُبورِ. دَليلُ حُرْمَة ذَلِكَ ما وردَ عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِن الحديثِ الَّذِي سَبَقَ ذِكرهُ مِن لَعْنِ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَلَيْتَكَ رَأَيْتَ ما يُوقَدُ في تُرَبِ أئِمَّةِ أهلِ البيتِ ونحوِها مِن الشُّموعِ، ولا سيما في لَيالي رَمَضانَ والليالي المُبارَكَةِ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. [اتخاذ القبور أعيادا] اتخاذ القبور أعيادا (الثامنة والسبعون) : اتِّخاذُها أعْيادًا. اعْلَمْ أنَّ العِيدَ اسمٌ لِما يَعودُ مِن الاجْتِماعِ العامِّ على وَجْهٍ مُعْتادٍ عائدًا ما تَعودُ السَّنَةُ أوْ يَعودُ الأسبوعُ أو الشَّهرُ أو نَحْو ذَلِكَ (¬2) فالعيد يَجمعُ أُمورا منها: يومٌ عائدٌ، كَيومِ الفِطْرِ، وَيَومِ الجُمُعَةِ. ومِنها ¬

(¬1) انظر ص 12، 17، 23، 24 من (التوسل والوسيلة) لشيخ الإسلام ابن تيمية، طبع السلفية. (¬2) ويسمى في مصر "مولدا" وإن كان المنسوب إليه مجهول يوم مولده أو سنة مولده.

الذبح عند القبور

اجتِماع فيه. ومِنها: أعمالٌ تَجمع ذَلِكَ مِنَ العِباداتِ أوِ العاداتِ. وَقَدْ يَخْتَصُّ العيدُ بمَكانٍ بِعينه، وَقَدْ يكونُ مُطْلَقًا. هؤلاءِ مُسْلِمو أهلِ العراقِ، لِكُلِّ تُربة وليٍّ يوم مخصوصٌ يجتمعون فيه للزِّيارةِ، كزيارةِ الغَديرِ، وَمَرَدِّ الرَّأس. ومِنهم من خُصَّ له يومٌ من أيَّامِ الأسبوعِ، فالجمعةُ لِفلانٍ، والسبت لفلان، والثّلُاثاءُ لِفُلانٍ، وهكذا. وَمِن ذَلِكَ بعضُ الأيَّامِ والليالي المُباركَة، كَلَيْلَةِ القَدْرِ، وَأيَّامِ الأعْيادِ، وَلَيلة النِّصْفِ مِن شَعْبانَ، وَغيرِ ذَلِكَ، مِمَّا لَمْ ينزلِ الله بهِ مِن سُلْطانٍ. [الذبح عند القبور] الذبح عند القبور (التاسعة والسبعون) : الذَّبْحُ عندَ القُبورِ. قال الله تَعالى [الأنعام: 162-163] : {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163] أمَرَهُ الله تَعالى أنْ يُخْبِرَ المُشرِكينَ الذين يَعبدونَ غيرَ الله، ويَذبحونَ لَهُ، أي أنه أخلصَ لِلَّهِ صلاتَه وذبيحتَه؛ لأنَّ المُشرِكينَ يَعبدونَ الأصنامَ ويذبحونَ لَها، فَأمَرَهُ الله تعالى بِمُخالَفَتِهِم، والانحرافِ عمَّا هُم فيه، والانقيادِ بالقَصْدِ والنِّيّةِ والعزمِ على الإِخلاصِ لِلَّهِ تَعالى، فَمَن تَقَرَّبَ لغيرِ الله تعالى لِيَدفَعَ عنه ضَيرا، أو يَجْلِبَ لَه خَيرا، تَعظيما لَهُ، مِن الكُفْرِ الاعتقاديِّ والشِّرك الذي كان عليه الأوَّلون. وسببُ مشروعيَّةِ التّسَميَةِ تخصيصُ مِثلِ هذه الأمورِ العِظامِ بالإِلهِ الحَقِّ المعبودِ العلامِ، فإذا قُصِدَ بالذَّبحِ غيرُه، كان أولى بالمنعِ. وَصَحَّ نهيُهُ صلى الله عليه وسلم عَمَّنِ اسْتأْذَنَهُ بالذَّبحِ بِبُوانَةَ، وأنه قد نَذَر ذَلِكَ، فقال له صلى الله عليه وسلم: «أكانَ فيها صَنم؟ "، قَالَ: "لا"، قال: "فَهَل كان فيها عِيد مِن أعيادِ المُشرِكِينَ؟ "، قال: " لا"، قال: "فأوْفِ بنذرِكَ» . أخرج ذلك أبو داودَ في سُنَنِهِ. وهذا السَّائلُ مُوَحِّد مُقَرِّبٌ لِلَّهِ سبحانَه وتعالى وحْدَه، لَكِنِ المكان الذي فيه معبود غيرُ الله، وَقَدْ عُدِمَ، أو مَحَلٌّ لاجْتِماعِهِم يَصْلُحُ مانِحًا، فلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ لَيَسْ هناك شَيء مِن ذَلِكَ، أجازَهُ، وَلَو عَلِمَ شَيْئًا مِمَّا سألَ عنه، لَمَنَعَهُ، صِيانَةً لحِمى التَّوحيدِ، وَقَطْعًا لذَريعَةِ الشِّركِ. وَصَحَّ- أيْضا- عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ: «دَخَلَ الجَنَة رَجُلٌ في ذُباب، وَدَخَلَ النَّارَ رَجل في ذُباب "، قالوا: كيف ذلك يا رسولَ الله؟

التبرك بآثار المعظمين

قال: "مَرَّ رجُلانِ على قوم لهم صَنَمٌ لا يُجاوِزُهُ أحد حتى يُقَرِّبَ لَهُ شَيئا، قالوا لَهُ: قَرِّبْ وَلَوْ ذُبابا، فَقَرَّبَ ذبابا، فَخَلَّوا سبيلَه، فَدَخَلَ النّارَ، وقالوا للآخرِ: قَرِّبْ، قال: ما كنتُ أقرِّبُ شَيْئًا لأحَدٍ دونَ الله عَزَّ وَجَلَّ، فَضَربوا عُنقهُ، فَدَخَلَ الجَنَّة» . ففي هذا الحديثِ من الفوائدِ: كَونُ المُقَرِّب دخل النَّارَ بالسَّببِ الذي لم يَقْصِدْ، بل فَعَلَه تَخَلُّصا مِن شَرِّهِم، وَأنهُ كان مُسْلِما، وإلا لَمْ يَقُلْ: دخل النَّارَ. وفيه ما يَنبغي الاهتمامُ بِهِ مِن أعمال القُلوبِ، التي هي المَقصودُ الأعظمُ والرُّكْنُ الأكبرُ. فَتَأمَّلْ في ذَلِكَ، وانظُرْ إلى فؤادِك في جميعِ ما قالوه، وَألْقِ سَمْعَكَ لِما ذَكَروهُ، وانظُر الحَقَّ، فإنَّ الحَقَّ أبْلَجُ والباطِلَ لَجْلج، فَبالنَّظَرِ التَّامِّ إلى ما كان عليه المُشرِكون مِن تَقَرُّبِهم لأوثانِهم؛ لِتُقَرِّبَهُمْ إلى الله؛ لِكونهِم شُفعاءً لهم عند الله، وشفاعتُهم بسبب أنَّهم رُسُلُ الله أو ملائكةُ الله أو أولياءُ الله، يتبينُ لك ما عليه النَّاسُ الآنَ، واللَّهُ المستعانُ. [التبرك بآثار المعظمين] التبرك بآثار المعظمين (الثمانون) : التَّبَرّكُ بآثارِ المعظمينَ، كَدارِ النَّدوَةِ، وافتِخار مَن كانت تحت يدهِ بِذَلِكَ. كما قيل لحكيمِ بنِ حِزامٍ: بعتَ مَكْرُمَةَ قريشٍ، فقال: "ذهبت المكارمُ إلا التقوى". هذه الخَصلةُ قدِ امْتَدَّت عروقُ ضَلالِها في أودِية قُلوبِ جَهَلَةِ المُسلِمينَ، وزادوا في الغُلُوِّ بِها عَلى ما كانَ عَلَيْهِ جاهِلِيةُ العربِ والكِتابِيِّينَ. ولا بِدْعَ مِن حكيم بنِ حزامٍ القريشيِّ الأسديِّ إذا ما ردَّ عَلى مَن قال له: بِعتَ مَكْرُمَةَ قريشٍ؟ وقد باعها مِن مُعاوِيَةَ بمائةِ ألفِ دِرهَمٍ: "ذهبت المَكارمُ إلا التقوى". كيفَ لا وقد كان عاقلا سرَيّا، فاضلا تَقيًّا، سَيِّدا بِمالِهِ غَنِيّا، أعتَقَ في الجاهِلِيَّةِ مائةَ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى مائة بَعِيرٍ، وحَجَّ في الإِسلامِ ومعه مائةُ بَدَنَةٍ قَدْ جَلَّلَها بالحَبِرَةِ، وَكَفَّها عن أعجازِها، وأهداها، وَوَقَفَ بمائة وَصيفٍ بعرفةَ في أعناقِهِم أطواقُ الفِضَّةِ مَنْقوشٌ فيها: "عتقاءُ الله عن حكيمِ بنِ حِزامٍ "، وأهْدَى ألفَ شاةٍ، وهو الَّذِي عاش في الجاهِلِيَّةِ ستِّينَ سَنَةً، وفي الإِسلام ستِّينَ سَنَةً، وَوُلِدَ في الكَعْبَةِ.

الفخر بالأحساب

[الفَخْر بِالأحْسابِ] (الحادية والثمانون) : الفَخْر بِالأحْسابِ. [الاسْتِسْقاءُ بالأنْواءِ] (الثانية والثمانون) : الاسْتِسْقاءُ بالأنْواءِ. [الطَّعْنُ في الأنسابِ] (الثالثة والثمانون) : الطَّعْنُ في الأنسابِ. [النِّياحَةُ] (الرابعة والثمانون) : النِّياحَةُ. أقولُ: هذه المسائلُ الأربعُ دليلُ بُطلانِها حديثٌ واحدٌ، وهو ما رواه البخاريُّ ومُسْلِمٌ، واللفظُ لِمسلمٍ، بسنده إلى أبي مالكٍ الأشعَريِّ: أنَّ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم حدثه قال: «أربع في أمَّتي من أمرِ الجاهِلِيةِ لا يترُكونَهُنَّ: الفخرُ في الأحسابِ، والطَّعنُ في الأنساب، والاسْتِسْقاءُ بالنجومِ، والنَّاحبةُ- أو قال: النَّائحَةُ- إذا لَمْ تَتُبْ قَبلَ مَوتها، تُقامُ يومَ القِيامةِ وعليها سربال مِن قَطِرانٍ، وَدِرْع مِن جَرَب» . الفخرُ في الأحسابِ: افتخارُهُم بِمَفاخِرِ الآباءِ. والطَّعْنُ في الأنسابِ: إدخالُهم العيبَ في أنسابِ النَّاسِ، تَحْقيرا لآبائِهم، وتَفْضيلا لآباء أنْفُسِهم على آباء غيرِهم، والاسْتِسْقاءُ بالنجُّوم: اعْتِقادُهُم نُزول المَطَرِ بِسُقوطِ نَجْمٍ في المغربِ مع الفجرِ، وطلوع آخَر يُقابلهُ من المشرقِ، فقد كانوا يَقولونَ: مُطِرْنا بِنَوءِ كَذا، وقالَ تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] وهذا مُفَصَّلٌ في كُتُبِ الأنْواءِ بِما لا مَزيدَ عَلَيْهِ. ومَعْنَى قوله في النَّائحَةِ: «وعليها سِرْبالٌ مِن قَطرانٍ» : أنَّ الله تَعالى يُجازيها بِلِباسٍ مِن قَطرانٍ لأنَّها كانت تَلْبَسُ الثيِّاب السُّودَ. وَقَولُهُ: «دِرْع مِن جَرَبٍ» ، يعني: يُسلَّطُ على أعضائها الجَرَبُ والحكَّةُ، بحيثُ يُغَطِّي بَدَنَها تَغطيَةَ الدِّرعْ- وهو القميصُ-؛ لأنَّها كانت تَجْرَحُ بكلماتِها المُحْرِقَةِ قُلوبَ ذَوي المُصيباتِ. فهذا الحديثُ دَل على بطلانِ ما كان عليه أهلُ الجاهِلِيَّةِ مِن هذِهِ الخصال الرَّديئَةِ. وورثتهم اليومَ مِن هذهِ الأمَّة، تَجاوَزوا فيها أسلافَهُم، وزادوا في الطَّنبورِ نغَماتٍ، فَترَاهم يَفْتَخرون بِمَزايا آبائِهم وهُمْ بمَراحِلَ عنهم، فهذا يقول: كان جَدِّي الشيخَ الفُلانيَّ، وهذا يقولُ: جدِّي العَالِمُ الرَّبَّانيُّ، إلى غيرِ ذَلِكَ. وكذلك الطَّعْنُ في الأنسابِ، فهذا يقولُ: إنَّ آباءَ فلانٍ لم يَكونوا مِن العترةِ الطَّاهرةِ، وذاك يقول: إن آباء فلان لم يكونوا من ذوي الأحساب الباهرة، وكذلِكَ الاسْتِسْقاءُ بالأنْواءِ، ولم يعتقدْ كثير مِنَ

تعيير الرجل بفعل أمه وأبيه

النَّاسِ أنَّ ما كان [إنما هو] من فعلِ ربِّ الأرضِ والسَّماءِ. وهكذا النَّوحُ على الأمواتِ، فقد اتَّخَذَهُ كثيرٌ مِن النَّاسِ مِن أفضلِ الأعمال، وسببِ الوصولِ إلى مَرضاةِ ذي الجَلالِ، لا سِيَّما مَن اتَّخَذَ المآتِمَ الحُسَيْنيَّةَ في كلِّ عامٍ، فهناك مِنَ البدَعِ ما تكَلُّ عن نَقْلِه ألسنةُ الأقلامِ، والويلُ كل الويلِ لِمَن أنْكَرَ شَيْئا مِن ذَلِكَ، فإنَّهَم يُورِدونَه مَوارِدَ العَطَبِ والمَهالِكِ، والأمر لِلَّهِ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ. [تعيير الرجل بفعل أمه وأبيه] تعيير الرجل بفعل أمه وأبيه (الخامسة والثمانون) : تعْيِيرُ الرَّجُلِ بِفِعْلِ غَيرِهِ، لا سيَّما أبوه وأمّه. فَخالَفَهم صلى الله عليه وسلم، وقالَ: «أعَيَّرْتَهُ بأمِّهِ؟ إنَّكَ امرؤ فيكَ جاهِلِيةٌ» . والحديثُ في صحيح الإِمامِ البخاريِّ في بابِ "المعاصي مِن أمرِ الجاهِلِيَّةِ، ولا يَكْفُرُ صاحبُها بارْتكابِها إلا بالشِّركِ لِقولِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّكَ امرؤ فيكَ جاهِلِيّةٌ» ، وقول الله تَعالى في سورة [النِّساءِ: 48] : {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وهذا البابُ في كتابِ الإِيمان من صحيحِه، ثُمَّ قَالَ: "حَدَّثَنا سُليمانُ بنُ حَرْب، قالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ عن واصلٍ عن المَعْرورِ، قال: لَقِيتُ أبا ذَر بالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّة وعلى غلامِهِ حُلَّة، فسألتُهُ عن ذلكَ، فقالَ: «إني سابَبْتُ رَجلا، فَعَيَّرْتُهُ بأمِّهِ، فقالَ لي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذرٍّ، أعَيَّرْتَهُ بأمِّهِ؟! إنَّكَ امرؤ فيكَ جاهِليةٌ، إخوانكُم خولُكُم، جعَلَهُمُ الله تَعالى تحتَ أيديِكُم، فمَن كان أخوه تحتَ يدِهِ، فَلْيطعِمْهُ مِمَّا يأكلُ، ولْيلبِسْهُ مِمَّا يلبسُ، ولا تكلِّفوهُم ما يغلِبُهم، فإن كلَّفْتُموهم، فأعينوهم» . وقد أطْنبَ شُرَّاحُ الحديثِ في شرحِهِ، وليس هذا موضع اسْتقصائِهِ، والمقصودُ منهُ أن تَعْييرَ الرَّجُلِ بِفعْلِ غيرِه ليس من شأنِ كاملِ الإِيمانِ والمعرفةِ، فإنَّ أبا ذر رضي الله تعالى عنه قَبْلَ بُلوغِهِ المَرْتَبَةَ القُصْوى مِنَ المعرفةِ تَسابَّ هو وبلال الحَبَشيُّ المُؤَذِّنُ، فقالَ لَهُ: "يا ابنَ السَّوداءِ"، فَلَمَّا شَكا بلال إلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال لَهُ: «شَتَمْتَ بِلالا، وعَيَّرْتَهُ بسوادِ أمِّهِ! "، قال: "نَعَمْ"، قال: "حَسِبْتُ أنَّهُ بقِيَ فيكَ

الافتخار بولاية البيت

شَيْءٌ مِن كِبر الجاهلية» ، فَألقَى أبو ذرٍّ خَدَّهُ على التُّرابِ، ثُمَّ قالَ: "لا أرفَعُ خَدِّي حَتَّى يطأ بلالٌ خَدِّي بِقَدَمِهِ ". والنَّاسُ اليومَ- والأمرُ لِلَّهِ- قد كَثرُت فيهم خصالُ الجاهِلِيَّةِ، فَترَاهم يُعَيِّرونَ أهلَ البلدِ كلَّهم بِما صَدَر عن واحدٍ مِنهم، فأينَ ذلكَ مِن خصالِ الجاهِلِيَّةِ؟ [الافتخار بولاية البيت] الافتخار بولاية البيت (السادسة والثمانون) : الافْتخار بِولايَةِ البيتِ. فَذَمَّهم الله تَعالى بقولِهِ: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67] وهذه الآية في [سورة المؤمنين: 66- 67] وهي بتمامِها قولُه تَعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ - مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 66 - 67] وَمَعْنى الآية على ما في التَّفسيرِ: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 66] تعليلٌ لقوله قَبلُ [65] : {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} [المؤمنون: 65] أي: دَعوا الصُّراخَ، فإنّه لا يمنعكم منَّا، وَلا يَنفعُكم عِندنا، فقدِ ارْتكَبْتُم أمرًا عظيما، وإثما كبيرا، وهو التكذيبُ بالآياتِ، فلا يدفعُه الصُّراخ، فكنتم عند تلاوتِها: {عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} [المؤمنون: 66] أيْ: مُعرِضونَ عن سماعِها أشدَّ الإِعراضِ، فَضْلا عن تصديقِها والعملِ بها، والنُّكُوصُ: الرُّجوعُ، والأعقابُ: جمعُ عَقِبِ وهو مُؤَخَّرُ الرِّجْلِ، ورجوعُ الشَّخصِ على عَقبِهِ: رجوعُه في طريق الأوَّلِ، كما يقال: رَجَعَ عَوْدَه على بَدْئِه. {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} [المؤمنون: 67] أي: بالبيتِ الحرامِ، والباءُ لِلسَّبَبِيّة وسُوغ بهذا الإِضمارُ، مَعَ أنَّه لم يَجْرِ ذِكرُ اشتهار استبكارِهِم، وافتخارِهِم بأنَّهم خُدَّامُ البيتِ وقُوَّامُهُ. {سَامِرًا} [المؤمنون: 67] أيْ: تسمرونَ بذكرِ القرآنِ والطَّعنِ فيه، وذلكَ أنَّهم كانوا يَجتمعون حول البيتِ يَسْمُرونَ، وكانت عامَّةُ سَمرِهم ذكرَ القرآنِ وتسميتَه سِحْرا أو شعرا {تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67] من الهجر- فتح فسكون - بمعنى القطع والترك، والجملة في موضع الحالِ، أيْ: تاركيِنَ الحَقَّ والقرآنَ أو النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلى تقديرِ عودِ الضميرِ (بِه) له، وجاءَ الهَجْرُ بمعنى الهَذَيانِ، وَجوِّزَ أنْ يكون المَعْنى عليه، أي. تَهْذونَ في شأنِ القرآنِ أو النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أو أصحابه، أو ما يعُمُّ جميعَ ذَلكَ، وَيجوزُ أنْ يكون

الافتخار بكونهم من ذرية الأنبياء

من الهُجْر- بضم فسكون- وهو الكلامُ القَبيحُ. فأنكرَ الله تَعالى عليهم بقولهٍ [68] : {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68] لِيَعْلَموا- بِما فيه من وُجوه الإِعجازِ- أنَّه الحَقُّ من ربِّهِم، فيُؤمنوا به {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68] أي: بَلْ جاءَهُم إلخ. والمقصودُ أنَّ من خصالِ الجاهِلِيَّةِ التكَبُّرَ بسببِ الرِّئاسةِ على المواضعِ المُقَدَّسَةِ، كما هو- اليومَ- حالُ كثيرٍ ممَّن يَدَّعي الشَّرَفَ بسببِ ذلكَ، فمِنهم مَنِ ادَّعى الشرفَ على المُسلِمينَ بسببِ رِئاستِهِ على مكَّةَ والمدينةِ، ومِنهم مَنِ ادَّعاه بسببِ الرِّئاسة في المَشاهِدِ أو مقاماتِ الصَّالحينَ، وهؤلاءِ الذين يَدَّعونَ انتِسابَهم إلى عبد القادرِ الجيلاني في بغدادَ يدَّعون الشَّرَفَ بسببِ رياستِهم على قبرِ عبدِ القادر، واستيلائِهم علىَ النُّذورِ والصَّدَقاتِ والذَّبائح والقرابين الشِّرْكيَّةِ، التي يَتَعَبَّدُها بها جَهَلَةُ المُسلِمين مِنَ الهُنودِ والأكْرادِ ونحوِهِم، وهُمْ (¬1) أفْسَقُ خَلْقِ الله، وأدْناهم نَفْسًا، وأرْذَلُ خَلْقِ الله مَسْلَكا، فما يفيدُهم ذلك عند الله شَيْئا، وما ينْجيهم مِنْ مَقْتِ الله وعذابه، وإنْ ظَنَّ بِهِمُ العوَامُّ ما ظَنُّوا، فَهم عند الله وعند عبادِهِ الصَّالحينَ أحقرُ من الذَّرّ، وأبعدُهم عن رحمتِهِ يومَ القِيامة. [الافْتِخار بِكَوْنِهِم مِنْ ذُرِّيَّةِ الأنبياءِ] الافْتِخار بِكَوْنِهِم مِنْ ذُرِّيَّةِ الأنبياءِ (السابعة والثمانون) : الافْتِخار بِكَوْنِهِم مِنْ ذُرِّيَّةِ الأنبياءِ عليهم السلام. فَرَدَّ الله عليهم بقولِهِ: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134] هذه الآية في آخِرِ الجُزءِ الأوَّلِ من [سورة البقرة: 134- 141] وتفسيرُها: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} [البقرة: 134] الإِشارةُ إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأولاده في قولِهِ [130] : {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130] إلخ. و"الأمَّة" أتَتْ لِمَعانٍ، والمرادُ بها- هنا- الجَماعةُ، مِن "أمَّ "، بمعنى قَصَدَ، وَسُمِّيَتْ كُلُّ جماعة يَجْمَعُهُم أمرٌ ما: إمَّا دِينٌ واحدٌ، أو زمانٌ واحدٌ، أو مكان، بذلك؛ لأنَّهم يَؤُمُّ بعضُهم بعضا، وَيَقْصدُهُ. والخُلُوُّ: المُضِيُّ؛ وأصلُه الانفرادُ. {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 134] والمَعْنى: إنَّ انتِسابَكم إليهم لا يوجِبُ انتفاعَكم بأعمالِهم، وإنَّما ¬

(¬1) أي سدنة المشاهد والقبور.

الافتخار بالصنائع

تنتَفِعونَ بموافقتِهم واتِّباعِهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «يا مَعْشَرَ قُريشٍ، إنَّ أوْلى النّاسِ بالنّبيِّ المُتّقَونَ، فَكونوا بِسَبيلٍ مِن ذَلِكَ فانظُروا أنْ لا يَلقاني النّاسُ يَحْمِلون الأعمالَ، وتَلْقَوني بالدُنيا، فَأصُدَّ عنكم بوجْهي» . وهذا الحديثُ بمعنى قوله تَعالى [الحجرات: 13] : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] ومَعْنى قوله: {وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134] لا تُؤاخَذونَ بِسَيئاتِهم، كما لا تُثابونَ بحسناتِهم. وهذه الخَصلةُ موجودة اليومَ في كثيرٍ مِن المسلمينَ، ورأسُ مالِهِم الافتخارُ بالآباءِ، فَمِنهم مَن يقولُ: أنا مِن ذُرِّيّة عبدِ القادرِ الجيلانيِّ، ومِنهم مَن يقولُ: أنا مِن ذُرية أحمدَ الرِّفاعيِّ، ومِنهم مَن يقولُ: أنا بكريٌّ، ومنهم من يقول: أنا عُمَريّ، ومنهم من يقول: أنا عَلَويّ أو حَسَنِيٌّ أو حُسَينيّ، ولا فضيلةَ لهم ولا تَقْوى، وكلُّ ذلك لا ينفعُهم {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89] ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لفاطمة: «يا فاطمةُ بنتَ محمَّدٍ، لا أغني عنكِ مِن الله شَيْئًا» وما قَصَدَ أولَئك المُفْتَخِرينَ بآبائِهِم- وهم عارونَ عن كُلِّ فضيلةٍ - إلا أكل أموالِ النَّاسِ بالباطلِ، وفي المثل: "كُنْ عِصاميًّا، وَلا تكنْ عِظاميًّا". إنَّ الفَتَى مَن يقولُ ها أنا ذا ... لَيْسَ الفَتَى مَنْ يقولُ كانَ أبي ولِلَّهِ دَرُّ مَن قال يَرُدُّ على المفتخِرِ بِذَلِكَ: أقولُ لِمَن غَدا في كُلِّ يومٍ ... يُباهينا بأسلافٍ عِظامِ أتَقْنَعُ بالعِظامِ وأنتَ تَدْري ... بأنَّ الكَلبَ يَقْنَعُ بالعِظام وقال آخَرُ: وما الفَخْرُ بالعَظْمِ الرَّميمِ وإنَّما ... فخارُ الذي يَبْغي الفَخار بِنَفْسِهِ [الافتخار بالصنائع] الافتخار بالصنائع (الثامنة والثمانون) : الافْتِخارُ بِالصَّنائِعِ، كَما افْتَخَرَ أهلُ الرحلتينِ على أهلِ الحَرْثِ. يُريدُ بِالرِّحلَتَينِ: رِحْلَةَ الشِّتاءِ إلى اليَمَنِ، وَرِحْلَةَ الصَّيْفِ إلى الشَّامِ، وَهِي

عظمة الدنيا في قلوبهم

عادَةٌ كانتْ لِقُريشٍ، كَما ذُكِرَ في سورةِ الإِيلافِ. والمقصودُ أنَّه لا يَنبغي للتَّاجر أنْ يَفْتَخِرَ بِتِجارته على أهل الحرث، ولا أهلِ كلِّ حِرفةٍ على المُحْتَرفينَ بِحِرْفَةٍ أخْرى، فإنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنَ المكاسِبِ الدُّنْيَويَّةِ التي يَوَصَّلُ بها إلى عِبادةِ الله، وطاعتِه، وامتثالِ أوامرِه، واجتنابِ نواهِيهِ، لِيتوَصَّلَ بِذَلِكَ إلى النَّجاةِ الأبديَّةِ، وهي مدارُ الفخرِ. وأمَّا ما سِوَى ذَلِكَ فَكُلُّهُ ظِلٌّ زائِلٌ ونَعيمٌ غيرُ مُقيمٍ، فلا يَنبغي لِلعاقِلِ أنْ يَفْخَرَ بِزَخارِفِ الدُّنيا الدَّنيئَةِ، ولا يَعْلَمُ مَتى يُفارِقُها. نَسأله تَعالى التوفيقَ، والعملَ الصالحَ الذي يُرضِيهِ. [عظمة الدنيا في قلوبهم] عظمة الدنيا في قلوبهم (التاسعة والثمانون) : عَظَمَةُ الدُّنيا في قُلوبِهم. كَقَولهم: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] أيْ: مِن خِصال الجاهلية مُراعاةُ الدُّنْيا، وعَظَمَتها في قُلوبِهم، كَما حَكى الله عنهم ذلكَ بقوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ - وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ - أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 30 - 32] هذه الآية في [الزخرف: 30-32] ، وَمَوْضِعُ الاسْتِشهادِ فيها قولُه: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] المُرادُ مِنَ القَريتينِ: مكَّةُ والطَّائفُ. قال ابنُ عبَّاسٍ: "الذي مِن مكَّةَ: الوليدُ بنُ المُغيرةِ المَخزوميُّ، والذي مِن الطَّائفِ: حَبيب بنُ عمرِو بنِ عُمَيرٍ الثقَّفيُّ، وكُلّ مِنهما كان عَظيما، ذا جاهٍ ومالٍ، وكان الوليدُ بنُ المغيرةِ يُسَمَّى "رَيْحانةَ قريشٍ "، وكانَ يقولُ: لو كانَ ما يقولُ محمَّدٌ حقّا لَنَزَلَ عَليَّ أو على أبي مَسعودٍ، يعني عُروةَ بنَ مسعودٍ، وكان يُكنى بِذَلِكَ. وهذا بابٌ آخَرُ من إنكارِهِم للنُّبُوَّةِ، وذَلِكَ أنَّهم أنكَروا أوَّلا أنْ يكونَ النَّبِيُّ بَشَرا، ثُمَّ لَمَّا بُكِّتوا بِتكريرِ الحُجَجِ، ولم يَبْقَ عندهم تصوُّرُ رَواجِ لِذَلِكَ، جاءوا بالإِنكارِ مِن وجهٍ آخَرَ، فَحَكَموا على الله سُبحانه أنْ يَكونَ الرَّسولُ أحَدَ هذينِ. وقولُهُم: {هَذَا الْقُرْآنُ} [الزخرف: 31] ذِكْرٌ لهُ على وَجهِ الاسْتِهانة،

لأنَّهم لم يَقولوا هذهِ المَقالةَ تسليما، بَل إنكارًا، كَأنَّه قيلَ: هذا الكذبُ الذي يَدَّعيه، لَوْ كانَ حَقّا، لكانَ الحَقيقَ به رجلٌ مِن القَريتينَ عَظيم. وَهَذَا منهم لِجَهْلِهم بأنَّ رتبةَ الرِّسالةِ إنَّما تَستدعي عظيمَ النَّفسِ بالتَّخَلِّي عن الرَّذائلِ الدَّنِيَّةِ، والتَّحَلِّي بِالكمالاتِ والَفضائلِ القُدْسِيَّة، دونَ التَّزخْرُفِ بِالزَّخارِفِ الدُّنْيَويَّةِ. فَأنْكَرَ سُبحانَه عَلَيْهم بِقولهِ: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] وفيهِ تَجْهيلٌ وَتَعْجيب مِن تَحَكُّمِهم بِنزولِ القرآنِ العَظيمِ على مَن أرادوا. {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32] قِسمةً تَقْتَضيها مشيئَتُنا المَبنيَّةُ على الحِكمِ والمَصالحِ، ولم نُفَوِّضْ أمرَها إلَيْهم، عِلمًا مِنَّا بعَجْزِهِم عَن تَدبيرِها بالكُلِّيَّةِ. {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ} [الزخرف: 32] في الرِّزْقِ وسائرِ مبادئ العَيْشِ. {دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] مُتَفاوِتَة بِحَسَبِ القُربِ والبُعدِ حَسْبَما تَقتضيه الحِكْمَة، فَمِن ضعيفٍ وقويٍّ، وَغنيٍّ وفقيرٍ، وخادم ومخدومٍ، وحاكمٍ ومحكومٍ. {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] لِيَستعملَ بعضهم بعضا في مصالحِهِم، ويَسْتخدِموهم في مِهَنِهم، وَيُسَخِّروهم في أشغالِهم، حَتَّى يَتَعايَشوا، ويَتَرافدوا، وَيَصِلوا إلى مرافِقهم، لا لكمالٍ في المُوَسَّع عَلَيْهِ، ولا لِنَقصٍ في المُقَتَّر عَلَيْهِ، وَلَوْ فَوَّضْنَا ذَلِكَ إلى تدبيرِهِم لَضاعوا وَهَلَكوا، فإذا كانوا في تدبير خُوَيْصةِ أمرِهم، وما يُصْلِحُهُم مِن مَتاع الدُّنْيا الدَّنِيَّةِ وهو على طَرَف الثُّمامِ بهِذِهِ الحالة، فما ظَنُّهُم بِأنْفُسِهم في تدبيرِ أنفسِهم، وفي تدبيرِ أمرِ الدِّينِ، وهو أبعدُ مِن مَناطِ العَيُّوقِ، ومِن أينَ لهمُ البحثُ في أمرِ النُّبُوَّةِ، والتَّخَيُّر لها مَن يَصلُحُ لها، ويقومُ بأمرِها. وفي قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا} [الزخرف: 32] إلخ ما يُزَهِّدُ في الانكبابِ على طَلَبِ الدّنيا، ويُعينُ على التَّوكُّلِ على الله عز وجل، والانقطاع إليهِ جَلَّ جلالُه. فاعْتَبِرْ "نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ " ... تلْقَهُ حَقًّا وَبِالْحَقِّ نَزَلَ {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] أيْ: النُّبُوَّةُ وَما يَتْبَعُها مِن سَعادةِ الدَّارَيْنِ خَيْر مِمَّا يَجْمَعونَه مِن حُطامِ الدنيا الدَّنِيّة، فالعظيمُ مَن رُزِقَ تلكَ الرَّحْمةَ دونَ ذَلِكَ الحُطامِ الدَّنِيءِ الفاني. وَأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ كثيرا مِنَ النَّاس اليومَ على ما كانَ عليه أهلُ الجاهِلِيَّةِ في هذهِ الخَصْلَة، فَترَاهم لا يَعْتَبِرونَ العِلمَ إذا كانَ صاحِبُه فقيرَ الحالِ،

ازدراء الفقراء

ويَنْظُرونَ إلى الغنِيِّ، وَيَعْتَبرونَ أقوالَه. ولِلَّهِ درُّ من قال (¬1) . ربَّ حِلْمٍ أضاعَه عَدَمُ المَا ... ل وَجَهْلٍ غَطَّى عَلَيْهِ النَّعيمُ [ازدراء الفقراء] ازدراء الفقراء (التسعون) : ازْدِراءُ الفُقَراءَ. فَأنْزَلَ سُبْحانَه قَولَه: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] أقولُ: هذه الآية في أوائلِ [سورة الأنْعامِ: 52] ، وَبَيانُ مَعناها يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَها، وهو قوله تَعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ - وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 51 - 52] فَلَمَّا أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإنْذارِ المذكورِينَ لَعَلَّهم يِنْتَظِمونَ في سِلْكِ المُتقينَ، نُهيَ عَن كونِ ذَلِكَ بِحَيثُ يُؤَدِّي إلى طردِهِم. ويُفْهَم مِن بعضِ الرِّواياتِ أنَّ الآيتَينِ نَزَلَتا مَعًا، ولا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِن البعضِ الآخَرِ. فقد أخرجَ الإِمامُ أحمدُ والطَّبَرانيُّ وغيرُهما عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: «مر المَلأ مِن قُريش على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وعنده صُهَيْب وعَمَّارٌ وبِلالٌ وخَبَّابٌ ونحوُهُم مِن ضُعَفاءِ المُسْلِمينَ، فقالوا: يا محمَّدُ، رَضيتَ هؤلاءِ مِن قومِك، أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا؟ ، أنَحن نكونُ تَبَعًا لِهَؤلاءِ؟ اطْرُدْهُم عَنكَ، فلعلَكَ إنْ طَرَدْتَهم أنْ نَتَّبِعَكَ. فأنْزَلَ الله تَعالى فيهِمُ القرآن: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ} [الأنعام: 51] إلى قوله سبحانه: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52] » . وَأخْرَجَ ابنُ جَريرٍ وأبو الشَّيخِ والبَيْهَقيُّ في "الدَّلائِلِ" وغيرُهُم عن خَبَّاب قال: «جاءَ الأقرَعُ بنُ حابِسٍ التَّميميُّ وعُيَيْنَةُ بنُ حِصْنٍ الفَزارِيُّ، فَوَجَدا النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم قاعِدًا مَعَ بِلالٍ وصُهَيبٍ وَعَمَّارٍ وخَبَّابٍ في أناسٍ ضُعَفاءَ مِن المؤمنينَ، فَلَمَّا رَأوْهُم حَوْلَه حَقَروهُم، فَأتَوهُ، فَخَلَوا بِهِ، فقالوا: نُحِبُّ أنْ تَجعلَ لَنَا مِنكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ لنا العربُ بِهِ فَضْلَنا، فإنَّ وُفودَ العَرَبِ تَأتيكَ، فَنَسْتَحْي أنْ تَرانا قُعودًا مَعَ هؤلاءِ الأعْبُدِ، فإذا نَحنُ جِئْناكَ، فَأقِمْهُمِ عَنَّا، فإذا نحنُ فَرَغْنا، فاقعُدْ معهم إنْ شِئتَ، قال: نَعَم. ¬

(¬1) هو حسان بن ثابت الأنصاري شاعر النبي صلى الله عليه وسلم.

قالوا: فاكتُبْ لنا عليكَ بِذلِكَ كِتابا، فَدَعا بالصَّحيفةِ، وَدَعَا عَلِيّا لِيَكْتُبَ- ونحنُ قُعود في ناحِيةٍ - إذْ نزلَ جبْريلُ بهذِه الآية: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ} [الأنعام: 52] إلخ، ثُمَّ دَعانا، فَأتَيْناهُ وهو يقول: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] فَكُنَّا نَقْعُدُ مَعَهُ، فإذا أرادَ أنْ يقومَ قامَ وَتَرَكَنَا، فأنزلَ الله تَعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] فكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقعدُ معنا، فإذا بلغَ السَّاعَةَ التي يقومُ فيها قمنا وَتَرَكْناه حَتّىَ يقومَ» . وَأَخْرَجَ ابنُ المُنذِرِ وغيرهُ عن عكرمة قالَ: "مَشَى عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنا رَبيعَةَ وَقُرَظَةُ بنُ عبدِ عَمرِو بنِ نَوْفَل، والحارثُ بنُ عامِرِ بن نَوفَلَ، وَمُطْعمُ بنُ عَدِيٍّ في أشرافِ الكُفَّارِ مِن عَبدِ مَنافٍ إلى أبي طالبٍ، فقالوا: لو أنَّ ابنَ أخيكَ طَرَدَ عَنَّا هؤلاءِ الأعْبُدَ والحُلَفاءَ، كان أعظمَ له في صُدورِنا، وأطوعَ له عِنْدَنا، وأدنى لاتِّباعِنا إيَّاه وتَصْديقه، فَذَكَرَ ذَلِكَ أبو طالبٍ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: لَوْ فعلتَ يا رسولَ الله حَتّى ننظُرَ ما يُريدونَ بقولهم، وما يَصيرونَ إليه مِن أمرِهم، فأنزلَ الله سُبْحانَه: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ} [الأنعام: 51] إلى قوله سُبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] وكانوا بِلالا وعَمَّارَ بنَ ياسِرٍ وسالِمًا مولى حُذَيْفَةَ وَصبيحًا مولى أسيد، والحُلفاءُ: ابنُ مسعودٍ والمِقدادُ بنُ عمرو وواقدُ بنُ عبدِ اللهِ الحَنْظَليُّ وعمرُو بنُ عبدِ عمرٍو ومَرْثَدُ بنُ أبي مَرْثَدٍ وأشباهُهُم، وَنَزلَ في أئِمَّةِ الكُفرِ مِن قُريشٍ والمَوالي والحلفاء: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53] فَلَمَّا نَزَلَت أقبلَ عُمَرُ، فاعْتَذَرَ من مَقالتِه، فَأنْزَلَ اللهُ تَعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} [الأنعام: 54] وقولُه {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52] جملة مُعترَضَة بَين النَّهي وجوابِهِ، تقريرا له، ودَفعا لما عَسى أنْ يتوهَّمَ كونُهُ مُسَوغا لطردِ المُتَّقينَ من أقاويلِ الطَّاعنينَ في دينهم، كَدأْبِ قومِ نوحٍ حيثُ قالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] والمعنى: ما عليك شيءٌ ما مِن حساب إيمانِهم وأعمالِهم الباطنةِ، كما يقولُه المشركونَ، حَتّىَ تَتَصَدَّى لَهُ، وَتَبْني على

إنكارهم الملائكة والوحي والرسالة والبعث

ذلكَ ما تراه من الأحكامِ، وإنِّما وظيفتك- حَسْبَما هو شأنُ مَنْصِبِ الرِّسالة- النَّظَرُ إلى ظواهرِ الأمورِ، وإجراءُ الأحكامِ على موجَبِها، وتفويضُ البواطنِ وحسابِها إلى اللطيفِ الخبيرِ، وظواهرُ هَؤلاءِ دعاءُ ربِّهم بالغداةِ والعشيِّ. ورُويَ عن ابنِ زيدٍ أنَّ المعنى ما عليكَ مِن شيْءٍ مِن حسابِ رِزْقِهم، أيْ: مِن فقرِهِم، والمرادُ لا يَضُرُّكَ فقرُهُم شَيْئا لِيَصِحَّ لك الإِقدامُ على ما أرادهُ المشركون مِنكَ فيهم. وقولُهُ: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52] عطفٌ على ما قَبْلَهُ، وَجِيءَ بِهِ- مَعَ أنَّ الجوابَ قد تَمَّ بِذَلِكَ- مبالغةً في بيانِ كونِ انتفاءِ حسابِهم عليهِ يَنْظِمُهُ في سِلْكِ ما لا شُبهةَ فيه أصْلا، وهو كون انتفاءِ حسابِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِم، فهو على طريقةِ قوله سُبحانَه [الأعراف: 34، النحل: 61] {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61] وهذا في رأي. وقال الزَّمَخْشَريُّ: "إنَّ الجُملَتَينِ في مَعنى جملةٍ واحدةٍ يُؤَدِّي مُؤَدَّى [الأنعام: 164، الإِسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7] {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر: 7] كَأنّهُ قيلَ: لا تُؤاخَذُ أنتَ ولا هُم بِحساب صاحِبهِ، وحينئذٍ لا بدَّ مِنَ الجُملَتَينِ، وَتُعُقِّبَ بأنَّهُ غيرُ حَقيِق بجلالةِ التَنزيلِ. وقولُهُ: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52] جَواب للنَّهْيِ. [إنكارهم الملائكة والوحي والرسالة والبعث] إنكارهم الملائكة والوحي والرسالة والبعث (الحادية والتسعون) : عَدمُ الإِيمانِ بملائكةِ الله وكُتبِه ورُسُلِه واليومِ الآخرِ، والكلامُ على ذلكَ مُفَصَّلٌ في التفسيرِ وكُتُبِ الحَديثِ والعقائِدِ. والآياتُ في ذلكَ كثيرة، مِنها قولُهُ تَعالى [التغابن: 7] : {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] وَمِنَ الشِّعْرِ الجَاهِلِيِّ في إنكارِ البَعْثِ والنُّشورِ: وماذا بالقَليبِ قَليبِ بَدْرٍ ... مِنَ الشِّيزى تزَيَّنُ بالسَّنامِ ومَاذا بالقَليبِ قَليبِ بَدْرٍ ... منَ القَيْناتِ والشَّرْبِ الكِرَامِ تُمَنِّينا السَّلامةَ أمّ بَكْرٍ ... فهَلْ لِي بَعْدَ قَومي مِنْ سَلام يُحَدِّثُنا الرَّسُول بأنْ سَنَحْيا ... وكَيْفَ حَياةُ أصداءٍ وَهام

إيمانهم بالجبت والطاغوت

وقال آخرُ: حياة ثُمَّ موْتٌ ثُمَّ نَشْرُ ... حديثُ خُرافةٍ يَا أمَّ عَمْرو وَمِنَ الآيات الدَّالةِ عَلى ذَلِكَ قولُهُ تَعالى [الصافات: 16-17، والواقعة: 47- 48] : {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ - أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} [الواقعة: 47 - 48] وَقَدْ تكَلَّمْنا عَلى مُعْتقَداتِ الجاهلية وَأدْيانِهِم في غَيْرِ هذا الموضعِ. [إيمانهم بالجبت والطاغوت] إيمانهم بالجبت والطاغوت (الثانية والتسعون) : الإيمانُ بالجِبْتِ وَالطَّاغوتِ، وتَفْضيل دينِ المُشرِكينَ على دينِ المسلمين. قَالَ تَعَالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] وقد تَقَدَّمَ الكَلامُ على ذلكَ مُفَصَّلا. والمقصودُ- هُنا- أنَّ جَهَلَةَ الكِتابِيِّينَ كانوا يَقولونَ لِلمُشرِكينَ: أنْتُم أهْدى من المُسلِمينَ، وَما عِندَكُم خَيْرٌ مِمَّا عَلَيْهِ مُحَمَّد وَأَصْحَابُهُ، وَتَرى المُتَصَوِّفَةَ والغُلاةَ اليومَ على هذا المَنْهَجِ، يَقولونَ: إنَّ دُعاةَ أهلِ القُبورِ والغُلاةَ خَير مِمَّن يَمْنَعُ عن ذَلِكَ مِن أهل التَّوحيدِ وحُفَّاظِ السُّنَّةِ. [كتمان الحق مع العلم به] كتمان الحق مع العلم به (الثالثة والتسعون) : كِتْمانُ الحَقِّ مَعَ العِلْمِ بِهِ. كما حَكى الله ذَلِكَ عَن أحبارِ بَني إسرائيلَ مِنَ اليَهودِ والنصارى، فَقَدْ كَتَموا ما وَرَدَ فِي كُتُبِهِمْ مِنَ البشائرِ المُحَمَّدِيَّةِ، وَهُم يَعلَمونَ بِوُرودِها وَذِكْرِها في كُتُبِهِمْ. والكَلامُ على هذا البابِ مُفَصَّلٌ في (الجَوابِ الصَّحيح) لِشَيخِ الإِسلامِ، فَعَلَيْكَ بِهِ، فَإِنِّهُ كِتابٌ لَمْ يُؤَلَّفْ مِثْلُهُ. [القول على الله بلا علم] القول على الله بلا علم (الرابعة والتسعون) : القَولُ على الله بِلا عِلْمٍ. وهو أساسُ كُلِّ فَسادٍ وَأصْلُ الضَّلال. وأكثرُ النَّاس حَظًا مِن هذه الخَصلةِ الجاهلية مُبْتَدِعَةُ المُتكَلِّمينَ، فَقَدْ تكَلَّموا في الصِّفاتِ الإلهية بِمَا لَمْ يُنْزِلِ الله بِهِ مِن سُلْطانٍ، وَأوَّلوا نُصوصَ

التناقض

الشَّريعَةِ بِمَا تَهْواه أنْفُسُهُم، كَما فَعَلَه الرَّازيُّ في كتابِهِ: "أساسُ التَّقديسِ ". وَجَزى الله شيخَ الإِسلامِ خيرا، فَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ، وَنقَضَ أساسَهُ، وَسَجَّلَ ضَلالَهُ وَجَهْلَهُ، وَضَيَّقَ أنْفاسَه، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251] [التناقض] التناقض (الخامسة والتسعون) : التَّناقضُ الواضِحُ، قَال تَعَالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5] وَهكَذا أهْلُ البدَعِ مِنَ الغُلاةِ وَغَيْرِهِم يَدَّعونَ الإِسلامَ، ويَعْمَلونَ أعْمالا تُناقِضُ ما هُم عَلَيْهِ مِنَ الدّينِ. [الكهانة وما في حكمها] الكهانة وما في حكمها (السادسة والتسعون - والسابعة والتسعون - والثامنة والتسعون - والتاسعة والتسعون - والمائة) : العِيافةُ، والطرقُ، والطِّيَرَةُ، والكهانَةُ، والتَّحاكُمُ إلى الطَّاغوتِ، ونحو ذَلِكَ. وَقَدْ تكَلَّمْنا على هذِهِ الأمورِ في كتابِنا "بُلوغُ الأرَبِ في أحوالِ العَرَبِ " بِمَا لا مَزيدَ عَلَيْهِ، وَذَكَرْنَا هناكَ أوابِدَهُم وَخُرافاتِهم وسائِرَ ضلالاتِهم، وَكُلُّ ذَلِكَ مِن أعمالِ جَهَلَةِ المُسلِمينَ اليومَ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. وغالِبُ مسائلِ الأصلِ رؤوسِ مسائلَ في كتاب "اقتضاء الصِّراطِ المُستقيمِ " ومَنَ أرادَ التّفصيلَ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ. وَهذَا آخِرُ ما أرَدْنَا شَرْحَهُ مِنَ المَسائِلِ الَّتي أبْطَلَها الإِسلامُ، والحمدُ لِلَّهِ وَلِيِّ الإِنعامِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى خَيْرِ الأنامِ، ومِصباحِ الظَّلامِ، وعلى آلِهِ وصَحْبهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسانٍ. في 5 ذي الحجة وهو يوم الخميس بعد الظهر من سنة 1325 هـ.

§1/1